Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 42

‫من الفتور العام إلى الثورة العارمة‬

‫نظرية التغييرلدى الكواكبي‬


‫محمد املختارالشنقيطي‬

‫ص ُدق ُم َّ‬
‫سمى الفيلسوف السياس ي على أحد من أعالم املسلمين ‪-‬األقدمين‬ ‫ربما ال َي ْ‬

‫يص ُدق على َّ‬


‫السم َّي ْين‪ :‬عبد الرحمن بن خلدون (‪808-732‬هـ ‪-1332 /‬‬ ‫واملعاصرين‪ -‬أكثر مما ْ‬

‫َ‬
‫حظي الكواكبي‬ ‫‪1406‬م) وعبد الرحمن الكواكبي (‪1320-1265‬هـ ‪1902-1849 /‬م)‪ .‬وقد‬

‫باهتمام كبير منذ وفاته‪ ،‬وصدرت كتب عديدة عن حياته وآثاره‪ ،‬منها ما نحا منحى الجمع‬

‫لتراثه‪ ،‬مثل أعمال محمد عمارة ومحمد جمال طحان‪ 1.‬ومنها ما جمع بين سيرة حياته‬
‫‪2‬‬ ‫ْ‬
‫كتابي عباس محمود العقاد ومحمد عبد الرحمن برج‪.‬‬ ‫وتلخيص أهم أعماله مثل‬

‫وقدم دارسون عرب دراسات عن الكواكبي تتناول فكره من زوايا مخصوصة‪ ،‬ومن‬

‫هؤالء ماجدة حمود وجورج كتورة‪ ،‬وحسن السعيد‪ ،‬وسمير أبو حمدان‪ 3.‬كما حاول آخرون‬

‫أن يقدموا الكواكبي ضمن منظور مقارن‪ ،‬ومن هؤالء عمر بن قينة‪ 4.‬واهتم باحثون غربيون‬

‫بالكواكبي وأعماله‪ ،‬ومن أقدم هذه األعمال رسالة سيلفيا قدوري للدكتوراه بجامعة أدمبره‬

‫عام ‪ ،1953‬بعنوان‪" :‬أفكار رائد‪ :‬عبد الرحمن الكواكبي (‪ )1902-1849‬في سياق اتجاه الفكر‬

‫‪ 1‬محمد عمارة‪ ،‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ..‬األعمال الكاملة (القاهرة‪ :‬دار الشروق)‪ .2007 ،‬محمد جمال‬
‫طحان‪ ،‬األعمال الكاملة للكواكبي‪ ..‬دراسة وتحقيق (بيروت‪ :‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪.2007‬‬
‫‪ 2‬عباس محمود العقاد‪ ،‬عبد الرحمن الكواكبي (القاهرة‪ :‬مؤسسة هنداوي‪ .)2012 ،‬محمد عبد الرحمن‬
‫برج‪ ،‬عبد الرحمن الكواكبي (القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪.)1972 ،‬‬
‫‪ 3‬ماجدة حمود‪ ،‬عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضة واألدب (دمشق‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪ .)2001 ،‬جورج‬
‫كتورة‪ ،‬طبائع الكواكبي في طبائع االستبداد‪ ..‬دراسة تحليلية (بيروت‪ :‬املؤسسة الجامعية‪ .)1987 ،‬حسن‬
‫السعيد‪ ،‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ..‬جدلية االستبداد والدين (إيران‪ :‬دون ذكر الناشر‪ .)2000 ،‬سمير أبو‬
‫حمدان‪ ،‬عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة االستبداد (بيروت‪ :‬الشركة العاملية للكتاب‪.)1992 ،‬‬
‫َّ‬
‫‪ 4‬عمر بن قينة‪ ،‬الرؤية الفكرية في الحاكم والرعية لدى ابن املقفع والعنابي والكواكبي (عمان‪ :‬دار أسامة‬
‫للنشر‪.)2000 ،‬‬
‫‪1‬‬
‫السياس ي العربي‪-‬اإلسالمي‪ "،‬ومن آخرها كتاب إسحاق وايزمان (عبد الرحمن الكواكبي‪:‬‬
‫‪5‬‬
‫اإلصالح اإلسالمي واإلحياء العربي) الصادرعام ‪.2015‬‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫الجدل‬ ‫ومن األعمال املكتوبة عن الكواكبي ما ن َحا منحى حجاجيا‪ .‬وأشهرهذا الصنف‬

‫بين محمد عمارة والكاتب السوري املسيحي جان داية حول إسالمية الكواكبي وعلمانيته‪ 6.‬وال‬
‫ُ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وبإيمانه‬
‫أحسب أن عمارة كان بحاجة لهذا الجدل‪ ،‬فكتب الكواكبي ناطقة بمنبعه ٍ‬
‫العميق أن الوحي اإلسالمي والتجربة النبوية والراشدية قد َّ‬
‫قدما للمسلمين ولكل البشرية ما‬

‫يكفي من القيم واألحكام السياسية لبناء أعدل النظم السياسية وأنبلها‪ .‬فكل مسعى لفرض‬
‫ٌ‬
‫الرهبانية السياسية على اإلسالم عبث ال طائل من ورائه‪.‬‬
‫َ‬
‫وتظل دراسة عباس محمود العقاد عن الكواكبي ‪-‬على قدمها‪ -‬أعمق هذه الدراسات‪،‬‬
‫قلم يصوغ التراجم مثل ما يصوغها قلم العقاد‪ ،‬وال َ‬
‫كاتب يجاري العقاد في‬ ‫وأمتعها‪ .‬فال َ‬
‫ْ‬
‫ووضع أقوالهم وأفعالهم في‬ ‫الغوص على نفسيات العظماء‪ ،‬وتحليل دواخلهم ودوافعهم‪،‬‬

‫سياق الزمان واملكان واإلمكان‪.‬‬


‫أفكار َّ‬
‫تتحدى الزمن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ورغم وفرة ما كتب ونشر عن الكواكبي‪ ،‬فال يزال لدى الرجل ما يقوله لهذا الجيل من‬

‫املسلمين‪ ،‬خصوصا في موضوع االستبداد ووسائل التحرر منه‪ .‬وقد استعادت أفكارالكواكبي‬

‫بريقها من جديد منذ اندالع ثورات الربيع العربي‪ ،‬فوجد فيها كثيرون إلهاما متجددا وزادا في‬

‫الطريق ال ينضب‪ ،‬فتردد صدى أفكاره في ميادين الثورات‪ ،‬وفي وسائل اإلعالم‪ ،‬وعبر وسائل‬
‫‪5‬‬
‫‪Sylvia Kedourie, "The Ideas of a Precursor Abd Al-Rahman Al-Kawakibi (1849-1902) in‬‬
‫‪Relations to the Trend of Muslim-Arab Political Thought" University of Edinburgh, 1953; Itzchak‬‬
‫‪Weismann, Abd Al-Rahman Al-Kawakibi: Islamic Reform and Arab Revival (London: Oneworld‬‬
‫‪Publications, 2015).‬‬
‫‪ 6‬انظر‪ :‬جان داية‪ ،‬اإلمام الكواكبي فصل الدين عن الدولة (لندن‪ :‬دار سوراقيا‪ ،)1988 ،‬ورد محمد عمارة‪،‬‬
‫الكواكبي شهيد الحرية ومجدد اإلسالم (القاهرة‪ :‬دار الشروق‪.62-7 ،)2007 ،‬‬
‫‪2‬‬
‫التواصل االجتماعي‪ .‬وفي هذا السياق تأتي هذه الدراسة التي تتناول تشخيص الكواكبي لداء‬

‫الركود واالنحطاط في األمة اإلسالمية‪ ،‬وهو ما دعاه الكواكبي "الفتور العام‪ "،‬ثم العالج‬

‫الثوري الذي اقترحه الكواكبي لهذا الفتور‪ .‬وقد اخترنا هذا املوضوع ملا له من ارتباط وثيق‬

‫باألحداث الجسام التي يشهدها قلب العالم اإلسالمي اليوم‪ ،‬خصوصا املنطقة العربية منه‪.‬‬

‫فغاية البحث هي تحقيق أمرين‪ :‬أولهما الكشف عن تطور فكر الكواكبي في رؤيته‬
‫ملعضلة املجتمعات املسلمة في عصره‪ ،‬واملسار الذي قاده إلى النتيجة التي َّ‬
‫توصل إليها في‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ومحور جهاده السياس ي‪ ،‬وهي أن االستبداد هو جذر‬ ‫وجعلها عصارة عمله الفكري‪،‬‬ ‫النهاية‪،‬‬
‫الشر‪ُّ ،‬‬
‫وأم الرذائل‪ ،‬وأن مواجهته هي املدخل الصحيح لخروج األمة اإلسالمية من أزمتها‬

‫الحضارية‪ .‬وثاني األمرين هو استعراض أهم األفكارالثورية ‪-‬العملية والتنظيمية‪ -‬التي اقترحها‬
‫ٌ‬
‫أفكار زادها املخاض‬ ‫الكواكبي ملواجهة هذا الفتور العام الناتج عن داء االستبداد‪ ،‬وهي‬
‫َ‬
‫الثوري الحالي في املنطقة العربية ألقا وحيوية‪ ،‬لكأنما تتحدى الزمن وتأبى االندثار‪ ،‬حتى‬

‫تتحقق واقعا حيا‪ ،‬كما كان مطمح كاتبها منذ أكثرمن مائة عام‪.‬‬

‫وقد المس محمد عمارة الفكرتين املحوريتين اللتين يتناولهما بحثنا هذا‪ ،‬لكنه اكتفى‬

‫بإشارات خفيفة وخطوط عامة جدا‪ ،‬ربما بسبب اتساع اهتمام عمارة‪ ،‬وعدم تركيزه على هذه‬

‫الجوانب من فكر الكواكبي‪ .‬فاختزل عمارة رؤية الكواكبي لقضية الفتور العام اختزاال كبيرا‪،‬‬

‫وحصرأسباب ذلك الفتور عنده في أربعة فقط‪ 7،‬رغم أن الكواكبي نفسه أوصلها ستا وثمانين‬

‫سببا!‪ ،‬كما جاء حديث عمارة عن الثورة عند الكواكبي سريعا وباهتا‪ ،‬فلم يمنح نظرية‬
‫َّ‬
‫الكواكبي الثورية حقها من االستقراء والتحليل‪ 8.‬فعس ى أن يسهم هذا البحث في سد هذه‬

‫‪ 7‬محمد عمارة‪ ،‬الكواكبي شهيد الحرية‪.212-201 ،‬‬


‫‪ 8‬عمارة‪ ،‬الكواكبي شهيد الحرية‪.222-213 ،‬‬
‫‪3‬‬
‫الثغرة‪ ،‬خصوصا مع تجدد الحديث عن منطق الثورات ومآالتها في الثقافة العربية خالل‬

‫األعوام األخيرة‪.‬‬

‫تقاطعات الزمان واملكان‬


‫نشأ الكواكبي في القلب من تقاطعات الزمان واملكان في الحضارة اإلسالمية‬

‫واإلنسانية‪ ،‬فقد ُولد ونشأ في مدينة حلب في لحظة حرجة من تاريخها‪ ،‬وفي الدولة العثمانية‬

‫أيام أفولها‪ .‬وقد أدرك عباس محمود العقاد أهمية هذا السياق الزماني واملكاني لحياة‬

‫الكواكبي ورسالته‪ ،‬فكتب‪" :‬لو أن إنسانا يختار لنفسه ورسالته مولده‪ ،‬ملا اختار عبد الرحمن‬

‫[الكواكبي] مولدا أصلح للرسالة التي نهض بها أكثر من مدينة حلب‪ 9".‬والسبب في ذلك –كما‬

‫يرى العقاد‪ -‬أن حلب "مدينة تتصل بالحوادث وتتصل بها الحوادث‪ 10".‬فحلب "كانت موقعا‬

‫معرضا للغارات واملنازعات‪ُ ،‬يبنى ُويهدم آونة بعد أخرى‪ ،‬ولكنه‬


‫معرضا فيما مض ى للزالزل‪َّ ،‬‬
‫َّ‬
‫ُي ْسرع إليه َ‬
‫العمار‪ ،‬وال يطول إليه اإلهمال‪ 11".‬كما أن حلب –والتعبير للعقاد مرة أخرى‪-‬‬

‫"مدينة سياسية" و"مدينة حساسة" "ألنها املدينة التي يصيبها كل عطل ويرتد إليها كل‬

‫اضطراب‪ 12".‬أما الدولة العثمانية التي ولد الكواكبي في أحضانها فقد كانت يومذاك في حالة‬
‫َّ‬
‫ومشادة دائمة بين املاض ي واملستقبل‪" :‬تتقدم خطوة وتنكص على أعقابها خطوتين‬ ‫اضطراب‬
‫‪13‬‬
‫في طريق الحكم النيابي واإلدارة العصرية‪".‬‬
‫َّ‬
‫وقد أثر هذا السياق الحلبي العثماني في فكر الكواكبي‪ ،‬وصاغ الكثير من مواقفه‪،‬‬

‫خصوصا اهتمامه بالشأن العام‪ ،‬وإيمانه بضرورة اإلصالح الثقافي والسياس ي‪ .‬ثم جاء النسب‬

‫‪ 9‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.8 ،‬‬


‫‪ 10‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.8 ،‬‬
‫‪ 11‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.13 ،‬‬
‫‪ 12‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.20 ،‬‬
‫‪ 13‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.20 ،‬‬
‫‪4‬‬
‫َّ َ‬
‫نفس وإباء في شخصية الكواكبي‪ ،‬وما كان‬
‫العريق ليضيف إلى ذلك املولد وهذا السياق عزة ٍ‬
‫لرجل هذا َم ْحت ُده وذاك َم ُ‬
‫ولده ليرض ى عن حالة الفتور في أمته‪ .‬وهكذا عاش الكواكبي‬

‫مستعدا لبذل النفس والنفيس في سبيل رفع الظلم عن أمته‪ ،‬مؤمنا بأن التضحية هي سبيل‬
‫ْ‬ ‫املجد والسؤدد‪ ،‬وبأن األحرار َ‬
‫أهل البذل ُ‬
‫أكثر ما يكونون "من نجباء ٍ‬
‫بيوت ما انقطعت فيها‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫عجائزها عن بكائهم‪ 14".‬حسب تعبيره‪.‬‬ ‫سلسلة املجاهدين‪ ،‬وما انقطعت‬

‫وقد استعذب الكواكبي ما ورد من أنه "قيل ألحد األباة‪ :‬ما فائدة سعيك غير جلب‬
‫َ‬
‫الشقاء على نفسك؟ فقال‪" :‬ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظاملين!"‪ 15‬ولم يتوان في دفع‬
‫ْ‬
‫ثمن اإلباء سجنا ونفيا وتشهيرا واضطهادا‪ ،‬بل كان يرى أن هذا هو سبيل األنبياء والحكماء في‬

‫كل زمان ومكان‪ ،‬فغربة األحرار ‪-‬في منظور الكواكبي‪ -‬سببها تحررهم من الركون إلى األرض‪،‬‬

‫وارتباطهم باملبدأ أكثرمن املكان‪ .‬وفي ذلك يقول الكواكبي‪:‬‬

‫"االستبداد والعلم ضدان متغالبان‪ :‬فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور‬
‫وحصر الرعية في حالك الجهل‪ .‬والعلماء الحكماء ‪-‬الذين ينبتون أحيانا في‬ ‫ْ‬ ‫العلم‪،‬‬
‫مضايق صخور االستبداد‪ -‬يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس‪ .‬والغالب أن رجال‬
‫االستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم‪ ،‬فالسعيد منهم من يتمكن من ُمهاجرة‬
‫سبب أن كل األنبياء العظام ‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ -‬وأكثر العلماء‬ ‫ُ‬ ‫دياره‪ ،‬وهذا‬
‫‪16‬‬
‫األعالم‪ ،‬واألدباء‪ ،‬والنبالء‪ ،‬تقلبوا في البالد وماتوا غرباء‪".‬‬

‫وقد أبلغ العقاد في التعبير عن هذا الجانب من شخصية الكواكبي‪ ،‬فكتب أن‬
‫‪17‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫الكواكبي َّ‬
‫"جرت عليه نزاهته وصراحته عداوة أعداء العمل النزيه والقول الصريح‪".‬‬

‫‪ 14‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد ومصارع االستعباد‪ .‬حلب‪ :‬املطبعة العصرية‪ ،‬بال تاريخ)‪.59 ،‬‬
‫‪ 15‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.59 ،‬‬
‫‪ 16‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.53 ،‬‬
‫‪ 17‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.42 ،‬‬
‫‪5‬‬
‫من الشهرستاني إلى الكواكبي‬
‫وضع مؤرخ امللل والنحل في اإلسالم محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (‪548 - 479‬هـ‬

‫‪1153 - 1086 /‬م) إصبعه على الجرح الذي أنهك األمة اإلسالمية على مر القرون‪ ،‬فكتب‪:‬‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫خالف بين األمة خالف اإلمامة‪ ،‬إذ ما ُس َّل سيف في اإلسالم على قاعدة دينية مثل ما‬
‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫"وأعظم‬
‫َ‬
‫ُس َّل على اإلمامة في كل زمان‪ 18".‬وهكذا فهم الشهرستاني بعمق أن أزمة الحضارة اإلسالمية‬

‫أزمة سياسية في جوهرها‪ ،‬تتعلق بشرعية السلطة وتداولها‪.‬‬

‫وقد توصل الكواكبي ‪-‬الذي ولد بعد وفاة الشهرستاني بنحو سبعة قرون‪ -‬إلى النتيجة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذاتها‪ .‬لكنه خطا خطوة أبعد في التحليل مما خطاه الشهرستاني الذي اكتفى بأن الحظ ‪-‬بنبرة‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫حزينة‪ -‬سيف اإلمامة املسلط على رقاب األمة اإلسالمية‪ .‬فأدرك الكواكبي أن االستبداد‬

‫السياس ي هو سبب الفتن السياسية التي سادت في تاريخ اإلسالم منذ نهاية عهد الراشدين‪،‬‬
‫‪19‬‬ ‫بالء‪ ،‬ألنه ٌ‬
‫وباء دائم بالفتن‪".‬‬ ‫ُ‬
‫أعظم ٍ‬ ‫فكتب أن "االستبداد‬

‫كما أدرك الكواكبي أن أغلب الخالفات االعتقادية بين املسلمين ترجع في جذورها إلى‬
‫خالفاتهم السياسية‪ ،‬فهم "تشاجروا في الخالفة وامللك‪ ،‬وانقسموا على أنفسهم ُ‬
‫بأسهم بينهم‪،‬‬
‫يقتل بعضهم بعضا‪ ،‬وتفرقوا في الدين ُّ‬
‫لتفرقهم في السياسة‪ 20".‬وقدم الكواكبي دواء لداء‬

‫االستبداد هو "الشورى الدستورية‪ "،‬كما سنرى في ثنايا هذا البحث‪.‬‬

‫وكان هذا التشخيص الذي انتهى إليه الكواكبي حصاد بحث طويل ومعاناة فكرية‬
‫وشخصية في ُّ‬
‫تلمس أسباب الركود في املجتمعات اإلسالمية‪ .‬فقد جعل الكواكبي من أولويات‬

‫رسالته الفكرية تشخيص ظاهرة الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية‪ ،‬وبذل في ذلك جهدا‬

‫‪ 18‬محمد بن عبد الكريم الشهرستاني‪ ،‬امللل والنحل (القاهرة‪ :‬مؤسسة الحلبي‪ ،‬بال تاريخ)‪.22/1 ،‬‬
‫‪ 19‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.24 ،‬‬
‫‪ 20‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ،‬أم القرى (بيروت‪ :‬دار الرائد العربي‪.147 ،)1982 ،‬‬
‫‪6‬‬
‫َّ‬
‫املتخيلة في مؤتمر (أم القرى)‪ ،‬أو في تنظيره الصريح على لسانه في‬ ‫رائدا‪ ،‬من خالل املداوالت‬
‫كتابه (طبائع االستبداد)‪ .‬والالفت للنظر أن الكواكبي َّ‬
‫توسع كثيرا في كتاب (أم القرى) في‬

‫تفصيل أسباب هذا الفتور العام‪ ،‬حتى أوصلها إلى ستة وثمانين سببا! ثم عاد في كتاب (طبائع‬
‫َّ‬
‫االستبداد) ُليرجعها كلها تقريبا إلى سبب واحد‪ ،‬هو االستبداد السياس ي‪ ،‬الذي َربط به حالة‬

‫الفتور العام ربط معلول بعلة‪.‬‬

‫من االستقراء إلى التحليل‬


‫ترك الكواكبي عملين مهمين ضمن بحثه عن حلول ألزمة الحضارة اإلسالمية في أيامه‪،‬‬

‫هما كتاب (أم القرى) وكتاب (طبائع االستبداد ومصارع االستعباد)‪ .‬أما األعمال األخرى التي‬

‫كتبها الكواكبي فهي إما مقاالت خفيفة أنضج أفكارها فيما بعد في الكتابين‪ ،‬أو مشاريع أعمال‬

‫لم تكتمل ولم ترالنور تماما‪ 21.‬وقد سلك الكواكبي مسلكا منهجيا مختلفا في كل من الكتابين‪،‬‬
‫َّ‬
‫وصرح بذلك‪ ،‬فقال عن‬ ‫ففي (أم القرى) نحا نحو املنهج االستقرائي واألسلوب الحواري‬

‫الفتور العام‪" :‬هذا هو املشكل العظيم الذي يجب على جمعيتنا البحث فيه أوال بحث تدقيق‬

‫واستقراء‪ 22".‬وأما في (طبائع الالستبداد) فقد مال إلى املنهج التحليلي واالستنباطي‪ .‬وفي‬

‫الحالتين جاء طرح الكواكبي متميزا‪ ،‬وربما يكون محمد عبد الرحمن برج دقيقا إذ الحظ أن‬

‫"الش يء الذي َّبز به هذا املصلح العظيم أقرانه األخيرين أنه أحسن تشخيص الداء‪ ،‬فأحسن‬
‫‪23‬‬
‫ذكرالدواء‪".‬‬
‫فكتاب (أم القرى) حصاد مداوالت مؤتمر افتراض ي َّ‬
‫تصوره الكواكبي منعقدا في مكة‬

‫املكرمة‪ ،‬وجامعا لعدد من أهل الرأي والفضل من أرجاء العالم اإلسالمي‪ ،‬ومن األقليات‬

‫‪ 21‬انظر عن حصر أعمال الكواكبي‪ :‬محمد جمال طحان‪ ،‬األعمال الكاملة للكواكبي‪ ،‬خصوصا فصل‪:‬‬
‫"مؤلفات الكواكبي‪".‬‬
‫‪ 22‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.23 ،‬‬
‫‪ 23‬برج‪ ،‬الكواكبي‪.4 ،‬‬
‫‪7‬‬
‫املسلمة خارجه‪ ،‬بلغ عددهم ثالثة وعشرين مشاركا‪ .‬وقد جعل الكواكبي غاية مؤتمر (أم‬
‫‪24‬‬
‫القرى) االفتراض ي "تشخيص داء الفتور املستولي على األمة تشخيصا سياسيا مدققا‪"،‬‬

‫والبحث في "سبب مالزمة هذا الفتور منذ قرون للمسلمين‪ 25".‬وقد منح الكواكبي املشاركين‬

‫في املؤتمر أسماء مستعارة تدل على رغبته في أن يكونوا ممثلين ألهم الحواضر اإلسالمية‬

‫التاريخية‪ ،‬وأكبر الجاليات املسلمة خارج حدود العالم اإلسالمي‪ ،‬وهذا ما ينفي التفسير‬

‫القومي لفكر الكواكبي‪ ،‬ويبرهن على رؤيته اإلسالمية املمتدة أبعد من األفق العربي إلى "كافة‬

‫أعضاء الجسم اإلسالمي" حسب تعبيره اآلتي‪.‬‬


‫وقد جاءت أسماء املشاركين في مؤتمر (أم القرى) مشحونة بدالالت َ‬
‫قيمية وجغرافية‬

‫ال يخطئها الذهن‪ ،‬واألسماء هي‪" :‬السيد الفراتي [االسم الرمزي للكواكبي نفسه]‪ ،‬الفاضل‬

‫الشامي‪ ،‬البليغ املقدس ي‪ ،‬الكامل اإلسكندري‪ ،‬العالمة املصري‪ ،‬املحدث اليمني‪ ،‬الحافظ‬

‫البصري‪ ،‬العالم النجدي‪ ،‬املحقق املدني‪ ،‬األستاذ املكي‪ ،‬الحكيم التونس ي‪ ،‬املرشد الفاس ي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫السعيد اإلنكليزي‪ْ ،‬‬
‫املولى الرومي‪ ،‬الرياض ي الكردي‪ ،‬املجتهد التبريزي‪ ،‬العارف التاتاري‪،‬‬

‫الخطيب القازاني‪ ،‬املدقق التركي‪ ،‬الفقيه األفغاني‪ ،‬الصاحب الهندي‪ ،‬الشيخ السندي‪ ،‬اإلمام‬
‫‪26‬‬
‫الصيني‪".‬‬

‫وأما كتاب (طبائع االستبداد) فهو خالصة تفكير الكواكبي في أزمة الحضارة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬بعد أن توصل إلى أن جوهر الداء هو االستبداد السياس ي‪ .‬وقد َّ‬
‫قسم الكواكبي‬

‫الكتاب إلى فصول تسعة‪ ،‬تناول الفصل األول منها تعريف االستبداد‪ ،‬وتتالت الفصول‬
‫ُ‬
‫الوسيطة من الكتاب تحلل آثار االستبداد السلبية على الدين‪ ،‬والعلم‪ ،‬واملجد‪ ،‬واملال‪،‬‬

‫واألخالق‪ ،‬والتربية‪ ،‬والترقي‪ .‬ثم جاء الفصل األخير مبينا طرائق التخلص من االستبداد‪ .‬وهو‬

‫‪ 24‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.18 ،‬‬


‫‪ 25‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.22 ،‬‬
‫‪26‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.8 ،‬‬
‫‪8‬‬
‫فصل ثمين‪ ،‬له قيمة عملية كبيرة للتحول الذي يشهده العالم العربي اليوم‪ ،‬ويدل هذا‬

‫الفصل على أن الكواكبي كان سابقا لعصره بأشواط‪ ،‬كما سنرى فيما بعد‪ .‬وما يهمنا هنا‬

‫أمران‪ :‬تشخيص الكواكبي لداء الفتور العام‪ ،‬ثم توصيفه للدواء في شكل إصالح سياس ي‬

‫ثوري‪.‬‬

‫ماهو الفتور العام؟‬


‫ُ َ َّ‬ ‫ورد لفظ "الفتور" في كتاب (أم القرى) ُم َّ‬
‫ومنكرا أربع مرات‪،‬‬ ‫عرفا أربعا وثالثين مرة‪،‬‬

‫أي أنه ورد في الكتاب ثماني وثالثين مرة‪ ،‬مما يدل على أن هذه الظاهرة كانت الهاجس األكبر‬

‫والهم األهم الذي ال يغيب عن عقل الكواكبي ووجدانه‪ .‬وقد ورد مفهوم الفتور أحيانا في‬

‫سياق تعريف ماهيته وطبيعته‪ ،‬وتارة في التأكيد على كونه ظاهرة عامة في الجسد اإلسالمي‪،‬‬

‫وطورا في البحث عن أسبابه‪ .‬وهذا املنحى األخير هو الغالب على مداوالت (أم القرى)‪ .‬وفي‬

‫سبيل البحث عن توصيف دقيق النحطاط الحضارة اإلسالمية لم يجد الكواكبي تعبيرا‬

‫أفضل من "الفتور العام‪ ".‬فكتب على لسان رئيس مؤتمر(أم القرى)‪:‬‬

‫أليق بأن يكون عنوانا لهذا البحث‪ ،‬لتعلق الحالة‬‫"يلوح لي أن إطالق الفتور العام ُ‬
‫النازلة باألدبيات أكثر منها باملاديات‪ ،‬وألن آخر ما فيها ْ‬
‫ضعف الحس‪ ،‬فيناسبه التعبير‬
‫ٌ‬
‫شامل لكافة أعضاء الجسم اإلسالمي‪،‬‬ ‫عنه بالفتور‪ .‬كما أن هذا الفتور في الحقيقة‬
‫فيناسب أن يوصف بالعام‪ .‬وربما يتوقف الفكر في الوهلة األولى عند الحكم بأن‬
‫الفتور عام يشمل كافة املسلمين‪ ،‬ولكن بعد التدقيق واالستقراء نجده شامال للجميع‬
‫‪27‬‬
‫في مشارق األرض ومغاربها ال يسلم منه إال أفراد شاذة‪".‬‬

‫ثم جعل الكواكبي رئيس املؤتمر يتساءل في حيرة‪:‬‬


‫"ما هو سبب مالزمة هذا الفتور منذ قرون للمسلمين من أي قوم كانوا وأينما ُوجدوا‬
‫وكيفما كانت شؤونهم الدينية أو السياسية أو اإلفرادية أو املعاشية؟ حتى أننا ال نكاد‬
‫نجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين في ناحية أو بيتين في قرية‪ ،‬أهل‬
‫أحدهما مسلمون واآلخر غير مسلمين‪ ،‬إال ونجد املسلمين أقل من جيرانهم نشاطا‬

‫‪ 27‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.22-21 ،‬‬


‫‪9‬‬
‫وانتظاما في جميع شؤونهم الحيوية الذاتية والعمومية؛ وكذلك نجدهم أقل إتقانا‬
‫من نظرائهم في كل فن وصنعة‪ ،‬مع أننا نرى أكثر املسلمين في الحواضر‪ ،‬وجميعهم في‬
‫البوادي‪ ،‬محافظين على تميزهم عن غيرهم من جيرانهم ومخالطيهم في أمهات املزايا‬
‫تعمم هذا‬‫األخالقية مثل األمانة والشجاعة والسخاء‪ .‬فما هو ‪-‬والحالة هذه‪ -‬سبب ُّ‬
‫الفتور‪ ،‬ومالزمته لجامعة هذا الدين كمالزمة العلة للمعلول؟ بحيث أينما ُوجدت‬
‫اإلسالمية ُوجد هذا الداء‪ ،‬حتى توهم كثير من الحكماء أن اإلسالم والنظام ال‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يجتمعان‪ .‬هذا هو املشكل العظيم الذي يجب على جمعيتنا البحث فيه أوال‪ ،‬بحث‬
‫تدقيق واستقراء‪ ،‬عس ى أن نهتدي إلى جرثومة الداء عن يقين‪ ،‬فنسعى في مقاومتها‪،‬‬
‫‪28‬‬
‫حتى إذا ارتفعت العلة برئ العليل إن شاء هللا تعالى‪".‬‬

‫لكن الكواكبي َّبين –إنصافا للمسلمين‪ -‬أن هذا الفتور العام ليس خاصا باملسلمين‬

‫دون غيرهم‪ ،‬بل يوجد في أتباع ديانات ون َحل أخرى‪ ،‬وبعض هؤالء "أكثر فتورا من‬
‫املسلمين‪ 29".‬وقد ذهب املشاركون في املؤتمر في تفسيرأسباب الفتور العام في أمة اإلسالم َّ‬
‫كل‬

‫مذهب‪ ،‬فرأى بعضهم أن "منشأ هذا الفتور هو بعض القواعد االعتقادية واألخالقية‪ ،‬مثل‬
‫‪30‬‬
‫وذهب آخرون إلى أن "سبب الفتور هو تحول نوع السياسة‬ ‫العقيدة الجبرية‪"،‬‬
‫‪32‬‬ ‫"تأصل الجهل في غالب أمرائنا َ‬
‫املترفين‪".‬‬ ‫اإلسالمية‪َّ 31"،‬‬
‫ورجح طرف آخرأن السبب هو ُّ‬

‫ومن املؤتمرين من رأى السبب في "إهمال االهتمام بالدين‪ 33"،‬وترك األمر باملعروف‬

‫والنهي عن املنكر‪ 34،‬أو في وجود "العلماء املدلسين وغالة املتصوفين الذين استولوا على‬

‫‪ 28‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.22-21 ،‬‬


‫‪ 29‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.23 ،‬‬
‫‪ 30‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.26 ،‬‬
‫‪ 31‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.29 ،‬‬
‫‪ 32‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.30 ،‬‬
‫‪ 33‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.37 ،‬‬
‫‪ 34‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.36 ،‬‬
‫‪10‬‬
‫الدين فضيعوه‪ 35"،‬أو في االنشغال بالعلوم الدينية عن العلوم الطبيعية‪ 36،‬أو في ذبول اإلرادة‬

‫العامة النعدام "االجتماعات واملفاوضات"‪ 37‬بمعنى غياب التشاور والتراض ي في الشأن العام‪،‬‬
‫ْ‬
‫أو "فقد اآلمال وترك األعمال والبعد عن الجد واالرتياح إلى الكسل والهزل‪ 38".‬أو "أن البلية‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫فق ُدنا الحرية‪ ،‬وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما ُحرمنا معناه حتى نسيناه‪ُ ،‬‬
‫وحرم علينا لفظه حتى‬
‫‪39‬‬
‫استوحشناه‪".‬‬

‫خالصة أسباب الفتور‬


‫وبعد أن أفاض املؤتمرون في بيان رؤيتهم ألسباب "الفتور العام" في املجتمعات‬
‫َّ‬
‫املسلمة‪ ،‬لخص مقرر الجلسات السيد الفراتي (وهو الكواكبي نفسه) حصاد آرائهم فقال‪:‬‬

‫"يستفاد من مذاكرات جمعيتنا املباركة أن هذا الفتور املبحوث فيه ناش ئ عن مجموع أسباب‬
‫ُ‬
‫كثيرة مشتركة فيه‪ ،‬ال عن سبب واحد أو أسباب قالئل ت ْمكن مقاومتها بسهولة‪ .‬وهذه األسباب‬

‫منها أصول‪ ،‬ومنها فروع لها حكم األصول‪ .‬وكلها ترجع إلى ثالثة أنواع‪ :‬وهي أسباب دينية‪،‬‬
‫‪40‬‬
‫وأسباب سياسية‪ ،‬وأسباب أخالقية‪".‬‬
‫ثم َّ‬
‫عدد الكواكبي هذه األسباب‪ ،‬فجعل األسباب الدينية التي وردت على ألسنة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫املؤتمرين ثالثة وعشرين سببا‪ ،‬والسياسية ستة عشر‪ ،‬واألخالقية سبعة عشر‪ .‬وحرص على‬

‫األمانة والدقة في نقل آراء املؤتمرين‪ ،‬ولذلك علق قائال بعد سرد األسباب التي ذكروها‪" :‬هذه‬
‫َّ ُ‬
‫مكررات كما‬ ‫هي خالصات أسباب الفتور التي أوردها إخوان الجمعية وليس فيها‬

‫‪ 35‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.40 ،‬‬


‫‪ 36‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.53 ،‬‬
‫‪ 37‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.61 ،‬‬
‫‪ 38‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.33 ،‬‬
‫‪ 39‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.32-31 ،‬‬
‫‪ 40‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.158 ،‬‬
‫‪11‬‬
‫ُيظن‪41".‬وهنا نضع تلك األسباب في جداول ثالثة‪ ،‬نسوقها كما وردت بألفاظ الكواكبي نفسه‬

‫دون تغيير‪:‬‬
‫‪42‬‬
‫الجدول األول‪ :‬األسباب الدينية للفتور العام‬
‫تأثير عقيدة الجبر في أفكار األمة‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫تأثير املزهدات في السعي والعمل وزينة الحياة‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫تأثير فتن الجدل في العقائد الدينية‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫االسترسال للتخالف والتفرق في الدين‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫الذهول عن سماحة الدين وسهولة التدين به‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫تشديد الفقهاء املتأخرين في الدين خالفا للسلف‪.‬‬ ‫‪.6‬‬
‫ُ‬
‫تشويش أفكار األمة بكثرة تخالف اآلراء في فروع أحكام الدين‪.‬‬ ‫‪.7‬‬
‫فقد إمكان مطابقة القول للعمل في الدين بسبب التخليط والتشديد‪.‬‬ ‫‪.8‬‬
‫إدخال العلماء املدلسين على الدين مقتبسات كتابية وخرافات وبدعا مضرة‪.‬‬ ‫‪.9‬‬
‫تهوين غالة الصوفية الدين وجعلهم إياه لهوا ولعبا‪.‬‬ ‫‪.10‬‬
‫إفساد الدين بتفنن املداجين بمزيدات ومتروكات وتأويالت‪.‬‬ ‫‪.11‬‬
‫إدخال املدلسين واملقابرية على العامة كثيرا من األوهام‪.‬‬ ‫‪.12‬‬
‫خلع املنجمين والرمالين والسحرة واملشعوذين قلوب املسلمين باملرهبات‪.‬‬ ‫‪.13‬‬
‫إيهام الدجالين واملداجين أن في الدين أمورا سرية وأن العلم حجاب‪.‬‬ ‫‪.14‬‬
‫اعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين‪.‬‬ ‫‪.15‬‬
‫تطرق الشرك الصريح أو الخفي إلى عقائد العامة‪.‬‬ ‫‪.16‬‬
‫تهاون العلماء العاملين في تأييد التوحيد‪.‬‬ ‫‪.17‬‬
‫االستسالم للتقليد وترك التبصر واالستهداء‪.‬‬ ‫‪.18‬‬
‫التعصب للمذاهب وآلراء املتأخرين وهجر النصوص ومسلك السلف‪.‬‬ ‫‪.19‬‬
‫الغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة وجمعية الحج‪.‬‬ ‫‪.20‬‬
‫العناد على نبذ الحرية الدينية جهال بمزيتها‪.‬‬ ‫‪.21‬‬
‫التزام ما ال يلزم ألجل االستهداء من الكتاب والسنة‪.‬‬ ‫‪.22‬‬
‫تكليف املسلم نفسه ما ال يكلفه به هللا وتهاونه فيما هو مأمور به‪.‬‬ ‫‪.23‬‬

‫ويتضح من الئحة األسباب الدينية للفتور العام ‪-‬كما وردت على ألسنة املشاركين في‬
‫َّ‬
‫مؤتمر (أم القرى) االفتراض ي‪ -‬أنها أسباب مركبة؛ فمنها االعتقادي مثل الجبرية (‪ ،)1‬والشرك‬

‫الظاهروالخفي (‪ ،)17-16‬واالبتداع في الدين باالبتعاد عن منهج السلف وبساطة اإلسالم (‪،6‬‬

‫‪ .)19 ،14-9‬ومنها الثقافي مثل طغيان الجدل على العمل (‪ ،)8-7 ،4-3‬والتقليد األعمى (‪،)18‬‬

‫‪ 41‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.162 ،‬‬


‫‪ 42‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.160-158 ،‬‬
‫‪12‬‬
‫والتعصب املذهبي (‪ .)19‬ومنها العملي مثل اختالل األولويات الشرعية (‪ ،)23-22‬وتجريد‬

‫الشعائر اإلسالمية من وظيفتها االجتماعية (‪ ،)20‬والتفريط في الحرية الدينية (‪ .)21‬ويدل‬


‫إدراج هذه األسباب الدينية املحضة في النقاش‪ْ ،‬‬
‫وبدء الكواكبي بها في تلخيص آراء املؤتمرين‪،‬‬

‫على ما تتسم به رؤية الكواكبي اإلصالحية من العمق والرحابة‪ ،‬وبحثه في جذور أزمة الحضارة‬

‫اإلسالمية بعيدا عن املظاهر واألشكال‪ .‬وفي الجدول اآلتي بيان لألسباب السياسية وراء‬

‫الفتور العام كما وردت على ألسنة املشاركين في مؤتمر(أم القرى)‪.‬‬


‫‪43‬‬
‫الجدول الثاني‪ :‬األسباب السياسية للفتور العام‬
‫السياسة املطلقة من السيطرة واملسؤولية‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫تفرق األمة إلى عصبيات وأحزاب سياسية‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫حرمان األمة من حرية القول والعمل‪ ،‬وفقدانها األمن واألمل‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫ْ‬
‫فق ُد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات األمة‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫ميل األمراء طبعا للعلماء املدلسين وجهلة املتصوفين‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫حرمان العلماء العاملين وطالب العلم من الرزق والتكريم‪.‬‬ ‫‪.6‬‬
‫صاء‪ ،‬وتفويض خدمة الدين للجهالء‪.‬‬ ‫اعتبار العلم عطية يحسن بها األمراء على األخ َّ‬ ‫‪.7‬‬
‫قلب موضوع أخذ األموال من األغنياء وإعطائها للفقراء‪.‬‬ ‫‪.8‬‬
‫تكليف األمراء القضاة واملفتين أمورا تهدم دينهم‪.‬‬ ‫‪.9‬‬
‫إبعاد األمراء النبالء واألحراروتقريبهم املتملقين واألشرار‪.‬‬ ‫‪.10‬‬
‫مراغمة األمراء السراة والهداة والتنكيل بهم‪.‬‬ ‫‪.11‬‬
‫ْ‬
‫بالحجر والتفريق‪.‬‬ ‫فقد قوة الرأي العام‬ ‫‪.12‬‬
‫حماقة أكثر األمراء وتمسكهم بالسياسات الخرقاء‪.‬‬ ‫‪.13‬‬
‫إصرار أكثر األمراء على االستبداد عنادا واستكبارا‪.‬‬ ‫‪.14‬‬
‫انغماس األمراء في الترف ودواعي الشهوات‪ ،‬وبعدهم عن املفاخرة بغير الفخفخة واملال‪.‬‬ ‫‪.15‬‬
‫حصر االهتمام السياس ي بالجباية والجندية فقط‪.‬‬ ‫‪.16‬‬

‫يتبين من خالل الجدول الثاني تنوع األسباب السياسية التي أرجع إليها املؤتمرون‬

‫مشكلة الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية‪ .‬وبعض هذه األسباب يتعلق بخلل في االجتماع‬

‫السياس ي ابتداء‪ ،‬مثل افتراق كلمة األمة (‪ .)2‬وبعضها يتعلق ببناء السلطة‪ ،‬مثل االستبداد‬
‫غير َّ‬
‫املقيد بمساءلة ومحاسبة (‪ ،)14،1‬وتقييد الحريات أو انعدامها (‪ ،)12-11 ،3‬وغياب‬

‫‪ 43‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.161-160 ،‬‬


‫‪13‬‬
‫العدل واملساواة (‪ .)4‬وبعضها ذو صلة بأداء السلطة‪ ،‬مثل ضعف كفاءة القادة (‪،)13‬‬

‫واستعمالهم من ليسوا أكفاء (‪ ،)10‬والظلم االجتماعي واالقتصادي (‪ .)16-15 ،8‬ويتضح من‬

‫تنوع هذه األسباب رحابة النظر إلى الظاهرة السياسية‪ ،‬وعدم اختزالها في جانب واحد من‬
‫جوانبها‪ْ ،‬‬
‫وربطها بالعمق االجتماعي والثقافي‪ .‬وهنا ننتقل إلى األسباب األخالقية للفتور العام‪،‬‬

‫كما يوضحها الجدول الثالث‪:‬‬


‫‪44‬‬
‫الجدول الثالث‪ :‬األسباب األخالقية للفتور العام‬
‫االستغراق في الجهل واالرتياح إليه‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫استيالء اليأس من اللحاق بالفائزين في الدين والدنيا‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫اإلخالد إلى الخمول ترويحا للنفس‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫ْ‬
‫فق ُد التناصح وترك البغض في هللا‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫انحالل الرابطة الدينية االحتسابية‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫فساد التعليم والوعظ والخطابة واإلرشاد‪.‬‬ ‫‪.6‬‬
‫فقد التربية الدينية واألخالقية‪.‬‬ ‫‪.7‬‬
‫ْ‬
‫فق ُد قوة الجمعيات وثمرة دوام قيامها‪.‬‬ ‫‪.8‬‬
‫ْ‬
‫فق ُد القوة املالية االشتراكية بسبب التهاون في الزكاة‪.‬‬ ‫‪.9‬‬
‫ترك األعمال بسبب ضعف اآلمال‪.‬‬ ‫‪.10‬‬
‫إهمال طلب الحقوق العامة جبنا وخوفا من التخاذل‪.‬‬ ‫‪.11‬‬
‫غلبة التخلق بالتملق تزلفا وصغارا‪.‬‬ ‫‪.12‬‬
‫تفضيل االرتزاق بالجندية والخدم األميرية على الصنائع‪.‬‬ ‫‪.13‬‬
‫توهم أن علم الدين قائم في العمائم وفي كل ما ُسطر في كتاب‪.‬‬ ‫‪.14‬‬
‫معاداة العلوم العالية ارتياحا للجهالة والسفالة‪.‬‬ ‫‪.15‬‬
‫التباعد عن املكاشفات واملفاوضات في الشؤون العامة‪.‬‬ ‫‪.16‬‬
‫تطرق الشرك وشآمته‪.‬‬ ‫الذهول عن ُّ‬ ‫‪.17‬‬

‫يظهر من الجدول الثالث أن األسباب التي أوردها الكواكبي هنا ليست كلها أسبابا‬
‫َّ‬
‫تضمن هذا الصنف أمورا اقتصادية (‪ ،)9‬وثقافية (‪ ،)6‬ونفسية (‪،)10 ،2‬‬ ‫أخالقية‪ .‬بل‬
‫وسياسية (‪ ،)16 ،8‬وحتى اعتقادية (‪ .)17‬ومع ذلك فقد َّ‬
‫تضمنت هذه القائمة عددا من‬
‫ُّ‬
‫املوبقات واملساوئ األخالقية‪ ،‬منها الجهالة والسفالة (‪ ،)15‬والتملق (‪ ،)12‬والجبن والخوف‬

‫‪ 44‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪-161 ،‬‬


‫‪14‬‬
‫ُ‬
‫(‪ ،)11‬وغيرها من أمور ذميمة‪ .‬وأهم ما في هذا الصنف داللته على تنقيب الكواكبي عن داء‬

‫الفتور العام في ضميرالفرد املسلم‪ ،‬وعدم االكتفاء برصد الظواهراالجتماعية والسياسية‪.‬‬

‫أسباب "عثمانية" محضة‬


‫بعد أن ْ‬
‫أج َ‬
‫مل الكواكبي األسباب الدينية والسياسية واألخالقية للفتور العام‪ ،‬كما‬

‫وردت على ألسنة املؤتمرين‪ ،‬أضاف من عنده واحدا وعشرين سببا إضافيا‪ ،‬استخلصها من‬

‫السياق العثماني في تلك الحقبة الحرجة التي عاصرها من تاريخ الدولة العثمانية‪ ،‬وهي‬

‫النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ .‬وقد امتازت تلك الحقبة باالضطراب الدائم‪،‬‬

‫والصراع العميق بين عوامل الحياة والتجدد وعوامل الفناء واالندثار في أحشاء تلك‬
‫اإلمبراطورية اإلسالمية العريقة‪ .‬وقد َّ‬
‫مهد الكواكبي لسرد هذه األسباب "العثمانية" بتقديم‬

‫مسوغات تركيزه على السياق العثماني‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫"واألسباب التي سأذكرها هي أصو ُل موارد الخلل في السياسة واإلدارة الجاريتين في‬
‫َ‬
‫يهم شأ ُنها عامة املسلمين‪ .‬وقد جاءها أكثر هذا‬ ‫ُ‬
‫أعظم دولة ُّ‬ ‫اململكة العثمانية‪ ،‬التي هي‬
‫َ‬ ‫َّ ْ‬ ‫ْ‬ ‫الخلل في الستين سنة األخيرة‪ ،‬أي ْ‬
‫بعد أن اندفعت لتنظيم أمورها‪ ،‬فعطلت أصولها‬
‫َّ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫القديمة‪ ،‬ولم تحسن التقليد وال اإلبداع‪ ،‬فتشتت حالها‪ ،‬وال سيما في العشرين سنة‬
‫ْ‬
‫األخيرة التي ضاع فيها ثلثا اململكة‪ ،‬وخرب الثلث الباقي وأشرف على الضياع‪ ،‬لفقد‬
‫وصرف السلطان قوة سلطنته كلها في سبيل حفظ ذاته الشريفة‪ ،‬وسبيل‬ ‫الرجال‪ْ ،‬‬
‫‪45‬‬
‫اإلصرارعلى سياسة االنفراد‪".‬‬

‫وتدل هذه املسوغات على حرص الكواكبي على بقاء الدولة العثمانية مظلة‬
‫ُ‬
‫مالمحه واضحة في عهده‪ .‬كما تدل‬ ‫للمسلمين‪ ،‬وخوفه عليها من التفكك واالنهيار الذي بدت‬

‫أيضا على عقل الكواكبي السياس ي التجريبي‪ ،‬املنهمك في تشريح الواقع السياس ي‪ ،‬بينما‬

‫انشغل مصلحون آخرون بالتوصيف النظري‪ .‬أما األسباب "السياسية واإلدارية" العثمانية‬

‫‪ 45‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.162 ،‬‬


‫‪15‬‬
‫التي أوردها الكواكبي‪ ،‬فيبينها الجدول الرابع‪ .‬ونوردها هنا ‪-‬كما أوردنا سابقاتها‪ -‬بألفاظ‬

‫الكواكبي‪ ،‬لكن مع اختصار بعضها ملا فيها من تطويل غير ضروري‪ ،‬وغير مناسب لحجم‬

‫الجدول‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫الجدول الرابع‪ :‬األسباب السياسية واإلدارية العثمانية للفتور العام‬
‫توحيد قوانين اإلدارة والعقوبات‪ ،‬مع اختالف طبائع أطراف اململكة واختالف األهالي في األجناس والعادات‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫تنويع القوانين الحقوقية‪ ،‬وتشويش القضاء في األحوال املتماثلة‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫التمسك بأصول اإلدارة املركزية مع بعد األطراف عن العاصمة‪ ،‬وعدم وقوف رؤساء اإلدارة في املركز على أحوال‬ ‫‪.3‬‬
‫تلك األطراف املتباعدة وخصائص سكانها‪.‬‬
‫التزام أصول عدم توجيه املسؤولية على رؤساء اإلدارة والوالة عن أعمالهم مطلقا‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫تشويش اإلدارة بعدم االلتفات لتوحيد األخالق واملسالك في الوزراء والوالة والقواد‪ ،‬مع اضطرار الدولة التخاذهم‬ ‫‪.5‬‬
‫من جميع األجناس واألقوام املوجودين في اململكة بقصد استرضاء الكل‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫التزام املخالفة الجنسية [القومية] في استخدام العمال‪ ،‬بقصد ُّ‬
‫تعسر التفاهم بين العمال واألهالي‪ ،‬وتعذر االمتزاج‬ ‫‪.6‬‬
‫بينهم لتأمن اإلدارة غائلة االتفاق عليها‪.‬‬
‫التزام تفويض اإلمارات املختصة عادة ببعض البيوت‪ ...‬ألجل أن يكون األمير منفورا ممن ولي عليهم مكروها عندهم‬ ‫‪.7‬‬
‫فال يتفقون معه ضد الدولة‪.‬‬
‫التزام تولية بعض املناصب املختصة ببعض األصناف كاملشيخة اإلسالمية والسر عسكرية ملن يكون منفورا في‬ ‫‪.8‬‬
‫صنفه من العلماء أو الجند‪ ،‬ألجل أن ال يتفق الرئيس واملرؤوس على أمر مهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُْ‬
‫التمييز الفاحش بين أجناس الرعية في الغنم والغ ْرم‪.‬‬ ‫‪.9‬‬
‫التساهل في انتخاب العمال واملأمورين واإلكثار منهم بغير لزوم‪ ،‬وإنما بقصد إعاشة العشيرة واملحاسيب واملتملقين‬ ‫‪.10‬‬
‫امللحين‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ُ ْ‬
‫التسامح في املكافأة واملجازاة تهاونا بشؤون اإلدارة حسنت أم ساءت‪ ،‬كأن ليس للملك صاحب‪.‬‬ ‫‪.11‬‬
‫عدم االلتفات لرعاية املقتضيات الدينية كوضع أنظمة مصادمة للشرع بدون لزوم سياس ي مهم‪ ،‬أو مع اللزوم‬ ‫‪.12‬‬
‫ولكن بدون اعتناء بتفهيمه لألمة واالعتذار لها جلبا للقناعة والرضا‪.‬‬
‫تضييع حرمة الشرع وقوة القوانين بالتزام عدم اتباعها وتنفيذها‪ ،‬واإلصرار على أن تكون اإلدارة نظامية اسما‬ ‫‪.13‬‬
‫إرادية فعال‪.‬‬
‫التهاون في مجاراة عادات األهالي وأخالقهم ومصالحهم‪ ،‬استجالبا ملحبتهم القلبية‪ ،‬فوق طاعتهم الظاهرية‪.‬‬ ‫‪.14‬‬
‫الغفلة أو التغافل عن مقتضيات الزمان ومباراة الجيران وترقية السكان بسبب عدم االهتمام باملستقبل‪.‬‬ ‫‪.15‬‬
‫الضغط على األفكار املتنبهة بقصد منع نموها وسموها واطالعها على مجاري اإلدارة‪ ،‬محاسنها ومعايبها‪ ،‬وإن كان‬ ‫‪.16‬‬
‫الضغط على النمو الطبيعي عبثا محضا‪ ،‬ويتأتى منه اإلغراء والتحفزوينتج عنه الحقد على اإلدارة‪.‬‬
‫تمييز األسافل أصال وأخالقا وعلما‪ ،‬وتحكيمهم في الرقاب الحرة وتسليطهم على أصحاب املزايا‪ ،‬وهذا التهاون بشأن‬ ‫‪.17‬‬
‫ُّ‬
‫ذوي الشؤون يستلزم تسفل اإلدارة‪.‬‬
‫إدارة بيت املال إدارة إطالق بدون مراقبة‪ ،‬وجزاف بدون موازنة‪ ،‬وإسراف بدون كتاب‪ ،‬وإتالف بدون حساب‪ ،‬حتى‬ ‫‪.18‬‬
‫صارت اململكة مديونة لألجانب بديون ثقيلة توفى بالدا ورقابا ودماء وحقوقا‪.‬‬
‫إدارة املصالح املهمة السياسية وامللكية بدون استشارة الرعية وال قبول مناقشة فيها‪ ،‬وإن كانت إدارة مشهودة‬ ‫‪.19‬‬
‫املضرة في كل حركة وسكون‪.‬‬

‫‪ 46‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.167-163 ،‬‬


‫‪16‬‬
‫َّ‬
‫إدارة امللك إدارة مداراة وإسكات للمطلعين على معايبها‪ ،‬حذرا من أن ينفثوا ما في الصدور‪ ،‬فتعلم العامة حقائق‬ ‫‪.20‬‬
‫األمور‪ ،‬والعامة َمن إذا علموا قالوا‪ ،‬وإذا قالوا فعلوا‪ ،‬وهناك الطامة الكبرى‪.‬‬
‫ُ‬
‫إدارة السياسة الخارجية بالتزلف واإلرضاء‪ ،‬واملحاباة بالحقوق‪ ،‬والرشوة باالمتيازات والنقود‪ ،‬تبذل اإلدارة ذلك‬ ‫‪.21‬‬
‫ُ‬ ‫للجيران بمقابلة تعاميهم عن املشاهد املؤملة التخريبية‪ْ ،‬‬
‫وصبرهم على الروائح املنتنة اإلدارية‪ .‬ولوال تلك املشاهد‬
‫والروائح ملا وجد الجيران وسيلة للضغط‪...‬‬

‫ويبدو من الجدول الرابع أن ما دعاها الكواكبي األسباب "السياسية واإلدارية" للفتور‬

‫العام في الدولة العثمانية هي في جلها أسباب إدارية‪ .‬وقد تناول فيها ظواهر مهمة تدل على‬

‫يقظة ضميره‪ ،‬وحساسيته املرهفة تجاه الظلم في الحياة العامة‪ ،‬وقدرته الذهنية على االنتباه‬

‫للتفاصيل‪ .‬ولعل ذلك راجع إلى عمل الكواكبي في القضاء والصحافة بمدينة حلب التي كانت‬

‫يومها من أهم حواضر الدولة العثمانية‪ .‬أما األسباب التي يمكن اعتبارها سياسية محضة‬

‫فهي قليلة‪ ،‬ومنها قمع اآلراء اإلصالحية‪ ،‬أو "األفكار املتنبهة" بتعبير الكواكبي (‪ ،)16‬وغياب‬

‫استشارة الرعية في أمرها (‪ ،)19‬والتزلف للقوى الخارجية (‪.)21‬‬

‫وأخيرا ختم الكواكبي تلخيصه ملداوالت مؤتمر (أم القرى) بإضافة تسعة "أسباب‬
‫شتى" –كما وصفها‪ -‬من عنده‪ .‬لكن الغالب على هذه األسباب هو ُ‬
‫البعد االجتماعي‪ ،‬لذلك‬

‫وضعناها في الجدول الخامس تحت املظلة االجتماعية‪ .‬وبذلك اكتمل عدد أسباب الفتور‬

‫العام في األمة اإلسالمية في كتاب (أم القرى) ستة وثمانين سببا‪.‬‬


‫‪47‬‬
‫الجدول الخامس‪ :‬األسباب االجتماعية للفتور العام‬
‫عدم تطابق األخالق بين الرعية والرعاة‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫الغرارة ‪-‬أي الغفلة‪ -‬عن ترتيب شؤون الحياة‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫الغرارة عن لزوم توزيع األعمال واألوقات‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫الغرارة عن اإلذعان لإلتقان‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫الغرارة عن موازنة القوة واالستعداد‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫ترك االعتناء بتعليم النساء‪.‬‬ ‫‪.6‬‬
‫عدم االلتفات للكفاءة في الزوجات‪.‬‬ ‫‪.7‬‬
‫الخور في الطبيعة‪ ،‬أي سقوط الهمة‪.‬‬ ‫‪.8‬‬

‫‪ 47‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.167 ،‬‬


‫‪17‬‬
‫االعتزال في الحياة والتواكل‪.‬‬ ‫‪.9‬‬

‫وليس لنا من كبير تعليق على هذه األسباب االجتماعية‪ ،‬لتداخل جلها مع بعض‬

‫الخاص ْين بمسألة املرأة‪ .‬على‬


‫َّ‬ ‫األسباب الواردة من ُ‬
‫قبل‪ .‬ولعل الجديد فيها هو السببان (‪)7-6‬‬

‫أن هذه األسباب تذكرنا بما أشرنا إليه من قبل من رحابة النظرة التي تناول بها الكواكبي‬

‫ظاهرة الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية في كتاب (أم القرى)‪ ،‬وحرصه الشديد على‬

‫اإلحاطة بهذه الظاهرة من مختلف جوانبها‪ ،‬وعبر جميع تجلياتها‪ :‬السياسية واالقتصادية‬

‫والثقافية واالجتماعية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫وصف أم مرحلة فكرية؟‬
‫ليس واضحا مدى اقتناع الكواكبي باألسباب الكثيرة التي تم تداولها في مؤتمر (أم‬

‫القرى) االفتراض ي‪ ،‬فهل كان الكواكبي يرى أن كل هذه األسباب ‪-‬التي وصلت إلى ستة وثمانين‪-‬‬

‫أسباب وجيهة لتفسير الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية‪ ،‬أم إنه سلك في (أم القرى)‬

‫مسلك الجرد العام والوصف الحيادي‪ ،‬وأراد أن يمنح قراء الكتاب صورة عن جميع ألوان‬

‫الطيف الفكري السائد في أيامه‪ ،‬وملحة عن كل األفكاراملتداولة في عصره لتفسيرهذا الفتور؟‬

‫ال يوجد جواب قاطع على هذا السؤال في تراث الكواكبي‪ ،‬لكن األسباب الثالثين التي‬
‫َّ‬
‫تقدم بها هو باسمه الرمزي (السيد الفراتي) ‪-‬في ختام الجلسات‪ -‬يغلب عليها الطابع‬

‫السياس ي‪ ،‬دون أن يكون طابعها الوحيد‪ ،‬مما يرجح أن الكواكبي كان له منظوره الخاص‬
‫َّ‬
‫الكواكبي –التزاما‬ ‫لتفسير الفتور العام‪ ،‬وهو منظور سياس ي بالدرجة األولى‪ ،‬لكن‬

‫باملوضوعية‪ -‬أراد أن يقدم للقارئ آراء غيره من املصلحين املسلمين املعاصرين له‪ .‬وبذلك‬
‫ُ‬
‫يكون كتاب (أم القرى) سجال عاما ملجمل األفكار السائدة في عصر الكواكبي عن أزمة‬

‫الحضارة اإلسالمية‪ :‬تشخيصا للداء‪ ،‬وتوصيفا للدواء‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫على أننا ال نرى تناقضا بين التفسيرين‪ ،‬بل نميل إلى اعتبار (أم القرى) جردا لكل‬

‫األفكار الرائجة في املجتمعات اإلسالمية خالل النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬عن‬

‫أزمة الحضارة اإلسالمية‪ ،‬والعلل التي تعاني منها‪ ،‬في الوقت ذاته الذي نعتبرفيه الكتاب تعبيرا‬
‫َّ‬
‫يتمحض تركيزه على املعضلة السياسية‪،‬‬ ‫عن مرحلة من مراحل تفكير الكواكبي قبل أن‬
‫َّ‬
‫باعتبارها علة العلل وسبب األسباب‪ .‬ويزكي هذا املنحى من التحليل أن األسباب التي تبناها‬

‫الكواكبي بصفته الشخصية في مؤتمر (أم القرى) لم تقتصر على الشق السياس ي‪ ،‬على عكس‬

‫الحال في كتاب (طبائع االستبداد)‪ ،‬بل إن العديد من تلك األسباب اجتماعية محضة‪ ،‬كما‬

‫رأينا في الجدول الخامس‪.‬‬


‫وقد َّ‬
‫صرح الكواكبي نفسه في (أم القرى) بما يمكن اعتباره دليال نصيا على هذا املنحى‬
‫من التحليل‪ .‬فقد َّ‬
‫مهد لألسباب التي أضافها لنتائج املداوالت بقوله‪" :‬وحيث كان للخلل‬
‫املوجود في أصول إدارة الحكومات اإلسالمية ٌ‬
‫دخل مهم في توليد الفتور العام‪ ،‬فإني أضيف‬
‫َ‬
‫األسباب اآلتية‪ ،‬أعددها من‬ ‫إلى األسباب التي سبق البحث فيها ‪-‬من قبل اإلخوان الكرام‪-‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫مسائل فقط‪ ،‬حيث لو أردت تفصيلها وتشريحها لطال األمر ولخرجنا عن صدد‬ ‫قبيل رؤوس‬

‫محفلنا هذا‪ 48".‬فهذا النص مفتاح لفهم التطور الفكري لدى الكواكبي‪ ،‬من حيث إنه في (أم‬
‫القرى) اعتبر أن االستبداد له " ٌ‬
‫دخل مهم في توليد الفتور العام" في املجتمعات اإلسالمية‪،‬‬

‫لكنه لم يجعله علة العلل وسبب األسباب‪ ،‬على نحو ما فعل الحقا في (طبائع االستبداد)‪ ،‬كما‬

‫سنرى‪.‬‬

‫من الدعوة إلى السياسة‬


‫ويبقى أمر مثير في كتاب (أم القرى) يستحق أن نتوقف عنده‪ ،‬من حيث داللته على‬

‫تطور الكواكبي الفكري والسياس ي‪ .‬فعلى عكس مسيرة اإلمام محمد عبده التي دفعته بعيدا‬

‫‪ 48‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.162 ،‬‬


‫‪19‬‬
‫عن االهتمام بالسياسة‪ ،‬وانتقلت به إلى االهتمام باإلصالح الفكري والتربوي‪ ،‬فإن مقارنة‬
‫ْ‬
‫كتابي الكواكبي (أم القرى) و(طبائع االستبداد) تدل على مسار معاكس تماما في حياة‬

‫الكواكبي‪ .‬فقد بدأ الكواكبي في (أم القرى) داعية مربيا‪ ،‬وانتهى في (طبائع االستبداد) منظرا‬

‫سياسيا‪ .‬وكانت رؤية الكواكبي في (أم القرى) تركيبية‪ ،‬ترى أزمة الحضارة اإلسالمية أزمة‬
‫َّ‬
‫مركبة من أسباب كثيرة ‪-‬أوصلها إلى ستة وثمانين سببا كما رأينا‪ -‬لكنه انتهى في (طبائع‬

‫االستبداد) إلى حصرها في سبب واحد‪ ،‬هو داء االستبداد‪.‬‬

‫وألن كتاب (أم القرى) سابق في التأليف على كتاب (طبائع االستبداد) يتضح لنا أن‬
‫الكواكبي كان لديه ٌ‬
‫وعي مبكر باملعضلة السياسية في األمة اإلسالمية‪ ،‬لكنه حين كتب (أم‬
‫القرى) لم تكن القضية السياسية قد تحولت ُ‬
‫بعد إلى القضية املحورية في تفكيره‪ .‬بل نجد في‬

‫(أم القرى) ما يدل على أن الكواكبي لم يرالعمل السياس ي أولوية الوقت آنذاك‪ .‬ولذلك انتهى‬
‫ُ‬ ‫َّ ْ‬
‫املؤتمر االفتراض ي بتأسيس جمعية (أم القرى)‪ ،‬التي لخصت مقدمة نظامها الداخلي‬
‫َ‬
‫تشخيص األزمة‪ ،‬فلم تحصرسببها في الشق السياس ي‪ ،‬بل جاء فيها‪:‬‬

‫"‪ .1‬املسلمون في حالة فتور مستحكم عام‪.‬‬


‫ُّ‬
‫فتنحل عصبيتهم كليا‪.‬‬ ‫‪ .2‬يجب تدارك هذا الفتور سريعا‪ ،‬وإال‬
‫‪49‬‬
‫‪ .3‬سبب الفتور تهاون الحكام‪ ،‬ثم العلماء‪ ،‬ثم األمراء‪".‬‬

‫والالفت للنظر أن النظام الداخلي لجمعية (أم القرى) ‪-‬التي انتهى املؤتمر بتأسيسها‪-‬‬
‫ُّ‬
‫ينص نصا صريحا على أن الجمعية ال تتدخل في الشأن السياس ي‪ .‬فاملادة الرابعة عشرة من‬

‫نظام الجمعية تقول إن "الجمعية ال تتدخل في الشؤون السياسية مطلقا‪ ،‬فيما عدا‬

‫إرشادات وإخطارات بمسائل أصول التعليم وتعميمه‪ 50".‬وبعدها تؤكد املادة الخامسة عشرة‬

‫‪ 49‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.191 ،‬‬


‫‪ 50‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.199 ،‬‬
‫‪20‬‬
‫أن "ليس من شأن الجمعية أن تكون تابعة أو مرتبطة بحكومة مخصوصة‪ ،‬على أنها تقبل‬

‫املعاونة أو املعاضدة من قبل السالطين العظام واألمراء الفخام املستقلين والتابعين بصفة‬
‫‪51‬‬
‫ماة فخريين‪".‬‬ ‫ُ‬
‫ح ٍ‬
‫ُ‬
‫وتنص املادة الثالثة واألربعون من نظام الجمعية على أن "ترسل الجمعية بعوثا‬

‫جغرافية وعلمية تتجول في البالد اإلسالمية القريبة والبعيدة‪ ،‬لالطالع على أحوال البالد‬
‫ُ‬
‫إرشادهم إليه في ذلك‪ ،‬حسبما‬ ‫وأهلها من حيث الدين واملعارف‪ ،‬وإلرشادهم إلى ما يلزم‬
‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ض لألحوال السياسية قطعيا‪ 52".‬وتقرر املادة الخامسة‬ ‫تقتضيه األخوة الدينية‪ ،‬بدون تعر ٍ‬
‫واألربعون منه أنه "إذا صادفت الجمعية معارضة في بعض أعمالها من حكومة بعض البالد ‪-‬‬
‫وال سيما البالد التي هي تحت استيالء األجانب‪ -‬فالجمعية َّ‬
‫تتذرع أوال بالوسائل الالزمة ملراجعة‬
‫ُّ‬
‫تلك الحكومة‪ ،‬وإقناعها بحسن نية الجمعية‪ ،‬فإذا ُوفقت لرفع التعنت فيها‪ ،‬وإال فلتلجأ‬

‫الجمعية إلى هللا القادر الذي ال ُيعجزه ش يء‪ 53"،‬دون إشارة إلى أي مقاومة سياسية أو‬

‫عسكرية‪ ،‬ولو ضد املحتل األجنبي‪.‬‬

‫بل إن الكواكبي دعا في (أم القرى) إلى فتح "أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة‬

‫واالستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة‪ 54".‬وهنا تظهر مفارقة من مفارقات الكواكبي‪.‬‬

‫فالكواكبي الثائرعلى االستبداد الداخلي يتحدث بجبرية ومداهنة في مواجهة املحتل الخاريي‪،‬‬

‫فيكتب أن املسلمين العرب "لم ينفروا من األمم التى حلت بالدهم وحكم ْتهم‪ ،‬فلم يهاجروا‬

‫‪ 51‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.199 ،‬‬


‫‪ 52‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.209-208 ،‬‬
‫‪ 53‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.209 ،‬‬
‫‪ 54‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.237 ،‬‬
‫‪21‬‬
‫َ‬
‫منها‪ ،‬كعدن وتونس ومصر‪ ،‬بخالف األتراك؛ بل يعتبرون دخولهم تحت سلطة غيرهم من‬
‫‪55‬‬
‫حكم هللا‪ ،‬ألنهم يذعنون بكلمة ربهم تعالى شأنه‪ :‬وتلك األيام نداولها بين الناس‪".‬‬
‫ُّ‬
‫وقد طعن الكواكبي في الترك أكثر من مرة‪ ،‬إحسانا للظن باإلنكليز والفرنسيين وغيرهم‬

‫من األوروبيين‪ ،‬الذين ظن ‪-‬ببالهة‪ -‬أنهم سيحققون حلمه بإقامة خالفة عربية في املشرق‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫تكون بديال عن السلطنة العثمانية التركية‪ ،‬فهو يقول مثال‪" :‬أما الترك فإذا دقق األوربيون‬

‫سياستهم‪ ،‬يجدونهم ال يقصدون باالستناد للدين غير التالعب السياس ي‪ ،‬وقيادة الناس إلى‬

‫سياستهم بسهولة‪ ،‬وإرهاب أوروبا باسم الخالفة‪ 56".‬وهو يزين لألوروبيين أنهم "من صوالحهم‬

‫الخصوصية‪ ،‬وصوالح النصرانية‪ ،‬وصوالح اإلنسانية‪ ،‬أن يؤيدوا قيام الخالفة العربية‬
‫‪57‬‬
‫بصورة محدودة السطوة‪ ،‬مربوطة بالشورى على النسق الذي قرأته عليك‪".‬‬

‫وقد أخذ عباس محمود العقاد على الكواكبي هذه املداهنة لألوربيين‪ ،‬وهو محق في‬

‫أخذها عليه‪ .‬لكن العقاد وجد للكواكبي عذرا في أن السياق الذي يتحرك فيه يدفعه أحيانا‬
‫إلى تنويع وسائل عمله‪" :‬فالكواكبي الدبلوماس ي السياس ي هنا ُ‬
‫أظهر من الكواكبي الثائر‪ ،‬و(أم‬

‫القرى) هنا أسلوب عمل غير أسلوب (طبائع االستبداد)‪ 58".‬كما أدرك محمد رشيد رضا‬
‫الذي وقع فيه الكواكبي‪ ،‬فكتب‪" :‬كان املرحوم عبد الرحمن الكواكبي ‪-‬وهو ذلك العالم ُ‬
‫الح ُّر‬
‫واملفكر ُّ‬
‫األبي‪ -‬يشكو من حالة الدولة السابقة [العثمانية]‪ ،‬فارتاح اإلنجليز إلى مطالبته‬
‫بالخالفة العربية‪ ،‬هو عن ْ‬
‫حسن نية‪ ،‬وبدون إنعام النظر السياس ي‪ ،‬وهم عن خبث طوية‪".‬‬

‫‪ 55‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.244 ،‬‬


‫‪ 56‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.243 ،‬‬
‫‪ 57‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.244 ،‬‬
‫‪ 58‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.135 ،‬‬
‫‪22‬‬
‫والحظ رشيد رضا قدرة اإلنكليز على "استغواء هذا العالم‪ ،‬من الذين ال ُّ‬
‫يلمون كثيرا‬
‫‪59‬‬
‫باالعتبارات السياسية‪ ،‬والظروف الخصوصية‪".‬‬
‫ُّ‬
‫ونحن ال نرى مسوغا ملوقف الكواكبي شبه العنصري من الترك‪ ،‬وال ملداهنته لالحتالل‬
‫األوروبي‪ ،‬وال نعلم تفسيرا لهذين املوقفين سوى أن أولهما ٌ‬
‫جزء من ثقافة التمايزالقومي الذي‬
‫ٌ‬
‫مظهر من مظاهر السذاجة‬ ‫شهدته اإلمبراطورية العثمانية في أيام أفولها‪ ،‬وأن ثانيهما‬
‫ٌ‬
‫نخب في املشرق العرب‪ ،‬راهنت على األوربيين بالقطيعة مع‬ ‫السياسية التي وقعت فيها‬

‫العثمانيين‪ ،‬الذين يجمعهم مع العرب الفضاء الحضاري اإلسالمي‪ ،‬والتجربة التاريخية‬


‫َّ‬
‫جواد من العالمة الكواكبي‪ ،‬الذي كان حريصا على إنقاذ الدولة‬
‫ٍ‬ ‫املشتركة‪ .‬ولعلها كبوة‬

‫العثمانية لتبقى مظلة جامعة للمسلمين‪ ،‬ثم يئس من إصالحها في نهاية املطاف‪.‬‬

‫أما املادة السابعة واألربعون من نظام جمعية (أم القرى) فهي أكثراملواد التباسا‪ ،‬من‬

‫حيث اعتماد الكواكبي منهج الدعوة الوعظية السلمية‪ ،‬أو منهج املدافعة السياسية الثورية‪.‬‬
‫َّ‬
‫املتعمد‪ ،‬إذ تنص املادة على‬ ‫وتوحي اللغة امللتوية التي صيغت فيها املادة بش يء من الغموض‬

‫أن "مظهر الجمعية العجز واملسكنة‪ .‬فال تقاو ُم وال تقاب ُل إال بأساليب النصيحة واملوعظة‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وتالطف وتج ُ‬
‫امل جهدها من يعادي مقاصدها‪ ،‬وال تلجأ إلى اإللجاء إال في‬ ‫الحسنة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫ٌ‬
‫الضروريات‪ 60".‬فهل "مظهرالجمعية" الذي يتحدث عنه الكواكبي مختلف عن َمخبرها‪ ،‬وهل‬

‫كان لجوؤها إلى "العجزواملسكنة" خيارا استراتيجيا‪ ،‬أم مناورة تكتيكية‪ ،‬أم خطة مرحلية؟ ال‬

‫يقدم الكواكبي في (أم القرى) جوابا شافيا عن هذا السؤال‪ .‬ولذلك يتعين االنتقال إلى كتاب‬

‫(طبائع االستبداد) للبحث عن إجابة‪.‬‬

‫‪ 59‬محمد رشيد رضا‪" ،‬الخالفة اإلسالمية والجامعة العثمانية‪ "،‬مجلة املنار‪ ،‬املجلد ‪ ،13‬ص ‪.933‬‬
‫‪60‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.210 ،‬‬
‫‪23‬‬
‫من َ‬
‫الع َرض إلى املرض‬
‫بعد الجولة الطويلة التي خاضها الكواكبي في (أم القرى) باحثا عن االحتماالت‬

‫لتفسيرحالة الفتور العام في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬انتقل من منهج استقرائي إلى منهج تحليلي‪.‬‬
‫همه اآلن استقراء األعراض‪ ،‬بل ْ‬
‫وضع اليد على الداء مباشرة‪ ،‬وبيان سبب األسباب‬ ‫فلم يعد ُّ‬

‫املؤدي إلى الفتور العام في الحالة اإلسالمية‪ .‬فكتب في صدركتابه (طبائع االستبداد)‪:‬‬

‫تمحص عندي أن أصل الداء هو االستبداد السياس ي‪ ،‬ودواؤه دفعه‬ ‫"وحيث إني قد َّ‬
‫بالشورى الدستورية‪ .‬وقد استقر فكري على ذلك ‪-‬كما أن لكل نبأ مستقرا‪ -‬بعد بحث‬
‫ثالثين عاما‪ ،‬بحثا أظنه يكاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب َي َّ‬
‫توهم فيه‬
‫الباحث ‪-‬عند النظرة األولى‪ -‬أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله‪ ،‬ولكن ال يلبث أن‬
‫يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بش يء‪ ،‬أو أن ذلك فرع ال أصل‪ ،‬أو هو نتيجة ال‬
‫‪61‬‬
‫وسيلة‪".‬‬

‫فهنا تتلخص أسباب الفتور العام في سبب واحد‪ ،‬وتتكثف العلل في علة واحدة‪ ،‬هي‬

‫االستبداد السياس ي‪ .‬وهذه الخالصة ‪-‬التي توصل إليها الكواكبي‪ -‬جاءت متساوقة مع رؤيته‬

‫ملحورية املسألة السياسية في حياة املجتمعات البشرية عموما‪ ،‬واقتناعه بتأثير املسألة‬

‫السياسية على ما سواها من ظواهر اجتماعية‪ ،‬فقد ذهب الكواكبي إلى أن "تقرير شكل‬
‫‪62‬‬
‫الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر‪ ،‬وهو املعترك األكبرألفكارالباحثين‪".‬‬
‫وقد َّ‬
‫عرف الكواكبي االستبداد عدة تعريفات منها أنه "التصرف في الشؤون املشتركة‬

‫بمقتض ى الهوى‪ 63"،‬أو أنه "تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم باملشيئة وبال خوف تبعة‪ "،‬أو‬

‫أنه "صفة للحكومة املطلقة العنان فعال أو حكما‪ ،‬التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بال‬

‫‪ 61‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.9 ،‬‬


‫‪ 62‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.166 ،‬‬
‫‪ 63‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.13 ،‬‬
‫‪24‬‬
‫ُ َّ‬
‫حق ْ‬
‫قين‪ 64".‬ف ـ"املستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته ال بإرادتهم‪،‬‬ ‫خشية حساب وال عقاب م‬

‫ويحكمهم بهواه ال بشريعتهم‪ 65".‬وأحيانا ينحو الكواكبي في تعريف االستبداد منحى قانونيا‪،‬‬

‫فيجعله مرادفا لغياب العالقة الدستورية التعاقدية‪ .‬فالحكومة املستبدة –من هذا املنظور‪-‬‬
‫معينة معلومة َم ُ‬
‫صونة بقانون نافذ‬ ‫هي "الحكومة التي ال يوجد بينها وبين األمة رابطة َّ‬

‫الحكم‪ 66".‬لكن الكواكبي وجد أن االستبداد –على سوئه في كل األحوال‪ -‬مر ُ‬


‫اتب‪ ،‬فمنه السيئ‬

‫ومنه األسوأ‪" :‬وأشد مراتب االستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد املطلق‪،‬‬
‫‪67‬‬
‫الوارث للعرش‪ ،‬القائد للجيش‪ ،‬الحائزعلى سلطة دينية‪".‬‬

‫وعلى خالف الحال في (أم القرى)‪ ،‬حيث مال الكواكبي إلى املحاذرة والسلمية‪ ،‬ودعا‬
‫َ‬
‫حملة الفكرة اإلصالحية إلى التظاهر ب ــ"العجز واملسكنة‪ "،‬فإنه في (طبائع االستبداد) يتحدث‬

‫بنبرة الثوري الواثق من نفسه ومن أمته‪ ،‬ويدعو إلى مواجهة االستبداد بالقوة واإلكراه‪ ،‬إن لم‬
‫تنفع في تغييره وسائل الحوارواإلقناع‪ .‬فقد َّ‬
‫توصل الكواكبي –بعد طول تأمل‪ -‬إلى أن "املستبد‬

‫حديد‪ ،‬فلو رأى الظالم على جنب املظلوم سيفا ملا أقدم على‬
‫ٍ‬ ‫يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من‬
‫‪69‬‬ ‫َْ‬ ‫‪68‬‬
‫ي‪ -‬بأنه "ال يصان الشرف إال بالدم‪".‬‬
‫الظلم‪ "،‬واقتنع –بعد ٍ‬
‫أل‬

‫فهنا نلمس انتقاال في فكر الكواكبي‪ ،‬من مزاج املصلح املراهن على الكلمة واملوعظة‪،‬‬

‫إلى املناضل الواقعي املؤمن باملدافعة السياسية‪ .‬فقد اقتنع الكواكبي أنه "ما من حكومة‬
‫ُ‬
‫عادلة تأمن املسؤولية واملؤاخذة‪ ،‬بسبب غفلة األمة أو التمكن من إغفالها‪ ،‬إال وتسارع إلى‬
‫َّ‬
‫التلبس بصفة االستبداد‪ ،‬وبعد أن تتمكن فيه ال تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين‬

‫‪ 64‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.18-17 ،‬‬


‫‪ 65‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.22 ،‬‬
‫‪ 66‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.167 ،‬‬
‫‪ 67‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.19-18 ،‬‬
‫‪ 68‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.22 ،‬‬
‫‪ 69‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.91 ،‬‬
‫‪25‬‬
‫َّ‬
‫العظيمتين‪ :‬جهالة األمة والجنود املنظمة‪ ،‬وهما أكبر مصائب األمم وأهم معائب‬
‫اإلنسانية‪ 70".‬وفي هذا السياق َّ‬
‫عبر الكواكبي عن إعجاب عميق ب ـ ـ"يقظة اإلنكليز الذين ال‬
‫ْ‬
‫ٌ‬
‫انكسار‪ ،‬فال يغفلون لحظة عن مراقبة ملوكهم‪ ...‬وملوك اإلنكليز‬ ‫انتصار‪ ،‬وال ُيخملهم‬
‫ٌ‬ ‫ُي ْسكرهم‬
‫َ َ‬ ‫الذين فقدوا منذ قرون كل ش يء ما عدا التاج‪ ،‬لو َّ‬
‫تسنى اآلن ألحدهم االستبداد لغنمه حاال‪،‬‬
‫َْ‬
‫‪71‬‬
‫ولكن هيهات أن يظفربغ َّرة من قومه‪".‬‬

‫ويمكن القول إن الكواكبي كان في (أم القرى) مصلحا متأمال‪ ،‬يبحث عن الحلول‬

‫استعداد لبذل ثمنه‪ ،‬ثم أصبح في‬


‫ٍ‬ ‫َّ‬
‫ويتلمس الطريق إلى التغيير بحذر شديد‪ ،‬دون‬ ‫السهلة‪،‬‬
‫ُ‬
‫(طبائع االستبداد) ثوريا واقعيا جريئا‪ ،‬يؤمن بمبدأ املدافعة‪ ،‬ويدرك أن السياسة مواقف‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫ومدافعة لظلم الظالم‪ ،‬ال مواعظ ومراهنة على يقظة ضمير الحاكم‪ .‬ومع ذلك ظل الكواكبي‬
‫– َّ‬
‫بحاسته اإلسالمية التي ال تسترخص أمر الدماء‪ -‬يفضل أن يتم اإلصالح بالتالقي في منتصف‬
‫الطريق بين الحكام واملحكومين‪ ،‬كما سنبينه فيما ُ‬
‫بعد من خالل ْ‬
‫عرض نظريته الثورية‪.‬‬

‫الكواكبي وابن خلدون‬

‫تأثر الكواكبي تأثرا عميقا بمقدمة ابن خلدون‪ ،‬واستوعبها استيعابا كامال‪ ،‬حتى إن‬
‫َ‬
‫قارئه ليجد نفسا خلدونيا في العديد من أفكاره وعباراته‪ .‬فال غرو أن ُوجدت قرابة عقلية بين‬

‫سببي بينه وبين‬


‫ٍ‬ ‫شب ٌه بين ما ذهبا إليه من تشخيص للظلم السياس ي‪ ،‬ومن ربط‬
‫الرجلين‪ ،‬و َ‬

‫الفتور العام في األمة‪ .‬فإذا كان االستبداد في تعريف الكواكبي هو "التصرف في الشؤون‬
‫ُْ‬
‫املشتركة بمقتض ى الهوى"‪72‬كما أسلفنا‪ ،‬فإنه يذكر بثالثية ابن خلدون عن امللك الطبيعي‬
‫ْ‬ ‫ُْ‬
‫وامللك السياس ي والخالفة الشرعية‪ ،‬حيث ذهب ابن خلدون إلى أن "امللك الطبيعي هو حمل‬

‫‪ 70‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.19 ،‬‬


‫‪ 71‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.20 ،‬‬
‫‪ 72‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.13 ،‬‬
‫‪26‬‬
‫ْ‬
‫الكافة على مقتض ى الغرض والشهوة‪ ،‬و[امللك] السياس ي هو حمل الكافة على مقتض ى النظر‬

‫العقلي في جلب املصالح الدنيوية ودفع املضار‪ ،‬والخالفة هي حمل الكافة على مقتض ى النظر‬

‫الشرعي في مصالحهم األخروية والدنيوية الراجعة إليها‪ 73".‬وما ذكره ابن خلدون عن "مقتض ى‬

‫الغرض والشهوة" هو ذاته ما قصده الكواكبي في حديثه عن "مقتض ى الهوى‪ ".‬وما دعاه‬

‫الكواكبي –بلغتنا املعاصرة‪ -‬استبدادا هو ذاته ما دعاه ابن خلدون –بلغة عصره‪ -‬ملكا‬

‫طبيعيا‪.‬‬

‫شب ٌه كبير بين حديث الكواكبي ‪-‬الذي أوردناه سالفا‪ -‬عن " ْترك األعمال بسبب‬
‫ويوجد َ‬

‫ضعف اآلمال" بما سنورده الحقا من حديث البن خلدون عن أن "العدوان على الناس في‬

‫أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها‪ ".‬بل إن فكرة "الفتور العام" الكواكبية‪ ،‬أشبه‬

‫ما تكون بفكرة "انقباض الرعايا" الخلدونية‪ .‬فقد جعل ابن خلدون عنوان أحد فصول‬
‫ْ‬
‫مقدمته "في أن الظلم ُمؤذ ٌن بخراب العمران"‪ 74‬ثم شرح األمر شرحا سببيا‪ ،‬فالحظ اآلثار‬
‫النفسية للسلوك السياس ي‪َ ،‬‬
‫وربط دوافع الناس إلى الكسب والبناء بتحقيق العدل‪ ،‬كما ربط‬

‫تراجع حيوية الحضارة بعموم الظلم السياس ي‪ .‬يقول ابن خلدون‪:‬‬

‫"إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها‪ ،‬ملا يرونه‬
‫ُ‬
‫انتهابها من أيديهم‪ ،‬وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها‬ ‫حينئذ من أن غايتها ومصيرها‬
‫ْ‬
‫وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‪ .‬وعلى قدر االعتداء ونسبته يكون‬
‫انقباض الرعايا عن السعي في االكتساب‪ .‬فإذا كان االعتداء كثيرا عاما في جميع‬
‫أبواب املعاش كان القعود عن الكسب كذلك‪ ،‬لذهابه باآلمال جملة بدخوله من‬
‫جميع أبوابها‪ ،‬وإن كان االعتداء يسيرا كان االنقباض عن الكسب على نسبته‪.‬‬
‫ُ َ‬
‫ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو باألعمال وسعي الناس في املصالح واملكاسب‬ ‫والعمران‬
‫ذاهبين وجائين‪ .‬فإذا قعد الناس عن املعاش وانقبضت أيديهم عن املكاسب‪ ،‬كسدت‬

‫‪ 73‬عبد الرحمن ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪ ،‬ضمن كتاب العبر وديوان املبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر‬
‫ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر‪ .‬بيروت‪ :‬دار الفكر‪.239/1 ،)1988 ،‬‬
‫‪ 74‬ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪.353/1 ،‬‬
‫‪27‬‬
‫َْ‬
‫وابذ َع َّر الناس في اآلفاق من غير تلك اإليالة‪ ،‬في‬ ‫أسواق العمران‪ ،‬وانتقضت األحوال‪،‬‬
‫القطر‪ ،‬وخلت ُ‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫دياره‪ ،‬وخربت‬ ‫طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها‪ ،‬فخف ساكن‬
‫فسد‬‫أمصاره‪ ،‬واختل باختالله حال الدولة والسلطان‪ ،‬ملا أنها صورة للعمران َت ُ‬
‫‪75‬‬
‫بفساد مادتها ضرورة‪".‬‬

‫شب ٌه آخر بين الكواكبي وابن خلدون في بيان اآلثار النفسية لالستبداد‪ ،‬حيث‬
‫ويوجد َ‬

‫يرى كالهما أن االستبداد ُيفسد أخالق الرعية‪ ،‬ويدفعها إلى الخوف واملذلة‪ ،‬وذلك وجه آخر‬

‫من أوجه الفتور‪ ،‬حيث يفقد اإلنسان القوة الدافعة‪ ،‬والبواعث املحركة إلى الفعل املبدع‪.‬‬

‫فقد الحظ الكواكبي أن الناس في ظل االستبداد "هم األسرى الذين يقدمون قرابين‬
‫الخوف‪ 76"،‬كما َّ‬
‫ألح على أن البداية الصحيحة لإلصالح هي "نهاية الخوف من الحكومة ونهاية‬
‫‪77‬‬
‫االتكال على الغير‪".‬‬

‫إن السلطة املستبدة تؤدي ‪-‬في نظر الكواكبي‪ -‬إلى قطيعة أخالقية بين الدولة‬

‫والشعب‪ ،‬فيضعف كيان الدولة‪ ،‬وتتحول لقمة سائغة ألول عدو طارق‪ ،‬بخالف السلطة‬
‫َ‬
‫الشرعية التي تتماهى مع شعبها‪ ،‬ويتماهى معها شعبها‪ ،‬مما ُيكسب الدولة مناعة وصالبة‪،‬‬

‫بفضل وحدة اإلرادة الجمعية‪ .‬وهذا ما شرحه الكواكبي بقوله‪" :‬إن أعاظم امللوك املوفقين‬

‫والقواد الفاتحين‪ ...‬لم يفوزوا في تلك العظائم إال بالعزائم الصادقة‪ ،‬مع ُمصادقة تطابقهم‬

‫مع رعاياهم وجيوشهم في األخالق واملشارب تطابقا تاما‪ ،‬بحيث كانوا رؤوسا حقا لتلك‬

‫َّ‬ ‫‪ 75‬ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪ .354-353/1 ،‬و"ابذعر الش يء‪َّ :‬‬


‫تفرق‪ ".‬ابن القطاع ِّ‬
‫الص ِّقلي‪ ،‬كتاب األفعال (بيروت‪:‬‬
‫عالم الكتب‪ .114/1 ،)1983 ،‬واإليالة‪" :‬قطعة من َأرض الدولة يحكمها وال من قبل السلطان‪ْ ".‬‬
‫مجمع اللغة‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫العربية‪ ،‬املعجم الوسيط (القاهرة‪ :‬دار الشروق الدولية‪.33 ،)2014 ،‬‬
‫‪ 76‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.52 ،‬‬
‫‪ 77‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.82 ،‬‬
‫‪28‬‬
‫األجسام‪ ،‬ال كرأس َج َمل على جسم ثور‪ ،‬أو بالعكس‪ .‬وهذا التطابق وحده يجعل األمة تعتبر‬
‫‪78‬‬ ‫رئيسها ر َ‬
‫أسها‪ ،‬فتتفانى دون حفظه‪".‬‬
‫شب ٍه عظيم بين فكر الكواكبي وفكر ابن خلدون‪ ،‬فقد َّ‬
‫تنبه ابن خلدون قبل‬ ‫وهنا ُ‬
‫وجه َ‬

‫الكواكبي إلى ما يؤدي إليه الظلم السياس ي من "الخوف والذل‪ "،‬وما ُيثمره الرفق بالرعية من‬

‫تالحم بين الحاكم واملحكوم‪ ،‬وصالبة للدولة ضد األعداء‪ ،‬فقال‪:‬‬


‫ٍ‬
‫"إن امللك إذا كان قاهرا‪ ،‬باطشا بالعقوبات‪ ،‬منقبا عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم‪،‬‬
‫ْ‬ ‫َّ‬
‫شملهم الخوف والذل والذوا منه بالكذب واملكر والخديعة‪ ،‬فتخلقوا بها‪ ،‬وفسدت‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫بصائرهم وأخالقهم‪ .‬وربما خذلوه في مواطن الحروب واملدافعات‪ ،‬ففسدت الحماية‬
‫بفساد النيات‪ .‬وربما أجمعوا على قتله لذلك‪ ،‬فتفسد الدولة ويخرب السياج‪ .‬وإن‬
‫وقهره فسدت العصبية ملا قلناه أوال‪ ،‬وف َسد السياج من أصله بالعجز‬
‫أمره عليهم ُ‬
‫دام ُ‬
‫عن الحماية‪ .‬وإذا كان رفيقا بهم‪ ،‬متجاوزا عن سيئاتهم‪ ،‬استناموا إليه‪ ،‬والذوا به‪،‬‬
‫‪79‬‬ ‫ُوأ ْشربوا َّ‬
‫محبته‪ ،‬واستماتوا دونه في محاربة أعدائه‪ ،‬فاستقام األمرمن كل جانب‪".‬‬

‫لكن تبقى للكواكبي ميزة ليست البن خلدون‪ ،‬ربما الختالف سياق الزمان‪ .‬فابن‬

‫خلدون ال يرى االستبداد السياس ي في ذاته ظلما‪ ،‬فهو يحذر من الظلم في أداء السلطة‪ ،‬لكنه ال‬

‫يهتم بالظلم كثيرا في بناء السلطة‪ .‬بل إن نظريته السياسية تميل إلى الجبرية‪ ،‬وتتسم بتشاؤم‬
‫َ‬
‫ووصفها وصفا‬ ‫عميق‪ .‬وال غرو في ذلك‪ ،‬فابن خلدون شهد انحطاط الحضارة اإلسالمية‪،‬‬

‫معبرا‪ ،‬حتى ُلي ْمكن القول إن مقدمة ابن خلدون تكاد تكون قصيدة رثاء طويلة في الحضارة‬

‫اإلسالمية اآلفلة يومذاك‪.‬‬

‫وربما يمكن القول إن كال من ابن خلدون والكواكبي يمثل إشراقة فكرية عظيمة في‬
‫اقة ابن خلدون ُ‬‫ُ‬
‫ضوء‬ ‫تاريخ الحضارة اإلسالمية‪ ،‬لكن اإلشراقتين من نوع مختلف تماما‪ ،‬فإشر‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫شفق في بداية ليل طويل بدأ يط ُمر الحضارة اإلسالمية اآلفلة بظالمه الحالك‪ ،‬وإشراقة‬
‫ٍ‬

‫‪ 78‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.168 ،‬‬


‫‪ 79‬ابن خلدون‪ ،‬املقدمة‪.236/1 ،‬‬
‫‪29‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫طل على تلك الحضارة اإلسالمية بعد قرون من االنحطاط‪ .‬فال عجب أن‬ ‫الكواكبي نور ٍ‬
‫فجر م ٍ‬
‫كان ابن خلدون جبريا ومتشائما‪ ،‬وكان الكواكبي متحررا ومتفائال‪.‬‬

‫وكان الكواكبي على إدراك بنقاط الضعف في فكر ابن خلدون‪ ،‬فانتقد "تخليط ابن‬

‫خلدون"‪ 80‬في بعض قضايا الفكر السياس ي‪ ،‬خصوصا نزوعه الجبري واملنفعي في انتقاده آلل‬

‫البيت النبوي فيما خاضوه من معارك سياسية في صدر اإلسالم‪ ،‬بينما ذهب الكواكبي أن ما‬

‫فعله ثوار آل البيت في صدر اإلسالم منسجم مع منطق "األحرار النجباء" الذين يرون املوت‬
‫الكريم َّ‬
‫مقدما على الحياة الذليلة‪" :‬وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت ‪-‬عليهم السالم‪-‬‬
‫ْ‬
‫جعلتهم‬ ‫َّ‬
‫فحميتهم‬ ‫معذورين في إلقاء أنفسهم في تلك املهالك؛ ألنهم ملا كانوا نجباء أحرارا‪،‬‬
‫َّ‬
‫ذل‪ ،‬مثل حياة ابن خلدون الذي خطأ أمجاد البشر في‬ ‫يفضلون املوت كراما على حياة ٍ‬
‫‪81‬‬
‫إقدامهم على الخطرإذا ُهدد مجدهم‪".‬‬

‫كما امتاز الكواكبي عن ابن خلدون –وعن آخرين كثر‪ -‬بروحه العملية‪ .‬وقد أحسن‬
‫ليع َمل وينفذ‪ ،‬أو ُ‬
‫ليد َّل‬ ‫العقاد إدراك ذلك فالحظ أن "من طبيعة تفكير الكواكبي أنه ْيدرس ْ‬

‫‪82‬‬
‫وهذه الروح العملية التي ترجمها الكواكبي إلى نظرية ثورية‬ ‫على مسائل العمل والتنفيذ‪".‬‬
‫في التغييرهي ما نتجه إلى بيانه فيما َ‬
‫بقي من هذه الدراسة‪.‬‬

‫الشرارة املفجرة للثورة‬


‫رصد الكواكبي ببصيرة سياسية الشرارة التي تشعل الثورات على املستبدين‪ .‬فوجد‬

‫أن الظلم السياس ي املتراكم قد ال يقود الناس إلى الثورة‪ ،‬إال مع شرارة توقظ البركان الخامد‪،‬‬

‫وتفجر الطاقة االجتماعية في وجه املستبد‪ .‬وفي ذلك يقول‪" :‬العوام ال يثور غضبهم على‬

‫‪ 80‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.57 ،‬‬


‫‪ 81‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.58 ،‬‬
‫‪ 82‬العقاد‪ ،‬الكواكبي‪.137 ،‬‬
‫‪30‬‬
‫املستبد غالبا إال عقب أحوال مخصوصة مهيجة فورية‪ 83".‬ثم أورد الكواكبي نماذج من هذه‬
‫ُ‬
‫األحوال املخصوصة التي تسقط هيبة الحاكم املستبد في الحضيض‪ ،‬وتدفع الشعب إلى‬

‫الثورة عليه‪ ،‬فذكرأن الثورة عادة تشتعل في حاالت ثمان‪:‬‬

‫"(‪ )1‬عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه املستبد على املظلوم يريد االنتقام لناموسه‪،‬‬
‫(‪ )2‬عقب حرب يخرج منها املستبد مغلوبا‪ ،‬وال يتمكن من إلصاق عار التغلب بخيانة‬
‫القواد‪ )3( ،‬عقب تظاهر املستبد بإهانة الدين إهانة مصحوبة باستهزاء يستلزم‬
‫حدةالعوام‪ )4( ،‬عقب تضييق شديد عام مقاضاة ملال كثير ال يتيسر إعطاؤه حتى‬
‫على أواسط الناس‪ )5( ،‬في حالة مجاعة أو مصيبة عامة ال يرى الناس فيها مواساة‬
‫ظاهرة من املستبد‪ )6( ،‬عقب عمل للمستبد يستفز الغضب الفوري كتعرضه‬
‫لناموس الع ْرض أو حرمة الجنائز في الشرق وتحقيره القانون أو الشرف املوروث في‬
‫قسم كبير من النساء في االستجارة‬‫الغرب‪ )7( ،‬عقب حادث تضييق يوجب تظاهر ْ‬
‫واالستنصار‪ )8( ،‬عقب ظهور مواالة شديدة من املستبد ملن تعتبره األمة عدوا‬
‫‪84‬‬
‫لشرفها‪".‬‬

‫ويدل سرد هذه األسباب املباشرة التي تمثل شرارة الثورة على إملام الكواكبي الواسع‬

‫بتاريخ الثورات السياسية‪ ،‬ونفاذ بصيرته في استخالص بعض القوانين الحاكمة لظاهرة‬

‫الثورة‪ .‬على أن الكواكبي لم يحصر شرارة الثورة في هذه األسباب الثمانية‪ ،‬بل أضاف إليها‬

‫"غير ذلك من األمور املماثلة لهذه األحوال التي عندها يموج الناس في الشوارع والساحات‪،‬‬
‫ُ‬
‫أصواتهم الفضاء‪ ،‬وترتفع فتبلغ عنان السماء‪ ،‬ينادون‪ :‬الحق الحق‪ ،‬االنتصار للحق‪،‬‬ ‫وتمأل‬
‫‪85‬‬
‫املوت أو بلوغ الحق!"‬
‫َ‬
‫كما الحظ الكواكبي أن أغلب املستبدين ال يدعون األمور تصل لهذا الحد‪ ،‬إال إن كان‬

‫في األمر توريط لهم من بطانة غير ناصحة‪ ،‬ف ــ"املستبد مهما كان غبيا ال تخفى عليه تلك‬

‫‪ 83‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.180 ،‬‬


‫‪ 84‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.181 ،‬‬
‫‪ 85‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.181 ،‬‬
‫‪31‬‬
‫املزالق‪ ،‬ومهما كان عتيا ال يغفل عن اتقائها‪ ،‬كما أن هذه األمور يعرفها أعوانه ووزراؤه‪ .‬فإذا‬

‫وجد منهم بعض يريدون له التهلكة يهورونه على الوقوع في إحداها‪ ،‬ويلصقونها به خالفا‬
‫‪86‬‬
‫لعادتهم في إبعادها عنه بالتمويه على الناس‪".‬‬

‫أصول العمل الثوري‬


‫َّ‬
‫قدم الكواكبي في (طبائع االستبداد) أصوال سياسية واجتماعية وثقافية مفيدة‬

‫للثورات‪ ،‬منها ما يتعلق بنضج الثقافة الثورية وإنضاجها في املجتمع‪ ،‬ومنها ما يتناول العامل‬

‫الخاريي وأثره على مسار الثورات‪ .‬وهي أصول جديرة أن يتأملها املسلمون اليوم‪ ،‬وهم‬

‫يجهدون للخروج من نيراالستبداد‪ .‬يقول الكواكبي في نص جامع لشروط نجاح الثورات‪:‬‬

‫"يجب قبل مقاومة االستبداد‪ ،‬تهيئة ماذا يستبدل به االستبداد‪ ...‬إن معرفة الغاية‬
‫شرط طبيعي لإلقدام على كل عمل‪ ،‬كما أن معرفة الغاية ال تفيد شيئا إذا ُجهل‬
‫الطريق املوصل إليها‪ .‬واملعرفة اإلجمالية في هذا الباب ال تكفي مطلقا‪ ،‬بل ال بد من‬
‫تعيين املطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل‪ ،‬أو األكثرية التي هي فوق‬
‫الثالثة أرباع عددا‪ ،‬أو قوة بأس‪ ،‬وإال فال يتم األمر‪ .‬حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعا‪،‬‬
‫يكون اإلقدام ناقصا نوعا‪ .‬وإذا كانت مجهولة بالكلية عند قسم من الناس أو مخالفة‬
‫لرأيهم‪ ،‬فهؤالء ينضمون إلى املستبد‪ ،‬فتكون فتنة شعواء‪ .‬وإذا كانوا يبلغون مقدار‬
‫الثلث فقط‪ ،‬تكون حينئذ الغلبة في جانب املستبد‪ .‬ثم إذا كانت الغاية مبهمة ولم يكن‬
‫السير في سبيل معروف‪ ،‬ويوشك أن يقع الخالف في أثناء الطريق‪ ،‬فيفسد العمل‬
‫أيضا وينقلب إلى انتقام وفتن‪ .‬ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة‪ ،‬وإخالص وإشهارها‬
‫بين الكافة‪ ،‬والسعي في إقناعهم‪ ،‬واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك‪ ،‬بل ْ‬
‫األولى‬
‫‪87‬‬
‫حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم‪".‬‬‫ْ‬

‫ففي هذا النص الثمين ُيجمل الكواكبي أصول العمل الثوري الناجح في أمور ثالثة‪.‬‬

‫أولها‪ :‬وضوح الغاية من الثورة في أذهان الثوار‪ ،‬وتهيئة البديل السياس ي عن املستبد قبل‬

‫‪ 86‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.181 ،‬‬


‫‪ 87‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.183-182 ،‬‬
‫‪32‬‬
‫خوض الثورة ضده‪ ،‬ويقتض ي الوضوح النظري حول البديل في الثورات داخل البلدان‬

‫العربية واإلسالمية اليوم التوافق على ضرورة الحكم الديمقراطي ذي املرجعية اإلسالمية‬

‫الذي يضمن الحرية والعدل للجميع‪ ،‬ويحقق لألمة املصالحة مع ذاتها‪ .‬فالخالف حول الغاية‬

‫من الثورة‪ ،‬أو حول شكل البديل السياس ي‪ ،‬يضع الثورة على أعتاب الحرب األهلية العدمية‬

‫من أول يوم‪.‬‬

‫أما األصل الثاني الذي يدعو إليه الكواكبي فهو التوافق بين الطالئع املفجرة للثورة‬

‫على خطة واستراتيجية واضحة للفعل الثوري‪ ،‬وهذا ما قصده بــ"تعيين املطلب والخطة‬

‫تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل أو األكثرية‪ ".‬فالخالف في الخطط وتضارب االسترتيجيات‬
‫َمهلكة للثورات‪ ،‬وهو ٌ‬
‫أمرال يغني عنه االتفاق على الشعارات واملبادئ العامة‪.‬‬

‫وأما األصل الثالث فهو نشر الوعي بين جماهير الشعب بفضائل الثورة ومساوئ‬

‫االستبداد‪ .‬فال يكفي توافق النخب السياسية على ضرورة الثورة واعتبارها واجبا أخالقيا‪،‬‬

‫بل ال بد من إشهارذلك وبثه في جماهيرالشعب‪ ،‬وإقناع عامة الناس به‪.‬‬

‫وهنا يبدو الكواكبي واعيا بما دعاه آخرون ضرورة "الكتلة الحرجة" لنجاح الثورة‪.‬‬

‫فعلى عكس منظرين آخرين تعاملوا مع الجماهير باستعالء وازدراء‪ ،‬وراهنوا على النخب‬
‫َّ‬
‫وتوصل إلى أن الجماهير هي وقود‬ ‫والطالئع‪ ،‬فإن الكواكبي رأى في عامة الشعب طاقة جبارة‪،‬‬

‫الثورات‪ ،‬وهي حصن املستبد في الوقت ذاته‪ ،‬فالذي يكسبها إلى صفه هو الذي يكسب‬
‫ُ َ‬
‫قبل قوله في (أم‬ ‫املعركة في نهاية املطاف‪ .‬وقد تردد رأيه هذا في الكتابين‪ .‬فقد أوردنا من‬
‫ٌ‬
‫شبيه لهذا القول في‬ ‫القرى)‪" :‬والعامة َمن إذا علموا قالوا‪ ،‬وإذا قالوا فعلوا‪ 88".‬وقد تكرر‬

‫‪ 88‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.166 ،‬‬


‫‪33‬‬
‫(طبائع االستبداد) حيث كتب الكواكبي‪" :‬من هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا‪،‬‬
‫‪89‬‬
‫وإذا خافوا استسلموا‪ ،‬كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا‪ ،‬ومتى قالوا فعلوا‪".‬‬

‫ويرتب الكواكبي ‪-‬في نص آخر من كتابه‪ -‬هذه األصول الثالثة ترتيبا تصاعديا‪ ،‬يبدأ‬

‫ببناء الوعي العام من خالل "تنبيه حس األمة بآالم االستبداد‪ "،‬ويمر بالبناء النظري للنظام‬

‫السياس ي البديل عبر "البحث في القواعد األساسية للسياسة املناسبة‪ ".‬وحينما تثمر هاتان‬
‫َ‬
‫"ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا‪ ،‬والتمني في الطبقات‬ ‫املرحلتان‬

‫السفلى‪ "،‬فتلك عالمة نضج الظروف‪ ،‬والدليل على أن املجتمع أصبح في حالة ثورية‪ .‬وحينها‬

‫يصبح الوقت مالئما لخوض املرحلة الثالثة‪ ،‬وهي "املقاومة واملغالبة"‪ ،‬أي مرحلة الفعل‬

‫الثوري العملي إلسقاط املستبد‪.‬‬


‫وال ُّ‬
‫يمل الكواكبي من التأكيد والتشديد على أهمية األفكارللثوار‪ ،‬وعلى أن الثورات في‬
‫مسيس الحاجة إلى أفكار واضحة تكون َ‬
‫حاديها ودليلها‪ .‬وهو ال يقبل االرتجال واالستعجال في‬

‫مسألة التحضير الفكري واألخالقي والنفس ي للثورة‪ ،‬وبناء القاعدة النظرية الصلبة لها‪ .‬فهذا‬

‫الوضوح النظري قد يستغرق زمنا طويال‪ ،‬ومشاركة عريضة من نخب األمة وجماهيرها‪ ،‬وال‬
‫ْ‬
‫"واألولى أن يبقى ذلك‬ ‫تكفي فيه "فكرة ساعات أو فطنة آحاد‪ "،‬بل هو يحتاج إنضاجا هادئا‬
‫ْ‬
‫تحت َمخض العقول سنين‪ ،‬بل عشرات السنين حتى ينضج تماما‪ "،‬حسب تعبيرالكواكبي‪.‬‬

‫يقول الكواكبي شارحا هذه املراحل الثالث‪:‬‬

‫"واملراد أن من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد ويمكن أن يستبدل بها‬
‫االستبداد‪ ،‬وليس هذا باألمر الهين الذي تكفيه فكرة ساعات‪ ،‬أو فطنة آحاد‪ ،‬وليس‬
‫هو بأسهل من ترتيب املقاومة واملغالبة‪ .‬وهذا االستعداد الفكري النظري ال يجوز أن‬
‫يكون مقصورا على الخواص‪ ،‬بل ال بد من تعميمه وعلى حساب اإلمكان ليكون بعيدا‬
‫عن الغايات ومعضودا بقبول الرأي العام‪ .‬وخالصة البحث أنه يلزم أوال تنبيه حس‬

‫‪ 89‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.50 ،‬‬


‫‪34‬‬
‫األمة بآالم االستبداد‪ ،‬ثم يلزم حملها على البحث في القواعد األساسية للسياسة‬
‫واألولى أن يبقى ذلك تحت مخض‬‫املناسبة لها‪ ،‬بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها‪ْ ،‬‬
‫العقول سنين‪ ،‬بل عشرات السنين حتى ينضج تماما‪ ،‬وحتى يحصل ظهور التلهف‬
‫‪90‬‬
‫الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا‪ ،‬والتمني في الطبقات السفلى‪".‬‬

‫وفي نص آخر ثمين من نصوصه ذات الصلة بالفعل الثوري‪ ،‬يحذرالكواكبي الثوار من‬

‫إيقاظ املستبد على خطرهم عليه قبل أن تنضج ظروف الثورة‪ ،‬فالثورة السابقة ألوانها ذات‬

‫كل الحذر من أن يشعراملستبد بالخطر‪ ،‬فيأخذ‬ ‫َ‬


‫"الحذر َّ‬ ‫أثر عكس ي في الغالب‪ .‬يقول الكواكبي‪:‬‬

‫بالتحذر الشديد‪ ،‬والتنكيل باملجاهدين‪ ،‬فيكثر الضجيج‪ ،‬فيزيغ املستبد ويتكالب‪ 91".‬وربما‬
‫يفسرهذا النص نبرة الحذرالشديد التي الحظناها من ُ‬
‫قبل في كتاب في (أم القرى)‪.‬‬

‫الثورة والطامع األجنبي‬


‫ونظرا لكثافة التدخل الخاريي الساعي إلى تعويق الثورات العربية اليوم‪ ،‬فإن من‬

‫املهم التذكير بما نبه إليه الكواكبي قبل قرن من الزمان‪ ،‬من مخاطر وجود "طامع أجنبي"‬
‫َّ‬
‫يغتنم فرصة الفوض ى املصاحبة لكل الثورات‪ ،‬ويتخذها ذريعة الحتالل البالد واستعباد‬
‫ْ‬
‫وضعف حصانتها الداخلية‪،‬‬ ‫أهلها‪ .‬فإذا بدأت الثورة في ظروف ال َ‬
‫طمع األجنبي في األمة‪،‬‬

‫وهشاشة دفاعاتها الذاتية‪ ،‬فيمكن أن تتحول الثورة ذاتها ثغرة تقتحم منها قوى خارجية‬
‫معادية ساحة األمة‪" ،‬فتستولي على البالد‪ُ ،‬وتجدد ْ‬
‫األسر على العباد بقليل من التعب‪،‬‬

‫فتدخل األمة في دور آخر من الرق املنحوس"‪ 92‬كما يقول الكواكبي‪ .‬وسنورد كامل حديثه في‬
‫هذا املضمار الحقا‪ .‬ولعل الكواكبي كان يستحضر هنا الثورة ُ‬
‫العرابية بمصر عام ‪1881‬‬

‫واستغالل بريطانيا ظروف تلك الثورة الحتالل البالد عام ‪.1882‬‬

‫‪ 90‬الكواكبي‪ ،‬طبائع الستبداد‪.184-183 ،‬‬


‫‪ 91‬الكواكبي‪ ،‬طبائع الستبداد‪.184 ،‬‬
‫‪ 92‬الكواكبي‪ ،‬طبائع الستبداد‪.184 ،‬‬
‫‪35‬‬
‫َّ‬
‫تتألف من أمرين‪ْ :‬‬ ‫ُ‬
‫نضج الظروف الذاتية في‬ ‫فالحالة الثورية املثلى في تحليل الكواكبي‬

‫األمة‪ ،‬وعدم وجود طامع أجنبي يغتال الثورة ويقتحم قلب األمة وهي في حالة شقاق واقتتال‪.‬‬

‫فإذا تحقق هذا الشرطان معا‪ ،‬أصبح املستبد ُمرغما على اإلذعان‪ :‬إما بالخضوع ملنطق‬

‫اإلصالح الوقائي ‪-‬وهو األخصر طريقا واألرخص ثمنا‪ -‬وإما بمواجهة الزوال على أيدي شعب‬

‫صر على أن يحيا "حياة كاملة حقيقية‪ "،‬حسب تعبيره‪ .‬يقول‬ ‫ُ‬
‫افض لحياة العبودية‪ ،‬م ٍ‬
‫أبي ر ٍ‬
‫ٍ‬
‫الكواكبي واصفا الفرق بين الثورة املحكومة بقوانينها الذاتية‪ ،‬والثورة التي يستغلها طامع‬

‫أجنبي لتحقيق مآرب على حساب األمة الثائرة‪:‬‬


‫"إما أن تغتنم الفرصة دولة أخرى فتستولي على البالد‪ُ ،‬وتجدد ْ‬
‫األسر على العباد‬
‫بقليل من التعب‪ ،‬فتدخل األمة في دور آخرمن الرق املنحوس‪ ،‬وهذا نصيب أكثراألمم‬
‫الشرقية في القرون األخيرة‪ .‬وإما أن يساعد الحظ على عدم وجود طامع أجنبي‪،‬‬
‫تأهلت للقيام بأن تحكم نفسها بنفسها‪ ...‬يمكن لعقالء األمة أن‬ ‫وتكون األمة قد َّ‬
‫يكلفوا املستبد ذاته لترك أصول االستبداد‪ ،‬واتباع القانون األساس ي الذي تطلبه‬
‫يسعه عند ذلك إال اإلجابة طوعا‪ ،‬وهذا أفضل ما‬ ‫األمة‪ .‬واملستبد الخائر َ‬
‫القوى ال َ‬
‫أصر املستبد على القوة‪ ،‬قضوا بالزوال على دولته‪ ،‬وأصبح كل منهم‬ ‫يصادف‪ .‬وإن َّ‬
‫راعيا‪ ،‬وكل منهم مسؤوال عن رعيته‪ ،‬وأضحوا آمنين‪ ،‬ال يطمع فيهم طامع‪ ،‬وال ُيغلبون‬
‫‪93‬‬
‫عن قلة‪ ،‬كما هو شأن كل األمم التي تحيا حياة كاملة حقيقية‪".‬‬

‫وإذا كان الطامع األجنبي في عصرالكواكبي يمكن أن يعيق مسيرة الثورات‪ ،‬فيرفع ثمنها‬

‫ويؤجل انتصارها‪ ،‬فإن التداخل الدولي املعاصرزاد من هذا اإلمكان‪ ،‬وجعل خروج أي أمة من‬
‫نير العبودية السياسية عسيرا من غير ُّ‬
‫تفهم من األمم األخرى‪ ،‬خصوصا األمم ذات النفوذ‬

‫الدولي والتاريخ االستعماري‪ .‬واملؤسف أن نظرية الكواكبي حول خطرالقوى الدولية الطامعة‬

‫على الثورات الشعبية قد تحققت بالكامل في بلده سوريا‪ ،‬وفي مدينته حلب‪ .‬وكأنما كان‬

‫الكواكبي يتنبأ بمآالت الثورة السورية بعد مائة وعشرة أعوام من وفاته!‬

‫‪ 93‬الكواكبي‪ ،‬طبائع االستبداد‪.184 ،‬‬


‫‪36‬‬
‫َ َّ‬
‫البنا‬ ‫الكواكبي وحسن‬
‫وقبل أن نختم الحديث عن نظرية الكواكبي الثورية‪ ،‬ال بد أن نشيد بروحه العملية‪،‬‬

‫وخصوصا موهبته التنظيمية التي امتاز بها عن معاصريه املصلحين املسلمين الذي غلب‬

‫التجريد على فكرهم‪ .‬وهذا البعد التنظيمي من فكر الكواكبي يكاد يكون غائبا تماما في‬

‫الدراسات املتداولة عن الكواكبي اليوم‪ ،‬رغم أن جهود الكواكبي في هذا املضمار قد تكون –‬
‫َّ‬
‫بمنطق تاريخ األفكار‪ -‬هي البذرة التي أثمرت مختلف الحركات اإلسالمية ذات الطبيعة املنظمة‬

‫على مدى القرن املنصرم‪.‬‬


‫َّ‬
‫البنا (‪ )1949-1906‬من الشخصيات التي لم يهتم الباحثون‬ ‫وربما يكون حسن‬
‫َّ‬
‫اهتماما كافيا بصلتها الفكرية بالكواكبي‪ ،‬رغم أن البنا هو الذي واصل جهد الكواكبي‬

‫التنظيمي أكثر من غيره‪ ،‬وإن كانت تنقصه رؤية الكواكبي التحليلية‪ ،‬وموقفه الصارم من‬

‫االستبداد‪ .‬ومن القالئل الذين انتبهوا إلى تلك الصلة بين الكواكبي والبنا إسحاق وايزمان‬

‫فأشار إليها إشارة عابرة إلى أن (جماعة اإلخوان املسلمين) التي أسسها حسن البنا "تجسد‬

‫رؤية الكواكبي" التنظيمية التي صاغها في شكل (جمعية أم القرى)‪ 94،‬تلك الجمعية التي‬

‫انتهى مؤتمر(أم القرى) االفتراض ي إلى تشكيلها‪.‬‬

‫ويبدو لنا أن القرابة العملية بين الرجلين عميقة جدا‪ ،‬ومن أدلتها الشبه الكبير في‬

‫االصطالحات‪ ،‬وفي األنماط التنظيمية‪ ،‬وفي الخطط العملية‪ .‬فمن حيث التحليل اللغوي‪،‬‬

‫تواترت صفة "اإلخوان" في كتاب (أم القرى)‪ ،‬فقد ورد لفظ اإلخوان في الكتاب وصفا‬

‫للمؤتمرين املشاركين في مؤتمر (أم القرى) ثماني وعشرين مرة‪ .‬منها خمس عشرة مرة ورد بها‬

‫اللفظ مجردا من أي وصف‪95،‬وثماني مرات بصيغة "اإلخوان الكرام‪ 96"،‬وثالث مرات بصيغة‬

‫‪94‬‬
‫‪Weismann, Abd Al-Rahman Al-Kawakibi, 123.‬‬
‫‪ 95‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.245 ،215 ،214 ،210 ،189 ،187 ،157 ،135 ،113 ،99 ،47 ،23 ،8 ،7 ،‬‬
‫‪37‬‬
‫"السادة اإلخوان‪97"،‬ومرتين بصيغة "اإلخوان األفاضل‪98"،‬ومرتين مسبوقة بصيغة النداء‪:‬‬
‫‪100‬‬
‫"أيها اإلخوان" و"يا أيها اإلخوان‪ 99"،‬ومرة واحدة بصيغة "اإلخوان الوافدين‪".‬‬
‫كما وصف الكواكبي ُ‬
‫نفسه أعضاء جمعية (أم القرى) يوم تأسيسها بأنهم "أهل‬

‫اإليمان من اإلخوان" فكتب‪" :‬يوم االثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة ‪ :1316‬في‬
‫ُ‬
‫الضحى األول من اليوم املذكور تألفت الجمعية حسب معتادها‪ ،‬وقرئ الضبط السابق‪،‬‬

‫واستعدت األذهان لتلقي ما يفيضه هللا على ألسنة أهل اإليمان من اإلخوان‪ 101".‬وكل هذا‬

‫يدل على أن البنا قد يكون استعار مصطلح "اإلخوان" من الكواكبي‪.‬‬

‫ومن حيث الخطط العميلة والصيغ التنظيمية جاء القرار ذو الصلة ببلد املقر الدائم‬

‫لجمعية(أم القرى)‪ ،‬وبطبيعتها السرية‪ ،‬معضدا للربط بين فكرة الكواكبي ومشروع حسن‬
‫البنا‪ ،‬حيث َّ‬
‫"تقرر أن يكون تأسيس الجمعية الدائمة ابتداء في بور سعيد أو الكويت بصورة‬

‫غير علنية في األول‪ 102".‬ثم استقر األمر على اتخاذ مصر مقرا للجمعية‪ ،‬مع بقاء رسالتها ذات‬

‫طبيعة عاملية‪ ،‬كما ورد على لسان رئيس املؤتمر‪" :‬وإن جمعيتنا هذه إذا اختارت أن تجعل‬

‫مركزها املوقت في مصردار العلم والحرية‪ 103".‬وبالطبع اتخذ حسن البنا مصر مقرا لـ(جماعة‬

‫اإلخوان املسلمين)‪ ،‬مع االحتفاظ بعاملية رسالتها‪.‬‬

‫ومما يؤيد اقتباس حسن البنا مشروعه التنظيمي من فكرة الكواكبي التنظيمية‬
‫الشبه بين جمعية (أم القرى) كما َّ‬
‫تخيلها الكواكبي و(جماعة اإلخوان املسلمين) كما بناها‬

‫‪ 96‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.211 ،162 ،157 ،156 ،133 ،122 ،103 ،69 ،‬‬
‫‪ 97‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.178 ،127 ،75 ،‬‬
‫‪ 98‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.135 ،108 ،‬‬
‫‪ 99‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.16 ،13 ،‬‬
‫‪ 100‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.5 ،‬‬
‫‪ 101‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.127 ،‬‬
‫‪ 102‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.211 ،‬‬
‫‪ 103‬الكواكبي‪ ،‬أم القرى‪.212 ،‬‬
‫‪38‬‬
‫حسن البنا‪ ،‬من الهدوء والسكينة في بادئ األمر‪ ،‬والسعي إلى كسب قلوب الحكام ال‬

‫مواجهتهم‪ .‬وهو مسلك لم يكن واضحا في الحالتين‪ :‬هل هو خيار استراتيجي‪ ،‬أم مناورة‬

‫تكتيكية‪ ،‬أم خطة مرحلية‪ .‬لكن الذي يترجح –في الحالتين أيضا‪ -‬أنه كان أقرب إلى الخطة‬

‫املرحلية‪ .‬فلم تمنع الكواكبي دعوته إلى أن يكون "مظهر الجمعية العجز واملسكنة" من أن‬
‫يقبل فكرة "اإللجاء" في أوقات الضرورات‪ ،‬ولم يمنع البنا ُّ‬
‫تودده إلى حكام املسلمين والسعي‬
‫إلى كسب قلوبهم ‪-‬عبر املراسالت‪ -‬من إعداد ُ‬
‫العدة لساعة الحسم واملواجهة مع االستعمار‬

‫واالستبداد‪.‬‬

‫ويبقى أن نقول إن حسن البنا‪ ،‬وإن استلهم من الكواكبي اسم "اإلخوان‪ "،‬وهيكلهم‬

‫التنظيمي‪ ،‬ورسالتهم اإلصالحية في املجال التربوي واالجتماعي‪ ،‬فإنه لم يستلهم منه –بكل‬

‫أسف‪ -‬موقفه الصلب من االستبداد السياس ي‪ ،‬وما اتسم به تنظيره السياس ي من وضوح‬

‫نظري وأخالقي في موضوع الحريات السياسية‪ .‬ولو كان البنا استلهم هذا الشق من فكر‬
‫الكواكبي‪َّ ،‬‬
‫وقدره حق قدره‪ ،‬لربما كان تاريخ الحركات اإلسالمية قد سارمسارا آخر‪.‬‬

‫خالصات للزمن اآلتي‬


‫والخالصة أن عبد الرحمن الكواكبي َّ‬
‫قدم في كتابيه (أم القرى) و(طبائع االستبداد)‬
‫تشخيصا دقيقا لداء الجمود والركود واالنحطاط في الحضارة اإلسالمية‪ ،‬الذي َّ‬
‫عبر عنه‬

‫بمصطلح "الفتور العام‪ "،‬وقد سلك الكواكبي في (أم القرى) مسلكا استقرائيا‪ ،‬أحاط فيه‬
‫بكل األسباب املحتملة لحالة الفتور العام في األمة اإلسالمية‪ ،‬ثم َّ‬
‫تبنى في (طبائع االستبداد)‬

‫منهجا تحليليا‪ ،‬أوصله إلى أن كل تلك األسباب ترجع إلى سبب واحد هو االستبداد السياس ي‪،‬‬

‫وأن كل ما سوى داء االستبداد مجرد أعراض للداء‪.‬‬


‫كما َّ‬
‫قدم الكواكبي خططا عملية لإلصالح الثقافي من خالل تصوره لجمعية (أم‬

‫القرى)‪ ،‬وخططا عملية لإلصالح السياس ي من خالل كتابه (طبائع االستبداد)‪ ،‬وخصوصا في‬
‫‪39‬‬
‫القسم األخير من الكتاب الذي تناول مسألة"السعي إلى رفع االستبداد‪ ".‬وقد وجدت الدراسة‬
‫َ‬
‫قرابة عقلية بين الكواكبي وعبد الرحمن بن خلدون‪ ،‬الذي درس الكواكبي مقدمته بدأب‪،‬‬
‫ْ‬ ‫واستوعب مراميها ُ‬
‫بعمق‪ .‬كما وجدت قرابة عملية بين الكواكبي وحسن البنا‪ ،‬الذي أخذ عن‬
‫الكواكبي شيئا من َّ‬
‫حاسته العملية‪ ،‬ومنظوره التنظيمي‪ ،‬وخططه املرحلية‪ ،‬ونقلها من عالم‬
‫ُّ‬
‫التخيل الذي صاغها فيه الكواكبي إلى خضم الحياة املتحركة الدافقة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫األهم من فكر الكواكبي‪ ،‬وهو‬ ‫لكن الدراسة انتهت إلى أن حسن البنا لم يستلهم الشق‬

‫تحليله ملخاطر االستبداد‪ ،‬وموقفه الفكري األخالقي الصارم من هذه الظاهرة املقيتة‪ .‬فما‬
‫ُ َ‬
‫عاته‪ ،‬وكل َ‬
‫حملة الهم والقلم في األمة‪ ،‬أن يعيدوا قراءة الكواكبي اليوم‪،‬‬ ‫أج َدر دعاة اإلسالم وو‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫فكم ترك لنا هذا العبقري من حكمة سياسية ال ت ْبلى على مرالزمان‪.‬‬
‫ْ‬

‫‪40‬‬
‫الئحة املراجع‬

‫ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن‪ .‬كتاب العبر وديوان املبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن‬
‫عاصرهم من ذوي السلطان األكبر‪ .‬بيروت‪ :‬دار الفكر‪.1988 ،‬‬

‫أبو حمدان‪ ،‬سمير ‪ .‬عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة االستبداد‪ .‬بيروت‪ :‬الشركة العاملية للكتاب‪،‬‬
‫‪.1992‬‬

‫برج‪ ،‬محمد عبد الرحمن‪ .‬عبد الرحمن الكواكبي‪ .‬القاهرة‪ :‬الهيئة املصرية العامة للكتاب‪.1972 ،‬‬

‫بن قينة‪ ،‬عمر‪ .‬الرؤية الفكرية في الحاكم والرعية لدى ابن املقفع والعنابي والكواكبي‪َّ .‬‬
‫عمان‪:‬‬
‫دار أسامة‪.2000 ،‬‬

‫حمود‪ ،‬ماجدة‪ .‬عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضة واألدب‪ .‬دمشق‪ :‬اتحاد الكتاب العرب‪،‬‬
‫‪.2001‬‬

‫داية‪ْ ،‬‬
‫جان‪ .‬اإلمام الكواكبي فصل الدين عن الدولة‪ .‬لندن‪ :‬دار سوراقيا‪.1988 ،‬‬

‫رضا‪ ،‬محمد رشيد‪" .‬الخالفة اإلسالمية والجامعة العثمانية‪ "،‬مجلة املنار‪ ،‬املجلد ‪.13‬‬

‫العقاد‪ ،‬عباس محمود‪ .‬عبد الرحمن الكواكبي‪ .‬القاهرة‪ :‬مؤسسة هنداوي‪.2012 ،‬‬

‫عمارة‪ ،‬محمد‪ .‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ..‬األعمال الكاملة‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪.2007 ،‬‬

‫‪ .---‬الكواكبي شهيد الحرية ومجدد اإلسالم‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الشروق‪.2007 ،‬‬

‫طحان‪ ،‬محمد جمال‪ .‬األعمال الكاملة للكواكبي‪ ..‬دراسة وتحقيق‪ .‬بيروت‪ :‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية ‪.2007‬‬

‫‪41‬‬
‫كتورة‪ ،‬جورج‪ .‬طبائع الكواكبي في طبائع االستبداد‪ ..‬دراسة تحليلية‪ .‬بيروت‪ :‬املؤسسة‬
‫الجامعية‪.1987 ،‬‬

‫الكواكبي‪ ،‬عبد الرحمن‪ .‬طبائع االستبداد ومصارع االستعباد‪ .‬حلب‪ :‬املطبعة العصرية‪ ،‬بال تاريخ ‪.‬‬

‫‪ .---‬أم القرى‪ .‬بيروت‪ :‬دار الرائد العربي‪.1982 ،‬‬

‫السعيد‪ ،‬حسن‪ .‬عبد الرحمن الكواكبي‪ ..‬جدلية االستبداد والدين‪ .‬إيران‪ :‬دون ذكر الناشر‪،‬‬
‫‪.2000‬‬

‫الشهرستاني‪ ،‬محمد بن عبد الكريم‪ .‬امللل والنحل‪ .‬القاهرة‪ :‬مؤسسة الحلبي‪ ،‬بال تاريخ‪.‬‬

‫َّ‬
‫الص ِّقلي‪ ،‬ابن القطاع‪ .‬كتاب األفعال‪ .‬بيروت‪ :‬عالم الكتب‪.1983 ،‬‬
‫ِّ‬

‫ْ‬
‫مجمع اللغة العربية‪ ،‬املعجم الوسيط‪ .‬القاهرة‪ :‬دار الشروق الدولية‪2014 ،‬‬

‫)‪Kedourie, Sylvia. "The Ideas of a Precursor Abd Al-Rahman Al-Kawakibi (1849-1902‬‬


‫‪in Relations to the Trend of Muslim-Arab Political Thought" University of‬‬
‫‪Edinburgh, 1953.‬‬

‫‪Weismann, Itzchak. Abd Al-Rahman Al-Kawakibi: Islamic Reform and Arab Revival.‬‬
‫‪London: Oneworld Publications, 2015.‬‬

‫‪42‬‬

You might also like