Professional Documents
Culture Documents
بلاغة أدبى 2
بلاغة أدبى 2
البالغة والنقد
لل�صف الثاين الثانوي
الف�صل الدرا�سي الثاين
موقع الوزارة
www.moe.gov.sa
حقوق الطبع والنرش حمفوظة
موقع الإدارة العامة للمناهج
www.moe.gov.sa/curriculum/index.htm
لوزارة الرتبية والتعليم
الربيد الإلكرتوين للإدارة العامة للمناهج
باململكة العربية السعودية
curriculum@moe.gov.sa
مـقــدمة
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم عىل سيد املرسلني ،حممد بن عبد اهلل،
املبعوث رمحة للعاملني .
وبعد ،فهذا هو كتابنا الثاين يف النقد والبالغة ،نضعه بني َأيدي املدرسات
والطالبات ،بعد َأن وضح للطالبة مفهوم البالغة ،وحصلت عد ًدا من أهم مسائلها
يف كتابنا األول .وهبذا الكتاب الثاين يتم منهاج البالغة وتبد ُأ الطالبة يف التعرف
إىل النقد .وقد حرصنا عىل أن نوضح هلا العالقة بينهام وعرفناها بأهم معامل تاريخ
البالغة والنقد يف ثقافتنا العربية ،واخرتنا هلا عد ًدا من النصوص التي متثل نش َأهتام
وتطورمها .وذيلنا كل نص بأسئلة تساعد الطالبة عىل استيعابه وإدراك دالالته .
وراعينا يف هذا الكتاب ـ كام راعينا يف سابقه ـ أن نتخري أجود ما يف تراثنا احلافل
بالدراسات البالغية والنقدية ،وأن نعرض هذا الذي اخرتناه يف معرض حيبب إىل
الطالبة هذا الفرع من فروع اللغة العربية ويشجعها عىل االستزادة منه .فالبالغة
والنقد يصقالن ملكة األَدب ،وهييئان الناشئة لتذوق الشعر الرائع والنثر املحكم،
ويمهدان هلا سبيل القول والكتابة إِن َأرادت َأن تتكلم فتصيب ،و َأن تكتب فتبلغ
بقلمها حاجة نفسها .
بأخ ِيه ،إنه سميع جميب الدعاء .
واهلل نس َأل أن ينفع هبذا الكتاب كام نفع ِ
امل�ؤلفون
رابـعــ ًا :
فـي علـم البديع
مقــدمــــة
عرفت في العام الماضي َأن من َأقسام البالغة «علم البديع» ،وموضوعه معرفة ِ
الطرق التي يستخدمها الشاعر َأو الناثر للتنسيق بين َأ ِ
جزاء البيتَ ،أو الجملةَ ،أو الفقرة،
ِ
وعرفت َأن سواء َأكان هذا التنسيق راج ًعا إلى َأصوات الحروف أم إِلى معاني األَلفاظ،
هذا التنسيق يعتمد على مبد َأين :مبدأ التشابه ،أو التماثل (كما في السجع والجناس)،
ومبد َأ التباين ،أو التضاد ( كما في الطباق والمقابلة ) .
ومن الجمع بين هذين المبدأين (التماثل من ناحية ،والتباين من ناحية ُأخرى)
تنش ُأ َأساليب بالغية طريفة ،تبعث في نفس القارئ أو السامع َألوان ًا من الدهشة السارة؛
ألنها تفاجئه بما لم يكن يتوقعه ،إِذ يجد التباين حيث كان يتوقع التماثل ،أو العكس.
ِ
عرفته في العام الماضي ،ففي التوريـة فمن النوع األَول ُأسلوب التوريـة الذي
يفاج ُأ القارئ َأو المستمع ب َأن للكلمة معنى خفي ًا غير المعنى القريب الذي يتبادر
أيضا َأسـاليب ثالثة سـتعرفينها هذا العـام وهي
من سياق الكالم .ومن هذا النوع ً
«االقتباس» و«حسـن التعليـل» و«األُسلوب الحكيم» .
ومن النوع الثانيَ ،أي وجود التماثل حيث يتوقع التباين ُ :أسلوب رابع سوف
نحدثك عنه بعد األساليب الثالثة السابقة ،ويسميه البالغيون « ت ْأكيد المدح بما يشبه
الذم» أو«االستثناء» .
االقتبــــــا�س
منـــــاذج :
ىَّ
املتوف سنة 596هـ) أشهر الكتاب املتأخرين ،عرف بإكثاره من السجع واالقتباس ،وزير لصالح الدين ( أ ) عبد الرحيم بن عيل البيساين (
األيويب .وله ديوان شعر .
(ب) شاعر عبايس ،اتصل بالربامكة ومدحهم ،تويف سنة 198هـ ،أي أنه كان معارص ًا أليب نواس ولكنه مل يشتهر كشهرة أيب نواس .
( )١احلرف من حروف اهلجاء معروف ،وتكون «احلروف» أيضا بمعنى الناقة الصلبة الضامرة .
( )٤الرحلة. كذب .
(َ )٣ ( )٢الثياب البالية .
نظـرة حتـلـيـلـية :
1ـ تالحظني يف النامذج السـابقة َأن النامذج الثالثة األُوىل شـعرية ،والنموذجـني األَخريين نثريان،
ولكن النامذج اخلمسـة متفقة يف َأهنا تتضمن كلامت من القرآن الكريم أو احلديث الشـريف ،فالبـيت
الثاين من النمـوذج األول يتضـمن ـ مع تغـيري يسـري دعت إليه ضـرورة الوزن ـ اآلية الكريمـة:
﴾ ( )1والنموذج الثاين يتضمن كلامت من اآلية الكريمة : ﴿
﴾ (. )2 ﴿
مروي عن ابن عباس ريض اهلل عنهامَ ،أن
ٍّ والبيت األَول من النموذج الثالث م ُأخوذ من حديث
النبي صىل اهلل عليه وسلم قال « :إن الرحم ُت ْق َطع ،وإِن النِّ َع َم ُت ْك َفر ولن ترى مثل تقارب القلوب » أما
النموذج الرابع فقد تضمن كلامت من قوله تعاىل يف ذكر اليهود :
﴾ (. )3 ﴿
الدمن» واملراد بخرضاء وخرضاء ِّ
َ وتضمن النموذج اخلامس كلمتني من احلديث الرشيف « :إِياكم
ِ
سوء املخرب مع احلسناء يف املنبت السوءَ .أما يف كالم احلريري فاملراد هبا ُ
ُ الدمن يف احلديث الرشيف :املر َأة
حسن املنظر مطل ًقا.
2ـ والقرآن الكريم هو كالم اهلل املعجز الذي ال ي ْأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه ،وال يسمو إليه
يشء من كالم البرش ،وحديث الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ هو النمط األَعىل من وال إىل قريب منه ٌ
واهلذ ِر ،و ُأويت
َ الكالم بعد القرآن ،فقد كان الرسول صلوات اهلل عليه َأفصح العرب ،وقد ُن ِّزه عن اخلَ َط ِل
املطهرة بالدرس،
َّ جوامع الكلم ،وما زال املسلمون منذ نزل الوحي يتعاهدون القرآن الكريم والسنة
وجياهدون ليتمثلوا هبام يف القول والعمل ،فإذا ورد يشء منهام ُم َض َّمنًا يف شعر َأو نثر كان اجلوهر الكريم
رصع به حلية من ذهب أو فضة ،فهو منا وليس منها ،وهو يضفي عليها شي ًئا من روعته ،ولكنه يظل ُت َّ
متم ِّي ًزا عنها ،مباينًا هلا يف احلسن .
( )1اآلية 39من سورة يس .
( )2اآلية 80من سورة النمل .
( )3اآلية 64من سورة املائدة .
صدر الشاعر أو الناثر كالم القرآن َأو احلديث بام يشري إىل 3ـ ورشط االقتباس َأو التضمني َأال ُي ِّ
مصدرمها ك َأن يقول « :قال اهلل تعاىل » ،أو « قال رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم » .فمثل هذا األُسلوب،
البلغاء عىل سبيل االستشهاد َأو االستدالل ،خارج عن صنعة البديع التي تقوم ـ ِ كثريا يف كالم
وإن وقع ً
كام سبق َأن عرفت ـ عىل إِحداث نوع من اخلالبة باجلمع بني األَشياء املتشاهبة َأو املتباينة ،وهذا ما نالحظه
يف النامذج السابقة عىل اختالفها .فورود َألفاظ القرآن أو احلديث يف شعر َأو نثر ـ دون فاصل ـ حيدث
للقارئ نو ًعا من املفاج َأة اللطيفة ،ألَنه َي ْع ِرف مصدر هذه األلفاظ الرشيفة ،ويعرف َأهنا من معدن غري
معدن الكالم السابق ،وإن الت َأما يف نسق واحد .
ِ
الشعراء والكتاب حيافظون عىل املعنى األَصيل ل َّلفظ املقتبس ،كام يف النامذج :األَول 4ـ وترين بعض
والثالث والرابع ،وبعضهم ينقلونه إىل معنى آخر كام فعل القايض الفاضل يف النموذج الثاين ،حيث نقل
املعنى من صفة الكفار الذين ال يستمعون لصوت احلق ،إىل صفة املحبوبة التي ال تصغي لعتاب احلبيب.
وكذلك فعل احلريري يف النص اخلامس ،حيث نقل عبارة احلديث الرشيف « خرضاء الدمن» عن معناها
اخلاص إِىل معنى َأعم .
ومما سبق يتبني لك :
أن االقتباس هو تضمني ألفاظ من القرآن الكريم أو احلديث الرشيف ،ويكون فـي الشعر كام يكون
فـي النثر ،وجيوز أن حيتفظ فيه الشاعر أو الناثر بمعنى النص القرآين أو النبوي ،كام جيوز أن ينقله إىل
معنى آخر ،وفـي مجيع هذه األحوال جيوز للشاعر أو الناثر أن يغري فـي األلفاظ املقت َبسة تغيري ًا يسري ًا.
يعد االقتباس فنًا من فنون البديع ،ألن ألفاظ القرآن الكريم ،أو احلديث الرشيف تتميز من بني
ألفاظ الشاعر ،أو الناثر بمزيد من احلسن ،وإن التأمت معها فـي معنى واحد .
مالحظـــات :
طرا من بيت أيب نواس :َض َّمن البيت َش ً
َ
وفـوق الـذي نثني ف َأ ْن َ
ـت كام ُنثـني بصـــالح
ٍ إذا نحـ ُن َأثنينا ع َليــــــك
وقول ابن عامر (أ) يعتذر إىل الوزير حممد بن القاسم الفهري وقد اجتاز بموطنه ومل ي ِّعرج عليه :
سمعي وال برصي عىل فؤادي وال ْ ��ن ِع��ن��اين س��ل��و ٌة خ َط َر ْت
مل َي�� ْث ِ
ِ
معتذ ِر ُ
ق��ول َ
ال��ق��ول فيها نيِ عنكم َخ ْجل ٌة س َل َف ْت لكن عدتنِي ()١
ك��ف��ا َ ْ ْ َ َْ
ِ ()٢ والعذب جر ل ِ ِ لو اخترص ُت ْم من ا ِ
إلفراط يف اخلَصرَ ُ يهُ ْ َ كم
إلحسان زر ُت ُ
فالبيت األخري من شعر املعري ،وقد ن ّبه ابن عامر إىل أنه ُم َض َّم ٌن يف شعره ،وذلك بقوله « :كفاين القول
فيها قول معتذر » .
2ـ ويلحق باالقتباس والتضمني فن بديعي ثالث يسمى « التلميح» وهو أن يشري الشاعر أو الناثر إىل
قصة ،أو مثل ،أو شعر دون أن يورد ألفاظه ،كقول ابن حزم األندليس :
ُ��م َأ ً ِ
قيم
ب����دا ُم ُ ف��روح��ي ع��ن��دك ْ �لا بشخيص َل��ئ�� ْن َأ ْ
صبح ُت ُم��رحت ً
الكليم ل��ه س���� َأل ا ُمل��ع��اي��نَ�� َة ��ط��ي��ف َمعنى
ُ ِ
للعيان َل ول��ك�� ْن
ُ
رب َأ ِرين أن ُظ ْر إليك»
فقد أشار فيه إىل قول موسى عليه السالم فيام حكى عنه رب العزة ِّ « :
حني ح َل ْل ُت َ
ساو َة، آنست من قلبي القساو َةَ ، ُ ِ
الساو ّية « : ومن التلميح يف النثر قول احلريري يف املقامة
ِ
الرسول صىل اهلل عليه وسل ِم : باخلرب امل ْأ ِ
مور ،يف مداواهتا بزيارة القبور » ،فإنه َأشار فيه إىل قول ِ فأخذت
ُ
احلديد .
ُ القلوب تصد ُأ كام يصد ُأ
َ َّ
إن
ِ
القبـور . ِ
القرآن وزيـار ُة قيل :وما جالؤها ؟ قال :تـالو ُة
أنك ال تعرفني موضع االقتباس وال التضمني وال التلميح إِال إذا واظبت عىل 3ـ وغنّي عن البيان ِ
قراءة القرآن الكريم واحلديث الرشيف و َأدمنت االطالع عىل كتب األدب .
َ
(أ) من شعراء األندلس املشهورين يف القرن اخلامس ،وزير للمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية ،وتويف سنة 477هـ.
( )٢الربودة :وهي تستلذ عادة يف الرشاب . ( )١رصفتني.
10
منـاذج للدرا�سـة واملناق�شـة
متيز هبا الطالبة بني االقتباس بأنواعه وبني التضمني والتلميح
1ـ قال ابن الرومي هيجو :
ـ���ك م��ا َأخ���ط��� ْأ َت ف��ي منعي
َ َل ِ
���ئ���ن أخ����ط���� ْأ ُت ف���ي مدحـ
ِ
غ����ي����ر ذي زر ِع ٍ
ب��������واد أن����زل����ت حاجاتي
ُ ل���ق���د
ْ
2ـ وقال بديع الزمان اهلمذاين (أ) يمدح :
واع����ت����ذار َأخيرا
ٌ ي���د أولاً
ٌ ِ
المكرمات َ
ف��ري��غ��ون ف��ي ِ
آلل
وم��ل��ك�� ًا كبير ًا
نعيما ُ
ً ي����ت
َ ر َأ إذا م��ا َح�� َل�� ْل َ
��ت بمغنا ُهمو
3ـ وقال ابن العميد (ب) :
َنده��ر ًا فغادرني ف��رد ًا بال َسك ِ كنت َمغبوط ًا بِصحبتِ ِه ُ ٍ
وصاحب
الح َز ِن
السرور و َألجاني إلى َِ نحو
َ ف��ط��ار بها
َ
ٍ
ق��ب��ال ري��ح إِ
ُ ��ت ل��ه
ه�� َّب ْ
ِ
ضروب الشعر َأنشدني : ولم ي ُك ْن في
ْ ك���ان م��ط��وي�� ًا على إِ َح ٍن
َ ك�� َأن��ه
ِ
الخشن » ِ
المنزل م ْن كان ي ْأل ُف ُه ْم في الكرام إذا ما َأ ْيسروا ذكروا َّ
«إن
َ
4ـ وقال القايض الفاضل :
عدوي ،فال َأشكو إىل ا ُمل ْق ِر ِح ْ
القرحـا ِّ مس مثـــ ُله
فقــد َّ
ْ قـرح
مسـني ٌوإِن َّ
ِ
شعراء األَندلس يف مدح الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم :ـ حد 5ـ وألَ ِ
11
6ـ وقال احلريري يف إحدى مقاماته :
«قلنا شاهت الوجوه ،و ُقبح ال ُّلكَع ()١
وم ْن يرجوه » .
َ ُ ُ ِّ َ ْ
7ـ وقال ابن نباته اخلطيب (جـ) :
ِ
السامء صدقون؟ ما لكم ُت ْش ِفقون ؟ (َ )٢ف َو َر َب ِ
احلديث ُم ِّ « فيا أهيا ال َغ َفل ُة ِ
املطرقون ،أما َأن ُت ْم هبذا
ِ
واألرض إنه لحَ ُّق مثل ما َأنكم تنطقون » .
12
حـ�ســن التعـلـيــل
منـــــاذج :
13
شعراء األندلس هينئ بمولود : ِ 5ـ وألَحد
الـــدروع لفــائـف ًا ـد لـــه ْ
أن لـم ُت َع َّ يســتهل ( )١بكــ ًا ولــكـن م ِ
ـنـكر ًا َّ
ُ ْ ُ ُ مل ْ
6ـ وقال ظافر احلداد (أ) يمدح امللك األَفضل :
ــح ِ
ب الس ُ
ُّ
َ ()٢
البــحر وو ْدق
َ َ
خجـل َأ مــاء الـنـيـل مــ ْن ك ِّف َ
ــك إذ ُ َأيــ َن
ب��ل أو َر َه ِ
��ج ٍوق��ف�� ٌة م��ن َخ َ َ
ك����ان ف���ي ال���ع���ا ِم ل ُه ول���ه���ذا
ب جــر ٍي ُمغ ِ
ْــر ِ األر َض َب ْ
فـا ْنـ َتــحى ْ دى َ
أي���ادي���ك َن ً ث��م ح��اك��ى م��ن
نظـرة حتـلـيـلـية :
الشعر فن يعتمد عىل اخليال ،ويرتبط بالوجدان ،وال يتق َّيد بمنطق العقل َأو قوانني املادة ،فربام َ
جاء
وسواء أكان هذا أم ذاك فمقياس جودته
ً جاء خمالف ًا هلا،
التعبري الشعري موافق ًا للحقيقة العلمية ،وربام َ
مر خارج عن موافقة احلقيقة العلمية أو خمالفتها :ذلك املقياس هو صدق تعبريه عن الوجدان . َأ ٌ
ومعلوم أن من أهم ما يشتغل به العلم البحث عن علل األشياءَ ،أي مس ِّببات وجودها ،وبمعرفة هذه
العلل يتمكن اإلنسان من التحكم يف حالة املادة وتطويعها ألَغراضه العلمية .وقد استطاع العلم َأن يكشف
جيد يف البحث عن علل بعضها اآلخر ،ولكنه يف مجيع األحوال ال عن علل بعض الظواهر املادية ،وما زال ّ
يثبت علة من العلل إال إذا تبني من املالحظة العملية أن وجودها يؤدي إىل وجود املعلول ،وبذلك يمكن
استخدام هذه احلقيقة يف التطبيق كام نعرف من دراستنا للعلوم الطبيعية .فإذا الحظ العامل الكيميائي مثال
ظاهرة االختزال فإنه ال يعللها باحتاد َأحد عنرصي املركب بعنرص آخر إال بعد أن جيري جتارب كثرية تثبت
هذا االحتاد ،وم ْن ثم يستطيع أن يستخدم ظاهرة االختزال استخدام ًا عملي ًا يف تنقية املعادن.
ولكن البحث عن علل األشياء ليس مقصور ًا عىل التفكري العلمي .ذلك أن الربط بني الظواهر يمكن
َأن يتم عن طريق اخليال ،دون أن يكون هناك ارتباط حقيقي بينها ،ولكن الشاعر يبدو مقتنع ًا بوجود هذا
االرتباط ألَنه يوافِق حالة نفسية معينة يشعر هبا ،ومن ثم يبدو املعنى مصوغًا يف شكل تعليل عقيل وإن
( )٢الودق :املطر الغزير . ( )١استهل الصبي :رفع صوته بالبكاء وصاح عند الوالدة .
(أ) شاعر مرصي من شعراء العرص األيويب ،ولد يف االسكندرية ونشأ هبا ثم انتقل إىل القاهرة ومدح أمراءها ،تويف سنة 529هـ.
14
ال َأن الطفل احلديث الوالدة ال يعرف شيئ ًا من أمر الدنيا ،وال معتمدا عىل اخليال .فمن املعروف مث ً
ً كان
ِ
والعناء ِ
املولود يتصور املتاعب التي يستقبلها فيها ،ولكن ابن الرومي ـ بتشاؤمه املعهود ـ ربط بني ِ
بكاء ّ
ِ
جاء لظاهرة بكاء الطفل بعلة تتفق مع نفسيته املرء يف احلياة ،وجعل الثاين سبب ًا ل َ
ألول ،أي أنه َ الذي يلقاه ُ
هو ـ أي نفسية الشاعر ـ وال ش ْأن هلا بالطفل .وكذلك نجد املتنبي يف ميميته ُي ْع ِرض عن التعليل العلمي
الذي يفرس به الطبيب حالته املرضية ويقدم تعليال آخر يبدو أكثر إقنا ًعا له ،ألنه يتفق مع حالته النفسية
من الشعور بالقهر واإلمهال .
وربام اشتمل التعليل الشعري عىل تشبيه ،كام يف النموذج الثالث من شعر املعري ،ففي هذه األبيات
تشبيه مقلوب ،ألن األقرب إىل العادة َأن ُي َش َّبه ا ِإلنسان بالشمعة ال العكس ،حيث إن صفة االحرتاق حقيقية
يف الشمعة وغري حقيقية يف ا ِإلنسان .ثم إِن املعري بعد َأن َش ّبه الشمعة بنفسه؛ خلع عليها صفات إِنسانية،
بكاء ،وزعم أن هذا البكاء ناشئ عن كثرة الضحك ،ال عن خوف اهلالك . فجعل تساقط السائل منها ً
فالتعليل الشعري يف هذه النامذج يعبرِّ عن وجدان صادق ،ال يتقيد باملنطق َأو احلقيقة املوضوعية،
إلحساس وصدق التعبري عن نفسية الشاعر هو العامل األَكرب يف مجال هذه النامذج ،ولكن مما يدعم ا ِ
بجامهلا ما تتضمنه من مفاج َأة لطيفة ،حيث يعقد الشاعر صلة وثيقة بني أمرين متباينني ،ومن هذا النمط
الشعراء بالصنعة ِ
الشعراءَ ،أما يف العصور املت َأخرة التي شغف فيها معظم التعليالت الشعرية عند فحول
ُ
ِ
ادعاء علة غري حقيقية لرضب من املبالغة يف تقرير البديعية لذاهتا فإننا نجد التعليل الشعري يقوم عىل
صفة من الصفات ،وغال ًبا ما يكون ذلك يف باب املدح كام يف النموذجني اخلامس والسادس ،ويشبههام
يف الصنعة النموذج الرابع ،وإن كان يف الغزل ال يف املدح .ومعظم َأمثلة (حسن التعليل) يف كتب البالغة
هي من هذا النمط الثاين ،مع أنه دون النمط األول يف اجلودة كام يتضح لك من املوازنة بني النموذجني
ال لظاهرة واحدة بعلة غري حقيقية ،ولكن التعليل يف النموذج
األول واخلامس ،حيث نجد يف كليهام تعلي ً
اخلامس يدهشنا بغرابته فحسب .
ممـا تقـدم يتبيـن لـك :
أن حسن التعليل هو ادعاء علة غري حقيقيـة حلالة من احلاالت أو صفة من الصفات .وأجود ما
عب عن شعور نفيس صادق . يكون إذا رّ
15
مناذج �أخرى للدر�س والتقومي
16
الأ�سلــوب احلـكـيـــم
منـــــاذج :
17
نظـرة حتـلـيـلـية :
نالحظ يف النموذج األول أن باللاً ـ ريض اهلل عنه ـ محل سؤال الرجل عىل معنى غري املعنى الذي
قصده السائل ،فالسائل يسأل عن سباق اخليل ،وبالل ـ ريض اهلل عنه ـ يشــري إىل اآليتني الكريمتني
املقربون » ( )١ويبدو أن الرجل كان مشغوالً جد ًا بأمر السباق ،فهو يلح يف
«والسابقون السابقون ،أولئك َّ
بيان َق ْص ِده ،وكأن بالالً ـ ريض اهلل عنه ـ مل يفهم سؤاله « :إِنام أسألك عن اخليل » فيجيبه بالل ـ ريض اهلل
ٍ
وجهة هي أنفع للسائل « :وأنا أجيبك عن اخلري ». مرص ًحا بأنه رصف السؤال عن وجهته إىل عنه ـ ِّ
وليس يف النموذج الثاين سؤال أو جواب ،ولكن أحد املتحاورين قد محل كالم اآلخر عىل معنى
غري املعنى الذي قصده ،ل ُينَ ِّب َه ُه يف لطف إىل أن هذا املعنى الثاين أوىل به ،فاحلجاج يتوعد اخلارجي
ف قلبه هبدية كريمة ،شيمة األمراء بالقيد والسجن ،والقبعثري يطمع أن يعفو عنه احلجاج ،بل أن َي َتأ َّل َ
أيضا
حيول هذه العبارة ًالقادرين ،وحياول احلجاج أن يؤكد معناه يف عبارة أكثر رصاحة ،ولكن القبعثري ِّ
إىل املعنى الذي يريده هو .
واألرجاين حيتال لقلب املعنى الذي أرادته حمبوبته ،وهو اإلعزاز وا ِ
إلكرام ،بإضافة متييز إىل اجلملة ّ
التي قالتها « :أنت مثل عيني ـ سقاما » .وكذلك يصنع ابن احلجاج بالفعل« ثقلت» إذ يضيف إليه
مفعوال به يقلب معناه إىل ضده ،أما الفعل الثالث « َطولت » فإنه يستحيل إىل معنى آخر بتغيري اشتقاقه،
والفعل الرابع « أبرمت » اجتمع فيه األمران لقلب املعنى :تغيري االشتقاق وزيادة املفعول به .
ويف مجيع هذه األمثلة يفاج ُأ َأحد املتحاورين بمعنى خفي مل يكن يقصده .فاألُسلوب احلكيم يقوم عىل
تعدد املعاين للعبارة الواحدة ،كام هو الش َأن يف التورية ،ولكن تعدد املعاين هنا يتخذ شك ً
ال متثيل ًيا ،إذ يعرب ّ
كل من املتحاورين عن معنى خيتلف عن معنى اآلخر .
مما تقدم يتبني لك .
أن األسلوب احلكيم فن يعمد إليه أحد املتحاورين بتحويل كالم خماطبـه إىل معنى غري املعنى
الذي قصده ،تنبيه ًا إىل َّ
أن هذا املعنى الثاين هو األصدق أو األحرى أن ُيعمل بـه.
( )١اآليتان 11 ، 10من سورة الواقعة .
18
وربام كان احلوار فـي شكل سؤال وجواب ،وربام كان كالم ًا تقريري ًا .وقد يعتمد األسلوب
احلكيم عىل تعدد معاين الكلمة التي أوردها املخاطب ،وقد حيوهلا عن معناها بإِضافة .
مناق�شــة
اجلد ،فرياد به ا ِ
إلرشاد الحظت من النامذج السابقة َأن األُسلوب احلكيم يصلح يف مواقف ّ ِ ِ
لعلك
والعظة ،كام يصلح يف مواقف اهلزل ،فرياد به السخرية والعبث؛ ومع َأنه قليل الورود يف كالم البلغاء،
فإنه قوي الت ْأثري إِذا كان ً
جدا ،لطيف السخرية إذا كان هزالً .
َم ِّيزي يف النامذج التالية بني هذين الغرضني ،مالحظة اختالف طرق التعبري فيام بينها :
1ـ قـال تعـاىل ﴿
﴾ (من اآلية 215من سورة البقرة ) .
2ـ قال حاتم الطائي :
َ
ينحــون منزلي الض َ
يـفان ت ِّوقـد ر َأ ِْ
ْ َأ َت ْت تشتكي عنــدي مزاو َل َة ِ
القرى
ِ
وعجلي
ِّ ف ِج ّدي في ق ُ
راه ْم الض ْي ُ
هم َُّ كالمها
َ ـت ك َأني ما ســم ْع ُت
فق ْل ُ
3ـ قال َأحد ِّ
املتأخرين يف بخيل :
ِ
������ه مق َف ُل وب���اب���ه م���ن دونِ ب��اب صـــديق لنا ِ ��ز ُت على
ُج ْ
ُ
ِ
بالبـــاب واستك َْملوا قــد َأحــدقوا ِ
ال��دار غلمـــا ُن ُه ِ
ب��اب َ
وح��ول
ق��ال��وا :س��م�� ْع��ن��ا َأن���� ُه ي ْأ ُ
كل يصنــع موالك ُُم ؟
ُ فق ْل ُ
ــت :ما
ُ
يدخل عــم ،ر َأ َس الــذي قالــوا َ :ن ْ ُـــم ؟
يفتــح موالك ُ
ُ قلــت :فمـا
ُ
19
ت�أكـيـد املــدح مبـا ي�شبه الـذم
منـــــاذج :
( أ ) النابغة اجلعدي :شاعر جاهيل أدرك اإلسالم وأسلم وحسن إسالمه .
( ب ) ابن املقرب من شعراء اجلزيرة العربية يف القرنني السادس والسابع للهجرة .
( )١مجع كمي وهو الفارس الذي يلبس الدرع أو الشجاع املقدام.
20
ُي ْش ِعر ب َأن ما بعده يثبت عي ًبا ما ،كام تقول مثال « :ال عيب يف هذا الثوب إِال َأ َّن كميه قصريان فكون
عيب َأثبته للثوب بعد َأن نفيت عنه سائر العيوب .ولذلك فإن قارئ اآلية الكريمة إذا الكمني قصريين ٌ
حكم خمالف ملا سبق ،فإذا قر َأ قوله تعاىل « إال قي ً
ال ِ
االستثناء سبق إىل ومهه َأ ْن سيتلوه ورد عليه حرف
ٌ
سالم ًا سالما » َأدركته هزة ألنه وجد صفة من صفات املدح حيث كان يتوقع العكس ،وتصور َأنه لو فتش
يف اجلنة من كالم يشبه اللغو َأو التأثيم ملا وجد إِال ضد ذلك وهو التسليم الدائم ،فكان َأشد ِ
تأكيد ًا لتنزيه
َأهل اجلنة عن اللغو والت ْأثيم .
ِ
يضا ( النموذج الثالث ) حيث نجد الشاعر وهذا اللون من االستثناء ملحوظ يف بيت النابغة الذبياين َأ ً
فنتوهم أنه يريد َأن يثبت هلم عي ًبا ما ،وإذا به ي ْأيت بصفة
ّ ينفي كل عيب عن ممدوحيه ،ثم يأيت بأداة االستثناء
ال عىل خلوهم من كل عيب . من صفات املدح ،فك َأنه يقيم بذلك دلي ً
ِ
االستثناء كام صور كون املستثنى داخلاً يف مفهوم املستثنى منه ـ وهذا كام قلنا هو األَصل يف وقد ُي َت َّ
ِ
االستثناء املنقطع الذي خارجا عن ذلك املفهوم ،كام هو ش ْأن يف النموذجني السابقني ،وقد يتصور كونه
ً
نعرفه يف النحو ،ومن هذا النوع القول املأثور عن النبي صىل اهلل عليه َو َسلم َ « :أنا أفصح العرب بيد َأين
من قريش» .
ـز ِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سائر العرب بمزيد فنسب الرسول الكريم ليس داخال في َت َم ُّي ِ
من الفصاحة ،وذلك كما تقول في االستثناء المنقطع الخالي من ُأسلوب ت ْأكيد المدح بما يشبه الذم :
قلما» .ومع أننا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ال نعقد صلة «اشتريت الكتب المطلوبة إال ً
ِ
االستثناء منقطع ًا ،فإننا نشعر بالمفاج َأة َأيض ًا ،ألننا الزلنا نتوقع بين المستثنى والمستثنى منه ،نظر ًا لكون
االستثناء مخال ًفا لحكم ما قبلها ،فإذا كان ما قبلها صفة مدح ،فنحن نتوقع أن ِ َأن يكون حكم ما بعد َأداة
جاءت الثانية صفة مدح كاألولى كانت أبلغ في إثبات المدح .
يكون ما بعدها صفة عيب ،فإذا َ
ِ
سامعك ألَول وهلة ِ
جئت بعدمها بمستثنى َأومهت وإِثبات الكامل كنفي العيب ،من حيث ِ
إنك إذا
ِ
ويمكنك أن رشا،
توجس ًبأ َّنه وصف معيبَ ،فإ َذا وجد صفة مدح عرته هزة كمن يلقى اخلري حيث كان َّ
تالحظي ذلك يف احلديث الرشيف وكذلك يف النموذج الرابع من شعر النابغة اجلعدي .
ِ
واالستدراك بلكن وبل شبيه باالستثناء املنقطع من حيث إِننا نتوقع بعد حرف االستدراك حكماً
21
جاء مواف ًقا له كان ذلك أبلغ يف تأكيد معنى املدح .وعىل هذا النمط َ
جاء خمال ًفا للحكم السابق ،فإذا َ
مقرب ،حيث إنه استدرك عىل وصف ممدوحه بالشجاعة صفة ُأخرى من صفات املدح وهي بيت ابن ِّ
السخاء ،وزاد أن ربط بني املعنيني ربط ًا لطيف ًا حني قابل بني « الوغى» «والسـلم» وبني «الكامة» ـ وأراد
ُ
هبم األعـداء ـ وطالبي املعروف من أولياء املمدوح ،وبني جعل الضمري املمدوح فاعلاً للسلب يف الشطر
األول ومفعولاً به يف الشطر الثاين :
مما تقدم يتبني لك :
أن تأكيد املدح بام يشبه الذم ُأسلوب يعتمد عىل مفاجأة السامع بصفة من صفات املدح حيث
االستثناء ِ
االستثناء َأو االستدراك ،وقد ُي َقدر كان يتوقع صفة ذم ،وذلك باستخدام أداة من َأدوات
ُ
نفيا . م ِ
ال أو منقط ًعا ،وقد يأيت املستثنى منه ُمثب ًتا أو ُم ً
تص ً ُ
22
مناذج �أخرى للدر�س والتحليل
الحظي ـ يف النامذج الشعرية التالية ـ الصنعة البديعية يف ُأسلوب ت ْأكيد املدح بام يشبه الذم ،وتنوع
أدواته .
ــب َنوافــــ ُل ْه ِ ِ اض ي��دا ُه غمــــام ٌة ( )١و َأ َ
على ُمعتــفيه ما ُتغ ُّ ب��ي��ض ف ّي ٌ
المــــال ِ
نائـــ ُل ْه َ ولكنــ ُه قــد ُي ْه ِل ُك الخمــر مـــا َل ُه ثقة ال ُته ِ
ــل ُك َأخو ٍ
ُ ْ
وتكفيه ِمن َق ِ ِ ِ الحرب ي ِ
العزائــم
ُ ِ
الجيـــوش ود ْ السـيف ك ُّفـ ُه غنيه عن ِ ُ ( )٢فتى
والرم ِح ظالِ ُم ْ
ِ
للسـيف على َأن�� ُه البالد وغربِها ِ ِ
ش��رق وي��ع ِ
��د ُل في ْ
ذات المناكب واألرض ِ
ِ عامر،ٍ بني فـإن تســألي عنــا فإ َّنا ُح َلى ال ُعـال ْ ()٣
جانبِ أض َّر بنـــا والبـــ َأ َس ِم ْن ك ُِّل َ سـماحنا
َ غــير َأ َّن
َ عيــب فيناَ وال
عــائبِ و َأفنى النَّـــدى أموا َلنـــا َ
غير غـير ظــال ٍم
أعمـــارنا َ
َ و َأفنى ّ
الر َدى
23
�أمثلة �أخرى للأنواع البديعية الأربعة ال�سابقة
( أ ) من أشهر شعراء القرن الثامن ،أكثر شعراء عرصه من الصنعة البديعية .
( )٢وصف يدل عىل القطع . ( )١سيفه.
24
خـام�سـا :
ً
ملحـة عن تاريـخ البـالغــة والنـقــد
1ـ العالقة بني النقد والبالغة
لقد كانت دراستنا منص ّبة حتى اآلن عىل البالغة وعلومها ،فعرفنا َأن «البالغة» مشتقة من مادة «بلغ»
ال إىل ذهن القارئ أو السامع .والعبارة البليغة التي تعني الوصول إىل الغاية ،فهي تعني إيصال املعنى كام ً
ث للسامع َأو القارئ هزة رسور أو إِعجاب أو روعة ،تلك الروعة هي يف الشعر أو النثر العاليني تحُ ِد ُ
إلعجاب أو نصف األثر األديب بصفة « اجلامل» .ولو س َألنا أنفسنا ما مصدر هذه الروعة َأو ا ِ ُ التي جتعلنا
الرسور لقلنا يف أغلب الظن؛ إن الشاعر أو الكاتب أو اخلطيب عبرّ عام يف نفوسنا َأدق تعبري و َأكمله ،ك َأنام
إلنسان الذي يشعر بمثل ما نشعر به ولكنه يتم ّيز بمزيد من فجاء هذا ا ِ
َ كان يف نفوسنا معنى حائر مبهم
أداء ال يتيرس لإلنسان العادي .عىل َأن إِيصال املعنى إرهاف الشعور ،ومزيد من القدرة اللغوية ،فأ َّداه ً
غامضا َأو مضطرب ًاً ال إىل ذهن القارئ َأو السامع مطلب مستحيل ،ف َأي عبقري ال َيبقى بعض معانيه كام ً
وبعض َألفاظه قلق ًا َأو ناب ًيا ؟ ال جرم تتفاوت درجات البالغة ،ولكنها تظل دائ ًام بعيدة عن الكامل املطلق
تفرد به كالم اهلل املعجز .الذي َّ
أيضا إذا عبرّ الكاتب عن معناه بعبارة واضحة وقد يقال إن الكتابة العلمية تستحق الوصف بالبالغة ً
خالية من اللبس ،فإنه بذلك يكون قد أجاد التعبري عن املعنى ،ولكننا نربط البالغة عادة باجلامل األَديب،
حيث تكون للعبارة َأنواع من الت َأثري تتجاوز املعنى البسيط الذي يمكن َأن تعرب عنه اللغة العلمية ،وهنا
تظهر براعة الشاعر َأو الكاتب أو اخلطيب ،إذ َأنه يسخر موارده اللغوية كلها إلحداث التأثريات املطلوبة،
وقد عرفنا أن هذه املوارد منها ما يرجع إىل الرتاكيب النحوية ،وهذا هو موضوع علم املعاين ،ومنها ما
يرجع إىل استحضار الصور البعيدة ،وربط املعاين املجردة باملحسوسات ،وهذا هو موضوع علم البيان،
جزاء اجلملة أو الفقرة ،سواء َأكانت عالقات صوتية َأم ومنها ما يرجع إىل مالحظة العالقات بني َأ ِ
معنوية ،عالقات تناسب َأم عالقات تضاد ،وهذا هو موضوع علم البديع.
26
ومن هذا كله يتضح َأن موضوع البالغة بعلومها الثالثة هو معرفة اخلصائص اللغوية التي تتصل بدقة
التعبري عن املعنى ،وقوة تأثريه يف النفس ،وأن هذه اخلصائص تستخلص من دراسة النصوص األدبية
املمتازة .وإذا كان قد مر ِ
بك يف دراسة البالغة بعض األمثلة األدبية الرديئة ،كتشبيه معيب أو استعارة
سخيفة َأو جناس متكلف ،فام ذلك إال لتتضح صفات احلسن يف هذه األساليب؛ كام قالوا « :وبضدها
األشياء » .
ُ تتميز
مترس بالنظر يف النصوص األَدبية اجليدة ،وتدرب عىل إدراك صفات اجلامل عىل َأن الدارس الذي ّ
فيها ،وانطبعت يف ذهنه خصائص الرتاكيب اللغوية يف التعبري عن املعنى ،ال يصعب عليه أن يميز بني
حصل القوانني البالغيةَ ،أمكنه َ
أن يو ِّظف هذه القوانني يف احلكم نص أديب جيد وآخر رديء .أي َأنه إذا ّ
عىل قيمة النصوص األدبية التي ترد عليه .وهذا احلكم عىل النصوص األدبية ،أو التمييز بني اجليد
والرديء منها ،هو معنى « النقد» .وقد يميزونه بقوهلم « :النقد األديب» وهو م ْأخوذ من نقد الدراهم أي
متييز اخلالص منها وإخراج الزائف .
وبناء عىل ذلك يمكننا أن نقول إن موضوع النقد هو حتليل النصوص األدبية لبيان صفات اجلودة
والرداءة فيها .وإذا كانت املادة األدبية التي تتناوهلا الدراسة البالغية هي النصوص األدبية اجليدة،
َ
رديء إِال للمساعدة عىل إظهار مجال النص اجليد الذي هو عامد الدراسة،
ٌ بحيث ال يورد فيها نص
يستقرئ القواعد
ُ فإن النقد يتناول النصوص اجليدة والنصوص الرديئة عىل السواء ،ألن الناقد ال
من النصوص ،بل يعرض النصوص عىل القواعد .
ولكن :هل القواعد البالغية هي املرجع الوحيد للناقد يف احلكم عىل نص َأديب ؟
لكي نجيب عىل هذا السؤال ،ينبغي أن نعيد إيل الذهن فقرة مرت بك يف كتاب «النقد والبالغة للسنة
األُوىل الثانوية » .
« فقيمة الكالم ترجع أوالً إىل معناه ،غري أن هذا املعنى نفسه ال تتضح قيمته إِال من خالل صياغة
27
حمكمة ،واملعنى هو ما يعرب عنه النقاد املعارصون بكلمة ( املضمون) ،والصياغة هي ما يعربون عنه
بكلمة ( الشكل) .والشكل واملضمون يتحدان كام يتحد اجلسم والروح ،فاملعنى يظل حائر ًا فـي
نفس صاحبه حتى جيد الشكل الذي يناسبه من األلفاظ املرتبة عىل نحو معني ،وكذلك يظل املعنى
غامضا فـي نفس قارئه حتى تتضح له العالقات بني األلفاظ التي صيغ فيها هذا املعنى » .ً
« وعلوم البالغة هي العلوم التي تتناول صياغة املعنى يف األلفاظ املناسبة .أما بحث املعاين نفسها
فمن الواضح أنه ال يمكن أن حييط به علم واحد أو علوم معدودة ،ألن املعاين ترجع إىل الثقافة
والتجربة والذكاء ،وهذه الثالثة ال يمكن أن تحُ رص » .
أيضا ،وإِذا
فالناقد ال حيكم عىل النص األديب الذي َأمامه من جهة صياغته فقط .بل من جهة معناه ً
كانت القوانني البالغية هي عمدته يف احلكم عىل الصياغة اللغوية ،أي صياغة الفكرة يف مجلة أو فقرة ،فإِن
وراء هذه الصياغة اللغوية صياغة فنية حتتوي اجلملة والفقرة يف قطعة أدبية ذات شكل قصيص أو متثييل َ
َأو غنائي ..إلخ .وتنحو نحو ُأسلوب خيايل أو واقعي ،بسيط َأو فخم ..إلخ .
ويأيت بعد ذلك احلكم عىل املعنى ،وهذا حيتاج إىل َأدوات كثرية وضعناها حتت ثالثة رؤوس :الثقافة،
والتجربة ،والذكاء .
جزءا من شخصيته و ُأسلوب املرء وعايشها حتى أصبحت ً الثقافة كلمة جامعة لكل معرفة زاوهلا ُ
تفكريه .وال شك َأن نوع الثقافة التي حيتاج إليها الناقد أكثر من غريها هي الثقافة اللغوية واألدبيةَ ،أي
تلك التي تتناول صياغة العمل األديب يف مجلته وتفصيله ،أو كام يقول بعض النقاد ،يف بنائه ونسيجه .
أما الثقافة اللغوية فرتجع يف جانب كبري منها إىل ما سميناه معرفة الفصاحة ،أو موافقة الكالم لقواعد
العربية بحيث ال يقع فيه حلن أو اضطراب يف الرتكيب النحوي ،وال خطأ يف العروض أو القافية إن كان
شعرا ،وتكون َألفاظه مع ذلك م ْأنوسة سائغة ،ال هي بالسوقية املبتذلة ،وال الوحشية املهجورة .ولكن ً
ِ ِ
هذا اجلانب ال يستوعب وحده ثقافة الناقد اللغوية ،فإن الناقد قد يكتسب من طول ممُ َ َار َسته للنصوص
28
خاصا ،كام نعرف مثل ً األدبية قيمة اللفظ ،حتى لكأن لِ َّلفظة الواحدة عنده شخصية متميزة وسلوكًا
أنك متيزين فيمن َع َر ْفتِهن حق املعرفة من أفراد البرش مالمح معينة يف الوجه ذلك يف أفراد الناس؛ فكام ِ
وخصائص معينة يف املشية واحلركة وصفات معينة يف السلوك ،بل أكثر من ذلك ،حتسني أن لكل فرد
إشعاع ًا روح ًيا معينًا جيعلك متيلني إىل واحدة وتنفرين من ُأخرى ،وتتوقرين يف حمرض واحدة وتنطلقني
عىل سجيتك مع ثانية ،وتفضني بدخيلة نفسك إىل ثالثة ،فكذلك ش ْأن الناقد مع األلفاظ ،فهو جيد لكل
لفظ إِشعا ًعا ً
خاصا يتجاوز حدود املعنى املبارش الذي ُت ْعنَى به املعاجم ،ويثري لدى املتلقي استعداد ًا حلالة
وجدانية معينة من رسور أو حزن أو رىض أو اطمئنان أو قلق ...إلخ .هذا احلس الدقيق باأللفاظ هو
أثمن ما يمتلكه الناقد ،وهو ثمرة علم واسع بترصف األلفاظ يف االستعامالت املختلفة ،وإِن بدا للقارئ
غري البصري نو ًعا من التحكم .وأوضح ما يظهر هذا احلس اللغوي يف التمييز بني املرتادفات (. )١
ثم إن هذا احلس اللغوي يظهر كذلك يف التمييز بني ُأسلوب و ُأسلوب .فالناقد اخلبري يستطيع أن حيكم
ِ
الشعراء أو َأن هذه القصة َأو املقالة َأو حك ًام قريب ًا من اليقني بأن هذا الشعر املجهول القائل هو لفالن من
ِ
الشعراء والكتاب الرسالة هي لفالن من الكتاب ،وذلك ألنه ال جيد صعوبة يف التمييز بني شخصيات
شخصا بمشيته َأو َ
إيامءاته أو نربات ً من حيث طريقة استعامهلم للغة ،كام أنك أنت تستطيعني أن متيزي
صوته .
وهنا تقرتب الثقافة اللغوية من الثقافة األدبيةَ ،فقوام الثقافة األدبية معرفة مذاهب األدباء يف اختيار
موضوعاهتم ووضعها يف الشكل الفني املناسب ،وفنون الشعر والنثر وخصائص كل فن ،واختالف هذه
الفنون وتلك املذاهب بحسب اختالف العصور والبيئات ،وليست هذه الثقافة األدبية بأقل لزوم ًا للناقد
من الثقافة اللغوية .فالشاعر َأو الناثر ال يظهر يف خواء .إِنه جيد فنون ًا َأدبية متعارفة يف زمنه وقبل زمنه،
ومذاهب أو طرق ًا فنية أخذ هبا معارصوه أو سابقوه ،كام جيد لغة مستعملة يتحدث هبا الناس ،ويكتب
هبا الكتاب ،والبد له من أن ُي َط َِّوع املذهب الذي خيتاره ،والفن الذي يكتب فيه ،لنقل ما يشعر به إىل
قارئه ،وهذا هو حمك الكتابة الفنية اجليدة .والناقد اخلبري بمذاهب األدب وفنونه واختالفها بني العصور
والبيئات هو الذي يستطيع أن حيكم عىل مدى توفيق الشاعر أو الناثر يف استخدام ذلك الرتاث الضخم
( )١انظري النص السادس من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
29
املتنوع ،وهو تراث يمكن أال يقترص عىل اللغة التي يعرب هبا الشاعر أو الناثر ،بل قد يمتد ليشمل أطرا ًفا
من آداب ُأخرى .
فالناقد الذي يريد َأن حيكم عىل مرسحية لشوقي مثالً ،حمتاج إىل أن يعرف ُأسلوب شوقي يف القصائد
التي نظمها من قبل ،وتأثره بالشعر العريب القديم ،كام أنه حمتاج إىل َأن يعرف فن املرسحية يف اآلداب
ور ِّب َّي ِة ،وقواعد بنائها ،وما بني املذاهب الأْ َ َدبِ َّي ِة املختلفة من فروق يف ذلك؛ وبدون هذه الثقافة الواسعة
الأْ ُ ُ
ال يستطيع الناقد أن حيكم عىل قيمة اإلضافة التي أضافها شوقي إىل تراث الشعر العريب .
ومعرفة فنون األَدب ومذاهبة بعد معرفة طبيعة األدب بوجه عام ،وما يميزه عن سائر الفنون التي
تسمى بالفنون اجلميلة ـ كاملوسيقى والتصوير ،وما هو مشرتك بينه وبينها ـ هذه املوضوعات ُتك َِّو ُن ما
كتب فيها، يسمى « أصول النقد» .ولكن الناقد ال يستطيع َأن يتقن هذه األُصول بمجرد مطالعة ٍ
كتاب أو ٍ
بقراءة عدد كبري من النصوص األدبية املمتازة يف شتى فنون األدب ومذاهبه .
َ التمرس
بل ال بد له من ّ
عىل َأن ثقافة الناقد األَديب ال تقف عند حدود الثقافة اللغوية ،واألَدبية التي تساعده يف احلكم عىل قيمة
العمل األديب من حيث الشكل ،فهو مطالب بأن حيكم عىل مضمون العمل األديب كذلك ،ومضمون
األَعامل األَدبية متنوع َأشد التنوع ،فهو يشمل وصف املوجودات اخلارجية كام يشمل تصوير النوازع
الذاتية .واملوجودات اخلارجية منها ما هو مادي كنبات َأو حيوان َأو عربة أو وعاء ومنها ما هو معنوي،
كعادة اجتامعيةَ ،أو نظرة َأخالقية .وإذا كان دأب الكاتب املنشئ َأ ْن يصف من هذه املوجودات اخلارجية
مطالب
ٌ ما ُأتيح له َأن يالحظه مالحظة دقيقة ،كي يأيت وصفه مقنع ًا بصدقه أو مقاربته للحقيقة .فإن الناقد
ِ
بصدق ِ
اإلحياء ب َأن يعرف هذه األشياء ك َّلها َأو معظمها ليستطيع احلكم عىل مدى توفيق الكاتب املنشئ يف
ما أتى به من وصف .وملا كان من املتعذر معرفة املوجودات اخلارجية مجي ًعا ،ماديهّ ا ومعنويهّ ا ،فإن الناقد
مضطرا إىل َأن يراجع الكتب العلمية ليستوثق من َأن العمل األديب قائم عىل ً جيد نفسه يف بعض األحيان
َأساس من احلقيقة ،وإن كان من املسلم به َأن الكتابة األدبية ال حتاول أن تستقيص وصف املوجودات
30
ال حرف ًيا .ويمكن القول إن للشاعر َأو القاص َأن اخلارجية استقصاء عملي ًا ،والتلتزم بالنقل عن الواقع نق ً
أن يقصدخاصا جيول يف نفسه ،ولكنه إذا انحرف عن الواقع دون ْ خيالف الواقع لينقل إىل القارئ معنى ً
إىل معنى معني هبذا االنحراف ،فذلك خطأ حياسب عليه ،وما ُأسلوب االستعارة الذي عر َفناه إال نوع
من خمالفة الواقع ،ألنه ينقل االسم عن معناه احلقيقي ،ولكن الشاعر إذا نقل االسم عن معناه دون قصد
إىل االستعارة كان خمطئ ًا ،ولذلك عاب َط َر َف ُة بن العبد هذا البيت :
كـدم الص ْي ِ
ـــعري َة ُم َ بنـــــاج علـــيه َّ
ٍ احتضــار ِه
ِ اهلـــم عند
َّ وقد َأتناســي
عرية سمة تكون يف النوق وال تكون الص ْي ِ
اس َتنْ َوق اجلمل »َ ،أي صار اجلمل ناقة ،ألن َّ
ساخرا ْ « :
ً فقال
يف اجلامل .
إلنجليز ،قوله عىل لسان إِحدى الشخصيات يف مرسحية من ِ
شعراء ا ِ وعيب عىل شكسبري ،كبري
مرسحياته التارخيية « :انطلق كالرصاصة » ـ مع َأن التشبيه يف ذاته صحيح ـ ألن البارود مل يكن قد اخترُ ع
يف العرص الذي تدور فيه أحداث املرسحية ،وكان للشاعر مندوحة يف غري هذا من التشبيهات التي ال
تصدم القارئ َأو السامع بمخالفتها للواقع .
ولكن األَدب ال هيتم بالواقع املادي بقدر ما هيتم بالواقع االجتامعي :فشعر احلامسة يف العرص اجلاهيل
سائدا يف شبه اجلزيرة؛ ووصف األَطالل والظعائن ال يمكن َأن
يرجع معظمه إىل الرصاع القبىل الذي كان ً
يوجد إال يف جمتمع تغلب عليه البداوة؛ وقد تطور شعر املدح عىل مدى العصور بحسب موقف الشاعر
منوها بفضله عىل قومه ،كمديح زهري
من املمدوح ،ومن مديح يوجهه الشاعر إىل عظيم من عظامء قبيلتهً ،
بن أيب سلمى يف َه ِر ِم بن سنان ،إىل مديح تكال فيه املحامد بال حساب .ويطلب العطاء بال حياء .كمديح
ابن الرومي يف معارصيه من الوزراء والكرباء ؛ وتصوير الواقع االجتامعي عنرص هام من عنارص القصص
احلديث ،فكثري من قصص حممد عبد احلليم عبد اهلل ،مثل «بعد الغروب» و«شمس اخلريف» تصور أثر
االنتقال من املجتمع الريفي إىل املجتمع املدين يف سلوك األفراد .وثالثية القاهرة القديمة لنجيب حمفوظ
السكرية) تصور العادات االجتامعية بني َأجيال ثالثة ،يف َأرسة مرصية
ّ ( بني القرصين ،قرص الشوق،
حمافظة تفاجئها املدنية احلديثة وتدمر َأسلوب حياهتا اهلادئ .وال شك َأن فهم األدب ـ قديمه وحديثه ـ
صحيحا ،يتطلب معرفة جيدة بالواقع االجتامعي الذي يصدر عنه األَديب ،ومن ثم يستطيع الناقدً فه ًام
31
َأن حيكم عىل مدى توفيق الكاتب املنشىء يف تقديم صورة صادقة ملجتمعه .ولذلك فإن الناقد ال يمكنه
َأن يستغني عن اإلملام بعلم التاريخ وعلم االجتامع .
يشء ـ تعبري عن شعور ،وسواء َأعبرَّ الشاعر أو الناثر عن هذا الشعور عىل َأن األَدب ـ َأوالً وقبل كل ٍ
مبارشا أم تكلم من خالل شخصيات يستوحيها من الواقع املعارص تارة ومن التاريخ تارة ُأخرى ، ً تعبريا
ً
فإنه يثري إعجابنا ببصريته النفاذة التي تكشف عن خفايا النفوس البرشية يف أطوارها املختلفة ،وطبائعها ِ
أيضا،
أنك جتدينه يف الشعر العظيم ًاملتباينة .و َأوضح ما يكون ذلك يف األدب القصيص والتمثييل ،عىل ِ
اقرئي هذا البيت للمتنبي مثال :
شــباب
ُ
بتبييـض الـقــ ِ
ُرون ِ ف َيخْ ـ َفى ضــاب
ُ البيــاض ِخ
َ نـى كُـ َّن يل َأ َّن
ُم ً
أال ترينه قد كشف ،يف ومضة من ومضات اخليال ،عن رغبتني من الرغبات الدفينة يف النفس اإلنسانية
:رغبة الشاب يف َأن يبدو كبري السن ،فهو يتشبه بالكبار ،وحرسة الشيخ عىل ما مىض من شبابه ،فهو
يتشبث به ما استطاع؛ فإِذا كان الشيخ خيضب شعره بالسواد ليبدو شاب ًا ،فإن الشاب َ
يتمنى لو استطاع أن
خيضب شعره بالبياض ليخفي شبابه .
وملكان الصدق النفيس يف األدب ،حيتاج الناقد إىل َأن يدرس علم النفس دراسة وافية ،قبل َأن يستطيع
احلكم عىل هذا اجلانب من جوانب العمل األَديب .
وهكذا نرى َأن الثقافة املطلوبة يف الناقد تكاد تشمل املعارف ا ِ
إلنسانية مجيعها ،عىل َأن َأهم جوانبهاـ
ونظرا التساع ُأفق النقد،
ً بعد الثقافة اللغوية واألَدبية ـ هي علم االجتامع وعلم التاريخ وعلم النفس،
ٍ
بيشء من وتعدد روافده تشعبت جوانبه ،وتنوعت اجتاهاته ،وسنلم هبذه االجتاهات ،وتلك اجلوانب
التفصيل يف العام القادم إن شاء اهلل .
ثمة فارق بني ثقافة الناقد وثقافة أي متخصص يف فرع معني من فروع املعرفة التي حياول الناقد أن
يسريا مما يستطيع املتخصص حتصيله .ولكنه حييط هبا ،فبدهيي َأن الناقد ال حيصل من هذا الفرع إِال ً
جزءا ً
32
ـ من جهة ـ جيمع بني عدد من فروع املعرفة قلام جيمع بينها املتخصص يف فرع واحد ،ثم هو ـ من جهة
ُأخرى ـ يترصف يف هذه املعارف حتى يوجهها خلدمة غرضه ،وهو فهم النص األديب واحلكم عليه ،وإنام
ِ
اإلنشاء األديب، يترصف فيها هذا الترصف معتمد ًا عىل جتربته وذكائه ،فالتجربة والذكاء مها األساس يف
معتمدا عىل ثقافته وحدها بل إنه
ً ال يستطيع الشاعر َأن يكتب قصيدة وال الروائي أن يكتب رواية مث ً
ال
فيعدل فيها ويضيف إليها وينقص يستمد القصيدة أو الرواية أوالً من جتربته ،ويترصف يف هذه التجربة ّ
ومستفيدا من ثقافته؛ وإذا كان هذا من شأن األديب املنشئ يف عمله فإن األَديب ً معتمدا عىل ذكائه
ً منها
الناقد ال يستطيع َأن حيسن فهم هذا العمل واحلكم عليه إذا مل يسلك إِليه الطريق الذي سلكه األَديب
املنشئ .عىل أن دور الثقافة يف عمل الناقد أظهر منه يف عمل املنشئ ،ولذلك يعد النقد األديب يف منزلة
الع ْل ِم َّي ِة .
وسطى بني الكتابة األدبية والكتابة ِ
فقوانني ِع ْل ِم االجتامع أو علم النفس قد تلقي بعض األضواء عىل النص األديب ،ولكن الناقد يستجيب
تعبريا صاد ًقا عن ظاهرة
ً هلذا النص أولاً من خالل جتاربه االجتامعية ومشاعره الباطنية ،فإذا ملس فيه
اجتامعية أو نفسية استطاع أن يعرضه عىل قوانني علم االجتامع َأو علم النفس ،وكثري ًا ما تكون وظيفة
إضاءة نص َأديب
َ الناقد يف هذه احلالة هي الرشح والتفسريَ :أي َأنه يستخدم ثقافته االجتامعية َأو النفسية يف
َأثار إِعجابه .
سواء أكان باالستجابة َأم النفور ـ هو البذرة األُوىل
ً فالتأثري النفيس الذي يتلقاه الناقد من األَثر األَديب ـ
للحكم النقدي ،ثم تأيت بعد ذلك َأنواع الثقافة من خاصة وعامة لرتفد هذا احلكم وتدعمه .
وسوف نالحظ يف عرضنا التارخيي املوجز لتطور البالغة والنقد يف اللغة العربية َأهنام بدآ هبذه البذرة
الثأثرية ،ثم دخلت فيهام احلجج العقلية املستمدة من ثقافة العرص حتى اقرتبا ـ وال سيام البالغة ـ من
شكل العلم .
33
2ـ بذور النقد واملالحظات البالغية
الشعراء وتفضيل بعضهم عىل بعض .والعرب ال ِ لعلنا نجد البذرة األُوىل لنقد الشعر يف املوازنة بني
خيتلفون يف ذلك عن غريهم من األمم ،فأقدم نص يوناين نعرفه يف النقد األديب ( )١هو جزء من مرسحية
« الضفادع » ألرسطو فانيس ،وهو يدور حل موازنة بني الشاعرين السابقني أيسكيلوس ويوريبيديس يف
أبيات بعينها ،وينتهي إىل تفضيل األول منها .وأسلوب النقد هنا ُأسلوب ت َأ ُّثري يتجىل فيه اإلعجاب بالشاعر
ِ
واهلجاء . املتقدم ( َأيسكيلوس) واإلزراء باملتأخر ( يوريبيديس) ،فهو َأقرب إىل أن يعد ً
مزجيا من املدح
وكانت أسواق العرب ـ ال سيام سوق عكاظ ـ تضم ندوات أدبية تنشد فيها األَشعار وتلقى األَحكام
األدبية .ويروى أن النابغة الذبياين كانت ترضب له قبة من جلد يف سوق عكاظ ويفد إليه الشعراء فينشدونه
ويسمعون ر ْأيه ،فيقال إن األعشى أنشده ذات مرة ،وتاله حسان بن ثابت ،ثم اخلنساء ،فأعجب بشعرها،
قدم عليها إلنس .أي أنه ّ وقال هلا :لوال أن أبا بصري ـ يعني األعشى ـ أنشدين لقلت إنك َأشعر اجلن وا ِ
وقدمها عىل حسان ،وطبيعي أن يسخط حسان عىل هذا احلكم ،ويرد عىل النابغة ر ًدا عني ًفا . األْعشىّ ،
وقد وردت هذه القصة بروايات متعددة ،وتذهب بعض الروايات إىل َأن حسان حتدى النابغة ببيته
الذي يقول فيه :
ٍ
نجــدة دمـا رن ِمــ ْن
و َأسـيا ُفنا يقـ ُط َ بالضحى
يلم َع َن ُّ
اجلفنات الغ ُُّر َ
ُ لنا
()2
فقال له النابغة :إنك قلت « :اجلفنات » ،فقللت العدد ،ولو قلت « :اجلفان» لكان أكثر؛ وقلت « :
( )١يرجع هذا النص إىل القـرن الرابع قبل امليــالد وأرسطو فانيس هو أشهر مؤلفي املهـازل من شعراء اليونان .أما أيسكيلوس ويوريبيديس
ـ وثالثهام سوفوكليس ـ فهم أشهر شعراء املآيس عندهم .
( )2مجع جفنة وهي القصعة يوضع فيها الطعام وتالحظ الطالبة تفرقة النابعة بني مجع القلة ومجع الكثرة .
34
بالد َجى » لكان أبلغ يف املديح ،ألن الضيف بالليل أكثر طرو ًقا ؛ يرب ْقن ُّ
يلمعن بالضحى» ولو قلت ُ « :
وقلت « :يقطرن من نجدة دما » فدللت عىل قلة القتل ،ولو قلت « :جيرين» لكان أكثر النصباب الدم .
ومل تكن هذه « املسابقات األدبية» مقصورة عىل سوق عكاظ ،فريوى َأن َأربعة من شعراء متيم اختلفوا
السعدي ،وعمرو بن األهتم .ّ الز ْب ِرقان بن بدر ،و َع َب َد ُة بن الطيب ،واملُخَ َّبل
يف َأهيم َأشعر ،وهم ِّ :
فحكَّموا بينهم ربيعة بن ِحذار األَسدي فقال :أما عمرو فشعره ُبرو ٌد يمن ِّية ُت ْطوى وتنرش ،و َأما أنت يا
ٍ
كمزادة ()١ زبرقان فإن شعرك كلحم مل ُينْضج فيؤكل وال ُت ِرك ني ًئا فينتفع به ،و َأما َأنت يا عبدة فإِن شعرك
ِ
خرزها فليس يقطر منها يشء . ُأحكم ْ
ألحكام األدبية يف هاتني القصتني . ويالحظ الطابع الت َأ ُّثري ل َ
أن يبني َأسباب هذا احلكم ،ولعله أما النابغة فإنه قدم األ َعشى عىل اخلنساء واخلنساء عىل حسان دون َ
دخل مع حسان يف بعض تفاصيل الصياغة كام ذهبت بعض الروايات ،بحيث يمكننا َأن نعد نقده لبيت
حسان من بواكري النقد البالغي ،فهو يقوم عىل َأن الصياغة جيب أن تؤدي املعنى َأ ً
داء قوي ًا ،وهذا ما سامه
البالغيون فيام بعد « باملبالغة» وعدوه لو ًنا من ألوان البديع ،ولكن الغالب عىل النقد يف العرص اجلاهيل
هو الطابع الت َأ ُّثرى اخلالص كام نرى يف أحكام ربيعة بن ِحذار األَسدي عىل الشعراء التميميني األَربعة،
فهي أحكام إمجالية ال تتناول نصوص ًا معينة بالتحليل الذي يكشف عن نقاط القوة والضعف يف صياغتها
جاءت يف صورة التشبيه ،والتشبيه أقرب إىل اللغة الشعرية االنفعالية منه إىل
ومعانيها ،ثم إن ثالثة منها َ
اللغة العلمية املنضبطة .
35
ر ّدوه كان مردود ًا ،أي َأن الشعراء كانوا حيتكمون إىل مجهور أهل مكة ،وش ْأن اجلمهور يف كل عرص أن
يستحسن ما يستحسن و ُيسقط ما يسقط دون أن يعلل حكمه باالستحسان أو ضده ؛ فريوى َأن علقمة
ابن َع َبدة التميمي قدم عليهم فأنشدهم قصيدته التي مطلعها :
َأ ْم حب ُلها إِذ َن َأ ْت َ
ـك اليـوم مصـروم ()١ مكتوم استو َد ْع َت ِ ْ
ُ ُ هل ما َعل ْم َت وما ْ
فقالوا :هذه ِس ُ
مط ( )٢الدهر ،ثم عاد إليهم يف العام التايل َفأ ْن َش َدهم قصيدته التي مطلعها :
مشـيب عرص َ
حان ِ ِ طحا (َ )٣
ُ الشــباب َ ُب َعــ ْي َد طروب
ُ احلسان قلب يف
بك ٌ
فقالوا :هاتان سمطا الدهر :
ومن قبيل هذا النقد الذي نستطيع أن نسميه نقـد اجلمـهور مـا يروى من أن النابغة الذبيـاين كان
ُي ْق ِوي ( )٤يف شعره ،فنزل َ
يثرب ف َأوعز َأهلها إىل جارية أن تغنيه بقوله :
زو ِدوغــــــري ُم َّ
َ
عجـــــالن ذا ٍ
زاد َ رائـح َأو مغـــــــتديٌ َأ ِمن آل م ّيــ َة
ُـداف ( )٥األَســو ُد
حد ْثنـا الغ ُ
وبذاك َّ البـــوارح َأ َّن رحل َتـنا ً
غـدا ُ زعــــم
َ
الر ِو ّي يف كل من البيتني ظهر له هذا العيب فلم يعد إليه .
فحني مدت صوهتا بحركة َّ
ومن قبيل االستحسان املطلق اتفاق العرب عىل تفضيل سبع َأو عرش من القصائد الطوال ِه َي التي
سميت باملعلقات ،وال ُي ْعرف َأصل هذه التسمية عىل وجه اليقني وال من أطلقها ،وهناك رواية تقول :
بامء الذهب وعلقوها عىل أستار الكعبة ومع أنإن العرب اختاروا هذه القصائد وكتبوها عىل ال َقبا ّطي (ِ )6
مؤرخي العرب يض ِّعفون هذه الرواية ،فحقيقة التفضيل نفسها غري مذكورة ،ومن املرجح أهنا ترجع إىل
العرص اجلاهيل .
36
نقدا ت َأ ُّثر ّيا ،يميل إىل األحكام
ومن هذه األمثلة التي ذكرناها يتضح أن النقد يف العرص اجلاهيل كان ً
املطلقة ،وخيلوا أو يكاد من التحليل والتعليل .وقد نجد فيه بذور ًا قليلة لنقد الصياغة ،الذي دخل فيام
ِ
نقدا فيه يشء غري
ب إىل بعض اجلاهليني ً بعد يف بحث الفصاحة والبالغة .وهناك روايات ُأخرى َتنْس ُ
قليل من تفصيل األحكام عىل الصياغة واملعاين ،ولكنها روايات ضعيفة ،ولذلك ر َأينا َأال نقف عندها
.
لإ�سالم :
نقد ال�شعر فـي �صدر ا ِ
كان الشعر سالح ًا من أسلحة املعركة التي دارت رحـاها بني اإلسـالم وخصومه بعد هجرة رسول
ِ
وأصحابه إىل املدينة . اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم
ِ
وقد توىل الرد عىل شعراء قريش ثالثة من شعراء األَنصار ،وهم َّ :
حسان بن ثابت ،وعبد اهلل بن
رواحة ،وكعب بن مالك .كان ثالثتهم ينافحون عن املهاجرين واألنصار وهيجون كفار قريش ،ولكن
هؤالء كانوا جيزعون من شعر حسان ما ال جيزعون من شعر صاحبيه ،ألن حسان كان يغمز َأنساهبم ِ
يعتزون بيشء كام يعتزون باألنساب واألحساب ،فلام دخل كفار و َأحساهبم ،ومل يكن العرب يف اجلاهلية ُّ
قريش يف ا ِ
إلسالم كانوا َأشد جز ًعا من شعر عبد اهلل بن ُر َواحة ،ألنه كان يعيرّ هم بالكفر .وهنا نلمس َأثر
إلسالم يف تبديل القيم التي تقوم عليها معاين الشعر .فقد أصبح العرب حني َأسلموا يرون الكفر ّ
مذمة ا ِ
مر من قعود احلسب وغموض النسب ،ومعنى ذلك َأن الشعر َأصبح يف نظر اجلمهور الذي يستمع إليه َأ ّ
مرتبط ًا بالدين واألَخالق .وقد وضح التنزيل احلكيم الفرق بني هذين النوعني من الشعر بجالء تام،
وذلك يف قوله تعاىل :
﴿
﴾ الشعراء .
مد االجتاه الديني األخالقي نقد الشعر باألساس النظري الذي كان ُي ْع ِوزه ،فظهرت فيه بعض
وقد َأ ّ
األحكام املع ّللة ،ومن ذلك ما رواه ابن عباس عن عمر بن اخلطاب ـ ريض اهلل عنهام ـ وقد سأله عمر:
37
هل تروي لشاعر الشعراء ؟ قال ابن عباس :قلت :ومن هو يا أمري املؤمنـني ؟ قال :ابن أيب ُس ْل َمى .
وشـي( )١الكالم ،وال ُيعاظِل ( )٢من املنطق ،وال يمتدح قلت :وبم صار كذلك ؟ قال :ألنه ال ي َّتبع ح ِ
ُ
الرجل إِال بام يكون فيه .
قدم ُز َه ًريا عىل سائر الشعراء لسببني :
فعمر ريض اهلل عنه َّ
َأحدمها يرجع إىل املعاين واآلخر إىل الصياغة ،ف َأما السبب الذي يرجع إىل املعاين فهو َأنه ال ينسب إىل
يتحرى الصدق يف مدحه عىل خالف معظم الشعراء ،وهكذا نرى املقياس ممدوحه فضائل ليست فيه ،فهو ّ
األخالقي يف نقد الشعر ظاهر ًا جل ّيا ؛ وأما السبب الذي يرجع إىل الصياغة فوضوح َألفاظه وتراكيبه ،وإذا
تأملت ر َأيت َأن هذا السبب وثيق الصلة بالسبب األول ،فالشاعر الصادق الذي ال يتكلف يف معانيه
َح ِر ٌّي َأال يتكلف كذلك يف َألفاظه ،والشعر الذي يؤدي رسالة تعليمية َح ِر ٌّي أن يكون واضح ًا حتى
يفهمه الناس .
لس َح ْيم (أ) :
وكام كان عمر ريض اهلل عنه يستحسن شعر زهري ،كان يستحسن هذا البيت ُ
ِ
للمرء ناه ًيا سالم
إل ُ الشيب وا ِ
ُ كفى ــزت غـاز ًيا
جتـه َ ُع َمـيرْ َة َو ِّد ْع إِن َّ
ظهورا يف هذا البيت ،مع سهولة واقتصاد يف األُسـلوب و ُيروى أن ً واملعنى الدينى األخالقي أكثر
عمر ـ ريض اهلل عنه ـ حتدث عن الشعر مرة مع وفد قدم من غطفان فسأهلم :أي شعرائكم الذي يقول :
ُ ٍ َأت ْي ُتـك عاريـ ًا َخ َلقـــ ًا ثيــــابي
الظنــون عـلى خــوف ُت َظ ُّن َ
بي
فقالوا :النابغة ،فس َألهم ،أي شعرائكم الذي يقول :
مذهــب ِ
للمـرء وراء الله َح َل ْف ُت فلم َأتـرك لنفسـك ريبــ ًة
ُ وليـس َ
قالوا :النابغة ،قال أي شعرائكم الذي يقول :
المنْ َت َأى َ ْ ِ كالليــل الذي هـو ُم ْد ِركي
واسع
ُ عنك وإن خ ْل ُت َأ َّن ُ ِ َ
فإنـك
38
قالوا :النابغة ،قال :هذا َأشعر شعرائكم .
تدل عىل َأن النقد ا ِ
إلسالمي مل يكن يتطلب املعنى الدينى أو األَخالقي يف كل وهذه القصة األخرية ّ
ال للحـكم الذي أصـدره ،كام فعل يف قصته مع ابن عبـاسبيت ،وعمر ـ ريض اهلل عنه ـ مل يقدم هنا تعـلي ً
ـ ريض اهلل عنه ـ بل ترك ملخاطبيه أن يستنتجوا من هذه األبيات التي اختارها وجه التفضيل .والظاهر أن
السبب هنا ال خيتلف عن السبب يف تفضيله زهري ًا ،وهو صدق املعنى مع وضوح اللفظ .
بسب
ّ وكان لعمر ـ ريض اهلل عنه ـ موقف صارم من اهلجاء واهلجائني ،فلم يكن اإلسالم ليسمح
أعراض املسلمني ،ومن ثم حبس احلطيئة حني هجا الزبرقان بن بدر ،ثم أطلقه عىل أال يعود إىل اهلجاء،
واشرتى منه َأعراض املسلمني بمبلغ من املال .
الشك أن القرآن الكريم كان له األثر األكرب يف تغيري مفاهيم العرب الفنية عىل النحو الذي وصفناه.
لقد هبرهم بنمط من القول ال عهد هلم بمثله ،فوقفوا أمامه حيارى :
قالوا :أضغاث َأحالم بل افرتاه بل هو شاعر .
وقالوا :أساطري األولني اكتتبها فهي تمُ ْلىَ عليه ُبكر ًة و َأصيال .
وقالوا :إنه سجع كسجع الكهان .
روي َأن الوليد بن املغرية سمع من رسول وكانت هذه املزاعم ظاهرة البطالن لوال املكابرة والعناد ُ .
اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ سورة السجدة .فلام خرج من عنده عليه الصالة والسالم قال :سمعت من
إلنس وال من كالم اجلن ،وإِن له حلالوة وإِن عليه لطالوة ،وإنه يعلو وال كالما ليـس من كالم ا ِ حممد ً
ِ
اخلطباء ، ف عليه الفرق بني هذا النمط املعجز وما عرفه من منظوم الشعراء ومنثور ُيعىل .فالوليد مل يخَ ْ َ
ف عليه َأنه نمط خمتلف عام سمعه من سجع الكهان، وهذا ما عناه بقوله إنه ليس من كالم ا ِ
إلنس ،كام مل يخَ ْ َ
وهذا ما عناه بقوله إِنه ليس من كالم اجلن ،ثم غلبته ِش ْق َو َت ُه فأدبر واستكرب ،فلم يستطع َأن يصفه إِال ب َأنه
« سحر ُي ْؤ َثر » .
39
وقد َر ّد الذكر احلكيم عىل مزاعم الكفار مشري ًا إىل َأهنم إِنام يتعامون عن احلقيقة ألن قلوهبم ُأشربت
الكفر :
﴾ ( سورة الحاقة ) . ﴿
﴾ ( سورة يس اآلية .)69 ﴿
﴿
﴾ ( سورة النحل . )103
تحداهم َأن ي ْأتوا بمثله ﴿ :
ولكي يقطع عليهم الحجـةّ ،
﴾ ( سورة الطور) .
﴿
﴾ ( سورة اإلسراء) .
تحداهم أن ي ْأتوا بعشر سور مثله :ثم ّ
﴿
﴾ ( سورة هود . )13
ثم تحداهم َأن يأتوا بسورة واحدة مثله :
﴾ ﴿
( سورة يونس .)38
﴿
﴾ ( سورة البقرة . )23
ِ
استواء نظمه ليعلموا َأنه فوق كالم البشر : ودعاهم َأن يمعنوا النظر في
﴾ ﴿
( سورة النساء . )82
40
وكان هذا الجدل كله داعي ًا ألَن يتأمل العرب ـ قبل إِسالمهم وبعد إسالمهم ـ القيم الفنية التي
احتوى عليها القرآن الكريم ،و َأن يالحظوا الفروق بينه وبين غيره من َأجناس الكالم وال سيما الشعر.
مهم في ُأصول النقد .
والنَ ُظر في هذه الفروق باب ّ
وقد أرشدهم القرآن الكريم نفسه إِلى فارق عظيم الشأن حين ن ّبه في آية من سورة يس إِلى َأ َّن الشعر
ال يليق بمرتبة النبوة :
﴾ ( سورة يس . )69 ﴿
إلعجاب فحسب ،و َأهم فالشعر ـ كام الحظه املفرسون ـ ال خيلو من زخرف يراد به إثارة الطرب َأو ا ِ
تنزه القرآن الكريم عن ذلك ،ففيه وقع شديد الت ْأثري يف النفس ،ولكنه الزخارفه الوزن والقافية ،وقد ّ
جيري عىل نسق واحد ك َأوزان الشعر؛ ولكثري من آياته فواصل قد تبدو شبيهة بالقوايف ،ولكنها ال ُتلتزم
كام تلتزم القوايف؛ ذلك بأن القرآن الكريم ال يريد تلهية سامعيه كلهوهم بسامع الشعر ،وإنام يريد تذكريهم
ِ
وتنبيههم ،فهو «ذكر» يوقظ وليس شعر ًا يهُ َ ْدهد ،وهو « قرآن» يتىل وليس ً
غناء ُيترَ َّنم به ،وهو « بيان »
يكشف الغموض « وبالغ» يؤدي الرسالة« ،وفرقان» يميز بني احلق والباطل .
وقد تشبع املسلمون هبذه القيم اجلديدة وخالطت عقوهلم وقلوهبم ،وظهرت يف النثر اإلسالمي
بأوضح مما ظهرت يف الشعر ،وال س َّيام أحاديث الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ وكتبه ،وخطب خلفائه
ِ
عليك اآلن بك نامذج منها يف دروس تاريخ األدب ،ولكننا نعرض الراشدين ورسائلهم ،وقد مرت ِ
إلسالم ،يف تلك املنافرة التي جرت بني وفد متيم حني قدموا نموذج ًا للبالغتني :بالغة اجلاهلية وبالغة ا ِ
إىل رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ بعد فتح مكة ،وخطيب األنصار ثابت بن قيس اخلزرجي ،
وشاعرهم حسان بن ثابت .
والمنافرة نوع من المباراة الكالمية كان معرو ًفا في الجاهلية ،فكان الح ّيان َأو الرجالن إِذا تنازعا
يعدد فضله في الحسب والنسب ،فمن السيادة ُأقيم لهما مجلس مشهود عند َحكَم يرضيانه ،و َأخذ كل ِّ
عال بحجته حجة خصمه َن َّف َر ُه الحك َُم َأي جعل له الفضل على قرينه .وقد كانت جر َأ ًة ومكابر ًة من بني
تميم وال شك أن ينافروا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو ينافروا األنصار في حضرته ،ولكنهم
ِ
قدموا عليه وهم أهل جاهلية ،لم يتأ َّدبوا بأدب اإلسالم ،وظهر ذلك في مسلكهم قبل أن يظهر في
41
أقوالهم ،فقد دخلوا مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونادوه ـ عليه الصالة والسالم ـ من ِ
وراء َّ َّ َّ
حجراته أن اخرج إلينا يا محمد .فتأذى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من صياحهم ،وفي ذلك نزلت
اآليتان الكريمتـان ﴿
﴾ ( سورة الحجرات ) .
منافرة بني متيم والأن�صار فـي جمل�س ر�سول اهلل �صلى اهلل عليه و�سلم :
تقول الرواية :إِن الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ عندما خرج إىل وفد متيم قالوا :يا حممد جئناك
لنفاخرك ،ف ْأذن لشاعرنا وخطيبنا ،قال :قد َأذنت خلطيبكم فليقل ،فقام ُع ِ
طار ُد بن حاجب فقال « :احلمد
املعروف،
َ ُ
نفعل منها عظاما
ً ووهب لنا أمواالً
َ الفضل ،وهو أه ُل ُه ،الذي جع َلنَا ُملوك ًا، ُ هلل الذي ل ُه علينا
ِ
الناس وأويل برؤوس الناس ؟ َألسنا ُِ فم ْن ِم ْث ُلنا يف املرشق وأك َثر ُه عدد ًا ،و َأ َّ
شد ُه ُعد ًة َ ،
ِ أعز َأ ِ
هل وجعلنا َّ
ِ ِ
اإلكثار . الكالم ،ولكننا َتنَ َّح ْينا ِ
عن َ ألكثرنا
ْ عد ْدنا ُه ،وإِنا لو ُ
نشاء مثل ما َ فضل ِه ْم ؟ َف َم ْن َ
فاخ َرنا َف ْل َي ْع ُد ْد َ
فضل من ِ
أمرنا » . بمثل قولِناٍ ،
وأمر َأ َ قول هذا اآلن ت ْأتوا ِ و َأ ُ
ثم جلس ،فقال رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ لثابت بن قيس اخلزرجي :قم فأجب الرجل يف
خطبته ،فقام ثابت بن قيس فقال :
ِ
قطيشء ٌّعلم ُه ،ومل يك ْن ٌ واألرض َخ ْل ُق ُه ، ،قىض فيه َّن َأ َم َر ُه ،ووس َع كرس َّي ُه ُ ، ُ السموات
ُ « احلمد هلل الذي
كر َم ُه نسب ًا ،و َأ َ فعل ِه ،ثم كان من ُقدرتِ ِه َأ ْن جع َلنَا ملوك ًا ،واصطفى من ِ ِ ِ إِلاّ ِمن ِ
صد َق ُه خري خلقه رسوالً َ ،أ َ َ َّ ْ
الناس إىل ثم دعا َ ِ حديث ًا ،و َأفض َله حسب ًا ،فأنزل عليه كتا َب ُه ،وا ْئ َت َمنَ ُه عىل خلقه،
َ وكان خري ًة من العاملني؛ َّ
ِِ ِِ ِ ا ِ
هم ُوجوه ًا، الناس َأحساب ًا ،و َأحسنُ ْ ِ املهاجرون من قومه وذوي رمحهَ ،أ ُ
كرم َ برسول اهلل إليامن به ،فآم َن
ِ
اخللق إِجاب ًة ثم كان َأ َ ِ ِ
رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ ُ حني دعا ُه
استجاب هلل َ
َ ول الناس فعاالً؛ َّ وخري
ُ
ودمهِ،نقاتل حتى يؤمنوا ،فمن آمن باهلل ورسولِ ِه م ِّتع باملِ ِه ِ رسول اهللُ ، ِ ووزراء أنصار اهلل نح ُن؛ فنح ُن
ُ َ َ ُ ُ
وأستغفر اهلل يل وللمؤمنني واملؤمنات ، ُ يسريا َ .أ ُ
قول هذا جاهدناه يف اهلل َأبد ًا ،وكان ْقت ُل ُه علينا ً ْ وم ْن َك َف َرَ
والسالم عليكم » .
42
فقام الزبرقان بن بدر التميمي فقال :
ــب البِ َي ُع ُ ِ
()١
الملــ�وك وفينــا ُتنْ َص ُ منَّا يفـاخ ُرنا حـ�ي
ٌّ الكـــرام فـال
ُ نحـ� ُن
ِ ِ
�ع ُ
وفض�ل الع ِّ�ز ُي َّت َب ُ عن�د النِّه�ابَ وك�م َق َس ْ�رنا م�ن األحي�اء ُك ِّل ِه ُ
�م ْ
م�ن الش�واء إذا ل�م يون�س ال َق�زع ()٢ ِ ِ
القح�ط ُم ْط َع َمن�ا ِ
َ ُ ُ َ عن�د
�م َ ونح� ُن ُن ْطع ُ
فقال رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ حلسان بن ثابت ؛ قم فأجب الرجل فيام قال فقال حسان ـ
رىض اهلل عنه ـ :
ِ الذوائ�ب( )3م�ن فِ ْه ٍ إِ َّن
ب�ع
للن�اس ُت َّت ُِ ن�وا ُس�ن ًةق�د َب َّي ُ
ْ �م�ر وإخوت ِه ْ َ
ِ
وباألمرال�ذي َش َ�ر ُعوا إلل�ه�وى ا ِ
َت ْق َ �ت س�رير ُت ُه كل م� ْن كا َن ْ يرض�ى ب�ه َُّ
ِ
أش�ياع ِه ْم نفعوا النف�ع في ْأو حاول�وا �م
َ ض�روا َع ُد َّو ُه ُ
ُّ ق�وم إذا حارب�وا
ٌ
ش�رها البِ َ
�د ُع َّ س�جي ٌة تل�ك منه�م غي�ر مح َد َث ٍ
فاعل�م ُّ
ْ الخالئ�ق ـ
َ إن �ة ُ ُ ْ ّ
ِ ٍ
س�بق ألدن�ي س� ْبق ِه ْم َت َب ُ
�ع ُّ
ف�كل �م بعد ُه ُ
اقون َ ِ
الن�اس س� َّب َ إن كان ف�ي ْ
�ون م�ا َر َقع�وا
وه َالدف�ا ِع وال ُي ُعن�د ِّ
َ �م�ت أ ُك ُّف ُه ُ
أوه ْ
الن�اس م�ا َ
ُ ال َي ْر َق ُ
�ع
والش� َي ُع
ِّ األه�واء إذا تفاو َت ِ
�ت ُ
رس�ول الل�ه ش�يع ُت ُه ْم أك ِ
ْ�ر ْم بق�و ٍم ،
ُ
الرجل ُمرا ٌد ،لخَ َطي ُب ُهَ فلام فرغ حسـان من قوله ،قال األقرع بن حابس التميمي « :وأيب ،إِ َّن هذا
أشعر من شاعرنا ،وألصوا ُت ُه أعىل من أصواتِنَا» .فأسلموا وأحسن رسول ُ أخطب من خطيبنا ،ولشاعر ُه ُ
اهلل ـ صىل اهلل عليه وس َل َم ـ جوائزهم .
فام الذي دعا األقرع بن حابس إىل أن يقول هذا القول ؟ قد يكون من أســباب ذلك أن خطبة ثابت
ابن قيس كانت أكثر تفصيال من خطبة عطارد بن حاجب ،وكذلك كانت أبيات حسان بالنســبة إىل
( )١البيع :مجع بيعة بالكرس وهي الكنيسة أو هيئة البيع فلعله يدعي معرفتهم بالنرصانية لقرهبم من احلرية ،ولعله أراد أهنم بنصبون جمالس
البيع والرشاء لرواج حاهلم .
( )٢يونس :خمفف عن ْيؤنِس أي يرى ،والقزع صغار اإلبل .
ِ
( )٣مجع ذؤابة وهي من كل يشء أعاله .
43
أبيات الزبرقان ،ولكن هناك سب ًبا َأهم من هذا ،وهوأن خطبة عطارد وشعر الزبرقان ال يؤ ّديان رسالة ما ،
فهام ال خيرجان عند تعداد املفاخر عىل عادة اجلاهليني ،وال خيلوان من تلك املبالغة املمقوتة التي نصادفها
كثريا يف أشعارهم من مثل قول عمرو بن كلثوم. ً
نمــــلؤ ُه ســفينا
ُ ِ
البـــحر ومـــاء
ُ َ
ضـــاق عـنــــا الــرب حتـى
َّ مـ ْ
ألنا
وقوله :
الجـــــبابر ساجدينا
ُ تخـــر لـــه
ُّ رضــيع
ٌ الفطــام لنــــــا
َ إذا بـلغَ
ِ
األداء الحقيقة والواقع، أما خطبة ثابت ،وشعر حسان فإنهما يؤديان رسالة واضحة ،ويلتزمان في هذا
إلسالم ويقرران َأن المسلمين مصممون على إِبالغ الدعوة ،واثقون من نصر الله فهما يعلنان دعوة ا ِ
يقول عطارد عن قومه إنهم َأعز َأهل المشرق وأكثرهم عد ًدا و َأشدهم عدة ،ويغلو حتى يزعم أنهم ليس
مثلهم في الناس ،فال يجيبه ثابت إِال بذكر فضل المهاجرين من قريش ،ومنزلة قريش بين قبائل العرب
إلسالم حقيقة واقعةَ ،أما قومه األَنصار فحسبه أن يقرر سبقهم إِلى ا ِ
إلسالم ،وثباتهم في الجاهلية وا ِ
على الجهاد في سبيل الله ،ونستطيع أن نالحظ مثل هذا الفرق بين أبيات الزبرقان و َأبيات حسان .
فإِذا أقر األقرع بن حابس بالسبق لخطيب األنصار وشاعرهم فذلك إِ ٌ
قرار بالقيم الفنية الجديدة التي
ِ
االدعاء ،واإلقناع بدالً من اإلثارة . رسمها القرآن :البالغ بدالً من المبالغة ،والبيان بدلاً من
44
3ـ ن�شـ�أة علــوم البــالغة
لإعجــاز :
فكـرة ا ِ
كان طبيع ًيا ـ والقرآن الكريم بالغ وبيان ـ أن يشتغل املسلمون بفهم معانيه ،وذلك هو علم التفسري
الذي اشتهر به بعض الصحابة وعىل ر ْأسهم عبد اهلل بن عباس ريض اهلل عنهام ،ولكنهم كانوا ـ وهم أهل
اللغة ومعدن الفصاحة ـ يف غري حاجة إىل َأن يبحثوا يف العالقة بني َألفاظه ومعانيه ،فقد كانوا يدركون
بفطرهتم َأن لفظ القرآن عريب وصياغته عربية ،ويفهموهنا كام يفهمون الشعر العريب والكالم العريب،
معجزا ال يشبه فيه كالم آخر ،أي أهنم كانوا
ً ويشعرون مع ذلك َأن للفظ القرآن وصياغته ً
هنجا متفر ًدا
ال دون َأن يشعروا بحاجة إىل البحث يف أرساره .فلام امتزج العرب يدركون اإلعجاز فطرة ويقرون به عم ً
حس العربية بالتعلم ،مل جيدوا بد ًا من دراسة َألفاظ القرآن بغريهم من األمم واحتاجوا إىل اكتساب ّ
للتوصل إىل فهم معانيه ،ومعرفة الرس يف إعجازه .وقد وجدت أقوال تذهب إىل َأن إِعجاز القرآن يرجع
إىل ما فيه من أخبار عن املغ َّيبات كقوله تعاىل :
﴾ ﴿
( سورة الروم )
حتداهم أن
إلعجاز وال شك ،ولكنه ليس النوع الذي حتدى به القرآن العرب ،فقد ّ وهذا نوع من ا ِ
يأتوا بسورة واحدة من مثله، ،ومل يرد اإلخبار عن املغيبات يف مجيع سور القرآن ،هذا إىل َأن التحدي إنام
يكون يف أمر يظنون أهنم قادرون عليه ،وما كان شعراؤهم وخطباؤهم يدعون علم الغيب ،إِنام كانوا
يدعون القدرة عىل الكالم البليغ .ومن ثم فقد غلب الر ْأي القائل ب َأن إِعجاز القرآن يرجع إىل بالغته ،
وبقي حتقيق القول يف هذه البالغة .
وهنا نالحظ َأن البحث يف إعجاز القرآن مر بمرحلتني :
45
1ـ مرحلة التفسري اللغوى ملعاين القرآن الكريم .
2ـ مرحلة التصنيف العلمي جلهات اإلعجاز البالغي .
يف النصف الثاين من القرن الثاين اهلجري ،اكتملت علوم اللغة ضبـط ًا وتنظيماً ،يف هذه الفـرتة مجع (
اخلليل بن أمحد ) أول معجم عريب شامل وهو الذي ُس ّمي « كتاب العني » ألنه كان يبد ُأ بالكلامت التي
َأوهلا حرف العني ،وكتب سيبويه كتابه اجلامع يف النحو وهو الذي َأصبح عمدة جلميع النحويني من بعده
وكانت املادة اللغوية والنحوية جتمع من أفواه األعراب الفصحاء ومن الشعر القديم الذي عني بروايته
علامء مثل ( األصمعي وأيب عبيدة) .وكان هذا اجلهد رضور ًيا للحفاظ عىل لغة القرآن الكريم حني
إلسالم أقوام من غري العرب ،وظهر من العرب َأنفسهم جيل « ُمو َّلد» من ُأمهات غري عربيات دخل ا ِ
فكان هؤالء و ُأولئك بحاجة إىل تثقيف ألسنتهم بإنشاء الشعر وحفظ مفردات اللغة وضبط قواعدها،
تفسريا لغو ًيا يكشف عن معاين مفرداته ووجوه إعرابه،
ً واحتاجوا كذلك إىل َأن ُي َفسرَّ َ هلم القرآن الكريم
إلسالم أن يثريوها للطعن يف كتاب اهلل .الش َبه التي حاول أعداء ا ِ كام احتاجوا إىل رد ُّ
إلسالم كانوا يدركون بسالئقهم السليمة َأن القرآن الكريم وقد َأسلفنا َأن العرب األَقحاح يف صدر ا ِ
يب مبني ،فحروفه حروفها وكلامته كلامهتا وأبنيته أبنيتها وهو ـ عىل ذلك ـ ال يشاكل شي ًئا ُأنزل بلسان عر ّ
من كالم فصحاء العرب املشهود هلم بالبيانَ .أما املوايل واملو َّلدون فكانوا بحاجة إىل من يبينّ هلم األمرين
مع ًا :أن القرآن الكريم جيري عىل قواعد العرب يف لغتها ،وأنه متميز بنهج خاص يف استعامل هذه اللغة،
هو رس إعجازه ،فقد كانت ِتر ُد عليهم ،حني يقرؤون القرآن ،أشكال من التعبري يعجزون عن ردها
إلسالم يدخلون عليهم من هذا الباب ،ليشككوهم يف صحة عداء ا ِ
إىل القواعد التي تعلموها ،فكان َأ ُ
إلسالم .وهنا تظهر كتب تتناول « غريب القرآن» و«مشكل القرآن» و«إعراب لنبي ا ِ
املعجزة الكربى ّ
القرآن» لتوضح هلم ما تقرص كتب اللغة العادية عن إيضاحه من معاين القرآن الكريم .
ىَّ
املتوف سنة 210هـ) . من أوائل هذه الكتب كتاب « جماز القرآن » ( أليب عبيدة معمر بن املثنى) (
46
علامء اللغة واألدب يف البرصة .وينبغي أن نالحظ أن كلمة « جماز» يف هذا العنوان ال تعني ِ وكان من أئمة
بالضبط ما أصبحت تعنيه بعد ذلك يف كتب البالغة .فأبو عبيدة يستعمل كلمة املجاز يف مقدمة الكتاب
ُف عن خربه بمعنى « طريقة التعبري » فيقول مثال « :ومن جماز ما ُح ِذ َ
ف وفيه ُم ْض َم ُر « »..ومن جماز ما ك َّ
جاءت خماطبته خماطبة الشاهد ثم تركت وحولت خماطبته هذه استغناء عنه وفيه ضمري « » ..ومن جماز ما َ
إىل خماطبة الغائب » ..فكلمة جماز يف هذه املواضع تدل عىل ما تدل عليه اليوم بكلمة « ُأسلوب » .وبعد
املقدمة ي ْأيت تفسري املواضع ا ُمل ْش ِك َلة من السور ،عىل ترتيبها يف املصحف الرشيف ،وهنا نجد كلمة ( جماز)
مساوية لكلمة (معنى) مرة ولكلمة (تفسري) مرة ُأخرى ،فمن األول قوله يف تفسري أول آية من سورة
يونس « :تلك آيات الكتاب احلكيم جمازها :هذه آيات الكتاب احلكيم ،أي القرآن .واحلكيم :جمازه
ا ُمل َحكم ا ُملبِني ا ُملوضح ،والعرب قد تضع ( َف ِعيل) يف معنى( ُم ْفعل) ،ويف آية ُأخرى :هذا ما لدي عتيد ،
جمازة ُ :معد ».
كثري منهم» جمازه عىل وجهني :أحدمها
وص ُّموا ٌ
جاء يف تفسري قوله تعاىل َ « :ع ُموا َ ومن القسم الثاين ما َ
َأن بعض العرب يظهرون كناية االسم مع إظهار االسم الذي بعد الفعل ،كقول أيب عمرو اهلذيل :أكلوين
سكت ،فتست ْأنف
ّ قلت :عموا وصموا ،ثمالرباغيث ،واملوضع اآلخر َأنه ُم ْس َت ْأ َنف ألنه يتم الكالم إِذا َ
فتقول ،كثري منهم .
و«املجاز» يف استعامل أيب عبيدة يمكن ـ عىل هذا ـ َأن يشمل مجيع األساليب البالغية ،ولكنه يف الواقع
يشري إشارات جمملة إىل بعض منها فقط ،كاحلذف واملجاز املرسل( دون َأن يسميه هبذا االسم ) وخروج
االستفهام عن معناه إىل معنى التقرير ،ويالحظ َأن َأبا عبيدة يكتفي بالداللة عىل معنى اللفظة القرآنية
أو الرتكيب القرآين دون َأن يبني الرس يف جميئها عىل غري األسلوب امل ْألوف ،أي َأنه ينبه عىل خصائص
األسلوب القرآين فحسب ،دون أن يبني ت ْأثريها يف املعنى ،وال غ َْرو فنحن ال نزال يف بدايات البحث
إلعجاز وتكتمل معه علوم البالغي ،والبد َأن ننتظر قرابة ثالثة قرون حتى يكتمل البحث يف أرسار ا ِ
البالغة .
ىَّ
املتوف سنة 209هـ ،وكان شيخ النحويني ومن معارصي َأيب عبيدة ( َأبو زكريا يحَ ْ يى بن زياد الفراء)
47
يف الكوفة ،وله كتاب « معاين القرآن» والصنعة ا ِ
إلعرابية هي الصفة الغالبة عىل هذا بالكتاب ،فهو ُي ْعنَى
إلعراب ،وما يتخللها من حذف يوجب ببيان ارتباط األَلفاظ بعضها ببعض ،وما جيوز فيها من وجوه ا ِ
النحو تقديره .وهو مثل « جماز القرآن » من حيث االكتفاء ببيان َأصل الرتكيب اللغوي واالستشهاد بام
يشبهه من كالم العرب ،دون الدخول يف الفروق الدقيقة بني ُأسلوب و ُأسلوب .
اهتامما باألَدب.
ً ولكن الناحية البالغية ال تلبث َأن تظهر يف كتاب ثالث لعامل بغدادي يمتاز ب َأنه كان أكثر
هذا الكتاب هو « ت ْأويل مشكل القرآن» البن قتيبة املتوىف سنة 286هـ )1( .وقد َأفاد من الكتابني السابقني،
املتوف سنة (255هـ) وابنىَّ كام َأفاد كثري ًا من املالحظات املتفرقة ،التي وردت يف كتب ُأستاذه اجلاحظ
واضحا ،كام يتحدث عنً متييزا
قتيبة يتحدث بكثري من التفصيل عن املجاز واالستعارة ،وإن مل يميز بينهام ً
احلذف ،والتكرار ،والكناية ،وبعض املعاين التي خيرج إليها االستفهام واألمر ،وكثري من الشواهد التي
جاء هبا ابن قتيبة دخلت فيام بعد يف كتب البالغة .
َ
لإعجاز :
الت�صنيف العلمي لأبواب ا ِ
إلعجاز يف القرآن الكريم ،ومنها كتاب ظهرت يف القرن الرابع عدة كتب قصدت إىل بيان نواحي ا ِ
ىَّ
املتوف ىَّ
املتوف سنة 386هـ .وكتاب « بيان إعجاز القرآن » للخطايب «النُّكَت يف إعجاز القرآن» ( للرما ّنى)
ىَّ
املتوف سنة 403هـ . سنة 388هـ .وكتاب « إعجاز القرآن » للباقالين
ويف هذه الكتب ُع ِرضت ُأمهات املسائل البالغية ،وقد َأفاد َأصحاهبا من التفاسري اللغوية التي حتدثنا
عنها يف القرة السابقة ،كام أفادوا من دراسات نقاد الشعر التي سنتحدث عنها فيام بعد ،ولكنهم امتازوا
جاءت كتب ا ِ
إلعجاز َأكثر استيعا ًبا لوجوه عن الفريقني م ًعا بخَ صلتني َ :أوالمها تفصيل األَقسام ،بحيث َ
البالغة من الكتب السابقة ،واخلصلة الثانية بيان األسباب التي ألَجلها كانت األَساليب البالغية َأقوى
ت ْأثري ًا يف النفس من األَساليب العادية .ولعل كتاب « النكت يف إعجاز القرآن» ( للرماين) هو َأهم الكتب
( )1انظري النص الثالث من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
48
تأثريا يف املؤلفات البالغية من بعد ( .)1فإىل جانب اخلصلتني اللتني سبقت ا ِ
إلشارة التي ذكرناها ،و َأعظمها ً
ال بأنه « تقليل الكالم
إليهام ،امتاز كتاب الرماين بالتعريفات املحكمة الواضحة ،فهو يعرف ( اإلجياز ) مث ً
ويفرق بني ا ِ
إلجياز والتقصري أو ِ ِ من غري إِخالل باملعنى» ويقسمه إىل نوعني :إجياز َح ْذف
وإجياز قرصّ ،
إلطناب والتطويل وقد َأخذ مؤلفو كتب البالغة ـ من بعد ـ هذه األفكار كلها إلخالل ،كام يفرق بني ا ِ ا ِ
كثريا من نامذجه ،كتمثيله إلجياز القرص بقوله تعاىل « ولكم يف القصاص حياة » الرماين ،كام أخذوا ً عن ّ
ومقارنته بقول العرب « :القتل أنفى للقتل » .
يسد مسد اآلخر يف ِح ِّس َأو عقل» ،ويقسمه قسمني ويعرف التشبيه ب َأنه « ال َع ْقد عىل َأن َأحد الشيئني ّ
ّ
أيض ًا :تشبيه شيئني متفقني بأنفسهام ،وتشبيه شيئني خمتلفني ملعنى جيمعهام مشترَ ك بينهام ،والقسم الثاين ـ
ال ما اصطلح البالغيون ِ
البلغاء ،وهو فع ً الشعراء وتظهر فيه بالغة الرماين ـ هو الذي يتفاضل فيه
ُ كام يقول ّ
عىل إطالق اسم التشبيه عليه .ويفسرِّ بالغة التشبيه بام فيه من البيان ،والبيان يف التشـبيه يكون عىل وجـوه
:منها تصوير غري املحسوس يف صورة املحسوس .
كقوله تعاىل :
﴾ ﴿
( سورة النور )39
ومن وجوه البيان يف التشبيه إخراج غري امل ْألوف يف صورة امل ْألوف كقوله تعاىل يف صفه يوم القيامة
﴾ ( سورة الرمحن . )37 ﴿
ومنها إِخراج ما ال ُي ْع َلم بالبدهية إىل ما يعلم بالبدهية كقوله تعاىل :
﴾ ﴿
( سورة العنكبوت )41
جاء
وكذلك يصنع الرماين يف باب االستعارة .وقد نقلت كتب البالغة يف العصور التالية معظم ما َ
يف هذين البابني ،واهتم الرماين بوجوه أخرى من ا ِ
إلعجاز القرآين أشار إليها سابقوه إشارات عابرة،
( )1انظري النص السادس من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
49
وقرص عن توفيتها حقها من أتوا بعده ،من ذلك كالمه عن «الترصيف» أي تناول املعنى الواحد بطرق ّ
خمتلفة ،وهذا من َأ َج ّل وجوه ا ِ
إلعجاز يف القرآن الكريم ،وأجدرها بعناية البلغاء ،فالقرآن الكريم يتناول
إلنسان ،وأحوال الكفار ،وأحوال املنافقني ،وقصص األُمم السابقة ،يتناول البعث واحلساب ،وخ ْلق ا ِ
كل موضوع من هذه املوضوعات يف سور كثرية ،فتتنوع طرق التناول دون أن تتعارض ،أو تتناقض
ويكون من ذلك تشويق للسامع وتثبيت للعظة ،وتأكيد للتحدي .
ويفصل الرماين القول « التالؤم» أي تناسب احلروف من الناحية الصوتية ،وهو باب من أبواب ِّ
وقل من عنوا به من البالغيني بعد ،ومعظم كتب قل من أشاروا إليه قبل الرماينّ ، إلعجاز القرآين ّ ا ِ
فصيحا ،وال تقف عند ما ن ّبه إليه
ً البالغة املت َأخرة تكتفي باشرتاط « اخللو من التنافر » :ليكون الكالم
الرماين من ( التالؤم) ال يعني جمرد اخللو من التنافر ،فليس كل كالم خال من تنافر احلروف متالئماً
بدرجة واحدة ،بل إنه يتفاوت يف درجات هذه الفضيلة و َأعاله القرآن الكريم .
إلعجاز من َأما كتاب «بيان إعجاز القرآن» للخطايب ( )1ف َأقل تفصيال من الناحية النظرية ،فهو يتناول ا ِ
جهة اللفظ واملعنى ،فقوام البالغة ثالثة عوامل :معنى ،ولفظ ،ونظم يؤلف بينهام ،وقد بلغ القرآن الكريم
درجة تعجز عنها قوى البرش من هذه اجلهات الثالث ،ومجع يف نظمه بني صفتي الفخامة والعذوبة ،ومها
كالضدين ،فإما َأن يميل الكالم إىل هذه وإما إىل تلك .
ّ صفتان تبدوان يف كالم البرش
ويمتاز كتاب اخلطايب بعد ذلك بإيراد األَمثلة الكثرية للتدليل عىل قيمة اللفظ القرآين َأو الرتكيب
مشريا إىل الفروق الدقيقة بني معاين املفردات التي تبدو مرتادفة ،أو الرتاكيب
ً القرآين يف سياقه اخلاص،
التي تبدو متقاربة ،ومبينًا األرسار اللطيفة يف استعامل كلمة يبدو للنظر القارص َأن غريها أحق منها بذلك
املوضعَ ،أو تركيب يخُ َ َّيل إىل من ال حيسن الفهم َأن فيه عدولاً عن الوجه .
وكان هلذه األَفكار امتدادها لدى عبد القاهر اجلرجاين ،الذي يعد مؤسس علم البالغة ،كام سنعرف
بعد قليل .
ولكننا ال نختم هذه الفقرة قبل َأن نشري إىل الكتاب الثالث من الكتب التي ُألفت حول إعجاز القرآن
( )1انظرى النص السادس من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
50
يف القرن الرابع ،هو كتاب « إعجاز القرآن» للباقالين ( .)1وقد نقل الباقالين عن الرماين وجوه ا ِ
إلعجاز
ِ
األدبـاء كابن املعـتز وقدامة التي َأوردها يف كتـابه « النـكت يف إعجاز القـرآن» ،كام نقل عن بعض
كثريا من وجوه البالغة التي َأطلق عليها بعضهم اسم بن جعـفر (سنتحدث عنهام يف الفصل التايل) ً
يضا ،وهو أن هذه الوجوه « البديع» ،ولكن الباقالين انفرد عن هؤالء مجي ًعا بر ْأي له طرافته ووجاهته َأ ً
إلعجازإلعجاز ،وحجته يف ذلك َأهنا يمكن َأن تحُ َ َّصل بالدراسة واملران ،وإنام ُي ْع َرف ا ِ ال تكفي لتعليل ا ِ
بائتالفها مجي ًعا يف َن ْظ ٍم ال يقدر البرش َأن ي ْأتوا بمثله .ولكنه مل يوضح ما يقصده «بالنظم» .
املتوف سنة 471هـ ) املؤسس احلقيقي لعلم البالغة ( )2فقد تناول فكرة ىَّ ُيعد عبد القاهر اجلرجاين (
«النظم» التي َأشار إليها سابقوه إشارات مبهمة فحدد معناها بأنه استعامل الرتاكيب النحوية يف مواضعها
الالئقة هبا ،فنحن نقول :انطلق زيد وينطلق زيد وزيد ينطلق وزيد منطلق وزيد املنطلق واملنطلق زيد
ويف هذه اجلمل كلها ُتنْسب إىل زيد صفة االنطالق ،ولكن لكل تركيب من هذه الرتاكيب داللة خاصة
بحيث ال يصلح واحد منها يف املكان الذي يصلح له آخر .وقد تتبع عبد القاهر يف كتابه « دالئل اإلعجاز»
إلخبار بالفعل وت ْأكيد اجلملة االسمية «بإِن» واستعامل
إلخبار باالسم وا ِ خصائص الرتاكيب النحوية ،كا ِ
«الذي» وحذف املبتدأ من اجلملة االسمية ..إلخ ،.وألح عىل تأكيد الفروق املعنوية التي حيدثها استعامل
ُأسلوب دون أسلوب .وملا كان النَ ْظم راج ًعا إىل مالحظة الفروق املعنوية الدقيقة بني الرتاكيب النحوية
التي تشرتك يف أصل املعنى ( كنسبة صفة االنطالق إىل زيد ) فقد عرب عنه عبد القاهر اجلرجاين بأنـه
جاءت تسمية ( علم املعاين التي استخدمها البالغيون من مراعـاة ( معاين النحو ) ومن هذا التعبري َ
مؤسسا لعلم البيان ،عىل الرغم
ً مؤسسا لعلم املعاين ،فقد ُع ّد كذلك
ً بعده) .وكام ُع َّد عبد القاهر اجلرجاين
من َأ َّن َأبواب هذا العلم قد ُعرفت كلها ( املجاز ـ االستعارة ـ التشبيه ـ الكناية) عند سابقيه ،ولكنه فصل
( )1انظري النص الثامن من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
( )2انظري النص التاسع من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
51
القول فيها مبينًا تأثريها يف املعنى عىل نحو ما فعل بالرتاكيب النحوية ،واعترب أساليب البيان خاضعة
للنظم ،بحيث ال يتم مجال التشبيه َأو االستعارة إال برتتيب الكلامت يف اجلملة عىل نحو معني .
وقد اقترصت جهود املؤلفني الذين تلوا عبد القاهر اجلرجاين مثل الفخر الرازي ( املتوىف سنة 606هـ)
إلعجاز » والسكاكي ( املتوىف سنة 626هـ ) صاحب كتاب «مفتاح إلجياز يف دراية ا ِ
صاحب كتاب «هناية ا ِ
إلعجاز» «وأرسار العلوم» ،اقترصت هذه اجلهود عىل تلخيص كتايب عبد القاهر اجلرجاين « دالئل ا ِ
مكونة من علمني أساسني ومها ( :علم املعاين ) ، البالغة» وإعادة تبوهيام ،واعتربوا َأن علوم البالغة َّ
(وعلم البيان) ،وعلم إِضايف ِّ
مكمل هلام وهو ( علم البديع ) عىل ما مر بك يف العام املايض .
52
4ـ تطور النقد وارتباطه باملباحث البالغية
كان تيار البحث يف إعجاز القرآن الكريم هو أقوى التيارات التي عملت يف تكوين البالغة العربية،
وإىل جانب ذلك استمر تيار نقد الشعر الذي عرفنا بداياته يف العرص اجلاهيل ،وانضم إليه تياران جديدان،
ومها :تعليم اخلطابة وتعليم الكتابة ،فعملت هذه التيارات األَربعة جمتمعة عىل تشكيل النقد العريب الذي
بلغ قمة ازدهاره يف القرن الرابع ،وكان للظروف احلضارية التي عاش فيها العرب يف العرص العبايس،
واتصاهلم بالثقافات األجنبية وال سيام الثقافة اليونانيةَ ،أثرها يف تطور النقد وتعدد اجتاهاته .
حتى إذا كان العرص احلديث ظهرت مؤثرات حضارية جديدة كان هلا ت ْأثريها الضخم ال يف األَدب
تقدم وسائل النقل ،مما سهل والنقد وحدمها ،بل يف تغيري وجه احلياة كلها ،ويف مقدمة هذه العوامل ُّ
االتصال بني األُمم املختلفة ،واخرتاع املطبعة وانتشار الصحافة ،مع ما كان هلام من َأثر يف اتساع اجلمهور
القارئ وتنوع فنون األدب واجتاهاته .وقد شملت هذه التغيريات العامل العريب فيام شملت من مناطق
العامل ،فتأثر األدب العريب باألدب الغريب يف فنونه واجتاهاته ،ودخل يف دور ازدهار جديد كان للنقد
مكان ظاهر فيه .
وظل النقد وثيق الصلة بالبالغة طوال القرون األُوىل ،ثم ضعف النقد ،ومجدت البالغة ،حتى إذا
ِ
والتأثري الكيل للعمل األديب ،دون االهتامم جاء العرص احلديث غلبت العناية باالجتاهات العامة لألدب َ
ِ
إحياء البحث بالعبارة األدبية ،فتضاءل دور البالغة يف النقد ،ولكنه َأخذ يف العودة إىل سابق ش ْأنه ،بفضل
يف الدراسات البالغية .
علامء اللغة واألدب منذ بداية عرص التدوين بجمع الشعر القديم لإلفادة منه يف تفسري القرآن
ُ اهتم
53
الكريم ،وقد رووا عن ابن عباس ـ ريض اهلل عنهام ـ أنه قال « :إذا تعاجم عليكم يشء من القرآن
هؤالء العلامء هي أن بعض الرواة ِ فانظروا يف الشعر ،فإن الشعر عريب » .وكانت املشكلة التي واجهت
علامء اللغة واألدب بفحص املتقدمني ،ولذا ُعنِي
ّ ِ
الشعراء كانوا يأتوهنم بشعر مصنوع يدعون نسبته إىل
ُ
جاءت كلمة (نقد) ألهنا تدل يف أصل األساليب لتمييز الشعر األَصيل من الزائف املنحول ،ومن هنا َ
معناها عىل نقد الدراهم لتمييز الصحيح من الزائف ،ثم اتسع معناها فيام بعد لتدل عىل متييز اجليد من
الرديء .عىل أن نقد الشعر ـ األول ـ كان يعتمد إىل حد كبري عىل احلسـن املبهم ،أو الذوق غري املع َّلل،
املتوف سنة 232هـ) يف كتابه ىَّ وقد دافع عن هذه الفكرة َأحد متقدمي النقاد وهو حممد بن سالم ُ
اجل َمحي (
« طبقات الشعراء» ،وظل صداها يرت ّدد يف النقد العريب طوال العصور ،وبعد اتساع معناه .
والفرزدق ،ألهنم ِ إلسالميني كجرير الشعراء املحدثون ( وقد نطلق هذه التسمية عىل الشعراء ا ِ
ُ ثم ظهر
القدماء وهم اجلاهليون واملخرضمون ) والشعراء املو َّلدون ( أي ِ يعدون حمدثني أي جد ًدا بالقياس إىل
ِ
وهؤالء ِ
هؤالء شعراء العرص العبايس الذين نشؤوا عندما اختلط العرب بغريهم من األجناس) وكان من ُ
ِ
هؤالء العلامء أنه كان شعراء فحول ،ولكن علامء اللغة توقفوا يف رواية أشعارهم ،حتى ُر ِوي عن بعض
يقول « :لقد كَثر هذا ا ُمل ْحدث وحسن حتى لقد مهمت َأن آمر فتياننا براويته » .
ِ ُ ِ
املتوف سنة 255هـ ) ىَّ هؤالء اجلاحظ ( دباء ونقاد الشعر يف القرن الثالث هبذه القضية ،ومنوشغل األُ ُ
(املتوف سنة 286هـ ) وكانت خالصة ر َأي اجلاحظ أن عامة أهل البادية أشعر من عامة أهل ىَّ وابن قتيبة
شعراء املولدين من يأيت باجليد الفائق ،وقد َر َوى ِ األمصار ( أي غالبيتهم) ولكن ذلك ال ينفي أن من
رد ّياته َو َيرى َأ َّن شعراءهؤالء ومنهم أيب نواس الذي كان اجلاحظ يستحسن َط ِ ِ اجلاحظ نفسه لبعض
البادية مل ي ْأتوا ب ْأجود منها يف صفة الكلب والصيد .
أما ابن قتيبة فقد عرب رصاحة عن اعتقاده بأن قضية «.القدماء واملحدثون » خاطئة من أساسها ،و َأنه
رداءته يف نفسه أي برصف النظر عن قائله ،وقد فتح هذا الر ْأي با ًبا واس ًعا جيب النظر إىل جودة الشعر أو َ
رداءتِه ،فال يكتفون باألحكام الذوقية للنقد إذ أصبح عىل النقاد أن ينظروا يف َأسباب جودة الشعر أو َ
غري املع َّللة وال باألحكام اجلزئية عىل البيت أو البيتـني أو القصيدة أو القصيدتني ( كام رأينا يف العصـر
اجلـاهيل ) وكان السؤال األهم الذي حاول نقاد الشعر اإلجابة عنه هو َ :أين يكمن مجال الشعر :أيف لفظه
54
أم يف معناه ؟ وكان ر َأي اجلاحظ أن مجال الشعر يرجع إىل لفظه ،وعنى باللفظ هنا ما ُس ِّمي حسن السبك،
أو ما ُن َس ّميه اليوم مجال الشكل .
ِ
والرداءة َأما ابن قتيبة فقد ر َأى َأن الشعر يت َألف من عنرصين :لفظ ومعنى ،وأنه من حيث اجلودة
َأقسام أربعة :فقسم منه جاد لفظه ومعناه ،وهذا هو الشعر البارع الفائق ،وقسم جاد معناه دون لفظه ،
وهو الشعر الذي حيتوي عىل حكمة أو معنى رشيف مع كون اللفظ خاليا من الرشاقة والعذوبةِ ،
وق ْس ٌم ً
حال لف ُظه فإِذا َأنت فتشته مل حتظ بطائل ،وقسم انحط لفظه ومعناه ،وهذا هو أردأ األقسام األربعة .
عىل َأن النزاع حول القدماء واملحدثني مل هيدأ طوال القرن الثالث بل اختذ َأشكاال جديدة ،فقد ظهر
من املحدثني من بالغوا يف الصنعة الشعرية ،مثل مسلم بن الوليد وأيب متام ،فقلام كان خيلو بيت يف قصيدة
ألحدمها من استعارة أو طباق أو جناس ،وربام اجتمع يف البيت بالواحد لونان من هذه األلوان ،وربام
اجتمعت األلوان الثالثة ،فسمي هذا األسلوب « البديع » .
إلحسان، ويبدو أنه حني تقدم القرن الثالث ُو ِج َد من مل يكتفوا بالقول أن املحدثني شاركوا القدماء يف ا ِ
ِ
جاء ابن املعتز ،وهو نفسه بل ذهبوا إىل َأن املحدثني امتازوا عىل القدماء هبذا األُسلوب « البديع» .وهنا َ
َأحد كبار الشعراء املحدثني ،إِال َأنه شديد االعتزاز بالرتاث ،فقام بمهمة مزدوجة ،فمن جهة َ :أخذ يتتبع
سم منها من قبل اسماً ،وقد اهتدى إىل َأهم األنواع البديعية ،ومن ثم ألوان البديع وحيصيها ويضع ملا مل ُي َّ
مؤسسا للعلم الثالث من علوم البالغة وهو علم البديع؛ ومن جهة ُأخرى أخذ يورد أمثلة لكل نوع ً ُع َّد
بديعي من القرآن الكريم ،واحلديث الرشيف وأقوال الصحابة والشعر القديم ،ثم يتبعها ب َأمثلة من شعر
املحدثني ،ليثبت قضية أساسية وهي َأن املحدثني مل يبتكروا هذه األَنواع وكتا ُب ُه ُيعد من هذه الناحية كتا ًبا
نقد ًيا (. )1
و ُبعيد تأليف كتاب « البديع» ( 274هـ) ظهر كتاب « نقد الشعر » لقدامة بن جعفر .وكان قدامة من
َأهل املنطق ،واملت َأثرين بالفلسفة اليونانية ،ف َأقام كتابه عىل أساس عقيل منطقي ،وجعل هدفه َأن يضع
معيارا تقاس به جودة الشعر ،فك َأنه َأراد َأن يكمل عمل اجلاحظ وابن قتيبة .
ً
( )1انظري النص الرابع من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
55
بدأ قدامة كتابه بأن عرف الشعر بأنه « كالم موزون مقفى يدل عىل معنى » واستخلص من هذا
التعريف عنارص أربعة يتألف منها الشعر ،أي أنه زاد عنرصين عىل عنرصي اللفظ واملعنى اللذين حتدث
عنهام ابن قتيبة ،وهذا العنرصان مها الوزن والقافية ،حاول أن حييص « النعوت» أو أوصاف احلسن التي
ترجع إىل كل عنرص من العنارص األربعة ،وإىل ائتالف بعضها مع بعض ،وأدخل يف هذه النعوت كثري ًا
من األنواع البديعية التي ذكرها ابن املعتز .
ويف القرن الرابع انتقلت قضية « القدماء واملحدثني» نقلة ُأخرى تتلخص فيام سمى «عمود الشعر» .
واملقصود هبذا االصطالح طريقة القدماء التي متيل إِىل االعتدال يف كل ٍ
يشء :إىل متانة النظم دون إِرساف
يف الت َأنق ،وطرافة املعنى دون إِرساف يف التعمق .أو كام قال البحرتي يفخر بشعره :
ِ
الـتـعـقـــيـد وجتـنَّـ ْبـ َن ُظـلـمــــ َة اختـيــارا مل الكــال ِمُح ْز َن ُم ْســت ْع َ
ً
ِ
الـبـعـيد ـ َن بــه غــــاي َة املـــــرا ِم القـــريب فأدركـ َ
اللفـــظ ِ
وركـ ْب َن
َ
فانقسم النقاد فريقني :الفريق الذي حيرص عىل «عمود الشعر « أي عىل طريقة الشعر القديم ،والفريق
الذي تعجبه الصياغة الطريفة واألخيلة البعيدة ،واملعاين الفلسفية .وكان الفريق األول يتعصب للبحرتي
والفريق الثاين يتعصب أليب متام ،فألف اآلمدي ( املتوىف سنة 370هـ) كتاب « املوازنة بني الطائيني» ()١
واستهله بتعريف عام بمذهب كل من الشاعرين ،مذهب التمسك بعمود الشعر ،ومذهب امليل إِىل
التدقيق « وفلسفي الكالم» ،و َأعلن َأنه ال يقصد إِىل تفضيل َأحدمها عىل اآلخر ،وإنام يريد أن يثبت لكل
إلجادة ،و َأن ينقد عليه ما يف شعره من الساقط والرديء وبعد َأن فعل ذلك َأخذ يوازن منهام حظه من ا ِ
بني معانيهام اجلزئية يف شتى أبواب الشعر .
وهكذا نرى أن فكرة «املوازنة» تعود إىل الظهور بقوة كام كانت عند القدماء ،ولكنها تأخذ شكلاً
قصيدة
َ طلق احلكم بتفضيل شاعر من َأجل ِع ْل ِم ًّيا ،وحتاول أن تتخلص من األحكام التأثرية التي كانت ُت ِ
أو بيت يف قصيدة .وقلام تبني السبب يف استحسان هذه القصيدة أو هذا البيت .
وتشبه اخلصومة ،التي قامت بني أنصار البحرتي وأنصار أيب متام ،تلك التي قامت بني املعجبني بشعر
املتنبي والزارين عليه .ويشبه موقف اآلمدي الذي حاول أن يكون َم ْو ُضوع ّي ًا يف املوازنة بني البحرتي
( )١انظري النص األول من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
56
ف القايض عيل بن عبد العزيز اجلرجاين ( املتوىف سنة 392هـ ) الذي حاول كذلك َأن و َأيب متامَ ،م ْو ِق َ
يقف وقفة موضوعية بني املتعصبني للمتنبي واملتهجمني عليه يف كتابه « الوساطة بني املتنبي وخصومه »
.وتسيطر عىل هذا الكتاب كسابقه فكرة « عمود الشعر » .
وقد بلغ نقد الشعر يف هذين الكتابني َأوج ازدهاره ،ومل ي ْأت بعدمها حتى العرص احلديث ما يقارهبام
والرداءة فيها .
َ دقة منهج وشمول نظرة ،مع التعمق يف حتليل النامذج الشعرية وبيان مواضع اجلودة
يبدو َأن كثري ًا من الناطقني بالعربية يف القرن الثاين اهلجري كانوا يف حاجة إىل تدريبهم عىل كيفية النطق
واإللقاء ال إىل معرفة القواعد النحوية فحسب ،فقد فسدت األلسنة بمخالطة األعاجم ،ويدل عىل ذلك
احليز الكبري الذي خصصه اجلاحظ من كتابه « البيان والتبيني» للكالم عىل عيوب النطق .عىل َأن التدريب
داء الصحيح ألصواهتا ،فال بد من مراعاة صحة التعبري عن عىل إجادة اللغة كالما ال يقترص عىل جمرد األَ ِ
ً
املعنى والربط بني اجلمل ،مع ختري األُسلوب املناسب حلال املخاطب ومبلغ حظه من الثقافة ..إلخ ،.أي
أن تعليم اللغة املتك َّلمة ُيفيض بالرضورة إىل تعليم اخلطابة .وقد ضاعف من االهتامم بتعليم اخلطابة يف
ذلك العرص ظهور طائفة املعتزلة ،وهم أهل كالم وجدل.
وصحيفة برش بن املعتمر ( املتوىف 210هـ ) تصور العناية بتعليم اخلطابة بني بيئات املعتزلة وبني عامة
املتعلمني أيض ًا ( .)1وقد َأورد اجلاحظ نص هذه الصحيفة يف كتابه « البيان والتبيني » ويقول اخلرب الذي
مر ب َأحد اخلطباء وحوله مجاعة من َأورده اجلاحظ إن برش بن املعتمر ( وكان شيخ املعتزلة يف بغداد ) َّ
الفتيان يعلمهم اخلطابة ،فوقف يسمع ،فظن املعلم َأن برش ًا إنام وقف ليستفيد ،ثم دفع برش إليه ،صحيفة
من حتريره ،مجع فيها نصائح ملن يريد َأن يتصدى ملخاطبة اجلامهري ،ومل يقترص عىل فن اخلطابة بل تكلم
منظوما .فلام ُقرئت الصحيفة قال املعلم :
ً منثورا َأم
ً عىل فن القول عموم ًا ،سواء َأكان منطو ًقا أو مكتو ًبا،
ِ
هؤالء الفتية . إنني َأحوج إىل هذه الصحيفة من
( )1انظري النص األول من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
57
وصحيفة برش حتتوي عىل عدة َأفكار كان هلا ت ْأثري كبري يف البالغة والنقد من بعد ،و َأوهلا َأن البالغة
تقوم عىل الطبعَ ،أو ما نسميه املوهبة ،فمن مل يكن ذا طبع مو ٍ
ات َي ُم ُّد ُه بالكالم املناسب للغرض الذي َُ
يقصد إِليه فال ينبغي َأن ُي َعنِّي نفسه بفن الكالم؛ و َأيض ًا َأصحاب املوهبة يتفاوتون ،فمنهم من جتود قرحيته
يف كل حال بالقول الذي يقع موقعه عند املخاطبني ،سواء َأكانوا من العامة أم من اخلاصة ،ومنهم من ال
نثرا ـ إِال بعد معاودة وترداد نظر ؛ ثم إن نشاط الذهن للكتابة َأو النظم ال يواتيه القول املناسب ـ نظماً أو ً
حوال ،فعىل من يتصدى هلذه الصناعة َأن يتخري األَوقات التي تصفو فيها ِ يكون بقوة واحدة يف مجيع األَ
قرحيته حتى ي َأيت كالمه سمح ًا منقاد ًا خالي ًا من التعقيد .
ومن األَفكار املهمة يف هذه الصحيفة فكرة مناسبة الكالم للمقام أو املوقف ،وهو ما سامه البالغيون
فيام بعد « مقتىض احلال » .و َأرفع درجات البالغة كام يقول برش هو القدرة عىل التعبري عن املعاين الرشيفة
بأسلوب وسط يفهمه العامة وال ينفر منه اخلاصة
كام كان لفكرة الطبع مكان مهم يف النقد العريب ،حتى قسم بعض النقاد الشعر إىل « مطبوع ومصنوع»،
كام كان لفكرة مقتىض احلال مكان مهم يف البالغة العربية ،إذ أرجع إليها البالغيون اختالف األساليب
إلطناب والت ْأكيد وعدمه ..إلخ .بني اإلجياز وا ِ
عىل َأن « تعليم اخلطابة» مل يعد له ش ْأن يذكر يف احلياة العربية منذ القرن الثالث اهلجري ( حتى العرص
احلديث ) ،وحلت حمله صنعة الكتابة التي َأصبحت أداة مهمة من أدوات احلكم .
كان رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ يميل كتبه بنفسه ،وكذلك كان خلفاؤه الراشدون يفعلون،
اخللفاء يعتمدون عىل ك ّتاب متفرغني هلذا
ُ واستمر احلال كذلك إىل أوائل عرص الدولة األموية ،ثم بد َأ
ِ
هؤالء الكتاب شيئ ًا فشي ًئا حتى بلغ كبريهم عبد احلميد بن حييى درجة الوزارة يف العمل ،وارتفعت منزلة
عهد آخر اخللفاء األمويني مروان بن حممد .ولعبد احلميد رسالة إىل الك ّتاب يوصيهم فيها باحلرص عىل
تثقيف أنفسهم ،كام يوصيهم بالسلوك الذي ينبغي هلم اتباعه مع رؤسائهم ،كذلك مع العامة من طالب
58
احلاجات ،وتدل هذه الرسالة عىل أن « طبقة الكتاب» كانت قد أصبحت طبقة كبرية هلا ش ْأهنا يف احلياة
العامة ،فكام كان اخلليفة يتخذ كتا ًبا ـ َأو باألَحرى ديوا ًنا للرسائل عىل ر ْأسه كبري للكتاب ـ كان لكل من
ويل عمال مه ًام من َأعامل الدولة كاتبه أو ك ّتابه
وكان طبيع ًيا ـ وقد َأصبحت الكتابة مهنة ـ َأن يتنافس كتاب الدواوين يف جتويد آالت هذه املهنة :
ابتداء من ت ْأييد الفكرة باالستشهاد بالقرآن الكريم واحلديث الرشيف وأقوال السلف واألخبار املأثورة ً
إىل إِتقان األُسلوب بتخري األَلفاظ وإحكام الربط بينها إىل استجادة الورق واحلرب وحتسني اخلط .وقد
َألف ابن قتيبة كتاب « َأ َدب الكاتب » للتنبية عىل ماال يستغني صاحب هذه املهنة من معرفته من رضوب
الثقافات و ُنكت اللغة ،وينسب إليه كذلك كتاب « املعارف» الذي مجع فيه ما حيتاج الكتاب إىل معرفته
من األخبار التارخيية .
عىل أننا ال نلبث أن نالحظ ظاهرة مهمة تزداد بروز ًا عىل مر العصور ،وهي تداخل فني الشعر والكتابة
( ونعني بالكتابة هنا النثر الفني املكتوب ) .وقد َأشار اجلاحظ ـ يف النصف األَول من القرن الثالث
اهلجري ـ إىل عناية من سامهم « رواة الك ّتاب » برواية الشعر املُتخَ يرَّ لف ًظا ومعنى ،ومل يكن ذلك أمر ًا
مستغرب ًا ،فالشعر ـ وال سيام القديم منه ـ هو معدن اللغة الفصيحة .ولكن النثر الفني ظل يساير الشعر يف
تطوره ويقلده يف اجتاهاته بعد َأن غلبت الصنعة البديعية عىل الشعر ،ومن هنا أصبح النثر املسجوع امليلء
ب َألوان الزخرف هو الغالب عىل ُأسلوب الكتابة الفنية منذ القرن الرابع ،ومل تقترص مسايرة النثـر للشـعر
أيضا كثري ًا من األغراض التي كان الشعر ساب ًقا إِليها وكانت َأليق به ـ كالتهاينعىل األُسلوب .فقد تناول ً
والتعازي والعتاب ..إلخ .فيام سمي بالرسائل ِ
اإلخوانية .
ويف الوقت نفسه تأثر الشعر بالنثر الفني إىل حد ما وذلك من حيث تسلسل َأجزاء القصيدة تسلس ً
ال
منطق ًيا كام تتسلسل فصول الرسالة ،وقد أشار إىل ذلك ابن طباطبا العلوي ( املتوىف سنة 322هـ ) يف
كتابه « عيار الشعر» الذي يقف فيه موقف ًا متوس ًطا بني أنصار القديم وأنصار احلديث .
ويظهر تداخل فني الشعر والنثر الفني عىل أكمل صورة يف كتاب « الصناعتني » ( أي صناعة الشعر
وصناعة النثر ) أليب هالل العسكري ( املتوىف سنة 395هـ ) وكتاب « املثل السائر يف أدب الكاتب والشاعر»
لضياء الدين ابن األثري ( املتوىف 637هـ ) حيث النجد فر ًقا ما بني ُأسلوب الشعر و ُأسلوب النثر .
59
والشك أن هذا اخللط أرض بالنقد العريب بل باألدب العريب عامة وال شك أننا إذا أردنا اليوم أن
نلتمس نامذج للكتابة الديوانية فإننا واجدوها يف كتب الرسول ـ صىل اهلل عليه وسلم ـ وخلفائه يف
املقامات ونحوها ـ فقد يقبل ُأسلو ًبا قري ًبا من ُأسلوب الشعر ،ولكننا مع ذلك ال يمكن أن نتجاهل أثر
األسلوب املسجوع املزخرف يف تقصري باع املقامة ،بحيث مل تستطع الوصول إىل مستوى القصة كام
عرفناها يف األدب الغريب احلديث .
ت�أثر النقد العربي مبباحث النقد الغربي فـي الع�صر احلديث :
من الظواهر التي تسرتعي النظر يف األدب العريب احلديث َأنه اتصل اتصالاً واس ًعا وعمي ًقا باآلداب
ِ
شاء اهلل ـ أن تدريس هذه الظاهرة بمزيد من التفصيل يف األُوروبية قديمها وحديثها ،وسيتاح لك ـ إن َ
دروس تاريخ األدب يف العـام القـادم ،ولكن الذي يعنينـا اآلن هو ت ْأثريها يف النقد العريب احلديث .
لقد ر َأيت أن الثقافة العربية اتصلت بالثقافات العاملية األُخرى ،وال سيام الثقافة اليونانية ،يف العرص
العبايس ،ولكن ذلك االتصال كان قوي ًا يف دائرة العلوم والفلسفة ،ضعي ًفا يف دائرة األدب .أما اآلداب
الرشقية ( الفارسية واهلندية) فقد أخذ منها العرب بعض احلكم والوصايا ،وبعض اخلرافات عىل َألسنة
احليوان ،وهلذه الفنون نظائرها يف أدب العرب ،ومعنى ذلك َأهنا مل تكن جديدة عليهم ،وأما األدب
اليوناين فقد كان يعيش فرتة انحدار ،وقد ُن ِسيت أعامل (هومريوس) كبري شعرائهم القصصيني ،كام
نسيت أعامل الشعراء التمثيليني الكبار ( ،أسكيلوس و سوفوكليس ويوريبيديس وأرسطو فانيس) ،
ولذلك مل يعرف العرب قصص اليونان والمتثيلهم ،وترتب عىل ذلك أن كان تأثر النقد العريب بالنقد
اليوناين ضعي ًفا ،فالنقاد العرب الذي اطلعوا عىل كتب النقد اليوناين مل يفهموا أكثرها ،ألهنم كانوا جيهلون
األعامل األدبية التي تشري إليها ،ومل يأخذوا منها إال يف بعض األفكار الفلسفية ،كام فعل قدامة بن جعفر
يف كتابه « نقد الشعر » عىل ما مر بك .
أما يف العرص احلديث فقد اتصل العرب اتصاالً وثي ًقا باآلداب الغربية قديمها وحديثها وليس هنا
ِ
إحصــاء العدد اهلائل من الروايـات والتمثيـليات التي نقلت إىل العربية من اللغات األوروبية، جمـال
60
وال سيام اللغات احلديثة ،وال رسد أسامء املرتمجني املشهورين وغري املشهورين الذين قاموا هبذا النقل .
أيضا ،وهو بطبيعته َأشد من النثر تأ ِّب ًيا عىل النقل من لغة إىل لغة ،قد ترمجت من نامذج غري بل إن الشعر ً
قليلة إىل العربية .
وكان هلذه املرتمجات تأثريها العميق يف إنتاجنا األديب احلديث من شعر ونثر وينبغي َأال ننسى َأن ً
كثريا
من ك ّتاب العربية يف هذا العرص حيسنون لغة أو َأكثر من اللغات األُوروبية ،ويقرؤون لنقاد الغرب كام
يفرس للقراء األَعامل األَدبية القائمة من جهة ،ويفتح ِ
ويقرؤون لكتاهبم املنشئني ،ويت َأثرون هبؤالء ،فالنقد ِّ
طر ًقا جديدة للكتابة من جهة ُأخرى ،وقد مجع معظم ك ّتابنا الكبار بني الرتمجة واإلنشاء والنقد ،فكان
تفسريا وتقويماً
ً ومتهيدا للطريق َأمام ما ينشئونه ،وجانب آخر منه
ً جانب من نقدهم تعريف ًا بام يرتمجونه،
ألَعامل غريهم سواء َأكانوا معارصين َأم قدماء بمقاييس اس ُت ِمد الكثري منها من النقد الغريب ،ويظهر
ذلك بنوع خاص يف الفنون املستحدثة ،و َأبرزها املرسحية والرواية والقصة القصرية .وهكذا ر َأينا النقاد
العرب حني يتناولون هذه األَعامل بالنقد يتحدثون عن العقدة والشخصيات واجلو ... ،إلخ ، .وهي
مفاهيم مأخوذة عن النقد الغريب الذي عرف هذه الفنون قبلنا ثم ألفت كتب كاملة يف بعض هذه الفنون،
مثل كتاب « املرسحية» لعمر الدسوقي « نظرية الدراما » و«فن القصة القصرية» لرشاد رشدي ،إىل جانب
ما ترجم من الكتب النقدية عن هذه الفنون ملؤلفني غربيني .
ومن السامت املميزة لآلداب الغربية قيام املذاهب األدبية ،كالكالسيكية والرومنسية والواقعية،
والرمزية ( . )1واملذهب األديب عندهم يعتمد عىل نظرية يف طبيعة األدب ووظيفته ،وعىل َأساس هذه
املنشئ موضوعه ،و ُأسلوب تناوله لذلك املوضوع .وقد ت ْأثر األُ ُ
دباء العرب هبذه ُ النظرية خيتار الكاتب
اإلنشائية ،فمقدمات العقاد لدواوينه نفسها ـ تشهد بتأثره املذاهب يف نقدهم ،كام ت ْأثروا هبا يف َأعامهلم ِ
الرومنيس ،وإن كـان ذلك ال يقـدح يف ْأصالة العقاد ( ، )2وقد تأثر هبذا املذهب كثريون غريه،
ّ باملذهب
( )1الكالسيكية مذهب أديب يقوم عىل حتكيم النظام العقيل يف العاطفة ويلتزم حماكاة األقدمني ،والرومنسية نقيض الكالسيكية ،ظهرت
األدبية القديمة ،والواقعية ظهرت مع تقدم العلوم التجريبية ودعتبعدها ،ودعت إىل االنطالق مع العاطفة والتحرر من حماكاة األشكال َ
إىل أن يستفيد األدب من مناهج العلوم ويضع نفسه يف خدمة املجتمع ،أما الرمزية فتقوم عىل أن جمال األدب احلقيقي هو املشاعر الغامضة
التي ال يمكن التعبري عنها إال بطريق الرمز .
( )2انظري النص العارش من النصوص املختارة من املكتبة النقدية والبالغية يف آخر هذا الكتاب .
61
الرمزي ..إلخ ، .و َألف بعض النقاد كت ًبا لرشح هذه
ّ كام ت َأثر فريق باملذهب الواقعي ،وآخرون باملذهب
املذاهب ،ككتاب « األدب ومذاهبه » ملحمد مندور ،و« الرومنتيكية » ملحمد غنيمي هالل ،و«الرمزية»
ألنطون غطاس كرم .
واختلف طريق األُ ِ
دباء العرب يف االنتفاع بنامذج النقد الغريب كام اختلفت طرقهم يف االنتفاع بنامذج
ترديدا
ً إلنشـائي ،من فتنة ُتنْسيِ األديب العريب تراثه ،ومتحو شخصيته ،وجتعل ما يكتبه األَدب الغريب ا ِ
قراءة واعية متمثلة ،ترتكز عىل تراث عريق ،وتتطلع إىل آفاق
تقليدا ملا يقرؤه عند كاتب غريب ،إىل َ ً َأو
َأرحب من كل ما َ
جاء به الغربيون .
62
من املكتبة النقدية والبالغية
(�أ) 1ـ من �صحيفة ب�شر بن املعتمر
أكرم ( ،)1وأرشف ِ نفس َك ساع َة نشاطِ َك وفرا ِغ بالك وإجا َبتِها إياكَّ ، خذ من ِ ْ
فإن قليل تلك الساعة ُ
()1
تلتمس إِ َ
ظهارهمُ ا َ أجل ِه أسوأ حالاً منك قبل أن يفس ُدهمُ ا و جنُهام ( ،)٨عام تعود من ِ
ُ يهُ َ ِّ
أن تصو ام عام ِ
نهَ ُ ِ
حقهام ْ
ِ
وقضاء ح ِّقهام . نفسك بمالبستهام ، وتر ِن ()9
َ ْ تهَ َ
يكون لف ُظك رشي ًقا عذ ًبا ،وفخماً سهلاً . َ ِ
الثالث ،أن منازل :فإِ َّن َأوىل َ ِ
ثالث فك ْن يف
دت ،وإِما َ
عند قص َ ِ عند اخلاصة إِ ْن َ ظاهرا مكشو ًفا ،وقري ًبا معرو ًفا ،إِ َّما َ َ
كنت للخاصة ْ ً ويكون معناك
أردت .
َ كنت للعامة إن َ العامة ْ
يكون من معاين العامة ،وإِنام َ يكون من معاين اخلاصة ،وكذلك ليس َي َّت ِض ُع ْ
بأن َ يرشف بأن ُ واملعنى ليس
املقال .وكذلكِ لكل مقا ٍم من جيب ِّ ِ ِ الصواب ،وإِ ُ ِ
حراز ( )10املنفعة ،مع موافقة احلال ،وما ُ ُ الرشف مد ُار
َ
(أ) برش بن املعتمر :فقيه معتزيل ،نشأ بالكوفة وأقام يف بغداد ،وتنسب إليه الطائفة البرشية من املعتزلة ،تويف سنة 210هـ .
( )1صيغة أفعل التفضيل يف هذه الكلامت يراد هبا مطلق الوصف ،أي أهنا استعملت استعامل الصفة املشبهة .
( )3معتدال . ( )2العني والغرة من كل يشء :خياره .
( )5البحث عن العبارة الصعبة . ( )4نشأ ،صدر .
( )7طلب . ( )6يعيب .
( )9تلزم . ( )8يصيبهام .
( )10حتصيل .
64
واقتدارك عىل ِ
مداخ َ
لك، طفقلمك ،و ُل َ َ بيان لسانِ َك ،بالغة اللفظ العامي واخلاص ،فإِ ْن أن تبلغَ من ِ ُ
َ يُِّّ ّ ُّ
ِ
الدمهاء ()12 األلفاظ الواسط َة ( )11التي ال تل ُطف عن َ اخلاصة ،وتكسوها ِ معاين فهم العام َة أن ُت ِ نفسك ،إىل ْ
َ
األكفاء ( )13فأنت البليغُ التام. ِ وال جتفو عن
نظـر َك ويف أول أول ِ عـند ِ تعرتيك ،وال تسـنَ ُح لك َ َ تواتيـك ( ، )14وال َ كانت املنزل ُة األوىل ال ْ فإِ ْن
ِ
املقسومة هلا ،والقافي َة قرارها ،وإِىل ح ِّقها من ِ موقعها ،ومل َتصرِ إىل ِ تكـ ُّل ِف َك (ُ ،)15
أماكنها ْ ْ َ وجتد اللفظ َة مل ْ
تقع
موضعها ،فال ِ تتصل بشكلها ،وكانت قلق ًة يف مكاهنا ،نافر ًة من ْ مركزها ويف نِصاهبا ( ،)16ومل ِ مل تحَ ُ َّل يف
ِ
املوزون ،ومل ِ
الشعر قرض تتعاط َ َ غري أوطانهِ ا ،فإنك إِذا مل والنزول يف ِ ِ ِ
األماكن ِ
اغتصاب ُتك ِْر ْه َها عىل
حاذ ًقا مطبو ًعا ،وال أنت تكل ْف َته ومل تكن ِ أحد؛ فإِ ْن َ اختيار الكال ِم املنثور ،مل يع ْب َك بترْ ِك ذلك ٌ ف تتك َّل َ
ْ ُ ماَ َ
أقل عي ًبا من ُه ،ورأى َم ْن هو دو َنك أن ُه فو َق َك . أنت ُّ عابك من ََ بصريا بام عليك وما َل َك ، ً محُ ْ ِكماً لسا َنك ،
َ
عليك اص الطباع يف أول وهلة ،و َت َع ىَ
ِ ُ تسم ْح لك القول ،وتتعاطى الصنع َة ،ومل َ َ تتكلف
َ يت بأن فإِن اب ُت ِل َ
وعاو ْد ُه عند نشاطِ َك وفر ِغ ِ يوم َك وسوا َد ليلك، بياض ِ تضجر ،و َد ْع ُه َ ْ تعجل وال ْ الفكرة ،فال ِ بعد إِجالة
الصناعة عىل ِع ْر ٍق ( ، )17وهي ِ كانت هناك طبيع ٌة أو جر ْي َت من إلجابة واملواتاة ،إِ ْن ْ تعدم ا ِ فإنك ال ُ بالكَ ،
املنزل ُة الثانية .
تتحو َل إمهال ،فاملنزل ُة الثالثة ْ ٍ حادث ُشغ ٌْل َع َرض ،ومن ِ ٍ فإِن تمَ نَّ َع عليك بعد ذلك من ِ
أن ّ غري طول غري
تنازع إليها ،إِال وبينكام تشتهها وملالصناعة إِىل أشهى الصناعات إليك ،وأخ ِّفها عليك ،فإِنك مل ِ ِ عن هذه
ْ
النفوس ال جتو ُد طبقات ألن ٍ تكون يف ُ وإن كانت املشا َك َل ُه قد يشاك ُله ْ ، ِ واليشء ال حي ُّن إِالَّ إىل ما ب،
َ ُ َن َس ٌ
الرهبة ،كام جتو ُد به مع الشهوة واملحبة. ِ الرغبة وال تسمح بمخزوهنا مع ِ بمكنوهنا من
65
�أ�ســــــــــئلة
66
2ـ من كتاب البيـان والتبيـني
ُ
يقـول : ف بن ِ
عبد اللـه ُ
طر ُ ُغيالن بن جرير ،قال :كان ُم ِّ مهـدي بن ميمـون ،قال :حدثنـا ُّ وحدثنـي
ّ
ِ
يشتهيه ». طعامك َم ْن ال طعم
َ « ال ُت ْ
بوج ِه ِه .
بحديثك عىل من ال ُي ْقبِ ُل عليك ْ َ يقول :ال ُت ْقبِ ْل
ِ بأبصار ِهم (ِ ،)1 وقال عبد اهلل بن مسعود :ح ِّد ِْ
بأسامع ِهم ،وإذا وأذ ُنوا ( )2لك ِ ْ حد ُجوكالناس ما ََ ث َ
فأم ِس ْك » .
ْ
رأيت منهم ف ة ()3
ترْ ً ْ َ
تكيف سمع ِ انرصف إليها َ
قال هلا َ : يتكلم ،وجاري ٌة له ُ ِ َ
ْ َ كالم ُه ،فلماّ
تسمع َ ُ حيث ُ يوما
وجعل اب ُن السماّ ك ً
أنك ُتكثِ ٌر َترداده . قالت :ما أحسنَ ُه ،لوال َ كالمي ؟ ْ
يفهم ُه .
يفه َم ُه م ْن مل ْ قال َ :أر ِّد ُد ُه حتى َ َ
قد م َّله م ْن ُ
يفهم ُه . يفهم ُهْ ،
يفه َم ُه من ال ُ
قالت :إىل أن َ
َ
ُ
احلديث مرتني» . ع َّبا ُد بن العوام ،عن ُشعب َة ،عن قتاد َة ،قال « :ال ُيعا ُد
ِ
الصخر » . أشد من نقل
احلديث ُّ الزهري ،قال « :إِعاد ُة ِ ُ
سفيان بن عيينة ،عن ُّ
فارفع مؤون َة ( )4االستام ِع منك » . ثك ينش ْط ِ
حلدي َ ِ
احلكامء َ « :م ْن مل َ بعض
ْ وقال ُ
ذلك عىل ِ
قدر وصف ِه ،وإنام َ
ِ حد ُينْ َتهى إليه ،وال يؤ َتى عىلليس فيه ُّ ِ ِ
القول يف الترَّ داد :أنه َ ومجلة
وقد رأينا اهلل َع َّز ـ وجل ـ ردد ذكر ِ
قصة موسى ،وهو َد، واخلواصْ ، حيرض ُه من العوام املستمعني ،ومن
َ َّ َ َ ِّ ُ
«أ» أشهركتاب العربية يف العرص العبايس ،وأغزرهم تأليفًا ،أهم مؤلفاته ـ غري كتب « البيان والتبيني» ـ كتاب احليوان ،وكتاب البخالء،
وكتاب املحاسن واألضداد .تويف سنة 255هـ .
( )1حدجوك بأبصارهم :شخصوا بأنظارهم إليك .
( )3فتور ًا وإعراضاً. ( )2أصغوا.
( )4عناء .
67
خاطب
َ والنار ُأ ٌ
مور كثرية ،ألنه َ ذكر اجلنَة
ولوط ،وعا َد ،وثمو َد ،وكذلك َ َ براهيم،
َ وشعيب ،وإِ
ٍ َ
وهرون،
ِ
القلب . ِ
الفكر ساهي ُ
مشغول معاند غبي غافلَ ،أ ْو ِ ِ
العرب و َأ مجيع األُمم من
ٌ وأكثر ُه ْم ُّ
ُ صناف العجمِ، َ
يعيب ذلك . أحدا ِ
والرقة فإِين مل ْ َأ َر ً ِ
القصص ُ
أحاديث وأما
ُ
�أ�ســــــــــئلة
68
3ـ من كتاب « ت�أويل م�شكل القر�آن»
فت النِّ َح ُل (. )1 الطرق ،واخت َل ُِْ ويل ،وتش َّع َب ْت هبم الناس يف الت َأ ِ
ِ كثري من ِِ ِ ُ ِ
املجاز فم ْن جهته غلط ٌ وأما
عليه السالم ـ يف ا ِ املسيح ـ ِ تذهب يف ِ
ذهب إىل أيب» وأشبا ُه هذا إلنجيل «أدعو أيب ،و َأ ُ ِ قول ُ فالنصارى
يتأولوه هذا الت َأو َيل جاز هلم أن َّ غري ِه ،ما َ نفس ِه خاصة دون ِ املسيح قال هذا يف ِ
ُ
كان ِ الوالدة ،ولو َ ِ أبو ِة
ـ إِىل ّ
كثري من املواض ِع فكيف وهو يقو ُل ُه يف ٍ َ ِ
املجاز، اللـه ـ تبارك وتعاىل عام يقولون علو ًا كبريا ـ مع ِ
سعة يف ِ
ً ّ
تعلم شام ُل َك بام فع َل ْت يمينُك،فإِ ّن أباك الذي تصد ْق َت ،فال ْ فتح فاه بالوحي « :إِذا ّ حني َ لغري ِه ،كقولِ ِه َ ِ
اسمك ،وإِذا ُص ْم َت ِ جيزيك به عالني ًة ،وإذا ص َّل ْي ُتم فقولوا :يا أبانا الذي يف َ يرى اخلفي ِ
ليتقد ْس ُ
السامء َّ ات َّ
غري َ ِ
واده ْن ر َأ َس َك ،ل َئلاّ ْ
أبيك » يعلم بذلك ُ َ وجه َك ُ فاغسل َ
سمى يل غالم ُي ّ
ٌ لك قال لداود ـ عليه السالم ـ « :سيو َل ُد َ تبارك وتعاىل َ َ أن اهلل ِ
الزبور (َّ )2 وقد قرؤوا يف
سمي له أ ًبا » . ابن ّا و ُأ َّ
وعطف ِه عىل
ِ هذه ،أن ُه يف رمحتِ ِه وبِ ِّر ِهوتأويل ِ
ُ ليعقوب ـ عليه السالم ـ « أنت بِكْري» َ قال ِ
التوارة أن ُه َ ويف
ده . كاألب الرحي ِم لولِ ِ ِ عباد ِه الصاحلني، ِ
الروح
ِ وبقاء ِ
األبدان هبام، وللخبز « :هذا ُأمي » ألن ِقوام ()3 ِ للامء « :هذا أيب » قال املسيح ِ وكذلك َ
ُ َ ُ
ِ
كاألبوين ال َّلذين منهام وبحضانت ِهام ُ
النامء . ِ عليهام ،فهام
«أ» كان ابن قتيبة من أوسع أهل عرصه ثقافة ،فهو فقيه،أديب ،لغوي ،ناقد ،مؤرخ .ومن أشهر كتبه غري كتاب «تأويل مشكل القرآن » هذا،
كتاب « عيون األخبار»وكتاب « الشعر والشعراء » وكتاب « أدب الكاتب » ،وقد محل يف هذا الكتاب محلة شعواء عىل مقلدي الثقافات
األجنبية من كتاب عرصه تويف سنة 276هـ .
( )1املذاهب .
( )2الكتاب الذي أنزل عىل داود ـ عليه السالم ـ .
( )3أصل .
69
اخللق ،وإِليها ِ
مرج ُع ُه ْم ،ومنها أقواتهُ ُ ْم ،وفيها كفا َي ُت ُه ْم، ِ األرض ُأ ّم ًا ،ألهنا مبتد ُأ
َ العرب ُتسمي ت وكَا َن ِْ
ُ
ِ
الصلت (أ) : وقال ُأم ّي ُة ب ُن أيب
فيهــا مقــــابر ُنا وفيــــــها ُنـو َل ُ
ـد ـت ُأ َّمـنَــــا رض ِ
معقـــ ُلنا وكا َن ْ واألَ ُ
وقال ْ
يذك ُُرها :
()1ونح ُن أبنـــاؤها ْلو أننــــا ُشـــك ُُر منها ُخ ِلقــــْنا وكا َن ْت ُّأمـنا ُخ ِلـ َق ْ
ـت
ما أرحـــم األرض إِال أننــــا كُـ ُفر()2 القــرار فمـــا نبـغي هبــا بدالً
َ َ ُ هـي
ِ
وغاذ َي َت ُه ،ومأوا ُه ِ
الولد ﴾ (ّ )3ملا كانت األُم كافل َة َ
وقال اهللُ تعـاىل يف الكافر ﴿
ومر ّبي َت ُه ،وكانت النار للكافر كذلك ،جعلها ُأ َّم ُه .
َ
ِ
احلرمان. ﴾(َ )4أي ك ُأمهاتهِ ِم يف النبي ـ صىل اهلل عليه وسلم ﴿ وقال يف أزواج ِّ
﴾( )5معنى التناسخ ( ،)6ومل ي ِ قوم يف قولِ ِه تعاىل ﴿ :
رد اهلل يف ُ وتأو َل ٌ
َّ
خاطب به مج َيع الناس .
َ اخلطاب إِنسا ًنا بعينِه ،وإِنام
ِ هذا
﴾ (. )7 كام قال ﴿ :
شاء ()8
الرجل ،وكلكُم ذلك الرجل ،ف َأرا َد َأنه َّ
صورهم و َع َد َل ُه ْم يف أي صورة َ ُ يقول القائُل :يا أهياكام ُ
وسواد ،و ُأ ٍ
دمة ( )9وحمُ ْ َرة . ٍ ٍ
وبياض ركَّبهم ،من ُح ْس ٍن و ُق ْب ٍح،
«أ» شاعر جاهيل أدرك اإلسالم ومل يسلم ،وكان يتأ َّل ُه يف شعره .
( )1مجع شكور ،مثل صبور وصبرُ ٌ .
( )2مجع كفور.
ِ
( )3اآلية 9من سورة القارعة .
( )4من اآلية 6من سورة األحزاب .
( )5من سورة االنفطار .
( )6التناسخ :من عقائد اهلنود ،وهو قوهلم بأن الروح حتل بعد املوت يف كائن آخر .
( )7كادح :ساع واآلية من سورة االنشقاق اآلية (. )6
( )8أحسن صورهم .
( )9سم ٍ
رة . ُ ْ
70
ونحوه قوله ﴿ :
ُ
﴾ ( سورة الروم) .
وقوله تعاىل ﴿ :
﴾ ( سورة األعراف) .
الدالل وحالةِ يلهث يف ِ
حال ُ الكلب فإِنه عطش أو ِع َّلة ،خال
ٍ يلهث من إِ ٍ
عياء أو ُ يلهث فإِنامُ كل ٍ
يشء
َ
كـذب بآياتِ ِه فقال :إِ ْن وع ْظـ َت ُه
َ ال ملن ِ
والعطش ،فرض َب ُه اهلل مث ً واملرض ،وحال ِ
الر ِّي ِ الراحة ،وحال الص ِ
حة ِّ
أيضا لهَ َ َث .ونحـوه قولـه وزجـر َت ُه فسـعى هل َ َث ،أو ترك َتـ ُه عىل حـالِ ِه ً
ْ كالكلب إِن طر ْد َت ُه
ِ فهو ّ
ضال،
﴾. ﴿
�أ�ســــــــــئلة
71
4ـ من كتاب « البديع »
(أ)
لعبد اهلل بن املعت ِّز
مح ُه اهلل :
املعتز ر َ
عبد اهلل ب ُن ِّ قال ُ
رسول اهلل ـ صىل اهلل عليه ِ ِ
وأحاديث ِ
واللغة ِ
القرآن وجدنا يف ْ بعض ماأبواب كتابِنا هذا َ ِ قدمنْا يف قد َّ
البديع، وأشعار املتقدمني ،من الكال ِم الذي سماَّ ه ا ُمل ْح َد ُثون ِ الصحابة واألعراب وغريهم، ِ وسلم ـ وكالم
َ
سلماً وأبا نواس) ومن تق َّي َلهم ( )1وسلك سبي َلهم ،مل ْ ُي ْس َب ُقوا إىل هذا الف ِّن ،ولكن ُه أن ( بشارا وم ِ ل ُي ْع َل َم َّ
ً ُ
حبيب ب َن َ ثم إِ َّن (ودل عليه َّ ،فأعرب عن ُهَّ ، َ أشعارهمَ ،ف ُع ِرف يف زمانهِ ِم حتى ُس ِّم َي هبذا االسم ِ َك ُث َر يف
بعضِ وأكثر منه ،فأحس َن يف َ وتفر َع ( )3فيه، ب عليهَّ ، ف به حتى َغ َل َ بعد ِه ْمُ ،ش ِغ َ أوس الطائي ( ) )2من ِ
َّ ِ
الشاعر من هذا الف ِّن كان ُ
يقول رساف .وإِنام َ ِ فراط وثمر ُة ا ِ
إل إل ِ بعض ،وتلك ُع ْق َبى ( )4ا ِ ٍ وأساء يف ذلك
ُ َ
َت من ِ ِ
بديع ،وكان بيت ٌ وجد فيها ٌ أن ُي َ قصائد من غري ْ ُ همشعر أحد ْ البيت والبيتني يف القصيدة ،وربام ُق ِرئ ْ ْ َ
ِ ِ
الطائي
َّ العلامء يش َّب ُه بعضاملرسل وقد كان ُ بني الكال ِم منهم إذا أتى نادر ًا ،ويزدا ُد ُح ْظو ًة َ ذلك ْ ستحس ُن َ َ ُي
وجعل بينها َ شعر ِه، نثر أمثا َل ُه يف ِصاحلا َ
ً ويقول :لو ّ
أن ُ ِ
األمثال ، ِ
القدوس (ب) يف بن ِ
عبد بصالح ِ
ِ يف البدي ِع
أعدل كالم سمع ُت ُه يف هذا املعنى . وغلب عىل م ْيدانِ ِه ،وهذا ُ َ أهل زمانِ ِه، لسبق َ كالم ِهَ ، ُفصوالً من ِ
نفس ُه وتمُ نِّ ِيه مشار َك َتنَا يف فضي َلتِ ِه، ستحد ُث ُه ُ
ِّ ِ
الكتاب، تأليف هذا ِ ِ
السبق إىل بعض من قصرَّ َ عن ولعل َ َّ
ِ سمينا ُه ِبهْ ،أو ُ فنون البديع ِ ِ
كالما منثور ًا ،أو يفسرِّ ُ شعر ًا مل الباب من أبوابِه ً ِ يزيد يف بغري ما ْ ف ُيسمى فنًا من
72
غري ِه فألقينا ُه ،أو
الباب مبلغَ ِ
ِ بعض ذلك مل يب ُلغْ يف ألن َ يذكر شعر ًا قد تر ْكنَاه ومل نذك ُْر ُه ،إِما َّ نفسرِّ ْ ُه ،أو ُ
ِ
الكتاب كتاب إال وهذا ممُ ْ ِك ٌن فيه ملن أرا َد ُه ،وإِنام ُ
غرضنَا يف هذا ٍ وليس م ْن
َ ومغن ًيا.
ذكرنا كاف ًيا ُ َّ
ألن فيام ْ
ِ
الغاية ذكرنا مبلغُ ِ ٍ أن ا ُمل ْح َدثني مل ْ َي ْسبِ ُقوا ِ
الناس َّ
املتقدمني إىل يْشء من أبواب البديعِ ،ويف دون ما ْ ِّ تعريف
ُ
قصدناها .
التي ْ
وباهلل التوفيق .
�أ�ســــــــــئلة
73
إعجاز القر�آن »
ِ 5ـ من كتاب « ال ُّن َك ِت فـي �
74
الص ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ور الناس يف ذلك من جهة ال ِّطباعِ ،كاختالف ِه ْم يف ُّ ِ واختالف
ُ املكسور . الشعر من املوزون يف
تالؤما؛ وأما أشد
أعدل كان َّ ليف ،فكلام َ
كان َ احلروف يف الت ْأ ِ ِ ُ
تعديل والسبب يف التالؤ ِم ِ
واألخالق .
ً ُ
وذلك أنه إِذا ب ُع َد ال ُب ْع َد
َ القرب الشديد (: )1 ِ أو ِ
الشديد ِ اخلليل من ال ُب ْع ِد
ُ ذكر ُه
فالسـبب فيه ما َ ُ التنافر
ُ
بمنزلة رفِ ِع اللسانِ ِ ِ ِ ِ
الشديد كان بمنزلة مشيْ ا ُملق َّيد ،ألنه َ كان بمنزلة ال َّط ْف ِر ،وإِذا ُقر َب ال ُق َ
رب ()2 الشديد ََ
وقع يف الكال ِم ِ اللسان؛ والسهول ُة من َ ِ ورد ِه إِىل مكانِ ِهِ ،
االعتدال ،ولذلك َ ذلك يف صعب عىل ٌ وكالهمُ ا ِّ
بدال . إل ُ اإلدغام وا ِ
ُ
النفس ،ملا ير ُد عليها ِ اللفظ ،وتق ُّب ُل املعنى ل ُه يفِ والفائد ُة يف التالؤ ِم حس ُن الكال ِم يف السمعِ ،وسهو َل ُت ُه يف
ِ ِ قراء ِة ِ ِ ِ
واحلرف، يكون من ِّ
اخلط ُ أحسن ما ِ
الكتاب يف مثل َ وم َث ُل ذلك ُ م ْن ُح ْس ِن الصورة ،وطريف الداللةَ .
كانت املعاين واحد ًة . الصورة وإِ ْن ِْ متفاوت يف
ٌ واخلط ،فذلك ِّ احلرفِ ُ
يكون من أقبح ما وقراء ُته يف ِ َ
�أ�ســــــــــئلة
( )1يقصد البعد الشديد أو القرب الشديد يف خمارج احلروف ،أي مواضع النطق هبا يف اجلهاز الصويت لإلنسان ،فالبعد الشديد كالذي بني
الثاء واهلاء ،والقرب الشديد كالذي بني العني واحلاء .
( )2الوثب .
75
6ـ من كتاب « بيان �إعجاز القر�آن »
أليب سليامن محد بن حممد بن إبراهيم ( اخلطايب ) «أ»
فصول الكال ِم ُ األلفاظ التي تشتمل عليها ِ كل نوع من وضع ِّ هذه البالغة ..هو أن عمود (ِ )1 أعلم َّ
ُ َ ثم ُ
جاء من ُه إِما ُّ ِ ِ
يكون منه فسا ُد ُ تبد ُل املعنى الذي غري ُه َ األشكل به ،الذي إذا ُأ ْبد َل مكا َن ُه ُ َ األخص
َّ موض َع ُه
أن يف الكال ِم ألفاظ ًا متقارب ًة يف املعاين، البالغة .ذلك َّ ِ ُ
سقوط يكون م َع ُه ُ الرونق الذي ِ ذهاب الكالمِ ،وإما
ُ
والبخلِ ِ
والشكر، ِ
واحلمد ِ
واملعرفة، اخلطاب ،كالعل ِم ِ إفادة بيان م ِ
راد ِ الناس أهنا متساوي ٌة يف ِ حيسب أكثر
ُ ُ
ونحوهمِ ـا، ِ وم ْن ،و َع ْن، اقعد واجلس ،وبلىَ ،ونعم ،وذلك وذاكِ ،
َ ْ والصفة ،وكقولِك ْ : ِ عت والش ِح ،وكالنَّ ِ ُّ
ِ
علامء واألمر فيها ويف ترتيبِها َ
عند بعد . والصفات ،مما سنذك ُُر تفصي َل ُه فيام ُ ِ ِ
واحلروف ِ
واألفعال ِ
األسامء من
ُ
وإن كانا بعض معانيها ْ ، ِ تتميز هبا عن صاحبتها يف لفظة منها خاصي ًة ُ لكل ٍ ألن ِّ ذلك َّ ، بخالف َ ِ ِ
اللغة أهل ِ
أن اجلهل ،إِال َّ ُ يرتفع معه ثبات الذي إل َ لم ُت ُه إِذا أر ْد َت ا ِ تقول :عر ْف ُت بعضها ُ . يشرتكان يف ِ ِ
ُ اليشء و َع ْ َ قد
علمت ُ وعلمت ،يقتيض مفعولني كقولِ َك : ُ زيدا . عر ْف ُت ً واحدا كقول َك َ
ِ ً عر ْف ُت ،يقتيض مفعوالً قو َل َك َ
فتقول :عر ْف ُت ُ وإثبات ِ
ذاته، ِ اللـه تعاىل، توحيد ِ ِ مل خصوص ًا يف صار ْت املعرف ُة ُتس َت ْع ُ زيدا عاقالً؛ ولذلك َ ً
عدالً وعلمت ُه ِ َ ِ
علم ُت اهلل ْ ضيف إليه صف ًة من الصفات ،فتقول ْ : علم ْت اهلل ،إال ْ
أن ُت اهللَ ،وال تقول ْ
كرة ()2
ضدها النَّ ِ َ ُ اجلهل ،واملعرف َة ُّ ُ ضد ُه الع ْل َم ُّ أن ِ البيان يف هذا َّ ِ الصفات ،وحقيق ُة ِ ونحو ذلك من َ قادرا، ً
الشكر عن الشكر هلل عليها ،ثم قد يتم َّي ُز أي ، ِ ِ
ُ ُ هلل عىل نعمهْ ، احلمد ِ
ُ أيضا : والشكر قد يشرتكان ً ُ واحلمد
ُ .
تقول :حمَ ِ ْد ُت هذا اجلزاءُ ، ِ الشكر إال عىل ُ
يكون ِ
الثناء ،وال ابتداء بمعنى احلمد ُ
فيكون ياء ، ِ
ُ ً ُ احلمد يف ْأش َ
وشــكر ُت زيد ًا إِذا أر ْد َت ْ معروف،
ٌ أخالق ِه ومذاهبِه ،وإن مل يك ْن َسـ َب َق إِليك منه ِ أثنيت عليه يف َ ،إذا
جل وعز ويكون فِعــلاً كقوله َّ ُ ِ
كاحلمـد، الشكر قوالً ُ ُ
يكون معــروف ابتدأ ُه إليك .ثم قد ٍ جـزاءه عىل َ
«أ» خطيب حمدث ،وله شعر جيد ،لق ُب ُه اخلطايب يرجع إىل أنه من نسل زيد بن اخلطاب ،أخي عمر بن اخلطاب ،وكان موطنه يف بـالد كابل
« أفغانستان احلالية » ،تويف سنة 388هـ .
( )1ما تقوم وترتكز عليه كالعمود الذي ترتكز عليه اخليمة .
( )2النكرة :هنا مصدر بمعنى اإلنكار .
76
واحد منهام بِ ِض ِّد ِه،
ٍ اعترب َت َّ
كل ْ
ِ
الفرق بينهام ﴾ (. )1وإِذا أر ْد َت أن تتبينَّ َ حقيقة ﴿:
ُ
يكون ِ
واملكروه ،وال ِ
املحبوب احلمد عىل ُ
يكون ُ
الكفران ،وقد ِ
الشكر وضد الذم ، ِ وذلك َّ
ُ َّ ضد احلمد ُّ أن َّ
ِ
املحبوب . الشكر إال عىل
ُ
�أ�ســــــــــئلة
77
يني » ْ
الطائِ ِ ُ
املوازنة بني 7ـ من كتاب «
اآلمدي) «أ»
ِّ ِ
احلسن بن برش أليب القاسم (
اآلمدي :
ُّ برش ب ُن يحَ ْ َيى قال أبو القاس ِم احلس ُن ب ُن ٍ
وأقول ُ معـنى ومعنى، بني ُ ِ املعاين التي ي َّت ِف ُق فيها ِ وأنا أذكر بإِ ِ
ً وأوزان َ الطائيان َ اجلزء، ذن اهلل اآلن يف هذا ُ
أشعر عندي عىل ِ
أتعدى هذا إىل أن أفص َح لك بأيهِّ ام أن َّ ِ
أشعر يف هذا املعنى بعينه .فال تطال ْبني ِْ :أيهُّ ام
ُ ُ
ِ ِ ْ ٍ ِ ا ِ
بالعلل وإن طال ْب َت بالتقليدْ ، لك الفائد ُة حتصل َ إن ق ّل ْد َتني مل ْ ألنك ْ َ ذلك : فاعل َ غري
إلطالق ،فإين ُ
نعت مذهب ْي ِهام ،وذكْر أحاط به علمي من ِ َ تقد َم بام فقد أخبرْ ُت َك فيام َّ التفضيلْ ، َ واألسباب التي أوج َب ْت ِ
باق واأللفاظ ،وإساء ِة م ْن أساء منهام يف ال ِّط ِ ِ الناس ،وغلطِ ِهام يف املعاين ِ س َق ِة املعاين من مساوهيام يف رَ ِ
َ َ َ
مواضع ِه وب ّين ُت ُه،
ِ وغري ذلك مما أوضح ُت ُه يف ِ ِ
الوزن، ِ
واضطراب ورداء ِة النظ ِم َ
ِ
واالستعارة، ِ
والتجنيس
وتقتضيه احلج ُة ،وما سرتا ُه من حماسنِهام ِ ُ
القول ذكر ُه يف املواز َن ِةمن هذه األنواعِ ،عىل ما يقو ُد ُه وما سيعو ُد ُ
أغراض ِهام ومعانيهام ِ لك ،وعىل سائر الكالم عىل مجيع َذ َ أوقع وعجيب اخرتاعاتهِ ام؛ فإين ِ عهام، ِ
وبدائ ِ
َ ُ
عل ِل الرديء وأرذلِ ِه ،وأذكر من ِ ِ وأفضل ِه ،وعىل ِ وأنص عىل اجل ِّي ِد ِ
األبواب، األشعار التي أر ِّت ُبها يف ِ يف
ُ ُّ
إظهار ُه إِىل ِ
البيان ،وال خراجه إِىل وحتيط به العبار ُة ،ويبقى ما ال يمك ُن إِ ُ التخليص، اجلمي ِع ما ينتهي إليه
ُ ُ ُ
أهل احل ِ ِ ِ ِ ف إِال ُّ ِ
ذاقة بالد ْر َبة ودائ ِم التجربة ،وطول املالبسة .وهبذا َي ْف ُض ُل ُ َ عر ُ وهو ع َّل ُة ما ال ُي َ االحتجاجَ ، ِ
لتلك طبع فيه َت َق ُّب ٌل َ َ نقص ْت جترب ُت ُه ،وق َّل ْت ُد ْرب ُت ُهَ ، ممِ ٍ بكل عل ٍم ِّ
يكون هناك ٌ بعد أن سواهم ْن َ ُ وصناعة من
وامتزاج هبا ،وإِلاَّ فال . ٌ الصناعة
ييزك؛ فينبغي َأن ُتنْ ِع َم الن َظر فيام َير ُد اختيار َك ،وما ُت ْفضيِ عليه فِطن ُت َك وتمَ ُ ِ أك ُل َك ( )1بعد هذا إىل ثم ِ
ِِ بالنظر إِال َم ْن يحُ ْ ِس ُن ْ ِ
أنصف. َ علمتأم َل عل َم ،وإذا َ وم ْن إذا ّ أن َي َت َأ َّملَ ، ينتفع
َ عليك ،ولن
78
للديار .
ِ أزمان
ذكر تعف َي ِة الدُّ هور وال ِ
ما ابتدئ به من ِ
قال أبو متام :
ــل املغـــاين للبِىل َهي ْأم نهُ ْ ُ
ب؟ َأ ُن ْح ُ
احل ْق ُ
ـب دار ماوي َة ُأخــذ ْت من ِ
َ لقـد
نيِ
أحقاب :السنون ،واحدهتاٌ ب :الدهر ،ومج ُع ُه أنح ٌل املعا هي للبىل ،فحذف التنوين ُ ،
واحل ْق ُ أراد ُ
احل ْق ُ
ب ثامنون ِ
الدهر ولياليه .و ُيقال ُ : واحل ْقب مذكر ،وأظنه أرا َد َ
أيام أخذ ْت » فأ َّنثُ ،ِحقب ٌة ،وقال « :لقد َ
سنة ،فعىل هذا قال َ « :
أخذ ْت فأ َّنث » .
أيضا :
وقال ً
ِ ِ
واســ َتح َق َب ْت ِج ّد ًة من ربعها احل َق ُ
ب ْ ــزع من َأ ْر ِو َّيـــ َة النُّ َو ُب
اجل ُ قد نا َب ْت ُِ
الراكب،
ُ حقيبتها .واحلقيب ُة :ما يحَ ِتق ُب ُه
َ ب ـ وهي السنون ـ جد َة الرب ِع يف ِ
«واستحق َب ْت» أي جعلت احل َق ُ
يريد َّ ِ رز فيه َمتا َع َه وزا َد ُه ،وهذه استعار ٌة حسنة ،وإِنام ُ وعاء جيع ُل ُه خل َف ُه إذا
بأن احل َق َ ركب ،ويحُ ُ َ ٌ وهو
الربع ِج َّد َت ُه وذه َب ْت هبا .
َ َس َل َب ْت
وقال البحرتي :
ِ
األحقاب َد َر َس ْت ( )1بشـاش ُتها عىل ِ
كتــاب ســطور
ُ أرســـــوم ٍ
دار ْأم ُ
ماء ورون ًقا ،وهو
أبرع من بيتي أيب متام لف ًظا ،وأجو ُد سبكًا ،وأكثر ً
مر السنني ،وهذا البيت ُ أي :عىل ِّ
أشعر من أيب متام .
ُ ِ
األوائل ،فهو فيه العجيبة ،وا ُمل ْشبِ َه ِة لكال ِم
ِ ِ
النادرة االبتداءات
َ من
٭٭٭
والبكاء عليها � ً
أي�ضا . ِ اجلواب
ِ وا�ستعجامها عن
ِ ما قااله فـي �س�ؤال الديار
قال أبو متام :
()3 فصواب ِم ْن ُم ْقـلـتي ْ
أن َت ُصــوبا ٌ ِ
الطـلول ألاَّ تجُ ــيبا ِمن ســـجايا ()2
ْ
ال ومجُ ــيـبـا َ
الشـوق ســــائ ً تجَ ِـــد ْ
واجـعل ُبكــاك جــوا ًبا فاســأ َلنْها
( )3تسكب الدمع . ( )2خصال ،صفات . ( )1قدمت وبليت .
79
قال :من بكاك جوا ًبا » ألنه َ َ ات ،وقوله « :فاسألنْها ،واجعل وقد ذكر ُت هذا االبتداء يف االبتداء ِ
َ َ ْ
ِ ِ سجاياها َألاَّ جتيب ،فلي ُك ْن بكاؤك
أن َم ْنب َعل ْم َت َّ بكيكْ ،أو ألنهَّ ا ملا مل ْ تجُ ْاجلواب ،ألهنا لو أجا َب ْت بام ُي َ َ
َ
بكاءك . ب ذلك فأوج َ
حل عنهاَ ، قد َر َ
جييب ْ كان ُ
شوقك إىل من كان هبا، لشدة ِ ِ أي أنك إنام وق ْف َت عىل الدار وسأل ْت َها َ وقوله ِ :
ال ومجُ ي ًباْ ،
الشوق سائ ً جتد
ِ
للبكاء . ِ
للسؤال وسب ًبا الشوق سب ًباُ بكيت شو ًقا أيض ًا إليهم ،فكان ثم
َ
الشعراء وال طري َقتِهم .ومث ُل ُه ِ ِ ِ
مذاهب ليس عىل مذاهب أيب متامَ ، ذهب من وم ٌ وهذه فلسفة حسن ٌةَ ،
قو ُل ُه :
الوجد
ُ ماءه
جيتلب َ ْ و َدع ِحسيْ (ٍ )1
عني اجلـرع ال َف ْـر ُد
ُ قـــد أقـفر
ْ أســى،
ً جتر ْع
َّ
َ
فالبــــكاء لـه ر ُّد ُ
ســؤال املغـــــاين فـل (َ )2صـبرْ ُ ُهاملخزون قد َّ
ُ فانرص َ ِ
ُ إذا َ
واجلمع
ُ َ
الرمل سهل يشبههو ٌ ارتفاع .و ُيقال :هو َح ْز ٌن ( ، )3و ُيقال َ :
ٌ ِ
األرض له املوضع من
ُ رع :
فاجل ُ
َ
ال وجمي ًبا » . َ
الشوق سائ ً ِ ِ
للسؤال عىل معنى قوله جتد ِ أي
فالبكاء له ر ٌّدْ ،
ُ أجراع .وقوله «
ٌ
ِ
الناس فقال : الطريق ،بل جرى يف هذا الباب عىل مذاهب َ ومل يسلك البحرتى هذه
ُ
تبـخل قـد كا َن ْت بهـا العـي ُن
ب ْ ِ
سـواك ُ فانبـر ْت
َ ذات النُّخَ ـ ْي َل ِة
وقفـْنا على ِ
ــم ُأل عليــه صـ َب ًا مـا عاف ( )4تعـاق َب ْت اآليـات ٍِ ِ
وش ْ تســتفيق (َ )5
ُ دارس على
نس ُ
ـأل والنحـنمـن ِ ِ فلم ْي ِ
كيـف ْ
فـرطالبـكا َ كيـف يجيـ ُبنَا
َ الـدار رسـم
ُ ــدر
ِ ِ
النفس ،وأ ْل ُ ِ وصنع ٌة ،فهذا عندي أوىل ِ
بالقلب، وط باجلودة ،وأحىل يف وقول أيب متام وإن كان فيه دق ٌة َ
ِ
بمذاهب الشعراء . وأشب ُه
( )1احليس ( بالفتح أو الكرس ) أرض يتجمع فيها املاء .كلام نزح منها عاد .
قل وتناقص . (ّ )2
( )3مرتفع من األرض .
(ٍ )4
بال .
( )5تنقطع ،والصبا هي الريح الرشقية َوالشمأل ريح الشامل .
80
�أ�ســــــــــئلة
1ـ ما املنهج الذي سار عليه اآلمدي يف هذا اجلزء من كتابه « املوازنة » ؟
2ـ ملاذا امتنع اآلمدي عن الترصيح بتفضيل أحد الشاعرين ؟
سوى بني الشاعرين ؟
3ـ هل ترين أن اآلمدي ّ
استخرجي ما يدل عىل ر ْأيك من النص الذي أمامك .
81
8ـ من كتاب « �إعجاز القر�آن »
) «أ» ب ِ
الباقلاَّنيِ الطي ِ أليب ٍ
بكر ( حممد ِ بن ِّ
تستوف ِ ِ
بأصناف كلامتهِ ا ،مل تتضم ُن من القصص ما لو تكل ْف َت العبار َة عنها ِ
السور كل سورة ِمن هذه ُّ
َّ
القول ومتنُّ َع جانِ ِبه، ِ ثقل النظمِ ،ونفور الطبعِ ،وشرِ اد الكال ِم ( )1وهتا ُفت ()2
َ َ َ جتد فيام تنظِ ُم َ ما استو َف ْت ُه ،ثم ُ
فصل ،حتى ٍ ٍ
وفصل إىل قصة إىل ٍ
قصة، تنتق َل من ٍ يضاح عن واجبِ ِه ،ثم ال تقدر عىل أن ِ ِ وقصور َك يف ا ِ
إل
ُ َ
ِ
بالقصص ِ
عليك أماكن الفصل ،ثم ال يمكنُ َك أن َتص َل َ وتستصعب ِ
الوصل، مواضع َ
عليك
َ ُ تتعسرَّ َ
ِ
والتحميد ِ
التنزيه وكلامت يفٍ ِ
التوحيد ب ِّين ًة ، وحكماً جليل ًة ،وأدل ًة عىل مواعظ زاجر ًة ،وأمثاالً سائر ًةِ ، َ
رشيف ًة .
ِ فتأم ْل ِش ْع َر َم ْن ِش ْئ َت من
كالم ُه يف جتد َ املفلقني ،هل ُ َ الشعراء لك َّ ، فت َ وص ُ وإِن أر ْد َت أن تتح َّق َق ما ْ
القصص ؟ِ كالم ِه يف ِ
ذكر واهلجو جيري جمرى ِ ِ ِ
والفخر ِ
والغزل املديح
ِ
أمر ِه ، ال يف ِ اخلطابُ ،مسرتس ً ِ سوقي
َّ عامي الكالمِ، َّ نقل ٍ
خرب، ٍ
وقعة ،أو ِ ِ
وصف جاء إىل نك لرتا ُه إِذا َ إِ َ
ٍ ِ ِِ ِ ِِ ِ ِِ
ال يف كالمه ،عادالً عن امل َألوف من طبعه ،وناك ًبا عن املعهود من َسج َّيته ،فإِن ا َّتفق له يف قصة ٌ
كالم ُمتساه ً
خترج من عادتِ ِه أقول :إِهنا ُ جتاوزها َلغ ًْوا ،وال ُ َ حشوا ،وما ً وكان ما زا َد عليها َ نتني أو ٍ
ثالثة، قدر ثِ ِ جيد ،كان َ ٌ
ِ
ويتعر ُض للركاكة. ِ
دون ال ُع ْرف، ويقف َ ُ ِ
العفو، عفوا ،ألنه يقصرِّ ُ عن
َّ ً
ِ ِ
وصفت ْ اجلميع عىل ما َ جتد
السور ،هل ُ ذلك من غري َ فتأم ْل َ تقنع بام ق ْل ُت لك من اآليات َّ ، فإِن مل ْ ْ
لك؟
بالقرآن الكريم ؟ ِ فكيف
َ ِ
اإلعجاز ، لو مل ْ تك ْن إِال سور ٌة واحد ٌة لكفت يف
سورة لكفى ،وأقنع وشفى . ٍ ٌ
حديث من ولو مل يك ْن إال
«أ» من أعالم املتكلمني يف القرن الرابع ،اشتهر بذكائه ومهارته يف اجلدل ،ومن أشهر كتاب « التمهيد» ،تويف سنة 403هـ .
( )1رشاد الكالم :عصيانه وعدم مواتاته .
( )2ضعف .
82
الش ِ
عراء ،ملا طل ْب َت َب ِّينَ ًة ِسواها . ِ
سورة ُّ وحدها ِم ْن
قصة موسى َ عرفت قدر ِ ولو
َ َ
بل قص ًة من ِق َص ِص ِه ،وهي قو ُله :
إىل قولـه ﴿ : ﴿
﴾ حتى قال ﴿:
الشعراء ( 51ـ )63 ﴾
ثم قصة إبراهيم عليه السالم .
ِ
القرآن ،وهي قوله : القول يف ِ
ذكر ُ اآليات التي انتهى إليها
ُ ثم ْلو مل تك ُن إال
﴾ ﴿
الشعراء ( 190ـ ) 194
يتضم ُن فاحت ًة وفاصل ًة ،ومنها ماهي فاحت ٌة وواسط ٌة ،وفاصل ٌة ، ِ
بفواصلها ،منها ما كلامت مفرد ٌة
ٌ وهذه
َّ
ومنها كلمة بفاصلتِها تام ٌة .
ليكون نذيرا ،وب أنه آي ٌة لكونِ ِه نبي ًا ،ثم وص َل بذلك كيفي َة النِّ ِ دل عىل أن ُه َّنز َله عىل قلبه
َّ
ذارة فقال : َّ َ َ ّ َ ً َ ينَّ ُ
﴾ ﴿
الشعراء ( 214ـ )215
ِ
السورة . ِ
الفصول أي آخر البديع ،والتن ُّق َل يف فتأمل آي ًة آي ًة ،لتعرف اإلعجاز ،وتتبينَّ َ ال َّتصرَُّ َ
ف
َ
﴾ العجيب ،وهو قوله ﴿ َ ثم راع املقطع ()1
ِ
ِ
السابقة، ِ
النظائ ِر جيد َ
مثل هذه الوعيد ،وأن ين ِّظ َم مثل هذا النظمِْ ،
وأن َ ِ ِ
بمثل هذا هل يحُ ْ ِس ُن ٌ
أحد أن يأتيَ
ِ
املتقدمة ؟ ِ
الكلامت ف َ
مثل هذه ِ
ويصاد َ
ٍ
واحدة الرتتيب كلامتِ ِه ،وب َّي ُ
نت لك ما يف ِّ
كل ِ ٍ
فصل ،فاستقر ْي ُت عىل كل إل ِ
ماللِ ،جل ْئ ُت إِىل ِّ ولوال كراه ُة ا ِ
ِ
بنوره ،وهتتدي بهِ ُداه . وتستيضء بعد ُه ، ُّ
تستدل بام قلنا ُه عىل ما َ َ
ولعلك ِ
الرباعة، من
ُ
( )1هناية الفقرة .
83
�أ�ســــــــــئلة
84
لإعجاز »
9ـ من كتاب « دالئل ا ِ
ِ
القاهر اجلرجاين «أ» ِ
لعبد
عد من النحويني ،كام كان ُي َع ُّد من املتكلمني ،وله تآليف يف النحو ،وتستطيعني أن تلميس أثر ثقافته النحوية
«أ» كان عبد القاهر اجلرجاين ُي ُّ
يف هذا النص .تويف سنة 471هـ .
( )1املكان املرتفع الذي يقف فوقه الرقيب .
( )2غيظ .
85
ُ
يكون ِ
الصورة التي هبا وقبل أن نصيرَ إىل ليفَ ، قبل دخوهلا يف الت ْأ ِ ِ
الكلمة َ هذا كذلك ،فينبغي أن ُين َظ َر إىل
سبيل إِىل إفادهتِا اجلملة َم ْعنَى من املعاين التي ال َ ِ الك َِل ْم إخبار ًا وأمر ًا وهن ًيا ،واستخبار ًا وتعج ًبا ،و ُتؤ ِّد َي يف
لفظة عىل ٍ
لفظة . وبناء ٍ ِ كلمة، ٍ ٍ
كلمة إىل إِال بِ َض ِّم
أدل عىل معناها الذي ُو ِض َع ْت له كون هذه َّ الداللة حتى َت َ ِ تفاضل يف ٌ ِ
اللفظتني يكون بني َ تصو ُر ْ
أن هل ُي َّ
أدل عىل معناه من (فرس) عىل ما ُس ِّم َي ِبه ؟ قال إِ َّن «رجلاً » َّ من صاح َبتِها عىل ماهي َم ْو ُسوم ٌة به ،حتى ُي َ
وأبني كشف ًا عن صورتِ ِه يكون هذا أحس َن نب ًأ عن ُه، َ ليشء واحد ْ
أن ٍ تصور يف االسمني املوضوعني وحتى ُي
َ َ
بني لغتني األسد) ؟وحتى َأ ّنا لو أر ْدنا املوازن َة َ ِ الس ُب ِع املعلو ِم من ( (الليث) مثلاً َّ ُ ُ
أدل عىل َّ فيكون من اآلخر،
وهل نظري ِه يف الفارسية ؟ ْ الذكر من ِ اآلدمي ّ ِّ أدل عىل نجعل لفظة ( رجل) َّ َ كالعربية والفارسية سا َغ لنا أن ِ
ِ
التأليف أن ُينْ َظ َر إىل مكان تقعان فيه من غري ْ دتان من ِ تتفاضل الكلمتان ا ُملفر ِ َ يقع يف وه ٍم ـ وإن َج ِه َد ـ أن
َ
أخف، َّ حروف هذه
ُ َ
تكون تكون هذه م ْألوف ًة ُمستعمل ًة ،وتلك غريب ًة وحشي ًة ،أو ْ
أن َ بأكثر من أن والنظمَِ ،
أبعد ؟
اللسان َ َ يكد
وامتزاجها أحس َن ،ومما ُّ ُ
وغرض ُه ْم ْ وم ْس َتك َْره ٌة ،إِال ِ
أن ُيعبرِّ وا ُ وهل قالوا :لفظ ٌة متمكن ٌة مقبول ًة ،ويف خالفة :قلق ٌة ونابي ٌة ُ
سوء التالؤم (ّ ،)1
وأن لق والنُّبو عن ِ جهة معناها ،وبال َق ِ وتلك من ِ َ بني هذه ِ بالتمكُّن عن ُح ْس ِن
ُ ِّ االتفاق َ
للتالية يف ُم َؤا َّدها ؟.. ِ تكون لِ ْفق ًا َ صل ْ
أن وأن الساب َقة مل َت ْ بالثانية يف معناهاَّ ، ِ األُوىل مل ْ ِتل ْق
أن ال بذكر ِه ،وإِ ِ
مجاع ِه ْم ْ والتنويه ِ ِ قد ِر ِه، العلامء عىل تعظي ِم ش ْأ ِن الن ْظ ِم ،وتفخي ِم ْ ِ عل ْم َت إِ َ
طباق وقد ِ
غرابة معناه ما بلغَ . ِ يستق ْم له ،ولو بلغَ يف قدر لكال ِم إِذا هو مل ِ ِِ َ
فضل مع َع َدمه ،وال ْ َ
وتعمل عيل قوانينِه و ُأصولِ ِه، َ علم النَّ ْح ِو ، الوضع الذي يقتضيه ُ
ِ
َ النظم إِال أن َت َض َع َ
كالم َك ُ ليسأن َ واعلم ّ
ْ
ٍ
ختل بيشء منها . الرسوم التي ُر ِس َمت لك ،فال َّ مناهجه التي نهُ ِ َج ْت ( ، )2فال َتزيغَ عنها ،وحت َف َظ ف ِ ِ
وتعر َ
َ
وفروق ِه :
ِ كل باب وجوه ِّ ِ ينظر يف أن َ غري ْ ِِ
الناظم بنظمه َ ُ
ِ
يبتغيه نعلم شيئ ًا وذلك أنا ال ُ
زيد، ومنطل ٌق ٌِ زيد،وينطلق ٌ ُ وزيد ينطلق، نطلقٌ ، زيد ُم ٌ الوجوه التي تراها يف قولك ٌ : ِ اخلرب إىل فينْ ُظ َر يف ِ
منطلق .
ٌ وزيد هو
املنطلقٌ ،
ُ وزيد هو
املنطلق ٌ ،
ُ وزيد
ٌ
( )1الحظي أن معنى التالؤم هنا خيتلف عن معناه عند الرماين ( النص اخلامس ) .
( )2مناهجه التي هنجت :طرقه التي رسمت .
86
خرج ُت ،وإِ ْن أخرج .وإِن ِ ِ ِ
ْ خرج َت
ْ ْ ويف الرشط واجلزاء إىل الوجوه التي تراها يف قول َك :إِن تخَ ْ
رج
خارج . ٌ خرج َتخرج َت ،وأنا إِن ْ خارج إن ْ ٌ خارج ،وأنا ٌ ختر ْج فأنا ُ
وجاءين وهو ِ
مرس ٌع، َ وجاءين ُيسرِ ُع ، َ جاءين زيد مرسع ًا، ِ
ويف احلال إىل الوجوه التي تراها يف قول َك َ :
ِ
لكل من ذلك ِ أو هو ُي ِ
حيث ينبغي له ؛ وجييء به ُ ُ موض ُع ُه أرسعْ ّ ، َ وقد
وجاءين ْ َ أرس َع، وجاءين قد َ َ رس ُع،
ال
فيضع ك ً ُ ذلك املعنى، واحد منهام بخصوص َّي ٍة يف َ ٍ كلتشرتك يف معنى ،ثم ينفر ُد ُّ ُ احلروف التي ِ وين ُظ ُر يف
االستقبال ،و(بإن) فيامِ نفي ِ جييء (بام) يف ِ خاص معناه ،نحو ْ من َ
نفي احلال ،و(بال) إذا أرا َد َ َ أن ِّ ذلك يف
يكون وأن ال يكون ،و(بإذا) فيام َع ِل َم أنه كائن . َ بني ْ
أن يرتج ُح(َ )1 َّ
يعـرف فيام ُ ِ
الوصـل) ،ثم موض ِع ( فيعرف موضع ( الفص ِل) فيــها مـن ِ ُ وينظر يف اجلمل التي َت ِر ُد
ْ َ ُ
)وموضع الفاء) مـن موضـ ِع ( ث َُّم ِ ُ ح ُّقــه (
َ وموضع ( َ َ موضع (الواو) من موض ِع ( الفاء) ، َ الوصل)
وموضع (لك ْن) من موضع (بل) . َ (أو) ،وموضع (أم) ، ْ
امرواإلض ِ
ْ ِ
والتكرار، ِ
احلذف خري ،يف الكالم ك ِّله ،ويف والتنكري ،والتقدي ِم وال َّت ْأ ِ ِ ِ
التعريف رصف يف ُ وي َت
الصحة وعىل ما ينبغي له . ِ لك مكا َن ُه ،ويستعم ُله عىل ال من َذ َ فيضع ك ً إل ِ
ظهار، وا ِ
ُ
كان صوا ًبا ،وخطؤ ُه إِ ْن كان خطأ إىل النظ ِم ـ يرجع صوا ُبه إِن َ ٍ
بواجد شي ًئا فلس ُت ُ
ُ السبيلْ ، هذا هو
وم َلموضعه ،وو ِضع يف ح ِّق ِه ،أو ُع ِ النحو قد أصيب به ِ ِ حتت هذا االس ِم ـ إِلاّ وهو معنى من معاين ويدخ ُل َ ُ
ُُ ُ َ َ
مل يف غري ما ينبغي له . موضع ِه ،واس ُت ْع َ
ِ فأزيل عن َ ِ
املعاملة، بخالف هذه ِ
�أ�ســــــــــئلة
87
ديوان عبا�س حممود العقاد (�أ)
ِ ُ
مقدمة اجلزء الثاين من 10ـ
صاحب الديوان
ُ كتبها
الشاعر
ُ أدوار الشعر األربعة « : ِ قال الكاتب اإلنجليزي( توماس لف بيكوك) (ب) يف رسالتِه عن
ِ
بخواطره ويرجع الزمن اخلايل (،)1 ِ يقيم يف ِ ِ نصف مهجي َي ُ
ُ عرص املدنية ،ألن ُه ُ عيش يف ُ يف عرصنا هذا هو
ويسري املهجورة واألساطري األُوىل ،ِ ِ
والعادات ِ
اهلمجية ِ
األطوار وخواجله ( )2وسوانِ ِ
حه إىل ِ ِ
وبأفكاره
ُ َ َ
بذهن كالرسطان زحف ًا إىل الوراء » ... ٍ
أن ِ
عرص النُّضج ْ االجتامعية ،ولك ْن م َن ا ُمل ْض ِح ِك يف
ِ ِ
اهليئة ٍ
طفولة الشعر نقر ًة تن ِّب ُه الذه َن يفُ « لقد َ
كان
مو ِضع ًا من شواغلنا ،فإن هذا يشبه سخف الرجل الذي يشتغل ونفسح هلا ْ
َ بأالعيب طفو َلتِنا،
ِ ُنعنَى
بأالعيب الصبيان ،ويبكي لينام عىل ر ّنة األجراس الفضية » .
هذا هو األساس الذي أقام عليه الكاتب ر َأي ُه يف رسالته ،وليس هو بالرأي احلديث ،ولكنه ر َأي قديم،
أورده أفالطون يف مجهوريتهَ ،وهلج به ()3بعض الكتاب يف إبان النهضة الفرنسية ،مع أهنا كانت يف مراميها
السياسية واالجتامعية أشبه برواية شعرية مت َّثل عىل مرسح الفن منها باحلقيقة .العملية التي جتري يف عامل
احلياة .
وقد أحسن فكتور هوجو(٭) يف تفنيده هذا الرأي ( )4يف كتابه « وليم شكسبري» فقال « :ينادي كثري
وفقهاء القانون ـ بأن الشعر قد أدبر زمانه ،فام أغرب هذا
ُ من الناس يف أيامنا هذه ـ وال سيام املضاربون
بعدَّ ،
وإن الربيع قد أصعد آخر إن الورد لن ينبت ُ ِ
هؤالء القوم يقولون َّ : القول ! الشعر أدبر زمانه ! لكأن
(أ) العقاد من أعالم األدب العريب املعارص غلب عليه النثر أكثر من الشعر ،تويف سنة 1384هـ .
(ب) كان توماس لف بيكوك ( 1785ـ 1866م ) شاعر ًا وروائياً ،وكان صديقًا للشاعر الرومنيس الكبري بريس بيش شيل ( 1792ـ
1822م) ،والظاهر أن إخفاق بيكوك يف معظم جتاربة الشعرية كان سبب ًا يف هجومه عىل الشعر يف رسالته التي يشري إليها العقاد ،وقد رد
عليها شيل برسالة أخرى مشهورة يف األدب اإلنجليزي وعنواهنا ( دفاع عن الشعر ) .
( )3أرسف يف ترديده . ( )2مشاعره. ( )1املايض.
(٭) أكرب ممثيل املذهب الرومنيس يف األدب الفرنيس ،ولد سنة 1802وتويف سنة 1885م.
( )4إثبات خطأ هذا الرأي .
88
وإن الشمس كفت عن الرشوق ،وإنك جتول يف مروج األرض فال تصادف عندها فراشة طائرة، أنفاسهَّ ،
وإن ِ
الفضاءَّ ، حيوم يف وإن القمر ال ُينْ َظر له
َّ
ضياء بعد اليوم ،والبلبل ال يغرد ،واألسد ال يزجمر ،والنرس ال ّ
ٌ
قالل ( )1األلب والربانس .قد اندكت ،وخال وجه األرض من الكواعب ( )2الفواتن واأليفاع ِ
احلسان ... ُ
لكأهنم يقولون :إنه ال أحد اليوم يبكي عىل ٍ
قرب ،وال أم حتب وليدها ،وإن أنوار السامء قد مخدت ،وقلب
اإلنِسان قد مات » .
واحلق أنه ال فرق بني القولني :إذ الشعر ال ي ْفنى إال إذا َفنِيت بواعثه ،وما بواعثه إِال حماسن الطبيعة
ِ
بانقضاء اإلنسان، ِ
بانقضاء هذه البواعث فكأنام حكمنا وخماوفها ،وخوالج ( )3النفس وأمانيها فإذا حكمنا
وليس من العجب أن يوجد يف الدنيا أناس ال هيتزون للشعر ،وهي مكتظة بمن ال هيتزون للحياة نفسها،
غاصة بمن يمرون هبا غافلني عن حماسنها وآياهتا ،كأهنم سيمرون هبا ألف مرة ،أو كأهنم يعودون إليها
شاؤوا الكرة (.)4
كلام ُ
إِنني ال أرى يف رضوب اخلطأ ر َأيا أخطأ من زعم الزاعمني أن الشعر ِ
حين إىل املايض ويحُ ْ ِجم ( )5عن ً
ِ
املستقبل ،هذا زعم جترد أصحابه من أرحيية ( )6الشعر ومن أصالة الفكر ،فال ُهم يف الشعراء وال هم عن
الفالسفة احلكامء ،ولو كان الشعر عاك ًفا عىل املايض ـ كام يزعمون ـ لكان خلي ًقا أال تظهر هنضاته إِال
يف أعقاب الدول وأنقاض احلضارة ،وهذا خالف ما نشاهده بني أيدينا من حقائق التاريخ وحوادث
األمم.
ويومههم أن الشعر خاصة من خواص اهلمجية :أهنم ال ُ وإِنام َي ْلبِس ( )7الصواب عىل بيكوك وأمثاله
يم اجلهل ،ألنيم ّيزون بني اقرتان السبب باملسبب ،واقرتان األمرين يف موضع واحد ،فالشعر عندهم َل ِز ُ
جهالء وكانت أشعارهم من أبلغ الشعر وأقواه .ولو قال قائل :إن العرب ُس ْمر الوجوه َ اهلمج كانوا
ألهنم يتكلمون العربية ،أو إهنم يتكلمون العربية ألهنم ُس ْمر الوجوه ،ملا كان قوله أغرب يف العقل وأبعد
ِ
هؤالء الكتاب ،إذ احلقيقة أن اهلمج مل ينظموا أبلغ األشعار ألهنم جهالء ،وال كانوا عن الصدق من قول
( )3مشاعر . ( )2الفتيات . ( )1جبال.
( )6سامحة ،انطالق . ( )5يرجع . ( )4العودة.
( )7خيفى .
89
جهالء ألهنم نظموا أبلغ األشعار ،ولكنهم طائفة من اخللق هلا نفوس ومدارك قد هبرهتا طلعة الطبيعة،
إلحساس ،وجاشت ( )1غوارهبا ( )2باخلياالت ،فاندفقت من وأدهشتها بدائع الكون ،فامجت جوانبها با ِ
الصدور إىل األلسنة ،وأفصحت عنها كل ما يفصح اجلاهل عام يتلجلج يف صدوره ،أحست نفوسهم
فتحركوا للتعبري عنها ،فكانوا جهالء يف تعبريهم ،ومل يكن تعبريهم عن أنفسهم ألهنم جهالء .
حواسنا ،ودرجنا من اهلمج ّية إىل املدن ّية ،ولكن الكون مل يصغر،
ِّ ولقد انجابت ِعصابة ( )3اجلهل عن
إلعجابنا ودهشتناوالدنيا مل تنقص ،ونواميس الطبيعة مل تضعف ،ومل يصبح هذا الكون اليوم أقل استحقاقا ِ
مما كان يف أعني اهلمج اجلاهلني .فهل من فضل املدينة عىل أبنائها أال يشعروا ببهجة األزهار ،وروعة
البحار ،أو هباء النجوم ،ووحشة الغيوم ،وأال تتفتح نفوسهم لنرضة الوجوه املرشقة ،وال تطرب آذاهنم
خلرير اجلداول املرتقرقة ،وعجيج األواذي ( )4املتدفة ،وأال يأسفوا وال حيزنوا وال حي ّبوا وال يبغضوا ،وال
تنزها عن اهلمجية ،وصونا لكرامة املدينة ؟ أم من فضلها عليهم أن يشعروا هبذه يتمنَّوا وال يتذكَّروا ُّ ،
األشياء ثم يسكتوا عن شعورهم هبا ،متباهني هبذا البكَم املدنيِ عىل ذلك املنطلق اهلمجي ؟ أم ينطقون هبا
مهس ًا ،لئال يعرتضوا مطارق املعامل ومقارع اآلالت ،ولئال حيجبوا صفري القاطرات وأزيز املركبات التي
ال ينبغي للمدين أن يطرب لغريها ،أو يتصنَّت لصوت غري صوهتا ؟
يقول بيكوك « نحن نعلم اليوم أن ال جنيات يف حديقة (هايد بارك) ،وال عرائس يف ِ
فناء ( الرجينت)،
هو قول حق لوال أن الرجل قد نيس أن األقدمني مل يعجبوا باآلجام ( )5والغ ُْدران ألهنم خت ّيلوا فيها اجلن ّيات
والعرائس ،بل هم ختيلوا فيها اجلنيات والعرائس ألهنم ُأعجبوا هبا و ُفتنوا بسحرها ،ونحن اليوم ترسنا
حدائقنا كام ترس األقدمني لو ر ْأوها ،فهل يكون من العبث نظم قصيدة يف وصف رسورنا هبا ،وال يكون
من العبث غرسها وتعهدها للتمتع هبذا الرسور ؟
إلنسانية ،وما كانت املنافع املا ّدية ـ والتي يعبدها كارهو الشعر ـ ولن تكون، إن املدنية ال تقتل النفس ا ِ
إلنسانية لكان العامل قد إلنسان القصوى يف احلياة .ولو أن مطالب اجلسم كانت هي وجهة احلياة ا ِ غاية ا ِ
حده منذ آالف السنني ،ولكانت األجيال املقبلة أجيالاً فضول ّية ال تزيد العامل وال العامل يزيدها ،ألن
بلغ َّ
( )3ما يوضع عىل العني ليمنع الرؤية . ( )2أعاليها . ( )1اضطربت.
( )5الغابات . ( )4األمواج العالية .
90
وبرص بوسائلها ،فامذا بقى عليه منها ؟ .وفيم تتعاقب األجيال لتكرير ُ إلنسان عرف حاجات جسمه ا ِ
حالة واحدة ال تفاوت فيها ؟ لو كانت وجه ُته ما يسمونه باملنافع املادية لكان حسبه ما بلغه منها وكفى،
ولكن اإلنسان مسوق إىل وجهة بعيدة بميول نفسه وحوافزها ،وإنام منافعه املادية زا ُده إىل هذه الوجهة ،
البلداء لغوا وهي جوهر احلياة ومتاع
ُ وكل هاتيك املنافع تنتهي إىل معنى من املعاين الشعرية التي يعدها
النفوس .
شاعرا يف كالمه ،وهو مفتاح نفسه، ً اإلنسان شاعر يف مبانيه و ُعروض لباسه ومطاياه ( )1فلم ال يكون
و َأرشف مزاياه ؟ ومل ال يكون شاعرا يف الكالم املوزون وهو أمجل كالمه وأشجاه ؟ ويرفع الرصوح()2
ً
ِ
باذخات( )3تطاول اجلبال الشامء ،وخترتق طباق اهلواء ،فهل كانت تضيق بجسمه الصغري لو خ ّفض من
أل اخلزائن بذهبه وفضته ،فهل تراه هيلك جو ًعا لواجتزأ من هذه حجراهتا ،وو َّط َأ من َأسوارها ؟ ويم ُ
اخلزائن بعرش معشارها ؟ ويقتني احللل ا ُمل َس َّومة (َ )4ألوا ًنا و َأزياء ،فهل هو يتقي هبا ال ُق ّر ( )5واهلجري ( )6؟
ويتخذ له املركبات اخلاصة ،فهل هي أرسع يف املسرية أو أقل عليه كلفة من مراكب اجلامهري ؟ كال ! ولكنه
حيسه قلبه اليبتغي هبا أثر ًا يف النفوس ال خيتلف يف صميمه عن األثر الذي يبتغيه الشاعر بقصائدهَ ،أثرا ُّ
أعضاؤه ،أثر ًا مداره عواطف النفس ورغباهتا ،ال أحجام املادة وكمياهتا ،وهذه هي امليول واحلوافز التي
الشعراء الكبار يف األُمة
َ تدير دوالب املنافع املادية ،وال ضري منها عىل الرش ألهنا عنرصه و َينبوعه ،وألن
ال ينميها ويرقيها ،وأهنا جتعل وراء منافعها املادية عام ً
عالمة عىل تيقظ هذه امليول واحلوافز فيها ،وأن َ
املنافع أداة ملطامعها وأمانيها .ولكن عالم تدل املنافع وحدها ؟ تدل عىل أهنا الغاية من حياة األمة ،وال
مراء ( )7يف مصري أمة َأدركت من حياهتا الش ْأو( )8األخري . َ
الد ْوحة ( )9الباسقة ،فت َّط ِل ُع منها عىل حياة نامية يف جذوعها و َأطرافها، كذلك ترى الزهرة عىل غصون َّ
وجرثومة كفيلة بتجديد أزهارها وثامرها ،فإِذا أخطأت الزهر فيها فقد ال يتقلص شرب من ظالهلا ،أو
بعد بالدوحة املنتجة ،وإنام هي ح َطب منصوب تتو َّقعه النار، يسقط فرع من غصوهنا ،ولكنها ليست ُ
وترت َّبص به الفأس واملنشار .
( )4املعلمة . ( )3شديدة االرتفاع . ( )2ما يركبه. ( )1القصور
( )9الشجرة العالية . ( )8الشوط . ( )7المراء :ال جدال . ( )6شدة احلر . ( )5شدة الربد .
91
�أ�ســــــــــئلة
1ـ ُي َع ّد العقاد عىل رأس أصحاب االجتاه الرومنيس يف النقد العريب احلديث ،استخرجي من النص ما
يؤيد ذلك .
2ـ يزعم بعض الناس َأن الشعر ال جيود إال يف عصور اهلمجية .كيف فنَّد العقاد هذا االدعاء ؟
3ـ ما موقف العقاد من املدنية احلديثة كام يظهر من هذا النص ؟ هل يعارضها ؟ هل حي ِّبذها ؟ وضحي
رأيك بالتفصيل .
92
فهـــر�س
الصفحة املوضوع
االقتباس 7 ............................................................................................................................
حسن التعليل 13 ......................................................................................................................
األسلوب احلكيم 17 ................................................................................................................
تأكيد املدح بام يشبه الذم 20 .....................................................................................................
1ـ العالقة بني النقد والبالغة 26 .......................................................................................... .
2ـ بذور النقد واملالحظات البالغية 34 ..................................................................................
3ـ نشأة علوم البالغة 45 .......................................................................................................
4ـ تطور النقد وارتباطه باملباحث البالغية 53 .......................................................................
من املكتبة النقدية والبالغية 63 ...............................................................................................
1ـ من صحيفة برش بن املعتمر 64 .........................................................................................
2ـ من كتاب البيان والتبيني 67 ............................................................................................. .
3ـ من كتاب « تأويل مشكل القرآن » 69 ..............................................................................
4ـ من كتاب « البديع » 72 .....................................................................................................
َت يف إعجاز القرآن » 74 .......................................................................... 5ـ من كتاب « النك ِ
6ـ من كتاب « بيان إعجاز القرآن » 76 ...................................................................................
7ـ من كتاب « املوازنة بني الطائيني » 78 .................................................................................
8ـ من كتاب «إعجاز القرآن » 82 ...........................................................................................
9ـ من كتاب « دالئل اإلعجاز » 85 .......................................................................................
اجلزء الثاين من ديوان عباس حممود العقاد 88 ................................................... . ِ 10ـ مقدمة