Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 6

‫﷽‬

‫احلمد هلل والصالة والسالم على رسول هللا وعلى آله‬


‫وصحبه ومن وااله أما بعد؛‬
‫للوالدين حق عظيم‪ ،‬وقدر جليل حىت إن االبن ال يقدر‬
‫على مكافئتهما ولو ظل ليله ونهاره حيسن إليهما‪ ،‬كيف له‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رد اجلميل وقد حملته أمه كرها ووضعته كرها؟ كيف له‬
‫مكافأة أمه وهي اليت أرضعته حولني‪ ،‬وسهرت معه فنام‬
‫ولم تنم‪ ،‬كيف له أن يرد جميل األب الذي أخذ من حياته‬
‫حلياته وأخذ من صحته لقوته‪ ،‬إنه ومن عجائب هذا الزمان‬
‫وغرائب�ه ما نراه ونسمعه عن البعض من العقوق واإلساءة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫للوالدين هل سمعتم ابن�ا يصفع َّأمه أو بنت�ا تسب أباها‪ ،‬هل‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رأيتم ابن�ا يطرد أباه‪ ،‬وبنت�ا حتبس أمها‪ ،‬عجائب هذا الزمان‬
‫وأمر من ذلك من جترأ ونزعت من قلبه الرحمة‪،‬‬ ‫كثرية‪ ،‬بل ّ‬
‫وسلب منه العقل وانتكست فطرته‪ ،‬فتجرأ على أبي�ه أو‬
‫أمه بالقتل‪ ،‬إن القرآن وسنة النيب @ علما اخللق ما هو الرب‬
‫وما هو اإلحسان‪ ،‬وكيف يكون االبن مع ِّأمه أو أبي�ه وإن كربا‬
‫وطال بهما الزمان‪.‬‬
‫وسأقف معكم على قصة وأنموذج جميل‪ ،‬ابن مع‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫عاصيا بل مشركا‪ ،‬واالبن ليس أي ابن‬ ‫أبي�ه‪ ،‬األب ليس‬
‫بل نيب أال وهو إبراهيم عليه السالم يف قصة محاورته مع‬
‫أبي�ه ونصحه له فتأملوا واعتربوا‪ ،‬يقول هللا ‪‬‬
‫ً‬
‫‪  K‬ﭧ ﭨ ﭩ ﭪﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ‪[ J‬مريم ‪ ]41:‬صدقا‬
‫يف األقوال واألعمال واالعتقادات‪ ،‬نيب من هللا ‪‬‬
‫ً‬
‫‪ K‬ﭱ ﭲ ﭳ ‪ J‬تأملوا اآليات جيدا ‪ K‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ‪[ J‬مريم ‪ ]42:‬الحظ هذا‬
‫‪2‬‬
‫ُّ‬
‫اخلطاب الذي فيه خفض اجلناح والتودد واللطف‪ ،‬ورؤية‬
‫االبن يف مكانت�ه كابن والنظر لألب يف مكانت�ه الرفيعة كأب‬
‫ُّ‬
‫فيقول له ‪ K‬ﭴ ‪ J‬نداء استعطاف وتودد ‪ K‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬
‫َّ‬
‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ‪ J‬الحظ دقة العبارات لم‬
‫وإنما أتاه بأسلوب ألطف وألني ‪K‬‬ ‫يقل‪ :‬يا أيب أنت مشرك ّ‬
‫ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ‪ J‬فأتاه من جانب‬
‫ما يعتقده األب؛ ألنهم يقرون بأن هللا هو اخلالق الرازق‪،‬‬
‫ً‬
‫وأن هذه األصنام ال تسمع وال تبصر وال تضر شيئ�ا وال تنفع‪،‬‬
‫أعاد وكرر له ذلك النداء اللطيف اجلميل ‪ K‬ﮁ ﮂ ﮃ‬
‫ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ‪[ J‬مريم‬

‫‪ ]43:‬الحظ هنا جميل العبارة يقول ألبي�ه ‪  K‬ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ‬


‫ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ‪ J‬يعين أنك ليس جباهل بل عندك‬
‫علم لكن العلم الذي جاءين ليس عندك‪ ،‬لم يقل له يا أبت‬
‫أنت جاهل‪ ،‬دائما خياطبه خبطاب االبن ألبي�ه ثم كرر عليه‬
‫ثالثة‪ K :‬ﭴ ‪ J‬تلطف وتودد ‪ K‬ﮐ ﮑ ﮒﮓ  ‪ J‬لما قال‬
‫له ‪ K‬ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ‪ J‬ارتقى هنا يف اخلطاب حىت‬
‫ينفره من عبادة غري هللا‪ ،‬فقال‪ K :‬ﭴ ﮐ ﮑ ﮒﮓ  ‪J‬‬
‫حقيقة عبادتك لألصنام هي عبادة للشيطان ‪ K‬ﮔ ﮕ‬
‫ﮖ ﮗ ﮘ  ‪ J‬الحظ العبارة يف استعمال أسماء هللا‬
‫احلسىن الرحمن ثم كرر عليه رابعة‪ K :‬ﮚ ﮛ ﮜ‬
‫ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ  ‪[ J‬مريم ‪]45:‬‬

‫الحظ هنا يف هذا النداء الرابع أىت باسم الرحمن مرتني يعين‬
‫ما قال له‪ :‬يا أبت إين أخاف أن يمسك عذاب من اجلبار أو‬
‫ً‬
‫تغليب�ا جلانب الرجاء‬ ‫املنتقم‪ ،‬وإنما أتاه باسم الرحمن لماذا؟‬
‫والرفق يف العبارة‪ ،‬والتلطف واستدعاء القلب للميول إىل‬
‫رحمة هللا ‪ ،‬وهذا أيضا فيه شفقة االبن على‬
‫‪3‬‬
‫أبي�ه فيقول له‪ K :‬ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ‪ J‬فهو يريه أنه خائف‬
‫عليه من نفس العذاب الذي هو من الرحمن الذي سبقت‬
‫رحمته غضبه‪ ،‬وأعاد وكرر اسم الرحمن ولم يقل ً‬
‫جبارا أو‬
‫العظيم حىت يكون أرفق لقلبه وأميل لرجوعه‪ ،‬وبعد جميع‬
‫َّ‬
‫هذه املحاوالت واألساليب اجلميلة اللطيفة رد عليه األب‬
‫فقال‪  K :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ‪ J‬الحظ الرد الذي‬
‫فيه نوع جفاف يقول له أنت تريد أن ترغب عن هذه اآللهة‬
‫وختالفين‪ ،‬والغالب أن َ‬
‫األب حيب من االبن أن يتبعه واالبن‬
‫حيب اتب�اع أبي�ه لكن ال يتبعه على اخلطأ والغلط‪ ،‬خطاب‬
‫فيه بداية الرد بشدة من األب ثم زاد يف الغلظة والشدة‬
‫قال‪ K :‬ﮭ ﮮ ﮯ ‪ J‬عن دعويت لعبادة هللا وترك عبادة‬
‫ً‬
‫األصنام ‪ K‬ﮰﮱ ‪ J‬باحلجارة ‪ K‬ﯓ ﯔ ‪ J‬أي زمنا‬
‫ً‬
‫طوياًل‪ ،‬مع هذه العبارات القاسية من األب والغليظة اليت‬
‫فيها االعتداء باليد وباللسان مع التهديد بتب�اعد األجساد‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬
‫لم يكن إبراهيم لريد عليه ردا عنيفا وال غليظا بل قال‪:‬‬
‫‪  K‬ﯗ ﯘﯙ ‪ J‬أي‪ :‬ستسلم مين وستكون يف أمن وسالم‬
‫من خطايب بما تكره ليس هذا فحسب بل ‪ K‬ﯚ ﯛ‬
‫ﯜﯝ ‪ J‬سيطلب املغفرة ويدعو له باملغفرة فال أزال أدعو لك‬
‫بالهداية ولإلسالم الذي حتصل به هذه املغفرة لماذا سأدعو‬
‫حفي ‪  K‬ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ‪ J‬أي‬ ‫لك ألن هللا ‪ ‬يب ٌّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رحيما رؤوفا‪.‬‬
‫انظروا إىل آخر حلظة‪ ،‬وهو خياطب أباه بأسلوب جميل‪،‬‬
‫وتلطف وعبارة راقية‬
‫ً‬
‫خصوصا‬ ‫فهذه القصة مدرسة يف تعامل االبن مع أبي�ه‬
‫ً‬
‫صاحلا واألب ليس بذلك‪ ،‬أو االبن عنده يشء‬ ‫إن كان االبن‬

‫‪4‬‬
‫من العلم واألب ليس بذاك‪ ،‬هنا حفظكم هللا يصيب‬
‫بعض االبن يشء من الغرور فينظر إىل نفسه نظرة العلو‪،‬‬
‫وينظر إىل أبي�ه بنظرة الدنو‪ ،‬كيف ويف األصل أن مرتب�ة‬
‫األب أعلى من مرتب�ة االبن‪ ،‬وما كان وجودك يف هذه الدني�ا‬
‫إال بسبب األبوين بعد فضل هللا ‪ ،‬لكن االبن‬
‫ً‬
‫صغريا مع‬ ‫ينىس نفسه‪ ،‬ينىس تلك املراحل اليت عاشها‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫رضيعا ال حيسن االستنجاء ال حيسن النظافة‪ ،‬ال‬ ‫أبويه طفاًل‬
‫حيسن األكل وهما يطعمانه وينظفانه ويقومانه‪ ،‬ويعتني�ان‬
‫حباله فينيس االبن إذا كان عنده يشء من العلم أو يشء من‬
‫التجارة أو يشء من المال ويكون األب ما عنده هذا العلم أو‬
‫هذه التجارة‪ ،‬فزيهو بنفسه ويرى أنه يف مقام أرفع من مقام‬
‫أبي�ه فيصفه يف بعض األحيان بتلك الصفات اليت نسمعها‬
‫أيّم جاهلة ال يفهم أو هذا‬‫من بعض الشباب‪ ،‬هذا أيب أو ّ ّ‬
‫شيب�ة ما يعقل‪ ،‬وينىس سابقته وينىس ما عنده من خربات‪،‬‬
‫ً‬
‫عاصيا غري ٍّ‬ ‫ً‬
‫ويف وال بار فهو‬ ‫وتيقنوا يقين�ا أنه من كان مع أبي�ه‬
‫مع غريه أعىص وأبعد عن الوفاء والرب‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪7‬ونالحظ هنا عدة مالحظات يف هذه القصة‪:‬‬
‫ •أنــك أيهــا االبــن لســت أفضــل مــن إبراهيــم وال أبــوك أو‬
‫أحــد أبويــك أســوأ مــن آزر‪ ،‬فــا تنظــر ألبيــك أو ألمــك‬
‫نظــرة الــدون‪ ،‬فتنــى الواجــب الشــرعي عليــك مــن‬
‫الــر واالحــرام والتقديــر‪.‬‬
‫ • انتقــاء أجمــل األلفــاظ وأطيــب العبــارات مــع‬
‫الوالديــن‪ ،‬بعــض الشــباب يــريم الكلمــة علــى أبويــه‬
‫غضبــا أو ً‬
‫قهــرا‪.‬‬ ‫ً‬

‫ •عنــد إبــداء النصيحــة للوالديــن ال تســتعجل يف‬


‫‪5‬‬
‫تــرم النصيحــة صرحيــة وإنمــا مــرة‬ ‫الصراحــة‪ ،‬ال ِ‬
‫ً‬
‫وتلميحــا بلطــف وشــبه التصريــح علــى مــا‬ ‫بالفعــل‬
‫تعرفــه مــن حــال األم أو األب‪ ،‬فــإن لــم يقبــا أو علمــت‬
‫عــدم قبولهمــا أو أنــه قــد تكــون مفســدة أعظــم مــن‬
‫النصيحــة‪ ،‬فعليــك بالدعــاء وحســن املعاملــة‪.‬‬
‫وأختم هنا بنصيحة لبعض املستقيمني أو بعض‬
‫الصاحلني ال تكن ً‬
‫سبب�ا لنفرة والديك عن االستقامة‪ ،‬ال‬
‫سبب�ا لصرف أبويك عن الطاعة‪ ،‬ال تكن ً‬
‫سبب�ا لنفرك‬ ‫تكن ً‬
‫أبويك عن حلق العلم بسوء تصرفاتك‪ ،‬ويسء أخالقك‬
‫ألن البعض إذا استقام يف بدايت�ه ال يستطيع أن يمزي بني‬
‫التمسك باالستقامة والصالح والدين وبني اخلطأ املوجود‬
‫يف البيت‪ ،‬فتسمع بعض املستقيمني مثال يأخذ التلفاز‬
‫ويكسره‪ ،‬وبعضهم يرفع صوته على أبي�ه؟ فيقول األب‬
‫أهكذا علمتك االستقامة؟ أهكذا فعل بك العلم؟ ال تكن‬
‫ً‬
‫سبب�ا لصد أبويك وأهل بيتك عن اخلري‪.‬‬
‫نسأل هللا ‪ ‬أن يفقهنا يف دين�ه‪ ،‬وأن يعلمنا‬
‫ويفهمنا القرآن والسنة‪ ،‬وأسأله ‪ ‬أن جيعلنا‬
‫بارين بآبائن�ا وأمهاتن�ا محسنني إليهم‪ ،‬كما أسأله‬
‫‪ ‬أن يوفق والة أمرنا وحيفظ بالدنا ويغفر ذنوبن�ا‪،‬‬
‫نبين�ا ّ‬
‫محمد‪.‬‬ ‫وصلى هللا على ّ‬

‫‪6‬‬

You might also like