البناء الفكري

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 47

‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪1‬‬

‫حماضرة‪:‬‬
‫"البناء الفكري لطالب العلم"‬

‫تقدمي‪:‬‬
‫د‪ .‬فهد بن صاحل العجالن‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪2‬‬
‫بسم هللا الرمحن الرحيم‬
‫يليق جبالل‬ ‫محدا كثريا طيبا مبارًكا ِ‬
‫محدا ُ‬
‫فيه‪ ،‬أمحدهُ ً‬ ‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬احلمد هلل ً ً ً‬
‫ِ‬
‫وجهه وعظيم سلطانه‪ ،‬وأصلي وأسلم وأابرك على نبينا حممد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬
‫ُُثَّ َّأما بعد‪:‬‬
‫فسالم هللا عليكم ورمحته وبركاته‪ ،‬وأشكر اإلخوة األفاضل على الرتتيب هلذا اللقاء‪،‬‬
‫الذي أسأل هللا أبمسائه احلسىن أن يطرح ِ‬
‫فيه الربكة والنفع‪ ،‬حديثنا أيُّها اإلخوة حول‪:‬‬
‫"البناء الفكري لطالب العلم"‬

‫وأول سؤال يتبادر إىل الذهن قبل احلديث يف تفاصيل هذا املوضوع‪ ،‬هو‪:‬‬
‫ما املقصود ابلبناء الفكري الذي ننشده ونريد من طالب العلم أن حيرص عليه؟‬
‫قليال حول موضوع الفكر‪ ،‬فما املقصود‬
‫قبل أن نتحدث عن البناء الفكري‪ ،‬نقف ً‬
‫ابلفكر؟ هذه الكلمة اليت أصبحت من الكلمات الرائجة حبيث يسمعها الشخص يف‬
‫اليوم الواحد عشرات املرات‪ ،‬ما املقصود ابلفكر؟‬
‫رمبا الكثري ينزعج؛ لعدم استطاعته اجلواب عن هذا السؤال‪ ،‬واحلقيقة أن الشخص‬
‫الذي يقول‪ :‬أان ال أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال‪ ،‬قد يكون هو الذي يعرف اجلواب‬
‫عن هذا السؤال‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن موضوع الفكر ليس له يف احلقيقة ضابط موضوعي يضبط حدوده وما يدخل‬ ‫َّ‬
‫فيه وما خيرج فليس املقصود ابلفكر يف الكتاابت املعاصرة‪ ،‬كل ٍ‬
‫إعمال للفكر‪ ،‬يعين ليس‬
‫أي حركة فكرية أو أي ذهن عقلي هو من قبيل الفكر‪ ،‬وإال فكل تصرفات اإلنسان هي‬ ‫ُّ‬
‫أساسا مبنية على تفكري‪ ،‬إذًا املقصود هو تفكري معني‪ ،‬ما هو هذا التفكري املعني؟ تبدأ‬
‫ً‬
‫األذهان ختتلف يف حتديد هذا األمر‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪3‬‬
‫مثال‬
‫أيضا الفكر ليس متعل ًقا مبوضوع حمدد تستطيع أن تعرف بدايته وهنايته‪ ،‬يعين ً‬
‫ً‬
‫الفقه واضح‪ ،‬يبدأ بكتاب معني‪ ،‬وينتهي بكتاب معني‪ ،‬يتناول قضااي معينة بطريقة معينة‪،‬‬
‫كتااب‬
‫ليس يف الفكر شيء هبذا املعىن؛ فعندما أييت الشخص فيسأل سؤ ًاال يقول‪ :‬أعطين ً‬
‫أستطيع فيه أن أفهم الفكر‪ ،‬فاجلواب عن هذا السؤال خطأ‪ ،‬ملاذا؟ ألن السؤال خطأ‪،‬‬
‫كتااب فيه حبيث أمجع املواد‬
‫ليس لدينا يف الفكر علم واضح منضبط‪ ،‬أستطيع أن أضع لك ً‬
‫املتعلقة فيه‪.‬‬
‫إذًا كل حديثنا عن الفكر هو حديث تقرييب‪ ،‬يعين حماولة لتقريب املقصود‪ ،‬وليس أنه‬
‫طبعا عدم االنضباط يف هذا املفهوم أثّر على موضوع عالقة الفكر‬
‫ضبط هلذا املفهوم‪ً ،‬‬
‫بطلبة العلم‪ ،‬وسأحتدث عنه بعد قليل‪ ،‬يعين عدم انضباط هذا املفهوم أوجد إشكاالً يف‬
‫كيفية تعاطي طلبة العلم مع موضوع الفكر‪.‬‬
‫إذا أردان التقريب؛ فنستطيع أن نقول‪ :‬الفكر هو‪ :‬حركة أو نشاط عقلي ذهين‬
‫يسعى إىل توظيف املعارف يف الواقع ‪-‬االقتصادي أو االجتماعي أو الثقايف أو غريه‪-‬‬
‫للتأثري يف واقع معني بناءً على خلفية حمددة‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬كل علم تستطيع أن أتخذ منه جانب للقضااي الفكرية‪ :‬الشريعة‪ ،‬االقتصاد‪ ،‬علم‬
‫النفس‪ ،‬علم االجتماع‪ ،‬علم السياسة‪ ..‬كل العلوم‪ ،‬مثة مساحة من هذه العلوم جرى فيها‬
‫حديث ونزاع ووظفت أدوات فيها يف تغيري ثقايف أو اجتماعي أو اقتصادي‪ ،‬فتعترب من‬
‫قبيل اجلوانب الفكرية‪.‬‬
‫أوضحها بشكل آخر‪.‬‬
‫مثال ابب الصيام يف الفقه‪ ،‬ليس حبثًا فكرًاي حبسب الشائع يف الفهم املعاصر‪،‬‬
‫يعين ً‬
‫إمنا هو حبث فقهي‪ ،‬مىت يكون كتاب الصيام أو ابب الصيام‪ ،‬أو هذا املوضوع فكرًاي؟ لو‬
‫مثال مسألة‪ :‬منع الناس من الصيام ألجل العمل كما طُرحت قبل سنوات يف أحد‬‫طُرحت ً‬
‫البلدان‪ ،‬فطرح أن الناس حيصل هلم مشقة‪ ،‬والعمل أهم من الصيام‪ ،‬والعمل يعين فائدته‬
‫متعدية‪ ،‬والصيام فائدته قاصرة؛ إذًا نرتك الصيام ونبدأ ابلعمل‪ ،‬هنا البحث سيحصل فيه‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪4‬‬
‫حتول املوضوع من موضوع فقهي إىل موضوع فكري‪ ،‬ألنه ارتبط بتأثري يف‬ ‫جدال ونقاش؛ َّ‬
‫الواقع‪ ،‬تبعه جدل واختالف بناءً على خلفيات‪.‬‬
‫هذا مثال يف الشريعة أتيت مبثله يف االقتصاد يف السياسة‪ ..‬وغريها‪ ،‬هذه مقدمة فقط‬
‫يف موضوع الفكر مهمة؛ ألهنا تساعدان يف إعادة التوازن يف عالقة طالب العلم ابجلوانب‬
‫الفكري‪ ،‬بعد ذلك أنيت إىل سؤال‪:‬‬
‫ما املُراد ابلبناء الفكري؟ ماذا نريد مبوضوع البناء الفكري؟‬
‫نريد ابلبناء الفكري أن ميتلك طالب العلم الشرعي‪ ،‬وهو اهلدف األساسي من‬
‫حديثنا يف هذه احملاضرة‪ ،‬أن ميتلك طالب العلم أدوات ومهارات شخصية‪ ،‬ويطلع على‬
‫تثمر بُنيةً فكريةً عميقة؛ يستطيع من خالهلا أن يكون أتثريه ونفعه أعظم‪،‬‬
‫معارف متنوعة ُ‬
‫وسيأيت الح ًقا احلديث عن هذه اجلوانب األساسية يف البناء الفكري‪ ،‬وهي‪ :‬املهارات‪،‬‬
‫واملعارف‪ ،‬والبُنية اليت هي نتيجة العالقة بني املهارات واملعارف‪ ،‬وهي امتالك الشخص إىل‬
‫مكنة أو بُنية نفسية يستطيع من خالهلا أن يستثمر معلوماته بشكل أفضل وأقوى‪.‬‬
‫إذا تقرر هذا‪ ،‬حتدثنا عن إشكالية اسم الفكر‪ ،‬إذ أصبح يف أذهان كثري من طلبة‬
‫علم شرعي‪ ،‬فأصبح‬ ‫العلم‪ ،‬إن الفكر مقابل للعلم الشرعي؛ فأصبح لدينا فكر ولدينا ٌ‬
‫الشخص إما أن يقرأ يف العلم الشرعي‪ ،‬أو يقرأ الفكر‪ ،‬إما لدينا مفكر أو طالب علم‪،‬‬
‫نظرا ألن املقابلة يف‬
‫هذه املقابلة يعين طرحت أسئلة كثرية‪ ،‬وأربكت كثرياً من الشباب؛ ً‬
‫علما يوازي العلم الشرعي‪،‬‬
‫حقيقتها مقابلة خطأ؛ فلسنا أمام فكر يقابل علم‪ ،‬ليس الفكر ً‬
‫مثال الفلسفة‪ ،‬نعم العلم الشرعي يقابله علم النفس‬
‫نعم العلم الشرعي ميكن أن يقابله ً‬
‫مثال‪ ،‬علم االقتصاد‪ ،‬نعم عندان أانس متخصصون يف االقتصاد‪ ،‬وأانس متخصصون يف‬ ‫ً‬
‫العلم الشرعي‪ ،‬لكن الفكر ليس هبذه الطريقة‪ ،‬فليس الفكر مقابل للعلم الشرعي حىت‬
‫مفكرا أو يقرأ يف الفكر أكثر‪ ،‬أو يقرأ يف العلم‬
‫يُطرح علينا سؤال‪ :‬هل طالب العلم يكون ً‬
‫الشرعي أكثر‪ ،‬السؤال هنا غري صحيح؛ ألنه مبين على عدم دقة يف فهم موضوع الفكر‪،‬‬
‫وسيأيت توضيح هلذا بعد قليل‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪5‬‬
‫هدفنا يف هذا اللقاء‪:‬‬
‫خطاب لطلبة العلم الشرعي يف كيفية االستفادة من اجلوانب الفكرية واملضامني‬
‫الفكرية يف أتسيسهم العلمي والشرعي؛ حىت يصل إىل مستوى أمثل وأعظم يف طلبه للعلم‬
‫الشرعي‪ ،‬فاحلديث هنا ليس حديثًا لعامة الناس‪ ،‬وال حديثًا لعموم املثقفني‪ ،‬حديث لطلبة‬
‫طبعا‬
‫العلم الشرعي يف كيفية استفادهتم‪ ،‬وحرصهم على التكوين الفكري املتميز‪ ،‬وهذا ً‬
‫سيؤثر يف مسار احلديث‪ ،‬فنحن ال نريد بناء فكري لعموم الناس‪ ،‬وال لعموم املثقفني‪ ،‬إمنا‬
‫بناء فكري لطالب علم شرعي هو يف النهاية طالب لعلوم الشريعة‪ ،‬إذا تقرر هذا املدخل‪.‬‬
‫حتدث لطالب العلم الشرعي عندما يضعف تكوينه الفكري؟‬
‫فما اآلاثر اليت ُ‬
‫عندما يضعف البناء الفكري عند طالب العلم‪ ،‬تظهر مجلة من اإلشكاالت‬
‫سأحتدث عنها واحدةً واحدة‪ ،‬ليس ابلضرورة أن هذه اإلشكاالت جتتمع كلها يف شخص‬
‫واحد‪ ،‬إمنا قد جتتمع يف شخص‪ ،‬قد تتوزع على أشخاص‪ ،‬قد يوجد شيء منها عند‬
‫شخص دون آخر‪ ،‬لكن لدينا إشكاالت عدة إذا ضعف البناء الفكري عند طالب العلم‬
‫تبدأ هذه يف الظهور على الساحة وعلى السطح‪.‬‬
‫اإلشكال األول‪ :‬القصور يف البناء الشرعي لألحكام‪.‬‬
‫حمكما‬
‫ً‬ ‫فطالب العلم مطالب منه أن يُ ِّبني للناس األحكام الشرعية ً‬
‫بياان شافيًا‬
‫مفصال‪ ،‬وينافح عن أحكام الشريعة‪ ،‬ويقنع الناس هبا‪ ،‬هذا األمر مرحلة تزيد عن جمرد‬
‫ً‬
‫طلبة للعلم الشرعي‪ ،‬يعين أنين أعرف أن هذا احلكم حرام أو حالل أو شرط أو واجب‬
‫هذه مرحلة‪.‬‬
‫املرحلة األخرى ‪ :‬أن أنشر هذا األمر يف الناس‪ ،‬وأعمق هذا املفهوم‪ ،‬أانفح عنه‪،‬‬
‫وأمجع احلجج‪ ،‬هذه مرحلة إضافية‪ ،‬ليس كل طلبة العلم قادر على حتقيق هذا األمر‪،‬‬
‫فبقدر متكن طالب العلم يف معارفه ومهاراته وبنيته‪ ،‬وبقدر أتسيسه الفكري الذي سيأيت‬
‫قادرا على بيان األحكام الشرعية‪.‬‬
‫تفصيله الح ًقا‪ ،‬يكون ً‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪6‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫مثال عن حرمة الراب؛ فحرمة الراب والدليل عليها‬
‫عندما يتحدَّث طالب العلم الشرعي ً‬
‫وحدود ذلك هذا أمر مهم‪ ،‬وله حد معني‪.‬‬
‫املرحلة األخرى‪ :‬كيف تُقنع الناس وتعمق يف أذهاهنم حكمة حترمي الراب‪ ،‬بيان أضرار‬
‫الراب‪ ،‬العالقة بني املنظومات اليت تعتمد الراب واليت ال تعتمد الراب‪ ،‬هذا مستوى يتجاوز جمرد‬
‫االطالع على حكم الراب‪ ،‬فاطالع طالب العلم على الدراسات املعاصرة اليت تتكلم عن‬
‫حكمة حترمي الراب‪ ،‬وآاثر الراب على االقتصاد الربوي املعاصر‪ ...‬وغري ذلك‪ ،‬هذا مستوى‬
‫مكتمال‪.‬‬
‫ً‬ ‫بياان شافيًا‬
‫جدا يستطيع من خالله أن يبني األحكام الشرعية ً‬ ‫عا ٍل ً‬
‫أيضا من إشكالية القصور يف البيان الشرعي لألحكام‪ ،‬أن طالب العلم الشرعي قد‬ ‫ً‬
‫يغيب عنه التصور الكلي للحكم‪ ،‬يكون عنده معرفة ابحلكم الشرعي كجزئيات منفصلة‪،‬‬
‫نظرا ألن‬
‫لكنه ال ميلك تصوراً كلياً عن األحكام؛ فقد جيتمع يف ذهنه رأاين متناقضان؛ ً‬
‫مثال بعض الشباب املهتمني ابلعلم الشرعي‪،‬‬ ‫الصورة عنده ليست صورة حمكمة البناء‪ ،‬جتد ً‬
‫مثال يقرر احلكم ابلشريعة‪ ،‬وأن احلكم مبا أنزل هللا‪ ،‬ويقرر‬
‫يعين ملَّا أييت يف ابب العقيدة ً‬
‫أدلة ذلك أبحسن ما يكون‪ُ ،‬ث أييت يف ابب آخر يف ابب السياسة‪ ،‬يقرر أحكاماً قد‬
‫يسمعها بلغة فكرية جديدة‪ ،‬فيقبل أفكاراً تناقض الذي أصله يف ابب العقيدة‪.‬‬
‫السبب يف هذا التناقض‪:‬‬
‫إنه ليس ُهناك رؤية واحدة حتكم األبواب واملسائل‪ ،‬وهذه الرؤية ليست جمرد حبث‬
‫فقهي‪ ،‬إمنا حتتاج إىل معارف أو مهارات تضبط التصورات عند الشاب‪ ،‬حىت ال يتغري‬
‫حكمه من ابب إىل ابب آخر‪.‬‬
‫يتبع ذلك أيضاً مما له تعلق ابلبيان الشرعي‪ :‬ضرورة أن مييز طالب العلم احلد‬
‫الشرعي الذي جاء فيه النص‪ ،‬حبيث ال يتجاوزه‪ ،‬فيمنع أو حيرم شيء ليس له عالقة‬
‫بداللة النص‪ ،‬كما أن لدينا فئة تسحب داللة النص فتبيح ما حرم هللا‪ ،‬وحترف األحكام‬
‫أيضا بعض طلبة العلم قد يوسع داللة النص‪ ،‬فيدخل يف النص ما ليس منه غريةً‬
‫وأتوله‪ً ،‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪7‬‬
‫ومحيةً؛ فتؤدي هذه الزايدة إىل إضعاف النص نفسه؛ ألنه أدخل عليه شيء ال ُّ‬
‫يدل عليه‪،‬‬
‫فهذا من القصور‪ ،‬يعين من املهم أن تبني األحكام الشرعية بياانً كامالً‪ ،‬فحني يدخل يف‬
‫النص ما ليس منه ألي سبب فإن يؤدي إىل إضعاف البيان الشرعي لألحكام‪.‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫ملا أيت شخص فيقول مثالً‪ :‬ثبت علميًا أن املوسيقى تعاجل من أمراض معينة‪ ،‬وهذا‬
‫كالم يُطرح يف اإلعالم‪ ،‬ويف الكتاابت‪ ،‬ورمبا يعين بعض األحباث تذكر هذا‪ ،‬بعض اإلخوة‬
‫عالجا ملا حرمتها الشريعة‪ ،‬ويورد‬
‫مثال ً‬‫يعين مباشرة يقول‪ :‬هذا غري صحيح‪ ،‬لو كانت ً‬
‫األدلة احملرمة‪ ،‬فيعين مل يتفطن إنه ُهناك حد حمكم للتحرمي‪ ،‬وهناك أشياء إضافية‪ ،‬احملرم هو‬
‫حىت لو ثبت العالج هبا‪ ،‬ليس‬‫حترمي املوسيقى‪ ،‬موضوع العالج هذا موضوع إضايف‪ ،‬يعين ّ‬
‫عالجا مطل ًقا‪ ،‬ال؛‬
‫له عالقة أبصل التحرمي‪ ،‬اخلمر قد يُعاجل به‪ ،‬فما أقول‪ :‬اخلمر ليس ً‬
‫نقول‪ :‬إذا ثبت العالج ‪-‬وهذا حبث آخر‪ -‬فهو عالج حمرم‪ ،‬وحرمته الشريعة ملفسدة‬
‫اعظم‪ ،‬وال يقتصر العالج عليه‪ ،‬وانتهى املوضوع‪ ،‬يعين ال أدخل شيئاً إضافياً على أصل‬
‫حكم يرتتب عليه؛‬
‫ألننا هبذا نصبح بني رأيني‪ :‬رأي حىت حيافظ على حترمي املوسيقى مينع موضوع‬
‫العالج مطلقاً‪ ،‬ورأي ألنه شعر بوجود عالج أصبح يشكك يف األصل‪ ،‬بينما لو عرف‬
‫الشخص إنه هناك حد للبحث الشرعي‪ ،‬وهناك شيء خارج عنه‪ ،‬حلصل عنده انضباط‬
‫يف البيان لألحكام الشرعية‪ ،‬هذا ما يتعلق ابألثر األول من آاثر ضعف البناء الفكري‪.‬‬
‫األثر الثاين‪ :‬االنفصال عن الواقع وانقطاع جسور التفاهم‪:‬‬
‫يعين ابتعاد طلبة العلم عن البناء الفكري يؤدي إىل أن يكون ُث مسافة بني طلبة‬
‫قادرا على احلديث عن تفاصيل‬
‫العلم‪ ،‬والواقع الذين يعيشون فيه‪ ،‬فيكون طالب العلم ً‬
‫مثال شكل الدولة اإلسالمية‪ ،‬وأحكام أهل الذمة‪،‬‬‫املشهد الفقهي القدمي‪ ،‬فهو يعرف ً‬
‫جدا يف فهم البحث الفقهي يف أصله املقرر يف‬
‫واجلزية‪ ،‬وتفاصيل األمان‪ ،‬فعنده قدرة كبرية ً‬
‫فحدث عن املفاهيم الشائعة للمواطنة وما‬
‫يسريا للواقع‪ُ ،‬‬
‫الكتب‪ ،‬لكن لو انتقل انتقاالً ً‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪8‬‬
‫يتعلق هبا‪ ،‬ما األحكام املتعلقة هبا؟ جتده يقف‪ ،‬فهناك انفصال بني املادة القوية الثرية اليت‬
‫نظرا ألنه ليس‬
‫ميلكها‪ ،‬واليت أكثر من خيوض يف هذه األبواب ال حيسنها‪ ،‬فهناك انفصال ً‬
‫هناك جسر جيمع بني الطرفني‪ ،‬ويؤدي إىل حصول تفاهم‪.‬‬
‫كثري من اإلشكاالت املعاصرة ال تنبثق من أانس يعاندون الشرع وحيادون‪ ،‬نعم هناك‬
‫أانس عندهم إشكاالت مع النص ومع الدين ومع الوحي‪ ،‬عندهم منظومة أفكار خمتلفة‪،‬‬
‫لكن كثرياً من الناس عندهم إشكاالت حيتاجون فيها إىل من ميد هلم جسر تواصل‪ ،‬ميرر‬
‫هلم معلومات صحيحة‪ ،‬ويسحب منهم معلومات خاطئة‪ ،‬فتكتمل عندهم الصورة‪ ،‬أو‬
‫على األقل ختف‪ ،‬يقل جانب اخلطأ واالحنراف يف تصوراهتم‪ ،‬عدم وجود بناء فكري جيد‬
‫جيعل طلبة العلم ال حيسنون مثل هذا التواصل‪.‬‬
‫أحياان نزاع من‬
‫ً‬ ‫أيضا من القضااي الفكرية اليت حيصل فيها‬
‫دعين أضرب مثاالً ً‬
‫أرضيات خمتلفة ليس يف جسر جيمع بينهما‪.‬‬
‫دوما ما حيصل نزاع يف هذه‬‫موضوع العني والسحر واملس‪ ،‬وما يتعلق هبا‪ً ،‬‬
‫املوضوعات مع املتخصصني يف الطب النفسي وغريهم‪ ،‬فاملختص النفسي يقول‪ :‬األمراض‬
‫النفسية اليت نتعامل معها هلا يعين سبب عضوي واضح‪ ،‬نقص من أشياء معينة‪ ،‬وعندان‬
‫أدوية تعاجلها‪ ،‬وهلا أسباب معينة‪ ،‬فيقابل طالب علم يقول له‪ :‬ال؛ غري صحيح‪ ،‬هذا عني‬
‫وهذا سحر‪ ،‬وهذا مس وال تفيده األدوية‪ ،‬وال ينفعه العالج‪ ..‬اخل‪ ،‬فهناك نزاع ليس بينهما‬
‫جسر جيمع بينهما‪.‬‬
‫فقد أييت خمتص حمب للشريعة ومعظم هلا‪ ،‬لكن حيتاج ملن ميد اجلسر فيوضح له‬
‫حقيقة موضوع العني والسحر واملس‪ ،‬وهو يرى من البحث التجرييب العلمي أن هناك يعين‬
‫أسباب مادية واضحة هي اليت سببت هذه القضااي‪ ،‬بينما الشخص الذي عنده بُنية‬
‫مكتملة علميًا وفكرًاي يستطيع أن ميد هذا اجلسر؛ فيبني أن موضوع العني والسحر يتعلق‬
‫بشيء غري مادي‪ ،‬وأنت تتكلم عن شيء مادي‪ ،‬ليس مثة منافاة بني أن جنمع بني هذين‬
‫األمرين‪ ،‬فنحن ال ننكر املادة وعالجها وأسباهبا‪ ،‬لكن غاية ما تريد أيها املختص‪ ،‬غاية ما‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪9‬‬
‫ماداي‪ ،‬وهل يقول عاقل‪ :‬إنه تستطيع‬‫إثباًت ً‬
‫تريد أنك تقول‪ :‬أان ال أستطيع أثبت العني ً‬
‫إثبات شيء غري مادي بطريقة مادية؟ يعين البحث التجرييب يثبت األشياء املادية؛ فلما‬
‫أساسا‪ ،‬يعين هي روح شيطانية‪ ،‬تريد إثباهتا‬
‫ماداي‪ ،‬ما صارت عني ً‬ ‫يقول‪ :‬أريد إثبات العني ً‬
‫ماداي؟ مل تعد ٍ‬
‫حينذ روحاً شيطانية‪ ،‬إذًا إبمكانه أن يؤمن ابألمرين‪ ،‬وال منافاة بينهما‪،‬‬ ‫ً‬
‫يؤمن أن ُهناك مرض‪ ،‬له أسبابه احلسية‪ ،‬ويف نفس الوقت يثبت أن هناك عني‪ ،‬وهناك‬
‫مس وهناك عالج هلا‪ ،‬قد نقطع بوجوده أو نظن‪ ،‬حيصل هناك جسر جيمع بني التصورين‪،‬‬
‫أحياان إىل شطح بعض الناس ألنه مل يصل إىل جسر يقربه‬ ‫يعين غياب هذا اجلسر يؤدي ً‬
‫إىل املفهوم الشرعي الصحيح‪.‬‬
‫األثر الثالث‪ :‬من آاثر الضعف يف البناء الفكري‪ :‬الضعف يف استثمار املادة‬
‫الفقهية وتفعيلها‪:‬‬
‫جدا‪ ،‬فهم يطلعون على‬‫فطلبة العلم الشرعي حباهم هللا مادة شرعية تراثية كبرية ً‬
‫مدرسة ًترخيية كبرية ثرية ابملعلومات‪ ،‬لكن قصور البناء الفكري جيعله ال يستطيع يستثمر‬
‫هذه املعلومات ويوظفها يف الواقع‪.‬‬
‫مثال‪ :‬كثري من املباحث املتعلقة ابحلالة املعاصرة يتوالها بعض اإلخوة املتخصصني يف‬
‫ً‬
‫فنظرا لقدرهتم على مواكبتهم للعصر واحتكاكهم‬
‫مثال‪ ،‬وهي مباحث شرعية‪ً ،‬‬ ‫القانون ً‬
‫ابألنظمة احلديثة‪ ،‬يعين يطرحون أسئلة‪ ،‬وجييبون ويكتبون ويؤلفون كتاابت جيدة‪ ،‬لكن‬
‫عندما يدخل طالب العلم الشرعي إىل هذه األبواب‪ ،‬هو ألصق هبذه األبواب منهم؛‬
‫فيستطيع أن يقدم معلومات وإضافات أفضل بكثري‪.‬‬
‫وحىت ال نغرق يف التجريد الذهين‪ ،‬نطرح أمثلة واقعية‪ :‬ما حكم تويل املرأة للرائسة‬
‫كثريا يف هذا األمر‪،‬‬
‫العامة؟ مبحث شائع يف الكتاابت القانونية املعاصرة‪ ،‬والقانونيون كتبوا ً‬
‫ونظرا الحتكاكهم ابحلالة املعاصرة‪ ،‬سبقوا الشرعيني والفقهاء يف الكتابة والتأليف‪ ،‬لكن‬ ‫ً‬
‫كثرياً منهم ليس عنده املادة الرتاثية اليت عند الفقيه‪ ،‬فإجاابهتم ومعلوماهتم ال تزال حمدودة؛‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪10‬‬
‫بينما الفقيه لو دخل هذه الساحة وعرف اجملال الذي تتحرك فيه هذه الكتاابت؛‬
‫الستطاع أن يبدع ويضيف من الرتاث العميق‪ ،‬فيستطيع أن يستثمره‪.‬‬
‫حتديدا‪ ،‬ذكر هذه املسألة‬
‫ً‬ ‫وال زلت أذكر أحد القانونيني الفضالء يف هذه املسألة‬
‫قوم ولوا أمرهم امرأة» يقول بعضهم‪:‬‬
‫وأورد إشكاالً أهنم يقولون عن حديث‪« :‬لن يُفلح ٌ‬
‫إنه هذا خاص حبادثة بنت كسرى فقط‪ ،‬يعين العربة خبصوص السبب ال بعموم اللفظ كما‬
‫يستدلون‪ ،‬فاجتهد يف اإلجابة حبسب ما يعرف‪ُ ،‬ث كتب حقيقة العبارة يعين تفيض أملا‪،‬‬
‫ً‬
‫عندما قال‪ :‬وأان أعتب على اإلخوة املتخصصني يف العلوم الشرعية‪ ،‬كيف ابتعدوا عن‬
‫فعال يشعر أنه أمام استدالل يف قضااي أصولية‪،‬‬
‫اإلجابة عن هذه اإلشكاالت! يعين هو ً‬
‫يف النهاية لن يستطيع أن جييب عن هذا اإلشكال كما لو دخل طالب أصويل يف هذه‬
‫املسألة‪ ،‬فعنده مادة تراثية يستطيع أن يوظفها‪.‬‬
‫أساسا يف هذا املوضوع؛ بل هو خطأ‬
‫وألجل ذلك فاالستدالل هبذه القاعدة غلط ً‬
‫يُنازع إمجاعاً‪ ،‬ابإلمجاع‪ ،‬لكن لن تعرف إال إذا دخل فقيه وبدأ يوضح هذه القضااي‬
‫ويستثمرها؟‬
‫ما وجه منازعته لإلمجاع؟‬
‫ألن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب ليست متعلقة خبصوص األعيان؛ وإمنا‬
‫قوم ولوا‬
‫خبصوص األسباب‪ ،‬فالعربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب مبعىن‪« :‬لن يُفلح ٌ‬
‫أمرهم امرأة» هل هو عام يف كل والية؟ أو خاص ابلوالية اليت جرى فيها النزاع؟‬
‫أما القول أنه خاص ببنت كسرى؛ فهذا خصوص أعيان ال يقول به أحد؛ ألن هذا‬
‫معناه‪ :‬جعل الشريعة خاصة أبعيان‪ ،‬وهذا ال يقول به أحد‪ ،‬إال فيما يتعلق ابختصاص‬
‫النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ابألحكام‪ ،‬أما إذا جاء حكم أمر النيب ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬املسيء صالته إبعادة الصالة‪ ،‬هل بعموم اللفظ أو خبصوص السبب؟ ال يُقال‪:‬‬
‫إنه خاص هبذا الرجل‪ ،‬وإال أصبحت الشريعة متجهة إىل أفراد الناس وليس إىل عمومها‪،‬‬
‫وهذا حمل إمجاع‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪11‬‬
‫أيضا الفقيه ملا يدخل يف هذه القضااي عنده تفصيالت ال ميلكها غري املتخصص يف‬
‫ً‬
‫القضااي الشرعية‪ ،‬فكثري من القضااي الشرعية خيوض فيها أُانس غري متخصصني يف‬
‫الشريعة ويف الفقه‪ ،‬وليس لديهم أتسيس علمي شرعي‪ ،‬فيكتبون ويؤلفون ويبحثون‪ ،‬وطلبة‬
‫العلم بعيدون عن هذا اجملال الذي هو يف احلقيقة جماهلم‪.‬‬
‫أحياان اخللط بني الشريعة والتاريخ‪ ،‬بعض املعاصرين جيعل التاريخ دليالً على‬
‫ً‬ ‫جتد‬
‫األحكام الشرعية‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا احلكم جائز؛ ألن اخلليفة هارون الرشيد فعله‪ ،‬وألن شجرة‬
‫الدر تولت احلكم وفالن‪ ..‬يعين جيعل أحداث التاريخ دليالً شرعياً؛ بينما من بديهيات‬
‫طالب العلم الشرعي أنه مييز بني أحداث التاريخ وحكم الشريعة‪.‬‬
‫قدرا أو‬
‫جتد اخللط بني اإلرادة الشرعية واإلرادة القدرية‪ ،‬فيستدل أبشياء وقعت ً‬
‫شرعا‪ ،‬ومن أوضح األمثلة هنا‪ :‬االستدالل‬ ‫قدرا على أهنا جائزة ً‬ ‫أخربت الشريعة بوقوعها ً‬
‫ك﴾[هود‪]119-118:‬؛‬ ‫ني (‪ )118‬إِاال َم ْن َرِح َم َربُّ َ‬ ‫ِِ‬
‫﴿وال يَ َزالُو َن ُُمْتَلف َ‬
‫بقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫فيقرر أن هذا دليل على أن الشريعة قررت التعددية وقبلت ابحلرية الفكرية بدون ضوابط‪،‬‬
‫ني﴾[هود‪ ]118:‬ولو أراد هللا أن يلغي‬ ‫ِِ‬
‫﴿وال يَ َزالُو َن ُُمْتَلف َ‬
‫ما مل يقع ضرر؛ ألن هللا قال‪َ :‬‬
‫هذا االختالف ملا أوجده وخلقه‪.‬‬
‫جدا يف الكتاابت املعاصرة‪ ،‬لكن ال‬ ‫إذًا أراد هللا هذا اخلالف‪ ،‬وهذا كالم شائع ً‬
‫ميكن أن يقوله طالب علم‪ ،‬أو لعلي أصحح عباريت ألنه قد قال هبا بعض طلبة العلم‪،‬‬
‫كالما‬
‫بسبب ضعف بعض طلبة العلم ملا يدخلون أمثال هذه اجملاالت‪ ،‬يتأثرون ابألكثر ً‬
‫شيوعا‪ ،‬فلما يقرأ هذا الكالم وهو يف احلقيقة طالب علم شرعي لكن ليس‬ ‫ً‬ ‫واألكثر‬
‫مؤسساً أتسيساً قوايً‪ ،‬فإنه يبتلع أمثال هذه القضااي‪.‬‬
‫َّ‬
‫طبعا هنا خطأ واضح؛ ألنه ُث فرقاً بني إرادة شرعية وإرادة قدرية؛ فاهلل سبحانه‬ ‫ً‬
‫قدرا وجود القتل والظلم والزان واخلمر؛ فلن يقول عاقل‪ :‬أن هذه كلها‬
‫أيضا أراد ً‬
‫وتعاىل ً‬
‫شرعا‪ ،‬هذا أمر بدهي‪ ،‬ويستطيع طالب العلم أن يوظفه بسهولة؛ ألنه‬ ‫أصبحت مرادة ً‬
‫عنده مادة تراثية عميقة يستطيع أن يساهم يف هذه املباحث أكثر من غريه‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪12‬‬
‫األثر الرابع‪ :‬من إشكاالت ضعف البناء الفكري‪ :‬رد بعض احلق‪.‬‬
‫نظرا‬
‫فضعف التأسيس الفكري لبعض طلبة العلم يرتتب عليه أن يردوا بعض احلق؛ ً‬
‫لعدم إدراكهم لتفاصيل ما يف املوضوع الذي يُطرح‪ ،‬فقد أييت موضوع معني حيتمل مفاهيم‬
‫وتفصيال‪ ،‬وهذا من‬
‫ً‬ ‫فنظرا للقصور يف فهم هذه األمور‪ ،‬يردها طالب العلم مجلةً‬
‫عدة‪ً ،‬‬
‫الضعف والقصور الذي يؤثر على احلكم الشرعي‪.‬‬
‫مثال موضوع احلرية يقول بعض طلبة العلم‪ :‬ليس ُهناك حرية يف اإلسالم‪،‬‬
‫حني أييت ً‬
‫معىن‬
‫اإلنسان عبد هلل وليس ُهناك حرية يف اإلسالم‪ ،‬فهذا اخلطاب قد هو يقصد ً‬
‫صحيحاً‪ ،‬يعين عندما يقول‪ :‬ليس ُهناك حرية يف اإلسالم‪ ،‬يقصد‪ :‬ليس ُهناك حرية‬
‫منفلتة؛ وإمنا حرية منضبطة بقيود الشريعة‪.‬‬
‫لكن احلديث هبذه اللغة سيرتتب عليه يف أذهان املستمعني رد بعض احلق لسوء‬
‫فهمهم ملثل هذا‪.‬‬
‫ومن إشكاليات القضااي الفكرية املعاصرة أهنا حتتك ابلواقع‪ ،‬وتالمس حاجات‬
‫الناس‪ ،‬فغالبًا ال تكون من قبيل الباطل احملض‪ ،‬وإال ملا أثرت يف الشباب‪ ،‬يعين يصعب‬
‫أهنا تروج وهي ابطل حمض‪ ،‬وإمنا راجت لوجود أسباب موضوعية أثرت‪ ،‬لوجود دوافع‬
‫معينة‪ ،‬نعم هي ابطل؛ لكن فيها أجزاء من احلق‪ ،‬فيها أسباب صحيحة؛ فالذي يتعامل‬
‫معها كقطعة واحدة سي ؤدي إىل أنه يرد ما فيها من ابطل وحق‪ ،‬وأما الذي يعين لديه‬
‫أتسيس صحيح‪ ،‬فإنه يقبل احلق ويرد الباطل‪.‬‬
‫ضا من إشكاليات آاثر ضعف البناء الفكري‪ :‬ركود املهارات‬
‫األثر اخلامس‪ :‬أي ً‬
‫والقدرات الشخصية‪:‬‬
‫يستمر الشخص ال يستفيد‪ ،‬وتبقى مهاراته اثبتة ال تتطور وتتحسن‪.‬‬
‫األثر السادس‪ :‬اخلضوع لألمزجة والشعارات والصياغات اإلعالمية املؤثرة‪:‬‬
‫فطلبة العلم يف النهاية يعيشون يف اجملتمع‪ ،‬ويشاهدون القنوات‪ ،‬ويتابعون اإلعالم‪،‬‬
‫فضعف بناءهم الفكري جيعلهم خاضعني لألمزجة والشعارات والصياغات اإلعالمية‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪13‬‬
‫املؤثرة‪ ،‬وهذا ما يفسر لك أن بعض طلبة العلم قد يتبىن أحياانً أطروحات منحرفة‪،‬‬
‫فتستغرب كيف تبىن مثل هذه الفكرة وهي ختالف أصوله وتربيته ؟‬
‫فتجده أتثَّر بصياغة إعالمية‪ ،‬أتثر بشعار‪ ،‬لكن املؤسس أتسيس فكري ال تعبث به‬
‫هذه الشعارات مينةً ويسرة‪ ،‬فعنده وضوح يستعلي على هذه الشعارات‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬يف فضاءان اإلعالمي مئات الشعارات اليت تشيع يف فضائنا‬ ‫الشعارات كثرية ً‬
‫مثال يدعوك شخص إىل العقالنية‬‫اإلعالمي‪ ،‬وأتسر كثرياً من الشباب والفتيات‪ ،‬يعين ً‬
‫ضد التقليد واجلمود‪ ،‬حترير املرأة ضد استعبادها‪ ،‬ثقافة احلياة ضد ثقافة املوت‪ ،‬وخذ من‬
‫الشعارات اليت يقوهلا الشخص ليس يف مقام كالم عابر‪ ،‬بل يتبناها كمنهج‪ ،‬وهي حقيقةً‬
‫شعار ليست ذات مضمون حقيقي‪ ،‬هي مثل البالون الذي مع أدىن ملسة ينفجر فال يبقى‬
‫فيه شيء؛ واحلقيقة احلديث يف هذا اجملال ذو شجون‪.‬‬
‫سأضرب مثاالً لذلك‪:‬‬
‫أحياان ابلقيام ابإلنكار‪ ،‬أو االحتساب‪ ،‬أو النُصح يف‬
‫ً‬ ‫مثال‬
‫يقوم بعض األفاضل ً‬
‫مثال‪ ،‬أو االختالط‪ ،‬الفساد‬
‫بعض القضااي الشرعية‪ ،‬مثل اإلنكار يف قضااي احلجاب ً‬
‫دوما يف ساحات التواصل االجتماعي وغريها أن ُهناك‬ ‫األخالقي‪ ..‬وحنو ذلك‪ ،‬تعودان ً‬
‫نربة تقليل وانتقاص واستخفاف هبذا األمر‪ ،‬يرونه من االنشغال ابهلوامش عن قضااي األ َُّمة‬
‫ال ُكربى‪ ،‬وأن هناك أسئلة أكثر إحلاحاً وأكثر أمهية ‪ ..‬وحنن منشغلني ابلقضااي اهلامشية‪...‬‬
‫وإىل آخره‪.‬‬
‫أحياان حيملها على أن يف الشريعة تقدمي‬
‫يعين بعض طلبة العلم تركبه الصياغة هذه‪ ،‬و ً‬
‫األوىل على األقل أمهية‪ ،‬والواجب على املستحب‪ ،‬والضرورة على احلاجة‪ ،‬ورمبا ذكر هنا‪،‬‬
‫كالم الشاطيب يف املقاصد‪.‬‬
‫احلقيقة أهنا لعبة شعار‪ ،‬لسنا أمام مسألة فقهية‪ ،‬تربهن هلا بكالم للشاطيب‪ ،‬وتقدم‬
‫فيها كالم للقرايف‪ ،‬بل أنت أسري شعار عبث بعقلك‪ ،‬وإال فما الذي جعل هذا هامشاً‬
‫وهذا أصل؟ ملاذا ال تتحرك هذه الدافعية لتهميش بعض األمور إال يف القضااي الشرعية؟‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪14‬‬
‫مثال‪ ،‬لن يقول له‪ :‬قضااي هامشية‪ ،‬لو فتح صفحات‬ ‫بينما لو تكلم أحد عن كرة القدم ً‬
‫تنكيت وظرافة؛ لعُ َّد هذا من أساليب املتعة يف احلياة وكسب الشباب وأنه شيء إجيايب‪،‬‬
‫لن يتكلموا عن قضااي الفن والرقص والطرب‪ ..‬أبهنا من قضااي اهلوامش‪ ،‬إمنا القضااي‬
‫الشرعية املتعلقة مبلفات معينة هي اليت تسمى هوامش‪ ،‬وهذه تسمى أصول‪.‬‬
‫طبعا أان ال أُنكر إنه قد يُقال‪ :‬إنه ُث تقصري يف هذه األبواب‪ ،‬وأان أحثكم على أن‬
‫ً‬
‫جتتهدوا يف هذه األبواب‪ ،‬ال إشكال يف هذا‪ ،‬لكن حقيقة هذا الشعار أنه ال يدعوك إىل‬
‫احلث على القضااي األصولية أو املهمة‪ ،‬إمنا اهلدف منه دفن هذه القضااي‪ ،‬يعين لو سكت‬
‫ملا قال لك شيء‪ ،‬وال حثك على القضااي الكربى‪ ،‬وال فتح معك هذه امللفات‪ ،‬لكن جمرد‬
‫أن أييت شخص يفتح هذه امللفات‪ ،‬أييت احلديث معه يف قضااي أهم‪.‬‬
‫إذًا هاهنا شعار‪ ،‬جيب أن طالب العلم يتعاىل عن اخلضوع للشعارات لئال يستغفل‬
‫فيأيت ابلبحث الفقهي واألدلة والنقاشات‪ ،‬واحلقيقة كلها شعار وموجة ومزاج‪.‬‬
‫جدا‪ ،‬ومن‬
‫وأمثلة الصياغات اإلعالمية املؤثرة ال يسلم منها أحد‪ ،‬وهي كثرية يعين ً‬
‫حياان يكتب بعض الناس أن الشخص منا إذا ذهب‬ ‫مثال أ ً‬
‫األمثلة حىت تتضح أكثر‪ً ،‬‬
‫مثال‪ ،‬قد يدخل يف مكان فريى اختالطاً ويرى حمرمات‪ ،‬فال حيرك ساكنًا‪،‬‬‫خارج اململكة ً‬
‫فإذا رأى هذه األشياء يف بلده‪ ،‬أصابه الغضب والعنفوان‪ُ ،‬ث يتكلم أن دين اإلسالم واحد‬
‫وليس ُث فرق ابختالف املكان‪ُ ،‬ث يبدأ بذكر اللوازم والقضااي الكبرية اليت تُبىن على هذا‬
‫األمر‪ ،‬ويركب يف هذه املوجة من يركب‪ ،‬واحلقيقة إن هذا األمر لو نُظر نظراً موضوعياً‪،‬‬
‫فطبيعي أن الشخص ال يكون موقفه يف اإلنكار متجرداً ال ينظر إىل عوامل الزمان‬
‫واملكان‪.‬‬
‫طبيعي‪ ،‬أن يتغري موقف الشخص يف مكان فينكر بشدة ويف مكان ال ينكر‪ ،‬ويف‬
‫مكان يرتك‪ ،‬فاختالف احلال يؤثر يف طبيعة احلكم‪ ،‬واألمثلة قد تطول‪ ،‬اهلدف منها أن‬
‫ُهناك صياغات وأمزجة وشعارات جيب أن يستعلي الشخص عليها‪ ،‬ال يكون أسرياً هلا‬
‫تعبث به بذات اليمني وذات الشمال‪ ،‬يعين قبل مائة سنة تقريبًا‪ ،‬كانت قضية املعجزات‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪15‬‬
‫من أكثر القضااي املشكلة على الفكر اإلسالمي‪ ،‬يعين لدرجة أن خترج مؤلفات تسعى إىل‬
‫السنَّة‬
‫سحب موضوع املعجزات من الشريعة‪ ،‬حبيث تُفسر املعجزات الواردة يف القرآن و ُ‬
‫تفسريا طبيعيًا‪.‬‬
‫ً‬
‫يل﴾[الفيل‪]1:‬؛ يُفسر احلادثة أبهنا‬ ‫اب ال ِْف ِ‬
‫َص َح ِ‬
‫ك ِِب ْ‬
‫ف فَ َع َل َربُّ َ‬
‫يعين ﴿أَََلْ تَ َر َك ْي َ‬
‫ميكروابت وجراثيم‪ ،‬جتعل احلادثة كأهنا وفاة طبيعية‪ ،‬عصا موسى‪ ،‬واملعجزات اليت وردت‬
‫يف عهد النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬خروج املاء بني يديه عليه الصالة والسالم‪ ،‬كل‬
‫املعجزات تُفسر تفسرياً طبيعياً‪ ،‬وتكون املعجزة الوحيدة هي القرآن‪ ،‬حممد هيكل يؤلف‬
‫كتاب (حياة حممد) يسعى إىل إبعاد كل معجزات القرآن‪ ،‬مسألة كانت مقلقة‪ ،‬حىت قال‬
‫بعض أهل العلم يف ذلك الفرتة ‪-‬عفا هللا عنه‪ -‬عبارة شديدة‪ ،‬ال تليق حىت مبكانته‬
‫وعلمه‪ ،‬قال مبعىن كالمه‪ :‬لو خال القرآن من املعجزات؛ لكان أتثريه على الناس يف ذلك‬
‫الزمان أشد‪ ،‬عبارة يف غاية السوء حقيقةً عفا هللا عنه‪ ،‬ملاذا ألنه املزاج يف ذلك الوقت كان‬
‫اجا ال يتقبل املعجزات‪ ،‬يعين مزاج مادي‪ ،‬وحديث عهد مبكتشفات حديثة كثرية‪،‬‬ ‫مز ً‬
‫فأصبح أي شخص يفسر أمراً خارج املادة يعرب عن جهل وعدم فهم‪ ،‬فأصبح من له‬
‫حرص على نفع الناس وهدايتهم جيتهد يف ختفيف النفور من هذه األحكام من خالل‬
‫التأويل والتحريف وغريها‪.‬‬
‫حىت جاء الشيخ مصطفى صربي ‪-‬رمحه هللا‪ -‬فألَّف ً‬
‫كتااب مشهوراً (موقف العلم‬
‫والعامل والعقل من رب العاملني) يف أربعة جملدات‪ ،‬يلفت نظرك يف هذا الكتاب إن اجلزء‬
‫طبعا بنفس‬
‫األكثر يدور حول جزئية املعجزات بشكل أو آبخر‪ ،‬يذهب ُث يعود إليها‪ً ،‬‬
‫أتصيلي ودفاعي يبني خطورة هذا اإلشكال‪ ،‬ملاذا؟ ألنه كان يعيش زمان‪ ،‬يعيش هذا‬
‫القلق من هذا االشكال‪.‬‬
‫السؤال‪ :‬أين ذهبت هذه املسألة اآلن؟ ما حضور املعجزات يف اخلطاب املعاصر‬
‫اآلن؟ ليس له ذاك الصخب؛ بل حىت بعض عتاة العلمانيني رمبا مل يعد هذا السؤال مقل ًقا‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪16‬‬
‫هلم‪ ،‬ليس ابلضرورة أن يثبتوها‪ ،‬فهي موجة مضت وشعار انتهى‪ ،‬لكنه انتهى بعد ماذا؟‬
‫بعد ما أثر وحرف وغري يف توجهات وآراء‪.‬‬
‫أيضا حنن يف أايمنا نعيش يف موجات‪ ،‬هذه املوجات ستذهب‪ ،‬ويذهب معها أقوال‬
‫ً‬
‫وآراء وأشخاص خضعوا هلذا املزاج فذهبوا حني ذهب هذا املزاج والشعار‪ ،‬والواجب على‬
‫طلبة العلم أن يستعلوا على مثل هذه الصياغات‪ ،‬ويكونوا أعمق وأوعى من اخلضوع هلا‪.‬‬
‫األثر السابع واألخري من آاثر ضعف البناء الفكري‪ :‬السطحية‪،‬‬
‫نظرا ألن الشخص املفكر يعمل بقواعد عدة يف‬
‫اليت قد يقع فيها بعض طلبة العلم ً‬
‫فأحياان الشخص الذي يقرأ قراءة سطحية يكون عنده معطى واحد؛ لكن‬ ‫ً‬ ‫وقت واحد‪،‬‬
‫فاملؤسس فكرًاي يستحضر عدة قواعد يف‬
‫َّ‬ ‫املوضوع حيتاج إىل معطى واثنني وثالثة وأربعة‪،‬‬
‫نظرا لقصور‬
‫وقت واحد‪ ،‬فال يقع يف مسالك سطحية وبسيطة‪ ،‬يقع فيها بعض طلبة العلم ً‬
‫يف هذا األمر‪.‬‬
‫يعين مثالً‪:‬‬
‫ضرورة التمييز بني اخلطاب السياسي واخلطاب الشرعي أو اخلطاب الديين واخلطاب‬
‫شرعا جيب أن تقوله حبذافريه وبكل قناعاته‬
‫اإلعالمي‪ ،‬فليس ابلضرورة أن كل ما تعتقده ً‬
‫يف كل زمان وكل مكان؛ ال؛ طالب العلم الواعي يعرف إن لكل زمان ما يناسبه‪ ،‬فقد‬
‫أسكت يف مكان عن كالم‪ ،‬ال أفعل ذلك يف مكان آخر‪ ،‬قد أتوسع يف مكان ما‬
‫أختصره يف غريه‪ ،‬وهذا ليس من قبيل املراوغة أو عدم الوضوح‪ ،‬ال؛ بل هذا من الفقه‬
‫واحلكمة‪ ،‬فالشخص يراعي أفهام الناس وأذهاهنم‪ ،‬وقصور بعض طلبة العلم عن هذا األمر‬
‫يؤدي هبم إىل إشكاالت‪ ،‬فتجده ال مييز هو يف قناة فضائية‪ ،‬أو يف درس يف املسجد‪ ،‬أو‬
‫طبعا‬
‫يف جملس خاص مع زمالئه‪ ،‬فيتحدث بنفس النربة ونفس اللغة وبنفس الكالم‪ ،‬وهذا ً‬
‫غري صحيح‪ ،‬املضمون ال يتغري لكن احلديث عن اللغة‪ ،‬والطريقة‪ ،‬ألجل ذلك كما هو‬
‫قوما حديثًا ال تبلغه عقوهلم إال‬
‫املأثور عن الصحابة ‪-‬رضي هللا عنهم‪ :-‬إنك لن حتدث ً‬
‫لكان لبعضهم فتنة‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪17‬‬
‫أحياان يقول بعض الناس‬
‫فاحلديث الذي تنفر منه عقول بعض الناس حيدث له فتنة‪ً ،‬‬
‫مثال أان مبتعث يف‬
‫ما هو اجلواب؟ يعين هذا السؤال حمرج‪ ،‬كيف أجيب عن هذا السؤال؟ ً‬
‫مكان ويف مدرسة معينة‪ ،‬يسألوين هذا السؤال‪ ،‬أان حمرج كيف أجيبهم؟‬
‫بكل وضوح ليس ابلضرورة أن جتيب على كل األسئلة‪ ،‬فكونك غري قادر على إجياد‬
‫إجابة مقنعة ومؤثرة هلم ال يسوغ أن جتيب أبي شيء أو حترف األحكام‪ ،‬ألن بعض‬
‫الناس عنده تالزم‪ ،‬وهو أن أهم شيء أن يقدم هلم إجابة مقنعة‪ ،‬فقد أيتيه سؤال حمرج ال‬
‫يعرف اجلواب املقنع فيه فيحرف الشريعة ألجل أن يقدم إجابة مقنعة‪ ،‬ال‪ ،‬املقصود منك‬
‫ليس تقدمي إجابة مقنعة‪ ،‬املطلوب منك تقدمي احلكم الشرعي إبجابة مقنعة‪ ،‬يعين ال‬
‫يكون نظر طالب العلم أن أهم شيء أن أقنع الناس‪ ،‬ال؛ إمنا تقنع الناس أبحكام الشريعة‪،‬‬
‫فإذا وجدت صعوبة يف حكم‪ ،‬أو زمان‪ ،‬أو مكان‪ ..‬لست مكل ًفا أن تتحدث عنه‪ ،‬قد‬
‫يكون غريك أقدر‪.‬‬
‫سهال إن أييت‬
‫سهال‪ ،‬ليس ً‬ ‫مثال خطاب ليس ً‬ ‫وألجل ذلك اخلطاب اإلعالمي ً‬
‫طالب علم فيخرج على قناة فضائية‪ ،‬فيتكلم يف األحكام الشرعية السياسية يعين بكل‬
‫وضوح‪ ،‬وأييت بكل األحكام‪ ،‬هذه حتتاج إىل ذكاء وفهم ومعرفة‪ ،‬أو يضطر بعض الناس‬
‫طبعا ال شك أنه خطأ‪.‬‬
‫أن حيرف الشريعة حىت يقدم خطاابً مناسباً إعالميًا‪ ،‬وهذا ً‬
‫أطلنا يف احلديث حول آاثر ضعف البناء الفكري‪ ،‬ولعل هذا يعزز يف أنفسنا ضرورة‬
‫البناء الفكري لطالب العلم الشرعي‪ ،‬أييت بعد هذا التمهيد الطويل السؤال‪ :‬ما هو البناء‬
‫الفكري الذي تريد الوصول إليه‪ ،‬وتشعر أنه جيب أن يُعزز يف نفوس طلبة العلم أدواته‬
‫ومعارفه؟‬
‫نستطيع أن نقول‪ :‬أن البناء الفكري له ثالثة جوانب‪ ،‬يعين يقوم على ثالثة أركان‪،‬‬
‫أو إن أحببت هو يقوم على ركنني ونتيجة‪ ،‬فالركن الثالث قد يكون ركن أو نتيجة‪:‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪18‬‬
‫الركن األول‪ :‬األدوات‪.‬‬
‫واملقصود أن ميتلك طالب العلم أدوات شخصية متعلقة ابلقضااي الفكرية‪ ،‬أو أدوات‬
‫ذاتية شخصية يستطيع توظيفها يف أي مشهد وأي قراءة ألي حدث‪.‬‬
‫ما هي هذه األدوات؟‬
‫لدينا أدوات كثرية‪:‬‬
‫األداة األوىل‪ :‬منهجية االستدالل‪:‬‬
‫يعين جيب أن يكون طالب العلم لديه منهجية استدالل صحيحة وقوية وحمكمة‪،‬‬
‫وعندما نقول‪ :‬منهجية االستدالل‪ ،‬قد يتبادر إىل ذهن طالب العلم أنه أييت بدليل ويبني‬
‫وجه االستدالل وهذا صحيح‪ ،‬لكن هذه الدرجة يعين نقول‪ :‬أهنا الدرجة الضرورية من‬
‫االستدالل‪ ،‬لكننا نريد من طالب العلم ما هو أعلى من ذلك‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫صحيحا‪ ،‬فلو أتى بشخص واستدل بدليل‬‫ً‬ ‫دليال‬
‫أن االستدالل جيب أن يكون ً‬ ‫أوال‪َّ :‬‬
‫ً‬
‫دليال يف‬
‫مثال‪ ،‬استدل حبديث ضعيف‪ ،‬هذا ليس ً‬ ‫ليس بدليل‪ ،‬يعين استدل ابلتاريخ ً‬
‫األساس‪ ،‬قد يتجاوزها طالب علم فيستدل آبية من القرآن‪ ،‬أو يستدل حبديث صحيح‪،‬‬
‫صحيحا‪ ،‬يعين جيب أن تذكر املعىن الذي‬
‫ً‬ ‫هل يكفي؟ ال؛ جيب أن يكون االستدالل‬
‫تذكره من الدليل صحيح‪ ،‬وال يكفي هذا‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬جيب أن يكون الدليل الصحيح الذي استدللت به مواف ًقا للمسألة اليت تستدل‬
‫هبا‪ ،‬قد تكون اآلية القرآنية صحيحة‪ ،‬واستداللك صحيح لكن ليس له عالقة ابملسألة‪،‬‬
‫أو هو خاص واملسألة عامة‪ ،‬أو املسألة هلا جزئني وأنت أتيت جبزء واحد‪ ،‬فليس جمرد أن‬
‫أتيت بدليل صحيح ينتهي عندها األمر ‪ ،‬ال؛ جيب أن يكون الدليل موافقاً‪.‬‬
‫معارض له أقوى منه‪ ،‬مبعىن قد يكون دليلك صحيحاً‬‫ٌ‬ ‫اثلثاً‪ :‬جيب أن ال يوجد‬
‫أيضا مرحلة متقدمة جيب أن‬ ‫واملعىن صحيح‪ ،‬لكن هناك شيء أقوى منه‪ ،‬وهذا ً‬
‫يستحضرها طالب العلم يف استدالالته كلها‪ ،‬إن ال يكتفي أن يورد الدليل‪ ،‬ال؛ أورد‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪19‬‬
‫الدليل واالستدالل وأأتكد من وجه الداللة‪ ،‬ويف نفس الوقت أأتكد أنه ليس هناك دليل‬
‫أقوى منه‪.‬‬
‫وهذه املنهجية ال سائدة يف املدارس الفقهية‪ ،‬ويسلكها العلماء يف نزاعاهتم الفقهية‪،‬‬
‫ملاذا العلماء يتنازعون يف الفقه؟ ليس ألن ما عندهم أدلة‪ ،‬ال؛ بل ألن كل مذهب يرى أن‬
‫دليله أقوى من األدلة األخرى‪ ،‬هو ال ينفي أن دليلك صحيح‪ ،‬لكن يقول‪ :‬عندي من‬
‫األدلة ما هو أقوى من أدلتك‪ ،‬وهذا حيتم على طالب العلم أن يكون اطالعه مشوليًا على‬
‫مجيعا؛ وهلذا‬
‫أحكام الشريعة‪ ،‬ال يطلع فقط على جزئية معينة؛ إمنا يطلع على النصوص ً‬
‫من يطلع على جزئية معينة يف االستدالل يقع يف إشكاالت كبرية‪.‬‬
‫ِ‬
‫﴿وَم ْن يَ ْقتُ ْل ُم ْؤمنًا ُمتَ َع ِم ًدا فَ َج َزا ُؤهُ‬
‫مثال عندما يستدلون بقول هللا تعاىل‪َ :‬‬ ‫اخلوارج ً‬
‫ِ‬ ‫اَّللُ َعلَْي ِه َول ََعنَهُ َوأ َ‬ ‫ِ‬ ‫جهن ِ ِ‬
‫يما﴾[النساء‪]93:‬؛ هذه‬ ‫َع اد لَهُ َع َذ ًااب َعظ ً‬ ‫ب ا‬ ‫يها َوغَض َ‬
‫ام َخال ًدا ف َ‬
‫ََ ُ‬
‫اآلية عندهم تدل هل تدل على كفر القاتل‪ ،‬ظاهرها أن القاتل خملد يف النار‪ ،‬واملخلد يف‬
‫النار كافر‪ ،‬ما اخلطأ الذي وقع يف اخلوارج؟ الحظ! ليس اخلطأ فقهياً‪ ،‬خطأ مذهب من‬
‫أبطل املذاهب‪ ،‬والحظ! يستدلون بظواهر القرآن‪ ،‬فالشخص الذي ليس عنده منهجية‬
‫فعال أمامنا دليل صحيح مع اخلوارج‪ ،‬لكن عند من‬ ‫االستدالل‪ ،‬قد يرتبك‪ ،‬يقول‪ :‬وهللا ً‬
‫ميتلك منهجية االستدالل يقول بكل وضوح‪ :‬ال يُقرأ القرآن فتقطعه قطعة قطعة‪ ،‬ما تقرأ‬
‫احدا‪ ،‬ويقرأ‬
‫نظرا و ً‬
‫القرآن آية آية‪ ،‬تقول‪ :‬ما هي ظاهر هذه اآلية‪ ،‬ال؛ إمنا يُقرأ القرآن ً‬
‫القرآن بتفسري النيب ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬فعندما نقرأ القرآن مبجموع اآلايت‪ ، ،‬نقول‪:‬‬
‫ليس ظاهر اآلية هو هذا‪ ،‬وألجل ذلك أمجع الصحابة على بطالن هذا التفسري‪.‬‬
‫وكان سبب ضالل اخلوارج هو اخلطأ يف االستدالل ومنهجية االستدالل القائمة‬
‫على جعل القرآن عضني‪ ،‬وتقطيع اآلايت وفكها عن بعض‪ ،‬فالصحايب يقرأ القرآن‪،‬‬
‫وجيمع اآلايت األخرى‪ ،‬وجيمع فعل النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وقوله‪ ،‬فيفسر القرآن‬
‫احدا يبطل مثل هذه االستدالالت‪.‬‬
‫تفسريا و ً‬
‫ً‬ ‫كله‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪20‬‬
‫ويظهر إشكالية منهجية االستدالل عند احلداثيني املعاصرين‪ ،‬جتد عندهم نفس‬
‫الطريقة‪ ،‬يعين أيخذ آية‪ ،‬أيخذ حديثاً‪ ،‬فيقطعه عن سياقاته‪ ،‬فقد يستدل حبديثه ظاهره‬
‫أنه قد يدل على مقصوده‪ ،‬لكن نفس إشكالية استدالل اخلوارج‪ ،‬ال يكفي أن تستدل‬
‫حبديث أو آية تقطعها عن جمموع األدلة وعن سياقها الذي خرجت منه‪ ،‬وألجل ذلك ال‬
‫يتفق العلماء على حكم إال وهناك دالئل قاطعة على فساد هذه االستدالالت‪.‬‬
‫اِ‬ ‫اِ‬
‫ادوا‬ ‫ين َه ُ‬ ‫آمنُوا َوالذ َ‬ ‫ين َ‬ ‫مثال يستدل بعض املعاصرين بقول هللا تعاىل‪﴿ :‬إِ ان الذ َ‬ ‫يعين ً‬
‫َج ُرُه ْم ِع ْن َد َرّبِِ ْم‬ ‫َّلل والْي وِم ِ‬
‫اآلخ ِر و َع ِمل ِ‬ ‫ِ‬
‫صاحلًا فَ لَ ُه ْم أ ْ‬
‫َ َ َ‬ ‫آم َن ِاب ا َ َ ْ‬ ‫صابِئِ َ‬
‫ني َم ْن َ‬ ‫ارى َوال ا‬
‫اص َ‬‫َوالن َ‬
‫أن من‬ ‫ف َعلَْي ِه ْم َوال ُه ْم َْحي َزنُو َن﴾[البقرة‪]62:‬؛ يستدلون به على ماذا؟ على َّ‬ ‫َوال َخ ْو ٌ‬
‫آمن من اليهود والنصارى وغريهم فهو من أهل اجلنة‪.‬‬
‫معىن‬
‫طيب‪ ،‬لو مل يكن عندان إال هذه اآلية‪ ،‬أال حيتمل هذا املعىن أن يكون ً‬
‫صحيحا‪ ،‬يعين ملا نرجع لكتب التفسري جند إن هذه اآلية حتتمل معنيني‪:‬‬
‫ً‬
‫يهوداي أو نصرانيًا‪ُ ،‬ث أدرك النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫ً‬ ‫املعىن األول‪ :‬من كان‬
‫فآمن به‪.‬‬
‫املعىن الثاين‪ :‬من آمن بنبيه قبل بعثة النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.-‬‬
‫هذان املعنيان لتفسري هذه اآلية‪ ،‬طيب لو اعرتض عليك شاب‪ ،‬وقال لك‪ :‬ممكن‬
‫يهوداي أو نصرانيًا وأدرك النيب ‪-‬صلى هللا‬
‫ً‬ ‫اآلية تدل على املعىن الثالث‪ ،‬وهو‪ :‬من كان‬
‫عليه وسلم‪ -‬يعين اآلية هل تنفي هذا؟ الذي يقرأ القرآن آية واحدة وال يعرف أي شيء‬
‫فعال اآلية مشكلة‪ ،‬يرى أن عندهم أدلة قوية‪ ،‬ملاذا؟ من أين أتى هذا‬
‫آخر‪ ،‬يقول‪ :‬وهللا ً‬
‫اإلشكال؟‬
‫جاءه من منهجية االستدالل‪ ،‬يعين أنت يف احلقيقة ال تستدل‪ ،‬فالبنية االستداللية‬
‫الصحيحة ليس أن يذكر أي فهم من آية واحدة وخالص‪ ،‬بينما لو فتح الشخص‬
‫املصحف‪ ،‬وقرأ القرآن لوجد عشرات األدلة اليت تثبت أن هذا الكالم ابطل وفاسد‪ ،‬وأن‬
‫هذا االحتمال الظاهر الثالث لو دخل يف مفهوم هذه اآلية هلدم القرآن كله‪ ،‬ألجل ذلك‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪21‬‬
‫لن جتد فقيهاً يف الدنيا كلها من بعثة النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬إىل قبل عصران‪ ،‬ال جتد‬
‫منتسباً إىل الفقه يقول هذا القول‪ ،‬يعين جتد للفقهاء أقواالً شاذة يف الدايت ويف اجلناايت‪،‬‬
‫أبدا‪ ،‬ملاذا؟ ألنه يعرف إنه لو قال هذا‬
‫ويف غريها‪ ،‬لكن لن جتد أحداً قال هبذا القول ً‬
‫القول هلدم الشرع كله‪ ،‬بينما بعض املعاصرين يقولون هبذا الكالم‪ ،‬وقد يتسرب إىل بعض‬
‫طلبة العلم بسبب منهجية االستدالل اليت أصبحت تنظر يف الدليل‪ ،‬مبعزل عن املنهجية‬
‫الشرعية املكتملة اليت جيب أن يستدل هبا طالب العلم‪.‬‬
‫املثال الثالث‪ ،‬وهو يعين من ظرائف وطرائف بعض املعاصرين‪ ،‬وهو أنه ملا يستدلون‬
‫مبوضوع احلرية الفكرية‪ ،‬أن املرتد له حرية فكرية مبعىن إنه له حرية الردة‪ ،‬من حقه أن يرتد‪،‬‬
‫ويدعو إىل أي دين يريد‪ ،‬والنظام اإلسالمي يكفل له‪ ..‬اخل‪.‬‬
‫املشكلة هنا ليس أنه يقول‪ :‬القول اآلخر قول مجهور الفقهاء‪ ،‬وأان أرى قوالً آخر‬
‫وعندي بعض الفقهاء معي‪ ،‬وهو والرأي الراجح عندي‪ ،‬ال؛ يقدم بعض املعاصرين هذا‬
‫الكالم‪ ،‬ولألسف أن بعضهم من املنتسبني للفقه ومن الفقهاء‪ ،‬يقول‪ :‬أن هذا األمر من‬
‫األصول القطعية احملكمة يف الشريعة‪ ،‬ودل عليه عشرات اآلايت‪ ،‬يعين عندان تقريبًا كم؟‬
‫يعين عندان أربعون آية كلها تدل على هذا األمر‪ ،‬معناه أننا أمام حكم مثل توحيد الربوبية‬
‫أو توحيد األلوهية‪ ،‬حكم قطعي‪ ،‬الالفت أنه مل يوجد فقيه يف الدنيا قال هذا الكالم‪ ،‬يعين‬
‫أربعون آية يف القرآن خفيت على كل العلماء طيلة هذه القرون‪ ،‬حىت اكتشفها بعض‬
‫املعاصرين‪ ،‬يعين الشخص الذي حيرتم نفسه ويقدر االستدالل حقه ما يقول هذا الكالم‪،‬‬
‫ليس من منهجية االستدالل أن يقع الشخص يف مثل هذه املزالق‪.‬‬
‫مثال كان الفقهاء يقولون به لكن تغري‬
‫يعين إبمكانك أن تقول‪ :‬وهللا هذا القول ً‬
‫الزمان اآلن‪ ،‬والفتوى تتغري بتغري الزمان واملكان‪ ،‬يعين هذا مدخل ابطل‪ ،‬لكنه مدخل فيه‬
‫قدر من العقالنية واالنسجام‪َّ ،‬أما أن جتعل القرآن كله يدل على هذا القول‪ ،‬فهذه بنية‬
‫متاما‪.‬‬
‫استدالل مضروبة ً‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪22‬‬
‫ورابعاً من األمور املهمة يف منهجية االستدالل‪ :‬وهي ضرورة فهم منازع االستدالل‬
‫وال يكتفي طالب العلم بفهم القول فقط‪ ،‬ال يكفي؛ جيب فهم القول وملاذا قال هبذا‬
‫القول؟ هذا أهم‪ ،‬يعين أهم من فهمك للقول أن تعرف املستند واملربر هلذا القول؛ ألنه‬
‫هذا يتغري به النظر للحكم‪.‬‬
‫بعض اإلخوة يقسم الناس ابألقوال‪ ،‬فالن يقول هبذا القول‪ ،‬فيجمع كل القائلني هبذا‬
‫القول يف سلة واحدة‪ ،‬وهذا خطأ‪ ،‬جيب أن نعرف ملاذا قالوا هبذا القول؟ فهذا يؤثر يف‬
‫تفسريك للحكم‪ ،‬يعين قد يكون هناك قول معني جيتمع فيه زاندقة يف أقصى الطرف مع‬
‫بعض طلبة العلم‪ ،‬فكوين أمجعهم كلهم على أهنم قالوا بقول واحد هذا من اخلطأ والغش‬
‫وسوء الفهم أن أفعل هذا‪.‬‬
‫ومن االستدالل الصحيح أن أميز منازع االستدالل‪ ،‬صحيح هم قالوا بقول واحد‬
‫لكن منازعهم خمتلفة‪.‬‬
‫مثال ملا أنيت ملسألة شائكة وحصل فيها نزاع كبري‪ ،‬مسألة االختالط بني الرجل‬
‫يعين ً‬
‫صحيحا أنين أساوي القائلني هبذا القول‪ ،‬فقد يقول بعض الناس ابالختالط‪،‬‬
‫ً‬ ‫واملرأة‪ ،‬ليس‬
‫تقول له‪ :‬ما الدليل؟ ما املستند؟ يقول‪ :‬وهللا املستند إنه األصل يف العالقة‪ ،‬إن عالقة‬
‫طبيعية‪ ،‬وين بغي عدم الشك بني الرجل واملرأة‪ ،‬واحلرية اللي هلم حرية االختيار‪ ..‬اخل‪ ،‬هذا‬
‫أسا‪.‬‬
‫متاما ورؤية ال تعرتف ابلشرع‪ ،‬وال ترفع ابلنص ر ً‬
‫يُعترب منزعه منزع ماذا؟ منزع منحرف ً‬
‫قد أييت شخص آخر يقول‪ :‬ال؛ بل هو الضرورة املعاصرة‪ ،‬واملرأة ال جتد عمالً‪،‬‬
‫فيجب أن يُتاح هلا عمل للضرورة‪ ..‬اخل‪ ،‬هذا منزع خمتلف‪.‬‬
‫قد أييت شخص يقول‪ :‬االختالط هو املوجود يف عهد النيب ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫أيضا هذا منزع‬
‫وسلم‪ -‬وعهد الصحابة‪ ،‬والقول حبرمة االختالط هذا قول بدعي‪ ...‬اخل‪ً ،‬‬
‫اثلث‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪23‬‬
‫وهكذا ستجد أنه قول واحد جيمع عدة اجتاهات؛ فال يكتفي الشخص ابلقول؛ بل‬
‫جيب أ ن يستفصل ويستفسر ما املستند؟ ما املربر الذي هو يف احلقيقة يكشف منهج‬
‫االستدالل الذي يعتمده كل شخص‪.‬‬
‫ضا لدينا من األدوات‪ :‬مهارة التفكري‪.‬‬
‫األداة الثانية‪ :‬أي ً‬
‫أن يكون عند طالب العلم مهارات تفكري جيدة يستطيع أن حيلل‪ ،‬ينظر‪ ، ،‬وُميكن‬
‫االستفادة من علم الرتبية احلديث‪ ،‬ف ُهناك مادة ثرية يف طرائق التفكري ومهارات التفكري‬
‫فيما يتعلق أبنواع التفكري‪ ،‬وهلا أمثلة وهلا ضوابط‪ ،‬يعين يطلع الشاب أو طالب العلم‬
‫عليها‪ ،‬وحياول أن يستفيد منها جيداً‪ ،‬مع أمهية االستفادة منها وليس التطبيق احلريف هلا‪،‬‬
‫يعين أقرأ يف التفكري اإلبداعي‪ ،‬أعرف ما مفهومه؟ ما حماوره؟ ‪ ..‬وغري ذلك‪ ،‬لكن ال‬
‫نقداي‪ ،‬فيتحول وكأنه رجل آيل؛ فهذه حقيقةً‬ ‫تفكريا ً‬
‫ً‬ ‫أفعلها بطريقة يعين اآلن أان سأفكر‬
‫ليست مهارة‪ ،‬إمنا أن يتشرهبا الشخص ُث يستفيد منها يف مواقف جديدة‪ ،‬مع بقية‬
‫األدوات واملهارات‪ ،‬حىت يصل إىل منوذج متميز وممتاز يف مهاراته الفكرية‪.‬‬
‫األداة الثالثة‪ :‬القدرات الكتابية‪ ،‬واألدوات البحثية من احلجاج واإلقناع‪،‬‬
‫التفسري والتحليل‪ ،‬وغريها‪:‬‬
‫يعين عادة البحث الشرعي أنه يركز على األحكام‪ ،‬هذا حالل‪ ،‬هذا حرام‪ ،‬هذا‬
‫كفر أصغر‪ ،‬هذا كفر أكرب‪ ،‬فقد يغفل طالب العلم عن جانب التفسري والتحليل مبا‬
‫يضعف قدراته‪ ،‬فمهم إنه يبقى هذا األمر حياً‪.‬‬
‫ومن املهم أن حيرص طالب العامل على أسئلة من قبيل ملاذا حصل هذا‪ ،‬وكيف‬
‫ن دفعه؟ وما نتيجته؟ وما الذي حفز إليه؛ فيدخل جانب التفسري والتحليل يف البحث‪،‬‬
‫أيضا جانب التصنيف والتبويب والتقسيم‪ ،‬كما أننا ندرس كتب الفقهاء‪ ،‬وجند أهنم‬ ‫ً‬
‫أبدعوا تصانيف وتبويبات وتقسيمات ما كانت موجودة قبل‪ ،‬يعين كل طبقة من أهل‬
‫موجودا عند من سبقه‪.‬‬
‫ً‬ ‫العلم يبدع جانباً يف التأليف مل يكن‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪24‬‬
‫هذا هو األمر األول‪ ،‬وهو الركن األول من أركان البناء الفكري‪ ،‬وهو ما يتعلق‬
‫ابألدوات‪.‬‬
‫الركن الثاين‪ :‬املعارف‪.‬‬
‫يعين طالب علم حيتاج إىل معارف‪ ،‬علوم معاصرة يضيفها إىل خمزونه الشرعي‪ ،‬حىت‬
‫قواي‪ ،‬حيتاج إىل أن يعرف ًتريخ األفكار وأصوهلا‪ ،‬يعين أي فكرة من‬ ‫يكون بناؤه الفكري ً‬
‫األفكار املعاصرة‪ :‬الليربالية‪ ،‬العلمانية‪ ،‬احلداثة‪ ،‬العقالنية‪ ،‬التنوير‪ ..،‬أي فكرة‪ ،‬املهم يعرف‬
‫ًتريخ هذه الفكرة‪ ،‬نشأت مىت؟ من أول من قال هبا‪ ،‬ما الدوافع اليت حركت حدوثها؟ من‬
‫أبرز اجتاهاهتا؟ ‪ ..‬إىل غري ذلك‪.‬‬
‫مهم أن يعرف مداخل العلوم اإلنسانية‪ ،‬املعارف املتعلقة بعلم النفس‪ ،‬علم‬
‫االجتماع‪ ،‬االقتصاد‪ ،‬السياسية‪ ،‬يكون عنده اطالع عام‪ ،‬ما موضوعات هذا العلم‪ ،‬ما‬
‫أبرز الكتب اللي فيه‪ ،‬ما أبرز املوضوعات اليت يبحثها‪ ..‬إىل غري ذلك‪.‬‬
‫أيضا حيتاج إنه يكون عنده اطالع عام حوهلا‪ ،‬وأقول يف‬
‫أصول النظرايت احلديثة ً‬
‫هذه اجلزئية مثل ما قلنا ساب ًقا‪ ،‬املقصود ليس أن أيخذ النظرية ويطبقها مباشرة‪ ،‬وهذه من‬
‫األخطاء اليت يقع فيها بعض الناس‪ ،‬إنه إذا درس نظرية يف كتاب‪ ،‬يبحث فقط عن واقع‬
‫أحياان يف أخطاء؛ ألن النظرايت يف الغالب نظرايت مركبة‪ ،‬يعين حتتاج‬
‫حىت يطبقها‪ ،‬فيقع ً‬
‫تعمل أكثر من نظرية يف وقت واحد‪ ،‬فالذي أييت أبي نظرية ويطبقها‪ ،‬يعين هو عنده‬
‫قاعدة جاهزة يبحث عن أي مثال حىت يطبقها‪ ،‬يعين كما قيل يف املثال الظريف‪ :‬إذا‬
‫كنت مطرقة فسرتى كل شيء مسمار‪ ،‬يعين ليس عنده متحيص ألنه عنده قاعدة فيبحث‬
‫عن أي مثال ليطبقه عليها‪ ،‬فيقع يف مزالق‪ ،‬اخلطأ أنه جيب يكون عنده جمموعة قواعد‬
‫تعمل يف وقت واحد‪ ،‬وليست قاعدة واحدة‪.‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫يعين عندان من القواعد الشرعية قاعدة بناء الشريعة للمصاحل‪ ،‬وهذه قاعدة‬
‫صحيحة‪ ،‬وتضافر كثري من العلماء على إقرارها‪ ،‬يعين العز عبد السالم يقوهلا‪ ،‬وجتدها يف‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪25‬‬
‫كتاابت غريه‪ ،‬أنه الشريعة قائمة على املصاحل‪ ،‬اخلطـأ يف ماذا؟ اخلطأ أن يكون الشخص‬
‫ليس عنده إال هذه القاعدة‪ ،‬فيأيت إىل أبواب الشريعة فيعبث فيها ويقطعها وميزقها؛ ألنه‬
‫ليس عنده إال قاعدة واحدة؛ بينما الشخص الذي ميتلك أدوات وقواعد وأصول‪ ،‬هذه‬
‫قاعدة تعمل مع أخواهتا من القواعد‪ ،‬ومع قيودها‪ ،‬فيكون عنده أدوات كثرية تعمل يف‬
‫وقت واحد‪ ،‬بينما الذي ليس عنده إال هذه القاعدة من السهولة أن حيرف أي حكم‪.‬‬
‫مثال أييت شخص‪ ،‬فيأيت حبديث النيب ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪« :-‬ال يتحدث‬
‫أيضا ً‬
‫ً‬
‫الناس أن حمم ًدا يقتل أصحابه» وهذا معىن شرعي صحيح وقاعدة شرعية صحيحة‪،‬‬
‫لكن نفس املشكلة أنه ليس عنده إال هذه القاعدة‪ ،‬فإذا مرت عليه أي حادثة‪ ،‬فمباشرة‬
‫ينزل احلادثة على أي واقعة بينما الصحيح أنه يستفيد من هذه القواعد‪ ،‬لكن جيب أن‬
‫تعمل يف وقت واحد‪ ،‬كيف أن تعمل يف وقت واحد؟ هذه يعين من املهارات واليت‬
‫تصلنا‪..‬‬
‫الركن الثالث‪ :‬وهي امللكة‪.‬‬
‫امللكة ممكن أن نقول‪ :‬هي ركن اثلث مع األدوات واملعارف‪ ،‬وممكن نقول‪ :‬هي‬
‫نتيجة‪ ،‬يعين نتيجة وجود أدوات جيدة عندك‪ ،‬ومعارف متنوعة‪ ،‬نتيجتها أن تتحقق‬
‫ملكة‪ ،‬هي ملكة حاضرة معه يف كل القضااي ويف كل األقوال‪ ،‬امللكة تقوم على وجود‬
‫وعي عند الشخص بطرائق االستدالل‪ ،‬يعرف كيف الناس يستدلون‪ ،‬وعي أبحوال‬
‫املخالفني ودرجاهتم‪ ،‬وعي بواقع الناس‪ ،‬وعي حني ينظر يف أي مسألة ما املطلوب منه!‬
‫وعي ابللوازم واملآالت‪.‬‬
‫ملا يبحث أي مسألة سيبحثها حبثاً جيداً‪ ،‬ملاذا؟ ألنه عنده ملكة جيدة‪ ،‬يعين رمبا‬
‫جتد بعض طلبة العلم يبحثون مسألة معينة‪ ،‬مجيعهم يبحثون يف نفس الكتب‪ ،‬وبنفس‬
‫الوقت‪ ،‬وبنفس عدد الصفحات‪ ،‬لكن جتد الفرق بينهم مثل ما بني السماء واألرض‪،‬‬
‫السبب‪ :‬امللكة‪ ،‬أن أحدهم عنده ملكة ملا يبحث يعرف ما املطلوب منه؟ ما هي لوازم‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪26‬‬
‫القول؟ ما هي حدوده؟ ما هي حاجاته؟ ‪ ..‬إىل غري ذلك‪ ،‬كيف حصلت له امللكة؟ هي‬
‫نتيجة تفاعالت كثرية من املهارات واملعارف وغريها‪.‬‬
‫ضا من امللكة‪ :‬االتزان‪ :‬يكون عند الشخص ملكة اتزان شخصي‪ ،‬اتزان مبعىن‬
‫أي ً‬
‫اعتدال ال متيل نفسه ذات اليمني وذات الشمال‪ ،‬ال حيتد ويغلو ويتطرف ويزيد ويقسو‪،‬‬
‫وال يرتخص ويتساهل ويتهاون؛ إمنا يف طبيعة تفكريه واستدالالته ونقاشه فيها جانب اتزان‬
‫واعتدال‪.‬‬
‫مجيعا‪ ،‬أن األثر النفسي يؤثر على الناس‬
‫وهنا إشكالية األثر النفسي على الناس ً‬‫ُ‬
‫مجيعا‪ ،‬وطلبة العلم هم من الناس‪ ،‬فبعض الناس قد تؤثر حالته النفسية على حبثه وعلى‬
‫ً‬
‫آرائه‪ ،‬فيجب أن يدرك الشخص خطورة احلالة النفسية على املفكر وعلى الشخص‪ ،‬يعين‬
‫مجلة كبرية من اإلشكاالت املعاصرة منزعها يف احلقيقة منزع نفسي وليس منزع حبث عقلي‬
‫وموضوعي‪.‬‬
‫يعين ملا أييت شاب م ًثال يكون على جادة معينة‪ ،‬وحمرتم للشريعة‪ ،‬ومعظم للنصوص‪،‬‬
‫أسا إىل عقب‪ ،‬ويبدأ‬
‫ُث فجأة يف ظرف أسبوع أو أسبوعني أو شهر أو شهرين‪ ،‬ينقلب ر ً‬
‫السنَّة‪ ،‬وإنكار خرب اآلحاد‪ ،‬وأتويل القرآن‪ ،‬و‪ ..‬و‪ ..‬اخل‪.‬‬
‫يتكلم عن رد ُ‬
‫تفسريا موضوعيًا‪ ،‬لسنا أمام حبث‪ ،‬إمنا اإلشكالية إشكالية‬
‫ً‬ ‫هذا ال ميكن أن نفسره‬
‫جدا‪ ،‬ومن املهم أن نعرتف‬‫نفسية شعر بذلك أم مل يشعر‪ ،‬فإشكالية االتزان هذه مؤثرة ً‬
‫مجيعا هبذا األثر‪ ،‬وإنه ليس ُسبة نالحق الناس هبا‪ ،‬ال‪ ،‬جيب على املتحدث قبل املستمع‬
‫ً‬
‫مجيعا‪ ،‬وأنين وأنت وغريان قد نتبىن قوالً‪ ،‬أو ننصر‬
‫أن يعرف أن احلالة النفسية تؤثر علينا ً‬
‫موقفاً‪ ،‬أو نقف مع حالة معينة لضغط نفسي معني‪ ،‬أو ألهنا توافق أهواءان‪ ،‬وهنا واجب‬
‫إن الشخص يتجرد ويراجع نفسه‪ ،‬ويراجع نيته‪ ،‬حىت يصل إىل املنهج الصحيح واملوقف‬
‫الصحيح‪ ،‬وهذا يعين أنه ال ميكن لعاقل أن يربئ نفسه‪ ،‬يعين ما ميكن لعاقل يف أي موقف‬
‫أن يقول‪ :‬أان هذا املوقف وقفته كله هلل‪ ،‬وموقفي ليس فيه أي شائبة‪ ،‬ال ميكن‪ ،‬ألن‬
‫اهلوى ال يسلم منه أحد‪ ،‬وإمنا املوفق من جياهد نفسه يف عدم الوقوع يف غائلته‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪27‬‬
‫ضا من امللكة أمهية الفحص ويعين التمييز‪ :‬إن الشخص يكون عنده فحص‬ ‫أي ً‬
‫ومتييز للقضااي وليس كالماً يف اجملمالت‪.‬‬
‫ضا من امللكة االستعداد النفسي لالستفادة‪ :‬وهو جيب أن يكون طالب العلم‬
‫أي ً‬
‫من ملكته أن يكون متهيئاً لالستفادة من أي أحد‪ ،‬ويف أي ظرف‪ ،‬ويف أي زمان‪ ،‬يعين‬
‫اذا مسع أحداً يتكلم يف موضوع ينصت ماذا قال؟ وما وجه كالمه؟ هل كالمه صحيح؟ ما‬
‫دليله ؟ يكون عنده روح مستعدة ومتقبلة ألي كالم أهنا تبحث عما فيه من حق‪ ،‬وهذا‬
‫أساسا استعداد نفسي لعدم‬
‫جدا لطالب العلم‪ ،‬بينما بعض الناس عنده ً‬‫مفيدا ً‬
‫سيكون ً‬
‫االستفادة‪ ،‬فهو يدخل يف املوضوع وعنده النتائج جاهزة واألحكام جاهزة‪ ،‬يعين هو مثل‬
‫إجراء االختبار مع أن نتائج الرسوب والنجاح معدة سل ًفا‪ ،‬بينما املفرتض أن الشخص‬
‫يكون عنده استعداد نفسي أنين أستفيد من أي أحد‪ ،‬وهذا هو يعين من امللكة املهمة‬
‫اليت تعني الشخص على الوصول للحق‪ ،‬واالستفادة من أفكار وآراء الناس‪.‬‬
‫ضا مراعاة اختالف الزمان واملكان واألحوال والظروف‪ ،‬وآاثره‪ :‬فيكون‬ ‫أي ً‬
‫مستحضراً له يف كل جانب‪ ،‬املوازنة بني املصاحل‪ ،‬فامللكة جتعل الشخص يوازن بني‬
‫املصاحل‪ ،‬فإن الشخص يعرف الصاحل من الفاسد هذه واضحة‪ ،‬لكن التحدي أن يوازن‬
‫بني املصاحل نفسها‪.‬‬
‫بعض الناس ال حيسن هذا األمر‪ ،‬عنده إما روح مثالية كاملة أو ال شيء‪ ،‬إما أسود‬
‫أو أبيض‪ ،‬وهذه ملكة تورث الشخص اتزاانً وموقفاً صحيحاً‪.‬‬
‫أحياان بعض الناس حتدثه عن واقع معني فيه مصاحل معينة‪ ،‬ال حيسن يتحدث‬ ‫يعين ً‬
‫يف هذا املوضوع‪ ،‬إمنا ينتقل لك يف واقع آخر مثايل‪ ،‬تقوله له‪ :‬ما املوقف يف هذا الواقع؟‬
‫يقول‪ :‬املوقف أن نفعل هذا‪ ،‬تقول‪ :‬هذا يف احلالة املثالية‪ ،‬لكن هذه احلالة ليست موجودة‬
‫هنا‪ ،‬ما املوقف يف هذا احلال أن نفعل هذا أم نفعل هذا؟ يقول‪ :‬ال؛ أن نفعل هذا‪ ،‬يعين‬
‫هنا تكون الفكرة ليست متزنة‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪28‬‬
‫مثال ذلك‪:‬‬
‫دوما ما يشيع التشنيع على موقف الفقهاء ‪-‬رمحهم هللا‪ -‬يف موضوع القول‬ ‫يعين ً‬
‫بصحة حكم املتغلب‪ ،‬يعين القول السائد فقهيًا بعد القرن األول هو القول ابعتبار حكم‬
‫املتغلب وعدم اخلروج عليه؛ حلفظ مصاحل الناس ودماؤهم وأمواهلم وصيانتهم عن اهلرج‬
‫واملرج والفنت‪.‬‬
‫أييت بعض الناس يقول‪ :‬ال؛ هناك حل آخر أفضل‪ ،‬ما هو؟ العودة إىل سنة اخللفاء‬
‫الراشدين‪ ،‬ما معىن العودة إىل سنة اخللفاء الراشدين؟ يقول‪ :‬مبعىن أننا نريد حكم الشورى‬
‫بال سيف‪ ،‬بال تغلب‪ ،‬طيب حنن اآلن ال نتكلم عن حالة مثالية‪ ،‬نتكلم عن واقع‪ ،‬كيف‬
‫نعود إىل سنة اخللفاء الراشدين ابلواقع؟ إما ابلقتال‪ ،‬وإما تلغي القتال‪ ،‬اخرت واحدة منها‪،‬‬
‫فعال إن هذا القول هو‬
‫ال ترحل إىل مسار بعيد‪ ،‬إذا فكر الواحد هبذا التفكري‪ ،‬سيجد ً‬
‫القول املنطقي والعقلي والصحيح‪ ،‬لكن إشكالية غياب املوازنة‪ ،‬يدع الشخص يهرب من‬
‫الواقع ويفكر يف جمال آخر بعيد عن الواقع الذي أنت أمامه‪.‬‬
‫فأنت يف واقع معني ال متلك إال أمرين‪ :‬إما تدفع املنكر هذا مبنكر آخر‪ ،‬أو تقره‪،‬‬
‫أو ترتكه‪ ،‬يقول واحد‪ :‬ال؛ أطبق الشريعة كاملة‪ ،‬الصورة ال حتتمل إال هذا أو هذا‪ ،‬إذا كان‬
‫حتتملت الصورة الثالثة فهذا شيء مجيل‪ ،‬لكن هو يقر إن الصورة ال حتتمل‪ ،‬ومع ذلك‬
‫يصر على الصورة اليت ال يرى أهنا ممكنة التطبيق‪ ،‬وهذا ال شك إنه خلل يف امللكة اليت‬
‫جيب أن تراعي موضوع املوازنة بني املصاحل واملفاسد‪.‬‬
‫ضا من امللكة العقل واإلدراك‪ :‬أن اإلنسان يكون عنده عقل وإدراك وتبصر‬
‫أي ً‬
‫لألمور‪.‬‬
‫مستوايت العناية الفكرية لطالب العلم‪:‬‬
‫حمور مهم؛ ألنه جيي ب عن إشكالية ماذا يقرأ طالب العلم من الكتب الفكرية‪،‬‬
‫وهذا ٌ‬
‫هل يعين اإلغراق فيها‪ ،‬وإىل أي حد‪ ،‬وحىت نفصل احلديث يف هذا املوضوع؛ يعين نقسم‬
‫حتديدا‪ ،‬يعين ال‬
‫ً‬ ‫االهتمام والعناية الفكرية إىل ثالثة مستوايت‪ ،‬فيما يتعلق بطلبة العلم‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪29‬‬
‫نتكلم عن عامة الناس‪ ،‬وال نتكلم عن النخب املثقفة من غري طلبة العلم‪ ،‬حنن نتحدث‬
‫عن طلبة العلم الشرعي من حيث اهتمامهم ابلعناية واهتمامهم وعنايتهم ابجلوانب‬
‫الفكرية‪.‬‬
‫نستطيع أن نقسم طلبة العلم إىل ثالثة أقسام يف هذا املوضوع‪:‬‬
‫‪-1‬عموم طلبة العلم الشرعي‪.‬‬
‫‪ -2‬املتخصصني يف أبواب معينة من العلوم الشرعية تتحتم مزيد عناية فكرية‪.‬‬
‫‪ -3‬واملتخصصني يف بعض الواجبات الشرعية‪.‬‬
‫‪-1‬أ اما عموم طلبة العلم الشرعي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ما يتعلق ابألدوات‪ ،‬وهذه جيب أن يهتم هبا مجيع طلبة العلم الشرعي‪،‬‬
‫فهناك ً‬
‫ُ‬
‫وجيب أال تكون حمل جدال أو نقاش‪ ،‬املوضوعات اليت أحتدث عنها يف جانب األدوات‬
‫فيما يتعلق ابملهارات والكتابة والبحث واالستدالل‪ ،‬هذه مهارة جيب أن تكون عند عموم‬
‫طلبة العلم الشرعي‪ ،‬وهذا جانب مهم من القضااي الفكرية‪.‬‬
‫أيضا هذه جيب أن يعتين هبا طالب العلم‪.‬‬
‫أيضا ما يتعلق ابمللكة والبنية‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫أيضا جيب أال يغفل عنه أي‬
‫ما يتعلق ابملعارف ‪-‬وهي حمل اإلشكال‪ -‬فهناك حد ً‬
‫طالب علم‪ ،‬وهو ما يتعلق جبانبني‪:‬‬
‫اجلانب األول‪ :‬القضااي الشرعية‪ ،‬ف ُهناك قضااي فكرية هي يف احلقيقة علوم شرعية‪،‬‬
‫وهي تصنف أو حتسب عند الناس قضااي فكرية‪ ،‬ملا يتحدث شخص عن العقل والنقل‪،‬‬
‫هذا املبحث مبحث فكري معروف‪ ،‬لكنه يف حقيقته مبحث شرعي‪ ،‬ملا يتحدث شخص‬
‫أيضا شرعي‪ ،‬وهو يف احلقيقة قضية‬
‫مثال يف األصول‪ ،‬هذا مبحث ً‬ ‫عن االجتهاد والتقليد ً‬
‫هلا احتكاك فكري كبري‪ ،‬إذًا هذا املستوى جيب أال يغفل عنه طالب العلم الشرعي‪ ،‬وهي‬
‫يف احلقيقة ليست قضااي فكرية حمضة‪ ،‬إمنا هي قضااي شرعية‪ ،‬وهذا يؤكد الكالم الذي‬
‫تكلمنا عنه ساب ًقا‪ ،‬ما يتعلق جبعل الفكر يف مقابل الشرع‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪30‬‬
‫أساسا‪ ،‬هي من صميم البحث‬ ‫هذه القضااي الفكرية هي يف احلقيقة قضااي شرعية ً‬
‫الفقهي والبحث العقدي والبحث األصويل‪ ،‬فهذه جيب أن يُعتىن هبا مجيع طلبة العلم‪.‬‬
‫اجلانب اآلخر‪ :‬ما يتعلق ابلدراسات الشرعية املعاصرة اليت تعاجل قضااي شرعية‪،‬‬
‫وهذه تشكل مساحة واسعة من الكتاابت الفكرية‪ ،‬يعين ملا يؤلف شخص يف حقوق املرأة‬
‫مثال يف حتكيم الشريعة وعوائق تطبيقها‪ ،‬هذه‬
‫مثال املواطنة‪ ،‬أو ً‬
‫مثال‪ ،‬أو يف ً‬
‫السياسية ً‬
‫موضوعات تعترب من جانب الفكر السياسي‪ ،‬لكنها يف احلقيقة هي مباحث شرعية‪،‬‬
‫فاملباحث الفكرية اليت تعاجل واقعاً معيناً‪ ،‬جيب أال يغفل عنه طالب العلم الشرعي‪ ،‬جيب‬
‫مطلعا عليها؛ ألهنا يف احلقيقة من املباحث الشرعية‪.‬‬
‫أن يكون ً‬
‫إذًا هذان اجلانبان من املعارف الذي جيب أال يغفل عنها أي طالب شرعي‪ ،‬ما‬
‫يتع لق ابملباحث الشرعي اليت تصنف‪ ،‬أو قد تعترب فكرية‪ ،‬وما يتعلق ابلدراسات الشرعية‬
‫احملتكة ابلواقع وحتدايته وحاجاته؛ ألهنا من جنس البحث الشرعي‪.‬‬
‫‪-2‬ننتقل إىل مستوى اثين‪ ،‬وهم‪ :‬املتخصصون يف أبواب معينة من العلوم‬
‫الشرعية‪ ،‬فعندان متخصصون يف ابب العقيدة‪ ،‬أو متخصص يف ابب يعين األصول‪،‬‬
‫فهؤالء جيب عليهم أن يعتنوا يف القضااي الفكرية مبا يتصل بتخصصهم أكثر من الصنف‬
‫األول‪ ،‬فالشخص املتخصص يف العقيدة‪ ،‬مثل الباحثني أو املؤلفني أو أساتذة اجلامعات‪،‬‬
‫ومقصرا يف‬
‫ً‬ ‫‪ ،‬أو أوقف نفسه على االهتمام بباب العقيدة‪ ،‬ال يقبل منه أن يكون مفرطًا‬
‫مقبوال أن يكون اهتمامه‬
‫فهم املذاهب الفكرية املعاصرة؛ ألهنا مرتبطة بتخصصه‪ ،‬فليس ً‬
‫وحمكما‪ ،‬وعنده قدرة على فهم‬
‫ً‬ ‫اسعا‬
‫قواي وو ً‬
‫ومعرفته واطالعه على املدارس الرتاثية القدمية ً‬
‫تفاصيل مذهب املعتزلة‪ ،‬والرد عليهم‪ ،‬واإللزام على حججهم بطريقة قوية ومقنعة ومربهنة‪،‬‬
‫لكنه عندما يتحول خطوة إىل الدراسات املعاصرة يكون ضعي ًفا أو سطحيًا‪ ،‬هذا ال يقبل‬
‫منه؛ بل جيب أن يعتين هبذه املباحث كما اعتىن ابملباحث السابقة‪.‬‬
‫يعين ما الذي أدخل حجج املعتزلة واألشاعرة يف البحث العقدي‪ ،‬وأخرج املذاهب‬
‫الفكرية املعاصرة؟ ملاذا تلك تعترب من صميم العلم الشرعي‪ ،‬وهذه خارجة بعيدة عنه؟ هل‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪31‬‬
‫طبعا ال‪ ،‬فجميعها تتضمن موضوعات مرتبطة ابإلميان‬
‫هناك فرق موضوعي صحيح؟ ً‬
‫واالعتقاد‪ ،‬وفيها إشكال على أصول شرعية‪ ،‬وتفرض ضرورة اإلجابة عنها‪ ،‬والدفاع عن‬
‫األحكام‪.‬‬
‫مثال ال أحب هذه‬‫نعم‪ ،‬أان أتفهم أن أييت شخص أو عدد معني ‪ ،‬فيقول‪ :‬أان ً‬
‫املباحث وسأبقى متخصصاً يف جانب معني‪ ،‬ال إشكال‪ ،‬يعين ممكن أن يتخصص يف‬
‫أي جانب وال يطلع على أي شيء أخر‪ ،‬لكن ليس مقبوًال أن يكون هذا هو األمر‬
‫الشائع واملنتشر عند طلبة العلم الشرعي‪ ،‬بل أن جيب أن يكون مثة موازنة بني االطالع‬
‫على املدارس القدمية‪ ،‬واالطالع على املدارس املعاصرة‪.‬‬
‫وقل مثل ذلك فيمن يتخصص يف جانب شرعي آخر‪ ،‬إذًا املستوى ُهنا سيُطلب‬
‫منهم يف االطالع الفكري ما ال يُطلب من املستوى األول؛ فاملستوى األول لن يُطلب‬
‫مثال يف موضوع الليربالية‪ ،‬أو يعرف ًترخيها ورموزها‪.‬‬
‫منه‪ ،‬أن يقرأ ً‬
‫املستوى الثالث‪ :‬املتخصصني يف بعض الواجبات الشرعية‪:‬‬
‫مثال بعضهم‬
‫وهم فئة أخرى من طلبة العلم ختصصوا يف القيام بواجب شرعي‪ً ،‬‬
‫يتخصص يف مواجهة اإلحلاد‪ ،‬فأوقف نفسه‪ ،‬وبذل جهده يف عالج إشكاالت اإلحلاد‬
‫وشبهاهتم‪ ،‬واجللوس مع الشباب وإقناعهم‪ ،‬وإلقاء حماضرات ودروس ودورات يف هذا‬
‫األمر‪ ،‬فحدود اطالع هذا الشاب‪ ،‬أو طالب العلم الذي توىل هذا الواجب‪ ،‬لن يكون‬
‫مثل املستوى األول‪ ،‬وال حىت املستوى الثاين‪ ،‬سيتابع احلوارات‪ ،‬ويقرأ تفاصيل شبهات‬
‫املالحدة‪ ،‬وجيالسهم ويناقشهم‪ ،‬فحدود اطالعه أوسع وأبعد وأعمق من الصنف األول‬
‫نظرا ألنه يقوم بواجب شرعي‪ ،‬ال ميكن أن يقوم هبذا الواجب الشرعي‬ ‫والصنف الثاين؛ ً‬
‫حق قيام؛ إال بقراءة أوسع وأعمق من القراءة اليت يقرأها املستوى األول واملستوى الثاين‪.‬‬
‫املستوى األول والثاين ليسوا حباجة أن يقرؤوا مبثل قراءة املستوى الثالث؛ ألن ليس‬
‫من مهمتهم مناقشة املالحدة‪ ،‬يعين مهمتهم حتقيق املستوى الذي يريدوا الوصول إليه من‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪32‬‬
‫طبعا أتخذ من‬
‫بيان احلكم الشرعي‪ ،‬وهذا حيصل بقراءة أقل من القراءة املوسعة‪ ،‬اليت ً‬
‫أساسا مل يفرغ نفسه هلذا الواجب‪.‬‬
‫وقت اإلنسان وجهده وعمره‪ ،‬وهو ً‬
‫إذًا جند ُهناك درجات يف العناية الفكرية‪:‬‬
‫املستوى األول‪ :‬درجة عموم طلبة العلم‪ :‬جيب العناية ابألدوات وابملكنة الفكرية‪،‬‬
‫مع عناية ابلدراسات الفكرية املعاصرة اليت تتحدث عن القرائن الشرعية‪ ،‬وعناية ابملباحث‬
‫الشرعية املرتبطة ابلقضااي الفكرية‪.‬‬
‫املستوى الثاين‪ :‬أعلى منهم وهم املتخصصون يف األبواب الشرعية‪ :‬يكون هلم‬
‫عناية مبا ختصصوا فيه‪.‬‬
‫املستوى الثالث‪ :‬املتخصصون يف الواجبات الشرعية‪ :‬فيكون هلم عناية واهتمام‬
‫أكرب من املستوى األول والثاين‪.‬‬
‫درء التعارض بني التخصص الشرعي والعناية الفكرية‪:‬‬
‫من ُهنا نصل إىل النقطة اليت تليه‪ ،‬وهي ما ُميكن أن نسميه‪ :‬درء التعارض بني‬
‫التخصص الشرعي والعناية الفكرية‪ ،‬يعين يف احلقيقة ليس عندان تعارض بني التخصص‬
‫الشرعي والعناية واالهتمام الفكري‪ ،‬فليس مثة تعارض يف املستوى الذي نريده هنا؛‬
‫قسيما للعلم الشرعي‪ ،‬بل بعض القضااي الفكرية هي علوم شرعية‪،‬‬
‫فاالهتمام الفكري ليس ً‬
‫أو أدوات فهم وتفعيل للعلوم الشرعية‪.‬‬
‫وجيب أن يكون عندان متييز بني درجات االهتمام الفكري‪ ،‬فلما أقول للشاب أو‬
‫طالب العلم‪ :‬اهتم ابلقضااي الفكرية ال أعين أن يكون عنده إغراق يف هذا اجلانب‪ ،‬أو أن‬
‫يعيش حالة املزاج والشعارات اليت تكلمنا عنها ساب ًقا‪ ،‬فيغرق فيها وينسى أنه طالب علم‪،‬‬
‫يبدأ الشاب يقرأ يف الكتب اليت هي بعيد عن ختصصه؛ فهو ألجل أن يؤسس نفسه‬
‫أساسا طالب علم‬
‫مؤسس فكرًاي‪ ،‬يرتك طلبه للعلم‪ ،‬فال يكون ً‬
‫فكرًاي‪ ،‬فيكون طالب علم َّ‬
‫شرعي‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪33‬‬
‫فاملقصود هنا أن يكون اهتماماً معتدالً‪ ،‬فانتقاء واعتدال يف القراءة الفكرية ال تؤدي‬
‫إىل أن ينسى الشاب وطالب العلم أنه طالب علم‪ ،‬وخاصة أيها اإلخوة‪ ،‬وأان أوجه‬
‫حديثي إىل طلبة العلم الشرعي‪ ،‬خاصةً أن الشخص يف بداية طلبه للعلم الشرعي‪ ،‬إذا‬
‫ُوفق وبدأ يف برانمج حفظ وقراءة واطالع‪ ،‬من احلرمان أن يوقف هذه الربامج أو يؤجلها‬
‫أو يضعفها‪ ،‬يف سبيل أن يبحث عن قراءة كتب معينة‪ ،‬يشعر أن املزاج العام يبحث عنها‪.‬‬
‫أان أعتقد أن هذا تقصري كبري‪ ،‬خاصةً إننا ال نتحدث عن شخص متخصص‬
‫سيؤلف رسالة ماجستري أو دكتوراه‪ ،‬نتحدث عن طالب علم يقول‪ :‬أان سأؤسس نفسي‪،‬‬
‫فمن املهم أن يكون األصل والغالب والعموم هو حبثه الشرعي‪ ،‬وتكون القضااي الفكرية‬
‫اليت يعتين هبا متعلقة ابألدوات ومتعلقة مبستوى القراءة الذي حتدثنا عنه‪.‬‬
‫أيتيين أحياانً بعض الشباب يف املستوى الرابع أو السادس من كلية الشريعة‪ ،‬وحيدثين‬
‫عن برانجمه العلمي‪ ،‬وأنه حيفظ جمموعة منظومات‪ ،‬وبدأ يف حفظ يعين كذا موسوعة‪،‬‬
‫ويطلع وجيرد كتباً شرعية‪ ،‬حقيقةً تغبط الشاب الذي يف هذا العُمر أن يُوفق إىل هذا‬
‫الربانمج العميق واملكثف يف الدراسة الشرعية‪ ،‬وترجو ملثل هذا الشاب لو استمر يف هذا‬
‫الربانمج عدة سنوات أن خيرج طالب علم نوعي لو استمر يف مثل هذا الربانمج‪ ،‬فيؤملك‬
‫ملا يسأل بطريقة من يريد العزوف وترك هذا اجملال‪ ،‬حبثًا عن ٍ‬
‫جمال آخر‪ ،‬أان أعتقد أن هذا‬
‫من احلرمان واخلذالن أبن يرتك ما فتح هللا عليه يف العلم الشرعي‪ ،‬ويبدأ يغرق يف ماعداه‪،‬‬
‫القضية قضية موازنة ومراعاة املستوايت اليت حتدثنا عنها‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪34‬‬
‫نوعا ما‪ :‬كيف يبين طالب‬
‫بقي معنا يف هذه احملاضرة هذا احملور‪ ،‬وهو حمور طويل ً‬
‫فكراي‪ ،‬وحمور مزالق فكرية‪.‬‬
‫العلم نفسه ً‬
‫فكراي؟‬
‫كيف يبين طالب العلم نفسه ً‬
‫بعد احلديث عن أركان البناء الفكري وأمهيته‪ ،‬نبدأ يف بعض اإلشارات واآلليات‬
‫املهمة يف قضية البناء الفكري‪:‬‬
‫أوال‪ :‬تنويع القراءة‪ :‬أن ينوع قراءته لتشمل القراءة يف الدراسات املعاصرة اجليدة‪،‬‬
‫ً‬
‫يعين يكون عنده اطالع على األحباث‪ ،‬الرسائل املتعلقة ابلقضااي الشرعية املعاصرة اليت هلا‬
‫احتكاك بواقع الناس االقتصادي والسياسي واالجتماعي‪ ،‬فيتدرب الذهن ويستفيد من‬
‫هذه الدراسات‪.‬‬
‫من ذلك القراءة يف املوضوع ات الشرعية املرتبطة ابإلشكاالت املعاصرة‪ ،‬فإذا أثريت‬
‫قضااي معاصرة‪ ،‬من املهم أن يعود اإلنسان نفسه أن يرجع فيؤصلها شرعيًا‪ ،‬فإذا أثريت‬
‫قضية‪ ،‬يبدأ يرجع إىل هذه القضية فيقرأها قراءة شرعية مؤصلة‪ ،‬وال يقرأها قراءة الشائع‬
‫دوما ما تشيع يف املشهد اإلعالمي قضااي كثرية متعلقة ابألحكام السياسية‪،‬‬
‫إعالميًا‪ ،‬يعين ً‬
‫أو االقتصادية أو االجتماعية‪ ،‬لكن أكثر الناس يعرف عنها ما قيل يف اإلعالم‪ ،‬وما قيل‬
‫يف الكتاابت العامة‪ ،‬ال ألوم الناس إذا فهموا هذا‪ ،‬أو اطلعوا هبذا املستوى‪ ،‬لكن يُعاب‬
‫على طالب العلم أن يكون حده من االطالع على هذه القضااي ما مسعه يف برانمج‬
‫فضائي‪ ،‬أو اطلع عليها يف التغريدات يف تويرت‪ ،‬أو شاهدها يف اليوتيوب‪.‬‬
‫حمفزا له أن يقرأ‬
‫املفرتض إذا كانت هذه املسألة جديدة عليه‪ ،‬أن يكون ما شاهده ً‬
‫مستقال‪ ،‬حىت يكون مطلعاً على املسألة اطالعاً صحيحاً‪،‬‬‫ً‬ ‫ويرجع للمسألة فيبحثها حبثًا‬
‫وليس أن أيخذها من فضاء إعالمي‪.‬‬
‫مثال القراءة يف العلمانية‪،‬‬
‫أيضا القراءة يف ًتريخ األفكار واالجتاهات وأصوهلا‪ ،‬يعين ً‬
‫ً‬
‫الليربالية‪ ،‬احلداثة‪ ،‬العقالنية‪ ..‬وحنو هذه االجتاهات‪ ،‬وكذا القراءة يف العلوم اإلنسانية‬
‫ابلصورة اليت تكلمنا عنها فيما يتعلق ابملستوايت الثالث‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪35‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬التأين والرتيث‪ :‬يعين من الضروري لطالب العلم أن يريب نفسه‪ ،‬وأن‬
‫رجال ذو أانة يعين ال يصدر األحكام إال بعد تريث وأتين وتبصر‪،‬‬ ‫رجال ذا أانة‪ً ،‬‬ ‫يكون ً‬
‫التأين ليس مبعىن الالمباالة‪ ،‬وإمنا مبعىن أن يؤخر األحكام وجيعلها تطبخ يف ذهنه فرتةً من‬
‫عجال وسريع األحكام؛ حبيث أنه أتتيه بعض املسائل يسمعها‬
‫الزمن‪ ،‬ال يكون الشخص ً‬
‫ألول مرة‪ ،‬فيبدأ حيكم ويفصل ويقسم بناءً على معلومات مسعها للمرة األوىل‪ ،‬جيب أن‬
‫رجال مكيثًا متأنيًا ال يتعجل يف األحكام حىت ولو جزم هبا‪ ،‬يعين حىت‬
‫يكون طالب علم ً‬
‫ولو كان جازماً هبا ينتظر فرتة من الزمن حىت يعمق االستفادة من هذه األحكام وتكون‬
‫فعال أحكام مبنية على بصرية‪.‬‬‫أحكامه ً‬
‫النيب ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ملا أثىن على أشج عبد القيس‪ ،‬قال‪« :‬إن فيك‬
‫خصلتني حيبهما هللا ورسوله‪ :‬احللم واألانة» فاألانة صفة شخصية يف اإلنسان‪ ،‬ضرورية‬
‫يف بنائه الفكري والعلمي‪.‬‬
‫ملاذا يتأىن؟ لعدة أمور‪:‬‬
‫‪-1‬ألجل مزيد اطالع‪ :‬قد يكون اطلع على املسألة‪ ،‬لكن حيتاج إىل مزيد‪ ،‬مزيد‬
‫استعراض وفحص للحجج‪ ،‬يعين قد يكون مسع احلجة للمرة األوىل‪ ،‬فيحاول أن يفحصها‬
‫فعال‬
‫مرة أخرى واثنية‪ ،‬وحياول يورد إشكاالت حىت يصل إىل املستوى الذي يشعر أنه ً‬
‫فحصا كافيًا‪.‬‬
‫فحص األدلة ً‬
‫‪-2‬أيضاً ليعرف آراء املتخصصني يف هذه اجلزئية‪ :‬فيسأل متخصصني يف هذه‬
‫القضية‪ ،‬ويستفيد من آرائهم‪.‬‬
‫‪-3‬وكذلك ألجل فحص فرضيات جديدة‪ ،‬حياول يطرح املسألة أبوضاع خمتلفة‪،‬‬
‫فيطرح لو كانت املسألة هبذا الشكل‪ ،‬لو غاب هذا الشيء‪ ،‬لو دخل هذا األمر‪ ،‬حياول‬
‫يعرض فرضيات على املسألة ُث يبحث كل فرضية حىت يصل للحكم النهائي الصحيح‪.‬‬
‫‪-4‬وليكون لديه قدرة على تفكيك املوضوعات‪ :‬ألن من طبيعة املوضوعات‬
‫الفكرية أن تكون مشتبكة‪ ،‬فيحاول يفككها ويقسمها إىل عدة أقسام‪ ،‬وكل قسم حتته‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪36‬‬
‫ثالث حاالت‪ ،‬هذه الطريقة من التقسيم تفك االشتباه الذي يدخل فيه احلق مع الباطل‪،‬‬
‫والصواب مع اخلطأ‪ ،‬واالجتهاد مع القطع‪ ..‬وحنو ذلك‪.‬‬
‫جدا مهمة‪ ،‬يعين من الضروري ألي‬ ‫‪-5‬ألمهية الوقت يف التفكري‪ :‬وهذه قضية ً‬
‫إنسان أن يعرف أمهية الوقت يف تفكري اإلنسان‪ ،‬مبعىن أن بعض احلق‪ ،‬وبعض الوضوح‬
‫وبعض املسائل حتتاج حىت تصل فيها إىل رؤية واضحة فيها إىل وقت‪ ،‬ما يكفي أن تقرأ‬
‫لتحكم اآلن‪ ،‬ال؛ اقرأ اآلن وضعها يف ذهنك‪ ،‬يعين يف النهاية أنت لست مفتيًا لألمة‪،‬‬
‫تنتظر األمة آراءك فيجب أن حتسمها اليوم‪ ،‬يعين ما يف شيء حيتم االستعجال‪ ،‬فلن متوت‬
‫االمة إذا هذا اإلنسان ما أظهر آراءه‪ ،‬فيجب أن يكون اإلنسان مقتنعاً أنه حيتاج إىل‬
‫وقت حىت تتخمر لديه األفكار‪ ،‬وتنضج وتتضح الرؤية‪.‬‬
‫وخاصة مع السن‪ ،‬يعين الشاب يف مقتبل عمره حيتاج إىل سن أكرب حىت يعين‬
‫أحياان بعض القضااي فيها مدارس واجتاهات ونقاشات‬
‫ً‬ ‫تنضج معه هذه األفكار‪ ،‬جتد‬
‫وانشقاقات‪ ،‬فيأيت الشاب يقرأ عنها يف أسبوع أو أسبوعني‪ُ ،‬ث ما شاء هللا حيسم حكمه‬
‫يف هذه القضااي يف ورقات‪ ،‬وهذا حقيقة من قصور العقل واإلدراك عند اإلنسان أن يصل‬
‫هلذا األمر‪.‬‬
‫القضااي الكبرية‪ ،‬واملعقدة‪ ،‬واليت فيها إشكاالت كثرية حتتاج إىل وقت حىت اإلنسان‬
‫يبدأ يف أن يصل إىل رؤية انضجة‪ ،‬وهذه مهمة أيها اإلخوة حىت عند الشباب الذين‬
‫يطرحون إشكاالت معينة‪ ،‬ويثريون شبهات‪ ،‬مهم أن يقنعون بشكل أو آبخر‪ ،‬أن‬
‫املطلوب منك إذا مل تقتنع ابجلواب عن الشبهة أن حتتفظ هبا فرتة من الوقت‪ ،‬فأنت اآلن‬
‫عندك شبهات‪ ،‬الشبهات هذه بدأت معك حديثًا‪ ،‬أنت سافرت‪ ،‬قبل أن تسافر مل يف‬
‫قلبك وال عقلك أي إشكال‪ ،‬جلست هنا شهراً أو شهرين‪ ،‬بدأت معك هذه‬
‫اإلشكاالت‪ ،‬فليس منطقيًا أن أسئلة حديثة العهد والورود يف ذهنك‪ ،‬أن تبدأ بسببها‬
‫أمورا كبرية‪ ،‬إذا مل تقتنع ابإلجاابت‪ ،‬فعلى أقل شيء دعها يف ذهنك‬
‫فتفصل وتبين ً‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪37‬‬
‫كأسئلة كإشكاالت كفرضيات حبث‪ ،‬ولست مضطراً إلظهار القناعات وإشاعتها‬
‫واملنافحة عنها‪.‬‬
‫لو تركها يف ذهنه‪ ،‬ستجده مييل الحقاً لالعتدال واالتزان‪ ،‬ويصحح وضعه بشكل‬
‫جيد‪ ،‬لكن اإلشكالية أنه يظ هر هذه احلجج ُث ينافح عنها‪ُ ،‬ث يصعب عليه بعد ذلك أن‬
‫جزا من شخصيته وفكرته وتكوينه‪ ،‬فيصعب عليه أن يتخلى‬
‫يرتاجع عنها؛ ألهنا أصبحت ً‬
‫عنها‪.‬‬
‫اثلثاً‪ :‬العناية ابلفروق‬
‫يعين حيرص طالب العلم أن يعتين ابلفروق بني املسائل‪ ،‬الفروق بني األدلة‪ ،‬الفروق‬
‫بني األفكار‪ ،‬ليس التشابه بينها‪ ،‬املميز للفهم هو الفرق وليس اجلمع‪ ،‬فكل األفكار‬
‫واملذاهب فيها تشابه‪ ،‬لكن الدقة تربز وتظهر وتتجلى ملا تظهر يل الفروق بينها‪ ،‬فيحرص‬
‫طالب العلم على اقتنا ص الفروق‪ ،‬وإظهارها وإبرازها‪ ،‬الفرق بني الدليل هذا والدليل هذا‪،‬‬
‫والفرق بني القول هذا والقول هذا‪ ،‬الفرق بني أصحاب االجتاه الواحد‪ ..‬وهكذا‪ ،‬يعين‬
‫حىت تكون نظرته أعمق وأدق‪.‬‬
‫فكراي التدرب والتطبيق‪:‬‬
‫ابعا‪ :‬مما يساعد على تربية طالب علم نفسه ً‬
‫رً‬
‫فمن املهم أن يدرب نفسه وخيترب قدراته وميتحن أدواته ويطورها ابلكتابة والبحث‬
‫واملشاركة العلمية‪ ،‬واملدارسة مع األقران‪ ،‬هذه األدوات ال يصلح أن تكون حبيسة النفس‪،‬‬
‫بل تظهر وتربز مع التدريب‪ ،‬فالتدريب يظهر مستواها‪ُ ،‬ث تتطور مع األايم‪ ،‬قد يقع يف‬
‫خطأ ويصححها ُث يكتسب معلومة‪ ..‬وهكذا‪ ،‬فال بد من تدريب حىت تظهر هذه‬
‫املهارات وتقوى‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬فحص االستدالل ومصادره‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد سبق احلديث عن شيء منه‪ ،‬أبمهية‪:‬‬
‫أ‪-‬التمييز بني الدليل واالستدالل‪.‬‬
‫ب‪-‬وفحص صحة االستدالل وداللته على حمل النزاع وتكلمنا عنه‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪38‬‬
‫ج‪-‬جتاوز العموميات يف املصادر املعتمدة‪ ،‬يعين احلديث العام يف املصادر هو دليل‬
‫على ضعف يف البناء الفكري‪ ،‬ملا يقول شخص‪ :‬أثبتت مراكز األحباث‪ ،‬وال تدري أي‬
‫مركز‪ ،‬ويف أي مكان‪ ،‬وأثبتت ماذا‪ ،‬وقال ماذا؟ وهكذا أتيت هذه املصادر يف سياقات‬
‫يتناقلها طلبة العلم‪ ،‬وهذا حقيقةً قصور ظاهر‪.‬‬
‫ومثله احلديث عن يف الغرب أهنم يفعلون هكذا‪ ،‬فالغرب يعين وكأننا نتحدث عن‬
‫جمموعة‪ ،‬أنت تتحدث عن جمتمعات خمتلفة‪ ،‬وفيها مئات املاليني‪ ،‬وبكلمات عامة‪..‬‬
‫وهكذا جيب أن يتجاوز طالب العلم احلديث عن املصادر العامة السائبة السائلة هذه‪،‬‬
‫وأن يكون هناك تدقيق وتركيز يف املصادر املعتمدة‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬الفهم اجليد للواقع وتوظيفه يف تعميق األثر الشرعي‪:‬‬
‫ً‬
‫فيطلع طالب العلم على حاجات الناس‪ ،‬ويتابع حواراهتم‪ ،‬ويلم خبرائط اجتاهاهتم‪،‬‬
‫يعين ليس ابلضرورة أن يعرف كل شخص وماذا يقول‪ ،‬إمنا من املهم أن يعرف االجتاهات‬
‫فمثال ما االجتاهات الرئيسية يف حتكيم الشريعة؟ فيبدأ يقسم الناس‬
‫الرئيسية يف كل فكرة‪ً ،‬‬
‫إىل خرائط‪ ،‬اخلرائط ليس مقصود هبا أن أحكم على آحاد الناس‪ ،‬إمنا اهلدف أن أفهم‬
‫االجتاهات واألفكار‪ ،‬فإذا جاءت هذه القضية‪ :‬كيف حنكم ابلشريعة؟ ‪ ..‬فيقول لك‪ :‬قبل‬
‫أن تتكلم استحضر ما اجتاهات الناس يف هذه القضية؛ يعين قسم يل مواقف الناس إىل‬
‫مخ س أقسام‪ ،‬هذا سيساعد اإلنسان مساعدة كبرية يف كيفية فهم القضية‪ ،‬وكيف يربهن‬
‫عليها‪ ،‬وكيف جيمعها؟‬
‫أما الشخص الذي يدخل مباشرة وال يعرف اخلرائط واالجتاهات يكون عنده قصور‬
‫يف فهم القضية واحلكم عليها‪ ،‬ونعين هنا االستفادة املعتدلة‪ ،‬يعين من املهم أن الشخص‬
‫معتدال‪.‬‬
‫اطالعا ً‬
‫أيضا أن يكون اطالعه على الواقع ً‬ ‫يطلع على الواقع‪ ،‬ومن املهم ً‬
‫يعين ال يكون الشخص مغرقاً يف مالحقة جدليات وحوارات إىل ما ال هناية‪ ،‬إمنا‬
‫مثال األفكار الرئيسية‪ ،‬األحداث‬‫يكون الشخص عنده اطالع معتدل ال خيفى عليه ً‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪39‬‬
‫املركزية‪ ،‬لكن بدون زايدة تؤدي إىل إشغال ذهنه‪ ،‬وإشغال وقته‪ ،‬وإشغال تفكريه عن‬
‫أتسيسه الفكري وتـأسيسه الشرعي املبين على القراءة والبحث والنظر الصحيح‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬العناية مبهارات التفكري وتطبيقها يف التعلم الشرعي ذاته‪:‬‬
‫ً‬
‫مهم لطالب العلم وهو يتعلم‪ ،‬أن يتعلم مبهارات‪ ،‬فلما يقرأ يقرأ برتكيز وتدقيق‬
‫ومقارنة وحتليل وتصنيف‪ ،‬حىت يستفيد استفادة مثلى من العلم الشرعي الذي يتخصص‬
‫فيه‪.‬‬
‫ضا العناية ابلدراسات املركزية يف الكتابة الشرعية‪:‬‬
‫اثمنًا‪ :‬أي ً‬
‫ُهناك كتاابت شرعية تعترب دراسات مركزية إن صحت التسمية‪ ،‬تسيطر على عقل أو‬
‫فمثال كتاابت شيخ‬‫عقول طلبة العلم‪ ،‬من املهم أن اإلنسان يعتين هبذه الدراسات‪ً ،‬‬
‫اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬تعترب كتاابت مركزية توجه كثرياً من اجتهادات طلبة العلم‪ ،‬واختياراهتم‬
‫جدا لطالب العلم أن يطلع على هذه الكتاابت‪.‬‬ ‫ومواقفهم‪ ،‬فمن املهم ً‬
‫ونقول‪ :‬العناية بكتب شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬ملاذا؟ ليس ملعرفة العلم الذي يبثه‬
‫شيخ اإلسالم فقط؛ وإمنا االستفادة من العبقرية اليت ميتلكها هذا اإلمام‪ ،‬وكيفية توريد‬
‫احلجج‪ ،‬وكيفية الربهنة؛ يعين العقل الكبري الذي يعين كتب به مؤلفاته رمحه هللا‪ ،‬فلما‬
‫طالب العلم يطلع عليها‪ ،‬ويدمي النظر فيها‪ ،‬تلقائيًا سيتأثر هبذه األدوات ويوظفها يف‬
‫كتاابته ويزيد عليها‪.‬‬
‫مثال الغزايل رمحه هللا‪ ،‬والشاطيب‪ ،‬وغريهم من األئمة‪ ،‬الذين تعترب‬
‫أيضا كتاابت ً‬ ‫ً‬
‫كتاابهتم كتاابت مركزية وفيها مستوى من اإلتقان والذكاء والفهم ال خيفى‪.‬‬
‫ضا العناية ابلدراسات املركزية يف الفكر اإلسالمي املعاصر‪:‬‬
‫اتسعا‪ :‬أي ً‬
‫ً‬
‫أيضا طبقة من ال ُكتاب والدعاة واملفكرين أجابوا عن أسئلة حتدايت الثقافة‬
‫ُهناك ً‬
‫الغربية‪ ،‬وإشكاالهتا على اإلسالم‪ ،‬وقدموا اإلسالم بصورة تدفع الشبهات‪ ،‬وتعزز القيم‪،‬‬
‫أيضا االطالع على هذه الكتاابت‪ ،‬وهذا ال يعين تصحيح كل ما فيها‪ ،‬وإمنا‬ ‫من املهم ً‬
‫االستفادة من األدوات واملهارات والطرائق اليت كتبت هبا هذه الدراسات‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪40‬‬
‫أيضا االنفتاح على اآلراء األخرى‪ ،‬يف املذاهب الفقهية‪ ،‬واألقوال األصولية‪،‬‬
‫ً‬
‫واالستفادة منها‪.‬‬
‫إشكالية االستفادة واالحنراف‪:‬‬
‫وهنا يطرح موضوع االنفتاح سؤاالً مركزايً ومهماً‪ ،‬وهو ما يصح أن نسميه إشكالية‬
‫ُ‬
‫الفائدة واالحنراف‪ ،‬وهو أن بعض الشباب ملا يقرأ بعض الكتب‪ ،‬أو يطلع على بعض‬
‫املذاهب‪ ،‬أهنا قد تكون سببًا الحنرافه وإضالله‪ ،‬ويف نفس الوقت هي فيها فائدة سيستفيد‬
‫منها يف جانب أو آبخر‪ ،‬فنحن بني إشكاليتني‪ :‬إشكالية الفائدة اليت قد يستفيد منها‬
‫طلبة العلم من هذه الكتب‪ ،‬ويف نفس الوقت إشكالية أهنا قد تؤدي إىل احنراف‪.‬‬
‫فكيف ندفع هذه اإلشكالية‪ ،‬وكيف خنفف من إشكالياهتا؟‬
‫يف احلقيقة مثة عدة عناصر تساهم يف توضيح اإلجابة عن هذا اإلشكال‪:‬‬
‫أوال‪ :‬جيب احلفاظ على احلذر الشرعي‪ ،‬وأن ال يُلغى‪ ،‬حىت لو اقتنع طالب العلم‬
‫ً‬
‫الشرعي ابلقراءة يف الكتب الفكرية لتخصصه أو ألي هدف‪ ،‬جيب أن يبقى احلذر‬
‫حاضرا وعمي ًقا‬
‫ً‬ ‫الشرعي من االحنراف وزيغ القلب‪ ،‬واالبتعاد عن اهلدى جيب أن يبقى‬
‫ومؤثرا يف تفكري مجيع طلبة العلم‪ ،‬ملاذا؟ ألن اإلنسان معرض هلا‪ ،‬فحىت لو ساغ له أن‬ ‫ً‬
‫يطلع‪ ،‬جيب أن يستحضر أن قلبه قد ينحرف يف أي حلظة‪ ،‬وهذا حيتم على طالب العلم‬
‫مزيد ارتباط ابهلل‪ ،‬وجترد عن النفس‪ ،‬وإحلاح ودعاء‪ ،‬ومثل هذه املعاين اإلميانية‪ ،‬اليت إبذن‬
‫هللا ستكون سببًا لتثبيت قلبه‪.‬‬
‫َّأما الذي يقرأ وقد غابت عنه هذه املعاين‪ ،‬ويشعر أن لديه من العقل والقدرة والفهم‬
‫أهل ألن ينحرف‪ ،‬ولو كان طالب علم شرعي؛ ألنه اعتمد‬ ‫ما يغنيه عن االحنراف‪ ،‬فهو ٌ‬
‫حري أبن ُخيذل‪،‬‬
‫على نفسه وجترد عن اتصال قلبه ابهلل سبحانه وتعاىل؛ فمثل هذا ٌ‬
‫فاحلفاظ على هذا احلذر الشرعي ضروري‪ ،‬وتعميقه ضروري‪ ،‬االستماع له ضروي‪ ،‬حىت‬
‫يبقى كضمان شرعي ألي طالب علم مثل هذه الشبهات‪ ،‬ألن إشكالية الشبهات ليست‬
‫مسائل رايضيات‪ ،‬إذا مل يفهمها الشخص احنرف‪ ،‬وإذا فهمها مل ينحرف‪ ،‬ال؛ إمنا قد‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪41‬‬
‫أتتيك الشبهة اليسرية فتظلم قلبك‪ ،‬وأتيت الشبهات الضخمة على عامي فال تؤثر فيه‬
‫شيئًا‪ ،‬فهي انقياد وتسليم واطمئنان قليب‪ ،‬وهذا ليس متعل ًقا فقط ابلفهم أو عدم الفهم‪.‬‬
‫خطااب للجميع‪ ،‬يعين ال يصح أن حنث عامة‬
‫ً‬ ‫األمر الثاين‪ :‬أنه جيب أال يكون هذا‬
‫الناس أو عموم طلبة العلم على القراءة يف الكتب املنحرفة‪ ،‬فرق بني أن حترض عليه‪ ،‬وأن‬
‫تستفيد منه يف قيود‪ ،‬ملا أييت بعض الناس فيحدث الشباب ويقول‪ :‬ثقوا بعقولكم‪ ،‬ال‬
‫ترهنوا عقولكم ألحد‪ ،‬وىل زمن الوصاية‪ ،‬وال تضعوا على عقولكم أقفال بيد أانس‪ ،‬واقرأوا‬
‫ما شئتم‪ ،‬وأعطاكم هللا عقوالً متيزون‪ ،‬وليس على عقولكم خوف‪ ..،‬إىل آخر هذا الكالم‬
‫اخلطايب املعروف‪ ،‬هذا الكالم يتمسح ابلعقالنية؛ لكنه خطاب غري عقالين‪ ،‬خطاب‬
‫شعارايت يستغل العقالنية‪ ،‬ومزاج يدغدغ عواطف الشباب لكنه ليس عقالنيًا وال شرعيًا‬
‫وال مصلحيًا‪ ،‬ومن الغش للشباب أن يقول هلم الشخص هذا الكالم‪.‬‬
‫نعم؛ إذا جاء الشاب فقال‪ :‬أان سأقرأ وال أابيل‪ ،‬يعين هو يقول‪ :‬أان لن أمسع‬
‫لنصيحتك‪ ،‬وأان سأقرأ ما أشاء‪ ،‬يف النهاية إذا هو سلك هذا األمر‪ ،‬فرق بني أن يسلكه‬
‫ابختياره‪ ،‬وبني أن حترضه وحتسنه له‪ ،‬إذا هو قرأ على كل حال‪ ،‬سننتقل معه للنقطة‬
‫الثانية‪ ،‬وهي دعوته إىل أمهية التثبيت على األصول الشرعية‪ ،‬ومراجعة القلب‪ ،‬وحنو هذه‬
‫أيضا ‪ ،‬اب نتبه لقلبك‪ ،‬انتبه لدينك‪ ،‬انتبه‪ ..‬ال تفسدها هبذه القراءات‪،‬‬
‫املعاين‪ ،‬ونصيحته ً‬
‫القضية ليست مسائل رايضيات إذا فهمت أمنت‪ ،‬وإذا مل تفهم ضللت‪ ،‬ال؛ يعين‬
‫القضااي الشرعية ليست قضااي أذكياء وأغبياء اي مجاعة‪ ،‬يعين الذكي مؤمن والغيب يصري‬
‫كافر‪ ،‬ليست هكذا‪ ،‬قد يكون الشخص من أذكى الناس وهو زنديق‪ ،‬فالقضية ليست‬
‫مرتبطة بفهم أو ليس عليك خوف بسبب فهمي‪.‬‬
‫املالحدة الذين ارتدوا‪ ،‬الذين عاندوا الشرع‪ ،‬ليسوا كلهم أغبياء‪ ،‬وليس ابلضرورة‬
‫يكونوا أغبياء‪ ،‬بل ليس مثة عالقة بني الغباء والكفر‪ ،‬ليس له عالقة‪ ،‬فكثري منهم أذكياء‬
‫ولديهم عقول وأفهام‪ ،‬لكن مل يلتزموا ابلشريعة‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪42‬‬
‫أيضا هي مرحلة جيب أتخريها لطلبة العلم‪ ،‬فهو أحوج للعلوم‬ ‫األمر الثالث‪ً :‬‬
‫الشرعية منها‪ ،‬يعين االطالع على هذه الكتب جيب أن تكون يف مرحلة متأخرة مسبوقة‬
‫بتأسيس شرعي وقراءة مسبقة قبل أن ينتقل إليها‪.‬‬
‫األمر الرابع‪ً :‬‬
‫أيضا جيب أن تسبقها قراءة يف الكتب الوسيطة إن صحت التسمية‪،‬‬
‫وهي الكتب الشرعية اليت تناولت قضااي فكرية يف جماالت خمتلفة‪ ،‬قبل الدخول يف الكتب‬
‫الفكرية اليت تتبىن رؤية غري شرعية‪ ،‬ملاذا؟‬
‫ألن الكتابة الفكرية هلا طريقة تفكري‪ ،‬ولغة‪ ،‬ومزاج خمتلف‪ ،‬ملا ينتقل هلا طالب العلم‬
‫مباشرة ‪ ،‬قد تؤثر فيه بسبب خضوعه للصياغات والشعارات‪ ،‬بينما لو قرأ الكتب الوسيطة‬
‫كسرت حدة هذه اإلشكاالت‪ ،‬وأعطته مفاتيح‪ ،‬ووضحت بعض اإلشكاالت‪ ،‬وقدمت‬
‫له أدوات‪ ،‬حبيث أنه إذا انتقل للكتب هذه يف مرحلة الحقة‪ ،‬يكون لديه أتسيس ومنعة‬
‫وأدوات ومكانة‪ ،‬يستطيع أن يوظف ويناقش وجيادل‪.‬‬
‫يعين ميزة الردود الشرعية اليت تعاجل الشبهات أهنا تكسر حدة هذه الشبهة‪ ،‬فما‬
‫مثال شبهات املستشرقني يف قضااي كثرية‪ ،‬ال جتد لكثري منها‬
‫يكون هلا ذاك التأثري‪ ،‬انظروا ً‬
‫أن الكتاابت الشرعية أحرقتها ابلرد والتوضيح والشرح والتفصيل؛ حىت‬ ‫رواج‪ ،‬بسبب َّ‬
‫أصبحت الفكرة نفسها مملة‪ ،‬ويعين مسجة ومزعجة من كثرة الرد عليها‪ ،‬فأصبحت تعاد‬
‫بصياغات أمجل وألطف وأكثر جاذبية‪ ،‬هنا فائدة القراءة يف الكتب الشرعية قبل االنتقال‬
‫إىل الكتب اليت ال تلتزم ابألحكام الشرعية أو ابلرؤية الشرعية‪.‬‬
‫األمر اخلامس‪ً :‬‬
‫أيضا انتقاء ما يفيده منها وترك االغراق لقلة متخصصني‪ ،‬يعين فرق‬
‫بني القراءة يف كتب تتكلم عن ًتريخ األفكار‪ ،‬وبني القراءة لكتب جزئية‪ ،‬يعين واحد يقرأ‬
‫مثال‪ ،‬وأبرز شبهات اإلحلاد وأبرز أفكاره‪ ،‬فرق بني هذه الكتب والكتب‬
‫عن ًتريخ اإلحلاد ً‬
‫اليت تقوم على اإلحلاد وتربهن عليه‪ ،‬هذه الكتب ال حيتاجها إال املتخصص‪ ،‬يف أي حالة‬
‫تكلمنا عنها؟ املستوى الثالث‪ ،‬نعم‪ ،‬املتخصص ابلواجب الشرعي‪ ،‬هو الذي قد‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪43‬‬
‫أبدا ابالبتعاد عن هذه‬
‫حيتاجها‪ ،‬أما بقية طالب العلم‪ ،‬فلن يتأثر أتسيسهم الفكري ً‬
‫الكتب أو عدم االستفادة منها‪.‬‬
‫عاشراً مما يبين طالب العلم فكرايً‪ :‬العناية ابخلالف الفقهي العايل والتأمل يف‬
‫منهجيات االستدالل والنقد‪ ،‬ففي كتب الفقهاء خالف فقهي‪ ،‬وأدلة وحجج‪،‬‬
‫واستدالالت‪ ،‬من الضروري أن يعتين هبا‪ ،‬هي يف احلقيقة تقوم على بىن استداللية عميقة‪،‬‬
‫فالفقهاء خيتلفون‪ ،‬ويرد بعضهم على بعض‪ ،‬مهم أن الشخص يتأمل يف هذه الطرائق‪،‬‬
‫أحياان يقول‪ :‬هذا دليل وأجابوا عنه‪ ،‬ال يكفي هذا‪ ،‬أجابوا عنه‬
‫ً‬ ‫يعين بعض طلبة العلم‬
‫مباذا؟ وملاذا؟ وما عالقة هذا ابملوضوع؟ هذه الطريقة التحليلية يف األدلة ستورث قوة يف‬
‫االستدالل لدى طالب العلم‪.‬‬
‫احلادي عشر‪ :‬االستفادة من علم املنطق واجلدل‪ ،‬مع عدم االرهتان إليه‪ً ،‬‬
‫أيضا‬
‫علم اجلدل وعلم املنطق فيها أدوات يف الفهم واجلدل قد يستفاد منها‪ ،‬مع مالحظة عدم‬
‫االرهتان إليها‪ ،‬يعين ال يتعامل معها الشخص بطريقة‪ :‬قاعدة وأطبقها‪ ،‬فلما يتكلم يقول‪:‬‬
‫املقدمة األوىل‪ ،‬املقدمة الصغرى‪ ،‬املقدمة الكربى‪ ،‬والنتيجة‪ ..‬هذه طريقة ضعيفة ويف‬
‫احلقيقة ال تعرب عن مهارة‪ ،‬إمنا يستفيد منها ويدخلها يف بنيته الفكرية‪ ،‬وينضجها أبدوات‬
‫أتثريا‪.‬‬
‫خمتلفة حبيث تظهر بشكل أقوى وأكثر ً‬
‫الثاين عشر‪ :‬املصاحبة للكفاءات العلمية‪ ،‬قراءةً‪ ،‬وجمالسةً‪ ،‬و ً‬
‫استماعا‪ ،‬ومتابعة‬
‫جدا يف البناء الفكري‪.‬‬
‫أيضا مهم ً‬
‫حوارات‪ ،‬واستلهام طرائق‪ ،‬هذا ً‬
‫الثالث عشر‪ :‬العناية ابلسؤال‪ :‬وقصدي ابلسؤال ليس مبعىن توضيح املشكالت‪،‬‬
‫ما معىن هذا الكالم؟ أعد لو مسحت ما قلت؟ اشرح يل هذه اجلملة‪ ..‬ال أعين هذا‬
‫مهما‪ ،‬إمنا أعين ابلسؤال الذي ليس جمرد طلب التوضيح‪ ،‬وإمنا‬
‫السؤال‪ ،‬وإن كان هذا ً‬
‫السؤال الكاشف الذي يعرب عن عمق استداليل‪ ،‬وفهم لدى طالب العلم‪ ،‬فعادة األشياخ‬
‫يف الدروس أنه ال ين كشف هلم قوة طالب العلم إال عن طريق السؤال‪ ،‬اجلواب ليس‬
‫أيضا ليس كاش ًفا‪ ،‬يكون قد حفظه‬
‫حضر اجلواب‪ ،‬احلفظ ً‬‫ابلضرورة كاشف‪ ،‬قد يكون قد ّ‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪44‬‬
‫من قبل‪ ،‬لكن السؤال كاشف‪ ،‬السؤال يعرب عن فهم‪ ،‬يعرب عن زوااي نظر كانت غائبة عن‬
‫الشيخ امللقي‪ ،‬فالسؤال حقيقةً جيب أن يعتين به طالب العلم‪ ،‬ويتعامل معه ابهتمام‬
‫وعناية‪.‬‬
‫دور األسئلة يف استثمار القراءة‪:‬‬
‫يعين ملا تقرأ كتباً كثرية‪ ،‬الشخص الذي عنده أسئلة سابقة‪ ،‬يستفيد من قراءته أكثر‬
‫السنَّة النبوية‬
‫من الشخص الذي ليس عنده أسئلة‪ ،‬كيف؟ ملا أقرأ مثالً كتاب منهاج ُ‬
‫لشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬قد أقرأ أربع صفحات وأقول‪ :‬كالم مجيل ورائع وممتع فقط‪،‬‬
‫بينما يقرأها شخص آخر ويقول‪ :‬اي سالم‪ ،‬السطر هذا رد على من يقول كذا‪ ،‬من هم‬
‫الذين يقولون؟ ماذا يقولون؟ فيبدأ يشرح لك ماذا قالوا؛ فالحظ إنه استفاد من النص‬
‫شيئاً ما استفدته منه أنت‪ ،‬ملاذا؟ لديه أسئلة سابقة‪ ،‬لديه إشكاالت سابقة‪ ،‬فرضيات‬
‫سابقة يبحث عنها‪ ،‬فالقراءة من خالل ااثرة األسئلة يساعده على استثمار هلذه القراءة‪.‬‬
‫أحياان تكون سهلة‪ ،‬لكن الصعوبة يف السؤال املبتكر‪ ،‬فالذي سيخرج هذا‬‫اإلجاابت ً‬
‫السؤال يستطيع يؤلف حبثاً معه؛ ألنك إذا استخرجت السؤال‪ ،‬فاجلواب متيسر‪ ،‬لكن‬
‫التحدي يف استخراج السؤال‪ ،‬وهذا قيمة الرسائل العلمية‪ ،‬ما امليزة يف رسائل دون رسائل؟‬
‫هل معىن هذا أن الباحث قوي وهذا الباحث ضعيف؟ ال يلزم؛ إمنا بعض الباحثني يوفقه‬
‫هللا إىل طرح سؤال‪ ،‬السؤال هذا ممتاز‪ ،‬البحث بعد ذلك سيكون را ًئعا‪ ،‬ملاذا؟ ألن السؤال‬
‫مدخال‬
‫ً‬ ‫ممتاز‪ ،‬فأي إجابة ولو كانت ضعيفة ستكون فيها فائدة‪ ،‬وإثراء؛ ألن املدخل كان‬
‫صحيحا‪ ،‬بينما بعض الفرضيات مهما اجتهد الباحث فلن يقدم تلك الفائدة؛ ألن‬ ‫ً‬
‫السؤال مل يكن بذاك‪ ،‬والفرضية ليست فرضية مبتكرة‪ ،‬ومميزة‪ ،‬هذا ما يتعلق مبوضوع العناية‬
‫ابلسؤال‪.‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬العناية ابملباحث الشرعية ذات الصلة الوثيقة ابلفكر‪:‬‬
‫وسبق احلديث عنها‪ ،‬يعين االجتهاد والتقليد‪ ،‬العقل والنقل‪ ،‬املصاحل‪ ،‬املقاصد‪ ،‬هذه‬
‫كلها مباحث شرعية‪ ،‬املصلحة‪ ،‬تقدمي املصلحة على النص‪ ..‬هذه كلها مباحث شرعية‪،‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪45‬‬
‫العناية هبا والبحث الشرعي فيها مهم‪ ،‬ومثل‪ :‬الضرورات‪ ،‬املصاحل‪ ،‬تغيري الزمان واملكان‪،‬‬
‫املقاصد‪ ..‬التأويل وغريها‪.‬‬
‫احملور األخري‪ :‬املزالق الفكرية‬
‫ُهناك مزالق فكرية يقع فيها طالب العلم بناء على ضعف البنية الفكرية‪:‬‬
‫املزلق األول‪ :‬الكتابة واحلديث عن شيء مل يقرأ فيه قراءة كافية؛ وإمنا غاية ما يعرف‬
‫فيه هو جمرد كالم عام‪.‬‬
‫ف بعض طلبة العلم يكتب ويتكلم يف قضااي هو يعرف أن غاية ما يعرف يف هذا‬
‫الكالم جمرد معلومات يسرية ‪ ،‬وهذا قصور كبري‪ ،‬جيب أن حيرتم طالب العلم العلم‪ ،‬ومن‬
‫احرتام العلم تقدير التخصص‪ ،‬وأن ال يتحدث وال يكتب يف شيء مل يقرأ فيه قراءة كافية؛‬
‫إمنا يسمع ويسأل وينظر‪ ،‬وليس مطالبًا أن يتكلم يف كل قضية‪ ،‬ويف كل زمان ومكان‪.‬‬
‫املزلق الثاين‪ :‬النسب املوغلة يف العمومية‪ ،‬يعين الكالم الذي يعتمد على كالم عام‬
‫جدا‪ ،‬هذا يف احلقيقة يدل على قصور فكري‪ ،‬ملا يقول شخص‪ :‬حنن نعاين من فراغ‬ ‫ً‬
‫فكري يف احمليط الثقايف‪ .. ،‬أييت بكالم سائل سائب‪" ،‬حنن" و "فراغ" و"احمليط الثقايف"‪،‬‬
‫ابال‪،‬‬
‫ال ميكن أن تفحصه وال متسك منه أي شيء‪ ،‬فمثل هذا الكالم جيب أال يُلقى له ً‬
‫فلما أييت بعض الناس فيتأثر هبذا الكالم‪ ،‬وقد يسوق له‪ ،‬ويعجب به فهذا دليل على‬
‫إشكالية فكرية؛ ألن هذه نسب موغلة يف العمومية ال تعرب عن بنية مفكر حيرتم العلم‬
‫وحيرتم األحكام‪.‬‬
‫املزلق الثالث‪ :‬عدم إدراك وزن املسائل‪ ،‬هناك مسائل قطعية‪ ،‬مسائل ظنية‪ ،‬مسائل‬
‫أيضا إشكال‪.‬‬
‫اجتهادية‪ ،‬بعض طلبة العلم يتعامل مع املسائل بشكل واحد‪ ،‬هذا ً‬
‫الرابع‪ :‬حتميل الكالم ما ال حيتمل‪ ،‬فقد يكون الكالم خطأ؛ لكن بعض طلبة العلم‬
‫حيمل الكالم ما ال حيتمل‪ ،‬صحيح أنه وقع يف غلط‪ ،‬لكن ما هو خبطأ ابلذي تقول أنت‪،‬‬
‫فبعض الناس إذا رأى خطأ‪ ،‬يعين كأنه يف حل من أمره أن يقول ما يشاء‪ ،‬ال؛ هنا خطأ‪،‬‬
‫اذ جيب أن يكون كالمك يف حدود هذا اخلطأ‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪46‬‬
‫املزلق اخلامس‪ :‬عدم احرتام التخصصات املعاصرة الدقيقة‪ ،‬وهذا ً‬
‫أيضا قضية مهمة‪،‬‬
‫هناك ختصصات علمية‪ ،‬فيها أحباث وفيها دراسات‪ ،‬من اخلطأ إنه أييت شخص ال يعرف‬
‫فيها شيء‪ ،‬فيستخف هبا وينكرها أبلفاظ عامة‪ ،‬وهذا ال شك إنه قصور فكري كبري‪.‬‬
‫املزلق السادس‪ :‬العجلة وعدم التثبت من املعلومة‪ ،‬عدم التثبت من املعلومة يعين أن‬
‫يقول كالماً مل يعرف من قائله‪ ،‬أو ينسب قوالً مل يقوله شخص‪ ،‬أو يكون قد قاله‪ ،‬لكن‬
‫ليس ابلصورة اليت قيلت عنه‪ ،‬أو يكون قاله لكن يف سياق خمتلف‪ ،‬يعين جيب أن يكون‬
‫لدى طالب العلم حتوط يف نسبة األقوال إىل األشخاص وإىل املذاهب‪.‬‬
‫املزلق السابع‪ :‬رد القول دون فهم كافة جوانبه‪ ،‬بعض الناس يرد القول‪ ،‬فإذا قيل له‪:‬‬
‫أال حيتمل هذا القول كذا‪ ،‬فيقول‪ :‬إذا كان كذا فهو صحيح‪ ،‬طيب ملاذا ما تنبهت له من‬
‫قبل؟ يعين قبل أن ترد القول‪ ،‬ملاذا مل تتنبه أن هذا القول حيتمل جوانب أخرى‪ ،‬لكن‬
‫العجلة ال تساعد على فهم هذه اجلوانب‪.‬‬
‫املزلق الثامن‪ :‬احلكم على األشياء بناء على مواقف وخربة شخصية‪ ،‬وهذا املزلق‬
‫مثال‪ :‬حنن نعاين من إشكاالت فكرية‪ ،‬حنن‬
‫لألسف إنه شائع‪ ،‬فيأيت بعض الناس ويقول ً‬
‫نعاين من احنرافات‪ ،‬نعاين من كذا‪ ،‬زارين شاب‪ ،‬ورأيت شاابً‪ ،‬ويبدأ حيكي لنا‪ ،‬ويبدأ‬
‫يتحدث عن جتاربه الشخصية‪ ،‬إنه التقى ببعض الشباب‪.‬‬
‫هذه التجارب الشخصية ال يُبىن عليها أحكام‪ ،‬يعين كونك التقيت بشباب‪،‬‬
‫وتعرف أشخاص‪ ،‬وزرت مدينة معينة‪ ،‬ال جتعل حياتك الشخصية يُبىن عليها أفكار‬
‫وتصورات وأحكام‪ ،‬نعم هى تبقى خربات شخصية مفيدة لك‪ ،‬وأضفها يف بنيتك الفكرية‬
‫واالس تداللية‪ ،‬لكن ال تبين عليها قضااي وأحكام؛ إمنا اجعلها فرضيات‪ ،‬فإذا جاءك أحد‬
‫وتكلم لك عن شكوكه اإلحلادية‪ ،‬ال جتعل من زايرة واحدة أو عشر دليالً على أن اجملتمع‬
‫عنده إشكالية مع اإلحلاد‪ ،‬إمنا اجعلها فرضية للبحث والنظر واالستفادة‪.‬‬
‫البناء الفكري لطالب العلم‬

‫‪47‬‬
‫أيضا مزلق‪ ،‬بعض‬‫املزلق التاسع‪ :‬االعتماد على املعلومات الشائعة جمتمعيًا‪ ،‬وهذه ً‬
‫املعلومات تشيع جمتمعيًا‪ ،‬فاملفرتض على طالب العلم أن يكون عنده متييز‪ ،‬ال يقبل وال‬
‫ينقل أي شيء جملرد أنه شائع يعين جمتمعيًا‪.‬‬
‫‪.‬‬
‫يف هناية هذه احملاضرة‪ ،‬أمحد هللا على ما يسر وعان‪ ،‬وأشكركم على استماعكم‬
‫وإنصاتكم وتفاعلكم‪ ،‬وأسأل هللا أن جيعلكم مباركني أينما كنتم‪ ،‬وأن ينفع بكم ويرزقنا‬
‫وإايكم العلم النافع‪ ،‬والعمل الصاحل‪ ،‬واإلخالص وصلى هللا وسلم وابرك على نبينا حممد‪،‬‬
‫وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

You might also like