Professional Documents
Culture Documents
البناء الفكري
البناء الفكري
البناء الفكري
1
حماضرة:
"البناء الفكري لطالب العلم"
تقدمي:
د .فهد بن صاحل العجالن
البناء الفكري لطالب العلم
2
بسم هللا الرمحن الرحيم
يليق جبالل محدا كثريا طيبا مبارًكا ِ
محدا ُ
فيه ،أمحدهُ ً احلمد هلل رب العاملني ،احلمد هلل ً ً ً
ِ
وجهه وعظيم سلطانه ،وأصلي وأسلم وأابرك على نبينا حممد ،وعلى آله وصحبه أمجعني.
ُُثَّ َّأما بعد:
فسالم هللا عليكم ورمحته وبركاته ،وأشكر اإلخوة األفاضل على الرتتيب هلذا اللقاء،
الذي أسأل هللا أبمسائه احلسىن أن يطرح ِ
فيه الربكة والنفع ،حديثنا أيُّها اإلخوة حول:
"البناء الفكري لطالب العلم"
وأول سؤال يتبادر إىل الذهن قبل احلديث يف تفاصيل هذا املوضوع ،هو:
ما املقصود ابلبناء الفكري الذي ننشده ونريد من طالب العلم أن حيرص عليه؟
قليال حول موضوع الفكر ،فما املقصود
قبل أن نتحدث عن البناء الفكري ،نقف ً
ابلفكر؟ هذه الكلمة اليت أصبحت من الكلمات الرائجة حبيث يسمعها الشخص يف
اليوم الواحد عشرات املرات ،ما املقصود ابلفكر؟
رمبا الكثري ينزعج؛ لعدم استطاعته اجلواب عن هذا السؤال ،واحلقيقة أن الشخص
الذي يقول :أان ال أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال ،قد يكون هو الذي يعرف اجلواب
عن هذا السؤال.
ملاذا؟
ألن موضوع الفكر ليس له يف احلقيقة ضابط موضوعي يضبط حدوده وما يدخل َّ
فيه وما خيرج فليس املقصود ابلفكر يف الكتاابت املعاصرة ،كل ٍ
إعمال للفكر ،يعين ليس
أي حركة فكرية أو أي ذهن عقلي هو من قبيل الفكر ،وإال فكل تصرفات اإلنسان هي ُّ
أساسا مبنية على تفكري ،إذًا املقصود هو تفكري معني ،ما هو هذا التفكري املعني؟ تبدأ
ً
األذهان ختتلف يف حتديد هذا األمر.
البناء الفكري لطالب العلم
3
مثال
أيضا الفكر ليس متعل ًقا مبوضوع حمدد تستطيع أن تعرف بدايته وهنايته ،يعين ً
ً
الفقه واضح ،يبدأ بكتاب معني ،وينتهي بكتاب معني ،يتناول قضااي معينة بطريقة معينة،
كتااب
ليس يف الفكر شيء هبذا املعىن؛ فعندما أييت الشخص فيسأل سؤ ًاال يقول :أعطين ً
أستطيع فيه أن أفهم الفكر ،فاجلواب عن هذا السؤال خطأ ،ملاذا؟ ألن السؤال خطأ،
كتااب فيه حبيث أمجع املواد
ليس لدينا يف الفكر علم واضح منضبط ،أستطيع أن أضع لك ً
املتعلقة فيه.
إذًا كل حديثنا عن الفكر هو حديث تقرييب ،يعين حماولة لتقريب املقصود ،وليس أنه
طبعا عدم االنضباط يف هذا املفهوم أثّر على موضوع عالقة الفكر
ضبط هلذا املفهومً ،
بطلبة العلم ،وسأحتدث عنه بعد قليل ،يعين عدم انضباط هذا املفهوم أوجد إشكاالً يف
كيفية تعاطي طلبة العلم مع موضوع الفكر.
إذا أردان التقريب؛ فنستطيع أن نقول :الفكر هو :حركة أو نشاط عقلي ذهين
يسعى إىل توظيف املعارف يف الواقع -االقتصادي أو االجتماعي أو الثقايف أو غريه-
للتأثري يف واقع معني بناءً على خلفية حمددة.
إذًا ،كل علم تستطيع أن أتخذ منه جانب للقضااي الفكرية :الشريعة ،االقتصاد ،علم
النفس ،علم االجتماع ،علم السياسة ..كل العلوم ،مثة مساحة من هذه العلوم جرى فيها
حديث ونزاع ووظفت أدوات فيها يف تغيري ثقايف أو اجتماعي أو اقتصادي ،فتعترب من
قبيل اجلوانب الفكرية.
أوضحها بشكل آخر.
مثال ابب الصيام يف الفقه ،ليس حبثًا فكرًاي حبسب الشائع يف الفهم املعاصر،
يعين ً
إمنا هو حبث فقهي ،مىت يكون كتاب الصيام أو ابب الصيام ،أو هذا املوضوع فكرًاي؟ لو
مثال مسألة :منع الناس من الصيام ألجل العمل كما طُرحت قبل سنوات يف أحدطُرحت ً
البلدان ،فطرح أن الناس حيصل هلم مشقة ،والعمل أهم من الصيام ،والعمل يعين فائدته
متعدية ،والصيام فائدته قاصرة؛ إذًا نرتك الصيام ونبدأ ابلعمل ،هنا البحث سيحصل فيه
البناء الفكري لطالب العلم
4
حتول املوضوع من موضوع فقهي إىل موضوع فكري ،ألنه ارتبط بتأثري يف جدال ونقاش؛ َّ
الواقع ،تبعه جدل واختالف بناءً على خلفيات.
هذا مثال يف الشريعة أتيت مبثله يف االقتصاد يف السياسة ..وغريها ،هذه مقدمة فقط
يف موضوع الفكر مهمة؛ ألهنا تساعدان يف إعادة التوازن يف عالقة طالب العلم ابجلوانب
الفكري ،بعد ذلك أنيت إىل سؤال:
ما املُراد ابلبناء الفكري؟ ماذا نريد مبوضوع البناء الفكري؟
نريد ابلبناء الفكري أن ميتلك طالب العلم الشرعي ،وهو اهلدف األساسي من
حديثنا يف هذه احملاضرة ،أن ميتلك طالب العلم أدوات ومهارات شخصية ،ويطلع على
تثمر بُنيةً فكريةً عميقة؛ يستطيع من خالهلا أن يكون أتثريه ونفعه أعظم،
معارف متنوعة ُ
وسيأيت الح ًقا احلديث عن هذه اجلوانب األساسية يف البناء الفكري ،وهي :املهارات،
واملعارف ،والبُنية اليت هي نتيجة العالقة بني املهارات واملعارف ،وهي امتالك الشخص إىل
مكنة أو بُنية نفسية يستطيع من خالهلا أن يستثمر معلوماته بشكل أفضل وأقوى.
إذا تقرر هذا ،حتدثنا عن إشكالية اسم الفكر ،إذ أصبح يف أذهان كثري من طلبة
علم شرعي ،فأصبح العلم ،إن الفكر مقابل للعلم الشرعي؛ فأصبح لدينا فكر ولدينا ٌ
الشخص إما أن يقرأ يف العلم الشرعي ،أو يقرأ الفكر ،إما لدينا مفكر أو طالب علم،
نظرا ألن املقابلة يف
هذه املقابلة يعين طرحت أسئلة كثرية ،وأربكت كثرياً من الشباب؛ ً
علما يوازي العلم الشرعي،
حقيقتها مقابلة خطأ؛ فلسنا أمام فكر يقابل علم ،ليس الفكر ً
مثال الفلسفة ،نعم العلم الشرعي يقابله علم النفس
نعم العلم الشرعي ميكن أن يقابله ً
مثال ،علم االقتصاد ،نعم عندان أانس متخصصون يف االقتصاد ،وأانس متخصصون يف ً
العلم الشرعي ،لكن الفكر ليس هبذه الطريقة ،فليس الفكر مقابل للعلم الشرعي حىت
مفكرا أو يقرأ يف الفكر أكثر ،أو يقرأ يف العلم
يُطرح علينا سؤال :هل طالب العلم يكون ً
الشرعي أكثر ،السؤال هنا غري صحيح؛ ألنه مبين على عدم دقة يف فهم موضوع الفكر،
وسيأيت توضيح هلذا بعد قليل.
البناء الفكري لطالب العلم
5
هدفنا يف هذا اللقاء:
خطاب لطلبة العلم الشرعي يف كيفية االستفادة من اجلوانب الفكرية واملضامني
الفكرية يف أتسيسهم العلمي والشرعي؛ حىت يصل إىل مستوى أمثل وأعظم يف طلبه للعلم
الشرعي ،فاحلديث هنا ليس حديثًا لعامة الناس ،وال حديثًا لعموم املثقفني ،حديث لطلبة
طبعا
العلم الشرعي يف كيفية استفادهتم ،وحرصهم على التكوين الفكري املتميز ،وهذا ً
سيؤثر يف مسار احلديث ،فنحن ال نريد بناء فكري لعموم الناس ،وال لعموم املثقفني ،إمنا
بناء فكري لطالب علم شرعي هو يف النهاية طالب لعلوم الشريعة ،إذا تقرر هذا املدخل.
حتدث لطالب العلم الشرعي عندما يضعف تكوينه الفكري؟
فما اآلاثر اليت ُ
عندما يضعف البناء الفكري عند طالب العلم ،تظهر مجلة من اإلشكاالت
سأحتدث عنها واحدةً واحدة ،ليس ابلضرورة أن هذه اإلشكاالت جتتمع كلها يف شخص
واحد ،إمنا قد جتتمع يف شخص ،قد تتوزع على أشخاص ،قد يوجد شيء منها عند
شخص دون آخر ،لكن لدينا إشكاالت عدة إذا ضعف البناء الفكري عند طالب العلم
تبدأ هذه يف الظهور على الساحة وعلى السطح.
اإلشكال األول :القصور يف البناء الشرعي لألحكام.
حمكما
ً فطالب العلم مطالب منه أن يُ ِّبني للناس األحكام الشرعية ً
بياان شافيًا
مفصال ،وينافح عن أحكام الشريعة ،ويقنع الناس هبا ،هذا األمر مرحلة تزيد عن جمرد
ً
طلبة للعلم الشرعي ،يعين أنين أعرف أن هذا احلكم حرام أو حالل أو شرط أو واجب
هذه مرحلة.
املرحلة األخرى :أن أنشر هذا األمر يف الناس ،وأعمق هذا املفهوم ،أانفح عنه،
وأمجع احلجج ،هذه مرحلة إضافية ،ليس كل طلبة العلم قادر على حتقيق هذا األمر،
فبقدر متكن طالب العلم يف معارفه ومهاراته وبنيته ،وبقدر أتسيسه الفكري الذي سيأيت
قادرا على بيان األحكام الشرعية.
تفصيله الح ًقا ،يكون ً
البناء الفكري لطالب العلم
6
مثال ذلك:
مثال عن حرمة الراب؛ فحرمة الراب والدليل عليها
عندما يتحدَّث طالب العلم الشرعي ً
وحدود ذلك هذا أمر مهم ،وله حد معني.
املرحلة األخرى :كيف تُقنع الناس وتعمق يف أذهاهنم حكمة حترمي الراب ،بيان أضرار
الراب ،العالقة بني املنظومات اليت تعتمد الراب واليت ال تعتمد الراب ،هذا مستوى يتجاوز جمرد
االطالع على حكم الراب ،فاطالع طالب العلم على الدراسات املعاصرة اليت تتكلم عن
حكمة حترمي الراب ،وآاثر الراب على االقتصاد الربوي املعاصر ...وغري ذلك ،هذا مستوى
مكتمال.
ً بياان شافيًا
جدا يستطيع من خالله أن يبني األحكام الشرعية ً عا ٍل ً
أيضا من إشكالية القصور يف البيان الشرعي لألحكام ،أن طالب العلم الشرعي قد ً
يغيب عنه التصور الكلي للحكم ،يكون عنده معرفة ابحلكم الشرعي كجزئيات منفصلة،
نظرا ألن
لكنه ال ميلك تصوراً كلياً عن األحكام؛ فقد جيتمع يف ذهنه رأاين متناقضان؛ ً
مثال بعض الشباب املهتمني ابلعلم الشرعي، الصورة عنده ليست صورة حمكمة البناء ،جتد ً
مثال يقرر احلكم ابلشريعة ،وأن احلكم مبا أنزل هللا ،ويقرر
يعين ملَّا أييت يف ابب العقيدة ً
أدلة ذلك أبحسن ما يكونُ ،ث أييت يف ابب آخر يف ابب السياسة ،يقرر أحكاماً قد
يسمعها بلغة فكرية جديدة ،فيقبل أفكاراً تناقض الذي أصله يف ابب العقيدة.
السبب يف هذا التناقض:
إنه ليس ُهناك رؤية واحدة حتكم األبواب واملسائل ،وهذه الرؤية ليست جمرد حبث
فقهي ،إمنا حتتاج إىل معارف أو مهارات تضبط التصورات عند الشاب ،حىت ال يتغري
حكمه من ابب إىل ابب آخر.
يتبع ذلك أيضاً مما له تعلق ابلبيان الشرعي :ضرورة أن مييز طالب العلم احلد
الشرعي الذي جاء فيه النص ،حبيث ال يتجاوزه ،فيمنع أو حيرم شيء ليس له عالقة
بداللة النص ،كما أن لدينا فئة تسحب داللة النص فتبيح ما حرم هللا ،وحترف األحكام
أيضا بعض طلبة العلم قد يوسع داللة النص ،فيدخل يف النص ما ليس منه غريةً
وأتولهً ،
البناء الفكري لطالب العلم
7
ومحيةً؛ فتؤدي هذه الزايدة إىل إضعاف النص نفسه؛ ألنه أدخل عليه شيء ال ُّ
يدل عليه،
فهذا من القصور ،يعين من املهم أن تبني األحكام الشرعية بياانً كامالً ،فحني يدخل يف
النص ما ليس منه ألي سبب فإن يؤدي إىل إضعاف البيان الشرعي لألحكام.
مثال ذلك:
ملا أيت شخص فيقول مثالً :ثبت علميًا أن املوسيقى تعاجل من أمراض معينة ،وهذا
كالم يُطرح يف اإلعالم ،ويف الكتاابت ،ورمبا يعين بعض األحباث تذكر هذا ،بعض اإلخوة
عالجا ملا حرمتها الشريعة ،ويورد
مثال ًيعين مباشرة يقول :هذا غري صحيح ،لو كانت ً
األدلة احملرمة ،فيعين مل يتفطن إنه ُهناك حد حمكم للتحرمي ،وهناك أشياء إضافية ،احملرم هو
حىت لو ثبت العالج هبا ،ليسحترمي املوسيقى ،موضوع العالج هذا موضوع إضايف ،يعين ّ
عالجا مطل ًقا ،ال؛
له عالقة أبصل التحرمي ،اخلمر قد يُعاجل به ،فما أقول :اخلمر ليس ً
نقول :إذا ثبت العالج -وهذا حبث آخر -فهو عالج حمرم ،وحرمته الشريعة ملفسدة
اعظم ،وال يقتصر العالج عليه ،وانتهى املوضوع ،يعين ال أدخل شيئاً إضافياً على أصل
حكم يرتتب عليه؛
ألننا هبذا نصبح بني رأيني :رأي حىت حيافظ على حترمي املوسيقى مينع موضوع
العالج مطلقاً ،ورأي ألنه شعر بوجود عالج أصبح يشكك يف األصل ،بينما لو عرف
الشخص إنه هناك حد للبحث الشرعي ،وهناك شيء خارج عنه ،حلصل عنده انضباط
يف البيان لألحكام الشرعية ،هذا ما يتعلق ابألثر األول من آاثر ضعف البناء الفكري.
األثر الثاين :االنفصال عن الواقع وانقطاع جسور التفاهم:
يعين ابتعاد طلبة العلم عن البناء الفكري يؤدي إىل أن يكون ُث مسافة بني طلبة
قادرا على احلديث عن تفاصيل
العلم ،والواقع الذين يعيشون فيه ،فيكون طالب العلم ً
مثال شكل الدولة اإلسالمية ،وأحكام أهل الذمة،املشهد الفقهي القدمي ،فهو يعرف ً
جدا يف فهم البحث الفقهي يف أصله املقرر يف
واجلزية ،وتفاصيل األمان ،فعنده قدرة كبرية ً
فحدث عن املفاهيم الشائعة للمواطنة وما
يسريا للواقعُ ،
الكتب ،لكن لو انتقل انتقاالً ً
البناء الفكري لطالب العلم
8
يتعلق هبا ،ما األحكام املتعلقة هبا؟ جتده يقف ،فهناك انفصال بني املادة القوية الثرية اليت
نظرا ألنه ليس
ميلكها ،واليت أكثر من خيوض يف هذه األبواب ال حيسنها ،فهناك انفصال ً
هناك جسر جيمع بني الطرفني ،ويؤدي إىل حصول تفاهم.
كثري من اإلشكاالت املعاصرة ال تنبثق من أانس يعاندون الشرع وحيادون ،نعم هناك
أانس عندهم إشكاالت مع النص ومع الدين ومع الوحي ،عندهم منظومة أفكار خمتلفة،
لكن كثرياً من الناس عندهم إشكاالت حيتاجون فيها إىل من ميد هلم جسر تواصل ،ميرر
هلم معلومات صحيحة ،ويسحب منهم معلومات خاطئة ،فتكتمل عندهم الصورة ،أو
على األقل ختف ،يقل جانب اخلطأ واالحنراف يف تصوراهتم ،عدم وجود بناء فكري جيد
جيعل طلبة العلم ال حيسنون مثل هذا التواصل.
أحياان نزاع من
ً أيضا من القضااي الفكرية اليت حيصل فيها
دعين أضرب مثاالً ً
أرضيات خمتلفة ليس يف جسر جيمع بينهما.
دوما ما حيصل نزاع يف هذهموضوع العني والسحر واملس ،وما يتعلق هباً ،
املوضوعات مع املتخصصني يف الطب النفسي وغريهم ،فاملختص النفسي يقول :األمراض
النفسية اليت نتعامل معها هلا يعين سبب عضوي واضح ،نقص من أشياء معينة ،وعندان
أدوية تعاجلها ،وهلا أسباب معينة ،فيقابل طالب علم يقول له :ال؛ غري صحيح ،هذا عني
وهذا سحر ،وهذا مس وال تفيده األدوية ،وال ينفعه العالج ..اخل ،فهناك نزاع ليس بينهما
جسر جيمع بينهما.
فقد أييت خمتص حمب للشريعة ومعظم هلا ،لكن حيتاج ملن ميد اجلسر فيوضح له
حقيقة موضوع العني والسحر واملس ،وهو يرى من البحث التجرييب العلمي أن هناك يعين
أسباب مادية واضحة هي اليت سببت هذه القضااي ،بينما الشخص الذي عنده بُنية
مكتملة علميًا وفكرًاي يستطيع أن ميد هذا اجلسر؛ فيبني أن موضوع العني والسحر يتعلق
بشيء غري مادي ،وأنت تتكلم عن شيء مادي ،ليس مثة منافاة بني أن جنمع بني هذين
األمرين ،فنحن ال ننكر املادة وعالجها وأسباهبا ،لكن غاية ما تريد أيها املختص ،غاية ما
البناء الفكري لطالب العلم
9
ماداي ،وهل يقول عاقل :إنه تستطيعإثباًت ً
تريد أنك تقول :أان ال أستطيع أثبت العني ً
إثبات شيء غري مادي بطريقة مادية؟ يعين البحث التجرييب يثبت األشياء املادية؛ فلما
أساسا ،يعين هي روح شيطانية ،تريد إثباهتا
ماداي ،ما صارت عني ً يقول :أريد إثبات العني ً
ماداي؟ مل تعد ٍ
حينذ روحاً شيطانية ،إذًا إبمكانه أن يؤمن ابألمرين ،وال منافاة بينهما، ً
يؤمن أن ُهناك مرض ،له أسبابه احلسية ،ويف نفس الوقت يثبت أن هناك عني ،وهناك
مس وهناك عالج هلا ،قد نقطع بوجوده أو نظن ،حيصل هناك جسر جيمع بني التصورين،
أحياان إىل شطح بعض الناس ألنه مل يصل إىل جسر يقربه يعين غياب هذا اجلسر يؤدي ً
إىل املفهوم الشرعي الصحيح.
األثر الثالث :من آاثر الضعف يف البناء الفكري :الضعف يف استثمار املادة
الفقهية وتفعيلها:
جدا ،فهم يطلعون علىفطلبة العلم الشرعي حباهم هللا مادة شرعية تراثية كبرية ً
مدرسة ًترخيية كبرية ثرية ابملعلومات ،لكن قصور البناء الفكري جيعله ال يستطيع يستثمر
هذه املعلومات ويوظفها يف الواقع.
مثال :كثري من املباحث املتعلقة ابحلالة املعاصرة يتوالها بعض اإلخوة املتخصصني يف
ً
فنظرا لقدرهتم على مواكبتهم للعصر واحتكاكهم
مثال ،وهي مباحث شرعيةً ، القانون ً
ابألنظمة احلديثة ،يعين يطرحون أسئلة ،وجييبون ويكتبون ويؤلفون كتاابت جيدة ،لكن
عندما يدخل طالب العلم الشرعي إىل هذه األبواب ،هو ألصق هبذه األبواب منهم؛
فيستطيع أن يقدم معلومات وإضافات أفضل بكثري.
وحىت ال نغرق يف التجريد الذهين ،نطرح أمثلة واقعية :ما حكم تويل املرأة للرائسة
كثريا يف هذا األمر،
العامة؟ مبحث شائع يف الكتاابت القانونية املعاصرة ،والقانونيون كتبوا ً
ونظرا الحتكاكهم ابحلالة املعاصرة ،سبقوا الشرعيني والفقهاء يف الكتابة والتأليف ،لكن ً
كثرياً منهم ليس عنده املادة الرتاثية اليت عند الفقيه ،فإجاابهتم ومعلوماهتم ال تزال حمدودة؛
البناء الفكري لطالب العلم
10
بينما الفقيه لو دخل هذه الساحة وعرف اجملال الذي تتحرك فيه هذه الكتاابت؛
الستطاع أن يبدع ويضيف من الرتاث العميق ،فيستطيع أن يستثمره.
حتديدا ،ذكر هذه املسألة
ً وال زلت أذكر أحد القانونيني الفضالء يف هذه املسألة
قوم ولوا أمرهم امرأة» يقول بعضهم:
وأورد إشكاالً أهنم يقولون عن حديث« :لن يُفلح ٌ
إنه هذا خاص حبادثة بنت كسرى فقط ،يعين العربة خبصوص السبب ال بعموم اللفظ كما
يستدلون ،فاجتهد يف اإلجابة حبسب ما يعرفُ ،ث كتب حقيقة العبارة يعين تفيض أملا،
ً
عندما قال :وأان أعتب على اإلخوة املتخصصني يف العلوم الشرعية ،كيف ابتعدوا عن
فعال يشعر أنه أمام استدالل يف قضااي أصولية،
اإلجابة عن هذه اإلشكاالت! يعين هو ً
يف النهاية لن يستطيع أن جييب عن هذا اإلشكال كما لو دخل طالب أصويل يف هذه
املسألة ،فعنده مادة تراثية يستطيع أن يوظفها.
أساسا يف هذا املوضوع؛ بل هو خطأ
وألجل ذلك فاالستدالل هبذه القاعدة غلط ً
يُنازع إمجاعاً ،ابإلمجاع ،لكن لن تعرف إال إذا دخل فقيه وبدأ يوضح هذه القضااي
ويستثمرها؟
ما وجه منازعته لإلمجاع؟
ألن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب ليست متعلقة خبصوص األعيان؛ وإمنا
قوم ولوا
خبصوص األسباب ،فالعربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب مبعىن« :لن يُفلح ٌ
أمرهم امرأة» هل هو عام يف كل والية؟ أو خاص ابلوالية اليت جرى فيها النزاع؟
أما القول أنه خاص ببنت كسرى؛ فهذا خصوص أعيان ال يقول به أحد؛ ألن هذا
معناه :جعل الشريعة خاصة أبعيان ،وهذا ال يقول به أحد ،إال فيما يتعلق ابختصاص
النيب -صلى هللا عليه وسلم -ابألحكام ،أما إذا جاء حكم أمر النيب -صلى هللا عليه
وسلم -املسيء صالته إبعادة الصالة ،هل بعموم اللفظ أو خبصوص السبب؟ ال يُقال:
إنه خاص هبذا الرجل ،وإال أصبحت الشريعة متجهة إىل أفراد الناس وليس إىل عمومها،
وهذا حمل إمجاع.
البناء الفكري لطالب العلم
11
أيضا الفقيه ملا يدخل يف هذه القضااي عنده تفصيالت ال ميلكها غري املتخصص يف
ً
القضااي الشرعية ،فكثري من القضااي الشرعية خيوض فيها أُانس غري متخصصني يف
الشريعة ويف الفقه ،وليس لديهم أتسيس علمي شرعي ،فيكتبون ويؤلفون ويبحثون ،وطلبة
العلم بعيدون عن هذا اجملال الذي هو يف احلقيقة جماهلم.
أحياان اخللط بني الشريعة والتاريخ ،بعض املعاصرين جيعل التاريخ دليالً على
ً جتد
األحكام الشرعية ،فيقول :هذا احلكم جائز؛ ألن اخلليفة هارون الرشيد فعله ،وألن شجرة
الدر تولت احلكم وفالن ..يعين جيعل أحداث التاريخ دليالً شرعياً؛ بينما من بديهيات
طالب العلم الشرعي أنه مييز بني أحداث التاريخ وحكم الشريعة.
قدرا أو
جتد اخللط بني اإلرادة الشرعية واإلرادة القدرية ،فيستدل أبشياء وقعت ً
شرعا ،ومن أوضح األمثلة هنا :االستدالل قدرا على أهنا جائزة ً أخربت الشريعة بوقوعها ً
ك﴾[هود]119-118:؛ ني ( )118إِاال َم ْن َرِح َم َربُّ َ ِِ
﴿وال يَ َزالُو َن ُُمْتَلف َ
بقوله تعاىلَ :
فيقرر أن هذا دليل على أن الشريعة قررت التعددية وقبلت ابحلرية الفكرية بدون ضوابط،
ني﴾[هود ]118:ولو أراد هللا أن يلغي ِِ
﴿وال يَ َزالُو َن ُُمْتَلف َ
ما مل يقع ضرر؛ ألن هللا قالَ :
هذا االختالف ملا أوجده وخلقه.
جدا يف الكتاابت املعاصرة ،لكن ال إذًا أراد هللا هذا اخلالف ،وهذا كالم شائع ً
ميكن أن يقوله طالب علم ،أو لعلي أصحح عباريت ألنه قد قال هبا بعض طلبة العلم،
كالما
بسبب ضعف بعض طلبة العلم ملا يدخلون أمثال هذه اجملاالت ،يتأثرون ابألكثر ً
شيوعا ،فلما يقرأ هذا الكالم وهو يف احلقيقة طالب علم شرعي لكن ليس ً واألكثر
مؤسساً أتسيساً قوايً ،فإنه يبتلع أمثال هذه القضااي.
َّ
طبعا هنا خطأ واضح؛ ألنه ُث فرقاً بني إرادة شرعية وإرادة قدرية؛ فاهلل سبحانه ً
قدرا وجود القتل والظلم والزان واخلمر؛ فلن يقول عاقل :أن هذه كلها
أيضا أراد ً
وتعاىل ً
شرعا ،هذا أمر بدهي ،ويستطيع طالب العلم أن يوظفه بسهولة؛ ألنه أصبحت مرادة ً
عنده مادة تراثية عميقة يستطيع أن يساهم يف هذه املباحث أكثر من غريه.
البناء الفكري لطالب العلم
12
األثر الرابع :من إشكاالت ضعف البناء الفكري :رد بعض احلق.
نظرا
فضعف التأسيس الفكري لبعض طلبة العلم يرتتب عليه أن يردوا بعض احلق؛ ً
لعدم إدراكهم لتفاصيل ما يف املوضوع الذي يُطرح ،فقد أييت موضوع معني حيتمل مفاهيم
وتفصيال ،وهذا من
ً فنظرا للقصور يف فهم هذه األمور ،يردها طالب العلم مجلةً
عدةً ،
الضعف والقصور الذي يؤثر على احلكم الشرعي.
مثال موضوع احلرية يقول بعض طلبة العلم :ليس ُهناك حرية يف اإلسالم،
حني أييت ً
معىن
اإلنسان عبد هلل وليس ُهناك حرية يف اإلسالم ،فهذا اخلطاب قد هو يقصد ً
صحيحاً ،يعين عندما يقول :ليس ُهناك حرية يف اإلسالم ،يقصد :ليس ُهناك حرية
منفلتة؛ وإمنا حرية منضبطة بقيود الشريعة.
لكن احلديث هبذه اللغة سيرتتب عليه يف أذهان املستمعني رد بعض احلق لسوء
فهمهم ملثل هذا.
ومن إشكاليات القضااي الفكرية املعاصرة أهنا حتتك ابلواقع ،وتالمس حاجات
الناس ،فغالبًا ال تكون من قبيل الباطل احملض ،وإال ملا أثرت يف الشباب ،يعين يصعب
أهنا تروج وهي ابطل حمض ،وإمنا راجت لوجود أسباب موضوعية أثرت ،لوجود دوافع
معينة ،نعم هي ابطل؛ لكن فيها أجزاء من احلق ،فيها أسباب صحيحة؛ فالذي يتعامل
معها كقطعة واحدة سي ؤدي إىل أنه يرد ما فيها من ابطل وحق ،وأما الذي يعين لديه
أتسيس صحيح ،فإنه يقبل احلق ويرد الباطل.
ضا من إشكاليات آاثر ضعف البناء الفكري :ركود املهارات
األثر اخلامس :أي ً
والقدرات الشخصية:
يستمر الشخص ال يستفيد ،وتبقى مهاراته اثبتة ال تتطور وتتحسن.
األثر السادس :اخلضوع لألمزجة والشعارات والصياغات اإلعالمية املؤثرة:
فطلبة العلم يف النهاية يعيشون يف اجملتمع ،ويشاهدون القنوات ،ويتابعون اإلعالم،
فضعف بناءهم الفكري جيعلهم خاضعني لألمزجة والشعارات والصياغات اإلعالمية
البناء الفكري لطالب العلم
13
املؤثرة ،وهذا ما يفسر لك أن بعض طلبة العلم قد يتبىن أحياانً أطروحات منحرفة،
فتستغرب كيف تبىن مثل هذه الفكرة وهي ختالف أصوله وتربيته ؟
فتجده أتثَّر بصياغة إعالمية ،أتثر بشعار ،لكن املؤسس أتسيس فكري ال تعبث به
هذه الشعارات مينةً ويسرة ،فعنده وضوح يستعلي على هذه الشعارات.
جدا ،يف فضاءان اإلعالمي مئات الشعارات اليت تشيع يف فضائنا الشعارات كثرية ً
مثال يدعوك شخص إىل العقالنيةاإلعالمي ،وأتسر كثرياً من الشباب والفتيات ،يعين ً
ضد التقليد واجلمود ،حترير املرأة ضد استعبادها ،ثقافة احلياة ضد ثقافة املوت ،وخذ من
الشعارات اليت يقوهلا الشخص ليس يف مقام كالم عابر ،بل يتبناها كمنهج ،وهي حقيقةً
شعار ليست ذات مضمون حقيقي ،هي مثل البالون الذي مع أدىن ملسة ينفجر فال يبقى
فيه شيء؛ واحلقيقة احلديث يف هذا اجملال ذو شجون.
سأضرب مثاالً لذلك:
أحياان ابلقيام ابإلنكار ،أو االحتساب ،أو النُصح يف
ً مثال
يقوم بعض األفاضل ً
مثال ،أو االختالط ،الفساد
بعض القضااي الشرعية ،مثل اإلنكار يف قضااي احلجاب ً
دوما يف ساحات التواصل االجتماعي وغريها أن ُهناك األخالقي ..وحنو ذلك ،تعودان ً
نربة تقليل وانتقاص واستخفاف هبذا األمر ،يرونه من االنشغال ابهلوامش عن قضااي األ َُّمة
ال ُكربى ،وأن هناك أسئلة أكثر إحلاحاً وأكثر أمهية ..وحنن منشغلني ابلقضااي اهلامشية...
وإىل آخره.
أحياان حيملها على أن يف الشريعة تقدمي
يعين بعض طلبة العلم تركبه الصياغة هذه ،و ً
األوىل على األقل أمهية ،والواجب على املستحب ،والضرورة على احلاجة ،ورمبا ذكر هنا،
كالم الشاطيب يف املقاصد.
احلقيقة أهنا لعبة شعار ،لسنا أمام مسألة فقهية ،تربهن هلا بكالم للشاطيب ،وتقدم
فيها كالم للقرايف ،بل أنت أسري شعار عبث بعقلك ،وإال فما الذي جعل هذا هامشاً
وهذا أصل؟ ملاذا ال تتحرك هذه الدافعية لتهميش بعض األمور إال يف القضااي الشرعية؟
البناء الفكري لطالب العلم
14
مثال ،لن يقول له :قضااي هامشية ،لو فتح صفحات بينما لو تكلم أحد عن كرة القدم ً
تنكيت وظرافة؛ لعُ َّد هذا من أساليب املتعة يف احلياة وكسب الشباب وأنه شيء إجيايب،
لن يتكلموا عن قضااي الفن والرقص والطرب ..أبهنا من قضااي اهلوامش ،إمنا القضااي
الشرعية املتعلقة مبلفات معينة هي اليت تسمى هوامش ،وهذه تسمى أصول.
طبعا أان ال أُنكر إنه قد يُقال :إنه ُث تقصري يف هذه األبواب ،وأان أحثكم على أن
ً
جتتهدوا يف هذه األبواب ،ال إشكال يف هذا ،لكن حقيقة هذا الشعار أنه ال يدعوك إىل
احلث على القضااي األصولية أو املهمة ،إمنا اهلدف منه دفن هذه القضااي ،يعين لو سكت
ملا قال لك شيء ،وال حثك على القضااي الكربى ،وال فتح معك هذه امللفات ،لكن جمرد
أن أييت شخص يفتح هذه امللفات ،أييت احلديث معه يف قضااي أهم.
إذًا هاهنا شعار ،جيب أن طالب العلم يتعاىل عن اخلضوع للشعارات لئال يستغفل
فيأيت ابلبحث الفقهي واألدلة والنقاشات ،واحلقيقة كلها شعار وموجة ومزاج.
جدا ،ومن
وأمثلة الصياغات اإلعالمية املؤثرة ال يسلم منها أحد ،وهي كثرية يعين ً
حياان يكتب بعض الناس أن الشخص منا إذا ذهب مثال أ ً
األمثلة حىت تتضح أكثرً ،
مثال ،قد يدخل يف مكان فريى اختالطاً ويرى حمرمات ،فال حيرك ساكنًا،خارج اململكة ً
فإذا رأى هذه األشياء يف بلده ،أصابه الغضب والعنفوانُ ،ث يتكلم أن دين اإلسالم واحد
وليس ُث فرق ابختالف املكانُ ،ث يبدأ بذكر اللوازم والقضااي الكبرية اليت تُبىن على هذا
األمر ،ويركب يف هذه املوجة من يركب ،واحلقيقة إن هذا األمر لو نُظر نظراً موضوعياً،
فطبيعي أن الشخص ال يكون موقفه يف اإلنكار متجرداً ال ينظر إىل عوامل الزمان
واملكان.
طبيعي ،أن يتغري موقف الشخص يف مكان فينكر بشدة ويف مكان ال ينكر ،ويف
مكان يرتك ،فاختالف احلال يؤثر يف طبيعة احلكم ،واألمثلة قد تطول ،اهلدف منها أن
ُهناك صياغات وأمزجة وشعارات جيب أن يستعلي الشخص عليها ،ال يكون أسرياً هلا
تعبث به بذات اليمني وذات الشمال ،يعين قبل مائة سنة تقريبًا ،كانت قضية املعجزات
البناء الفكري لطالب العلم
15
من أكثر القضااي املشكلة على الفكر اإلسالمي ،يعين لدرجة أن خترج مؤلفات تسعى إىل
السنَّة
سحب موضوع املعجزات من الشريعة ،حبيث تُفسر املعجزات الواردة يف القرآن و ُ
تفسريا طبيعيًا.
ً
يل﴾[الفيل]1:؛ يُفسر احلادثة أبهنا اب ال ِْف ِ
َص َح ِ
ك ِِب ْ
ف فَ َع َل َربُّ َ
يعين ﴿أَََلْ تَ َر َك ْي َ
ميكروابت وجراثيم ،جتعل احلادثة كأهنا وفاة طبيعية ،عصا موسى ،واملعجزات اليت وردت
يف عهد النيب -صلى هللا عليه وسلم -خروج املاء بني يديه عليه الصالة والسالم ،كل
املعجزات تُفسر تفسرياً طبيعياً ،وتكون املعجزة الوحيدة هي القرآن ،حممد هيكل يؤلف
كتاب (حياة حممد) يسعى إىل إبعاد كل معجزات القرآن ،مسألة كانت مقلقة ،حىت قال
بعض أهل العلم يف ذلك الفرتة -عفا هللا عنه -عبارة شديدة ،ال تليق حىت مبكانته
وعلمه ،قال مبعىن كالمه :لو خال القرآن من املعجزات؛ لكان أتثريه على الناس يف ذلك
الزمان أشد ،عبارة يف غاية السوء حقيقةً عفا هللا عنه ،ملاذا ألنه املزاج يف ذلك الوقت كان
اجا ال يتقبل املعجزات ،يعين مزاج مادي ،وحديث عهد مبكتشفات حديثة كثرية، مز ً
فأصبح أي شخص يفسر أمراً خارج املادة يعرب عن جهل وعدم فهم ،فأصبح من له
حرص على نفع الناس وهدايتهم جيتهد يف ختفيف النفور من هذه األحكام من خالل
التأويل والتحريف وغريها.
حىت جاء الشيخ مصطفى صربي -رمحه هللا -فألَّف ً
كتااب مشهوراً (موقف العلم
والعامل والعقل من رب العاملني) يف أربعة جملدات ،يلفت نظرك يف هذا الكتاب إن اجلزء
طبعا بنفس
األكثر يدور حول جزئية املعجزات بشكل أو آبخر ،يذهب ُث يعود إليهاً ،
أتصيلي ودفاعي يبني خطورة هذا اإلشكال ،ملاذا؟ ألنه كان يعيش زمان ،يعيش هذا
القلق من هذا االشكال.
السؤال :أين ذهبت هذه املسألة اآلن؟ ما حضور املعجزات يف اخلطاب املعاصر
اآلن؟ ليس له ذاك الصخب؛ بل حىت بعض عتاة العلمانيني رمبا مل يعد هذا السؤال مقل ًقا
البناء الفكري لطالب العلم
16
هلم ،ليس ابلضرورة أن يثبتوها ،فهي موجة مضت وشعار انتهى ،لكنه انتهى بعد ماذا؟
بعد ما أثر وحرف وغري يف توجهات وآراء.
أيضا حنن يف أايمنا نعيش يف موجات ،هذه املوجات ستذهب ،ويذهب معها أقوال
ً
وآراء وأشخاص خضعوا هلذا املزاج فذهبوا حني ذهب هذا املزاج والشعار ،والواجب على
طلبة العلم أن يستعلوا على مثل هذه الصياغات ،ويكونوا أعمق وأوعى من اخلضوع هلا.
األثر السابع واألخري من آاثر ضعف البناء الفكري :السطحية،
نظرا ألن الشخص املفكر يعمل بقواعد عدة يف
اليت قد يقع فيها بعض طلبة العلم ً
فأحياان الشخص الذي يقرأ قراءة سطحية يكون عنده معطى واحد؛ لكن ً وقت واحد،
فاملؤسس فكرًاي يستحضر عدة قواعد يف
َّ املوضوع حيتاج إىل معطى واثنني وثالثة وأربعة،
نظرا لقصور
وقت واحد ،فال يقع يف مسالك سطحية وبسيطة ،يقع فيها بعض طلبة العلم ً
يف هذا األمر.
يعين مثالً:
ضرورة التمييز بني اخلطاب السياسي واخلطاب الشرعي أو اخلطاب الديين واخلطاب
شرعا جيب أن تقوله حبذافريه وبكل قناعاته
اإلعالمي ،فليس ابلضرورة أن كل ما تعتقده ً
يف كل زمان وكل مكان؛ ال؛ طالب العلم الواعي يعرف إن لكل زمان ما يناسبه ،فقد
أسكت يف مكان عن كالم ،ال أفعل ذلك يف مكان آخر ،قد أتوسع يف مكان ما
أختصره يف غريه ،وهذا ليس من قبيل املراوغة أو عدم الوضوح ،ال؛ بل هذا من الفقه
واحلكمة ،فالشخص يراعي أفهام الناس وأذهاهنم ،وقصور بعض طلبة العلم عن هذا األمر
يؤدي هبم إىل إشكاالت ،فتجده ال مييز هو يف قناة فضائية ،أو يف درس يف املسجد ،أو
طبعا
يف جملس خاص مع زمالئه ،فيتحدث بنفس النربة ونفس اللغة وبنفس الكالم ،وهذا ً
غري صحيح ،املضمون ال يتغري لكن احلديث عن اللغة ،والطريقة ،ألجل ذلك كما هو
قوما حديثًا ال تبلغه عقوهلم إال
املأثور عن الصحابة -رضي هللا عنهم :-إنك لن حتدث ً
لكان لبعضهم فتنة.
البناء الفكري لطالب العلم
17
أحياان يقول بعض الناس
فاحلديث الذي تنفر منه عقول بعض الناس حيدث له فتنةً ،
مثال أان مبتعث يف
ما هو اجلواب؟ يعين هذا السؤال حمرج ،كيف أجيب عن هذا السؤال؟ ً
مكان ويف مدرسة معينة ،يسألوين هذا السؤال ،أان حمرج كيف أجيبهم؟
بكل وضوح ليس ابلضرورة أن جتيب على كل األسئلة ،فكونك غري قادر على إجياد
إجابة مقنعة ومؤثرة هلم ال يسوغ أن جتيب أبي شيء أو حترف األحكام ،ألن بعض
الناس عنده تالزم ،وهو أن أهم شيء أن يقدم هلم إجابة مقنعة ،فقد أيتيه سؤال حمرج ال
يعرف اجلواب املقنع فيه فيحرف الشريعة ألجل أن يقدم إجابة مقنعة ،ال ،املقصود منك
ليس تقدمي إجابة مقنعة ،املطلوب منك تقدمي احلكم الشرعي إبجابة مقنعة ،يعين ال
يكون نظر طالب العلم أن أهم شيء أن أقنع الناس ،ال؛ إمنا تقنع الناس أبحكام الشريعة،
فإذا وجدت صعوبة يف حكم ،أو زمان ،أو مكان ..لست مكل ًفا أن تتحدث عنه ،قد
يكون غريك أقدر.
سهال إن أييت
سهال ،ليس ً مثال خطاب ليس ً وألجل ذلك اخلطاب اإلعالمي ً
طالب علم فيخرج على قناة فضائية ،فيتكلم يف األحكام الشرعية السياسية يعين بكل
وضوح ،وأييت بكل األحكام ،هذه حتتاج إىل ذكاء وفهم ومعرفة ،أو يضطر بعض الناس
طبعا ال شك أنه خطأ.
أن حيرف الشريعة حىت يقدم خطاابً مناسباً إعالميًا ،وهذا ً
أطلنا يف احلديث حول آاثر ضعف البناء الفكري ،ولعل هذا يعزز يف أنفسنا ضرورة
البناء الفكري لطالب العلم الشرعي ،أييت بعد هذا التمهيد الطويل السؤال :ما هو البناء
الفكري الذي تريد الوصول إليه ،وتشعر أنه جيب أن يُعزز يف نفوس طلبة العلم أدواته
ومعارفه؟
نستطيع أن نقول :أن البناء الفكري له ثالثة جوانب ،يعين يقوم على ثالثة أركان،
أو إن أحببت هو يقوم على ركنني ونتيجة ،فالركن الثالث قد يكون ركن أو نتيجة:
البناء الفكري لطالب العلم
18
الركن األول :األدوات.
واملقصود أن ميتلك طالب العلم أدوات شخصية متعلقة ابلقضااي الفكرية ،أو أدوات
ذاتية شخصية يستطيع توظيفها يف أي مشهد وأي قراءة ألي حدث.
ما هي هذه األدوات؟
لدينا أدوات كثرية:
األداة األوىل :منهجية االستدالل:
يعين جيب أن يكون طالب العلم لديه منهجية استدالل صحيحة وقوية وحمكمة،
وعندما نقول :منهجية االستدالل ،قد يتبادر إىل ذهن طالب العلم أنه أييت بدليل ويبني
وجه االستدالل وهذا صحيح ،لكن هذه الدرجة يعين نقول :أهنا الدرجة الضرورية من
االستدالل ،لكننا نريد من طالب العلم ما هو أعلى من ذلك ،وهو:
صحيحا ،فلو أتى بشخص واستدل بدليلً دليال
أن االستدالل جيب أن يكون ً أوالَّ :
ً
دليال يف
مثال ،استدل حبديث ضعيف ،هذا ليس ً ليس بدليل ،يعين استدل ابلتاريخ ً
األساس ،قد يتجاوزها طالب علم فيستدل آبية من القرآن ،أو يستدل حبديث صحيح،
صحيحا ،يعين جيب أن تذكر املعىن الذي
ً هل يكفي؟ ال؛ جيب أن يكون االستدالل
تذكره من الدليل صحيح ،وال يكفي هذا.
اثنياً :جيب أن يكون الدليل الصحيح الذي استدللت به مواف ًقا للمسألة اليت تستدل
هبا ،قد تكون اآلية القرآنية صحيحة ،واستداللك صحيح لكن ليس له عالقة ابملسألة،
أو هو خاص واملسألة عامة ،أو املسألة هلا جزئني وأنت أتيت جبزء واحد ،فليس جمرد أن
أتيت بدليل صحيح ينتهي عندها األمر ،ال؛ جيب أن يكون الدليل موافقاً.
معارض له أقوى منه ،مبعىن قد يكون دليلك صحيحاًٌ اثلثاً :جيب أن ال يوجد
أيضا مرحلة متقدمة جيب أن واملعىن صحيح ،لكن هناك شيء أقوى منه ،وهذا ً
يستحضرها طالب العلم يف استدالالته كلها ،إن ال يكتفي أن يورد الدليل ،ال؛ أورد
البناء الفكري لطالب العلم
19
الدليل واالستدالل وأأتكد من وجه الداللة ،ويف نفس الوقت أأتكد أنه ليس هناك دليل
أقوى منه.
وهذه املنهجية ال سائدة يف املدارس الفقهية ،ويسلكها العلماء يف نزاعاهتم الفقهية،
ملاذا العلماء يتنازعون يف الفقه؟ ليس ألن ما عندهم أدلة ،ال؛ بل ألن كل مذهب يرى أن
دليله أقوى من األدلة األخرى ،هو ال ينفي أن دليلك صحيح ،لكن يقول :عندي من
األدلة ما هو أقوى من أدلتك ،وهذا حيتم على طالب العلم أن يكون اطالعه مشوليًا على
مجيعا؛ وهلذا
أحكام الشريعة ،ال يطلع فقط على جزئية معينة؛ إمنا يطلع على النصوص ً
من يطلع على جزئية معينة يف االستدالل يقع يف إشكاالت كبرية.
ِ
﴿وَم ْن يَ ْقتُ ْل ُم ْؤمنًا ُمتَ َع ِم ًدا فَ َج َزا ُؤهُ
مثال عندما يستدلون بقول هللا تعاىلَ : اخلوارج ً
ِ اَّللُ َعلَْي ِه َول ََعنَهُ َوأ َ ِ جهن ِ ِ
يما﴾[النساء]93:؛ هذه َع اد لَهُ َع َذ ًااب َعظ ً ب ا يها َوغَض َ
ام َخال ًدا ف َ
ََ ُ
اآلية عندهم تدل هل تدل على كفر القاتل ،ظاهرها أن القاتل خملد يف النار ،واملخلد يف
النار كافر ،ما اخلطأ الذي وقع يف اخلوارج؟ الحظ! ليس اخلطأ فقهياً ،خطأ مذهب من
أبطل املذاهب ،والحظ! يستدلون بظواهر القرآن ،فالشخص الذي ليس عنده منهجية
فعال أمامنا دليل صحيح مع اخلوارج ،لكن عند من االستدالل ،قد يرتبك ،يقول :وهللا ً
ميتلك منهجية االستدالل يقول بكل وضوح :ال يُقرأ القرآن فتقطعه قطعة قطعة ،ما تقرأ
احدا ،ويقرأ
نظرا و ً
القرآن آية آية ،تقول :ما هي ظاهر هذه اآلية ،ال؛ إمنا يُقرأ القرآن ً
القرآن بتفسري النيب -عليه الصالة والسالم -فعندما نقرأ القرآن مبجموع اآلايت ، ،نقول:
ليس ظاهر اآلية هو هذا ،وألجل ذلك أمجع الصحابة على بطالن هذا التفسري.
وكان سبب ضالل اخلوارج هو اخلطأ يف االستدالل ومنهجية االستدالل القائمة
على جعل القرآن عضني ،وتقطيع اآلايت وفكها عن بعض ،فالصحايب يقرأ القرآن،
وجيمع اآلايت األخرى ،وجيمع فعل النيب -صلى هللا عليه وسلم -وقوله ،فيفسر القرآن
احدا يبطل مثل هذه االستدالالت.
تفسريا و ً
ً كله
البناء الفكري لطالب العلم
20
ويظهر إشكالية منهجية االستدالل عند احلداثيني املعاصرين ،جتد عندهم نفس
الطريقة ،يعين أيخذ آية ،أيخذ حديثاً ،فيقطعه عن سياقاته ،فقد يستدل حبديثه ظاهره
أنه قد يدل على مقصوده ،لكن نفس إشكالية استدالل اخلوارج ،ال يكفي أن تستدل
حبديث أو آية تقطعها عن جمموع األدلة وعن سياقها الذي خرجت منه ،وألجل ذلك ال
يتفق العلماء على حكم إال وهناك دالئل قاطعة على فساد هذه االستدالالت.
اِ اِ
ادوا ين َه ُ آمنُوا َوالذ َ ين َ مثال يستدل بعض املعاصرين بقول هللا تعاىل﴿ :إِ ان الذ َ يعين ً
َج ُرُه ْم ِع ْن َد َرّبِِ ْم َّلل والْي وِم ِ
اآلخ ِر و َع ِمل ِ ِ
صاحلًا فَ لَ ُه ْم أ ْ
َ َ َ آم َن ِاب ا َ َ ْ صابِئِ َ
ني َم ْن َ ارى َوال ا
اص ََوالن َ
أن من ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم َْحي َزنُو َن﴾[البقرة]62:؛ يستدلون به على ماذا؟ على َّ َوال َخ ْو ٌ
آمن من اليهود والنصارى وغريهم فهو من أهل اجلنة.
معىن
طيب ،لو مل يكن عندان إال هذه اآلية ،أال حيتمل هذا املعىن أن يكون ً
صحيحا ،يعين ملا نرجع لكتب التفسري جند إن هذه اآلية حتتمل معنيني:
ً
يهوداي أو نصرانيًاُ ،ث أدرك النيب -صلى هللا عليه وسلم-
ً املعىن األول :من كان
فآمن به.
املعىن الثاين :من آمن بنبيه قبل بعثة النيب -صلى هللا عليه وسلم.-
هذان املعنيان لتفسري هذه اآلية ،طيب لو اعرتض عليك شاب ،وقال لك :ممكن
يهوداي أو نصرانيًا وأدرك النيب -صلى هللا
ً اآلية تدل على املعىن الثالث ،وهو :من كان
عليه وسلم -يعين اآلية هل تنفي هذا؟ الذي يقرأ القرآن آية واحدة وال يعرف أي شيء
فعال اآلية مشكلة ،يرى أن عندهم أدلة قوية ،ملاذا؟ من أين أتى هذا
آخر ،يقول :وهللا ً
اإلشكال؟
جاءه من منهجية االستدالل ،يعين أنت يف احلقيقة ال تستدل ،فالبنية االستداللية
الصحيحة ليس أن يذكر أي فهم من آية واحدة وخالص ،بينما لو فتح الشخص
املصحف ،وقرأ القرآن لوجد عشرات األدلة اليت تثبت أن هذا الكالم ابطل وفاسد ،وأن
هذا االحتمال الظاهر الثالث لو دخل يف مفهوم هذه اآلية هلدم القرآن كله ،ألجل ذلك
البناء الفكري لطالب العلم
21
لن جتد فقيهاً يف الدنيا كلها من بعثة النيب -صلى هللا عليه وسلم -إىل قبل عصران ،ال جتد
منتسباً إىل الفقه يقول هذا القول ،يعين جتد للفقهاء أقواالً شاذة يف الدايت ويف اجلناايت،
أبدا ،ملاذا؟ ألنه يعرف إنه لو قال هذا
ويف غريها ،لكن لن جتد أحداً قال هبذا القول ً
القول هلدم الشرع كله ،بينما بعض املعاصرين يقولون هبذا الكالم ،وقد يتسرب إىل بعض
طلبة العلم بسبب منهجية االستدالل اليت أصبحت تنظر يف الدليل ،مبعزل عن املنهجية
الشرعية املكتملة اليت جيب أن يستدل هبا طالب العلم.
املثال الثالث ،وهو يعين من ظرائف وطرائف بعض املعاصرين ،وهو أنه ملا يستدلون
مبوضوع احلرية الفكرية ،أن املرتد له حرية فكرية مبعىن إنه له حرية الردة ،من حقه أن يرتد،
ويدعو إىل أي دين يريد ،والنظام اإلسالمي يكفل له ..اخل.
املشكلة هنا ليس أنه يقول :القول اآلخر قول مجهور الفقهاء ،وأان أرى قوالً آخر
وعندي بعض الفقهاء معي ،وهو والرأي الراجح عندي ،ال؛ يقدم بعض املعاصرين هذا
الكالم ،ولألسف أن بعضهم من املنتسبني للفقه ومن الفقهاء ،يقول :أن هذا األمر من
األصول القطعية احملكمة يف الشريعة ،ودل عليه عشرات اآلايت ،يعين عندان تقريبًا كم؟
يعين عندان أربعون آية كلها تدل على هذا األمر ،معناه أننا أمام حكم مثل توحيد الربوبية
أو توحيد األلوهية ،حكم قطعي ،الالفت أنه مل يوجد فقيه يف الدنيا قال هذا الكالم ،يعين
أربعون آية يف القرآن خفيت على كل العلماء طيلة هذه القرون ،حىت اكتشفها بعض
املعاصرين ،يعين الشخص الذي حيرتم نفسه ويقدر االستدالل حقه ما يقول هذا الكالم،
ليس من منهجية االستدالل أن يقع الشخص يف مثل هذه املزالق.
مثال كان الفقهاء يقولون به لكن تغري
يعين إبمكانك أن تقول :وهللا هذا القول ً
الزمان اآلن ،والفتوى تتغري بتغري الزمان واملكان ،يعين هذا مدخل ابطل ،لكنه مدخل فيه
قدر من العقالنية واالنسجامَّ ،أما أن جتعل القرآن كله يدل على هذا القول ،فهذه بنية
متاما.
استدالل مضروبة ً
البناء الفكري لطالب العلم
22
ورابعاً من األمور املهمة يف منهجية االستدالل :وهي ضرورة فهم منازع االستدالل
وال يكتفي طالب العلم بفهم القول فقط ،ال يكفي؛ جيب فهم القول وملاذا قال هبذا
القول؟ هذا أهم ،يعين أهم من فهمك للقول أن تعرف املستند واملربر هلذا القول؛ ألنه
هذا يتغري به النظر للحكم.
بعض اإلخوة يقسم الناس ابألقوال ،فالن يقول هبذا القول ،فيجمع كل القائلني هبذا
القول يف سلة واحدة ،وهذا خطأ ،جيب أن نعرف ملاذا قالوا هبذا القول؟ فهذا يؤثر يف
تفسريك للحكم ،يعين قد يكون هناك قول معني جيتمع فيه زاندقة يف أقصى الطرف مع
بعض طلبة العلم ،فكوين أمجعهم كلهم على أهنم قالوا بقول واحد هذا من اخلطأ والغش
وسوء الفهم أن أفعل هذا.
ومن االستدالل الصحيح أن أميز منازع االستدالل ،صحيح هم قالوا بقول واحد
لكن منازعهم خمتلفة.
مثال ملا أنيت ملسألة شائكة وحصل فيها نزاع كبري ،مسألة االختالط بني الرجل
يعين ً
صحيحا أنين أساوي القائلني هبذا القول ،فقد يقول بعض الناس ابالختالط،
ً واملرأة ،ليس
تقول له :ما الدليل؟ ما املستند؟ يقول :وهللا املستند إنه األصل يف العالقة ،إن عالقة
طبيعية ،وين بغي عدم الشك بني الرجل واملرأة ،واحلرية اللي هلم حرية االختيار ..اخل ،هذا
أسا.
متاما ورؤية ال تعرتف ابلشرع ،وال ترفع ابلنص ر ً
يُعترب منزعه منزع ماذا؟ منزع منحرف ً
قد أييت شخص آخر يقول :ال؛ بل هو الضرورة املعاصرة ،واملرأة ال جتد عمالً،
فيجب أن يُتاح هلا عمل للضرورة ..اخل ،هذا منزع خمتلف.
قد أييت شخص يقول :االختالط هو املوجود يف عهد النيب -صلى هللا عليه
أيضا هذا منزع
وسلم -وعهد الصحابة ،والقول حبرمة االختالط هذا قول بدعي ...اخلً ،
اثلث.
البناء الفكري لطالب العلم
23
وهكذا ستجد أنه قول واحد جيمع عدة اجتاهات؛ فال يكتفي الشخص ابلقول؛ بل
جيب أ ن يستفصل ويستفسر ما املستند؟ ما املربر الذي هو يف احلقيقة يكشف منهج
االستدالل الذي يعتمده كل شخص.
ضا لدينا من األدوات :مهارة التفكري.
األداة الثانية :أي ً
أن يكون عند طالب العلم مهارات تفكري جيدة يستطيع أن حيلل ،ينظر ، ،وُميكن
االستفادة من علم الرتبية احلديث ،ف ُهناك مادة ثرية يف طرائق التفكري ومهارات التفكري
فيما يتعلق أبنواع التفكري ،وهلا أمثلة وهلا ضوابط ،يعين يطلع الشاب أو طالب العلم
عليها ،وحياول أن يستفيد منها جيداً ،مع أمهية االستفادة منها وليس التطبيق احلريف هلا،
يعين أقرأ يف التفكري اإلبداعي ،أعرف ما مفهومه؟ ما حماوره؟ ..وغري ذلك ،لكن ال
نقداي ،فيتحول وكأنه رجل آيل؛ فهذه حقيقةً تفكريا ً
ً أفعلها بطريقة يعين اآلن أان سأفكر
ليست مهارة ،إمنا أن يتشرهبا الشخص ُث يستفيد منها يف مواقف جديدة ،مع بقية
األدوات واملهارات ،حىت يصل إىل منوذج متميز وممتاز يف مهاراته الفكرية.
األداة الثالثة :القدرات الكتابية ،واألدوات البحثية من احلجاج واإلقناع،
التفسري والتحليل ،وغريها:
يعين عادة البحث الشرعي أنه يركز على األحكام ،هذا حالل ،هذا حرام ،هذا
كفر أصغر ،هذا كفر أكرب ،فقد يغفل طالب العلم عن جانب التفسري والتحليل مبا
يضعف قدراته ،فمهم إنه يبقى هذا األمر حياً.
ومن املهم أن حيرص طالب العامل على أسئلة من قبيل ملاذا حصل هذا ،وكيف
ن دفعه؟ وما نتيجته؟ وما الذي حفز إليه؛ فيدخل جانب التفسري والتحليل يف البحث،
أيضا جانب التصنيف والتبويب والتقسيم ،كما أننا ندرس كتب الفقهاء ،وجند أهنم ً
أبدعوا تصانيف وتبويبات وتقسيمات ما كانت موجودة قبل ،يعين كل طبقة من أهل
موجودا عند من سبقه.
ً العلم يبدع جانباً يف التأليف مل يكن
البناء الفكري لطالب العلم
24
هذا هو األمر األول ،وهو الركن األول من أركان البناء الفكري ،وهو ما يتعلق
ابألدوات.
الركن الثاين :املعارف.
يعين طالب علم حيتاج إىل معارف ،علوم معاصرة يضيفها إىل خمزونه الشرعي ،حىت
قواي ،حيتاج إىل أن يعرف ًتريخ األفكار وأصوهلا ،يعين أي فكرة من يكون بناؤه الفكري ً
األفكار املعاصرة :الليربالية ،العلمانية ،احلداثة ،العقالنية ،التنوير ..،أي فكرة ،املهم يعرف
ًتريخ هذه الفكرة ،نشأت مىت؟ من أول من قال هبا ،ما الدوافع اليت حركت حدوثها؟ من
أبرز اجتاهاهتا؟ ..إىل غري ذلك.
مهم أن يعرف مداخل العلوم اإلنسانية ،املعارف املتعلقة بعلم النفس ،علم
االجتماع ،االقتصاد ،السياسية ،يكون عنده اطالع عام ،ما موضوعات هذا العلم ،ما
أبرز الكتب اللي فيه ،ما أبرز املوضوعات اليت يبحثها ..إىل غري ذلك.
أيضا حيتاج إنه يكون عنده اطالع عام حوهلا ،وأقول يف
أصول النظرايت احلديثة ً
هذه اجلزئية مثل ما قلنا ساب ًقا ،املقصود ليس أن أيخذ النظرية ويطبقها مباشرة ،وهذه من
األخطاء اليت يقع فيها بعض الناس ،إنه إذا درس نظرية يف كتاب ،يبحث فقط عن واقع
أحياان يف أخطاء؛ ألن النظرايت يف الغالب نظرايت مركبة ،يعين حتتاج
حىت يطبقها ،فيقع ً
تعمل أكثر من نظرية يف وقت واحد ،فالذي أييت أبي نظرية ويطبقها ،يعين هو عنده
قاعدة جاهزة يبحث عن أي مثال حىت يطبقها ،يعين كما قيل يف املثال الظريف :إذا
كنت مطرقة فسرتى كل شيء مسمار ،يعين ليس عنده متحيص ألنه عنده قاعدة فيبحث
عن أي مثال ليطبقه عليها ،فيقع يف مزالق ،اخلطأ أنه جيب يكون عنده جمموعة قواعد
تعمل يف وقت واحد ،وليست قاعدة واحدة.
مثال ذلك:
يعين عندان من القواعد الشرعية قاعدة بناء الشريعة للمصاحل ،وهذه قاعدة
صحيحة ،وتضافر كثري من العلماء على إقرارها ،يعين العز عبد السالم يقوهلا ،وجتدها يف
البناء الفكري لطالب العلم
25
كتاابت غريه ،أنه الشريعة قائمة على املصاحل ،اخلطـأ يف ماذا؟ اخلطأ أن يكون الشخص
ليس عنده إال هذه القاعدة ،فيأيت إىل أبواب الشريعة فيعبث فيها ويقطعها وميزقها؛ ألنه
ليس عنده إال قاعدة واحدة؛ بينما الشخص الذي ميتلك أدوات وقواعد وأصول ،هذه
قاعدة تعمل مع أخواهتا من القواعد ،ومع قيودها ،فيكون عنده أدوات كثرية تعمل يف
وقت واحد ،بينما الذي ليس عنده إال هذه القاعدة من السهولة أن حيرف أي حكم.
مثال أييت شخص ،فيأيت حبديث النيب -صلى هللا عليه وسلم« :-ال يتحدث
أيضا ً
ً
الناس أن حمم ًدا يقتل أصحابه» وهذا معىن شرعي صحيح وقاعدة شرعية صحيحة،
لكن نفس املشكلة أنه ليس عنده إال هذه القاعدة ،فإذا مرت عليه أي حادثة ،فمباشرة
ينزل احلادثة على أي واقعة بينما الصحيح أنه يستفيد من هذه القواعد ،لكن جيب أن
تعمل يف وقت واحد ،كيف أن تعمل يف وقت واحد؟ هذه يعين من املهارات واليت
تصلنا..
الركن الثالث :وهي امللكة.
امللكة ممكن أن نقول :هي ركن اثلث مع األدوات واملعارف ،وممكن نقول :هي
نتيجة ،يعين نتيجة وجود أدوات جيدة عندك ،ومعارف متنوعة ،نتيجتها أن تتحقق
ملكة ،هي ملكة حاضرة معه يف كل القضااي ويف كل األقوال ،امللكة تقوم على وجود
وعي عند الشخص بطرائق االستدالل ،يعرف كيف الناس يستدلون ،وعي أبحوال
املخالفني ودرجاهتم ،وعي بواقع الناس ،وعي حني ينظر يف أي مسألة ما املطلوب منه!
وعي ابللوازم واملآالت.
ملا يبحث أي مسألة سيبحثها حبثاً جيداً ،ملاذا؟ ألنه عنده ملكة جيدة ،يعين رمبا
جتد بعض طلبة العلم يبحثون مسألة معينة ،مجيعهم يبحثون يف نفس الكتب ،وبنفس
الوقت ،وبنفس عدد الصفحات ،لكن جتد الفرق بينهم مثل ما بني السماء واألرض،
السبب :امللكة ،أن أحدهم عنده ملكة ملا يبحث يعرف ما املطلوب منه؟ ما هي لوازم
البناء الفكري لطالب العلم
26
القول؟ ما هي حدوده؟ ما هي حاجاته؟ ..إىل غري ذلك ،كيف حصلت له امللكة؟ هي
نتيجة تفاعالت كثرية من املهارات واملعارف وغريها.
ضا من امللكة :االتزان :يكون عند الشخص ملكة اتزان شخصي ،اتزان مبعىن
أي ً
اعتدال ال متيل نفسه ذات اليمني وذات الشمال ،ال حيتد ويغلو ويتطرف ويزيد ويقسو،
وال يرتخص ويتساهل ويتهاون؛ إمنا يف طبيعة تفكريه واستدالالته ونقاشه فيها جانب اتزان
واعتدال.
مجيعا ،أن األثر النفسي يؤثر على الناس
وهنا إشكالية األثر النفسي على الناس ًُ
مجيعا ،وطلبة العلم هم من الناس ،فبعض الناس قد تؤثر حالته النفسية على حبثه وعلى
ً
آرائه ،فيجب أن يدرك الشخص خطورة احلالة النفسية على املفكر وعلى الشخص ،يعين
مجلة كبرية من اإلشكاالت املعاصرة منزعها يف احلقيقة منزع نفسي وليس منزع حبث عقلي
وموضوعي.
يعين ملا أييت شاب م ًثال يكون على جادة معينة ،وحمرتم للشريعة ،ومعظم للنصوص،
أسا إىل عقب ،ويبدأ
ُث فجأة يف ظرف أسبوع أو أسبوعني أو شهر أو شهرين ،ينقلب ر ً
السنَّة ،وإنكار خرب اآلحاد ،وأتويل القرآن ،و ..و ..اخل.
يتكلم عن رد ُ
تفسريا موضوعيًا ،لسنا أمام حبث ،إمنا اإلشكالية إشكالية
ً هذا ال ميكن أن نفسره
جدا ،ومن املهم أن نعرتفنفسية شعر بذلك أم مل يشعر ،فإشكالية االتزان هذه مؤثرة ً
مجيعا هبذا األثر ،وإنه ليس ُسبة نالحق الناس هبا ،ال ،جيب على املتحدث قبل املستمع
ً
مجيعا ،وأنين وأنت وغريان قد نتبىن قوالً ،أو ننصر
أن يعرف أن احلالة النفسية تؤثر علينا ً
موقفاً ،أو نقف مع حالة معينة لضغط نفسي معني ،أو ألهنا توافق أهواءان ،وهنا واجب
إن الشخص يتجرد ويراجع نفسه ،ويراجع نيته ،حىت يصل إىل املنهج الصحيح واملوقف
الصحيح ،وهذا يعين أنه ال ميكن لعاقل أن يربئ نفسه ،يعين ما ميكن لعاقل يف أي موقف
أن يقول :أان هذا املوقف وقفته كله هلل ،وموقفي ليس فيه أي شائبة ،ال ميكن ،ألن
اهلوى ال يسلم منه أحد ،وإمنا املوفق من جياهد نفسه يف عدم الوقوع يف غائلته.
البناء الفكري لطالب العلم
27
ضا من امللكة أمهية الفحص ويعين التمييز :إن الشخص يكون عنده فحص أي ً
ومتييز للقضااي وليس كالماً يف اجملمالت.
ضا من امللكة االستعداد النفسي لالستفادة :وهو جيب أن يكون طالب العلم
أي ً
من ملكته أن يكون متهيئاً لالستفادة من أي أحد ،ويف أي ظرف ،ويف أي زمان ،يعين
اذا مسع أحداً يتكلم يف موضوع ينصت ماذا قال؟ وما وجه كالمه؟ هل كالمه صحيح؟ ما
دليله ؟ يكون عنده روح مستعدة ومتقبلة ألي كالم أهنا تبحث عما فيه من حق ،وهذا
أساسا استعداد نفسي لعدم
جدا لطالب العلم ،بينما بعض الناس عنده ًمفيدا ً
سيكون ً
االستفادة ،فهو يدخل يف املوضوع وعنده النتائج جاهزة واألحكام جاهزة ،يعين هو مثل
إجراء االختبار مع أن نتائج الرسوب والنجاح معدة سل ًفا ،بينما املفرتض أن الشخص
يكون عنده استعداد نفسي أنين أستفيد من أي أحد ،وهذا هو يعين من امللكة املهمة
اليت تعني الشخص على الوصول للحق ،واالستفادة من أفكار وآراء الناس.
ضا مراعاة اختالف الزمان واملكان واألحوال والظروف ،وآاثره :فيكون أي ً
مستحضراً له يف كل جانب ،املوازنة بني املصاحل ،فامللكة جتعل الشخص يوازن بني
املصاحل ،فإن الشخص يعرف الصاحل من الفاسد هذه واضحة ،لكن التحدي أن يوازن
بني املصاحل نفسها.
بعض الناس ال حيسن هذا األمر ،عنده إما روح مثالية كاملة أو ال شيء ،إما أسود
أو أبيض ،وهذه ملكة تورث الشخص اتزاانً وموقفاً صحيحاً.
أحياان بعض الناس حتدثه عن واقع معني فيه مصاحل معينة ،ال حيسن يتحدث يعين ً
يف هذا املوضوع ،إمنا ينتقل لك يف واقع آخر مثايل ،تقوله له :ما املوقف يف هذا الواقع؟
يقول :املوقف أن نفعل هذا ،تقول :هذا يف احلالة املثالية ،لكن هذه احلالة ليست موجودة
هنا ،ما املوقف يف هذا احلال أن نفعل هذا أم نفعل هذا؟ يقول :ال؛ أن نفعل هذا ،يعين
هنا تكون الفكرة ليست متزنة.
البناء الفكري لطالب العلم
28
مثال ذلك:
دوما ما يشيع التشنيع على موقف الفقهاء -رمحهم هللا -يف موضوع القول يعين ً
بصحة حكم املتغلب ،يعين القول السائد فقهيًا بعد القرن األول هو القول ابعتبار حكم
املتغلب وعدم اخلروج عليه؛ حلفظ مصاحل الناس ودماؤهم وأمواهلم وصيانتهم عن اهلرج
واملرج والفنت.
أييت بعض الناس يقول :ال؛ هناك حل آخر أفضل ،ما هو؟ العودة إىل سنة اخللفاء
الراشدين ،ما معىن العودة إىل سنة اخللفاء الراشدين؟ يقول :مبعىن أننا نريد حكم الشورى
بال سيف ،بال تغلب ،طيب حنن اآلن ال نتكلم عن حالة مثالية ،نتكلم عن واقع ،كيف
نعود إىل سنة اخللفاء الراشدين ابلواقع؟ إما ابلقتال ،وإما تلغي القتال ،اخرت واحدة منها،
فعال إن هذا القول هو
ال ترحل إىل مسار بعيد ،إذا فكر الواحد هبذا التفكري ،سيجد ً
القول املنطقي والعقلي والصحيح ،لكن إشكالية غياب املوازنة ،يدع الشخص يهرب من
الواقع ويفكر يف جمال آخر بعيد عن الواقع الذي أنت أمامه.
فأنت يف واقع معني ال متلك إال أمرين :إما تدفع املنكر هذا مبنكر آخر ،أو تقره،
أو ترتكه ،يقول واحد :ال؛ أطبق الشريعة كاملة ،الصورة ال حتتمل إال هذا أو هذا ،إذا كان
حتتملت الصورة الثالثة فهذا شيء مجيل ،لكن هو يقر إن الصورة ال حتتمل ،ومع ذلك
يصر على الصورة اليت ال يرى أهنا ممكنة التطبيق ،وهذا ال شك إنه خلل يف امللكة اليت
جيب أن تراعي موضوع املوازنة بني املصاحل واملفاسد.
ضا من امللكة العقل واإلدراك :أن اإلنسان يكون عنده عقل وإدراك وتبصر
أي ً
لألمور.
مستوايت العناية الفكرية لطالب العلم:
حمور مهم؛ ألنه جيي ب عن إشكالية ماذا يقرأ طالب العلم من الكتب الفكرية،
وهذا ٌ
هل يعين اإلغراق فيها ،وإىل أي حد ،وحىت نفصل احلديث يف هذا املوضوع؛ يعين نقسم
حتديدا ،يعين ال
ً االهتمام والعناية الفكرية إىل ثالثة مستوايت ،فيما يتعلق بطلبة العلم
البناء الفكري لطالب العلم
29
نتكلم عن عامة الناس ،وال نتكلم عن النخب املثقفة من غري طلبة العلم ،حنن نتحدث
عن طلبة العلم الشرعي من حيث اهتمامهم ابلعناية واهتمامهم وعنايتهم ابجلوانب
الفكرية.
نستطيع أن نقسم طلبة العلم إىل ثالثة أقسام يف هذا املوضوع:
-1عموم طلبة العلم الشرعي.
-2املتخصصني يف أبواب معينة من العلوم الشرعية تتحتم مزيد عناية فكرية.
-3واملتخصصني يف بعض الواجبات الشرعية.
-1أ اما عموم طلبة العلم الشرعي:
أوال :ما يتعلق ابألدوات ،وهذه جيب أن يهتم هبا مجيع طلبة العلم الشرعي،
فهناك ً
ُ
وجيب أال تكون حمل جدال أو نقاش ،املوضوعات اليت أحتدث عنها يف جانب األدوات
فيما يتعلق ابملهارات والكتابة والبحث واالستدالل ،هذه مهارة جيب أن تكون عند عموم
طلبة العلم الشرعي ،وهذا جانب مهم من القضااي الفكرية.
أيضا هذه جيب أن يعتين هبا طالب العلم.
أيضا ما يتعلق ابمللكة والبنيةً ،
ً
أيضا جيب أال يغفل عنه أي
ما يتعلق ابملعارف -وهي حمل اإلشكال -فهناك حد ً
طالب علم ،وهو ما يتعلق جبانبني:
اجلانب األول :القضااي الشرعية ،ف ُهناك قضااي فكرية هي يف احلقيقة علوم شرعية،
وهي تصنف أو حتسب عند الناس قضااي فكرية ،ملا يتحدث شخص عن العقل والنقل،
هذا املبحث مبحث فكري معروف ،لكنه يف حقيقته مبحث شرعي ،ملا يتحدث شخص
أيضا شرعي ،وهو يف احلقيقة قضية
مثال يف األصول ،هذا مبحث ً عن االجتهاد والتقليد ً
هلا احتكاك فكري كبري ،إذًا هذا املستوى جيب أال يغفل عنه طالب العلم الشرعي ،وهي
يف احلقيقة ليست قضااي فكرية حمضة ،إمنا هي قضااي شرعية ،وهذا يؤكد الكالم الذي
تكلمنا عنه ساب ًقا ،ما يتعلق جبعل الفكر يف مقابل الشرع.
البناء الفكري لطالب العلم
30
أساسا ،هي من صميم البحث هذه القضااي الفكرية هي يف احلقيقة قضااي شرعية ً
الفقهي والبحث العقدي والبحث األصويل ،فهذه جيب أن يُعتىن هبا مجيع طلبة العلم.
اجلانب اآلخر :ما يتعلق ابلدراسات الشرعية املعاصرة اليت تعاجل قضااي شرعية،
وهذه تشكل مساحة واسعة من الكتاابت الفكرية ،يعين ملا يؤلف شخص يف حقوق املرأة
مثال يف حتكيم الشريعة وعوائق تطبيقها ،هذه
مثال املواطنة ،أو ً
مثال ،أو يف ً
السياسية ً
موضوعات تعترب من جانب الفكر السياسي ،لكنها يف احلقيقة هي مباحث شرعية،
فاملباحث الفكرية اليت تعاجل واقعاً معيناً ،جيب أال يغفل عنه طالب العلم الشرعي ،جيب
مطلعا عليها؛ ألهنا يف احلقيقة من املباحث الشرعية.
أن يكون ً
إذًا هذان اجلانبان من املعارف الذي جيب أال يغفل عنها أي طالب شرعي ،ما
يتع لق ابملباحث الشرعي اليت تصنف ،أو قد تعترب فكرية ،وما يتعلق ابلدراسات الشرعية
احملتكة ابلواقع وحتدايته وحاجاته؛ ألهنا من جنس البحث الشرعي.
-2ننتقل إىل مستوى اثين ،وهم :املتخصصون يف أبواب معينة من العلوم
الشرعية ،فعندان متخصصون يف ابب العقيدة ،أو متخصص يف ابب يعين األصول،
فهؤالء جيب عليهم أن يعتنوا يف القضااي الفكرية مبا يتصل بتخصصهم أكثر من الصنف
األول ،فالشخص املتخصص يف العقيدة ،مثل الباحثني أو املؤلفني أو أساتذة اجلامعات،
ومقصرا يف
ً ،أو أوقف نفسه على االهتمام بباب العقيدة ،ال يقبل منه أن يكون مفرطًا
مقبوال أن يكون اهتمامه
فهم املذاهب الفكرية املعاصرة؛ ألهنا مرتبطة بتخصصه ،فليس ً
وحمكما ،وعنده قدرة على فهم
ً اسعا
قواي وو ً
ومعرفته واطالعه على املدارس الرتاثية القدمية ً
تفاصيل مذهب املعتزلة ،والرد عليهم ،واإللزام على حججهم بطريقة قوية ومقنعة ومربهنة،
لكنه عندما يتحول خطوة إىل الدراسات املعاصرة يكون ضعي ًفا أو سطحيًا ،هذا ال يقبل
منه؛ بل جيب أن يعتين هبذه املباحث كما اعتىن ابملباحث السابقة.
يعين ما الذي أدخل حجج املعتزلة واألشاعرة يف البحث العقدي ،وأخرج املذاهب
الفكرية املعاصرة؟ ملاذا تلك تعترب من صميم العلم الشرعي ،وهذه خارجة بعيدة عنه؟ هل
البناء الفكري لطالب العلم
31
طبعا ال ،فجميعها تتضمن موضوعات مرتبطة ابإلميان
هناك فرق موضوعي صحيح؟ ً
واالعتقاد ،وفيها إشكال على أصول شرعية ،وتفرض ضرورة اإلجابة عنها ،والدفاع عن
األحكام.
مثال ال أحب هذهنعم ،أان أتفهم أن أييت شخص أو عدد معني ،فيقول :أان ً
املباحث وسأبقى متخصصاً يف جانب معني ،ال إشكال ،يعين ممكن أن يتخصص يف
أي جانب وال يطلع على أي شيء أخر ،لكن ليس مقبوًال أن يكون هذا هو األمر
الشائع واملنتشر عند طلبة العلم الشرعي ،بل أن جيب أن يكون مثة موازنة بني االطالع
على املدارس القدمية ،واالطالع على املدارس املعاصرة.
وقل مثل ذلك فيمن يتخصص يف جانب شرعي آخر ،إذًا املستوى ُهنا سيُطلب
منهم يف االطالع الفكري ما ال يُطلب من املستوى األول؛ فاملستوى األول لن يُطلب
مثال يف موضوع الليربالية ،أو يعرف ًترخيها ورموزها.
منه ،أن يقرأ ً
املستوى الثالث :املتخصصني يف بعض الواجبات الشرعية:
مثال بعضهم
وهم فئة أخرى من طلبة العلم ختصصوا يف القيام بواجب شرعيً ،
يتخصص يف مواجهة اإلحلاد ،فأوقف نفسه ،وبذل جهده يف عالج إشكاالت اإلحلاد
وشبهاهتم ،واجللوس مع الشباب وإقناعهم ،وإلقاء حماضرات ودروس ودورات يف هذا
األمر ،فحدود اطالع هذا الشاب ،أو طالب العلم الذي توىل هذا الواجب ،لن يكون
مثل املستوى األول ،وال حىت املستوى الثاين ،سيتابع احلوارات ،ويقرأ تفاصيل شبهات
املالحدة ،وجيالسهم ويناقشهم ،فحدود اطالعه أوسع وأبعد وأعمق من الصنف األول
نظرا ألنه يقوم بواجب شرعي ،ال ميكن أن يقوم هبذا الواجب الشرعي والصنف الثاين؛ ً
حق قيام؛ إال بقراءة أوسع وأعمق من القراءة اليت يقرأها املستوى األول واملستوى الثاين.
املستوى األول والثاين ليسوا حباجة أن يقرؤوا مبثل قراءة املستوى الثالث؛ ألن ليس
من مهمتهم مناقشة املالحدة ،يعين مهمتهم حتقيق املستوى الذي يريدوا الوصول إليه من
البناء الفكري لطالب العلم
32
طبعا أتخذ من
بيان احلكم الشرعي ،وهذا حيصل بقراءة أقل من القراءة املوسعة ،اليت ً
أساسا مل يفرغ نفسه هلذا الواجب.
وقت اإلنسان وجهده وعمره ،وهو ً
إذًا جند ُهناك درجات يف العناية الفكرية:
املستوى األول :درجة عموم طلبة العلم :جيب العناية ابألدوات وابملكنة الفكرية،
مع عناية ابلدراسات الفكرية املعاصرة اليت تتحدث عن القرائن الشرعية ،وعناية ابملباحث
الشرعية املرتبطة ابلقضااي الفكرية.
املستوى الثاين :أعلى منهم وهم املتخصصون يف األبواب الشرعية :يكون هلم
عناية مبا ختصصوا فيه.
املستوى الثالث :املتخصصون يف الواجبات الشرعية :فيكون هلم عناية واهتمام
أكرب من املستوى األول والثاين.
درء التعارض بني التخصص الشرعي والعناية الفكرية:
من ُهنا نصل إىل النقطة اليت تليه ،وهي ما ُميكن أن نسميه :درء التعارض بني
التخصص الشرعي والعناية الفكرية ،يعين يف احلقيقة ليس عندان تعارض بني التخصص
الشرعي والعناية واالهتمام الفكري ،فليس مثة تعارض يف املستوى الذي نريده هنا؛
قسيما للعلم الشرعي ،بل بعض القضااي الفكرية هي علوم شرعية،
فاالهتمام الفكري ليس ً
أو أدوات فهم وتفعيل للعلوم الشرعية.
وجيب أن يكون عندان متييز بني درجات االهتمام الفكري ،فلما أقول للشاب أو
طالب العلم :اهتم ابلقضااي الفكرية ال أعين أن يكون عنده إغراق يف هذا اجلانب ،أو أن
يعيش حالة املزاج والشعارات اليت تكلمنا عنها ساب ًقا ،فيغرق فيها وينسى أنه طالب علم،
يبدأ الشاب يقرأ يف الكتب اليت هي بعيد عن ختصصه؛ فهو ألجل أن يؤسس نفسه
أساسا طالب علم
مؤسس فكرًاي ،يرتك طلبه للعلم ،فال يكون ً
فكرًاي ،فيكون طالب علم َّ
شرعي.
البناء الفكري لطالب العلم
33
فاملقصود هنا أن يكون اهتماماً معتدالً ،فانتقاء واعتدال يف القراءة الفكرية ال تؤدي
إىل أن ينسى الشاب وطالب العلم أنه طالب علم ،وخاصة أيها اإلخوة ،وأان أوجه
حديثي إىل طلبة العلم الشرعي ،خاصةً أن الشخص يف بداية طلبه للعلم الشرعي ،إذا
ُوفق وبدأ يف برانمج حفظ وقراءة واطالع ،من احلرمان أن يوقف هذه الربامج أو يؤجلها
أو يضعفها ،يف سبيل أن يبحث عن قراءة كتب معينة ،يشعر أن املزاج العام يبحث عنها.
أان أعتقد أن هذا تقصري كبري ،خاصةً إننا ال نتحدث عن شخص متخصص
سيؤلف رسالة ماجستري أو دكتوراه ،نتحدث عن طالب علم يقول :أان سأؤسس نفسي،
فمن املهم أن يكون األصل والغالب والعموم هو حبثه الشرعي ،وتكون القضااي الفكرية
اليت يعتين هبا متعلقة ابألدوات ومتعلقة مبستوى القراءة الذي حتدثنا عنه.
أيتيين أحياانً بعض الشباب يف املستوى الرابع أو السادس من كلية الشريعة ،وحيدثين
عن برانجمه العلمي ،وأنه حيفظ جمموعة منظومات ،وبدأ يف حفظ يعين كذا موسوعة،
ويطلع وجيرد كتباً شرعية ،حقيقةً تغبط الشاب الذي يف هذا العُمر أن يُوفق إىل هذا
الربانمج العميق واملكثف يف الدراسة الشرعية ،وترجو ملثل هذا الشاب لو استمر يف هذا
الربانمج عدة سنوات أن خيرج طالب علم نوعي لو استمر يف مثل هذا الربانمج ،فيؤملك
ملا يسأل بطريقة من يريد العزوف وترك هذا اجملال ،حبثًا عن ٍ
جمال آخر ،أان أعتقد أن هذا
من احلرمان واخلذالن أبن يرتك ما فتح هللا عليه يف العلم الشرعي ،ويبدأ يغرق يف ماعداه،
القضية قضية موازنة ومراعاة املستوايت اليت حتدثنا عنها.
البناء الفكري لطالب العلم
34
نوعا ما :كيف يبين طالب
بقي معنا يف هذه احملاضرة هذا احملور ،وهو حمور طويل ً
فكراي ،وحمور مزالق فكرية.
العلم نفسه ً
فكراي؟
كيف يبين طالب العلم نفسه ً
بعد احلديث عن أركان البناء الفكري وأمهيته ،نبدأ يف بعض اإلشارات واآلليات
املهمة يف قضية البناء الفكري:
أوال :تنويع القراءة :أن ينوع قراءته لتشمل القراءة يف الدراسات املعاصرة اجليدة،
ً
يعين يكون عنده اطالع على األحباث ،الرسائل املتعلقة ابلقضااي الشرعية املعاصرة اليت هلا
احتكاك بواقع الناس االقتصادي والسياسي واالجتماعي ،فيتدرب الذهن ويستفيد من
هذه الدراسات.
من ذلك القراءة يف املوضوع ات الشرعية املرتبطة ابإلشكاالت املعاصرة ،فإذا أثريت
قضااي معاصرة ،من املهم أن يعود اإلنسان نفسه أن يرجع فيؤصلها شرعيًا ،فإذا أثريت
قضية ،يبدأ يرجع إىل هذه القضية فيقرأها قراءة شرعية مؤصلة ،وال يقرأها قراءة الشائع
دوما ما تشيع يف املشهد اإلعالمي قضااي كثرية متعلقة ابألحكام السياسية،
إعالميًا ،يعين ً
أو االقتصادية أو االجتماعية ،لكن أكثر الناس يعرف عنها ما قيل يف اإلعالم ،وما قيل
يف الكتاابت العامة ،ال ألوم الناس إذا فهموا هذا ،أو اطلعوا هبذا املستوى ،لكن يُعاب
على طالب العلم أن يكون حده من االطالع على هذه القضااي ما مسعه يف برانمج
فضائي ،أو اطلع عليها يف التغريدات يف تويرت ،أو شاهدها يف اليوتيوب.
حمفزا له أن يقرأ
املفرتض إذا كانت هذه املسألة جديدة عليه ،أن يكون ما شاهده ً
مستقال ،حىت يكون مطلعاً على املسألة اطالعاً صحيحاً،ً ويرجع للمسألة فيبحثها حبثًا
وليس أن أيخذها من فضاء إعالمي.
مثال القراءة يف العلمانية،
أيضا القراءة يف ًتريخ األفكار واالجتاهات وأصوهلا ،يعين ً
ً
الليربالية ،احلداثة ،العقالنية ..وحنو هذه االجتاهات ،وكذا القراءة يف العلوم اإلنسانية
ابلصورة اليت تكلمنا عنها فيما يتعلق ابملستوايت الثالث.
البناء الفكري لطالب العلم
35
األمر الثاين :التأين والرتيث :يعين من الضروري لطالب العلم أن يريب نفسه ،وأن
رجال ذو أانة يعين ال يصدر األحكام إال بعد تريث وأتين وتبصر، رجال ذا أانةً ، يكون ً
التأين ليس مبعىن الالمباالة ،وإمنا مبعىن أن يؤخر األحكام وجيعلها تطبخ يف ذهنه فرتةً من
عجال وسريع األحكام؛ حبيث أنه أتتيه بعض املسائل يسمعها
الزمن ،ال يكون الشخص ً
ألول مرة ،فيبدأ حيكم ويفصل ويقسم بناءً على معلومات مسعها للمرة األوىل ،جيب أن
رجال مكيثًا متأنيًا ال يتعجل يف األحكام حىت ولو جزم هبا ،يعين حىت
يكون طالب علم ً
ولو كان جازماً هبا ينتظر فرتة من الزمن حىت يعمق االستفادة من هذه األحكام وتكون
فعال أحكام مبنية على بصرية.أحكامه ً
النيب -عليه الصالة والسالم -ملا أثىن على أشج عبد القيس ،قال« :إن فيك
خصلتني حيبهما هللا ورسوله :احللم واألانة» فاألانة صفة شخصية يف اإلنسان ،ضرورية
يف بنائه الفكري والعلمي.
ملاذا يتأىن؟ لعدة أمور:
-1ألجل مزيد اطالع :قد يكون اطلع على املسألة ،لكن حيتاج إىل مزيد ،مزيد
استعراض وفحص للحجج ،يعين قد يكون مسع احلجة للمرة األوىل ،فيحاول أن يفحصها
فعال
مرة أخرى واثنية ،وحياول يورد إشكاالت حىت يصل إىل املستوى الذي يشعر أنه ً
فحصا كافيًا.
فحص األدلة ً
-2أيضاً ليعرف آراء املتخصصني يف هذه اجلزئية :فيسأل متخصصني يف هذه
القضية ،ويستفيد من آرائهم.
-3وكذلك ألجل فحص فرضيات جديدة ،حياول يطرح املسألة أبوضاع خمتلفة،
فيطرح لو كانت املسألة هبذا الشكل ،لو غاب هذا الشيء ،لو دخل هذا األمر ،حياول
يعرض فرضيات على املسألة ُث يبحث كل فرضية حىت يصل للحكم النهائي الصحيح.
-4وليكون لديه قدرة على تفكيك املوضوعات :ألن من طبيعة املوضوعات
الفكرية أن تكون مشتبكة ،فيحاول يفككها ويقسمها إىل عدة أقسام ،وكل قسم حتته
البناء الفكري لطالب العلم
36
ثالث حاالت ،هذه الطريقة من التقسيم تفك االشتباه الذي يدخل فيه احلق مع الباطل،
والصواب مع اخلطأ ،واالجتهاد مع القطع ..وحنو ذلك.
جدا مهمة ،يعين من الضروري ألي -5ألمهية الوقت يف التفكري :وهذه قضية ً
إنسان أن يعرف أمهية الوقت يف تفكري اإلنسان ،مبعىن أن بعض احلق ،وبعض الوضوح
وبعض املسائل حتتاج حىت تصل فيها إىل رؤية واضحة فيها إىل وقت ،ما يكفي أن تقرأ
لتحكم اآلن ،ال؛ اقرأ اآلن وضعها يف ذهنك ،يعين يف النهاية أنت لست مفتيًا لألمة،
تنتظر األمة آراءك فيجب أن حتسمها اليوم ،يعين ما يف شيء حيتم االستعجال ،فلن متوت
االمة إذا هذا اإلنسان ما أظهر آراءه ،فيجب أن يكون اإلنسان مقتنعاً أنه حيتاج إىل
وقت حىت تتخمر لديه األفكار ،وتنضج وتتضح الرؤية.
وخاصة مع السن ،يعين الشاب يف مقتبل عمره حيتاج إىل سن أكرب حىت يعين
أحياان بعض القضااي فيها مدارس واجتاهات ونقاشات
ً تنضج معه هذه األفكار ،جتد
وانشقاقات ،فيأيت الشاب يقرأ عنها يف أسبوع أو أسبوعنيُ ،ث ما شاء هللا حيسم حكمه
يف هذه القضااي يف ورقات ،وهذا حقيقة من قصور العقل واإلدراك عند اإلنسان أن يصل
هلذا األمر.
القضااي الكبرية ،واملعقدة ،واليت فيها إشكاالت كثرية حتتاج إىل وقت حىت اإلنسان
يبدأ يف أن يصل إىل رؤية انضجة ،وهذه مهمة أيها اإلخوة حىت عند الشباب الذين
يطرحون إشكاالت معينة ،ويثريون شبهات ،مهم أن يقنعون بشكل أو آبخر ،أن
املطلوب منك إذا مل تقتنع ابجلواب عن الشبهة أن حتتفظ هبا فرتة من الوقت ،فأنت اآلن
عندك شبهات ،الشبهات هذه بدأت معك حديثًا ،أنت سافرت ،قبل أن تسافر مل يف
قلبك وال عقلك أي إشكال ،جلست هنا شهراً أو شهرين ،بدأت معك هذه
اإلشكاالت ،فليس منطقيًا أن أسئلة حديثة العهد والورود يف ذهنك ،أن تبدأ بسببها
أمورا كبرية ،إذا مل تقتنع ابإلجاابت ،فعلى أقل شيء دعها يف ذهنك
فتفصل وتبين ً
البناء الفكري لطالب العلم
37
كأسئلة كإشكاالت كفرضيات حبث ،ولست مضطراً إلظهار القناعات وإشاعتها
واملنافحة عنها.
لو تركها يف ذهنه ،ستجده مييل الحقاً لالعتدال واالتزان ،ويصحح وضعه بشكل
جيد ،لكن اإلشكالية أنه يظ هر هذه احلجج ُث ينافح عنهاُ ،ث يصعب عليه بعد ذلك أن
جزا من شخصيته وفكرته وتكوينه ،فيصعب عليه أن يتخلى
يرتاجع عنها؛ ألهنا أصبحت ً
عنها.
اثلثاً :العناية ابلفروق
يعين حيرص طالب العلم أن يعتين ابلفروق بني املسائل ،الفروق بني األدلة ،الفروق
بني األفكار ،ليس التشابه بينها ،املميز للفهم هو الفرق وليس اجلمع ،فكل األفكار
واملذاهب فيها تشابه ،لكن الدقة تربز وتظهر وتتجلى ملا تظهر يل الفروق بينها ،فيحرص
طالب العلم على اقتنا ص الفروق ،وإظهارها وإبرازها ،الفرق بني الدليل هذا والدليل هذا،
والفرق بني القول هذا والقول هذا ،الفرق بني أصحاب االجتاه الواحد ..وهكذا ،يعين
حىت تكون نظرته أعمق وأدق.
فكراي التدرب والتطبيق:
ابعا :مما يساعد على تربية طالب علم نفسه ً
رً
فمن املهم أن يدرب نفسه وخيترب قدراته وميتحن أدواته ويطورها ابلكتابة والبحث
واملشاركة العلمية ،واملدارسة مع األقران ،هذه األدوات ال يصلح أن تكون حبيسة النفس،
بل تظهر وتربز مع التدريب ،فالتدريب يظهر مستواهاُ ،ث تتطور مع األايم ،قد يقع يف
خطأ ويصححها ُث يكتسب معلومة ..وهكذا ،فال بد من تدريب حىت تظهر هذه
املهارات وتقوى.
خامسا :فحص االستدالل ومصادره.
ً
وقد سبق احلديث عن شيء منه ،أبمهية:
أ-التمييز بني الدليل واالستدالل.
ب-وفحص صحة االستدالل وداللته على حمل النزاع وتكلمنا عنه.
البناء الفكري لطالب العلم
38
ج-جتاوز العموميات يف املصادر املعتمدة ،يعين احلديث العام يف املصادر هو دليل
على ضعف يف البناء الفكري ،ملا يقول شخص :أثبتت مراكز األحباث ،وال تدري أي
مركز ،ويف أي مكان ،وأثبتت ماذا ،وقال ماذا؟ وهكذا أتيت هذه املصادر يف سياقات
يتناقلها طلبة العلم ،وهذا حقيقةً قصور ظاهر.
ومثله احلديث عن يف الغرب أهنم يفعلون هكذا ،فالغرب يعين وكأننا نتحدث عن
جمموعة ،أنت تتحدث عن جمتمعات خمتلفة ،وفيها مئات املاليني ،وبكلمات عامة..
وهكذا جيب أن يتجاوز طالب العلم احلديث عن املصادر العامة السائبة السائلة هذه،
وأن يكون هناك تدقيق وتركيز يف املصادر املعتمدة.
سادسا :الفهم اجليد للواقع وتوظيفه يف تعميق األثر الشرعي:
ً
فيطلع طالب العلم على حاجات الناس ،ويتابع حواراهتم ،ويلم خبرائط اجتاهاهتم،
يعين ليس ابلضرورة أن يعرف كل شخص وماذا يقول ،إمنا من املهم أن يعرف االجتاهات
فمثال ما االجتاهات الرئيسية يف حتكيم الشريعة؟ فيبدأ يقسم الناس
الرئيسية يف كل فكرةً ،
إىل خرائط ،اخلرائط ليس مقصود هبا أن أحكم على آحاد الناس ،إمنا اهلدف أن أفهم
االجتاهات واألفكار ،فإذا جاءت هذه القضية :كيف حنكم ابلشريعة؟ ..فيقول لك :قبل
أن تتكلم استحضر ما اجتاهات الناس يف هذه القضية؛ يعين قسم يل مواقف الناس إىل
مخ س أقسام ،هذا سيساعد اإلنسان مساعدة كبرية يف كيفية فهم القضية ،وكيف يربهن
عليها ،وكيف جيمعها؟
أما الشخص الذي يدخل مباشرة وال يعرف اخلرائط واالجتاهات يكون عنده قصور
يف فهم القضية واحلكم عليها ،ونعين هنا االستفادة املعتدلة ،يعين من املهم أن الشخص
معتدال.
اطالعا ً
أيضا أن يكون اطالعه على الواقع ً يطلع على الواقع ،ومن املهم ً
يعين ال يكون الشخص مغرقاً يف مالحقة جدليات وحوارات إىل ما ال هناية ،إمنا
مثال األفكار الرئيسية ،األحداثيكون الشخص عنده اطالع معتدل ال خيفى عليه ً
البناء الفكري لطالب العلم
39
املركزية ،لكن بدون زايدة تؤدي إىل إشغال ذهنه ،وإشغال وقته ،وإشغال تفكريه عن
أتسيسه الفكري وتـأسيسه الشرعي املبين على القراءة والبحث والنظر الصحيح.
سابعا :العناية مبهارات التفكري وتطبيقها يف التعلم الشرعي ذاته:
ً
مهم لطالب العلم وهو يتعلم ،أن يتعلم مبهارات ،فلما يقرأ يقرأ برتكيز وتدقيق
ومقارنة وحتليل وتصنيف ،حىت يستفيد استفادة مثلى من العلم الشرعي الذي يتخصص
فيه.
ضا العناية ابلدراسات املركزية يف الكتابة الشرعية:
اثمنًا :أي ً
ُهناك كتاابت شرعية تعترب دراسات مركزية إن صحت التسمية ،تسيطر على عقل أو
فمثال كتاابت شيخعقول طلبة العلم ،من املهم أن اإلنسان يعتين هبذه الدراساتً ،
اإلسالم ابن تيمية ،تعترب كتاابت مركزية توجه كثرياً من اجتهادات طلبة العلم ،واختياراهتم
جدا لطالب العلم أن يطلع على هذه الكتاابت. ومواقفهم ،فمن املهم ً
ونقول :العناية بكتب شيخ اإلسالم ابن تيمية ،ملاذا؟ ليس ملعرفة العلم الذي يبثه
شيخ اإلسالم فقط؛ وإمنا االستفادة من العبقرية اليت ميتلكها هذا اإلمام ،وكيفية توريد
احلجج ،وكيفية الربهنة؛ يعين العقل الكبري الذي يعين كتب به مؤلفاته رمحه هللا ،فلما
طالب العلم يطلع عليها ،ويدمي النظر فيها ،تلقائيًا سيتأثر هبذه األدوات ويوظفها يف
كتاابته ويزيد عليها.
مثال الغزايل رمحه هللا ،والشاطيب ،وغريهم من األئمة ،الذين تعترب
أيضا كتاابت ً ً
كتاابهتم كتاابت مركزية وفيها مستوى من اإلتقان والذكاء والفهم ال خيفى.
ضا العناية ابلدراسات املركزية يف الفكر اإلسالمي املعاصر:
اتسعا :أي ً
ً
أيضا طبقة من ال ُكتاب والدعاة واملفكرين أجابوا عن أسئلة حتدايت الثقافة
ُهناك ً
الغربية ،وإشكاالهتا على اإلسالم ،وقدموا اإلسالم بصورة تدفع الشبهات ،وتعزز القيم،
أيضا االطالع على هذه الكتاابت ،وهذا ال يعين تصحيح كل ما فيها ،وإمنا من املهم ً
االستفادة من األدوات واملهارات والطرائق اليت كتبت هبا هذه الدراسات.
البناء الفكري لطالب العلم
40
أيضا االنفتاح على اآلراء األخرى ،يف املذاهب الفقهية ،واألقوال األصولية،
ً
واالستفادة منها.
إشكالية االستفادة واالحنراف:
وهنا يطرح موضوع االنفتاح سؤاالً مركزايً ومهماً ،وهو ما يصح أن نسميه إشكالية
ُ
الفائدة واالحنراف ،وهو أن بعض الشباب ملا يقرأ بعض الكتب ،أو يطلع على بعض
املذاهب ،أهنا قد تكون سببًا الحنرافه وإضالله ،ويف نفس الوقت هي فيها فائدة سيستفيد
منها يف جانب أو آبخر ،فنحن بني إشكاليتني :إشكالية الفائدة اليت قد يستفيد منها
طلبة العلم من هذه الكتب ،ويف نفس الوقت إشكالية أهنا قد تؤدي إىل احنراف.
فكيف ندفع هذه اإلشكالية ،وكيف خنفف من إشكالياهتا؟
يف احلقيقة مثة عدة عناصر تساهم يف توضيح اإلجابة عن هذا اإلشكال:
أوال :جيب احلفاظ على احلذر الشرعي ،وأن ال يُلغى ،حىت لو اقتنع طالب العلم
ً
الشرعي ابلقراءة يف الكتب الفكرية لتخصصه أو ألي هدف ،جيب أن يبقى احلذر
حاضرا وعمي ًقا
ً الشرعي من االحنراف وزيغ القلب ،واالبتعاد عن اهلدى جيب أن يبقى
ومؤثرا يف تفكري مجيع طلبة العلم ،ملاذا؟ ألن اإلنسان معرض هلا ،فحىت لو ساغ له أن ً
يطلع ،جيب أن يستحضر أن قلبه قد ينحرف يف أي حلظة ،وهذا حيتم على طالب العلم
مزيد ارتباط ابهلل ،وجترد عن النفس ،وإحلاح ودعاء ،ومثل هذه املعاين اإلميانية ،اليت إبذن
هللا ستكون سببًا لتثبيت قلبه.
َّأما الذي يقرأ وقد غابت عنه هذه املعاين ،ويشعر أن لديه من العقل والقدرة والفهم
أهل ألن ينحرف ،ولو كان طالب علم شرعي؛ ألنه اعتمد ما يغنيه عن االحنراف ،فهو ٌ
حري أبن ُخيذل،
على نفسه وجترد عن اتصال قلبه ابهلل سبحانه وتعاىل؛ فمثل هذا ٌ
فاحلفاظ على هذا احلذر الشرعي ضروري ،وتعميقه ضروري ،االستماع له ضروي ،حىت
يبقى كضمان شرعي ألي طالب علم مثل هذه الشبهات ،ألن إشكالية الشبهات ليست
مسائل رايضيات ،إذا مل يفهمها الشخص احنرف ،وإذا فهمها مل ينحرف ،ال؛ إمنا قد
البناء الفكري لطالب العلم
41
أتتيك الشبهة اليسرية فتظلم قلبك ،وأتيت الشبهات الضخمة على عامي فال تؤثر فيه
شيئًا ،فهي انقياد وتسليم واطمئنان قليب ،وهذا ليس متعل ًقا فقط ابلفهم أو عدم الفهم.
خطااب للجميع ،يعين ال يصح أن حنث عامة
ً األمر الثاين :أنه جيب أال يكون هذا
الناس أو عموم طلبة العلم على القراءة يف الكتب املنحرفة ،فرق بني أن حترض عليه ،وأن
تستفيد منه يف قيود ،ملا أييت بعض الناس فيحدث الشباب ويقول :ثقوا بعقولكم ،ال
ترهنوا عقولكم ألحد ،وىل زمن الوصاية ،وال تضعوا على عقولكم أقفال بيد أانس ،واقرأوا
ما شئتم ،وأعطاكم هللا عقوالً متيزون ،وليس على عقولكم خوف ..،إىل آخر هذا الكالم
اخلطايب املعروف ،هذا الكالم يتمسح ابلعقالنية؛ لكنه خطاب غري عقالين ،خطاب
شعارايت يستغل العقالنية ،ومزاج يدغدغ عواطف الشباب لكنه ليس عقالنيًا وال شرعيًا
وال مصلحيًا ،ومن الغش للشباب أن يقول هلم الشخص هذا الكالم.
نعم؛ إذا جاء الشاب فقال :أان سأقرأ وال أابيل ،يعين هو يقول :أان لن أمسع
لنصيحتك ،وأان سأقرأ ما أشاء ،يف النهاية إذا هو سلك هذا األمر ،فرق بني أن يسلكه
ابختياره ،وبني أن حترضه وحتسنه له ،إذا هو قرأ على كل حال ،سننتقل معه للنقطة
الثانية ،وهي دعوته إىل أمهية التثبيت على األصول الشرعية ،ومراجعة القلب ،وحنو هذه
أيضا ،اب نتبه لقلبك ،انتبه لدينك ،انتبه ..ال تفسدها هبذه القراءات،
املعاين ،ونصيحته ً
القضية ليست مسائل رايضيات إذا فهمت أمنت ،وإذا مل تفهم ضللت ،ال؛ يعين
القضااي الشرعية ليست قضااي أذكياء وأغبياء اي مجاعة ،يعين الذكي مؤمن والغيب يصري
كافر ،ليست هكذا ،قد يكون الشخص من أذكى الناس وهو زنديق ،فالقضية ليست
مرتبطة بفهم أو ليس عليك خوف بسبب فهمي.
املالحدة الذين ارتدوا ،الذين عاندوا الشرع ،ليسوا كلهم أغبياء ،وليس ابلضرورة
يكونوا أغبياء ،بل ليس مثة عالقة بني الغباء والكفر ،ليس له عالقة ،فكثري منهم أذكياء
ولديهم عقول وأفهام ،لكن مل يلتزموا ابلشريعة.
البناء الفكري لطالب العلم
42
أيضا هي مرحلة جيب أتخريها لطلبة العلم ،فهو أحوج للعلوم األمر الثالثً :
الشرعية منها ،يعين االطالع على هذه الكتب جيب أن تكون يف مرحلة متأخرة مسبوقة
بتأسيس شرعي وقراءة مسبقة قبل أن ينتقل إليها.
األمر الرابعً :
أيضا جيب أن تسبقها قراءة يف الكتب الوسيطة إن صحت التسمية،
وهي الكتب الشرعية اليت تناولت قضااي فكرية يف جماالت خمتلفة ،قبل الدخول يف الكتب
الفكرية اليت تتبىن رؤية غري شرعية ،ملاذا؟
ألن الكتابة الفكرية هلا طريقة تفكري ،ولغة ،ومزاج خمتلف ،ملا ينتقل هلا طالب العلم
مباشرة ،قد تؤثر فيه بسبب خضوعه للصياغات والشعارات ،بينما لو قرأ الكتب الوسيطة
كسرت حدة هذه اإلشكاالت ،وأعطته مفاتيح ،ووضحت بعض اإلشكاالت ،وقدمت
له أدوات ،حبيث أنه إذا انتقل للكتب هذه يف مرحلة الحقة ،يكون لديه أتسيس ومنعة
وأدوات ومكانة ،يستطيع أن يوظف ويناقش وجيادل.
يعين ميزة الردود الشرعية اليت تعاجل الشبهات أهنا تكسر حدة هذه الشبهة ،فما
مثال شبهات املستشرقني يف قضااي كثرية ،ال جتد لكثري منها
يكون هلا ذاك التأثري ،انظروا ً
أن الكتاابت الشرعية أحرقتها ابلرد والتوضيح والشرح والتفصيل؛ حىت رواج ،بسبب َّ
أصبحت الفكرة نفسها مملة ،ويعين مسجة ومزعجة من كثرة الرد عليها ،فأصبحت تعاد
بصياغات أمجل وألطف وأكثر جاذبية ،هنا فائدة القراءة يف الكتب الشرعية قبل االنتقال
إىل الكتب اليت ال تلتزم ابألحكام الشرعية أو ابلرؤية الشرعية.
األمر اخلامسً :
أيضا انتقاء ما يفيده منها وترك االغراق لقلة متخصصني ،يعين فرق
بني القراءة يف كتب تتكلم عن ًتريخ األفكار ،وبني القراءة لكتب جزئية ،يعين واحد يقرأ
مثال ،وأبرز شبهات اإلحلاد وأبرز أفكاره ،فرق بني هذه الكتب والكتب
عن ًتريخ اإلحلاد ً
اليت تقوم على اإلحلاد وتربهن عليه ،هذه الكتب ال حيتاجها إال املتخصص ،يف أي حالة
تكلمنا عنها؟ املستوى الثالث ،نعم ،املتخصص ابلواجب الشرعي ،هو الذي قد
البناء الفكري لطالب العلم
43
أبدا ابالبتعاد عن هذه
حيتاجها ،أما بقية طالب العلم ،فلن يتأثر أتسيسهم الفكري ً
الكتب أو عدم االستفادة منها.
عاشراً مما يبين طالب العلم فكرايً :العناية ابخلالف الفقهي العايل والتأمل يف
منهجيات االستدالل والنقد ،ففي كتب الفقهاء خالف فقهي ،وأدلة وحجج،
واستدالالت ،من الضروري أن يعتين هبا ،هي يف احلقيقة تقوم على بىن استداللية عميقة،
فالفقهاء خيتلفون ،ويرد بعضهم على بعض ،مهم أن الشخص يتأمل يف هذه الطرائق،
أحياان يقول :هذا دليل وأجابوا عنه ،ال يكفي هذا ،أجابوا عنه
ً يعين بعض طلبة العلم
مباذا؟ وملاذا؟ وما عالقة هذا ابملوضوع؟ هذه الطريقة التحليلية يف األدلة ستورث قوة يف
االستدالل لدى طالب العلم.
احلادي عشر :االستفادة من علم املنطق واجلدل ،مع عدم االرهتان إليهً ،
أيضا
علم اجلدل وعلم املنطق فيها أدوات يف الفهم واجلدل قد يستفاد منها ،مع مالحظة عدم
االرهتان إليها ،يعين ال يتعامل معها الشخص بطريقة :قاعدة وأطبقها ،فلما يتكلم يقول:
املقدمة األوىل ،املقدمة الصغرى ،املقدمة الكربى ،والنتيجة ..هذه طريقة ضعيفة ويف
احلقيقة ال تعرب عن مهارة ،إمنا يستفيد منها ويدخلها يف بنيته الفكرية ،وينضجها أبدوات
أتثريا.
خمتلفة حبيث تظهر بشكل أقوى وأكثر ً
الثاين عشر :املصاحبة للكفاءات العلمية ،قراءةً ،وجمالسةً ،و ً
استماعا ،ومتابعة
جدا يف البناء الفكري.
أيضا مهم ً
حوارات ،واستلهام طرائق ،هذا ً
الثالث عشر :العناية ابلسؤال :وقصدي ابلسؤال ليس مبعىن توضيح املشكالت،
ما معىن هذا الكالم؟ أعد لو مسحت ما قلت؟ اشرح يل هذه اجلملة ..ال أعين هذا
مهما ،إمنا أعين ابلسؤال الذي ليس جمرد طلب التوضيح ،وإمنا
السؤال ،وإن كان هذا ً
السؤال الكاشف الذي يعرب عن عمق استداليل ،وفهم لدى طالب العلم ،فعادة األشياخ
يف الدروس أنه ال ين كشف هلم قوة طالب العلم إال عن طريق السؤال ،اجلواب ليس
أيضا ليس كاش ًفا ،يكون قد حفظه
حضر اجلواب ،احلفظ ًابلضرورة كاشف ،قد يكون قد ّ
البناء الفكري لطالب العلم
44
من قبل ،لكن السؤال كاشف ،السؤال يعرب عن فهم ،يعرب عن زوااي نظر كانت غائبة عن
الشيخ امللقي ،فالسؤال حقيقةً جيب أن يعتين به طالب العلم ،ويتعامل معه ابهتمام
وعناية.
دور األسئلة يف استثمار القراءة:
يعين ملا تقرأ كتباً كثرية ،الشخص الذي عنده أسئلة سابقة ،يستفيد من قراءته أكثر
السنَّة النبوية
من الشخص الذي ليس عنده أسئلة ،كيف؟ ملا أقرأ مثالً كتاب منهاج ُ
لشيخ اإلسالم ابن تيمية ،قد أقرأ أربع صفحات وأقول :كالم مجيل ورائع وممتع فقط،
بينما يقرأها شخص آخر ويقول :اي سالم ،السطر هذا رد على من يقول كذا ،من هم
الذين يقولون؟ ماذا يقولون؟ فيبدأ يشرح لك ماذا قالوا؛ فالحظ إنه استفاد من النص
شيئاً ما استفدته منه أنت ،ملاذا؟ لديه أسئلة سابقة ،لديه إشكاالت سابقة ،فرضيات
سابقة يبحث عنها ،فالقراءة من خالل ااثرة األسئلة يساعده على استثمار هلذه القراءة.
أحياان تكون سهلة ،لكن الصعوبة يف السؤال املبتكر ،فالذي سيخرج هذااإلجاابت ً
السؤال يستطيع يؤلف حبثاً معه؛ ألنك إذا استخرجت السؤال ،فاجلواب متيسر ،لكن
التحدي يف استخراج السؤال ،وهذا قيمة الرسائل العلمية ،ما امليزة يف رسائل دون رسائل؟
هل معىن هذا أن الباحث قوي وهذا الباحث ضعيف؟ ال يلزم؛ إمنا بعض الباحثني يوفقه
هللا إىل طرح سؤال ،السؤال هذا ممتاز ،البحث بعد ذلك سيكون را ًئعا ،ملاذا؟ ألن السؤال
مدخال
ً ممتاز ،فأي إجابة ولو كانت ضعيفة ستكون فيها فائدة ،وإثراء؛ ألن املدخل كان
صحيحا ،بينما بعض الفرضيات مهما اجتهد الباحث فلن يقدم تلك الفائدة؛ ألن ً
السؤال مل يكن بذاك ،والفرضية ليست فرضية مبتكرة ،ومميزة ،هذا ما يتعلق مبوضوع العناية
ابلسؤال.
الرابع عشر :العناية ابملباحث الشرعية ذات الصلة الوثيقة ابلفكر:
وسبق احلديث عنها ،يعين االجتهاد والتقليد ،العقل والنقل ،املصاحل ،املقاصد ،هذه
كلها مباحث شرعية ،املصلحة ،تقدمي املصلحة على النص ..هذه كلها مباحث شرعية،
البناء الفكري لطالب العلم
45
العناية هبا والبحث الشرعي فيها مهم ،ومثل :الضرورات ،املصاحل ،تغيري الزمان واملكان،
املقاصد ..التأويل وغريها.
احملور األخري :املزالق الفكرية
ُهناك مزالق فكرية يقع فيها طالب العلم بناء على ضعف البنية الفكرية:
املزلق األول :الكتابة واحلديث عن شيء مل يقرأ فيه قراءة كافية؛ وإمنا غاية ما يعرف
فيه هو جمرد كالم عام.
ف بعض طلبة العلم يكتب ويتكلم يف قضااي هو يعرف أن غاية ما يعرف يف هذا
الكالم جمرد معلومات يسرية ،وهذا قصور كبري ،جيب أن حيرتم طالب العلم العلم ،ومن
احرتام العلم تقدير التخصص ،وأن ال يتحدث وال يكتب يف شيء مل يقرأ فيه قراءة كافية؛
إمنا يسمع ويسأل وينظر ،وليس مطالبًا أن يتكلم يف كل قضية ،ويف كل زمان ومكان.
املزلق الثاين :النسب املوغلة يف العمومية ،يعين الكالم الذي يعتمد على كالم عام
جدا ،هذا يف احلقيقة يدل على قصور فكري ،ملا يقول شخص :حنن نعاين من فراغ ً
فكري يف احمليط الثقايف .. ،أييت بكالم سائل سائب" ،حنن" و "فراغ" و"احمليط الثقايف"،
ابال،
ال ميكن أن تفحصه وال متسك منه أي شيء ،فمثل هذا الكالم جيب أال يُلقى له ً
فلما أييت بعض الناس فيتأثر هبذا الكالم ،وقد يسوق له ،ويعجب به فهذا دليل على
إشكالية فكرية؛ ألن هذه نسب موغلة يف العمومية ال تعرب عن بنية مفكر حيرتم العلم
وحيرتم األحكام.
املزلق الثالث :عدم إدراك وزن املسائل ،هناك مسائل قطعية ،مسائل ظنية ،مسائل
أيضا إشكال.
اجتهادية ،بعض طلبة العلم يتعامل مع املسائل بشكل واحد ،هذا ً
الرابع :حتميل الكالم ما ال حيتمل ،فقد يكون الكالم خطأ؛ لكن بعض طلبة العلم
حيمل الكالم ما ال حيتمل ،صحيح أنه وقع يف غلط ،لكن ما هو خبطأ ابلذي تقول أنت،
فبعض الناس إذا رأى خطأ ،يعين كأنه يف حل من أمره أن يقول ما يشاء ،ال؛ هنا خطأ،
اذ جيب أن يكون كالمك يف حدود هذا اخلطأ.
البناء الفكري لطالب العلم
46
املزلق اخلامس :عدم احرتام التخصصات املعاصرة الدقيقة ،وهذا ً
أيضا قضية مهمة،
هناك ختصصات علمية ،فيها أحباث وفيها دراسات ،من اخلطأ إنه أييت شخص ال يعرف
فيها شيء ،فيستخف هبا وينكرها أبلفاظ عامة ،وهذا ال شك إنه قصور فكري كبري.
املزلق السادس :العجلة وعدم التثبت من املعلومة ،عدم التثبت من املعلومة يعين أن
يقول كالماً مل يعرف من قائله ،أو ينسب قوالً مل يقوله شخص ،أو يكون قد قاله ،لكن
ليس ابلصورة اليت قيلت عنه ،أو يكون قاله لكن يف سياق خمتلف ،يعين جيب أن يكون
لدى طالب العلم حتوط يف نسبة األقوال إىل األشخاص وإىل املذاهب.
املزلق السابع :رد القول دون فهم كافة جوانبه ،بعض الناس يرد القول ،فإذا قيل له:
أال حيتمل هذا القول كذا ،فيقول :إذا كان كذا فهو صحيح ،طيب ملاذا ما تنبهت له من
قبل؟ يعين قبل أن ترد القول ،ملاذا مل تتنبه أن هذا القول حيتمل جوانب أخرى ،لكن
العجلة ال تساعد على فهم هذه اجلوانب.
املزلق الثامن :احلكم على األشياء بناء على مواقف وخربة شخصية ،وهذا املزلق
مثال :حنن نعاين من إشكاالت فكرية ،حنن
لألسف إنه شائع ،فيأيت بعض الناس ويقول ً
نعاين من احنرافات ،نعاين من كذا ،زارين شاب ،ورأيت شاابً ،ويبدأ حيكي لنا ،ويبدأ
يتحدث عن جتاربه الشخصية ،إنه التقى ببعض الشباب.
هذه التجارب الشخصية ال يُبىن عليها أحكام ،يعين كونك التقيت بشباب،
وتعرف أشخاص ،وزرت مدينة معينة ،ال جتعل حياتك الشخصية يُبىن عليها أفكار
وتصورات وأحكام ،نعم هى تبقى خربات شخصية مفيدة لك ،وأضفها يف بنيتك الفكرية
واالس تداللية ،لكن ال تبين عليها قضااي وأحكام؛ إمنا اجعلها فرضيات ،فإذا جاءك أحد
وتكلم لك عن شكوكه اإلحلادية ،ال جتعل من زايرة واحدة أو عشر دليالً على أن اجملتمع
عنده إشكالية مع اإلحلاد ،إمنا اجعلها فرضية للبحث والنظر واالستفادة.
البناء الفكري لطالب العلم
47
أيضا مزلق ،بعضاملزلق التاسع :االعتماد على املعلومات الشائعة جمتمعيًا ،وهذه ً
املعلومات تشيع جمتمعيًا ،فاملفرتض على طالب العلم أن يكون عنده متييز ،ال يقبل وال
ينقل أي شيء جملرد أنه شائع يعين جمتمعيًا.
.
يف هناية هذه احملاضرة ،أمحد هللا على ما يسر وعان ،وأشكركم على استماعكم
وإنصاتكم وتفاعلكم ،وأسأل هللا أن جيعلكم مباركني أينما كنتم ،وأن ينفع بكم ويرزقنا
وإايكم العلم النافع ،والعمل الصاحل ،واإلخالص وصلى هللا وسلم وابرك على نبينا حممد،
وعلى آله وصحبه أمجعني.