Professional Documents
Culture Documents
بيان منهج أهل السنة في الأمر بالمعروف - تنسيق أخير
بيان منهج أهل السنة في الأمر بالمعروف - تنسيق أخير
بيان منهج أهل السنة في الأمر بالمعروف - تنسيق أخير
تأليف
الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على رسوله األمين وعلى آله وصحبه
أجمعين ،وبعد:
فهذا الكتيب جزء اجتزأته من كتاب (سبيل الرشاد يف تقرير مسائل االعتقاد)
وهو يف (بيان منهج أهل السنة يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وذلك
لتدريسه يف الدورة السابعة المقامة يف (معهد اإلمام البخاري) يف دولة
إندونيسيا.
سائال اهلل أن ينفع هبا وأن يوفقنا وإخواننا المشاركين يف الدورة وعموم
ً
المسلمين لكل خير.
وكتبه/
1444/5/3هـ
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 4
األمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل العظيمة التي وقع
االختالف فيها والتفرق بين المسلمين ،وترتب على المخالفة فيها من البدع
والضالل والظلم والبغي ما ال يحصيه إال اهلل ،ولهذا ذكرها بعض العلماء يف
مسائل أصول الدين.
قال ابن العربي $ضمن حديثه عن قوله تعالى﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ
فيكون حد المنكر يف اللغة :هو ما استوحشت منه النفس ولم يقبله القلب.
منكرا« :ألن من أنكر شي ًئا توحش منه ونبا عنه» .قاله ابن فارس
ً وسمي
.)1($
والمنكر يف الشرع :هو كل ما قبحه اهلل أو هنى اهلل عنه هني تحريم أو تنزيه من
المعاصي والمكروهات (.)2
منكرا؛ ألن أهل اإليمان باهلل
ً قال الطربي « :$سميت معصية اهلل
يستنكرون فعلها ،ويستعظمون ركوهبا»(.)3
ﮉ ﮊ﴾ [األعراف.]157:
يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية« :وتحريم الخبائث يندرج يف معنى النهي عن
المنكر ،كما أن إحالل الطيبات يندرج يف األمر بالمعروف »(.)2
ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ
ﮊ﴾ [األعراف.]157:
-2باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع اإليمان باهلل نالت هذه األمة
الخيرية على األمم ،وسبقت إلى هذا الفضل والشرف ،قال تعالى﴿ :ﭞ ﭟ
[التوبة.]71:
-5ثناء اهلل على أهل التمكين من األمراء وغيرهم بالقيام به ،قال تعالى:
﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ
أضعف اإليمان»(.)1
-7تعرض األمة للعقوبات العامة برتكه ،قال تعالى﴿ :ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ
-8إخبار اهلل عن طائفة من أهل الكتاب بالقيام به وثناؤه عليهم بذلك مع
بعض شعب اإليمان األخرى ،قال تعالى ﴿ :ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ
ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ
ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [آل
عمران.]114-113:
-9وصية الحكماء والصالحين بالقيام به ،وأن القيام به من عزم األمور ،قال
ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ
ﭾ ﭿﮀﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [المائدة.]79-78:
( )1الفصل ( ،)132 /4وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي ( ،)301 /2أحكام القرآن البن الفرس (.)34 /2
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 12
وأما من السنة :فحديث أبي سعيد الخدري ﭬ :أنه سمع رسول اهلل ﷺ
منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع
يقول« :من رأى منكم ً
فبقلبه ،وذلك أضعف اإليمان»(.)1
فأمر النبي ﷺ بتغيير المنكر بحسب االستطاعة ،واألمر هنا للوجوب كما
قرر هذا جمع من أهل العلم.
قال النووي« :قوله ﷺ« :فليغيره» فهو أمر إيجاب بإجماع األمة»(.)2
األمر
َ األمر على الوجوب؛ َّ
ألن ُ وقال أبو العباس القرطبي « :$هذا
ِ
بالكتاب ِ
ودعائم اإلسالم، ِ
واجبات اإليمان، َّهي عن المنكر من ِ
بالمعروف والن َ
والسنة وإجماع األمة»(.)3
منكرا فليغيره :هو أمر إيجاب على
ً وقال السيوطي « :$من رأى منكم
األمة»(.)4
أيضا من السنة :حديث حذيفة ﭬ المتقدم عن النبي ﷺ أنه
ومن األدلة ً
قال« :والذي نفسي بيده ،لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اهَّلل
أن يبعث عليكم عقا ًبا منه ثم تدعونه فال يستجاب لكم»(.)5
فقد تضمن الحديث الوعيد بعقوبة اهلل على ترك األمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،فدل على وجوب القيام هبما ،إذ ال عقوبة إال على ترك واجب أو
فعل محرم.
أما اإلجماع :فقد حكاه جماعة من العلماء.
قال ابن حزم « :$اتفقت األمة كلها على وجوب األمر بالمعروف والنهي
عن المنكر بال خالف من أحد منهم»(.)1
وقال النووي « :$وقد تطابق على وجوب األمر بالمعروف والنهي عن
أيضا من النصيحة التي هي الدين،
المنكر الكتاب والسنة وإجماع األمة ،وهو ً
ولم يخالف يف ذلك إال بعض الرافضة وال يعتد بخالفهم»(.)2
وقال ابن القطان الفاسي « :$وأجمعوا على وجوب األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بأيديهم وبألسنتهم إن استطاعوا ذلك ،وإال فبقلوهبم»(.)3
وإذا تقرر وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكتاب والسنة
واإلجماع فههنا مسألتان متعلقتان بذلك:
المسألة األولى :هل وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب
عيني على كل فرد من أفراد األمة أم كفائي؟
وحسنه األلباين يف صحيح الجامع ( )1189 /2وقال محققو المسند« :حسن لغيره ».
( )1الفصل يف الملل واألهواء والنحل (.)132 /4
( )2شرح النووي على مسلم (.)22 /2
( )3اإلقناع يف مسائل اإلجماع (.)62 /1
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 14
عمران.]110:
وممن قال هبذا الزجاج والسمعاين والبغوي وابن كثير ومحمد رشيد
رضا(.)2
القول الثاين :أنه من فروض الكفايات ال يجب على كل أحد بعينه ،ويسقط
بفعل البعض كالجهاد ،واحتجوا لقولهم بأن (من ) يف قوله تعالى﴿ :ﮖ ﮗ
والمعنى( :لتكن طائفة منكم يدعون إلى الخير )...قالوا :ألن األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ليس لكل أحد ،وإنما يكون للعلماء وليس كل األمة علماء،
وقد ع َّين اهلل تعالى القائمين به بقوله﴿ :ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ
مكنوا.
وهو قول أكثر العلماء ،وبه قال ابن العربي والقرطبي والنووي وابن دقيق
وشيخ اإلسالم ابن تيمية ،وابن القيم ،وابن النحاس ،والسفاريني والشوكاين،
واأللوسي والسعدي ومحمد األمين الشنقيطي وغيرهم (.)1
دليل على أن األمر ﴿ﮖ ﮗ ﮘ﴾ [آل عمران]104: يف مطلق قوله تعالى:
عدال ،خال ًفا
بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يقوم به المسلم ،وإن لم يكن ً
للمبتدعة الذين يشرتطون يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر العدالة .وقد
ب َّينا يف كتب األصول أن شروط الطاعات ال تثبت إال باألدلة ،وكل أحد عليه
فرض يف نفسه أن يطيع ،وعليه فرض يف دينه أن ينبه غيره على ما يجهله من
طاعة أو معصية ،وينهاه عما يكون عليه من ذنب .وقد بيناه يف اآلية األولى
( )1انظر أحكام القرآن البن العربي ( )383 /1وتفسير القرطبي ( )165 /4وشرح النووي على
مسلم ( )23 /2وشرح األربعين النووية البن دقيق العيد (ص)92 :واألمر بالمعروف والنهي
عن المنكر البن تيمية (ص )9 :وإعالم الموقعين البن القيم ( )124 /3وتنبيه الغافلين البن
النحاس (ص )29 :ولوامع األنوار للسفاريني ( )707/3وفتح القدير للشوكاين ()423/1وتفسير
األلوسي ( )238 /2تفسير السعدي (ص )307 :وأضواء البيان للشنقيطي (.)222 /4
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 16
قبلها.
وهذا هو الصواب الذي تقتضيه األدلة من حيث الجملة ،لكن يندرج تحته
تفصيل مؤثر يف الحكم باعتبار درجات المأمور به والمنهي عنه يف نفسه،
وباعتبار مراتب الناس يف القدرة على ذلك ،وباعتبار مراتب اإلنكار وما يتعلق
منها باليد أو اللسان أو القلب.
أما ما يرجع إلى تفاوت المأمور به والمنهي عنه :فقد تقدم أن المعروف
يدخل يف عمومه الواجب والمستحب ،والمنكر يدخل يف عمومه المحرم
والمكروه ،وعليه فاألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون تاب ًعا
ألصل المشروعية وجو ًبا وند ًبا.
فيكون على مرتبتين :واجب ،وهو األمر بالمعروف الواجب والنهي عن
المنكر المحرم ،ومستحب :وهو األمر بالمعروف المستحب والنهي عن
المنكر المكروه ،وهذا الذي تقتضيه أصول الشريعة ،فإن ما شرعه اهلل على
سبيل الندب وما هنى اهلل عنه على سبيل التنزيه لم يوجبه على األمة فكذلك
األمر بالمندوب والنهي عن المكروه يف مقام الحسبه يتنزل عليه حكم األصل.
وقد صرح بهذا بعض العلماء :يقول ابن بطال « :$وقال بعض العلماء:
األمر بالمعروف منه فرض ومنه نافلة ،فكل شيء وجب عليه العمل به وجب
عليه األمر به كالمحافظة على الوضوء وتمام الركوع والسجود وإخراج الزكاة
وما أشبه ذلك ،وما كان نافلة لك فإن أمرك به نافلة ،وأنت غير آثم ىف ترك األمر
17 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
به إال عند السؤال عنه لواجب النصيحة التي هي فرض على جميع
المؤمنين»(.)1
وأما ما يرجع إلى تفاوت الناس يف القدرة على األمر بالمعروف والنهي عن
المنكر :فمعلوم أنه ليس كل الناس قادر على ذلك ،ويشهد لهذا قول النبي ﷺ
منكرا فليغيره بيده ،فإن لم
يف حديث أبي سعيد الخدري ﭬ« :من رأى منكم ً
فبلسانه»()2
الحديث .وعليه فإن القيام باألمر بالمعروف والنهي عن يستطع
المنكر وإن كان يف األصل من فروض الكفايات على ما تقدم ،فإنه ال يجب
على العاجز عنه ،بل ال يشرع يف حقه؛ لعموم األدلة الدالة على عدم تكليف
العاجز ،كقوله تعالى﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [التغابن ،]16:وقوله عز وجل﴿ :ﯗ
وقال القرايف« :وإذا لم يوجد إال من يقوم بذلك الواجب تعين الفعل عليه
عينًا النحصار المشرتك فيه كآخر الوقت يف الصالة »(.)1
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية $يف سياق حديثه عن األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر« :وهذا واجب على كل مسلم قادر ،وهو فرض على
الكفاية ،ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره»(.)2
* وأما ما يرجع إلى مراتب اإلنكار وما يتعلق منها باليد أو اللسان أو القلب:
فظاهر النصوص أن اإلنكار بالقلب البد منه ،وأما اإلنكار باليد واللسان
فبحسب االستطاعة كما دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري وما جاء يف
معناه من األحاديث األخرى ،فإن النبي ذكر االستطاعة يف التغيير باليد واللسان،
وأما االنكار بالقلب فلم يقل بعده :فإن لم يستطع ،بل ذكر أنه أضعف اإليمان.
وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن طارق بن شهاب قال :قال :رجل
لعبد اهلل بن مسعود ﭬ :هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ،فقال
عبد اهلل« :بل هلك من لم يعرف المعروف بقلبه ،وينكر المنكر بقلبه» (.)3
قال ابن رجب $معل ًقا على كالم ابن مسعود« :يشير إلى أن معرفة
المعروف والمنكر بالقلب فرض ال يسقط عن أحد ،فمن لم يعرفه هلك ،وأما
اإلنكار باليد واللسان فإنما يجب بحسب الطاقة»(.)1
وقال السفاريني « :$يف هذا الباب عدة أحاديث ،وقد دلت كلها على
إنكار المنكر بحسب القدرة عليه ،وأن إنكاره بالقلب ال بد منه»(.)2
فتلخص من هذا :أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث األصل
ً
أحواال خاصة تخرج عن حكم األصل على ما تقدم فرض كفاية ،إال أن له
تفصيله ،واهلل أعلم.
ً
مقبوال إال باإلخالص ،وهو أن يراد به وجه اهلل ،فإن أريد به غير ذلك صالحا
صالحا.
ً عمال
من المقاصد السيئة لم يقبل ،بل ال يكون ً
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$فإن اإلنسان عليه ً
أوال أن يكون أمره هلل،
وقصده طاعة اهلل فيما أمره به ،وهو يحب صالح المأمور ،أو إقامة الحجة عليه،
فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته ،وتنقيص غيره كان ذلك حمية ال
يقبله اهلل ،وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حاب ًطا»(.)1
وقال « :$ويحتاج أيضا أن يأمر بذلك ألمر اهلل وينهى عنه لنهي اهلل،
ويخرب بما أخرب اهلل به؛ ألنه حق وإيمان وهدى كما أخربت به الرسل ،كما
تحتاج العبادة أن يقصد هبا وجه اهلل ،فإذا قيل ذلك التباع الهوى والحمية ،أو
إلظهار العلم والفضيلة ،أو لطلب السمعة والرياء؛ كان بمنزلة المقاتل شجاعة
وحمية ورياء»(.)2
وقال المناوي« :قال بعض األعيان :وينبغي لآلمر بالمعروف :أن يقصد به
وجه اهلل ،وإعزاز الدين لينصره اهلل تعالى ،فإنه بذلك القصد ال يخيب»(.)3
* والمقاصد السيئة التي تصحب اإلنكار وتضاد اإلخالص كثيرة ،ومنها:
-1األمر بالمعروف والنهي عن المنكر للرياء والتزين بذلك عند الناس
استعمله قدماء هذه األمة للذب َعن الشرعَ ،واهلل أعلم بالمقاصد ،ودليل مقصد
خبث هؤالء سكوهتم عمن أخذوا عنه »(.)1
الشرط الثاين :أهلية اآلمر بالمعروف والناهي عن المنكر وقدرته عليه.
ويكون ذلك بتوفر الشروط فيه التي تمكنه من األمر بالمعروف والنهي عن
المنكر وفق الشرع ،ومن ذلك تحليه بالعلم والرفق والصرب.
مرفوعا ،ذكره القاضي أبو يعلى يف
ً جاء يف األثر عن بعض السلف ورووه
فقيها فيما يأمر به،
المعتمد :ال يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إال من كان ً
حليما فيما يأمر به،
ً فقيها فيما ينهى عنه ،رفي ًقا فيما يأمر به ،رفي ًقا فيما ينهى عنه،
ً
حليما فيما ينهى عنه (.)2
ً
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$ال بد من هذه الثالثة :العلم ،والرفق،
والصرب .العلم قبل األمر والنهي ،والرفق معه ،والصرب بعده ،وإن كان كل من
الثالثة مستصح ًبا»(.)3
عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم ،وإن
وقال « :$فإن لم يكن ً
عالما ولم يكن رفي ًقا كان كالطبيب الذي ال رفق فيه ،فيغلظ على المريض
كان ً
فال يقبل منه ،وكالمؤدب الغليظ الذي ال يقبل منه الولد ،وقد قال تعالى
[لقمان ،]17:وق د أمر اهلل نبيه بالصرب على أذى المشركين يف غير موضع ،وهو إمام
اآلمرين بالمعروف الناهين عن المنكر»(.)1
الشرط الثالث :أن يكون المأمور به من المعروف يف الشرع ،والمنهي عنه
من المنكر يف الشرع.
كما قال تعالى﴿ :ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾ [آل عمران.]104:
المعروف :هو كل ما أمر اهلل به من واجب أو مستحب ،والمنكر :كل ما هنى
اهلل عنه من محرم أو مكروه ،على ما تقدم بيانه يف التعريف.
يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$يدخل يف لفظ المعروف كل مأمور به،
الخالف ،كما يمنع من اإلنكار يف مسائل االجتهاد ،وذلك بسبب االشتباه عند
هؤالء بين مسائل االجتهاد ومسائل الخالف.
يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$وقولهم مسائل الخالف ال إنكار فيها
ليس بصحيح؛ فإن اإلنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل ،أما األول
قديما وجب إنكاره وفا ًقا ،وإن لم يكن
ً فإذا كان القول يخالف سنة أو إجما ًعا
كذلك فإنه ُينكر ،بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة
السلف والفقهاء.
أيضا بحسب
وأما العمل :فإذا كان على خالف سنة أو إجماع وجب إنكاره ً
درجات اإلنكار ،كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه ،وكما
ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة ،وإن كان قد اتبع بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن يف المسألة سنة وال إجماع ولالجتهاد فيها مساغ لم ينكر
على من عمل هبا مجتهدً ا أو مقلدً ا ،وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل
يعتقد أن مسائل الخالف هي مسائل االجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من
الناس»(.)1
الثاين :أن القول بأنه ال إنكار يف مسائل االجتهاد إنما يكون يف حق من فعل
فعال يخالف تدينه
فعال متدينًا :إما اجتها ًدا أو تقليدً ا أنه ليس بمنكر ،أما إن فعل ً
ً
وهو يف اعتقاده حرام فإنه ينكر عليه ولو كانت المسألة اجتهادية.
( )1الفتاوى الكربى البن تيمية ()96 /6وانظر إعالم الموقعين البن القيم (.)224 /3
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 28
يقول القرايف « :$إذا رأينا من فعل شي ًئا مختل ًفا يف تحريمه وتحليله ،وهو
يعتقد تحريمه أنكرنا عليه؛ ألنه منتهك للحرمة من جهة اعتقاده ،وإن اعتقد
تحليله لم ننكر عليه؛ ألنه ليس عاص ًيا ،وألنه ليس أحد القولين أولى من
اآلخر»(.)1
الشرط الرابع :أن يعلم من حال المأمور أنه مخاطب باألمر والنهي (.)2
فإن الناس يتفاوتون فيما يخاطبون به من األمر والنهي بحسب تفاوت
أحوالهم وقدراهتم.
قال ابن القيم« :فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم
والقدرة»(.)3
ويقول الشاطبي« :كل خصلة أمر هبا أو هني عنها مطل ًقا من غير تحديد وال
تقدير؛ فليس األمر أو النهي فيها على وزان واحد يف كل فرد من أفرادها»(.)4
فغير المكلف كالصبي والمجنون غير مخاطب بالشرع بالكلية ،والعاجز
غير مخاطب بما يعجز عنه ،والجاهل غير مخاطب بواجب العلماء ،والعامة
غير مخاطبين بواجبات ولي األمر ،والنساء غير مخاطبات بواجبات الرجال
ظاهرا يف اإلبصار»(.)1
ً أشبه يف النظر وإن كان لفظ رأى
وقال المناوي"« :من رأى" أي :علم ،فهي علمية ،ويصح كوهنا بصرية،
وقيس ما علمه على ما رآه »(.)2
أناسا كانوا
ويشهد لهذا من أقوال السلف قول عمر بن الخطاب ﭬ« :إن ً
يؤخذون بالوحي يف عهد رسول اهلل ﷺ ،وإن الوحي قد انقطع ،وإنما نأخذكم
خيرا أمناه وقربناه ،وليس إلينا من
اآلن بما ظهر لنا من أعمالكم ،فمن أظهر لنا ً
سريرته شيء ،اهلل يحاسبه يف سريرته ،ومن أظهر لنا سو ًءا لم نأمنه ولم نصدقه،
وإن قال :إن سريرته حسنة »(.)3
وروى الخالل عن اإلمام أحمد $أنه« :سئل عن الرجل يسمع صوت
الطبل والمزمار ،وال يعرف مكانه؟ فقال« :وما عليه إذا لم يعرف مكانه؟»(.)4
أيضا أنه سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار ،وال يعرف
وروى عنه ً
مكانه؟ فقال :وما عليك؟ وقال :ما غاب فال تفتش عليه »(.)5
( )1التعيين يف شرح األربعين ( )287 /1وانظر جامع العلوم والحكم البن رجب (.)254 /2
( )2شرح األربعين النووية للمناوي (ح ( ،)35 – 29ص )176 :وانظر شرح األربعين النووية
للعثيمين (ص.)333 :
( )3أخرجه البخاري ( )169 /3ح(.)2641
( )4األمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخالل (ص.)37 :
( )5المصدر نفسه (ص.)38 :
31 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
[البقرة.]286:
منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن
ولقوله ﷺ« :من رأى منكم ً
لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف اإليمان»(.)4
( )1األحكام السلطانية للماوردي (ص )365 :وانظر األحكام السلطانية ألبي يعلى الفراء (ص:
.)295
( )2روضة الطالبين (.)220 /10
( )3تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (ص.)40 :
( )4تقدم تخريجه.
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 32
فعلق النبي ﷺ اإلنكار عل االستطاعة بحسب مراتب ثالث ،فدل على أن
اإلنكار واجب بحسب االستطاعة.
* وقد قرر العلماء ذلك وصرحوا به وعدوه من شروط اإلنكار.
قال أبو الحسن األشعري يف سياق نقله ما أجمع عليه السلف من األصول:
« وأجمعوا على وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم بأيديهم
فإن ترتب على األمر بالمعروف و إنكار المنكر فساد أعظم مما فيه من
الصالح لم يشرع اإلنكار يف هذه الحال ،وهذه المسألة متفرعة عن قاعدة
الشريعة يف الموازنة بين المصالح والمفاسد ،فإن الشريعة جاءت« :بتحصيل
المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ،فهي تحصل أعظم المصلحتين
بفوات أدناهما ،وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما» (.)1
وقد قرر العلماء هذا األمر وعدوه شر ًطا لألمر بالمعروف والنهي عن
المنكر.
يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$لكن إذا كان الشخص أو الطائفة ال
مأمورا إال لمحظور أعظم منه
ً مأمورا إال بمحظور أعظم منه ،أو ال ترتك
ً تفعل
مرا يستلزم وقوع محظور راجح ،ولم ينه هن ًيا يستلزم وقوع مأمور
لم يأمر أ ً
راجح ،فإن األمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الذي بعثت به الرسل،
والمقصود تحصيل المصالح وتكميلها ،وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب
اإلمكان ،فإذا كان األمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلز ًما من الفساد أكثر
مما فيه من الصالح لم يكن مشروعًا»(.)2
ويقول « :$ولهذا ال يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم
الخروج على والة األمر بالسيف؛ ألجل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛
ألن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل
والرابعة محرمة»(.)3
ويقول الشيخ ابن عثيمين « :$من شروط األمر بالمعروف والنهي عن
المنكر :أال يرتتب على النهي عن المنكر ما هو أنكر منه ،فإن ترتب على ذلك
ما هو أنكر منه فإنه ال يجوز ،من باب درء أعلى المفسدتين بأدناهما ،فلو فرض
أن شخصًا وجدناه على منكر كأن يشرب الدخان مثالً ،ولو هنيناه عن شرب
الدخان ذهب يشرب الخمر ،فإننا ال ننهاه؛ إذ كنا نعلم أن هذا الرجل سيقدم
على ما هو أعظم »(.)4
ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ،وليس وراء
ذلك من اإليمان حبة خردل» (.)1
* وهذا بيانها مفصلة:
المرتبة األولى :اإلنكار باليد ،وهو أقواها وهي واجبة لمن له استطاع وقدر
على التغيير باليد ،كإراقة الخمر وكسر المعازف.
والمقصود باالستطاعة هنا :االستطاعة الشرعية التي تتحقق هبا المقاصد
الشرعية يف تغيير المنكر من غير أن يرتتب على ذلك ضرر أو مفسدة راجحة
على المنكر المطلوب تغييره ،وهذا بخالف االستطاعة الكونية كالقدرة على
ضرب أو جلد صاحب المنكر ،أو تكسير أو إتالف أدوات المنكر ،ثم يرتتب
على ذلك مفاسد كبيرة من اقتتال وسفك دماء ،أو إحداث فتنة عظيمة راجحة
على المنكر المراد تغييره ،فليست هذه هي االستطاعة المقصودة هنا.
وقرر بعض العلماء أن التغيير باليد مختص بوالة األمور دون غيرهم؛ ألن
األئمة لهم قدرة على التغيير باليد دون مفسدة ،بخالف غيرهم (.)2
والصحيح :أن الحكم متعلق باالستطاعة والقدرة كما يف الحديث« :من رأى
منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،»...ولكن هذه االستطاعة هي
منكم ً
االستطاعة الشرعية كما تقدم .فمتى ما تحققت االستطاعة الشرعية وتحقق هبا
المقصود الشرعي شرع اإلنكار باليد ،وهذا عام يف والة األمور وغيرهم،
فاإلمام ينكر يف رعيته ،واألمير ينكر يف واليته والوزير ينكر يف وزارته ،والمدير
ينكر يف إدارته ،وإمام المسجد ينكر يف مسجده والمدرس ينكر يف طالبه ،وشيخ
القبيلة ينكر يف قبيلته ،وصاحب الجاه والمنزلة ينكر يف مجتمعه ومحيطه.
والرجل ينكر يف بيته ،والمرأة تنكر على أوالدها وكل ذلك يكون باليد وهو
مشروع إن لم ترتتب عليه مفسدة راجحة ،وهذا الذي عليه المحققون يف هذا
الباب.
عالما بما ُيغ ِّيره، قال القاضي عياض « :$فمن حق المغ ِّير أو ً
ال أن يكون ً
عار ًفا بالمنكر من غيرهً ،
فقيها بصفة التغيير ودرجاته ،فيغيره بكل وجه أمكنه
زواله به ،وغلبت على ظنه منفعة تغييره بمنزعه ذلك من فعل أو قول ،فيكسر
آالت الباطل ،ويريق ظروف المسكر بنفسه ،أو يأمر بقوله من يتولى ذلك،
وينزع المغصوب من أيدى المتعمدين ،بيده أو يأمر بأخذها منهم ... ،فإن غلب
كف
منكرا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسببهَّ ،
ً على ظنه أن تغييره بيده يسبب
يده ،واقتصر على القول باللسان»(.)1
ٍ
مسلم اإلنكار بالقلب فرض على ِّ
كل َ وقال ابن رجب « :$فتب َّين هبذا َّ
أن
سان فبحسب ال ُقدرة» (.)2 حال ،وأما اإلنكار ِ
باليد وال ِّل ِ كل ٍيف ِّ
ُ َّ
ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ [طه.]97:
وكسر عيسى عليه السالم للصليب وقتله للخنزير عند نزوله يف آخر الزمان
على ما جاء يف الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال« :والذي نفسي بيده ،ليوشكن
39 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
( )1رواه ابن ماجه (( ،)595/1ح ،)1853 :واإلمام أحمد يف «المسند» (( ،)145/32ح ،)19403 :وذكره
المنذري يف $الرتغيب» (( ،)55/3ح ،)22 :وصححه األلباين يف «الصحيحة» (( ،)200/3ح:
،)1203ويف «صحيح ابن ماجه» (( ،)312/1ح ،)1503 :و«آداب الزّ فاف» (ص.)284 :
( )2أخرجه البخاري (( )19 /7ح.)5147 :
( )3أخرجه البخاري ()12 /8ح ()6025ومسلم واللفظ له ()236 /1ح(.)285
( )4انظر كتاب العين للخليل (.)228 /2
41 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
ومن الشواهد لذلك من السنة :ما أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود
البدري ﭬ :أنه كان يضرب غال ًما له بسوط ،فرآه النبي ﷺ فقال له« :اعلم
أبا مسعود أن اهَّلل أقدر عليك منك على هذا الغالم» ،قال :فقلت :ال أضرب
مملو ًكا بعده أبدً ا(.)1
ويف صحيح البخاري من حديث أبي الدرداء ﭬ يف خرب ما وقع بين أبي
بكر وعمر ﭭ من العتاب ،فجاء أبوبكر للنبي ﷺ مغض ًبا ،فقال النبي ﷺ« :إن
اهَّلل بعثني إليكم فقلتم كذبت ،وقال أبو بكر صدق ،وواساين بنفسه وماله ،فهل
أنتم تاركوا لي صاحبي» مرتين ،فما أوذي بعدها(.)2
ثالثها :النهي عن المخالفة مع اإلغالظ والتعنيف يف القول:
و ُيسلك هذه المسلك يف اإلنكار عند عدم استجابة المخالف ألسلوب
الرفق والوعظ ،فبعض المخالفين قد ال يستجيب إال ألسلوب الشدة والتعنيف،
فينكر عليه بما هو أدعى يف قبوله وإقالعه عن المخالفة.
ومن الشواهد لذلك :قول إبراهيم عليه الصالة والسالم يف مخاطبة قومه:
﴿ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧﮨ ﮩﮪ ﮫﮬ ﮭ﴾ [األنبياء.]67:
رجال يسوق بدنة ،فقال
ومن السنة ما جاء يف الصحيحين :أن النبي ﷺ رأى ً
له« :اركبها» ،فقال :يا رسول اهلل ،إهنا بدنة ،قال يف الثالثة أو يف الرابعة« :اركبها
قال ابن فرحون « :$وفائدة قوله« :لقد هممت» تقديم الوعيد كالتهديد
على العقوبة؛ ألن المفسدة إذا ارتفعت واندفعت باألخف من الزواجر لم يعدل
إلى األعلى.)1(».
أيضا من حديث علي بن أبي طالب ﭬ :أن النبي ﷺ بعثه
ويف الصحيحين ً
والزبير والمقداد بن األسود ﭫ ألخذ الكتاب الذي بعثه حاطب ﭬ مع
امرأة للمشركين ،وفيه قال علي ﭬ« :فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى
الروضة ،فإذا نحن بالظعينة ،فقلنا :أخرجي الكتاب ،فقالت :ما معي من كتاب،
فقلنا :لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب ،فأخرجته من عقاصها»(.)2
قال ابن فرحون « :$فالطريق التي استخرج هبا الكتاب من السياسة
الشرعية وهي التهديد واإلرعاب»(.)3
المرتبة الثالثة :اإلنكار بالقلب.
وهو ثالث مراتب اإلنكار التي ذكرها النبي ﷺ يف حديثي أبي سعيد وابن
مسعود ،ويف لفظ حديث أبي سعيد« :فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن
لم يستطع فبقلبه»( ،)4ويف يف حديث ابن مسعود« :فمن جاهدهم بيده فهو
مؤمن ،ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ،ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن» ،وهذه
المرتبة متعلقة بعمل القلب بعد العجز على اإلنكار باليد واللسان ،ولهذا ذهب
بعض العلماء إلى أهنا ال تسقط بحال لكوهنا مقدور عليها.
قال ابن النحاس « :$وأما اإلنكار بالقلب -وهو كراهة تلك المعصية
وبعضها -فال يسقط عن مكلف بوجه من الوجوه ،إذ ال عذر يمنع منه ،قال ابن
مسعود ﭬ« :بحسب امرئ إذا رأى منكر ًا ال يستطيع أن يغيره أن يعلم اهَّلل -
تعالى -من قلبه أنه له كاره»(.)1
وهذه المرتبة هي أدنى مراتب اإلنكار؛ لقول النبي يف حديث أبي سعيد:
«وذلك أضعف اإليمان» ،ومعنى ذلك :أن هذه المرتبة هي أدنى مرتبة من
مراتب التغيير المأمور به ،وهي أقل خصال اإليمان المشروع يف تغيير المنكر،
وهذا ما ذهب إليه العلماء وقرروه يف فقه الحديث.
قال أبو العباس القرطبي« :وهذه آخر خصلة من الخصال المتعينة على
المؤمن يف تغيير المنكر ،وهي المع َّبر عنها يف الحديث بأهنا أضعف اإليمان،
أي :خصال اإليمان ،ولم يبق بعدها للمؤمن مرتبة أخرى يف تغيير المنكر؛
ولذلك قال يف الرواية األخرى« :ليس وراء ذلك من اإليمان حبة خردل» أي :لم
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$لهذا قال النبي ﷺ« :من رأى منكم
منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك أضعف
ً
اإليمان»( ،)1ويف الحديث اآلخر« :ليس وراء ذلك من اإليمان مثقال حبة
خردل»( ،)2فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا اإلنكار ما يدخل يف اإليمان حتى يفعله
المؤمن ،بل اإلنكار بالقلب آخر حدود اإليمان»(.)3
* ولهذه المراتب أحكام دلت عليها األدلة:
ويمكن تلخيصها فيما يأتي:
-1أن مراتب اإلنكار ثالث ،وهي واجبة على كل من علم المنكر بحسب
القدرة :فأولها أن يغير بيده ،فإن لم يستطع غير بلسانه ،فإن لم يستطع غير بقلبه،
وال يجزئه اإلنكار بمرتبة إال بعد العجز عن التي قبلها كما دل على ذلك حديث
أبو سعيد الخدري.
قال القرايف« :ثم مراتب اإلنكار ثالث ،أقواها أن يغير بيده ،وإن لم يقدر
على ذلك انتقل للمرتبة الثانية فيغير بلسانه إن استطاع ،وليكن برفق ولين
ووعظ إن احتاج إليه ...فإن لم يقدر انتقل للرتبة الثالثة وهي اإلنكار بالقلب
وهي أضعفها »(.)4
وقال النووي« :أما صفة النهي عن المنكر ومراتبه ،فضابطه قوله ﷺ:
«فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه» فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه ،وال يكفي
الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ،وال تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي
باللسان»(.)1
وقال ابن النحاس يف التعليق على حديث أبي سعيد :فيه أن من أنكر بلسانه
مع إمكان إنكاره باليد ال يسقط عنه اإلثم ،وإنما يسقط عنه اإلثم إذا لم يستطع
اإلنكار باليد.
وفيه أنه ال يقتصر على اإلنكار بالقلب إال عند عدم االستطاعة لإلنكار باليد
واللسان ليسقط عنه اإلثم (.)2
-2أن إنكار المنكر من اإليمان ،وهو مستلزم له قوة وضع ًفا؛ لقول النبي ﷺ
يف وصف أدنى مراتب اإلنكار« :وذلك أضعف اإليمان» ،وقوله فيمن لم ينكر
بأحد هذه المراتب« :وليس وراء ذلك من اإليمان حبة خردل» ،وشاهد ذلك من
القرآن﴿ :ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ
ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
ﭷ﴾ [آل عمران.]110:
فأخرب اهلل عن خيرية هذه األمة ووصفهم باإليمان واألمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
-3أن التغيير الشرعي ال يستلزم إزالة المنكر وذهابه ،فذكر النبي ﷺ
تغييرا وهما التغيير باللسان والتغيير بالقلب.
مرتبتين بعد التغيير باليد وسماهما ً
أما التغيير باللسان فإنه يكون من المنكِر ،وقد ال يستجيب صاحب المنكر
فيبقى المنكر.
وأما التغيير بالقلب فيرجع إلى كراهية المنكر يف نفسه وال أثر له يف زوال
المنكر من الواقع ،بل وال هني صاحبه عنه.
وفيه من الفوائد :أن وجود المنكر ال يدل على أنه لم يغ ِّير ،وفيه رد على
المشنعين على األمة بتعطيل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر لوجود
المنكرات.
وقد ذهب بعض الشراح إلى أن معنى قوله ﷺ« :فبقلبه» يحتمل معنيين:
األول :أنه محمول على التغيير المعنوي ال الحسي ،إذ ليس يف وسعه إال
هذا القدر من التغيير.
والثاين :أنه محمول على اإلنكار ،والمعنى( :فلينكره بقلبه ) من باب قوله
تعالى﴿ :ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ [الحشر ،]9:وقول الشاعر« :علفتها تبنا وماء
باردا»(.)1
( )1شرح السيوطي على مسلم ()65 /1ومرقاة المفاتيح لمال قارئ (.)3208 /8
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 48
والمعنى األول أصح ،إذ األصل يف الكالم عدم التقدير ،ويرد على التوجيه
الثاين التغيير باللسان؛ فإنه ال يستلزم اإلزالة إن لم يستجب صاحب المخالفة
كما تقدم .والصحيح أن المراتب كلها من التغيير كما هو ظاهر الحديث ،لكن
ال تالزم بين التغيير واإلزالة ،واهلل أعلم.
-4قول النبي ﷺ يف حديث أبي سعيد« :وذلك أضعف اإليمان» محتمل
لمعنيين:
أحدهما -وهو المعنى المشهور عند أهل العلم كما تقدم :-أن هذا وصف
لهذه المرتبة ،فهي أضعف مراتب اإلنكار ،ال أن هذا وصف لصاحبها ،فهو
أنكر بحسب قدرته وبما خوطب به ،فليس هو ضعيف اإليمان الضعف الذي
يلحقه به ذم أو عقاب ،وإن كان اإليمان الذي خوطب به هنا هو أنقص من
اإليمان الذي خوطب به صاحب القدرة على التغيير باليد واللسان ،فيكون هذا
مثل النقص المضاف للنساء برتك الصالة يف وقت الحيض والنفاس.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية« :فصار النقص يف الدين واإليمان نوعين نو ًعا
شرعا ،وإما لكونه
ً ال يذم العبد عليه ،لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حسا أو
مستح ًبا ليس بواجب ،ونو ًعا يذم عليه وهو ترك الواجبات»(.)1
قادرا
والثاين :أن يراد هبذا ضعف اإليمان المذموم ،وهذا يف حق من كان ً
على التغيير باليد أو اللسان ،فعدل عن ذلك إلى اإلنكار بالقلب فهو مقصر يف
( )1شرح العقيدة األصفهانية (ص)193 :وانظر مجموع الفتاوى (.)54 /13
49 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
اإليمان مثقال حبة خردل» فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا اإلنكار ما يدخل يف
اإليمان حتى يفعله المؤمن ،بل اإلنكار بالقلب آخر حدود اإليمان ،ليس مراده
أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من اإليمان حبة خردل؛ ولهذا قال« :ليس وراء
ذلك» فجعل المؤمنين ثالث طبقات ،وكل منهم فعل اإليمان الذي يجب عليه،
لكن األول لما كان أقدرهم؛ كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاين،
وكان ما يجب على الثاين أكمل مما يجب على اآلخر ،وعلم بذلك أن الناس
يتفاضلون يف اإليمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب
إليهم كلهم»(.)1
ﭳ ﭴ ﭵﭶﭷ﴾ [المائدة.]105:
وقد فهم بعض الناس من هذه اآلية جواز ترك األمر بالمعروف ،وأن
اإلنسان إذا استقام يف نفسه ال يضره ضالل من ضل ولو لم يأمر بالمعروف ولم
ينه عن المنكر.
والذي يظهر أن هذا الفهم قديم ،حتى إن أبا بكر الصديق ﭬ ن َّبه على هذا
الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ،عمهم اهَّلل بعقابه»(.)1
* وللسلف واألئمة يف تفسيرها أقوال ،أشهرها قوالن:
القول األول :أن معنى اآلية :عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف وهنيتم عن
المنكر ولم يقبل منكم ،فلن يضركم من ضل إذا اهتديتم .وقد نقله الطربي عن
جمع من الصحابة (.)2
فعن ابن مسعود ﭬ أنه قال يف معناها« :ليس هذا بزمانها ،قولوها ما قبلت
منكم ،فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم»(.)3
وعن ابن عمر ﭭ قال يف هذه اآلية :إهنا ليست لي وال ألصحابي ،ألن
رسول اهلل ﷺ قال« :أال فليبلغ الشاهد الغائب» ،فكنا نحن الشهود وأنتم
( )1مسند أحمد ( )177 /1ح( )1وسنن أبي داود ()122 /4ح( )4338سنن الرتمذي ت شاكر (/4
)467ح( 2168)2168سنن ابن ماجه ()1327 /2ح( )4005وتفسير الطربي ()52 /9وصححه األلباين
يف سلسلة األحاديث الصحيحة ()88 /4ح()1564و 1564ويف صحيح الرتغيب والرتهيب (/2
)578وقال محققو المسند «إسناده صحيح على شرط الشيخين».
( )2تفسير الطربي (.)43 /9
( )3تفسير الطربي (.)43 /9
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 52
الغيب ،ولكن هذه اآلية ألقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم (.)1
عن جبير بن نفير قال :كنت يف حلقة فيها أصحاب رسول اهلل ﷺ وإين
ألصغر القوم ،فتذاكروا األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فقلت أنا :أليس
اهلل يقول يف كتابه﴿ :ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ﴾
[المائدة ،]105:فأقبلوا علي بلسان واحد وقالوا :تنزع بآية من القرآن ال تعرفها وال
تدري ما تأويلها ،حتى تمنيت أين لم أكن تكلمت ،ثم أقبلوا يتحدثون ،فلما
حضر قيامهم ،قالوا :إنك غالم حدث السن ،وإنك نزعت بآية ال تدري ما هي،
مطاعا ،وهوى متب ًعا ،وإعجاب كل
ً وعسى أن تدرك ذلك الزمان ،إذا رأيت شحا
ذي رأي برأيه ،فعليك بنفسك ال يضرك من ضل إذا اهتديت »(.)2
القول الثاين :أن معنى اآلية :ال يضركم من ضل إذا اهتديتم يف أنفسكم
وأمرتم بالمعروف وهنيتم عن المنكر ،فيدخل األمر بالمعروف والنهي عن
المنكر يف االهتداء المذكور يف اآلية ،وبه قال حذيفة ﭬ وسعيد بن
المسيب(.)3
فعن حذيفة ﭬ﴿ :ﭮ ﭯﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶﭷ﴾ [المائدة ]105:قال:
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [العصر ،]3-1:فالحق
وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وبعد أداء الواجب ال يضر اآلمر
ضالل من ضل»(.)1
وبه يتبين عدم داللة اآلية على ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر على
كال القولين المأثورين يف تفسيرها ،بل هي دالة على مشروعية األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر على أرجح التفسيرين على ما تقدم بيانه ،وال يعرف عن
عالم من علماء األمة المقتدى هبم َف ِهم من هذه اآلية ترك األمر بالمعروف.
قال ابن النحاس « :$وال نعلم أحدً ا من العلماء ذهب إلى أن معنى:
أنه ال يلزمكم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن ﴿ﭮ ﭯﭰ﴾ [المائدة]105:
المنكر؛ ألن ضالل غيركم ال يضركم ،معاذ اهلل أن يذهب إلى هذا أحد غير
الجهلة والعوام والهمج الرعاع أتباع كل ناعق»(.)2
الشبهة الثانية :ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة التقصير.
فيقول صاحب الشبهة :كيف آمر بالمعروف وأهنى عن المنكر وأنا مقصر يف
نفسي وقد قال اهلل تعالى﴿ :ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ
ﮮ ﮯ﴾ [البقرة.]44:
والجواب عنها :أن اإلنسان مأمور بفعل الطاعات واألمر هبا ،وترك
المعاصي والنهي عنها ،وإذا قصر يف فعل المعروف فال ينبغي أن يقصر يف األمر
به ،وإذا قصر يف ارتكاب المنكر فال ينبغي أن يقصر يف النهي عنه ،بل األمر
بالمع روف مع عدم امتثاله خير من الجمع بين ترك الفعل واألمر ،والذم برتك
المعروف مع األمر به أهون من ترك األمرين.
وأما اآلية فليس فيها حجة لرتك األمر بالمعروف لمن لم يعمل به ،فالذم يف
اآلية على ترك المعروف ال على األمر به.
قال ابن كثير $يف تفسير اآلية« :والغرض :أن اهلل تعالى ذمهم على هذا
الصنيع ،ونبههم على خطئهم يف حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير وال
يفعلونه ،وليس المراد ذمهم على أمرهم بالرب مع تركهم له ،فإن األمر
بالمعروف معروف وهو واجب على العالم ،ولكن الواجب واألولى بالعالم أن
يفعله مع من أمرهم به وال يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السالم﴿ :ﯩ ﯪ
ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ
ﰀﰁ ﰂ﴾ [هود.)1(»]88:
* وقد كانت هذه الشبهة قد ظهرت يف عهد السلف فأجابوا عنها.
قال الحسن البصري لمطرف بن عبد اهلل« :عظ أصحابك ،فقال :إين أخاف
أن أقول ما ال أفعل ،قال :يرحمك اهلل! وأينا يفعل ما يقول! و َّد الشيطان أنه قد
ظفر هبذا ،فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر»(.)2
وقال مالك« :قال سعيد بن جبير :لو كان المرء ال يأمر بالمعروف وال ينهى
عن المنكر حتى ال يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف وال هنى عن منكر .قال
مالك :ومن هذا الذي ليس فيه شيء»(.)1
وكتب عمر بن عبد العزيز $إلى بعض نوابه على بعض األمصار كتا ًبا
يعظه فيه وقال يف آخره« :وإين ألعظك هبذا وإين لكثير اإلسراف على نفسي غير
محكم لكثير من أمري ،ولو أن المرء ال يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إ ًذا لتواكل
الخير ،وإ ًذا لرفع األمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وإ ًذا الستحلت المحارم
وقل الواعظون والساعون هلل بالنصيحة يف األرض ،والشيطان وأعوانه يودون أن
ال يأمر أحد بمعروف وال ينهى عن منكر ،وإذا أمرهم أحد أو هناهم عابوه بما
فيه وبما ليس فيه»(.)2
ويف الحقيقة إن مخالفة القول للفعل فيها تفصيل باختالف األحوال ،وهذا
بيانه :فنقول :مخالفة الرجل فعله ألمره ودعوته على وجهين:
إما أن يتعلق بواجب أو يتعلق بمستحب.
* فإن كان مخال ًفا لما يأمر به بترك واجب فله أربعة أحوال:
حالتان متعلقتان بحاله يف القصد ،والنية وحالتان متعلقتان بحاله يف العمل،
وها هي ذي أحواله وحكم كل حال.
لمرض أو عذر آخر ،فهذا مثاب على أمره ،غير مؤاخذ برتكه ،وال نقص عليه
هبذا االعتبار يف الكمال؛ ألنه عمل مستحب تركه لعذر ،وهو يعذر يف ترك
الواجب ،فالمستحب من باب أولى.
مخلصا فيما يأمر ،تار ًكا للمستحب لغير عذر ،مثل
ً الحالة الثانية :أن يكون
من أمر الناس بقيام الليل أو صيام النفل ،ولم يقم ولم يصم لغير عذر ،فهذا
مثاب على أمره ،غير مؤاخذ برتكه؛ ألنه عمل مستحب ال يذم برتكه ،لكنه نقص
يف الكمال.
الحالة الثالثة :أن يكون غير مخلص فيما يأمر ،تار ًكا للمستحب لعذر ،مثل
من أمر الناس بقيام الليل أو صيام النفل ولم يقم ولم يصم لعذر؛ فهذا آثم على
أمره لفقده اإلخالص ،غير مؤاخذ برتكه ،وال نقص عليه هبذا االعتبار يف
الكمال ،ألنه عمل مستحب تركه لعذر ،وهو يعذر يف ترك الواجب لعذر،
فالمستحب من باب أولى.
الحالة الرابعة :أن يكون غير مخلص فيما يأمر ،تار ًكا للمستحب لغير عذر،
مثل من أمر الناس بقيام الليل أو صيام النفل ولم يقم ولم يصم لغير عذر فهذا
آثم على أمره لفقده اإلخالص ،غير مؤاخذ برتكه ،ألنه عمل مستحب ال يذم
برتكه لكنه نقص يف الكمال.
مفصال يف هذه المسألة ،فالحمد هلل على توفيقه.
ً وبذلك يتبين الحكم
الشبهة الثالثة :ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة عدم استجابة
59 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
ﭥﭦ﴾ [األنعام.]19:
وقال سبحانه﴿ :ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾
[الفرقان.]1:
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية $يف مدلول هذه اآليات« :وهو معلوم
ومذكرا لجميع الثقلين
ً باالضطرار من أمر الرسول ﷺ ،فإن اهلل بعثه مبل ًغا
اإلنس والجن»(.)1
وأما آية سورة األعلى فال حجة فيها لصاحب الشبهة ،ويف اآلية قوالن
معروفان للمفسرين:
القول األول :أن معنى اآلية :فذكِّر الجميع ،فهو مأمور بتذكير كل الناس.
ثم اختلف أصحاب هذا القول يف توجيه اآلية على هذا المعنى على عدة
أقوال:
أ -أن المعنى( :فذكر إن نفعت وإن لم تنفع) ،وإنما لم يذكر الحالة الثانية،
كقوله﴿ :ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [النحل ]81:وأراد :الحر والربد جمي ًعا ،وذهب إليه
( )1انظر إعراب القرآن للنحاس ( )127 /5تفسير البغوي -طيبة ()401 /8زاد المسير البن الجوزي
(.)432 /4
( )2انظر زاد المسير البن الجوزي (.)432 /4
( )3انظر زاد المسير البن الجوزي (.)432 /4
61 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
أمر من اهلل لنبيه ﷺ بتذكير جميع ﴿ﯧ﴾ [ق]45 : قال الطربي« :وقوله:
الناس ،ثم قال :إن نفعت الذكرى هؤالء الذين قد آيستك من إيماهنم»(.)1
قال السمعاين« :وقوله﴿ :ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى ،]9:فإن قال قائل:
كيف قال :إن نفعت الذكرى ،وهو مأمور بالتذكير على العموم نفعت أو لم
تنفع؟
والجواب من وجهين:
أحدهما :أن معنى قوله﴿ :ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى ]9:إذ نفعت الذكرى،
ومعناه :إذ كنتم ﴿ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [آل عمران]175: مثل قوله تعالى:
مؤمنين...
والوجه الثاين :ذ ِّكر بكل حال ،فقد نفعت الذكرى ،فهو تعليق بمتحقق،
والمعنى :إن نفعت ،وقد نفعت»(.)2
وقال البغويَ ﴿« :ف َذك ِّْر﴾ عظ بالقرآن ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى ]9:الموعظة
والتذكير .والمعنى :نفعت أو لم تنفع ،وإنما لم يذكر الحالة الثانية ،كقوله:
﴿ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [النحل ]81:وأراد :الحر والربد جميعا»(.)3
القول الثاين :أن معنى اآلية( :فذكر حيث تنفع التذكرة) ،و ْ
(إن ) يف اآلية
شرطية ،نقله شيخ اإلسالم ابن تيمية عن مفسري السلف والجمهور واختاره
وهو منقول عن الحسن البصري ويحيى بن سالم .وبه قال ابن كثير واختاره
الشيخ محمد األمين الشنقيطي.
قال ابن كثير« :وقوله﴿ :ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى ]9:أي :ذكر حيث
تنفع التذكرة .ومن هاهنا يؤخذ األدب يف نشر العلم ،فال يضعه عند غير
أهله»(.)1
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية :$فقوله﴿ :ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾
-كما قال مفسرو السلف والجمهور -على باهبا ،قال الحسن [األعلى]9:
البصري :تذكرة للمؤمن وحجة على الكافر .وعلى هذا فقوله تعالى﴿ :ﯨ ﯩ
المشرتك ،.وهذا التام النافع يخص به المؤمنين المنتفعين ،فهم إذا آمنوا ذكرهم
بما أنزل ،وكلما أنزل شيء من القرآن ذكرهم به وبمعانيه ،بخالف الذين قال
فيهم﴿ :ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾
[المدثر ،]51-49:فإن هؤالء ال يذكرهم كما يذكر المؤمنين إذا كانت الحجة قد
قامت عليهم ،وهم معرضون عن التذكرة ال يسمعون﴿ ،ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ
يجب الرجوع له ،وإلى بقاء هذه اآلية على ظاهرها جنح ابن كثير» (.)1
والراجح -واهلل أعلم -هو القول الثاين فإنه قول أئمة السلف كما حكاه
عنهم شيخ اإلسالم ابن تيمية ،$وهو ظاهر داللة اآلية ،فال يجوز العدول
عنه إال بدليل كما قرره الشيخ محمد األمين ،$بل األدلة األخرى دالة عليه
وشاهدة له ،وهو أن اهلل أمر نبيه بالتذكير إن نفعت الذكرى ،وجعل النفع شر ًطا
ْ
فـ(أن) يف اآلية شرطية ،ومفهوم اآلية :ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم للتذكير
تنفع فال تذكر.
ولكن ينبغي أن يفهم هذا المعنى على وجهه الصحيح ،وأن تعطى هذه
األلفاظ المذكورة يف اآلية حقها من الداللة دون تجاوز أو تقصير.
فاهلل تعالى أمر بالتذكير إن نفعت الذكرى وعلق النفع بالذكرى ،ولم يعلقه
بالمدعو ،فلم يقل (ذكر من انتفع بالذكرى) وجعل النفع عا ًما ولم يقيده
باالستجابة فلم يقل( :ذكر من يستجيب لك) ،فهو مأمور بالتذكير إن نفعت
للمذكِر باألجر،
َ الذكرى ،ونفع الذكرى أعم من االستجابة ،ففي التذكير نفع
ونفع للمذكَر المستجيب باالستجابة واإليمان ،ونفع للمذكَر غير المستجيب
بقيام الحجة عليه وتبليغه الشرع.
فدلت اآلية على تذكير كل من يف تذكيره نفع عام ،سواء استجاب أم لم
﴿ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ يستجب ،وسياق اآلية دال على هذا؛ ألن اهلل قال بعد ذلك:
ﯰ ﯱ﴾ [األعلى ،]11 -10 :فذكر أن األشقى يتجنب الذكرى وال يتصور تجنبه
لها إال بعد تذكيره ،فدل على أنه مخاطب بالتذكير ،ونظير هذه اآلية قوله تعالى:
﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [المدثر ،]49:وقد دلت األدلة على مشروعية تذكير
جميع الناس استجابوا أم لم يستجيبوا إن نفعت الذكرى ،قال تعالى﴿ :ﯟ ﯠ
ﯽﯾ ﯿ﴾ [األنعام.]90:
وأمر اهلل بتذكير من علم بسابق علمه أنه ال يستجيب ،قال تعالى يف وصف
القرآن﴿ :ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ [الزخرف ،]44:وقال تعالى لموسى
وهارون﴿ :ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [طه.]44-43:
وقد علم اهلل بسابق علمه أن بعض قوم النبي ﷺ ال يستجيب كأبي جهل
وأبي لهب وأمية بن خلف وغيرهم ممن مات على الكفر ،كما علم أن فرعون
ال يستجيب وال يتذكر ،ومع هذا أمر بتذكيرهم.
وأما إن لم تنفع الذكرى فإن اهلل لم يأمر بالتذكير يف هذه الحالة كحال من
67 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
أخرب اهلل بعدم إيمانه ،فإن اهلل لم يأمر بتذكيره بعد خربه عن كفره كأبي لهب
وامرأته ،ومن أعرض عن الحجة وتولى فلم يأمر بتذكيره بعد التذكير األول
الذي قامت به عليه الحجة ،بل أمر اهلل باإلعراض عنهم ،قال تعالى﴿ :ﭮ ﭯ
ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ﴾ [عبس.]7-5:
فإن قيل :هذا يف عدم انتفاع المدعوين ،وقد قررت أن النفع أعم من
االستجابة.
فالجواب :أن هذا التقرير على هذا األصل ،فال نفع عام يف د عوة هؤالء ،أما
عدم االستجابة فظاهر ،وأما قيام الحجة فقامت عليهم بالتبليغ العام الذي تبعه
إعراضهم ،وأما الداعية فهو لم يؤمر بتذكيرهم ،بل ُأمر باإلعراض عنهم ،وإنما
يؤجر يف حق من ُأمر بتبليغه ،فال نفع يف دعوهتم بوجه.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$فإن قيل :فعلى هذا كل تذكير قد حصل
أصال وهو ما لم يؤمر به،
به نفع ،فأي فائدة يف التقييد؟ قيل :بل منه ما لم ينفع ً
وذلك كمن أخرب اهلل أنه ال يؤمن كأبي لهب ،فإنه بعد أن أنزل اهلل قوله:
فإنه ال يخص بتذكير بل يعرض عنه، ﴿ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [المسد]3:
وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله فإنه يعرض عنه ،كما قال﴿ :ﭧ
[الذاريات ،]55:فهو إذا بلغ قو ًما الرسالة فقامت الحجة عليهم ثم امتنعوا من سماع
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 68
كالمه أعرض عنهم ،فإن الذكرى حينئذ ال تنفع أحدً ا ،وكذلك من أظهر أن
الحجة قامت عليه وأنه ال يهتدي فإنه ال يكرر التبليغ عليه»(.)1
وهبذا يتقرر أنه ال حجة يف اآلية يف ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لعدم االستجابة ،وأن اآلية ما دلت على هذا بوجه.
ثم يقال :لو علق الحكم على االستجابة فال سبيل لمعرفة المستجيب من
عدمه بعد انقطاع الوحي ،فوجب تذكير الناس التذكير الذي تقوم به الحجة
ويحصل به النفع ،ويعرف به المستجيب من المعرض ،فمن أعرض بعد ذلك
فال يشرع تذكيره ،بل يعرض عنه ،كما قال تعالى ﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ
حصول شيء من المطالب الدينية ،فأنكروا تأثير األسباب الشرعية ،كزعمهم أن
التوكل واالستعانة باهلل والدعاء عبادات محضة ال فائدة لها ،ولو ترك العبد هذه
العبادات ما فاته شيء مما ُقدِّ ر له يف الدنيا واآلخرة ،بل بالغوا يف إنكار األسباب
حتى أنكروا األسباب المحسوسة ،فقالوا :ليس للنار أثر يف اإلحراق ،وال للخبز
الر ِّي ،وقالوا :إن اهلل يفعل عندها ال هبا.
أثر يف اإلشباع ،وال للماء أثر يف ِّ
وتعطيل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتما ًدا على القدر متفرع عن
تلك المقالة الفاسدة للجربية ومن وافقهم ،وإن كان من يردد هذه الشبهة من
العامة قد ال يعلم منشأها وال يدرك مدى خطورهتا.
والجواب َع ْن هذه الشبهة أن ُيقال لهمَ :ه َذا ر ٌّد لجميع الشرائع ،وإبطال
لجميع أحكام الكتب ،ويرت َّتب على هذا لوازم باطلة ،فإذا أمر اهلل يف القرآن
بإقامة الصالة وإيتاء الزكاة؛ فلقائ ٍل أن يقول :لماذا أص ِّلي وأزكِّي؟ إن كنت
سعيدً ا فمصيري إِ َلى السعادة ،وإن كنت شقيا فمصيري إِ َلى الشقاوة ،وإذا هنى
اهلل عن الزنى والربا؛ َي ُقول القائل :لماذا أمنع نفسي ملذوذها ،والسعادة
والشقاوة مقض َّيتان قد ُف ِرغ منهما؟ وكان لفرعون أن يخاطب موسى لما أمره
باإليمان بمثل ذلك ،ثم يفضي األمر إِ َلى منازعة الخالق ،فيقول قائلَ :ما فائدة
إرسالك الرسل ،وسيجري َما قدَّ ر َته على العباد؟
بل يلزم من ترك العمل بالشرع اعتما ًدا على القدر أن يقول :أنا ال آكل وال
والري حصل ،وال فائدة يف األكل والشرب
ِّ أشرب ،فإن كان اهلل قضى بالشبع
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 70
ُم َي َّس ٌر لِ َما ُخ ِلق له» ،ثم قرأ﴿ :ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ﴾ ،إلى قوله:
﴿ﮯ ﮰ﴾(.)2
واألد َّلة يف هذا المعنى كثيرة ،وهي ظاهرة الداللة على وجوب العمل،
وعدم اال ِّتكال على القدر واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما أمر اهلل به يف
( )1تقدم تخريجه ص ( .)6وذكره هبذا اللفظ شيخ اإلسالم ابن تيمية .مجموع الفتاوى (،)258/8
وابن القيم يف مدارج السالكين (.)102 /1
( )2أخرجه البخاري ( ،)6605ومسلم ( )2647وال ّلفظ له.
71 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
الشرع وأوجبه على العباد يثابون على امتثاله ويعاقبون على تركه ،فاألجر
حاصل على امتثاله على كل حال استجاب الناس لألمر بالمعروف أم لم
يستجيبوا ،والعقاب مرتتب على تركه على كل حال ،هدى اهلل المدعوين أم
أضلهم.
كما قال تعالى يف الخرب عن أصحاب السبت﴿ :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ
( )1انظر مزيد بسط لهذه المسألة كتابي :المعترب يف عقيدة أهل السنة ومخالفيهم يف القدر ص145 :
وما بعدها.
73 بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر
عنه الستقباحه له يف نفسه وكراهيته إياه ،وقد دخل هذا يف الغلو؛ ألن القائم
بذلك يأمر بفعل ما لم ُيشرع فعله ،وينهى عما ال ُيشرع تركه ،فكأنه زاد يف الدين
وشرع مالم يشرعه اهلل.
وقد كان النبي ﷺ يحب أشياء يف نفسه ،كحبه للذراع والدباء والحلواء ولم
يأمر بأكلها (.)1
وكان يكره الضب طبعًا ولم ينه عن أكله( ،)2والواجب التأسي به يف ذلك.
وبعض الناس إذا أحب شي ًئا أو كرهه بحكم طبيعته أو بيئته وجه الناس لما
يحب وهناهم عما يكره متدينًا بذلك ،وهذا تجاوز وغلو يف األمر بالمعروف
والنهي عن المنكر.
أصال من
ً -2اإلنكار على معذور يف الشرع ،كاإلنكار على غير مكلف
مجنون وصبي ،أو عاجز فيما عجز عنه كإنكار القعود يف صالة الفريضة لعاجز
عن القيام ،أو صاحب رخصة فيما رخص له فيه كاإلنكار على مسافر أو مريض
الفطر يف رمضان ،وإنما كان هذا من الغلو يف اإلنكار ألن القائم به مشدد ومنكر
على من عذره اهلل ،بل اإلنكار على المعذور داخل يف عموم إنكار ما ليس
منكرا يف حق غيره إال أنه ليس بمنكر يف
ً بمنكر؛ ألن ما قام بالمعذور وإن كان
حقه للعذر الشرعي.
والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون ،بل إن رأى شي ًئا
غيره»(.)1
وقول ابن النحاس « :$ويشرتط أيضًا أن يكون المنكر ظاهر ًا بغير
تجسس ،ف كل من سرت معاصيه يف داره أو أغلق عليه بابه ال يجوز ألحد أن
يتجسس عليه»(.)2
-2إنكار ما ال قدرة على إنكاره وال استطاعة على تغييره ،وهذ مخالف
لشروط اإلنكار الشرعي التي منها االستطاعة ،كما جاء يف الحديث« :من رأى
منكرا فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه ،فإن لم يستطع فبقلبه ،وذلك
ً منكم
أضعف اإليمان»(.)3
وإنما دخل هذا يف الغلو ألنه تجاوز يف حد المشروع ،فاإلنكار الشرعي
معلق باالستطاعة ،ومن أنكر ما ال استطاعة له على إنكاره فقد غال وتكلف ما
لم يشرع له ،كمن ينكر بيده ما ال قدرة له شرعية على إنكاره ،كتعزير العصاة
وإقامة الحدود على الجناة ،فإن هذا موكول لوالة األمر ،فإذا باشره أفراد الناس
ترتب عليه فتن وشر وبالء عظيم ،وكمن ينكر بلسانه وليس هو من أهل
االستطاعة لذلك ،كمن ينكر على ذوي سلطان أو جاه وهو ظالم متجرب فيؤذيه
ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [األعراف.]164:
فذكر المفسرون أن أهل القرية افرتقوا إلى ثالث :فرق فرقة صادت وأكلت،
وفرقة هنت وزجرت ،وفرقة أمسكت عن الصيد ،وقالت للفرقة الناهية﴿ :ﭕ
يصغ للنصيح»(.)4
فظاهر أن تركهم لإلنكار و َلو َمهم للمنكرين لشبهة عدم استجابة المدعوين،
وهذا تقصير يف المشروع ،فإنه ليس من شرط القيام األمر بالمعروف والنهي عن
المنكر استجابة المدعوين كما تقدم تقريره عند بيان مدلول قول اهلل تعالى:
﴿ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى.]9:
احتجاجا بالقدر ودعوى أن اهلل
ً -1ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر
كتب الهداية والضالل على الناس يف األزل ،فمن كتبه اهلل من المهتدين
فسيستقيم ويطيع ،ومن كتبه اهلل من الضالين فسيضل ويعصي ،فال فائدة يف األمر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا تقصير يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب هذه الشبهة ،وقد
دون ذلك»(.)1
الصورة الثانية :التقصير يف طريقة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
* وله عدة شواهد ،منها:
-1تغيير المنكر بمرتبة أدنى من مراتب التغيير المذكورة يف حديث أبي
قادرا على اإلنكار باليد،
سعيد مع القدرة على التغيير بمرتبة أعلى ،كأن يكون ً
قادرا على اإلنكار باللسان فينكر بالقلب ،وهذ تقصير
فينكر باللسان ،أو يكون ً
يف اإلنكار المشروع؛ ألن النبي جعله مرت ًبا على مراتب ثالث بحسب القدرة،
فال يرخص يف اإلنكار باألدنى لمن له قدرة على األعلى كما تقدم تقريره ونقل
كالم العلماء يف ذلك ( ،)2ومن ذلك قول النووي« :أما صفة النهي عن المنكر
ومراتبه ،فضابطه قوله ﷺ« :فليغيره بيده ،فإن لم يستطع فبلسانه» فعليه أن يغير
بكل وجه أمكنه ،وال يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد ،وال تكفي كراهة
القلب لمن قدر على النهي باللسان»(.)3
وقول ابن النحاس يف التعليق على حديث أبي سعيد :فيه أن من أنكر بلسانه
مع إمكان إنكاره باليد ال يسقط عنه اإلثم ،وإنما يسقط عنه اإلثم إذا لم يستطع
اإلنكار باليد.
وفيه أنه ال يقتصر على اإلنكار بالقلب إال عند عدم االستطاعة لإلنكار باليد
واللسان ليسقط عنه اإلثم (.)1
-2األمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع التقصير يف اآلداب التي ينبغي أن
يتحلى هبا المحتسب من الرفق واللين ،وهذا مما يؤثر يف عدم استجابة
المخالف ،بل قد يؤدي إلى تنفيره وعناده وإعراضه عن الحق.
ففي صحيح البخاري من حديث عائشة ڤ :أن يهود أتوا النبي ﷺ
فقالوا :السام عليكم ،فقالت عائشة :عليكم ،ولعنكم اهلل ،وغضب اهلل عليكم.
مهال يا عائشة ،عليك بالرفق ،وإياك والعنف والفح » .قالت :أولم
قالً « :
تسمع ما قالوا؟ قال« :أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم ،فيستجاب لي فيهم،
وال يستجاب لهم يف»(.)2
مهال يا عائشة ،إن اهَّلل يحب الرفق يف األمر
ويف رواية :فقال النبي ﷺً « :
كله»(.)3
فأنكر النبي ﷺ على اليهود ورد عليهم قولهم برفق ،وأمر زوجه ِ
وح َّبه يف
مقام االنتصار له والغضب يف اهلل بالرفق ،وهناها عن العنف والفحش مع اليهود،
فكيف بغيرهم من عصاة المسلمين.
وقال أحمد بن حنبل -رحمه اهلل تعالى « :-والناس يحتاجون إلى مداراة
رجال مباينًا ،معلنًا بالفسق والردى،
ً ورفق يف األمر بالمعروف بال غلظة ،إال
فيجب عليك هنيه وإعالمه»(.)1
وقال أيضا« :كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون
يقولون مهال يرحمكم اهلل» (.)2
-3مخالفة المحتسب يف نفسه ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من
المنكر؛ فإن هذا من التقصير يف اآلداب التي ينبغي أن يمتثلها المحتسب يف
نفسه ،فإن امتثاله لما يدعو إليه أدعى يف قبول قوله وإرشاده ،ولذا قال شعيب
ڠ لقومه﴿ :ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮﯯﯰﯱ﴾ [هود.]88:
َّاس بِا ْلبِ ِّر وقد عاب اهلل على اليهود مخالفة ذلك ،فقال سبحانهَ ﴿ :أ َت ْأ ُم ُر َ
ون الن َ
َو َتن َْس ْو َن ﴾[البقرة.]44 :
وقد المهم اهلل على تقصيرهم يف امتثال ما يأمرون به ولم يلمهم على أمرهم
بالمعروف.
قال ابن كثير « :$والغرض :أن اهلل تعالى ذمهم على هذا الصنيع ،ونبههم
على خطئهم يف حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير وال يفعلونه ،وليس
المراد ذمهم على أمرهم بالرب مع تركهم له»(.)3
ولهذا ال ينبغي للمحتسب أن يخالف ما يأمر به ،كما ال ينبغي له إن قصر يف
نفسه أن يحمله هذا على التقصير يف الدعوة واألمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ،فإن هذه شبهة أخرى من شبهات المقصرين يف الدعوة ،وقد تقدم
الجواب عنها على وجه التفصيل.
بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر 84
ً
أوال :معنى المعروف والمنكر4 ............................................... :
ثان ًيا :ضابط المعروف والمنكر6 .............................................. :
ثال ًثا :منزلة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر يف الدين7..................... :
راب ًعا :حكم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر11 ............................ :
خامسا :شروط األمر بالمعروف والنهي عن المنكر19 .........................:
ً
سادسا :مراتب إنكار المنكر35................................................ :
ً
ساب ًعا :شبه تتعلق باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر50 ......................:
ثامنًا :مظاهر االنحراف يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر72.............. .
الفهرس 84 ....................................................................