Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫احلج ‪ ..

‬والتنمية البشرية املستدامة‬


‫نشر في جريدة أخبار الخليج بتاريخ ‪ 25‬يونيو ‪2023‬‬

‫بقلم‪ :‬الدكتور زكريا الخنجي‬

‫ال تخلو كثير من العبادات والشرائع من أداء الحج‪ ،‬وحتى أن علماء الغرب‬
‫اليوم يعترفون بالمنافع الكثيرة لرحلة لحج‪ ،‬ولكن كل على طريقته‬
‫الخاصة‪ ،‬حيث إن الحج عندهم هو مجرد رحلة إلى مكان محدد كل عام أو‬
‫كل عدة أعوام‪ ،‬حتى أن علماء النفس والعديد من األطباء الذين يسهمون‬
‫في عالج المتعافين من المخدرات والمسكرات وينصحون هذه الفئات‬
‫بالذهاب في رحلة يطلق عليها (الحج)‪ ،‬وهي زيارة إلى مناطق معينة من‬
‫األرض من أجل التأمل والهدوء والتشافي وما إلى ذلك‪ ،‬اعتقادًا أن هذه‬
‫الرحلة يمكن أن تعد وسيلة للشفاء من العديد من األمراض‪ ،‬وكذلك فهي‬
‫وسيلة لتعلم فنون الحياة والحفاظ على مستوى الطاقة‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫أنها تعيد توازن الجسم‪ ،‬وتزيد من النشاط العقلي والعاطفي والجنسي‪.‬‬
‫إن كان زيارة األماكن الطبيعية يمكن أن تؤدي إلى ذلك‪ ،‬فكيف بزيارة‬
‫بيت اهلل رب العالمين سبحانه وتعالى ؟‬

‫البرمجة والطاقة اإليجابية‬

‫يستغرب كثير من علماء الغرب الذين قاموا بدراسة السلوكيات التي‬


‫تظهر على حجاج البيت الحرام بكل تلك الطاقة اإليجابية التي يظهرها‬
‫المسلم بعد زيارته واالنتهاء من موسم الحج‪ ،‬إذ وجد علماء البرمجة‬
‫اللغوية العصبية أن أكثر ما ينهك اإلنسان هو كثرة الهموم والمشاكل‬

‫‪1‬‬
‫التي يتعرض لها في حياته‪ ،‬وهذه تعرف (بالطاقة أو الشحنات السلبية)‪،‬‬
‫لذلك ينصحونهم بالقيام بعملية تفريغ لهذه الشحنة حتى يتمكن‬
‫اإلنسان من العيش بصورة أفضل‪ ،‬وعندما بحثوا عن أفضل وسيلة‬
‫لتفريغ تلك الشحنة أشاروا إلى االصطياف والسفر والسياحة‪ ،‬فإن ذلك‬
‫يسهم بصورة كبيرة في تفريغ كل تلك الشحنات والتراكمات السلبية‪،‬‬
‫وأن يستعيدوا نشاطهم وطاقتهم‪.‬‬

‫وفي الحج إلى بيت اهلل الحرام‪ ،‬وعلى الرغم من المشقة والتعب والجهد‬
‫والصعوبات‪ ،‬إال أن المسلم عندما يفرغ من المناسك يرجو من اهلل‬
‫سبحانه وتعالى أن يعيده مرة أخرى ألداء كل تلك المناسك‪ ،‬وأن يعيده‬
‫إلى هذا المكان مرات ومرات‪ ،‬فهل سألنا أنفسنا لماذا هذا الشعور ؟‬

‫يقول بعض العلماء ألن الحج إلى بيت اهلل الحرام‪ ،‬باإلضافة إلى أنها‬
‫عبادة مفروضة من اهلل تعالى‪ ،‬إال أنها تعيد توازن النفس البشرية‪ .‬ففي‬
‫هذه الرحلة التي ال تتجاوز أسبوعًا من عمر زمن الحياة‪ ،‬إال أنها تسهم‬
‫بصورة مذهلة في تفريغ كل الشحنات والطاقات السلبية‪ ،‬ليس ذلك‬
‫فحسب وإنما تعيد تعبئة النفس البشرية بالطاقة والشحنات‬
‫اإليجابية‪ ،‬حتى تفيض النفس بذلك‪ .‬وتعيد برمجة النفس البشرية‬
‫ويزيد من النشاط العصبي للدماغ ويزيد من إفراز بعض المواد‬
‫الكيميائية مما يسهم بصورة كبيرة في إعادة التوازن‪ ،‬كل هذا بسبب‬
‫إداء رياضة التأمل‪ ،‬فأنت تتأمل وأنت جالس في صحن الحرم‪ ،‬تتأمل‬
‫تلك الكعبة المشرفة‪ ،‬تتأمل أفواج الحجيج الذين يطوفون بالحرم‪ ،‬تتأمل‬
‫البشر وهم يقفون في عرفة‪ ،‬كل ذلك يحدث أمام ناظرك‪ ،‬وتحدث كل‬

‫‪2‬‬
‫تلك األمور بتنظيم فائق القدرة‪ ،‬تحدث كلها في وقت واحد وفي زمان‬
‫واحد‪ ،‬والجميع يسير بطريقة واحدة وبمنهجية واحدة‪.‬‬

‫ومن األساليب التي وجدنا أنها يمكن أن تعيد التوزان في النفس‬


‫البشرية ومن خالل البرمجة العصبية والتي تتجلى في موسم الحج‪ ،‬ما‬
‫يأتي‪:‬‬

‫‪ .1‬المحيط اإليجابي‪ :‬عندما يكون المحيط والمجتمع كله منشغالً‬


‫بالتغيير واإليجابية فإنك حتمًا ستتأثر به‪ ،‬ففي موسم الحج وفي‬
‫مكة المكرمة يمكننا أن نشاهد‪ ،‬وفي الحقيقة أن نستشعر تفاعل‬
‫الجميع مع األجواء المحيطة برغبة ذاتية في التغيير‪ ،‬دون إجبار أو‬
‫ضغوط خارجية‪ ،‬بل تجد األفراد يمارسون الصالة والدعاء وبقية‬
‫العبادات طواعية ومن غير إكراه‪ ،‬بل بكل خشوع‪ ،‬كل ذلك من أجل‬
‫الطاعة وااللتزام‪ ،‬فمن أمرهم بذلك ؟ وكيف إنصاع الجميع ؟ وهذا‬
‫يعني أن أجواء مناسك الحج تؤسس لنمط اجتماعي إيجابي‪،‬‬
‫ينعكس على جميع أفراد المجتمع‪ ،‬ألنها تبدأ بهذه الفئة التي‬
‫قدمت إلى هذا المكان وبالتالي فإنه ينبغي أن تذهب معهم إلى‬
‫أوطانهم فيعيدوا بناء النفس‪.‬‬
‫‪ .2‬دورة قصيرة إلعادة النشاط والفاعلية والتفاعلية‪ :‬فئة من البشر‬
‫يشعرون أنه لو كان موسم الحج أطول من هذا لكان أفضل‪ ،‬وذلك‬
‫بسبب رغبتهم في االستزادة من هذه الطاقة الروحانية اإليجابية‬
‫التي يشعرون بها‪ .‬إال أنه يجب أن يكون مفهومًا أن الحج دورة‬
‫قصيرة جدًا ومجهدة جدًا‪ ،‬وممتعة جدًا‪ ،‬إنها أيام فقط لذلك ال‬
‫وقت فيها للعب والخمول والنوم والكسل‪ ،‬إنه وقت قصير‪ ،‬ولكن‬
‫العمل فيه إنجازات عظيمة وال تأتي إال بالهمم العالية والنشاط‬
‫‪3‬‬
‫والحيوية‪ .‬إنها دورة قصيرة جدًا‪ ،‬بأهداف محددة‪ ،‬ومخرجات‬
‫واضحة‪ ،‬ومنهج وبرنامج ريادي معلوم‪ ،‬تحوي محاورها أنشطة‬
‫وأفكار وتمارين تهدف كلها إلى جهة واحدة ال تحيد ولم تحد منذ‬
‫أن شرع اهلل سبحانه وتعالى الحج إلى بيت اهلل الحرام حتى اليوم‪.‬‬
‫الحج دورة قصيرة وأيام معدودة إال أن فوائدها الروحانية‬
‫واإليجابية كبيرة جدًا‪.‬‬
‫‪ .3‬التواصل مع اآلخرين‪ :‬في موسم الحج نلتقي بجميع سكان األرض‪،‬‬
‫وبجميع البشر مهما كانت لغاتهم والوانهم وأصولهم ودرجة‬
‫ثرائهم‪ ،‬نلتقي ببشر ال يعرفون العربية ولم ينطقونها‪ ،‬نلتقي‬
‫ببشر ألوانهم ال تقارب ألوان بشرتنا‪ ،‬نلتقي ببشر أتوا إلى هذه‬
‫األرض المباركة وهم ال يملكون من حطام الدنيا إال المبلغ الذي‬
‫قاموا بتوفيره من أجل الوصول إلى هذه األرض‪ ،‬ومن أجل طلب رضا‬
‫اهلل سبحانه وتعالى‪ .‬عندما تجلس في الحرم وتصلى وعندما‬
‫تلتفت عن يمينك تشاهد وترى أن هذا اإلنسان أتى من الشرق‬
‫والذي على يسارك أتى من الغرب‪ ،‬فال فواصل وال طبقات‪ ،‬وال أثرياء‬
‫وال فقراء‪ ،‬فتجلس مع هذا وتتحدث وتجلس مع ذلك فتتحدث‪ ،‬بكل‬
‫أريحية ومن غير أي ضغائن‪ ،‬يجمعكم رب واحد ودين واحد‪ ،‬وفكر‬
‫واحد‪ .‬هذا التواصل وهذا االتصال هو محور أساسي لهذا الدين‪،‬‬
‫فلكل سواء أمام الخالق جل وعال‪ .‬فقد ترك اإلنسان مفتاح مكتبه‬
‫في وطنه وأتى إلى هنا من غير واجبات المسؤولية ومن غير مكتب‬
‫فخم وحشم وخدم‪ ،‬أنت وحدك أمام اهلل وأمام كل هؤالء البشر‪،‬‬
‫ترى كيف سيكون شعورك‪ ،‬فإما أن تسهم كل هذه العوامل وهذه‬
‫البيئة اإليجابية في الحفاظ على مستويات الطاقة لديك مرتفعة‪،‬‬

‫‪4‬‬
‫وتقوم بتكوين روابط وعالقات جديدة بينك وبين بقية البشر‪ ،‬وإما‬
‫أن تعود إلى ما كنت عليه‪ ،‬فالقرار لك وحدك‪.‬‬
‫‪ .4‬ممارسة الرياضة الخفيفة‪ :‬في دراسة لجامعة هارفارد األمريكية‬
‫أثبت الباحثون أن المشي بسرعة معتدلة‪ ،‬بحدود ‪ 5 – 4‬كيلو متر في‬
‫الساعة‪ ،‬يؤدي إلى تخفيض اإلصابة بأمراض القلب بنسبة ‪ %40‬عند‬
‫النساء والرجال على حد سواء‪ .‬وأكدت الدراسة أن المشي يحسن‬
‫التنفس عند اإلنسان‪ ،‬ويعزز نظام المناعة‪ ،‬ويقضي على الكآبة‪،‬‬
‫ويساعد على الوقاية من نخر العظام‪ ،‬ويساعد على التخفيف من‬
‫مرض السكر‪ ،‬كما يساعد على السيطرة على الوزن الزائد‪ .‬حتى إن‬
‫العلماء بأمريكا بدأوا ينصحون الناس بالمشي بدالً من استخدام‬
‫السيارات ألن نسبة الناس ذوي الوزن الزائد تجاوزت ‪ ،%40‬ويؤكدون‬
‫أن الوزن الزائد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأمراض القلب ومرض السكر‪،‬‬
‫ويؤكد التقرير الصادر عن مركز السيطرة على األمراض بأن أفضل‬
‫أسلوب لحياة األمريكيين هو المشي‪.‬‬
‫ويمكن أن نالحظ أن المشي أمر أساسي في موسم الحج‪ ،‬فنحن‬
‫نطوف حول الكعبة ونسعى بين الصفا والمروة مشيًا على األقدام‪،‬‬
‫علمًا أن طول الشوط الواحد للطائف المحاذي للكعبة تمامًا ‪ 70‬مترًا‪،‬‬
‫وذلك يعني أن أطوال األشواط السبعة مجتمعة تبلغ نحو نصف‬
‫كيلو متر أي ‪ 490‬مترًا‪ ،‬وإن كانت دورة الطائف حول الكعبة أكثر بُعدًا‬
‫عنها بسبب الزحام فإن طول الشوط يزداد شيئًا فشيئًا‪ ،‬حتى‬
‫يصل إذا ما حاذى الطائف الرواق إلى نحو ‪ 200‬متر للشوط الواحد‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫أما المسافة بين الصفا والمروة فإن يبلغ حوالي ‪ 400‬متر للشوط‬
‫والواحد‪ ،‬لذلك فإن المسافة التي يقطعها الحاج بين الصفا والمروة‬
‫تبلغ كلها حوالي ‪ 3‬كيلو متر‪.‬‬
‫‪ .5‬التطلع لبناء إنسان جديد‪ :‬من يرغب في بناء نفسه وترك كل‬
‫العادات السلبية التي يستشعر أنها سلبية يمكنه ذلك من خالل‬
‫هذا التوجه اإليجابي لدورة حج بيت اهلل الحرام‪ ،‬فأنت إنسان حر‪،‬‬
‫يمكنك التوجه إلى اإليجابية بكل ما ترغب ويمكنك أن تركن‬
‫وتبقى في السلبية‪ ،‬فال يجبرك أحد على شيء‪ ،‬فالحج وما يجري في‬
‫هذا الموسم عالقة خفية بينك وبين خالقك ال يعرف أحد ماذا‬
‫تفعل في الخفاء‪ ،‬فيمكن أن تدعي أنك تعبد وتدعو اهلل ولكنك في‬
‫الخفاء ال شيء‪ ،‬إنها عالقة بينك وبين اهلل‪ ،‬وهنا نرتقي باإلنسان‬
‫إلى مرتبة اإلحسان "أعبد اهلل كأنك تراه"‪ ،‬فإن لم تبلغ مرتبة‬
‫الحساسية والشفافية والشعور إلى هذه المرتبة فأعلم "فإن لم‬
‫تكن تراه فإنه يراك"‪.‬‬
‫فعندما يبلغ اإلنسان مرتبة اإلحسان‪ ،‬فإن كل أعماله تتغير‪،‬‬
‫فيصبح إنسانًا جديدًا‪ ،‬يتعامل مع كل المعطيات وكل العالقات‬
‫البشرية واألخالقية بهذه الشفافية‪ ،‬عندئذ تتغير حياته طوال‬
‫السنة وبطريقة مستدامة‪.‬‬
‫‪ .6‬توافق مع نظام الكون‪ :‬كل شيء في هذا الكون يدور ويطوف حول‬
‫مركز محدد‪ ،‬فاإللكترونات في الذرة تدور حول النواة‪ ،‬والكواكب‬
‫تدور حول الشمس‪ ،‬والنجوم في المجرة تدور حول مركز المجرة‪،‬‬
‫والمجرة تدور حول مركز لتجمع المجرات وهكذا‪ ،‬فلو تأملنا هذه‬
‫الدورات نالحظ أنها – غالبًا – تتم من اليسار إلى اليمين‪ ،‬وسبحان‬

‫‪6‬‬
‫اهلل لو تأملنا حركة الحجاج حول الكعبة نالحظ أنها تتم بنفس‬
‫االتجاه أي من اليسار إلى اليمين‪ ،‬وكأننا عندما نطوف حول بيت اهلل‬
‫إنما نتناغم مع حركة الكون كله‪ ،‬فكل شيء يسبح بحمد اهلل‬
‫ويمتثل أمره ونحن في طوافنا نسبح بحمد اهلل ونمتثل أوامره‪،‬‬
‫وهذا يعلمنا الصبر والخضوع هلل تعالى ويعلمنا التواضع أيضًا‪.‬‬

‫وعلى الرغم من بعض المنغصات من سلوك بعض الحجاج‪ ،‬فإن موسم‬


‫الحج يعتبر موسمًا عظيمًا‪ ،‬وإعادة الطاقة والتوزان اإليجابي للنفس‬
‫البشرية‪ ،‬باإلضافة إلى أنه عبادة رائعة‪.‬‬

‫‪7‬‬

You might also like