بيان منهج أهل السنة في الأمر بالمعروف - تنسيق أخير

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 84

‫بيان منهج أهل السنة‬

‫يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫تأليف‬

‫إبراهيم بن عامر الرحيلي‬


‫‪3‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫‪‬‬
‫الحمد هلل رب العالمين والصالة والسالم على رسوله األمين وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫فهذا الكتيب جزء اجتزأته من كتاب (سبيل الرشاد يف تقرير مسائل االعتقاد)‬
‫وهو يف (بيان منهج أهل السنة يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وذلك‬
‫لتدريسه يف الدورة السابعة المقامة يف (معهد اإلمام البخاري) يف دولة‬
‫إندونيسيا‪.‬‬
‫سائال اهلل أن ينفع هبا وأن يوفقنا وإخواننا المشاركين يف الدورة وعموم‬
‫ً‬
‫المسلمين لكل خير‪.‬‬

‫وكتبه‪/‬‬

‫‪1444/5/3‬هـ‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪4‬‬

‫‪‬‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسائل العظيمة التي وقع‬
‫االختالف فيها والتفرق بين المسلمين‪ ،‬وترتب على المخالفة فيها من البدع‬
‫والضالل والظلم والبغي ما ال يحصيه إال اهلل‪ ،‬ولهذا ذكرها بعض العلماء يف‬
‫مسائل أصول الدين‪.‬‬
‫قال ابن العربي ‪ $‬ضمن حديثه عن قوله تعالى‪﴿ :‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬

‫ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ﴾ [المائدة‪« :]105:‬هذه اآلية من أصول األمر‬


‫بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أصل الدين وخالفة المسلمين‪ ،‬وقد‬
‫ذكر علماؤنا أبوابه ومسائله يف أصول الدين‪ ،‬وهي من فروعه»(‪.)1‬‬
‫* وبيان معتقد أهل السنة ومنهجهم فيه يتم بيانه من عدة وجوه‪:‬‬

‫‪ ‬أولًا‪ :‬معنى املعروف واملنكر‪:‬‬


‫أ) معنى المعروف‪:‬‬
‫ف) التي تدل على معنيين‪:‬‬
‫المعروف يف اللغة‪ :‬مأخوذ من مادة ( َع َر َ‬
‫متصال بعضه ببعض)‪ .‬ومنه قولهم‪ :‬جاءت القطا‬
‫ً‬ ‫أحدهما‪( :‬تتابع الشيء‬
‫عر ًفا عر ًفا‪ ،‬أي‪ :‬بعضها خلف بعض‪.‬‬
‫الثاين‪( :‬السكون والطمأنينة) ومنه‪ :‬المعرفة والعرفان‪ .‬يقول الرجل‪ :‬هذا أمر‬

‫(‪ )1‬أحكام القرآن (‪.)226 /2‬‬


‫‪5‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫معروف‪ .‬لسكونه إليه‪ ،‬ذكره ابن فارس (‪.)1‬‬


‫وعلى هذا فحد المعروف يف اللغة‪ :‬هو ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه‬
‫القلب وقبله‪.‬‬
‫قال ابن فارس‪« :‬وسمي المعروف بذلك ألن النفوس تسكن إليه »(‪.)2‬‬
‫والمعروف يف الشرع‪ « :‬هو كل ما أمر اهلل به أو ندب إليه من أعمال الرب‬
‫والخير» (‪.)3‬‬
‫قال الطربي ‪« :$‬وإنما سميت طاعة اهلل معرو ًفا؛ ألنه مما يعرفه أهل‬
‫اإليمان وال يستنكرون فعله »(‪.)4‬‬
‫ب) معنى المنكر‪:‬‬
‫المنكر يف اللغة‪ :‬مأخوذ من مادة ( َن َك َر) التي تدل على معنى واحد وهو‬
‫خالف المعرفة التي يسكن إليها القلب‪ .‬يقال‪ :‬نكر الشيء وأنكره‪ :‬لم يقبله قلبه‬
‫ولم يعرتف به لسانه‪)5( .‬‬

‫فيكون حد المنكر يف اللغة‪ :‬هو ما استوحشت منه النفس ولم يقبله القلب‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر مقاييس اللغة (‪.)281 /4‬‬


‫(‪ )2‬مقاييس اللغة (‪.)281 /4‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطربي (‪.)481 /7‬‬
‫(‪ )4‬تفسير الطربي (‪.)481 /7‬‬
‫(‪ )5‬مقاييس اللغة (‪.)476 /5‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪6‬‬

‫منكرا‪« :‬ألن من أنكر شي ًئا توحش منه ونبا عنه»‪ .‬قاله ابن فارس‬
‫ً‬ ‫وسمي‬
‫‪.)1($‬‬
‫والمنكر يف الشرع‪ :‬هو كل ما قبحه اهلل أو هنى اهلل عنه هني تحريم أو تنزيه من‬
‫المعاصي والمكروهات (‪.)2‬‬
‫منكرا؛ ألن أهل اإليمان باهلل‬
‫ً‬ ‫قال الطربي ‪« :$‬سميت معصية اهلل‬
‫يستنكرون فعلها‪ ،‬ويستعظمون ركوهبا»(‪.)3‬‬

‫‪ ‬ثانيًا‪ :‬ضابط املعروف واملنكر‪:‬‬


‫* للمعروف والمنكر ضوابط تضبطهما ضب ًطا دقي ًقا وهي‪:‬‬
‫األول‪ :‬كل مأمور به فهو معروف‪ ،‬وكل منهي عنه فهو منكر‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬يدخل يف لفظ المعروف كل مأمور به‪،‬‬

‫ويف لفظ المنكر كل منهي عنه»(‪.)4‬‬


‫الثاين‪ :‬كل مستحب هو من المعروف‪ ،‬وكل مكروه من المنكر‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬فيدخل يف المنكر كل ما كرهه اهلل تعالى‬
‫كما يدخل يف المعروف كل ما يحبه»(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬انظر مقاييس اللغة (‪.)281 /4‬‬


‫(‪ )2‬انظر النهاية يف غريب الحديث البن األثير (‪ ،)115 /5‬مختصر الفتاوى المصرية (ص‪.)135 :‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطربي (‪.)676 /5‬‬
‫(‪ )4‬مجموع الفتاوى (‪.)275 /18‬‬
‫(‪ )5‬مختصر الفتاوى المصرية (ص‪.)135 :‬‬
‫‪7‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫الثالث‪ :‬كل خير هو من المعروف‪ ،‬وكل شر من المنكر‪.‬‬


‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬يدخل يف المعروف كل خير‪ ،‬ويف المنكر‬
‫كل شر»(‪.)1‬‬
‫الرابع‪ :‬كل طيب من المعروف‪ ،‬وكل خبيث من المنكر‪.‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ‬

‫ﮉ ﮊ﴾ [األعراف‪.]157:‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬وتحريم الخبائث يندرج يف معنى النهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬كما أن إحالل الطيبات يندرج يف األمر بالمعروف »(‪.)2‬‬

‫‪ ‬ثالثًا‪ :‬منزلة األمر باملعروف والنهي عن املنكر يف الدين‪:‬‬


‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل جليل من أصول الدين‪ ،‬وشعبة‬
‫عظيمة من شعب اإليمان‪ ،‬وشعيرة كبيرة من شرائع اإلسالم‪.‬‬
‫* ويمكن إبراز مكانته يف الدين من خالل الخصال التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬وصف اهلل لنبينا محمد ﷺ بأمره بالمعروف وهنيه المنكر‪ ،‬مما يدل على‬
‫منزلة هذه الشعبة التي أثنى هبا على صفوة رسله وسيدهم وإمامهم وخاتمهم‪،‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ‬

‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى (‪.)162 /7‬‬


‫(‪ )2‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص‪.)6 :‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪8‬‬

‫ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ‬
‫ﮊ﴾ [األعراف‪.]157:‬‬
‫‪ -2‬باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع اإليمان باهلل نالت هذه األمة‬
‫الخيرية على األمم‪ ،‬وسبقت إلى هذا الفضل والشرف‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭞ ﭟ‬

‫ﭠﭡ ﭢﭣﭤ ﭥﭦﭧ ﭨ ﭩﭪ﴾ [آل عمران‪.]110:‬‬


‫قال أبو هريرة ﭬ يف تفسير اآلية‪« :‬كنتم خير الناس للناس‪ ،‬تجيئون بهم يف‬
‫السالسل‪ ،‬تدخلونهم يف اإلسالم»(‪.)1‬‬
‫يقول‪:‬‬ ‫﴿ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾ [آل عمران‪]110:‬‬ ‫وعن مجاهد يف معنى‪:‬‬

‫«على هذا الشرط أن تأمروا بالمعروف‪ ،‬وتنهوا عن المنكر‪ ،‬وتؤمنوا باهلل»(‪.)2‬‬


‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬فبين سبحانه أن هذه األمة خير األمم‬
‫للناس‪ :‬فهم أنفعهم لهم‪ ،‬وأعظمهم إحسا ًنا إليهم؛ ألهنم كملوا أمر الناس‬
‫بالمعروف وهنيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر‪ ،‬حيث أمروا بكل معروف‬
‫وهنوا عن كل منكر لكل أحد‪ ،‬وأقاموا ذلك بالجهاد يف سبيل اهلل بأنفسهم‬
‫وأموالهم‪ ،‬وهذا كمال النفع للخلق»(‪.)3‬‬
‫‪ -3‬أ ْم ُر اهلل باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر يف كتابه‪ ،‬وإخباره عن فالح‬

‫(‪ )1‬تفسير الطربي (‪.)673 /5‬‬


‫(‪ )2‬تفسير الطربي (‪.)674 /5‬‬
‫(‪ )3‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص‪.)7 :‬‬
‫‪9‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫القائمين به فقال سبحانه‪﴿ .‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ‬

‫ﮠﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ﴾ [آل عمران‪.]104:‬‬


‫‪ -4‬إخبار اهلل عن قيام المؤمنين به وثنائه عليهم بذلك‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫﴿ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ﴾‬

‫[التوبة‪.]71:‬‬
‫‪ -5‬ثناء اهلل على أهل التمكين من األمراء وغيرهم بالقيام به‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫﴿ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ‬

‫ﮑﮒ ﮓﮔﮕﮖ﴾ [الحج‪.]41:‬‬


‫‪ -6‬أمر النبي ﷺ بإنكار المنكر بحسب االستطاعة‪ ،‬ولم يعذر برتكه بحال‪،‬‬
‫وربط بينه وبين اإليمان‪ ،‬وجعل أدنى مراتبه أضعف اإليمان‪.‬‬
‫فعن أبي سعيد الخدري ﭬ‪ :‬أنه سمع رسول اهلل ﷺ يقول‪« :‬من رأى‬
‫منكر ا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬ ‫منكم‬

‫أضعف اإليمان»(‪.)1‬‬
‫‪ -7‬تعرض األمة للعقوبات العامة برتكه‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ‬

‫ﯵﯶ ﯷﯸﯹﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ﴾ [األنفال‪.]25:‬‬


‫قال ابن عباس يف تفسيرها‪« :‬قال‪ :‬أمر اهلل المؤمنين أن ال يقروا المنكر بين‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )69 /1‬ح (‪.)49‬‬


‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪10‬‬

‫أظهرهم فيعمهم اهلل بالعذاب »(‪.)1‬‬


‫وقال الشيخ محمد األمين الشنقيطي ‪« :$‬والتحقيق يف معناها‪ :‬أن المراد‬
‫بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه‬
‫عمهم اهلل بالعذاب‪ ،‬صالحهم وطالحهم‪ ،‬وبه فسرها جماعة من أهل العلم‪،‬‬
‫واألحاديث الصحيحة شاهدة لذلك»(‪.)2‬‬
‫ومما يشهد لذلك من السنة حديث حذيفة ﭬ عن النبي ﷺ قال‪َ « :‬وا َّل ِذي‬
‫وف‪ ،‬و َل َتنْهو َّن ع ِن ا ْلمنْ َكرِ‪َ ،‬أو َلي ِ‬
‫وشك ََّن اهَّللُ َي ْب َع ُ‬
‫ث‬ ‫َن ْف ِسي بِي ِد ِه‪َ ،‬لت َْأمر َّن بِا ْلمعر ِ‬
‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َ ُْ‬ ‫ُُ‬ ‫َ‬
‫يب َلك ُْم»(‪.)3‬‬‫َج ُ‬‫َع َل ْيك ُْم ِع َقا ًبا ِمنْ ُه‪ُ ،‬ث َّم تَدْ ُعو َن ُه َف َال َي ْست ِ‬

‫‪ -8‬إخبار اهلل عن طائفة من أهل الكتاب بالقيام به وثناؤه عليهم بذلك مع‬
‫بعض شعب اإليمان األخرى‪ ،‬قال تعالى‪ ﴿ :‬ﮬ ﮭﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ‬

‫ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ‬
‫ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ﴾ [آل‬

‫عمران‪.]114-113:‬‬
‫‪ -9‬وصية الحكماء والصالحين بالقيام به‪ ،‬وأن القيام به من عزم األمور‪ ،‬قال‬

‫(‪ )1‬تفسير الطربي (‪.)115 /11‬‬


‫(‪ )2‬أضواء البيان (‪.)462-461 /1‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه أحمد يف المسند (‪ )332 /38‬ح(‪ ،)23301‬والرتمذي يف سننه (‪ )468 /4‬ح (‪،)2169‬‬
‫وحسنه األلباين يف صحيح الجامع (‪ )1189 /2‬وقال محققو المسند‪« :‬حسن لغيره»‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫تعالى مخربًا عن لقمان يف وصيته البنه وقوله‪﴿ :‬ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ‬

‫ﯩ ﯪﯫ ﯬ ﯭﯮﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾ [لقمان‪.]17 :‬‬


‫‪ -10‬ذم الذين كفروا من بني إسرائيل ولعنهم على ألسنة األنبياء بكفرهم‬
‫وبرتكهم للنهي عن المنكر‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬

‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬
‫ﭾ ﭿﮀﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ﴾ [المائدة‪.]79-78:‬‬

‫‪ ‬رابعًا‪ :‬حكم األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪:‬‬


‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عظيم من واجبات الشرع بداللة‬
‫الكتاب والسنة واإلجماع‪.‬‬
‫أما الكتاب‪ :‬فقوله تعالى‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ‬

‫ﮟ ﮠﮡﮢ ﮣﮤ ﮥ﴾ [آل عمران‪.]104:‬‬


‫فقد احتج أهل العلم هبذه اآلية على وجوب األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪.‬‬
‫قال ابن حزم ‪« :$‬اتفقت األمة كلها على وجوب األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر بال خالف من أحد منهم؛ لقول اهلل تعالى ﴿ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬

‫ﮛ ﮜﮝﮞ ﮟ ﮠﮡ﴾ [آل عمران‪.)1( »]104:‬‬

‫(‪ )1‬الفصل (‪ ،)132 /4‬وانظر أحكام القرآن للكيا الهراسي (‪ ،)301 /2‬أحكام القرآن البن الفرس (‪.)34 /2‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪12‬‬

‫وأما من السنة‪ :‬فحديث أبي سعيد الخدري ﭬ‪ :‬أنه سمع رسول اهلل ﷺ‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع‬
‫يقول‪« :‬من رأى منكم ً‬
‫فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اإليمان»(‪.)1‬‬
‫فأمر النبي ﷺ بتغيير المنكر بحسب االستطاعة‪ ،‬واألمر هنا للوجوب كما‬
‫قرر هذا جمع من أهل العلم‪.‬‬
‫قال النووي‪« :‬قوله ﷺ‪« :‬فليغيره» فهو أمر إيجاب بإجماع األمة»(‪.)2‬‬
‫األمر‬
‫َ‬ ‫األمر على الوجوب؛ َّ‬
‫ألن‬ ‫ُ‬ ‫وقال أبو العباس القرطبي ‪« :$‬هذا‬
‫ِ‬
‫بالكتاب‬ ‫ِ‬
‫ودعائم اإلسالم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واجبات اإليمان‪،‬‬ ‫َّهي عن المنكر من‬ ‫ِ‬
‫بالمعروف والن َ‬
‫والسنة وإجماع األمة»(‪.)3‬‬
‫منكرا فليغيره‪ :‬هو أمر إيجاب على‬
‫ً‬ ‫وقال السيوطي ‪« :$‬من رأى منكم‬
‫األمة»(‪.)4‬‬
‫أيضا من السنة‪ :‬حديث حذيفة ﭬ المتقدم عن النبي ﷺ أنه‬
‫ومن األدلة ً‬
‫قال‪« :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن اهَّلل‬
‫أن يبعث عليكم عقا ًبا منه ثم تدعونه فال يستجاب لكم»(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه مسلم (‪ )69 /1‬ح (‪.)49‬‬


‫(‪ )2‬شرح النووي على مسلم (‪.)22 /2‬‬
‫(‪ )3‬المفهم (‪.)233 /1‬‬
‫(‪ )4‬شرح السيوطي على مسلم (‪.)65 /1‬‬
‫(‪ )5‬أخرجه أحمد يف المسند (‪ )332 /38‬ح (‪ ،)23301‬والرتمذي يف سننه (‪ )468 /4‬ح (‪،)2169‬‬
‫=‬
‫‪13‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫فقد تضمن الحديث الوعيد بعقوبة اهلل على ترك األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر‪ ،‬فدل على وجوب القيام هبما‪ ،‬إذ ال عقوبة إال على ترك واجب أو‬
‫فعل محرم‪.‬‬
‫أما اإلجماع‪ :‬فقد حكاه جماعة من العلماء‪.‬‬
‫قال ابن حزم ‪« :$‬اتفقت األمة كلها على وجوب األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر بال خالف من أحد منهم»(‪.)1‬‬
‫وقال النووي ‪« :$‬وقد تطابق على وجوب األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫أيضا من النصيحة التي هي الدين‪،‬‬
‫المنكر الكتاب والسنة وإجماع األمة‪ ،‬وهو ً‬
‫ولم يخالف يف ذلك إال بعض الرافضة وال يعتد بخالفهم»(‪.)2‬‬
‫وقال ابن القطان الفاسي ‪« :$‬وأجمعوا على وجوب األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر بأيديهم وبألسنتهم إن استطاعوا ذلك‪ ،‬وإال فبقلوهبم»(‪.)3‬‬
‫وإذا تقرر وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكتاب والسنة‬
‫واإلجماع فههنا مسألتان متعلقتان بذلك‪:‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬هل وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب‬
‫عيني على كل فرد من أفراد األمة أم كفائي؟‬

‫وحسنه األلباين يف صحيح الجامع (‪ )1189 /2‬وقال محققو المسند‪« :‬حسن لغيره »‪.‬‬
‫(‪ )1‬الفصل يف الملل واألهواء والنحل (‪.)132 /4‬‬
‫(‪ )2‬شرح النووي على مسلم (‪.)22 /2‬‬
‫(‪ )3‬اإلقناع يف مسائل اإلجماع (‪.)62 /1‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪14‬‬

‫* فيه قوالن للعلماء‪:‬‬


‫القول األول‪ :‬أنه واجب عيني على كل مسلم يجب أن يؤديه بحسب‬
‫استطاعته‪ ،‬واحتجوا لقولهم بأن (من) يف قوله تعالى‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ‬

‫لبيان الجنس‪ ،‬والمعنى‬ ‫ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ﴾ [آل عمران‪]104:‬‬

‫(ولتكونوا كلكم أمة يدعون‪ ،)..‬وهو مثل قوله ﴿ﯩ ﯪ ﯫ‬

‫ﯬ﴾ [الحج‪ ]30:‬فالمراد‪ :‬اجتناب جميع األوثان ال بعضها (‪.)1‬‬


‫قالوا‪ :‬والدليل على أهنم أمروا كلهم باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫قوله جل وعال‪﴿ :‬ﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ﴾ [آل‬

‫عمران‪.]110:‬‬
‫وممن قال هبذا الزجاج والسمعاين والبغوي وابن كثير ومحمد رشيد‬

‫رضا(‪.)2‬‬
‫القول الثاين‪ :‬أنه من فروض الكفايات ال يجب على كل أحد بعينه‪ ،‬ويسقط‬
‫بفعل البعض كالجهاد‪ ،‬واحتجوا لقولهم بأن (من ) يف قوله تعالى‪﴿ :‬ﮖ ﮗ‬

‫للتبعيض‪،‬‬ ‫ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ﴾ [آل عمران‪]104:‬‬

‫والمعنى‪( :‬لتكن طائفة منكم يدعون إلى الخير‪ )...‬قالوا‪ :‬ألن األمر بالمعروف‬

‫(‪ )1‬انظر تفسير السمعاين (‪.)347 /1‬‬


‫(‪ )2‬انظر معاين القرآن وإعرابه للزجاج (‪ )453 /1‬وتفسير السمعاين (‪ )347 /1‬وتفسير البغوي ‪-‬‬
‫طيبة (‪ ،)84 /2‬وتفسير ابن كثير (‪ )94 /2‬وتفسير المنار (‪.)23 /4‬‬
‫‪15‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫والنهي عن المنكر ليس لكل أحد‪ ،‬وإنما يكون للعلماء وليس كل األمة علماء‪،‬‬
‫وقد ع َّين اهلل تعالى القائمين به بقوله‪﴿ :‬ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ‬

‫وليس كل الناس‬ ‫ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑﮒ﴾ [الحج‪]41:‬‬

‫مكنوا‪.‬‬
‫وهو قول أكثر العلماء‪ ،‬وبه قال ابن العربي والقرطبي والنووي وابن دقيق‬
‫وشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬وابن القيم‪ ،‬وابن النحاس‪ ،‬والسفاريني والشوكاين‪،‬‬
‫واأللوسي والسعدي ومحمد األمين الشنقيطي وغيرهم (‪.)1‬‬
‫دليل على أن األمر‬ ‫﴿ﮖ ﮗ ﮘ﴾ [آل عمران‪]104:‬‬ ‫يف مطلق قوله تعالى‪:‬‬
‫عدال‪ ،‬خال ًفا‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر فرض يقوم به المسلم‪ ،‬وإن لم يكن ً‬
‫للمبتدعة الذين يشرتطون يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر العدالة‪ .‬وقد‬
‫ب َّينا يف كتب األصول أن شروط الطاعات ال تثبت إال باألدلة‪ ،‬وكل أحد عليه‬
‫فرض يف نفسه أن يطيع‪ ،‬وعليه فرض يف دينه أن ينبه غيره على ما يجهله من‬
‫طاعة أو معصية‪ ،‬وينهاه عما يكون عليه من ذنب‪ .‬وقد بيناه يف اآلية األولى‬

‫(‪ )1‬انظر أحكام القرآن البن العربي (‪ )383 /1‬وتفسير القرطبي (‪ )165 /4‬وشرح النووي على‬
‫مسلم (‪ )23 /2‬وشرح األربعين النووية البن دقيق العيد (ص‪)92 :‬واألمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر البن تيمية (ص‪ )9 :‬وإعالم الموقعين البن القيم (‪ )124 /3‬وتنبيه الغافلين البن‬
‫النحاس (ص‪ )29 :‬ولوامع األنوار للسفاريني (‪ )707/3‬وفتح القدير للشوكاين (‪)423/1‬وتفسير‬
‫األلوسي (‪ )238 /2‬تفسير السعدي (ص‪ )307 :‬وأضواء البيان للشنقيطي (‪.)222 /4‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪16‬‬

‫قبلها‪.‬‬
‫وهذا هو الصواب الذي تقتضيه األدلة من حيث الجملة‪ ،‬لكن يندرج تحته‬
‫تفصيل مؤثر يف الحكم باعتبار درجات المأمور به والمنهي عنه يف نفسه‪،‬‬
‫وباعتبار مراتب الناس يف القدرة على ذلك‪ ،‬وباعتبار مراتب اإلنكار وما يتعلق‬
‫منها باليد أو اللسان أو القلب‪.‬‬
‫أما ما يرجع إلى تفاوت المأمور به والمنهي عنه‪ :‬فقد تقدم أن المعروف‬
‫يدخل يف عمومه الواجب والمستحب‪ ،‬والمنكر يدخل يف عمومه المحرم‬
‫والمكروه‪ ،‬وعليه فاألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون تاب ًعا‬
‫ألصل المشروعية وجو ًبا وند ًبا‪.‬‬
‫فيكون على مرتبتين‪ :‬واجب‪ ،‬وهو األمر بالمعروف الواجب والنهي عن‬
‫المنكر المحرم‪ ،‬ومستحب‪ :‬وهو األمر بالمعروف المستحب والنهي عن‬
‫المنكر المكروه‪ ،‬وهذا الذي تقتضيه أصول الشريعة‪ ،‬فإن ما شرعه اهلل على‬
‫سبيل الندب وما هنى اهلل عنه على سبيل التنزيه لم يوجبه على األمة فكذلك‬
‫األمر بالمندوب والنهي عن المكروه يف مقام الحسبه يتنزل عليه حكم األصل‪.‬‬
‫وقد صرح بهذا بعض العلماء‪ :‬يقول ابن بطال ‪« :$‬وقال بعض العلماء‪:‬‬
‫األمر بالمعروف منه فرض ومنه نافلة‪ ،‬فكل شيء وجب عليه العمل به وجب‬
‫عليه األمر به كالمحافظة على الوضوء وتمام الركوع والسجود وإخراج الزكاة‬
‫وما أشبه ذلك‪ ،‬وما كان نافلة لك فإن أمرك به نافلة‪ ،‬وأنت غير آثم ىف ترك األمر‬
‫‪17‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫به إال عند السؤال عنه لواجب النصيحة التي هي فرض على جميع‬
‫المؤمنين»(‪.)1‬‬
‫وأما ما يرجع إلى تفاوت الناس يف القدرة على األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ :‬فمعلوم أنه ليس كل الناس قادر على ذلك‪ ،‬ويشهد لهذا قول النبي ﷺ‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم‬
‫يف حديث أبي سعيد الخدري ﭬ‪« :‬من رأى منكم ً‬
‫فبلسانه»(‪)2‬‬
‫الحديث‪ .‬وعليه فإن القيام باألمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫يستطع‬
‫المنكر وإن كان يف األصل من فروض الكفايات على ما تقدم‪ ،‬فإنه ال يجب‬
‫على العاجز عنه‪ ،‬بل ال يشرع يف حقه؛ لعموم األدلة الدالة على عدم تكليف‬
‫العاجز‪ ،‬كقوله تعالى‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [التغابن‪ ،]16:‬وقوله عز وجل‪﴿ :‬ﯗ‬

‫ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ﴾ [البقرة‪ ،]286:‬وألن العاجز معذور يف فروض األعيان‬


‫ٍ‬
‫وحينئذ يتعين على القادرين عليه من األمة دون من‬ ‫فكيف بفروض الكفايات‪،‬‬
‫عجز عنه‪ ،‬فيكون من فروض الكفايات يف حق أهل القدرة عليه‪ ،‬حتى إذا‬
‫انحسرت القدرة يف رجل واحد تعين عليه وأصبح يف حقه من فروض األعيان‪.‬‬
‫يقول النووي ‪« :$‬ثم إنه قد يتعين كما إذا كان يف موضع ال يعلم به إال‬
‫هو‪ ،‬أو ال يتمكن من إزالته إال هو‪ ،‬وكمن يرى زوجته أو ولده أو غالمه على‬
‫منكر أو تقصير يف المعروف »(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬شرح صحيح البخاري (‪.)294 /9‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (‪ )69 /1‬ح (‪.)49‬‬
‫(‪ )3‬شرح النووي على مسلم (‪.)23 /2‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪18‬‬

‫وقال القرايف‪« :‬وإذا لم يوجد إال من يقوم بذلك الواجب تعين الفعل عليه‬
‫عينًا النحصار المشرتك فيه كآخر الوقت يف الصالة »(‪.)1‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬يف سياق حديثه عن األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪« :‬وهذا واجب على كل مسلم قادر‪ ،‬وهو فرض على‬
‫الكفاية‪ ،‬ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره»(‪.)2‬‬
‫* وأما ما يرجع إلى مراتب اإلنكار وما يتعلق منها باليد أو اللسان أو القلب‪:‬‬
‫فظاهر النصوص أن اإلنكار بالقلب البد منه‪ ،‬وأما اإلنكار باليد واللسان‬
‫فبحسب االستطاعة كما دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري وما جاء يف‬
‫معناه من األحاديث األخرى‪ ،‬فإن النبي ذكر االستطاعة يف التغيير باليد واللسان‪،‬‬
‫وأما االنكار بالقلب فلم يقل بعده‪ :‬فإن لم يستطع‪ ،‬بل ذكر أنه أضعف اإليمان‪.‬‬
‫وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن طارق بن شهاب قال‪ :‬قال‪ :‬رجل‬
‫لعبد اهلل بن مسعود ﭬ‪ :‬هلك من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر‪ ،‬فقال‬
‫عبد اهلل‪« :‬بل هلك من لم يعرف المعروف بقلبه‪ ،‬وينكر المنكر بقلبه» (‪.)3‬‬
‫قال ابن رجب ‪ $‬معل ًقا على كالم ابن مسعود‪« :‬يشير إلى أن معرفة‬

‫(‪ )1‬الفروق للقرايف (‪.)93 /2‬‬


‫(‪ )2‬مجموع الفتاوى (‪.)65 /28‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه ابن أبي شيبه يف مصنفه (‪ )504 /7‬ح(‪ )37581‬والبيهقي يف شعب اإليمان (‪ )71/10‬ح‬
‫(‪.)7182‬‬
‫‪19‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫المعروف والمنكر بالقلب فرض ال يسقط عن أحد‪ ،‬فمن لم يعرفه هلك‪ ،‬وأما‬
‫اإلنكار باليد واللسان فإنما يجب بحسب الطاقة»(‪.)1‬‬
‫وقال السفاريني ‪« :$‬يف هذا الباب عدة أحاديث‪ ،‬وقد دلت كلها على‬
‫إنكار المنكر بحسب القدرة عليه‪ ،‬وأن إنكاره بالقلب ال بد منه»(‪.)2‬‬
‫فتلخص من هذا‪ :‬أن األمر بالمعروف والنهي عن المنكر من حيث األصل‬
‫ً‬
‫أحواال خاصة تخرج عن حكم األصل على ما تقدم‬ ‫فرض كفاية‪ ،‬إال أن له‬
‫تفصيله‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫‪ ‬خامسًا‪ :‬شروط األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪:‬‬


‫األول‪ :‬اإلخالص هلل تعالى فيه‪ ،‬فاألعمال الصالحة إنما تكون صالحة‬
‫مقبولة باإلخالص‪ ،‬لقول النبي ﷺ‪« :‬إنما األعمال بالنيات»(‪.)3‬‬
‫قال ابن عبد الرب ‪ $‬يف شرحه‪« :‬وهذا يقتضي أن يكون كل عمل بغير نية ال‬
‫يجزئ»(‪.)4‬‬
‫وقال ابن دقيق ‪« :$‬ومعناه‪ :‬ال يعتد باألعمال بدون النية»(‪.)5‬‬
‫عمال‬
‫واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر كغيره من أعمال الرب‪ ،‬ال يكون ً‬

‫(‪ )1‬جامع العلوم والحكم (‪.)245 /2‬‬


‫(‪ )2‬لوامع األنوار البهية (‪.)713 /3‬‬
‫(‪ )3‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )4‬االستذكار (‪.)264 /1‬‬
‫(‪ )5‬شرح األربعين النووية (ص ‪.)26‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪20‬‬

‫ً‬
‫مقبوال إال باإلخالص‪ ،‬وهو أن يراد به وجه اهلل‪ ،‬فإن أريد به غير ذلك‬ ‫صالحا‬
‫صالحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫عمال‬
‫من المقاصد السيئة لم يقبل‪ ،‬بل ال يكون ً‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬فإن اإلنسان عليه ً‬
‫أوال أن يكون أمره هلل‪،‬‬
‫وقصده طاعة اهلل فيما أمره به‪ ،‬وهو يحب صالح المأمور‪ ،‬أو إقامة الحجة عليه‪،‬‬
‫فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته‪ ،‬وتنقيص غيره كان ذلك حمية ال‬

‫يقبله اهلل‪ ،‬وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حاب ًطا»(‪.)1‬‬
‫وقال ‪« :$‬ويحتاج أيضا أن يأمر بذلك ألمر اهلل وينهى عنه لنهي اهلل‪،‬‬
‫ويخرب بما أخرب اهلل به؛ ألنه حق وإيمان وهدى كما أخربت به الرسل‪ ،‬كما‬
‫تحتاج العبادة أن يقصد هبا وجه اهلل‪ ،‬فإذا قيل ذلك التباع الهوى والحمية‪ ،‬أو‬
‫إلظهار العلم والفضيلة‪ ،‬أو لطلب السمعة والرياء؛ كان بمنزلة المقاتل شجاعة‬
‫وحمية ورياء»(‪.)2‬‬
‫وقال المناوي‪« :‬قال بعض األعيان‪ :‬وينبغي لآلمر بالمعروف‪ :‬أن يقصد به‬
‫وجه اهلل‪ ،‬وإعزاز الدين لينصره اهلل تعالى‪ ،‬فإنه بذلك القصد ال يخيب»(‪.)3‬‬
‫* والمقاصد السيئة التي تصحب اإلنكار وتضاد اإلخالص كثيرة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ -1‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر للرياء والتزين بذلك عند الناس‬

‫(‪ )1‬منهاج السنة النبوية (‪.)254/5‬‬


‫(‪ )2‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص‪)55 :‬واالستقامة (‪.)300 /2‬‬
‫(‪ )3‬شرح األربعين النووية للمناوي (ص‪.)186 :‬‬
‫‪21‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫طل ًبا لمدحهم وثنائهم ‪ -‬والعياذ باهلل ‪.-‬‬


‫وهو داء خطير مهلك يدخل على العمل فيبطله‪ ،‬بل يوجب العقوبة ومقت‬
‫اهلل وسخطه‪.‬‬
‫وقد ذكر ابن الجوزي يف كتاب تلبيس إبليس‪ :‬أن الشيطان ل َّبس على العلماء‬
‫يف األمر بالمعروف من طريقين‪:‬‬
‫قال ‪« :$‬الطريق األَ َّول‪ :‬التزين بذلك وطلب الذكر والعجب بذلك‬
‫الفعل‪..‬‬
‫‪ -2‬االنتصار للنفس‪ ،‬أو االنتقام من المخالف‪ ،‬بأن يكون الحامل على‬
‫اإلنكار هذه المقاصد السيئة ال إنكار المنكر على وجه االحتساب‪ ،‬وقد يكون‬
‫هذا المقصد خف ًيا‪ ،‬حتى إنه ليخفى على المنكر نفسه بسبب غلبه الهوى على‬
‫نفسه وعقله‪.‬‬
‫قال ابن الجوزي يف السياق السابق ويف بيان الطريق الثاين الذي لبس به‬
‫الشيطان على العلماء يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪« :‬والطريق الثاين‪:‬‬
‫الغضب للنفس وربما كان ابتداء‪ ،‬وربما عرض فِي حالة اآلمر بالمعروف ألجل‬
‫َما يلقى به المنكر من اإلهانة فتصير خصومه لنفسه‪ ،‬ك ََما َق َال ُع َمر ْبن َع ْب ِد ا ْل َع ِزيز‬
‫لرجل‪ :‬لوال أين غضبان لعاقبتك‪ ،‬وإنما أراد أنك أغضبتني فخفت أن تمتزج‬
‫العقوبة من غضب اهلل ولي»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬تلبيس إبليس (ص‪.) 133-132 :‬‬


‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪22‬‬

‫‪ -3‬التشهير بالمخالف وإظهار عيبه باسم األمر بالمعروف والنهي عن‬


‫المنكر‪ ،‬قال الفضيل‪( :‬المؤمن يسرت وينصح‪ ،‬والفاجر يهتك و ُيع ِّير) (‪.)1‬‬
‫وقال ابن رجب معل ًقا‪« :‬فهذا الذي ذكره الفضيل من عالمات النصح‬
‫والتعيير‪ ،‬وهو أن النصح يقرتن به السرت‪ ،‬والتعيير يقرتن به اإلعالن»(‪.)2‬‬
‫وقال ‪« :$‬وكان السلف يكرهون األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫على هذا الوجه‪ ،‬ويحبون أن يكون سر ًا فيما بين اآلمر والمأمور‪ ،‬فإن هذا من‬
‫عالمات النصح‪ ،‬فإن الناصح ليس له غرض يف إشاعة عيوب من ينصح له‪،‬‬
‫وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها‪ ،‬وأما إشاعة وإظهار العيوب فهو مما‬
‫حرمه اهلل ورسوله‪ ،‬قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬

‫ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ﴾ [النور‪ ،]19:‬واألحاديث يف‬

‫فضل السر كثيرة جدَّ ًا»(‪.)3‬‬


‫‪ -4‬الطعن يف المخالف والتشفي منه باسم األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪.‬‬
‫قال ابن الجوزي ‪« :$‬ومن تلبيس إبليس َع َلى أصحاب الحديث‪ :‬قدح‬
‫بعضهم فِي بعض طل ًبا للتشفي‪ ،‬ويخرجون ذلك مخرج الجرح والتعديل الذي‬

‫(‪ )1‬الفرق بين النصيحة والتعيير (ص‪.)17 :‬‬


‫(‪ )2‬المصدر نفسه (ص‪.)17 :‬‬
‫(‪ )3‬المصدر نفسه (ص‪.)17 :‬‬
‫‪23‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫استعمله قدماء هذه األمة للذب َعن الشرع‪َ ،‬واهلل أعلم بالمقاصد‪ ،‬ودليل مقصد‬
‫خبث هؤالء سكوهتم عمن أخذوا عنه »(‪.)1‬‬
‫الشرط الثاين‪ :‬أهلية اآلمر بالمعروف والناهي عن المنكر وقدرته عليه‪.‬‬
‫ويكون ذلك بتوفر الشروط فيه التي تمكنه من األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر وفق الشرع‪ ،‬ومن ذلك تحليه بالعلم والرفق والصرب‪.‬‬
‫مرفوعا‪ ،‬ذكره القاضي أبو يعلى يف‬
‫ً‬ ‫جاء يف األثر عن بعض السلف ورووه‬
‫فقيها فيما يأمر به‪،‬‬
‫المعتمد‪ :‬ال يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إال من كان ً‬
‫حليما فيما يأمر به‪،‬‬
‫ً‬ ‫فقيها فيما ينهى عنه‪ ،‬رفي ًقا فيما يأمر به‪ ،‬رفي ًقا فيما ينهى عنه‪،‬‬
‫ً‬
‫حليما فيما ينهى عنه (‪.)2‬‬
‫ً‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬ال بد من هذه الثالثة‪ :‬العلم‪ ،‬والرفق‪،‬‬
‫والصرب‪ .‬العلم قبل األمر والنهي‪ ،‬والرفق معه‪ ،‬والصرب بعده‪ ،‬وإن كان كل من‬
‫الثالثة مستصح ًبا»(‪.)3‬‬
‫عالما لم يكن له أن يقفو ما ليس له به علم‪ ،‬وإن‬
‫وقال ‪« :$‬فإن لم يكن ً‬
‫عالما ولم يكن رفي ًقا كان كالطبيب الذي ال رفق فيه‪ ،‬فيغلظ على المريض‬
‫كان ً‬
‫فال يقبل منه‪ ،‬وكالمؤدب الغليظ الذي ال يقبل منه الولد‪ ،‬وقد قال تعالى‬

‫(‪ )1‬تلبيس إبليس (ص‪.)105 :‬‬


‫(‪ )2‬انظر المعتمد ألبي يعلى (ص‪ ،)196‬واالستقامة لشيخ اإلسالم ابن تيمية (‪.)233 /2‬‬
‫(‪ )3‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر البن تيمية (ص‪.)20 :‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪24‬‬

‫لموسى وهارون‪﴿ :‬ﮨ ﮩ ﮪﮫﮬ ﮭ ﮮﮯﮰ﴾ [طه‪.]44:‬‬


‫ثم إذا أمر وهنى فال بد أن يؤذى يف العادة‪ ،‬فعليه أن يصرب ويحلم‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ﴾‬

‫[لقمان‪ ،]17:‬وق د أمر اهلل نبيه بالصرب على أذى المشركين يف غير موضع‪ ،‬وهو إمام‬
‫اآلمرين بالمعروف الناهين عن المنكر»(‪.)1‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬أن يكون المأمور به من المعروف يف الشرع‪ ،‬والمنهي عنه‬
‫من المنكر يف الشرع‪.‬‬
‫كما قال تعالى‪﴿ :‬ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠﮡ‬

‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ﴾ [آل عمران‪.]104:‬‬
‫المعروف‪ :‬هو كل ما أمر اهلل به من واجب أو مستحب‪ ،‬والمنكر‪ :‬كل ما هنى‬
‫اهلل عنه من محرم أو مكروه‪ ،‬على ما تقدم بيانه يف التعريف‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬يدخل يف لفظ المعروف كل مأمور به‪،‬‬

‫ويف لفظ المنكر كل منهي عنه»(‪.)2‬‬


‫فال يؤمر بما استحسنته النفس طب ًعا أو كان مألو ًفا يف البلد‪ ،‬وال ينهى عما‬
‫استقبحته النفس طب ًعا أو كان غير مألوف يف البلد‪.‬‬
‫فقد كره النبي ﷺ الضب طب ًعا؛ ألن نفسه تعافه وليس معرو ًفا يف بلده‪ ،‬ولم‬

‫(‪ )1‬منهاج السنة النبوية (‪.)254 /5‬‬


‫(‪ )2‬مجموع الفتاوى (‪.)275 /18‬‬
‫‪25‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫ينه عنه شرعًا‪.‬‬


‫لما روى الشيخان من حديث خالد بن الوليد ﭬ‪ :‬أنه دخل مع رسول اهلل‬
‫ﷺ على خالته ميمونة أم المؤمنين فقدمت الضب لرسول اهلل ﷺ‪ ،‬فأهوى‬
‫رسول اهلل ﷺ يده إلى الضب‪ ،‬فقيل له‪ :‬هو الضب يا رسول اهلل‪ ،‬فرفع رسول اهلل‬
‫ﷺ يده عن الضب‪ ،‬فقال خالد بن الوليد‪ :‬أحرام الضب يا رسول اهلل؟ قال‪« :‬ال‪،‬‬
‫ولكن لم يكن بأرض قومي‪ ،‬فأجدين أعافه»‪ ،‬قال خالد‪ :‬فاجرترته فأكلته‪،‬‬

‫ورسول اهلل ﷺ ينظر إلي (‪.)1‬‬


‫وكذلك ال ُينكر يف المسائل االجتهادية‪ ،‬فإن اإلنكار ال يكون إال بدليل كما‬
‫تقدم‪ ،‬والدليل يف المسائل االجتهادية متنازع يف داللته‪ ،‬وليس قول أحد‬
‫وأيضا‬
‫ً‬ ‫المجتهدين حجة على رد القول اآلخر أو الحكم عليه بأنه منكر‪،‬‬
‫فالمجتهدون مأجورون على كل حال‪ ،‬فالمصيب مأجور مرتين‪ ،‬والمخطئ‬
‫مأجور مرة واحدة‪ ،‬فليسوا من أصحاب المنكرات‪ ،‬والمقلدون لهم حكم من‬
‫قلدوه‪ ،‬وقد قرر العلماء ذلك‪:‬‬
‫منكرا معلو ًما‬
‫ً‬ ‫يقول ابن دقيق ‪« :$‬شرطوا يف إنكار المنكر أن يكون كونُه‬
‫للحنفي أن ينك َر‬
‫ِّ‬ ‫بغير اجتهاد‪ ،‬وكل ما هو يف محل االجتهاد فال ِحسبة فيه‪ ،‬فليس‬
‫ِ‬
‫ومرتوك التسمية‪ ،‬وال للشافعي أن ينكر على‬ ‫والضبع‬
‫الضب َّ‬ ‫على الشافعي َ‬
‫أكل‬
‫ِّ‬
‫وجلوسه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ميراث ذوي األرحام‪،‬‬ ‫بمسكر‪ ،‬وتناو َله‬
‫شرب النَّبيذ الذي ليس ُ‬
‫َ‬ ‫الحنفي‬
‫ِّ‬
‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪ )71 /7‬ح (‪ )5391‬وصحيح مسلم (‪)1543 /3‬ح (‪.)1946‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪26‬‬

‫وغير ذلك من مجاري االجتهاد »(‪.)1‬‬


‫بش ْفعة الجوار‪َ ،‬‬ ‫يف ٍ‬
‫دار أخذها ُ‬
‫وقال السيوطي ضمن ذكره للقواعد الكلية التي يتخرج عليها ما ال ينحصر‬
‫من الصور الجزئية‪« :‬القاعدة الخامسة والثالثون‪ :‬ال ينكر المختلف فيه‪ ،‬وإنما‬
‫ينكر المجمع عليه»(‪.)2‬‬
‫ويقول الشيخ محمد األمين الشنقيطي ‪« :$‬واعلم أنه ال يحكم على األمر‬
‫بأنه منكر‪ ،‬إال إذا قام على ذلك دليل من كتاب اهلل تعالى أو سنة نبيه ﷺ أو‬
‫إجماع المسلمين‪.‬‬
‫وأما إن كان من مسائل االجتهاد فيما ال نص؛ فال يحكم على أحد‬
‫منكرا‪ ،‬فالمصيب منهم مأجور بإصابته‪،‬‬
‫ً‬ ‫المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب‬
‫والمخطئ منهم معذور كما هو معروف يف محله»(‪.)3‬‬
‫* وإذا تقرر هذا فيجدر هنا التنبيه على أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن هذا التقرير إنما يكون يف المسائل االجتهادية التي يرجع فيها‬
‫االختالف إلى االجتهاد يف فهم النص دون المسائل الخالفية‪ ،‬التي تكون‬
‫األقوال فيها مخالفة للنصوص أو اإلجماع‪ ،‬فهذه ينكر على المخالف فيها‪.‬‬
‫وهذا الموطن قد يشتبه على بعض الناس‪ ،‬فيظن المنع من اإلنكار يف مسائل‬

‫(‪ )1‬شرح اإللمام بأحاديث األحكام (‪.)254 /2‬‬


‫(‪ )2‬األشباه والنظائر (ص‪.)158 :‬‬
‫(‪ )3‬أضواء البيان يف إيضاح القرآن بالقرآن (‪.)464 /1‬‬
‫‪27‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫الخالف‪ ،‬كما يمنع من اإلنكار يف مسائل االجتهاد‪ ،‬وذلك بسبب االشتباه عند‬
‫هؤالء بين مسائل االجتهاد ومسائل الخالف‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬وقولهم مسائل الخالف ال إنكار فيها‬
‫ليس بصحيح؛ فإن اإلنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل‪ ،‬أما األول‬
‫قديما وجب إنكاره وفا ًقا‪ ،‬وإن لم يكن‬
‫ً‬ ‫فإذا كان القول يخالف سنة أو إجما ًعا‬
‫كذلك فإنه ُينكر‪ ،‬بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة‬
‫السلف والفقهاء‪.‬‬
‫أيضا بحسب‬
‫وأما العمل‪ :‬فإذا كان على خالف سنة أو إجماع وجب إنكاره ً‬
‫درجات اإلنكار‪ ،‬كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه‪ ،‬وكما‬
‫ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة‪ ،‬وإن كان قد اتبع بعض العلماء‪.‬‬
‫وأما إذا لم يكن يف المسألة سنة وال إجماع ولالجتهاد فيها مساغ لم ينكر‬
‫على من عمل هبا مجتهدً ا أو مقلدً ا‪ ،‬وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل‬
‫يعتقد أن مسائل الخالف هي مسائل االجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من‬
‫الناس»(‪.)1‬‬
‫الثاين‪ :‬أن القول بأنه ال إنكار يف مسائل االجتهاد إنما يكون يف حق من فعل‬
‫فعال يخالف تدينه‬
‫فعال متدينًا‪ :‬إما اجتها ًدا أو تقليدً ا أنه ليس بمنكر‪ ،‬أما إن فعل ً‬
‫ً‬
‫وهو يف اعتقاده حرام فإنه ينكر عليه ولو كانت المسألة اجتهادية‪.‬‬

‫(‪ )1‬الفتاوى الكربى البن تيمية (‪)96 /6‬وانظر إعالم الموقعين البن القيم (‪.)224 /3‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪28‬‬

‫يقول القرايف ‪« :$‬إذا رأينا من فعل شي ًئا مختل ًفا يف تحريمه وتحليله‪ ،‬وهو‬
‫يعتقد تحريمه أنكرنا عليه؛ ألنه منتهك للحرمة من جهة اعتقاده‪ ،‬وإن اعتقد‬
‫تحليله لم ننكر عليه؛ ألنه ليس عاص ًيا‪ ،‬وألنه ليس أحد القولين أولى من‬
‫اآلخر»(‪.)1‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬أن يعلم من حال المأمور أنه مخاطب باألمر والنهي (‪.)2‬‬
‫فإن الناس يتفاوتون فيما يخاطبون به من األمر والنهي بحسب تفاوت‬
‫أحوالهم وقدراهتم‪.‬‬
‫قال ابن القيم‪« :‬فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم‬
‫والقدرة»(‪.)3‬‬
‫ويقول الشاطبي‪« :‬كل خصلة أمر هبا أو هني عنها مطل ًقا من غير تحديد وال‬
‫تقدير؛ فليس األمر أو النهي فيها على وزان واحد يف كل فرد من أفرادها»(‪.)4‬‬
‫فغير المكلف كالصبي والمجنون غير مخاطب بالشرع بالكلية‪ ،‬والعاجز‬
‫غير مخاطب بما يعجز عنه‪ ،‬والجاهل غير مخاطب بواجب العلماء‪ ،‬والعامة‬
‫غير مخاطبين بواجبات ولي األمر‪ ،‬والنساء غير مخاطبات بواجبات الرجال‬

‫(‪ )1‬الربوق يف أنواء الفروق (‪.)257 /4‬‬


‫(‪ )2‬شرح العقيدة الواسطية للعثيمين (‪.)331 /2‬‬
‫(‪ )3‬إعالم الموقعين عن رب العالمين (‪.)169 /4‬‬
‫(‪ )4‬الموافقات (‪.)392 /3‬‬
‫‪29‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫المختصة هبم كالجهاد والقضاء ونحوها‪.‬‬


‫فالبد من مراعاة ذلك يف مقام الحسبة‪ ،‬فال يؤمر المجنون بالصالة والحج‪،‬‬
‫وال ينهى الصبي غير المميز والمريض والمسافر عن الفطر يف رمضان‪ ،‬وال ُيؤمر‬
‫المقعد والمريض العاجز عن القيام بالقيام يف الصالة‪ ،‬وال ينهى عن الجلوس‬
‫فيها‪ ،‬وال يؤمر الجاهل بالدعوة والفتيا والرد على المخالف‪ ،‬وال ينهى عن‬
‫استفتاء العلماء وتقليدهم‪ ،‬وال يؤمر العامة بإقام الحدود ومعاقبة الظالمين‬
‫وإقامة الجهاد‪ ،‬وغير ذلك مما يختص بوالة األمر وال ينهون عن ترك ذلك‬
‫ولزوم السمع والطاعة‪.‬‬
‫ظاهرا معلو ًما من غير تجسس وال بحث‪.‬‬
‫ً‬ ‫الشرط الخامس‪ :‬أن يكون المنكر‬
‫ويدل على هذا قول النبي ﷺ‪« :‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‪.)1(»..‬‬
‫فقد علق النبي ﷺ إنكار المنكر على الرؤية والمقصود هو العلم بالمنكر‪،‬‬
‫سواء ثبت العلم به عن طريق الرؤية له أو السماع له أو الخرب عنه‪ ،‬ويخرج عن‬
‫داخال يف األمر هنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫هذا التجسس والبحث فليس‬
‫قال مجد الدين الطويف ‪« :$‬قوله‪" :‬رأى" يحتمل أنه من رأي العين‪ ،‬ثم‬
‫يقاس عليه ما علمه ولم يره فيجب تغييره مع القدرة؛ ألن المقصود دفع مفسدة‬
‫المنكر‪ ،‬وال فرق بين ما أبصره أو علمه ولم يره‪ ،‬ويحتمل أن رأى من رؤية‬
‫منكرا فليغيره‪ ،‬فهو أعم مما أبصره أو علمه‪ ،‬وهو‬
‫ً‬ ‫القلب‪ ،‬أي‪ :‬من علم منكم‬

‫(‪ )1‬تقدم تخريجه‪.‬‬


‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪30‬‬

‫ظاهرا يف اإلبصار»(‪.)1‬‬
‫ً‬ ‫أشبه يف النظر وإن كان لفظ رأى‬
‫وقال المناوي‪"« :‬من رأى" أي‪ :‬علم‪ ،‬فهي علمية‪ ،‬ويصح كوهنا بصرية‪،‬‬
‫وقيس ما علمه على ما رآه »(‪.)2‬‬
‫أناسا كانوا‬
‫ويشهد لهذا من أقوال السلف قول عمر بن الخطاب ﭬ‪« :‬إن ً‬
‫يؤخذون بالوحي يف عهد رسول اهلل ﷺ‪ ،‬وإن الوحي قد انقطع‪ ،‬وإنما نأخذكم‬
‫خيرا أمناه وقربناه‪ ،‬وليس إلينا من‬
‫اآلن بما ظهر لنا من أعمالكم‪ ،‬فمن أظهر لنا ً‬
‫سريرته شيء‪ ،‬اهلل يحاسبه يف سريرته‪ ،‬ومن أظهر لنا سو ًءا لم نأمنه ولم نصدقه‪،‬‬
‫وإن قال‪ :‬إن سريرته حسنة »(‪.)3‬‬
‫وروى الخالل عن اإلمام أحمد ‪ $‬أنه‪« :‬سئل عن الرجل يسمع صوت‬
‫الطبل والمزمار‪ ،‬وال يعرف مكانه؟ فقال‪« :‬وما عليه إذا لم يعرف مكانه؟»(‪.)4‬‬
‫أيضا أنه سئل عن الرجل يسمع حس الطبل والمزمار‪ ،‬وال يعرف‬
‫وروى عنه ً‬
‫مكانه؟ فقال‪ :‬وما عليك؟ وقال‪ :‬ما غاب فال تفتش عليه »(‪.)5‬‬

‫(‪ )1‬التعيين يف شرح األربعين (‪ )287 /1‬وانظر جامع العلوم والحكم البن رجب (‪.)254 /2‬‬
‫(‪ )2‬شرح األربعين النووية للمناوي (ح ‪( ،)35 – 29‬ص‪ )176 :‬وانظر شرح األربعين النووية‬
‫للعثيمين (ص‪.)333 :‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري (‪ )169 /3‬ح(‪.)2641‬‬
‫(‪ )4‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخالل (ص‪.)37 :‬‬
‫(‪ )5‬المصدر نفسه (ص‪.)38 :‬‬
‫‪31‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫* وقد نص على هذا الشرط وقرره العلماء المحققون يف باب الحسبة‪.‬‬


‫يقول الماوردي ‪« :$‬وأما ما لم يظهر من المحظورات‪ ،‬فليس للمحتسب‬
‫حذرا من االستتار هبا»(‪.)1‬‬
‫أن يتجسس عنها‪ ،‬وال أن يهتك األستار ً‬
‫ويقول النووي ‪« :$‬وليس لآلمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس‬
‫واقتحام الدور بالظنون‪ ،‬بل إن رأى شي ًئا غيره»(‪.)2‬‬
‫ويقول ابن النحاس ‪« :$‬ويشرتط أيضًا أن يكون المنكر ظاهر ًا بغير‬
‫تجسس‪ ،‬فكل من سرت معاصيه يف داره أو أغلق عليه بابه ال يجوز ألحد أن‬
‫يتجسس عليه‪.)3(».‬‬
‫الشرط السادس‪ :‬أن اإلنكار يكون بحسب القدرة واالستطاعة؛ لقوله تعالى‪:‬‬
‫﴿ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ﴾ [التغابن‪ ،]16:‬وقوله‪﴿ :‬ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ﴾‬

‫[البقرة‪.]286:‬‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن‬
‫ولقوله ﷺ‪« :‬من رأى منكم ً‬
‫لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اإليمان»(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬األحكام السلطانية للماوردي (ص‪ )365 :‬وانظر األحكام السلطانية ألبي يعلى الفراء (ص‪:‬‬
‫‪.)295‬‬
‫(‪ )2‬روضة الطالبين (‪.)220 /10‬‬
‫(‪ )3‬تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (ص‪.)40 :‬‬
‫(‪ )4‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪32‬‬

‫فعلق النبي ﷺ اإلنكار عل االستطاعة بحسب مراتب ثالث‪ ،‬فدل على أن‬
‫اإلنكار واجب بحسب االستطاعة‪.‬‬
‫* وقد قرر العلماء ذلك وصرحوا به وعدوه من شروط اإلنكار‪.‬‬
‫قال أبو الحسن األشعري يف سياق نقله ما أجمع عليه السلف من األصول‪:‬‬
‫« وأجمعوا على وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم بأيديهم‬

‫وبألسنتهم إن استطاعوا ذلك وإال فبقلوهبم»(‪.)1‬‬


‫وقال النووي‪« :‬أما صفة النهي عن المنكر ومراتبه‪ ،‬فضابطه قوله ﷺ‪:‬‬
‫«فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه» فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه‪ ،‬وال يكفي‬
‫الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد‪ ،‬وال تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي‬
‫باللسان»(‪.)2‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬وعليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن‬
‫منكرا فليغيره بيده‪،‬‬
‫المنكر بحسب اإلمكان‪ ،‬كما قال النبي ﷺ‪« :‬من رأى منكم ً‬
‫فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اإليمان»(‪.)3‬‬
‫وسيأيت مزيد بسط لهذه المسألة عند الحديث عن مراتب اإلنكار‪.‬‬
‫الشرط السابع‪َّ :‬أال يرتتب على األمر بالمعروف والنهي عن المنكر من‬
‫الفساد أكثر مما فيه من الصالح‪.‬‬

‫(‪ )1‬رسالة إلى أهل الثغر (ص‪.)117 :‬‬


‫(‪ )2‬روضة الطالبين وعمدة المفتين (‪.)220 /10‬‬
‫(‪ )3‬الفتاوى الكربى البن تيمية (‪.)300 /1‬‬
‫‪33‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫فإن ترتب على األمر بالمعروف و إنكار المنكر فساد أعظم مما فيه من‬
‫الصالح لم يشرع اإلنكار يف هذه الحال‪ ،‬وهذه المسألة متفرعة عن قاعدة‬
‫الشريعة يف الموازنة بين المصالح والمفاسد‪ ،‬فإن الشريعة جاءت‪« :‬بتحصيل‬
‫المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها‪ ،‬فهي تحصل أعظم المصلحتين‬
‫بفوات أدناهما‪ ،‬وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما» (‪.)1‬‬
‫وقد قرر العلماء هذا األمر وعدوه شر ًطا لألمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬لكن إذا كان الشخص أو الطائفة ال‬
‫مأمورا إال لمحظور أعظم منه‬
‫ً‬ ‫مأمورا إال بمحظور أعظم منه‪ ،‬أو ال ترتك‬
‫ً‬ ‫تفعل‬
‫مرا يستلزم وقوع محظور راجح‪ ،‬ولم ينه هن ًيا يستلزم وقوع مأمور‬
‫لم يأمر أ ً‬
‫راجح‪ ،‬فإن األمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الذي بعثت به الرسل‪،‬‬
‫والمقصود تحصيل المصالح وتكميلها‪ ،‬وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب‬
‫اإلمكان‪ ،‬فإذا كان األمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلز ًما من الفساد أكثر‬
‫مما فيه من الصالح لم يكن مشروعًا»(‪.)2‬‬
‫ويقول ‪« :$‬ولهذا ال يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه؛ ولهذا حرم‬
‫الخروج على والة األمر بالسيف؛ ألجل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛‬
‫ألن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب أعظم مما يحصل‬

‫(‪ )1‬االستقامة (‪.)288 /1‬‬


‫(‪ )2‬االستقامة (‪.)330 /1‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪34‬‬

‫بفعلهم المنكر والذنوب»(‪.)1‬‬


‫ويقول اإلمام ابن القيم ‪« :$‬النبي ﷺ شرع ألمته إيجاب إنكار المنكر‬
‫ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه اهلل ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار المنكر‬
‫يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى اهلل ورسوله فإنه ال يسوغ إنكاره‪ ،‬وإن كان‬
‫اهلل يبغضه ويمقت أهله»(‪.)2‬‬
‫وقال ‪« :$‬فإنكار المنكر أربع درجات‪ :‬األولى‪ :‬أن يزول ويخلفه ضده‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن َي ِقل وإن لم ُيزل بجملته‪ .‬الثالثة‪ :‬أن يخلفه ما هو مثله‪ .‬الرابعة‪ :‬أن‬
‫َان مشروعتان‪ ،‬والثالثة موضع اجتهاد‪،‬‬‫يخلفه ما هو شر منه‪ .‬فالدرجتان األو َلت ِ‬

‫والرابعة محرمة»(‪.)3‬‬
‫ويقول الشيخ ابن عثيمين ‪« :$‬من شروط األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ :‬أال يرتتب على النهي عن المنكر ما هو أنكر منه‪ ،‬فإن ترتب على ذلك‬
‫ما هو أنكر منه فإنه ال يجوز‪ ،‬من باب درء أعلى المفسدتين بأدناهما‪ ،‬فلو فرض‬
‫أن شخصًا وجدناه على منكر كأن يشرب الدخان مثالً‪ ،‬ولو هنيناه عن شرب‬
‫الدخان ذهب يشرب الخمر‪ ،‬فإننا ال ننهاه؛ إذ كنا نعلم أن هذا الرجل سيقدم‬
‫على ما هو أعظم »(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى (‪.)472 /14‬‬


‫(‪ )2‬إعالم الموقعين (‪.)338 /4‬‬
‫(‪ )3‬إعالم الموقعين (‪.)339 /4‬‬
‫(‪ )4‬شرح رياض الصالحين (‪.)164 /2‬‬
‫‪35‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫* والمفسدة التي قد تصحب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكون من‬


‫جهتين (‪:)1‬‬
‫رجال بإقامة الصالة أو‬
‫‪ -1‬من جهة المحتسب بفعله يف المأمور‪ ،‬كأن يأمر ً‬
‫برتك الزنا فال يستجيب فيقتله‪.‬‬
‫‪ -2‬من جهة المأمور‪ ،‬كأن يؤمر الرجل بالصالة يف المسجد فيرتك الصالة‬
‫بالكلية‪ ،‬أو ُينهى عن شرب الدخان فيشرب الخمر‪.‬‬

‫‪ ‬سادسًا‪ :‬مراتب إنكار املنكر‪:‬‬


‫إلنكار المنكر مراتب ثالث متعلقة بأجزاء البدن‪ ،‬وهي‪ :‬اإلنكار باليد‪،‬‬
‫واللسان‪ ،‬والقلب‪.‬‬
‫وقد دل عليها حديث أبي سعيد الخدري ﭬ أنه سمع رسول اهلل ﷺ‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع‬
‫يقول‪« :‬من رأى منكم ً‬
‫فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف اإليمان»(‪ ،)2‬وكذا حديث عبد اهلل بن مسعود ﭬ أن‬
‫رسول اهلل ﷺ قال‪ « :‬ما من نبي بعثه اهَّلل يف أمة قبلي إال كان له من أمته حواريون‪،‬‬
‫وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره‪ ،‬ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف‬
‫يقولون ما ال يفعلون‪ ،‬ويفعلون ما ال يؤمرون‪ ،‬فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن‪،‬‬

‫(‪ )1‬انظر الفروق للقرايف (‪.)257 /4‬‬


‫(‪ )2‬أخرجه مسلم (‪ )69 /1‬ح (‪.)49‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪36‬‬

‫ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن‪ ،‬وليس وراء‬
‫ذلك من اإليمان حبة خردل» (‪.)1‬‬
‫* وهذا بيانها مفصلة‪:‬‬
‫المرتبة األولى‪ :‬اإلنكار باليد‪ ،‬وهو أقواها وهي واجبة لمن له استطاع وقدر‬
‫على التغيير باليد‪ ،‬كإراقة الخمر وكسر المعازف‪.‬‬
‫والمقصود باالستطاعة هنا‪ :‬االستطاعة الشرعية التي تتحقق هبا المقاصد‬
‫الشرعية يف تغيير المنكر من غير أن يرتتب على ذلك ضرر أو مفسدة راجحة‬
‫على المنكر المطلوب تغييره‪ ،‬وهذا بخالف االستطاعة الكونية كالقدرة على‬
‫ضرب أو جلد صاحب المنكر‪ ،‬أو تكسير أو إتالف أدوات المنكر‪ ،‬ثم يرتتب‬
‫على ذلك مفاسد كبيرة من اقتتال وسفك دماء‪ ،‬أو إحداث فتنة عظيمة راجحة‬
‫على المنكر المراد تغييره‪ ،‬فليست هذه هي االستطاعة المقصودة هنا‪.‬‬
‫وقرر بعض العلماء أن التغيير باليد مختص بوالة األمور دون غيرهم؛ ألن‬
‫األئمة لهم قدرة على التغيير باليد دون مفسدة‪ ،‬بخالف غيرهم (‪.)2‬‬
‫والصحيح‪ :‬أن الحكم متعلق باالستطاعة والقدرة كما يف الحديث‪« :‬من رأى‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،»...‬ولكن هذه االستطاعة هي‬
‫منكم ً‬

‫(‪ )1‬صحيح البخاري (‪)82 /3‬ح(‪)2222‬صحيح مسلم (‪)69 /1‬ح(‪.)50‬‬


‫(‪ )2‬انظر تنبيه الغافلين للسمرقندي (ص‪)98 :‬والمدخل البن الحاج (‪ )70 /1‬وفتاوى اللجنة‬
‫الدائمة (‪ )388 /1‬والشرح الممتع البن عثيمين (‪.)144 /10‬‬
‫‪37‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫االستطاعة الشرعية كما تقدم‪ .‬فمتى ما تحققت االستطاعة الشرعية وتحقق هبا‬
‫المقصود الشرعي شرع اإلنكار باليد‪ ،‬وهذا عام يف والة األمور وغيرهم‪،‬‬
‫فاإلمام ينكر يف رعيته‪ ،‬واألمير ينكر يف واليته والوزير ينكر يف وزارته‪ ،‬والمدير‬
‫ينكر يف إدارته‪ ،‬وإمام المسجد ينكر يف مسجده والمدرس ينكر يف طالبه‪ ،‬وشيخ‬
‫القبيلة ينكر يف قبيلته‪ ،‬وصاحب الجاه والمنزلة ينكر يف مجتمعه ومحيطه‪.‬‬
‫والرجل ينكر يف بيته‪ ،‬والمرأة تنكر على أوالدها وكل ذلك يكون باليد وهو‬
‫مشروع إن لم ترتتب عليه مفسدة راجحة‪ ،‬وهذا الذي عليه المحققون يف هذا‬
‫الباب‪.‬‬
‫عالما بما ُيغ ِّيره‪،‬‬ ‫قال القاضي عياض ‪« :$‬فمن حق المغ ِّير أو ً‬
‫ال أن يكون ً‬
‫عار ًفا بالمنكر من غيره‪ً ،‬‬
‫فقيها بصفة التغيير ودرجاته‪ ،‬فيغيره بكل وجه أمكنه‬
‫زواله به‪ ،‬وغلبت على ظنه منفعة تغييره بمنزعه ذلك من فعل أو قول‪ ،‬فيكسر‬
‫آالت الباطل‪ ،‬ويريق ظروف المسكر بنفسه‪ ،‬أو يأمر بقوله من يتولى ذلك‪،‬‬
‫وينزع المغصوب من أيدى المتعمدين‪ ،‬بيده أو يأمر بأخذها منهم‪ ... ،‬فإن غلب‬
‫كف‬
‫منكرا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسببه‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫على ظنه أن تغييره بيده يسبب‬
‫يده‪ ،‬واقتصر على القول باللسان»(‪.)1‬‬
‫ٍ‬
‫مسلم‬ ‫اإلنكار بالقلب فرض على ِّ‬
‫كل‬ ‫َ‬ ‫وقال ابن رجب ‪« :$‬فتب َّين هبذا َّ‬
‫أن‬
‫سان فبحسب ال ُقدرة» (‪.)2‬‬ ‫حال‪ ،‬وأما اإلنكار ِ‬
‫باليد وال ِّل ِ‬ ‫كل ٍ‬‫يف ِّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬

‫(‪ )1‬إكمال المعلم بفوائد مسلم (‪.)290 /1‬‬


‫(‪ )2‬جامع العلوم والحكم ت ماهر الفحل (‪.)952 /3‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪38‬‬

‫وقال الشيخ عبد العزيز بن باز ‪« :$‬فاإلنكار يكون باليد يف حق من‬


‫استطاع ذلك كوالة األمور والهيئة المختصة بذلك فيما جعل إليها‪ ،‬وأهل‬
‫الحسبة فيما جعل إليهم‪ ،‬واألمير فيما جعل إليه‪ ،‬والقاضي فيما جعل إليه‪،‬‬
‫واإلنسان يف بيته مع أوالده وأهل بيته فيما يستطيع»‪.‬‬
‫وقد دل على هذه المرتبة قول النبي ﷺ يف حديث أبي سعيد الخدري ﭬ‪:‬‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،»..‬وقوله ﷺ يف حديث ابن مسعود ﭬ‪:‬‬
‫ً‬ ‫«من رأى منكم‬
‫«فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن»‪.‬‬
‫والحديثان ظاهرا الداللة على مشروعية التغيير باليد‪ ،‬وقد جعله النبي ﷺ يف‬
‫أعلى المراتب‪ ،‬ثم ذكر بعده اإلنكار باللسان ثم بالقلب يف كال الحديثين‪.‬‬
‫وقد دلت النصوص على مباشرة األنبياء والرسل لإلنكار باليد وهي من‬
‫الشواهد العملية للتغيير باليد‪.‬‬
‫فمن ذلك تحطيم إبراهيم الخليل عليه الصالة والسالم لألصنام‪ ،‬قال‬
‫تعالى‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗﭘ ﭙ﴾ [األنبياء‪.]58:‬‬
‫وتحريق موسى عليه السالم للعجل ونسفه يف البحر‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯱ ﯲ‬

‫ﯳ ﯴ ﯵﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ﴾ [طه‪.]97:‬‬
‫وكسر عيسى عليه السالم للصليب وقتله للخنزير عند نزوله يف آخر الزمان‬
‫على ما جاء يف الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال‪« :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬ليوشكن‬
‫‪39‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫حكما مقس ًطا‪ ،‬فيكسر الصليب‪ ،‬ويقتل الخنزير»(‪.)1‬‬


‫ً‬ ‫أن ينزل فيكم ابن مريم‬
‫ومحو النبي ﷺ للرسوم التي فيها صليب بيده الشريفة‪ ،‬فعن عائشة ڤ‪:‬‬
‫أن النبي ﷺ لم يكن يرتك يف بيته شي ًئا فيه تصاليب إال نقضه (‪.)2‬‬
‫المرتبة الثانية‪ :‬اإلنكار باللسان‪.‬‬
‫ويكون بعد العجز عن اإلنكار باليد‪ ،‬كما جاء يف حديث أبي سعيد الخدري‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه»(‪.)3‬‬
‫ﭬ‪« :‬من رأى منكم ً‬
‫* وقد ذكر العلماء لإلنكار باللسان مراتب‪ ،‬وقد دلت عليها األدلة (‪:)4‬‬
‫أولها‪ :‬التعريف وبيان الحكم بالرفق واللين‪.‬‬
‫وذلك بأن يبين المحتسب لصاحب المنكر الحكم الشرعي لفعله‪ ،‬كأن‬
‫يقول‪( :‬هذا حرام) أو (هذا ال يحل)‪ ،‬فإنه قد يقع يف المنكر من ال يعلم أنه‬
‫منكر‪.‬‬
‫ومن الشواهد لذلك من السنة‪ :‬إنكار النبي ﷺ على معاذ بن جبل ﭬ لما‬
‫آمرا أحدً ا أن يسجدَ‬
‫كنت ً‬
‫سجد له‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪« :‬فال تفعلوا‪ ،‬فإني لو ُ‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪)135 /1‬ح(‪.)155‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري (‪)167 /7‬ح (‪.)5952‬‬
‫(‪ )3‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫(‪ )4‬انظر مختصر منهاج القاصدين لنجم الدين ابن قدامة المقدسي (ص‪ )125 :‬وقواعد مهمة يف‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر للدكتور حمود بن أحمد الرحيلي (ص ‪.)38- 32‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪40‬‬

‫لغير اهَّلل ألمرت المرأة أن تسجد لزوجها‪ )1(»...‬الحديث‪.‬‬


‫وكذلك إنكاره ﷺ على الجارية المنشدة يف حفل زفاف قولها‪ :‬وفينا نبي‬
‫يعلم ما يف غد‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬د ِعي هذه‪ ،‬وقولي بالذي ُ ِ‬
‫كنت تقولين»(‪.)2‬‬
‫وكذا إنكاره على األعرابي الذي بال يف المسجد مع الرتفق به وتعليمه‪ ،‬فقال‬
‫رسول اهلل ﷺ‪« :‬ال تزرموه دعوه» فرتكوه حتى بال‪ ،‬ثم إن رسول اهلل ﷺ دعاه ثم‬
‫قال له‪« :‬إن هذه المساجد ال تصلح لشيء من هذا البول وال القذر‪ ،‬إنما هي‬
‫لذكر اهَّلل عز وجل والصالة وقراءة القرآن»(‪.)3‬‬
‫فقد أنكر النبي ﷺ يف هذه األحاديث المخالفات ببيان الحكم فيها والنهي‬
‫عنها مع الرفق بالمخالف وعدم تأنيبه واإلغالظ إليه‪.‬‬
‫ثانيها‪ :‬النهي عن المخالفة مع الوعظ والترفق‪.‬‬
‫وذلك بنهي المخالف عن المخالفة مع وعظه ليكون أدعى الستجابته‪،‬‬
‫والوعظ هو التذكير بالخير مقرونًا بما يرقق القلب (‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬رواه ابن ماجه (‪( ،)595/1‬ح‪ ،)1853 :‬واإلمام أحمد يف «المسند» (‪( ،)145/32‬ح‪ ،)19403 :‬وذكره‬
‫المنذري يف ‪ $‬الرتغيب» (‪( ،)55/3‬ح‪ ،)22 :‬وصححه األلباين يف «الصحيحة» (‪( ،)200/3‬ح‪:‬‬
‫‪ ،)1203‬ويف «صحيح ابن ماجه» (‪( ،)312/1‬ح‪ ،)1503 :‬و«آداب الزّ فاف» (ص‪.)284 :‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪( )19 /7‬ح‪.)5147 :‬‬
‫(‪ )3‬أخرجه البخاري (‪)12 /8‬ح (‪)6025‬ومسلم واللفظ له (‪)236 /1‬ح(‪.)285‬‬
‫(‪ )4‬انظر كتاب العين للخليل (‪.)228 /2‬‬
‫‪41‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫ومن الشواهد لذلك من السنة‪ :‬ما أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود‬
‫البدري ﭬ‪ :‬أنه كان يضرب غال ًما له بسوط‪ ،‬فرآه النبي ﷺ فقال له‪« :‬اعلم‬
‫أبا مسعود أن اهَّلل أقدر عليك منك على هذا الغالم»‪ ،‬قال‪ :‬فقلت‪ :‬ال أضرب‬
‫مملو ًكا بعده أبدً ا(‪.)1‬‬
‫ويف صحيح البخاري من حديث أبي الدرداء ﭬ يف خرب ما وقع بين أبي‬
‫بكر وعمر ﭭ من العتاب‪ ،‬فجاء أبوبكر للنبي ﷺ مغض ًبا‪ ،‬فقال النبي ﷺ‪« :‬إن‬
‫اهَّلل بعثني إليكم فقلتم كذبت‪ ،‬وقال أبو بكر صدق‪ ،‬وواساين بنفسه وماله‪ ،‬فهل‬
‫أنتم تاركوا لي صاحبي» مرتين‪ ،‬فما أوذي بعدها(‪.)2‬‬
‫ثالثها‪ :‬النهي عن المخالفة مع اإلغالظ والتعنيف يف القول‪:‬‬
‫و ُيسلك هذه المسلك يف اإلنكار عند عدم استجابة المخالف ألسلوب‬
‫الرفق والوعظ‪ ،‬فبعض المخالفين قد ال يستجيب إال ألسلوب الشدة والتعنيف‪،‬‬
‫فينكر عليه بما هو أدعى يف قبوله وإقالعه عن المخالفة‪.‬‬
‫ومن الشواهد لذلك‪ :‬قول إبراهيم عليه الصالة والسالم يف مخاطبة قومه‪:‬‬
‫﴿ﮣ ﮤ ﮥﮦ ﮧﮨ ﮩﮪ ﮫﮬ ﮭ﴾ [األنبياء‪.]67:‬‬
‫رجال يسوق بدنة‪ ،‬فقال‬
‫ومن السنة ما جاء يف الصحيحين‪ :‬أن النبي ﷺ رأى ً‬
‫له‪« :‬اركبها»‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إهنا بدنة‪ ،‬قال يف الثالثة أو يف الرابعة‪« :‬اركبها‬

‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪)1280 /3‬ح (‪.)1659‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري (‪ )5 /5‬ح (‪.)3661‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪42‬‬

‫ويلك‪ ،‬أو ويحك»(‪.)1‬‬


‫رابعها‪ :‬النهي عن المخالفة مع التخويف والتهديد‪.‬‬
‫ويسلك هذا المسلك مع من لم يستجب لألساليب السابقة‪ ،‬وهذه المرتبة‬
‫هي أشد مراحل اإلنكار باللسان وتتضمن التهديد والتخويف بالعقوبة بالفعل ‪-‬‬
‫وليس بعدها إال االنكار بالفعل‪.‬‬
‫قال العقباين ‪« :$‬الزجر والتأنيب واإلغالظ بالقول والتقريع باللسان‬
‫والشدة يف التهديد وهجن الخطاب يف اإلنكار‪ ،‬وذلك فيمن ال ينفع فيه وعظ‬
‫وال ينجع يف شأنه تحذير برفق وال تكره لطف (‪ ،)2‬فردعه إنما يكون بالتخويف‬
‫الصارف له والمرهب القامع ألمثاله كقوله‪ :‬لئن لم تنته ألقعن بك كذا‪ ،‬وما‬
‫أشبه هذا من التقريع والوعيد الذي هو أهله‪ ،‬وال ينبغي أن يتعدى إلى السب‬
‫الفاحش والذم الذي ليس من صفة ذلك المخاطب »(‪.)3‬‬
‫* ومن الشواهد لذلك‪:‬‬
‫ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة ﭬ عن النبي ﷺ قال‪« :‬لقد‬
‫هممت أن آمر بالصالة فتقام‪ ،‬ثم أخالف إلى منازل قوم ال يشهدون الصالة‪،‬‬
‫فأحرق عليهم»(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري (‪)7 /4‬ح(‪ )2754‬و مسلم (‪)960 /2‬ح(‪.)1323‬‬


‫(‪ )2‬يعني إظهار الكراهية لفعله بلطف‪.‬‬
‫(‪ )3‬تحفة الناظر وغنية الذاكر يف حفظ الشعائر وتغيير المناكر (ص‪.)12 :‬‬
‫(‪ )4‬صحيح البخاري (‪)122 /3‬ح(‪ )2420‬صحيح مسلم (‪)451 /1‬ح (‪.)651‬‬
‫‪43‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫قال ابن فرحون ‪« :$‬وفائدة قوله‪« :‬لقد هممت» تقديم الوعيد كالتهديد‬
‫على العقوبة؛ ألن المفسدة إذا ارتفعت واندفعت باألخف من الزواجر لم يعدل‬
‫إلى األعلى‪.)1(».‬‬
‫أيضا من حديث علي بن أبي طالب ﭬ‪ :‬أن النبي ﷺ بعثه‬
‫ويف الصحيحين ً‬
‫والزبير والمقداد بن األسود ﭫ ألخذ الكتاب الذي بعثه حاطب ﭬ مع‬
‫امرأة للمشركين‪ ،‬وفيه قال علي ﭬ‪« :‬فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى‬
‫الروضة‪ ،‬فإذا نحن بالظعينة‪ ،‬فقلنا‪ :‬أخرجي الكتاب‪ ،‬فقالت‪ :‬ما معي من كتاب‪،‬‬
‫فقلنا‪ :‬لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب‪ ،‬فأخرجته من عقاصها»(‪.)2‬‬
‫قال ابن فرحون ‪« :$‬فالطريق التي استخرج هبا الكتاب من السياسة‬
‫الشرعية وهي التهديد واإلرعاب»(‪.)3‬‬
‫المرتبة الثالثة‪ :‬اإلنكار بالقلب‪.‬‬
‫وهو ثالث مراتب اإلنكار التي ذكرها النبي ﷺ يف حديثي أبي سعيد وابن‬
‫مسعود‪ ،‬ويف لفظ حديث أبي سعيد‪« :‬فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن‬
‫لم يستطع فبقلبه»(‪ ،)4‬ويف يف حديث ابن مسعود‪« :‬فمن جاهدهم بيده فهو‬

‫(‪ )1‬تبصرة الحكام (‪.)143 /2‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري (‪)59 /4‬ح (‪ )3007‬وصحيح مسلم (‪)1941 /4‬ح(‪.)2494‬‬
‫(‪ )3‬تبصرة الحكام (‪.)144 /2‬‬
‫(‪ )4‬أخرجه مسلم (‪ )69 /1‬ح (‪.)49‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪44‬‬

‫مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن‪ ،‬ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن»‪ ،‬وهذه‬
‫المرتبة متعلقة بعمل القلب بعد العجز على اإلنكار باليد واللسان‪ ،‬ولهذا ذهب‬
‫بعض العلماء إلى أهنا ال تسقط بحال لكوهنا مقدور عليها‪.‬‬
‫قال ابن النحاس ‪« :$‬وأما اإلنكار بالقلب ‪ -‬وهو كراهة تلك المعصية‬
‫وبعضها ‪ -‬فال يسقط عن مكلف بوجه من الوجوه‪ ،‬إذ ال عذر يمنع منه‪ ،‬قال ابن‬
‫مسعود ﭬ‪« :‬بحسب امرئ إذا رأى منكر ًا ال يستطيع أن يغيره أن يعلم اهَّلل ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬من قلبه أنه له كاره»(‪.)1‬‬
‫وهذه المرتبة هي أدنى مراتب اإلنكار؛ لقول النبي يف حديث أبي سعيد‪:‬‬
‫«وذلك أضعف اإليمان»‪ ،‬ومعنى ذلك‪ :‬أن هذه المرتبة هي أدنى مرتبة من‬
‫مراتب التغيير المأمور به‪ ،‬وهي أقل خصال اإليمان المشروع يف تغيير المنكر‪،‬‬
‫وهذا ما ذهب إليه العلماء وقرروه يف فقه الحديث‪.‬‬
‫قال أبو العباس القرطبي‪« :‬وهذه آخر خصلة من الخصال المتعينة على‬
‫المؤمن يف تغيير المنكر‪ ،‬وهي المع َّبر عنها يف الحديث بأهنا أضعف اإليمان‪،‬‬
‫أي‪ :‬خصال اإليمان‪ ،‬ولم يبق بعدها للمؤمن مرتبة أخرى يف تغيير المنكر؛‬
‫ولذلك قال يف الرواية األخرى‪« :‬ليس وراء ذلك من اإليمان حبة خردل» أي‪ :‬لم‬

‫يبق وراء هذه المرتبة رتبة أخرى»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬تنبيه الغافلين (ص‪.)31 -30 :‬‬


‫(‪ )2‬المفهم (‪.)234 /1‬‬
‫‪45‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬لهذا قال النبي ﷺ‪« :‬من رأى منكم‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك أضعف‬
‫ً‬
‫اإليمان»(‪ ،)1‬ويف الحديث اآلخر‪« :‬ليس وراء ذلك من اإليمان مثقال حبة‬
‫خردل»(‪ ،)2‬فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا اإلنكار ما يدخل يف اإليمان حتى يفعله‬
‫المؤمن‪ ،‬بل اإلنكار بالقلب آخر حدود اإليمان»(‪.)3‬‬
‫* ولهذه المراتب أحكام دلت عليها األدلة‪:‬‬
‫ويمكن تلخيصها فيما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن مراتب اإلنكار ثالث‪ ،‬وهي واجبة على كل من علم المنكر بحسب‬
‫القدرة‪ :‬فأولها أن يغير بيده‪ ،‬فإن لم يستطع غير بلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع غير بقلبه‪،‬‬
‫وال يجزئه اإلنكار بمرتبة إال بعد العجز عن التي قبلها كما دل على ذلك حديث‬
‫أبو سعيد الخدري‪.‬‬
‫قال القرايف‪« :‬ثم مراتب اإلنكار ثالث‪ ،‬أقواها أن يغير بيده‪ ،‬وإن لم يقدر‬
‫على ذلك انتقل للمرتبة الثانية فيغير بلسانه إن استطاع‪ ،‬وليكن برفق ولين‬
‫ووعظ إن احتاج إليه‪ ...‬فإن لم يقدر انتقل للرتبة الثالثة وهي اإلنكار بالقلب‬
‫وهي أضعفها »(‪.)4‬‬

‫(‪ )1‬تقدم تخريجه ص (‪.)9‬‬


‫(‪ )2‬تقدم تخريجه ص (‪.)36‬‬
‫(‪ )3‬مجموع الفتاوى (‪.)428/7‬‬
‫(‪ )4‬الذخيرة للقرايف (‪.)303 /13‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪46‬‬

‫وقال النووي‪« :‬أما صفة النهي عن المنكر ومراتبه‪ ،‬فضابطه قوله ﷺ‪:‬‬
‫«فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه» فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه‪ ،‬وال يكفي‬
‫الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد‪ ،‬وال تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي‬
‫باللسان»(‪.)1‬‬
‫وقال ابن النحاس يف التعليق على حديث أبي سعيد‪ :‬فيه أن من أنكر بلسانه‬
‫مع إمكان إنكاره باليد ال يسقط عنه اإلثم‪ ،‬وإنما يسقط عنه اإلثم إذا لم يستطع‬
‫اإلنكار باليد‪.‬‬
‫وفيه أنه ال يقتصر على اإلنكار بالقلب إال عند عدم االستطاعة لإلنكار باليد‬
‫واللسان ليسقط عنه اإلثم (‪.)2‬‬
‫‪ -2‬أن إنكار المنكر من اإليمان‪ ،‬وهو مستلزم له قوة وضع ًفا؛ لقول النبي ﷺ‬
‫يف وصف أدنى مراتب اإلنكار‪« :‬وذلك أضعف اإليمان»‪ ،‬وقوله فيمن لم ينكر‬
‫بأحد هذه المراتب‪« :‬وليس وراء ذلك من اإليمان حبة خردل»‪ ،‬وشاهد ذلك من‬
‫القرآن‪﴿ :‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬

‫ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬
‫ﭷ﴾ [آل عمران‪.]110:‬‬
‫فأخرب اهلل عن خيرية هذه األمة ووصفهم باإليمان واألمر بالمعروف والنهي‬

‫(‪ )1‬روضة الطالبين (‪.)220 /10‬‬


‫(‪ )2‬انظر تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (ص‪.)26 :‬‬
‫‪47‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫عن المنكر‪.‬‬
‫‪ -3‬أن التغيير الشرعي ال يستلزم إزالة المنكر وذهابه‪ ،‬فذكر النبي ﷺ‬
‫تغييرا وهما التغيير باللسان والتغيير بالقلب‪.‬‬
‫مرتبتين بعد التغيير باليد وسماهما ً‬
‫أما التغيير باللسان فإنه يكون من المنكِر‪ ،‬وقد ال يستجيب صاحب المنكر‬
‫فيبقى المنكر‪.‬‬
‫وأما التغيير بالقلب فيرجع إلى كراهية المنكر يف نفسه وال أثر له يف زوال‬
‫المنكر من الواقع‪ ،‬بل وال هني صاحبه عنه‪.‬‬
‫وفيه من الفوائد‪ :‬أن وجود المنكر ال يدل على أنه لم يغ ِّير‪ ،‬وفيه رد على‬
‫المشنعين على األمة بتعطيل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر لوجود‬
‫المنكرات‪.‬‬
‫وقد ذهب بعض الشراح إلى أن معنى قوله ﷺ‪« :‬فبقلبه» يحتمل معنيين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه محمول على التغيير المعنوي ال الحسي‪ ،‬إذ ليس يف وسعه إال‬
‫هذا القدر من التغيير‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أنه محمول على اإلنكار‪ ،‬والمعنى‪( :‬فلينكره بقلبه ) من باب قوله‬
‫تعالى‪﴿ :‬ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ﴾ [الحشر‪ ،]9:‬وقول الشاعر‪« :‬علفتها تبنا وماء‬
‫باردا»(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬شرح السيوطي على مسلم (‪)65 /1‬ومرقاة المفاتيح لمال قارئ (‪.)3208 /8‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪48‬‬

‫والمعنى األول أصح‪ ،‬إذ األصل يف الكالم عدم التقدير‪ ،‬ويرد على التوجيه‬
‫الثاين التغيير باللسان؛ فإنه ال يستلزم اإلزالة إن لم يستجب صاحب المخالفة‬
‫كما تقدم‪ .‬والصحيح أن المراتب كلها من التغيير كما هو ظاهر الحديث‪ ،‬لكن‬
‫ال تالزم بين التغيير واإلزالة‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬
‫‪ -4‬قول النبي ﷺ يف حديث أبي سعيد‪« :‬وذلك أضعف اإليمان» محتمل‬
‫لمعنيين‪:‬‬
‫أحدهما ‪-‬وهو المعنى المشهور عند أهل العلم كما تقدم ‪ :-‬أن هذا وصف‬
‫لهذه المرتبة‪ ،‬فهي أضعف مراتب اإلنكار‪ ،‬ال أن هذا وصف لصاحبها‪ ،‬فهو‬
‫أنكر بحسب قدرته وبما خوطب به‪ ،‬فليس هو ضعيف اإليمان الضعف الذي‬
‫يلحقه به ذم أو عقاب‪ ،‬وإن كان اإليمان الذي خوطب به هنا هو أنقص من‬
‫اإليمان الذي خوطب به صاحب القدرة على التغيير باليد واللسان‪ ،‬فيكون هذا‬
‫مثل النقص المضاف للنساء برتك الصالة يف وقت الحيض والنفاس‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪« :‬فصار النقص يف الدين واإليمان نوعين نو ًعا‬
‫شرعا‪ ،‬وإما لكونه‬
‫ً‬ ‫ال يذم العبد عليه‪ ،‬لكونه لم يجب عليه لعجزه عنه حسا أو‬
‫مستح ًبا ليس بواجب‪ ،‬ونو ًعا يذم عليه وهو ترك الواجبات»(‪.)1‬‬
‫قادرا‬
‫والثاين‪ :‬أن يراد هبذا ضعف اإليمان المذموم‪ ،‬وهذا يف حق من كان ً‬
‫على التغيير باليد أو اللسان‪ ،‬فعدل عن ذلك إلى اإلنكار بالقلب فهو مقصر يف‬

‫(‪ )1‬شرح العقيدة األصفهانية (ص‪)193 :‬وانظر مجموع الفتاوى (‪.)54 /13‬‬
‫‪49‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫اإليمان المخاطب به مع قدرته عليه‪.‬‬


‫‪ -5‬أن وصف النبي ﷺ للتغيير القلبي يف حديث أبي سعيد بقوله‪« :‬وذلك‬
‫وصف للمرتبة الثالثة من مراتب اإلنكار‪.‬‬
‫أضعف اإليمان» ْ‬
‫وأما قوله يف حديث ابن مسعود ﭬ‪« :‬وليس وراء ذلك من اإليمان حبة‬
‫خردل» فليس هذا متعلق هبذه المرتبة وإال وجد التعارض‪ ،‬فضعف اإليمان‬
‫يستلزم بقاء شيء من اإليمان‪ ،‬وال يصح أن يقال فيه ليس فيه حبة خردل من‬
‫إيمان‪ .‬والصحيح أن لفظة‪« :‬وليس وراء ذلك من اإليمان حبة خردل» هي‬
‫وصف لما بعد مراتب التغيير الثالثة وهي عدم اإلنكار بالكلية‪ ،‬فيكون حديث‬
‫ابن مسعود ﭬ أشار إلى أربع حاالت‪ ،‬ثالث متعلقة باإلنكار‪ ،‬وأدناها هي‬
‫أضعف اإليمان‪ ،‬وحالة رابعة ليس فيها إنكار وهي التي ليس فيها مثقال حبة من‬
‫خردل من إيمان‪.‬‬
‫‪ -6‬قول النبي ﷺ يف حديث ابن مسعود ﭬ‪« :‬وليس وراء ذلك من اإليمان‬
‫حبة خردل» هو متعلق باإليمان المشروع يف إنكار هذا المنكر الخاص‪ ،‬ومعناه‪:‬‬
‫أن من لم ينكر بأحد هذه المراتب الثالث ليس مع شيء من اإليمان الذي‬
‫حصل للمنكرين على تفاوت فيه‪ ،‬وليس معناه أن من لم ينكر هذا المنكر لم‬
‫يبق معه إيمان بالكلية‪ ،‬فإن هذا حال الكافر‪ ،‬وترك اإلنكار من غير استحالل‬
‫معصية ال توجب الكفر‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ويف الحديث اآلخر‪« :‬ليس وراء ذلك من‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪50‬‬

‫اإليمان مثقال حبة خردل» فإن مراده أنه لم يبق بعد هذا اإلنكار ما يدخل يف‬
‫اإليمان حتى يفعله المؤمن‪ ،‬بل اإلنكار بالقلب آخر حدود اإليمان‪ ،‬ليس مراده‬
‫أن من لم ينكر ذلك لم يكن معه من اإليمان حبة خردل؛ ولهذا قال‪« :‬ليس وراء‬
‫ذلك» فجعل المؤمنين ثالث طبقات‪ ،‬وكل منهم فعل اإليمان الذي يجب عليه‪،‬‬
‫لكن األول لما كان أقدرهم؛ كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاين‪،‬‬
‫وكان ما يجب على الثاين أكمل مما يجب على اآلخر‪ ،‬وعلم بذلك أن الناس‬
‫يتفاضلون يف اإليمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب‬
‫إليهم كلهم»(‪.)1‬‬

‫‪ ‬سابعًا‪ :‬شبه تتعلق باألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪:‬‬


‫اشتبه على بعض الناس مسائل يف هذا الباب تحتاج إلى جواب محرر لرفع‬
‫االشتباه ومعرفة الحق‪ ،‬ومن هذه الشبه‪:‬‬
‫الشبهة األولى‪ :‬االحتجاج بقوله تعالى‪﴿ :‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱﭲ‬

‫ﭳ ﭴ ﭵﭶﭷ﴾ [المائدة‪.]105:‬‬
‫وقد فهم بعض الناس من هذه اآلية جواز ترك األمر بالمعروف‪ ،‬وأن‬
‫اإلنسان إذا استقام يف نفسه ال يضره ضالل من ضل ولو لم يأمر بالمعروف ولم‬
‫ينه عن المنكر‪.‬‬
‫والذي يظهر أن هذا الفهم قديم‪ ،‬حتى إن أبا بكر الصديق ﭬ ن َّبه على هذا‬

‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى (‪)428/7‬‬


‫‪51‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫الفهم الخاطئ وأجاب عنه على المنرب‪.‬‬


‫فقد روى اإلمام أحمد وأصحاب السنن والطربي وغيرهم بسند صحيح عن‬
‫أبي بكر الصديق ﭬ أنه قال وهو على المنرب‪« :‬يا أيها الناس‪ ،‬إنكم تقرؤون‬
‫هذه اآلية على غير موضعها‪﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ﴾ [المائدة‪« :]105:‬وإن‬

‫الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه‪ ،‬عمهم اهَّلل بعقابه»(‪.)1‬‬
‫* وللسلف واألئمة يف تفسيرها أقوال‪ ،‬أشهرها قوالن‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن معنى اآلية‪ :‬عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف وهنيتم عن‬
‫المنكر ولم يقبل منكم‪ ،‬فلن يضركم من ضل إذا اهتديتم‪ .‬وقد نقله الطربي عن‬
‫جمع من الصحابة (‪.)2‬‬
‫فعن ابن مسعود ﭬ أنه قال يف معناها‪« :‬ليس هذا بزمانها‪ ،‬قولوها ما قبلت‬
‫منكم‪ ،‬فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم»(‪.)3‬‬
‫وعن ابن عمر ﭭ قال يف هذه اآلية‪ :‬إهنا ليست لي وال ألصحابي‪ ،‬ألن‬
‫رسول اهلل ﷺ قال‪« :‬أال فليبلغ الشاهد الغائب»‪ ،‬فكنا نحن الشهود وأنتم‬

‫(‪ )1‬مسند أحمد (‪ )177 /1‬ح(‪ )1‬وسنن أبي داود (‪)122 /4‬ح(‪ )4338‬سنن الرتمذي ت شاكر (‪/4‬‬
‫‪)467‬ح(‪ 2168)2168‬سنن ابن ماجه (‪)1327 /2‬ح(‪ )4005‬وتفسير الطربي (‪)52 /9‬وصححه األلباين‬
‫يف سلسلة األحاديث الصحيحة (‪)88 /4‬ح(‪)1564‬و‪ 1564‬ويف صحيح الرتغيب والرتهيب (‪/2‬‬
‫‪)578‬وقال محققو المسند «إسناده صحيح على شرط الشيخين»‪.‬‬
‫(‪ )2‬تفسير الطربي (‪.)43 /9‬‬
‫(‪ )3‬تفسير الطربي (‪.)43 /9‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪52‬‬

‫الغيب‪ ،‬ولكن هذه اآلية ألقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم (‪.)1‬‬
‫عن جبير بن نفير قال‪ :‬كنت يف حلقة فيها أصحاب رسول اهلل ﷺ وإين‬
‫ألصغر القوم‪ ،‬فتذاكروا األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فقلت أنا‪ :‬أليس‬
‫اهلل يقول يف كتابه‪﴿ :‬ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ﴾‬

‫[المائدة‪ ،]105:‬فأقبلوا علي بلسان واحد وقالوا‪ :‬تنزع بآية من القرآن ال تعرفها وال‬
‫تدري ما تأويلها‪ ،‬حتى تمنيت أين لم أكن تكلمت‪ ،‬ثم أقبلوا يتحدثون‪ ،‬فلما‬
‫حضر قيامهم‪ ،‬قالوا‪ :‬إنك غالم حدث السن‪ ،‬وإنك نزعت بآية ال تدري ما هي‪،‬‬
‫مطاعا‪ ،‬وهوى متب ًعا‪ ،‬وإعجاب كل‬
‫ً‬ ‫وعسى أن تدرك ذلك الزمان‪ ،‬إذا رأيت شحا‬
‫ذي رأي برأيه‪ ،‬فعليك بنفسك ال يضرك من ضل إذا اهتديت »(‪.)2‬‬
‫القول الثاين‪ :‬أن معنى اآلية‪ :‬ال يضركم من ضل إذا اهتديتم يف أنفسكم‬
‫وأمرتم بالمعروف وهنيتم عن المنكر‪ ،‬فيدخل األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر يف االهتداء المذكور يف اآلية‪ ،‬وبه قال حذيفة ﭬ وسعيد بن‬
‫المسيب(‪.)3‬‬
‫فعن حذيفة ﭬ‪﴿ :‬ﭮ ﭯﭰﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵﭶﭷ﴾ [المائدة‪ ]105:‬قال‪:‬‬

‫(‪ )1‬تفسير الطربي (‪.)44 /9‬‬


‫(‪ )2‬تفسير الطربي (‪.)46 /9‬‬
‫(‪ )3‬انظر تفسير الطربي (‪ )50 /9‬وزاد المسير البن الجوزي (‪)595 /1‬وأضواء البيان يف إيضاح‬
‫القرآن بالقرآن (‪.)459 /1‬‬
‫‪53‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫«إذا أمرتم ونهيتم»(‪.)1‬‬


‫وعن سعيد بن المسيب ‪ $‬قال‪﴿ :‬ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶﭷ﴾ [المائدة‪:]105:‬‬
‫«إذا أمرت بالمعروف وهنيت عن المنكر‪ ،‬ال يضرك من ضل إذا اهتديت»(‪.)2‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬واالهتداء إنما يتم بأداء الواجب‪ ،‬فإذا‬
‫قام المسلم بما يجب عليه من األمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره‬
‫من الواجبات لم يضره ضالل الضال‪ ،‬وذلك يكون تارة بالقلب‪ ،‬وتارة باللسان‪،‬‬
‫وتارة باليد»(‪.)3‬‬
‫والقوالن متقاربان‪ ،‬والقول الثاين أظهر‪ ،‬وداللة اآلية عليه أقرب‪ ،‬فإن‬
‫الهداية ال تكون إال باالستقامة على الشرع‪ ،‬ومن ذلك األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر‪ ،‬ومن لم يأمر بالمعروف فليس من المهتدين‪.‬‬
‫قال الشيخ محمد األمين الشنقيطي يف سياق ذكر االختالف يف اآلية‪« :‬فمن‬
‫العلماء من قال‪ :‬إذا اهتديتم‪ ،‬أي‪ :‬أمرتم فلم يسمع منكم‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬يدخل‬
‫األمر بالمعروف يف المراد باالهتداء يف اآلية‪ ،‬وهو ظاهر جدً ا‪ ،‬وال ينبغي العدول‬
‫عنه لمنصف‪ ،‬ومما يدل على أن تارك األمر بالمعروف غير مهتد أن اهلل تعالى‬
‫أقسم أنه يف خسر يف قوله تعالى‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ‬

‫(‪ )1‬تفسير الطربي (‪.)51 /9‬‬


‫(‪ )2‬تفسير الطربي (‪.)50 /9‬‬
‫(‪ )3‬االستقامة (‪.)212 /2‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪54‬‬

‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ﴾ [العصر‪ ،]3-1:‬فالحق‬
‫وجوب األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وبعد أداء الواجب ال يضر اآلمر‬

‫ضالل من ضل»(‪.)1‬‬
‫وبه يتبين عدم داللة اآلية على ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر على‬
‫كال القولين المأثورين يف تفسيرها‪ ،‬بل هي دالة على مشروعية األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر على أرجح التفسيرين على ما تقدم بيانه‪ ،‬وال يعرف عن‬
‫عالم من علماء األمة المقتدى هبم َف ِهم من هذه اآلية ترك األمر بالمعروف‪.‬‬
‫قال ابن النحاس ‪« :$‬وال نعلم أحدً ا من العلماء ذهب إلى أن معنى‪:‬‬
‫أنه ال يلزمكم أن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن‬ ‫﴿ﭮ ﭯﭰ﴾ [المائدة‪]105:‬‬

‫المنكر؛ ألن ضالل غيركم ال يضركم‪ ،‬معاذ اهلل أن يذهب إلى هذا أحد غير‬
‫الجهلة والعوام والهمج الرعاع أتباع كل ناعق»(‪.)2‬‬
‫الشبهة الثانية‪ :‬ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة التقصير‪.‬‬
‫فيقول صاحب الشبهة‪ :‬كيف آمر بالمعروف وأهنى عن المنكر وأنا مقصر يف‬
‫نفسي وقد قال اهلل تعالى‪﴿ :‬ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫﮬ ﮭ‬

‫ﮮ ﮯ﴾ [البقرة‪.]44:‬‬
‫والجواب عنها‪ :‬أن اإلنسان مأمور بفعل الطاعات واألمر هبا‪ ،‬وترك‬

‫(‪ )1‬أضواء البيان (‪.)460-459 /1‬‬


‫(‪ )2‬تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (ص‪.)94 :‬‬
‫‪55‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫المعاصي والنهي عنها‪ ،‬وإذا قصر يف فعل المعروف فال ينبغي أن يقصر يف األمر‬
‫به‪ ،‬وإذا قصر يف ارتكاب المنكر فال ينبغي أن يقصر يف النهي عنه‪ ،‬بل األمر‬
‫بالمع روف مع عدم امتثاله خير من الجمع بين ترك الفعل واألمر‪ ،‬والذم برتك‬
‫المعروف مع األمر به أهون من ترك األمرين‪.‬‬
‫وأما اآلية فليس فيها حجة لرتك األمر بالمعروف لمن لم يعمل به‪ ،‬فالذم يف‬
‫اآلية على ترك المعروف ال على األمر به‪.‬‬
‫قال ابن كثير ‪ $‬يف تفسير اآلية‪« :‬والغرض‪ :‬أن اهلل تعالى ذمهم على هذا‬
‫الصنيع‪ ،‬ونبههم على خطئهم يف حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير وال‬
‫يفعلونه‪ ،‬وليس المراد ذمهم على أمرهم بالرب مع تركهم له‪ ،‬فإن األمر‬
‫بالمعروف معروف وهو واجب على العالم‪ ،‬ولكن الواجب واألولى بالعالم أن‬
‫يفعله مع من أمرهم به وال يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السالم‪﴿ :‬ﯩ ﯪ‬

‫ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼﯽ ﯾ ﯿ‬
‫ﰀﰁ ﰂ﴾ [هود‪.)1(»]88:‬‬
‫* وقد كانت هذه الشبهة قد ظهرت يف عهد السلف فأجابوا عنها‪.‬‬
‫قال الحسن البصري لمطرف بن عبد اهلل‪« :‬عظ أصحابك‪ ،‬فقال‪ :‬إين أخاف‬
‫أن أقول ما ال أفعل‪ ،‬قال‪ :‬يرحمك اهلل! وأينا يفعل ما يقول! و َّد الشيطان أنه قد‬
‫ظفر هبذا‪ ،‬فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر»(‪.)2‬‬

‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير ت سالمة (‪.)247 /1‬‬


‫(‪ )2‬تفسير القرطبي (‪.)367 /1‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪56‬‬

‫وقال مالك‪« :‬قال سعيد بن جبير‪ :‬لو كان المرء ال يأمر بالمعروف وال ينهى‬
‫عن المنكر حتى ال يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف وال هنى عن منكر‪ .‬قال‬
‫مالك‪ :‬ومن هذا الذي ليس فيه شيء»(‪.)1‬‬
‫وكتب عمر بن عبد العزيز ‪ $‬إلى بعض نوابه على بعض األمصار كتا ًبا‬
‫يعظه فيه وقال يف آخره‪« :‬وإين ألعظك هبذا وإين لكثير اإلسراف على نفسي غير‬
‫محكم لكثير من أمري‪ ،‬ولو أن المرء ال يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إ ًذا لتواكل‬
‫الخير‪ ،‬وإ ًذا لرفع األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وإ ًذا الستحلت المحارم‬
‫وقل الواعظون والساعون هلل بالنصيحة يف األرض‪ ،‬والشيطان وأعوانه يودون أن‬
‫ال يأمر أحد بمعروف وال ينهى عن منكر‪ ،‬وإذا أمرهم أحد أو هناهم عابوه بما‬
‫فيه وبما ليس فيه»(‪.)2‬‬
‫ويف الحقيقة إن مخالفة القول للفعل فيها تفصيل باختالف األحوال‪ ،‬وهذا‬
‫بيانه‪ :‬فنقول‪ :‬مخالفة الرجل فعله ألمره ودعوته على وجهين‪:‬‬
‫إما أن يتعلق بواجب أو يتعلق بمستحب‪.‬‬
‫* فإن كان مخال ًفا لما يأمر به بترك واجب فله أربعة أحوال‪:‬‬
‫حالتان متعلقتان بحاله يف القصد‪ ،‬والنية وحالتان متعلقتان بحاله يف العمل‪،‬‬
‫وها هي ذي أحواله وحكم كل حال‪.‬‬

‫(‪ )1‬موطأ مالك ت األعظمي (‪.)262 /1‬‬


‫(‪ )2‬لطائف المعارف البن رجب (ص‪.)19 :‬‬
‫‪57‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫معذورا فيما ترك من الواجب‪:‬‬


‫ً‬ ‫مخلصا فيما يأمر‬
‫ً‬ ‫الحالة األولى‪ :‬أن يكون‬
‫مثل من أمر الناس بالصالة يف المسجد وتخلف لعذر‪ ،‬أو أمر بالصوم الواجب‬
‫وأفطر لعذر شرعي لمرض أو سفر‪ ،‬فهذا مثاب على أمره معذور يف تركه‪.‬‬
‫مخلصا فيما يأمر غير معذور فيما ترك‪ ،‬مثل من أمر‬
‫ً‬ ‫الحالة الثانية‪ :‬أن يكون‬
‫الناس بالصالة يف المسجد وتخلف لغير عذر‪ ،‬أو أمر بالصوم الواجب وأفطر‬
‫لغير عذر؛ فهذا مثاب على أمره‪ ،‬آثم يف تركه للواجب بغير عذر‪.‬‬
‫معذورا فيما ترك من‬
‫ً‬ ‫الحالة الثالثة‪ :‬أن يكون غير مخلص فيما يأمر‪،‬‬
‫الواجب‪ ،‬مثل من أمر الناس بالصالة يف المسجد رياء‪ ،‬وتخلف عن الصالة يف‬
‫المسجد لعذر‪ ،‬أو أمر بالصوم الواجب رياء‪ ،‬وأفطر لعذر شرعي لمرض أو‬
‫سفر؛ فهذا آثم يف أمره لفقده اإلخالص‪ ،‬معذور يف تركه‪.‬‬
‫الحالة الرابعة‪ :‬أن يكون غير مخلص فيما يأمر‪ ،‬غير معذور فيما ترك من‬
‫الواجب‪ ،‬مثل من أمر الناس بالصالة يف المسجد رياء وتخلف عن الصالة يف‬
‫المسجد لغير عذر‪ ،‬أو أمر بالصوم الواجب رياء وأفطر لغير عذر؛ فهذا آثم يف‬
‫أمره لفقده اإلخالص‪ ،‬آثم يف تركه‪.‬‬
‫* فإن كان مخال ًفا لما يأمر به بترك مستحب فله أربعة أحوال‪:‬‬
‫حالتان متعلقتان بحاله يف القصد والنية‪ ،‬وحالتان متعلقتان بحاله يف العمل‪،‬‬
‫وها هي ذي أحواله وحكم كل حال‪.‬‬
‫مخلصا فيما يأمر‪ ،‬تار ًكا للمستحب لعذر‪ ،‬مثل من‬
‫ً‬ ‫الحالة األولى‪ :‬أن يكون‬
‫أمر الناس بقيام الليل أو صيام النفل ولم يقم ولم يصم؛ لعدم تمكنه من ذلك‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪58‬‬

‫لمرض أو عذر آخر‪ ،‬فهذا مثاب على أمره‪ ،‬غير مؤاخذ برتكه‪ ،‬وال نقص عليه‬
‫هبذا االعتبار يف الكمال؛ ألنه عمل مستحب تركه لعذر‪ ،‬وهو يعذر يف ترك‬
‫الواجب‪ ،‬فالمستحب من باب أولى‪.‬‬
‫مخلصا فيما يأمر‪ ،‬تار ًكا للمستحب لغير عذر‪ ،‬مثل‬
‫ً‬ ‫الحالة الثانية‪ :‬أن يكون‬
‫من أمر الناس بقيام الليل أو صيام النفل‪ ،‬ولم يقم ولم يصم لغير عذر‪ ،‬فهذا‬
‫مثاب على أمره‪ ،‬غير مؤاخذ برتكه؛ ألنه عمل مستحب ال يذم برتكه‪ ،‬لكنه نقص‬
‫يف الكمال‪.‬‬
‫الحالة الثالثة‪ :‬أن يكون غير مخلص فيما يأمر‪ ،‬تار ًكا للمستحب لعذر‪ ،‬مثل‬
‫من أمر الناس بقيام الليل أو صيام النفل ولم يقم ولم يصم لعذر؛ فهذا آثم على‬
‫أمره لفقده اإلخالص‪ ،‬غير مؤاخذ برتكه‪ ،‬وال نقص عليه هبذا االعتبار يف‬
‫الكمال‪ ،‬ألنه عمل مستحب تركه لعذر‪ ،‬وهو يعذر يف ترك الواجب لعذر‪،‬‬
‫فالمستحب من باب أولى‪.‬‬
‫الحالة الرابعة‪ :‬أن يكون غير مخلص فيما يأمر‪ ،‬تار ًكا للمستحب لغير عذر‪،‬‬
‫مثل من أمر الناس بقيام الليل أو صيام النفل ولم يقم ولم يصم لغير عذر فهذا‬
‫آثم على أمره لفقده اإلخالص‪ ،‬غير مؤاخذ برتكه‪ ،‬ألنه عمل مستحب ال يذم‬
‫برتكه لكنه نقص يف الكمال‪.‬‬
‫مفصال يف هذه المسألة‪ ،‬فالحمد هلل على توفيقه‪.‬‬
‫ً‬ ‫وبذلك يتبين الحكم‬
‫الشبهة الثالثة‪ :‬ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة عدم استجابة‬
‫‪59‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫الناس‪ ،‬فال تضاع األوقات والجهود يف أمر أو هني من ال يستجيب‪ .‬ويحتج‬


‫لذلك بقوله تعالى‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ﴾ [األعلى‪.]9:‬‬
‫والجواب عنها‪ :‬أن الدعوة إلى اهلل واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ال‬
‫ترتك لعدم استجابة الناس‪ ،‬بل أمر اهلل هبا وخاطب هبا نبيه ﷺ وأمته من بعده‪،‬‬
‫ولم يقيد ذلك باستجابة الناس للدعوة‪ ،‬قال تعالى ﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭖ ﭗ ﭘ‬

‫ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ﴾ [يوسف‪ ،]104:‬وقال تعالى‪﴿ :‬ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ‬

‫ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [الغاشية‪ ،]22-12:‬وقال تعالى‪﴿ :‬ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ‬

‫ﭥﭦ﴾ [األنعام‪.]19:‬‬
‫وقال سبحانه‪﴿ :‬ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾‬

‫[الفرقان‪.]1:‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬يف مدلول هذه اآليات‪« :‬وهو معلوم‬
‫ومذكرا لجميع الثقلين‬
‫ً‬ ‫باالضطرار من أمر الرسول ﷺ‪ ،‬فإن اهلل بعثه مبل ًغا‬
‫اإلنس والجن»(‪.)1‬‬
‫وأما آية سورة األعلى فال حجة فيها لصاحب الشبهة‪ ،‬ويف اآلية قوالن‬
‫معروفان للمفسرين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬أن معنى اآلية‪ :‬فذكِّر الجميع‪ ،‬فهو مأمور بتذكير كل الناس‪.‬‬

‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى (‪.)155 /16‬‬


‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪60‬‬

‫ثم اختلف أصحاب هذا القول يف توجيه اآلية على هذا المعنى على عدة‬
‫أقوال‪:‬‬
‫أ‪ -‬أن المعنى‪( :‬فذكر إن نفعت وإن لم تنفع)‪ ،‬وإنما لم يذكر الحالة الثانية‪،‬‬
‫كقوله‪﴿ :‬ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [النحل‪ ]81:‬وأراد‪ :‬الحر والربد جمي ًعا‪ ،‬وذهب إليه‬

‫النحاس والبغوي و علي بن أحمد النيسابوري(‪.)1‬‬


‫ب‪ -‬أن ﴿إِ ْن﴾ يف اآلية بمعنى «قد»‪ ،‬فتقدير الكالم‪( :‬فذكر قد نفعت‬
‫الذكرى)‪ ،‬قاله مقاتل(‪.)2‬‬
‫ج‪ -‬أن ﴿إِ ْن﴾ بمعنى «ما» ال بمعنى الشرط‪ ،‬فتقدير الكالم‪( :‬فذكر ما نفعت‬
‫ّ‬
‫الذكرى)‪.‬‬
‫الماوردي(‪.)3‬‬
‫ّ‬ ‫والذكرى نافعة بكل حال‪ ،‬قاله ابن شجرة وحكاه‬
‫د‪ -‬أن ﴿إِ ْن﴾ بمعنى «إذ» وتقدير الكالم‪( :‬فذكر إذ نفعت ّ‬
‫الذكرى) كقوله‬
‫تعالى‪﴿ :‬ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ﴾ [آل عمران‪ ]139:‬والمعنى أي‪( :‬إذ كنتم‬
‫مؤمنين)‪ ،‬فلم يخرب بعلوهم إال بعد إيماهنم‪ .‬نقله القرطبي عن بعض أهل‬
‫العربية‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر إعراب القرآن للنحاس (‪ )127 /5‬تفسير البغوي ‪ -‬طيبة (‪)401 /8‬زاد المسير البن الجوزي‬
‫(‪.)432 /4‬‬
‫(‪ )2‬انظر زاد المسير البن الجوزي (‪.)432 /4‬‬
‫(‪ )3‬انظر زاد المسير البن الجوزي (‪.)432 /4‬‬
‫‪61‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫أمر من اهلل لنبيه ﷺ بتذكير جميع‬ ‫﴿ﯧ﴾ [ق‪]45 :‬‬ ‫قال الطربي‪« :‬وقوله‪:‬‬
‫الناس‪ ،‬ثم قال‪ :‬إن نفعت الذكرى هؤالء الذين قد آيستك من إيماهنم»(‪.)1‬‬
‫قال السمعاين‪« :‬وقوله‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى‪ ،]9:‬فإن قال قائل‪:‬‬
‫كيف قال‪ :‬إن نفعت الذكرى‪ ،‬وهو مأمور بالتذكير على العموم نفعت أو لم‬
‫تنفع؟‬
‫والجواب من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن معنى قوله‪﴿ :‬ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى‪ ]9:‬إذ نفعت الذكرى‪،‬‬
‫ومعناه‪ :‬إذ كنتم‬ ‫﴿ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ﴾ [آل عمران‪]175:‬‬ ‫مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫مؤمنين‪...‬‬
‫والوجه الثاين‪ :‬ذ ِّكر بكل حال‪ ،‬فقد نفعت الذكرى‪ ،‬فهو تعليق بمتحقق‪،‬‬
‫والمعنى‪ :‬إن نفعت‪ ،‬وقد نفعت»(‪.)2‬‬
‫وقال البغوي‪َ ﴿« :‬ف َذك ِّْر﴾ عظ بالقرآن ﴿ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى‪ ]9:‬الموعظة‬
‫والتذكير‪ .‬والمعنى‪ :‬نفعت أو لم تنفع‪ ،‬وإنما لم يذكر الحالة الثانية‪ ،‬كقوله‪:‬‬
‫﴿ﭹ ﭺ ﭻ﴾ [النحل‪ ]81:‬وأراد‪ :‬الحر والربد جميعا»(‪.)3‬‬
‫القول الثاين‪ :‬أن معنى اآلية‪( :‬فذكر حيث تنفع التذكرة)‪ ،‬و ْ‬
‫(إن ) يف اآلية‬

‫(‪ )1‬تفسير الطربي = جامع البيان ط هجر (‪.)317 /24‬‬


‫(‪ )2‬تفسير السمعاين (‪.)210-209 /6‬‬
‫(‪ )3‬تفسير البغوي (‪.)401 /8‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪62‬‬

‫شرطية‪ ،‬نقله شيخ اإلسالم ابن تيمية عن مفسري السلف والجمهور واختاره‬
‫وهو منقول عن الحسن البصري ويحيى بن سالم‪ .‬وبه قال ابن كثير واختاره‬
‫الشيخ محمد األمين الشنقيطي‪.‬‬
‫قال ابن كثير‪« :‬وقوله‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى‪ ]9:‬أي‪ :‬ذكر حيث‬
‫تنفع التذكرة‪ .‬ومن هاهنا يؤخذ األدب يف نشر العلم‪ ،‬فال يضعه عند غير‬
‫أهله»(‪.)1‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ :$‬فقوله‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾‬

‫‪ -‬كما قال مفسرو السلف والجمهور ‪ -‬على باهبا‪ ،‬قال الحسن‬ ‫[األعلى‪]9:‬‬

‫البصري‪ :‬تذكرة للمؤمن وحجة على الكافر‪ .‬وعلى هذا فقوله تعالى‪﴿ :‬ﯨ ﯩ‬

‫ﯪﯫ﴾ [األعلى‪ ]9:‬ال يمنع كون الكافر يبلغ القرآن لوجوه‪:‬‬


‫أحدها‪ :‬أنه لم يخص قو ًما دون قوم‪ ،‬لكن قال‪َ ﴿ :‬ف َذك ِّْر﴾‪ ،‬وهذا مطلق بتذكير‬
‫كل أحد‪ .‬وقوله‪﴿ :‬ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى‪ ]9:‬لم يقل " إن نفعت كل أحد " بل‬
‫أطلق النفع‪ ،‬فقد أمر بالتذكير إن كان ينفع‪ ،‬والتذكير المطلق العام ينفع‪ ،‬فإن من‬
‫الناس من يتذكر فينتفع به واآلخر تقوم عليه الحجة ويستحق العذاب على ذلك‬
‫فتحصل بالذكرى منفعة‪ ،‬فكل تذكير ذكر به النبي ﷺ للمشركين حصل به نفع‬
‫يف الجملة‪.‬‬
‫الوجه الثاين‪ :‬أن األمر بالتذكير أمر بالتذكير التام النافع كما هو أمر بالتذكير‬

‫(‪ )1‬تفسير ابن كثير (‪.)380 /8‬‬


‫‪63‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫المشرتك‪ ،.‬وهذا التام النافع يخص به المؤمنين المنتفعين‪ ،‬فهم إذا آمنوا ذكرهم‬
‫بما أنزل‪ ،‬وكلما أنزل شيء من القرآن ذكرهم به وبمعانيه‪ ،‬بخالف الذين قال‬
‫فيهم‪﴿ :‬ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ﴾‬

‫[المدثر‪ ،]51-49:‬فإن هؤالء ال يذكرهم كما يذكر المؤمنين إذا كانت الحجة قد‬
‫قامت عليهم‪ ،‬وهم معرضون عن التذكرة ال يسمعون‪﴿ ،‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ‬

‫ﭗﭘ ﭙﭚﭛﭜ ﭝﭞ ﭟﭠﭡ ﭢﭣﭤ ﭥﭦ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬ‬


‫ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ﴾ [عبس‪ ،]10-1:‬فأمره أن يقبل‬
‫على من أقبل عليه دون من أعرض عنه‪ ،‬فإن هذا ينتفع بالذكرى دون ذاك‪،‬‬
‫تذكيرا يخصهم به غير التبليغ العام‬
‫ً‬ ‫مأمورا أن يذكر المنتفعين بالذكرى‬
‫ً‬ ‫فيكون‬
‫الذي تقوم به الحجة‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أن قوله‪﴿ :‬ﯪ﴾ يتناول التذكر والتذكير‪ ،‬فإنه قال‪﴿ :‬ﯧ ﯨ‬

‫ﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى‪ ،]9:‬فال بد أن يتناول ذلك تذكيره‪ ،‬ثم قال‪﴿ :‬ﯬ ﯭ ﯮ‬

‫ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ﴾ [األعلى‪ ،]11-10:‬والذي يتجنبه األشقى هو الذي فعله من‬


‫يخشى وهو التذكر‪ .‬فضمير الذكرى هنا يتناول التذكر‪ ،‬وإال فمجرد التذكير‬
‫الذي قامت به الحجة لم يتجنبه أحد‪ ،‬لكن قد يراد بتجنبها أنه لم يستمع إليها‬
‫ولم يصغ‪ ،‬كما قال‪﴿ :‬ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ﴾ [فصلت‪ ،]26:‬والحجة قامت‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪64‬‬

‫بوجود الرسول المبلغ وتمكنهم من االستماع والتدبر ال بنفس االستماع(‪.)1‬‬


‫وقال الشيخ محمد األمين الشنقيطي‪« :‬والذي يظهر لمقيد هذه الحروف‬
‫عفا اهلل عنه‪ ،‬هو بقاء اآلية الكريمة على ظاهرها‪ ،‬وأنه ﷺ بعد أن يكرر الذكرى‬
‫تكريرا تقوم به حجة اهلل على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة‪ ،‬أما إذا علم‬
‫ً‬
‫الفائدة فال يؤمر بشيء هو عالم أنه ال فائدة فيه‪ ،‬ألن العاقل ال يسعى إلى ما ال‬
‫فائدة فيه‪.‬‬
‫وقد قال الشاعر‪:‬‬
‫لشببيء بعيببد نفعببه الببدهر سبباعيا‬ ‫لما نافع يسعى اللبيبب فبال تكبن‬
‫وهذا ظاهر ولكن الخفاء يف تحقيق المناط‪ ،‬وإيضاحه أن يقال‪ :‬بأي وجه‬
‫يتيقن عدم إفادة الذكرى‪ ،‬حتى يباح تركها‪.‬‬
‫وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعالم اهلل به‪ ،‬كما وقع يف أبي لهب‪ ،‬حيث قال‬
‫تعالى فيه‪﴿ :‬ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [المسد‪ ،]3:‬فأبو لهب هذا وامرأته ال تنفع‬
‫فيهما الذكرى؛ ألن القرآن نزل بأهنما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما‬
‫تكرارا تقوم عليهما به الحجة‪ ،‬فال يلزم النبي ﷺ بعد علمه بذلك أن يذكرهما‬
‫ً‬
‫بشيء‪ ،‬لقوله تعالى يف هذه اآلية‪﴿ :‬ﯧ ﯨ ﯩ ﯪﯫ﴾ [األعلى‪.]9:‬‬
‫وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال‪ ،‬بحيث يبلغ على أكمل وجه‪ ،‬ويأيت‬
‫بالمعجزات الواضحة‪ ،‬فيعلم أن بعض األشخاص عالم بصحة نبوته‪ ،‬وأنه مصر‬

‫(‪ )1‬انظر مجموع الفتاوى (‪.)166-161- /16‬‬


‫‪65‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫دائما‪ ،‬بعد أن‬


‫ولجاجا‪ ،‬فمثل هذا ال يجب تكرير الذكرى له ً‬
‫ً‬ ‫على الكفر عنا ًدا‬
‫تكريرا تلزمه به الحجة ‪...‬‬
‫ً‬ ‫تكرر عليه‬
‫وإنما اخرتنا بقاء اآلية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن‬
‫ظاهرها المتبادر منها‪ ،‬وأن معناها‪ :‬فذكر مطل ًقا إن نفعت الذكرى‪ ،‬وإن لم تنفع‪،‬‬
‫ألننا نرى أنه ال يجوز صرف كتاب اهلل عن ظواهره المتبادرة منه؟ إال لدليل‬

‫يجب الرجوع له‪ ،‬وإلى بقاء هذه اآلية على ظاهرها جنح ابن كثير» (‪.)1‬‬
‫والراجح ‪ -‬واهلل أعلم ‪ -‬هو القول الثاين فإنه قول أئمة السلف كما حكاه‬
‫عنهم شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ ،$‬وهو ظاهر داللة اآلية‪ ،‬فال يجوز العدول‬
‫عنه إال بدليل كما قرره الشيخ محمد األمين ‪ ،$‬بل األدلة األخرى دالة عليه‬
‫وشاهدة له‪ ،‬وهو أن اهلل أمر نبيه بالتذكير إن نفعت الذكرى‪ ،‬وجعل النفع شر ًطا‬
‫ْ‬
‫فـ(أن) يف اآلية شرطية‪ ،‬ومفهوم اآلية‪ :‬ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم‬ ‫للتذكير‬
‫تنفع فال تذكر‪.‬‬
‫ولكن ينبغي أن يفهم هذا المعنى على وجهه الصحيح‪ ،‬وأن تعطى هذه‬
‫األلفاظ المذكورة يف اآلية حقها من الداللة دون تجاوز أو تقصير‪.‬‬
‫فاهلل تعالى أمر بالتذكير إن نفعت الذكرى وعلق النفع بالذكرى‪ ،‬ولم يعلقه‬
‫بالمدعو‪ ،‬فلم يقل (ذكر من انتفع بالذكرى) وجعل النفع عا ًما ولم يقيده‬
‫باالستجابة فلم يقل‪( :‬ذكر من يستجيب لك)‪ ،‬فهو مأمور بالتذكير إن نفعت‬

‫(‪ )1‬دفع إيهام االضطراب عن آيات الكتاب (ص‪.)260-259 :‬‬


‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪66‬‬

‫للمذكِر باألجر‪،‬‬
‫َ‬ ‫الذكرى‪ ،‬ونفع الذكرى أعم من االستجابة‪ ،‬ففي التذكير نفع‬
‫ونفع للمذكَر المستجيب باالستجابة واإليمان‪ ،‬ونفع للمذكَر غير المستجيب‬
‫بقيام الحجة عليه وتبليغه الشرع‪.‬‬
‫فدلت اآلية على تذكير كل من يف تذكيره نفع عام‪ ،‬سواء استجاب أم لم‬
‫﴿ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ‬ ‫يستجب‪ ،‬وسياق اآلية دال على هذا؛ ألن اهلل قال بعد ذلك‪:‬‬
‫ﯰ ﯱ﴾ [األعلى‪ ،]11 -10 :‬فذكر أن األشقى يتجنب الذكرى وال يتصور تجنبه‬
‫لها إال بعد تذكيره‪ ،‬فدل على أنه مخاطب بالتذكير‪ ،‬ونظير هذه اآلية قوله تعالى‪:‬‬
‫﴿ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ﴾ [المدثر‪ ،]49:‬وقد دلت األدلة على مشروعية تذكير‬
‫جميع الناس استجابوا أم لم يستجيبوا إن نفعت الذكرى‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﯟ ﯠ‬

‫ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ [الغاشية‪ ،]22-21:‬وقال سبحانه‪﴿ :‬ﯺ ﯻ ﯼ‬

‫ﯽﯾ ﯿ﴾ [األنعام‪.]90:‬‬
‫وأمر اهلل بتذكير من علم بسابق علمه أنه ال يستجيب‪ ،‬قال تعالى يف وصف‬
‫القرآن‪﴿ :‬ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﯝ﴾ [الزخرف‪ ،]44:‬وقال تعالى لموسى‬
‫وهارون‪﴿ :‬ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦﮧ ﮨ ﮩﮪ ﮫﮬﮭ ﮮ ﮯ ﮰ﴾ [طه‪.]44-43:‬‬
‫وقد علم اهلل بسابق علمه أن بعض قوم النبي ﷺ ال يستجيب كأبي جهل‬
‫وأبي لهب وأمية بن خلف وغيرهم ممن مات على الكفر‪ ،‬كما علم أن فرعون‬
‫ال يستجيب وال يتذكر‪ ،‬ومع هذا أمر بتذكيرهم‪.‬‬
‫وأما إن لم تنفع الذكرى فإن اهلل لم يأمر بالتذكير يف هذه الحالة كحال من‬
‫‪67‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫أخرب اهلل بعدم إيمانه‪ ،‬فإن اهلل لم يأمر بتذكيره بعد خربه عن كفره كأبي لهب‬
‫وامرأته‪ ،‬ومن أعرض عن الحجة وتولى فلم يأمر بتذكيره بعد التذكير األول‬
‫الذي قامت به عليه الحجة‪ ،‬بل أمر اهلل باإلعراض عنهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ﭮ ﭯ‬

‫ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ﴾ [النجم‪ ،]29:‬وقال تعالى‪﴿ :‬ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ‬

‫ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ﴾ [عبس‪.]7-5:‬‬
‫فإن قيل‪ :‬هذا يف عدم انتفاع المدعوين‪ ،‬وقد قررت أن النفع أعم من‬
‫االستجابة‪.‬‬
‫فالجواب‪ :‬أن هذا التقرير على هذا األصل‪ ،‬فال نفع عام يف د عوة هؤالء‪ ،‬أما‬
‫عدم االستجابة فظاهر‪ ،‬وأما قيام الحجة فقامت عليهم بالتبليغ العام الذي تبعه‬
‫إعراضهم‪ ،‬وأما الداعية فهو لم يؤمر بتذكيرهم‪ ،‬بل ُأمر باإلعراض عنهم‪ ،‬وإنما‬
‫يؤجر يف حق من ُأمر بتبليغه‪ ،‬فال نفع يف دعوهتم بوجه‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬فإن قيل‪ :‬فعلى هذا كل تذكير قد حصل‬
‫أصال وهو ما لم يؤمر به‪،‬‬
‫به نفع‪ ،‬فأي فائدة يف التقييد؟ قيل‪ :‬بل منه ما لم ينفع ً‬
‫وذلك كمن أخرب اهلل أنه ال يؤمن كأبي لهب‪ ،‬فإنه بعد أن أنزل اهلل قوله‪:‬‬
‫فإنه ال يخص بتذكير بل يعرض عنه‪،‬‬ ‫﴿ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ﴾ [المسد‪]3:‬‬

‫وكذلك كل من لم يصغ إليه ولم يستمع لقوله فإنه يعرض عنه‪ ،‬كما قال‪﴿ :‬ﭧ‬

‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ﴾ [الذاريات‪ ،]54:‬ثم قال‪﴿ :‬ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ﴾‬

‫[الذاريات‪ ،]55:‬فهو إذا بلغ قو ًما الرسالة فقامت الحجة عليهم ثم امتنعوا من سماع‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪68‬‬

‫كالمه أعرض عنهم‪ ،‬فإن الذكرى حينئذ ال تنفع أحدً ا‪ ،‬وكذلك من أظهر أن‬
‫الحجة قامت عليه وأنه ال يهتدي فإنه ال يكرر التبليغ عليه»(‪.)1‬‬
‫وهبذا يتقرر أنه ال حجة يف اآلية يف ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫لعدم االستجابة‪ ،‬وأن اآلية ما دلت على هذا بوجه‪.‬‬
‫ثم يقال‪ :‬لو علق الحكم على االستجابة فال سبيل لمعرفة المستجيب من‬
‫عدمه بعد انقطاع الوحي‪ ،‬فوجب تذكير الناس التذكير الذي تقوم به الحجة‬
‫ويحصل به النفع‪ ،‬ويعرف به المستجيب من المعرض‪ ،‬فمن أعرض بعد ذلك‬
‫فال يشرع تذكيره‪ ،‬بل يعرض عنه‪ ،‬كما قال تعالى ﴿ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ‬

‫ﭷﭸ ﭹ﴾ [النجم‪ ،]29:‬واهلل تعالى أعلم‪.‬‬


‫الشبهة الرابعة‪ :‬أن اهلل قدر الهداية والضالل على الناس يف األزل‪ ،‬فمن كتبه‬
‫اهلل من المهتدين فمآله لالهتداء واالستقامة ولو لم ُيؤمر بالمعروف وينهى عن‬
‫المنكر‪ ،‬ومن كتبه اهلل من الضالين فمآله للضالل واالنحراف ولو أمر بالمعروف‬
‫وهنى عن المنكر‪ ،‬فال فائدة يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬إذ قضاء اهلل‬
‫نافذ يف العباد بما سبق يف علم اهلل من هداية المهتدي وضالل الضال‪.‬‬
‫وهذه الشبهة ترجع يف أصلها إلى مقالة غالة الجربية من الجهمية ومن‬
‫وافقهم من غالة المتصوفة يف إنكار األسباب‪ ،‬واعتقاد أنه ال تأثير لألسباب يف‬

‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى (‪.)163 -162/16‬‬


‫‪69‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫حصول شيء من المطالب الدينية‪ ،‬فأنكروا تأثير األسباب الشرعية‪ ،‬كزعمهم أن‬
‫التوكل واالستعانة باهلل والدعاء عبادات محضة ال فائدة لها‪ ،‬ولو ترك العبد هذه‬
‫العبادات ما فاته شيء مما ُقدِّ ر له يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬بل بالغوا يف إنكار األسباب‬
‫حتى أنكروا األسباب المحسوسة‪ ،‬فقالوا‪ :‬ليس للنار أثر يف اإلحراق‪ ،‬وال للخبز‬
‫الر ِّي‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن اهلل يفعل عندها ال هبا‪.‬‬
‫أثر يف اإلشباع‪ ،‬وال للماء أثر يف ِّ‬
‫وتعطيل األمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتما ًدا على القدر متفرع عن‬
‫تلك المقالة الفاسدة للجربية ومن وافقهم‪ ،‬وإن كان من يردد هذه الشبهة من‬
‫العامة قد ال يعلم منشأها وال يدرك مدى خطورهتا‪.‬‬
‫والجواب َع ْن هذه الشبهة أن ُيقال لهم‪َ :‬ه َذا ر ٌّد لجميع الشرائع‪ ،‬وإبطال‬
‫لجميع أحكام الكتب‪ ،‬ويرت َّتب على هذا لوازم باطلة‪ ،‬فإذا أمر اهلل يف القرآن‬
‫بإقامة الصالة وإيتاء الزكاة؛ فلقائ ٍل أن يقول‪ :‬لماذا أص ِّلي وأزكِّي؟ إن كنت‬
‫سعيدً ا فمصيري إِ َلى السعادة‪ ،‬وإن كنت شقيا فمصيري إِ َلى الشقاوة‪ ،‬وإذا هنى‬
‫اهلل عن الزنى والربا؛ َي ُقول القائل‪ :‬لماذا أمنع نفسي ملذوذها‪ ،‬والسعادة‬
‫والشقاوة مقض َّيتان قد ُف ِرغ منهما؟ وكان لفرعون أن يخاطب موسى لما أمره‬
‫باإليمان بمثل ذلك‪ ،‬ثم يفضي األمر إِ َلى منازعة الخالق‪ ،‬فيقول قائل‪َ :‬ما فائدة‬
‫إرسالك الرسل‪ ،‬وسيجري َما قدَّ ر َته على العباد؟‬
‫بل يلزم من ترك العمل بالشرع اعتما ًدا على القدر أن يقول‪ :‬أنا ال آكل وال‬
‫والري حصل‪ ،‬وال فائدة يف األكل والشرب‬
‫ِّ‬ ‫أشرب‪ ،‬فإن كان اهلل قضى بالشبع‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪70‬‬

‫وغيرها من اللوازم الباطلة‪.‬‬


‫يسوغ‬
‫ولهذا كان من األصول المقررة عند األئمة‪ :‬أن اإليمان بالقدر ال ِّ‬
‫اال ِّتكال وترك العمل‪ ،‬وأن مدار هذا الدين على اإليمان بالقدر والعمل بالشرع‪،‬‬
‫ال ينفك أحدهما عن اآلخر‪ ،‬وال يستقيم اإليمان إال بتحقيقهما جمي ًعا؛ ولذا قال‬
‫ابن ع َّب ٍ‬
‫اس ﭭ‪« :‬القدر نظام التوحيد؛ َف َمن َّ‬
‫وحد اهَّلل وآمن بالقدر ت ََّم توحيده‪،‬‬

‫وكذب بالقدر نقض توحيده»(‪.)1‬‬


‫وحد اهَّلل َّ‬
‫ومن َّ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫مناسبة عن‬ ‫وقد د َّلت األد َّلة على ذلك؛ فقد ُسئل النبي ﷺ يف أكثر من‬
‫اال ِّتكال على القدر وترك العمل‪ ،‬فأمر بالعمل مع اإليمان بالقدر‪.‬‬
‫علي ﭬ قال‪ :‬كان رسول اهلل ﷺ ذات يو ٍم‬ ‫روى الشيخان من حديث ٍّ‬
‫نفس إال وقد ُع ِل َم‬
‫جالسا ويف يده عود ينكت به‪ ،‬فرفع رأسه‪ ،‬فقال‪« :‬ما منكم من ٍ‬
‫ً‬
‫َمنْزلها من الجنَّة والنار»‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول اهلل! أفال نتَّكل؟ قال‪« :‬ال‪ ،‬اعملوا؛ ٌّ‬
‫فكل‬

‫ُم َي َّس ٌر لِ َما ُخ ِلق له»‪ ،‬ثم قرأ‪﴿ :‬ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ﴾‪ ،‬إلى قوله‪:‬‬

‫﴿ﮯ ﮰ﴾(‪.)2‬‬
‫واألد َّلة يف هذا المعنى كثيرة‪ ،‬وهي ظاهرة الداللة على وجوب العمل‪،‬‬
‫وعدم اال ِّتكال على القدر واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما أمر اهلل به يف‬

‫(‪ )1‬تقدم تخريجه ص (‪ .)6‬وذكره هبذا اللفظ شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ .‬مجموع الفتاوى (‪،)258/8‬‬
‫وابن القيم يف مدارج السالكين (‪.)102 /1‬‬
‫(‪ )2‬أخرجه البخاري (‪ ،)6605‬ومسلم (‪ )2647‬وال ّلفظ له‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫الشرع وأوجبه على العباد يثابون على امتثاله ويعاقبون على تركه‪ ،‬فاألجر‬
‫حاصل على امتثاله على كل حال استجاب الناس لألمر بالمعروف أم لم‬
‫يستجيبوا‪ ،‬والعقاب مرتتب على تركه على كل حال‪ ،‬هدى اهلل المدعوين أم‬
‫أضلهم‪.‬‬
‫كما قال تعالى يف الخرب عن أصحاب السبت‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ‬

‫ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥﭦ﴾ [األعراف‪.]164:‬‬


‫وهذه اآلية متضمنة ذكر هذه الشبهة والجواب عنها‪ ،‬فالشبهة يف قول الطائفة‬
‫التاركة لإلنكار‪﴿ :‬ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ﴾ [األعراف‪ ،]164:‬وهذا‬
‫من جنس هذه الشبه المذكورة هنا‪ ،‬والجواب عنها يف قول الطائفة المنكرة‬
‫جوا ًبا على سؤال أولئك‪﴿ :‬ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [األعراف‪،]164:‬‬
‫فذكروا أن إنكارهم على المخالفين كان أدا ًء لما افرتض عليهم من واجب‬
‫اإلنكار وما يرجون من هداية هؤالء العصاة‪.‬‬
‫قال الطربي يف تفسير اآلية‪﴿« :‬ﭡ ﭢ ﭣ﴾ [األعراف‪ ]164:‬نؤدي فرضه علينا‬
‫يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪﴿ ،‬ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [األعراف‪ ]164:‬يقول‪:‬‬
‫ولعلهم أن يتقوا اهلل فيخافوه‪ ،‬فينيبوا إلى طاعته ويتوبوا من معصيتهم إياه‬
‫وتعديهم على ما حرم عليهم من اعتدائهم يف السبت »(‪.)1‬‬

‫(‪ )1‬تفسير الطربي = جامع البيان ط هجر (‪.)511 /10‬‬


‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪72‬‬

‫ثم إن أصحاب هذه الشبهة محجوجون بأهنم ال يعلمون هداية المهتدي‬


‫وضالل الضال فيرتكون اإلنكار على أهل الضالل‪ ،‬فكم من ضال هداه اهلل‬
‫باألمر بالمعروف والنهي المنكر‪ ،‬وكم من مهتدي ضل بعد هداية‪ ،‬والمطلوب‬
‫هو العمل بالشرع‪ ،‬وقدر اهلل نافذ يف العباد‪ ،‬واهلل أعلم(‪.)1‬‬

‫‪ ‬ثامنًا‪ :‬مظاهر االحنراف يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪.‬‬


‫االنحراف يف هذا الباب ومخالفة معتقد أهل السنة فيه يرجع إلى مسلكين‪:‬‬
‫إما إلى الغلو أو إلى التقصير‪.‬‬
‫أوال‪ :‬مسلك الغلو‪ ،‬ويكون بتجاوز الحد المشروع يف األمر والنهي‪.‬‬
‫ً‬
‫* وله عدة صور‪:‬‬
‫الصورة األولى‪ :‬األمر بما ليس بمعروف واإلنكار لما ليس بمنكر‪.‬‬
‫ويكون هذا بتجاوز الحد المشروع يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫وقد تقدم أن ضابط ذلك‪ :‬أن يكون األمر لما أمر اهلل به من واجب أو مستحب‪،‬‬
‫واإلنكار لكل ما هنى اهلل عنه من محرم أو مكروه‪ ،‬فمتى ما خرج األمر والنهي‬
‫عن ذلك خرج عن المشروع‪.‬‬
‫* ولهذا عدة شواهد‪ ،‬فمنها‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يأمر الغالي بفعل مباح الستحسانه له يف نفسه ومحبته إياه‪ ،‬أو ينهى‬

‫(‪ )1‬انظر مزيد بسط لهذه المسألة كتابي ‪ :‬المعترب يف عقيدة أهل السنة ومخالفيهم يف القدر ص‪145 :‬‬
‫وما بعدها‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫عنه الستقباحه له يف نفسه وكراهيته إياه‪ ،‬وقد دخل هذا يف الغلو؛ ألن القائم‬
‫بذلك يأمر بفعل ما لم ُيشرع فعله‪ ،‬وينهى عما ال ُيشرع تركه‪ ،‬فكأنه زاد يف الدين‬
‫وشرع مالم يشرعه اهلل‪.‬‬
‫وقد كان النبي ﷺ يحب أشياء يف نفسه‪ ،‬كحبه للذراع والدباء والحلواء ولم‬
‫يأمر بأكلها (‪.)1‬‬
‫وكان يكره الضب طبعًا ولم ينه عن أكله(‪ ،)2‬والواجب التأسي به يف ذلك‪.‬‬
‫وبعض الناس إذا أحب شي ًئا أو كرهه بحكم طبيعته أو بيئته وجه الناس لما‬
‫يحب وهناهم عما يكره متدينًا بذلك‪ ،‬وهذا تجاوز وغلو يف األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫أصال من‬
‫ً‬ ‫‪ -2‬اإلنكار على معذور يف الشرع‪ ،‬كاإلنكار على غير مكلف‬
‫مجنون وصبي‪ ،‬أو عاجز فيما عجز عنه كإنكار القعود يف صالة الفريضة لعاجز‬
‫عن القيام‪ ،‬أو صاحب رخصة فيما رخص له فيه كاإلنكار على مسافر أو مريض‬
‫الفطر يف رمضان‪ ،‬وإنما كان هذا من الغلو يف اإلنكار ألن القائم به مشدد ومنكر‬
‫على من عذره اهلل‪ ،‬بل اإلنكار على المعذور داخل يف عموم إنكار ما ليس‬
‫منكرا يف حق غيره إال أنه ليس بمنكر يف‬
‫ً‬ ‫بمنكر؛ ألن ما قام بالمعذور وإن كان‬
‫حقه للعذر الشرعي‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر الشمائل المحمدية للرتمذي (ص‪.)107-105 :‬‬


‫(‪ )2‬انظر ص‪ :‬من هذا الكتاب‪.‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪74‬‬

‫‪ -3‬اإلنكار يف المسائل االجتهادية‪ ،‬وهذا مخالف لما تقدم تقريره يف شروط‬


‫اإلنكار‪ ،‬وأن اإلنكار ال يكون إال بدليل أو إجماع عليه‪ ،‬وأنه ال إنكار يف‬
‫المسائل االجتهادية فليس قول أحد المجتهدين حجة على رد القول اآلخر أو‬
‫الحكم عليه بأنه منكر‪ ،‬وإنما دخل اإلنكار يف المسائل االجتهادية يف صور‬
‫الغلو؛ ألن المنكر بإنكاره قد نزل قول المجتهد الذي أنكره منزلة الذنوب‬
‫المحضة‪ ،‬وهذا باطل‪ ،‬فالمجتهد مثاب على اجتهاده مغفور له خطؤه‪ ،‬هذا مع‬
‫المنكِر القول اآلخر يف‬
‫القطع بخطئة فكيف مع عدم القطع بخطئة‪ ،‬كما نزل ُ‬
‫المسألة االجتهادية الذي ينتصر له منزلة النص المقطوع بصوابه؛ وهذا باطل‪،‬‬
‫ألن قول المجتهد محتمل للخطأ والصواب‪ ،‬فتنزيله منزلة النص من الغلو‬
‫واإلفراط يف مقابل القطع بخطأ المجتهد اآلخر وتأثيمه‪.‬‬
‫الصورة الثانية‪( :‬الغلو يف طريقة األمر واإلنكار) وذلك بتجاوز الحد‬
‫المشروع يف ذلك إلى الغلو والتشديد فيه‪ ،‬وله عدة شواهد‪:‬‬
‫‪ -1‬التجسس والتنقيب عن األخطاء والمخالفات بقصد إنكارها‪ ،‬وهذا غير‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫جائز ومخالف لشروط اإلنكار يف الشرع التي منها أن يكون المنكر‬
‫معلو ًما من غير تجسس كما تقدم تقريره‪ ،‬وإنما دخل هذا الفعل يف الغلو ألنه‬
‫من التكلف والتنطع الذي لم يدل عليه الشرع‪ ،‬فاإلنكار المشروع هو لما يرى‬
‫أو يعلم من غير تنقيب وال تجسس‪.‬‬
‫وقد تقدم ذكر أقوال العلماء يف ذلك ومنها قول النووي ‪« :$‬وليس لآلمر‬
‫‪75‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون‪ ،‬بل إن رأى شي ًئا‬
‫غيره»(‪.)1‬‬
‫وقول ابن النحاس ‪« :$‬ويشرتط أيضًا أن يكون المنكر ظاهر ًا بغير‬
‫تجسس‪ ،‬ف كل من سرت معاصيه يف داره أو أغلق عليه بابه ال يجوز ألحد أن‬
‫يتجسس عليه»(‪.)2‬‬
‫‪ -2‬إنكار ما ال قدرة على إنكاره وال استطاعة على تغييره‪ ،‬وهذ مخالف‬
‫لشروط اإلنكار الشرعي التي منها االستطاعة‪ ،‬كما جاء يف الحديث‪« :‬من رأى‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه‪ ،‬وذلك‬
‫ً‬ ‫منكم‬
‫أضعف اإليمان»(‪.)3‬‬
‫وإنما دخل هذا يف الغلو ألنه تجاوز يف حد المشروع‪ ،‬فاإلنكار الشرعي‬
‫معلق باالستطاعة‪ ،‬ومن أنكر ما ال استطاعة له على إنكاره فقد غال وتكلف ما‬
‫لم يشرع له‪ ،‬كمن ينكر بيده ما ال قدرة له شرعية على إنكاره‪ ،‬كتعزير العصاة‬
‫وإقامة الحدود على الجناة‪ ،‬فإن هذا موكول لوالة األمر‪ ،‬فإذا باشره أفراد الناس‬
‫ترتب عليه فتن وشر وبالء عظيم‪ ،‬وكمن ينكر بلسانه وليس هو من أهل‬
‫االستطاعة لذلك‪ ،‬كمن ينكر على ذوي سلطان أو جاه وهو ظالم متجرب فيؤذيه‬

‫(‪ )1‬روضة الطالبين (‪.)220 /10‬‬


‫(‪ )2‬تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (ص‪.)40 :‬‬
‫(‪ )3‬تقدم تخريجه‪.‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪76‬‬

‫بضرب أو سجن ولربما قتله فأضر هذا بنفسه‪.‬‬


‫ضررا منه؛ فإن هذا مخالف لشروط‬
‫ً‬ ‫‪ -3‬إنكار المنكر بما هو أنكر وأشد‬
‫األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬التي منها أال يرتتب على األمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر من الفساد أكثر مما فيه من الصالح‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬فإن هذا مقام خطر‪ ،‬فإن الناس هنا‬
‫ثالثة أقسام‪:‬‬
‫قسم يأمرون وينهون ويقاتلون‪ ،‬طل ًبا إلزالة الفتنة التي زعموا‪ ،‬ويكون فعلهم‬
‫ذلك أعظم فتنة‪ ،‬كالمقتتلين يف الفتنة الواقعة بين األمة»(‪.)1‬‬
‫وقد دخل هذه الفعل يف الغلو؛ ألن اإلنكار على هذا النحو لم يشرع يف‬
‫الدين‪ ،‬وفاعله غال يف الدين متكلف بفعل ما لم يشرع له‪.‬‬
‫ومن الشواهد لذلك‪ :‬صنيع الخوارج ومن تأثر بمسلكهم يف الخروج على‬
‫والة األمر بدعوى اإلنكار عليهم‪ ،‬فإن ضرر الخروج على والة األمر من سفك‬
‫الدماء وانتهاك األعراض وتعطيل المصالح وإطماع العدو يف المسلمين أشد‬
‫وأعظم من الضرر الحاصل بمخالفة والة األمر لبعض أحكام الشرع على ما هو‬
‫معلوم من النصوص ومجرب عرب التاريخ ومشاهد يف الواقع‪.‬‬
‫يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬ولهذا ال يجوز إنكار المنكر بما هو‬
‫أنكر منه؛ ولهذا حرم الخروج على والة األمر بالسيف؛ ألجل األمر بالمعروف‬

‫(‪ )1‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر البن تيمية (ص‪.)50 :‬‬


‫‪77‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫والنهي عن المنكر؛ ألن ما يحصل بذلك من فعل المحرمات وترك واجب‬


‫أعظم مما يحصل بفعلهم المنكر والذنوب»(‪.)1‬‬
‫ويقول اإلمام ابن القيم ‪« :$‬النبي ﷺ شرع ألمته إيجاب إنكار المنكر‬
‫ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه اهلل ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار المنكر‬
‫يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى اهلل ورسوله فإنه ال يسوغ إنكاره‪ ،‬وإن كان‬
‫اهلل يبغضه ويمقت أهله»(‪.)2‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬مسلك التقصير (ويكون بالتقصير يف األمر والنهي)‪.‬‬
‫* وله عدة صور‪:‬‬
‫الصورة األولى‪ :‬ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلية‪.‬‬
‫* ويكون هذا لعدة مقاصد‪:‬‬
‫‪ -1‬ترك اإلنكار بحجة عدم استجابة المدعوين‪ ،‬ومن الشواهد لذلك ما‬
‫أخرباهلل به عن أصحاب السبت يف قوله تعالى‪﴿ :‬ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗﭘ ﭙ‬

‫ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ﴾ [األعراف‪.]164:‬‬
‫فذكر المفسرون أن أهل القرية افرتقوا إلى ثالث‪ :‬فرق فرقة صادت وأكلت‪،‬‬
‫وفرقة هنت وزجرت‪ ،‬وفرقة أمسكت عن الصيد‪ ،‬وقالت للفرقة الناهية‪﴿ :‬ﭕ‬

‫ﭖ ﭗﭘ ﭙ ﭚ﴾ [األعراف‪ ،]164:‬قال الطربي يف تفسير مقالتهم‪« :‬يقول‪ :‬لم‬

‫(‪ )1‬مجموع الفتاوى (‪.)472 /14‬‬


‫(‪ )2‬إعالم الموقعين (‪.)338 /4‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪78‬‬

‫تعظوهنم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم»(‪.)1‬‬


‫وقال ابن الجوزي‪« :‬الموهم على موعظة قوم يعلمون أهنم غير مقلعين»(‪.)2‬‬
‫وقال ابن كثير‪« :‬يقول‪ :‬لِ َم تعظوهم‪ ،‬وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم»(‪.)3‬‬
‫وقال السعدي‪« :‬كأهنم يقولون‪ :‬ال فائدة يف وعظ من اقتحم محارم اهلل‪ ،‬ولم‬

‫يصغ للنصيح»(‪.)4‬‬
‫فظاهر أن تركهم لإلنكار و َلو َمهم للمنكرين لشبهة عدم استجابة المدعوين‪،‬‬
‫وهذا تقصير يف المشروع‪ ،‬فإنه ليس من شرط القيام األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر استجابة المدعوين كما تقدم تقريره عند بيان مدلول قول اهلل تعالى‪:‬‬
‫﴿ﯧ ﯨﯩ ﯪ ﯫ﴾ [األعلى‪.]9:‬‬
‫احتجاجا بالقدر ودعوى أن اهلل‬
‫ً‬ ‫‪ -1‬ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫كتب الهداية والضالل على الناس يف األزل‪ ،‬فمن كتبه اهلل من المهتدين‬
‫فسيستقيم ويطيع‪ ،‬ومن كتبه اهلل من الضالين فسيضل ويعصي‪ ،‬فال فائدة يف األمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫وهذا تقصير يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسبب هذه الشبهة‪ ،‬وقد‬

‫(‪ )1‬تفسير الطربي(‪.)64 /2‬‬


‫(‪ )2‬زاد المسير يف علم التفسير (‪.)163 /2‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن كثير (‪.)291 /1‬‬
‫(‪ )4‬تفسير السعدي (ص‪.)306 :‬‬
‫‪79‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫مفصال يف الشبهة الرابعة عند الحديث عن الشبه‪.‬‬


‫ً‬ ‫تقدم الجواب عنها‬
‫‪ -3‬ترك األمر بالمعروف والنهي عن المنكر خو ًفا من الفتنة‪ ،‬وقد ن َّبه على‬
‫هذا شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬يف سياق حديثه عن أقسام الناس يف األمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله‪« :‬وأقوام ينكلون عن األمر والنهي والقتال‬
‫الذي يكون به الدين كله هلل‪ ،‬وتكون كلمة اهلل هي العليا‪ ،‬لئال يفتنوا‪ ،‬وهم قد‬
‫سقطوا يف الفتنة‪ ،‬وهذه الفتنة المذكورة يف سورة براءة دخل فيها االفتتان بالصور‬
‫الجميلة‪ ،‬فإهنا سبب نزول اآلية‪ ،‬وهذه حال كثير من المتدينين‪ ،‬يرتكون ما يجب‬
‫عليهم من أمر وهني وجهاد يكون به الدين كله هلل وتكون كلمة اهلل هي العليا‪،‬‬
‫لئال يفتنوا بجنس الشهوات‪ ،‬وهم قد وقعوا يف الفتنة التي هي أعظم مما زعموا‬
‫أهنم فروا منه‪ ،‬وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور‪ ،‬وهما‬
‫متالزمان‪ ،‬وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم ال تطاوعهم إال على فعلهما جمي ًعا‬
‫أو تركهما جمي ًعا‪ :‬مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي‪ ،‬فإنه إذا‬
‫فعل ما وجب عليه من أمر وهني وجهاد وإمارة ذلك فال بد أن يفعل شي ًئا من‬
‫المحظورات‪.‬‬
‫أجرا من ترك‬
‫فالواجب عليه أن ينظر أغلب األمرين‪ ،‬فإن كان المأمور أعظم ً‬
‫ذلك المحظور لم يرتك ذلك لما يخاف أن يقرتن به ما هو دونه يف المفسدة‪ ،‬وإن‬
‫أجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون‬
‫كان ترك المحظور أعظم ً‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪80‬‬

‫دون ذلك»(‪.)1‬‬
‫الصورة الثانية‪ :‬التقصير يف طريقة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫* وله عدة شواهد‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -1‬تغيير المنكر بمرتبة أدنى من مراتب التغيير المذكورة يف حديث أبي‬
‫قادرا على اإلنكار باليد‪،‬‬
‫سعيد مع القدرة على التغيير بمرتبة أعلى‪ ،‬كأن يكون ً‬
‫قادرا على اإلنكار باللسان فينكر بالقلب‪ ،‬وهذ تقصير‬
‫فينكر باللسان‪ ،‬أو يكون ً‬
‫يف اإلنكار المشروع؛ ألن النبي جعله مرت ًبا على مراتب ثالث بحسب القدرة‪،‬‬
‫فال يرخص يف اإلنكار باألدنى لمن له قدرة على األعلى كما تقدم تقريره ونقل‬
‫كالم العلماء يف ذلك (‪ ،)2‬ومن ذلك قول النووي‪« :‬أما صفة النهي عن المنكر‬
‫ومراتبه‪ ،‬فضابطه قوله ﷺ‪« :‬فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه» فعليه أن يغير‬
‫بكل وجه أمكنه‪ ،‬وال يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد‪ ،‬وال تكفي كراهة‬
‫القلب لمن قدر على النهي باللسان»(‪.)3‬‬
‫وقول ابن النحاس يف التعليق على حديث أبي سعيد‪ :‬فيه أن من أنكر بلسانه‬
‫مع إمكان إنكاره باليد ال يسقط عنه اإلثم‪ ،‬وإنما يسقط عنه اإلثم إذا لم يستطع‬
‫اإلنكار باليد‪.‬‬

‫(‪ )1‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر (ص‪.)51-50 :‬‬


‫(‪ )2‬انظر ص (‪.)46 ،45‬‬
‫(‪ )3‬روضة الطالبين (‪.)220 /10‬‬
‫‪81‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫وفيه أنه ال يقتصر على اإلنكار بالقلب إال عند عدم االستطاعة لإلنكار باليد‬
‫واللسان ليسقط عنه اإلثم (‪.)1‬‬
‫‪ -2‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع التقصير يف اآلداب التي ينبغي أن‬
‫يتحلى هبا المحتسب من الرفق واللين‪ ،‬وهذا مما يؤثر يف عدم استجابة‬
‫المخالف‪ ،‬بل قد يؤدي إلى تنفيره وعناده وإعراضه عن الحق‪.‬‬
‫ففي صحيح البخاري من حديث عائشة ڤ‪ :‬أن يهود أتوا النبي ﷺ‬
‫فقالوا‪ :‬السام عليكم‪ ،‬فقالت عائشة‪ :‬عليكم‪ ،‬ولعنكم اهلل‪ ،‬وغضب اهلل عليكم‪.‬‬
‫مهال يا عائشة‪ ،‬عليك بالرفق‪ ،‬وإياك والعنف والفح »‪ .‬قالت‪ :‬أولم‬
‫قال‪ً « :‬‬
‫تسمع ما قالوا؟ قال‪« :‬أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم‪ ،‬فيستجاب لي فيهم‪،‬‬
‫وال يستجاب لهم يف»(‪.)2‬‬
‫مهال يا عائشة‪ ،‬إن اهَّلل يحب الرفق يف األمر‬
‫ويف رواية‪ :‬فقال النبي ﷺ‪ً « :‬‬
‫كله»(‪.)3‬‬
‫فأنكر النبي ﷺ على اليهود ورد عليهم قولهم برفق‪ ،‬وأمر زوجه ِ‬
‫وح َّبه يف‬
‫مقام االنتصار له والغضب يف اهلل بالرفق‪ ،‬وهناها عن العنف والفحش مع اليهود‪،‬‬
‫فكيف بغيرهم من عصاة المسلمين‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين (ص‪.)26 :‬‬


‫(‪ )2‬صحيح البخاري (‪)12 /8‬ح(‪.)6030‬‬
‫(‪ )3‬صحيح البخاري (‪)84 /8‬ح(‪.)6395‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪82‬‬

‫وقال أحمد بن حنبل ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪« :-‬والناس يحتاجون إلى مداراة‬
‫رجال مباينًا‪ ،‬معلنًا بالفسق والردى‪،‬‬
‫ً‬ ‫ورفق يف األمر بالمعروف بال غلظة‪ ،‬إال‬
‫فيجب عليك هنيه وإعالمه»(‪.)1‬‬
‫وقال أيضا‪« :‬كان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون‬
‫يقولون مهال يرحمكم اهلل» (‪.)2‬‬
‫‪ -3‬مخالفة المحتسب يف نفسه ما يأمر به من المعروف وينهى عنه من‬
‫المنكر؛ فإن هذا من التقصير يف اآلداب التي ينبغي أن يمتثلها المحتسب يف‬
‫نفسه‪ ،‬فإن امتثاله لما يدعو إليه أدعى يف قبول قوله وإرشاده‪ ،‬ولذا قال شعيب‬
‫ڠ لقومه‪﴿ :‬ﯩ ﯪ ﯫﯬ ﯭ ﯮﯯﯰﯱ﴾ [هود‪.]88:‬‬
‫َّاس بِا ْلبِ ِّر‬ ‫وقد عاب اهلل على اليهود مخالفة ذلك‪ ،‬فقال سبحانه‪َ ﴿ :‬أ َت ْأ ُم ُر َ‬
‫ون الن َ‬
‫َو َتن َْس ْو َن ﴾[البقرة‪.]44 :‬‬
‫وقد المهم اهلل على تقصيرهم يف امتثال ما يأمرون به ولم يلمهم على أمرهم‬
‫بالمعروف‪.‬‬
‫قال ابن كثير ‪« :$‬والغرض‪ :‬أن اهلل تعالى ذمهم على هذا الصنيع‪ ،‬ونبههم‬
‫على خطئهم يف حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير وال يفعلونه‪ ،‬وليس‬
‫المراد ذمهم على أمرهم بالرب مع تركهم له»(‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخالل (ص‪.)25 :‬‬


‫(‪ )2‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخالل (ص‪.)25 :‬‬
‫(‪ )3‬تفسير ابن كثير ت سالمة (‪.)247 /1‬‬
‫‪83‬‬ ‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬

‫ولهذا ال ينبغي للمحتسب أن يخالف ما يأمر به‪ ،‬كما ال ينبغي له إن قصر يف‬
‫نفسه أن يحمله هذا على التقصير يف الدعوة واألمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬فإن هذه شبهة أخرى من شبهات المقصرين يف الدعوة‪ ،‬وقد تقدم‬
‫الجواب عنها على وجه التفصيل‪.‬‬

‫‪  ‬‬
‫بيان منهج أهل السنة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‬ ‫‪84‬‬

‫ً‬
‫أوال‪ :‬معنى المعروف والمنكر‪4 ............................................... :‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬ضابط المعروف والمنكر‪6 .............................................. :‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬منزلة األمر بالمعروف والنهي عن المنكر يف الدين‪7..................... :‬‬
‫راب ًعا‪ :‬حكم األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪11 ............................ :‬‬
‫خامسا‪ :‬شروط األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪19 .........................:‬‬
‫ً‬
‫سادسا‪ :‬مراتب إنكار المنكر‪35................................................ :‬‬
‫ً‬
‫ساب ًعا‪ :‬شبه تتعلق باألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪50 ......................:‬‬
‫ثامنًا‪ :‬مظاهر االنحراف يف األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪72.............. .‬‬
‫الفهرس ‪84 ....................................................................‬‬

You might also like