Professional Documents
Culture Documents
58324172
58324172
-0 -
تمهيد:
في فترة متأخرة من العصور القديمة ظهرت كتابات تاريخية ،حاول أصحابها
أن يعرفوا بالحضارات القديمة ،ومن ثم فإن القدر األكبر من تاريخ هذه الحضارات لم
يعاصره المؤرخون القدماء ،وكان سبيلهم الوحيد إلى التعرف إليه هو الرواية ،أو عن
طريق المعلومات المتناثرة التي كانت تتأرجح بين الحقيقة والمبالغة واألسطورة.1
ويهدف البحث إلى إبراز الخطوط الرئيسية فيما كتبه هيرودوت عن منتجات
وتجارة الجزيرة العربية ،وما ُعني بإب ارزه في كتاباته ،في حقبة تمثل بداية االهتمام
الغربي بمنطقة الجزيرة العربية ،مع إيضاح الظروف واألسباب وراء هذا االهتمام.
وكذلك يهدف إلى تسليط ضوء على بدايات وأهداف اهتمام الكتاب
الكالسيكيين بالجزيرة العربية ،وتعرف أيضاً بجزيرة العرب ،2وهي ثاني أكبر شبه قارة
على وجه األرض وتغطي حوالي 3,237,5كم 2تقريب ًا ،3وقد تعاقبت عليها خالل
تاريخها القديم عصور كثيرة ،وتعددت مصادر البحث في تاريخ هذه العصور.4
لطفي عبد الوهاب يحي ،العرب في العصور القديمة ،مدخل حضاري في تاريخ العرب قبل 1
جزيرة العرب ،القاهرة :نشر محمد بن عبد هللا بن بليهيد النجدي ،1953ص 1؛ شهاب الدين
أبو عبد هللا ياقوت الحموي ،معجم البلدان ،بيروت ،1955مادة جزيرة العرب.
A. S. Alsharhan, et al., Quaternary Deserts and Climatic Change, 3
IGCP Project 349: Taylor & Francis, Al Ain, United Arab Emirates,
1998, p. 279.
4عبد العزيز صالح ،تاريخ شبه الجزيرة العربية في عصورها القديمة ،القاهرة :مكتبة األنجلو
المصرية ،2010 ،ص .8
-1 -
وألن الجزيرة العربية تقع وسط صح اروات ،تمتد كالحزام حول العالم القديم ،5فقد كان
تاريخها محكوماً بوجودها الجغرافي المشترك ،6ومصادرنا األولى عنها نأخذها من كتابات
اآلشوريين ،7بداية من القرن 9ق.م ،8وهي مليئة باألحداث ،9وهذه النصوص المسمارية قد
اعتادت على أن تنسب ألصحابها اآلشوريين والبابليين سلطاناً واسعاً ،وأسرفت في تصوير
انتصاراتهم الحربية على العرب ،10وإن كانت لم تخل مما يستفاد به منها ،فهي أقدم المصادر
11
التي سجلت تسمية العرب.
وال نجد فيما تركه لنا اليونان األوائل عن العرب أو بالد العرب إال خمس إشارات :اثنتان
12
المنسوبة إلى هوميروس ) (Homerosالذي يعتمد في شعره على منها في ملحمة األوديسة
تراث يوناني ،ينتهي عند أواسط القرن التاسع قبل الميالد ،وواحدة في أشعار هزيودوس
) (Hesiodosوهي أشعار ترجع إلى بعد هذه الفترة بما يقرب من قرن حيث كتب ملحمتين ،هما
سعد زغلول عبد الحميد ،في تاريخ العرب قبل اإلسالم ،بيروت :دار النهضة العربية ،1976 ،ص .62 5
أغناطيوس جويدي ،محاضرات في تاريخ اليمن والجزيرة العربية قبل اإلسالم ،ترجمة إبراهيم السامرائي ،بيرروت: 6
فيليب حتى ،العرب تاريخ مروجز ،بيرروت :دار العلرم للماليرين ،1991ص .27وعرن اإلشرارة إلرى برالد العررب 7
فرري السررجالت اآلشررورية ،يوجررد 37نصراً فرريDaniel David Luckenbill, Ancient Records of :
Assyrian and Babylonia, Chicago, 1968.أولهرا الرنر رقرم 611مرن عهرد شلمنصرر الثالرث ،واخرهرا
النر رقم 1084من عهد اشور بانيبال.
أقدم نر وردت فيره لفظرة رعرربر يرجرع أليرام رشلمنصرر الثالرثر ،وذكرر أن الملرك واجره فري العرام السرادس مرن 8
حكمه تحالفاً قاده أمير يلقب نفسه بلقب رملكر يقال له رجنديبور .راجع :جواد علي ،المفصل في تاريخ العرب قبل
اإلسالم ،ج ،1ط ،4بيروت :دار الساقي ،2001 ،ص .4
9
Peter Webb, Imagining the Arabs: Arab Identity and the Rise of Islam, Edinburgh
University Press, 2016, pp.23-59.
للمزيررد عررن العالقررات بررين شررمال الجزيررة العربيررة وبررالد ال ارفرردين ،ارجررع :عبررد المعطرري بررن محمررد عبررد المعطرري 10
سمسم ،العالقات بين شمال شبه الجزيرة العربية وبالد الرافدين منذ أقدم العصور وحتى القرن السادس ق.م ،ط،1
القاهرة :إيتراك للطباعة والنشر والتوزيع.2008 ،
11عبد العزيز صالح ،تاريخ شبه الجزيرة العربية ،ص 10-9؛ E. Ebeling, "Araber" Reallexikon der
Assyriologie. ANET 1928, S. 297; Adolf Grohmann, Kulturgeschichte des Alten
Orients, Bd. III, Arabien, Munich, 1963. S. 3.
The Odyssey, 4, 84; 15, 426. 12
-2 -
رأنساب اآللهةر وراألعمال واأليامر ،واثنتان في مسرحيتين تراجيديتين للشاعر إيسخيلوس
) (Aeschylusترجعان إلى العقود األولى من القرن الخامس قبل الميالد ،وجميعها تشير ،على
أحسن االفتراضات ،إلى معرفة غامضة أو شبه أسطورية عن العرب وبالدهم.13
بداية من أواسط القرن الخامس قبل الميالد تقريباً حدث تغير كبير في تصور بالد
العرب لدى الشعوب والدول التي اهتمت لسبب أو آلخر بالمنطقة ،ويبدو أن هذا التغير قد ظهر
واضحاً فيما تركه لنا الكتاب الكالسيكيون ،15سواء كان من بينهم المؤرخون أو الرحالة أو
الجغرافيون أو الكتاب الموسوعيون ،16في فرع أو اخر من فروع العلوم المختلفة ،حيث تشكل
17
أول تحقيقات مفصلة وموضوعية عن أحوال أعمالهم التي دونوها باللغتين اليونانية والالتينية
13لطفرري عبررد الوهرراب يحرري ،رالجزي ررة العربيررة فرري المصررادر الكالسرريكيةر ،د ارسررات ترراريخ الجزي ررة العربيررة ،ك،1
مصادر تاريخ الجزيرة العربية ،ج ،1جامعة الرياض ،1979ص .55
نحن ال نعرف على وجه التحديد تاريخ مولد هيرودوت ،وإن كان فري حردود سرنة 484ق.م تقريبراً ،ووفاتره فري 14
سرنة 420ق.م أو فري وقرت الحرق لرذلك ،ربمرا فري 425أو 426ق.م Stephen V. Tracy, Pericles: A
Sourcebook and Reader, University of California, 2009, p. 109; James S. Romm,
Herodotus, Yale University Press, 1998, p. 12-13.ولرد فري هاليكارناسروس )(Halicarnassus
(بودريوم Bodrumفي تركيا) ،ونشأ في أسرة محبة للعلم واالطالع ،ولها باع طويل في السياسة ،مما سراهم فري
تشرركيل عقليترره ،كمررا كرران لغررزو فررارس لرربالد اليونرران دور أيضراً فرري اتجاهرره الفكررري ،حيررث سرريكون موضرروع كتابرره
رالحر ررروب الفارسر ررية اليونانير ررةر ،ونظ ر ر اًر النشر ررغاله بالسياسر ررة فر رري شر رربابه دخر ررل هير رررودوت فر رري ص ر رراع مر ررع حكر ررام
هاليكارناسوس ،ونفي إلى مدينة ساموس ) (Samosوكانت مرك اًز ثقافياً مهماً في اليونان ،وشكلت فيما بعرد نقطرة
انطالقه في رحالته الواسعة ،التي تعتبر أحد أهم مصادر كتابته التاريخيرة ،وكانرت المحطرة التاليرة فري حياتره هري
اء مرن كتابره قبرل انتقالره إلرى مسرتعمرة ثروري ) (Thuriiفري جنروب إيطاليرا ،والتري
أثينا ) ،(Athensوفيها أتم أجز ً
شهدت اكتمال الكتاب ،وفيهرا تروفي .ارجرع :فهرد مطلرق العتيبري ،هيررودوت وبدايرة تكروين الروعي التراريخي الغربري
Fowler, بر ررالجزيرة العربير ررة ،ط ،1الرير رراض :دار الناشر ررر الر رردولي للنشر ررر والتوزير ررع ،2013 ،ص 18-17؛
"Herodotos and Athens", pp. 305–18; Ste. Croix, "Herodotus", p.132.
15 Webb, Imagining the Arabs, p.1-20.
الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية ،ج ،1هيرودوتس والجزيرة العربية ،ترجمة د .إبراهيم السرايح ،تعليرق: 17
د .رحمة بنت عواد السناني ،إشراف وتحرير :د .عبد هللا بن عبد الرحمن العبد الجبار ،الرياض ،الدارة 1439ه/
2017م).
-3 -
الجزيرة العربية ،فقد سجلوا لنا بعضاً من دولها ومدنها وموانيها وقبائلها وأهم مصادر الثروة فيها،
وطرق التجارة منها وإليها ،وضمنوها في مؤلفاتهم ابتداء من القرن الخامس قبل الميالد ،18وأولهم
هيرودوت ) (Herodotusورثوكيديدسر ) ،19(Thucydidesوهي في ذلك تختلف عما جاء
عن هذه المنطقة في الفترة السابقة من إشارات في سجالت الملوك اآلشوريين والبابليين ،أو
النصوص اآلرامية ،أو أسفار العهد القديم.20
21
هو كان أول من ظهر في كتاباته هذا التغير الواضح في تصور حدود شبه الجزيرة
حسبما لقبه رشيشرونر 23
هيرودوت ) )Herodotusأول المؤرخين ،22أو أبو التاريخ
) 24(Ciceroالخطيب والسياسي الروماني الشهير الذي عاش في القرن األول قبل الميالد.
وكانت كتابات هيرودوت بمثابة أول مؤشر واضح الهتمام الغربيين بالجزيرة العربية
وسكانها ،25وقد أدى إلى هذا االهتمام عامالن رئيسيان :أحدهما هو أن أول احتكاك كبير بين
اليونان والعالم الشرقي لم ينته بانتهاء الصدام العسكري مع اإلمبراطورية الفارسية الذي وقع في
الربع األول من القرن الخامس قبل الميالد ،والذي ظهرت فيه ضمن قوات هذه اإلمبراطورية
وحدات عسكرية عربية ،وإنما ظل التوتر كامناً ومستم اًر ،حتى ثار مرة أخرى في أواسط القرن
18 G.E.M. De Ste. Croix, “Herodotus”, Greece & Rome, Vol. 24, No. 2, Oct. 1977,
p.132; Robert L. Fowler, “Herodotos and Athens”, in Herodotus and his World,
Essays from a Conference in Memory of George Forrest, Edited by:
P. Derow and R. Parker, Oxford University Press 2003, pp. 305–18.
لطفي عبد الوهاب“ ،الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية” ،ص .55 20
جرى العرف على اعتبار كتابات رهوميروسر أول كتابة تستحق الذكر كمصدر عن المجتمع اليونراني فري هرذه 22
الفترة ،إال أن الكتابة التاريخية الحقة لم تبدأ إال بعد اكتشاف النثر كوسريلة جديردة للتعبيرر عرن فكرر اإلنسران ،وهنرا
يجررب أن نررذكر رهيكرراتيوسر م ررن ملطيررة قبررل هي رررودوت ،حيررث اقترررب م ررن النقررد الترراريخي كثير ر اًر فرري كتابرره ع ررن
راألنسابر .راجع :حسين الشيخ ،العرب قبل اإلسالم ،اإلسكندرية :دار المعرفة الجامعية ،1993 ،ص .10
23جرجي زيدان ،العرب قبل اإلسالم ،بيروت ،1968 ،ص 17؛De Ste. Croix, Herodotus, p.130.
24Andreas Kamp, Die erste "Verfassungs-Debatte": Herodot, Historie, III, 80 -
82, Universität zu Köln, 2003, s.8.
لطفي عبد الوهاب ،العرب في العصور القديمة ،ص .98 25
-4 -
ذاته ،في حرب دامت سجاالً بين األثينيين من جهة وبين الفرس يعاونهم األسطول الفينيقي من
جهة أخرى ،وال بد أن يكون هذا قد أثار في أذهان اليونانيين ،وبخاصة المثقفين منهم ،رغبة
واضحة في التعرف على هذا العالم الشرقي واستكناه هويته.
وأما العامل اآلخر فهو االزدياد الكبير في حجم تجارة اإلمبراطورية األثينية في القسم
الشرقي للبحر المتوسط ،وبخاصة بعد الضربة التي تلقاها النشاط التجاري الفينيقي في المنطقة
عقب الهزيمة التي حاقت باألسطول الفينيقي على يد األثينيين على شواطئ قبرص سنة 449
ق.م ،فقد انعكس هذا االزدياد في شكل رخاء عم كل جوانب الحياة في أثينا ،مركز هذه
اإلمبراطورية ،وكان من بين مظاهره استهالك متزايد في الطيوب والتوابل ،التي كانت تأتي من
26
واألعياد الجزيرة العربية ،في وقت كان فيه هذا النوع ضرورة يومية في المنزل والمعبد
واالجتماعات السياسية واالحتفاالت الرياضية والمناسبات االجتماعية.27
ويعد هيرودوت هو مؤسس الكتابة التاريخية ،حيث يظهر كأول مؤرخ يوناني يقوم بعمل
تاريخي متكامل ،28ويعتبر هو صاحب أول محاولة جادة في العالم القديم نحو كتابة التاريخ،29
حيث كتب مؤلفه المعروف 30بررالتحقيقاتر أو رالتواريخر ) ،31(Historiaeوهو االسم الذي أطلقه
26كان القدماء يعتقدون في أن أي شعيرة أو طقس ديني ،سواء أجرري لللهرة فري المعابرد أو للمروتى فري المقرابر،
ال تكررون لرره فاعليررة إال إذا صرراحبه حرررق البخررور .ارجررع :عبررد المررنعم عبررد الحلرريم سرريد :ترراريخ الجزيررة العربيررة فرري
عصر ما قبل اإلسالم ،اإلسكندرية :كي تي سي ،2006 ،ص .4
استعمل هيرودوت للمرة األولى كلمة تاريخ ) ،(Historiaeوجعلها عنواناً لمؤلفه القيم ،وهي كلمرة مرأخوذة مرن 31
فعررل يونرراني) ،(Historeōومعنرراه يفيررد البحررث والمشرراهدة والتقصرري .ارجررع :لطفرري عبررد الوهرراب يحرري ،اليونرران:
مقدمة في التاريخ الحضاري ،بيروت :دار النهضة العربية ،1979 ،ص ،247وحاشية رقم .23
-5 -
الرجل على كتابه ،ويعني على األغلب رالفحرر أو رالتحقيقر أو راالستقصاءر أو رالبحثر،32
وجاء في تسعة أجزاء:33
وتعد فترة الثالثين سنة الواقعة ما بين 420-450ق.م ،بمثابة الحقبة الخصبة من حياة
هيرودوت ،إذ انشغل فيها باستقصاء أخبار األمم وأحوالها ،والحروب التي خاضتها ،وتدوين هذا
التاريخ ،الذي أبدع فيه ،35حتى أننا نجد أن الكثيرين من قراء هيرودوت تأخذهم بساطة أسلوبه
وسهولته وسالسته ،ويؤخذون أكثر بشخصيته ،36حيث أن الهدف من رالتواريخر ليس فقط تقديم
إيفانز ،أ.ج ،هيرودوت ترجمة :أمين سالمة ،القاهرة :الدار القومية للطباعة والنشر ،2000 ،ص .12 32
33لم يكن المؤلف األصلي مقسماً إلى تسعة كترب كمرا هرو اليروم ،برل جراء هرذا التقسريم ممرن تكلفروا بنسرخه ونشرره
بعرد ذلررك فرري زمررن بطالمر ة اإلسرركندرية ،أي بعررد أكثررر مررن قررنين علررى تأليفرره ،كررذلك فررإنهم وضررعوا لكررل كترراب منرره
عنواناً .راجع :إبراهيم السايح ،هيرودوتوس والجزيرة العربية ،ص .32
هيرررودوت ،ترراريخ هيرررودوت ،ترجمررة عبررد اإللرره المررالح ،مراجعررة د .أحمررد السررقاف ود .حمررد بررن ص رراي ،أبررو 34
35أرسررطو طرراليس ،الكررون والفسرراد ،ترجمررة أحمررد لطفرري السرريد ،القرراهرة :الرردار القوميررة للطباعررة والنشررر،1966 ،
ص .7
أرنولد توينبي ،الفكر التاريخي عند اإلغريرق ،ترجمرة لمعري المطيعري ،تحقيرق د .محمرد صرقر خفاجرة ،القراهرة: 36
الهيئة المصرية العامة للكتاب ،سلسلة األلف كتاب الثاني ،1990 ،ص .35
-6 -
سجل تاريخي دقيق لألحداث ،وإنما متعة القراءة ،37كما كان ذلك عهداً من النشاط الفكري
العظيم الذي عرفه القرن الخامس ق.م في العديد من حقول المعرفة ،38عالوة على أن التأريخ
الكالسيكي يعتبر أكثر وضوحاً من التأريخ الهلينستي الذي يغلب عليه الجانب األخالقي
والخطابي ،مما يجعله أقل جدوى وإفادة.39
وقدم هيرودوت في كتابه رالتحقيقاتر نتائج أبحاثه ،وكان له هدفان رئيسيان :الواحد
40
من الضياع، منهما هو الحفاظ على األعمال البشرية الخالدة التي قام بها اإلغريق والبرابرة
والهدف اآلخر هو إثبات أن األعمال الرائعة التي اضطلع بها الهلينيون والشرقيون سوف تتمتع
بما هي أهل له من الشهرة ،خاصة تلك التي أدت إلى صدام فيما بينهم ،41وليسجل أسباب ما
شب بين الجانبين من صراع.42
ونالحظ أن حديث هيرودوت عن العرب أو عن الجزيرة العربية ليس متصالً دائماً ،وإنما
يأتي متناث اًر في أغلب األحوال ،حسبما يقتضي سياق الموضوع األساسي ،وهو الصدام بين
اإلمبراطورية الفارسية والعالم اليوناني ،43وما يسمح به تناول هذا الموضوع من استطرادات
ومقارنات ،44وكان هو أول من دفع بحدود بالد العرب لكي تشمل كل شبه الجزيرة العربية ،وإن
كان قد زاد على هذه الحدود بعض المناطق التي تقع إلى خارجها ،45وهو تصور يتأرجح بين
42لطفي عبد الوهاب ،رالجزيرة العربية في المصادر الكالسيكيةر ،ص ،67حاشية .4
43 De Ste. Croix, Herodotus, p.134.
44لطفي عبد الوهاب“ ،الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية” ،ص .56
أحمد أمين سليم ،جوانب من تاريخ وحضرارة العررب فري العصرور القديمرة ،اإلسركندرية :دار المعرفرة الجامعيرة، 45
،1998ص .51وقرد عررالج أجاثارخيررديس السراحل الشررقي للبحررر األحمرر فرري كتابرره عرن البحررر اإلريثررري ،حيررث
وصرف سرراحل الجزيررة العربيررة (ف .)98-87ارجرع :عررن البحررر اإلريثررري /أجاثارخيرديس الكنيرردي ،ترجمررة وتعليررق
الحسين أحمد عبد هللا ،القاهرة :عين للد ارسرات والبحروث اإلنسرانية واالجتماعيرة 2011؛ ونفرس المؤلرف ،رالسراحل
-7 -
شبه الجزيرة وهذه المناطق الواقعة إلى خارجها (مع اختالف في امتداد هذه المناطق الخارجية)،
حتى استقر نهائياً على شبه الجزيرة ،بما في ذلك المنطقة الصحراوية الشمالية الواقعة على
الحدود الجنوبية لمنطقة الهالل الخصيب (أي بما في ذلك بادية العراق وبادية الشام) ،في
كتابات بطلميوس كالوديوس ) (Ptolemaios Klaudiosالتي قام بها في خالل النصف األول
من القرن الثاني الميالدي ،46وهو الكاتب اليوناني المصري الذي عرفه العلماء العرب في
العصر اإلسالمي باسم بطليموس الجغرافي ،47وربما أنه قد يشفع لهيرودوت أن المعلومات
الصحيحة لم تكن اتضحت تماماً له ولمعاصريه.48
وعالوة على موقعها الجغرافي ،فقد تحدث كذلك عن طبيعة التربة في الجزيرة العربية،
وعن سكانها وعاداتهم وتقاليدهم ،كما تطرق إلى جانب من حياة السكان الدينية والعسكرية
ومالبسهم وسالحهم وطرقهم في الحرب ،وعالقاتهم الخارجية ،49وذكر أنهم األمة الوحيدة التي لم
يدخلوا في طاعة الفرس ،ولم يدينوا لهم بالوالء بوصفهم تابعين أو أرقاء ،بل أصبحوا لهم
أصدقاء ،50وقدم عرضاً لشعوب وأماكن هي على األغلب غير مألوفة للقراء في العصر
الحديث.51
الغربي للجزيرة العربية كما ورد في كتراب أجاثارخيرديس عرن البحرر اإلريثرري (د ارسرة نقديرة)ر ،نردوة الجزيررة العربيرة
في المصادر الكالسيكية ،الرياض :الدارة2018 /2 /2 -1 /30 ،م.
راجع فعي هعاا المو:عولج الجزيعرة العربيععة فعي المصعادر الكالسعيكية ،ج ،11بطلميروس كالوديروس والجزيررة 46
العربية ،ترجمة د .السيد جراد ،إشرراف وتحريرر وتعليرق د .عبرد هللا برن عبرد الررحمن العبرد الجبرار ،الريراض :الردارة
1439ه2017 /م.
مصطفى كمال عبد العليم ،رهرردوت يتحردث عرن العررب وبالدهرمر ،مجلرة العصرور ،مجلرد ،2ج ،1لنردن :دار 48
49أحم ررد فخ ررري ،د ارس ررات ف رري ت رراريخ الش رررق الق ررديم :مخت ررارات م ررن الوث ررائق التاريخي ررة ،الق رراهرة :مكتب ررة األنجل ررو
المص ررية ،1999 ،ص 232؛ أحمررد سررليم ،جوانررب مررن ترراريخ وحضررارة العرررب ،ص 51؛ لطفرري عبررد الوهرراب،
“الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية” ،ص .56
-8 -
ورغماً من أن الجزيرة العربية لم تقع تحت سلطان الثقافة التي ترعرعت وازدهرت في
وادي النيل ووادي الرافدين ،فإنها لم تستطع أن تتخلر من تأثيرها ،على أن ثقافة الجزيرة في
قراراتها كانت ثقافة محلية صرفة ،حاكت الثقافات التي نشأت على سواحل البحار ،وأصبح سكان
الجنوب الشرقي منها أرباب تجارة؛ توسطوا في سوق التجارة بين مصر وبالد ما بين النهرين
والبنجاب – وهي مراكز ثالثة مهمة للمتاجرة في العصور القديمة – وباسمهم تسمى البحر
الفاصل بين هذه البلدان.52
وقد تطرق هيرودوت في حديثه عن بالد العرب إلى أنها ليست ببالد بعيدة عن مصر،
وذكر البحر األحمر (الذي كان منذ أقدم العصور هو الطريق الذي حمل إلى العالم القديم أول
مبادئ االتصال الفكري والتجاري )53وقال إنه قريب من نهر النيل ،وأن الجزيرة العربية تقع إلى
الشرق منه ،وهذا يوضح لنا مفهوم هيرودوت واليونانيين عن حدود بالد العرب القديمة في القرن
الخامس قبل الميالد.54
ووصف البحر األحمر بأنه يبدو كخليج طويل ،وأن المرء يمكنه أن يقطع هذا البحر،
(الذي سيتحول تدريجياً إلى مجرى مائي مهم للغاية في مجال التجارة العالمية ،ونقل السلع
والبضائع بين سواحل الهند وبالد اليونان والرومان) بالسفينة بشكل طولي ،من شماله إلى جنوبه
والعكس ،في مدة حددها بأنها تعادل أربعين يوماً ،وأن القسم األضيق من هذا البحر (وهو
مضيق باب المندب) يمكن عبوره ،بشكل عرضي (لنقل البضائع والسلع بين جنوب غربي
الجزيرة العربية والجانب اإلفريقي المقابل له) ،في نصف يوم فقط ،وهو بالتأكيد سيكون قد أصاب
كبد الحقيقة إن كان يقصد عبور البحر من منطقة بوغاز باب المندب ،التي تعد أضيق نقطة في
البحر األحمر ،أما إذا كان هيرودوت يقصد عبور البحر من منتصفه فهو بذلك لم يجانبه
الصواب ،ألن عرض البحر األحمر يتراوح تقريباً ما بين 275كم عند شبه جزيرة سيناء ،وحوالي
-9 -
350كم ما بين مصوع وجيزان ،بينما أن هذا العرض يتراوح ما بين 30إلى 40كم في منطقة
البوغاز.55
روفي بالد العرب ،غير بعيد عن مصر ،خليج ضيق طويل( ،البحر األحمر )56يمتد في
البحر المعروف باسم اإلريثري (بحر العرب) ،وأن المرء ليستطيع عبور القسم األضيق منه في
نصف يوم ،ويستغرق أربعين يوماً إذا ركب السفينة من أقصاه ليبلغ نهايته ،أما ما يخص
عرضه فيمكن قطعه خالل نصف يوم ،ويتناوب هذا الخليج المد والجزر كل يومر.57
55فهررد العتيبرري ،هيرررودوت ،ص 45؛ محمررد أحمررد الرويثرري وأحمررد المهنرردس ،رالبحررر األحمررر وشررعبه المرجانيررةر،
الرياض :الدارة ،العدد ،1984 ،4ص .215-201
عن تاريخ البحر األحمر وأهميته والصراع القديم حوله ،راجع :بهية فهد الشريف ،رالبحر األحمر خالل القررنين 56
األول والث رراني الميالدي ررين :د ارس ررة تاريخير رة حض ررارية" ،رس ررالة ماجس ررتير غي ررر منش ررورة ،كلي ررة الشر رريعة والد ارس ررات
اإلسرالمية -جامعرة أم القررى1438 ،ه ر 2017 /م؛ Roger Joint Daguenet, Historie de la mer
Rouge de Lesseps à nos jours, Paris: L' Harmattan, 1997.
57تاريخ هيرودوت ،ص 137؛ Histories, II: 11.
ثاالسا Erythra Thalassaومعناها الحديث هو البحر األحمر والمحيط الهندي .ارجرع :إبرراهيم
58إريثرا /إروث ار َّ
السايح ،هيرودوتوس والجزيرة العربية ،ص .115
راج ع فععي هععاا المو:ععولج الجزيععرة العربيععة فععي المصععادر الكالسععيكية ،ج ،4أجاثارخيررديس الكنيرردي والجزيررة 59
العربية ،ترجمة د .الحسين عبد هللا ،تعليق د .عبد المعطي بن محمد سمسم ،إشراف وتحريرر د .عبرد هللا برن عبرد
الرحمن العبد الجبار ،الرياض :الدارة 1439ه2017 /م.
60راج في هاا المو:ولج بطلميوس كالوديوس والجزيرة العربية ،ترجمة د .السيد جاد.
-10 -
األحايين قد سمى البحر األحمر بالخليج العربي ) ، (Arabios Kolposوكذا الخليج العربي
بالبحر اإلريثري.61
وفي حوالي األلف األول قبل الميالد ظهرت دول مختلفة في الجزء الجنوبي الغربي من
الجزيرة العربية ،أهمها دول معين وسبأ وقتبان وحضرموت ،62وهنا برزت مكانة تجار الجزيرة
العربية ودورهم في الوساطة في عملية التبادل التجاري ،حيث كانوا إما تجا اًر أو ناقلين
64
وسورية والعراق ،وكذا اليونان والرومان ،حيث ظهرت للبضائع ،63لحساب ممالك ،مثل مصر
أقدم الحضارات ،التي كانت النظم الملكية التي نشأت فيها تعتمد في تصوير أبهة الملك على ما
يطلق عليه رسلع الرفاهية والترفر ،التي كانت تشمل الذهب المعدن النفيس ،65واألحجار الكريمة
ونصف الكريمة ،والعاج وخشب األبنوس الفاخر ،وريش النعام وبيضه ،وجلود الحيوانات الثمينة
كالفهود والنمور والثعابين ،وأتراس السالحف ،66وأيضاً األخشاب العطرية ،والتي كانوا يأتون بها
من المناطق الموسمية االستوائية في القارة اإلفريقية ،67وإن كان هناك من يؤكد على أنها ليست
تجارة سلع رفاهية ،ويراها تجارة ضرورية لمجتمعات الشرق األدنى ،بما في ذلك اإلغريق
63محمرد السريد غرالب ،رالتجرارة فري عصرر مرا قبرل اإلسرالمر ،د ارسرات فري تراريخ الجزيررة العربيرة ،الكتراب الثراني،
الجزيرة العربية قبل اإلسالم ،الرياض 1984م ،ص .195
ارجررع فرري هررذا الموضرروع :محم ررد السرريد عب ررد الغنرري ،شرربه الجزير ررة العربيررة ومصررر والتج ررارة الش رررقية القديمررة، 64
65بلقاسم رحماني وحرفروش مردني ،الردور المصرري فري جنروب شربه الجزيررة العربيرة والشررق اإلفريقري ،مراجعرة د.
سيد أحمد الناصري ،القاهرة :مكتبة زهراء الشرق ،1997 ،ص .15
66فرانسواز ديمانج ،رقوافل البخورر ،طرق التجارة القديمة ،روائرع اثرار المملكرة العربيرة السرعودية ،براريس :متحرف
اللوفر ،إدارة اإلنتاج الثقافي ،2010 ،ص .125
عبررد المررنعم عبررد الحلرريم :اآلثررار الباقيررة فرري الجزيررة العربيررة مررن عصررور مررا قبررل اإلسررالم ،اإلسرركندرية :كرري ترري 67
-11 -
والرومان ،باعتبار معظم هذه السلع تتعلق بحياة معظم السكان ،الرتباطها بعضها بطقوس
العبادة والدفن والعالج منذ األلف األول قبل الميالد.68
ومن البديهي أن موقع الجزيرة العربية إنما ساعد كثي اًر على أن يحتل أهلها مكانة ممتازة
في عالم التجارة ،حتى أن حياتهم االقتصادية كانت وقتذاك تقوم على التجارة الدولية.69
محمد بيومي مهران ،ردراسة حول العررب وعالقراتهم الدوليرة فري العصرور القديمرةر ،مجلرة اللغرة العربيرة والعلروم 68
االجتماعية ،العدد ،6الرياض :جامعة اإلمام محمد بن سعود اإلسالمية ،1976ص 327 – 326؛ عبرد هللا برن
عبرد الرررحمن العبررد الجبررار ،رنظررة الكترراب الكالسرريكيين لتجرارة الجزيررة العربيررةر ،الجزيررة العربيررة واليونرران وبيزنطررة،
التواصررل الحضرراري عبررر العصررور القديمررة والوسرريطة ،النرردوة العالميررة لعالقررات الجزيررة العربيررة بالعررالمين اليونرراني
والبيزنطرري (القرررن الخررامس قبررل المرريالد إلررى القرررن العاشررر المرريالدي) 6-10 ،ديسررمبر ،2010الريرراض :جامعررة
الملك سعود ،ص .121
برز في هذه الناحية دور كل من مملكتي سربأ وأوسران علرى وجره التحديرد ،حيرث كانرت أوسران تشرمل المنراطق 70
الساحلية الممتدة مرن بوغراز براب المنردب حترى أحرور الحاليرة ،ويردخل فري نطاقهرا مينراء عردن ،الرذي يعرد المردخل
الرئيسري للسرلع الرواردة مرن مسرتعمراتها التجاريررة علرى سراحل إفريقيرا الشررقي الررذي سرمي فري كتراب البربلروس باسررم
السرراحل األوسرراني ،قبررل أن يسررتولي كرررب إيررل وتررار علررى أوسرران ويصرربح سرراحل إفريقيررا الشرررقي الررذي كرران تابع راً
ألوسران ضررمن أمرالك سرربأ .ارجرع :إبرراهيم محمرد بيررومي مهرران ،فري ترراريخ مصرر والشرررق األدنرى القررديم ،القرراهرة،
،2009ص .332-331
للمزيررد عررن العالقررات بررين شرربه الجزيررة العربيررة والحبشررة ،ارجررع :عبررد المعطرري بررن محمررد عبررد المعطرري سمسررم، 71
العالقررات بررين شرربه الجزيررة العربيررة والحبشررة منررذ أقرردم العصررور وحتررى نهايررة العهررد الحبشرري برراليمن ،ط ،1القرراهرة:
إيتراك للطباعة والنشر والتوزيع.2008 ،
عررن المروارد النباتيررة والحيوانيررة والمائيررة فرري إفريقيررا منررذ عصررور مررا قبررل الترراريخ ،ارجررع :مجموعررة مررن العلمرراء، 72
ت رراريخ إفريقي ررا الع ررام ،مجل ررد ،1المنهجي ررة وعصررر م ررا قب ررل الت رراريخ ف رري إفريقيررا ،ب رراريس :ج ررون أفري ررك /اليونس رركو،
،1983ص .359-348
-12 -
تصدرها تلك المناطق إلى الشمال ،73ولتدعيم هذه الصالت أخذوا يرتبطون بصالت المصاهرة
مع زعماء قبائل السكان الوطنيين بالزواج من بناتهن.74
وقد أشار هيرودوت في موضع اخر إلى إثيوبيا ،75على أنها بلد بعيد ،وأورد بعضاً من
السلع التي كان تجار العرب يسافرون من أجل أن يستوردنها منها ،من لكي يتاجروا فيها مع
ممالك ودول شمال الجزيرة العربية ،وعلى رأسها الذهب ،واألشجار البرية وخشب األبنوس،
والفيلة التي يستخدمون سنها ،أي العاج.
"أما أبعد البلدان المأهولة من جهة الجنوب الغربي فهي إثيوبيا ،التي يتوفر فيها
الذهب بكميات عظيمة ،وبها الفيلة الضخمة ،وخشب األبنوس ،ومختلف أنواع األشجار البرية،
والرجال هناك يتصفون بأنهم أطول رجال العالم قامة وأشدهم وسامة وأطولهم عم اًر".76
وكما كان تجار الجزيرة العربية يقومون بدور بارز في التجارة الدولية وقتذاك ،عن طريق
77
وأسواق شبه القارة الهندية ،ومن ثم الوساطة في شراء سلع ومنتجات من أسواق إفريقيا الشرقية
ينقلونها إلى ممالك ودول شمال بالد العرب ،فإنهم كذلك تميزوا بإنتاج زراعي تحول إلى منتجات
عبررد المررنعم عبررد الحلرريم :د ارسررات فرري ترراريخ وحضررارة واثررار إفريقيررة الشرررقية فرري العصررور القديمررة ،اإلسرركندرية 74
،2006ص .124
75يذهب أغلب المؤرخين إلى أن اسم إثيوبيا استعمله اإلغريق والرومان ،وقصدوا به المنطقة الواقعة جنوب شرق
مصررر ،وأن كلمررة إثيوبيررا تعنرري فرري اإلغريقيررة أص رالً رأصررحاب الوجرروه المحترقررةر ،أو رأصررحاب العيررون المحترقررة
الالمعةر ،وقد ذكر هوميروس الكلمة مرتين في اإللياذة ،وثالث مرات فري األوديسرة ،كربالد بعيردة .ارجرع :رحمراني
ومدني ،الدور المصري في جنوب شبه الجزيرة والشرق اإلفريقي ،ص .10
77روى الكتاب الكالسيكيون ما يفيد أن العرب القدماء كرانوا يسريطرون علرى منراطق علرى سراحل إفريقيرا الشررقي،
ومن بينها مناطق تنتج البخور ،وهذه المنطقة تقع شمال الصومال الحالية ،والتي مرا ترزال حترى اليروم تنرتج نروعين
من البخور أو الكندر تسمى علمياً ) (Boswellia Frereana: B. Carteri and B. Sacraراجع :عبد المرنعم
عبررد الحلرريم :رالنشرراط التجرراري للعررربر ،ص 27؛ F. Nigel Hepper, Arabian and African
Frankincense Trees”, JEA, vol. 55, p. 69.
-13 -
وسلع ،كالبخور وغيرها ،78وتعتبر من الصناعات الخفيفة ،79حققت تمي اًز ونالت إعجاب تلك
اء ملحوظاً ،وهذا اإلنتاج لم يكن ليتيسر
الممالك والدول ،وازداد الطلب عليها ،مما حقق للعرب ثر ً
إال حيث تتوفر المياه ،األمر الذي لم يحدث إال في أقاليم قليلة من شبه الجزيرة العربية ،80حيث
أن أغلب أرض بالد العرب هي أرض صحراوية موات.81
وكانت الجزيرة العربية تحتل في العالم القديم مكانة خاصة في مجال إنتاج المواد
العطرية من بخور وطيوب وأفاويه ؟؟؟؟ ،وكانت من جهة أخرى تصدر ما يرد إليها من إنتاج
غيرها من البالد مثل الهند.82
وذكر هيرودوت أن بالد العرب بعيدة ،تقع في نهاية العالم المأهولَّ ،
وعدد أهم المنتجات
المعروفة التي ميزت هذه البالد ،التي كان لها الدور الرئيسي المباشر في رفع اقتصادها وازدياد
أهميتها ومكانتها بين بلدان العالم القديم ،كانت سبباً مباش اًر من أسباب اهتمام العالم بهذه البقعة
من األرض.
"وبالد العرب تقع في نهاية العالم المأهول بالسكان من جهة الجنوب ،وهي المكان
الذي يسمى الالدن".84 83
الوحيد الذي ينتج اللبان (البخور) والمر والسنا والقرفة والصمغ
ديزيره سقال ،العرب في العصر الجاهلي ،بيروت :دار الصداقة العربية ،1995 ،ص .48 79
إبراهيم محمد بيومي مهران ،رالزراعة في جنوب غربري الجزيررة العربيرة قبرل اإلسرالمر ،د ارسرات فري اثرار الروطن 80
العربي ،كتاب المؤتمر السرادس عشرر لالتحراد العرام للثراريين العررب ،النردوة العلميرة الخامسرة عشررة ،شررم الشريخ
18-15نوفمبر 2013م ،ص .1
81M. Reza-Ur-Rahim, "Agriculture in Pre-Islamic Arabia: Introduction", Islamic
Research Institute, International Islamic University, Islamabad Stable, Islamic
Studies, Vol. 10, No. 1 March 1971, p. 53.
مص ررطفى كم ررال عب ررد العل رريم ،رتج ررارة الجزير ررة العربي ررة م ررع مص ررر ف رري المر رواد العطري ررة ف رري العصر ررين اليون رراني 82
والرومررانير ،د ارسررات ترراريخ الجزي ررة العربيررة ،ك ،2مصررادر ترراريخ الجزي ررة العربيررة قبررل اإلسررالم ،جامعررة الريرراض
1414ه1984 /م ،ص .201
83هناك من يعترض علع وعوه هيعرودوأ بعلن النباتعاأ العاريعة اللمسعة المعاكورة هنعا تعلتي معن بعالد الععرب
وحدها ،زاعما ً أن بع:ا ً منها كان يجلب من أماكن ألرى ،مثه إثيوبيا وسورية والهندAsheri, D. et al, A .
Commentary on Herodotus, Book III, Oxford University Press, 2007, p. 501.
-14 -
وهكذا ،فقد قصر هيرودوت بشكل صريح إنتاج اللبان (البخور) والمر والسنا والقرفة
والصمغ الذي يسمى الالدن على الجزيرة العربية تحديداً ،دون غيرها من سائر بلدان العالم
ومناطقه ،85وهو ما يتماشى مع ما وصلنا من مصادر التاريخ القديم التي أيدت قيام العرب
بذلك ،بل واعتمادهم على هذه السلع في التجارة مع الممالك والدول الواقعة إلى الشمال منهم،
والتي ورد ذكرها في القران الكريم.86
87
بإنتاج العرب وذكر هيرودوت في موضع سابق من كالمه أن أهل العلم قد أبلغوه
للبان والبخور ،وأن ذلك األمر كان هو أهم ما يميزهم:
"وتنتج في أطرافها الشرقية البعيدة اللبان والبخور ،تلكم هي المعالم البارزة في تلك
البقعة".88
ولطالما اشتهر البخور والمر في الجزيرة العربية منذ القدم ،90يقول هيرودوت" :إن شذا
البخور والطيب والعطور يفوح من بالد العرب" ،91وكان للبان استخداماته المتعددة في العصور
مجموعة من المؤلفين ،اليمن :في بالد مملكة سبأ ،ترجمة بدر الدين عرودكي ،مراجعة يوسف محمد عبد هللا، 85
صنعاء :معهد العالم العربي والهيئة العامة للثار والمتاحف والمخطوطات اليمنية ،1999 ،ص .70
وهرري إشررارة ص رريحة منرره توضررح اعتمرراده فرري مواضررع كثي ررة مررن كالمرره علررى روايررات مسررموعة ،فكرران يأخررذ 87
بالرواي ررات الش ررفهية بوص ررفها مص ررد اًر م ررن مص ررادر كتاب ررة الت رراريخ ،فح رررص عل ررى االلتق رراء بك ررل م ررن لدي رره أخب ررار
ومعلومررات عررن األحررداث ،يحرراول توظيفهررا لخدمررة السررياق المتصررل لألحررداث التاريخيررة ،ولشرررح مررا ال يعرفرره مررن
أمور .راجع بتصرف :إبراهيم السايح ،هيرودوتوس والجزيرة العربية ،ص .30
مجموعررة مررن المررؤلفين ،رالبخررورر ،الموسرروعة العربيررة العالميررة ،مجلررد ،4الريرراض :مؤسسررة أعمررال الموسرروعة 89
-15 -
القديمة ،وتجمع بين استعماله في الطقوس التعبدية ،والتحنيط ،أو استعماله عط اًر ،92وترجع
93
أهميته وقتذاك إلى كونه ُيشكل مادة أساسية ال غنى عنها ،حيث يحرق في طقوس المعابد
95
عند والمقابر ،وأيضاً في المناسبات واالحتفاالت الدنيوية ،94وأيضاً على صعيد الحياة اليومية
96
والرومان ،حيث كان القدماء الشعوب القديمة في مصر والعراق وسورية ،وكذا في بالد اليونان
يعتقدون أن أي طقس ديني ُيجرى لللهة في المعابد أو للموتى في المقابر ال تكون له فاعلية
بدون حرق البخور ،97كما استخدم اللبان األصلي غير المقطع في عمليات التحنيط وفي بعض
ألوان الممارسات السحرية ،98وكذا استخدم مع المر في إعداد وصفات طبية متعددة األغراض.99
جاك ريسلر ،الحضارة العربية ،تعريب د .خليل أحمد خليل ،بيروت :منشورات عويدات ،1993 ،ص .122 90
91محمد غالب ،التجارة في عصر ما قبل اإلسالم ،ص 189؛ تاريخ هيرودوت ،ص 270؛ Histories, III:
13
92 Asheri, et al, A Commentary on Herodotus, III, p. 501.
Brian Doe, Southern Arabia (New Aspects Archaeology), New York: Thames & 93
Hudson Ltd, 1971, p. 49.
94والتر موللر ،راللبانر ،ص .2481
95محمر ررد بير ررومي مهر ر رران ،حضر ررارات الش ر رررق األدنر ررى الق ر ررديم ،ج ،1الحير رراة السياس ر ررية واالقتص ر ررادية والتشر ر رريعية،
اإلسكندرية :دار المعرفة الجامعية ،1999 ،ص .230
أحرقه اليونان على سربيل المثرال للمعبرود زيروس .ارجرع :محمرد عبرد القرادر برامطرف :لمحرات مرن تراريخ جزيررة 96
-16 -
يكون حديثاً ،إال أنه بعد نقله يكسى بترابه الناعم ،الذي ينشأ عن احتكاك قطعه بعضها ببعض،
فيصبح بعد ذلك شبه معتم.100
ويجمع اللبان بنفس الطريقة التي ُيجمع بها الصمغ ،وذلك بعمل شق في جزع الشجرة،
ُ
ثم ربط إناء أسفل الشق ،ويترك لمدة 15يوماً تقريباً ،فتسيل عصارة اللبان وهي شديدة اللزوجة،
وتتجمع في اإلناء على هيئة حبات ،101وكانت أجود أنواع الكندر تجلب من المناطق الواقعة
على جانبي خليج عدن ،في شمال شرق الصومال ،وفي شرق حضرموت ،حيث تنمو
أشجاره.102
104 103
ُيعتبر من أجود أنواع البخور في نظر ورظفارر وكان لبان أو بخور رحضرموتر
القدماء ،وكميته المحلية ليست بالقليلة ،وهو ال يقل جودة عن المستورد من الهند وإفريقيا ،105وقد
100والتررر مرروللر ،راللبررانر ،الموسرروعة اليمنيررة ،مررج ،4صررنعاء :مؤسسررة العفيررف الثقافيررة ،2003 ،ص – 2481
.2482
عبد المنعم عبد الحليم ،اآلثار الباقية في الجزيرة العربية ،ص .11-10 101
عبد المنعم عبد الحليم ،رالبخور عصب تجارة البحر األحمر في العصور القديمةر ،مجلة كلية اآلداب والعلوم 102
اإلنسانية -جامعة الملك عبد العزيز ،مجلد ،2جدة1402 :ه1982 /م ،ص .141
103ورد ذكرهررا فرري نقرروش المسررند باسررم حضرررموت ،وأطلررق عليهررا ربلينررير ) (Pliniusاسررم رأرض اللبررانر ،وذكررر
راسرترابونر ) (Straboأنهررا تنررتج المررر .ارجرع :عبررد هللا حسررن الشرريبة ،ترجمرات يمانيررة ،صررنعاء :منشررورات الكترراب
الجامعي ،2008 ،ص .65 ،37ويقع في نطراق حضررموت مينراء رقنرأر حيرث كران يرتم تجميرع البخرور مرن كافرة
أرجاء حضرموت ،ومنه ينقرل بالقوافرل عبرر الطررق التجاريرة البريرة .ارجرع :عبرد المرنعم عبرد الحلريم ،تراريخ الجزيررة
العربية ،ص .55ويصف كتاب رالطواف حول البحر اإلريثرير سواحل حضرموت الجنوبيرة بأنهرا منراطق موبروءة
يتجنبها الناس ،ومن ثم فال يجمع التوابل فيها سوى أولئك الذين كتب علريهم القصراص فري جريمرة مرا ،وربمرا كران
لررذلك صررلة بررالمعنى العبررري للكلمررة وهررو ردار المرروتر ،الررذي ترجمرره اإلخبرراريون رحاضررر مرروتر .ارجررع :إب رراهيم
مهران ،مصر والشرق األدنى القديم ،ص .323
104مدينرة علرى سراحل بحررر العررب ،حاليراً فرري غربري سرلطنة عمرران ( ،ارجرع خريطرة رقررم ،)2كانرت تابعرة لمملكررة
حضرررموت القديمررة ،وعرفررت عنررد الكترراب الكالسرريكيين باسررم رأرض اللبررانر ،وسرراعدت الشررروط المناخيررة المناسرربة
وسررقوط األمطررار الموسررمية علررى انتشررار أشررجار اللبرران والمررر ونموهمررا طبيعيراً ،ممررا أدى إلررى وجررود أفضررل أن رواع
اللبان هناك .راجع :جواد علي :المفصل في تراريخ العررب .275-274 /7وتوجرد جبرال مرتفعرة فري هرذا المكران
تعرف بجبال القمر ،راجع :الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية ،ج ،9الطواف حول البحر اإلريثري والجزيرة
-17 -
كان له دور كبير في تاريخ العرب القديم ،فكان أقدم السلع التي قامت عليها تجارة العرب القدماء
عبر الجزيرة العربية ،إذ كانت السيطرة على تجارته وعلى الطرق التي تسير خاللها هذه التجارة
هي المحور األساسي في سياسة ونشاط تلك الدول ،106لما كان ُيدره البخور من ثروات طائلة،
وكان يمثل وحده حوالي ٪60تقريباً من إجمالي الصادرات العربية وقتذاك.107
وأما عن رالمرر ) (Myrrhaالذي ذكره هيرودوت ،فهو عبارة عن راتنج صمغي زيتي
غامق اللون ،يجنى من أشجار شوكية ،108توجد في جنوب الجزيرة العربية ،ويستخرج من أنواع
مختلفة من األشجار المعروفة باسم ركوميفورار ) ،(Commiforaوربلسمودندرونر
) ،(Balsamodendronويوجد على شكل كتل حمراء تميل إلى اللون األصفر ،متكونة من
قطرات متجمعة ،وكثي اًر ما يكون مكتسياً بالتراب ،فال يتضح لونه.109
وال يزيد طول شجرة المر عن ستة أقدام ،ولها فروع ذات أوراق صغيرة بيضاوية الشكل،
تسقط في فصل الخريف ،وال تنمو إال في مناخ حار ورطب ،110ويعد المر من أهم المنتجات
الزراعية التي تاجر بها العرب مع العالم القديم ،وكان يشكل حوالي ٪30من إجمالي
الصادرات.111
العربيررة ،ترجمررة د .السرريد جرراد ،تعليررق د .حمررد بررن ص رراي ،إش رراف وتحريررر د .عبررد هللا بررن عبررد الرررحمن العبررد
الجبار ،الرياض :الدارة 1439ه2017 /م ،ص ،68-67حاشية .3
عبد المنعم عبد الحليم ،تاريخ الجزيرة العربية ،ص .4 106
107 عبرد هللا العبرد الجبرار ،رنظررة الكتراب الكالسريكيين ;Groom, Frankincense and Myrrh, p. 159
لتجارة الجزيرة العربيةر ،ص .119
Groom, Frankincense and Myrrh, p. 70. 108
109محمررد عبررد الحكرريم ،رتجررارة اللبرران والمررر فرري الرريمن القررديمر ،صررنعاء :مجلررة جامعررة صررنعاء للعلرروم االجتماعيررة
واإلنسانية ،ع ،2008 ،4ص .126 – 125
جواد مطر الحمد ،األحوال االجتماعية واالقتصادية في اليمن القديمرة ،الشرارقة :دار الثقافرة العربيرة،2002 ، 110
ص .333
Groom, Frankincense and Myrrh, p. 161. 111
-18 -
وقد كان للمر أهمية كبيرة في مصر على وجه خاص ،ألنهم كانوا يستخدمونه في
112
التي األغراض الدينية في المعابد ،فضالً عن أنه عنصر أساسي في عمليات تحنيط الموتى
كانت شائعة في المجتمع ،وفقاً للديانة المصرية القديمة وطقوسها ،وقد ورد اسمه مرات عديدة في
نقوش المسند ،ومنها ما يذكر أنه كان مخصصاً لمعابد اآللهة المصرية ،113وكان كذلك يدخل
في صناعة العطور ،114وهناك في التوراة ما يشير إلى أن العبرانيين استعملوا المر في الدهن
المقدس ،115فضالً عن عالج بعض األمراض ،116حيث استخدم في صورة كمادات ومراهم،
لتخفيف االلتهابات ومداواة الجروح.117
وفي بالد ما بين النهرين استعملوا المر ككمادات آلالم الرأس ،وفي معالجة تورم
األصابع وأمراض العين واألنف واألذن والشرج ،ويخلط بالشب كغسول للفم ،كما وصف لعسر
البول ،ويدخل في تركيب عدد من األدوية.118
119
)(Kassia وعن نبات رالسنار الذي ذكره هيرودوت ،فهو يعرف أيضاً باسم رالكاسيار
وهو عبارة عن نباتات عشبية معمرة ،تتميز بالطعم الالذع والرائحة الطيبة ،وهناك صنفان ينموان
منها في بالد العرب ،120ولونهما يميل إلى الحمرة ،وإذا جف خشبها صار لونه أبيض،121
113الررنقش ) (RES 3427/1ارج ررع :محمررد السرريد عب ررد الغنرري :شرربه الجزي ررة العربيررة ومصررر والتج ررارة الشر ررقية
القديمة ،اإلسكندرية :المكتب الجامعي الحديث ،1999 ،ص .136
ألفريد لوكاس ،المواد والصناعات عند قدماء المصريين ،ترجمة د .زكي إسكندر ومحمد زكريرا غنريم ،القراهرة: 114
تنمرو الكاسريا فري جنروب شربه الجزيررة العربيرة ،وهري شرجرة كثيفرة األغصرران وفروعهرا متينرة ،ومرن أهرم أنواعهررا 120
السررنا الررذي يسررتعمل ورقرره فرري الطيررب ،ويرردخل فرري تركيررب بعررض األدويررة للعررالج .ارجررع :يوسررف بررن ابررن رسررول،
المعتم ررد ف رري األدوي ررة المف ررردة ،ص ررححه وفهرس رره مص ررطفى الس ررقا ،ط ،2بيرررروت :دار المعرف ررة للطباع ررة والنشرررر
-19 -
والشجرة غليظة الساق ،ال يزيد ارتفاعها في الغالب على مترين ،ويحمل النبات أوراقا مركبة،
ريشية الشكل ،تتكون من زوجين إلى سبعة أزواج من الوريقات ،وأزها ار في قمم األغصان على
هيئة مجاميع ،ما بين زهرتين إلى سبع زهرات ،في شكل عناقيد ،ذات لون أصفر إلى برتقالي،
الثمار قرنية تشبه ثمار الفاصوليا ،أو الفول ،وشكلها مفلطح ،جلدية الملمس طولها ضعف
عرضها ،ذات لون بني مصفر ،تحتوي بداخلها بذو اًر ذات لون رمادي ،وقوامها صلب وتعرف
باسم القرنة رالجرابر ،122وتستخدم نبتة الكاسيا في التطبيب ،123مثل عالج بعض من األمراض
الصدرية والباطنية ،كما أنها تدخل في صناعة أدوية لعالج العيون.124
وقد ذكر نبات السنا في الحديث النبوي الشريف ،عن ابراهيم بن أبي عبلة قال :سمعت
عبد هللا بن أم حرام -وهو ممن صلى مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في القبلتين -يقول:
"عليكم بالسنا والسنوت فإن فيها شفاء من كل داء إال السامر ،125ورالسلخر أيضاً هو نوع من
رالكاسيار ،وورد ذكره في نقوش المسند على مبخرة بصيغة رسلختر ،126وذكر أيضاً في
التوراة.127
وعن رالقرفةر ) (Cinnamonفهي قشر شجر معمر ،طيب الرائحة ،وتتميز شجرة القرفة
بشدة اخضرار أوراقها ،وتكون األوراق على شكل قلب ،وثمارها مائلة إلى السواد الشديد ،ويتفرع
والتوزيرع ،1982 ،ص 235؛ باتريشرريا كرررون ،تجررارة مكررة ،ترجمررة امرال محمررد الروبرري ،القرراهرة :المجلررس األعلررى
للثقافررة ،2005 ،وقررارن :الجزي ررة العربيررة فرري المصررادر الكالسرريكية ( ،)5ديررودوروس الصررقلي والجزي ررة العربيررة،
ترجمررة د .أحمررد غررا نم ،تعليررق د .رحمررة بنررت ع رواد السررناني ،إش رراف وتحريررر د .عبررد هللا بررن عبررد الرررحمن العبررد
الجبار ،الرياض :الدارة1439 ،ه2017 /م.
ليبيا عبد هللا دماج ،المحاصيل الزراعية في اليمن القديم ،صنعاء ،2012 ،ص .100 121
-20 -
من جذورها العديد من الفسائل الصغيرة ،وتؤخذ القشور من اللحاء لتكشط ،وتخرج القرفة من
أجزاءها .128وتستخدم القرفة في الطعام ،ويدخل في صناعة الدواء وقيل :القرفة ضرب من الدار
صيني ،وهي أنواع ،منها الدار صيني الحقيقي ،129ومنها ما يطلق عليه رقرفة القرنفلر ،130وتنبت
في جزيرة سيالن بصورة خاصة ،131وقد أشار هيرودوت إلى جهل السكان بمصدرها:
روهم ال يعلمون من أين تأتي ،وأي البالد تنتجها ،وجلهم يخمنون بأنها تنمو في مكان
ما في اإلقليم الذي ترعرع فيه ديونيسوس ،إذ يقولون أن تلك العيدان الجافة – التي تعلمنا
من الفينيقيين أن ندعوها قرفة – تجلبها طيور كبيرة ،وتضعها في أعشاشها المبنية من
الطين ،والمتواجدة على حواف الجبال ،التي يعجز أي إنسان عن الوصول إليهار.132
وربما يتضح لنا من خالل اإلشارة إلى المكان الذي نشأ فيه ديونيسوس أن مناطق إنتاج
القرفة كانت في الجنوب على وجه التحديد ،وليس أي جهة أخرى ،إذ أن هيرودوت يوضح أنه
قد نشأ في مدينة نيسا /نوسا في إثيوبيا ،133وإن كان هناك من يعتمد على هذه اإلشارة ليقترح أن
محصول القرفة كان يأتي وقتذاك من بالد الهند.134
وكانت القرفة قد صدرت إلى مصر منذ حوالي ألفي سنة قبل الميالد ،وهي تعد من
المواد الثمينة ، 135وتعد هدية ذات قيمة عالية ،وكانت تهدى إلى الملوك واآللهة ،وقد أهديت إلى
والجزيررة العربيررة ،ص ،78حاشررية رقررم ،2وذكررر فرري موضررع اخررر مررن كتابرره 133إبععراهيا السععايي ،هيرودوتععو
أنها مدينة في إثيوبيا؟ الهند؟ .راجع :ص .116
134مصطفى عبد العليم ،رتجارة الجزيرة العربيةر ،ص ،211حاشية رقم .1
-21 -
معبد أبولو في مليتوس ،وكانت القرفة مكلفة للغاية الستخدامها بشكل شائع في طقوس الجنازات
في روما ،136حتى أن اإلمبراطور رنيرونر أحرق في جنازة زوجته ربوبايه ر كميات من البخور
تفوق ما تنتجه الجزيرة العربية خالل سنة.137
شجرة مفرطة اللزوجة ،تشبه شجرة رالعوسجر في الرطوبة التي تدبق على اليد واألصابع ،وأيضاً
في لونها األسود ،أما الظاهر منها والمسمى الدن فال يشبهها في الهيئة.140
136
Maguelonne Toussaint-Samat, History of Food, translated by Anthea Bell,
Cambridge, Mass. : Blackwell Reference, 1994, p. 437.
137فرانسواز ديمانج ،قوافل البخور ،ص .124
138هناك من يرى أن الالدن هو نفسه ما يعرف اليوم بررالمستكةر .راجع :لطفى عبرد الوهراب ،الجزيررة العربيرة فري
المصادر ،ص .56
ليبيا دماج ،المحاصيل الزراعية ،ص 104؛ أبو بكر أحمد ابن وحشية ،الفالحرة النبطيرة ،تحقيرق توفيرق فهرد، 140
ج ،2دمشق :المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية ،1995 ،ص .1264-1263
141بيستون ،ا.ف.ل .واخررون ،المعجرم السربئي ،منشرورات جامعرة صرنعاء ،بيرروت :دار نشرريات بيتررز -لوفران
الجديدة -مكتبة لبنان ،1982 ،مادة رل د نر ،ص .81
143مجموعة من المرؤلفين ،رالرالدنر ،الموسروعة العربيرة الميسررة ،القراهرة :دار الشرعب ومؤسسرة فررانكلين للطباعرة
والنشر ،1965 ،ص .1538
-22 -
"مادة ذات رائحة زكية ،رغم أنها توجد في مكان ذي رائحة كريهة جداً ،وهي تعلق
كالصمغ بلحية ذكر الماعز وهو يرعى بين الشجيرات ،ويستخدم في صناعة العديد من أنواع
العطور ،وهو البخور الرئيسي عند العرب".144
تحدث هيرودوت عن ما كان يالقيه العرب من صعوبة ،وأنهم يتكبدون مصاعب جمة
في أثناء قيامهم بجمع منتجاتهم من اللبان والسنا والقرفة والصمغ المسمى بالالدن ،واستثنى من
145
ذلك المر دون غيره ،فمن أجل أن يجمعوا البخور فإنهم كانوا يحرقون صمغ الميعة
) ،(Storaxوهو صمغ ذكر هيرودوت أن اإلغريق كانوا يحصلون عليه عن طريق (التجار)
الفينيقيين ،وأن العرب عندما يحرقون الصمغ فإن ذلك يولد كميات من الدخان الكثيف ،يتسبب
في طرد ما أسماه برالثعابين المجنحة ،146والذي ربما يقصد به الجراد أو ما يشبه ذلك من أنواع
الهوام التي تكثر في المزارع والحقول ،حيث أن أشجار البخور كانت بحسب وصفه تخضع
لحراسة أعداد كبيرة رأفاعي مجنحةر صغيرة في الحجم ،ومتعددة في ألوانها ،وذكر أيضاً أنها من
نوع األفاعي الذي يحاول غزو مصر ،وعلى أية حال ،فإن الدخان الكثيف وسيلة سهلة وفعالة،
متعارف عليها أثناء مواجهة الحشرات الطائرة.
"ويتكبد العرب في جمع هذه األشياء مصاعب جمة ،ما عدا المر ،فمن أجل أن يجمعوا
البخور فإنهم يحرقون صمغ الميعة ،وهو صمغ يحصل عليه اإلغريق عن طريق
الفينيقيين ،147وعن طريق حرق هذا الصمغ يحصلون على الدخان الذي يستطيعون عن
144تاريخ هيرودوت ،ص 270؛ Histories, III: 110؛ محمد عبد الغني :شبه الجزيرة العربية ،ص .135
الميعة :اللبني ،أو االصطراك الطبي ،وهو نبات يستخرج منه نوع قليل الجودة من البخور ،وينمو في سورية. 145
راجع :إبراهيم السايح ،هيرودوتوس والجزيرة العربية ،ص ،75حاشية رقم .2
ارجررع عررن هررذا الموضرروع :هالررة يوسررف محمررد سررالم :رأسرراطير الترهيررب بالحيررات فرري جنرروب الجزي ررة العربيررة 146
د ارسررة فرري المصررادر الكالسرريكيةر ،نرردوة الجزي ررة العربيررة فرري المصررادر الكالسرريكية ،الريرراض :الرردارة /5 /16-13
1439ه – 2018 /2 /2 -1 /30م.
147كرران الفينيقيررون يترراجرون بصررمغ الميعررة مررع بررالد اليونرران .ارجررع :مصررطفى عبررد العلرريم ،رهررردوت يتحرردث عررن
العرب وبالدهمر ،ص .13
-23 -
طريقه طرد األفاعي الطائرة (الجراد) ،فأشجار البخور تحرسها بأعداد كبيرة أفاعي مجنحة
صغيرة في الحجم ومتعددة في ألوانها ،وهذه األفاعي من نوع األفاعي التي تحاول غزو مصر،
وال يمكن طرد هذه األفاعي عن أشجار البخور إال عن طريق الدخان المنبعث من احتراق
صمغ الميعة ،ويقول العرب أن هذه المخلوقات كان يمكن أن تغزو العالم ،لوال حدوث أمر
غريب حد من انتشارهار.148
واألرجح هنا أن مرد هذه القصة الغريبة في جني محاصيل البخور العربي هم التجار،
الذين كانوا يحرصون أشد الحرص على احتكار تجارته الدولية ،وعدم إطالع أي أجنبي غريب
عليها ،وربما أن ذلك كان من أجل إضفاء المزيد من الغموض واإليهام على محاصيلهم المقدسة
عندما يسئلون عنها ،أو يحتمل كذلك أنه كان على سبيل الدعاية .149وإن كان هناك من يعزو
أمر تلك الخرافات المنسوجة عن الحصول على البخور وغيره من الموارد التجارية للجزيرة العربية
إلى السكان اليمنيين على وجه التحديد.150
وتتماشى هذه المشقة التي ذكرها هيرودوت مع وصف صاحب كتاب رالطواف حول
151
لسواحل حضرموت الجنوبية بأنها مناطق موبوءة يتجنبها الناس ،ومن ثم فال البحر اإلريثرير
يجمع التوابل واللبان منها إال العبيد أو المجرمين الذين صدرت ضدهم أحكاماً صارمة.152
149محمررد عبررد القررادر بافقيرره ،ترراريخ الرريمن القررديم ،بي ررروت :المؤسسررة العربيررة للد ارس ررات ،1973 ،ص – 184
.185
150توفيق برو ،تاريخ العرب القديم ،دمشق :دار الفكر ،ط ،2001 ،2ص .93
يعد هذا الكتاب من أصدق المصادر الكالسيكية التي اعتنت بذكر شيء من تراريخ جزيررة العررب وجغرافيتهرا، 151
وتحديداً مرا يتعلرق بنشراط موانئهرا التجاريرة علرى امترداد سرواحل البحررين األحمرر والعربري ،واألسرواق المتصرلة بهرا،
وما تصدره وتستورده تلك الموانئ من بضائع وسلع مختلفة في مدة توسع فيها النشاط التجاري ليشمل منراطق مرن
اسرريا وإفريقيررا .ارجررع :محمررد بررن علرري الحرراج ،رترراريخ كترراب الط رواف حررول البحررر اإلريثررري فرري ضرروء المصررادر
النقشية المسنديةر ،ندوة الجزيرة العربية في المصادر الكالسيكية ،الريراض :الردارة 1439 /5 /16-13ه – /30
2018 /2 /2 -1م.
-24 -
ويواصل هيرودوت كالمه ،فيصف لنا مدى المشقة التي كان يواجهها العرب أثناء
قيامهم بجمع هذه المحاصيل التي عددها سلفاً:
"عندما يخرج العرب لجمع السنا ،فإنهم يغطون أجسادهم ووجوههم ،ما عدا العينين،
بجلود الحيوانات ،إذ أن تلك النبتة تنمو في بحيرة ضحلة المياه ،تعج واألرض المحيطة بها
بمخلوقات مجنحة شديدة الشبه بالعناكب ،تطلق صرخات عالية ،لتنبه إلى الخطر ،ولديها ولع
شديد بالقتال ،ويقومون بإبعادهم وعدم السماح لها بمهاجمة أعين الرجال في أثناء قيامهم
بجمع السنا".153
وهذا وصف مناسب ،يتماشى مع الظروف البيئية الصعبة التي يتحتم على العمال جمع
المحصول فيها ،وسط محاصرتهم بأسراب من الحشرات الطائرة ،التي يبدو جلياً أنها كانت تؤذي
القريبين من أماكن وجودها على األشجار وفي محيطها.
وبنوع من أسلوبه التشويقي في السرد ،استطرد هيرودوت واصفاً كيفية قيام العرب بجمع
محصول القرفة ،بطريقة غير تقليدية لما هو متبع عادة في جمع المحاصيل ،ونجد فيها نوعاً من
المكر والحيلة ،والتي نعتها هيرودوت بأنها تدعو لمزيد من الدهشة عما سبق:
"أما الطريقة التي يتم فيها جمع القرفة فهي أكثر مدعاة للدهشة ،..... ،وقد ابتكر
العرب طريقة للحصول عليها بأن يقوموا بتقطيع لحوم الثيران أو الحمير أو أي حيوان آخر
من دواب الحمل إلى قطع كبيرة ،ويضعونها فوق سفوح الجبال التي تتواجد فيها هذه الطيور،
ثم يتراجعون إلى مسافة آمنة ،فتنزل تلك الطيور ،وتحمل قطع اللحم إلى أعشاشها ،ولما
كانت تلك األعشاش أضعف من أن تتحمل وزن قطع اللحم ،فإنها تتكسر ،وتقع على األرض
أسفل الجبل ،154حينذاك يأتي الرجال اللتقاط القرفة ،التي يصدرونها الحقاً إلى بلدان
أخرى".155
-25 -
وفي موضع الحق لحديثه عن كيفية حصول العرب على القرفة ،ذكر هيرودوت أن
األمر ذاته ينسحب على محصول الالدن ،وبشكل أكثر غرابة:
"لكن الطريقة التي يجلبون بها الالدن ،كما يسميه العرب ،أكثر مدعاة للعجب".156
ولكنه لم يوضح لنا مقصده من ذلك ،ولم يشرح لنا أو حتى يقدم إشارة نفهم منه مغزى
كالمه عن كيفية جمع الالدن ،وربما يكون في ذلك لون اخر من ألوان التشويق التي يتبعها كثي اًر
في سرده لألحداث ،ولكن وفقاً لما ذكره في وصفه من أن الالدن يعلق في لحى ذكور الماعز
(التيوس) ،ويتشكل فيها مثل الصمغ أو الغراء في الخشب ،157فإنه من المتوقع أن يكون
الحصول على هذه المادة الصمغية ال بد وأن يكون بامتصاصها من هذه اللحى بأية وسيلة
ممكنة ،وربما كانت تلك الوسيلة التي اتبعها القوم غريبة أو غير معتادة على هيرودوت ،فنعتها
بأنها مدعاة للعجب.
بداية من القرن الثاني عشر والقرن الحادي عشر قبل الميالد تكونت على ما يبدو
مبادالت تجارية منتظمة بين جنوب الجزيرة العربية وشمالها ،158لكن االزدهار التجاري عبر
ابتداء من القرن الثامن قبل الميالد ،ومنذ الحقبة
ً الجزيرة العربية 159لم يشهد بالفعل انطالقته إال
اآلشورية ،فضل الناس في بالد ما بين النهرين وفي المشرق استنشاق البخور بدالً من األعشاب
وهناك إشارات إلى استخدام منتجات الجنوب العربي في مصر بوفرة ،منذ األلف الثاني قبل الميالد علرى أقرل 158
تقدير .راجع :عبد العزيز صالح ،تاريخ شبه الجزيرة العربية ،ص .9
159عرن نشراط العررب خررارج نطراق الجزيررة العربيرة ،ارجررع :عبرد المرنعم عبرد الحلرريم سريد ،رالنشراط التجراري للعرررب
القدماء خارج الجزيرة العربية مرن خرالل النقروش العربيرة القديمرة وروايرات الكتراب الكالسريكيينر ،مجلرة بحروث نردوة
التجررارة عبررر العررالم العربرري علررى مررر عصررور الترراريخ ،حصرراد ،8القرراهرة :اتحرراد المررؤرخين العرررب ،2000 ،ص
.42-17
-26 -
العطرية المحلية ،160عالوة على استخدام البخور بكميات كبيرة -كما ذكرنا سلفاً – في الحياة
اليومية وفي المناسبات بممالك العالم القديم.
وهكذا برز تجار الجزيرة العربية ،وازدهرت تجارتهم ،وارتفع شأنهم ،وهو ما دفع الكتاب
الكالسيكيين إلى البحث والتحري عن مصادر هذه التجارة ،وأنواع السلع المصدرة ،ومناطق
اإلنتاج ،وغيرها من الموضوعات ذات الصلة ،التي أكسبت العرب شهرة عالمية في األسواق
الدولية ،وامتالكهم األموال والثروات الضخمة ،التي حققوها من تجارة المواد العطرية والتوابل
والمشتقات األخرى.161
ونحن نستطيع أن ندرك مقدار ما كان يمكن أن تجنيه بعض مناطق الجزيرة العربية من
ثروة من هذا المورد االقتصادي التجاري إذا ألقينا نظرة سريعة على بعض المؤشرات التي نستنتج
منها حجم النشاط التجاري والمعامالت التجارية في الجزيرة العربية ،ومن بين هذه المؤشرات،
على سبيل المثال ،ما نجده في النقوش التي عثر عليها المنقبون في العربية الجنوبية من وفرة
األلفاظ ذات المعاني التجارية ،التي تتصل بالبيع والشراء واالمتالك والعقود واألوامر التي كان
الملوك يصدرونها لتنظيم جباية المكوس (الضرائب الجمركية) على السلع التي تباع في األسواق،
أو لتنظيم المعامالت التجارية بجوانبها المختلفة.162
وكانت هذه التجارة الكبيرة في أيدي مختلف الشعوب والقبائل ،163حسب الحقب وتقلبات
التنظيمات السياسية للجزيرة العربية ،لكننا دائماً ما نالحظ النوع نفسه من التنظيم الذي يتضمن
مشاركة البدو الرحل وكذا السكان المقيمين ،فسكان الواحات كانوا يقدمون خدمات المأوى
والسقاية والعلف ،في حين أن التجار المنظمين لعمليات التبادل التجاري كانوا يقيمون فيها،
ويشكلون مجموعات قوية وثرية ،ونتيجة الحتكاكهم باألمم األخرى فقد كانوا بالتأكيد منفتحين
عبد هللا العبد الجبار ،رنظرة الكتاب الكالسيكيين لتجارة الجزيرة العربيةر ،ص .119 161
163لمزيررد مررن المعلومررات عررن هررذه التجررارة ومراحلهررا المتعررددة وطرررق التجررارة الترري كانررت تسررلكها القوافررل داخررل
الجزي ررة العربيررة وخارجهررا ،والقبائررل العاملررة فرري هررذا المجررال ،ارجررع :دانيررال ت .برروتس ،رترراريخ األصررولر ،طرررق
التجارة القديمة ،ص 79-71؛ كريستيان جوليان روبان ،رالعصور القديمةر ،ص .99-81
-27 -
على الثقافات األجنبية ومتأثرين بها بدرجات ،كما كان أصحاب الدواب ،الذين اكتسبوا مع الوقت
أهمية متزايدة ،ممولين ضروريين لحسن سير هذه التجارة ،ألنهم كانوا يؤمنون الدواب ،ويتطوعون
بصفتهم جمالين أو قادة للقوافل ،عبر الطرق والدروب ،كما كانوا عند الضرورة يوفرون مواكب
حماية للقوافل ،164تجنباً العتداءات قطاع الطرق وإغارتهم على القوافل أثناء ذهابها نحو الشمال،
وأثناء إيابها منه.
وإذا كان هيرودوت هنا يعد أول من تناول صادرات الجزيرة العربية من البخور ،165إال
أنه لم يفدنا في ماهية الطرق التي كان يسلكها التجار ب اًر أو بح اًر ،ونحن نستنتج من أكثر من
في هذه الفترة كانوا ال يزالون هم الوسطاء في تجارة 166
موضع في حديثه أن التجار الفينيقيين
الطيوب والتوابل بين الجزيرة العربية والعالم اليوناني ،حيث تصل البضائع إلى الموانئ الفينيقية،
ثم يحملها التجار الفينيقيون إلى الموانئ اليونانية ،167وربما إلى مصر أيضاً.168
وهؤالء التجار العرب كانت لهم صفات وطبائع أثيرة تميزهم على مر العصور في
تعاملهم مع األمم األخرى ،فلطالما عرف العرب بحسن الخصال ،ومنها الصدق واألمانة ،واحترام
العهود والوفاء بالعقود المبرمة ،حتى أنهم يكتبونها بالدم ،وغير ذلك من الصفات الحميدة التي
يجب وأن تتوفر في التاجر بوجه خاص.
عبد هللا العبد الجبار ،نظرة الكتاب الكالسيكيين لتجارة الجزيرة العربية ،ص .124 165
166بلغ الفينيقيون أوج ازدهارهم مع بداية األلف األولى قبل الميالد ،حيث أسسوا مستعمرات كانرت بمثابرة م اركرز
تجاريرة عظيمرة ،وسرط البحرر األبريض المتوسرط وغربره ،ثرم اتصرلت هرذه المسرتوطنات بعضرها بربعض وبالمردن
األصلية األم بطرق المالحة ،وانتشرت المستعمرات الفينيقية من رأس الدلتا إلى ساحل ركليكيا" ،كمرا انتشررت فري
جرزر البحرر األبريض المتوسرط ،وكانرت مسرتعمراتهم فري شررق البحرر المتوسرط أقردم مرن مسرتعمراتهم فري إفريقيرا
وإسبانيا .راجع :إبراهيم محمد بيومي مهران ،رالمالحة الفينيقية في جزر البحر المتوسطر ،دراسات في اثار الوطن
العربرري ،كترراب الم ررؤتمر الخررامس عش ررر لالتح رراد الع ررام للث رراريين الع رررب ،الن رردوة العلميررة الرابعررة عشر ررة ،وج رردة –
المملكة المغربية 15-13 ،أكتوبر 2012م ،ص .1
عبد العزيز صالح ،تاريخ شبه الجزيرة العربية ،ص .9 168
-28 -
ومن خالل ما كتبه هيرودوت وجدنا إشارات صريحة في كالمه تبين رؤيته للعرب بما
يتماشى مع ذلك:
"والعرب يحترمون الضمانات والعهود أكثر من أي أمة أخرى ،169وإذا أراد رجالن أن
يوثقا العهود بينهما فإنهما يقفان على جانبي رجل ثالث يحمل حج اًر حاداً ،يستخدمه لجرح
راحتي يديهما بالقرب من أسفل اإلبهام ،ثم يأخذ بعض خيوط الصوف من عباءة كل منهما،
170
ويغمسها بدمهما ،ويلطخ بها سبعة أحجار تقع بينهما ،وهو يردد اسم كل من ديونيسوس
وأورانيا ،171ثم يقوم الشخص الذي أخذ العهد على نفسه بتوصية أصدقائه بمن عاهده ،سواء
كان غريباً أو قريباً".172
وهذا الوصف الذي قدمه لنا هيرودوت ليس بمستغرب على العرب وعاداتهم المعروفة
في توثيق العقود والعهود والمواثيق بواسطة الدم ،وحتى استخدام األحجار ،ربما لتكون بمثابة
الشهود على هذه األحالف ،حيث اعتاد العرب فعل ذلك ،173في إشارة لتقدمهم ورقيهم
-29 -
االجتماعي انذاك ،174وأنه ال يوجد شعوب أخرى تماثلهم في المحافظة على العهود والمواثيق،
وجعل ذلك من واجباتهم الدينية المقدسة ،بدليل أنه أشار في وصفه ألسلوب العرب في عقد
معاهداتهم انذاك إلى أنهم يعتمدون على عنصرين رئيسيين مقدسين ،كان البد من توافرهما لعقد
المعاهدة وضمان سريانها واحترامها من كل األطراف:
فالعنصر األول هو استعمال الدم الذي يسيل من راحة يد كال طرفي المعاهدة دعماً
لتوثيقها.
وأما العنصر الثاني فهو حضور المعبودات الرئيسية لتشهد هذا الطقس وتكسبه صفة
القداسة وااللتزام من جميع أطراف المعاهدة وأقربائهم وأصدقائهم ،فقد أصبحت المعاهدة مسؤولية
جماعية.175
وهناك من يرجح أن وصف هيرودوت لكيفية عقد المعاهدات كان مبنياً على مشاهدة
عينية ،وأنه ربما يكون قد شاهد ذلك األمر بنفسه في أثناء زيارته للمنطقة الشرقية من دلتا النيل
بمصر.176
وتخبرنا التوراة بكيفية عقد يعقوب لحلف بينه وبين رالبانر اآلرامي :رفاآلن هلم نقطع
عهداً أنا وأنت ،فيكون شاهداً بيني وبينك ،فأخذ يعقوب حج اًر وأوقفه عموداً ،وقال يعقوب
إلخوته :التقطوا حجارة ،فأخذوا حجارة ،وعملوا رجمة ،وأكلوا هناك على الرجمةر.177
وأما عن اختيارهما ألحجار عددها سبعة في المعاهدة ،فهو أيضاً ليس باألمر المستغرب
على أسماعنا ،حيث أن هذا الرقم له قدسية خاصة في مصر ومنطقة الشرق األدنى القديم،178
وقام بدور في السحر والمعتقدات الدينية ،وربط العراقيون القدماء الرقم سبعة باألجرام السماوية
السبعة التي كان لها تأثير مهم في حياة الناس ،فعدت بمصاف اآللهة التي يجب توفيرها ،وطبقاً
-30 -
لمفاهيم القوم الدينية ،فقد قام هذا الرقم بدور مهم في عملية خلق اإلنسان في العراق القديم،
عندما خلقت اآللهة أول سبعة ذكور وأول سبع إناث ،لتكون بذلك بداية البشرية ،كما كان لهذا
الرقم تأثير مهم في المعتقدات الدينية لسكان بالد الرافدين ،من خالل اآللهة السبعة والحكماء
السبعة الذين جلبوا المعرفة إلى الناس ،وبالمقابل كان للشياطين السبعة موقع مرعب لهم من
179
خالل ممارساتهم الشريرة ضد الناس.
كتب هيرودوت مؤلفه بعد أن استقر بوطنه ،معتمداً على كتابة كل ما شاهده في البالد
التي زارها ،180حيث يمكننا القول بأن وصفه يتميز بالدقة ،وإن مزجت كتاباته بين الحقيقة
واألساطير التي كانت سائدة في أيامه ،أو التي سمعها من األشخاص الذين التقى بهم في
زياراته.181
ويعد هيرودوت مؤرخاً وجغرافياً وأنثروبولوجياً متمي اًز ،نجح في تدوين التاريخ ،ويعد كتابه
من أقدم المصادر األدبية التي استقى منها المؤرخون القدامى معلوماتهم عن الحضارات القديمة
قبل الكشف عن اآلثار.182
وذكر في بداية كالمه أنه يهدف للحفاظ على األعمال البشرية الخالدة التي قام بها
اإلغريق ،وأيضاً البرابرة (الشعوب األخرى) من الضياع ،وهو هدف سامي ،ويفترض أن نجده
متأصالً عند كل من عكف على كتابة التاريخ وانغمس في مناقشة األحداث التاريخية وتحليلها
بشكل علمي سليم.
179حكمت بشير األسود ،الرقم سبعة في حضارة بالد الرافدين ،دمشق :اتحاد الكتاب العرب ،2007 ،ص -10
.18
180اسررتمرت رحالترره الخارجيررة زهرراء سرربعة عشررر عام راً ،برردأها زيررارات الخارجيررة بجررزر البحررر المتوسررط ،مثررل:
ررودسر ورديلرروسر وربرراروسر ورثاسرروسر وركريررتر ،ثررم زار مصررر ،وبررالد مررا بررين النه ررين ،وفلسررطين ،وفينيقيررا،
وجنوب روسيا ،كما زار شمال إفريقيا .راجع :إبراهيم السايح ،هيرودوتوس والجزيرة العربية ،ص .25
181 The Oxford Classical Dictionary, s.v. Herodotus.
182إبراهيم السايح ،هيرودوتوس والجزيرة العربية ،ص .24
-31 -
وقد استند هيرودوت في تاريخه على التحري والتقصي واالستنتاج في جمع المادة
العلمية ،183وتوسل في ذلك بعدة مناهج مختلفة ،كلما عرضت له مشكلة ذات طبيعة خاصة،
فهو يعتمد على المعاينة في استخالص النتائج المتصلة بمالحظة عادات الناس وتصرفاتهم.184
وتعددت مصادره في الكتابة ،واتسمت بأنها تتأرجح بين الحقيقة والمبالغة واألسطورة،185
ولكن يؤخذ عليه أنه لم يعط المعالجة القدر الكافي من العناية ،فلم ينجح تماماً في التفصيالت
الدقيقة ،وتحليل األخبار ونقدها ،والتفرقة بين الحقائق واألساطير.186
وبسبب اتباعه في مواضع عديدة ألسلوب التشويق في الكتابة ،فقد ضمن كتابه العديد
من األمور الغريبة ،والتي ربما تصل إلى حد الخرافة ،مثل حديثه عن جمع العرب للمحاصيل
العطرية من أشجار البخور ،التي كانت بحسب وصفه تخضع لحراسة أعداد كبيرة من األفاعي
المجنحة صغيرة الحجم ،ومتعددة األلوان ،وكذا عند وصفه لكيفية جمعهم لمحصول القرفة بطريقة
غريبة غير معتادة ،وهو ما جعل البعض يعتبره قد تخطى كونه مؤرخاً وأصبح كناقل
لألساطير.187
وبوجه عام ،فإن ما كتبه هيرودوت بأسلوبه النثري ،وإن كان يعطينا معلومات جادة عن
الجزيرة العربية وأبعاد الحياة فيها ،فإنه يبقى حديثاً موسوعياً ،يعنى بالقضايا العامة التي تقترب
حميد العواضي وعبد اللطيف األدهم ،بالد اليمن في المصادر الكالسيكية -د ارسرة ومخترارات ،صرنعاء :و ازرة 183
186عاصم أحمد حسين ،تاريخ وحضارة اإلغريق ،القاهرة :نهضة الشرق ،1991 ،ص .32
187 Rosaria Vignolo Munson, Telling Wonders Ethnographic and Political Discourse
in the Work of Herodotus, Ann Arbor: The University of Michigan Press, 2001, P. 23.
-32 -
من المعرفة المجردة ،بقدر ما تبتعد عن المعلومات الواقعية المحددة التي تعرف القارئ باألماكن
والقبائل واألسماء والطرق والمسافات واالتجاهات.188
ونالحظ أن حديثه عن العرب أو عن الجزيرة العربية ليس متصالً دائماً ،وإنما يأتي
متناث اًر في أغلب األحوال ،حسبما يقتضي سياق الموضوع األساسي ،فذكر أن بالد العرب بعيدة،
وأنها تقع في نهاية العالم المأهول (بالنسبة لمعرفته) ،كما أنه قد اتبع أسلوب التعميم والتجريد،
ولم يعطنا وقائع دقيقة تعرفنا باألماكن والقبائل واألسماء والطرق والمسافات واالتجاهات.
وال يغيب عنا جهله باللغات التي كان يتحدث بها سكان البالد التي زارها من ناحية،
وطول الفترة التاريخية التي تناولها من ناحية أخرى.189
ونقف من خالل كتاباته على أنه رجل شديد الفضول ،يهتم بكل ما يصادفه ،ولذا فقد
وقع أحياناً في كثير من االستطرادات التي تبعد القارئ عن الموضوع األصلي ،إذ يحشر فيها
تفصيالت غير ذات أهمية ،تعودنا نحن اليوم أن نضعها في الهوامش.
وربما نلتمس له العذر في ذلك ،ألنه لم يشرع منذ البدء في تدوين كتاب ُيق أر من صفحته
األولى إلى صفحته األخيرة ،بل كان في األصل مقاطع طويلة أو قصيرة يقرأها على جمهوره،
وهو ما قد يفسر اإلعادة والتكرار ،إذ كان يذكر السامعين بأشياء ذكرها لسامعين اخرين في
قراءات أخرى.190
ومن خالل سرده ،قصر إنتاج اللبان والمر والسنا والقرفة والالدن على الجزيرة العربية،
وذكر أن العرب يتاجرون في هذه الطيوب والتوابل مع البالد األخرى ،وإن لم يعرفنا بماهية
الطرق التي كانت تسلكها قوافلهم التجارية ،وترك لنا استنتاج ذلك ،كما بيَّن في موضع اخر أن
-33 -
191
( 486 - 521ق.م) تتضمن ما العرب قدموا هدايا قيمة للملك األخميني داريوس األول
192
من البخور كل سنة ،وهو ما نعتبره دليالً صريحاً على مدى تحقيقهم قيمته حوالي ألف تالنت
لتجارة مزدهرة ورائجة.193
وفي موضع اخر تحدث بشكل مفيد يوضح لنا مدى المشقة والصعوبات التي كان رجال
العرب يالقونها في أثناء قيامهم بجمع محاصيلهم ومنتجاتهم من اللبان والسنا والقرفة والالدن.194
وأخي اًر ،ورغم كل ما يوجه من نقد لكتابات هيرودوت ،إال أنه يبقى له فضل الريادة في
هذا المجال ،195حيث يعد المؤسس الحقيقي للكتابة التاريخية ،196كما أنه أورد كثي اًر من
المعلومات التي ثبتت صحة الكثير منها ،عالوة على أنه يمتلك حساً وإبداعاً أدبياً وفنياً ملموساً،
قدم لنا به وصفاً مفيداً للجزيرة العربية ،اشتمل على النقاط التالية:
وهو ما يعد أول مؤشر واضح الهتمام الغربيين بالمنطقة وسكانها ،ويجعلنا كذلك مدينين
له بتوثيق تاريخ الجزيرة العربية القديم ،في هذه الحقبة المبكرة من التاريخ.
191Burn, A.R., Persia and: The Greeks, the Defense of the West 546-478 B.C., New
York, 1962, pp. 96-127.
192التالنررت وحرردة م روازين تسرراوي ح روالي 25.5كجررم .ارجررع :عبررد هللا العبررد الجبررار ،رنظ ررة الكترراب الكالسرريكيين
لتجارة الجزيرة العربيةر ،ص ،123حاشية رقم ،14ويحدده الربعض بررنحو 25كجرم فقرط .ارجرع :إبرراهيم السرايح،
هيرودوتوس والجزيرة العربية ،ص .115
193 Retsö, J., The Arabs in Antiquity, p. 246.
194Herodotus, The History of Herodotus, trans by A.D. Godley, London: The Digital
Loeb Classical Library, 1981, III: 97.
195حسين الشيخ ،العرب قبل اإلسالم ،ص .10
196 De Ste. Croix, Herodotus, p.130.
-34 -
(Histories) ) قطعة بردي من الجزء الثامن من كتاب هيرودوت1( لوحة رقم
م في موقع1903 - 1895 (A. Hunt) ( وأرثر هنتB. Grenfell) من حفائر برنارد جرنفل
محفوظة حاليا ً بجامعة أكسفورد،( بالفيومOxyrhynchus)
Oxyrhynchus no.2099 Papyrology Rooms, Sackler Library, University of
Oxford.
:المصدر
http://163.1.169.40/gsdl/collect/POxy/index/assoc/HASH0156/0e601624.
dir/POxy.v0017.n2099.a.01.hires.jpg
-35 -
) الجزيرة العربية على خريطة العالم حسب هيرودوت1( خريطة رقم
Atlas of Ancient and Classical Geography, J. M. Dent & sons, E. P.
Dutton & Co, London and Toronto, 1925, p. 4.
-36 -
خريطة رقم ( )2وسط وجنوب الجزيرة العربية
نقالً عن :هيرودوتس والجزيرة العربية ،ص .113
-37 -