Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 38

‫منتجات اجلزيرة العربية وجتارتها اخلارجية يف كتابات هريودوت‬

‫د‪ .‬إبراهيم محمد بيومي مهران‬


‫أستاذ التاريخ القديم المشارك بجامعة عين شمس وجامعة أم القرى بمكة المكرمة‬

‫‪-0 -‬‬
‫تمهيد‪:‬‬

‫في فترة متأخرة من العصور القديمة ظهرت كتابات تاريخية‪ ،‬حاول أصحابها‬
‫أن يعرفوا بالحضارات القديمة‪ ،‬ومن ثم فإن القدر األكبر من تاريخ هذه الحضارات لم‬
‫يعاصره المؤرخون القدماء‪ ،‬وكان سبيلهم الوحيد إلى التعرف إليه هو الرواية‪ ،‬أو عن‬
‫طريق المعلومات المتناثرة التي كانت تتأرجح بين الحقيقة والمبالغة واألسطورة‪.1‬‬

‫ويهدف البحث إلى إبراز الخطوط الرئيسية فيما كتبه هيرودوت عن منتجات‬
‫وتجارة الجزيرة العربية‪ ،‬وما ُعني بإب ارزه في كتاباته‪ ،‬في حقبة تمثل بداية االهتمام‬
‫الغربي بمنطقة الجزيرة العربية‪ ،‬مع إيضاح الظروف واألسباب وراء هذا االهتمام‪.‬‬

‫وكذلك يهدف إلى تسليط ضوء على بدايات وأهداف اهتمام الكتاب‬
‫الكالسيكيين بالجزيرة العربية‪ ،‬وتعرف أيضاً بجزيرة العرب‪ ،2‬وهي ثاني أكبر شبه قارة‬
‫على وجه األرض وتغطي حوالي ‪ 3,237,5‬كم‪ 2‬تقريب ًا‪ ،3‬وقد تعاقبت عليها خالل‬
‫تاريخها القديم عصور كثيرة‪ ،‬وتعددت مصادر البحث في تاريخ هذه العصور‪.4‬‬

‫لطفي عبد الوهاب يحي‪ ،‬العرب في العصور القديمة‪ ،‬مدخل حضاري في تاريخ العرب قبل‬ ‫‪1‬‬

‫اإلسالم‪ ،‬اإلسكندرية‪ :‬دار المعرفة الجامعية‪ ،1999 ،‬ص ‪.17‬‬


‫ألن اللسان العربي فيها شائع وإن تفاضل‪ .‬انظر‪ :‬أبو محمد الحسن بن أحمد الهمداني‪ ،‬صفة‬ ‫‪2‬‬

‫جزيرة العرب‪ ،‬القاهرة‪ :‬نشر محمد بن عبد هللا بن بليهيد النجدي ‪ ،1953‬ص ‪1‬؛ شهاب الدين‬
‫أبو عبد هللا ياقوت الحموي‪ ،‬معجم البلدان‪ ،‬بيروت ‪ ،1955‬مادة جزيرة العرب‪.‬‬
‫‪A. S. Alsharhan, et al., Quaternary Deserts and Climatic Change, 3‬‬
‫‪IGCP Project 349: Taylor & Francis, Al Ain, United Arab Emirates,‬‬
‫‪1998, p. 279.‬‬
‫‪ 4‬عبد العزيز صالح‪ ،‬تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة األنجلو‬
‫المصرية‪ ،2010 ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪-1 -‬‬
‫وألن الجزيرة العربية تقع وسط صح اروات‪ ،‬تمتد كالحزام حول العالم القديم‪ ،5‬فقد كان‬
‫تاريخها محكوماً بوجودها الجغرافي المشترك‪ ،6‬ومصادرنا األولى عنها نأخذها من كتابات‬
‫اآلشوريين‪ ،7‬بداية من القرن ‪ 9‬ق‪.‬م‪ ،8‬وهي مليئة باألحداث‪ ،9‬وهذه النصوص المسمارية قد‬
‫اعتادت على أن تنسب ألصحابها اآلشوريين والبابليين سلطاناً واسعاً‪ ،‬وأسرفت في تصوير‬
‫انتصاراتهم الحربية على العرب‪ ،10‬وإن كانت لم تخل مما يستفاد به منها‪ ،‬فهي أقدم المصادر‬
‫‪11‬‬
‫التي سجلت تسمية العرب‪.‬‬

‫وال نجد فيما تركه لنا اليونان األوائل عن العرب أو بالد العرب إال خمس إشارات‪ :‬اثنتان‬
‫‪12‬‬
‫المنسوبة إلى هوميروس )‪ (Homeros‬الذي يعتمد في شعره على‬ ‫منها في ملحمة األوديسة‬
‫تراث يوناني‪ ،‬ينتهي عند أواسط القرن التاسع قبل الميالد‪ ،‬وواحدة في أشعار هزيودوس‬
‫)‪ (Hesiodos‬وهي أشعار ترجع إلى بعد هذه الفترة بما يقرب من قرن حيث كتب ملحمتين‪ ،‬هما‬

‫سعد زغلول عبد الحميد‪ ،‬في تاريخ العرب قبل اإلسالم‪ ،‬بيروت‪ :‬دار النهضة العربية‪ ،1976 ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪5‬‬

‫أغناطيوس جويدي‪ ،‬محاضرات في تاريخ اليمن والجزيرة العربية قبل اإلسالم‪ ،‬ترجمة إبراهيم السامرائي‪ ،‬بيرروت‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫دار الحداثة‪ ،1986 ،‬ص ‪.16‬‬

‫فيليب حتى‪ ،‬العرب تاريخ مروجز‪ ،‬بيرروت‪ :‬دار العلرم للماليرين ‪ ،1991‬ص ‪ .27‬وعرن اإلشرارة إلرى برالد العررب‬ ‫‪7‬‬

‫فرري السررجالت اآلشررورية‪ ،‬يوجررد ‪ 37‬نصراً فرري‪Daniel David Luckenbill, Ancient Records of :‬‬
‫‪ Assyrian and Babylonia, Chicago, 1968.‬أولهرا الرنر رقرم ‪ 611‬مرن عهرد شلمنصرر الثالرث‪ ،‬واخرهرا‬
‫النر رقم ‪ 1084‬من عهد اشور بانيبال‪.‬‬

‫أقدم نر وردت فيره لفظرة رعرربر يرجرع أليرام رشلمنصرر الثالرثر‪ ،‬وذكرر أن الملرك واجره فري العرام السرادس مرن‬ ‫‪8‬‬

‫حكمه تحالفاً قاده أمير يلقب نفسه بلقب رملكر يقال له رجنديبور‪ .‬راجع‪ :‬جواد علي‪ ،‬المفصل في تاريخ العرب قبل‬
‫اإلسالم‪ ،‬ج‪ ،1‬ط‪ ،4‬بيروت‪ :‬دار الساقي‪ ،2001 ،‬ص ‪.4‬‬
‫‪9‬‬
‫‪Peter Webb, Imagining the Arabs: Arab Identity and the Rise of Islam, Edinburgh‬‬
‫‪University Press, 2016, pp.23-59.‬‬

‫للمزيررد عررن العالقررات بررين شررمال الجزيررة العربيررة وبررالد ال ارفرردين‪ ،‬ارجررع‪ :‬عبررد المعطرري بررن محمررد عبررد المعطرري‬ ‫‪10‬‬

‫سمسم‪ ،‬العالقات بين شمال شبه الجزيرة العربية وبالد الرافدين منذ أقدم العصور وحتى القرن السادس ق‪.‬م‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫القاهرة‪ :‬إيتراك للطباعة والنشر والتوزيع‪.2008 ،‬‬

‫‪ 11‬عبد العزيز صالح‪ ،‬تاريخ شبه الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪10-9‬؛ ‪E. Ebeling, "Araber" Reallexikon der‬‬
‫‪Assyriologie. ANET 1928, S. 297; Adolf Grohmann, Kulturgeschichte des Alten‬‬
‫‪Orients, Bd. III, Arabien, Munich, 1963. S. 3.‬‬
‫‪The Odyssey, 4, 84; 15, 426. 12‬‬

‫‪-2 -‬‬
‫رأنساب اآللهةر وراألعمال واأليامر‪ ،‬واثنتان في مسرحيتين تراجيديتين للشاعر إيسخيلوس‬
‫)‪ (Aeschylus‬ترجعان إلى العقود األولى من القرن الخامس قبل الميالد‪ ،‬وجميعها تشير‪ ،‬على‬
‫أحسن االفتراضات‪ ،‬إلى معرفة غامضة أو شبه أسطورية عن العرب وبالدهم‪.13‬‬

‫هيرودوت‪14‬وكتاباته عن الجزيرة العربية ومنتجاتها‪:‬‬

‫بداية من أواسط القرن الخامس قبل الميالد تقريباً حدث تغير كبير في تصور بالد‬
‫العرب لدى الشعوب والدول التي اهتمت لسبب أو آلخر بالمنطقة‪ ،‬ويبدو أن هذا التغير قد ظهر‬
‫واضحاً فيما تركه لنا الكتاب الكالسيكيون‪ ،15‬سواء كان من بينهم المؤرخون أو الرحالة أو‬
‫الجغرافيون أو الكتاب الموسوعيون‪ ،16‬في فرع أو اخر من فروع العلوم المختلفة‪ ،‬حيث تشكل‬
‫‪17‬‬
‫أول تحقيقات مفصلة وموضوعية عن أحوال‬ ‫أعمالهم التي دونوها باللغتين اليونانية والالتينية‬

‫‪ 13‬لطفرري عبررد الوهرراب يحرري‪ ،‬رالجزي ررة العربيررة فرري المصررادر الكالسرريكيةر‪ ،‬د ارسررات ترراريخ الجزي ررة العربيررة‪ ،‬ك‪،1‬‬
‫مصادر تاريخ الجزيرة العربية‪ ،‬ج‪ ،1‬جامعة الرياض ‪ ،1979‬ص ‪.55‬‬

‫نحن ال نعرف على وجه التحديد تاريخ مولد هيرودوت‪ ،‬وإن كان فري حردود سرنة ‪ 484‬ق‪.‬م تقريبراً‪ ،‬ووفاتره فري‬ ‫‪14‬‬

‫سرنة ‪ 420‬ق‪.‬م أو فري وقرت الحرق لرذلك‪ ،‬ربمرا فري ‪ 425‬أو ‪ 426‬ق‪.‬م ‪Stephen V. Tracy, Pericles: A‬‬
‫‪Sourcebook and Reader, University of California, 2009, p. 109; James S. Romm,‬‬
‫‪ Herodotus, Yale University Press, 1998, p. 12-13.‬ولرد فري هاليكارناسروس )‪(Halicarnassus‬‬
‫(بودريوم ‪ Bodrum‬في تركيا)‪ ،‬ونشأ في أسرة محبة للعلم واالطالع‪ ،‬ولها باع طويل في السياسة‪ ،‬مما سراهم فري‬
‫تشرركيل عقليترره‪ ،‬كمررا كرران لغررزو فررارس لرربالد اليونرران دور أيضراً فرري اتجاهرره الفكررري‪ ،‬حيررث سرريكون موضرروع كتابرره‬
‫رالحر ررروب الفارسر ررية اليونانير ررةر‪ ،‬ونظ ر ر اًر النشر ررغاله بالسياسر ررة فر رري شر رربابه دخر ررل هير رررودوت فر رري ص ر رراع مر ررع حكر ررام‬
‫هاليكارناسوس‪ ،‬ونفي إلى مدينة ساموس )‪ (Samos‬وكانت مرك اًز ثقافياً مهماً في اليونان‪ ،‬وشكلت فيما بعرد نقطرة‬
‫انطالقه في رحالته الواسعة‪ ،‬التي تعتبر أحد أهم مصادر كتابته التاريخيرة‪ ،‬وكانرت المحطرة التاليرة فري حياتره هري‬
‫اء مرن كتابره قبرل انتقالره إلرى مسرتعمرة ثروري )‪ (Thurii‬فري جنروب إيطاليرا‪ ،‬والتري‬
‫أثينا )‪ ،(Athens‬وفيها أتم أجز ً‬
‫شهدت اكتمال الكتاب‪ ،‬وفيهرا تروفي‪ .‬ارجرع‪ :‬فهرد مطلرق العتيبري‪ ،‬هيررودوت وبدايرة تكروين الروعي التراريخي الغربري‬
‫‪Fowler,‬‬ ‫بر ررالجزيرة العربير ررة‪ ،‬ط‪ ،1‬الرير رراض‪ :‬دار الناشر ررر الر رردولي للنشر ررر والتوزير ررع‪ ،2013 ،‬ص ‪18-17‬؛‬
‫‪"Herodotos and Athens", pp. 305–18; Ste. Croix, "Herodotus", p.132.‬‬
‫‪15‬‬ ‫‪Webb, Imagining the Arabs, p.1-20.‬‬

‫لطفي عبد الوهاب‪ ،‬العرب في العصور القديمة‪ ،‬ص ‪.98‬‬ ‫‪16‬‬

‫الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية‪ ،‬ج‪ ،1‬هيرودوتس والجزيرة العربية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬إبراهيم السرايح‪ ،‬تعليرق‪:‬‬ ‫‪17‬‬

‫د‪ .‬رحمة بنت عواد السناني‪ ،‬إشراف وتحرير‪ :‬د‪ .‬عبد هللا بن عبد الرحمن العبد الجبار‪ ،‬الرياض‪ ،‬الدارة ‪1439‬ه‪/‬‬
‫‪2017‬م)‪.‬‬

‫‪-3 -‬‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬فقد سجلوا لنا بعضاً من دولها ومدنها وموانيها وقبائلها وأهم مصادر الثروة فيها‪،‬‬
‫وطرق التجارة منها وإليها‪ ،‬وضمنوها في مؤلفاتهم ابتداء من القرن الخامس قبل الميالد‪ ،18‬وأولهم‬
‫هيرودوت )‪ (Herodotus‬ورثوكيديدسر )‪ ،19(Thucydides‬وهي في ذلك تختلف عما جاء‬
‫عن هذه المنطقة في الفترة السابقة من إشارات في سجالت الملوك اآلشوريين والبابليين‪ ،‬أو‬
‫النصوص اآلرامية‪ ،‬أو أسفار العهد القديم‪.20‬‬

‫‪21‬‬
‫هو‬ ‫كان أول من ظهر في كتاباته هذا التغير الواضح في تصور حدود شبه الجزيرة‬
‫حسبما لقبه رشيشرونر‬ ‫‪23‬‬
‫هيرودوت )‪ )Herodotus‬أول المؤرخين‪ ،22‬أو أبو التاريخ‬
‫)‪ 24(Cicero‬الخطيب والسياسي الروماني الشهير الذي عاش في القرن األول قبل الميالد‪.‬‬

‫وكانت كتابات هيرودوت بمثابة أول مؤشر واضح الهتمام الغربيين بالجزيرة العربية‬
‫وسكانها‪ ،25‬وقد أدى إلى هذا االهتمام عامالن رئيسيان‪ :‬أحدهما هو أن أول احتكاك كبير بين‬
‫اليونان والعالم الشرقي لم ينته بانتهاء الصدام العسكري مع اإلمبراطورية الفارسية الذي وقع في‬
‫الربع األول من القرن الخامس قبل الميالد‪ ،‬والذي ظهرت فيه ضمن قوات هذه اإلمبراطورية‬
‫وحدات عسكرية عربية‪ ،‬وإنما ظل التوتر كامناً ومستم اًر‪ ،‬حتى ثار مرة أخرى في أواسط القرن‬

‫‪18‬‬ ‫‪G.E.M. De Ste. Croix, “Herodotus”, Greece & Rome, Vol. 24, No. 2, Oct. 1977,‬‬
‫‪p.132; Robert L. Fowler, “Herodotos and Athens”, in Herodotus and his World,‬‬
‫‪Essays from a Conference in Memory of George Forrest, Edited by:‬‬
‫‪P. Derow and R. Parker, Oxford University Press 2003, pp. 305–18.‬‬

‫‪ 19‬عبد العزيز صالح‪ ،‬تاريخ شبه الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.11-10‬‬

‫لطفي عبد الوهاب‪“ ،‬الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية”‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪ 21‬انظر خريطة رقم ‪ 1‬بالبحث‪.‬‬

‫جرى العرف على اعتبار كتابات رهوميروسر أول كتابة تستحق الذكر كمصدر عن المجتمع اليونراني فري هرذه‬ ‫‪22‬‬

‫الفترة‪ ،‬إال أن الكتابة التاريخية الحقة لم تبدأ إال بعد اكتشاف النثر كوسريلة جديردة للتعبيرر عرن فكرر اإلنسران‪ ،‬وهنرا‬
‫يجررب أن نررذكر رهيكرراتيوسر م ررن ملطيررة قبررل هي رررودوت‪ ،‬حيررث اقترررب م ررن النقررد الترراريخي كثير ر اًر فرري كتابرره ع ررن‬
‫راألنسابر‪ .‬راجع‪ :‬حسين الشيخ‪ ،‬العرب قبل اإلسالم‪ ،‬اإلسكندرية‪ :‬دار المعرفة الجامعية‪ ،1993 ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪ 23‬جرجي زيدان‪ ،‬العرب قبل اإلسالم‪ ،‬بيروت‪ ،1968 ،‬ص ‪17‬؛‪De Ste. Croix, Herodotus, p.130.‬‬
‫‪24‬‬‫‪Andreas Kamp, Die erste "Verfassungs-Debatte": Herodot, Historie, III, 80 -‬‬
‫‪82, Universität zu Köln, 2003, s.8.‬‬
‫لطفي عبد الوهاب‪ ،‬العرب في العصور القديمة‪ ،‬ص ‪.98‬‬ ‫‪25‬‬

‫‪-4 -‬‬
‫ذاته‪ ،‬في حرب دامت سجاالً بين األثينيين من جهة وبين الفرس يعاونهم األسطول الفينيقي من‬
‫جهة أخرى‪ ،‬وال بد أن يكون هذا قد أثار في أذهان اليونانيين‪ ،‬وبخاصة المثقفين منهم‪ ،‬رغبة‬
‫واضحة في التعرف على هذا العالم الشرقي واستكناه هويته‪.‬‬

‫وأما العامل اآلخر فهو االزدياد الكبير في حجم تجارة اإلمبراطورية األثينية في القسم‬
‫الشرقي للبحر المتوسط‪ ،‬وبخاصة بعد الضربة التي تلقاها النشاط التجاري الفينيقي في المنطقة‬
‫عقب الهزيمة التي حاقت باألسطول الفينيقي على يد األثينيين على شواطئ قبرص سنة ‪449‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬فقد انعكس هذا االزدياد في شكل رخاء عم كل جوانب الحياة في أثينا‪ ،‬مركز هذه‬
‫اإلمبراطورية‪ ،‬وكان من بين مظاهره استهالك متزايد في الطيوب والتوابل‪ ،‬التي كانت تأتي من‬
‫‪26‬‬
‫واألعياد‬ ‫الجزيرة العربية‪ ،‬في وقت كان فيه هذا النوع ضرورة يومية في المنزل والمعبد‬
‫واالجتماعات السياسية واالحتفاالت الرياضية والمناسبات االجتماعية‪.27‬‬

‫ويعد هيرودوت هو مؤسس الكتابة التاريخية‪ ،‬حيث يظهر كأول مؤرخ يوناني يقوم بعمل‬
‫تاريخي متكامل‪ ،28‬ويعتبر هو صاحب أول محاولة جادة في العالم القديم نحو كتابة التاريخ‪،29‬‬
‫حيث كتب مؤلفه المعروف‪ 30‬بررالتحقيقاتر أو رالتواريخر )‪ ،31(Historiae‬وهو االسم الذي أطلقه‬

‫‪ 26‬كان القدماء يعتقدون في أن أي شعيرة أو طقس ديني‪ ،‬سواء أجرري لللهرة فري المعابرد أو للمروتى فري المقرابر‪،‬‬
‫ال تكررون لرره فاعليررة إال إذا صرراحبه حرررق البخررور‪ .‬ارجررع‪ :‬عبررد المررنعم عبررد الحلرريم سرريد‪ :‬ترراريخ الجزيررة العربيررة فرري‬
‫عصر ما قبل اإلسالم‪ ،‬اإلسكندرية‪ :‬كي تي سي‪ ،2006 ،‬ص ‪.4‬‬

‫‪ 27‬لطفي عبد الوهاب‪“ ،‬الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية”‪ ،‬ص ‪.56-55‬‬

‫‪ 28‬حسين الشيخ‪ ،‬العرب قبل اإلسالم‪ ،‬ص ‪.10‬‬


‫‪29‬‬
‫‪Justin Marozzi, The Way of Herodotus, Travels‬‬ ‫‪with‬‬ ‫‪the‬‬ ‫‪Man‬‬
‫‪Who Invented History, London: Da Capo Press, 2010, pp.1-2.‬‬
‫‪ 30‬ظهر للكتاب عدة طبعات باليونانية والالتينية‪ ،‬ثم بلغات أخررى‪ ،‬والنسرخ التري اعتمرد عليهرا البحرث هري‪ :‬ترجمرة‬
‫عبررد اإللرره المررالح عررن النسررخة اإلنجليزيررة الترري أنجزهررا ررولنسررونر (‪ ،)George Rawlinson‬وكررذلك التررراجم‬
‫اإلنجليزيررة للكترراب‪ ،‬والترري قررام بهررا رووتررر فيلرردر (‪ ،)Robin Waterfield‬وأيض راً رجررودلير (‪،)A.D. Godley‬‬
‫عالوة على إصدار حديث بالعربية‪ ،‬وهو كتاب هيرودوتس والجزيرة العربية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬إبراهيم السايح‪.‬‬

‫استعمل هيرودوت للمرة األولى كلمة تاريخ )‪ ،(Historiae‬وجعلها عنواناً لمؤلفه القيم‪ ،‬وهي كلمرة مرأخوذة مرن‬ ‫‪31‬‬

‫فعررل يونرراني)‪ ،(Historeō‬ومعنرراه يفيررد البحررث والمشرراهدة والتقصرري‪ .‬ارجررع‪ :‬لطفرري عبررد الوهرراب يحرري‪ ،‬اليونرران‪:‬‬
‫مقدمة في التاريخ الحضاري‪ ،‬بيروت‪ :‬دار النهضة العربية‪ ،1979 ،‬ص ‪ ،247‬وحاشية رقم ‪.23‬‬

‫‪-5 -‬‬
‫الرجل على كتابه‪ ،‬ويعني على األغلب رالفحرر أو رالتحقيقر أو راالستقصاءر أو رالبحثر‪،32‬‬
‫وجاء في تسعة أجزاء‪:33‬‬

‫‪ -‬الجزء ‪ :1‬يحمل اسم ركليور )‪ )Κλειώ‬ربة التاريخ‪.‬‬


‫‪ -‬الجزء ‪ :2‬يحمل اسم ريوتربير )‪ )Ευτέρπη‬ربة الموسيقى أو العزف على الناي‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء ‪ :3‬يحمل اسم رثاليار )‪ )Θαλεια‬ربة التراجيديا أو المأساة‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء ‪ :4‬يحمل اسم رميلومينير )‪ )Μελπομένη‬ربة الكوميديا أو الملهاة‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء ‪ :5‬يحمل اسم رتربسيكورير )‪ )Τερψιχόρη‬ربة الرقر الغنائي‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء ‪ :6‬يحمل اسم رإراتور )‪ )Ερατώ‬ربة الشعر الغنائي أو األناشيد‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء ‪ :7‬يحمل اسم ربوليهيمنيار )‪ )Πολυμνία‬ربة فن التمثيل‪.‬‬
‫‪ -‬الجزء ‪ :8‬يحمل اسم رأورانيار )‪ )Ουρανία‬ربة الفلك‪( ،‬لوحة رقم ‪.)1‬‬
‫‪ -‬الجزء ‪ :9‬ويحمل اسم ركالليوبير )‪ )Καλλιόπη‬ربة شعر المالحم‪.34‬‬

‫وتعد فترة الثالثين سنة الواقعة ما بين ‪ 420-450‬ق‪.‬م‪ ،‬بمثابة الحقبة الخصبة من حياة‬
‫هيرودوت‪ ،‬إذ انشغل فيها باستقصاء أخبار األمم وأحوالها‪ ،‬والحروب التي خاضتها‪ ،‬وتدوين هذا‬
‫التاريخ‪ ،‬الذي أبدع فيه‪ ،35‬حتى أننا نجد أن الكثيرين من قراء هيرودوت تأخذهم بساطة أسلوبه‬
‫وسهولته وسالسته‪ ،‬ويؤخذون أكثر بشخصيته‪ ،36‬حيث أن الهدف من رالتواريخر ليس فقط تقديم‬

‫إيفانز‪ ،‬أ‪.‬ج‪ ،‬هيرودوت ترجمة‪ :‬أمين سالمة‪ ،‬القاهرة‪ :‬الدار القومية للطباعة والنشر‪ ،2000 ،‬ص ‪.12‬‬ ‫‪32‬‬

‫‪ 33‬لم يكن المؤلف األصلي مقسماً إلى تسعة كترب كمرا هرو اليروم‪ ،‬برل جراء هرذا التقسريم ممرن تكلفروا بنسرخه ونشرره‬
‫بعرد ذلررك فرري زمررن بطالمر ة اإلسرركندرية‪ ،‬أي بعررد أكثررر مررن قررنين علررى تأليفرره‪ ،‬كررذلك فررإنهم وضررعوا لكررل كترراب منرره‬
‫عنواناً‪ .‬راجع‪ :‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.32‬‬

‫هيرررودوت‪ ،‬ترراريخ هيرررودوت‪ ،‬ترجمررة عبررد اإللرره المررالح‪ ،‬مراجعررة د‪ .‬أحمررد السررقاف ود‪ .‬حمررد بررن ص رراي‪ ،‬أبررو‬ ‫‪34‬‬

‫ظبي‪ :‬المجمع الثقافي‪ ،2001 ،‬ص ‪.23-22‬‬

‫‪ 35‬أرسررطو طرراليس‪ ،‬الكررون والفسرراد‪ ،‬ترجمررة أحمررد لطفرري السرريد‪ ،‬القرراهرة‪ :‬الرردار القوميررة للطباعررة والنشررر‪،1966 ،‬‬
‫ص ‪.7‬‬

‫أرنولد توينبي‪ ،‬الفكر التاريخي عند اإلغريرق‪ ،‬ترجمرة لمعري المطيعري‪ ،‬تحقيرق د‪ .‬محمرد صرقر خفاجرة‪ ،‬القراهرة‪:‬‬ ‫‪36‬‬

‫الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬سلسلة األلف كتاب الثاني‪ ،1990 ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪-6 -‬‬
‫سجل تاريخي دقيق لألحداث‪ ،‬وإنما متعة القراءة‪ ،37‬كما كان ذلك عهداً من النشاط الفكري‬
‫العظيم الذي عرفه القرن الخامس ق‪.‬م في العديد من حقول المعرفة‪ ،38‬عالوة على أن التأريخ‬
‫الكالسيكي يعتبر أكثر وضوحاً من التأريخ الهلينستي الذي يغلب عليه الجانب األخالقي‬
‫والخطابي‪ ،‬مما يجعله أقل جدوى وإفادة‪.39‬‬

‫وقدم هيرودوت في كتابه رالتحقيقاتر نتائج أبحاثه‪ ،‬وكان له هدفان رئيسيان‪ :‬الواحد‬
‫‪40‬‬
‫من الضياع‪،‬‬ ‫منهما هو الحفاظ على األعمال البشرية الخالدة التي قام بها اإلغريق والبرابرة‬
‫والهدف اآلخر هو إثبات أن األعمال الرائعة التي اضطلع بها الهلينيون والشرقيون سوف تتمتع‬
‫بما هي أهل له من الشهرة‪ ،‬خاصة تلك التي أدت إلى صدام فيما بينهم‪ ،41‬وليسجل أسباب ما‬
‫شب بين الجانبين من صراع‪.42‬‬

‫ونالحظ أن حديث هيرودوت عن العرب أو عن الجزيرة العربية ليس متصالً دائماً‪ ،‬وإنما‬
‫يأتي متناث اًر في أغلب األحوال‪ ،‬حسبما يقتضي سياق الموضوع األساسي‪ ،‬وهو الصدام بين‬
‫اإلمبراطورية الفارسية والعالم اليوناني‪ ،43‬وما يسمح به تناول هذا الموضوع من استطرادات‬
‫ومقارنات‪ ،44‬وكان هو أول من دفع بحدود بالد العرب لكي تشمل كل شبه الجزيرة العربية‪ ،‬وإن‬
‫كان قد زاد على هذه الحدود بعض المناطق التي تقع إلى خارجها‪ ،45‬وهو تصور يتأرجح بين‬

‫‪37‬‬ ‫‪Romm, Herodotus, p.13.‬‬


‫‪ 38‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪.9‬‬
‫‪39‬‬‫‪Lisa I. Hau, Moral History from Herodotus to Diodorus Siculus, Edinburgh‬‬
‫‪University Press, 2016, p. 171.‬‬
‫المقصود بالبرابرة هنا هم األجانب‪ ،‬وهم جميع الشعوب من غير اإلغريق‪ .‬راجع‪ :‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪.10‬‬ ‫‪40‬‬

‫‪ 41‬توينبي‪ ،‬الفكر التاريخي عند اإلغريق‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪ 42‬لطفي عبد الوهاب‪ ،‬رالجزيرة العربية في المصادر الكالسيكيةر‪ ،‬ص ‪ ،67‬حاشية ‪.4‬‬
‫‪43‬‬ ‫‪De Ste. Croix, Herodotus, p.134.‬‬
‫‪ 44‬لطفي عبد الوهاب‪“ ،‬الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية”‪ ،‬ص ‪.56‬‬

‫أحمد أمين سليم‪ ،‬جوانب من تاريخ وحضرارة العررب فري العصرور القديمرة‪ ،‬اإلسركندرية‪ :‬دار المعرفرة الجامعيرة‪،‬‬ ‫‪45‬‬

‫‪ ،1998‬ص ‪ .51‬وقرد عررالج أجاثارخيررديس السراحل الشررقي للبحررر األحمرر فرري كتابرره عرن البحررر اإلريثررري‪ ،‬حيررث‬
‫وصرف سرراحل الجزيررة العربيررة (ف‪ .)98-87‬ارجرع‪ :‬عررن البحررر اإلريثررري‪ /‬أجاثارخيرديس الكنيرردي‪ ،‬ترجمررة وتعليررق‬
‫الحسين أحمد عبد هللا‪ ،‬القاهرة‪ :‬عين للد ارسرات والبحروث اإلنسرانية واالجتماعيرة ‪2011‬؛ ونفرس المؤلرف‪ ،‬رالسراحل‬

‫‪-7 -‬‬
‫شبه الجزيرة وهذه المناطق الواقعة إلى خارجها (مع اختالف في امتداد هذه المناطق الخارجية)‪،‬‬
‫حتى استقر نهائياً على شبه الجزيرة‪ ،‬بما في ذلك المنطقة الصحراوية الشمالية الواقعة على‬
‫الحدود الجنوبية لمنطقة الهالل الخصيب (أي بما في ذلك بادية العراق وبادية الشام)‪ ،‬في‬
‫كتابات بطلميوس كالوديوس )‪ (Ptolemaios Klaudios‬التي قام بها في خالل النصف األول‬
‫من القرن الثاني الميالدي‪ ،46‬وهو الكاتب اليوناني المصري الذي عرفه العلماء العرب في‬
‫العصر اإلسالمي باسم بطليموس الجغرافي‪ ،47‬وربما أنه قد يشفع لهيرودوت أن المعلومات‬
‫الصحيحة لم تكن اتضحت تماماً له ولمعاصريه‪.48‬‬

‫وعالوة على موقعها الجغرافي‪ ،‬فقد تحدث كذلك عن طبيعة التربة في الجزيرة العربية‪،‬‬
‫وعن سكانها وعاداتهم وتقاليدهم‪ ،‬كما تطرق إلى جانب من حياة السكان الدينية والعسكرية‬
‫ومالبسهم وسالحهم وطرقهم في الحرب‪ ،‬وعالقاتهم الخارجية‪ ،49‬وذكر أنهم األمة الوحيدة التي لم‬
‫يدخلوا في طاعة الفرس‪ ،‬ولم يدينوا لهم بالوالء بوصفهم تابعين أو أرقاء‪ ،‬بل أصبحوا لهم‬
‫أصدقاء‪ ،50‬وقدم عرضاً لشعوب وأماكن هي على األغلب غير مألوفة للقراء في العصر‬
‫الحديث‪.51‬‬

‫الغربي للجزيرة العربية كما ورد في كتراب أجاثارخيرديس عرن البحرر اإلريثرري (د ارسرة نقديرة)ر‪ ،‬نردوة الجزيررة العربيرة‬
‫في المصادر الكالسيكية‪ ،‬الرياض‪ :‬الدارة‪2018 /2 /2 -1 /30 ،‬م‪.‬‬

‫راجع فعي هعاا المو‪:‬عولج الجزيعرة العربيععة فعي المصعادر الكالسعيكية‪ ،‬ج‪ ،11‬بطلميروس كالوديروس والجزيررة‬ ‫‪46‬‬

‫العربية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬السيد جراد‪ ،‬إشرراف وتحريرر وتعليرق د‪ .‬عبرد هللا برن عبرد الررحمن العبرد الجبرار‪ ،‬الريراض‪ :‬الردارة‬
‫‪1439‬ه‪2017 /‬م‪.‬‬

‫‪ 47‬لطفي عبد الوهاب‪ ،‬العرب في العصور القديمة‪ ،‬ص ‪.98‬‬

‫مصطفى كمال عبد العليم‪ ،‬رهرردوت يتحردث عرن العررب وبالدهرمر‪ ،‬مجلرة العصرور‪ ،‬مجلرد ‪ ،2‬ج‪ ،1‬لنردن‪ :‬دار‬ ‫‪48‬‬

‫المريخ للنشر‪ ،1987 ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪ 49‬أحم ررد فخ ررري‪ ،‬د ارس ررات ف رري ت رراريخ الش رررق الق ررديم‪ :‬مخت ررارات م ررن الوث ررائق التاريخي ررة‪ ،‬الق رراهرة‪ :‬مكتب ررة األنجل ررو‬
‫المص ررية‪ ،1999 ،‬ص ‪232‬؛ أحمررد سررليم‪ ،‬جوانررب مررن ترراريخ وحضررارة العرررب‪ ،‬ص ‪51‬؛ لطفرري عبررد الوهرراب‪،‬‬
‫“الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية”‪ ،‬ص ‪.56‬‬

‫‪ 50‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪.261‬‬


‫‪51‬‬ ‫‪Romm, Herodotus, p. 13.‬‬

‫‪-8 -‬‬
‫ورغماً من أن الجزيرة العربية لم تقع تحت سلطان الثقافة التي ترعرعت وازدهرت في‬
‫وادي النيل ووادي الرافدين‪ ،‬فإنها لم تستطع أن تتخلر من تأثيرها‪ ،‬على أن ثقافة الجزيرة في‬
‫قراراتها كانت ثقافة محلية صرفة‪ ،‬حاكت الثقافات التي نشأت على سواحل البحار‪ ،‬وأصبح سكان‬
‫الجنوب الشرقي منها أرباب تجارة؛ توسطوا في سوق التجارة بين مصر وبالد ما بين النهرين‬
‫والبنجاب – وهي مراكز ثالثة مهمة للمتاجرة في العصور القديمة – وباسمهم تسمى البحر‬
‫الفاصل بين هذه البلدان‪.52‬‬

‫وقد تطرق هيرودوت في حديثه عن بالد العرب إلى أنها ليست ببالد بعيدة عن مصر‪،‬‬
‫وذكر البحر األحمر (الذي كان منذ أقدم العصور هو الطريق الذي حمل إلى العالم القديم أول‬
‫مبادئ االتصال الفكري والتجاري‪ )53‬وقال إنه قريب من نهر النيل‪ ،‬وأن الجزيرة العربية تقع إلى‬
‫الشرق منه‪ ،‬وهذا يوضح لنا مفهوم هيرودوت واليونانيين عن حدود بالد العرب القديمة في القرن‬
‫الخامس قبل الميالد‪.54‬‬

‫ووصف البحر األحمر بأنه يبدو كخليج طويل‪ ،‬وأن المرء يمكنه أن يقطع هذا البحر‪،‬‬
‫(الذي سيتحول تدريجياً إلى مجرى مائي مهم للغاية في مجال التجارة العالمية‪ ،‬ونقل السلع‬
‫والبضائع بين سواحل الهند وبالد اليونان والرومان) بالسفينة بشكل طولي‪ ،‬من شماله إلى جنوبه‬
‫والعكس‪ ،‬في مدة حددها بأنها تعادل أربعين يوماً‪ ،‬وأن القسم األضيق من هذا البحر (وهو‬
‫مضيق باب المندب) يمكن عبوره‪ ،‬بشكل عرضي (لنقل البضائع والسلع بين جنوب غربي‬
‫الجزيرة العربية والجانب اإلفريقي المقابل له)‪ ،‬في نصف يوم فقط‪ ،‬وهو بالتأكيد سيكون قد أصاب‬
‫كبد الحقيقة إن كان يقصد عبور البحر من منطقة بوغاز باب المندب‪ ،‬التي تعد أضيق نقطة في‬
‫البحر األحمر‪ ،‬أما إذا كان هيرودوت يقصد عبور البحر من منتصفه فهو بذلك لم يجانبه‬
‫الصواب‪ ،‬ألن عرض البحر األحمر يتراوح تقريباً ما بين ‪ 275‬كم عند شبه جزيرة سيناء‪ ،‬وحوالي‬

‫‪ 52‬حسين الشيخ‪ ،‬العرب قبل اإلسالم‪ ،‬ص ‪.177‬‬

‫‪ 53‬أحمد فخري‪ ،‬دراسات في تاريخ الشرق القديم‪ ،‬ص ‪.132‬‬


‫‪54‬‬ ‫‪Holyland, R.G., Arabia and the Arabs: From the Bronze Age to the Coming of‬‬
‫‪Islam, London: Routledge, 2001, pp. 2-3.‬‬

‫‪-9 -‬‬
‫‪ 350‬كم ما بين مصوع وجيزان‪ ،‬بينما أن هذا العرض يتراوح ما بين ‪ 30‬إلى ‪ 40‬كم في منطقة‬
‫البوغاز‪.55‬‬

‫روفي بالد العرب‪ ،‬غير بعيد عن مصر‪ ،‬خليج ضيق طويل‪( ،‬البحر األحمر‪ )56‬يمتد في‬
‫البحر المعروف باسم اإلريثري (بحر العرب)‪ ،‬وأن المرء ليستطيع عبور القسم األضيق منه في‬
‫نصف يوم‪ ،‬ويستغرق أربعين يوماً إذا ركب السفينة من أقصاه ليبلغ نهايته‪ ،‬أما ما يخص‬
‫عرضه فيمكن قطعه خالل نصف يوم‪ ،‬ويتناوب هذا الخليج المد والجزر كل يومر‪.57‬‬

‫ونلحظ استخدام هيرودوت لمصطلح البحر راإلريثرير‪ ،58‬وتعني في اللغة اليونانية‬


‫الحمرة‪ ،‬واستخدمه الجغرافيون اليونانيون بشيء من عدم الدقة‪ ،‬يعني كل المسطحات المائية‬
‫(القرن ‪ 2‬ق‪.‬م)‪ ،‬رأجاثيدايمون‬ ‫‪59‬‬
‫المحيطة بالجزيرة العربية‪ ،‬ومنهم‪ :‬رأجاثارخيديس الكنيدير‬
‫السكندرير‪ ،‬رميجاسثنيسر من اسيا الصغرى (‪ 290 – 350‬ق‪.‬م)‪ ،‬رباوزانياسر (‪- 110‬‬
‫‪180‬م)‪ ،‬ربوسيدونيوس الرودسير (‪151 – 135‬م)‪ ،‬رسترابونر صاحب كتاب الجغرافيا‪،‬‬
‫‪60‬‬
‫(‪170‬ق‪.‬م ‪100 -‬م)‪ ،‬وعلى هذا فقد يستخدم هذا االسم للداللة على‬ ‫وربطلميوس كالوديوسر‬
‫البحر األحمر أو الخليج العربي أو بحر العرب‪ ،‬ولذلك فإننا نجد أن هيرودوت في بعض‬

‫‪ 55‬فهررد العتيبرري‪ ،‬هيرررودوت‪ ،‬ص ‪45‬؛ محمررد أحمررد الرويثرري وأحمررد المهنرردس‪ ،‬رالبحررر األحمررر وشررعبه المرجانيررةر‪،‬‬
‫الرياض‪ :‬الدارة‪ ،‬العدد ‪ ،1984 ،4‬ص ‪.215-201‬‬

‫عن تاريخ البحر األحمر وأهميته والصراع القديم حوله‪ ،‬راجع‪ :‬بهية فهد الشريف‪ ،‬رالبحر األحمر خالل القررنين‬ ‫‪56‬‬

‫األول والث رراني الميالدي ررين‪ :‬د ارس ررة تاريخير رة حض ررارية"‪ ،‬رس ررالة ماجس ررتير غي ررر منش ررورة‪ ،‬كلي ررة الشر رريعة والد ارس ررات‬
‫اإلسرالمية ‪ -‬جامعرة أم القررى‪1438 ،‬ه ر ‪2017 /‬م؛ ‪Roger Joint Daguenet, Historie de la mer‬‬
‫‪Rouge de Lesseps à nos jours, Paris: L' Harmattan, 1997.‬‬
‫‪ 57‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪137‬؛ ‪Histories, II: 11.‬‬

‫ثاالسا ‪ Erythra Thalassa‬ومعناها الحديث هو البحر األحمر والمحيط الهندي‪ .‬ارجرع‪ :‬إبرراهيم‬
‫‪ 58‬إريثرا‪ /‬إروث ار َّ‬
‫السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.115‬‬

‫راج ع فععي هععاا المو‪:‬ععولج الجزيععرة العربيععة فععي المصععادر الكالسععيكية‪ ،‬ج‪ ،4‬أجاثارخيررديس الكنيرردي والجزيررة‬ ‫‪59‬‬

‫العربية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬الحسين عبد هللا‪ ،‬تعليق د‪ .‬عبد المعطي بن محمد سمسم‪ ،‬إشراف وتحريرر د‪ .‬عبرد هللا برن عبرد‬
‫الرحمن العبد الجبار‪ ،‬الرياض‪ :‬الدارة ‪1439‬ه‪2017 /‬م‪.‬‬

‫‪ 60‬راج في هاا المو‪:‬ولج بطلميوس كالوديوس والجزيرة العربية‪ ،‬ترجمة د‪ .‬السيد جاد‪.‬‬

‫‪-10 -‬‬
‫األحايين قد سمى البحر األحمر بالخليج العربي )‪ ، (Arabios Kolpos‬وكذا الخليج العربي‬
‫بالبحر اإلريثري‪.61‬‬

‫وفي حوالي األلف األول قبل الميالد ظهرت دول مختلفة في الجزء الجنوبي الغربي من‬
‫الجزيرة العربية‪ ،‬أهمها دول معين وسبأ وقتبان وحضرموت‪ ،62‬وهنا برزت مكانة تجار الجزيرة‬
‫العربية ودورهم في الوساطة في عملية التبادل التجاري‪ ،‬حيث كانوا إما تجا اًر أو ناقلين‬
‫‪64‬‬
‫وسورية والعراق‪ ،‬وكذا اليونان والرومان‪ ،‬حيث ظهرت‬ ‫للبضائع‪ ،63‬لحساب ممالك‪ ،‬مثل مصر‬
‫أقدم الحضارات‪ ،‬التي كانت النظم الملكية التي نشأت فيها تعتمد في تصوير أبهة الملك على ما‬
‫يطلق عليه رسلع الرفاهية والترفر‪ ،‬التي كانت تشمل الذهب المعدن النفيس‪ ،65‬واألحجار الكريمة‬
‫ونصف الكريمة‪ ،‬والعاج وخشب األبنوس الفاخر‪ ،‬وريش النعام وبيضه‪ ،‬وجلود الحيوانات الثمينة‬
‫كالفهود والنمور والثعابين‪ ،‬وأتراس السالحف‪ ،66‬وأيضاً األخشاب العطرية‪ ،‬والتي كانوا يأتون بها‬
‫من المناطق الموسمية االستوائية في القارة اإلفريقية‪ ،67‬وإن كان هناك من يؤكد على أنها ليست‬
‫تجارة سلع رفاهية‪ ،‬ويراها تجارة ضرورية لمجتمعات الشرق األدنى‪ ،‬بما في ذلك اإلغريق‬

‫‪ 61‬فهد العتيبي‪ ،‬هيرودوت‪ ،‬ص ‪47‬؛‪Histories, VII: 9.‬‬

‫‪ 62‬سبتينو موسكاتي‪ :‬الحضارات السامية القديمة‪ ،‬ص ‪.192‬‬

‫‪ 63‬محمرد السريد غرالب‪ ،‬رالتجرارة فري عصرر مرا قبرل اإلسرالمر‪ ،‬د ارسرات فري تراريخ الجزيررة العربيرة‪ ،‬الكتراب الثراني‪،‬‬
‫الجزيرة العربية قبل اإلسالم‪ ،‬الرياض ‪1984‬م‪ ،‬ص ‪.195‬‬

‫ارجررع فرري هررذا الموضرروع‪ :‬محم ررد السرريد عب ررد الغنرري‪ ،‬شرربه الجزير ررة العربيررة ومصررر والتج ررارة الش رررقية القديمررة‪،‬‬ ‫‪64‬‬

‫اإلسكندرية‪ :‬المكتب الجامعي الحديث‪.1999 ،‬‬

‫‪ 65‬بلقاسم رحماني وحرفروش مردني‪ ،‬الردور المصرري فري جنروب شربه الجزيررة العربيرة والشررق اإلفريقري‪ ،‬مراجعرة د‪.‬‬
‫سيد أحمد الناصري‪ ،‬القاهرة‪ :‬مكتبة زهراء الشرق‪ ،1997 ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪ 66‬فرانسواز ديمانج‪ ،‬رقوافل البخورر‪ ،‬طرق التجارة القديمة‪ ،‬روائرع اثرار المملكرة العربيرة السرعودية‪ ،‬براريس‪ :‬متحرف‬
‫اللوفر‪ ،‬إدارة اإلنتاج الثقافي‪ ،2010 ،‬ص ‪.125‬‬

‫عبررد المررنعم عبررد الحلرريم‪ :‬اآلثررار الباقيررة فرري الجزيررة العربيررة مررن عصررور مررا قبررل اإلسررالم‪ ،‬اإلسرركندرية‪ :‬كرري ترري‬ ‫‪67‬‬

‫سي‪ ،2001 ،‬ص ‪.8‬‬

‫‪-11 -‬‬
‫والرومان‪ ،‬باعتبار معظم هذه السلع تتعلق بحياة معظم السكان‪ ،‬الرتباطها بعضها بطقوس‬
‫العبادة والدفن والعالج منذ األلف األول قبل الميالد‪.68‬‬

‫ومن البديهي أن موقع الجزيرة العربية إنما ساعد كثي اًر على أن يحتل أهلها مكانة ممتازة‬
‫في عالم التجارة‪ ،‬حتى أن حياتهم االقتصادية كانت وقتذاك تقوم على التجارة الدولية‪.69‬‬

‫يهاجرون إلى الساحل اإلفريقي‪ ،71‬حيث‬ ‫‪70‬‬


‫وهكذا كان سكان جنوب غربي الجزيرة العربية‬
‫يؤسسون مراكز تجارية ساحلية لجلب هذه السلع من منطقة الظهير (المناطق الممتدة وراء‬
‫الساحل‪ ،‬كإريتريا وإثيوبيا والصومال)‪ ،72‬وأتاحت لهم هذه القواعد التجارية احتكار التجارة التي‬

‫محمد بيومي مهران‪ ،‬ردراسة حول العررب وعالقراتهم الدوليرة فري العصرور القديمرةر‪ ،‬مجلرة اللغرة العربيرة والعلروم‬ ‫‪68‬‬

‫االجتماعية‪ ،‬العدد‪ ،6‬الرياض‪ :‬جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية ‪ ،1976‬ص ‪327 – 326‬؛ عبرد هللا برن‬
‫عبرد الرررحمن العبررد الجبررار‪ ،‬رنظررة الكترراب الكالسرريكيين لتجرارة الجزيررة العربيررةر‪ ،‬الجزيررة العربيررة واليونرران وبيزنطررة‪،‬‬
‫التواصررل الحضرراري عبررر العصررور القديمررة والوسرريطة‪ ،‬النرردوة العالميررة لعالقررات الجزيررة العربيررة بالعررالمين اليونرراني‬
‫والبيزنطرري (القرررن الخررامس قبررل المرريالد إلررى القرررن العاشررر المرريالدي)‪ 6-10 ،‬ديسررمبر ‪ ،2010‬الريرراض‪ :‬جامعررة‬
‫الملك سعود‪ ،‬ص ‪.121‬‬

‫‪ 69‬سبتينو موسكاتي‪ :‬الحضارات السامية القديمة‪ ،‬ص ‪.197‬‬

‫برز في هذه الناحية دور كل من مملكتي سربأ وأوسران علرى وجره التحديرد‪ ،‬حيرث كانرت أوسران تشرمل المنراطق‬ ‫‪70‬‬

‫الساحلية الممتدة مرن بوغراز براب المنردب حترى أحرور الحاليرة‪ ،‬ويردخل فري نطاقهرا مينراء عردن‪ ،‬الرذي يعرد المردخل‬
‫الرئيسري للسرلع الرواردة مرن مسرتعمراتها التجاريررة علرى سراحل إفريقيرا الشررقي الررذي سرمي فري كتراب البربلروس باسررم‬
‫السرراحل األوسرراني‪ ،‬قبررل أن يسررتولي كرررب إيررل وتررار علررى أوسرران ويصرربح سرراحل إفريقيررا الشرررقي الررذي كرران تابع راً‬
‫ألوسران ضررمن أمرالك سرربأ‪ .‬ارجرع‪ :‬إبرراهيم محمرد بيررومي مهرران‪ ،‬فري ترراريخ مصرر والشرررق األدنرى القررديم‪ ،‬القرراهرة‪،‬‬
‫‪ ،2009‬ص ‪.332-331‬‬

‫للمزيررد عررن العالقررات بررين شرربه الجزيررة العربيررة والحبشررة‪ ،‬ارجررع‪ :‬عبررد المعطرري بررن محمررد عبررد المعطرري سمسررم‪،‬‬ ‫‪71‬‬

‫العالقررات بررين شرربه الجزيررة العربيررة والحبشررة منررذ أقرردم العصررور وحتررى نهايررة العهررد الحبشرري برراليمن‪ ،‬ط‪ ،1‬القرراهرة‪:‬‬
‫إيتراك للطباعة والنشر والتوزيع‪.2008 ،‬‬

‫عررن المروارد النباتيررة والحيوانيررة والمائيررة فرري إفريقيررا منررذ عصررور مررا قبررل الترراريخ‪ ،‬ارجررع‪ :‬مجموعررة مررن العلمرراء‪،‬‬ ‫‪72‬‬

‫ت رراريخ إفريقي ررا الع ررام‪ ،‬مجل ررد ‪ ،1‬المنهجي ررة وعصررر م ررا قب ررل الت رراريخ ف رري إفريقيررا‪ ،‬ب رراريس‪ :‬ج ررون أفري ررك‪ /‬اليونس رركو‪،‬‬
‫‪ ،1983‬ص ‪.359-348‬‬

‫‪-12 -‬‬
‫تصدرها تلك المناطق إلى الشمال‪ ،73‬ولتدعيم هذه الصالت أخذوا يرتبطون بصالت المصاهرة‬
‫مع زعماء قبائل السكان الوطنيين بالزواج من بناتهن‪.74‬‬

‫وقد أشار هيرودوت في موضع اخر إلى إثيوبيا‪ ،75‬على أنها بلد بعيد‪ ،‬وأورد بعضاً من‬
‫السلع التي كان تجار العرب يسافرون من أجل أن يستوردنها منها‪ ،‬من لكي يتاجروا فيها مع‬
‫ممالك ودول شمال الجزيرة العربية‪ ،‬وعلى رأسها الذهب‪ ،‬واألشجار البرية وخشب األبنوس‪،‬‬
‫والفيلة التي يستخدمون سنها‪ ،‬أي العاج‪.‬‬

‫"أما أبعد البلدان المأهولة من جهة الجنوب الغربي فهي إثيوبيا‪ ،‬التي يتوفر فيها‬
‫الذهب بكميات عظيمة‪ ،‬وبها الفيلة الضخمة‪ ،‬وخشب األبنوس‪ ،‬ومختلف أنواع األشجار البرية‪،‬‬
‫والرجال هناك يتصفون بأنهم أطول رجال العالم قامة وأشدهم وسامة وأطولهم عم اًر"‪.76‬‬

‫وكما كان تجار الجزيرة العربية يقومون بدور بارز في التجارة الدولية وقتذاك‪ ،‬عن طريق‬
‫‪77‬‬
‫وأسواق شبه القارة الهندية‪ ،‬ومن ثم‬ ‫الوساطة في شراء سلع ومنتجات من أسواق إفريقيا الشرقية‬
‫ينقلونها إلى ممالك ودول شمال بالد العرب‪ ،‬فإنهم كذلك تميزوا بإنتاج زراعي تحول إلى منتجات‬

‫‪ 73‬موسكاتي‪ :‬الحضارات السامية‪ ،‬ص ‪.197‬‬

‫عبررد المررنعم عبررد الحلرريم‪ :‬د ارسررات فرري ترراريخ وحضررارة واثررار إفريقيررة الشرررقية فرري العصررور القديمررة‪ ،‬اإلسرركندرية‬ ‫‪74‬‬

‫‪ ،2006‬ص ‪.124‬‬

‫‪ 75‬يذهب أغلب المؤرخين إلى أن اسم إثيوبيا استعمله اإلغريق والرومان‪ ،‬وقصدوا به المنطقة الواقعة جنوب شرق‬
‫مصررر‪ ،‬وأن كلمررة إثيوبيررا تعنرري فرري اإلغريقيررة أص رالً رأصررحاب الوجرروه المحترقررةر‪ ،‬أو رأصررحاب العيررون المحترقررة‬
‫الالمعةر‪ ،‬وقد ذكر هوميروس الكلمة مرتين في اإللياذة‪ ،‬وثالث مرات فري األوديسرة‪ ،‬كربالد بعيردة‪ .‬ارجرع‪ :‬رحمراني‬
‫ومدني‪ ،‬الدور المصري في جنوب شبه الجزيرة والشرق اإلفريقي‪ ،‬ص ‪.10‬‬

‫‪ 76‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪.270‬‬

‫‪ 77‬روى الكتاب الكالسيكيون ما يفيد أن العرب القدماء كرانوا يسريطرون علرى منراطق علرى سراحل إفريقيرا الشررقي‪،‬‬
‫ومن بينها مناطق تنتج البخور‪ ،‬وهذه المنطقة تقع شمال الصومال الحالية‪ ،‬والتي مرا ترزال حترى اليروم تنرتج نروعين‬
‫من البخور أو الكندر تسمى علمياً )‪ (Boswellia Frereana: B. Carteri and B. Sacra‬راجع‪ :‬عبد المرنعم‬
‫عبررد الحلرريم‪ :‬رالنشرراط التجرراري للعررربر‪ ،‬ص ‪27‬؛ ‪F. Nigel Hepper, Arabian and African‬‬
‫‪Frankincense Trees”, JEA, vol. 55, p. 69.‬‬

‫‪-13 -‬‬
‫وسلع‪ ،‬كالبخور وغيرها‪ ،78‬وتعتبر من الصناعات الخفيفة‪ ،79‬حققت تمي اًز ونالت إعجاب تلك‬
‫اء ملحوظاً‪ ،‬وهذا اإلنتاج لم يكن ليتيسر‬
‫الممالك والدول‪ ،‬وازداد الطلب عليها‪ ،‬مما حقق للعرب ثر ً‬
‫إال حيث تتوفر المياه‪ ،‬األمر الذي لم يحدث إال في أقاليم قليلة من شبه الجزيرة العربية‪ ،80‬حيث‬
‫أن أغلب أرض بالد العرب هي أرض صحراوية موات‪.81‬‬

‫وكانت الجزيرة العربية تحتل في العالم القديم مكانة خاصة في مجال إنتاج المواد‬
‫العطرية من بخور وطيوب وأفاويه ؟؟؟؟‪ ،‬وكانت من جهة أخرى تصدر ما يرد إليها من إنتاج‬
‫غيرها من البالد مثل الهند‪.82‬‬

‫وذكر هيرودوت أن بالد العرب بعيدة‪ ،‬تقع في نهاية العالم المأهول‪َّ ،‬‬
‫وعدد أهم المنتجات‬
‫المعروفة التي ميزت هذه البالد‪ ،‬التي كان لها الدور الرئيسي المباشر في رفع اقتصادها وازدياد‬
‫أهميتها ومكانتها بين بلدان العالم القديم‪ ،‬كانت سبباً مباش اًر من أسباب اهتمام العالم بهذه البقعة‬
‫من األرض‪.‬‬

‫"وبالد العرب تقع في نهاية العالم المأهول بالسكان من جهة الجنوب‪ ،‬وهي المكان‬
‫الذي يسمى الالدن"‪.84‬‬ ‫‪83‬‬
‫الوحيد الذي ينتج اللبان (البخور) والمر والسنا والقرفة والصمغ‬

‫‪ 78‬جرجي زيدان‪ ،‬العرب قبل اإلسالم‪ ،‬ص ‪.187‬‬

‫ديزيره سقال‪ ،‬العرب في العصر الجاهلي‪ ،‬بيروت‪ :‬دار الصداقة العربية‪ ،1995 ،‬ص ‪.48‬‬ ‫‪79‬‬

‫إبراهيم محمد بيومي مهران‪ ،‬رالزراعة في جنوب غربري الجزيررة العربيرة قبرل اإلسرالمر‪ ،‬د ارسرات فري اثرار الروطن‬ ‫‪80‬‬

‫العربي‪ ،‬كتاب المؤتمر السرادس عشرر لالتحراد العرام للثراريين العررب‪ ،‬النردوة العلميرة الخامسرة عشررة‪ ،‬شررم الشريخ‬
‫‪ 18-15‬نوفمبر ‪2013‬م‪ ،‬ص ‪.1‬‬
‫‪81‬‬‫‪M. Reza-Ur-Rahim, "Agriculture in Pre-Islamic Arabia: Introduction", Islamic‬‬
‫‪Research Institute, International Islamic University, Islamabad Stable, Islamic‬‬
‫‪Studies, Vol. 10, No. 1 March 1971, p. 53.‬‬
‫مص ررطفى كم ررال عب ررد العل رريم‪ ،‬رتج ررارة الجزير ررة العربي ررة م ررع مص ررر ف رري المر رواد العطري ررة ف رري العصر ررين اليون رراني‬ ‫‪82‬‬

‫والرومررانير‪ ،‬د ارسررات ترراريخ الجزي ررة العربيررة‪ ،‬ك‪ ،2‬مصررادر ترراريخ الجزي ررة العربيررة قبررل اإلسررالم‪ ،‬جامعررة الريرراض‬
‫‪1414‬ه‪1984 /‬م‪ ،‬ص ‪.201‬‬
‫‪ 83‬هناك من يعترض علع وعوه هيعرودوأ بعلن النباتعاأ العاريعة اللمسعة المعاكورة هنعا تعلتي معن بعالد الععرب‬
‫وحدها‪ ،‬زاعما ً أن بع‪:‬ا ً منها كان يجلب من أماكن ألرى‪ ،‬مثه إثيوبيا وسورية والهند‪Asheri, D. et al, A .‬‬
‫‪Commentary on Herodotus, Book III, Oxford University Press, 2007, p. 501.‬‬

‫‪-14 -‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فقد قصر هيرودوت بشكل صريح إنتاج اللبان (البخور) والمر والسنا والقرفة‬
‫والصمغ الذي يسمى الالدن على الجزيرة العربية تحديداً‪ ،‬دون غيرها من سائر بلدان العالم‬
‫ومناطقه‪ ،85‬وهو ما يتماشى مع ما وصلنا من مصادر التاريخ القديم التي أيدت قيام العرب‬
‫بذلك‪ ،‬بل واعتمادهم على هذه السلع في التجارة مع الممالك والدول الواقعة إلى الشمال منهم‪،‬‬
‫والتي ورد ذكرها في القران الكريم‪.86‬‬

‫‪87‬‬
‫بإنتاج العرب‬ ‫وذكر هيرودوت في موضع سابق من كالمه أن أهل العلم قد أبلغوه‬
‫للبان والبخور‪ ،‬وأن ذلك األمر كان هو أهم ما يميزهم‪:‬‬

‫"وتنتج في أطرافها الشرقية البعيدة اللبان والبخور‪ ،‬تلكم هي المعالم البارزة في تلك‬
‫البقعة"‪.88‬‬

‫ورالبخورر )‪ )Frankincense‬هو عبارة عن مواد صمغية وبالسم طيبة الرائحة‪ ،‬ويتم‬


‫إضافة عود الصندل إليها في بعض األحيان‪ ،‬وكذا غيره من المواد األخرى‪ ،‬من أجل أن يكتسب‬
‫البخور روائح عطرية‪ ،‬وهو يصنع في شكل مسحوق أو أعواد‪.89‬‬

‫ولطالما اشتهر البخور والمر في الجزيرة العربية منذ القدم‪ ،90‬يقول هيرودوت‪" :‬إن شذا‬
‫البخور والطيب والعطور يفوح من بالد العرب"‪ ،91‬وكان للبان استخداماته المتعددة في العصور‬

‫‪ 84‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪Histories, III: 107..268‬‬

‫مجموعة من المؤلفين‪ ،‬اليمن‪ :‬في بالد مملكة سبأ‪ ،‬ترجمة بدر الدين عرودكي‪ ،‬مراجعة يوسف محمد عبد هللا‪،‬‬ ‫‪85‬‬

‫صنعاء‪ :‬معهد العالم العربي والهيئة العامة للثار والمتاحف والمخطوطات اليمنية‪ ،1999 ،‬ص ‪.70‬‬

‫‪ 86‬سورة قريش‪ :‬اآليات ‪.2-1‬‬

‫وهرري إشررارة ص رريحة منرره توضررح اعتمرراده فرري مواضررع كثي ررة مررن كالمرره علررى روايررات مسررموعة‪ ،‬فكرران يأخررذ‬ ‫‪87‬‬

‫بالرواي ررات الش ررفهية بوص ررفها مص ررد اًر م ررن مص ررادر كتاب ررة الت رراريخ‪ ،‬فح رررص عل ررى االلتق رراء بك ررل م ررن لدي رره أخب ررار‬
‫ومعلومررات عررن األحررداث‪ ،‬يحرراول توظيفهررا لخدمررة السررياق المتصررل لألحررداث التاريخيررة‪ ،‬ولشرررح مررا ال يعرفرره مررن‬
‫أمور‪ .‬راجع بتصرف‪ :‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.30‬‬

‫‪ 88‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪.136‬‬

‫مجموعررة مررن المررؤلفين‪ ،‬رالبخررورر‪ ،‬الموسرروعة العربيررة العالميررة‪ ،‬مجلررد ‪ ،4‬الريرراض‪ :‬مؤسسررة أعمررال الموسرروعة‬ ‫‪89‬‬

‫للنشر والتوزيع‪ ،1994 ،‬ص ‪.236‬‬

‫‪-15 -‬‬
‫القديمة‪ ،‬وتجمع بين استعماله في الطقوس التعبدية‪ ،‬والتحنيط‪ ،‬أو استعماله عط اًر‪ ،92‬وترجع‬
‫‪93‬‬
‫أهميته وقتذاك إلى كونه ُيشكل مادة أساسية ال غنى عنها‪ ،‬حيث يحرق في طقوس المعابد‬
‫‪95‬‬
‫عند‬ ‫والمقابر‪ ،‬وأيضاً في المناسبات واالحتفاالت الدنيوية‪ ،94‬وأيضاً على صعيد الحياة اليومية‬
‫‪96‬‬
‫والرومان‪ ،‬حيث كان القدماء‬ ‫الشعوب القديمة في مصر والعراق وسورية‪ ،‬وكذا في بالد اليونان‬
‫يعتقدون أن أي طقس ديني ُيجرى لللهة في المعابد أو للموتى في المقابر ال تكون له فاعلية‬
‫بدون حرق البخور‪ ،97‬كما استخدم اللبان األصلي غير المقطع في عمليات التحنيط وفي بعض‬
‫ألوان الممارسات السحرية‪ ،98‬وكذا استخدم مع المر في إعداد وصفات طبية متعددة األغراض‪.99‬‬

‫وراللبانر )‪ ،(Libanotos‬ويعرف في اللغة العربية باسم رالكندرر‪ ،‬وفي العامية راللبان‬


‫الدكرر‪ ،‬وهو عصارة شجرة تنمو على األماكن المرتفعة‪ ،‬ويسمى إنتاجها )‪،(Boswellia Sacra‬‬
‫وهي تشبه شجرة الصمغ في طبيعتها‪ ،‬حيث أنها مادة راتنجية صمغية لها رائحة عطرة‪ ،‬توجد‬
‫على هيئة قطرات إف ارزية كبيرة ذات لون أسمر فاتح عادة‪ ،‬وقد يميل إلى اللون األصفر أحياناً‪،‬‬
‫ولكن ألوانه األكثر صفاء عديمة اللون تقريباً‪ ،‬أو ذات لون أخضر‪ ،‬وهو شبه شفاف تقريباً عندما‬

‫جاك ريسلر‪ ،‬الحضارة العربية‪ ،‬تعريب د‪ .‬خليل أحمد خليل‪ ،‬بيروت‪ :‬منشورات عويدات‪ ،1993 ،‬ص ‪.122‬‬ ‫‪90‬‬

‫‪ 91‬محمد غالب‪ ،‬التجارة في عصر ما قبل اإلسالم‪ ،‬ص ‪189‬؛ تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪270‬؛ ‪Histories, III:‬‬
‫‪13‬‬
‫‪92‬‬ ‫‪Asheri, et al, A Commentary on Herodotus, III, p. 501.‬‬
‫‪Brian Doe, Southern Arabia (New Aspects Archaeology), New York: Thames & 93‬‬
‫‪Hudson Ltd, 1971, p. 49.‬‬
‫‪ 94‬والتر موللر‪ ،‬راللبانر‪ ،‬ص ‪.2481‬‬

‫‪ 95‬محمر ررد بير ررومي مهر ر رران‪ ،‬حضر ررارات الش ر رررق األدنر ررى الق ر ررديم‪ ،‬ج‪ ،1‬الحير رراة السياس ر ررية واالقتص ر ررادية والتشر ر رريعية‪،‬‬
‫اإلسكندرية‪ :‬دار المعرفة الجامعية‪ ،1999 ،‬ص ‪.230‬‬

‫أحرقه اليونان على سربيل المثرال للمعبرود زيروس‪ .‬ارجرع‪ :‬محمرد عبرد القرادر برامطرف‪ :‬لمحرات مرن تراريخ جزيررة‬ ‫‪96‬‬

‫سقطرى‪ ،‬صنعاء‪ :‬عبادي للدراسات والنشر‪ ،2001 ،‬ص ‪.33‬‬

‫‪ 97‬إبراهيم مهران‪ ،‬مصر والشرق األدنى القديم‪ ،‬ص ‪.279‬‬


‫‪98‬‬‫‪Walter W. Müller, Arabian Frankincense in Antiquity According to Classical‬‬
‫‪Sources, University of Riyadh Press, 1957, p. 81.‬‬
‫‪99‬‬‫‪Nigel Groom, Frankincense and Myrrh: A Study of the Arabian Incense Trade,‬‬
‫‪London: Longman, 1981, p. 20.‬‬

‫‪-16 -‬‬
‫يكون حديثاً‪ ،‬إال أنه بعد نقله يكسى بترابه الناعم‪ ،‬الذي ينشأ عن احتكاك قطعه بعضها ببعض‪،‬‬
‫فيصبح بعد ذلك شبه معتم‪.100‬‬

‫ويجمع اللبان بنفس الطريقة التي ُيجمع بها الصمغ‪ ،‬وذلك بعمل شق في جزع الشجرة‪،‬‬
‫ُ‬
‫ثم ربط إناء أسفل الشق‪ ،‬ويترك لمدة ‪ 15‬يوماً تقريباً‪ ،‬فتسيل عصارة اللبان وهي شديدة اللزوجة‪،‬‬
‫وتتجمع في اإلناء على هيئة حبات‪ ،101‬وكانت أجود أنواع الكندر تجلب من المناطق الواقعة‬
‫على جانبي خليج عدن‪ ،‬في شمال شرق الصومال‪ ،‬وفي شرق حضرموت‪ ،‬حيث تنمو‬
‫أشجاره‪.102‬‬

‫‪104‬‬ ‫‪103‬‬
‫ُيعتبر من أجود أنواع البخور في نظر‬ ‫ورظفارر‬ ‫وكان لبان أو بخور رحضرموتر‬
‫القدماء‪ ،‬وكميته المحلية ليست بالقليلة‪ ،‬وهو ال يقل جودة عن المستورد من الهند وإفريقيا‪ ،105‬وقد‬

‫‪ 100‬والتررر مرروللر‪ ،‬راللبررانر‪ ،‬الموسرروعة اليمنيررة‪ ،‬مررج‪ ،4‬صررنعاء‪ :‬مؤسسررة العفيررف الثقافيررة‪ ،2003 ،‬ص ‪– 2481‬‬
‫‪.2482‬‬

‫عبد المنعم عبد الحليم‪ ،‬اآلثار الباقية في الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.11-10‬‬ ‫‪101‬‬

‫عبد المنعم عبد الحليم‪ ،‬رالبخور عصب تجارة البحر األحمر في العصور القديمةر‪ ،‬مجلة كلية اآلداب والعلوم‬ ‫‪102‬‬

‫اإلنسانية ‪ -‬جامعة الملك عبد العزيز‪ ،‬مجلد ‪ ،2‬جدة‪1402 :‬ه‪1982 /‬م‪ ،‬ص ‪.141‬‬

‫‪ 103‬ورد ذكرهررا فرري نقرروش المسررند باسررم حضرررموت‪ ،‬وأطلررق عليهررا ربلينررير )‪ (Plinius‬اسررم رأرض اللبررانر‪ ،‬وذكررر‬
‫راسرترابونر )‪ (Strabo‬أنهررا تنررتج المررر‪ .‬ارجرع‪ :‬عبررد هللا حسررن الشرريبة‪ ،‬ترجمرات يمانيررة‪ ،‬صررنعاء‪ :‬منشررورات الكترراب‬
‫الجامعي‪ ،2008 ،‬ص ‪ .65 ،37‬ويقع في نطراق حضررموت مينراء رقنرأر حيرث كران يرتم تجميرع البخرور مرن كافرة‬
‫أرجاء حضرموت‪ ،‬ومنه ينقرل بالقوافرل عبرر الطررق التجاريرة البريرة‪ .‬ارجرع‪ :‬عبرد المرنعم عبرد الحلريم‪ ،‬تراريخ الجزيررة‬
‫العربية‪ ،‬ص ‪ .55‬ويصف كتاب رالطواف حول البحر اإلريثرير سواحل حضرموت الجنوبيرة بأنهرا منراطق موبروءة‬
‫يتجنبها الناس‪ ،‬ومن ثم فال يجمع التوابل فيها سوى أولئك الذين كتب علريهم القصراص فري جريمرة مرا‪ ،‬وربمرا كران‬
‫لررذلك صررلة بررالمعنى العبررري للكلمررة وهررو ردار المرروتر‪ ،‬الررذي ترجمرره اإلخبرراريون رحاضررر مرروتر‪ .‬ارجررع‪ :‬إب رراهيم‬
‫مهران‪ ،‬مصر والشرق األدنى القديم‪ ،‬ص ‪.323‬‬

‫‪ 104‬مدينرة علرى سراحل بحررر العررب‪ ،‬حاليراً فرري غربري سرلطنة عمرران‪ ( ،‬ارجرع خريطرة رقررم ‪ ،)2‬كانرت تابعرة لمملكررة‬
‫حضرررموت القديمررة‪ ،‬وعرفررت عنررد الكترراب الكالسرريكيين باسررم رأرض اللبررانر‪ ،‬وسرراعدت الشررروط المناخيررة المناسرربة‬
‫وسررقوط األمطررار الموسررمية علررى انتشررار أشررجار اللبرران والمررر ونموهمررا طبيعيراً‪ ،‬ممررا أدى إلررى وجررود أفضررل أن رواع‬
‫اللبان هناك‪ .‬راجع‪ :‬جواد علي‪ :‬المفصل في تراريخ العررب ‪ .275-274 /7‬وتوجرد جبرال مرتفعرة فري هرذا المكران‬
‫تعرف بجبال القمر‪ ،‬راجع‪ :‬الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية‪ ،‬ج‪ ،9‬الطواف حول البحر اإلريثري والجزيرة‬

‫‪-17 -‬‬
‫كان له دور كبير في تاريخ العرب القديم‪ ،‬فكان أقدم السلع التي قامت عليها تجارة العرب القدماء‬
‫عبر الجزيرة العربية‪ ،‬إذ كانت السيطرة على تجارته وعلى الطرق التي تسير خاللها هذه التجارة‬
‫هي المحور األساسي في سياسة ونشاط تلك الدول‪ ،106‬لما كان ُيدره البخور من ثروات طائلة‪،‬‬
‫وكان يمثل وحده حوالي ‪ ٪60‬تقريباً من إجمالي الصادرات العربية وقتذاك‪.107‬‬

‫وأما عن رالمرر )‪ (Myrrha‬الذي ذكره هيرودوت‪ ،‬فهو عبارة عن راتنج صمغي زيتي‬
‫غامق اللون‪ ،‬يجنى من أشجار شوكية‪ ،108‬توجد في جنوب الجزيرة العربية‪ ،‬ويستخرج من أنواع‬
‫مختلفة من األشجار المعروفة باسم ركوميفورار )‪ ،(Commifora‬وربلسمودندرونر‬
‫)‪ ،(Balsamodendron‬ويوجد على شكل كتل حمراء تميل إلى اللون األصفر‪ ،‬متكونة من‬
‫قطرات متجمعة‪ ،‬وكثي اًر ما يكون مكتسياً بالتراب‪ ،‬فال يتضح لونه‪.109‬‬

‫وال يزيد طول شجرة المر عن ستة أقدام‪ ،‬ولها فروع ذات أوراق صغيرة بيضاوية الشكل‪،‬‬
‫تسقط في فصل الخريف‪ ،‬وال تنمو إال في مناخ حار ورطب‪ ،110‬ويعد المر من أهم المنتجات‬
‫الزراعية التي تاجر بها العرب مع العالم القديم‪ ،‬وكان يشكل حوالي ‪ ٪30‬من إجمالي‬
‫الصادرات‪.111‬‬

‫العربيررة‪ ،‬ترجمررة د‪ .‬السرريد جرراد‪ ،‬تعليررق د‪ .‬حمررد بررن ص رراي‪ ،‬إش رراف وتحريررر د‪ .‬عبررد هللا بررن عبررد الرررحمن العبررد‬
‫الجبار‪ ،‬الرياض‪ :‬الدارة ‪1439‬ه‪2017 /‬م‪ ،‬ص ‪ ،68-67‬حاشية ‪.3‬‬

‫‪ 105‬محمد بيومي مهران‪ ،‬حضارات الشرق األدنى ‪.230 /1‬‬

‫عبد المنعم عبد الحليم‪ ،‬تاريخ الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪106‬‬

‫‪107‬‬ ‫عبرد هللا العبرد الجبرار‪ ،‬رنظررة الكتراب الكالسريكيين ;‪Groom, Frankincense and Myrrh, p. 159‬‬
‫لتجارة الجزيرة العربيةر‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪Groom, Frankincense and Myrrh, p. 70. 108‬‬
‫‪ 109‬محمررد عبررد الحكرريم‪ ،‬رتجررارة اللبرران والمررر فرري الرريمن القررديمر‪ ،‬صررنعاء‪ :‬مجلررة جامعررة صررنعاء للعلرروم االجتماعيررة‬
‫واإلنسانية‪ ،‬ع ‪ ،2008 ،4‬ص ‪.126 – 125‬‬

‫جواد مطر الحمد‪ ،‬األحوال االجتماعية واالقتصادية في اليمن القديمرة‪ ،‬الشرارقة‪ :‬دار الثقافرة العربيرة‪،2002 ،‬‬ ‫‪110‬‬

‫ص ‪.333‬‬
‫‪Groom, Frankincense and Myrrh, p. 161. 111‬‬

‫‪-18 -‬‬
‫وقد كان للمر أهمية كبيرة في مصر على وجه خاص‪ ،‬ألنهم كانوا يستخدمونه في‬
‫‪112‬‬
‫التي‬ ‫األغراض الدينية في المعابد‪ ،‬فضالً عن أنه عنصر أساسي في عمليات تحنيط الموتى‬
‫كانت شائعة في المجتمع‪ ،‬وفقاً للديانة المصرية القديمة وطقوسها‪ ،‬وقد ورد اسمه مرات عديدة في‬
‫نقوش المسند‪ ،‬ومنها ما يذكر أنه كان مخصصاً لمعابد اآللهة المصرية‪ ،113‬وكان كذلك يدخل‬
‫في صناعة العطور‪ ،114‬وهناك في التوراة ما يشير إلى أن العبرانيين استعملوا المر في الدهن‬
‫المقدس‪ ،115‬فضالً عن عالج بعض األمراض‪ ،116‬حيث استخدم في صورة كمادات ومراهم‪،‬‬
‫لتخفيف االلتهابات ومداواة الجروح‪.117‬‬

‫وفي بالد ما بين النهرين استعملوا المر ككمادات آلالم الرأس‪ ،‬وفي معالجة تورم‬
‫األصابع وأمراض العين واألنف واألذن والشرج‪ ،‬ويخلط بالشب كغسول للفم‪ ،‬كما وصف لعسر‬
‫البول‪ ،‬ويدخل في تركيب عدد من األدوية‪.118‬‬

‫‪119‬‬
‫)‪(Kassia‬‬ ‫وعن نبات رالسنار الذي ذكره هيرودوت‪ ،‬فهو يعرف أيضاً باسم رالكاسيار‬
‫وهو عبارة عن نباتات عشبية معمرة‪ ،‬تتميز بالطعم الالذع والرائحة الطيبة‪ ،‬وهناك صنفان ينموان‬
‫منها في بالد العرب‪ ،120‬ولونهما يميل إلى الحمرة‪ ،‬وإذا جف خشبها صار لونه أبيض‪،121‬‬

‫‪ 112‬محمد بيومي مهران‪ ،‬حضارات الشرق األدنى ‪.230 /1‬‬

‫‪ 113‬الررنقش )‪ (RES 3427/1‬ارج ررع‪ :‬محمررد السرريد عب ررد الغنرري‪ :‬شرربه الجزي ررة العربيررة ومصررر والتج ررارة الشر ررقية‬
‫القديمة‪ ،‬اإلسكندرية‪ :‬المكتب الجامعي الحديث‪ ،1999 ،‬ص ‪.136‬‬

‫ألفريد لوكاس‪ ،‬المواد والصناعات عند قدماء المصريين‪ ،‬ترجمة د‪ .‬زكي إسكندر ومحمد زكريرا غنريم‪ ،‬القراهرة‪:‬‬ ‫‪114‬‬

‫مكتبة مدبولي‪ ،1991 ،‬ص ‪.485‬‬

‫‪ 115‬سفر الخروج‪.25-22 /30 :‬‬

‫‪ 116‬محمد بيومي مهران‪ ،‬حضارات الشرق األدنى ‪.231 /1‬‬


‫‪Doe, Southern Arabia, p. 49. 117‬‬
‫‪Groom, Frankincense and Myrrh, p. 20. 118‬‬
‫‪ 119‬لطفي عبد الوهاب‪“ ،‬الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية”‪ ،‬ص ‪.56‬‬

‫تنمرو الكاسريا فري جنروب شربه الجزيررة العربيرة‪ ،‬وهري شرجرة كثيفرة األغصرران وفروعهرا متينرة‪ ،‬ومرن أهرم أنواعهررا‬ ‫‪120‬‬

‫السررنا الررذي يسررتعمل ورقرره فرري الطيررب‪ ،‬ويرردخل فرري تركيررب بعررض األدويررة للعررالج‪ .‬ارجررع‪ :‬يوسررف بررن ابررن رسررول‪،‬‬
‫المعتم ررد ف رري األدوي ررة المف ررردة‪ ،‬ص ررححه وفهرس رره مص ررطفى الس ررقا‪ ،‬ط‪ ،2‬بيرررروت‪ :‬دار المعرف ررة للطباع ررة والنشرررر‬

‫‪-19 -‬‬
‫والشجرة غليظة الساق‪ ،‬ال يزيد ارتفاعها في الغالب على مترين‪ ،‬ويحمل النبات أوراقا مركبة‪،‬‬
‫ريشية الشكل‪ ،‬تتكون من زوجين إلى سبعة أزواج من الوريقات‪ ،‬وأزها ار في قمم األغصان على‬
‫هيئة مجاميع‪ ،‬ما بين زهرتين إلى سبع زهرات‪ ،‬في شكل عناقيد‪ ،‬ذات لون أصفر إلى برتقالي‪،‬‬
‫الثمار قرنية تشبه ثمار الفاصوليا‪ ،‬أو الفول‪ ،‬وشكلها مفلطح‪ ،‬جلدية الملمس طولها ضعف‬
‫عرضها‪ ،‬ذات لون بني مصفر‪ ،‬تحتوي بداخلها بذو اًر ذات لون رمادي‪ ،‬وقوامها صلب وتعرف‬
‫باسم القرنة رالجرابر‪ ،122‬وتستخدم نبتة الكاسيا في التطبيب‪ ،123‬مثل عالج بعض من األمراض‬
‫الصدرية والباطنية‪ ،‬كما أنها تدخل في صناعة أدوية لعالج العيون‪.124‬‬

‫وقد ذكر نبات السنا في الحديث النبوي الشريف‪ ،‬عن ابراهيم بن أبي عبلة قال‪ :‬سمعت‬
‫عبد هللا بن أم حرام ‪ -‬وهو ممن صلى مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في القبلتين‪ -‬يقول‪:‬‬
‫"عليكم بالسنا والسنوت فإن فيها شفاء من كل داء إال السامر‪ ،125‬ورالسلخر أيضاً هو نوع من‬
‫رالكاسيار‪ ،‬وورد ذكره في نقوش المسند على مبخرة بصيغة رسلختر‪ ،126‬وذكر أيضاً في‬
‫التوراة‪.127‬‬

‫وعن رالقرفةر )‪ (Cinnamon‬فهي قشر شجر معمر‪ ،‬طيب الرائحة‪ ،‬وتتميز شجرة القرفة‬
‫بشدة اخضرار أوراقها‪ ،‬وتكون األوراق على شكل قلب‪ ،‬وثمارها مائلة إلى السواد الشديد‪ ،‬ويتفرع‬

‫والتوزيرع‪ ،1982 ،‬ص ‪235‬؛ باتريشرريا كرررون‪ ،‬تجررارة مكررة‪ ،‬ترجمررة امرال محمررد الروبرري‪ ،‬القرراهرة‪ :‬المجلررس األعلررى‬
‫للثقافررة‪ ،2005 ،‬وقررارن‪ :‬الجزي ررة العربيررة فرري المصررادر الكالسرريكية (‪ ،)5‬ديررودوروس الصررقلي والجزي ررة العربيررة‪،‬‬
‫ترجمررة د‪ .‬أحمررد غررا نم‪ ،‬تعليررق د‪ .‬رحمررة بنررت ع رواد السررناني‪ ،‬إش رراف وتحريررر د‪ .‬عبررد هللا بررن عبررد الرررحمن العبررد‬
‫الجبار‪ ،‬الرياض‪ :‬الدارة‪1439 ،‬ه‪2017 /‬م‪.‬‬

‫ليبيا عبد هللا دماج‪ ،‬المحاصيل الزراعية في اليمن القديم‪ ،‬صنعاء‪ ،2012 ،‬ص ‪.100‬‬ ‫‪121‬‬

‫‪ 122‬جريدة الرياض‪ ،‬العدد ‪ ،13643‬اإلثنين ‪ 28‬رمضان ‪1426‬هر‪ 31 /‬أكتوبر ‪2005‬م‪.‬‬


‫‪123‬‬ ‫‪Casson, L., Ancient Trade and Society, Detroit, 1984, p. 231.‬‬
‫يوسف بن رسول‪ ،‬المعتمرد فري األدويرة المفرردة‪ ،‬صرححه وفهرسره مصرطفى السرقا‪ ،‬ط‪ ،2‬بيرروت‪ :‬دار المعرفرة‬ ‫‪124‬‬

‫للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،1982 ،‬ص ‪.235‬‬

‫‪ 125‬أخرجه ابن ماجة في السنن‪.‬‬

‫‪ 126‬النقش )‪.(YM 467‬‬

‫‪ 127‬سفر حزقيال‪.23-22 /27 :‬‬

‫‪-20 -‬‬
‫من جذورها العديد من الفسائل الصغيرة‪ ،‬وتؤخذ القشور من اللحاء لتكشط‪ ،‬وتخرج القرفة من‬
‫أجزاءها‪ .128‬وتستخدم القرفة في الطعام‪ ،‬ويدخل في صناعة الدواء وقيل‪ :‬القرفة ضرب من الدار‬
‫صيني‪ ،‬وهي أنواع‪ ،‬منها الدار صيني الحقيقي‪ ،129‬ومنها ما يطلق عليه رقرفة القرنفلر‪ ،130‬وتنبت‬
‫في جزيرة سيالن بصورة خاصة‪ ،131‬وقد أشار هيرودوت إلى جهل السكان بمصدرها‪:‬‬

‫روهم ال يعلمون من أين تأتي‪ ،‬وأي البالد تنتجها‪ ،‬وجلهم يخمنون بأنها تنمو في مكان‬
‫ما في اإلقليم الذي ترعرع فيه ديونيسوس‪ ،‬إذ يقولون أن تلك العيدان الجافة – التي تعلمنا‬
‫من الفينيقيين أن ندعوها قرفة – تجلبها طيور كبيرة‪ ،‬وتضعها في أعشاشها المبنية من‬
‫الطين‪ ،‬والمتواجدة على حواف الجبال‪ ،‬التي يعجز أي إنسان عن الوصول إليهار‪.132‬‬

‫وربما يتضح لنا من خالل اإلشارة إلى المكان الذي نشأ فيه ديونيسوس أن مناطق إنتاج‬
‫القرفة كانت في الجنوب على وجه التحديد‪ ،‬وليس أي جهة أخرى‪ ،‬إذ أن هيرودوت يوضح أنه‬
‫قد نشأ في مدينة نيسا‪ /‬نوسا في إثيوبيا‪ ،133‬وإن كان هناك من يعتمد على هذه اإلشارة ليقترح أن‬
‫محصول القرفة كان يأتي وقتذاك من بالد الهند‪.134‬‬

‫وكانت القرفة قد صدرت إلى مصر منذ حوالي ألفي سنة قبل الميالد‪ ،‬وهي تعد من‬
‫المواد الثمينة‪ ، 135‬وتعد هدية ذات قيمة عالية‪ ،‬وكانت تهدى إلى الملوك واآللهة‪ ،‬وقد أهديت إلى‬

‫‪128‬‬ ‫‪Casson, Ancient Trade and Society, p. 225-227.‬‬


‫‪129‬‬‫‪Mohammed Iqbal, "International Trade in non-wood forest products: An‬‬
‫‪overview", Working Paper, Food and Agriculture Organization of the United Nations,‬‬
‫‪November 12, 2012, pp. 1-2.‬‬
‫إب رراهيم بررن ناصررر إب رراهيم البريهرري‪ ،‬الحرررف والصررناعات فرري ضرروء نقرروش المسررند الجنرروبي‪ ،‬الريرراض‪ :‬وكالررة‬ ‫‪130‬‬

‫اآلثار والمتاحف‪ ،2000 ،‬ص ‪.236‬‬

‫‪ 131‬محمد بيومي مهران‪ ،‬حضارات الشرق األدنى القديم‪ ،‬ص ‪.230‬‬

‫‪ 132‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪269‬؛ ‪Histories, III: 109‬‬

‫والجزيررة العربيررة‪ ،‬ص ‪ ،78‬حاشررية رقررم ‪ ،2‬وذكررر فرري موضررع اخررر مررن كتابرره‬ ‫‪ 133‬إبععراهيا السععايي‪ ،‬هيرودوتععو‬
‫أنها مدينة في إثيوبيا؟ الهند؟‪ .‬راجع‪ :‬ص ‪.116‬‬

‫‪ 134‬مصطفى عبد العليم‪ ،‬رتجارة الجزيرة العربيةر‪ ،‬ص ‪ ،211‬حاشية رقم ‪.1‬‬

‫‪ 135‬محمد بيومي مهران‪ ،‬حضارات الشرق األدنى القديم‪ ،‬ص ‪.230‬‬

‫‪-21 -‬‬
‫معبد أبولو في مليتوس‪ ،‬وكانت القرفة مكلفة للغاية الستخدامها بشكل شائع في طقوس الجنازات‬
‫في روما‪ ،136‬حتى أن اإلمبراطور رنيرونر أحرق في جنازة زوجته ربوبايه ر كميات من البخور‬
‫تفوق ما تنتجه الجزيرة العربية خالل سنة‪.137‬‬

‫واخر ما ذكره هيرودوت في كالمه عن منتجات الجزيرة العربية هو رالالدنر‪،(Ledanon)138‬‬


‫الذي يعرفه العرب باسم رالالدانونر‪ ،(Ladanon) ،‬وهو أقوى النباتات العطرية رائحة‪ ،‬ويوجد‬
‫‪139‬‬
‫ال‪،‬‬
‫في وسط ذي رائحة كريهة للغاية ‪ ،‬وشجرته لطيفة األغصان‪ ،‬طولها كقامة رجل وأقل قلي ً‬
‫وأوراقها تشبه ورق راآلسر‪ ،‬إال أن لونها أسود وأغصانها سوداء‪ ،‬وعلى أغصانها زغب‪ ،‬وهي‬

‫شجرة مفرطة اللزوجة‪ ،‬تشبه شجرة رالعوسجر في الرطوبة التي تدبق على اليد واألصابع‪ ،‬وأيضاً‬
‫في لونها األسود‪ ،‬أما الظاهر منها والمسمى الدن فال يشبهها في الهيئة‪.140‬‬

‫والالدن هو نوع من الطيب‪ ،141‬يدخل في صناعة العطور‪ ،142‬وكذا يستخدم في عالج‬


‫بعض األمراض‪ ،‬وهو يعد صمغاً‪ ،‬ويصنف من الفصيلة اللبانية‪ ،143‬ووصفه هيرودوت بأنه‪:‬‬

‫‪136‬‬
‫‪Maguelonne Toussaint-Samat, History of Food, translated by Anthea Bell,‬‬
‫‪Cambridge, Mass. : Blackwell Reference, 1994, p. 437.‬‬
‫‪ 137‬فرانسواز ديمانج‪ ،‬قوافل البخور‪ ،‬ص ‪.124‬‬

‫‪ 138‬هناك من يرى أن الالدن هو نفسه ما يعرف اليوم بررالمستكةر‪ .‬راجع‪ :‬لطفى عبرد الوهراب‪ ،‬الجزيررة العربيرة فري‬
‫المصادر‪ ،‬ص ‪.56‬‬

‫‪ 139‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.79‬‬

‫ليبيا دماج‪ ،‬المحاصيل الزراعية‪ ،‬ص ‪104‬؛ أبو بكر أحمد ابن وحشية‪ ،‬الفالحرة النبطيرة‪ ،‬تحقيرق توفيرق فهرد‪،‬‬ ‫‪140‬‬

‫ج‪ ،2‬دمشق‪ :‬المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية‪ ،1995 ،‬ص ‪.1264-1263‬‬

‫‪ 141‬بيستون‪ ،‬ا‪.‬ف‪.‬ل‪ .‬واخررون‪ ،‬المعجرم السربئي‪ ،‬منشرورات جامعرة صرنعاء‪ ،‬بيرروت‪ :‬دار نشرريات بيتررز ‪ -‬لوفران‬
‫الجديدة ‪ -‬مكتبة لبنان‪ ،1982 ،‬مادة رل د نر‪ ،‬ص ‪.81‬‬

‫‪ 142‬إبراهيم البريهي‪ ،‬الحرف والصناعات‪ ،‬ص ‪.235‬‬

‫‪ 143‬مجموعة من المرؤلفين‪ ،‬رالرالدنر‪ ،‬الموسروعة العربيرة الميسررة‪ ،‬القراهرة‪ :‬دار الشرعب ومؤسسرة فررانكلين للطباعرة‬
‫والنشر‪ ،1965 ،‬ص ‪.1538‬‬

‫‪-22 -‬‬
‫"مادة ذات رائحة زكية‪ ،‬رغم أنها توجد في مكان ذي رائحة كريهة جداً‪ ،‬وهي تعلق‬
‫كالصمغ بلحية ذكر الماعز وهو يرعى بين الشجيرات‪ ،‬ويستخدم في صناعة العديد من أنواع‬
‫العطور‪ ،‬وهو البخور الرئيسي عند العرب"‪.144‬‬

‫كيفية جمع المنتجات الزراعية‪:‬‬

‫تحدث هيرودوت عن ما كان يالقيه العرب من صعوبة‪ ،‬وأنهم يتكبدون مصاعب جمة‬
‫في أثناء قيامهم بجمع منتجاتهم من اللبان والسنا والقرفة والصمغ المسمى بالالدن‪ ،‬واستثنى من‬
‫‪145‬‬
‫ذلك المر دون غيره‪ ،‬فمن أجل أن يجمعوا البخور فإنهم كانوا يحرقون صمغ الميعة‬
‫)‪ ،(Storax‬وهو صمغ ذكر هيرودوت أن اإلغريق كانوا يحصلون عليه عن طريق (التجار)‬
‫الفينيقيين‪ ،‬وأن العرب عندما يحرقون الصمغ فإن ذلك يولد كميات من الدخان الكثيف‪ ،‬يتسبب‬
‫في طرد ما أسماه برالثعابين المجنحة‪ ،146‬والذي ربما يقصد به الجراد أو ما يشبه ذلك من أنواع‬
‫الهوام التي تكثر في المزارع والحقول‪ ،‬حيث أن أشجار البخور كانت بحسب وصفه تخضع‬
‫لحراسة أعداد كبيرة رأفاعي مجنحةر صغيرة في الحجم‪ ،‬ومتعددة في ألوانها‪ ،‬وذكر أيضاً أنها من‬
‫نوع األفاعي الذي يحاول غزو مصر‪ ،‬وعلى أية حال‪ ،‬فإن الدخان الكثيف وسيلة سهلة وفعالة‪،‬‬
‫متعارف عليها أثناء مواجهة الحشرات الطائرة‪.‬‬

‫"ويتكبد العرب في جمع هذه األشياء مصاعب جمة‪ ،‬ما عدا المر‪ ،‬فمن أجل أن يجمعوا‬
‫البخور فإنهم يحرقون صمغ الميعة‪ ،‬وهو صمغ يحصل عليه اإلغريق عن طريق‬
‫الفينيقيين‪ ،147‬وعن طريق حرق هذا الصمغ يحصلون على الدخان الذي يستطيعون عن‬

‫‪ 144‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪270‬؛ ‪ Histories, III: 110‬؛ محمد عبد الغني‪ :‬شبه الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.135‬‬

‫الميعة‪ :‬اللبني‪ ،‬أو االصطراك الطبي‪ ،‬وهو نبات يستخرج منه نوع قليل الجودة من البخور‪ ،‬وينمو في سورية‪.‬‬ ‫‪145‬‬

‫راجع‪ :‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪ ،75‬حاشية رقم ‪.2‬‬

‫ارجررع عررن هررذا الموضرروع‪ :‬هالررة يوسررف محمررد سررالم‪ :‬رأسرراطير الترهيررب بالحيررات فرري جنرروب الجزي ررة العربيررة‬ ‫‪146‬‬

‫د ارسررة فرري المصررادر الكالسرريكيةر‪ ،‬نرردوة الجزي ررة العربيررة فرري المصررادر الكالسرريكية‪ ،‬الريرراض‪ :‬الرردارة ‪/5 /16-13‬‬
‫‪1439‬ه – ‪2018 /2 /2 -1 /30‬م‪.‬‬

‫‪ 147‬كرران الفينيقيررون يترراجرون بصررمغ الميعررة مررع بررالد اليونرران‪ .‬ارجررع‪ :‬مصررطفى عبررد العلرريم‪ ،‬رهررردوت يتحرردث عررن‬
‫العرب وبالدهمر‪ ،‬ص ‪.13‬‬

‫‪-23 -‬‬
‫طريقه طرد األفاعي الطائرة (الجراد)‪ ،‬فأشجار البخور تحرسها بأعداد كبيرة أفاعي مجنحة‬
‫صغيرة في الحجم ومتعددة في ألوانها‪ ،‬وهذه األفاعي من نوع األفاعي التي تحاول غزو مصر‪،‬‬
‫وال يمكن طرد هذه األفاعي عن أشجار البخور إال عن طريق الدخان المنبعث من احتراق‬
‫صمغ الميعة‪ ،‬ويقول العرب أن هذه المخلوقات كان يمكن أن تغزو العالم‪ ،‬لوال حدوث أمر‬
‫غريب حد من انتشارهار‪.148‬‬

‫واألرجح هنا أن مرد هذه القصة الغريبة في جني محاصيل البخور العربي هم التجار‪،‬‬
‫الذين كانوا يحرصون أشد الحرص على احتكار تجارته الدولية‪ ،‬وعدم إطالع أي أجنبي غريب‬
‫عليها‪ ،‬وربما أن ذلك كان من أجل إضفاء المزيد من الغموض واإليهام على محاصيلهم المقدسة‬
‫عندما يسئلون عنها‪ ،‬أو يحتمل كذلك أنه كان على سبيل الدعاية‪ .149‬وإن كان هناك من يعزو‬
‫أمر تلك الخرافات المنسوجة عن الحصول على البخور وغيره من الموارد التجارية للجزيرة العربية‬
‫إلى السكان اليمنيين على وجه التحديد‪.150‬‬

‫وتتماشى هذه المشقة التي ذكرها هيرودوت مع وصف صاحب كتاب رالطواف حول‬
‫‪151‬‬
‫لسواحل حضرموت الجنوبية بأنها مناطق موبوءة يتجنبها الناس‪ ،‬ومن ثم فال‬ ‫البحر اإلريثرير‬
‫يجمع التوابل واللبان منها إال العبيد أو المجرمين الذين صدرت ضدهم أحكاماً صارمة‪.152‬‬

‫‪ 148‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪268‬؛‪Histories, III: 107.‬‬

‫‪ 149‬محمررد عبررد القررادر بافقيرره‪ ،‬ترراريخ الرريمن القررديم‪ ،‬بي ررروت‪ :‬المؤسسررة العربيررة للد ارس ررات‪ ،1973 ،‬ص ‪– 184‬‬
‫‪.185‬‬

‫‪ 150‬توفيق برو‪ ،‬تاريخ العرب القديم‪ ،‬دمشق‪ :‬دار الفكر‪ ،‬ط‪ ،2001 ،2‬ص ‪.93‬‬

‫يعد هذا الكتاب من أصدق المصادر الكالسيكية التي اعتنت بذكر شيء من تراريخ جزيررة العررب وجغرافيتهرا‪،‬‬ ‫‪151‬‬

‫وتحديداً مرا يتعلرق بنشراط موانئهرا التجاريرة علرى امترداد سرواحل البحررين األحمرر والعربري‪ ،‬واألسرواق المتصرلة بهرا‪،‬‬
‫وما تصدره وتستورده تلك الموانئ من بضائع وسلع مختلفة في مدة توسع فيها النشاط التجاري ليشمل منراطق مرن‬
‫اسرريا وإفريقيررا‪ .‬ارجررع‪ :‬محمررد بررن علرري الحرراج‪ ،‬رترراريخ كترراب الط رواف حررول البحررر اإلريثررري فرري ضرروء المصررادر‬
‫النقشية المسنديةر‪ ،‬ندوة الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية‪ ،‬الريراض‪ :‬الردارة ‪1439 /5 /16-13‬ه – ‪/30‬‬
‫‪2018 /2 /2 -1‬م‪.‬‬

‫‪ 152‬إبراهيم مهران‪ ،‬مصر والشرق األدنى القديم‪ ،‬ص ‪.323‬‬

‫‪-24 -‬‬
‫ويواصل هيرودوت كالمه‪ ،‬فيصف لنا مدى المشقة التي كان يواجهها العرب أثناء‬
‫قيامهم بجمع هذه المحاصيل التي عددها سلفاً‪:‬‬

‫"عندما يخرج العرب لجمع السنا‪ ،‬فإنهم يغطون أجسادهم ووجوههم‪ ،‬ما عدا العينين‪،‬‬
‫بجلود الحيوانات‪ ،‬إذ أن تلك النبتة تنمو في بحيرة ضحلة المياه‪ ،‬تعج واألرض المحيطة بها‬
‫بمخلوقات مجنحة شديدة الشبه بالعناكب‪ ،‬تطلق صرخات عالية‪ ،‬لتنبه إلى الخطر‪ ،‬ولديها ولع‬
‫شديد بالقتال‪ ،‬ويقومون بإبعادهم وعدم السماح لها بمهاجمة أعين الرجال في أثناء قيامهم‬
‫بجمع السنا"‪.153‬‬

‫وهذا وصف مناسب‪ ،‬يتماشى مع الظروف البيئية الصعبة التي يتحتم على العمال جمع‬
‫المحصول فيها‪ ،‬وسط محاصرتهم بأسراب من الحشرات الطائرة‪ ،‬التي يبدو جلياً أنها كانت تؤذي‬
‫القريبين من أماكن وجودها على األشجار وفي محيطها‪.‬‬

‫وبنوع من أسلوبه التشويقي في السرد‪ ،‬استطرد هيرودوت واصفاً كيفية قيام العرب بجمع‬
‫محصول القرفة‪ ،‬بطريقة غير تقليدية لما هو متبع عادة في جمع المحاصيل‪ ،‬ونجد فيها نوعاً من‬
‫المكر والحيلة‪ ،‬والتي نعتها هيرودوت بأنها تدعو لمزيد من الدهشة عما سبق‪:‬‬

‫"أما الطريقة التي يتم فيها جمع القرفة فهي أكثر مدعاة للدهشة‪ ،..... ،‬وقد ابتكر‬
‫العرب طريقة للحصول عليها بأن يقوموا بتقطيع لحوم الثيران أو الحمير أو أي حيوان آخر‬
‫من دواب الحمل إلى قطع كبيرة‪ ،‬ويضعونها فوق سفوح الجبال التي تتواجد فيها هذه الطيور‪،‬‬
‫ثم يتراجعون إلى مسافة آمنة‪ ،‬فتنزل تلك الطيور‪ ،‬وتحمل قطع اللحم إلى أعشاشها‪ ،‬ولما‬
‫كانت تلك األعشاش أضعف من أن تتحمل وزن قطع اللحم‪ ،‬فإنها تتكسر‪ ،‬وتقع على األرض‬
‫أسفل الجبل‪ ،154‬حينذاك يأتي الرجال اللتقاط القرفة‪ ،‬التي يصدرونها الحقاً إلى بلدان‬
‫أخرى"‪.155‬‬

‫‪ 153‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪Histories, III: 110..269‬‬

‫‪ 154‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.79‬‬

‫‪ 155‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪270-269‬؛ ‪Histories, III: 110‬‬

‫‪-25 -‬‬
‫وفي موضع الحق لحديثه عن كيفية حصول العرب على القرفة‪ ،‬ذكر هيرودوت أن‬
‫األمر ذاته ينسحب على محصول الالدن‪ ،‬وبشكل أكثر غرابة‪:‬‬

‫"لكن الطريقة التي يجلبون بها الالدن‪ ،‬كما يسميه العرب‪ ،‬أكثر مدعاة للعجب"‪.156‬‬

‫ولكنه لم يوضح لنا مقصده من ذلك‪ ،‬ولم يشرح لنا أو حتى يقدم إشارة نفهم منه مغزى‬
‫كالمه عن كيفية جمع الالدن‪ ،‬وربما يكون في ذلك لون اخر من ألوان التشويق التي يتبعها كثي اًر‬
‫في سرده لألحداث‪ ،‬ولكن وفقاً لما ذكره في وصفه من أن الالدن يعلق في لحى ذكور الماعز‬
‫(التيوس)‪ ،‬ويتشكل فيها مثل الصمغ أو الغراء في الخشب‪ ،157‬فإنه من المتوقع أن يكون‬
‫الحصول على هذه المادة الصمغية ال بد وأن يكون بامتصاصها من هذه اللحى بأية وسيلة‬
‫ممكنة‪ ،‬وربما كانت تلك الوسيلة التي اتبعها القوم غريبة أو غير معتادة على هيرودوت‪ ،‬فنعتها‬
‫بأنها مدعاة للعجب‪.‬‬

‫تجار الجزيرة العربية وصفاتهم األخالقية‪:‬‬

‫بداية من القرن الثاني عشر والقرن الحادي عشر قبل الميالد تكونت على ما يبدو‬
‫مبادالت تجارية منتظمة بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها‪ ،158‬لكن االزدهار التجاري عبر‬
‫ابتداء من القرن الثامن قبل الميالد‪ ،‬ومنذ الحقبة‬
‫ً‬ ‫الجزيرة العربية‪ 159‬لم يشهد بالفعل انطالقته إال‬
‫اآلشورية‪ ،‬فضل الناس في بالد ما بين النهرين وفي المشرق استنشاق البخور بدالً من األعشاب‬

‫‪ 156‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪270‬؛ ‪Histories, III: 110‬‬

‫‪ 157‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.79‬‬

‫وهناك إشارات إلى استخدام منتجات الجنوب العربي في مصر بوفرة‪ ،‬منذ األلف الثاني قبل الميالد علرى أقرل‬ ‫‪158‬‬

‫تقدير‪ .‬راجع‪ :‬عبد العزيز صالح‪ ،‬تاريخ شبه الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.9‬‬

‫‪ 159‬عرن نشراط العررب خررارج نطراق الجزيررة العربيرة‪ ،‬ارجررع‪ :‬عبرد المرنعم عبرد الحلرريم سريد‪ ،‬رالنشراط التجراري للعرررب‬
‫القدماء خارج الجزيرة العربية مرن خرالل النقروش العربيرة القديمرة وروايرات الكتراب الكالسريكيينر‪ ،‬مجلرة بحروث نردوة‬
‫التجررارة عبررر العررالم العربرري علررى مررر عصررور الترراريخ‪ ،‬حصرراد ‪ ،8‬القرراهرة‪ :‬اتحرراد المررؤرخين العرررب‪ ،2000 ،‬ص‬
‫‪.42-17‬‬

‫‪-26 -‬‬
‫العطرية المحلية‪ ،160‬عالوة على استخدام البخور بكميات كبيرة ‪ -‬كما ذكرنا سلفاً – في الحياة‬
‫اليومية وفي المناسبات بممالك العالم القديم‪.‬‬

‫وهكذا برز تجار الجزيرة العربية‪ ،‬وازدهرت تجارتهم‪ ،‬وارتفع شأنهم‪ ،‬وهو ما دفع الكتاب‬
‫الكالسيكيين إلى البحث والتحري عن مصادر هذه التجارة‪ ،‬وأنواع السلع المصدرة‪ ،‬ومناطق‬
‫اإلنتاج‪ ،‬وغيرها من الموضوعات ذات الصلة‪ ،‬التي أكسبت العرب شهرة عالمية في األسواق‬
‫الدولية‪ ،‬وامتالكهم األموال والثروات الضخمة‪ ،‬التي حققوها من تجارة المواد العطرية والتوابل‬
‫والمشتقات األخرى‪.161‬‬

‫ونحن نستطيع أن ندرك مقدار ما كان يمكن أن تجنيه بعض مناطق الجزيرة العربية من‬
‫ثروة من هذا المورد االقتصادي التجاري إذا ألقينا نظرة سريعة على بعض المؤشرات التي نستنتج‬
‫منها حجم النشاط التجاري والمعامالت التجارية في الجزيرة العربية‪ ،‬ومن بين هذه المؤشرات‪،‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬ما نجده في النقوش التي عثر عليها المنقبون في العربية الجنوبية من وفرة‬
‫األلفاظ ذات المعاني التجارية‪ ،‬التي تتصل بالبيع والشراء واالمتالك والعقود واألوامر التي كان‬
‫الملوك يصدرونها لتنظيم جباية المكوس (الضرائب الجمركية) على السلع التي تباع في األسواق‪،‬‬
‫أو لتنظيم المعامالت التجارية بجوانبها المختلفة‪.162‬‬

‫وكانت هذه التجارة الكبيرة في أيدي مختلف الشعوب والقبائل‪ ،163‬حسب الحقب وتقلبات‬
‫التنظيمات السياسية للجزيرة العربية‪ ،‬لكننا دائماً ما نالحظ النوع نفسه من التنظيم الذي يتضمن‬
‫مشاركة البدو الرحل وكذا السكان المقيمين‪ ،‬فسكان الواحات كانوا يقدمون خدمات المأوى‬
‫والسقاية والعلف‪ ،‬في حين أن التجار المنظمين لعمليات التبادل التجاري كانوا يقيمون فيها‪،‬‬
‫ويشكلون مجموعات قوية وثرية‪ ،‬ونتيجة الحتكاكهم باألمم األخرى فقد كانوا بالتأكيد منفتحين‬

‫‪ 160‬فرانسواز ديمانج‪ ،‬رقوافل البخورر‪ ،‬ص ‪.124‬‬

‫عبد هللا العبد الجبار‪ ،‬رنظرة الكتاب الكالسيكيين لتجارة الجزيرة العربيةر‪ ،‬ص ‪.119‬‬ ‫‪161‬‬

‫‪ 162‬لطفي عبد الوهاب‪ ،‬العرب في العصور القديمة‪ ،‬ص ‪.312-311‬‬

‫‪ 163‬لمزيررد مررن المعلومررات عررن هررذه التجررارة ومراحلهررا المتعررددة وطرررق التجررارة الترري كانررت تسررلكها القوافررل داخررل‬
‫الجزي ررة العربيررة وخارجهررا‪ ،‬والقبائررل العاملررة فرري هررذا المجررال‪ ،‬ارجررع‪ :‬دانيررال ت‪ .‬برروتس‪ ،‬رترراريخ األصررولر‪ ،‬طرررق‬
‫التجارة القديمة‪ ،‬ص ‪79-71‬؛ كريستيان جوليان روبان‪ ،‬رالعصور القديمةر‪ ،‬ص ‪.99-81‬‬

‫‪-27 -‬‬
‫على الثقافات األجنبية ومتأثرين بها بدرجات‪ ،‬كما كان أصحاب الدواب‪ ،‬الذين اكتسبوا مع الوقت‬
‫أهمية متزايدة‪ ،‬ممولين ضروريين لحسن سير هذه التجارة‪ ،‬ألنهم كانوا يؤمنون الدواب‪ ،‬ويتطوعون‬
‫بصفتهم جمالين أو قادة للقوافل‪ ،‬عبر الطرق والدروب‪ ،‬كما كانوا عند الضرورة يوفرون مواكب‬
‫حماية للقوافل‪ ،164‬تجنباً العتداءات قطاع الطرق وإغارتهم على القوافل أثناء ذهابها نحو الشمال‪،‬‬
‫وأثناء إيابها منه‪.‬‬

‫وإذا كان هيرودوت هنا يعد أول من تناول صادرات الجزيرة العربية من البخور‪ ،165‬إال‬
‫أنه لم يفدنا في ماهية الطرق التي كان يسلكها التجار ب اًر أو بح اًر‪ ،‬ونحن نستنتج من أكثر من‬
‫في هذه الفترة كانوا ال يزالون هم الوسطاء في تجارة‬ ‫‪166‬‬
‫موضع في حديثه أن التجار الفينيقيين‬
‫الطيوب والتوابل بين الجزيرة العربية والعالم اليوناني‪ ،‬حيث تصل البضائع إلى الموانئ الفينيقية‪،‬‬
‫ثم يحملها التجار الفينيقيون إلى الموانئ اليونانية‪ ،167‬وربما إلى مصر أيضاً‪.168‬‬

‫وهؤالء التجار العرب كانت لهم صفات وطبائع أثيرة تميزهم على مر العصور في‬
‫تعاملهم مع األمم األخرى‪ ،‬فلطالما عرف العرب بحسن الخصال‪ ،‬ومنها الصدق واألمانة‪ ،‬واحترام‬
‫العهود والوفاء بالعقود المبرمة‪ ،‬حتى أنهم يكتبونها بالدم‪ ،‬وغير ذلك من الصفات الحميدة التي‬
‫يجب وأن تتوفر في التاجر بوجه خاص‪.‬‬

‫‪ 164‬فرانسواز ديمانج‪ ،‬قوافل البخور‪ ،‬ص ‪.125‬‬

‫عبد هللا العبد الجبار‪ ،‬نظرة الكتاب الكالسيكيين لتجارة الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫‪165‬‬

‫‪ 166‬بلغ الفينيقيون أوج ازدهارهم مع بداية األلف األولى قبل الميالد‪ ،‬حيث أسسوا مستعمرات كانرت بمثابرة م اركرز‬
‫تجاريرة عظيمرة‪ ،‬وسرط البحرر األبريض المتوسرط وغربره‪ ،‬ثرم اتصرلت هرذه المسرتوطنات بعضرها بربعض وبالمردن‬
‫األصلية األم بطرق المالحة‪ ،‬وانتشرت المستعمرات الفينيقية من رأس الدلتا إلى ساحل ركليكيا"‪ ،‬كمرا انتشررت فري‬
‫جرزر البحرر األبريض المتوسرط‪ ،‬وكانرت مسرتعمراتهم فري شررق البحرر المتوسرط أقردم مرن مسرتعمراتهم فري إفريقيرا‬
‫وإسبانيا‪ .‬راجع‪ :‬إبراهيم محمد بيومي مهران‪ ،‬رالمالحة الفينيقية في جزر البحر المتوسطر‪ ،‬دراسات في اثار الوطن‬
‫العربرري‪ ،‬كترراب الم ررؤتمر الخررامس عش ررر لالتح رراد الع ررام للث رراريين الع رررب‪ ،‬الن رردوة العلميررة الرابعررة عشر ررة‪ ،‬وج رردة –‬
‫المملكة المغربية‪ 15-13 ،‬أكتوبر ‪2012‬م‪ ،‬ص ‪.1‬‬

‫‪ 167‬لطفي عبد الوهاب‪ ،‬العرب في العصور القديمة‪ ،‬ص ‪.200-199‬‬

‫عبد العزيز صالح‪ ،‬تاريخ شبه الجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪168‬‬

‫‪-28 -‬‬
‫ومن خالل ما كتبه هيرودوت وجدنا إشارات صريحة في كالمه تبين رؤيته للعرب بما‬
‫يتماشى مع ذلك‪:‬‬

‫"والعرب يحترمون الضمانات والعهود أكثر من أي أمة أخرى‪ ،169‬وإذا أراد رجالن أن‬
‫يوثقا العهود بينهما فإنهما يقفان على جانبي رجل ثالث يحمل حج اًر حاداً‪ ،‬يستخدمه لجرح‬
‫راحتي يديهما بالقرب من أسفل اإلبهام‪ ،‬ثم يأخذ بعض خيوط الصوف من عباءة كل منهما‪،‬‬
‫‪170‬‬
‫ويغمسها بدمهما‪ ،‬ويلطخ بها سبعة أحجار تقع بينهما‪ ،‬وهو يردد اسم كل من ديونيسوس‬
‫وأورانيا‪ ،171‬ثم يقوم الشخص الذي أخذ العهد على نفسه بتوصية أصدقائه بمن عاهده‪ ،‬سواء‬
‫كان غريباً أو قريباً"‪.172‬‬

‫وهذا الوصف الذي قدمه لنا هيرودوت ليس بمستغرب على العرب وعاداتهم المعروفة‬
‫في توثيق العقود والعهود والمواثيق بواسطة الدم‪ ،‬وحتى استخدام األحجار‪ ،‬ربما لتكون بمثابة‬
‫الشهود على هذه األحالف‪ ،‬حيث اعتاد العرب فعل ذلك‪ ،173‬في إشارة لتقدمهم ورقيهم‬

‫‪169‬‬ ‫‪Histories, III: 97.‬‬


‫‪ 170‬أو برراخوس‪ ،‬طبق راً السررمه المسررتخدم عنررد الرومرران‪ .‬ارجررع‪ :‬هنررري س‪ .‬عبررودي‪ ،‬معجررم الحضررارات السررامية‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬طرابلس‪ :‬جرروس بررس‪ ،1991 ،‬ص ‪ ،204‬وهرو إلره الخمرر عنرد اإلغريرق القردماء وملهرم طقروس‬
‫االبتهاج والنشوة‪ ،‬ومن أشهر رموز الميثيولوجيا اإلغريقيرة‪ ،‬أصروله غيرر محرددة لليونرانيين القردماء‪ ،‬ويعتقرد أنره مرن‬
‫أصرول غيرر إغريقيرة كمرا هرو حرال اآللهرة انرذاك‪Burkert, Greek Religion, Harvard University .‬‬
‫‪Press, 1987, p.162.‬‬
‫‪ 171‬هي إحدى آلهة اآلالا التسع التعي عنيعأ بعالعلوا الةلكيعة‪ ،‬بحسعب الميثولوجيعا ا اريديعة الدديمعة‪ ،‬ومعلومعاأ‬
‫هيرودوأ هنا تتالءا م ما نعرفه عن عبادة األنباا للمعبوداأ العزى واي شرا‪Retsö, J., The Arabs in .‬‬
‫‪Antiquity, Their History from the Assyrians to the Umayyads, London & New York:‬‬
‫‪Routledge Curzon, 2003, pp. 602-603.‬‬
‫وهناك من يرجح أن ديونيسوس هو المعبود العربي القديم العزى‪ ،‬وأن أورانيرا هري الرالت‪ .‬ارجرع‪ :‬رحمرة بنرت عرواد‬
‫السر ررناني‪ ،‬رجوانر ررب مر ررن حير رراة العر رررب السياسر ررية واالجتماعير ررة خر ررالل القر رررن الخر ررامس قبر ررل المر رريالد كمر ررا صر ررورها‬
‫هيرودوت رروس ‪ 424-484‬ق‪.‬مر‪ ،‬الجزير ررة العربي ررة واليون رران وبيزنط ررة‪ ،‬التواص ررل الحض رراري عب ررر العص ررور القديم ررة‬
‫والوسيطة‪ ،‬النردوة العالميرة لعالقرات الجزيررة العربيرة بالعرالمين اليونراني والبيزنطري (القررن الخرامس قبرل المريالد إلرى‬
‫القرن العاشر الميالدي)‪ 10-6 ،‬ديسمبر ‪ ،2010‬الرياض‪ :‬جامعة الملك سعود‪ ،‬ص ‪.38‬‬

‫‪ 172‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪220‬؛ ‪Histories, III: 8‬‬

‫‪ 173‬فهد العتيبي‪ :‬هيرودوت‪ ،‬ص ‪.75‬‬

‫‪-29 -‬‬
‫االجتماعي انذاك‪ ،174‬وأنه ال يوجد شعوب أخرى تماثلهم في المحافظة على العهود والمواثيق‪،‬‬
‫وجعل ذلك من واجباتهم الدينية المقدسة‪ ،‬بدليل أنه أشار في وصفه ألسلوب العرب في عقد‬
‫معاهداتهم انذاك إلى أنهم يعتمدون على عنصرين رئيسيين مقدسين‪ ،‬كان البد من توافرهما لعقد‬
‫المعاهدة وضمان سريانها واحترامها من كل األطراف‪:‬‬

‫فالعنصر األول هو استعمال الدم الذي يسيل من راحة يد كال طرفي المعاهدة دعماً‬
‫لتوثيقها‪.‬‬

‫وأما العنصر الثاني فهو حضور المعبودات الرئيسية لتشهد هذا الطقس وتكسبه صفة‬
‫القداسة وااللتزام من جميع أطراف المعاهدة وأقربائهم وأصدقائهم‪ ،‬فقد أصبحت المعاهدة مسؤولية‬
‫جماعية‪.175‬‬

‫وهناك من يرجح أن وصف هيرودوت لكيفية عقد المعاهدات كان مبنياً على مشاهدة‬
‫عينية‪ ،‬وأنه ربما يكون قد شاهد ذلك األمر بنفسه في أثناء زيارته للمنطقة الشرقية من دلتا النيل‬
‫بمصر‪.176‬‬

‫وتخبرنا التوراة بكيفية عقد يعقوب لحلف بينه وبين رالبانر اآلرامي‪ :‬رفاآلن هلم نقطع‬
‫عهداً أنا وأنت‪ ،‬فيكون شاهداً بيني وبينك‪ ،‬فأخذ يعقوب حج اًر وأوقفه عموداً‪ ،‬وقال يعقوب‬
‫إلخوته‪ :‬التقطوا حجارة‪ ،‬فأخذوا حجارة‪ ،‬وعملوا رجمة‪ ،‬وأكلوا هناك على الرجمةر‪.177‬‬

‫وأما عن اختيارهما ألحجار عددها سبعة في المعاهدة‪ ،‬فهو أيضاً ليس باألمر المستغرب‬
‫على أسماعنا‪ ،‬حيث أن هذا الرقم له قدسية خاصة في مصر ومنطقة الشرق األدنى القديم‪،178‬‬
‫وقام بدور في السحر والمعتقدات الدينية‪ ،‬وربط العراقيون القدماء الرقم سبعة باألجرام السماوية‬

‫السبعة التي كان لها تأثير مهم في حياة الناس‪ ،‬فعدت بمصاف اآللهة التي يجب توفيرها‪ ،‬وطبقاً‬

‫‪ 174‬رحمة السناني‪ ،‬جوانب من حياة العرب‪ ،‬ص ‪.37‬‬

‫‪ 175‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.79‬‬


‫‪176‬‬ ‫‪Retsö, J., The Arabs in Antiquity, p. 602.‬‬
‫‪ 177‬سفر التكوين‪.46-44 /31 :‬‬
‫‪178‬‬ ‫‪Asheri, et al, A Commentary on Herodotus, III, p. 407.‬‬

‫‪-30 -‬‬
‫لمفاهيم القوم الدينية‪ ،‬فقد قام هذا الرقم بدور مهم في عملية خلق اإلنسان في العراق القديم‪،‬‬
‫عندما خلقت اآللهة أول سبعة ذكور وأول سبع إناث‪ ،‬لتكون بذلك بداية البشرية‪ ،‬كما كان لهذا‬
‫الرقم تأثير مهم في المعتقدات الدينية لسكان بالد الرافدين‪ ،‬من خالل اآللهة السبعة والحكماء‬
‫السبعة الذين جلبوا المعرفة إلى الناس‪ ،‬وبالمقابل كان للشياطين السبعة موقع مرعب لهم من‬
‫‪179‬‬
‫خالل ممارساتهم الشريرة ضد الناس‪.‬‬

‫نقد كتابات هيرودوت عن تجارة الجزيرة العربية‪:‬‬

‫كتب هيرودوت مؤلفه بعد أن استقر بوطنه‪ ،‬معتمداً على كتابة كل ما شاهده في البالد‬
‫التي زارها‪ ،180‬حيث يمكننا القول بأن وصفه يتميز بالدقة‪ ،‬وإن مزجت كتاباته بين الحقيقة‬
‫واألساطير التي كانت سائدة في أيامه‪ ،‬أو التي سمعها من األشخاص الذين التقى بهم في‬
‫زياراته‪.181‬‬

‫ويعد هيرودوت مؤرخاً وجغرافياً وأنثروبولوجياً متمي اًز‪ ،‬نجح في تدوين التاريخ‪ ،‬ويعد كتابه‬
‫من أقدم المصادر األدبية التي استقى منها المؤرخون القدامى معلوماتهم عن الحضارات القديمة‬
‫قبل الكشف عن اآلثار‪.182‬‬

‫وذكر في بداية كالمه أنه يهدف للحفاظ على األعمال البشرية الخالدة التي قام بها‬
‫اإلغريق‪ ،‬وأيضاً البرابرة (الشعوب األخرى) من الضياع‪ ،‬وهو هدف سامي‪ ،‬ويفترض أن نجده‬
‫متأصالً عند كل من عكف على كتابة التاريخ وانغمس في مناقشة األحداث التاريخية وتحليلها‬
‫بشكل علمي سليم‪.‬‬

‫‪ 179‬حكمت بشير األسود‪ ،‬الرقم سبعة في حضارة بالد الرافدين‪ ،‬دمشق‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪ ،2007 ،‬ص ‪-10‬‬
‫‪.18‬‬

‫‪ 180‬اسررتمرت رحالترره الخارجيررة زهرراء سرربعة عشررر عام راً‪ ،‬برردأها زيررارات الخارجيررة بجررزر البحررر المتوسررط‪ ،‬مثررل‪:‬‬
‫ررودسر ورديلرروسر وربرراروسر ورثاسرروسر وركريررتر‪ ،‬ثررم زار مصررر‪ ،‬وبررالد مررا بررين النه ررين‪ ،‬وفلسررطين‪ ،‬وفينيقيررا‪،‬‬
‫وجنوب روسيا‪ ،‬كما زار شمال إفريقيا‪ .‬راجع‪ :‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.25‬‬
‫‪181‬‬ ‫‪The Oxford Classical Dictionary, s.v. Herodotus.‬‬
‫‪ 182‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪-31 -‬‬
‫وقد استند هيرودوت في تاريخه على التحري والتقصي واالستنتاج في جمع المادة‬
‫العلمية‪ ،183‬وتوسل في ذلك بعدة مناهج مختلفة‪ ،‬كلما عرضت له مشكلة ذات طبيعة خاصة‪،‬‬
‫فهو يعتمد على المعاينة في استخالص النتائج المتصلة بمالحظة عادات الناس وتصرفاتهم‪.184‬‬

‫وتعددت مصادره في الكتابة‪ ،‬واتسمت بأنها تتأرجح بين الحقيقة والمبالغة واألسطورة‪،185‬‬
‫ولكن يؤخذ عليه أنه لم يعط المعالجة القدر الكافي من العناية‪ ،‬فلم ينجح تماماً في التفصيالت‬
‫الدقيقة‪ ،‬وتحليل األخبار ونقدها‪ ،‬والتفرقة بين الحقائق واألساطير‪.186‬‬

‫وبسبب اتباعه في مواضع عديدة ألسلوب التشويق في الكتابة‪ ،‬فقد ضمن كتابه العديد‬
‫من األمور الغريبة‪ ،‬والتي ربما تصل إلى حد الخرافة‪ ،‬مثل حديثه عن جمع العرب للمحاصيل‬
‫العطرية من أشجار البخور‪ ،‬التي كانت بحسب وصفه تخضع لحراسة أعداد كبيرة من األفاعي‬
‫المجنحة صغيرة الحجم‪ ،‬ومتعددة األلوان‪ ،‬وكذا عند وصفه لكيفية جمعهم لمحصول القرفة بطريقة‬
‫غريبة غير معتادة‪ ،‬وهو ما جعل البعض يعتبره قد تخطى كونه مؤرخاً وأصبح كناقل‬
‫لألساطير‪.187‬‬

‫وبوجه عام‪ ،‬فإن ما كتبه هيرودوت بأسلوبه النثري‪ ،‬وإن كان يعطينا معلومات جادة عن‬
‫الجزيرة العربية وأبعاد الحياة فيها‪ ،‬فإنه يبقى حديثاً موسوعياً‪ ،‬يعنى بالقضايا العامة التي تقترب‬

‫حميد العواضي وعبد اللطيف األدهم‪ ،‬بالد اليمن في المصادر الكالسيكية‪ -‬د ارسرة ومخترارات‪ ،‬صرنعاء‪ :‬و ازرة‬ ‫‪183‬‬

‫الثقافة والسياحة‪ ،2001 ،‬ص ‪.102‬‬

‫‪ 184‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪.14‬‬


‫‪ 185‬يدوه هيرودوأ عن األسااير التي تلللأ كتاباته بلنه كتبها كما سمعها من سكان البالد التعي زارهعا والتدع‬
‫أهلهععا‪ ،‬ال لشععيء إال ألن واجبععه يدت‪:‬ععي منععه تععدوينها‪ .‬راج ع ج إبرراهيم السررايح‪ ،‬هيرودوترروس والجزيررة العربيررة‪ ،‬ص‬
‫‪.28‬‬

‫‪ 186‬عاصم أحمد حسين‪ ،‬تاريخ وحضارة اإلغريق‪ ،‬القاهرة‪ :‬نهضة الشرق‪ ،1991 ،‬ص ‪.32‬‬
‫‪187‬‬ ‫‪Rosaria Vignolo Munson, Telling Wonders Ethnographic and Political Discourse‬‬
‫‪in the Work of Herodotus, Ann Arbor: The University of Michigan Press, 2001, P. 23.‬‬

‫‪-32 -‬‬
‫من المعرفة المجردة‪ ،‬بقدر ما تبتعد عن المعلومات الواقعية المحددة التي تعرف القارئ باألماكن‬
‫والقبائل واألسماء والطرق والمسافات واالتجاهات‪.188‬‬

‫ونالحظ أن حديثه عن العرب أو عن الجزيرة العربية ليس متصالً دائماً‪ ،‬وإنما يأتي‬
‫متناث اًر في أغلب األحوال‪ ،‬حسبما يقتضي سياق الموضوع األساسي‪ ،‬فذكر أن بالد العرب بعيدة‪،‬‬
‫وأنها تقع في نهاية العالم المأهول (بالنسبة لمعرفته)‪ ،‬كما أنه قد اتبع أسلوب التعميم والتجريد‪،‬‬
‫ولم يعطنا وقائع دقيقة تعرفنا باألماكن والقبائل واألسماء والطرق والمسافات واالتجاهات‪.‬‬

‫وال يغيب عنا جهله باللغات التي كان يتحدث بها سكان البالد التي زارها من ناحية‪،‬‬
‫وطول الفترة التاريخية التي تناولها من ناحية أخرى‪.189‬‬

‫ونقف من خالل كتاباته على أنه رجل شديد الفضول‪ ،‬يهتم بكل ما يصادفه‪ ،‬ولذا فقد‬
‫وقع أحياناً في كثير من االستطرادات التي تبعد القارئ عن الموضوع األصلي‪ ،‬إذ يحشر فيها‬
‫تفصيالت غير ذات أهمية‪ ،‬تعودنا نحن اليوم أن نضعها في الهوامش‪.‬‬

‫وربما نلتمس له العذر في ذلك‪ ،‬ألنه لم يشرع منذ البدء في تدوين كتاب ُيق أر من صفحته‬
‫األولى إلى صفحته األخيرة‪ ،‬بل كان في األصل مقاطع طويلة أو قصيرة يقرأها على جمهوره‪،‬‬
‫وهو ما قد يفسر اإلعادة والتكرار‪ ،‬إذ كان يذكر السامعين بأشياء ذكرها لسامعين اخرين في‬
‫قراءات أخرى‪.190‬‬

‫وفي كل ما أورده في كتاباته من معلومات في مجاالت تاريخية وجغرافية ودينية‪ ،‬فإن‬


‫أسلوب هيرودوت في الكتابة كان سهالً‪ ،‬إذ أنه يسرد رواياته بيسر وسالسة تجذب القارئ‪.‬‬

‫ومن خالل سرده‪ ،‬قصر إنتاج اللبان والمر والسنا والقرفة والالدن على الجزيرة العربية‪،‬‬
‫وذكر أن العرب يتاجرون في هذه الطيوب والتوابل مع البالد األخرى‪ ،‬وإن لم يعرفنا بماهية‬
‫الطرق التي كانت تسلكها قوافلهم التجارية‪ ،‬وترك لنا استنتاج ذلك‪ ،‬كما بيَّن في موضع اخر أن‬

‫‪ 188‬لطفي عبد الوهاب‪“ ،‬الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية”‪ ،‬ص ‪.56‬‬

‫‪ 189‬تاريخ هيرودوت‪ ،‬ص ‪.24‬‬

‫‪ 190‬إبراهيم السايح‪ ،‬هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.26‬‬

‫‪-33 -‬‬
‫‪191‬‬
‫(‪ 486 - 521‬ق‪.‬م) تتضمن ما‬ ‫العرب قدموا هدايا قيمة للملك األخميني داريوس األول‬
‫‪192‬‬
‫من البخور كل سنة‪ ،‬وهو ما نعتبره دليالً صريحاً على مدى تحقيقهم‬ ‫قيمته حوالي ألف تالنت‬
‫لتجارة مزدهرة ورائجة‪.193‬‬

‫وفي موضع اخر تحدث بشكل مفيد يوضح لنا مدى المشقة والصعوبات التي كان رجال‬
‫العرب يالقونها في أثناء قيامهم بجمع محاصيلهم ومنتجاتهم من اللبان والسنا والقرفة والالدن‪.194‬‬

‫وأخي اًر‪ ،‬ورغم كل ما يوجه من نقد لكتابات هيرودوت‪ ،‬إال أنه يبقى له فضل الريادة في‬
‫هذا المجال‪ ،195‬حيث يعد المؤسس الحقيقي للكتابة التاريخية‪ ،196‬كما أنه أورد كثي اًر من‬
‫المعلومات التي ثبتت صحة الكثير منها‪ ،‬عالوة على أنه يمتلك حساً وإبداعاً أدبياً وفنياً ملموساً‪،‬‬
‫قدم لنا به وصفاً مفيداً للجزيرة العربية‪ ،‬اشتمل على النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ -‬ذكر العرب وأراضيهم‪ ،‬وموقع بالدهم‪ ،‬ومميزاته‪.‬‬


‫‪ -‬أثر موقع بالد العرب في النواحي السياسية واالقتصادية للمنطقة‪.‬‬
‫‪ -‬منتجات بالد العرب النادرة‪ ،‬كالبخور واللبان والمر والقرفة‪.‬‬
‫‪ -‬طباع وعادات العرب وثناءه على أخالقهم‪ ،‬وذكره تجارتهم الخارجية‪.‬‬

‫وهو ما يعد أول مؤشر واضح الهتمام الغربيين بالمنطقة وسكانها‪ ،‬ويجعلنا كذلك مدينين‬
‫له بتوثيق تاريخ الجزيرة العربية القديم‪ ،‬في هذه الحقبة المبكرة من التاريخ‪.‬‬

‫‪191‬‬‫‪Burn, A.R., Persia and: The Greeks, the Defense of the West 546-478 B.C., New‬‬
‫‪York, 1962, pp. 96-127.‬‬
‫‪ 192‬التالنررت وحرردة م روازين تسرراوي ح روالي ‪ 25.5‬كجررم‪ .‬ارجررع‪ :‬عبررد هللا العبررد الجبررار‪ ،‬رنظ ررة الكترراب الكالسرريكيين‬
‫لتجارة الجزيرة العربيةر‪ ،‬ص ‪ ،123‬حاشية رقم ‪ ،14‬ويحدده الربعض بررنحو ‪ 25‬كجرم فقرط‪ .‬ارجرع‪ :‬إبرراهيم السرايح‪،‬‬
‫هيرودوتوس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.115‬‬
‫‪193‬‬ ‫‪Retsö, J., The Arabs in Antiquity, p. 246.‬‬
‫‪194‬‬‫‪Herodotus, The History of Herodotus, trans by A.D. Godley, London: The Digital‬‬
‫‪Loeb Classical Library, 1981, III: 97.‬‬
‫‪ 195‬حسين الشيخ‪ ،‬العرب قبل اإلسالم‪ ،‬ص ‪.10‬‬
‫‪196‬‬ ‫‪De Ste. Croix, Herodotus, p.130.‬‬

‫‪-34 -‬‬
(Histories) ‫) قطعة بردي من الجزء الثامن من كتاب هيرودوت‬1( ‫لوحة رقم‬
‫م في موقع‬1903 - 1895 (A. Hunt) ‫( وأرثر هنت‬B. Grenfell) ‫من حفائر برنارد جرنفل‬
‫ محفوظة حاليا ً بجامعة أكسفورد‬،‫( بالفيوم‬Oxyrhynchus)
Oxyrhynchus no.2099 Papyrology Rooms, Sackler Library, University of
Oxford.
:‫المصدر‬
http://163.1.169.40/gsdl/collect/POxy/index/assoc/HASH0156/0e601624.
dir/POxy.v0017.n2099.a.01.hires.jpg

-35 -
‫) الجزيرة العربية على خريطة العالم حسب هيرودوت‬1( ‫خريطة رقم‬
Atlas of Ancient and Classical Geography, J. M. Dent & sons, E. P.
Dutton & Co, London and Toronto, 1925, p. 4.

-36 -
‫خريطة رقم (‪ )2‬وسط وجنوب الجزيرة العربية‬
‫نقالً عن‪ :‬هيرودوتس والجزيرة العربية‪ ،‬ص ‪.113‬‬

‫‪-37 -‬‬

You might also like