Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 94

‫قررت وزارة الرتبية والتعليم تدريس‬

‫هذ ا ا لكتـا ب و طبعه عىل نفقـتها‬

‫البالغة والنقد‬
‫لل�صف الثاين الثانوي‬
‫الف�صل الدرا�سي الثاين‬

‫طبعة ‪1428‬هـ ــ ‪1429‬هـ‬


‫‪٢٠٠7‬م ــ ‪٢٠٠8‬م‬
‫ح وزارة الرتبية والتعليم ‪1416 ،‬‬
‫فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر‬
‫ ‬
‫السعودية‪ ،‬وزارة التربية والتعليم‬
‫البالغة والنقد ‪ :‬للصف الثاني الثانوي ــ الفصل الدراسي الثاني ــ الرياض‪.‬‬
‫‪ 94‬ص ـ ‪ 23 * 21‬سم‬
‫ردمك ‪ ٠‬ــ ‪ 417‬ــ ‪ 09‬ــ ‪ ( 9960‬مجموعة )‬
‫‪ 2‬ــ ‪ 416‬ــ ‪ 09‬ــ ‪( 9960‬ج‪)2‬‬
‫‪ 1‬ـ البالغة العربية ـ كتب دراسية‬
‫‪ 2‬ـ األدب العربي ــ نقد ــ كتب دراسية‬
‫‪ 3‬ــ السعودية ــ التعليم الثانوي ــ كتب دراسية ‪ .‬أ ‪ -‬العنوان‬
‫‪16/2410‬‬ ‫ديوي ‪414 ، 0712‬‬

‫رقم اإليداع ‪2410/16 :‬‬


‫ردمك ‪( 99600-417-09- :‬جمموعة)‬
‫‪2‬ــ ‪ 416‬ــ ‪ 09‬ــ ‪( 9960‬ج‪)2‬‬

‫مهمة وفائدة كبرية فحافظي عليه‬


‫لهذا الكتاب قيمة ّ‬
‫واجعلي نظافته ت�شهد على ح�سن �سلوكك معه ‪...‬‬

‫�إذا مل حتتفظي بهذا الكتاب فـي مكتبتك اخلا�صة فـي �آخر‬


‫العــام لال�ستفادة فاجعلي مكتبة مدر�ستك حتتفظ به‪...‬‬

‫موقع الوزارة‬
‫‪www.moe.gov.sa‬‬
‫حقوق الطبع والنرش حمفوظة‬
‫موقع الإدارة العامة للمناهج‬
‫‪www.moe.gov.sa/curriculum/index.htm‬‬
‫لوزارة الرتبية والتعليم‬
‫الربيد الإلكرتوين للإدارة العامة للمناهج‬
‫باململكة العربية السعودية‬
‫‪curriculum@moe.gov.sa‬‬
‫مـقــدمة‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم عىل سيد املرسلني‪ ،‬حممد بن عبد اهلل‪،‬‬
‫املبعوث رمحة للعاملني ‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فهذا هو كتابنا الثاين يف النقد والبالغة‪ ،‬نضعه بني َأيدي املدرسات‬
‫والطالبات‪ ،‬بعد َأن وضح للطالبة مفهوم البالغة‪ ،‬وحصلت عد ًدا من أهم مسائلها‬
‫يف كتابنا األول‪ .‬وهبذا الكتاب الثاين يتم منهاج البالغة وتبد ُأ الطالبة يف التعرف‬
‫إىل النقد‪ .‬وقد حرصنا عىل أن نوضح هلا العالقة بينهام وعرفناها بأهم معامل تاريخ‬
‫البالغة والنقد يف ثقافتنا العربية‪ ،‬واخرتنا هلا عد ًدا من النصوص التي متثل نش َأهتام‬
‫وتطورمها ‪ .‬وذيلنا كل نص بأسئلة تساعد الطالبة عىل استيعابه وإدراك دالالته ‪.‬‬
‫وراعينا يف هذا الكتاب ـ كام راعينا يف سابقه ـ أن نتخري أجود ما يف تراثنا احلافل‬
‫بالدراسات البالغية والنقدية‪ ،‬وأن نعرض هذا الذي اخرتناه يف معرض حيبب إىل‬
‫الطالبة هذا الفرع من فروع اللغة العربية ويشجعها عىل االستزادة منه‪ .‬فالبالغة‬
‫والنقد يصقالن ملكة األَدب‪ ،‬وهييئان الناشئة لتذوق الشعر الرائع والنثر املحكم‪،‬‬
‫ويمهدان هلا سبيل القول والكتابة إِن َأرادت َأن تتكلم فتصيب‪ ،‬و َأن تكتب فتبلغ‬
‫بقلمها حاجة نفسها ‪.‬‬
‫بأخ ِيه‪ ،‬إنه سميع جميب الدعاء ‪.‬‬
‫واهلل نس َأل أن ينفع هبذا الكتاب كام نفع ِ‬

‫امل�ؤلفون‬

‫‬
‫رابـعــ ًا ‪:‬‬
‫فـي علـم البديع‬
‫مقــدمــــة‬
‫عرفت في العام الماضي َأن من َأقسام البالغة «علم البديع»‪ ،‬وموضوعه معرفة‬ ‫ِ‬
‫الطرق التي يستخدمها الشاعر َأو الناثر للتنسيق بين َأ ِ‬
‫جزاء البيت‪َ ،‬أو الجملة‪َ ،‬أو الفقرة‪،‬‬
‫ِ‬
‫وعرفت َأن‬ ‫سواء َأكان هذا التنسيق راج ًعا إلى َأصوات الحروف أم إِلى معاني األَلفاظ‪،‬‬
‫هذا التنسيق يعتمد على مبد َأين ‪ :‬مبدأ التشابه‪ ،‬أو التماثل (كما في السجع والجناس)‪،‬‬
‫ومبد َأ التباين‪ ،‬أو التضاد ( كما في الطباق والمقابلة ) ‪.‬‬

‫ومن الجمع بين هذين المبدأين (التماثل من ناحية‪ ،‬والتباين من ناحية ُأخرى)‬
‫تنش ُأ َأساليب بالغية طريفة‪ ،‬تبعث في نفس القارئ أو السامع َألوان ًا من الدهشة السارة؛‬
‫ألنها تفاجئه بما لم يكن يتوقعه‪ ،‬إِذ يجد التباين حيث كان يتوقع التماثل‪ ،‬أو العكس‪.‬‬
‫ِ‬
‫عرفته في العام الماضي‪ ،‬ففي التوريـة‬ ‫فمن النوع األَول ُأسلوب التوريـة الذي‬
‫يفاج ُأ القارئ َأو المستمع ب َأن للكلمة معنى خفي ًا غير المعنى القريب الذي يتبادر‬
‫أيضا َأسـاليب ثالثة سـتعرفينها هذا العـام وهي‬
‫من سياق الكالم‪ .‬ومن هذا النوع ً‬
‫«االقتباس» و«حسـن التعليـل» و«األُسلوب الحكيم» ‪.‬‬

‫ومن النوع الثاني‪َ ،‬أي وجود التماثل حيث يتوقع التباين ‪ُ :‬أسلوب رابع سوف‬
‫نحدثك عنه بعد األساليب الثالثة السابقة‪ ،‬ويسميه البالغيون « ت ْأكيد المدح بما يشبه‬
‫الذم» أو«االستثناء» ‪.‬‬

‫‬
‫االقتبــــــا�س‬

‫منـــــاذج ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قال َأحد شعراء األَندلس يصف ناقـة ‪:‬‬


‫ِ‬
‫النون‬ ‫ِ‬
‫كحرف‬ ‫ج��اء ْت‬ ‫�ُّس�ى‬ ‫كمثل الص ِ‬
‫اد إِلاّ َأهنا‬ ‫ِ‬
‫بعد ال رُّ َ‬
‫ح��رف (‪)١‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ْ ٌ‬
‫���ق حتى ع��اد كالعر ِ‬
‫جون‬ ‫يف األُ ْف ِ‬ ‫إلل��� ُه َم ِ‬
‫نازلاً‬ ‫ك��ال��ب��د ِر َق َّ‬
‫����د َر ُه ا ِ‬ ‫ْ‬
‫ُْ‬ ‫َ‬
‫‪ 2‬ـ وللقايض الفاضل (أ) يتغزل ‪:‬‬
‫ال��دع��اء ؟‬ ‫الص َّم‬ ‫ِ‬ ‫����وش َأ ْن ُي��ق��ال هل��ا ِعتايب‬ ‫يِ‬
‫َ‬ ‫وم�� ْن ذا ُي ْسم ُع ُّ‬ ‫َ‬ ‫وح‬
‫ُ‬
‫اذر (ب) ‪:‬‬ ‫‪ 3‬ـ والبن منَ ِ‬
‫ُ‬
‫ب ال َق ْل َبينْ ِ‬
‫ك��ت��ق��ار ِ‬
‫ُ‬ ‫ـ��م��ى وال‬
‫َ‬ ‫يب و ُت ْك َف ُر النُّ ْعـ‬ ‫الر ِح ُم ِ‬
‫القر ُ‬ ‫قد ُت ْق َط ُع َّ‬
‫���رى َن ْف َسينْ ِ‬ ‫ه��م َن�� ْف ٌ‬
‫��س َت َ‬ ‫ُ‬ ‫ف���إذا‬ ‫��دنيِ اهل��وى هذا و ُي��دين ذا اهلوى‬ ‫ُي ْ‬
‫إلفرنج ‪:‬‬ ‫‪ 4‬ـ وكتب القايض الفاضل وقد ذكر ا ِ‬
‫جعله ُم اهللُ هلا حط ًبا » ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫للحرب‬ ‫نارا‬‫« وغضبوا زا َد ُه ُم اهللُ غض ًبا‪ ،‬و َأ ْوقدوا ً‬
‫احلريري يف املقامة الدمياطية ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫‪ 5‬ـ وكتب‬
‫قلت ألصحايب ‪:‬‬ ‫طامر (‪ُ ، )٢‬‬ ‫الشمس يف األَ ِ‬ ‫ِ‬
‫والحت‬ ‫ِ‬
‫االنتظار‪،‬‬ ‫مد‬‫طال َأ ُ‬
‫« فلام َ‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫الرجل قد َ‬
‫مان (‪ )3‬فتأهبـوا‬ ‫وبان َأ َّن‬
‫الزمان‪َ ،‬‬
‫َ‬ ‫الرحلة‪ ،‬إىل َأ ْن َأض ْعنَا‬‫قد تناه ْينا يف ا ُمل ْهلة‪ ،‬ومتاد ْينا يف ْ‬
‫الدمن » ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫خرضاء ِّ‬ ‫لل َّظ ِ‬
‫عن (‪ ، )4‬وال َت ْل ُووا عىل‬

‫ىَّ‬
‫املتوف سنة ‪596‬هـ) أشهر الكتاب املتأخرين ‪ ،‬عرف بإكثاره من السجع واالقتباس‪ ،‬وزير لصالح الدين‬ ‫( أ ) عبد الرحيم بن عيل البيساين (‬
‫األيويب ‪ .‬وله ديوان شعر ‪.‬‬
‫(ب) شاعر عبايس‪ ،‬اتصل بالربامكة ومدحهم‪ ،‬تويف سنة ‪198‬هـ ‪ ،‬أي أنه كان معارص ًا أليب نواس ولكنه مل يشتهر كشهرة أيب نواس ‪.‬‬
‫(‪ )١‬احلرف من حروف اهلجاء معروف‪ ،‬وتكون «احلروف» أيضا بمعنى الناقة الصلبة الضامرة ‪.‬‬
‫(‪ )٤‬الرحلة‪.‬‬ ‫كذب ‪.‬‬
‫(‪َ )٣‬‬ ‫(‪ )٢‬الثياب البالية ‪.‬‬

‫‬
‫نظـرة حتـلـيـلـية ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ تالحظني يف النامذج السـابقة َأن النامذج الثالثة األُوىل شـعرية ‪ ،‬والنموذجـني األَخريين نثريان‪،‬‬
‫ولكن النامذج اخلمسـة متفقة يف َأهنا تتضمن كلامت من القرآن الكريم أو احلديث الشـريف‪ ،‬فالبـيت‬
‫الثاين من النمـوذج األول يتضـمن ـ مع تغـيري يسـري دعت إليه ضـرورة الوزن ـ اآلية الكريمـة‪:‬‬
‫﴾ (‪ )1‬والنموذج الثاين يتضمن كلامت من اآلية الكريمة ‪:‬‬ ‫﴿‬
‫﴾ (‪. )2‬‬ ‫﴿‬
‫مروي عن ابن عباس ريض اهلل عنهام‪َ ،‬أن‬
‫ٍّ‬ ‫والبيت األَول من النموذج الثالث م ُأخوذ من حديث‬
‫النبي صىل اهلل عليه وسلم قال ‪ « :‬إن الرحم ُت ْق َطع‪ ،‬وإِن النِّ َع َم ُت ْك َفر ولن ترى مثل تقارب القلوب » أما‬
‫النموذج الرابع فقد تضمن كلامت من قوله تعاىل يف ذكر اليهود ‪:‬‬
‫﴾ (‪. )3‬‬ ‫﴿‬
‫الدمن» واملراد بخرضاء‬ ‫وخرضاء ِّ‬
‫َ‬ ‫وتضمن النموذج اخلامس كلمتني من احلديث الرشيف ‪ « :‬إِياكم‬
‫ِ‬
‫سوء املخرب مع‬ ‫احلسناء يف املنبت السوء‪َ .‬أما يف كالم احلريري فاملراد هبا ُ‬
‫ُ‬ ‫الدمن يف احلديث الرشيف ‪ :‬املر َأة‬
‫حسن املنظر مطل ًقا‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ والقرآن الكريم هو كالم اهلل املعجز الذي ال ي ْأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه‪ ،‬وال يسمو إليه‬
‫يشء من كالم البرش‪ ،‬وحديث الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ هو النمط األَعىل من‬ ‫وال إىل قريب منه ٌ‬
‫واهلذ ِر‪ ،‬و ُأويت‬
‫َ‬ ‫الكالم بعد القرآن‪ ،‬فقد كان الرسول صلوات اهلل عليه َأفصح العرب‪ ،‬وقد ُن ِّزه عن اخلَ َط ِل‬
‫املطهرة بالدرس‪،‬‬
‫َّ‬ ‫جوامع الكلم‪ ،‬وما زال املسلمون منذ نزل الوحي يتعاهدون القرآن الكريم والسنة‬
‫وجياهدون ليتمثلوا هبام يف القول والعمل‪ ،‬فإذا ورد يشء منهام ُم َض َّمنًا يف شعر َأو نثر كان اجلوهر الكريم‬
‫رصع به حلية من ذهب أو فضة‪ ،‬فهو منا وليس منها‪ ،‬وهو يضفي عليها شي ًئا من روعته‪ ،‬ولكنه يظل‬ ‫ُت َّ‬
‫متم ِّي ًزا عنها‪ ،‬مباينًا هلا يف احلسن ‪.‬‬
‫(‪ )1‬اآلية ‪ 39‬من سورة يس ‪.‬‬
‫(‪ )2‬اآلية ‪ 80‬من سورة النمل ‪.‬‬
‫(‪ )3‬اآلية ‪ 64‬من سورة املائدة ‪.‬‬

‫‬
‫صدر الشاعر أو الناثر كالم القرآن َأو احلديث بام يشري إىل‬ ‫‪ 3‬ـ ورشط االقتباس َأو التضمني َأال ُي ِّ‬
‫مصدرمها ك َأن يقول ‪« :‬قال اهلل تعاىل »‪ ،‬أو « قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم » ‪ .‬فمثل هذا األُسلوب‪،‬‬
‫البلغاء عىل سبيل االستشهاد َأو االستدالل ‪ ،‬خارج عن صنعة البديع التي تقوم ـ‬ ‫ِ‬ ‫كثريا يف كالم‬
‫وإن وقع ً‬
‫كام سبق َأن عرفت ـ عىل إِحداث نوع من اخلالبة باجلمع بني األَشياء املتشاهبة َأو املتباينة‪ ،‬وهذا ما نالحظه‬
‫يف النامذج السابقة عىل اختالفها‪ .‬فورود َألفاظ القرآن أو احلديث يف شعر َأو نثر ـ دون فاصل ـ حيدث‬
‫للقارئ نو ًعا من املفاج َأة اللطيفة‪ ،‬ألَنه َي ْع ِرف مصدر هذه األلفاظ الرشيفة‪ ،‬ويعرف َأهنا من معدن غري‬
‫معدن الكالم السابق‪ ،‬وإن الت َأما يف نسق واحد ‪.‬‬
‫ِ‬
‫الشعراء والكتاب حيافظون عىل املعنى األَصيل ل َّلفظ املقتبس‪ ،‬كام يف النامذج ‪ :‬األَول‬ ‫‪ 4‬ـ وترين بعض‬
‫والثالث والرابع‪ ،‬وبعضهم ينقلونه إىل معنى آخر كام فعل القايض الفاضل يف النموذج الثاين‪ ،‬حيث نقل‬
‫املعنى من صفة الكفار الذين ال يستمعون لصوت احلق‪ ،‬إىل صفة املحبوبة التي ال تصغي لعتاب احلبيب‪.‬‬
‫وكذلك فعل احلريري يف النص اخلامس‪ ،‬حيث نقل عبارة احلديث الرشيف « خرضاء الدمن» عن معناها‬
‫اخلاص إِىل معنى َأعم ‪.‬‬
‫ومما سبق يتبني لك ‪:‬‬
‫أن االقتباس هو تضمني ألفاظ من القرآن الكريم أو احلديث الرشيف‪ ،‬ويكون فـي الشعر كام يكون‬
‫فـي النثر‪ ،‬وجيوز أن حيتفظ فيه الشاعر أو الناثر بمعنى النص القرآين أو النبوي‪ ،‬كام جيوز أن ينقله إىل‬
‫معنى آخر‪ ،‬وفـي مجيع هذه األحوال جيوز للشاعر أو الناثر أن يغري فـي األلفاظ املقت َبسة تغيري ًا يسري ًا‪.‬‬
‫يعد االقتباس فنًا من فنون البديع‪ ،‬ألن ألفاظ القرآن الكريم‪ ،‬أو احلديث الرشيف تتميز من بني‬
‫ألفاظ الشاعر‪ ،‬أو الناثر بمزيد من احلسن‪ ،‬وإن التأمت معها فـي معنى واحد ‪.‬‬
‫مالحظـــات ‪:‬‬

‫يضمن الشاعر نظمه شي ًئا من نظم‬


‫‪ 1‬ـ خصص البالغيون اسم « التضمني » بنوع بالغي آخر ‪ ،‬وهو أن ِّ‬
‫غريه‪ ،‬مع التنبيه عليه إن مل يكن من األشعار املشهورة‪ ،‬كقول القايض الفاضل يمدح ‪:‬‬
‫بصــالح‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫عليـــك‬ ‫إذا نحـ ُن َأثن ْينــا‬ ‫ـت ُم ْثنِـيـ ًا‬ ‫ِ‬
‫اآلمــال ك َْم ق ْل ُ‬ ‫َأيا صـالح‬

‫‬
‫طرا من بيت أيب نواس ‪:‬‬‫َض َّمن البيت َش ً‬
‫َ‬
‫وفـوق الـذي نثني‬ ‫ف َأ ْن َ‬
‫ـت كام ُنثـني‬ ‫بصـــالح‬
‫ٍ‬ ‫إذا نحـ ُن َأثنينا ع َليــــــك‬
‫وقول ابن عامر (أ) يعتذر إىل الوزير حممد بن القاسم الفهري وقد اجتاز بموطنه ومل ي ِّعرج عليه ‪:‬‬
‫سمعي وال برصي‬ ‫عىل فؤادي وال ْ‬ ‫��ن ِع��ن��اين س��ل��و ٌة خ َط َر ْت‬
‫مل َي�� ْث ِ‬
‫ِ‬
‫معتذ ِر‬ ‫ُ‬
‫ق��ول‬ ‫َ‬
‫ال��ق��ول فيها‬ ‫نيِ‬ ‫عنكم َخ ْجل ٌة س َل َف ْت‬ ‫لكن عدتنِي (‪)١‬‬
‫ك��ف��ا َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ َْ‬
‫ِ (‪)٢‬‬ ‫والعذب جر ل ِ ِ‬ ‫لو اخترص ُت ْم من ا ِ‬
‫إلفراط يف اخلَصرَ‬ ‫ُ يهُ ْ َ‬ ‫كم‬
‫إلحسان زر ُت ُ‬
‫فالبيت األخري من شعر املعري‪ ،‬وقد ن ّبه ابن عامر إىل أنه ُم َض َّم ٌن يف شعره‪ ،‬وذلك بقوله ‪ « :‬كفاين القول‬
‫فيها قول معتذر » ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ويلحق باالقتباس والتضمني فن بديعي ثالث يسمى « التلميح» وهو أن يشري الشاعر أو الناثر إىل‬
‫قصة‪ ،‬أو مثل‪ ،‬أو شعر دون أن يورد ألفاظه‪ ،‬كقول ابن حزم األندليس ‪:‬‬
‫ُ��م َأ ً‬ ‫ِ‬
‫قيم‬
‫ب����دا ُم ُ‬ ‫ف��روح��ي ع��ن��دك ْ‬ ‫�لا بشخيص‬ ‫َل��ئ�� ْن َأ ْ‬
‫صبح ُت ُم��رحت ً‬
‫الكليم‬ ‫ل��ه س���� َأل ا ُمل��ع��اي��نَ�� َة‬ ‫��ط��ي��ف َمعنى‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫للعيان َل‬ ‫ول��ك�� ْن‬
‫ُ‬
‫رب َأ ِرين أن ُظ ْر إليك»‬
‫فقد أشار فيه إىل قول موسى عليه السالم فيام حكى عنه رب العزة ‪ِّ « :‬‬
‫حني ح َل ْل ُت َ‬
‫ساو َة‪،‬‬ ‫آنست من قلبي القساو َة‪َ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الساو ّية ‪« :‬‬ ‫ومن التلميح يف النثر قول احلريري يف املقامة‬
‫ِ‬
‫الرسول صىل اهلل عليه وسل ِم ‪:‬‬ ‫باخلرب امل ْأ ِ‬
‫مور‪ ،‬يف مداواهتا بزيارة القبور » ‪ ،‬فإنه َأشار فيه إىل قول‬ ‫ِ‬ ‫فأخذت‬
‫ُ‬
‫احلديد ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫القلوب تصد ُأ كام يصد ُأ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫إن‬
‫ِ‬
‫القبـور ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫القرآن وزيـار ُة‬ ‫قيل ‪ :‬وما جالؤها ؟ قال ‪ :‬تـالو ُة‬
‫أنك ال تعرفني موضع االقتباس وال التضمني وال التلميح إِال إذا واظبت عىل‬ ‫‪ 3‬ـ وغنّي عن البيان ِ‬
‫قراءة القرآن الكريم واحلديث الرشيف و َأدمنت االطالع عىل كتب األدب ‪.‬‬
‫َ‬

‫(أ) من شعراء األندلس املشهورين يف القرن اخلامس‪ ،‬وزير للمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية‪ ،‬وتويف سنة ‪477‬هـ‪.‬‬
‫(‪ )٢‬الربودة ‪ :‬وهي تستلذ عادة يف الرشاب ‪.‬‬ ‫(‪ )١‬رصفتني‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫منـاذج للدرا�سـة واملناق�شـة‬
‫متيز هبا الطالبة بني االقتباس بأنواعه وبني التضمني والتلميح‬
‫‪ 1‬ـ قال ابن الرومي هيجو ‪:‬‬
‫ـ���ك م��ا َأخ���ط��� ْأ َت ف��ي منعي‬
‫َ‬ ‫َل ِ‬
‫���ئ���ن أخ����ط���� ْأ ُت ف���ي مدحـ‬
‫ِ‬
‫غ����ي����ر ذي زر ِع‬ ‫ٍ‬
‫ب��������واد‬ ‫أن����زل����ت حاجاتي‬
‫ُ‬ ‫ل���ق���د‬
‫ْ‬
‫‪ 2‬ـ وقال بديع الزمان اهلمذاين (أ) يمدح ‪:‬‬
‫واع����ت����ذار َأخيرا‬
‫ٌ‬ ‫ي���د أولاً‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫المكرمات‬ ‫َ‬
‫ف��ري��غ��ون ف��ي‬ ‫ِ‬
‫آلل‬
‫وم��ل��ك�� ًا كبير ًا‬
‫نعيما ُ‬
‫ً‬ ‫ي����ت‬
‫َ‬ ‫ر َأ‬ ‫إذا م��ا َح�� َل�� ْل َ‬
‫��ت بمغنا ُهمو‬
‫‪ 3‬ـ وقال ابن العميد (ب) ‪:‬‬
‫َن‬‫ده��ر ًا فغادرني ف��رد ًا بال َسك ِ‬ ‫كنت َمغبوط ًا بِصحبتِ ِه‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وصاحب‬
‫الح َز ِن‬
‫السرور و َألجاني إلى َ‬‫ِ‬ ‫نحو‬
‫َ‬ ‫ف��ط��ار بها‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫ق��ب��ال‬ ‫ري��ح إِ‬
‫ُ‬ ‫��ت ل��ه‬
‫ه�� َّب ْ‬
‫ِ‬
‫ضروب الشعر َأنشدني ‪:‬‬ ‫ولم ي ُك ْن في‬
‫ْ‬ ‫ك���ان م��ط��وي�� ًا على إِ َح ٍن‬
‫َ‬ ‫ك�� َأن��ه‬
‫ِ‬
‫الخشن »‬ ‫ِ‬
‫المنزل‬ ‫م ْن كان ي ْأل ُف ُه ْم في‬ ‫الكرام إذا ما َأ ْيسروا ذكروا‬ ‫َّ‬
‫«إن‬
‫َ‬
‫‪ 4‬ـ وقال القايض الفاضل ‪:‬‬
‫عدوي ‪ ،‬فال َأشكو إىل ا ُمل ْق ِر ِح ْ‬
‫القرحـا‬ ‫ِّ‬ ‫مس مثـــ ُله‬
‫فقــد َّ‬
‫ْ‬ ‫قـرح‬
‫مسـني ٌ‬‫وإِن َّ‬
‫ِ‬
‫شعراء األَندلس يف مدح الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ‪ :‬ـ‬ ‫حد‬‫‪ 5‬ـ وألَ ِ‬

‫المسك في َجنَّة الخُ ْل ِد‬


‫ِ‬ ‫زكي‬
‫ُّ‬ ‫وفاح‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫عليه م��ا تغنَّ ْت حمام ٌُة‬ ‫س�لام‬
‫ٌ‬
‫نجد متى ِهج َت من ِ‬
‫نجد‬ ‫َأاليا صبا ٍ‬ ‫الصبا‬ ‫ِ‬ ‫المشتاق ْ‬
‫ُ‬
‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫أن ه َّبت َّ‬ ‫أنشد‬
‫َ‬ ‫وما‬
‫( أ ) اشتهر بديع الزمان اهلمذاين بنثره أكثر مما اشتهر بشـعره‪ ،‬وهو مبتــدع فن املقـامة‪ ،‬كان جييد الفارســية كام كـان جيـيد العربية‪ ،‬تويف سـنة ‪398‬هـ ‪.‬‬
‫(ب) وزير آل بويه ‪ ،‬ناثر جميد وشاعر رقيق‪ ،‬تويف سنة ‪ 360‬هـ ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫‪ 6‬ـ وقال احلريري يف إحدى مقاماته ‪:‬‬
‫«قلنا شاهت الوجوه‪ ،‬و ُقبح ال ُّلكَع (‪)١‬‬
‫وم ْن يرجوه » ‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِّ‬ ‫َ ْ‬
‫‪ 7‬ـ وقال ابن نباته اخلطيب (جـ) ‪:‬‬
‫ِ‬
‫السامء‬ ‫صدقون؟ ما لكم ُت ْش ِفقون ؟ (‪َ )٢‬ف َو َر َب‬ ‫ِ‬
‫احلديث ُم ِّ‬ ‫« فيا أهيا ال َغ َفل ُة ِ‬
‫املطرقون‪ ،‬أما َأن ُت ْم هبذا‬
‫ِ‬
‫واألرض إنه لحَ ُّق مثل ما َأنكم تنطقون » ‪.‬‬

‫(‪ )١‬اللئيم ‪.‬‬


‫(جـ) من أشهر اخلطباء الوعاظ يف اللغة العربية اجتمع مع املتنبي يف بالط سيف الدولة وتويف سنة ‪374‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )٢‬ختافون ‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫حـ�ســن التعـلـيــل‬

‫منـــــاذج ‪:‬‬

‫‪1‬ـ قال ابن الرومي ‪:‬‬


‫يولد‬
‫ُ‬ ‫الطفل ساع َة‬‫ِ‬ ‫بكاء‬ ‫ُ‬
‫يكون‬ ‫روفها‬ ‫لما ُت ِ‬
‫��ؤذ ُن الدنيا به م ْن ُص ِ‬
‫ُ‬
‫رغ���د ؟‬
‫ُ‬ ‫لأَ َرح���ب مما ك��ان ِ‬
‫فيه و َأ‬ ‫ِ‬
‫يبكـيه منهـــا وإنهــا‬ ‫وإِلاَّ فمــــا‬
‫َ ُ‬
‫‪ 2‬ـ وللمتنبي من ميم ّيته املشهورة التي قاهلا بمرص حني َأصابته احلُ َّمى ‪:‬‬
‫وداؤك فــي شـــرابِ َك والطعـــا ِم‬ ‫ــت شــيئا‬ ‫الطــبيب َأك ْل َ‬ ‫ـي‬ ‫ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يقـــول ل َ‬
‫الجمــا ِم (‪)١‬‬ ‫طـــول ِ‬
‫ُ‬ ‫سـم ِه‬
‫بج ِ‬ ‫أضـــر ِ‬
‫َّ‬ ‫���ه أن���ي جوا ٌد‬ ‫وم���ا ف���ي طِ���ب ِ‬
‫ِّ‬
‫ويدخــل مـن قتــا ٍم (‪ )٢‬فـي قتــا ِم‬ ‫َ‬ ‫السرايا‬ ‫��ر ف��ي َّ‬ ‫ت��ع��و َد َأن ُي��غَ�� َّب َ‬
‫َّ‬
‫العــــليق وال اللجـــا ِم‬‫ِ‬ ‫هــو فـي‬
‫وال َ‬ ‫طـــال له فـــيرعى‬ ‫ُ‬ ‫ف ُأ ْم ِس َ‬
‫ـــك ‪ :‬ال ُي‬
‫املعر ّي يصف الشمعة ‪:‬‬ ‫‪ 3‬ـ وقال ّ‬
‫الضنْ ِك‬ ‫ِ‬
‫والعيشــة َّ‬ ‫ب األ ّيا ِم‬ ‫على ُن َو ِ‬
‫جـليد ٌة‬
‫َ‬ ‫لون ال ِّتــ ْب ِر مثـــلي‬ ‫وصـفراء ِ‬
‫َ‬
‫وصــبر ًا على ما نابها وهي في الهـ ْلكِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ريــك ابتســـام ًا دائمــ ًا وتجـ ُّلد ًا‬ ‫َ‬ ‫ُت‬
‫الردى َأبـكي‬ ‫ِ‬
‫حــذار َّ‬ ‫تخالون َأني ِم ْن‬ ‫يــوما لقـا َل ْت ‪َ :‬أظنُّـكم‬ ‫ً‬ ‫ولـو نط َق ْ‬
‫ــت‬
‫فـال تحســبوا دمعـي لوج ٍ‬
‫الض ْح ِك‬ ‫حداق من ِ‬
‫كثرة ِّ‬ ‫تدمع األَ ُ‬ ‫ُ‬ ‫فقد‬
‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ـد‬
‫ْ‬ ‫وج‬
‫َ‬ ‫ـد‬ ‫َ ْ‬
‫‪ 4‬ـ والبن رِساج األَندليس يتغزل ‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ذاك ِم ْن داء بـــه َن َ‬
‫ـــزال‬ ‫فقــلت ‪ :‬ما َ‬
‫ُ‬ ‫عابـت محاســنَ ُه‬
‫ْ‬ ‫قالـــوا بــه صفـر ٌة‬
‫فليــس تلقــاه إِال خائفــ ًا َو ِجـــال‬ ‫قتـــلت‬
‫ْ‬ ‫ب مـن ثــ ْأ ٍر بما‬ ‫عينــا ُه ُت ْطـ َل ُ‬

‫(‪ )٢‬غبار ( احلرب)‪.‬‬ ‫(‪ )١‬الراحة ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫شعراء األندلس هينئ بمولود ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ 5‬ـ وألَحد‬
‫الـــدروع لفــائـف ًا‬ ‫ـد لـــه‬ ‫ْ‬
‫أن لـم ُت َع َّ‬ ‫يســتهل (‪ )١‬بكــ ًا ولــكـن م ِ‬
‫ـنـكر ًا‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫مل ْ‬
‫‪ 6‬ـ وقال ظافر احلداد (أ) يمدح امللك األَفضل ‪:‬‬
‫ــح ِ‬
‫ب‬ ‫الس ُ‬
‫ُّ‬
‫َ (‪)٢‬‬
‫البــحر وو ْدق‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خجـل‬ ‫َأ‬ ‫مــاء الـنـيـل مــ ْن ك ِّف َ‬
‫ــك إذ‬ ‫ُ‬ ‫َأيــ َن‬
‫ب‬‫��ل أو َر َه ِ‬
‫��ج ٍ‬‫وق��ف�� ٌة م��ن َخ َ‬ ‫َ‬
‫ك����ان ف���ي ال���ع���ا ِم ل ُه‬ ‫ول���ه���ذا‬
‫ب‬ ‫جــر ٍي ُمغ ِ‬
‫ْــر ِ‬ ‫األر َض َب ْ‬
‫فـا ْنـ َتــحى ْ‬ ‫دى‬ ‫َ‬
‫أي���ادي���ك َن ً‬ ‫ث��م ح��اك��ى م��ن‬
‫نظـرة حتـلـيـلـية ‪:‬‬

‫الشعر فن يعتمد عىل اخليال‪ ،‬ويرتبط بالوجدان‪ ،‬وال يتق َّيد بمنطق العقل َأو قوانني املادة‪ ،‬فربام َ‬
‫جاء‬
‫وسواء أكان هذا أم ذاك فمقياس جودته‬
‫ً‬ ‫جاء خمالف ًا هلا‪،‬‬
‫التعبري الشعري موافق ًا للحقيقة العلمية ‪ ،‬وربام َ‬
‫مر خارج عن موافقة احلقيقة العلمية أو خمالفتها ‪ :‬ذلك املقياس هو صدق تعبريه عن الوجدان ‪.‬‬ ‫َأ ٌ‬
‫ومعلوم أن من أهم ما يشتغل به العلم البحث عن علل األشياء‪َ ،‬أي مس ِّببات وجودها‪ ،‬وبمعرفة هذه‬
‫العلل يتمكن اإلنسان من التحكم يف حالة املادة وتطويعها ألَغراضه العلمية‪ .‬وقد استطاع العلم َأن يكشف‬
‫جيد يف البحث عن علل بعضها اآلخر‪ ،‬ولكنه يف مجيع األحوال ال‬ ‫عن علل بعض الظواهر املادية‪ ،‬وما زال ّ‬
‫يثبت علة من العلل إال إذا تبني من املالحظة العملية أن وجودها يؤدي إىل وجود املعلول‪ ،‬وبذلك يمكن‬
‫استخدام هذه احلقيقة يف التطبيق كام نعرف من دراستنا للعلوم الطبيعية‪ .‬فإذا الحظ العامل الكيميائي مثال‬
‫ظاهرة االختزال فإنه ال يعللها باحتاد َأحد عنرصي املركب بعنرص آخر إال بعد أن جيري جتارب كثرية تثبت‬
‫هذا االحتاد‪ ،‬وم ْن ثم يستطيع أن يستخدم ظاهرة االختزال استخدام ًا عملي ًا يف تنقية املعادن‪.‬‬
‫ولكن البحث عن علل األشياء ليس مقصور ًا عىل التفكري العلمي‪ .‬ذلك أن الربط بني الظواهر يمكن‬
‫َأن يتم عن طريق اخليال ‪ ،‬دون أن يكون هناك ارتباط حقيقي بينها‪ ،‬ولكن الشاعر يبدو مقتنع ًا بوجود هذا‬
‫االرتباط ألَنه يوافِق حالة نفسية معينة يشعر هبا‪ ،‬ومن ثم يبدو املعنى مصوغًا يف شكل تعليل عقيل وإن‬
‫(‪ )٢‬الودق ‪ :‬املطر الغزير ‪.‬‬ ‫(‪ )١‬استهل الصبي ‪ :‬رفع صوته بالبكاء وصاح عند الوالدة ‪.‬‬
‫(أ) شاعر مرصي من شعراء العرص األيويب ‪ ،‬ولد يف االسكندرية ونشأ هبا ثم انتقل إىل القاهرة ومدح أمراءها‪ ،‬تويف سنة ‪529‬هـ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ال َأن الطفل احلديث الوالدة ال يعرف شيئ ًا من أمر الدنيا‪ ،‬وال‬ ‫معتمدا عىل اخليال‪ .‬فمن املعروف مث ً‬
‫ً‬ ‫كان‬
‫ِ‬
‫والعناء‬ ‫ِ‬
‫املولود‬ ‫يتصور املتاعب التي يستقبلها فيها‪ ،‬ولكن ابن الرومي ـ بتشاؤمه املعهود ـ ربط بني ِ‬
‫بكاء‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫جاء لظاهرة بكاء الطفل بعلة تتفق مع نفسيته‬ ‫املرء يف احلياة‪ ،‬وجعل الثاين سبب ًا ل َ‬
‫ألول‪ ،‬أي أنه َ‬ ‫الذي يلقاه ُ‬
‫هو ـ أي نفسية الشاعر ـ وال ش ْأن هلا بالطفل‪ .‬وكذلك نجد املتنبي يف ميميته ُي ْع ِرض عن التعليل العلمي‬
‫الذي يفرس به الطبيب حالته املرضية ويقدم تعليال آخر يبدو أكثر إقنا ًعا له‪ ،‬ألنه يتفق مع حالته النفسية‬
‫من الشعور بالقهر واإلمهال ‪.‬‬
‫وربام اشتمل التعليل الشعري عىل تشبيه‪ ،‬كام يف النموذج الثالث من شعر املعري‪ ،‬ففي هذه األبيات‬
‫تشبيه مقلوب‪ ،‬ألن األقرب إىل العادة َأن ُي َش َّبه ا ِإلنسان بالشمعة ال العكس‪ ،‬حيث إن صفة االحرتاق حقيقية‬
‫يف الشمعة وغري حقيقية يف ا ِإلنسان‪ .‬ثم إِن املعري بعد َأن َش ّبه الشمعة بنفسه؛ خلع عليها صفات إِنسانية‪،‬‬
‫بكاء‪ ،‬وزعم أن هذا البكاء ناشئ عن كثرة الضحك‪ ،‬ال عن خوف اهلالك ‪.‬‬ ‫فجعل تساقط السائل منها ً‬
‫فالتعليل الشعري يف هذه النامذج يعبرِّ عن وجدان صادق ‪ ،‬ال يتقيد باملنطق َأو احلقيقة املوضوعية‪،‬‬
‫إلحساس‬ ‫وصدق التعبري عن نفسية الشاعر هو العامل األَكرب يف مجال هذه النامذج‪ ،‬ولكن مما يدعم ا ِ‬
‫بجامهلا ما تتضمنه من مفاج َأة لطيفة‪ ،‬حيث يعقد الشاعر صلة وثيقة بني أمرين متباينني ‪ ،‬ومن هذا النمط‬
‫الشعراء بالصنعة‬ ‫ِ‬
‫الشعراء‪َ ،‬أما يف العصور املت َأخرة التي شغف فيها‬ ‫معظم التعليالت الشعرية عند فحول‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫ادعاء علة غري حقيقية لرضب من املبالغة يف تقرير‬ ‫البديعية لذاهتا فإننا نجد التعليل الشعري يقوم عىل‬
‫صفة من الصفات‪ ،‬وغال ًبا ما يكون ذلك يف باب املدح كام يف النموذجني اخلامس والسادس‪ ،‬ويشبههام‬
‫يف الصنعة النموذج الرابع‪ ،‬وإن كان يف الغزل ال يف املدح‪ .‬ومعظم َأمثلة (حسن التعليل) يف كتب البالغة‬
‫هي من هذا النمط الثاين‪ ،‬مع أنه دون النمط األول يف اجلودة كام يتضح لك من املوازنة بني النموذجني‬
‫ال لظاهرة واحدة بعلة غري حقيقية‪ ،‬ولكن التعليل يف النموذج‬
‫األول واخلامس‪ ،‬حيث نجد يف كليهام تعلي ً‬
‫اخلامس يدهشنا بغرابته فحسب ‪.‬‬
‫ممـا تقـدم يتبيـن لـك ‪:‬‬
‫أن حسن التعليل هو ادعاء علة غري حقيقيـة حلالة من احلاالت أو صفة من الصفات‪ .‬وأجود ما‬
‫عب عن شعور نفيس صادق ‪.‬‬ ‫يكون إذا رّ‬

‫‪15‬‬
‫مناذج �أخرى للدر�س والتقومي‬

‫‪ 1‬ـ قال أبو الطيب املتنبي يمدح ‪:‬‬


‫ـت بِ ِه فصـبـيــبها (‪ )١‬الرحضـاء (‪)٢‬‬ ‫مل ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ َ‬ ‫ُ‬ ‫حمُ َّ ْ‬ ‫ـحاب وإ َّنمـــا‬
‫ُ‬ ‫حيـك نائـــ َل َك َّ‬
‫الس‬ ‫ْ ْ‬
‫لون ٍ‬
‫محرة ‪:‬‬ ‫الشعراء وقد نزل مطر فيه ُ‬‫ِ‬ ‫‪ 2‬ـ وقال َأحد‬
‫المنهج األَقو ِم‬
‫ِ‬ ‫ويمشوا على‬ ‫ُ‬ ‫ل��ل��ن��اس َأ ْن ُيقلعوا‬
‫ِ‬ ‫ل��ق��د َ‬
‫آن‬ ‫ْ‬
‫َ ْ‬ ‫ِ‬
‫العقيق َأو ال��ع��ن��د ِم (‪)٣‬‬ ‫ِ‬
‫ك��ل��ون‬ ‫ال‬ ‫��ه��د ال��غ ُ‬
‫َ��ي��ث ي��ا غاف ً‬ ‫َ‬ ‫م��ت��ى ُع‬
‫َ��ت رح��م�� ًة ل��ل��ورى بالد ِم‬ ‫ب��ك ْ‬ ‫جوها‬‫ال��غ��م��ائ��م ف���ي ِّ‬
‫َ‬ ‫َأظ����� ُّن‬
‫‪ 3‬ـ وقال احلُصرْ ي القريواين (أ) ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ال��ب��ي��اض ل��ب��اس ح ِ‬
‫ِ‬
‫الصواب‬ ‫َ‬
‫ف���ذاك م�� َن‬ ‫ألَن��دل َ‬
‫��س‬ ‫زن‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك��ان‬ ‫إذا‬
‫ِ‬ ‫ألن�ي ق�د ِ‬ ‫ِ‬
‫الش�باب ؟‬ ‫�ت عل�ى‬
‫حز ْن ُ‬ ‫�ت بي� َاض ش�يبي‬ ‫بس ُ‬ ‫َأ ْ‬
‫ل�م َت َرن�ي ل ْ‬
‫‪ 4‬ـ وألَحد شعراء األَندلس يتغزل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫ق��د ج��رى فيما جرى‬ ‫دم��ع عيني ْ‬ ‫َ‬ ‫بصر ْت‬ ‫��ت للحسناء لما َأ َ‬ ‫ق�� ْل ُ‬
‫أن��ا َم�� ْن ُي��ه��دي إليك ال��خَ �� َب��را ‪:‬‬ ‫ال���دم���ع م��ا عاينتِ ِه‬
‫َ‬ ‫الت��ظ��نِّ��ي‬
‫رون����ق َي��س��ب��ي س��ن��ا ُه البشرا‬ ‫الصبا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ٌ‬ ‫ج��ال في خديك من م��اء ِّ‬
‫ج����از ال��ت��ن��اه��ي َق َطرا‬
‫َ‬ ‫ف����إذا‬ ‫األج���ف���ان م��ن��ه ِر َّيها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ت��أخ��ذ‬
‫‪ 5‬ـ وقال ظافر احلداد يمدح َ‬
‫امللك األفضل ‪:‬‬
‫طر َب ْت‬ ‫األرض ال أدري َه ِل ْ‬
‫اض َ‬ ‫ُ‬ ‫ما َد ْت بنا‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫مـن عـدلـه طربــــ ًا ْأو خـــوفه َ‬
‫رهبــا‬
‫( أ ) أبو احلسن احلرصي من أهل القريوان ‪ ،‬انتقل إىل األندلس ومات يف طنجة سنة ‪488‬هـ وهو غري إبراهيم احلرصي ـ أيب إسحق ـ‬
‫صاحب كتاب « زهر اآلداب » ‪.‬‬
‫(‪ )٣‬نبات أمحر اللون ‪.‬‬ ‫(‪ )٢‬العرق الكثري يسيل به املحموم ‪.‬‬ ‫ب منها ‪.‬‬
‫(‪ )١‬ما ُين َْص ُّ‬

‫‪16‬‬
‫الأ�سلــوب احلـكـيـــم‬

‫منـــــاذج ‪:‬‬

‫احل ْل ِبة‪ ،‬فظ َّن َأنه كان يشهد السباق‪،‬‬


‫‪ 1‬ـ لقي رجل بالل بن رباح ـ ريض اهلل عنه ـ ‪ ،‬وقد أقبل من جهة َ‬
‫اخليل‪ ،‬فقال له بالل ‪ :‬و َأنا‬
‫ِ‬ ‫أسأل عن‬ ‫املقربون ‪ .‬قال الرجل ‪ :‬إِنام ُ‬
‫فسأله ‪ :‬من سبق؟ َف َأجاب بالل ‪ :‬سبق َّ‬
‫ُأجيبك عن ِ‬
‫اخلري ‪.‬‬
‫احلجاج‪ ،‬فقال له احلجاج متو ّعد ًا ‪ :‬ألَمحلنّك عىل األَدهم (‪ )١‬فقال له‬
‫ّ‬ ‫جيء بال َق َب ْع َثري (أ) إىل‬
‫َ‬ ‫‪2‬ـ‬
‫واألشهب (‪ ، )٢‬قال احلجاج ‪ :‬إِنه حديد ‪ .‬قال القبعثري ‪ :‬ألن‬
‫ِ‬ ‫القبعثري ‪ِ :‬م ْث ُل األمري محل عىل األدهم‬
‫خري من أن يكون بليد ًا ‪.‬‬ ‫يكون حديد ًا ٌ‬
‫األرجاين (ب) يتغزل ‪:‬‬
‫‪ 3‬ـ قال ّ‬
‫كسو ًة َأع��ر ْت من ال َّلح ِم ِ‬
‫العظاما‬ ‫ضنى‬ ‫كست جسمي‬
‫ْ‬ ‫غال َط ْتني إ ْذ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ُ‬
‫مثـل عينـي‪ ،‬صـد َق ْت‪ ،‬لكـ ْن َســقاما‬ ‫قالت َأ َ‬
‫ن��ت عندي يف اهلوى‬ ‫ْ‬ ‫ث��م‬
‫َّ‬
‫احلجاج (جـ) ‪:‬‬
‫‪ 4‬ـ وقال ‪ :‬ابن َ‬

‫قلـــت ‪َ :‬ث َّق ْل َ‬


‫ــت كاهــيل باأليــادي‬ ‫ُ‬ ‫ت��ي��ت ِمرار ًا‬
‫ُ‬ ‫��ت إِذ َأ‬
‫ق��ال ‪َ :‬ث�� َّق�� ْل ُ‬
‫ــت‪ ،‬قلـت ‪ُ :‬‬
‫حـبل ودادي‬ ‫برم ُ‬ ‫قال ‪َ :‬أ ْ‬ ‫ـت َط ْ‬
‫ــوال‬ ‫طـو ْل ُت‪ُ ،‬‬
‫قلـت ‪ :‬أول ْي َ‬ ‫قـال ‪َّ :‬‬

‫( أ ) أحد اخلوارج ‪.‬‬


‫(ب) من شعراء املرشق يف القرن السادس‪ ،‬تويف سنة ‪544‬هـ ‪.‬‬
‫(جـ) شاعر بغدادي من شعراء القرن الرابع غلب عليه اهلزل تويف سنة ‪391‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )١‬أصل األدهم وصف من الدمهة وهي السواد ويكنى به عن الفرس األدهم وعن القيد احلديدي ألن هذا أسود أيض ًا ‪.‬‬
‫(‪ )٢‬واألشهب وصف من الشهبة وهي بياض خمتلط بسواد ‪ ،‬ويكنى به عن فرس هبذا اللون ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫نظـرة حتـلـيـلـية ‪:‬‬

‫نالحظ يف النموذج األول أن باللاً ـ ريض اهلل عنه ـ محل سؤال الرجل عىل معنى غري املعنى الذي‬
‫قصده السائل‪ ،‬فالسائل يسأل عن سباق اخليل‪ ،‬وبالل ـ ريض اهلل عنه ـ يشــري إىل اآليتني الكريمتني‬
‫املقربون » (‪ )١‬ويبدو أن الرجل كان مشغوالً جد ًا بأمر السباق‪ ،‬فهو يلح يف‬
‫«والسابقون السابقون‪ ،‬أولئك َّ‬
‫بيان َق ْص ِده‪ ،‬وكأن بالالً ـ ريض اهلل عنه ـ مل يفهم سؤاله ‪ « :‬إِنام أسألك عن اخليل » فيجيبه بالل ـ ريض اهلل‬
‫ٍ‬
‫وجهة هي أنفع للسائل ‪ « :‬وأنا أجيبك عن اخلري »‪.‬‬ ‫مرص ًحا بأنه رصف السؤال عن وجهته إىل‬ ‫عنه ـ ِّ‬
‫وليس يف النموذج الثاين سؤال أو جواب‪ ،‬ولكن أحد املتحاورين قد محل كالم اآلخر عىل معنى‬
‫غري املعنى الذي قصده‪ ،‬ل ُينَ ِّب َه ُه يف لطف إىل أن هذا املعنى الثاين أوىل به ‪ ،‬فاحلجاج يتوعد اخلارجي‬
‫ف قلبه هبدية كريمة‪ ،‬شيمة األمراء‬ ‫بالقيد والسجن‪ ،‬والقبعثري يطمع أن يعفو عنه احلجاج‪ ،‬بل أن َي َتأ َّل َ‬
‫أيضا‬
‫حيول هذه العبارة ً‬‫القادرين‪ ،‬وحياول احلجاج أن يؤكد معناه يف عبارة أكثر رصاحة‪ ،‬ولكن القبعثري ِّ‬
‫إىل املعنى الذي يريده هو ‪.‬‬
‫واألرجاين حيتال لقلب املعنى الذي أرادته حمبوبته‪ ،‬وهو اإلعزاز وا ِ‬
‫إلكرام‪ ،‬بإضافة متييز إىل اجلملة‬ ‫ّ‬
‫التي قالتها ‪ « :‬أنت مثل عيني ـ سقاما » ‪ .‬وكذلك يصنع ابن احلجاج بالفعل« ثقلت» إذ يضيف إليه‬
‫مفعوال به يقلب معناه إىل ضده‪ ،‬أما الفعل الثالث « َطولت » فإنه يستحيل إىل معنى آخر بتغيري اشتقاقه‪،‬‬
‫والفعل الرابع « أبرمت » اجتمع فيه األمران لقلب املعنى ‪ :‬تغيري االشتقاق وزيادة املفعول به ‪.‬‬
‫ويف مجيع هذه األمثلة يفاج ُأ َأحد املتحاورين بمعنى خفي مل يكن يقصده‪ .‬فاألُسلوب احلكيم يقوم عىل‬
‫تعدد املعاين للعبارة الواحدة‪ ،‬كام هو الش َأن يف التورية‪ ،‬ولكن تعدد املعاين هنا يتخذ شك ً‬
‫ال متثيل ًيا ‪ ،‬إذ يعرب‬ ‫ّ‬
‫كل من املتحاورين عن معنى خيتلف عن معنى اآلخر ‪.‬‬
‫مما تقدم يتبني لك ‪.‬‬
‫أن األسلوب احلكيم فن يعمد إليه أحد املتحاورين بتحويل كالم خماطبـه إىل معنى غري املعنى‬
‫الذي قصده‪ ،‬تنبيه ًا إىل َّ‬
‫أن هذا املعنى الثاين هو األصدق أو األحرى أن ُيعمل بـه‪.‬‬
‫(‪ )١‬اآليتان ‪ 11 ، 10‬من سورة الواقعة ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫وربام كان احلوار فـي شكل سؤال وجواب‪ ،‬وربام كان كالم ًا تقريري ًا‪ .‬وقد يعتمد األسلوب‬
‫احلكيم عىل تعدد معاين الكلمة التي أوردها املخاطب‪ ،‬وقد حيوهلا عن معناها بإِضافة ‪.‬‬

‫مناق�شــة‬

‫اجلد‪ ،‬فرياد به ا ِ‬
‫إلرشاد‬ ‫الحظت من النامذج السابقة َأن األُسلوب احلكيم يصلح يف مواقف ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لعلك‬
‫والعظة‪ ،‬كام يصلح يف مواقف اهلزل‪ ،‬فرياد به السخرية والعبث؛ ومع َأنه قليل الورود يف كالم البلغاء‪،‬‬
‫فإنه قوي الت ْأثري إِذا كان ً‬
‫جدا‪ ،‬لطيف السخرية إذا كان هزالً ‪.‬‬
‫َم ِّيزي يف النامذج التالية بني هذين الغرضني ‪ ،‬مالحظة اختالف طرق التعبري فيام بينها ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ قـال تعـاىل ﴿‬
‫﴾ (من اآلية ‪ 215‬من سورة البقرة ) ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ قال حاتم الطائي ‪:‬‬
‫َ‬
‫ينحــون منزلي‬ ‫الض َ‬
‫يـفان‬ ‫ت ِّ‬‫وقـد ر َأ ِْ‬
‫ْ‬ ‫َأ َت ْت تشتكي عنــدي مزاو َل َة ِ‬
‫القرى‬
‫ِ‬
‫وعجلي‬
‫ِّ‬ ‫ف ِج ّدي في ق ُ‬
‫راه ْم‬ ‫الض ْي ُ‬
‫هم َّ‬‫ُ‬ ‫كالمها‬
‫َ‬ ‫ـت ك َأني ما ســم ْع ُت‬
‫فق ْل ُ‬
‫‪ 3‬ـ قال َأحد ِّ‬
‫املتأخرين يف بخيل ‪:‬‬
‫ِ‬
‫������ه مق َف ُل‬ ‫وب���اب���ه م���ن دونِ‬ ‫ب��اب صـــديق لنا‬ ‫ِ‬ ‫��ز ُت على‬
‫ُج ْ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بالبـــاب واستك َْملوا‬ ‫قــد َأحــدقوا‬ ‫ِ‬
‫ال��دار غلمـــا ُن ُه‬ ‫ِ‬
‫ب��اب‬ ‫َ‬
‫وح��ول‬
‫ق��ال��وا ‪ :‬س��م�� ْع��ن��ا َأن���� ُه ي ْأ ُ‬
‫كل‬ ‫يصنــع موالك ُُم ؟‬
‫ُ‬ ‫فق ْل ُ‬
‫ــت ‪ :‬ما‬
‫ُ‬
‫يدخل‬ ‫عــم‪ ،‬ر َأ َس الــذي‬ ‫قالــوا ‪َ :‬ن ْ‬ ‫ُـــم ؟‬
‫يفتــح موالك ُ‬
‫ُ‬ ‫قلــت ‪ :‬فمـا‬
‫ُ‬

‫‪19‬‬
‫ت�أكـيـد املــدح مبـا ي�شبه الـذم‬

‫منـــــاذج ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ قال تعاىل يف صفة اجلنة و َأهلها ‪:‬‬


‫سورة الواقعة ‪.‬‬ ‫﴾‬ ‫﴿‬
‫ٍ‬
‫قريش» (املعنى صحيح ولكنه مل يرد بني األحاديث املروية‬ ‫بيد َأين من‬ ‫ِ‬
‫العرب‪َ ،‬‬ ‫‪ 2‬ـ « َأنا َأ ُ‬
‫فصح‬
‫الصحيحة) ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ قال النابغة الذبياين يمدح ‪:‬‬
‫ِ‬
‫الكتائب‬ ‫فلول مــــن ِقـــرا ِع‬
‫هبــــ َّن ٌ‬ ‫أن سـيو َفهم‬
‫غـــري َّ‬
‫َ‬ ‫عــيب فيــهم‬
‫َ‬ ‫وال‬
‫‪ 4‬ـ وقال النابغ ُة اجلعدي (أ) ‪.‬‬
‫جــــوا ٌد فام ُيبـــــــقي من ِ‬
‫املال باق ًيا‬ ‫غـــري َأنــ ُه‬ ‫كمـــ َل ْت أخــــال ُق ُه‬
‫َ‬ ‫فتى ُ‬
‫مقرب (ب) ‪:‬‬
‫‪ 5‬ـ وقال ابن ِّ‬
‫ولك ْن ُم َر ِّجـــيه لدى الســل ِم ســال ُب ْه‬ ‫ُامة(‪ )١‬لــدى الوغى‬ ‫وسلاَّ ب أرواح الك ِ‬
‫ُ‬
‫نظـرة حتـلـيـلـية ‪:‬‬

‫ِ‬ ‫جاء عىل خالف َأصله‪ .‬فاألَصل يف‬ ‫ِ‬


‫االستثناء‬ ‫إذا ت َأملت النموذج األول رأيت َأن ُأسلوب االستثناء قد َ‬
‫ِ‬
‫االستثناء‬ ‫جميء حرف‬ ‫إِخراج ما بعده من حكم ما قبله‪ ،‬فإذا كان ما قبل االستثناء نفي ًا لكل عيب‪ ،‬فإن‬
‫َ‬

‫( أ ) النابغة اجلعدي ‪ :‬شاعر جاهيل أدرك اإلسالم وأسلم وحسن إسالمه ‪.‬‬
‫( ب ) ابن املقرب من شعراء اجلزيرة العربية يف القرنني السادس والسابع للهجرة ‪.‬‬
‫(‪ )١‬مجع كمي وهو الفارس الذي يلبس الدرع أو الشجاع املقدام‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ُي ْش ِعر ب َأن ما بعده يثبت عي ًبا ما ‪ ،‬كام تقول مثال ‪ « :‬ال عيب يف هذا الثوب إِال َأ َّن كميه قصريان فكون‬
‫عيب َأثبته للثوب بعد َأن نفيت عنه سائر العيوب‪ .‬ولذلك فإن قارئ اآلية الكريمة إذا‬ ‫الكمني قصريين ٌ‬
‫حكم خمالف ملا سبق‪ ،‬فإذا قر َأ قوله تعاىل « إال قي ً‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫االستثناء سبق إىل ومهه َأ ْن سيتلوه‬ ‫ورد عليه حرف‬
‫ٌ‬
‫سالم ًا سالما » َأدركته هزة ألنه وجد صفة من صفات املدح حيث كان يتوقع العكس‪ ،‬وتصور َأنه لو فتش‬
‫يف اجلنة من كالم يشبه اللغو َأو التأثيم ملا وجد إِال ضد ذلك وهو التسليم الدائم‪ ،‬فكان َأشد ِ‬
‫تأكيد ًا لتنزيه‬
‫َأهل اجلنة عن اللغو والت ْأثيم ‪.‬‬
‫ِ‬
‫يضا ( النموذج الثالث ) حيث نجد الشاعر‬ ‫وهذا اللون من االستثناء ملحوظ يف بيت النابغة الذبياين َأ ً‬
‫فنتوهم أنه يريد َأن يثبت هلم عي ًبا ما‪ ،‬وإذا به ي ْأيت بصفة‬
‫ّ‬ ‫ينفي كل عيب عن ممدوحيه‪ ،‬ثم يأيت بأداة االستثناء‬
‫ال عىل خلوهم من كل عيب ‪.‬‬ ‫من صفات املدح‪ ،‬فك َأنه يقيم بذلك دلي ً‬
‫ِ‬
‫االستثناء كام‬ ‫صور كون املستثنى داخلاً يف مفهوم املستثنى منه ـ وهذا كام قلنا هو األَصل يف‬ ‫وقد ُي َت َّ‬
‫ِ‬
‫االستثناء املنقطع الذي‬ ‫خارجا عن ذلك املفهوم‪ ،‬كام هو ش ْأن‬ ‫يف النموذجني السابقني‪ ،‬وقد يتصور كونه‬
‫ً‬
‫نعرفه يف النحو‪ ،‬ومن هذا النوع القول املأثور عن النبي صىل اهلل عليه َو َسلم ‪َ « :‬أنا أفصح العرب بيد َأين‬
‫من قريش» ‪.‬‬
‫ـز ِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سائر العرب بمزيد‬ ‫فنسب الرسول الكريم ليس داخال في َت َم ُّي ِ‬
‫من الفصاحة‪ ،‬وذلك كما تقول في االستثناء المنقطع الخالي من ُأسلوب ت ْأكيد المدح بما يشبه الذم ‪:‬‬
‫قلما» ‪ .‬ومع أننا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ال نعقد صلة‬ ‫«اشتريت الكتب المطلوبة إال ً‬
‫ِ‬
‫االستثناء منقطع ًا‪ ،‬فإننا نشعر بالمفاج َأة َأيض ًا ‪ ،‬ألننا الزلنا نتوقع‬ ‫بين المستثنى والمستثنى منه‪ ،‬نظر ًا لكون‬
‫االستثناء مخال ًفا لحكم ما قبلها‪ ،‬فإذا كان ما قبلها صفة مدح‪ ،‬فنحن نتوقع أن‬ ‫ِ‬ ‫َأن يكون حكم ما بعد َأداة‬
‫جاءت الثانية صفة مدح كاألولى كانت أبلغ في إثبات المدح ‪.‬‬
‫يكون ما بعدها صفة عيب‪ ،‬فإذا َ‬
‫ِ‬
‫سامعك ألَول وهلة‬ ‫ِ‬
‫جئت بعدمها بمستثنى َأومهت‬ ‫وإِثبات الكامل كنفي العيب ‪ ،‬من حيث ِ‬
‫إنك إذا‬
‫ِ‬
‫ويمكنك أن‬ ‫رشا‪،‬‬
‫توجس ً‬‫بأ َّنه وصف معيب‪َ ،‬فإ َذا وجد صفة مدح عرته هزة كمن يلقى اخلري حيث كان َّ‬
‫تالحظي ذلك يف احلديث الرشيف وكذلك يف النموذج الرابع من شعر النابغة اجلعدي ‪.‬‬
‫ِ‬
‫واالستدراك بلكن وبل شبيه باالستثناء املنقطع من حيث إِننا نتوقع بعد حرف االستدراك حكماً‬

‫‪21‬‬
‫جاء مواف ًقا له كان ذلك أبلغ يف تأكيد معنى املدح‪ .‬وعىل هذا النمط َ‬
‫جاء‬ ‫خمال ًفا للحكم السابق‪ ،‬فإذا َ‬
‫مقرب‪ ،‬حيث إنه استدرك عىل وصف ممدوحه بالشجاعة صفة ُأخرى من صفات املدح وهي‬ ‫بيت ابن ِّ‬
‫السخاء‪ ،‬وزاد أن ربط بني املعنيني ربط ًا لطيف ًا حني قابل بني « الوغى» «والسـلم» وبني «الكامة» ـ وأراد‬
‫ُ‬
‫هبم األعـداء ـ وطالبي املعروف من أولياء املمدوح ‪ ،‬وبني جعل الضمري املمدوح فاعلاً للسلب يف الشطر‬
‫األول ومفعولاً به يف الشطر الثاين ‪:‬‬
‫مما تقدم يتبني لك ‪:‬‬
‫أن تأكيد املدح بام يشبه الذم ُأسلوب يعتمد عىل مفاجأة السامع بصفة من صفات املدح حيث‬
‫االستثناء‬ ‫ِ‬
‫االستثناء َأو االستدراك‪ ،‬وقد ُي َقدر‬ ‫كان يتوقع صفة ذم‪ ،‬وذلك باستخدام أداة من َأدوات‬
‫ُ‬
‫نفيا ‪.‬‬ ‫م ِ‬
‫ال أو منقط ًعا‪ ،‬وقد يأيت املستثنى منه ُمثب ًتا أو ُم ً‬
‫تص ً‬ ‫ُ‬

‫‪22‬‬
‫مناذج �أخرى للدر�س والتحليل‬

‫الحظي ـ يف النامذج الشعرية التالية ـ الصنعة البديعية يف ُأسلوب ت ْأكيد املدح بام يشبه الذم‪ ،‬وتنوع‬
‫أدواته ‪.‬‬

‫ــب َنوافــــ ُل ْه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اض ي��دا ُه غمــــام ٌة‬ ‫(‪ )١‬و َأ َ‬
‫على ُمعتــفيه ما ُتغ ُّ‬ ‫ب��ي��ض ف ّي ٌ‬
‫المــــال ِ‬
‫نائـــ ُل ْه‬ ‫َ‬ ‫ولكنــ ُه قــد ُي ْه ِل ُك‬ ‫الخمــر مـــا َل ُه‬ ‫ثقة ال ُته ِ‬
‫ــل ُك‬ ‫َأخو ٍ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫وتكفيه ِمن َق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحرب ي ِ‬
‫العزائــم‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الجيـــوش‬ ‫ود‬ ‫ْ‬ ‫السـيف ك ُّفـ ُه‬ ‫غنيه عن‬ ‫ِ ُ‬ ‫(‪ )٢‬فتى‬
‫والرم ِح ظالِ ُم‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫للسـيف‬ ‫على َأن�� ُه‬ ‫البالد وغربِها‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ش��رق‬ ‫وي��ع ِ‬
‫��د ُل في‬ ‫ْ‬
‫ذات المناكب‬ ‫واألرض ِ‬
‫ِ‬ ‫عامر‪،‬‬‫ٍ‬ ‫بني‬ ‫فـإن تســألي عنــا فإ َّنا ُح َلى ال ُعـال‬ ‫ْ‬ ‫(‪)٣‬‬
‫جانب‬‫ِ‬ ‫أض َّر بنـــا والبـــ َأ َس ِم ْن ك ُِّل‬ ‫َ‬ ‫سـماحنا‬
‫َ‬ ‫غــير َأ َّن‬
‫َ‬ ‫عيــب فينا‬‫َ‬ ‫وال‬
‫عــائب‬‫ِ‬ ‫و َأفنى النَّـــدى أموا َلنـــا َ‬
‫غير‬ ‫غـير ظــال ٍم‬
‫أعمـــارنا َ‬
‫َ‬ ‫و َأفنى ّ‬
‫الر َدى‬

‫‪23‬‬
‫�أمثلة �أخرى للأنواع البديعية الأربعة ال�سابقة‬

‫وضح القيم َة البالغي َة ٍّ‬


‫لكل منها‬ ‫ُت َم ِّي ُز الطالب ُة بينها و ُت ِّ‬
‫‪ 1‬ـ قال تعاىل ‪:‬‬
‫﴾ (من اآلية ‪189‬من سورة البقرة) ‪.‬‬ ‫﴿‬
‫ِ‬
‫اهلالل يبدو‬ ‫إن رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ُس ِئ َل ‪ :‬ما ُ‬
‫بال‬ ‫قال املفرسون يف سبب نزول هذه اآلية ‪َّ :‬‬
‫ال حتى يمتىلء ويستوي‪ ،‬ثم ال يزال ينقص حتى يعود كام بد َأ ؟‬ ‫ِ‬
‫اخليط ‪ ،‬ثم يتزايد قلي ً‬ ‫دقيق ًا مثل‬
‫‪ 2‬ـ قال صفي الدين احليل(أ) يمدح ‪:‬‬
‫األهل واألَوطِـان واحلَ َش ِم‬
‫ِ‬ ‫يسلو عن‬ ‫هبـم‬ ‫َ‬
‫النزيل ْ‬ ‫عيب فيهـم سـوى َأ َّن‬ ‫ال َ‬
‫‪ 3‬ـ قال املتنبي يتغزل ‪:‬‬
‫ُ‬
‫عـوامل‬ ‫ِ‬
‫الســـيوف‬ ‫ِمـن َأهنـا َع َم َـل‬ ‫ِ‬
‫العيون جفـونهُ ا‬ ‫ِ‬
‫غطـــية‬ ‫اسـم َأ‬ ‫ولذا‬
‫ُ‬
‫‪ 4‬ـ وقال يمدح ‪:‬‬
‫الذئــاب‬ ‫إخـالف ما ترجـو‬
‫َ‬ ‫ي َّتــقي‬ ‫ِ‬
‫عـاديـــــه ولكــ ْن‬ ‫قتـل َأ‬
‫مــا بـــه ُ‬
‫ُ‬
‫‪ 5‬ـ قال املعري يصف السيف ‪:‬‬
‫َ‬
‫حـــذا ِم‬ ‫ــالـت‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫الـقــول مـا َق‬ ‫بــ َأن‬ ‫ارتيــاب‬
‫ٌ‬ ‫وشـَ ْف َر ُته (‪ )١‬حـذا ِم (‪ )٢‬فال‬
‫‪ 6‬ـ والبن ُنباته اخلطيب يف ذكر يوم القيامة ‪:‬‬
‫رضب‬
‫ُ‬ ‫العقاب‪ ،‬ف ُي‬
‫ُ‬ ‫وحق عليه‬
‫الثواب‪َّ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وجب له‬
‫َ‬ ‫مع َم ْن‬ ‫الكتاب‪ ،‬ويجُ ُ‬
‫ُ‬ ‫وض ُع‬
‫احلجاب‪ ،‬و ُي َ‬
‫ُ‬ ‫رفع‬
‫ناك ُي ُ‬ ‫ُه َ‬
‫العذاب ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫باب‪ ،‬باطنُ ُه فيه الرمح ُة وظاهره من ِق َب ِل ِه‬
‫بينهم بِ ُس ْو ٍر له ٌ‬
‫ولطاهر زخمرشى يتشوق ‪:‬‬
‫ـت من ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫فقـد هاجنى وجدي‬
‫فغـر ْد بذكـراها ْ‬
‫ِّ‬ ‫نجد‬ ‫َأال يا صبا نجد متى ه ْج َ ْ‬

‫( أ ) من أشهر شعراء القرن الثامن‪ ،‬أكثر شعراء عرصه من الصنعة البديعية ‪.‬‬
‫(‪ )٢‬وصف يدل عىل القطع ‪.‬‬ ‫(‪ )١‬سيفه‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫خـام�سـا ‪:‬‬
‫ً‬
‫ملحـة عن تاريـخ البـالغــة والنـقــد‬
‫‪ 1‬ـ العالقة بني النقد والبالغة‬

‫معنى البالغة ومعنى النقد ‪:‬‬

‫لقد كانت دراستنا منص ّبة حتى اآلن عىل البالغة وعلومها‪ ،‬فعرفنا َأن «البالغة» مشتقة من مادة «بلغ»‬
‫ال إىل ذهن القارئ أو السامع‪ .‬والعبارة البليغة‬ ‫التي تعني الوصول إىل الغاية‪ ،‬فهي تعني إيصال املعنى كام ً‬
‫ث للسامع َأو القارئ هزة رسور أو إِعجاب أو روعة‪ ،‬تلك الروعة هي‬ ‫يف الشعر أو النثر العاليني تحُ ِد ُ‬
‫إلعجاب أو‬ ‫نصف األثر األديب بصفة « اجلامل» ‪ .‬ولو س َألنا أنفسنا ما مصدر هذه الروعة َأو ا ِ‬ ‫ُ‬ ‫التي جتعلنا‬
‫الرسور لقلنا يف أغلب الظن؛ إن الشاعر أو الكاتب أو اخلطيب عبرّ عام يف نفوسنا َأدق تعبري و َأكمله‪ ،‬ك َأنام‬
‫إلنسان الذي يشعر بمثل ما نشعر به ولكنه يتم ّيز بمزيد من‬ ‫فجاء هذا ا ِ‬
‫َ‬ ‫كان يف نفوسنا معنى حائر مبهم‬
‫أداء ال يتيرس لإلنسان العادي ‪ .‬عىل َأن إِيصال املعنى‬ ‫إرهاف الشعور‪ ،‬ومزيد من القدرة اللغوية‪ ،‬فأ َّداه ً‬
‫غامضا َأو مضطرب ًا‬‫ً‬ ‫ال إىل ذهن القارئ َأو السامع مطلب مستحيل‪ ،‬ف َأي عبقري ال َيبقى بعض معانيه‬ ‫كام ً‬
‫وبعض َألفاظه قلق ًا َأو ناب ًيا ؟ ال جرم تتفاوت درجات البالغة‪ ،‬ولكنها تظل دائ ًام بعيدة عن الكامل املطلق‬
‫تفرد به كالم اهلل املعجز ‪.‬‬‫الذي َّ‬
‫أيضا إذا عبرّ الكاتب عن معناه بعبارة واضحة‬ ‫وقد يقال إن الكتابة العلمية تستحق الوصف بالبالغة ً‬
‫خالية من اللبس‪ ،‬فإنه بذلك يكون قد أجاد التعبري عن املعنى ‪ ،‬ولكننا نربط البالغة عادة باجلامل األَديب‪،‬‬
‫حيث تكون للعبارة َأنواع من الت َأثري تتجاوز املعنى البسيط الذي يمكن َأن تعرب عنه اللغة العلمية‪ ،‬وهنا‬
‫تظهر براعة الشاعر َأو الكاتب أو اخلطيب‪ ،‬إذ َأنه يسخر موارده اللغوية كلها إلحداث التأثريات املطلوبة‪،‬‬
‫وقد عرفنا أن هذه املوارد منها ما يرجع إىل الرتاكيب النحوية ‪ ،‬وهذا هو موضوع علم املعاين ‪ ،‬ومنها ما‬
‫يرجع إىل استحضار الصور البعيدة ‪ ،‬وربط املعاين املجردة باملحسوسات‪ ،‬وهذا هو موضوع علم البيان‪،‬‬
‫جزاء اجلملة أو الفقرة ‪ ،‬سواء َأكانت عالقات صوتية َأم‬ ‫ومنها ما يرجع إىل مالحظة العالقات بني َأ ِ‬
‫معنوية‪ ،‬عالقات تناسب َأم عالقات تضاد‪ ،‬وهذا هو موضوع علم البديع‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ومن هذا كله يتضح َأن موضوع البالغة بعلومها الثالثة هو معرفة اخلصائص اللغوية التي تتصل بدقة‬
‫التعبري عن املعنى‪ ،‬وقوة تأثريه يف النفس‪ ،‬وأن هذه اخلصائص تستخلص من دراسة النصوص األدبية‬
‫املمتازة‪ .‬وإذا كان قد مر ِ‬
‫بك يف دراسة البالغة بعض األمثلة األدبية الرديئة‪ ،‬كتشبيه معيب أو استعارة‬
‫سخيفة َأو جناس متكلف ‪ ،‬فام ذلك إال لتتضح صفات احلسن يف هذه األساليب؛ كام قالوا ‪ « :‬وبضدها‬
‫األشياء » ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تتميز‬
‫مترس بالنظر يف النصوص األَدبية اجليدة‪ ،‬وتدرب عىل إدراك صفات اجلامل‬ ‫عىل َأن الدارس الذي ّ‬
‫فيها‪ ،‬وانطبعت يف ذهنه خصائص الرتاكيب اللغوية يف التعبري عن املعنى‪ ،‬ال يصعب عليه أن يميز بني‬
‫حصل القوانني البالغية‪َ ،‬أمكنه َ‬
‫أن يو ِّظف هذه القوانني يف احلكم‬ ‫نص أديب جيد وآخر رديء‪ .‬أي َأنه إذا ّ‬
‫عىل قيمة النصوص األدبية التي ترد عليه ‪ .‬وهذا احلكم عىل النصوص األدبية‪ ،‬أو التمييز بني اجليد‬
‫والرديء منها ‪ ،‬هو معنى « النقد» ‪ .‬وقد يميزونه بقوهلم ‪ « :‬النقد األديب» وهو م ْأخوذ من نقد الدراهم أي‬
‫متييز اخلالص منها وإخراج الزائف ‪.‬‬
‫وبناء عىل ذلك يمكننا أن نقول إن موضوع النقد هو حتليل النصوص األدبية لبيان صفات اجلودة‬
‫والرداءة فيها‪ .‬وإذا كانت املادة األدبية التي تتناوهلا الدراسة البالغية هي النصوص األدبية اجليدة‪،‬‬
‫َ‬
‫رديء إِال للمساعدة عىل إظهار مجال النص اجليد الذي هو عامد الدراسة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫بحيث ال يورد فيها نص‬
‫يستقرئ القواعد‬
‫ُ‬ ‫فإن النقد يتناول النصوص اجليدة والنصوص الرديئة عىل السواء‪ ،‬ألن الناقد ال‬
‫من النصوص‪ ،‬بل يعرض النصوص عىل القواعد ‪.‬‬

‫النقد ال يعتمد على البالغة وحدها‪:‬‬

‫ولكن ‪ :‬هل القواعد البالغية هي املرجع الوحيد للناقد يف احلكم عىل نص َأديب ؟‬
‫لكي نجيب عىل هذا السؤال ‪ ،‬ينبغي أن نعيد إيل الذهن فقرة مرت بك يف كتاب «النقد والبالغة للسنة‬
‫األُوىل الثانوية » ‪.‬‬
‫« فقيمة الكالم ترجع أوالً إىل معناه‪ ،‬غري أن هذا املعنى نفسه ال تتضح قيمته إِال من خالل صياغة‬

‫‪27‬‬
‫حمكمة‪ ،‬واملعنى هو ما يعرب عنه النقاد املعارصون بكلمة ( املضمون) ‪ ،‬والصياغة هي ما يعربون عنه‬
‫بكلمة ( الشكل) ‪ .‬والشكل واملضمون يتحدان كام يتحد اجلسم والروح‪ ،‬فاملعنى يظل حائر ًا فـي‬
‫نفس صاحبه حتى جيد الشكل الذي يناسبه من األلفاظ املرتبة عىل نحو معني‪ ،‬وكذلك يظل املعنى‬
‫غامضا فـي نفس قارئه حتى تتضح له العالقات بني األلفاظ التي صيغ فيها هذا املعنى » ‪.‬‬‫ً‬
‫« وعلوم البالغة هي العلوم التي تتناول صياغة املعنى يف األلفاظ املناسبة‪ .‬أما بحث املعاين نفسها‬
‫فمن الواضح أنه ال يمكن أن حييط به علم واحد أو علوم معدودة‪ ،‬ألن املعاين ترجع إىل الثقافة‬
‫والتجربة والذكاء‪ ،‬وهذه الثالثة ال يمكن أن تحُ رص » ‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬وإِذا‬
‫فالناقد ال حيكم عىل النص األديب الذي َأمامه من جهة صياغته فقط‪ .‬بل من جهة معناه ً‬
‫كانت القوانني البالغية هي عمدته يف احلكم عىل الصياغة اللغوية‪ ،‬أي صياغة الفكرة يف مجلة أو فقرة‪ ،‬فإِن‬
‫وراء هذه الصياغة اللغوية صياغة فنية حتتوي اجلملة والفقرة يف قطعة أدبية ذات شكل قصيص أو متثييل‬ ‫َ‬
‫َأو غنائي ‪ ..‬إلخ ‪ .‬وتنحو نحو ُأسلوب خيايل أو واقعي‪ ،‬بسيط َأو فخم ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬
‫ويأيت بعد ذلك احلكم عىل املعنى ‪ ،‬وهذا حيتاج إىل َأدوات كثرية وضعناها حتت ثالثة رؤوس ‪ :‬الثقافة‪،‬‬
‫والتجربة‪ ،‬والذكاء ‪.‬‬

‫ثقافة الناقد الأدبي ــ الثقافة اخلا�صة ‪:‬‬

‫جزءا من شخصيته و ُأسلوب‬ ‫املرء وعايشها حتى أصبحت ً‬ ‫الثقافة كلمة جامعة لكل معرفة زاوهلا ُ‬
‫تفكريه‪ .‬وال شك َأن نوع الثقافة التي حيتاج إليها الناقد أكثر من غريها هي الثقافة اللغوية واألدبية‪َ ،‬أي‬
‫تلك التي تتناول صياغة العمل األديب يف مجلته وتفصيله‪ ،‬أو كام يقول بعض النقاد‪ ،‬يف بنائه ونسيجه ‪.‬‬
‫أما الثقافة اللغوية فرتجع يف جانب كبري منها إىل ما سميناه معرفة الفصاحة‪ ،‬أو موافقة الكالم لقواعد‬
‫العربية بحيث ال يقع فيه حلن أو اضطراب يف الرتكيب النحوي‪ ،‬وال خطأ يف العروض أو القافية إن كان‬
‫شعرا‪ ،‬وتكون َألفاظه مع ذلك م ْأنوسة سائغة‪ ،‬ال هي بالسوقية املبتذلة‪ ،‬وال الوحشية املهجورة‪ .‬ولكن‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هذا اجلانب ال يستوعب وحده ثقافة الناقد اللغوية‪ ،‬فإن الناقد قد يكتسب من طول ممُ َ َار َسته للنصوص‬

‫‪28‬‬
‫خاصا‪ ،‬كام نعرف مثل‬ ‫ً‬ ‫األدبية قيمة اللفظ‪ ،‬حتى لكأن لِ َّلفظة الواحدة عنده شخصية متميزة وسلوكًا‬
‫أنك متيزين فيمن َع َر ْفتِهن حق املعرفة من أفراد البرش مالمح معينة يف الوجه‬ ‫ذلك يف أفراد الناس؛ فكام ِ‬
‫وخصائص معينة يف املشية واحلركة وصفات معينة يف السلوك ‪ ،‬بل أكثر من ذلك‪ ،‬حتسني أن لكل فرد‬
‫إشعاع ًا روح ًيا معينًا جيعلك متيلني إىل واحدة وتنفرين من ُأخرى‪ ،‬وتتوقرين يف حمرض واحدة وتنطلقني‬
‫عىل سجيتك مع ثانية‪ ،‬وتفضني بدخيلة نفسك إىل ثالثة‪ ،‬فكذلك ش ْأن الناقد مع األلفاظ‪ ،‬فهو جيد لكل‬
‫لفظ إِشعا ًعا ً‬
‫خاصا يتجاوز حدود املعنى املبارش الذي ُت ْعنَى به املعاجم‪ ،‬ويثري لدى املتلقي استعداد ًا حلالة‬
‫وجدانية معينة من رسور أو حزن أو رىض أو اطمئنان أو قلق ‪ ...‬إلخ‪ .‬هذا احلس الدقيق باأللفاظ هو‬
‫أثمن ما يمتلكه الناقد ‪ ،‬وهو ثمرة علم واسع بترصف األلفاظ يف االستعامالت املختلفة‪ ،‬وإِن بدا للقارئ‬
‫غري البصري نو ًعا من التحكم‪ .‬وأوضح ما يظهر هذا احلس اللغوي يف التمييز بني املرتادفات (‪. )١‬‬
‫ثم إن هذا احلس اللغوي يظهر كذلك يف التمييز بني ُأسلوب و ُأسلوب‪ .‬فالناقد اخلبري يستطيع أن حيكم‬
‫ِ‬
‫الشعراء أو َأن هذه القصة َأو املقالة َأو‬ ‫حك ًام قريب ًا من اليقني بأن هذا الشعر املجهول القائل هو لفالن من‬
‫ِ‬
‫الشعراء والكتاب‬ ‫الرسالة هي لفالن من الكتاب‪ ،‬وذلك ألنه ال جيد صعوبة يف التمييز بني شخصيات‬
‫شخصا بمشيته َأو َ‬
‫إيامءاته أو نربات‬ ‫ً‬ ‫من حيث طريقة استعامهلم للغة‪ ،‬كام أنك أنت تستطيعني أن متيزي‬
‫صوته ‪.‬‬
‫وهنا تقرتب الثقافة اللغوية من الثقافة األدبية‪َ ،‬فقوام الثقافة األدبية معرفة مذاهب األدباء يف اختيار‬
‫موضوعاهتم ووضعها يف الشكل الفني املناسب‪ ،‬وفنون الشعر والنثر وخصائص كل فن‪ ،‬واختالف هذه‬
‫الفنون وتلك املذاهب بحسب اختالف العصور والبيئات‪ ،‬وليست هذه الثقافة األدبية بأقل لزوم ًا للناقد‬
‫من الثقافة اللغوية‪ .‬فالشاعر َأو الناثر ال يظهر يف خواء‪ .‬إِنه جيد فنون ًا َأدبية متعارفة يف زمنه وقبل زمنه‪،‬‬
‫ومذاهب أو طرق ًا فنية أخذ هبا معارصوه أو سابقوه‪ ،‬كام جيد لغة مستعملة يتحدث هبا الناس‪ ،‬ويكتب‬
‫هبا الكتاب‪ ،‬والبد له من أن ُي َط َِّوع املذهب الذي خيتاره‪ ،‬والفن الذي يكتب فيه ‪ ،‬لنقل ما يشعر به إىل‬
‫قارئه‪ ،‬وهذا هو حمك الكتابة الفنية اجليدة‪ .‬والناقد اخلبري بمذاهب األدب وفنونه واختالفها بني العصور‬
‫والبيئات هو الذي يستطيع أن حيكم عىل مدى توفيق الشاعر أو الناثر يف استخدام ذلك الرتاث الضخم‬

‫(‪ )١‬انظري النص السادس من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫املتنوع‪ ،‬وهو تراث يمكن أال يقترص عىل اللغة التي يعرب هبا الشاعر أو الناثر ‪ ،‬بل قد يمتد ليشمل أطرا ًفا‬
‫من آداب ُأخرى ‪.‬‬
‫فالناقد الذي يريد َأن حيكم عىل مرسحية لشوقي مثالً‪ ،‬حمتاج إىل أن يعرف ُأسلوب شوقي يف القصائد‬
‫التي نظمها من قبل‪ ،‬وتأثره بالشعر العريب القديم ‪ ،‬كام أنه حمتاج إىل َأن يعرف فن املرسحية يف اآلداب‬
‫ور ِّب َّي ِة‪ ،‬وقواعد بنائها‪ ،‬وما بني املذاهب الأْ َ َدبِ َّي ِة املختلفة من فروق يف ذلك؛ وبدون هذه الثقافة الواسعة‬
‫الأْ ُ ُ‬
‫ال يستطيع الناقد أن حيكم عىل قيمة اإلضافة التي أضافها شوقي إىل تراث الشعر العريب ‪.‬‬
‫ومعرفة فنون األَدب ومذاهبة بعد معرفة طبيعة األدب بوجه عام‪ ،‬وما يميزه عن سائر الفنون التي‬
‫تسمى بالفنون اجلميلة ـ كاملوسيقى والتصوير‪ ،‬وما هو مشرتك بينه وبينها ـ هذه املوضوعات ُتك َِّو ُن ما‬
‫كتب فيها‪،‬‬ ‫يسمى « أصول النقد» ‪ .‬ولكن الناقد ال يستطيع َأن يتقن هذه األُصول بمجرد مطالعة ٍ‬
‫كتاب أو ٍ‬
‫بقراءة عدد كبري من النصوص األدبية املمتازة يف شتى فنون األدب ومذاهبه ‪.‬‬
‫َ‬ ‫التمرس‬
‫بل ال بد له من ّ‬

‫ثقافة الناقد الأدبي ــ الثقافة العامة ‪:‬‬

‫عىل َأن ثقافة الناقد األَديب ال تقف عند حدود الثقافة اللغوية‪ ،‬واألَدبية التي تساعده يف احلكم عىل قيمة‬
‫العمل األديب من حيث الشكل‪ ،‬فهو مطالب بأن حيكم عىل مضمون العمل األديب كذلك ‪ ،‬ومضمون‬
‫األَعامل األَدبية متنوع َأشد التنوع‪ ،‬فهو يشمل وصف املوجودات اخلارجية كام يشمل تصوير النوازع‬
‫الذاتية‪ .‬واملوجودات اخلارجية منها ما هو مادي كنبات َأو حيوان َأو عربة أو وعاء ومنها ما هو معنوي‪،‬‬
‫كعادة اجتامعية‪َ ،‬أو نظرة َأخالقية‪ .‬وإذا كان دأب الكاتب املنشئ َأ ْن يصف من هذه املوجودات اخلارجية‬
‫مطالب‬
‫ٌ‬ ‫ما ُأتيح له َأن يالحظه مالحظة دقيقة‪ ،‬كي يأيت وصفه مقنع ًا بصدقه أو مقاربته للحقيقة‪ .‬فإن الناقد‬
‫ِ‬
‫بصدق‬ ‫ِ‬
‫اإلحياء‬ ‫ب َأن يعرف هذه األشياء ك َّلها َأو معظمها ليستطيع احلكم عىل مدى توفيق الكاتب املنشئ يف‬
‫ما أتى به من وصف‪ .‬وملا كان من املتعذر معرفة املوجودات اخلارجية مجي ًعا‪ ،‬ماديهّ ا ومعنويهّ ا‪ ،‬فإن الناقد‬
‫مضطرا إىل َأن يراجع الكتب العلمية ليستوثق من َأن العمل األديب قائم عىل‬ ‫ً‬ ‫جيد نفسه يف بعض األحيان‬
‫َأساس من احلقيقة‪ ،‬وإن كان من املسلم به َأن الكتابة األدبية ال حتاول أن تستقيص وصف املوجودات‬

‫‪30‬‬
‫ال حرف ًيا‪ .‬ويمكن القول إن للشاعر َأو القاص َأن‬ ‫اخلارجية استقصاء عملي ًا‪ ،‬والتلتزم بالنقل عن الواقع نق ً‬
‫أن يقصد‬‫خاصا جيول يف نفسه‪ ،‬ولكنه إذا انحرف عن الواقع دون ْ‬ ‫خيالف الواقع لينقل إىل القارئ معنى ً‬
‫إىل معنى معني هبذا االنحراف‪ ،‬فذلك خطأ حياسب عليه‪ ،‬وما ُأسلوب االستعارة الذي عر َفناه إال نوع‬
‫من خمالفة الواقع‪ ،‬ألنه ينقل االسم عن معناه احلقيقي‪ ،‬ولكن الشاعر إذا نقل االسم عن معناه دون قصد‬
‫إىل االستعارة كان خمطئ ًا‪ ،‬ولذلك عاب َط َر َف ُة بن العبد هذا البيت ‪:‬‬
‫كـدم‬ ‫الص ْي ِ‬
‫ـــعري َة ُم َ‬ ‫بنـــــاج علـــيه َّ‬
‫ٍ‬ ‫احتضــار ِه‬
‫ِ‬ ‫اهلـــم عند‬
‫َّ‬ ‫وقد َأتناســي‬
‫عرية سمة تكون يف النوق وال تكون‬ ‫الص ْي ِ‬
‫اس َتنْ َوق اجلمل »‪َ ،‬أي صار اجلمل ناقة‪ ،‬ألن َّ‬
‫ساخرا ‪ْ « :‬‬
‫ً‬ ‫فقال‬
‫يف اجلامل ‪.‬‬
‫إلنجليز‪ ،‬قوله عىل لسان إِحدى الشخصيات يف مرسحية من‬ ‫ِ‬
‫شعراء ا ِ‬ ‫وعيب عىل شكسبري ‪ ،‬كبري‬
‫مرسحياته التارخيية ‪ « :‬انطلق كالرصاصة » ـ مع َأن التشبيه يف ذاته صحيح ـ ألن البارود مل يكن قد اخترُ ع‬
‫يف العرص الذي تدور فيه أحداث املرسحية‪ ،‬وكان للشاعر مندوحة يف غري هذا من التشبيهات التي ال‬
‫تصدم القارئ َأو السامع بمخالفتها للواقع ‪.‬‬
‫ولكن األَدب ال هيتم بالواقع املادي بقدر ما هيتم بالواقع االجتامعي ‪ :‬فشعر احلامسة يف العرص اجلاهيل‬
‫سائدا يف شبه اجلزيرة؛ ووصف األَطالل والظعائن ال يمكن َأن‬
‫يرجع معظمه إىل الرصاع القبىل الذي كان ً‬
‫يوجد إال يف جمتمع تغلب عليه البداوة؛ وقد تطور شعر املدح عىل مدى العصور بحسب موقف الشاعر‬
‫منوها بفضله عىل قومه‪ ،‬كمديح زهري‬
‫من املمدوح‪ ،‬ومن مديح يوجهه الشاعر إىل عظيم من عظامء قبيلته‪ً ،‬‬
‫بن أيب سلمى يف َه ِر ِم بن سنان‪ ،‬إىل مديح تكال فيه املحامد بال حساب‪ .‬ويطلب العطاء بال حياء‪ .‬كمديح‬
‫ابن الرومي يف معارصيه من الوزراء والكرباء ؛ وتصوير الواقع االجتامعي عنرص هام من عنارص القصص‬
‫احلديث‪ ،‬فكثري من قصص حممد عبد احلليم عبد اهلل ‪ ،‬مثل «بعد الغروب» و«شمس اخلريف» تصور أثر‬
‫االنتقال من املجتمع الريفي إىل املجتمع املدين يف سلوك األفراد‪ .‬وثالثية القاهرة القديمة لنجيب حمفوظ‬
‫السكرية) تصور العادات االجتامعية بني َأجيال ثالثة‪ ،‬يف َأرسة مرصية‬
‫ّ‬ ‫( بني القرصين‪ ،‬قرص الشوق‪،‬‬
‫حمافظة تفاجئها املدنية احلديثة وتدمر َأسلوب حياهتا اهلادئ‪ .‬وال شك َأن فهم األدب ـ قديمه وحديثه ـ‬
‫صحيحا ‪ ،‬يتطلب معرفة جيدة بالواقع االجتامعي الذي يصدر عنه األَديب ‪ ،‬ومن ثم يستطيع الناقد‬‫ً‬ ‫فه ًام‬

‫‪31‬‬
‫َأن حيكم عىل مدى توفيق الكاتب املنشىء يف تقديم صورة صادقة ملجتمعه‪ .‬ولذلك فإن الناقد ال يمكنه‬
‫َأن يستغني عن اإلملام بعلم التاريخ وعلم االجتامع ‪.‬‬
‫يشء ـ تعبري عن شعور ‪ ،‬وسواء َأعبرَّ الشاعر أو الناثر عن هذا الشعور‬ ‫عىل َأن األَدب ـ َأوالً وقبل كل ٍ‬
‫مبارشا أم تكلم من خالل شخصيات يستوحيها من الواقع املعارص تارة ومن التاريخ تارة ُأخرى ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫تعبريا‬
‫ً‬
‫فإنه يثري إعجابنا ببصريته النفاذة التي تكشف عن خفايا النفوس البرشية يف أطوارها املختلفة‪ ،‬وطبائعها‬ ‫ِ‬
‫أيضا‪،‬‬
‫أنك جتدينه يف الشعر العظيم ً‬‫املتباينة‪ .‬و َأوضح ما يكون ذلك يف األدب القصيص والتمثييل ‪ ،‬عىل ِ‬
‫اقرئي هذا البيت للمتنبي مثال ‪:‬‬
‫شــباب‬
‫ُ‬
‫بتبييـض الـقــ ِ‬
‫ُرون‬ ‫ِ‬ ‫ف َيخْ ـ َفى‬ ‫ضــاب‬
‫ُ‬ ‫البيــاض ِخ‬
‫َ‬ ‫نـى كُـ َّن يل َأ َّن‬
‫ُم ً‬
‫أال ترينه قد كشف ‪ ،‬يف ومضة من ومضات اخليال‪ ،‬عن رغبتني من الرغبات الدفينة يف النفس اإلنسانية‬
‫‪ :‬رغبة الشاب يف َأن يبدو كبري السن‪ ،‬فهو يتشبه بالكبار‪ ،‬وحرسة الشيخ عىل ما مىض من شبابه‪ ،‬فهو‬
‫يتشبث به ما استطاع؛ فإِذا كان الشيخ خيضب شعره بالسواد ليبدو شاب ًا‪ ،‬فإن الشاب َ‬
‫يتمنى لو استطاع أن‬
‫خيضب شعره بالبياض ليخفي شبابه ‪.‬‬
‫وملكان الصدق النفيس يف األدب‪ ،‬حيتاج الناقد إىل َأن يدرس علم النفس دراسة وافية‪ ،‬قبل َأن يستطيع‬
‫احلكم عىل هذا اجلانب من جوانب العمل األَديب ‪.‬‬
‫وهكذا نرى َأن الثقافة املطلوبة يف الناقد تكاد تشمل املعارف ا ِ‬
‫إلنسانية مجيعها‪ ،‬عىل َأن َأهم جوانبهاـ‬
‫ونظرا التساع ُأفق النقد‪،‬‬
‫ً‬ ‫بعد الثقافة اللغوية واألَدبية ـ هي علم االجتامع وعلم التاريخ وعلم النفس‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بيشء من‬ ‫وتعدد روافده تشعبت جوانبه‪ ،‬وتنوعت اجتاهاته‪ ،‬وسنلم هبذه االجتاهات‪ ،‬وتلك اجلوانب‬
‫التفصيل يف العام القادم إن شاء اهلل ‪.‬‬

‫التجــربة والذكـــاء ‪:‬‬

‫ثمة فارق بني ثقافة الناقد وثقافة أي متخصص يف فرع معني من فروع املعرفة التي حياول الناقد أن‬
‫يسريا مما يستطيع املتخصص حتصيله ‪ .‬ولكنه‬ ‫حييط هبا‪ ،‬فبدهيي َأن الناقد ال حيصل من هذا الفرع إِال ً‬
‫جزءا ً‬

‫‪32‬‬
‫ـ من جهة ـ جيمع بني عدد من فروع املعرفة قلام جيمع بينها املتخصص يف فرع واحد‪ ،‬ثم هو ـ من جهة‬
‫ُأخرى ـ يترصف يف هذه املعارف حتى يوجهها خلدمة غرضه‪ ،‬وهو فهم النص األديب واحلكم عليه ‪ ،‬وإنام‬
‫ِ‬
‫اإلنشاء األديب‪،‬‬ ‫يترصف فيها هذا الترصف معتمد ًا عىل جتربته وذكائه‪ ،‬فالتجربة والذكاء مها األساس يف‬
‫معتمدا عىل ثقافته وحدها بل إنه‬
‫ً‬ ‫ال يستطيع الشاعر َأن يكتب قصيدة وال الروائي أن يكتب رواية مث ً‬
‫ال‬
‫فيعدل فيها ويضيف إليها وينقص‬ ‫يستمد القصيدة أو الرواية أوالً من جتربته‪ ،‬ويترصف يف هذه التجربة ّ‬
‫ومستفيدا من ثقافته؛ وإذا كان هذا من شأن األديب املنشئ يف عمله فإن األَديب‬ ‫ً‬ ‫معتمدا عىل ذكائه‬
‫ً‬ ‫منها‬
‫الناقد ال يستطيع َأن حيسن فهم هذا العمل واحلكم عليه إذا مل يسلك إِليه الطريق الذي سلكه األَديب‬
‫املنشئ ‪ .‬عىل أن دور الثقافة يف عمل الناقد أظهر منه يف عمل املنشئ ‪ ،‬ولذلك يعد النقد األديب يف منزلة‬
‫الع ْل ِم َّي ِة ‪.‬‬
‫وسطى بني الكتابة األدبية والكتابة ِ‬

‫فقوانني ِع ْل ِم االجتامع أو علم النفس قد تلقي بعض األضواء عىل النص األديب‪ ،‬ولكن الناقد يستجيب‬
‫تعبريا صاد ًقا عن ظاهرة‬
‫ً‬ ‫هلذا النص أولاً من خالل جتاربه االجتامعية ومشاعره الباطنية‪ ،‬فإذا ملس فيه‬
‫اجتامعية أو نفسية استطاع أن يعرضه عىل قوانني علم االجتامع َأو علم النفس ‪ ،‬وكثري ًا ما تكون وظيفة‬
‫إضاءة نص َأديب‬
‫َ‬ ‫الناقد يف هذه احلالة هي الرشح والتفسري‪َ :‬أي َأنه يستخدم ثقافته االجتامعية َأو النفسية يف‬
‫َأثار إِعجابه ‪.‬‬
‫سواء أكان باالستجابة َأم النفور ـ هو البذرة األُوىل‬
‫ً‬ ‫فالتأثري النفيس الذي يتلقاه الناقد من األَثر األَديب ـ‬
‫للحكم النقدي‪ ،‬ثم تأيت بعد ذلك َأنواع الثقافة من خاصة وعامة لرتفد هذا احلكم وتدعمه ‪.‬‬
‫وسوف نالحظ يف عرضنا التارخيي املوجز لتطور البالغة والنقد يف اللغة العربية َأهنام بدآ هبذه البذرة‬
‫الثأثرية ‪ ،‬ثم دخلت فيهام احلجج العقلية املستمدة من ثقافة العرص حتى اقرتبا ـ وال سيام البالغة ـ من‬
‫شكل العلم ‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ 2‬ـ بذور النقد واملالحظات البالغية‬

‫فـي اجلاهلية وصدر اإلِسالم‬

‫�أ�سواق العرب و�أثرها فـي نقد ال�شعر ‪:‬‬

‫الشعراء وتفضيل بعضهم عىل بعض ‪ .‬والعرب ال‬ ‫ِ‬ ‫لعلنا نجد البذرة األُوىل لنقد الشعر يف املوازنة بني‬
‫خيتلفون يف ذلك عن غريهم من األمم ‪ ،‬فأقدم نص يوناين نعرفه يف النقد األديب (‪ )١‬هو جزء من مرسحية‬
‫« الضفادع » ألرسطو فانيس ‪ ،‬وهو يدور حل موازنة بني الشاعرين السابقني أيسكيلوس ويوريبيديس يف‬
‫أبيات بعينها‪ ،‬وينتهي إىل تفضيل األول منها‪ .‬وأسلوب النقد هنا ُأسلوب ت َأ ُّثري يتجىل فيه اإلعجاب بالشاعر‬
‫ِ‬
‫واهلجاء ‪.‬‬ ‫املتقدم ( َأيسكيلوس) واإلزراء باملتأخر ( يوريبيديس)‪ ،‬فهو َأقرب إىل أن يعد ً‬
‫مزجيا من املدح‬
‫وكانت أسواق العرب ـ ال سيام سوق عكاظ ـ تضم ندوات أدبية تنشد فيها األَشعار وتلقى األَحكام‬
‫األدبية‪ .‬ويروى أن النابغة الذبياين كانت ترضب له قبة من جلد يف سوق عكاظ ويفد إليه الشعراء فينشدونه‬
‫ويسمعون ر ْأيه‪ ،‬فيقال إن األعشى أنشده ذات مرة‪ ،‬وتاله حسان بن ثابت‪ ،‬ثم اخلنساء‪ ،‬فأعجب بشعرها‪،‬‬
‫قدم عليها‬ ‫إلنس‪ .‬أي أنه ّ‬ ‫وقال هلا ‪ :‬لوال أن أبا بصري ـ يعني األعشى ـ أنشدين لقلت إنك َأشعر اجلن وا ِ‬
‫وقدمها عىل حسان‪ ،‬وطبيعي أن يسخط حسان عىل هذا احلكم‪ ،‬ويرد عىل النابغة ر ًدا عني ًفا ‪.‬‬ ‫األْعشى‪ّ ،‬‬
‫وقد وردت هذه القصة بروايات متعددة‪ ،‬وتذهب بعض الروايات إىل َأن حسان حتدى النابغة ببيته‬
‫الذي يقول فيه ‪:‬‬
‫ٍ‬
‫نجــدة دمـا‬ ‫رن ِمــ ْن‬
‫و َأسـيا ُفنا يقـ ُط َ‬ ‫بالضحى‬
‫يلم َع َن ُّ‬
‫اجلفنات الغ ُُّر َ‬
‫ُ‬ ‫لنا‬
‫(‪)2‬‬

‫فقال له النابغة ‪ :‬إنك قلت ‪ « :‬اجلفنات » ‪ ،‬فقللت العدد‪ ،‬ولو قلت ‪ « :‬اجلفان» لكان أكثر؛ وقلت ‪« :‬‬
‫(‪ )١‬يرجع هذا النص إىل القـرن الرابع قبل امليــالد وأرسطو فانيس هو أشهر مؤلفي املهـازل من شعراء اليونان‪ .‬أما أيسكيلوس ويوريبيديس‬
‫ـ وثالثهام سوفوكليس ـ فهم أشهر شعراء املآيس عندهم ‪.‬‬
‫(‪ )2‬مجع جفنة وهي القصعة يوضع فيها الطعام وتالحظ الطالبة تفرقة النابعة بني مجع القلة ومجع الكثرة ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫بالد َجى » لكان أبلغ يف املديح‪ ،‬ألن الضيف بالليل أكثر طرو ًقا ؛‬ ‫يرب ْقن ُّ‬
‫يلمعن بالضحى» ولو قلت ‪ُ « :‬‬
‫وقلت ‪ « :‬يقطرن من نجدة دما » فدللت عىل قلة القتل‪ ،‬ولو قلت ‪« :‬جيرين» لكان أكثر النصباب الدم ‪.‬‬
‫ومل تكن هذه « املسابقات األدبية» مقصورة عىل سوق عكاظ‪ ،‬فريوى َأن َأربعة من شعراء متيم اختلفوا‬
‫السعدي‪ ،‬وعمرو بن األهتم ‪.‬‬‫ّ‬ ‫الز ْب ِرقان بن بدر ‪ ،‬و َع َب َد ُة بن الطيب‪ ،‬واملُخَ َّبل‬
‫يف َأهيم َأشعر ‪ ،‬وهم ‪ِّ :‬‬
‫فحكَّموا بينهم ربيعة بن ِحذار األَسدي فقال ‪ :‬أما عمرو فشعره ُبرو ٌد يمن ِّية ُت ْطوى وتنرش‪ ،‬و َأما أنت يا‬
‫ٍ‬
‫كمزادة (‪)١‬‬ ‫زبرقان فإن شعرك كلحم مل ُينْضج فيؤكل وال ُت ِرك ني ًئا فينتفع به ‪ ،‬و َأما َأنت يا عبدة فإِن شعرك‬
‫ِ‬
‫خرزها فليس يقطر منها يشء ‪.‬‬ ‫ُأحكم ْ‬
‫ألحكام األدبية يف هاتني القصتني ‪.‬‬ ‫ويالحظ الطابع الت َأ ُّثري ل َ‬
‫أن يبني َأسباب هذا احلكم‪ ،‬ولعله‬ ‫أما النابغة فإنه قدم األ َعشى عىل اخلنساء واخلنساء عىل حسان دون َ‬
‫دخل مع حسان يف بعض تفاصيل الصياغة كام ذهبت بعض الروايات ‪ ،‬بحيث يمكننا َأن نعد نقده لبيت‬
‫حسان من بواكري النقد البالغي‪ ،‬فهو يقوم عىل َأن الصياغة جيب أن تؤدي املعنى َأ ً‬
‫داء قوي ًا‪ ،‬وهذا ما سامه‬
‫البالغيون فيام بعد « باملبالغة» وعدوه لو ًنا من ألوان البديع‪ ،‬ولكن الغالب عىل النقد يف العرص اجلاهيل‬
‫هو الطابع الت َأ ُّثرى اخلالص كام نرى يف أحكام ربيعة بن ِحذار األَسدي عىل الشعراء التميميني األَربعة‪،‬‬
‫فهي أحكام إمجالية ال تتناول نصوص ًا معينة بالتحليل الذي يكشف عن نقاط القوة والضعف يف صياغتها‬
‫جاءت يف صورة التشبيه ‪ ،‬والتشبيه أقرب إىل اللغة الشعرية االنفعالية منه إىل‬
‫ومعانيها‪ ،‬ثم إن ثالثة منها َ‬
‫اللغة العلمية املنضبطة ‪.‬‬

‫�أحكـام اجلمهــور ‪:‬‬

‫نعرف نقاد ًا مكيني‬


‫ُ‬ ‫ويبدو َأن مكة كانت َأشبه بعاصمة َأدبية لبالد العرب يف العرص اجلاهيل‪ ،‬ولكننا ال‬
‫يف اجلاهلية‪ ،‬وإنام نعرف َأن العرب كانت تعرض أشعارها عىل قريش فام قبلوه منها كان مقبـوالً وما‬

‫(‪ )١‬قربة ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ر ّدوه كان مردود ًا ‪ ،‬أي َأن الشعراء كانوا حيتكمون إىل مجهور أهل مكة‪ ،‬وش ْأن اجلمهور يف كل عرص أن‬
‫يستحسن ما يستحسن و ُيسقط ما يسقط دون أن يعلل حكمه باالستحسان أو ضده ؛ فريوى َأن علقمة‬
‫ابن َع َبدة التميمي قدم عليهم فأنشدهم قصيدته التي مطلعها ‪:‬‬
‫َأ ْم حب ُلها إِذ َن َأ ْت َ‬
‫ـك اليـوم مصـروم (‪)١‬‬ ‫مكتوم‬ ‫استو َد ْع َت‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هل ما َعل ْم َت وما ْ‬
‫فقالوا ‪ :‬هذه ِس ُ‬
‫مط (‪ )٢‬الدهر‪ ،‬ثم عاد إليهم يف العام التايل َفأ ْن َش َدهم قصيدته التي مطلعها ‪:‬‬
‫مشـيب‬ ‫عرص َ‬
‫حان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫طحا (‪َ )٣‬‬
‫ُ‬ ‫الشــباب َ‬ ‫ُب َعــ ْي َد‬ ‫طروب‬
‫ُ‬ ‫احلسان‬ ‫قلب يف‬
‫بك ٌ‬
‫فقالوا ‪ :‬هاتان سمطا الدهر ‪:‬‬
‫ومن قبيل هذا النقد الذي نستطيع أن نسميه نقـد اجلمـهور مـا يروى من أن النابغة الذبيـاين كان‬
‫ُي ْق ِوي (‪ )٤‬يف شعره‪ ،‬فنزل َ‬
‫يثرب ف َأوعز َأهلها إىل جارية أن تغنيه بقوله ‪:‬‬
‫زو ِد‬‫وغــــــري ُم َّ‬
‫َ‬
‫عجـــــالن ذا ٍ‬
‫زاد‬ ‫َ‬ ‫رائـح َأو مغـــــــتدي‬‫ٌ‬ ‫َأ ِمن آل م ّيــ َة‬
‫ُـداف (‪ )٥‬األَســو ُد‬
‫حد ْثنـا الغ ُ‬
‫وبذاك َّ‬ ‫البـــوارح َأ َّن رحل َتـنا ً‬
‫غـدا‬ ‫ُ‬ ‫زعــــم‬
‫َ‬
‫الر ِو ّي يف كل من البيتني ظهر له هذا العيب فلم يعد إليه ‪.‬‬
‫فحني مدت صوهتا بحركة َّ‬
‫ومن قبيل االستحسان املطلق اتفاق العرب عىل تفضيل سبع َأو عرش من القصائد الطوال ِه َي التي‬
‫سميت باملعلقات‪ ،‬وال ُي ْعرف َأصل هذه التسمية عىل وجه اليقني وال من أطلقها‪ ،‬وهناك رواية تقول ‪:‬‬
‫بامء الذهب وعلقوها عىل أستار الكعبة ومع أن‬‫إن العرب اختاروا هذه القصائد وكتبوها عىل ال َقبا ّطي (‪ِ )6‬‬
‫مؤرخي العرب يض ِّعفون هذه الرواية ‪ ،‬فحقيقة التفضيل نفسها غري مذكورة‪ ،‬ومن املرجح أهنا ترجع إىل‬
‫العرص اجلاهيل ‪.‬‬

‫(‪ )١‬مقطوع ‪.‬‬


‫(‪ )٢‬عقد‪ ،‬شبهوا القصيدة بالعقد النادر لنفاستها ‪.‬‬
‫(‪ )٣‬مال ‪.‬‬
‫(‪ )٤‬اإلقواء هو اختالف حركة القافية كام يظهر يف البيتني التاليني ‪.‬‬
‫(‪ )٥‬الغداف ‪ :‬الغراب‪ ،‬والبارح من الطري هو ما يمر من يمني اإلنسان إىل يساره‪ ،‬وكانت العرب تتشاءم منه‪ .‬وهو أمر أبطله اإلسالم‪.‬‬
‫(‪ )6‬صنف من احلرير النفيس كان جيلب من مرص ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫نقدا ت َأ ُّثر ّيا‪ ،‬يميل إىل األحكام‬
‫ومن هذه األمثلة التي ذكرناها يتضح أن النقد يف العرص اجلاهيل كان ً‬
‫املطلقة‪ ،‬وخيلوا أو يكاد من التحليل والتعليل‪ .‬وقد نجد فيه بذور ًا قليلة لنقد الصياغة‪ ،‬الذي دخل فيام‬
‫ِ‬
‫نقدا فيه يشء غري‬
‫ب إىل بعض اجلاهليني ً‬ ‫بعد يف بحث الفصاحة والبالغة ‪ .‬وهناك روايات ُأخرى َتنْس ُ‬
‫قليل من تفصيل األحكام عىل الصياغة واملعاين ‪ ،‬ولكنها روايات ضعيفة ‪ ،‬ولذلك ر َأينا َأال نقف عندها‬
‫‪.‬‬
‫لإ�سالم ‪:‬‬
‫نقد ال�شعر فـي �صدر ا ِ‬

‫كان الشعر سالح ًا من أسلحة املعركة التي دارت رحـاها بني اإلسـالم وخصومه بعد هجرة رسول‬
‫ِ‬
‫وأصحابه إىل املدينة ‪.‬‬ ‫اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم‬
‫ِ‬
‫وقد توىل الرد عىل شعراء قريش ثالثة من شعراء األَنصار ‪ ،‬وهم ‪َّ :‬‬
‫حسان بن ثابت‪ ،‬وعبد اهلل بن‬
‫رواحة ‪ ،‬وكعب بن مالك ‪.‬كان ثالثتهم ينافحون عن املهاجرين واألنصار وهيجون كفار قريش‪ ،‬ولكن‬
‫هؤالء كانوا جيزعون من شعر حسان ما ال جيزعون من شعر صاحبيه‪ ،‬ألن حسان كان يغمز َأنساهبم‬ ‫ِ‬
‫يعتزون بيشء كام يعتزون باألنساب واألحساب‪ ،‬فلام دخل كفار‬ ‫و َأحساهبم‪ ،‬ومل يكن العرب يف اجلاهلية ُّ‬
‫قريش يف ا ِ‬
‫إلسالم كانوا َأشد جز ًعا من شعر عبد اهلل بن ُر َواحة‪ ،‬ألنه كان يعيرّ هم بالكفر‪ .‬وهنا نلمس َأثر‬
‫إلسالم يف تبديل القيم التي تقوم عليها معاين الشعر‪ .‬فقد أصبح العرب حني َأسلموا يرون الكفر ّ‬
‫مذمة‬ ‫ا ِ‬
‫مر من قعود احلسب وغموض النسب‪ ،‬ومعنى ذلك َأن الشعر َأصبح يف نظر اجلمهور الذي يستمع إليه‬ ‫َأ ّ‬
‫مرتبط ًا بالدين واألَخالق‪ .‬وقد وضح التنزيل احلكيم الفرق بني هذين النوعني من الشعر بجالء تام‪،‬‬
‫وذلك يف قوله تعاىل ‪:‬‬
‫﴿‬

‫﴾ الشعراء ‪.‬‬
‫مد االجتاه الديني األخالقي نقد الشعر باألساس النظري الذي كان ُي ْع ِوزه ‪ ،‬فظهرت فيه بعض‬
‫وقد َأ ّ‬
‫األحكام املع ّللة‪ ،‬ومن ذلك ما رواه ابن عباس عن عمر بن اخلطاب ـ ريض اهلل عنهام ـ وقد سأله عمر‪:‬‬

‫‪37‬‬
‫هل تروي لشاعر الشعراء ؟ قال ابن عباس ‪ :‬قلت ‪ :‬ومن هو يا أمري املؤمنـني ؟ قال ‪ :‬ابن أيب ُس ْل َمى ‪.‬‬
‫وشـي(‪ )١‬الكالم‪ ،‬وال ُيعاظِل (‪ )٢‬من املنطق‪ ،‬وال يمتدح‬ ‫قلت ‪ :‬وبم صار كذلك ؟ قال ‪ :‬ألنه ال ي َّتبع ح ِ‬
‫ُ‬
‫الرجل إِال بام يكون فيه ‪.‬‬
‫قدم ُز َه ًريا عىل سائر الشعراء لسببني ‪:‬‬
‫فعمر ريض اهلل عنه َّ‬
‫َأحدمها يرجع إىل املعاين واآلخر إىل الصياغة‪ ،‬ف َأما السبب الذي يرجع إىل املعاين فهو َأنه ال ينسب إىل‬
‫يتحرى الصدق يف مدحه عىل خالف معظم الشعراء‪ ،‬وهكذا نرى املقياس‬ ‫ممدوحه فضائل ليست فيه ‪ ،‬فهو ّ‬
‫األخالقي يف نقد الشعر ظاهر ًا جل ّيا ؛ وأما السبب الذي يرجع إىل الصياغة فوضوح َألفاظه وتراكيبه‪ ،‬وإذا‬
‫تأملت ر َأيت َأن هذا السبب وثيق الصلة بالسبب األول‪ ،‬فالشاعر الصادق الذي ال يتكلف يف معانيه‬
‫َح ِر ٌّي َأال يتكلف كذلك يف َألفاظه‪ ،‬والشعر الذي يؤدي رسالة تعليمية َح ِر ٌّي أن يكون واضح ًا حتى‬
‫يفهمه الناس ‪.‬‬
‫لس َح ْيم (أ) ‪:‬‬
‫وكام كان عمر ريض اهلل عنه يستحسن شعر زهري ‪ ،‬كان يستحسن هذا البيت ُ‬
‫ِ‬
‫للمرء ناه ًيا‬ ‫سالم‬
‫إل ُ‬ ‫الشيب وا ِ‬
‫ُ‬ ‫كفى‬ ‫ــزت غـاز ًيا‬
‫جتـه َ‬ ‫ُع َمـيرْ َة َو ِّد ْع إِن َّ‬
‫ظهورا يف هذا البيت‪ ،‬مع سهولة واقتصاد يف األُسـلوب و ُيروى أن‬ ‫ً‬ ‫واملعنى الدينى األخالقي أكثر‬
‫عمر ـ ريض اهلل عنه ـ حتدث عن الشعر مرة مع وفد قدم من غطفان فسأهلم ‪ :‬أي شعرائكم الذي يقول ‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬ ‫َأت ْي ُتـك عاريـ ًا َخ َلقـــ ًا ثيــــابي‬
‫الظنــون‬ ‫عـلى خــوف ُت َظ ُّن َ‬
‫بي‬
‫فقالوا ‪ :‬النابغة‪ ،‬فس َألهم ‪ ،‬أي شعرائكم الذي يقول ‪:‬‬
‫مذهــب‬ ‫ِ‬
‫للمـرء‬ ‫وراء الله‬ ‫َح َل ْف ُت فلم َأتـرك لنفسـك ريبــ ًة‬
‫ُ‬ ‫وليـس َ‬
‫قالوا ‪ :‬النابغة‪ ،‬قال أي شعرائكم الذي يقول ‪:‬‬
‫المنْ َت َأى َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫كالليــل الذي هـو ُم ْد ِركي‬
‫واسع‬
‫ُ‬ ‫عنك‬ ‫وإن خ ْل ُت َأ َّن ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫فإنـك‬

‫(‪ )١‬الغريب املهجور من الكالم ‪.‬‬


‫(‪ )٢‬املعاظلة يف الكالم ‪ :‬تعقيده وتداخله ‪.‬‬
‫عبدا حبشي ًا ‪.‬‬
‫«أ» سحيم عبد بنى احلسحاس شاعر من املخرضمني كان ً‬

‫‪38‬‬
‫قالوا ‪ :‬النابغة ‪ ،‬قال ‪ :‬هذا َأشعر شعرائكم ‪.‬‬
‫تدل عىل َأن النقد ا ِ‬
‫إلسالمي مل يكن يتطلب املعنى الدينى أو األَخالقي يف كل‬ ‫وهذه القصة األخرية ّ‬
‫ال للحـكم الذي أصـدره‪ ،‬كام فعل يف قصته مع ابن عبـاس‬‫بيت ‪ ،‬وعمر ـ ريض اهلل عنه ـ مل يقدم هنا تعـلي ً‬
‫ـ ريض اهلل عنه ـ بل ترك ملخاطبيه أن يستنتجوا من هذه األبيات التي اختارها وجه التفضيل ‪ .‬والظاهر أن‬
‫السبب هنا ال خيتلف عن السبب يف تفضيله زهري ًا ‪ ،‬وهو صدق املعنى مع وضوح اللفظ ‪.‬‬
‫بسب‬
‫ّ‬ ‫وكان لعمر ـ ريض اهلل عنه ـ موقف صارم من اهلجاء واهلجائني‪ ،‬فلم يكن اإلسالم ليسمح‬
‫أعراض املسلمني‪ ،‬ومن ثم حبس احلطيئة حني هجا الزبرقان بن بدر‪ ،‬ثم أطلقه عىل أال يعود إىل اهلجاء‪،‬‬
‫واشرتى منه َأعراض املسلمني بمبلغ من املال ‪.‬‬

‫�أثر القر�آن الكرمي فـي تغيري مفاهيم العرب الفنية ‪:‬‬

‫الشك أن القرآن الكريم كان له األثر األكرب يف تغيري مفاهيم العرب الفنية عىل النحو الذي وصفناه‪.‬‬
‫لقد هبرهم بنمط من القول ال عهد هلم بمثله ‪ ،‬فوقفوا أمامه حيارى ‪:‬‬
‫قالوا ‪ :‬أضغاث َأحالم بل افرتاه بل هو شاعر ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬أساطري األولني اكتتبها فهي تمُ ْلىَ عليه ُبكر ًة و َأصيال ‪.‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إنه سجع كسجع الكهان ‪.‬‬
‫روي َأن الوليد بن املغرية سمع من رسول‬ ‫وكانت هذه املزاعم ظاهرة البطالن لوال املكابرة والعناد ‪ُ .‬‬
‫اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ سورة السجدة ‪ .‬فلام خرج من عنده عليه الصالة والسالم قال‪ :‬سمعت من‬
‫إلنس وال من كالم اجلن‪ ،‬وإِن له حلالوة وإِن عليه لطالوة‪ ،‬وإنه يعلو وال‬ ‫كالما ليـس من كالم ا ِ‬ ‫حممد ً‬
‫ِ‬
‫اخلطباء ‪،‬‬ ‫ف عليه الفرق بني هذا النمط املعجز وما عرفه من منظوم الشعراء ومنثور‬ ‫ُيعىل ‪ .‬فالوليد مل يخَ ْ َ‬
‫ف عليه َأنه نمط خمتلف عام سمعه من سجع الكهان‪،‬‬ ‫وهذا ما عناه بقوله إنه ليس من كالم ا ِ‬
‫إلنس‪ ،‬كام مل يخَ ْ َ‬
‫وهذا ما عناه بقوله إِنه ليس من كالم اجلن‪ ،‬ثم غلبته ِش ْق َو َت ُه فأدبر واستكرب ‪ ،‬فلم يستطع َأن يصفه إِال ب َأنه‬
‫« سحر ُي ْؤ َثر » ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وقد َر ّد الذكر احلكيم عىل مزاعم الكفار مشري ًا إىل َأهنم إِنام يتعامون عن احلقيقة ألن قلوهبم ُأشربت‬
‫الكفر ‪:‬‬
‫﴾ ( سورة الحاقة ) ‪.‬‬ ‫﴿‬
‫﴾ ( سورة يس اآلية ‪.)69‬‬ ‫﴿‬
‫﴿‬
‫﴾ ( سورة النحل ‪. )103‬‬
‫تحداهم َأن ي ْأتوا بمثله ‪﴿ :‬‬
‫ولكي يقطع عليهم الحجـة‪ّ ،‬‬
‫﴾ ( سورة الطور) ‪.‬‬
‫﴿‬
‫﴾ ( سورة اإلسراء) ‪.‬‬
‫تحداهم أن ي ْأتوا بعشر سور مثله ‪:‬‬‫ثم ّ‬
‫﴿‬
‫﴾ ( سورة هود ‪. )13‬‬
‫ثم تحداهم َأن يأتوا بسورة واحدة مثله ‪:‬‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫( سورة يونس ‪.)38‬‬
‫﴿‬
‫﴾ ( سورة البقرة ‪. )23‬‬
‫ِ‬
‫استواء نظمه ليعلموا َأنه فوق كالم البشر ‪:‬‬ ‫ودعاهم َأن يمعنوا النظر في‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫( سورة النساء ‪. )82‬‬
‫‪40‬‬
‫وكان هذا الجدل كله داعي ًا ألَن يتأمل العرب ـ قبل إِسالمهم وبعد إسالمهم ـ القيم الفنية التي‬
‫احتوى عليها القرآن الكريم‪ ،‬و َأن يالحظوا الفروق بينه وبين غيره من َأجناس الكالم وال سيما الشعر‪.‬‬
‫مهم في ُأصول النقد ‪.‬‬
‫والنَ ُظر في هذه الفروق باب ّ‬
‫وقد أرشدهم القرآن الكريم نفسه إِلى فارق عظيم الشأن حين ن ّبه في آية من سورة يس إِلى َأ َّن الشعر‬
‫ال يليق بمرتبة النبوة ‪:‬‬
‫﴾ ( سورة يس ‪. )69‬‬ ‫﴿‬
‫إلعجاب فحسب‪ ،‬و َأهم‬ ‫فالشعر ـ كام الحظه املفرسون ـ ال خيلو من زخرف يراد به إثارة الطرب َأو ا ِ‬
‫تنزه القرآن الكريم عن ذلك ‪ ،‬ففيه وقع شديد الت ْأثري يف النفس‪ ،‬ولكنه ال‬‫زخارفه الوزن والقافية‪ ،‬وقد ّ‬
‫جيري عىل نسق واحد ك َأوزان الشعر؛ ولكثري من آياته فواصل قد تبدو شبيهة بالقوايف‪ ،‬ولكنها ال ُتلتزم‬
‫كام تلتزم القوايف؛ ذلك بأن القرآن الكريم ال يريد تلهية سامعيه كلهوهم بسامع الشعر‪ ،‬وإنام يريد تذكريهم‬
‫ِ‬
‫وتنبيههم ‪ ،‬فهو «ذكر» يوقظ وليس شعر ًا يهُ َ ْدهد ‪ ،‬وهو « قرآن» يتىل وليس ً‬
‫غناء ُيترَ َّنم به‪ ،‬وهو « بيان »‬
‫يكشف الغموض « وبالغ» يؤدي الرسالة‪« ،‬وفرقان» يميز بني احلق والباطل ‪.‬‬
‫وقد تشبع املسلمون هبذه القيم اجلديدة وخالطت عقوهلم وقلوهبم‪ ،‬وظهرت يف النثر اإلسالمي‬
‫بأوضح مما ظهرت يف الشعر ‪ ،‬وال س َّيام أحاديث الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ وكتبه ‪ ،‬وخطب خلفائه‬
‫ِ‬
‫عليك اآلن‬ ‫بك نامذج منها يف دروس تاريخ األدب‪ ،‬ولكننا نعرض‬ ‫الراشدين ورسائلهم‪ ،‬وقد مرت ِ‬
‫إلسالم‪ ،‬يف تلك املنافرة التي جرت بني وفد متيم حني قدموا‬ ‫نموذج ًا للبالغتني ‪ :‬بالغة اجلاهلية وبالغة ا ِ‬
‫إىل رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ بعد فتح مكة ‪ ،‬وخطيب األنصار ثابت بن قيس اخلزرجي ‪،‬‬
‫وشاعرهم حسان بن ثابت ‪.‬‬
‫والمنافرة نوع من المباراة الكالمية كان معرو ًفا في الجاهلية‪ ،‬فكان الح ّيان َأو الرجالن إِذا تنازعا‬
‫يعدد فضله في الحسب والنسب‪ ،‬فمن‬ ‫السيادة ُأقيم لهما مجلس مشهود عند َحكَم يرضيانه‪ ،‬و َأخذ كل ِّ‬
‫عال بحجته حجة خصمه َن َّف َر ُه الحك َُم َأي جعل له الفضل على قرينه‪ .‬وقد كانت جر َأ ًة ومكابر ًة من بني‬
‫تميم وال شك أن ينافروا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ينافروا األنصار في حضرته‪ ،‬ولكنهم‬
‫ِ‬
‫قدموا عليه وهم أهل جاهلية‪ ،‬لم يتأ َّدبوا بأدب اإلسالم‪ ،‬وظهر ذلك في مسلكهم قبل أن يظهر في‬

‫‪41‬‬
‫أقوالهم‪ ،‬فقد دخلوا مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونادوه ـ عليه الصالة والسالم ـ من ِ‬
‫وراء‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫حجراته أن اخرج إلينا يا محمد ‪ .‬فتأذى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صياحهم‪ ،‬وفي ذلك نزلت‬
‫اآليتان الكريمتـان ﴿‬
‫﴾ ( سورة الحجرات ) ‪.‬‬

‫منافرة بني متيم والأن�صار فـي جمل�س ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم ‪:‬‬

‫تقول الرواية ‪ :‬إِن الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ عندما خرج إىل وفد متيم قالوا ‪ :‬يا حممد جئناك‬
‫لنفاخرك‪ ،‬ف ْأذن لشاعرنا وخطيبنا‪ ،‬قال ‪ :‬قد َأذنت خلطيبكم فليقل‪ ،‬فقام ُع ِ‬
‫طار ُد بن حاجب فقال‪ « :‬احلمد‬
‫املعروف‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫نفعل منها‬ ‫عظاما‬
‫ً‬ ‫ووهب لنا أمواالً‬
‫َ‬ ‫الفضل ‪ ،‬وهو أه ُل ُه‪ ،‬الذي جع َلنَا ُملوك ًا‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫هلل الذي ل ُه علينا‬
‫ِ‬
‫الناس وأويل‬ ‫برؤوس‬ ‫الناس ؟ َألسنا ُ‬‫ِ‬ ‫فم ْن ِم ْث ُلنا يف‬ ‫املرشق وأك َثر ُه عدد ًا ‪ ،‬و َأ َّ‬
‫شد ُه ُعد ًة ‪َ ،‬‬
‫ِ‬ ‫أعز َأ ِ‬
‫هل‬ ‫وجعلنا َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اإلكثار ‪.‬‬ ‫الكالم‪ ،‬ولكننا َتنَ َّح ْينا ِ‬
‫عن‬ ‫َ‬ ‫ألكثرنا‬
‫ْ‬ ‫عد ْدنا ُه‪ ،‬وإِنا لو ُ‬
‫نشاء‬ ‫مثل ما َ‬ ‫فضل ِه ْم ؟ َف َم ْن َ‬
‫فاخ َرنا َف ْل َي ْع ُد ْد َ‬
‫فضل من ِ‬
‫أمرنا » ‪.‬‬ ‫بمثل قولِنا‪ٍ ،‬‬
‫وأمر َأ َ‬ ‫قول هذا اآلن ت ْأتوا ِ‬ ‫و َأ ُ‬
‫ثم جلس‪ ،‬فقال رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ لثابت بن قيس اخلزرجي ‪ :‬قم فأجب الرجل يف‬
‫خطبته‪ ،‬فقام ثابت بن قيس فقال ‪:‬‬
‫ِ‬
‫قط‬‫يشء ٌّ‬‫علم ُه‪ ،‬ومل يك ْن ٌ‬ ‫واألرض َخ ْل ُق ُه‪ ، ،‬قىض فيه َّن َأ َم َر ُه ‪ ،‬ووس َع كرس َّي ُه ‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫السموات‬
‫ُ‬ ‫« احلمد هلل الذي‬
‫كر َم ُه نسب ًا‪ ،‬و َأ َ‬ ‫فعل ِه‪ ،‬ثم كان من ُقدرتِ ِه َأ ْن جع َلنَا ملوك ًا ‪ ،‬واصطفى من ِ ِ ِ‬ ‫إِلاّ ِمن ِ‬
‫صد َق ُه‬ ‫خري خلقه رسوالً ‪َ ،‬أ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫الناس إىل‬ ‫ثم دعا‬ ‫َ ِ‬ ‫حديث ًا ‪ ،‬و َأفض َله حسب ًا‪ ،‬فأنزل عليه كتا َب ُه‪ ،‬وا ْئ َت َمنَ ُه عىل خلقه‪،‬‬
‫َ‬ ‫وكان خري ًة من العاملني؛ َّ‬
‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ا ِ‬
‫هم ُوجوه ًا‪،‬‬ ‫الناس َأحساب ًا‪ ،‬و َأحسنُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫املهاجرون من قومه وذوي رمحه‪َ ،‬أ ُ‬
‫كرم‬ ‫َ‬ ‫برسول اهلل‬ ‫إليامن به ‪ ،‬فآم َن‬
‫ِ‬
‫اخللق إِجاب ًة‬ ‫ثم كان َأ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ‬ ‫ُ‬ ‫حني دعا ُه‬
‫استجاب هلل َ‬
‫َ‬ ‫ول‬ ‫الناس فعاالً؛ َّ‬ ‫وخري‬
‫ُ‬
‫ودمه‪ِ،‬‬‫نقاتل حتى يؤمنوا‪ ،‬فمن آمن باهلل ورسولِ ِه م ِّتع باملِ ِه ِ‬ ‫رسول اهلل‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫ووزراء‬ ‫أنصار اهلل‬ ‫نح ُن؛ فنح ُن‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وأستغفر اهلل يل وللمؤمنني واملؤمنات ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫يسريا ‪َ .‬أ ُ‬
‫قول هذا‬ ‫جاهدناه يف اهلل َأبد ًا‪ ،‬وكان ْقت ُل ُه علينا ً‬ ‫ْ‬ ‫وم ْن َك َف َر‬‫َ‬
‫والسالم عليكم » ‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫فقام الزبرقان بن بدر التميمي فقال ‪:‬‬
‫ــب البِ َي ُع‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫(‪)١‬‬
‫الملــ�وك وفينــا ُتنْ َص ُ‬ ‫منَّا‬ ‫يفـاخ ُرنا‬ ‫حـ�ي‬
‫ٌّ‬ ‫الكـــرام فـال‬
‫ُ‬ ‫نحـ� ُن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫�ع‬ ‫ُ‬
‫وفض�ل الع ِّ�ز ُي َّت َب ُ‬ ‫عن�د النِّه�اب‬‫َ‬ ‫وك�م َق َس ْ�رنا م�ن األحي�اء ُك ِّل ِه ُ‬
‫�م‬ ‫ْ‬
‫م�ن الش�واء إذا ل�م يون�س ال َق�زع (‪)٢‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القح�ط ُم ْط َع َمن�ا‬ ‫ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ َ‬ ‫عن�د‬
‫�م َ‬ ‫ونح� ُن ُن ْطع ُ‬
‫فقال رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ حلسان بن ثابت ؛ قم فأجب الرجل فيام قال فقال حسان ـ‬
‫رىض اهلل عنه ـ ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫الذوائ�ب(‪ )3‬م�ن فِ ْه ٍ‬ ‫إِ َّن‬
‫ب�ع‬
‫للن�اس ُت َّت ُ‬‫ِ‬ ‫ن�وا ُس�ن ًة‬‫ق�د َب َّي ُ‬
‫ْ‬ ‫�م‬‫�ر وإخوت ِه ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫وباألمرال�ذي َش َ�ر ُعوا‬ ‫إلل�ه‬‫�وى ا ِ‬
‫َت ْق َ‬ ‫�ت س�رير ُت ُه‬ ‫كل م� ْن كا َن ْ‬ ‫يرض�ى ب�ه ُّ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫أش�ياع ِه ْم نفعوا‬ ‫النف�ع في‬ ‫ْأو حاول�وا‬ ‫�م‬
‫َ‬ ‫ض�روا َع ُد َّو ُه ُ‬
‫ُّ‬ ‫ق�وم إذا حارب�وا‬
‫ٌ‬
‫ش�رها البِ َ‬
‫�د ُع‬ ‫َّ‬ ‫س�جي ٌة تل�ك منه�م غي�ر مح َد َث ٍ‬
‫فاعل�م ُّ‬
‫ْ‬ ‫الخالئ�ق ـ‬
‫َ‬ ‫إن‬ ‫�ة‬ ‫ُ ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫س�بق ألدن�ي س� ْبق ِه ْم َت َب ُ‬
‫�ع‬ ‫ُّ‬
‫ف�كل‬ ‫�م‬ ‫بعد ُه ُ‬
‫اقون َ‬ ‫ِ‬
‫الن�اس س� َّب َ‬ ‫إن كان ف�ي‬ ‫ْ‬
‫�ون م�ا َر َقع�وا‬
‫وه َ‬‫الدف�ا ِع وال ُي ُ‬‫عن�د ِّ‬
‫َ‬ ‫�م‬‫�ت أ ُك ُّف ُه ُ‬
‫أوه ْ‬
‫الن�اس م�ا َ‬
‫ُ‬ ‫ال َي ْر َق ُ‬
‫�ع‬
‫والش� َي ُع‬
‫ِّ‬ ‫األه�واء‬ ‫إذا تفاو َت ِ‬
‫�ت‬ ‫ُ‬
‫رس�ول الل�ه ش�يع ُت ُه ْم‬ ‫أك ِ‬
‫ْ�ر ْم بق�و ٍم ‪،‬‬
‫ُ‬
‫الرجل ُمرا ٌد‪ ،‬لخَ َطي ُب ُه‬‫َ‬ ‫فلام فرغ حسـان من قوله‪ ،‬قال األقرع بن حابس التميمي ‪ « :‬وأيب ‪ ،‬إِ َّن هذا‬
‫أشعر من شاعرنا‪ ،‬وألصوا ُت ُه أعىل من أصواتِنَا» ‪ .‬فأسلموا وأحسن رسول‬ ‫ُ‬ ‫أخطب من خطيبنا‪ ،‬ولشاعر ُه‬ ‫ُ‬
‫اهلل ـ صىل اهلل عليه وس َل َم ـ جوائزهم ‪.‬‬
‫فام الذي دعا األقرع بن حابس إىل أن يقول هذا القول ؟ قد يكون من أســباب ذلك أن خطبة ثابت‬
‫ابن قيس كانت أكثر تفصيال من خطبة عطارد بن حاجب‪ ،‬وكذلك كانت أبيات حسان بالنســبة إىل‬

‫(‪ )١‬البيع ‪ :‬مجع بيعة بالكرس وهي الكنيسة أو هيئة البيع فلعله يدعي معرفتهم بالنرصانية لقرهبم من احلرية‪ ،‬ولعله أراد أهنم بنصبون جمالس‬
‫البيع والرشاء لرواج حاهلم ‪.‬‬
‫(‪ )٢‬يونس ‪ :‬خمفف عن ْيؤنِس أي يرى ‪ ،‬والقزع صغار اإلبل ‪.‬‬
‫ِ‬
‫(‪ )٣‬مجع ذؤابة وهي من كل يشء أعاله ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫أبيات الزبرقان‪ ،‬ولكن هناك سب ًبا َأهم من هذا ‪ ،‬وهوأن خطبة عطارد وشعر الزبرقان ال يؤ ّديان رسالة ما ‪،‬‬
‫فهام ال خيرجان عند تعداد املفاخر عىل عادة اجلاهليني‪ ،‬وال خيلوان من تلك املبالغة املمقوتة التي نصادفها‬
‫كثريا يف أشعارهم من مثل قول عمرو بن كلثوم‪.‬‬ ‫ً‬
‫نمــــلؤ ُه ســفينا‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫البـــحر‬ ‫ومـــاء‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ضـــاق عـنــــا‬ ‫الــرب حتـى‬
‫َّ‬ ‫مـ ْ‬
‫ألنا‬
‫وقوله ‪:‬‬
‫الجـــــبابر ساجدينا‬
‫ُ‬ ‫تخـــر لـــه‬
‫ُّ‬ ‫رضــيع‬
‫ٌ‬ ‫الفطــام لنــــــا‬
‫َ‬ ‫إذا بـلغَ‬
‫ِ‬
‫األداء الحقيقة والواقع‪،‬‬ ‫أما خطبة ثابت‪ ،‬وشعر حسان فإنهما يؤديان رسالة واضحة‪ ،‬ويلتزمان في هذا‬
‫إلسالم ويقرران َأن المسلمين مصممون على إِبالغ الدعوة‪ ،‬واثقون من نصر الله‬ ‫فهما يعلنان دعوة ا ِ‬
‫يقول عطارد عن قومه إنهم َأعز َأهل المشرق وأكثرهم عد ًدا و َأشدهم عدة‪ ،‬ويغلو حتى يزعم أنهم ليس‬
‫مثلهم في الناس ‪ ،‬فال يجيبه ثابت إِال بذكر فضل المهاجرين من قريش‪ ،‬ومنزلة قريش بين قبائل العرب‬
‫إلسالم حقيقة واقعة‪َ ،‬أما قومه األَنصار فحسبه أن يقرر سبقهم إِلى ا ِ‬
‫إلسالم‪ ،‬وثباتهم‬ ‫في الجاهلية وا ِ‬
‫على الجهاد في سبيل الله‪ ،‬ونستطيع أن نالحظ مثل هذا الفرق بين أبيات الزبرقان و َأبيات حسان ‪.‬‬
‫فإِذا أقر األقرع بن حابس بالسبق لخطيب األنصار وشاعرهم فذلك إِ ٌ‬
‫قرار بالقيم الفنية الجديدة التي‬
‫ِ‬
‫االدعاء‪ ،‬واإلقناع بدالً من اإلثارة ‪.‬‬ ‫رسمها القرآن‪ :‬البالغ بدالً من المبالغة‪ ،‬والبيان بدلاً من‬

‫‪44‬‬
‫‪3‬ـ ن�شـ�أة علــوم البــالغة‬

‫فـي ظل البحث عن إِعجاز القرآن الكريم‬

‫لإعجــاز ‪:‬‬
‫فكـرة ا ِ‬

‫كان طبيع ًيا ـ والقرآن الكريم بالغ وبيان ـ أن يشتغل املسلمون بفهم معانيه ‪ ،‬وذلك هو علم التفسري‬
‫الذي اشتهر به بعض الصحابة وعىل ر ْأسهم عبد اهلل بن عباس ريض اهلل عنهام ‪ ،‬ولكنهم كانوا ـ وهم أهل‬
‫اللغة ومعدن الفصاحة ـ يف غري حاجة إىل َأن يبحثوا يف العالقة بني َألفاظه ومعانيه‪ ،‬فقد كانوا يدركون‬
‫بفطرهتم َأن لفظ القرآن عريب وصياغته عربية‪ ،‬ويفهموهنا كام يفهمون الشعر العريب والكالم العريب‪،‬‬
‫معجزا ال يشبه فيه كالم آخر‪ ،‬أي أهنم كانوا‬
‫ً‬ ‫ويشعرون مع ذلك َأن للفظ القرآن وصياغته ً‬
‫هنجا متفر ًدا‬
‫ال دون َأن يشعروا بحاجة إىل البحث يف أرساره‪ .‬فلام امتزج العرب‬ ‫يدركون اإلعجاز فطرة ويقرون به عم ً‬
‫حس العربية بالتعلم ‪ ،‬مل جيدوا بد ًا من دراسة َألفاظ القرآن‬ ‫بغريهم من األمم واحتاجوا إىل اكتساب ّ‬
‫للتوصل إىل فهم معانيه‪ ،‬ومعرفة الرس يف إعجازه ‪ .‬وقد وجدت أقوال تذهب إىل َأن إِعجاز القرآن يرجع‬
‫إىل ما فيه من أخبار عن املغ َّيبات كقوله تعاىل ‪:‬‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫( سورة الروم )‬

‫حتداهم أن‬
‫إلعجاز وال شك ‪ ،‬ولكنه ليس النوع الذي حتدى به القرآن العرب‪ ،‬فقد ّ‬ ‫وهذا نوع من ا ِ‬
‫يأتوا بسورة واحدة من مثله‪، ،‬ومل يرد اإلخبار عن املغيبات يف مجيع سور القرآن‪ ،‬هذا إىل َأن التحدي إنام‬
‫يكون يف أمر يظنون أهنم قادرون عليه ‪ ،‬وما كان شعراؤهم وخطباؤهم يدعون علم الغيب‪ ،‬إِنام كانوا‬
‫يدعون القدرة عىل الكالم البليغ‪ .‬ومن ثم فقد غلب الر ْأي القائل ب َأن إِعجاز القرآن يرجع إىل بالغته ‪،‬‬
‫وبقي حتقيق القول يف هذه البالغة ‪.‬‬
‫وهنا نالحظ َأن البحث يف إعجاز القرآن مر بمرحلتني ‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫‪ 1‬ـ مرحلة التفسري اللغوى ملعاين القرآن الكريم ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ مرحلة التصنيف العلمي جلهات اإلعجاز البالغي ‪.‬‬

‫بحث الإعجاز والتف�سري اللغوى ملعاين القر�آن الكرمي ‪:‬‬

‫يف النصف الثاين من القرن الثاين اهلجري ‪ ،‬اكتملت علوم اللغة ضبـط ًا وتنظيماً ‪ ،‬يف هذه الفـرتة مجع (‬
‫اخلليل بن أمحد ) أول معجم عريب شامل وهو الذي ُس ّمي « كتاب العني » ألنه كان يبد ُأ بالكلامت التي‬
‫َأوهلا حرف العني‪ ،‬وكتب سيبويه كتابه اجلامع يف النحو وهو الذي َأصبح عمدة جلميع النحويني من بعده‬
‫وكانت املادة اللغوية والنحوية جتمع من أفواه األعراب الفصحاء ومن الشعر القديم الذي عني بروايته‬
‫علامء مثل ( األصمعي وأيب عبيدة) ‪ .‬وكان هذا اجلهد رضور ًيا للحفاظ عىل لغة القرآن الكريم حني‬
‫إلسالم أقوام من غري العرب‪ ،‬وظهر من العرب َأنفسهم جيل « ُمو َّلد» من ُأمهات غري عربيات‬ ‫دخل ا ِ‬
‫فكان هؤالء و ُأولئك بحاجة إىل تثقيف ألسنتهم بإنشاء الشعر وحفظ مفردات اللغة وضبط قواعدها‪،‬‬
‫تفسريا لغو ًيا يكشف عن معاين مفرداته ووجوه إعرابه‪،‬‬
‫ً‬ ‫واحتاجوا كذلك إىل َأن ُي َفسرَّ َ هلم القرآن الكريم‬
‫إلسالم أن يثريوها للطعن يف كتاب اهلل ‪.‬‬‫الش َبه التي حاول أعداء ا ِ‬ ‫كام احتاجوا إىل رد ُّ‬
‫إلسالم كانوا يدركون بسالئقهم السليمة َأن القرآن الكريم‬ ‫وقد َأسلفنا َأن العرب األَقحاح يف صدر ا ِ‬
‫يب مبني‪ ،‬فحروفه حروفها وكلامته كلامهتا وأبنيته أبنيتها وهو ـ عىل ذلك ـ ال يشاكل شي ًئا‬ ‫ُأنزل بلسان عر ّ‬
‫من كالم فصحاء العرب املشهود هلم بالبيان‪َ .‬أما املوايل واملو َّلدون فكانوا بحاجة إىل من يبينّ هلم األمرين‬
‫مع ًا‪ :‬أن القرآن الكريم جيري عىل قواعد العرب يف لغتها‪ ،‬وأنه متميز بنهج خاص يف استعامل هذه اللغة‪،‬‬
‫هو رس إعجازه ‪ ،‬فقد كانت ِتر ُد عليهم‪ ،‬حني يقرؤون القرآن ‪ ،‬أشكال من التعبري يعجزون عن ردها‬
‫إلسالم يدخلون عليهم من هذا الباب‪ ،‬ليشككوهم يف صحة‬ ‫عداء ا ِ‬
‫إىل القواعد التي تعلموها‪ ،‬فكان َأ ُ‬
‫إلسالم‪ .‬وهنا تظهر كتب تتناول « غريب القرآن» و«مشكل القرآن» و«إعراب‬ ‫لنبي ا ِ‬
‫املعجزة الكربى ّ‬
‫القرآن» لتوضح هلم ما تقرص كتب اللغة العادية عن إيضاحه من معاين القرآن الكريم ‪.‬‬
‫ىَّ‬
‫املتوف سنة ‪210‬هـ) ‪.‬‬ ‫من أوائل هذه الكتب كتاب « جماز القرآن » ( أليب عبيدة معمر بن املثنى) (‬

‫‪46‬‬
‫علامء اللغة واألدب يف البرصة‪ .‬وينبغي أن نالحظ أن كلمة « جماز» يف هذا العنوان ال تعني‬ ‫ِ‬ ‫وكان من أئمة‬
‫بالضبط ما أصبحت تعنيه بعد ذلك يف كتب البالغة‪ .‬فأبو عبيدة يستعمل كلمة املجاز يف مقدمة الكتاب‬
‫ُف عن خربه‬ ‫بمعنى « طريقة التعبري » فيقول مثال ‪ « :‬ومن جماز ما ُح ِذ َ‬
‫ف وفيه ُم ْض َم ُر ‪ « »..‬ومن جماز ما ك َّ‬
‫جاءت خماطبته خماطبة الشاهد ثم تركت وحولت خماطبته هذه‬ ‫استغناء عنه وفيه ضمري ‪ « » ..‬ومن جماز ما َ‬
‫إىل خماطبة الغائب ‪ » ..‬فكلمة جماز يف هذه املواضع تدل عىل ما تدل عليه اليوم بكلمة « ُأسلوب » ‪.‬وبعد‬
‫املقدمة ي ْأيت تفسري املواضع ا ُمل ْش ِك َلة من السور‪ ،‬عىل ترتيبها يف املصحف الرشيف‪ ،‬وهنا نجد كلمة ( جماز)‬
‫مساوية لكلمة (معنى) مرة ولكلمة (تفسري) مرة ُأخرى‪ ،‬فمن األول قوله يف تفسري أول آية من سورة‬
‫يونس ‪ « :‬تلك آيات الكتاب احلكيم جمازها ‪ :‬هذه آيات الكتاب احلكيم‪ ،‬أي القرآن‪ .‬واحلكيم ‪ :‬جمازه‬
‫ا ُمل َحكم ا ُملبِني ا ُملوضح‪ ،‬والعرب قد تضع ( َف ِعيل) يف معنى( ُم ْفعل)‪ ،‬ويف آية ُأخرى ‪ :‬هذا ما لدي عتيد ‪،‬‬
‫جمازة ‪ُ :‬معد »‪.‬‬
‫كثري منهم» جمازه عىل وجهني ‪ :‬أحدمها‬
‫وص ُّموا ٌ‬
‫جاء يف تفسري قوله تعاىل ‪َ « :‬ع ُموا َ‬ ‫ومن القسم الثاين ما َ‬
‫َأن بعض العرب يظهرون كناية االسم مع إظهار االسم الذي بعد الفعل‪ ،‬كقول أيب عمرو اهلذيل ‪ :‬أكلوين‬
‫سكت‪ ،‬فتست ْأنف‬
‫ّ‬ ‫قلت ‪ :‬عموا وصموا‪ ،‬ثم‬‫الرباغيث‪ ،‬واملوضع اآلخر َأنه ُم ْس َت ْأ َنف ألنه يتم الكالم إِذا َ‬
‫فتقول ‪ ،‬كثري منهم ‪.‬‬
‫و«املجاز» يف استعامل أيب عبيدة يمكن ـ عىل هذا ـ َأن يشمل مجيع األساليب البالغية ‪ ،‬ولكنه يف الواقع‬
‫يشري إشارات جمملة إىل بعض منها فقط‪ ،‬كاحلذف واملجاز املرسل( دون َأن يسميه هبذا االسم ) وخروج‬
‫االستفهام عن معناه إىل معنى التقرير ‪ ،‬ويالحظ َأن َأبا عبيدة يكتفي بالداللة عىل معنى اللفظة القرآنية‬
‫أو الرتكيب القرآين دون َأن يبني الرس يف جميئها عىل غري األسلوب امل ْألوف‪ ،‬أي َأنه ينبه عىل خصائص‬
‫األسلوب القرآين فحسب‪ ،‬دون أن يبني ت ْأثريها يف املعنى‪ ،‬وال غ َْرو فنحن ال نزال يف بدايات البحث‬
‫إلعجاز وتكتمل معه علوم‬ ‫البالغي‪ ،‬والبد َأن ننتظر قرابة ثالثة قرون حتى يكتمل البحث يف أرسار ا ِ‬
‫البالغة ‪.‬‬
‫ىَّ‬
‫املتوف سنة ‪209‬هـ‪ ،‬وكان شيخ النحويني‬ ‫ومن معارصي َأيب عبيدة ( َأبو زكريا يحَ ْ يى بن زياد الفراء)‬

‫‪47‬‬
‫يف الكوفة‪ ،‬وله كتاب « معاين القرآن» والصنعة ا ِ‬
‫إلعرابية هي الصفة الغالبة عىل هذا بالكتاب‪ ،‬فهو ُي ْعنَى‬
‫إلعراب‪ ،‬وما يتخللها من حذف يوجب‬ ‫ببيان ارتباط األَلفاظ بعضها ببعض‪ ،‬وما جيوز فيها من وجوه ا ِ‬
‫النحو تقديره‪ .‬وهو مثل « جماز القرآن » من حيث االكتفاء ببيان َأصل الرتكيب اللغوي واالستشهاد بام‬
‫يشبهه من كالم العرب‪ ،‬دون الدخول يف الفروق الدقيقة بني ُأسلوب و ُأسلوب ‪.‬‬
‫اهتامما باألَدب‪.‬‬
‫ً‬ ‫ولكن الناحية البالغية ال تلبث َأن تظهر يف كتاب ثالث لعامل بغدادي يمتاز ب َأنه كان أكثر‬
‫هذا الكتاب هو « ت ْأويل مشكل القرآن» البن قتيبة املتوىف سنة ‪286‬هـ ‪ )1( .‬وقد َأفاد من الكتابني السابقني‪،‬‬
‫املتوف سنة (‪255‬هـ) وابن‬‫ىَّ‬ ‫كام َأفاد كثري ًا من املالحظات املتفرقة‪ ،‬التي وردت يف كتب ُأستاذه اجلاحظ‬
‫واضحا‪ ،‬كام يتحدث عن‬‫ً‬ ‫متييزا‬
‫قتيبة يتحدث بكثري من التفصيل عن املجاز واالستعارة‪ ،‬وإن مل يميز بينهام ً‬
‫احلذف ‪ ،‬والتكرار‪ ،‬والكناية ‪ ،‬وبعض املعاين التي خيرج إليها االستفهام واألمر‪ ،‬وكثري من الشواهد التي‬
‫جاء هبا ابن قتيبة دخلت فيام بعد يف كتب البالغة ‪.‬‬
‫َ‬

‫لإعجاز ‪:‬‬
‫الت�صنيف العلمي لأبواب ا ِ‬

‫إلعجاز يف القرآن الكريم‪ ،‬ومنها كتاب‬ ‫ظهرت يف القرن الرابع عدة كتب قصدت إىل بيان نواحي ا ِ‬
‫ىَّ‬
‫املتوف‬ ‫ىَّ‬
‫املتوف سنة ‪386‬هـ ‪ .‬وكتاب « بيان إعجاز القرآن » للخطايب‬ ‫«النُّكَت يف إعجاز القرآن» ( للرما ّنى)‬
‫ىَّ‬
‫املتوف سنة ‪403‬هـ ‪.‬‬ ‫سنة ‪388‬هـ ‪ .‬وكتاب « إعجاز القرآن » للباقالين‬
‫ويف هذه الكتب ُع ِرضت ُأمهات املسائل البالغية ‪ ،‬وقد َأفاد َأصحاهبا من التفاسري اللغوية التي حتدثنا‬
‫عنها يف القرة السابقة‪ ،‬كام أفادوا من دراسات نقاد الشعر التي سنتحدث عنها فيام بعد‪ ،‬ولكنهم امتازوا‬
‫جاءت كتب ا ِ‬
‫إلعجاز َأكثر استيعا ًبا لوجوه‬ ‫عن الفريقني م ًعا بخَ صلتني ‪َ :‬أوالمها تفصيل األَقسام‪ ،‬بحيث َ‬
‫البالغة من الكتب السابقة‪ ،‬واخلصلة الثانية بيان األسباب التي ألَجلها كانت األَساليب البالغية َأقوى‬
‫ت ْأثري ًا يف النفس من األَساليب العادية‪ .‬ولعل كتاب « النكت يف إعجاز القرآن» ( للرماين) هو َأهم الكتب‬

‫(‪ )1‬انظري النص الثالث من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫تأثريا يف املؤلفات البالغية من بعد (‪ .)1‬فإىل جانب اخلصلتني اللتني سبقت ا ِ‬
‫إلشارة‬ ‫التي ذكرناها‪ ،‬و َأعظمها ً‬
‫ال بأنه « تقليل الكالم‬
‫إليهام‪ ،‬امتاز كتاب الرماين بالتعريفات املحكمة الواضحة‪ ،‬فهو يعرف ( اإلجياز ) مث ً‬
‫ويفرق بني ا ِ‬
‫إلجياز والتقصري أو‬ ‫ِ ِ‬ ‫من غري إِخالل باملعنى» ويقسمه إىل نوعني ‪ :‬إجياز َح ْذف‬
‫وإجياز قرص‪ّ ،‬‬
‫إلطناب والتطويل وقد َأخذ مؤلفو كتب البالغة ـ من بعد ـ هذه األفكار كلها‬ ‫إلخالل‪ ،‬كام يفرق بني ا ِ‬ ‫ا ِ‬
‫كثريا من نامذجه‪ ،‬كتمثيله إلجياز القرص بقوله تعاىل « ولكم يف القصاص حياة »‬ ‫الرماين‪ ،‬كام أخذوا ً‬ ‫عن ّ‬
‫ومقارنته بقول العرب ‪ « :‬القتل أنفى للقتل » ‪.‬‬
‫يسد مسد اآلخر يف ِح ِّس َأو عقل» ‪ ،‬ويقسمه قسمني‬ ‫ويعرف التشبيه ب َأنه « ال َع ْقد عىل َأن َأحد الشيئني ّ‬
‫ّ‬
‫أيض ًا ‪ :‬تشبيه شيئني متفقني بأنفسهام‪ ،‬وتشبيه شيئني خمتلفني ملعنى جيمعهام مشترَ ك بينهام‪ ،‬والقسم الثاين ـ‬
‫ال ما اصطلح البالغيون‬ ‫ِ‬
‫البلغاء‪ ،‬وهو فع ً‬ ‫الشعراء وتظهر فيه بالغة‬ ‫الرماين ـ هو الذي يتفاضل فيه‬
‫ُ‬ ‫كام يقول ّ‬
‫عىل إطالق اسم التشبيه عليه ‪ .‬ويفسرِّ بالغة التشبيه بام فيه من البيان‪ ،‬والبيان يف التشـبيه يكون عىل وجـوه‬
‫‪ :‬منها تصوير غري املحسوس يف صورة املحسوس ‪.‬‬
‫كقوله تعاىل ‪:‬‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫( سورة النور ‪)39‬‬

‫ومن وجوه البيان يف التشبيه إخراج غري امل ْألوف يف صورة امل ْألوف كقوله تعاىل يف صفه يوم القيامة‬
‫﴾ ( سورة الرمحن ‪. )37‬‬ ‫﴿‬
‫ومنها إِخراج ما ال ُي ْع َلم بالبدهية إىل ما يعلم بالبدهية كقوله تعاىل ‪:‬‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫( سورة العنكبوت ‪)41‬‬

‫جاء‬
‫وكذلك يصنع الرماين يف باب االستعارة‪ .‬وقد نقلت كتب البالغة يف العصور التالية معظم ما َ‬
‫يف هذين البابني‪ ،‬واهتم الرماين بوجوه أخرى من ا ِ‬
‫إلعجاز القرآين أشار إليها سابقوه إشارات عابرة‪،‬‬

‫(‪ )1‬انظري النص السادس من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وقرص عن توفيتها حقها من أتوا بعده‪ ،‬من ذلك كالمه عن «الترصيف» أي تناول املعنى الواحد بطرق‬ ‫ّ‬
‫خمتلفة‪ ،‬وهذا من َأ َج ّل وجوه ا ِ‬
‫إلعجاز يف القرآن الكريم‪ ،‬وأجدرها بعناية البلغاء‪ ،‬فالقرآن الكريم يتناول‬
‫إلنسان‪ ،‬وأحوال الكفار‪ ،‬وأحوال املنافقني ‪ ،‬وقصص األُمم السابقة‪ ،‬يتناول‬ ‫البعث واحلساب‪ ،‬وخ ْلق ا ِ‬
‫كل موضوع من هذه املوضوعات يف سور كثرية‪ ،‬فتتنوع طرق التناول دون أن تتعارض‪ ،‬أو تتناقض‬
‫ويكون من ذلك تشويق للسامع وتثبيت للعظة‪ ،‬وتأكيد للتحدي ‪.‬‬
‫ويفصل الرماين القول « التالؤم» أي تناسب احلروف من الناحية الصوتية‪ ،‬وهو باب من أبواب‬ ‫ِّ‬
‫وقل من عنوا به من البالغيني بعد ‪ ،‬ومعظم كتب‬ ‫قل من أشاروا إليه قبل الرماين‪ّ ،‬‬ ‫إلعجاز القرآين ّ‬ ‫ا ِ‬
‫فصيحا‪ ،‬وال تقف عند ما ن ّبه إليه‬
‫ً‬ ‫البالغة املت َأخرة تكتفي باشرتاط « اخللو من التنافر » ‪ :‬ليكون الكالم‬
‫الرماين من ( التالؤم) ال يعني جمرد اخللو من التنافر‪ ،‬فليس كل كالم خال من تنافر احلروف متالئماً‬
‫بدرجة واحدة ‪ ،‬بل إنه يتفاوت يف درجات هذه الفضيلة و َأعاله القرآن الكريم ‪.‬‬
‫إلعجاز من‬ ‫َأما كتاب «بيان إعجاز القرآن» للخطايب (‪ )1‬ف َأقل تفصيال من الناحية النظرية‪ ،‬فهو يتناول ا ِ‬
‫جهة اللفظ واملعنى‪ ،‬فقوام البالغة ثالثة عوامل ‪ :‬معنى‪ ،‬ولفظ‪ ،‬ونظم يؤلف بينهام‪ ،‬وقد بلغ القرآن الكريم‬
‫درجة تعجز عنها قوى البرش من هذه اجلهات الثالث‪ ،‬ومجع يف نظمه بني صفتي الفخامة والعذوبة‪ ،‬ومها‬
‫كالضدين‪ ،‬فإما َأن يميل الكالم إىل هذه وإما إىل تلك ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫صفتان تبدوان يف كالم البرش‬
‫ويمتاز كتاب اخلطايب بعد ذلك بإيراد األَمثلة الكثرية للتدليل عىل قيمة اللفظ القرآين َأو الرتكيب‬
‫مشريا إىل الفروق الدقيقة بني معاين املفردات التي تبدو مرتادفة ‪ ،‬أو الرتاكيب‬
‫ً‬ ‫القرآين يف سياقه اخلاص‪،‬‬
‫التي تبدو متقاربة‪ ،‬ومبينًا األرسار اللطيفة يف استعامل كلمة يبدو للنظر القارص َأن غريها أحق منها بذلك‬
‫املوضع‪َ ،‬أو تركيب يخُ َ َّيل إىل من ال حيسن الفهم َأن فيه عدولاً عن الوجه ‪.‬‬
‫وكان هلذه األَفكار امتدادها لدى عبد القاهر اجلرجاين ‪ ،‬الذي يعد مؤسس علم البالغة‪ ،‬كام سنعرف‬
‫بعد قليل ‪.‬‬
‫ولكننا ال نختم هذه الفقرة قبل َأن نشري إىل الكتاب الثالث من الكتب التي ُألفت حول إعجاز القرآن‬
‫(‪ )1‬انظرى النص السادس من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫يف القرن الرابع‪ ،‬هو كتاب « إعجاز القرآن» للباقالين (‪ .)1‬وقد نقل الباقالين عن الرماين وجوه ا ِ‬
‫إلعجاز‬
‫ِ‬
‫األدبـاء كابن املعـتز وقدامة‬ ‫التي َأوردها يف كتـابه « النـكت يف إعجاز القـرآن» ‪ ،‬كام نقل عن بعض‬
‫كثريا من وجوه البالغة التي َأطلق عليها بعضهم اسم‬ ‫بن جعـفر (سنتحدث عنهام يف الفصل التايل) ً‬
‫يضا‪ ،‬وهو أن هذه الوجوه‬ ‫« البديع»‪ ،‬ولكن الباقالين انفرد عن هؤالء مجي ًعا بر ْأي له طرافته ووجاهته َأ ً‬
‫إلعجاز‬‫إلعجاز‪ ،‬وحجته يف ذلك َأهنا يمكن َأن تحُ َ َّصل بالدراسة واملران‪ ،‬وإنام ُي ْع َرف ا ِ‬ ‫ال تكفي لتعليل ا ِ‬
‫بائتالفها مجي ًعا يف َن ْظ ٍم ال يقدر البرش َأن ي ْأتوا بمثله ‪ .‬ولكنه مل يوضح ما يقصده «بالنظم» ‪.‬‬

‫عبد القاهر اجلرجاين واكتمال علوم البالغة ‪:‬‬

‫املتوف سنة ‪471‬هـ ) املؤسس احلقيقي لعلم البالغة (‪ )2‬فقد تناول فكرة‬ ‫ىَّ‬ ‫ُيعد عبد القاهر اجلرجاين (‬
‫«النظم» التي َأشار إليها سابقوه إشارات مبهمة فحدد معناها بأنه استعامل الرتاكيب النحوية يف مواضعها‬
‫الالئقة هبا ‪ ،‬فنحن نقول ‪ :‬انطلق زيد وينطلق زيد وزيد ينطلق وزيد منطلق وزيد املنطلق واملنطلق زيد‬
‫ويف هذه اجلمل كلها ُتنْسب إىل زيد صفة االنطالق ‪ ،‬ولكن لكل تركيب من هذه الرتاكيب داللة خاصة‬
‫بحيث ال يصلح واحد منها يف املكان الذي يصلح له آخر ‪ .‬وقد تتبع عبد القاهر يف كتابه « دالئل اإلعجاز»‬
‫إلخبار بالفعل وت ْأكيد اجلملة االسمية «بإِن» واستعامل‬
‫إلخبار باالسم وا ِ‬ ‫خصائص الرتاكيب النحوية‪ ،‬كا ِ‬
‫«الذي» وحذف املبتدأ من اجلملة االسمية ‪ ..‬إلخ ‪،.‬وألح عىل تأكيد الفروق املعنوية التي حيدثها استعامل‬
‫ُأسلوب دون أسلوب‪ .‬وملا كان النَ ْظم راج ًعا إىل مالحظة الفروق املعنوية الدقيقة بني الرتاكيب النحوية‬
‫التي تشرتك يف أصل املعنى ( كنسبة صفة االنطالق إىل زيد ) فقد عرب عنه عبد القاهر اجلرجاين بأنـه‬
‫جاءت تسمية ( علم املعاين التي استخدمها البالغيون من‬ ‫مراعـاة ( معاين النحو ) ومن هذا التعبري َ‬
‫مؤسسا لعلم البيان‪ ،‬عىل الرغم‬
‫ً‬ ‫مؤسسا لعلم املعاين‪ ،‬فقد ُع ّد كذلك‬
‫ً‬ ‫بعده)‪ .‬وكام ُع َّد عبد القاهر اجلرجاين‬
‫من َأ َّن َأبواب هذا العلم قد ُعرفت كلها ( املجاز ـ االستعارة ـ التشبيه ـ الكناية) عند سابقيه‪ ،‬ولكنه فصل‬

‫(‪ )1‬انظري النص الثامن من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظري النص التاسع من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫القول فيها مبينًا تأثريها يف املعنى عىل نحو ما فعل بالرتاكيب النحوية‪ ،‬واعترب أساليب البيان خاضعة‬
‫للنظم‪ ،‬بحيث ال يتم مجال التشبيه َأو االستعارة إال برتتيب الكلامت يف اجلملة عىل نحو معني ‪.‬‬
‫وقد اقترصت جهود املؤلفني الذين تلوا عبد القاهر اجلرجاين مثل الفخر الرازي ( املتوىف سنة ‪606‬هـ)‬
‫إلعجاز » والسكاكي ( املتوىف سنة ‪626‬هـ ) صاحب كتاب «مفتاح‬ ‫إلجياز يف دراية ا ِ‬
‫صاحب كتاب «هناية ا ِ‬
‫إلعجاز» «وأرسار‬ ‫العلوم» ‪ ،‬اقترصت هذه اجلهود عىل تلخيص كتايب عبد القاهر اجلرجاين « دالئل ا ِ‬
‫مكونة من علمني أساسني ومها ‪ ( :‬علم املعاين ) ‪،‬‬ ‫البالغة» وإعادة تبوهيام‪ ،‬واعتربوا َأن علوم البالغة َّ‬
‫(وعلم البيان)‪ ،‬وعلم إِضايف ِّ‬
‫مكمل هلام وهو ( علم البديع ) عىل ما مر بك يف العام املايض ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪ 4‬ـ تطور النقد وارتباطه باملباحث البالغية‬

‫العوامل امل�ؤثرة فـي تكوين النقد العربي ‪:‬‬

‫كان تيار البحث يف إعجاز القرآن الكريم هو أقوى التيارات التي عملت يف تكوين البالغة العربية‪،‬‬
‫وإىل جانب ذلك استمر تيار نقد الشعر الذي عرفنا بداياته يف العرص اجلاهيل‪ ،‬وانضم إليه تياران جديدان‪،‬‬
‫ومها ‪ :‬تعليم اخلطابة وتعليم الكتابة‪ ،‬فعملت هذه التيارات األَربعة جمتمعة عىل تشكيل النقد العريب الذي‬
‫بلغ قمة ازدهاره يف القرن الرابع‪ ،‬وكان للظروف احلضارية التي عاش فيها العرب يف العرص العبايس‪،‬‬
‫واتصاهلم بالثقافات األجنبية وال سيام الثقافة اليونانية‪َ ،‬أثرها يف تطور النقد وتعدد اجتاهاته ‪.‬‬
‫حتى إذا كان العرص احلديث ظهرت مؤثرات حضارية جديدة كان هلا ت ْأثريها الضخم ال يف األَدب‬
‫تقدم وسائل النقل‪ ،‬مما سهل‬ ‫والنقد وحدمها‪ ،‬بل يف تغيري وجه احلياة كلها‪ ،‬ويف مقدمة هذه العوامل ُّ‬
‫االتصال بني األُمم املختلفة‪ ،‬واخرتاع املطبعة وانتشار الصحافة‪ ،‬مع ما كان هلام من َأثر يف اتساع اجلمهور‬
‫القارئ وتنوع فنون األدب واجتاهاته‪ .‬وقد شملت هذه التغيريات العامل العريب فيام شملت من مناطق‬
‫العامل‪ ،‬فتأثر األدب العريب باألدب الغريب يف فنونه واجتاهاته‪ ،‬ودخل يف دور ازدهار جديد كان للنقد‬
‫مكان ظاهر فيه ‪.‬‬
‫وظل النقد وثيق الصلة بالبالغة طوال القرون األُوىل‪ ،‬ثم ضعف النقد‪ ،‬ومجدت البالغة‪ ،‬حتى إذا‬
‫ِ‬
‫والتأثري الكيل للعمل األديب‪ ،‬دون االهتامم‬ ‫جاء العرص احلديث غلبت العناية باالجتاهات العامة لألدب‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫إحياء البحث‬ ‫بالعبارة األدبية‪ ،‬فتضاءل دور البالغة يف النقد‪ ،‬ولكنه َأخذ يف العودة إىل سابق ش ْأنه ‪ ،‬بفضل‬
‫يف الدراسات البالغية ‪.‬‬

‫نقــد ال�شـــعر ‪:‬‬

‫علامء اللغة واألدب منذ بداية عرص التدوين بجمع الشعر القديم لإلفادة منه يف تفسري القرآن‬
‫ُ‬ ‫اهتم‬

‫‪53‬‬
‫الكريم‪ ،‬وقد رووا عن ابن عباس ـ ريض اهلل عنهام ـ أنه قال ‪ « :‬إذا تعاجم عليكم يشء من القرآن‬
‫هؤالء العلامء هي أن بعض الرواة‬ ‫ِ‬ ‫فانظروا يف الشعر‪ ،‬فإن الشعر عريب » ‪ .‬وكانت املشكلة التي واجهت‬
‫علامء اللغة واألدب بفحص‬ ‫املتقدمني‪ ،‬ولذا ُعنِي‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫الشعراء‬ ‫كانوا يأتوهنم بشعر مصنوع يدعون نسبته إىل‬
‫ُ‬
‫جاءت كلمة (نقد) ألهنا تدل يف أصل‬ ‫األساليب لتمييز الشعر األَصيل من الزائف املنحول‪ ،‬ومن هنا َ‬
‫معناها عىل نقد الدراهم لتمييز الصحيح من الزائف‪ ،‬ثم اتسع معناها فيام بعد لتدل عىل متييز اجليد من‬
‫الرديء‪ .‬عىل أن نقد الشعر ـ األول ـ كان يعتمد إىل حد كبري عىل احلسـن املبهم‪ ،‬أو الذوق غري املع َّلل‪،‬‬
‫املتوف سنة ‪232‬هـ) يف كتابه‬ ‫ىَّ‬ ‫وقد دافع عن هذه الفكرة َأحد متقدمي النقاد وهو حممد بن سالم ُ‬
‫اجل َمحي (‬
‫« طبقات الشعراء»‪ ،‬وظل صداها يرت ّدد يف النقد العريب طوال العصور ‪ ،‬وبعد اتساع معناه ‪.‬‬
‫والفرزدق‪ ،‬ألهنم‬ ‫ِ‬ ‫إلسالميني كجرير‬ ‫الشعراء املحدثون ( وقد نطلق هذه التسمية عىل الشعراء ا ِ‬
‫ُ‬ ‫ثم ظهر‬
‫القدماء وهم اجلاهليون واملخرضمون ) والشعراء املو َّلدون ( أي‬ ‫ِ‬ ‫يعدون حمدثني أي جد ًدا بالقياس إىل‬
‫ِ‬
‫وهؤالء‬ ‫ِ‬
‫هؤالء‬ ‫شعراء العرص العبايس الذين نشؤوا عندما اختلط العرب بغريهم من األجناس) وكان من‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫هؤالء العلامء أنه كان‬ ‫شعراء فحول‪ ،‬ولكن علامء اللغة توقفوا يف رواية أشعارهم‪ ،‬حتى ُر ِوي عن بعض‬
‫يقول ‪ « :‬لقد كَثر هذا ا ُمل ْحدث وحسن حتى لقد مهمت َأن آمر فتياننا براويته » ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ُ ِ‬
‫املتوف سنة ‪255‬هـ )‬ ‫ىَّ‬ ‫هؤالء اجلاحظ (‬ ‫دباء ونقاد الشعر يف القرن الثالث هبذه القضية‪ ،‬ومن‬‫وشغل األُ ُ‬
‫(املتوف سنة ‪286‬هـ ) وكانت خالصة ر َأي اجلاحظ أن عامة أهل البادية أشعر من عامة أهل‬ ‫ىَّ‬ ‫وابن قتيبة‬
‫شعراء املولدين من يأيت باجليد الفائق‪ ،‬وقد َر َوى‬ ‫ِ‬ ‫األمصار ( أي غالبيتهم) ولكن ذلك ال ينفي أن من‬
‫رد ّياته َو َيرى َأ َّن شعراء‬‫هؤالء ومنهم أيب نواس الذي كان اجلاحظ يستحسن َط ِ‬ ‫ِ‬ ‫اجلاحظ نفسه لبعض‬
‫البادية مل ي ْأتوا ب ْأجود منها يف صفة الكلب والصيد ‪.‬‬
‫أما ابن قتيبة فقد عرب رصاحة عن اعتقاده بأن قضية ‪ «.‬القدماء واملحدثون » خاطئة من أساسها‪ ،‬و َأنه‬
‫رداءته يف نفسه أي برصف النظر عن قائله‪ ،‬وقد فتح هذا الر ْأي با ًبا واس ًعا‬ ‫جيب النظر إىل جودة الشعر أو َ‬
‫رداءتِه‪ ،‬فال يكتفون باألحكام الذوقية‬ ‫للنقد إذ أصبح عىل النقاد أن ينظروا يف َأسباب جودة الشعر أو َ‬
‫غري املع َّللة وال باألحكام اجلزئية عىل البيت أو البيتـني أو القصيدة أو القصيدتني ( كام رأينا يف العصـر‬
‫اجلـاهيل ) وكان السؤال األهم الذي حاول نقاد الشعر اإلجابة عنه هو ‪َ :‬أين يكمن مجال الشعر ‪ :‬أيف لفظه‬

‫‪54‬‬
‫أم يف معناه ؟ وكان ر َأي اجلاحظ أن مجال الشعر يرجع إىل لفظه‪ ،‬وعنى باللفظ هنا ما ُس ِّمي حسن السبك‪،‬‬
‫أو ما ُن َس ّميه اليوم مجال الشكل ‪.‬‬
‫ِ‬
‫والرداءة‬ ‫َأما ابن قتيبة فقد ر َأى َأن الشعر يت َألف من عنرصين ‪ :‬لفظ ومعنى ‪ ،‬وأنه من حيث اجلودة‬
‫َأقسام أربعة ‪ :‬فقسم منه جاد لفظه ومعناه ‪ ،‬وهذا هو الشعر البارع الفائق ‪ ،‬وقسم جاد معناه دون لفظه ‪،‬‬
‫وهو الشعر الذي حيتوي عىل حكمة أو معنى رشيف مع كون اللفظ خاليا من الرشاقة والعذوبة‪ِ ،‬‬
‫وق ْس ٌم‬ ‫ً‬
‫حال لف ُظه فإِذا َأنت فتشته مل حتظ بطائل‪ ،‬وقسم انحط لفظه ومعناه‪ ،‬وهذا هو أردأ األقسام األربعة ‪.‬‬
‫عىل َأن النزاع حول القدماء واملحدثني مل هيدأ طوال القرن الثالث بل اختذ َأشكاال جديدة‪ ،‬فقد ظهر‬
‫من املحدثني من بالغوا يف الصنعة الشعرية‪ ،‬مثل مسلم بن الوليد وأيب متام‪ ،‬فقلام كان خيلو بيت يف قصيدة‬
‫ألحدمها من استعارة أو طباق أو جناس‪ ،‬وربام اجتمع يف البيت بالواحد لونان من هذه األلوان‪ ،‬وربام‬
‫اجتمعت األلوان الثالثة‪ ،‬فسمي هذا األسلوب « البديع » ‪.‬‬
‫إلحسان‪،‬‬ ‫ويبدو أنه حني تقدم القرن الثالث ُو ِج َد من مل يكتفوا بالقول أن املحدثني شاركوا القدماء يف ا ِ‬
‫ِ‬
‫جاء ابن املعتز‪ ،‬وهو نفسه‬ ‫بل ذهبوا إىل َأن املحدثني امتازوا عىل القدماء هبذا األُسلوب « البديع» ‪ .‬وهنا َ‬
‫َأحد كبار الشعراء املحدثني‪ ،‬إِال َأنه شديد االعتزاز بالرتاث‪ ،‬فقام بمهمة مزدوجة‪ ،‬فمن جهة ‪َ :‬أخذ يتتبع‬
‫سم منها من قبل اسماً ‪ ،‬وقد اهتدى إىل َأهم األنواع البديعية‪ ،‬ومن ثم‬ ‫ألوان البديع وحيصيها ويضع ملا مل ُي َّ‬
‫مؤسسا للعلم الثالث من علوم البالغة وهو علم البديع؛ ومن جهة ُأخرى أخذ يورد أمثلة لكل نوع‬ ‫ً‬ ‫ُع َّد‬
‫بديعي من القرآن الكريم‪ ،‬واحلديث الرشيف وأقوال الصحابة والشعر القديم‪ ،‬ثم يتبعها ب َأمثلة من شعر‬
‫املحدثني‪ ،‬ليثبت قضية أساسية وهي َأن املحدثني مل يبتكروا هذه األَنواع وكتا ُب ُه ُيعد من هذه الناحية كتا ًبا‬
‫نقد ًيا (‪. )1‬‬
‫و ُبعيد تأليف كتاب « البديع» ( ‪274‬هـ) ظهر كتاب « نقد الشعر » لقدامة بن جعفر‪ .‬وكان قدامة من‬
‫َأهل املنطق‪ ،‬واملت َأثرين بالفلسفة اليونانية‪ ،‬ف َأقام كتابه عىل أساس عقيل منطقي ‪،‬وجعل هدفه َأن يضع‬
‫معيارا تقاس به جودة الشعر‪ ،‬فك َأنه َأراد َأن يكمل عمل اجلاحظ وابن قتيبة ‪.‬‬
‫ً‬
‫(‪ )1‬انظري النص الرابع من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫بدأ قدامة كتابه بأن عرف الشعر بأنه « كالم موزون مقفى يدل عىل معنى » واستخلص من هذا‬
‫التعريف عنارص أربعة يتألف منها الشعر‪ ،‬أي أنه زاد عنرصين عىل عنرصي اللفظ واملعنى اللذين حتدث‬
‫عنهام ابن قتيبة‪ ،‬وهذا العنرصان مها الوزن والقافية‪ ،‬حاول أن حييص « النعوت» أو أوصاف احلسن التي‬
‫ترجع إىل كل عنرص من العنارص األربعة‪ ،‬وإىل ائتالف بعضها مع بعض‪ ،‬وأدخل يف هذه النعوت كثري ًا‬
‫من األنواع البديعية التي ذكرها ابن املعتز ‪.‬‬
‫ويف القرن الرابع انتقلت قضية « القدماء واملحدثني» نقلة ُأخرى تتلخص فيام سمى «عمود الشعر» ‪.‬‬
‫واملقصود هبذا االصطالح طريقة القدماء التي متيل إِىل االعتدال يف كل ٍ‬
‫يشء ‪ :‬إىل متانة النظم دون إِرساف‬
‫يف الت َأنق ‪ ،‬وطرافة املعنى دون إِرساف يف التعمق ‪ .‬أو كام قال البحرتي يفخر بشعره ‪:‬‬
‫ِ‬
‫الـتـعـقـــيـد‬ ‫وجتـنَّـ ْبـ َن ُظـلـمــــ َة‬ ‫اختـيــارا‬ ‫مل الكــال ِم‬‫ُح ْز َن ُم ْســت ْع َ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫الـبـعـيد‬ ‫ـ َن بــه غــــاي َة املـــــرا ِم‬ ‫القـــريب فأدركـ‬ ‫َ‬
‫اللفـــظ‬ ‫ِ‬
‫وركـ ْب َن‬
‫َ‬
‫فانقسم النقاد فريقني ‪ :‬الفريق الذي حيرص عىل «عمود الشعر « أي عىل طريقة الشعر القديم‪ ،‬والفريق‬
‫الذي تعجبه الصياغة الطريفة واألخيلة البعيدة‪ ،‬واملعاين الفلسفية‪ .‬وكان الفريق األول يتعصب للبحرتي‬
‫والفريق الثاين يتعصب أليب متام‪ ،‬فألف اآلمدي ( املتوىف سنة ‪370‬هـ) كتاب « املوازنة بني الطائيني» (‪)١‬‬

‫واستهله بتعريف عام بمذهب كل من الشاعرين‪ ،‬مذهب التمسك بعمود الشعر ‪ ،‬ومذهب امليل إِىل‬
‫التدقيق « وفلسفي الكالم» ‪ ،‬و َأعلن َأنه ال يقصد إِىل تفضيل َأحدمها عىل اآلخر‪ ،‬وإنام يريد أن يثبت لكل‬
‫إلجادة‪ ،‬و َأن ينقد عليه ما يف شعره من الساقط والرديء وبعد َأن فعل ذلك َأخذ يوازن‬ ‫منهام حظه من ا ِ‬
‫بني معانيهام اجلزئية يف شتى أبواب الشعر ‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن فكرة «املوازنة» تعود إىل الظهور بقوة كام كانت عند القدماء ‪ ،‬ولكنها تأخذ شكلاً‬
‫قصيدة‬
‫َ‬ ‫طلق احلكم بتفضيل شاعر من َأجل‬ ‫ِع ْل ِم ًّيا‪ ،‬وحتاول أن تتخلص من األحكام التأثرية التي كانت ُت ِ‬
‫أو بيت يف قصيدة‪ .‬وقلام تبني السبب يف استحسان هذه القصيدة أو هذا البيت ‪.‬‬
‫وتشبه اخلصومة‪ ،‬التي قامت بني أنصار البحرتي وأنصار أيب متام‪ ،‬تلك التي قامت بني املعجبني بشعر‬
‫املتنبي والزارين عليه‪ .‬ويشبه موقف اآلمدي الذي حاول أن يكون َم ْو ُضوع ّي ًا يف املوازنة بني البحرتي‬
‫(‪ )١‬انظري النص األول من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫ف القايض عيل بن عبد العزيز اجلرجاين ( املتوىف سنة ‪ 392‬هـ ) الذي حاول كذلك َأن‬ ‫و َأيب متام‪َ ،‬م ْو ِق َ‬
‫يقف وقفة موضوعية بني املتعصبني للمتنبي واملتهجمني عليه يف كتابه « الوساطة بني املتنبي وخصومه »‬
‫‪ .‬وتسيطر عىل هذا الكتاب كسابقه فكرة « عمود الشعر » ‪.‬‬
‫وقد بلغ نقد الشعر يف هذين الكتابني َأوج ازدهاره‪ ،‬ومل ي ْأت بعدمها حتى العرص احلديث ما يقارهبام‬
‫والرداءة فيها ‪.‬‬
‫َ‬ ‫دقة منهج وشمول نظرة‪ ،‬مع التعمق يف حتليل النامذج الشعرية وبيان مواضع اجلودة‬

‫تعليم اخلطابة و�أثره فـي النقد والبالغة ‪:‬‬

‫يبدو َأن كثري ًا من الناطقني بالعربية يف القرن الثاين اهلجري كانوا يف حاجة إىل تدريبهم عىل كيفية النطق‬
‫واإللقاء ال إىل معرفة القواعد النحوية فحسب‪ ،‬فقد فسدت األلسنة بمخالطة األعاجم‪ ،‬ويدل عىل ذلك‬
‫احليز الكبري الذي خصصه اجلاحظ من كتابه « البيان والتبيني» للكالم عىل عيوب النطق‪ .‬عىل َأن التدريب‬
‫داء الصحيح ألصواهتا‪ ،‬فال بد من مراعاة صحة التعبري عن‬ ‫عىل إجادة اللغة كالما ال يقترص عىل جمرد األَ ِ‬
‫ً‬
‫املعنى والربط بني اجلمل‪ ،‬مع ختري األُسلوب املناسب حلال املخاطب ومبلغ حظه من الثقافة ‪ ..‬إلخ‪ ،.‬أي‬
‫أن تعليم اللغة املتك َّلمة ُيفيض بالرضورة إىل تعليم اخلطابة‪ .‬وقد ضاعف من االهتامم بتعليم اخلطابة يف‬
‫ذلك العرص ظهور طائفة املعتزلة‪ ،‬وهم أهل كالم وجدل‪.‬‬
‫وصحيفة برش بن املعتمر ( املتوىف ‪210‬هـ ) تصور العناية بتعليم اخلطابة بني بيئات املعتزلة وبني عامة‬
‫املتعلمني أيض ًا (‪ .)1‬وقد َأورد اجلاحظ نص هذه الصحيفة يف كتابه « البيان والتبيني » ويقول اخلرب الذي‬
‫مر ب َأحد اخلطباء وحوله مجاعة من‬ ‫َأورده اجلاحظ إن برش بن املعتمر ( وكان شيخ املعتزلة يف بغداد ) َّ‬
‫الفتيان يعلمهم اخلطابة‪ ،‬فوقف يسمع‪ ،‬فظن املعلم َأن برش ًا إنام وقف ليستفيد‪ ،‬ثم دفع برش إليه‪ ،‬صحيفة‬
‫من حتريره‪ ،‬مجع فيها نصائح ملن يريد َأن يتصدى ملخاطبة اجلامهري ‪ ،‬ومل يقترص عىل فن اخلطابة بل تكلم‬
‫منظوما ‪.‬فلام ُقرئت الصحيفة قال املعلم ‪:‬‬
‫ً‬ ‫منثورا َأم‬
‫ً‬ ‫عىل فن القول عموم ًا‪ ،‬سواء َأكان منطو ًقا أو مكتو ًبا‪،‬‬
‫ِ‬
‫هؤالء الفتية ‪.‬‬ ‫إنني َأحوج إىل هذه الصحيفة من‬

‫(‪ )1‬انظري النص األول من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫وصحيفة برش حتتوي عىل عدة َأفكار كان هلا ت ْأثري كبري يف البالغة والنقد من بعد‪ ،‬و َأوهلا َأن البالغة‬
‫تقوم عىل الطبع‪َ ،‬أو ما نسميه املوهبة‪ ،‬فمن مل يكن ذا طبع مو ٍ‬
‫ات َي ُم ُّد ُه بالكالم املناسب للغرض الذي‬ ‫َُ‬
‫يقصد إِليه فال ينبغي َأن ُي َعنِّي نفسه بفن الكالم؛ و َأيض ًا َأصحاب املوهبة يتفاوتون‪ ،‬فمنهم من جتود قرحيته‬
‫يف كل حال بالقول الذي يقع موقعه عند املخاطبني‪ ،‬سواء َأكانوا من العامة أم من اخلاصة‪ ،‬ومنهم من ال‬
‫نثرا ـ إِال بعد معاودة وترداد نظر ؛ ثم إن نشاط الذهن للكتابة َأو النظم ال‬ ‫يواتيه القول املناسب ـ نظماً أو ً‬
‫حوال ‪ ،‬فعىل من يتصدى هلذه الصناعة َأن يتخري األَوقات التي تصفو فيها‬ ‫ِ‬ ‫يكون بقوة واحدة يف مجيع األَ‬
‫قرحيته حتى ي َأيت كالمه سمح ًا منقاد ًا خالي ًا من التعقيد ‪.‬‬
‫ومن األَفكار املهمة يف هذه الصحيفة فكرة مناسبة الكالم للمقام أو املوقف‪ ،‬وهو ما سامه البالغيون‬
‫فيام بعد « مقتىض احلال » ‪ .‬و َأرفع درجات البالغة كام يقول برش هو القدرة عىل التعبري عن املعاين الرشيفة‬
‫بأسلوب وسط يفهمه العامة وال ينفر منه اخلاصة‬
‫كام كان لفكرة الطبع مكان مهم يف النقد العريب ‪ ،‬حتى قسم بعض النقاد الشعر إىل « مطبوع ومصنوع»‪،‬‬
‫كام كان لفكرة مقتىض احلال مكان مهم يف البالغة العربية‪ ،‬إذ أرجع إليها البالغيون اختالف األساليب‬
‫إلطناب والت ْأكيد وعدمه ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬‫بني اإلجياز وا ِ‬
‫عىل َأن « تعليم اخلطابة» مل يعد له ش ْأن يذكر يف احلياة العربية منذ القرن الثالث اهلجري ( حتى العرص‬
‫احلديث ) ‪ ،‬وحلت حمله صنعة الكتابة التي َأصبحت أداة مهمة من أدوات احلكم ‪.‬‬

‫�صناعة الكتابة و�أثرها فـي تطور النقد والبالغة ‪:‬‬

‫كان رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ يميل كتبه بنفسه ‪ ،‬وكذلك كان خلفاؤه الراشدون يفعلون‪،‬‬
‫اخللفاء يعتمدون عىل ك ّتاب متفرغني هلذا‬
‫ُ‬ ‫واستمر احلال كذلك إىل أوائل عرص الدولة األموية‪ ،‬ثم بد َأ‬
‫ِ‬
‫هؤالء الكتاب شيئ ًا فشي ًئا حتى بلغ كبريهم عبد احلميد بن حييى درجة الوزارة يف‬ ‫العمل‪ ،‬وارتفعت منزلة‬
‫عهد آخر اخللفاء األمويني مروان بن حممد ‪ .‬ولعبد احلميد رسالة إىل الك ّتاب يوصيهم فيها باحلرص عىل‬
‫تثقيف أنفسهم‪ ،‬كام يوصيهم بالسلوك الذي ينبغي هلم اتباعه مع رؤسائهم‪ ،‬كذلك مع العامة من طالب‬

‫‪58‬‬
‫احلاجات‪ ،‬وتدل هذه الرسالة عىل أن « طبقة الكتاب» كانت قد أصبحت طبقة كبرية هلا ش ْأهنا يف احلياة‬
‫العامة‪ ،‬فكام كان اخلليفة يتخذ كتا ًبا ـ َأو باألَحرى ديوا ًنا للرسائل عىل ر ْأسه كبري للكتاب ـ كان لكل من‬
‫ويل عمال مه ًام من َأعامل الدولة كاتبه أو ك ّتابه‬
‫وكان طبيع ًيا ـ وقد َأصبحت الكتابة مهنة ـ َأن يتنافس كتاب الدواوين يف جتويد آالت هذه املهنة ‪:‬‬
‫ابتداء من ت ْأييد الفكرة باالستشهاد بالقرآن الكريم واحلديث الرشيف وأقوال السلف واألخبار املأثورة‬ ‫ً‬
‫إىل إِتقان األُسلوب بتخري األَلفاظ وإحكام الربط بينها إىل استجادة الورق واحلرب وحتسني اخلط‪ .‬وقد‬
‫َألف ابن قتيبة كتاب « َأ َدب الكاتب » للتنبية عىل ماال يستغني صاحب هذه املهنة من معرفته من رضوب‬
‫الثقافات و ُنكت اللغة‪ ،‬وينسب إليه كذلك كتاب « املعارف» الذي مجع فيه ما حيتاج الكتاب إىل معرفته‬
‫من األخبار التارخيية ‪.‬‬
‫عىل أننا ال نلبث أن نالحظ ظاهرة مهمة تزداد بروز ًا عىل مر العصور ‪ ،‬وهي تداخل فني الشعر والكتابة‬
‫( ونعني بالكتابة هنا النثر الفني املكتوب ) ‪ .‬وقد َأشار اجلاحظ ـ يف النصف األَول من القرن الثالث‬
‫اهلجري ـ إىل عناية من سامهم « رواة الك ّتاب » برواية الشعر املُتخَ يرَّ لف ًظا ومعنى ‪ ،‬ومل يكن ذلك أمر ًا‬
‫مستغرب ًا ‪ ،‬فالشعر ـ وال سيام القديم منه ـ هو معدن اللغة الفصيحة ‪ .‬ولكن النثر الفني ظل يساير الشعر يف‬
‫تطوره ويقلده يف اجتاهاته بعد َأن غلبت الصنعة البديعية عىل الشعر‪ ،‬ومن هنا أصبح النثر املسجوع امليلء‬
‫ب َألوان الزخرف هو الغالب عىل ُأسلوب الكتابة الفنية منذ القرن الرابع‪ ،‬ومل تقترص مسايرة النثـر للشـعر‬
‫أيضا كثري ًا من األغراض التي كان الشعر ساب ًقا إِليها وكانت َأليق به ـ كالتهاين‬‫عىل األُسلوب‪ .‬فقد تناول ً‬
‫والتعازي والعتاب ‪ ..‬إلخ ‪ .‬فيام سمي بالرسائل ِ‬
‫اإلخوانية ‪.‬‬
‫ويف الوقت نفسه تأثر الشعر بالنثر الفني إىل حد ما وذلك من حيث تسلسل َأجزاء القصيدة تسلس ً‬
‫ال‬
‫منطق ًيا كام تتسلسل فصول الرسالة ‪ ،‬وقد أشار إىل ذلك ابن طباطبا العلوي ( املتوىف سنة ‪322‬هـ ) يف‬
‫كتابه « عيار الشعر» الذي يقف فيه موقف ًا متوس ًطا بني أنصار القديم وأنصار احلديث ‪.‬‬
‫ويظهر تداخل فني الشعر والنثر الفني عىل أكمل صورة يف كتاب « الصناعتني » ( أي صناعة الشعر‬
‫وصناعة النثر ) أليب هالل العسكري ( املتوىف سنة ‪395‬هـ ) وكتاب « املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر»‬
‫لضياء الدين ابن األثري ( املتوىف ‪637‬هـ ) حيث النجد فر ًقا ما بني ُأسلوب الشعر و ُأسلوب النثر ‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫والشك أن هذا اخللط أرض بالنقد العريب بل باألدب العريب عامة وال شك أننا إذا أردنا اليوم أن‬
‫نلتمس نامذج للكتابة الديوانية فإننا واجدوها يف كتب الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ وخلفائه يف‬
‫املقامات ونحوها ـ فقد يقبل ُأسلو ًبا قري ًبا من ُأسلوب الشعر‪ ،‬ولكننا مع ذلك ال يمكن أن نتجاهل أثر‬
‫األسلوب املسجوع املزخرف يف تقصري باع املقامة ‪ ،‬بحيث مل تستطع الوصول إىل مستوى القصة كام‬
‫عرفناها يف األدب الغريب احلديث ‪.‬‬

‫ت�أثر النقد العربي مبباحث النقد الغربي فـي الع�صر احلديث ‪:‬‬

‫من الظواهر التي تسرتعي النظر يف األدب العريب احلديث َأنه اتصل اتصالاً واس ًعا وعمي ًقا باآلداب‬
‫ِ‬
‫شاء اهلل ـ أن تدريس هذه الظاهرة بمزيد من التفصيل يف‬ ‫األُوروبية قديمها وحديثها‪ ،‬وسيتاح لك ـ إن َ‬
‫دروس تاريخ األدب يف العـام القـادم‪ ،‬ولكن الذي يعنينـا اآلن هو ت ْأثريها يف النقد العريب احلديث ‪.‬‬
‫لقد ر َأيت أن الثقافة العربية اتصلت بالثقافات العاملية األُخرى‪ ،‬وال سيام الثقافة اليونانية‪ ،‬يف العرص‬
‫العبايس‪ ،‬ولكن ذلك االتصال كان قوي ًا يف دائرة العلوم والفلسفة ‪ ،‬ضعي ًفا يف دائرة األدب‪ .‬أما اآلداب‬
‫الرشقية ( الفارسية واهلندية) فقد أخذ منها العرب بعض احلكم والوصايا‪ ،‬وبعض اخلرافات عىل َألسنة‬
‫احليوان‪ ،‬وهلذه الفنون نظائرها يف أدب العرب‪ ،‬ومعنى ذلك َأهنا مل تكن جديدة عليهم‪ ،‬وأما األدب‬
‫اليوناين فقد كان يعيش فرتة انحدار‪ ،‬وقد ُن ِسيت أعامل (هومريوس) كبري شعرائهم القصصيني‪ ،‬كام‬
‫نسيت أعامل الشعراء التمثيليني الكبار‪ ( ،‬أسكيلوس و سوفوكليس ويوريبيديس وأرسطو فانيس) ‪،‬‬
‫ولذلك مل يعرف العرب قصص اليونان والمتثيلهم‪ ،‬وترتب عىل ذلك أن كان تأثر النقد العريب بالنقد‬
‫اليوناين ضعي ًفا‪ ،‬فالنقاد العرب الذي اطلعوا عىل كتب النقد اليوناين مل يفهموا أكثرها‪ ،‬ألهنم كانوا جيهلون‬
‫األعامل األدبية التي تشري إليها ‪ ،‬ومل يأخذوا منها إال يف بعض األفكار الفلسفية‪ ،‬كام فعل قدامة بن جعفر‬
‫يف كتابه « نقد الشعر » عىل ما مر بك ‪.‬‬
‫أما يف العرص احلديث فقد اتصل العرب اتصاالً وثي ًقا باآلداب الغربية قديمها وحديثها وليس هنا‬
‫ِ‬
‫إحصــاء العدد اهلائل من الروايـات والتمثيـليات التي نقلت إىل العربية من اللغات األوروبية‪،‬‬ ‫جمـال‬

‫‪60‬‬
‫وال سيام اللغات احلديثة ‪ ،‬وال رسد أسامء املرتمجني املشهورين وغري املشهورين الذين قاموا هبذا النقل ‪.‬‬
‫أيضا ‪ ،‬وهو بطبيعته َأشد من النثر تأ ِّب ًيا عىل النقل من لغة إىل لغة‪ ،‬قد ترمجت من نامذج غري‬ ‫بل إن الشعر ً‬
‫قليلة إىل العربية ‪.‬‬
‫وكان هلذه املرتمجات تأثريها العميق يف إنتاجنا األديب احلديث من شعر ونثر وينبغي َأال ننسى َأن ً‬
‫كثريا‬
‫من ك ّتاب العربية يف هذا العرص حيسنون لغة أو َأكثر من اللغات األُوروبية‪ ،‬ويقرؤون لنقاد الغرب كام‬
‫يفرس للقراء األَعامل األَدبية القائمة من جهة ‪ ،‬ويفتح‬ ‫ِ‬
‫ويقرؤون لكتاهبم املنشئني‪ ،‬ويت َأثرون هبؤالء‪ ،‬فالنقد ِّ‬
‫طر ًقا جديدة للكتابة من جهة ُأخرى‪ ،‬وقد مجع معظم ك ّتابنا الكبار بني الرتمجة واإلنشاء والنقد‪ ،‬فكان‬
‫تفسريا وتقويماً‬
‫ً‬ ‫ومتهيدا للطريق َأمام ما ينشئونه‪ ،‬وجانب آخر منه‬
‫ً‬ ‫جانب من نقدهم تعريف ًا بام يرتمجونه‪،‬‬
‫ألَعامل غريهم سواء َأكانوا معارصين َأم قدماء بمقاييس اس ُت ِمد الكثري منها من النقد الغريب ‪ ،‬ويظهر‬
‫ذلك بنوع خاص يف الفنون املستحدثة‪ ،‬و َأبرزها املرسحية والرواية والقصة القصرية ‪ .‬وهكذا ر َأينا النقاد‬
‫العرب حني يتناولون هذه األَعامل بالنقد يتحدثون عن العقدة والشخصيات واجلو ‪ ... ،‬إلخ ‪ ، .‬وهي‬
‫مفاهيم مأخوذة عن النقد الغريب الذي عرف هذه الفنون قبلنا ثم ألفت كتب كاملة يف بعض هذه الفنون‪،‬‬
‫مثل كتاب « املرسحية» لعمر الدسوقي « نظرية الدراما » و«فن القصة القصرية» لرشاد رشدي‪ ،‬إىل جانب‬
‫ما ترجم من الكتب النقدية عن هذه الفنون ملؤلفني غربيني ‪.‬‬
‫ومن السامت املميزة لآلداب الغربية قيام املذاهب األدبية‪ ،‬كالكالسيكية والرومنسية والواقعية‪،‬‬
‫والرمزية (‪ . )1‬واملذهب األديب عندهم يعتمد عىل نظرية يف طبيعة األدب ووظيفته‪ ،‬وعىل َأساس هذه‬
‫املنشئ موضوعه‪ ،‬و ُأسلوب تناوله لذلك املوضوع ‪ .‬وقد ت ْأثر األُ ُ‬
‫دباء العرب هبذه‬ ‫ُ‬ ‫النظرية خيتار الكاتب‬
‫اإلنشائية‪ ،‬فمقدمات العقاد لدواوينه نفسها ـ تشهد بتأثره‬ ‫املذاهب يف نقدهم‪ ،‬كام ت ْأثروا هبا يف َأعامهلم ِ‬
‫الرومنيس‪ ،‬وإن كـان ذلك ال يقـدح يف ْأصالة العقاد (‪ ، )2‬وقد تأثر هبذا املذهب كثريون غريه‪،‬‬
‫ّ‬ ‫باملذهب‬

‫(‪ )1‬الكالسيكية مذهب أديب يقوم عىل حتكيم النظام العقيل يف العاطفة ويلتزم حماكاة األقدمني ‪ ،‬والرومنسية نقيض الكالسيكية ‪ ،‬ظهرت‬
‫األدبية القديمة‪ ،‬والواقعية ظهرت مع تقدم العلوم التجريبية ودعت‬‫بعدها ‪ ،‬ودعت إىل االنطالق مع العاطفة والتحرر من حماكاة األشكال َ‬
‫إىل أن يستفيد األدب من مناهج العلوم ويضع نفسه يف خدمة املجتمع ‪ ،‬أما الرمزية فتقوم عىل أن جمال األدب احلقيقي هو املشاعر الغامضة‬
‫التي ال يمكن التعبري عنها إال بطريق الرمز ‪.‬‬
‫(‪ )2‬انظري النص العارش من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب ‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫الرمزي ‪ ..‬إلخ ‪ ، .‬و َألف بعض النقاد كت ًبا لرشح هذه‬
‫ّ‬ ‫كام ت َأثر فريق باملذهب الواقعي‪ ،‬وآخرون باملذهب‬
‫املذاهب‪ ،‬ككتاب « األدب ومذاهبه » ملحمد مندور‪ ،‬و« الرومنتيكية » ملحمد غنيمي هالل‪ ،‬و«الرمزية»‬
‫ألنطون غطاس كرم ‪.‬‬
‫واختلف طريق األُ ِ‬
‫دباء العرب يف االنتفاع بنامذج النقد الغريب كام اختلفت طرقهم يف االنتفاع بنامذج‬
‫ترديدا‬
‫ً‬ ‫إلنشـائي‪ ،‬من فتنة ُتنْسيِ األديب العريب تراثه ‪ ،‬ومتحو شخصيته ‪ ،‬وجتعل ما يكتبه‬ ‫األَدب الغريب ا ِ‬
‫قراءة واعية متمثلة ‪ ،‬ترتكز عىل تراث عريق‪ ،‬وتتطلع إىل آفاق‬
‫تقليدا ملا يقرؤه عند كاتب غريب‪ ،‬إىل َ‬ ‫ً‬ ‫َأو‬
‫َأرحب من كل ما َ‬
‫جاء به الغربيون ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫من املكتبة النقدية والبالغية‬
‫(�أ)‬ ‫‪ 1‬ـ من �صحيفة ب�شر بن املعتمر‬

‫أكرم (‪ ،)1‬وأرشف‬ ‫ِ‬ ‫نفس َك ساع َة نشاطِ َك وفرا ِغ بالك وإجا َبتِها إياك‪َّ ،‬‬ ‫خذ من ِ‬ ‫ْ‬
‫فإن قليل تلك الساعة ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫لكل‬ ‫وأجلب (‪ِّ )1‬‬


‫ُ‬ ‫فاحش اخلطأ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وأسلم (‪ )1‬من‬ ‫ُ‬ ‫حس ًبا‪ ،‬وأحس ُن (‪ )1‬يف األسامع‪ ،‬وأحىل (‪ )1‬يف الصدور‪،‬‬
‫لفظ رشيف‪ ،‬ومعنى بديع ‪.‬‬ ‫عني‪ ،‬وغُر ٌة (‪ )2‬من ٍ‬ ‫ٍ‬
‫ِ‬
‫وبالتكلف‬ ‫واملطاولة واملجاهدة‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫بالكد‬ ‫ُ‬
‫األطول‬ ‫يومك‬ ‫َ ممِ‬ ‫واعلم َّ‬
‫ِّ‬ ‫عليك ّا يعطيك ُ‬ ‫أن ذلك أجدى‬ ‫ْ‬
‫خرج‬ ‫ِ‬
‫يكون مقبوال َق ْص ًدا (‪ ، )٣‬وخفي ًفا عىل اللسان سه ً‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ال ‪ ،‬وكام َ‬ ‫أخطأك مل خيط ْئك أن‬ ‫واملعاودة‪ ،‬ومهام‬
‫ونجم(‪ )٤‬من م ْع ِدنه ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ينبوعه ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫يستهلك معانيك‪ ،‬ويشني (‪)٦‬‬ ‫ُ‬ ‫والتعقيد هو الذي‬ ‫ِ‬
‫التعقيد‪،‬‬ ‫سلم َك إِىل‬ ‫وإياك والتو ُّع َر (‪ )٥‬فإِ َّن‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫التوعر ُي ُ‬ ‫َ‬
‫اللفظ الرشيف‪ ،‬ومن‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الرشيف‬ ‫حق املعنى‬ ‫يلتم ْس له لف ًظا كريماً ‪ ،‬فإِ َّن َّ‬ ‫ألفا َظ َك‪ .‬ومن أرا َغ (‪ )٧‬معنى كري ًام َف ْل ِ‬

‫تلتمس إِ َ‬
‫ظهارهمُ ا‬ ‫َ‬ ‫أجل ِه أسوأ حالاً منك قبل أن‬ ‫يفس ُدهمُ ا و جنُهام (‪ ،)٨‬عام تعود من ِ‬
‫ُ‬ ‫يهُ َ ِّ‬
‫أن تصو ام عام ِ‬
‫نهَ ُ‬ ‫ِ‬
‫حقهام ْ‬
‫ِ‬
‫وقضاء ح ِّقهام ‪.‬‬ ‫نفسك بمالبستهام ‪،‬‬ ‫وتر ِن (‪)9‬‬
‫َ‬ ‫ْ تهَ َ‬
‫يكون لف ُظك رشي ًقا عذ ًبا‪ ،‬وفخماً سهلاً ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الثالث‪ ،‬أن‬ ‫منازل ‪ :‬فإِ َّن َأوىل‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ثالث‬ ‫فك ْن يف‬
‫دت‪ ،‬وإِما َ‬
‫عند‬ ‫قص َ‬ ‫ِ‬ ‫عند اخلاصة إِ ْن َ‬ ‫ظاهرا مكشو ًفا‪ ،‬وقري ًبا معرو ًفا‪ ،‬إِ َّما َ‬ ‫َ‬
‫كنت للخاصة ْ‬ ‫ً‬ ‫ويكون معناك‬
‫أردت ‪.‬‬
‫َ‬ ‫كنت للعامة‬ ‫إن َ‬ ‫العامة ْ‬
‫يكون من معاين العامة‪ ،‬وإِنام‬ ‫َ‬ ‫يكون من معاين اخلاصة‪ ،‬وكذلك ليس َي َّت ِض ُع ْ‬
‫بأن‬ ‫َ‬ ‫يرشف بأن‬ ‫ُ‬ ‫واملعنى ليس‬
‫املقال ‪ .‬وكذلك‬‫ِ‬ ‫لكل مقا ٍم من‬ ‫جيب ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الصواب‪ ،‬وإِ ُ‬ ‫ِ‬
‫حراز (‪ )10‬املنفعة ‪ ،‬مع موافقة احلال‪ ،‬وما ُ‬ ‫ُ‬ ‫الرشف‬ ‫مد ُار‬
‫َ‬

‫(أ) برش بن املعتمر ‪ :‬فقيه معتزيل ‪ ،‬نشأ بالكوفة وأقام يف بغداد ‪ ،‬وتنسب إليه الطائفة البرشية من املعتزلة‪ ،‬تويف سنة ‪210‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬صيغة أفعل التفضيل يف هذه الكلامت يراد هبا مطلق الوصف‪ ،‬أي أهنا استعملت استعامل الصفة املشبهة ‪.‬‬
‫(‪ )3‬معتدال ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬العني والغرة من كل يشء ‪ :‬خياره ‪.‬‬
‫(‪ )5‬البحث عن العبارة الصعبة ‪.‬‬ ‫(‪ )4‬نشأ ‪ ،‬صدر ‪.‬‬
‫(‪ )7‬طلب ‪.‬‬ ‫(‪ )6‬يعيب ‪.‬‬
‫(‪ )9‬تلزم ‪.‬‬ ‫(‪ )8‬يصيبهام ‪.‬‬
‫(‪ )10‬حتصيل ‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫واقتدارك عىل‬ ‫ِ‬
‫مداخ َ‬
‫لك‪،‬‬ ‫طف‬‫قلمك‪ ،‬و ُل َ‬ ‫َ‬ ‫بيان لسانِ َك ‪ ،‬بالغة‬ ‫اللفظ العامي واخلاص‪ ،‬فإِ ْن أن تبلغَ من ِ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫يُِّّ‬ ‫ّ ُّ‬
‫ِ‬
‫الدمهاء (‪)12‬‬ ‫األلفاظ الواسط َة (‪ )11‬التي ال تل ُطف عن‬ ‫َ‬ ‫اخلاصة‪ ،‬وتكسوها‬ ‫ِ‬ ‫معاين‬ ‫فهم العام َة‬ ‫أن ُت ِ‬ ‫نفسك‪ ،‬إىل ْ‬
‫َ‬
‫األكفاء (‪ )13‬فأنت البليغُ التام‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وال جتفو عن‬
‫نظـر َك ويف أول‬ ‫أول ِ‬ ‫عـند ِ‬ ‫تعرتيك‪ ،‬وال تسـنَ ُح لك َ‬ ‫َ‬ ‫تواتيـك (‪ ، )14‬وال‬ ‫َ‬ ‫كانت املنزل ُة األوىل ال‬ ‫ْ‬ ‫فإِ ْن‬
‫ِ‬
‫املقسومة هلا‪ ،‬والقافي َة‬ ‫قرارها‪ ،‬وإِىل ح ِّقها من ِ‬ ‫موقعها‪ ،‬ومل َتصرِ إىل ِ‬ ‫تكـ ُّل ِف َك (‪ُ ،)15‬‬
‫أماكنها‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫وجتد اللفظ َة مل ْ‬
‫تقع‬
‫موضعها‪ ،‬فال‬ ‫ِ‬ ‫تتصل بشكلها ‪ ،‬وكانت قلق ًة يف مكاهنا‪ ،‬نافر ًة من‬ ‫ْ‬ ‫مركزها ويف نِصاهبا (‪ ،)16‬ومل‬ ‫ِ‬ ‫مل تحَ ُ َّل يف‬
‫ِ‬
‫املوزون‪ ،‬ومل‬ ‫ِ‬
‫الشعر‬ ‫قرض‬ ‫تتعاط َ‬ ‫َ‬ ‫غري أوطانهِ ا ‪ ،‬فإنك إِذا مل‬ ‫والنزول يف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫األماكن‬ ‫ِ‬
‫اغتصاب‬ ‫ُتك ِْر ْه َها عىل‬
‫حاذ ًقا مطبو ًعا‪ ،‬وال‬ ‫أنت تكل ْف َته ومل تكن ِ‬ ‫أحد؛ فإِ ْن َ‬ ‫اختيار الكال ِم املنثور‪ ،‬مل يع ْب َك بترْ ِك ذلك ٌ‬ ‫ف‬ ‫تتك َّل َ‬
‫ْ‬ ‫ُ ماَ‬ ‫َ‬
‫أقل عي ًبا من ُه‪ ،‬ورأى َم ْن هو دو َنك أن ُه فو َق َك ‪.‬‬ ‫أنت ُّ‬ ‫عابك من َ‬‫َ‬ ‫بصريا بام عليك وما َل َك ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫محُ ْ ِكماً لسا َنك ‪،‬‬
‫َ‬
‫عليك‬ ‫اص‬ ‫الطباع يف أول وهلة ‪ ،‬و َت َع ىَ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫تسم ْح لك‬ ‫القول‪ ،‬وتتعاطى الصنع َة‪ ،‬ومل َ‬ ‫َ‬ ‫تتكلف‬
‫َ‬ ‫يت بأن‬ ‫فإِن اب ُت ِل َ‬
‫وعاو ْد ُه عند نشاطِ َك وفر ِغ‬ ‫ِ‬ ‫يوم َك وسوا َد ليلك‪،‬‬ ‫بياض ِ‬ ‫تضجر‪ ،‬و َد ْع ُه َ‬ ‫ْ‬ ‫تعجل وال‬ ‫ْ‬ ‫الفكرة‪ ،‬فال‬ ‫ِ‬ ‫بعد إِجالة‬
‫الصناعة عىل ِع ْر ٍق (‪ ، )17‬وهي‬ ‫ِ‬ ‫كانت هناك طبيع ٌة أو جر ْي َت من‬ ‫إلجابة واملواتاة‪ ،‬إِ ْن ْ‬ ‫تعدم ا ِ‬ ‫فإنك ال ُ‬ ‫بالك‪َ ،‬‬
‫املنزل ُة الثانية ‪.‬‬
‫تتحو َل‬ ‫إمهال‪ ،‬فاملنزل ُة الثالثة ْ‬ ‫ٍ‬ ‫حادث ُشغ ٌْل َع َرض‪ ،‬ومن ِ‬ ‫ٍ‬ ‫فإِن تمَ نَّ َع عليك بعد ذلك من ِ‬
‫أن ّ‬ ‫غري طول‬ ‫غري‬
‫تنازع إليها‪ ،‬إِال وبينكام‬ ‫تشتهها ومل‬‫الصناعة إِىل أشهى الصناعات إليك‪ ،‬وأخ ِّفها عليك‪ ،‬فإِنك مل ِ‬ ‫ِ‬ ‫عن هذه‬
‫ْ‬
‫النفوس ال جتو ُد‬ ‫طبقات ألن‬ ‫ٍ‬ ‫تكون يف‬ ‫ُ‬ ‫وإن كانت املشا َك َل ُه قد‬ ‫يشاك ُله ‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫واليشء ال حي ُّن إِالَّ إىل ما‬ ‫ب‪،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َن َس ٌ‬
‫الرهبة‪ ،‬كام جتو ُد به مع الشهوة واملحبة‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الرغبة وال تسمح بمخزوهنا مع‬ ‫ِ‬ ‫بمكنوهنا من‬

‫(‪ )11‬املتوسطة ‪.‬‬


‫(‪ )12‬العامة‪.‬‬
‫(‪ )13‬اخلاصة ‪.‬‬
‫(‪ )14‬تطيعك ـ تسهل عليك ‪.‬‬
‫(‪ )15‬بحثك ‪.‬‬
‫(‪ )16‬موضعها الصحيح ‪.‬‬
‫(‪ )17‬جريت من الصناعة عىل عرق ‪ :‬كان لديك يشء من االستعداد هلا ‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫يلتمس له لف ًظا كريماً » ‪.‬‬


‫ْ‬ ‫قول برش بن املعتمر ‪ « :‬ومن أرا َد معنى كريماً ف ْل‬
‫‪ 1‬ـ ارشحي َ‬
‫يكون من معاين اخلاصة‪ ،‬وكذلك ليس ي َّت ِض ُع بأن‬ ‫َ‬ ‫ف بأن‬ ‫‪ 2‬ـ ما ر َأيك يف قول برش ‪ « :‬واملعنى ليس ُ‬
‫يرش ُ‬
‫َ‬
‫يكون من معاين العامة » ؟‬
‫‪ 3‬ـ يف هذه القطعة عدد من األفكار األساسية يف البالغة ‪ ،‬استخليص هذه األفكار ورتبيها بحسب أمهيتها‬
‫يف نظرك‪ ،‬ال بحسب ترتيب ورودها يف النص ‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ 2‬ـ من كتاب البيـان والتبيـني‬

‫أليب عثامن عمرو بن بحر اجلاحظ «أ»‬

‫ُ‬
‫يقـول ‪:‬‬ ‫ف بن ِ‬
‫عبد اللـه‬ ‫ُ‬
‫طر ُ ُ‬‫غيالن بن جرير ‪ ،‬قال ‪ :‬كان ُم ِّ‬ ‫مهـدي بن ميمـون‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنـا‬ ‫ُّ‬ ‫وحدثنـي‬
‫ّ‬
‫ِ‬
‫يشتهيه »‪.‬‬ ‫طعامك َم ْن ال‬ ‫طعم‬
‫َ‬ ‫« ال ُت ْ‬
‫بوج ِه ِه ‪.‬‬
‫بحديثك عىل من ال ُي ْقبِ ُل عليك ْ‬ ‫َ‬ ‫يقول ‪ :‬ال ُت ْقبِ ْل‬
‫ِ‬ ‫بأبصار ِهم (‪ِ ،)1‬‬ ‫وقال عبد اهلل بن مسعود ‪ :‬ح ِّد ِْ‬
‫بأسامع ِهم‪ ،‬وإذا‬ ‫وأذ ُنوا (‪ )2‬لك‬ ‫ِ ْ‬ ‫حد ُجوك‬‫الناس ما َ‬‫َ‬ ‫ث‬ ‫َ‬
‫فأم ِس ْك » ‪.‬‬
‫ْ‬
‫رأيت منهم ف ة (‪)3‬‬
‫ترْ ً‬ ‫ْ َ‬
‫ت‬‫كيف سمع ِ‬ ‫انرصف إليها َ‬
‫قال هلا ‪َ :‬‬ ‫يتكلم‪ ،‬وجاري ٌة له ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫كالم ُه‪ ،‬فلماّ‬
‫تسمع َ‬ ‫ُ‬ ‫حيث‬ ‫ُ‬ ‫يوما‬
‫وجعل اب ُن السماّ ك ً‬
‫أنك ُتكثِ ٌر َترداده ‪.‬‬ ‫قالت ‪ :‬ما أحسنَ ُه‪ ،‬لوال َ‬ ‫كالمي ؟ ْ‬
‫يفهم ُه ‪.‬‬
‫يفه َم ُه م ْن مل ْ‬ ‫قال ‪َ :‬أر ِّد ُد ُه حتى َ‬ ‫َ‬
‫قد م َّله م ْن ُ‬
‫يفهم ُه ‪.‬‬ ‫يفهم ُه‪ْ ،‬‬
‫يفه َم ُه من ال ُ‬
‫قالت ‪ :‬إىل أن َ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫احلديث مرتني» ‪.‬‬ ‫ع َّبا ُد بن العوام‪ ،‬عن ُشعب َة‪ ،‬عن قتاد َة‪ ،‬قال ‪ « :‬ال ُيعا ُد‬
‫ِ‬
‫الصخر » ‪.‬‬ ‫أشد من نقل‬
‫احلديث ُّ‬ ‫الزهري‪ ،‬قال ‪ « :‬إِعاد ُة ِ‬ ‫ُ‬
‫سفيان بن عيينة‪ ،‬عن ُّ‬
‫فارفع مؤون َة (‪ )4‬االستام ِع منك » ‪.‬‬ ‫ثك‬ ‫ينش ْط ِ‬
‫حلدي َ‬ ‫ِ‬
‫احلكامء ‪َ « :‬م ْن مل َ‬ ‫بعض‬
‫ْ‬ ‫وقال ُ‬
‫ذلك عىل ِ‬
‫قدر‬ ‫وصف ِه‪ ،‬وإنام َ‬
‫ِ‬ ‫حد ُينْ َتهى إليه‪ ،‬وال يؤ َتى عىل‬‫ليس فيه ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫القول يف الترَّ داد ‪ :‬أنه َ‬ ‫ومجلة‬
‫وقد رأينا اهلل َع َّز ـ وجل ـ ردد ذكر ِ‬
‫قصة موسى‪ ،‬وهو َد‪،‬‬ ‫واخلواص‪ْ ،‬‬ ‫حيرض ُه من العوام‬ ‫املستمعني‪ ،‬ومن‬
‫َ َّ َ َ‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬

‫«أ» أشهركتاب العربية يف العرص العبايس ‪ ،‬وأغزرهم تأليفًا ‪ ،‬أهم مؤلفاته ـ غري كتب « البيان والتبيني» ـ كتاب احليوان‪ ،‬وكتاب البخالء‪،‬‬
‫وكتاب املحاسن واألضداد ‪ .‬تويف سنة ‪255‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬حدجوك بأبصارهم ‪ :‬شخصوا بأنظارهم إليك ‪.‬‬
‫(‪ )3‬فتور ًا وإعراضاً‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أصغوا‪.‬‬
‫(‪ )4‬عناء ‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫خاطب‬
‫َ‬ ‫والنار ُأ ٌ‬
‫مور كثرية‪ ،‬ألنه‬ ‫َ‬ ‫ذكر اجلنَة‬
‫ولوط‪ ،‬وعا َد‪ ،‬وثمو َد‪ ،‬وكذلك َ‬ ‫َ‬ ‫براهيم‪،‬‬
‫َ‬ ‫وشعيب‪ ،‬وإِ‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫وهرون‪،‬‬
‫ِ‬
‫القلب ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الفكر ساهي‬ ‫ُ‬
‫مشغول‬ ‫معاند‬ ‫غبي غافل‪َ ،‬أ ْو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العرب و َأ‬ ‫مجيع األُمم من‬
‫ٌ‬ ‫وأكثر ُه ْم ُّ‬
‫ُ‬ ‫صناف العجمِ‪،‬‬ ‫َ‬
‫يعيب ذلك ‪.‬‬ ‫أحدا‬ ‫ِ‬
‫والرقة فإِين مل ْ َأ َر ً‬ ‫ِ‬
‫القصص‬ ‫ُ‬
‫أحاديث‬ ‫وأما‬
‫ُ‬

‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ ضعي عنوا ًنا هلذه القطعة ‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ كيف تفرسين قول الزهري ‪ « :‬إِعادة احلديث أشد من نقل الصخر » ؟‬
‫‪ 3‬ـ هل مر عليك اصطالح آخر يدل عىل ما يسميه اجلاحظ‪ ،‬الرتداد ؟‬
‫ما هذا االصطالح؟ ومن صاحبه‪ ،‬وأي االصطالحني هو األقدم ؟‬
‫‪ 4‬ـ ما الر َأي الذي ينتهي إليه اجلاحظ يف شأن « الرتداد» ؟‬
‫هل يرجع هذا الر َأي إىل قانون بالغي معني ؟ ما هذا القانون ؟‬

‫‪68‬‬
‫‪ 3‬ـ من كتاب « ت�أويل م�شكل القر�آن»‬

‫أليب حممد ( عبد اهلل بن مسلم بن قتيبة ) «أ»‬


‫باب القول فـي املجاز‬

‫فت النِّ َح ُل (‪. )1‬‬ ‫الطرق‪ ،‬واخت َل ِْ‬‫ُ‬ ‫ويل‪ ،‬وتش َّع َب ْت هبم‬ ‫الناس يف الت َأ ِ‬
‫ِ‬ ‫كثري من‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ُ ِ‬
‫املجاز فم ْن جهته غلط ٌ‬ ‫وأما‬
‫عليه السالم ـ يف ا ِ‬ ‫املسيح ـ ِ‬ ‫تذهب يف ِ‬
‫ذهب إىل أيب» وأشبا ُه هذا‬ ‫إلنجيل «أدعو أيب‪ ،‬و َأ ُ‬ ‫ِ‬ ‫قول‬ ‫ُ‬ ‫فالنصارى‬
‫يتأولوه هذا الت َأو َيل‬ ‫جاز هلم أن َّ‬ ‫غري ِه‪ ،‬ما َ‬ ‫نفس ِه خاصة دون ِ‬ ‫املسيح قال هذا يف ِ‬
‫ُ‬
‫كان ِ‬ ‫الوالدة‪ ،‬ولو َ‬ ‫ِ‬ ‫أبو ِة‬
‫ـ إِىل ّ‬
‫كثري من املواض ِع‬ ‫فكيف وهو يقو ُل ُه يف ٍ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫املجاز‪،‬‬ ‫اللـه ـ تبارك وتعاىل عام يقولون علو ًا كبريا ـ مع ِ‬
‫سعة‬ ‫يف ِ‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫تعلم شام ُل َك بام فع َل ْت يمينُك‪،‬فإِ ّن أباك الذي‬ ‫تصد ْق َت‪ ،‬فال ْ‬ ‫فتح فاه بالوحي ‪ « :‬إِذا ّ‬ ‫حني َ‬ ‫لغري ِه‪ ،‬كقولِ ِه َ‬ ‫ِ‬
‫اسمك‪ ،‬وإِذا ُص ْم َت‬ ‫ِ‬ ‫جيزيك به عالني ًة‪ ،‬وإذا ص َّل ْي ُتم فقولوا ‪ :‬يا أبانا الذي يف‬ ‫َ‬ ‫يرى اخلفي ِ‬
‫ليتقد ْس ُ‬
‫السامء َّ‬ ‫ات‬ ‫َّ‬
‫غري َ‬ ‫ِ‬
‫واده ْن ر َأ َس َك‪ ،‬ل َئلاّ‬ ‫ْ‬
‫أبيك »‬ ‫يعلم بذلك ُ‬ ‫َ‬ ‫وجه َك ُ‬ ‫فاغسل َ‬
‫سمى يل‬ ‫غالم ُي ّ‬
‫ٌ‬ ‫لك‬ ‫قال لداود ـ عليه السالم ـ ‪ « :‬سيو َل ُد َ‬ ‫تبارك وتعاىل َ‬ ‫َ‬ ‫أن اهلل‬ ‫ِ‬
‫الزبور (‪َّ )2‬‬ ‫وقد قرؤوا يف‬
‫سمي له أ ًبا » ‪.‬‬ ‫ابن ّا و ُأ َّ‬
‫وعطف ِه عىل‬
‫ِ‬ ‫هذه ‪ ،‬أن ُه يف رمحتِ ِه وبِ ِّر ِه‬‫وتأويل ِ‬
‫ُ‬ ‫ليعقوب ـ عليه السالم ـ « أنت بِكْري»‬ ‫َ‬ ‫قال‬ ‫ِ‬
‫التوارة أن ُه َ‬ ‫ويف‬
‫ده ‪.‬‬ ‫كاألب الرحي ِم لولِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫عباد ِه الصاحلني‪،‬‬ ‫ِ‬

‫الروح‬
‫ِ‬ ‫وبقاء‬ ‫ِ‬
‫األبدان هبام‪،‬‬ ‫وللخبز ‪ « :‬هذا ُأمي » ألن ِقوام (‪)3‬‬ ‫ِ‬ ‫للامء ‪ « :‬هذا أيب »‬ ‫قال املسيح ِ‬ ‫وكذلك َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫كاألبوين ال َّلذين منهام وبحضانت ِهام ُ‬
‫النامء ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫عليهام‪ ،‬فهام‬

‫«أ» كان ابن قتيبة من أوسع أهل عرصه ثقافة‪ ،‬فهو فقيه‪،‬أديب‪ ،‬لغوي‪ ،‬ناقد‪ ،‬مؤرخ‪ .‬ومن أشهر كتبه غري كتاب «تأويل مشكل القرآن » هذا‪،‬‬
‫كتاب « عيون األخبار»وكتاب « الشعر والشعراء » وكتاب « أدب الكاتب » ‪ ،‬وقد محل يف هذا الكتاب محلة شعواء عىل مقلدي الثقافات‬
‫األجنبية من كتاب عرصه تويف سنة ‪276‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬املذاهب ‪.‬‬
‫(‪ )2‬الكتاب الذي أنزل عىل داود ـ عليه السالم ـ ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أصل ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫اخللق‪ ،‬وإِليها ِ‬
‫مرج ُع ُه ْم‪ ،‬ومنها أقواتهُ ُ ْم‪ ،‬وفيها كفا َي ُت ُه ْم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫األرض ُأ ّم ًا‪ ،‬ألهنا مبتد ُأ‬
‫َ‬ ‫العرب ُتسمي‬ ‫ت‬ ‫وكَا َن ِْ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫الصلت (أ) ‪:‬‬ ‫وقال ُأم ّي ُة ب ُن أيب‬
‫فيهــا مقــــابر ُنا وفيــــــها ُنـو َل ُ‬
‫ـد‬ ‫ـت ُأ َّمـنَــــا‬ ‫رض ِ‬
‫معقـــ ُلنا وكا َن ْ‬ ‫واألَ ُ‬
‫وقال ْ‬
‫يذك ُُرها ‪:‬‬
‫(‪)1‬‬‫ونح ُن أبنـــاؤها ْلو أننــــا ُشـــك ُُر‬ ‫منها ُخ ِلقــــْنا وكا َن ْت ُّأمـنا ُخ ِلـ َق ْ‬
‫ـت‬
‫ما أرحـــم األرض إِال أننــــا كُـ ُفر(‪)2‬‬ ‫القــرار فمـــا نبـغي هبــا بدالً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫هـي‬
‫ِ‬
‫وغاذ َي َت ُه‪ ،‬ومأوا ُه‬ ‫ِ‬
‫الولد‬ ‫﴾ (‪ّ )3‬ملا كانت األُم كافل َة‬ ‫َ‬
‫وقال اهللُ تعـاىل يف الكافر ﴿‬
‫ومر ّبي َت ُه‪ ،‬وكانت النار للكافر كذلك‪ ،‬جعلها ُأ َّم ُه ‪.‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫احلرمان‪.‬‬ ‫﴾(‪َ )4‬أي ك ُأمهاتهِ ِم يف‬ ‫النبي ـ صىل اهلل عليه وسلم ﴿‬ ‫وقال يف أزواج ِّ‬
‫﴾(‪ )5‬معنى التناسخ (‪ ،)6‬ومل ي ِ‬ ‫قوم يف قولِ ِه تعاىل ‪﴿ :‬‬
‫رد اهلل يف‬ ‫ُ‬ ‫وتأو َل ٌ‬
‫َّ‬
‫خاطب به مج َيع الناس ‪.‬‬
‫َ‬ ‫اخلطاب إِنسا ًنا بعينِه‪ ،‬وإِنام‬
‫ِ‬ ‫هذا‬
‫﴾ (‪. )7‬‬ ‫كام قال ‪﴿ :‬‬
‫شاء‬ ‫(‪)8‬‬
‫الرجل‪ ،‬وكلكُم ذلك الرجل‪ ،‬ف َأرا َد َأنه َّ‬
‫صورهم و َع َد َل ُه ْم يف أي صورة َ‬ ‫ُ‬ ‫يقول القائُل ‪ :‬يا أهيا‬‫كام ُ‬
‫وسواد‪ ،‬و ُأ ٍ‬
‫دمة (‪ )9‬وحمُ ْ َرة ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وبياض‬ ‫ركَّبهم‪ ،‬من ُح ْس ٍن و ُق ْب ٍح‪،‬‬

‫«أ» شاعر جاهيل أدرك اإلسالم ومل يسلم‪ ،‬وكان يتأ َّل ُه يف شعره ‪.‬‬
‫(‪ )1‬مجع شكور ‪ ،‬مثل صبور وصبرُ ٌ ‪.‬‬
‫(‪ )2‬مجع كفور‪.‬‬
‫ِ‬
‫(‪ )3‬اآلية ‪ 9‬من سورة القارعة ‪.‬‬
‫(‪ )4‬من اآلية ‪ 6‬من سورة األحزاب ‪.‬‬
‫(‪ )5‬من سورة االنفطار ‪.‬‬
‫(‪ )6‬التناسخ ‪ :‬من عقائد اهلنود ‪ ،‬وهو قوهلم بأن الروح حتل بعد املوت يف كائن آخر ‪.‬‬
‫(‪ )7‬كادح ‪ :‬ساع واآلية من سورة االنشقاق اآلية (‪. )6‬‬
‫(‪ )8‬أحسن صورهم ‪.‬‬
‫(‪ )9‬سم ٍ‬
‫رة ‪.‬‬ ‫ُ ْ‬

‫‪70‬‬
‫ونحوه قوله ‪﴿ :‬‬
‫ُ‬
‫﴾ ( سورة الروم) ‪.‬‬
‫وقوله تعاىل ‪﴿ :‬‬
‫﴾ ( سورة األعراف) ‪.‬‬
‫الدالل وحالة‬‫ِ‬ ‫يلهث يف ِ‬
‫حال‬ ‫ُ‬ ‫الكلب فإِنه‬ ‫عطش أو ِع َّلة‪ ،‬خال‬
‫ٍ‬ ‫يلهث من إِ ٍ‬
‫عياء أو‬ ‫ُ‬ ‫يلهث فإِنام‬‫ُ‬ ‫كل ٍ‬
‫يشء‬
‫َ‬
‫كـذب بآياتِ ِه فقال ‪ :‬إِ ْن وع ْظـ َت ُه‬
‫َ‬ ‫ال ملن‬ ‫ِ‬
‫والعطش‪ ،‬فرض َب ُه اهلل مث ً‬ ‫واملرض‪ ،‬وحال ِ‬
‫الر ِّي‬ ‫ِ‬ ‫الراحة‪ ،‬وحال الص ِ‬
‫حة‬ ‫ِّ‬
‫أيضا لهَ َ َث ‪ .‬ونحـوه قولـه‬ ‫وزجـر َت ُه فسـعى هل َ َث‪ ،‬أو ترك َتـ ُه عىل حـالِ ِه ً‬
‫ْ‬ ‫كالكلب إِن طر ْد َت ُه‬
‫ِ‬ ‫فهو ّ‬
‫ضال‪،‬‬
‫﴾‪.‬‬ ‫﴿‬

‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ تظهر يف هذا النص بعـض ِ‬


‫آثار اجلــدل بني علامء املسلمني وأهل امللل األُخرى‪ ،‬وضحـي هذه‬
‫اآلثار ؟‬
‫‪ 2‬ـ ارشحي بيت ُأم َّية بن أيب الصلت ‪:‬‬
‫ـولـــــد‬
‫ُ‬ ‫فيهـا مقـابِ ُرنــا وفيــــــها ُن‬ ‫واألرض مـع ِ‬
‫ـقــ ُلنـا وكـانـت َّأمنـــا‬ ‫ُ‬
‫ْ‬
‫تعـدين قـولـه تعــاىل ‪﴿ :‬‬
‫‪ 3‬ـ من أي أنواع التشـبية ّ‬
‫﴾؟‬

‫‪71‬‬
‫‪ 4‬ـ من كتاب « البديع »‬

‫(أ)‬
‫لعبد اهلل بن املعت ِّز‬
‫مح ُه اهلل ‪:‬‬
‫املعتز ر َ‬
‫عبد اهلل ب ُن ِّ‬ ‫قال ُ‬
‫رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأحاديث‬ ‫ِ‬
‫واللغة‬ ‫ِ‬
‫القرآن‬ ‫وجدنا يف‬ ‫ْ‬ ‫بعض ما‬‫أبواب كتابِنا هذا َ‬ ‫ِ‬ ‫قدمنْا يف‬ ‫قد َّ‬
‫البديع‪،‬‬ ‫وأشعار املتقدمني‪ ،‬من الكال ِم الذي سماَّ ه ا ُمل ْح َد ُثون‬ ‫ِ‬ ‫الصحابة واألعراب وغريهم‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وسلم ـ وكالم‬
‫َ‬
‫سلماً وأبا نواس) ومن تق َّي َلهم (‪ )1‬وسلك سبي َلهم‪ ،‬مل ْ ُي ْس َب ُقوا إىل هذا الف ِّن‪ ،‬ولكن ُه‬ ‫أن ( بشارا وم ِ‬ ‫ل ُي ْع َل َم َّ‬
‫ً ُ‬
‫حبيب ب َن‬ ‫َ‬ ‫ثم إِ َّن (‬‫ودل عليه ‪َّ ،‬‬‫فأعرب عن ُه‪َّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أشعارهم‪َ ،‬ف ُع ِرف يف زمانهِ ِم حتى ُس ِّم َي هبذا االسم‬ ‫ِ‬ ‫َك ُث َر يف‬
‫بعض‬‫ِ‬ ‫وأكثر منه‪ ،‬فأحس َن يف‬ ‫َ‬ ‫وتفر َع (‪ )3‬فيه‪،‬‬ ‫ب عليه‪َّ ،‬‬ ‫ف به حتى َغ َل َ‬ ‫بعد ِه ْم‪ُ ،‬ش ِغ َ‬ ‫أوس الطائي (‪ ) )2‬من ِ‬
‫َّ‬ ‫ِ‬
‫الشاعر من هذا الف ِّن‬ ‫كان ُ‬
‫يقول‬ ‫رساف‪ .‬وإِنام َ‬ ‫ِ‬ ‫فراط وثمر ُة ا ِ‬
‫إل‬ ‫إل ِ‬ ‫بعض‪ ،‬وتلك ُع ْق َبى (‪ )4‬ا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وأساء يف‬ ‫ذلك‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫َت من ِ ِ‬
‫بديع ‪ ،‬وكان‬ ‫بيت ٌ‬ ‫وجد فيها ٌ‬ ‫أن ُي َ‬ ‫قصائد من غري ْ‬ ‫ُ‬ ‫هم‬‫شعر أحد ْ‬ ‫البيت والبيتني يف القصيدة‪ ،‬وربام ُق ِرئ ْ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطائي‬
‫َّ‬ ‫العلامء يش َّب ُه‬ ‫بعض‬‫املرسل وقد كان ُ‬ ‫بني الكال ِم‬ ‫منهم إذا أتى نادر ًا‪ ،‬ويزدا ُد ُح ْظو ًة َ‬ ‫ذلك ْ‬ ‫ستحس ُن َ‬ ‫َ‬ ‫ُي‬
‫وجعل بينها‬ ‫َ‬ ‫شعر ِه‪،‬‬ ‫نثر أمثا َل ُه يف ِ‬‫صاحلا َ‬
‫ً‬ ‫ويقول ‪ :‬لو ّ‬
‫أن‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األمثال ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫القدوس (ب) يف‬ ‫بن ِ‬
‫عبد‬ ‫بصالح ِ‬
‫ِ‬ ‫يف البدي ِع‬
‫أعدل كالم سمع ُت ُه يف هذا املعنى ‪.‬‬ ‫وغلب عىل م ْيدانِ ِه‪ ،‬وهذا ُ‬ ‫َ‬ ‫أهل زمانِ ِه‪،‬‬ ‫لسبق َ‬ ‫كالم ِه‪َ ،‬‬ ‫ُفصوالً من ِ‬

‫نفس ُه وتمُ نِّ ِيه مشار َك َتنَا يف فضي َلتِ ِه‪،‬‬ ‫ستحد ُث ُه ُ‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫الكتاب‪،‬‬ ‫تأليف هذا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السبق إىل‬ ‫بعض من قصرَّ َ عن‬ ‫ولعل َ‬ ‫َّ‬
‫ِ‬ ‫سمينا ُه ِبه‪ْ ،‬أو ُ‬ ‫فنون البديع ِ‬ ‫ِ‬
‫كالما منثور ًا‪ ،‬أو يفسرِّ ُ شعر ًا مل‬ ‫الباب من أبوابِه ً‬ ‫ِ‬ ‫يزيد يف‬ ‫بغري ما ْ‬ ‫ف ُيسمى فنًا من‬

‫شاعرا متفننًا يف الوصف‪ ،‬بديع التشبيهات‪ ،‬تويف سنة ‪296‬هـ‬


‫ً‬ ‫واحدا ‪ ،‬ثم قتله اجلند األتراك ‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫يوما‬
‫(أ) من البيت العبايس ‪ ،‬توىل اخلالفة ً‬
‫‪.‬‬
‫(ب) شاعر حكيم كان متكلماً يعظ الناس بالبرصة‪ ،‬تويف حوايل سنة ‪ 160‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬ق ّلدهم ‪.‬‬
‫(‪ )2‬هو أبو متام ‪.‬‬
‫(‪ )3‬توسع ‪.‬‬
‫(‪ )4‬نتيجة ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫غري ِه فألقينا ُه‪ ،‬أو‬
‫الباب مبلغَ ِ‬
‫ِ‬ ‫بعض ذلك مل يب ُلغْ يف‬ ‫ألن َ‬ ‫يذكر شعر ًا قد تر ْكنَاه ومل نذك ُْر ُه‪ ،‬إِما َّ‬ ‫نفسرِّ ْ ُه ‪ ،‬أو ُ‬
‫ِ‬
‫الكتاب‬ ‫كتاب إال وهذا ممُ ْ ِك ٌن فيه ملن أرا َد ُه ‪ ،‬وإِنام ُ‬
‫غرضنَا يف هذا‬ ‫ٍ‬ ‫وليس م ْن‬
‫َ‬ ‫ومغن ًيا‪.‬‬
‫ذكرنا كاف ًيا ُ‬ ‫َّ‬
‫ألن فيام ْ‬
‫ِ‬
‫الغاية‬ ‫ذكرنا مبلغُ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫أن ا ُمل ْح َدثني مل ْ َي ْسبِ ُقوا‬ ‫ِ‬
‫الناس َّ‬
‫املتقدمني إىل يْشء من أبواب البديعِ‪ ،‬ويف دون ما ْ‬ ‫ِّ‬ ‫تعريف‬
‫ُ‬
‫قصدناها ‪.‬‬
‫التي ْ‬
‫وباهلل التوفيق ‪.‬‬

‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫غرض املؤلف من وضع هذا الكتاب ؟‬ ‫‪ 1‬ـ ماذا كان ُ‬


‫املعتز يف ُأسلوب أيب متام ؟‬
‫ابن ِّ‬ ‫‪ 2‬ـ ما رأي ِ‬
‫‪ 3‬ـ متى ظهر اسم « البديع» وعالم كان يدل يف أول ظهوره ؟‬

‫‪73‬‬
‫إعجاز القر�آن »‬
‫ِ‬ ‫‪ 5‬ـ من كتاب « ال ُّن َك ِت فـي �‬

‫عيسى الرماين ) «أ»‬


‫أليب احلسن ( عيل بن ْ‬
‫باب التال�ؤم‬

‫ليف ‪.‬‬‫احلروف يف الت ْأ ِ‬


‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تعديل‬ ‫التنافر ‪ ،‬والتالؤم‬ ‫ِ‬ ‫التالؤم نقيض‬ ‫ُ‬
‫أوجه ‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ثالثة‬ ‫ليف عىل‬ ‫والت ْأ ُ‬
‫الطبقة العليا ‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ومتالئ ٌم يف‬ ‫الوسطى ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ومتالئم يف الطبقة ُ‬ ‫ٌ‬ ‫متنافر ‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫الشاعر ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫كقول‬ ‫املتنافر‬ ‫فالت ْأ ُ‬
‫ليف‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫حــرب ق ْب ُـر‬ ‫ِ‬
‫قــــرب‬ ‫وليــس ُق ْـر َب‬ ‫ــــر‬ ‫ٍ‬
‫بمـــكان َقـ ْف ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حــرب‬ ‫وقـــرب‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫تع (‪ )2‬وإِنام‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫اجلن‪ ،‬ألنه ال يتهي ُأ (‪)1‬‬ ‫أشعار ِ‬ ‫ِ‬ ‫وذكروا َّ‬
‫ثالث مرات‪ ،‬فال ي َتت ْع ُ‬ ‫ينشد ُه‬
‫َ‬ ‫ألحد أن‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫أن هذا من‬
‫ِ‬
‫احلروف ‪.‬‬ ‫ذكرنا من تنا ُف ِر‬ ‫السبب يف ذلك ما ْ‬ ‫ُ‬
‫كقول الشاعر ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫الوسطى ـ وهو ما أحسنِها ـ‬ ‫ِ‬
‫ليف املتالئم يف الطبقة ُ‬ ‫وأما الت ْأ ُ‬
‫يــم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫عشـي َة آرا ِم (‪ )3‬الكنِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ــاس (‪ )4‬رم ُ‬ ‫َّ‬ ‫وبينهــا‬
‫َ‬ ‫اللــه بينــي‬ ‫ـتر‬
‫َرم ْتنــي وس ُ‬
‫هــيم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يــزال َي‬ ‫لـكم ْ‬
‫أن ال‬ ‫ْ‬ ‫َض ِمنْ ُ‬
‫ــت‬ ‫لجـــيران بيتِـهـا‬
‫ِ‬ ‫رميـم التـي قا َل ْ‬
‫ـت‬ ‫ُ‬
‫قــديم‬
‫ُ‬ ‫ولكــ َّن عهــدي بالنضــال‬ ‫رب يـــو ٍم لــو َر َم ْتنِـــي رم ْي ُتهـا‬ ‫أال َّ‬
‫ِ‬
‫واملتالئم يف الطبقة العليا ‪ :‬القرآن ك ُّله ‪ ،‬وذلك بينِّ ٌ ملن َّ‬
‫تأم َل ُه ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫املتنافر واملتالئ ِم يف الطبقة‬ ‫بني‬
‫الفرق َ‬‫ِ‬ ‫احلروف‪ ،‬عىل ِ‬
‫نحو‬ ‫غري ِه من الكالم يف ُ‬
‫تالؤ ِم‬ ‫وبني ِ‬ ‫ُ‬
‫والفرق بينَ ُه َ‬
‫ِ‬
‫بتمييز‬ ‫حساسا‬
‫ً‬ ‫أشد إِ‬
‫بعضهم ُّ‬ ‫أن َ‬ ‫ٍ‬
‫بعض‪ ،‬كام َّ‬ ‫حساسا بذلك وفطن ًة له من‬ ‫ً‬ ‫أشد إِ‬ ‫ِ‬
‫الناس ُّ‬ ‫وبعض‬
‫ُ‬ ‫الوسطى‪.‬‬‫ُ‬
‫(أ) من علامء بغداد‪ ،‬مجع بني النحو وعلم الكالم‪ .‬تويف سنة ‪386‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )2‬يتلعثم ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬يمكن ‪.‬‬
‫ِ‬
‫(‪ )4‬الكناس ‪ :‬بيت الظباء ‪.‬‬ ‫(‪ )3‬مجع رئم وهو الظبي ‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫الص ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور‬ ‫الناس يف ذلك من جهة ال ِّطباعِ‪ ،‬كاختالف ِه ْم يف ُّ‬ ‫ِ‬ ‫واختالف‬
‫ُ‬ ‫املكسور ‪.‬‬ ‫الشعر من‬ ‫املوزون يف‬
‫تالؤما؛ وأما‬ ‫أشد‬
‫أعدل كان َّ‬ ‫ليف‪ ،‬فكلام َ‬
‫كان َ‬ ‫احلروف يف الت ْأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫تعديل‬ ‫والسبب يف التالؤ ِم‬ ‫ِ‬
‫واألخالق ‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وذلك أنه إِذا ب ُع َد ال ُب ْع َد‬
‫َ‬ ‫القرب الشديد (‪: )1‬‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫ِ‬
‫الشديد ِ‬ ‫اخلليل من ال ُب ْع ِد‬
‫ُ‬ ‫ذكر ُه‬
‫فالسـبب فيه ما َ‬ ‫ُ‬ ‫التنافر‬
‫ُ‬
‫بمنزلة رفِ ِع اللسانِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الشديد كان بمنزلة مشيْ ا ُملق َّيد‪ ،‬ألنه‬ ‫َ‬ ‫كان بمنزلة ال َّط ْف ِر ‪ ،‬وإِذا ُقر َب ال ُق َ‬
‫رب‬ ‫(‪)2‬‬ ‫الشديد َ‬‫َ‬
‫وقع يف الكال ِم‬ ‫ِ‬ ‫اللسان؛ والسهول ُة من َ‬ ‫ِ‬ ‫ورد ِه إِىل مكانِ ِه‪ِ ،‬‬
‫االعتدال‪ ،‬ولذلك َ‬ ‫ذلك يف‬ ‫صعب عىل‬ ‫ٌ‬ ‫وكالهمُ ا‬ ‫ِّ‬
‫بدال ‪.‬‬ ‫إل ُ‬ ‫اإلدغام وا ِ‬
‫ُ‬
‫النفس‪ ،‬ملا ير ُد عليها‬ ‫ِ‬ ‫اللفظ‪ ،‬وتق ُّب ُل املعنى ل ُه يف‬‫ِ‬ ‫والفائد ُة يف التالؤ ِم حس ُن الكال ِم يف السمعِ‪ ،‬وسهو َل ُت ُه يف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قراء ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واحلرف‪،‬‬ ‫يكون من ِّ‬
‫اخلط‬ ‫ُ‬ ‫أحسن ما‬ ‫ِ‬
‫الكتاب يف‬ ‫مثل َ‬ ‫وم َث ُل ذلك ُ‬ ‫م ْن ُح ْس ِن الصورة‪ ،‬وطريف الداللة‪َ .‬‬
‫كانت املعاين واحد ًة ‪.‬‬ ‫الصورة وإِ ْن ْ‬‫ِ‬ ‫متفاوت يف‬
‫ٌ‬ ‫واخلط‪ ،‬فذلك‬ ‫ِّ‬ ‫احلرف‬‫ِ‬ ‫ُ‬
‫يكون من‬ ‫أقبح ما‬ ‫وقراء ُته يف ِ‬ ‫َ‬

‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ استخرجي تعريف « التالؤم » من هذه القطعة ‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ ملاذا اختلفت درجات التالؤم ؟‬
‫‪ 3‬ـ ما فائدة التالؤم يف رأي الرماين ؟‬
‫‪ 4‬ـ َأهيام َأشد ً‬
‫عرسا يف النطق ‪ :‬احلروف املتباعدة املخارج أم احلروف املتقاربة املخارج ؟‬
‫‪ 5‬ـ ما معنى « اإلدغام » و«اإلبدال » ؟‬

‫(‪ )1‬يقصد البعد الشديد أو القرب الشديد يف خمارج احلروف‪ ،‬أي مواضع النطق هبا يف اجلهاز الصويت لإلنسان‪ ،‬فالبعد الشديد كالذي بني‬
‫الثاء واهلاء‪ ،‬والقرب الشديد كالذي بني العني واحلاء ‪.‬‬
‫(‪ )2‬الوثب ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫‪ 6‬ـ من كتاب « بيان �إعجاز القر�آن »‬
‫أليب سليامن محد بن حممد بن إبراهيم ( اخلطايب ) «أ»‬

‫فصول الكال ِم‬ ‫ُ‬ ‫األلفاظ التي تشتمل عليها‬ ‫ِ‬ ‫كل نوع من‬ ‫وضع ِّ‬ ‫هذه البالغة ‪ ..‬هو‬ ‫أن عمود (‪ِ )1‬‬ ‫أعلم َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ثم ُ‬
‫جاء من ُه إِما ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يكون منه فسا ُد‬ ‫ُ‬ ‫تبد ُل املعنى الذي‬ ‫غري ُه َ‬ ‫األشكل به‪ ،‬الذي إذا ُأ ْبد َل مكا َن ُه ُ‬ ‫َ‬ ‫األخص‬
‫َّ‬ ‫موض َع ُه‬
‫أن يف الكال ِم ألفاظ ًا متقارب ًة يف املعاين‪،‬‬ ‫البالغة ‪ .‬ذلك َّ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫سقوط‬ ‫يكون م َع ُه‬ ‫ُ‬ ‫الرونق الذي‬ ‫ِ‬ ‫ذهاب‬ ‫الكالمِ‪ ،‬وإما‬
‫ُ‬
‫والبخل‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والشكر‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واحلمد‬ ‫ِ‬
‫واملعرفة‪،‬‬ ‫اخلطاب ‪ ،‬كالعل ِم‬ ‫ِ‬ ‫إفادة بيان م ِ‬
‫راد‬ ‫ِ‬ ‫الناس أهنا متساوي ٌة يف‬ ‫ِ‬ ‫حيسب أكثر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ونحوهمِ ـا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وم ْن‪ ،‬و َع ْن‪،‬‬ ‫اقعد واجلس ‪ ،‬وبلىَ ‪ ،‬ونعم ‪ ،‬وذلك وذاك‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫والصفة ‪ ،‬وكقولِك ‪ْ :‬‬ ‫ِ‬ ‫عت‬ ‫والش ِح‪ ،‬وكالنَّ ِ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫علامء‬ ‫واألمر فيها ويف ترتيبِها َ‬
‫عند‬ ‫بعد ‪.‬‬ ‫والصفات‪ ،‬مما سنذك ُُر تفصي َل ُه فيام ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واحلروف‬ ‫ِ‬
‫واألفعال‬ ‫ِ‬
‫األسامء‬ ‫من‬
‫ُ‬
‫وإن كانا‬ ‫بعض معانيها ‪ْ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫تتميز هبا عن صاحبتها يف‬ ‫لفظة منها خاصي ًة ُ‬ ‫لكل ٍ‬ ‫ألن ِّ‬ ‫ذلك ‪َّ ،‬‬ ‫بخالف َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اللغة‬ ‫أهل‬ ‫ِ‬
‫أن‬ ‫اجلهل‪ ،‬إِال َّ‬ ‫ُ‬ ‫يرتفع معه‬ ‫ثبات الذي‬ ‫إل َ‬ ‫لم ُت ُه إِذا أر ْد َت ا ِ‬ ‫تقول ‪ :‬عر ْف ُت‬ ‫بعضها ‪ُ .‬‬ ‫يشرتكان يف ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫اليشء و َع ْ‬ ‫َ‬ ‫قد‬
‫علمت‬ ‫ُ‬ ‫وعلمت‪ ،‬يقتيض مفعولني كقولِ َك ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫زيدا ‪.‬‬ ‫عر ْف ُت ً‬ ‫واحدا كقول َك َ‬
‫ِ‬ ‫ً‬ ‫عر ْف ُت‪ ،‬يقتيض مفعوالً‬ ‫قو َل َك َ‬
‫فتقول ‪ :‬عر ْف ُت‬ ‫ُ‬ ‫وإثبات ِ‬
‫ذاته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫اللـه تعاىل‪،‬‬ ‫توحيد ِ‬ ‫ِ‬ ‫مل خصوص ًا يف‬ ‫صار ْت املعرف ُة ُتس َت ْع ُ‬ ‫زيدا عاقالً؛ ولذلك َ‬ ‫ً‬
‫عدالً وعلمت ُه‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬
‫علم ُت اهلل ْ‬ ‫ضيف إليه صف ًة من الصفات ‪ ،‬فتقول ‪ْ :‬‬ ‫علم ْت اهلل‪ ،‬إال ْ‬
‫أن ُت‬ ‫اهللَ ‪ ،‬وال تقول ْ‬
‫كرة (‪)2‬‬
‫ضدها النَّ ِ َ ُ‬ ‫اجلهل‪ ،‬واملعرف َة ُّ‬ ‫ُ‬ ‫ضد ُه‬ ‫الع ْل َم ُّ‬ ‫أن ِ‬ ‫البيان يف هذا َّ‬ ‫ِ‬ ‫الصفات‪ ،‬وحقيق ُة‬ ‫ِ‬ ‫ونحو ذلك من‬ ‫َ‬ ‫قادرا‪،‬‬ ‫ً‬
‫الشكر عن‬ ‫الشكر هلل عليها‪ ،‬ثم قد يتم َّي ُز‬ ‫أي ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫هلل عىل نعمه‪ْ ،‬‬ ‫احلمد ِ‬
‫ُ‬ ‫أيضا ‪:‬‬ ‫والشكر قد يشرتكان ً‬ ‫ُ‬ ‫واحلمد‬
‫ُ‬ ‫‪.‬‬
‫تقول ‪ :‬حمَ ِ ْد ُت هذا‬ ‫اجلزاء‪ُ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫الشكر إال عىل‬ ‫ُ‬
‫يكون‬ ‫ِ‬
‫الثناء‪ ،‬وال‬ ‫ابتداء بمعنى‬ ‫احلمد‬ ‫ُ‬
‫فيكون‬ ‫ياء ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫احلمد يف ْأش َ‬
‫وشــكر ُت زيد ًا إِذا أر ْد َت‬ ‫ْ‬ ‫معروف‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫أخالق ِه ومذاهبِه ‪ ،‬وإن مل يك ْن َسـ َب َق إِليك منه‬ ‫ِ‬ ‫أثنيت عليه يف‬ ‫َ‬ ‫‪ ،‬إذا‬
‫جل وعز‬ ‫ويكون فِعــلاً كقوله َّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫كاحلمـد‪،‬‬ ‫الشكر قوالً‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫يكون‬ ‫معــروف ابتدأ ُه إليك‪ .‬ثم قد‬ ‫ٍ‬ ‫جـزاءه عىل‬ ‫َ‬
‫«أ» خطيب حمدث‪ ،‬وله شعر جيد‪ ،‬لق ُب ُه اخلطايب يرجع إىل أنه من نسل زيد بن اخلطاب ‪ ،‬أخي عمر بن اخلطاب‪ ،‬وكان موطنه يف بـالد كابل‬
‫« أفغانستان احلالية »‪ ،‬تويف سنة ‪388‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬ما تقوم وترتكز عليه كالعمود الذي ترتكز عليه اخليمة ‪.‬‬
‫(‪ )2‬النكرة ‪ :‬هنا مصدر بمعنى اإلنكار ‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫واحد منهام بِ ِض ِّد ِه‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫اعترب َت َّ‬
‫كل‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫الفرق بينهام‬ ‫﴾ (‪. )1‬وإِذا أر ْد َت أن تتبينَّ َ حقيقة‬ ‫‪﴿:‬‬
‫ُ‬
‫يكون‬ ‫ِ‬
‫واملكروه‪ ،‬وال‬ ‫ِ‬
‫املحبوب‬ ‫احلمد عىل‬ ‫ُ‬
‫يكون‬ ‫ُ‬
‫الكفران ‪ ،‬وقد‬ ‫ِ‬
‫الشكر‬ ‫وضد‬ ‫الذم ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫وذلك َّ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫ضد احلمد ُّ‬ ‫أن َّ‬
‫ِ‬
‫املحبوب ‪.‬‬ ‫الشكر إال عىل‬
‫ُ‬

‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ ما االسم الذي ُي ْط ِل ُق ُه اللغويون عىل الكلامت املتساوية يف املعنى ؟‬


‫أساسا مهماً من ُأسس البالغة ؟‬
‫‪ 2‬ـ ملاذا كانت التفرقة بني الكلامت املتقاربة املعاين ً‬
‫‪ 3‬ـ اذكري فرقني بني « احلمد » و «الشكر» ‪.‬‬

‫(‪ )1‬سورة سبأ اآلية ‪.13‬‬

‫‪77‬‬
‫يني »‬ ‫ْ‬
‫الطائِ ِ‬ ‫ُ‬
‫املوازنة بني‬ ‫‪ 7‬ـ من كتاب «‬

‫اآلمدي) «أ»‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫احلسن بن برش‬ ‫أليب القاسم (‬

‫اآلمدي ‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫برش ب ُن يحَ ْ َيى‬ ‫قال أبو القاس ِم احلس ُن ب ُن ٍ‬
‫وأقول‬ ‫ُ‬ ‫معـنى ومعنى‪،‬‬ ‫بني‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫املعاين التي ي َّت ِف ُق فيها‬ ‫ِ‬ ‫وأنا أذكر بإِ ِ‬
‫ً‬ ‫وأوزان َ‬ ‫الطائيان‬ ‫َ‬ ‫اجلزء‪،‬‬ ‫ذن اهلل اآلن يف هذا‬ ‫ُ‬
‫أشعر عندي عىل‬ ‫ِ‬
‫أتعدى هذا إىل أن أفص َح لك بأيهِّ ام‬ ‫أن َّ‬ ‫ِ‬
‫أشعر يف هذا املعنى بعينه‪ .‬فال تطال ْبني ْ‬‫ِ‬ ‫‪ :‬أيهُّ ام‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ا ِ‬
‫بالعلل‬ ‫وإن طال ْب َت‬ ‫بالتقليد‪ْ ،‬‬ ‫لك الفائد ُة‬ ‫حتصل َ‬ ‫إن ق ّل ْد َتني مل ْ‬ ‫ألنك ْ‬ ‫َ‬ ‫ذلك ‪:‬‬ ‫فاعل َ‬ ‫غري‬
‫إلطالق‪ ،‬فإين ُ‬
‫نعت مذهب ْي ِهام‪ ،‬وذكْر‬ ‫أحاط به علمي من ِ‬ ‫َ‬ ‫تقد َم بام‬ ‫فقد أخبرْ ُت َك فيام َّ‬ ‫التفضيل‪ْ ،‬‬ ‫َ‬ ‫واألسباب التي أوج َب ْت‬ ‫ِ‬
‫باق‬ ‫واأللفاظ‪ ،‬وإساء ِة م ْن أساء منهام يف ال ِّط ِ‬ ‫ِ‬ ‫الناس‪ ،‬وغلطِ ِهام يف املعاين‬ ‫ِ‬ ‫س َق ِة املعاين من‬ ‫مساوهيام يف رَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬
‫مواضع ِه وب ّين ُت ُه‪،‬‬
‫ِ‬ ‫وغري ذلك مما أوضح ُت ُه يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الوزن‪،‬‬ ‫ِ‬
‫واضطراب‬ ‫ورداء ِة النظ ِم‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫واالستعارة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫والتجنيس‬
‫وتقتضيه احلج ُة‪ ،‬وما سرتا ُه من حماسنِهام‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫القول‬ ‫ذكر ُه يف املواز َن ِةمن هذه األنواعِ‪ ،‬عىل ما يقو ُد ُه‬ ‫وما سيعو ُد ُ‬
‫أغراض ِهام ومعانيهام‬ ‫ِ‬ ‫لك‪ ،‬وعىل سائر‬ ‫الكالم عىل مجيع َذ َ‬ ‫أوقع‬ ‫وعجيب اخرتاعاتهِ ام؛ فإين‬ ‫ِ‬ ‫عهام‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وبدائ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫عل ِل‬ ‫الرديء وأرذلِ ِه‪ ،‬وأذكر من ِ‬ ‫ِ‬ ‫وأفضل ِه‪ ،‬وعىل‬ ‫ِ‬ ‫وأنص عىل اجل ِّي ِد‬ ‫ِ‬
‫األبواب‪،‬‬ ‫األشعار التي أر ِّت ُبها يف‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫إظهار ُه إِىل‬ ‫ِ‬
‫البيان‪ ،‬وال‬ ‫خراجه إِىل‬ ‫وحتيط به العبار ُة ‪ ،‬ويبقى ما ال يمك ُن إِ‬ ‫ُ‬ ‫التخليص‪،‬‬ ‫اجلمي ِع ما ينتهي إليه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أهل احل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ف إِال ُّ ِ‬
‫ذاقة‬ ‫بالد ْر َبة ودائ ِم التجربة‪ ،‬وطول املالبسة‪ .‬وهبذا َي ْف ُض ُل ُ َ‬ ‫عر ُ‬ ‫وهو ع َّل ُة ما ال ُي َ‬ ‫االحتجاج‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫لتلك‬ ‫طبع فيه َت َق ُّب ٌل َ‬ ‫َ‬ ‫نقص ْت جترب ُت ُه‪ ،‬وق َّل ْت ُد ْرب ُت ُه‪َ ،‬‬ ‫ممِ‬ ‫ٍ‬ ‫بكل عل ٍم‬ ‫ِّ‬
‫يكون هناك ٌ‬ ‫بعد أن‬ ‫سواهم ْن َ‬ ‫ُ‬ ‫وصناعة من‬
‫وامتزاج هبا ‪ ،‬وإِلاَّ فال ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫الصناعة‬
‫ييزك؛ فينبغي َأن ُتنْ ِع َم الن َظر فيام َير ُد‬ ‫اختيار َك ‪ ،‬وما ُت ْفضيِ عليه فِطن ُت َك وتمَ ُ‬ ‫ِ‬ ‫أك ُل َك (‪ )1‬بعد هذا إىل‬ ‫ثم ِ‬
‫ِِ‬ ‫بالنظر إِال َم ْن يحُ ْ ِس ُن ْ‬ ‫ِ‬
‫أنصف‪.‬‬ ‫َ‬ ‫علم‬‫تأم َل عل َم ‪ ،‬وإذا َ‬ ‫وم ْن إذا ّ‬ ‫أن َي َت َأ َّمل‪َ ،‬‬ ‫ينتفع‬
‫َ‬ ‫عليك‪ ،‬ولن‬

‫جهود سابقيه ممِ َّن تعرضوا‬


‫ِ‬ ‫«أ» كتب اآلمدي ‪ :‬ج َّل مؤلفاته يف ِ‬
‫النقد‪ ،‬وأمهها كتاب « املوازنة» هذا‪ ،‬وقد غلبت عليه الثقافة اللغوية‪ ،‬وأفاد من‬ ‫ُ‬
‫ملوضوع « الرسقات الشعرية » وغريه ‪ ،‬تويف سنة ‪370‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬أسلمك ‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫للديار ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫أزمان‬
‫ذكر تعف َي ِة الدُّ هور وال ِ‬
‫ما ابتدئ به من ِ‬
‫قال أبو متام ‪:‬‬
‫ــل املغـــاين للبِىل َهي ْأم نهُ ْ ُ‬
‫ب؟‬ ‫َأ ُن ْح ُ‬
‫احل ْق ُ‬
‫ـب‬ ‫دار ماوي َة ُ‬‫أخــذ ْت من ِ‬
‫َ‬ ‫لقـد‬
‫نيِ‬
‫أحقاب ‪ :‬السنون‪ ،‬واحدهتا‬‫ٌ‬ ‫ب ‪ :‬الدهر‪ ،‬ومج ُع ُه‬ ‫أنح ٌل املعا هي للبىل‪ ،‬فحذف التنوين ‪ُ ،‬‬
‫واحل ْق ُ‬ ‫أراد ُ‬
‫احل ْق ُ‬
‫ب ثامنون‬ ‫ِ‬
‫الدهر ولياليه‪ .‬و ُيقال ‪ُ :‬‬ ‫واحل ْقب مذكر‪ ،‬وأظنه أرا َد َ‬
‫أيام‬ ‫أخذ ْت » فأ َّنث‪ُ ،‬‬‫ِحقب ٌة‪ ،‬وقال ‪ « :‬لقد َ‬
‫سنة‪ ،‬فعىل هذا قال ‪َ « :‬‬
‫أخذ ْت فأ َّنث » ‪.‬‬
‫أيضا ‪:‬‬
‫وقال ً‬
‫ِ ِ‬
‫واســ َتح َق َب ْت ِج ّد ًة من ربعها احل َق ُ‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ــزع من َأ ْر ِو َّيـــ َة النُّ َو ُب‬
‫اجل ُ‬ ‫قد نا َب ْت ِ‬‫ُ‬
‫الراكب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حقيبتها‪ .‬واحلقيب ُة ‪ :‬ما يحَ ِتق ُب ُه‬
‫َ‬ ‫ب ـ وهي السنون ـ جد َة الرب ِع يف‬ ‫ِ‬
‫«واستحق َب ْت» أي جعلت احل َق ُ‬
‫يريد َّ ِ‬ ‫رز فيه َمتا َع َه وزا َد ُه ‪ ،‬وهذه استعار ٌة حسنة‪ ،‬وإِنام ُ‬ ‫وعاء جيع ُل ُه خل َف ُه إذا‬
‫ب‬‫أن احل َق َ‬ ‫ركب ‪ ،‬ويحُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫الربع ِج َّد َت ُه وذه َب ْت هبا ‪.‬‬
‫َ‬ ‫َس َل َب ْت‬
‫وقال البحرتي ‪:‬‬
‫ِ‬
‫األحقاب‬ ‫َد َر َس ْت (‪ )1‬بشـاش ُتها عىل‬ ‫ِ‬
‫كتــاب‬ ‫ســطور‬
‫ُ‬ ‫أرســـــوم ٍ‬
‫دار ْأم‬ ‫ُ‬
‫ماء ورون ًقا‪ ،‬وهو‬
‫أبرع من بيتي أيب متام لف ًظا‪ ،‬وأجو ُد سبكًا‪ ،‬وأكثر ً‬
‫مر السنني‪ ،‬وهذا البيت ُ‬ ‫أي ‪ :‬عىل ِّ‬
‫أشعر من أيب متام ‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األوائل ‪ ،‬فهو فيه‬ ‫العجيبة‪ ،‬وا ُمل ْشبِ َه ِة لكال ِم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النادرة‬ ‫االبتداءات‬
‫َ‬ ‫من‬
‫٭٭٭‬
‫والبكاء عليها � ً‬
‫أي�ضا ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اجلواب‬
‫ِ‬ ‫وا�ستعجامها عن‬
‫ِ‬ ‫ما قااله فـي �س�ؤال الديار‬
‫قال أبو متام ‪:‬‬
‫(‪)3‬‬ ‫فصواب ِم ْن ُم ْقـلـتي ْ‬
‫أن َت ُصــوبا‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫الطـلول ألاَّ تجُ ــيبا‬ ‫ِمن ســـجايا (‪)2‬‬
‫ْ‬
‫ال ومجُ ــيـبـا‬ ‫َ‬
‫الشـوق ســــائ ً‬ ‫تجَ ِـــد‬ ‫ْ‬
‫واجـعل ُبكــاك جــوا ًبا‬ ‫فاســأ َلنْها‬

‫(‪ )3‬تسكب الدمع ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬خصال ‪ ،‬صفات ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬قدمت وبليت ‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫قال ‪ :‬من‬ ‫بكاك جوا ًبا » ألنه َ‬ ‫َ‬ ‫ات‪ ،‬وقوله ‪ « :‬فاسألنْها‪ ،‬واجعل‬ ‫وقد ذكر ُت هذا االبتداء يف االبتداء ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫سجاياها َألاَّ جتيب‪ ،‬فلي ُك ْن بكاؤك‬
‫أن َم ْن‬‫ب َعل ْم َت َّ‬ ‫بكيك‪ْ ،‬أو ألنهَّ ا ملا مل ْ تجُ ْ‬‫اجلواب‪ ،‬ألهنا لو أجا َب ْت بام ُي َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫بكاءك ‪.‬‬ ‫ب ذلك‬ ‫فأوج َ‬
‫حل عنها‪َ ،‬‬ ‫قد َر َ‬
‫جييب ْ‬ ‫كان ُ‬
‫شوقك إىل من كان هبا‪،‬‬ ‫لشدة ِ‬ ‫ِ‬ ‫أي أنك إنام وق ْف َت عىل الدار وسأل ْت َها‬ ‫َ‬ ‫وقوله ‪ِ :‬‬
‫ال ومجُ ي ًبا‪ْ ،‬‬
‫الشوق سائ ً‬ ‫جتد‬
‫ِ‬
‫للبكاء ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫للسؤال وسب ًبا‬ ‫الشوق سب ًبا‬‫ُ‬ ‫بكيت شو ًقا أيض ًا إليهم‪ ،‬فكان‬ ‫ثم‬
‫َ‬
‫الشعراء وال طري َقتِهم‪ .‬ومث ُل ُه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مذاهب‬ ‫ليس عىل‬ ‫مذاهب أيب متام‪َ ،‬‬ ‫ذهب من‬ ‫وم ٌ‬ ‫وهذه فلسفة حسن ٌة‪َ ،‬‬
‫قو ُل ُه ‪:‬‬
‫الوجد‬
‫ُ‬ ‫ماءه‬
‫جيتلب َ‬ ‫ْ‬ ‫و َدع ِحسيْ (‪ٍ )1‬‬
‫عني‬ ‫اجلـرع ال َف ْـر ُد‬
‫ُ‬ ‫قـــد أقـفر‬
‫ْ‬ ‫أســى‪،‬‬
‫ً‬ ‫جتر ْع‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫فالبــــكاء لـه ر ُّد‬ ‫ُ‬
‫ســؤال املغـــــاين‬ ‫فـل (‪َ )2‬صـبرْ ُ ُه‬‫املخزون قد َّ‬
‫ُ‬ ‫ف‬‫انرص َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫إذا َ‬
‫واجلمع‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫الرمل‬ ‫سهل يشبه‬‫هو ٌ‬ ‫ارتفاع ‪ .‬و ُيقال ‪ :‬هو َح ْز ٌن (‪ ، )3‬و ُيقال ‪َ :‬‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫األرض له‬ ‫املوضع من‬
‫ُ‬ ‫رع ‪:‬‬
‫فاجل ُ‬
‫َ‬
‫ال وجمي ًبا » ‪.‬‬ ‫َ‬
‫الشوق سائ ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للسؤال عىل معنى قوله جتد‬ ‫ِ‬ ‫أي‬
‫فالبكاء له ر ٌّد‪ْ ،‬‬
‫ُ‬ ‫أجراع‪ .‬وقوله «‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫الناس فقال ‪:‬‬ ‫الطريق‪ ،‬بل جرى يف هذا الباب عىل مذاهب‬ ‫َ‬ ‫ومل يسلك البحرتى هذه‬
‫ُ‬
‫تبـخل‬ ‫قـد كا َن ْت بهـا العـي ُن‬
‫ب ْ‬ ‫ِ‬
‫سـواك ُ‬ ‫فانبـر ْت‬
‫َ‬ ‫ذات النُّخَ ـ ْي َل ِة‬
‫وقفـْنا على ِ‬
‫ــم ُأل‬ ‫عليــه صـ َب ًا مـا‬ ‫عاف (‪ )4‬تعـاق َب ْت‬ ‫اآليـات ٍ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وش ْ‬ ‫تســتفيق (‪َ )5‬‬
‫ُ‬ ‫دارس‬ ‫على‬
‫نس ُ‬
‫ـأل‬ ‫والنحـنمـن ِ‬ ‫ِ‬ ‫فلم ْي ِ‬
‫كيـف ْ‬
‫فـرطالبـكا َ‬ ‫كيـف يجيـ ُبنَا‬
‫َ‬ ‫الـدار‬ ‫رسـم‬
‫ُ‬ ‫ــدر‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫النفس‪ ،‬وأ ْل ُ‬ ‫ِ‬ ‫وصنع ٌة‪ ،‬فهذا عندي أوىل‬ ‫ِ‬
‫بالقلب‪،‬‬ ‫وط‬ ‫باجلودة‪ ،‬وأحىل يف‬ ‫وقول أيب متام وإن كان فيه دق ٌة َ‬
‫ِ‬
‫بمذاهب الشعراء ‪.‬‬ ‫وأشب ُه‬

‫(‪ )1‬احليس ( بالفتح أو الكرس ) أرض يتجمع فيها املاء‪ .‬كلام نزح منها عاد ‪.‬‬
‫قل وتناقص ‪.‬‬ ‫(‪ّ )2‬‬
‫(‪ )3‬مرتفع من األرض ‪.‬‬
‫(‪ٍ )4‬‬
‫بال ‪.‬‬
‫(‪ )5‬تنقطع‪ ،‬والصبا هي الريح الرشقية َوالشمأل ريح الشامل ‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ ما املنهج الذي سار عليه اآلمدي يف هذا اجلزء من كتابه « املوازنة » ؟‬
‫‪ 2‬ـ ملاذا امتنع اآلمدي عن الترصيح بتفضيل أحد الشاعرين ؟‬
‫سوى بني الشاعرين ؟‬
‫‪ 3‬ـ هل ترين أن اآلمدي ّ‬
‫استخرجي ما يدل عىل ر ْأيك من النص الذي أمامك ‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫‪ 8‬ـ من كتاب « �إعجاز القر�آن »‬

‫) «أ»‬ ‫ب ِ‬
‫الباقلاَّنيِ‬ ‫الطي ِ‬ ‫أليب ٍ‬
‫بكر ( حممد ِ بن ِّ‬
‫تستوف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بأصناف كلامتهِ ا‪ ،‬مل‬ ‫تتضم ُن من القصص ما لو تكل ْف َت العبار َة عنها‬ ‫ِ‬
‫السور‬ ‫كل سورة ِمن هذه‬ ‫ُّ‬
‫َّ‬
‫القول ومتنُّ َع جانِ ِبه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ثقل النظمِ‪ ،‬ونفور الطبعِ‪ ،‬وشرِ اد الكال ِم (‪ )1‬وهتا ُفت (‪)2‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جتد فيام تنظِ ُم َ‬ ‫ما استو َف ْت ُه ‪ ،‬ثم ُ‬
‫فصل‪ ،‬حتى‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫وفصل إىل‬ ‫قصة إىل ٍ‬
‫قصة‪،‬‬ ‫تنتق َل من ٍ‬ ‫يضاح عن واجبِ ِه‪ ،‬ثم ال تقدر عىل أن ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقصور َك يف ا ِ‬
‫إل‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫بالقصص‬ ‫ِ‬
‫عليك أماكن الفصل ‪ ،‬ثم ال يمكنُ َك أن َتص َل‬ ‫َ‬ ‫وتستصعب‬ ‫ِ‬
‫الوصل‪،‬‬ ‫مواضع‬ ‫َ‬
‫عليك‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫تتعسرَّ َ‬
‫ِ‬
‫والتحميد‬ ‫ِ‬
‫التنزيه‬ ‫وكلامت يف‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫التوحيد ب ِّين ًة ‪،‬‬ ‫وحكماً جليل ًة‪ ،‬وأدل ًة عىل‬ ‫مواعظ زاجر ًة‪ ،‬وأمثاالً سائر ًة‪ِ ،‬‬ ‫َ‬
‫رشيف ًة ‪.‬‬
‫ِ‬ ‫فتأم ْل ِش ْع َر َم ْن ِش ْئ َت من‬
‫كالم ُه يف‬ ‫جتد َ‬ ‫املفلقني‪ ،‬هل ُ‬ ‫َ‬ ‫الشعراء‬ ‫لك ‪َّ ،‬‬ ‫فت َ‬ ‫وص ُ‬ ‫وإِن أر ْد َت أن تتح َّق َق ما ْ‬
‫القصص ؟‬‫ِ‬ ‫كالم ِه يف ِ‬
‫ذكر‬ ‫واهلجو جيري جمرى ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والفخر‬ ‫ِ‬
‫والغزل‬ ‫املديح‬
‫ِ‬
‫أمر ِه ‪،‬‬ ‫ال يف ِ‬ ‫اخلطاب‪ُ ،‬مسرتس ً‬ ‫ِ‬ ‫سوقي‬
‫َّ‬ ‫عامي الكالمِ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫نقل ٍ‬
‫خرب‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وقعة‪ ،‬أو ِ‬ ‫ِ‬
‫وصف‬ ‫جاء إىل‬ ‫نك لرتا ُه إِذا َ‬ ‫إِ َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ال يف كالمه ‪ ،‬عادالً عن امل َألوف من طبعه‪ ،‬وناك ًبا عن املعهود من َسج َّيته‪ ،‬فإِن ا َّتفق له يف قصة ٌ‬
‫كالم‬ ‫ُمتساه ً‬
‫خترج من عادتِ ِه‬ ‫أقول ‪ :‬إِهنا ُ‬ ‫جتاوزها َلغ ًْوا‪ ،‬وال ُ‬ ‫َ‬ ‫حشوا‪ ،‬وما‬ ‫ً‬ ‫وكان ما زا َد عليها‬ ‫َ‬ ‫نتني أو ٍ‬
‫ثالثة‪،‬‬ ‫قدر ثِ ِ‬ ‫جيد‪ ،‬كان َ‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫ويتعر ُض للركاكة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫دون ال ُع ْرف‪،‬‬ ‫ويقف َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫العفو‪،‬‬ ‫عفوا‪ ،‬ألنه يقصرِّ ُ عن‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وصفت‬ ‫ْ‬ ‫اجلميع عىل ما‬ ‫َ‬ ‫جتد‬
‫السور‪ ،‬هل ُ‬ ‫ذلك من‬ ‫غري َ‬ ‫فتأم ْل َ‬ ‫تقنع بام ق ْل ُت لك من اآليات ‪َّ ،‬‬ ‫فإِن مل ْ ْ‬
‫لك؟‬
‫بالقرآن الكريم ؟‬ ‫ِ‬ ‫فكيف‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫اإلعجاز ‪،‬‬ ‫لو مل ْ تك ْن إِال سور ٌة واحد ٌة لكفت يف‬
‫سورة لكفى‪ ،‬وأقنع وشفى ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٌ‬
‫حديث من‬ ‫ولو مل يك ْن إال‬

‫«أ» من أعالم املتكلمني يف القرن الرابع‪ ،‬اشتهر بذكائه ومهارته يف اجلدل‪ ،‬ومن أشهر كتاب « التمهيد» ‪ ،‬تويف سنة ‪403‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬رشاد الكالم ‪ :‬عصيانه وعدم مواتاته ‪.‬‬
‫(‪ )2‬ضعف ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫الش ِ‬
‫عراء‪ ،‬ملا طل ْب َت َب ِّينَ ًة ِسواها ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫سورة ُّ‬ ‫وحدها ِم ْن‬
‫قصة موسى َ‬ ‫عرفت قدر ِ‬ ‫ولو‬
‫َ َ‬
‫بل قص ًة من ِق َص ِص ِه‪ ،‬وهي قو ُله ‪:‬‬
‫إىل قولـه ‪﴿ :‬‬ ‫﴿‬
‫﴾ حتى قال ‪﴿:‬‬
‫الشعراء ( ‪ 51‬ـ ‪)63‬‬ ‫﴾‬
‫ثم قصة إبراهيم عليه السالم ‪.‬‬
‫ِ‬
‫القرآن ‪ ،‬وهي قوله ‪:‬‬ ‫القول يف ِ‬
‫ذكر‬ ‫ُ‬ ‫اآليات التي انتهى إليها‬
‫ُ‬ ‫ثم ْلو مل تك ُن إال‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫الشعراء ( ‪ 190‬ـ ‪) 194‬‬

‫يتضم ُن فاحت ًة وفاصل ًة ‪ ،‬ومنها ماهي فاحت ٌة وواسط ٌة‪ ،‬وفاصل ٌة ‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بفواصلها‪ ،‬منها ما‬ ‫كلامت مفرد ٌة‬
‫ٌ‬ ‫وهذه‬
‫َّ‬
‫ومنها كلمة بفاصلتِها تام ٌة ‪.‬‬
‫ليكون نذيرا‪ ،‬وب أنه آي ٌة لكونِ ِه نبي ًا‪ ،‬ثم وص َل بذلك كيفي َة النِّ ِ‬ ‫دل عىل أن ُه َّنز َله عىل قلبه‬
‫َّ‬
‫ذارة فقال ‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ً َ ينَّ ُ‬
‫﴾‬ ‫﴿‬
‫الشعراء ( ‪ 214‬ـ ‪)215‬‬
‫ِ‬
‫السورة ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الفصول أي آخر‬ ‫البديع‪ ،‬والتن ُّق َل يف‬ ‫فتأمل آي ًة آي ًة‪ ،‬لتعرف اإلعجاز‪ ،‬وتتبينَّ َ ال َّتصرَُّ َ‬
‫ف‬
‫َ‬
‫﴾‬ ‫العجيب ‪ ،‬وهو قوله ﴿‬ ‫َ‬ ‫ثم راع املقطع (‪)1‬‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫السابقة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫النظائ ِر‬ ‫جيد َ‬
‫مثل هذه‬ ‫الوعيد‪ ،‬وأن ين ِّظ َم مثل هذا النظمِ‪ْ ،‬‬
‫وأن َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بمثل هذا‬ ‫هل يحُ ْ ِس ُن ٌ‬
‫أحد أن يأتيَ‬
‫ِ‬
‫املتقدمة ؟‬ ‫ِ‬
‫الكلامت‬ ‫ف َ‬
‫مثل هذه‬ ‫ِ‬
‫ويصاد َ‬
‫ٍ‬
‫واحدة‬ ‫الرتتيب كلامتِ ِه‪ ،‬وب َّي ُ‬
‫نت لك ما يف ِّ‬
‫كل‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫فصل‪ ،‬فاستقر ْي ُت عىل‬ ‫كل‬ ‫إل ِ‬
‫مالل‪ِ ،‬جل ْئ ُت إِىل ِّ‬ ‫ولوال كراه ُة ا ِ‬
‫ِ‬
‫بنوره‪ ،‬وهتتدي بهِ ُداه ‪.‬‬ ‫وتستيضء‬ ‫بعد ُه ‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫تستدل بام قلنا ُه عىل ما َ‬ ‫َ‬
‫ولعلك‬ ‫ِ‬
‫الرباعة‪،‬‬ ‫من‬
‫ُ‬
‫(‪ )1‬هناية الفقرة ‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ ما رأي الباقالين يف ُأسلوب القصص يف غري القرآن الكريم ؟‬


‫إلعجاز؟‬ ‫‪ 2‬ـ ما الفرق بني الباقالين وسابقيه يف النظر إىل ا ِ‬
‫‪ 3‬ـ إىل أي حد نجح الباقالين يف تطبيق منهجه عىل اآليات التي أشار إليها من سورة الشعراء ؟‬

‫‪84‬‬
‫لإعجاز »‬
‫‪ 9‬ـ من كتاب « دالئل ا ِ‬
‫ِ‬
‫القاهر اجلرجاين «أ»‬ ‫ِ‬
‫لعبد‬

‫والرباعة‪ ،‬ويف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫والبيان‬ ‫ِ‬
‫والبالغة‪،‬‬ ‫الفصاح ِة‬ ‫العلامء يف معنى‬ ‫أنظر فيام قا َل ُه‬ ‫أزل ُ‬ ‫ومل ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫العلم‪ُ ،‬‬ ‫َ‬ ‫خدم ُت‬‫منذ ْ‬
‫ٍ‬
‫خفاء‪.‬‬ ‫إل ِ‬
‫شارة يف‬ ‫يامء وا ِ‬ ‫إل ِ‬ ‫مز وا ِ‬ ‫كالر ِ‬ ‫بعض َذ َ‬ ‫وتفسري ا ُمل ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لك َّ‬ ‫فأجد َ‬
‫ُ‬ ‫راد هبا‪،‬‬ ‫العبارات‪،‬‬ ‫بيان املغزى من هذه‬
‫الد ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الطريق إىل‬ ‫ُ‬ ‫فتح َ‬
‫لك‬ ‫رج‪ ،‬وكام ُي ُ‬ ‫فني‪ ،‬لي ُب َح َث عنه ف ُيخْ َ‬ ‫وموض ِع َّ‬ ‫اخلبيء‬ ‫مكان‬ ‫كالتنبيه عىل‬ ‫وبعض ُه‬ ‫ُ‬
‫أن هنا نظماً وترتي ًبا‪ ،‬وتأ ْلي ًفا‬ ‫ووجد ُت ا ُمل َع َّو َل عىل َّ‬ ‫ْ‬ ‫وتوض ُع لك القاعد ُة لت ْبني عليها‪.‬‬ ‫َ‬ ‫املطلوب لتس ُل َك ُه‪،‬‬‫ِ‬
‫جماز فيه ـ سبي ُلها‬ ‫وأن َ‬ ‫ونسجا وتحَ ْ بِ ًريا َّ‬ ‫وصياغ ًة‬‫وتركيبا‪ِ ،‬‬
‫هي ٌ‬ ‫سبيل هذه املعاين يف الكال ِم ـ الذي َ‬ ‫ً‬ ‫وتصويرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫والتأليف التأ ْل َ‬ ‫َ‬ ‫يفض ُل‬ ‫ِ‬
‫النسج‪،‬‬ ‫َ‬ ‫والنسج‬
‫ُ‬ ‫يف‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫النظم‪،‬‬
‫َ‬ ‫النظم‬
‫ُ‬ ‫هناك‬ ‫هي حقيق ٌة فيها ‪ ،‬وأن ُه كام ُ‬ ‫يف األشياء التي َ‬
‫درجات كثرية‪،‬‬ ‫واملجانس له‬ ‫نظري ُه‪.‬‬ ‫املز َّي ُة‪ ،‬حتى َ‬ ‫الفضل‪ ،‬وتك ُث ُر ِ‬ ‫ُ‬ ‫ثم َي ْع ُظ ُم‬ ‫والصيا َغ ُة الصيا َغ َة‪َّ ،‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫اليشء َ‬ ‫ُ‬ ‫يفوق‬
‫اليشء‪ ،‬ثم‬ ‫اليشء‬ ‫ويتقد ُم من ُه‬ ‫بعضا‪،‬‬ ‫بعض الكال ِم ً‬ ‫يفض ُل ُ‬ ‫الشديد‪ ،‬كذلك ُ‬ ‫التفاوت‬ ‫يم‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫تتفاو َت الق ُ‬ ‫وحتى َ‬
‫غاية‪،‬‬‫بعد ٍ‬ ‫ويستأنف له غاي ًة َ‬ ‫ٍ‬
‫مرقب‪،‬‬ ‫مرق ًبا (‪ )1‬بعد‬ ‫ٍ‬ ‫ذلك ‪ ،‬ويرت َّقى منزل ًة َ‬ ‫فض ِله َ‬ ‫يزداد من ِ‬
‫ُ‬ ‫فوق منزلة‪ ،‬ويعلو ْ‬
‫ِ‬
‫العجز ‪.‬‬ ‫األقدام يف‬ ‫القوى ‪ ،‬وتستوي‬ ‫وتسقط ِ‬
‫ُ‬ ‫الظنون ‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫سرِ‬ ‫حيث تنقطِ ُع‬ ‫ينتهى إىل ُ‬
‫ُ‬ ‫األطامع‪ ،‬وحت ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حتى‬
‫فة‪،‬‬ ‫بالنعت والص ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫اللفظ‬ ‫وسائر ما جيرى جمراها ممِ ّا ُي ْف َر ُد فيه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫العبارات‪،‬‬ ‫ومن املعلو ِم أنه ال معنى ِ‬
‫هلذه‬
‫ِّ‬
‫كانت دالل ًة‪،‬‬ ‫ومتامها فيام له ْ‬ ‫وصف الكال ِم بحس ِن الداللة ِ‬ ‫ِ‬ ‫غري‬ ‫الفضل واملز ّي ُة إِليه َ‬ ‫ُ‬
‫ُ ْ‬ ‫دون املعنى‪ُ ،‬‬ ‫ب فيه‬ ‫و ُينْ َس ُ‬
‫النفس‪ ،‬وتن َال ّ‬
‫احلظ‬ ‫ِ‬ ‫تستويل عىل هوى‬ ‫وأحق بأن‬ ‫وأعجب‪،‬‬ ‫وآنق‬
‫أهبى وأزي ُن‪ُ ،‬‬ ‫ثم ِ‬
‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ‬ ‫تربجها يف صورة هي َ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫وتطيل رغم (‪ )2‬احلاسد ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لسان احلامد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫القلوب‪ ،‬وأوىل بأن ُت ْط ِل َق‬ ‫ِ‬ ‫األوفر من ميل‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تار له‬
‫أصح لتأديته ‪ ،‬ويخُ ُ‬ ‫ُّ‬ ‫اجلهة التي هي‬ ‫وال جه َة الستعامل هذه اخلصال ُ‬
‫غري أن ُيؤ َتى املعنى من‬
‫ظهر فيه َمزي ًة‪ .‬وإِذا كان‬ ‫ِِ‬ ‫أخص ِبه‪ ،‬وأك َْش ُ‬ ‫ُ‬
‫وأتم له ‪ ،‬وأحرى بأن ُيكس َب ُه ُنبالً‪ ،‬و ُي ُ‬
‫ف عنه‪ُّ ،‬‬ ‫ُّ‬ ‫اللفظ الذي هو‬

‫عد من النحويني ‪ ،‬كام كان ُي َع ُّد من املتكلمني ‪ ،‬وله تآليف يف النحو ‪ ،‬وتستطيعني أن تلميس أثر ثقافته النحوية‬
‫«أ» كان عبد القاهر اجلرجاين ُي ُّ‬
‫يف هذا النص‪ .‬تويف سنة ‪471‬هـ ‪.‬‬
‫(‪ )1‬املكان املرتفع الذي يقف فوقه الرقيب ‪.‬‬
‫(‪ )2‬غيظ ‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫ُ‬
‫يكون‬ ‫ِ‬
‫الصورة التي هبا‬ ‫وقبل أن نصيرَ إىل‬ ‫ليف‪َ ،‬‬ ‫قبل دخوهلا يف الت ْأ ِ‬ ‫ِ‬
‫الكلمة َ‬ ‫هذا كذلك‪ ،‬فينبغي أن ُين َظ َر إىل‬
‫سبيل إِىل إفادهتِا‬ ‫اجلملة َم ْعنَى من املعاين التي ال َ‬ ‫ِ‬ ‫الك َِل ْم إخبار ًا وأمر ًا وهن ًيا ‪ ،‬واستخبار ًا وتعج ًبا‪ ،‬و ُتؤ ِّد َي يف‬
‫لفظة عىل ٍ‬
‫لفظة ‪.‬‬ ‫وبناء ٍ‬ ‫ِ‬ ‫كلمة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كلمة إىل‬ ‫إِال بِ َض ِّم‬
‫أدل عىل معناها الذي ُو ِض َع ْت له‬ ‫كون هذه َّ‬ ‫الداللة حتى َت َ‬ ‫ِ‬ ‫تفاضل يف‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫اللفظتني‬ ‫يكون بني‬ ‫َ‬ ‫تصو ُر ْ‬
‫أن‬ ‫هل ُي َّ‬
‫أدل عىل معناه من (فرس) عىل ما ُس ِّم َي ِبه ؟‬ ‫قال إِ َّن «رجلاً » َّ‬ ‫من صاح َبتِها عىل ماهي َم ْو ُسوم ٌة به‪ ،‬حتى ُي َ‬
‫وأبني كشف ًا عن صورتِ ِه‬ ‫يكون هذا أحس َن نب ًأ عن ُه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ليشء واحد ْ‬
‫أن‬ ‫ٍ‬ ‫تصور يف االسمني املوضوعني‬ ‫وحتى ُي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫بني لغتني‬ ‫األسد) ؟وحتى َأ ّنا لو أر ْدنا املوازن َة َ‬ ‫ِ‬ ‫الس ُب ِع املعلو ِم من (‬ ‫(الليث) مثلاً َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أدل عىل َّ‬ ‫فيكون‬ ‫من اآلخر‪،‬‬
‫وهل‬ ‫نظري ِه يف الفارسية ؟ ْ‬ ‫الذكر من ِ‬ ‫اآلدمي ّ‬ ‫ِّ‬ ‫أدل عىل‬ ‫نجعل لفظة ( رجل) َّ‬ ‫َ‬ ‫كالعربية والفارسية سا َغ لنا أن‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫التأليف‬ ‫أن ُينْ َظ َر إىل مكان تقعان فيه من‬ ‫غري ْ‬ ‫دتان من ِ‬ ‫تتفاضل الكلمتان ا ُملفر ِ‬ ‫َ‬ ‫يقع يف وه ٍم ـ وإن َج ِه َد ـ أن‬
‫َ‬
‫أخف‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫حروف هذه‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫تكون‬ ‫تكون هذه م ْألوف ًة ُمستعمل ًة‪ ،‬وتلك غريب ًة وحشي ًة‪ ،‬أو ْ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫بأكثر من أن‬ ‫والنظمِ‪َ ،‬‬
‫أبعد ؟‬
‫اللسان َ‬ ‫َ‬ ‫يكد‬
‫وامتزاجها أحس َن ‪ ،‬ومما ُّ‬ ‫ُ‬
‫وغرض ُه ْم ْ‬ ‫وم ْس َتك َْره ٌة‪ ،‬إِال‬ ‫ِ‬
‫أن ُيعبرِّ وا‬ ‫ُ‬ ‫وهل قالوا ‪ :‬لفظ ٌة متمكن ٌة مقبول ًة‪ ،‬ويف خالفة ‪ :‬قلق ٌة ونابي ٌة ُ‬
‫سوء التالؤم (‪ّ ،)1‬‬
‫وأن‬ ‫لق والنُّبو عن ِ‬ ‫جهة معناها‪ ،‬وبال َق ِ‬ ‫وتلك من ِ‬ ‫َ‬ ‫بني هذه‬ ‫ِ‬ ‫بالتمكُّن عن ُح ْس ِن‬
‫ُ ِّ‬ ‫االتفاق َ‬
‫للتالية يف ُم َؤا َّدها ؟‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫تكون لِ ْفق ًا‬ ‫َ‬ ‫صل ْ‬
‫أن‬ ‫وأن الساب َقة مل َت ْ‬ ‫بالثانية يف معناها‪َّ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫األُوىل مل ْ ِتل ْق‬
‫أن ال‬ ‫بذكر ِه‪ ،‬وإِ ِ‬
‫مجاع ِه ْم ْ‬ ‫والتنويه ِ‬ ‫ِ‬ ‫قد ِر ِه‪،‬‬ ‫العلامء عىل تعظي ِم ش ْأ ِن الن ْظ ِم ‪ ،‬وتفخي ِم ْ‬ ‫ِ‬ ‫عل ْم َت إِ َ‬
‫طباق‬ ‫وقد ِ‬
‫غرابة معناه ما بلغَ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يستق ْم له‪ ،‬ولو بلغَ يف‬ ‫قدر لكال ِم إِذا هو مل ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َ‬
‫فضل مع َع َدمه‪ ،‬وال ْ َ‬
‫وتعمل عيل قوانينِه و ُأصولِ ِه‪،‬‬ ‫َ‬ ‫علم النَّ ْح ِو ‪،‬‬ ‫الوضع الذي يقتضيه ُ‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫النظم إِال أن َت َض َع َ‬
‫كالم َك‬ ‫ُ‬ ‫ليس‬‫أن َ‬ ‫واعلم ّ‬
‫ْ‬
‫ٍ‬
‫ختل بيشء منها ‪.‬‬ ‫الرسوم التي ُر ِس َمت لك ‪ ،‬فال َّ‬ ‫مناهجه التي نهُ ِ َج ْت (‪ ، )2‬فال َتزيغَ عنها‪ ،‬وحت َف َظ‬ ‫ف ِ‬ ‫ِ‬
‫وتعر َ‬
‫َ‬
‫وفروق ِه ‪:‬‬
‫ِ‬ ‫كل باب‬ ‫وجوه ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ينظر يف‬ ‫أن َ‬ ‫غري ْ‬ ‫ِِ‬
‫الناظم بنظمه َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫يبتغيه‬ ‫نعلم شيئ ًا‬ ‫وذلك أنا ال ُ‬
‫زيد‪،‬‬ ‫ومنطل ٌق ٌ‬‫ِ‬ ‫زيد‪،‬‬‫وينطلق ٌ‬ ‫ُ‬ ‫وزيد ينطلق‪،‬‬ ‫نطلق‪ٌ ،‬‬ ‫زيد ُم ٌ‬ ‫الوجوه التي تراها يف قولك ‪ٌ :‬‬ ‫ِ‬ ‫اخلرب إىل‬ ‫فينْ ُظ َر يف ِ‬
‫منطلق ‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وزيد هو‬
‫املنطلق‪ٌ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وزيد هو‬
‫املنطلق ‪ٌ ،‬‬
‫ُ‬ ‫وزيد‬
‫ٌ‬

‫(‪ )1‬الحظي أن معنى التالؤم هنا خيتلف عن معناه عند الرماين ( النص اخلامس ) ‪.‬‬
‫(‪ )2‬مناهجه التي هنجت ‪ :‬طرقه التي رسمت ‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫خرج ُت‪ ،‬وإِ ْن‬ ‫أخرج ‪ .‬وإِن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫خرج َت‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ويف الرشط واجلزاء إىل الوجوه التي تراها يف قول َك ‪ :‬إِن تخَ ْ‬
‫رج‬
‫خارج ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫خرج َت‬‫خرج َت ‪ ،‬وأنا إِن ْ‬ ‫خارج إن ْ‬ ‫ٌ‬ ‫خارج ‪ ،‬وأنا‬ ‫ٌ‬ ‫ختر ْج فأنا‬ ‫ُ‬
‫وجاءين وهو ِ‬
‫مرس ٌع‪،‬‬ ‫َ‬ ‫وجاءين ُيسرِ ُع ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫جاءين زيد مرسع ًا‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ويف احلال إىل الوجوه التي تراها يف قول َك ‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫لكل من ذلك ِ‬ ‫أو هو ُي ِ‬
‫حيث ينبغي له ؛‬ ‫وجييء به ُ‬ ‫ُ‬ ‫موض ُع ُه‬ ‫أرسع‪ْ ّ ،‬‬ ‫َ‬ ‫وقد‬
‫وجاءين ْ‬ ‫َ‬ ‫أرس َع‪،‬‬ ‫وجاءين قد َ‬ ‫َ‬ ‫رس ُع‪،‬‬
‫ال‬
‫فيضع ك ً‬ ‫ُ‬ ‫ذلك املعنى‪،‬‬ ‫واحد منهام بخصوص َّي ٍة يف َ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬‫تشرتك يف معنى‪ ،‬ثم ينفر ُد ُّ‬ ‫ُ‬ ‫احلروف التي‬ ‫ِ‬ ‫وين ُظ ُر يف‬
‫االستقبال ‪ ،‬و(بإن) فيام‬‫ِ‬ ‫نفي‬ ‫ِ‬ ‫جييء (بام) يف ِ‬ ‫خاص معناه‪ ،‬نحو ْ‬ ‫من َ‬
‫نفي احلال‪ ،‬و(بال) إذا أرا َد َ‬ ‫َ‬ ‫أن‬ ‫ِّ‬ ‫ذلك يف‬
‫يكون وأن ال يكون ‪ ،‬و(بإذا) فيام َع ِل َم أنه كائن ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫بني ْ‬
‫أن‬ ‫يرتج ُح(‪َ )1‬‬ ‫َّ‬
‫يعـرف فيام‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الوصـل) ‪ ،‬ثم‬ ‫موض ِع (‬ ‫فيعرف موضع ( الفص ِل) فيــها مـن ِ‬ ‫ُ‬ ‫وينظر يف اجلمل التي َت ِر ُد‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫)وموضع‬ ‫الفاء) مـن موضـ ِع ( ث َُّم‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح ُّقــه (‬
‫َ‬ ‫وموضع ( َ‬ ‫َ‬ ‫موضع (الواو) من موض ِع ( الفاء) ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الوصل)‬
‫وموضع (لك ْن) من موضع (بل) ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫(أو)‪ ،‬وموضع (أم) ‪،‬‬ ‫ْ‬
‫امر‬‫واإلض ِ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫والتكرار‪،‬‬ ‫ِ‬
‫احلذف‬ ‫خري‪ ،‬يف الكالم ك ِّله‪ ،‬ويف‬ ‫والتنكري‪ ،‬والتقدي ِم وال َّت ْأ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التعريف‬ ‫رصف يف‬ ‫ُ‬ ‫وي َت‬
‫الصحة وعىل ما ينبغي له ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫لك مكا َن ُه‪ ،‬ويستعم ُله عىل‬ ‫ال من َذ َ‬ ‫فيضع ك ً‬ ‫إل ِ‬
‫ظهار‪،‬‬ ‫وا ِ‬
‫ُ‬
‫كان صوا ًبا‪ ،‬وخطؤ ُه إِ ْن كان خطأ إىل النظ ِم ـ‬ ‫يرجع صوا ُبه إِن َ‬ ‫ٍ‬
‫بواجد شي ًئا‬ ‫فلس ُت‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫السبيل‪ْ ،‬‬ ‫هذا هو‬
‫وم َل‬‫موضعه‪ ،‬وو ِضع يف ح ِّق ِه‪ ،‬أو ُع ِ‬ ‫النحو قد أصيب به ِ‬ ‫ِ‬ ‫حتت هذا االس ِم ـ إِلاّ وهو معنى من معاين‬ ‫ويدخ ُل َ‬ ‫ُ‬
‫ُُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫مل يف غري ما ينبغي له ‪.‬‬ ‫موضع ِه‪ ،‬واس ُت ْع َ‬
‫ِ‬ ‫فأزيل عن‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫املعاملة‪،‬‬ ‫بخالف هذه‬ ‫ِ‬

‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ بِم شبه عبد القاهر نظم الكالم ؟‬


‫‪ 2‬ـ ِير ُد يف كالم بعض املتقدمني إِطالق وصف ( البالغة) عىل األلفاظ‪ ،‬فام رأي عبد القاهر يف ذلك؟‬
‫‪ 3‬ـ هل فرق عبد القاهر بني «البالغة » و«الفصاحة» ؟‬
‫‪ 4‬ـ استخرجي من النص السابق تعريف «النظم» عند عبد القاهر ‪.‬‬

‫(‪ )1‬يرتدد ‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫ديوان عبا�س حممود العقاد (�أ)‬
‫ِ‬ ‫ُ‬
‫مقدمة اجلزء الثاين من‬ ‫‪ 10‬ـ‬

‫صاحب الديوان‬
‫ُ‬ ‫كتبها‬
‫الشاعر‬
‫ُ‬ ‫أدوار الشعر األربعة ‪« :‬‬ ‫ِ‬ ‫قال الكاتب اإلنجليزي( توماس لف بيكوك) (ب) يف رسالتِه عن‬
‫ِ‬
‫بخواطره‬ ‫ويرجع‬ ‫الزمن اخلايل (‪،)1‬‬ ‫ِ‬ ‫يقيم يف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫نصف مهجي َي ُ‬
‫ُ‬ ‫عرص املدنية‪ ،‬ألن ُه ُ‬ ‫عيش يف‬ ‫ُ‬ ‫يف عرصنا هذا هو‬
‫ويسري‬ ‫املهجورة واألساطري األُوىل ‪،‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والعادات‬ ‫ِ‬
‫اهلمجية‬ ‫ِ‬
‫األطوار‬ ‫وخواجله (‪ )2‬وسوانِ ِ‬
‫حه إىل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وبأفكاره‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫بذهن كالرسطان زحف ًا إىل الوراء ‪» ...‬‬ ‫ٍ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫عرص النُّضج ْ‬ ‫االجتامعية‪ ،‬ولك ْن م َن ا ُمل ْض ِح ِك يف‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهليئة‬ ‫ٍ‬
‫طفولة‬ ‫الشعر نقر ًة تن ِّب ُه الذه َن يف‬‫ُ‬ ‫« لقد َ‬
‫كان‬
‫مو ِضع ًا من شواغلنا ‪ ،‬فإن هذا يشبه سخف الرجل الذي يشتغل‬ ‫ونفسح هلا ْ‬
‫َ‬ ‫بأالعيب طفو َلتِنا‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ُنعنَى‬
‫بأالعيب الصبيان‪ ،‬ويبكي لينام عىل ر ّنة األجراس الفضية » ‪.‬‬
‫هذا هو األساس الذي أقام عليه الكاتب ر َأي ُه يف رسالته‪ ،‬وليس هو بالرأي احلديث‪ ،‬ولكنه ر َأي قديم‪،‬‬
‫أورده أفالطون يف مجهوريته‪َ ،‬وهلج به (‪)3‬بعض الكتاب يف إبان النهضة الفرنسية‪ ،‬مع أهنا كانت يف مراميها‬
‫السياسية واالجتامعية أشبه برواية شعرية مت َّثل عىل مرسح الفن منها باحلقيقة‪ .‬العملية التي جتري يف عامل‬
‫احلياة ‪.‬‬
‫وقد أحسن فكتور هوجو(٭) يف تفنيده هذا الرأي (‪ )4‬يف كتابه « وليم شكسبري» فقال ‪ « :‬ينادي كثري‬
‫وفقهاء القانون ـ بأن الشعر قد أدبر زمانه‪ ،‬فام أغرب هذا‬
‫ُ‬ ‫من الناس يف أيامنا هذه ـ وال سيام املضاربون‬
‫بعد‪َّ ،‬‬
‫وإن الربيع قد أصعد آخر‬ ‫إن الورد لن ينبت ُ‬ ‫ِ‬
‫هؤالء القوم يقولون ‪َّ :‬‬ ‫القول ! الشعر أدبر زمانه ! لكأن‬
‫(أ) العقاد من أعالم األدب العريب املعارص غلب عليه النثر أكثر من الشعر ‪ ،‬تويف سنة ‪1384‬هـ ‪.‬‬
‫(ب) كان توماس لف بيكوك ( ‪ 1785‬ـ ‪1866‬م ) شاعر ًا وروائياً‪ ،‬وكان صديقًا للشاعر الرومنيس الكبري بريس بيش شيل (‪ 1792‬ـ‬
‫‪1822‬م) ‪ ،‬والظاهر أن إخفاق بيكوك يف معظم جتاربة الشعرية كان سبب ًا يف هجومه عىل الشعر يف رسالته التي يشري إليها العقاد‪ ،‬وقد رد‬
‫عليها شيل برسالة أخرى مشهورة يف األدب اإلنجليزي وعنواهنا ( دفاع عن الشعر ) ‪.‬‬
‫(‪ )3‬أرسف يف ترديده ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬مشاعره‪.‬‬ ‫(‪ )1‬املايض‪.‬‬
‫(٭) أكرب ممثيل املذهب الرومنيس يف األدب الفرنيس ‪ ،‬ولد سنة ‪ 1802‬وتويف سنة ‪1885‬م‪.‬‬
‫(‪ )4‬إثبات خطأ هذا الرأي ‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وإن الشمس كفت عن الرشوق ‪ ،‬وإنك جتول يف مروج األرض فال تصادف عندها فراشة طائرة‪،‬‬ ‫أنفاسه‪َّ ،‬‬
‫وإن‬ ‫ِ‬
‫الفضاء‪َّ ،‬‬ ‫حيوم يف‬ ‫وإن القمر ال ُينْ َظر له‬
‫َّ‬
‫ضياء بعد اليوم‪ ،‬والبلبل ال يغرد ‪ ،‬واألسد ال يزجمر‪ ،‬والنرس ال ّ‬
‫ٌ‬
‫قالل (‪ )1‬األلب والربانس‪ .‬قد اندكت ‪ ،‬وخال وجه األرض من الكواعب (‪ )2‬الفواتن واأليفاع ِ‬
‫احلسان ‪...‬‬ ‫ُ‬
‫لكأهنم يقولون ‪ :‬إنه ال أحد اليوم يبكي عىل ٍ‬
‫قرب‪ ،‬وال أم حتب وليدها‪ ،‬وإن أنوار السامء قد مخدت ‪ ،‬وقلب‬
‫اإلنِسان قد مات » ‪.‬‬
‫واحلق أنه ال فرق بني القولني ‪ :‬إذ الشعر ال ي ْفنى إال إذا َفنِيت بواعثه‪ ،‬وما بواعثه إِال حماسن الطبيعة‬
‫ِ‬
‫بانقضاء اإلنسان‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بانقضاء هذه البواعث فكأنام حكمنا‬ ‫وخماوفها‪ ،‬وخوالج (‪ )3‬النفس وأمانيها فإذا حكمنا‬
‫وليس من العجب أن يوجد يف الدنيا أناس ال هيتزون للشعر ‪ ،‬وهي مكتظة بمن ال هيتزون للحياة نفسها‪،‬‬
‫غاصة بمن يمرون هبا غافلني عن حماسنها وآياهتا‪ ،‬كأهنم سيمرون هبا ألف مرة‪ ،‬أو كأهنم يعودون إليها‬
‫شاؤوا الكرة (‪.)4‬‬
‫كلام ُ‬
‫إِنني ال أرى يف رضوب اخلطأ ر َأيا أخطأ من زعم الزاعمني أن الشعر ِ‬
‫حين إىل املايض ويحُ ْ ِجم (‪ )5‬عن‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫املستقبل‪ ،‬هذا زعم جترد أصحابه من أرحيية (‪ )6‬الشعر ومن أصالة الفكر‪ ،‬فال ُهم يف الشعراء وال هم عن‬
‫الفالسفة احلكامء‪ ،‬ولو كان الشعر عاك ًفا عىل املايض ـ كام يزعمون ـ لكان خلي ًقا أال تظهر هنضاته إِال‬
‫يف أعقاب الدول وأنقاض احلضارة‪ ،‬وهذا خالف ما نشاهده بني أيدينا من حقائق التاريخ وحوادث‬
‫األمم‪.‬‬
‫ويومههم أن الشعر خاصة من خواص اهلمجية ‪ :‬أهنم ال‬ ‫ُ‬ ‫وإِنام َي ْلبِس (‪ )7‬الصواب عىل بيكوك وأمثاله‬
‫يم اجلهل‪ ،‬ألن‬‫يم ّيزون بني اقرتان السبب باملسبب ‪ ،‬واقرتان األمرين يف موضع واحد‪ ،‬فالشعر عندهم َل ِز ُ‬
‫جهالء وكانت أشعارهم من أبلغ الشعر وأقواه‪ .‬ولو قال قائل ‪ :‬إن العرب ُس ْمر الوجوه‬ ‫َ‬ ‫اهلمج كانوا‬
‫ألهنم يتكلمون العربية‪ ،‬أو إهنم يتكلمون العربية ألهنم ُس ْمر الوجوه‪ ،‬ملا كان قوله أغرب يف العقل وأبعد‬
‫ِ‬
‫هؤالء الكتاب‪ ،‬إذ احلقيقة أن اهلمج مل ينظموا أبلغ األشعار ألهنم جهالء‪ ،‬وال كانوا‬ ‫عن الصدق من قول‬
‫(‪ )3‬مشاعر ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬الفتيات ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬جبال‪.‬‬
‫(‪ )6‬سامحة‪ ،‬انطالق ‪.‬‬ ‫(‪ )5‬يرجع ‪.‬‬ ‫(‪ )4‬العودة‪.‬‬
‫(‪ )7‬خيفى ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫جهالء ألهنم نظموا أبلغ األشعار‪ ،‬ولكنهم طائفة من اخللق هلا نفوس ومدارك قد هبرهتا طلعة الطبيعة‪،‬‬
‫إلحساس ‪ ،‬وجاشت (‪ )1‬غوارهبا (‪ )2‬باخلياالت‪ ،‬فاندفقت من‬ ‫وأدهشتها بدائع الكون‪ ،‬فامجت جوانبها با ِ‬
‫الصدور إىل األلسنة‪ ،‬وأفصحت عنها كل ما يفصح اجلاهل عام يتلجلج يف صدوره‪ ،‬أحست نفوسهم‬
‫فتحركوا للتعبري عنها ‪ ،‬فكانوا جهالء يف تعبريهم‪ ،‬ومل يكن تعبريهم عن أنفسهم ألهنم جهالء ‪.‬‬
‫حواسنا‪ ،‬ودرجنا من اهلمج ّية إىل املدن ّية‪ ،‬ولكن الكون مل يصغر‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ولقد انجابت ِعصابة (‪ )3‬اجلهل عن‬
‫إلعجابنا ودهشتنا‬‫والدنيا مل تنقص‪ ،‬ونواميس الطبيعة مل تضعف‪ ،‬ومل يصبح هذا الكون اليوم أقل استحقاقا ِ‬
‫مما كان يف أعني اهلمج اجلاهلني ‪ .‬فهل من فضل املدينة عىل أبنائها أال يشعروا ببهجة األزهار‪ ،‬وروعة‬
‫البحار‪ ،‬أو هباء النجوم‪ ،‬ووحشة الغيوم‪ ،‬وأال تتفتح نفوسهم لنرضة الوجوه املرشقة‪ ،‬وال تطرب آذاهنم‬
‫خلرير اجلداول املرتقرقة‪ ،‬وعجيج األواذي (‪ )4‬املتدفة‪ ،‬وأال يأسفوا وال حيزنوا وال حي ّبوا وال يبغضوا‪ ،‬وال‬
‫تنزها عن اهلمجية ‪ ،‬وصونا لكرامة املدينة ؟ أم من فضلها عليهم أن يشعروا هبذه‬ ‫يتمنَّوا وال يتذكَّروا ‪ُّ ،‬‬
‫األشياء ثم يسكتوا عن شعورهم هبا‪ ،‬متباهني هبذا البكَم املدنيِ عىل ذلك املنطلق اهلمجي ؟ أم ينطقون هبا‬
‫مهس ًا‪ ،‬لئال يعرتضوا مطارق املعامل ومقارع اآلالت‪ ،‬ولئال حيجبوا صفري القاطرات وأزيز املركبات التي‬
‫ال ينبغي للمدين أن يطرب لغريها‪ ،‬أو يتصنَّت لصوت غري صوهتا ؟‬
‫يقول بيكوك « نحن نعلم اليوم أن ال جنيات يف حديقة (هايد بارك)‪ ،‬وال عرائس يف ِ‬
‫فناء ( الرجينت)‪،‬‬
‫هو قول حق لوال أن الرجل قد نيس أن األقدمني مل يعجبوا باآلجام (‪ )5‬والغ ُْدران ألهنم خت ّيلوا فيها اجلن ّيات‬
‫والعرائس‪ ،‬بل هم ختيلوا فيها اجلنيات والعرائس ألهنم ُأعجبوا هبا و ُفتنوا بسحرها‪ ،‬ونحن اليوم ترسنا‬
‫حدائقنا كام ترس األقدمني لو ر ْأوها‪ ،‬فهل يكون من العبث نظم قصيدة يف وصف رسورنا هبا‪ ،‬وال يكون‬
‫من العبث غرسها وتعهدها للتمتع هبذا الرسور ؟‬
‫إلنسانية‪ ،‬وما كانت املنافع املا ّدية ـ والتي يعبدها كارهو الشعر ـ ولن تكون‪،‬‬ ‫إن املدنية ال تقتل النفس ا ِ‬
‫إلنسانية لكان العامل قد‬ ‫إلنسان القصوى يف احلياة‪ .‬ولو أن مطالب اجلسم كانت هي وجهة احلياة ا ِ‬ ‫غاية ا ِ‬
‫حده منذ آالف السنني‪ ،‬ولكانت األجيال املقبلة أجيالاً فضول ّية ال تزيد العامل وال العامل يزيدها‪ ،‬ألن‬
‫بلغ َّ‬

‫(‪ )3‬ما يوضع عىل العني ليمنع الرؤية ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬أعاليها ‪.‬‬ ‫(‪ )1‬اضطربت‪.‬‬
‫(‪ )5‬الغابات ‪.‬‬ ‫(‪ )4‬األمواج العالية ‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫وبرص بوسائلها‪ ،‬فامذا بقى عليه منها ؟ ‪ .‬وفيم تتعاقب األجيال لتكرير‬ ‫ُ‬ ‫إلنسان عرف حاجات جسمه‬ ‫ا ِ‬
‫حالة واحدة ال تفاوت فيها ؟ لو كانت وجه ُته ما يسمونه باملنافع املادية لكان حسبه ما بلغه منها وكفى‪،‬‬
‫ولكن اإلنسان مسوق إىل وجهة بعيدة بميول نفسه وحوافزها‪ ،‬وإنام منافعه املادية زا ُده إىل هذه الوجهة ‪،‬‬
‫البلداء لغوا وهي جوهر احلياة ومتاع‬
‫ُ‬ ‫وكل هاتيك املنافع تنتهي إىل معنى من املعاين الشعرية التي يعدها‬
‫النفوس ‪.‬‬
‫شاعرا يف كالمه‪ ،‬وهو مفتاح نفسه‪،‬‬ ‫ً‬ ‫اإلنسان شاعر يف مبانيه و ُعروض لباسه ومطاياه (‪ )1‬فلم ال يكون‬
‫و َأرشف مزاياه ؟ ومل ال يكون شاعرا يف الكالم املوزون وهو أمجل كالمه وأشجاه ؟ ويرفع الرصوح(‪)2‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫باذخات(‪ )3‬تطاول اجلبال الشامء‪ ،‬وخترتق طباق اهلواء‪ ،‬فهل كانت تضيق بجسمه الصغري لو خ ّفض من‬
‫أل اخلزائن بذهبه وفضته ‪ ،‬فهل تراه هيلك جو ًعا لواجتزأ من هذه‬ ‫حجراهتا ‪ ،‬وو َّط َأ من َأسوارها ؟ ويم ُ‬
‫اخلزائن بعرش معشارها ؟ ويقتني احللل ا ُمل َس َّومة (‪َ )4‬ألوا ًنا و َأزياء‪ ،‬فهل هو يتقي هبا ال ُق ّر (‪ )5‬واهلجري (‪ )6‬؟‬
‫ويتخذ له املركبات اخلاصة‪ ،‬فهل هي أرسع يف املسرية أو أقل عليه كلفة من مراكب اجلامهري ؟ كال ! ولكنه‬
‫حيسه قلبه ال‬‫يبتغي هبا أثر ًا يف النفوس ال خيتلف يف صميمه عن األثر الذي يبتغيه الشاعر بقصائده‪َ ،‬أثرا ُّ‬
‫أعضاؤه‪ ،‬أثر ًا مداره عواطف النفس ورغباهتا‪ ،‬ال أحجام املادة وكمياهتا‪ ،‬وهذه هي امليول واحلوافز التي‬
‫الشعراء الكبار يف األُمة‬
‫َ‬ ‫تدير دوالب املنافع املادية‪ ،‬وال ضري منها عىل الرش ألهنا عنرصه و َينبوعه ‪ ،‬وألن‬
‫ال ينميها ويرقيها ‪ ،‬وأهنا جتعل‬ ‫وراء منافعها املادية عام ً‬
‫عالمة عىل تيقظ هذه امليول واحلوافز فيها ‪ ،‬وأن َ‬
‫املنافع أداة ملطامعها وأمانيها‪ .‬ولكن عالم تدل املنافع وحدها ؟ تدل عىل أهنا الغاية من حياة األمة ‪ ،‬وال‬
‫مراء (‪ )7‬يف مصري أمة َأدركت من حياهتا الش ْأو(‪ )8‬األخري ‪.‬‬ ‫َ‬
‫الد ْوحة (‪ )9‬الباسقة‪ ،‬فت َّط ِل ُع منها عىل حياة نامية يف جذوعها و َأطرافها‪،‬‬ ‫كذلك ترى الزهرة عىل غصون َّ‬
‫وجرثومة كفيلة بتجديد أزهارها وثامرها‪ ،‬فإِذا أخطأت الزهر فيها فقد ال يتقلص شرب من ظالهلا‪ ،‬أو‬
‫بعد بالدوحة املنتجة‪ ،‬وإنام هي ح َطب منصوب تتو َّقعه النار‪،‬‬ ‫يسقط فرع من غصوهنا‪ ،‬ولكنها ليست ُ‬
‫وترت َّبص به الفأس واملنشار ‪.‬‬

‫(‪ )4‬املعلمة ‪.‬‬ ‫(‪ )3‬شديدة االرتفاع ‪.‬‬ ‫(‪ )2‬ما يركبه‪.‬‬ ‫(‪ )1‬القصور‬
‫(‪ )9‬الشجرة العالية ‪.‬‬ ‫(‪ )8‬الشوط ‪.‬‬ ‫(‪ )7‬المراء ‪:‬ال جدال ‪.‬‬ ‫(‪ )6‬شدة احلر ‪.‬‬ ‫(‪ )5‬شدة الربد ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫�أ�ســــــــــئلة‬

‫‪ 1‬ـ ُي َع ّد العقاد عىل رأس أصحاب االجتاه الرومنيس يف النقد العريب احلديث ‪ ،‬استخرجي من النص ما‬
‫يؤيد ذلك ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ يزعم بعض الناس َأن الشعر ال جيود إال يف عصور اهلمجية‪ .‬كيف فنَّد العقاد هذا االدعاء ؟‬
‫‪ 3‬ـ ما موقف العقاد من املدنية احلديثة كام يظهر من هذا النص ؟ هل يعارضها ؟ هل حي ِّبذها ؟ وضحي‬
‫رأيك بالتفصيل ‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫فهـــر�س‬
‫الصفحة‬ ‫املوضوع‬
‫االقتباس ‪7 ............................................................................................................................‬‬
‫حسن التعليل ‪13 ......................................................................................................................‬‬
‫األسلوب احلكيم ‪17 ................................................................................................................‬‬
‫تأكيد املدح بام يشبه الذم ‪20 .....................................................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ العالقة بني النقد والبالغة ‪26 .......................................................................................... .‬‬
‫‪ 2‬ـ بذور النقد واملالحظات البالغية ‪34 ..................................................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ نشأة علوم البالغة ‪45 .......................................................................................................‬‬
‫‪ 4‬ـ تطور النقد وارتباطه باملباحث البالغية ‪53 .......................................................................‬‬
‫من املكتبة النقدية والبالغية ‪63 ...............................................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ من صحيفة برش بن املعتمر ‪64 .........................................................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ من كتاب البيان والتبيني ‪67 ............................................................................................. .‬‬
‫‪ 3‬ـ من كتاب « تأويل مشكل القرآن » ‪69 ..............................................................................‬‬
‫‪ 4‬ـ من كتاب « البديع » ‪72 .....................................................................................................‬‬
‫َت يف إعجاز القرآن » ‪74 ..........................................................................‬‬ ‫‪ 5‬ـ من كتاب « النك ِ‬
‫‪ 6‬ـ من كتاب « بيان إعجاز القرآن » ‪76 ...................................................................................‬‬
‫‪ 7‬ـ من كتاب « املوازنة بني الطائيني » ‪78 .................................................................................‬‬
‫‪ 8‬ـ من كتاب «إعجاز القرآن » ‪82 ...........................................................................................‬‬
‫‪ 9‬ـ من كتاب « دالئل اإلعجاز » ‪85 .......................................................................................‬‬
‫اجلزء الثاين من ديوان عباس حممود العقاد ‪88 ................................................... .‬‬ ‫ِ‬ ‫‪ 10‬ـ مقدمة‬

You might also like