Professional Documents
Culture Documents
من الفتور العام إلى الثورة العارمة نظرية التغيير لدى الكواكبي ـ محمد المختار الشنقيطي ـ الموسوعة الشنقيطية
من الفتور العام إلى الثورة العارمة نظرية التغيير لدى الكواكبي ـ محمد المختار الشنقيطي ـ الموسوعة الشنقيطية
ص ُدق ُم َّ
سمى الفيلسوف السياس ي على أحد من أعالم املسلمين -األقدمين ربما ال َي ْ
َ
حظي الكواكبي 1406م) وعبد الرحمن الكواكبي (1320-1265هـ 1902-1849 /م) .وقد
باهتمام كبير منذ وفاته ،وصدرت كتب عديدة عن حياته وآثاره ،منها ما نحا منحى الجمع
لتراثه ،مثل أعمال محمد عمارة ومحمد جمال طحان 1.ومنها ما جمع بين سيرة حياته
2 ْ
كتابي عباس محمود العقاد ومحمد عبد الرحمن برج. وتلخيص أهم أعماله مثل
وقدم دارسون عرب دراسات عن الكواكبي تتناول فكره من زوايا مخصوصة ،ومن
هؤالء ماجدة حمود وجورج كتورة ،وحسن السعيد ،وسمير أبو حمدان 3.كما حاول آخرون
أن يقدموا الكواكبي ضمن منظور مقارن ،ومن هؤالء عمر بن قينة 4.واهتم باحثون غربيون
بالكواكبي وأعماله ،ومن أقدم هذه األعمال رسالة سيلفيا قدوري للدكتوراه بجامعة أدمبره
عام ،1953بعنوان" :أفكار رائد :عبد الرحمن الكواكبي ( )1902-1849في سياق اتجاه الفكر
1محمد عمارة ،عبد الرحمن الكواكبي ..األعمال الكاملة (القاهرة :دار الشروق) .2007 ،محمد جمال
طحان ،األعمال الكاملة للكواكبي ..دراسة وتحقيق (بيروت :مركز دراسات الوحدة العربية .2007
2عباس محمود العقاد ،عبد الرحمن الكواكبي (القاهرة :مؤسسة هنداوي .)2012 ،محمد عبد الرحمن
برج ،عبد الرحمن الكواكبي (القاهرة :الهيئة املصرية العامة للكتاب.)1972 ،
3ماجدة حمود ،عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضة واألدب (دمشق :اتحاد الكتاب العرب .)2001 ،جورج
كتورة ،طبائع الكواكبي في طبائع االستبداد ..دراسة تحليلية (بيروت :املؤسسة الجامعية .)1987 ،حسن
السعيد ،عبد الرحمن الكواكبي ..جدلية االستبداد والدين (إيران :دون ذكر الناشر .)2000 ،سمير أبو
حمدان ،عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة االستبداد (بيروت :الشركة العاملية للكتاب.)1992 ،
َّ
4عمر بن قينة ،الرؤية الفكرية في الحاكم والرعية لدى ابن املقفع والعنابي والكواكبي (عمان :دار أسامة
للنشر.)2000 ،
1
السياس ي العربي-اإلسالمي "،ومن آخرها كتاب إسحاق وايزمان (عبد الرحمن الكواكبي:
5
اإلصالح اإلسالمي واإلحياء العربي) الصادرعام .2015
َ
ُ
الجدل ومن األعمال املكتوبة عن الكواكبي ما ن َحا منحى حجاجيا .وأشهرهذا الصنف
بين محمد عمارة والكاتب السوري املسيحي جان داية حول إسالمية الكواكبي وعلمانيته 6.وال
ُ
اإلسالمي ،وبإيمانه
أحسب أن عمارة كان بحاجة لهذا الجدل ،فكتب الكواكبي ناطقة بمنبعه ٍ
العميق أن الوحي اإلسالمي والتجربة النبوية والراشدية قد َّ
قدما للمسلمين ولكل البشرية ما
يكفي من القيم واألحكام السياسية لبناء أعدل النظم السياسية وأنبلها .فكل مسعى لفرض
ٌ
الرهبانية السياسية على اإلسالم عبث ال طائل من ورائه.
َ
وتظل دراسة عباس محمود العقاد عن الكواكبي -على قدمها -أعمق هذه الدراسات،
قلم يصوغ التراجم مثل ما يصوغها قلم العقاد ،وال َ
كاتب يجاري العقاد في وأمتعها .فال َ
ْ
ووضع أقوالهم وأفعالهم في الغوص على نفسيات العظماء ،وتحليل دواخلهم ودوافعهم،
املسلمين ،خصوصا في موضوع االستبداد ووسائل التحرر منه .وقد استعادت أفكارالكواكبي
بريقها من جديد منذ اندالع ثورات الربيع العربي ،فوجد فيها كثيرون إلهاما متجددا وزادا في
الطريق ال ينضب ،فتردد صدى أفكاره في ميادين الثورات ،وفي وسائل اإلعالم ،وعبر وسائل
5
Sylvia Kedourie, "The Ideas of a Precursor Abd Al-Rahman Al-Kawakibi (1849-1902) in
Relations to the Trend of Muslim-Arab Political Thought" University of Edinburgh, 1953; Itzchak
Weismann, Abd Al-Rahman Al-Kawakibi: Islamic Reform and Arab Revival (London: Oneworld
Publications, 2015).
6انظر :جان داية ،اإلمام الكواكبي فصل الدين عن الدولة (لندن :دار سوراقيا ،)1988 ،ورد محمد عمارة،
الكواكبي شهيد الحرية ومجدد اإلسالم (القاهرة :دار الشروق.62-7 ،)2007 ،
2
التواصل االجتماعي .وفي هذا السياق تأتي هذه الدراسة التي تتناول تشخيص الكواكبي لداء
الركود واالنحطاط في األمة اإلسالمية ،وهو ما دعاه الكواكبي "الفتور العام "،ثم العالج
الثوري الذي اقترحه الكواكبي لهذا الفتور .وقد اخترنا هذا املوضوع ملا له من ارتباط وثيق
باألحداث الجسام التي يشهدها قلب العالم اإلسالمي اليوم ،خصوصا املنطقة العربية منه.
فغاية البحث هي تحقيق أمرين :أولهما الكشف عن تطور فكر الكواكبي في رؤيته
ملعضلة املجتمعات املسلمة في عصره ،واملسار الذي قاده إلى النتيجة التي َّ
توصل إليها في
َ َ ََ
ومحور جهاده السياس ي ،وهي أن االستبداد هو جذر وجعلها عصارة عمله الفكري، النهاية،
الشرُّ ،
وأم الرذائل ،وأن مواجهته هي املدخل الصحيح لخروج األمة اإلسالمية من أزمتها
الحضارية .وثاني األمرين هو استعراض أهم األفكارالثورية -العملية والتنظيمية -التي اقترحها
ٌ
أفكار زادها املخاض الكواكبي ملواجهة هذا الفتور العام الناتج عن داء االستبداد ،وهي
َ
الثوري الحالي في املنطقة العربية ألقا وحيوية ،لكأنما تتحدى الزمن وتأبى االندثار ،حتى
تتحقق واقعا حيا ،كما كان مطمح كاتبها منذ أكثرمن مائة عام.
وقد المس محمد عمارة الفكرتين املحوريتين اللتين يتناولهما بحثنا هذا ،لكنه اكتفى
بإشارات خفيفة وخطوط عامة جدا ،ربما بسبب اتساع اهتمام عمارة ،وعدم تركيزه على هذه
الجوانب من فكر الكواكبي .فاختزل عمارة رؤية الكواكبي لقضية الفتور العام اختزاال كبيرا،
وحصرأسباب ذلك الفتور عنده في أربعة فقط 7،رغم أن الكواكبي نفسه أوصلها ستا وثمانين
سببا! ،كما جاء حديث عمارة عن الثورة عند الكواكبي سريعا وباهتا ،فلم يمنح نظرية
َّ
الكواكبي الثورية حقها من االستقراء والتحليل 8.فعس ى أن يسهم هذا البحث في سد هذه
األعوام األخيرة.
واإلنسانية ،فقد ُولد ونشأ في مدينة حلب في لحظة حرجة من تاريخها ،وفي الدولة العثمانية
أيام أفولها .وقد أدرك عباس محمود العقاد أهمية هذا السياق الزماني واملكاني لحياة
الكواكبي ورسالته ،فكتب" :لو أن إنسانا يختار لنفسه ورسالته مولده ،ملا اختار عبد الرحمن
[الكواكبي] مولدا أصلح للرسالة التي نهض بها أكثر من مدينة حلب 9".والسبب في ذلك –كما
يرى العقاد -أن حلب "مدينة تتصل بالحوادث وتتصل بها الحوادث 10".فحلب "كانت موقعا
"مدينة سياسية" و"مدينة حساسة" "ألنها املدينة التي يصيبها كل عطل ويرتد إليها كل
اضطراب 12".أما الدولة العثمانية التي ولد الكواكبي في أحضانها فقد كانت يومذاك في حالة
َّ
ومشادة دائمة بين املاض ي واملستقبل" :تتقدم خطوة وتنكص على أعقابها خطوتين اضطراب
13
في طريق الحكم النيابي واإلدارة العصرية".
َّ
وقد أثر هذا السياق الحلبي العثماني في فكر الكواكبي ،وصاغ الكثير من مواقفه،
خصوصا اهتمامه بالشأن العام ،وإيمانه بضرورة اإلصالح الثقافي والسياس ي .ثم جاء النسب
مستعدا لبذل النفس والنفيس في سبيل رفع الظلم عن أمته ،مؤمنا بأن التضحية هي سبيل
ْ املجد والسؤدد ،وبأن األحرار َ
أهل البذل ُ
أكثر ما يكونون "من نجباء ٍ
بيوت ما انقطعت فيها
ُ ْ
عجائزها عن بكائهم 14".حسب تعبيره. سلسلة املجاهدين ،وما انقطعت
وقد استعذب الكواكبي ما ورد من أنه "قيل ألحد األباة :ما فائدة سعيك غير جلب
َ
الشقاء على نفسك؟ فقال" :ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظاملين!" 15ولم يتوان في دفع
ْ
ثمن اإلباء سجنا ونفيا وتشهيرا واضطهادا ،بل كان يرى أن هذا هو سبيل األنبياء والحكماء في
كل زمان ومكان ،فغربة األحرار -في منظور الكواكبي -سببها تحررهم من الركون إلى األرض،
"االستبداد والعلم ضدان متغالبان :فكل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور
وحصر الرعية في حالك الجهل .والعلماء الحكماء -الذين ينبتون أحيانا في ْ العلم،
مضايق صخور االستبداد -يسعون جهدهم في تنوير أفكار الناس .والغالب أن رجال
االستبداد يطاردون رجال العلم وينكلون بهم ،فالسعيد منهم من يتمكن من ُمهاجرة
سبب أن كل األنبياء العظام -عليهم الصالة والسالم -وأكثر العلماء ُ دياره ،وهذا
16
األعالم ،واألدباء ،والنبالء ،تقلبوا في البالد وماتوا غرباء".
وقد أبلغ العقاد في التعبير عن هذا الجانب من شخصية الكواكبي ،فكتب أن
17 ُ ُ الكواكبي َّ
"جرت عليه نزاهته وصراحته عداوة أعداء العمل النزيه والقول الصريح".
14عبد الرحمن الكواكبي ،طبائع االستبداد ومصارع االستعباد .حلب :املطبعة العصرية ،بال تاريخ).59 ،
15الكواكبي ،طبائع االستبداد.59 ،
16الكواكبي ،طبائع االستبداد.53 ،
17العقاد ،الكواكبي.42 ،
5
من الشهرستاني إلى الكواكبي
وضع مؤرخ امللل والنحل في اإلسالم محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (548 - 479هـ
1153 - 1086 /م) إصبعه على الجرح الذي أنهك األمة اإلسالمية على مر القرون ،فكتب:
ٌ ُ
خالف بين األمة خالف اإلمامة ،إذ ما ُس َّل سيف في اإلسالم على قاعدة دينية مثل ما
ٍ ُ
"وأعظم
َ
ُس َّل على اإلمامة في كل زمان 18".وهكذا فهم الشهرستاني بعمق أن أزمة الحضارة اإلسالمية
وقد توصل الكواكبي -الذي ولد بعد وفاة الشهرستاني بنحو سبعة قرون -إلى النتيجة
َ َ َ
ذاتها .لكنه خطا خطوة أبعد في التحليل مما خطاه الشهرستاني الذي اكتفى بأن الحظ -بنبرة
َّ َ
حزينة -سيف اإلمامة املسلط على رقاب األمة اإلسالمية .فأدرك الكواكبي أن االستبداد
السياس ي هو سبب الفتن السياسية التي سادت في تاريخ اإلسالم منذ نهاية عهد الراشدين،
19 بالء ،ألنه ٌ
وباء دائم بالفتن". ُ
أعظم ٍ فكتب أن "االستبداد
كما أدرك الكواكبي أن أغلب الخالفات االعتقادية بين املسلمين ترجع في جذورها إلى
خالفاتهم السياسية ،فهم "تشاجروا في الخالفة وامللك ،وانقسموا على أنفسهم ُ
بأسهم بينهم،
يقتل بعضهم بعضا ،وتفرقوا في الدين ُّ
لتفرقهم في السياسة 20".وقدم الكواكبي دواء لداء
وكان هذا التشخيص الذي انتهى إليه الكواكبي حصاد بحث طويل ومعاناة فكرية
وشخصية في ُّ
تلمس أسباب الركود في املجتمعات اإلسالمية .فقد جعل الكواكبي من أولويات
رسالته الفكرية تشخيص ظاهرة الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية ،وبذل في ذلك جهدا
18محمد بن عبد الكريم الشهرستاني ،امللل والنحل (القاهرة :مؤسسة الحلبي ،بال تاريخ).22/1 ،
19الكواكبي ،طبائع االستبداد.24 ،
20عبد الرحمن الكواكبي ،أم القرى (بيروت :دار الرائد العربي.147 ،)1982 ،
6
َّ
املتخيلة في مؤتمر (أم القرى) ،أو في تنظيره الصريح على لسانه في رائدا ،من خالل املداوالت
كتابه (طبائع االستبداد) .والالفت للنظر أن الكواكبي َّ
توسع كثيرا في كتاب (أم القرى) في
تفصيل أسباب هذا الفتور العام ،حتى أوصلها إلى ستة وثمانين سببا! ثم عاد في كتاب (طبائع
َّ
االستبداد) ُليرجعها كلها تقريبا إلى سبب واحد ،هو االستبداد السياس ي ،الذي َربط به حالة
هما كتاب (أم القرى) وكتاب (طبائع االستبداد ومصارع االستعباد) .أما األعمال األخرى التي
كتبها الكواكبي فهي إما مقاالت خفيفة أنضج أفكارها فيما بعد في الكتابين ،أو مشاريع أعمال
لم تكتمل ولم ترالنور تماما 21.وقد سلك الكواكبي مسلكا منهجيا مختلفا في كل من الكتابين،
َّ
وصرح بذلك ،فقال عن ففي (أم القرى) نحا نحو املنهج االستقرائي واألسلوب الحواري
الفتور العام" :هذا هو املشكل العظيم الذي يجب على جمعيتنا البحث فيه أوال بحث تدقيق
واستقراء 22".وأما في (طبائع الالستبداد) فقد مال إلى املنهج التحليلي واالستنباطي .وفي
الحالتين جاء طرح الكواكبي متميزا ،وربما يكون محمد عبد الرحمن برج دقيقا إذ الحظ أن
"الش يء الذي َّبز به هذا املصلح العظيم أقرانه األخيرين أنه أحسن تشخيص الداء ،فأحسن
23
ذكرالدواء".
فكتاب (أم القرى) حصاد مداوالت مؤتمر افتراض ي َّ
تصوره الكواكبي منعقدا في مكة
املكرمة ،وجامعا لعدد من أهل الرأي والفضل من أرجاء العالم اإلسالمي ،ومن األقليات
21انظر عن حصر أعمال الكواكبي :محمد جمال طحان ،األعمال الكاملة للكواكبي ،خصوصا فصل:
"مؤلفات الكواكبي".
22الكواكبي ،أم القرى.23 ،
23برج ،الكواكبي.4 ،
7
املسلمة خارجه ،بلغ عددهم ثالثة وعشرين مشاركا .وقد جعل الكواكبي غاية مؤتمر (أم
24
القرى) االفتراض ي "تشخيص داء الفتور املستولي على األمة تشخيصا سياسيا مدققا"،
والبحث في "سبب مالزمة هذا الفتور منذ قرون للمسلمين 25".وقد منح الكواكبي املشاركين
في املؤتمر أسماء مستعارة تدل على رغبته في أن يكونوا ممثلين ألهم الحواضر اإلسالمية
التاريخية ،وأكبر الجاليات املسلمة خارج حدود العالم اإلسالمي ،وهذا ما ينفي التفسير
القومي لفكر الكواكبي ،ويبرهن على رؤيته اإلسالمية املمتدة أبعد من األفق العربي إلى "كافة
ال يخطئها الذهن ،واألسماء هي" :السيد الفراتي [االسم الرمزي للكواكبي نفسه] ،الفاضل
الشامي ،البليغ املقدس ي ،الكامل اإلسكندري ،العالمة املصري ،املحدث اليمني ،الحافظ
البصري ،العالم النجدي ،املحقق املدني ،األستاذ املكي ،الحكيم التونس ي ،املرشد الفاس ي،
ُ السعيد اإلنكليزيْ ،
املولى الرومي ،الرياض ي الكردي ،املجتهد التبريزي ،العارف التاتاري،
الخطيب القازاني ،املدقق التركي ،الفقيه األفغاني ،الصاحب الهندي ،الشيخ السندي ،اإلمام
26
الصيني".
وأما كتاب (طبائع االستبداد) فهو خالصة تفكير الكواكبي في أزمة الحضارة
اإلسالمية ،بعد أن توصل إلى أن جوهر الداء هو االستبداد السياس ي .وقد َّ
قسم الكواكبي
الكتاب إلى فصول تسعة ،تناول الفصل األول منها تعريف االستبداد ،وتتالت الفصول
ُ
الوسيطة من الكتاب تحلل آثار االستبداد السلبية على الدين ،والعلم ،واملجد ،واملال،
واألخالق ،والتربية ،والترقي .ثم جاء الفصل األخير مبينا طرائق التخلص من االستبداد .وهو
الفصل على أن الكواكبي كان سابقا لعصره بأشواط ،كما سنرى فيما بعد .وما يهمنا هنا
أمران :تشخيص الكواكبي لداء الفتور العام ،ثم توصيفه للدواء في شكل إصالح سياس ي
ثوري.
أي أنه ورد في الكتاب ثماني وثالثين مرة ،مما يدل على أن هذه الظاهرة كانت الهاجس األكبر
والهم األهم الذي ال يغيب عن عقل الكواكبي ووجدانه .وقد ورد مفهوم الفتور أحيانا في
سياق تعريف ماهيته وطبيعته ،وتارة في التأكيد على كونه ظاهرة عامة في الجسد اإلسالمي،
وطورا في البحث عن أسبابه .وهذا املنحى األخير هو الغالب على مداوالت (أم القرى) .وفي
سبيل البحث عن توصيف دقيق النحطاط الحضارة اإلسالمية لم يجد الكواكبي تعبيرا
أليق بأن يكون عنوانا لهذا البحث ،لتعلق الحالة"يلوح لي أن إطالق الفتور العام ُ
النازلة باألدبيات أكثر منها باملاديات ،وألن آخر ما فيها ْ
ضعف الحس ،فيناسبه التعبير
ٌ
شامل لكافة أعضاء الجسم اإلسالمي، عنه بالفتور .كما أن هذا الفتور في الحقيقة
فيناسب أن يوصف بالعام .وربما يتوقف الفكر في الوهلة األولى عند الحكم بأن
الفتور عام يشمل كافة املسلمين ،ولكن بعد التدقيق واالستقراء نجده شامال للجميع
27
في مشارق األرض ومغاربها ال يسلم منه إال أفراد شاذة".
لكن الكواكبي َّبين –إنصافا للمسلمين -أن هذا الفتور العام ليس خاصا باملسلمين
دون غيرهم ،بل يوجد في أتباع ديانات ون َحل أخرى ،وبعض هؤالء "أكثر فتورا من
املسلمين 29".وقد ذهب املشاركون في املؤتمر في تفسيرأسباب الفتور العام في أمة اإلسالم َّ
كل
مذهب ،فرأى بعضهم أن "منشأ هذا الفتور هو بعض القواعد االعتقادية واألخالقية ،مثل
30
وذهب آخرون إلى أن "سبب الفتور هو تحول نوع السياسة العقيدة الجبرية"،
32 "تأصل الجهل في غالب أمرائنا َ
املترفين". اإلسالميةَّ 31"،
ورجح طرف آخرأن السبب هو ُّ
ومن املؤتمرين من رأى السبب في "إهمال االهتمام بالدين 33"،وترك األمر باملعروف
والنهي عن املنكر 34،أو في وجود "العلماء املدلسين وغالة املتصوفين الذين استولوا على
العامة النعدام "االجتماعات واملفاوضات" 37بمعنى غياب التشاور والتراض ي في الشأن العام،
ْ
أو "فقد اآلمال وترك األعمال والبعد عن الجد واالرتياح إلى الكسل والهزل 38".أو "أن البلية
ُ ْ
فق ُدنا الحرية ،وما أدرانا ما الحرية؟ هي ما ُحرمنا معناه حتى نسيناهُ ،
وحرم علينا لفظه حتى
39
استوحشناه".
"يستفاد من مذاكرات جمعيتنا املباركة أن هذا الفتور املبحوث فيه ناش ئ عن مجموع أسباب
ُ
كثيرة مشتركة فيه ،ال عن سبب واحد أو أسباب قالئل ت ْمكن مقاومتها بسهولة .وهذه األسباب
منها أصول ،ومنها فروع لها حكم األصول .وكلها ترجع إلى ثالثة أنواع :وهي أسباب دينية،
40
وأسباب سياسية ،وأسباب أخالقية".
ثم َّ
عدد الكواكبي هذه األسباب ،فجعل األسباب الدينية التي وردت على ألسنة
َ َ
املؤتمرين ثالثة وعشرين سببا ،والسياسية ستة عشر ،واألخالقية سبعة عشر .وحرص على
األمانة والدقة في نقل آراء املؤتمرين ،ولذلك علق قائال بعد سرد األسباب التي ذكروها" :هذه
َّ ُ
مكررات كما هي خالصات أسباب الفتور التي أوردها إخوان الجمعية وليس فيها
دون تغيير:
42
الجدول األول :األسباب الدينية للفتور العام
تأثير عقيدة الجبر في أفكار األمة. .1
تأثير املزهدات في السعي والعمل وزينة الحياة. .2
تأثير فتن الجدل في العقائد الدينية. .3
االسترسال للتخالف والتفرق في الدين. .4
الذهول عن سماحة الدين وسهولة التدين به. .5
تشديد الفقهاء املتأخرين في الدين خالفا للسلف. .6
ُ
تشويش أفكار األمة بكثرة تخالف اآلراء في فروع أحكام الدين. .7
فقد إمكان مطابقة القول للعمل في الدين بسبب التخليط والتشديد. .8
إدخال العلماء املدلسين على الدين مقتبسات كتابية وخرافات وبدعا مضرة. .9
تهوين غالة الصوفية الدين وجعلهم إياه لهوا ولعبا. .10
إفساد الدين بتفنن املداجين بمزيدات ومتروكات وتأويالت. .11
إدخال املدلسين واملقابرية على العامة كثيرا من األوهام. .12
خلع املنجمين والرمالين والسحرة واملشعوذين قلوب املسلمين باملرهبات. .13
إيهام الدجالين واملداجين أن في الدين أمورا سرية وأن العلم حجاب. .14
اعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين. .15
تطرق الشرك الصريح أو الخفي إلى عقائد العامة. .16
تهاون العلماء العاملين في تأييد التوحيد. .17
االستسالم للتقليد وترك التبصر واالستهداء. .18
التعصب للمذاهب وآلراء املتأخرين وهجر النصوص ومسلك السلف. .19
الغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة وجمعية الحج. .20
العناد على نبذ الحرية الدينية جهال بمزيتها. .21
التزام ما ال يلزم ألجل االستهداء من الكتاب والسنة. .22
تكليف املسلم نفسه ما ال يكلفه به هللا وتهاونه فيما هو مأمور به. .23
ويتضح من الئحة األسباب الدينية للفتور العام -كما وردت على ألسنة املشاركين في
َّ
مؤتمر (أم القرى) االفتراض ي -أنها أسباب مركبة؛ فمنها االعتقادي مثل الجبرية ( ،)1والشرك
.)19 ،14-9ومنها الثقافي مثل طغيان الجدل على العمل ( ،)8-7 ،4-3والتقليد األعمى (،)18
على ما تتسم به رؤية الكواكبي اإلصالحية من العمق والرحابة ،وبحثه في جذور أزمة الحضارة
اإلسالمية بعيدا عن املظاهر واألشكال .وفي الجدول اآلتي بيان لألسباب السياسية وراء
يتبين من خالل الجدول الثاني تنوع األسباب السياسية التي أرجع إليها املؤتمرون
مشكلة الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية .وبعض هذه األسباب يتعلق بخلل في االجتماع
السياس ي ابتداء ،مثل افتراق كلمة األمة ( .)2وبعضها يتعلق ببناء السلطة ،مثل االستبداد
غير َّ
املقيد بمساءلة ومحاسبة ( ،)14،1وتقييد الحريات أو انعدامها ( ،)12-11 ،3وغياب
تنوع هذه األسباب رحابة النظر إلى الظاهرة السياسية ،وعدم اختزالها في جانب واحد من
جوانبهاْ ،
وربطها بالعمق االجتماعي والثقافي .وهنا ننتقل إلى األسباب األخالقية للفتور العام،
يظهر من الجدول الثالث أن األسباب التي أوردها الكواكبي هنا ليست كلها أسبابا
َّ
تضمن هذا الصنف أمورا اقتصادية ( ،)9وثقافية ( ،)6ونفسية (،)10 ،2 أخالقية .بل
وسياسية ( ،)16 ،8وحتى اعتقادية ( .)17ومع ذلك فقد َّ
تضمنت هذه القائمة عددا من
ُّ
املوبقات واملساوئ األخالقية ،منها الجهالة والسفالة ( ،)15والتملق ( ،)12والجبن والخوف
وردت على ألسنة املؤتمرين ،أضاف من عنده واحدا وعشرين سببا إضافيا ،استخلصها من
السياق العثماني في تلك الحقبة الحرجة التي عاصرها من تاريخ الدولة العثمانية ،وهي
النصف الثاني من القرن التاسع عشر .وقد امتازت تلك الحقبة باالضطراب الدائم،
والصراع العميق بين عوامل الحياة والتجدد وعوامل الفناء واالندثار في أحشاء تلك
اإلمبراطورية اإلسالمية العريقة .وقد َّ
مهد الكواكبي لسرد هذه األسباب "العثمانية" بتقديم
"واألسباب التي سأذكرها هي أصو ُل موارد الخلل في السياسة واإلدارة الجاريتين في
َ
يهم شأ ُنها عامة املسلمين .وقد جاءها أكثر هذا ُ
أعظم دولة ُّ اململكة العثمانية ،التي هي
َ َّ ْ ْ الخلل في الستين سنة األخيرة ،أي ْ
بعد أن اندفعت لتنظيم أمورها ،فعطلت أصولها
َّ َ ُ ُ
القديمة ،ولم تحسن التقليد وال اإلبداع ،فتشتت حالها ،وال سيما في العشرين سنة
ْ
األخيرة التي ضاع فيها ثلثا اململكة ،وخرب الثلث الباقي وأشرف على الضياع ،لفقد
وصرف السلطان قوة سلطنته كلها في سبيل حفظ ذاته الشريفة ،وسبيل الرجالْ ،
45
اإلصرارعلى سياسة االنفراد".
وتدل هذه املسوغات على حرص الكواكبي على بقاء الدولة العثمانية مظلة
ُ
مالمحه واضحة في عهده .كما تدل للمسلمين ،وخوفه عليها من التفكك واالنهيار الذي بدت
أيضا على عقل الكواكبي السياس ي التجريبي ،املنهمك في تشريح الواقع السياس ي ،بينما
انشغل مصلحون آخرون بالتوصيف النظري .أما األسباب "السياسية واإلدارية" العثمانية
الكواكبي ،لكن مع اختصار بعضها ملا فيها من تطويل غير ضروري ،وغير مناسب لحجم
الجدول.
46
الجدول الرابع :األسباب السياسية واإلدارية العثمانية للفتور العام
توحيد قوانين اإلدارة والعقوبات ،مع اختالف طبائع أطراف اململكة واختالف األهالي في األجناس والعادات. .1
تنويع القوانين الحقوقية ،وتشويش القضاء في األحوال املتماثلة. .2
التمسك بأصول اإلدارة املركزية مع بعد األطراف عن العاصمة ،وعدم وقوف رؤساء اإلدارة في املركز على أحوال .3
تلك األطراف املتباعدة وخصائص سكانها.
التزام أصول عدم توجيه املسؤولية على رؤساء اإلدارة والوالة عن أعمالهم مطلقا. .4
تشويش اإلدارة بعدم االلتفات لتوحيد األخالق واملسالك في الوزراء والوالة والقواد ،مع اضطرار الدولة التخاذهم .5
من جميع األجناس واألقوام املوجودين في اململكة بقصد استرضاء الكل.
ُّ التزام املخالفة الجنسية [القومية] في استخدام العمال ،بقصد ُّ
تعسر التفاهم بين العمال واألهالي ،وتعذر االمتزاج .6
بينهم لتأمن اإلدارة غائلة االتفاق عليها.
التزام تفويض اإلمارات املختصة عادة ببعض البيوت ...ألجل أن يكون األمير منفورا ممن ولي عليهم مكروها عندهم .7
فال يتفقون معه ضد الدولة.
التزام تولية بعض املناصب املختصة ببعض األصناف كاملشيخة اإلسالمية والسر عسكرية ملن يكون منفورا في .8
صنفه من العلماء أو الجند ،ألجل أن ال يتفق الرئيس واملرؤوس على أمر مهم.
ُ ُْ
التمييز الفاحش بين أجناس الرعية في الغنم والغ ْرم. .9
التساهل في انتخاب العمال واملأمورين واإلكثار منهم بغير لزوم ،وإنما بقصد إعاشة العشيرة واملحاسيب واملتملقين .10
امللحين.
ْ ُ ْ
التسامح في املكافأة واملجازاة تهاونا بشؤون اإلدارة حسنت أم ساءت ،كأن ليس للملك صاحب. .11
عدم االلتفات لرعاية املقتضيات الدينية كوضع أنظمة مصادمة للشرع بدون لزوم سياس ي مهم ،أو مع اللزوم .12
ولكن بدون اعتناء بتفهيمه لألمة واالعتذار لها جلبا للقناعة والرضا.
تضييع حرمة الشرع وقوة القوانين بالتزام عدم اتباعها وتنفيذها ،واإلصرار على أن تكون اإلدارة نظامية اسما .13
إرادية فعال.
التهاون في مجاراة عادات األهالي وأخالقهم ومصالحهم ،استجالبا ملحبتهم القلبية ،فوق طاعتهم الظاهرية. .14
الغفلة أو التغافل عن مقتضيات الزمان ومباراة الجيران وترقية السكان بسبب عدم االهتمام باملستقبل. .15
الضغط على األفكار املتنبهة بقصد منع نموها وسموها واطالعها على مجاري اإلدارة ،محاسنها ومعايبها ،وإن كان .16
الضغط على النمو الطبيعي عبثا محضا ،ويتأتى منه اإلغراء والتحفزوينتج عنه الحقد على اإلدارة.
تمييز األسافل أصال وأخالقا وعلما ،وتحكيمهم في الرقاب الحرة وتسليطهم على أصحاب املزايا ،وهذا التهاون بشأن .17
ُّ
ذوي الشؤون يستلزم تسفل اإلدارة.
إدارة بيت املال إدارة إطالق بدون مراقبة ،وجزاف بدون موازنة ،وإسراف بدون كتاب ،وإتالف بدون حساب ،حتى .18
صارت اململكة مديونة لألجانب بديون ثقيلة توفى بالدا ورقابا ودماء وحقوقا.
إدارة املصالح املهمة السياسية وامللكية بدون استشارة الرعية وال قبول مناقشة فيها ،وإن كانت إدارة مشهودة .19
املضرة في كل حركة وسكون.
العام في الدولة العثمانية هي في جلها أسباب إدارية .وقد تناول فيها ظواهر مهمة تدل على
يقظة ضميره ،وحساسيته املرهفة تجاه الظلم في الحياة العامة ،وقدرته الذهنية على االنتباه
للتفاصيل .ولعل ذلك راجع إلى عمل الكواكبي في القضاء والصحافة بمدينة حلب التي كانت
يومها من أهم حواضر الدولة العثمانية .أما األسباب التي يمكن اعتبارها سياسية محضة
فهي قليلة ،ومنها قمع اآلراء اإلصالحية ،أو "األفكار املتنبهة" بتعبير الكواكبي ( ،)16وغياب
وأخيرا ختم الكواكبي تلخيصه ملداوالت مؤتمر (أم القرى) بإضافة تسعة "أسباب
شتى" –كما وصفها -من عنده .لكن الغالب على هذه األسباب هو ُ
البعد االجتماعي ،لذلك
وضعناها في الجدول الخامس تحت املظلة االجتماعية .وبذلك اكتمل عدد أسباب الفتور
وليس لنا من كبير تعليق على هذه األسباب االجتماعية ،لتداخل جلها مع بعض
أن هذه األسباب تذكرنا بما أشرنا إليه من قبل من رحابة النظرة التي تناول بها الكواكبي
ظاهرة الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية في كتاب (أم القرى) ،وحرصه الشديد على
اإلحاطة بهذه الظاهرة من مختلف جوانبها ،وعبر جميع تجلياتها :السياسية واالقتصادية
والثقافية واالجتماعية.
ٌ
وصف أم مرحلة فكرية؟
ليس واضحا مدى اقتناع الكواكبي باألسباب الكثيرة التي تم تداولها في مؤتمر (أم
القرى) االفتراض ي ،فهل كان الكواكبي يرى أن كل هذه األسباب -التي وصلت إلى ستة وثمانين-
أسباب وجيهة لتفسير الفتور العام في املجتمعات اإلسالمية ،أم إنه سلك في (أم القرى)
مسلك الجرد العام والوصف الحيادي ،وأراد أن يمنح قراء الكتاب صورة عن جميع ألوان
ال يوجد جواب قاطع على هذا السؤال في تراث الكواكبي ،لكن األسباب الثالثين التي
َّ
تقدم بها هو باسمه الرمزي (السيد الفراتي) -في ختام الجلسات -يغلب عليها الطابع
السياس ي ،دون أن يكون طابعها الوحيد ،مما يرجح أن الكواكبي كان له منظوره الخاص
َّ
الكواكبي –التزاما لتفسير الفتور العام ،وهو منظور سياس ي بالدرجة األولى ،لكن
باملوضوعية -أراد أن يقدم للقارئ آراء غيره من املصلحين املسلمين املعاصرين له .وبذلك
ُ
يكون كتاب (أم القرى) سجال عاما ملجمل األفكار السائدة في عصر الكواكبي عن أزمة
18
على أننا ال نرى تناقضا بين التفسيرين ،بل نميل إلى اعتبار (أم القرى) جردا لكل
األفكار الرائجة في املجتمعات اإلسالمية خالل النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،عن
أزمة الحضارة اإلسالمية ،والعلل التي تعاني منها ،في الوقت ذاته الذي نعتبرفيه الكتاب تعبيرا
َّ
يتمحض تركيزه على املعضلة السياسية، عن مرحلة من مراحل تفكير الكواكبي قبل أن
َّ
باعتبارها علة العلل وسبب األسباب .ويزكي هذا املنحى من التحليل أن األسباب التي تبناها
الكواكبي بصفته الشخصية في مؤتمر (أم القرى) لم تقتصر على الشق السياس ي ،على عكس
الحال في كتاب (طبائع االستبداد) ،بل إن العديد من تلك األسباب اجتماعية محضة ،كما
محفلنا هذا 48".فهذا النص مفتاح لفهم التطور الفكري لدى الكواكبي ،من حيث إنه في (أم
القرى) اعتبر أن االستبداد له " ٌ
دخل مهم في توليد الفتور العام" في املجتمعات اإلسالمية،
لكنه لم يجعله علة العلل وسبب األسباب ،على نحو ما فعل الحقا في (طبائع االستبداد) ،كما
سنرى.
تطور الكواكبي الفكري والسياس ي .فعلى عكس مسيرة اإلمام محمد عبده التي دفعته بعيدا
الكواكبي .فقد بدأ الكواكبي في (أم القرى) داعية مربيا ،وانتهى في (طبائع االستبداد) منظرا
سياسيا .وكانت رؤية الكواكبي في (أم القرى) تركيبية ،ترى أزمة الحضارة اإلسالمية أزمة
َّ
مركبة من أسباب كثيرة -أوصلها إلى ستة وثمانين سببا كما رأينا -لكنه انتهى في (طبائع
وألن كتاب (أم القرى) سابق في التأليف على كتاب (طبائع االستبداد) يتضح لنا أن
الكواكبي كان لديه ٌ
وعي مبكر باملعضلة السياسية في األمة اإلسالمية ،لكنه حين كتب (أم
القرى) لم تكن القضية السياسية قد تحولت ُ
بعد إلى القضية املحورية في تفكيره .بل نجد في
(أم القرى) ما يدل على أن الكواكبي لم يرالعمل السياس ي أولوية الوقت آنذاك .ولذلك انتهى
ُ َّ ْ
املؤتمر االفتراض ي بتأسيس جمعية (أم القرى) ،التي لخصت مقدمة نظامها الداخلي
َ
تشخيص األزمة ،فلم تحصرسببها في الشق السياس ي ،بل جاء فيها:
والالفت للنظر أن النظام الداخلي لجمعية (أم القرى) -التي انتهى املؤتمر بتأسيسها-
ُّ
ينص نصا صريحا على أن الجمعية ال تتدخل في الشأن السياس ي .فاملادة الرابعة عشرة من
نظام الجمعية تقول إن "الجمعية ال تتدخل في الشؤون السياسية مطلقا ،فيما عدا
إرشادات وإخطارات بمسائل أصول التعليم وتعميمه 50".وبعدها تؤكد املادة الخامسة عشرة
املعاونة أو املعاضدة من قبل السالطين العظام واألمراء الفخام املستقلين والتابعين بصفة
51
ماة فخريين". ُ
ح ٍ
ُ
وتنص املادة الثالثة واألربعون من نظام الجمعية على أن "ترسل الجمعية بعوثا
جغرافية وعلمية تتجول في البالد اإلسالمية القريبة والبعيدة ،لالطالع على أحوال البالد
ُ
إرشادهم إليه في ذلك ،حسبما وأهلها من حيث الدين واملعارف ،وإلرشادهم إلى ما يلزم
ْ ُّ َّ
ض لألحوال السياسية قطعيا 52".وتقرر املادة الخامسة تقتضيه األخوة الدينية ،بدون تعر ٍ
واألربعون منه أنه "إذا صادفت الجمعية معارضة في بعض أعمالها من حكومة بعض البالد -
وال سيما البالد التي هي تحت استيالء األجانب -فالجمعية َّ
تتذرع أوال بالوسائل الالزمة ملراجعة
ُّ
تلك الحكومة ،وإقناعها بحسن نية الجمعية ،فإذا ُوفقت لرفع التعنت فيها ،وإال فلتلجأ
الجمعية إلى هللا القادر الذي ال ُيعجزه ش يء 53"،دون إشارة إلى أي مقاومة سياسية أو
بل إن الكواكبي دعا في (أم القرى) إلى فتح "أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة
واالستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة 54".وهنا تظهر مفارقة من مفارقات الكواكبي.
فالكواكبي الثائرعلى االستبداد الداخلي يتحدث بجبرية ومداهنة في مواجهة املحتل الخاريي،
فيكتب أن املسلمين العرب "لم ينفروا من األمم التى حلت بالدهم وحكم ْتهم ،فلم يهاجروا
من األوروبيين ،الذين ظن -ببالهة -أنهم سيحققون حلمه بإقامة خالفة عربية في املشرق،
َّ ُّ
تكون بديال عن السلطنة العثمانية التركية ،فهو يقول مثال" :أما الترك فإذا دقق األوربيون
سياستهم ،يجدونهم ال يقصدون باالستناد للدين غير التالعب السياس ي ،وقيادة الناس إلى
سياستهم بسهولة ،وإرهاب أوروبا باسم الخالفة 56".وهو يزين لألوروبيين أنهم "من صوالحهم
الخصوصية ،وصوالح النصرانية ،وصوالح اإلنسانية ،أن يؤيدوا قيام الخالفة العربية
57
بصورة محدودة السطوة ،مربوطة بالشورى على النسق الذي قرأته عليك".
وقد أخذ عباس محمود العقاد على الكواكبي هذه املداهنة لألوربيين ،وهو محق في
أخذها عليه .لكن العقاد وجد للكواكبي عذرا في أن السياق الذي يتحرك فيه يدفعه أحيانا
إلى تنويع وسائل عمله" :فالكواكبي الدبلوماس ي السياس ي هنا ُ
أظهر من الكواكبي الثائر ،و(أم
القرى) هنا أسلوب عمل غير أسلوب (طبائع االستبداد) 58".كما أدرك محمد رشيد رضا
الذي وقع فيه الكواكبي ،فكتب" :كان املرحوم عبد الرحمن الكواكبي -وهو ذلك العالم ُ
الح ُّر
واملفكر ُّ
األبي -يشكو من حالة الدولة السابقة [العثمانية] ،فارتاح اإلنجليز إلى مطالبته
بالخالفة العربية ،هو عن ْ
حسن نية ،وبدون إنعام النظر السياس ي ،وهم عن خبث طوية".
العثمانية لتبقى مظلة جامعة للمسلمين ،ثم يئس من إصالحها في نهاية املطاف.
أما املادة السابعة واألربعون من نظام جمعية (أم القرى) فهي أكثراملواد التباسا ،من
حيث اعتماد الكواكبي منهج الدعوة الوعظية السلمية ،أو منهج املدافعة السياسية الثورية.
َّ
املتعمد ،إذ تنص املادة على وتوحي اللغة امللتوية التي صيغت فيها املادة بش يء من الغموض
أن "مظهر الجمعية العجز واملسكنة .فال تقاو ُم وال تقاب ُل إال بأساليب النصيحة واملوعظة
َ ُ
وتالطف وتج ُ
امل جهدها من يعادي مقاصدها ،وال تلجأ إلى اإللجاء إال في الحسنة،
ْ ٌ
الضروريات 60".فهل "مظهرالجمعية" الذي يتحدث عنه الكواكبي مختلف عن َمخبرها ،وهل
كان لجوؤها إلى "العجزواملسكنة" خيارا استراتيجيا ،أم مناورة تكتيكية ،أم خطة مرحلية؟ ال
يقدم الكواكبي في (أم القرى) جوابا شافيا عن هذا السؤال .ولذلك يتعين االنتقال إلى كتاب
59محمد رشيد رضا" ،الخالفة اإلسالمية والجامعة العثمانية "،مجلة املنار ،املجلد ،13ص .933
60الكواكبي ،أم القرى.210 ،
23
من َ
الع َرض إلى املرض
بعد الجولة الطويلة التي خاضها الكواكبي في (أم القرى) باحثا عن االحتماالت
لتفسيرحالة الفتور العام في الحضارة اإلسالمية ،انتقل من منهج استقرائي إلى منهج تحليلي.
همه اآلن استقراء األعراض ،بل ْ
وضع اليد على الداء مباشرة ،وبيان سبب األسباب فلم يعد ُّ
املؤدي إلى الفتور العام في الحالة اإلسالمية .فكتب في صدركتابه (طبائع االستبداد):
تمحص عندي أن أصل الداء هو االستبداد السياس ي ،ودواؤه دفعه "وحيث إني قد َّ
بالشورى الدستورية .وقد استقر فكري على ذلك -كما أن لكل نبأ مستقرا -بعد بحث
ثالثين عاما ،بحثا أظنه يكاد يشمل كل ما يخطر على البال من سبب َي َّ
توهم فيه
الباحث -عند النظرة األولى -أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله ،ولكن ال يلبث أن
يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بش يء ،أو أن ذلك فرع ال أصل ،أو هو نتيجة ال
61
وسيلة".
فهنا تتلخص أسباب الفتور العام في سبب واحد ،وتتكثف العلل في علة واحدة ،هي
االستبداد السياس ي .وهذه الخالصة -التي توصل إليها الكواكبي -جاءت متساوقة مع رؤيته
ملحورية املسألة السياسية في حياة املجتمعات البشرية عموما ،واقتناعه بتأثير املسألة
السياسية على ما سواها من ظواهر اجتماعية ،فقد ذهب الكواكبي إلى أن "تقرير شكل
62
الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر ،وهو املعترك األكبرألفكارالباحثين".
وقد َّ
عرف الكواكبي االستبداد عدة تعريفات منها أنه "التصرف في الشؤون املشتركة
بمقتض ى الهوى 63"،أو أنه "تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم باملشيئة وبال خوف تبعة "،أو
أنه "صفة للحكومة املطلقة العنان فعال أو حكما ،التي تتصرف في شؤون الرعية كما تشاء بال
ويحكمهم بهواه ال بشريعتهم 65".وأحيانا ينحو الكواكبي في تعريف االستبداد منحى قانونيا،
فيجعله مرادفا لغياب العالقة الدستورية التعاقدية .فالحكومة املستبدة –من هذا املنظور-
معينة معلومة َم ُ
صونة بقانون نافذ هي "الحكومة التي ال يوجد بينها وبين األمة رابطة َّ
ومنه األسوأ" :وأشد مراتب االستبداد التي يتعوذ بها من الشيطان هي حكومة الفرد املطلق،
67
الوارث للعرش ،القائد للجيش ،الحائزعلى سلطة دينية".
وعلى خالف الحال في (أم القرى) ،حيث مال الكواكبي إلى املحاذرة والسلمية ،ودعا
َ
حملة الفكرة اإلصالحية إلى التظاهر ب ــ"العجز واملسكنة "،فإنه في (طبائع االستبداد) يتحدث
بنبرة الثوري الواثق من نفسه ومن أمته ،ويدعو إلى مواجهة االستبداد بالقوة واإلكراه ،إن لم
تنفع في تغييره وسائل الحوارواإلقناع .فقد َّ
توصل الكواكبي –بعد طول تأمل -إلى أن "املستبد
حديد ،فلو رأى الظالم على جنب املظلوم سيفا ملا أقدم على
ٍ يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من
69 َْ 68
ي -بأنه "ال يصان الشرف إال بالدم".
الظلم "،واقتنع –بعد ٍ
أل
فهنا نلمس انتقاال في فكر الكواكبي ،من مزاج املصلح املراهن على الكلمة واملوعظة،
إلى املناضل الواقعي املؤمن باملدافعة السياسية .فقد اقتنع الكواكبي أنه "ما من حكومة
ُ
عادلة تأمن املسؤولية واملؤاخذة ،بسبب غفلة األمة أو التمكن من إغفالها ،إال وتسارع إلى
َّ
التلبس بصفة االستبداد ،وبعد أن تتمكن فيه ال تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين
ويمكن القول إن الكواكبي كان في (أم القرى) مصلحا متأمال ،يبحث عن الحلول
تأثر الكواكبي تأثرا عميقا بمقدمة ابن خلدون ،واستوعبها استيعابا كامال ،حتى إن
َ
قارئه ليجد نفسا خلدونيا في العديد من أفكاره وعباراته .فال غرو أن ُوجدت قرابة عقلية بين
الفتور العام في األمة .فإذا كان االستبداد في تعريف الكواكبي هو "التصرف في الشؤون
ُْ
املشتركة بمقتض ى الهوى"72كما أسلفنا ،فإنه يذكر بثالثية ابن خلدون عن امللك الطبيعي
ْ ُْ
وامللك السياس ي والخالفة الشرعية ،حيث ذهب ابن خلدون إلى أن "امللك الطبيعي هو حمل
العقلي في جلب املصالح الدنيوية ودفع املضار ،والخالفة هي حمل الكافة على مقتض ى النظر
الشرعي في مصالحهم األخروية والدنيوية الراجعة إليها 73".وما ذكره ابن خلدون عن "مقتض ى
الغرض والشهوة" هو ذاته ما قصده الكواكبي في حديثه عن "مقتض ى الهوى ".وما دعاه
الكواكبي –بلغتنا املعاصرة -استبدادا هو ذاته ما دعاه ابن خلدون –بلغة عصره -ملكا
طبيعيا.
شب ٌه كبير بين حديث الكواكبي -الذي أوردناه سالفا -عن " ْترك األعمال بسبب
ويوجد َ
ضعف اآلمال" بما سنورده الحقا من حديث البن خلدون عن أن "العدوان على الناس في
أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها ".بل إن فكرة "الفتور العام" الكواكبية ،أشبه
ما تكون بفكرة "انقباض الرعايا" الخلدونية .فقد جعل ابن خلدون عنوان أحد فصول
ْ
مقدمته "في أن الظلم ُمؤذ ٌن بخراب العمران" 74ثم شرح األمر شرحا سببيا ،فالحظ اآلثار
النفسية للسلوك السياس يَ ،
وربط دوافع الناس إلى الكسب والبناء بتحقيق العدل ،كما ربط
"إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها ،ملا يرونه
ُ
انتهابها من أيديهم ،وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها حينئذ من أن غايتها ومصيرها
ْ
وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك .وعلى قدر االعتداء ونسبته يكون
انقباض الرعايا عن السعي في االكتساب .فإذا كان االعتداء كثيرا عاما في جميع
أبواب املعاش كان القعود عن الكسب كذلك ،لذهابه باآلمال جملة بدخوله من
جميع أبوابها ،وإن كان االعتداء يسيرا كان االنقباض عن الكسب على نسبته.
ُ َ
ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو باألعمال وسعي الناس في املصالح واملكاسب والعمران
ذاهبين وجائين .فإذا قعد الناس عن املعاش وانقبضت أيديهم عن املكاسب ،كسدت
73عبد الرحمن ابن خلدون ،املقدمة ،ضمن كتاب العبر وديوان املبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر
ومن عاصرهم من ذوي السلطان األكبر .بيروت :دار الفكر.239/1 ،)1988 ،
74ابن خلدون ،املقدمة.353/1 ،
27
َْ
وابذ َع َّر الناس في اآلفاق من غير تلك اإليالة ،في أسواق العمران ،وانتقضت األحوال،
القطر ،وخلت ُْ ُ َّ
دياره ،وخربت طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها ،فخف ساكن
فسدأمصاره ،واختل باختالله حال الدولة والسلطان ،ملا أنها صورة للعمران َت ُ
75
بفساد مادتها ضرورة".
شب ٌه آخر بين الكواكبي وابن خلدون في بيان اآلثار النفسية لالستبداد ،حيث
ويوجد َ
يرى كالهما أن االستبداد ُيفسد أخالق الرعية ،ويدفعها إلى الخوف واملذلة ،وذلك وجه آخر
من أوجه الفتور ،حيث يفقد اإلنسان القوة الدافعة ،والبواعث املحركة إلى الفعل املبدع.
فقد الحظ الكواكبي أن الناس في ظل االستبداد "هم األسرى الذين يقدمون قرابين
الخوف 76"،كما َّ
ألح على أن البداية الصحيحة لإلصالح هي "نهاية الخوف من الحكومة ونهاية
77
االتكال على الغير".
إن السلطة املستبدة تؤدي -في نظر الكواكبي -إلى قطيعة أخالقية بين الدولة
والشعب ،فيضعف كيان الدولة ،وتتحول لقمة سائغة ألول عدو طارق ،بخالف السلطة
َ
الشرعية التي تتماهى مع شعبها ،ويتماهى معها شعبها ،مما ُيكسب الدولة مناعة وصالبة،
بفضل وحدة اإلرادة الجمعية .وهذا ما شرحه الكواكبي بقوله" :إن أعاظم امللوك املوفقين
والقواد الفاتحين ...لم يفوزوا في تلك العظائم إال بالعزائم الصادقة ،مع ُمصادقة تطابقهم
مع رعاياهم وجيوشهم في األخالق واملشارب تطابقا تاما ،بحيث كانوا رؤوسا حقا لتلك
الكواكبي إلى ما يؤدي إليه الظلم السياس ي من "الخوف والذل "،وما ُيثمره الرفق بالرعية من
لكن تبقى للكواكبي ميزة ليست البن خلدون ،ربما الختالف سياق الزمان .فابن
خلدون ال يرى االستبداد السياس ي في ذاته ظلما ،فهو يحذر من الظلم في أداء السلطة ،لكنه ال
يهتم بالظلم كثيرا في بناء السلطة .بل إن نظريته السياسية تميل إلى الجبرية ،وتتسم بتشاؤم
َ
ووصفها وصفا عميق .وال غرو في ذلك ،فابن خلدون شهد انحطاط الحضارة اإلسالمية،
معبرا ،حتى ُلي ْمكن القول إن مقدمة ابن خلدون تكاد تكون قصيدة رثاء طويلة في الحضارة
وربما يمكن القول إن كال من ابن خلدون والكواكبي يمثل إشراقة فكرية عظيمة في
اقة ابن خلدون ُُ
ضوء تاريخ الحضارة اإلسالمية ،لكن اإلشراقتين من نوع مختلف تماما ،فإشر
ُ ْ
شفق في بداية ليل طويل بدأ يط ُمر الحضارة اإلسالمية اآلفلة بظالمه الحالك ،وإشراقة
ٍ
وكان الكواكبي على إدراك بنقاط الضعف في فكر ابن خلدون ،فانتقد "تخليط ابن
خلدون" 80في بعض قضايا الفكر السياس ي ،خصوصا نزوعه الجبري واملنفعي في انتقاده آلل
البيت النبوي فيما خاضوه من معارك سياسية في صدر اإلسالم ،بينما ذهب الكواكبي أن ما
فعله ثوار آل البيت في صدر اإلسالم منسجم مع منطق "األحرار النجباء" الذين يرون املوت
الكريم َّ
مقدما على الحياة الذليلة" :وعلى هذه القاعدة يكون أئمة آل البيت -عليهم السالم-
ْ
جعلتهم َّ
فحميتهم معذورين في إلقاء أنفسهم في تلك املهالك؛ ألنهم ملا كانوا نجباء أحرارا،
َّ
ذل ،مثل حياة ابن خلدون الذي خطأ أمجاد البشر في يفضلون املوت كراما على حياة ٍ
81
إقدامهم على الخطرإذا ُهدد مجدهم".
كما امتاز الكواكبي عن ابن خلدون –وعن آخرين كثر -بروحه العملية .وقد أحسن
ليع َمل وينفذ ،أو ُ
ليد َّل العقاد إدراك ذلك فالحظ أن "من طبيعة تفكير الكواكبي أنه ْيدرس ْ
82
وهذه الروح العملية التي ترجمها الكواكبي إلى نظرية ثورية على مسائل العمل والتنفيذ".
في التغييرهي ما نتجه إلى بيانه فيما َ
بقي من هذه الدراسة.
أن الظلم السياس ي املتراكم قد ال يقود الناس إلى الثورة ،إال مع شرارة توقظ البركان الخامد،
وتفجر الطاقة االجتماعية في وجه املستبد .وفي ذلك يقول" :العوام ال يثور غضبهم على
"( )1عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه املستبد على املظلوم يريد االنتقام لناموسه،
( )2عقب حرب يخرج منها املستبد مغلوبا ،وال يتمكن من إلصاق عار التغلب بخيانة
القواد )3( ،عقب تظاهر املستبد بإهانة الدين إهانة مصحوبة باستهزاء يستلزم
حدةالعوام )4( ،عقب تضييق شديد عام مقاضاة ملال كثير ال يتيسر إعطاؤه حتى
على أواسط الناس )5( ،في حالة مجاعة أو مصيبة عامة ال يرى الناس فيها مواساة
ظاهرة من املستبد )6( ،عقب عمل للمستبد يستفز الغضب الفوري كتعرضه
لناموس الع ْرض أو حرمة الجنائز في الشرق وتحقيره القانون أو الشرف املوروث في
قسم كبير من النساء في االستجارةالغرب )7( ،عقب حادث تضييق يوجب تظاهر ْ
واالستنصار )8( ،عقب ظهور مواالة شديدة من املستبد ملن تعتبره األمة عدوا
84
لشرفها".
ويدل سرد هذه األسباب املباشرة التي تمثل شرارة الثورة على إملام الكواكبي الواسع
بتاريخ الثورات السياسية ،ونفاذ بصيرته في استخالص بعض القوانين الحاكمة لظاهرة
الثورة .على أن الكواكبي لم يحصر شرارة الثورة في هذه األسباب الثمانية ،بل أضاف إليها
"غير ذلك من األمور املماثلة لهذه األحوال التي عندها يموج الناس في الشوارع والساحات،
ُ
أصواتهم الفضاء ،وترتفع فتبلغ عنان السماء ،ينادون :الحق الحق ،االنتصار للحق، وتمأل
85
املوت أو بلوغ الحق!"
َ
كما الحظ الكواكبي أن أغلب املستبدين ال يدعون األمور تصل لهذا الحد ،إال إن كان
في األمر توريط لهم من بطانة غير ناصحة ،ف ــ"املستبد مهما كان غبيا ال تخفى عليه تلك
وجد منهم بعض يريدون له التهلكة يهورونه على الوقوع في إحداها ،ويلصقونها به خالفا
86
لعادتهم في إبعادها عنه بالتمويه على الناس".
للثورات ،منها ما يتعلق بنضج الثقافة الثورية وإنضاجها في املجتمع ،ومنها ما يتناول العامل
الخاريي وأثره على مسار الثورات .وهي أصول جديرة أن يتأملها املسلمون اليوم ،وهم
"يجب قبل مقاومة االستبداد ،تهيئة ماذا يستبدل به االستبداد ...إن معرفة الغاية
شرط طبيعي لإلقدام على كل عمل ،كما أن معرفة الغاية ال تفيد شيئا إذا ُجهل
الطريق املوصل إليها .واملعرفة اإلجمالية في هذا الباب ال تكفي مطلقا ،بل ال بد من
تعيين املطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل ،أو األكثرية التي هي فوق
الثالثة أرباع عددا ،أو قوة بأس ،وإال فال يتم األمر .حيث إذا كانت الغاية مبهمة نوعا،
يكون اإلقدام ناقصا نوعا .وإذا كانت مجهولة بالكلية عند قسم من الناس أو مخالفة
لرأيهم ،فهؤالء ينضمون إلى املستبد ،فتكون فتنة شعواء .وإذا كانوا يبلغون مقدار
الثلث فقط ،تكون حينئذ الغلبة في جانب املستبد .ثم إذا كانت الغاية مبهمة ولم يكن
السير في سبيل معروف ،ويوشك أن يقع الخالف في أثناء الطريق ،فيفسد العمل
أيضا وينقلب إلى انتقام وفتن .ولذلك يجب تعيين الغاية بصراحة ،وإخالص وإشهارها
بين الكافة ،والسعي في إقناعهم ،واستحصال رضائهم بها ما أمكن ذلك ،بل ْ
األولى
87
حمل العوام على النداء بها وطلبها من عند أنفسهم".ْ
ففي هذا النص الثمين ُيجمل الكواكبي أصول العمل الثوري الناجح في أمور ثالثة.
أولها :وضوح الغاية من الثورة في أذهان الثوار ،وتهيئة البديل السياس ي عن املستبد قبل
العربية واإلسالمية اليوم التوافق على ضرورة الحكم الديمقراطي ذي املرجعية اإلسالمية
الذي يضمن الحرية والعدل للجميع ،ويحقق لألمة املصالحة مع ذاتها .فالخالف حول الغاية
من الثورة ،أو حول شكل البديل السياس ي ،يضع الثورة على أعتاب الحرب األهلية العدمية
أما األصل الثاني الذي يدعو إليه الكواكبي فهو التوافق بين الطالئع املفجرة للثورة
على خطة واستراتيجية واضحة للفعل الثوري ،وهذا ما قصده بــ"تعيين املطلب والخطة
تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل أو األكثرية ".فالخالف في الخطط وتضارب االسترتيجيات
َمهلكة للثورات ،وهو ٌ
أمرال يغني عنه االتفاق على الشعارات واملبادئ العامة.
وأما األصل الثالث فهو نشر الوعي بين جماهير الشعب بفضائل الثورة ومساوئ
االستبداد .فال يكفي توافق النخب السياسية على ضرورة الثورة واعتبارها واجبا أخالقيا،
وهنا يبدو الكواكبي واعيا بما دعاه آخرون ضرورة "الكتلة الحرجة" لنجاح الثورة.
فعلى عكس منظرين آخرين تعاملوا مع الجماهير باستعالء وازدراء ،وراهنوا على النخب
َّ
وتوصل إلى أن الجماهير هي وقود والطالئع ،فإن الكواكبي رأى في عامة الشعب طاقة جبارة،
الثورات ،وهي حصن املستبد في الوقت ذاته ،فالذي يكسبها إلى صفه هو الذي يكسب
ُ َ
قبل قوله في (أم املعركة في نهاية املطاف .وقد تردد رأيه هذا في الكتابين .فقد أوردنا من
ٌ
شبيه لهذا القول في القرى)" :والعامة َمن إذا علموا قالوا ،وإذا قالوا فعلوا 88".وقد تكرر
ويرتب الكواكبي -في نص آخر من كتابه -هذه األصول الثالثة ترتيبا تصاعديا ،يبدأ
ببناء الوعي العام من خالل "تنبيه حس األمة بآالم االستبداد "،ويمر بالبناء النظري للنظام
السياس ي البديل عبر "البحث في القواعد األساسية للسياسة املناسبة ".وحينما تثمر هاتان
َ
"ظهور التلهف الحقيقي على نوال الحرية في الطبقات العليا ،والتمني في الطبقات املرحلتان
السفلى "،فتلك عالمة نضج الظروف ،والدليل على أن املجتمع أصبح في حالة ثورية .وحينها
يصبح الوقت مالئما لخوض املرحلة الثالثة ،وهي "املقاومة واملغالبة" ،أي مرحلة الفعل
مسألة التحضير الفكري واألخالقي والنفس ي للثورة ،وبناء القاعدة النظرية الصلبة لها .فهذا
الوضوح النظري قد يستغرق زمنا طويال ،ومشاركة عريضة من نخب األمة وجماهيرها ،وال
ْ
"واألولى أن يبقى ذلك تكفي فيه "فكرة ساعات أو فطنة آحاد "،بل هو يحتاج إنضاجا هادئا
ْ
تحت َمخض العقول سنين ،بل عشرات السنين حتى ينضج تماما "،حسب تعبيرالكواكبي.
"واملراد أن من الضروري تقرير شكل الحكومة التي يراد ويمكن أن يستبدل بها
االستبداد ،وليس هذا باألمر الهين الذي تكفيه فكرة ساعات ،أو فطنة آحاد ،وليس
هو بأسهل من ترتيب املقاومة واملغالبة .وهذا االستعداد الفكري النظري ال يجوز أن
يكون مقصورا على الخواص ،بل ال بد من تعميمه وعلى حساب اإلمكان ليكون بعيدا
عن الغايات ومعضودا بقبول الرأي العام .وخالصة البحث أنه يلزم أوال تنبيه حس
وفي نص آخر ثمين من نصوصه ذات الصلة بالفعل الثوري ،يحذرالكواكبي الثوار من
إيقاظ املستبد على خطرهم عليه قبل أن تنضج ظروف الثورة ،فالثورة السابقة ألوانها ذات
بالتحذر الشديد ،والتنكيل باملجاهدين ،فيكثر الضجيج ،فيزيغ املستبد ويتكالب 91".وربما
يفسرهذا النص نبرة الحذرالشديد التي الحظناها من ُ
قبل في كتاب في (أم القرى).
املهم التذكير بما نبه إليه الكواكبي قبل قرن من الزمان ،من مخاطر وجود "طامع أجنبي"
َّ
يغتنم فرصة الفوض ى املصاحبة لكل الثورات ،ويتخذها ذريعة الحتالل البالد واستعباد
ْ
وضعف حصانتها الداخلية، أهلها .فإذا بدأت الثورة في ظروف ال َ
طمع األجنبي في األمة،
وهشاشة دفاعاتها الذاتية ،فيمكن أن تتحول الثورة ذاتها ثغرة تقتحم منها قوى خارجية
معادية ساحة األمة" ،فتستولي على البالدُ ،وتجدد ْ
األسر على العباد بقليل من التعب،
فتدخل األمة في دور آخر من الرق املنحوس" 92كما يقول الكواكبي .وسنورد كامل حديثه في
هذا املضمار الحقا .ولعل الكواكبي كان يستحضر هنا الثورة ُ
العرابية بمصر عام 1881
األمة ،وعدم وجود طامع أجنبي يغتال الثورة ويقتحم قلب األمة وهي في حالة شقاق واقتتال.
فإذا تحقق هذا الشرطان معا ،أصبح املستبد ُمرغما على اإلذعان :إما بالخضوع ملنطق
اإلصالح الوقائي -وهو األخصر طريقا واألرخص ثمنا -وإما بمواجهة الزوال على أيدي شعب
صر على أن يحيا "حياة كاملة حقيقية "،حسب تعبيره .يقول ُ
افض لحياة العبودية ،م ٍ
أبي ر ٍ
ٍ
الكواكبي واصفا الفرق بين الثورة املحكومة بقوانينها الذاتية ،والثورة التي يستغلها طامع
وإذا كان الطامع األجنبي في عصرالكواكبي يمكن أن يعيق مسيرة الثورات ،فيرفع ثمنها
ويؤجل انتصارها ،فإن التداخل الدولي املعاصرزاد من هذا اإلمكان ،وجعل خروج أي أمة من
نير العبودية السياسية عسيرا من غير ُّ
تفهم من األمم األخرى ،خصوصا األمم ذات النفوذ
الدولي والتاريخ االستعماري .واملؤسف أن نظرية الكواكبي حول خطرالقوى الدولية الطامعة
على الثورات الشعبية قد تحققت بالكامل في بلده سوريا ،وفي مدينته حلب .وكأنما كان
الكواكبي يتنبأ بمآالت الثورة السورية بعد مائة وعشرة أعوام من وفاته!
وخصوصا موهبته التنظيمية التي امتاز بها عن معاصريه املصلحين املسلمين الذي غلب
التجريد على فكرهم .وهذا البعد التنظيمي من فكر الكواكبي يكاد يكون غائبا تماما في
الدراسات املتداولة عن الكواكبي اليوم ،رغم أن جهود الكواكبي في هذا املضمار قد تكون –
َّ
بمنطق تاريخ األفكار -هي البذرة التي أثمرت مختلف الحركات اإلسالمية ذات الطبيعة املنظمة
التنظيمي أكثر من غيره ،وإن كانت تنقصه رؤية الكواكبي التحليلية ،وموقفه الصارم من
االستبداد .ومن القالئل الذين انتبهوا إلى تلك الصلة بين الكواكبي والبنا إسحاق وايزمان
فأشار إليها إشارة عابرة إلى أن (جماعة اإلخوان املسلمين) التي أسسها حسن البنا "تجسد
رؤية الكواكبي" التنظيمية التي صاغها في شكل (جمعية أم القرى) 94،تلك الجمعية التي
ويبدو لنا أن القرابة العملية بين الرجلين عميقة جدا ،ومن أدلتها الشبه الكبير في
االصطالحات ،وفي األنماط التنظيمية ،وفي الخطط العملية .فمن حيث التحليل اللغوي،
تواترت صفة "اإلخوان" في كتاب (أم القرى) ،فقد ورد لفظ اإلخوان في الكتاب وصفا
للمؤتمرين املشاركين في مؤتمر (أم القرى) ثماني وعشرين مرة .منها خمس عشرة مرة ورد بها
اللفظ مجردا من أي وصف95،وثماني مرات بصيغة "اإلخوان الكرام 96"،وثالث مرات بصيغة
94
Weismann, Abd Al-Rahman Al-Kawakibi, 123.
95الكواكبي ،أم القرى.245 ،215 ،214 ،210 ،189 ،187 ،157 ،135 ،113 ،99 ،47 ،23 ،8 ،7 ،
37
"السادة اإلخوان97"،ومرتين بصيغة "اإلخوان األفاضل98"،ومرتين مسبوقة بصيغة النداء:
100
"أيها اإلخوان" و"يا أيها اإلخوان 99"،ومرة واحدة بصيغة "اإلخوان الوافدين".
كما وصف الكواكبي ُ
نفسه أعضاء جمعية (أم القرى) يوم تأسيسها بأنهم "أهل
اإليمان من اإلخوان" فكتب" :يوم االثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة :1316في
ُ
الضحى األول من اليوم املذكور تألفت الجمعية حسب معتادها ،وقرئ الضبط السابق،
واستعدت األذهان لتلقي ما يفيضه هللا على ألسنة أهل اإليمان من اإلخوان 101".وكل هذا
ومن حيث الخطط العميلة والصيغ التنظيمية جاء القرار ذو الصلة ببلد املقر الدائم
لجمعية(أم القرى) ،وبطبيعتها السرية ،معضدا للربط بين فكرة الكواكبي ومشروع حسن
البنا ،حيث َّ
"تقرر أن يكون تأسيس الجمعية الدائمة ابتداء في بور سعيد أو الكويت بصورة
غير علنية في األول 102".ثم استقر األمر على اتخاذ مصر مقرا للجمعية ،مع بقاء رسالتها ذات
طبيعة عاملية ،كما ورد على لسان رئيس املؤتمر" :وإن جمعيتنا هذه إذا اختارت أن تجعل
مركزها املوقت في مصردار العلم والحرية 103".وبالطبع اتخذ حسن البنا مصر مقرا لـ(جماعة
ومما يؤيد اقتباس حسن البنا مشروعه التنظيمي من فكرة الكواكبي التنظيمية
الشبه بين جمعية (أم القرى) كما َّ
تخيلها الكواكبي و(جماعة اإلخوان املسلمين) كما بناها
96الكواكبي ،أم القرى.211 ،162 ،157 ،156 ،133 ،122 ،103 ،69 ،
97الكواكبي ،أم القرى.178 ،127 ،75 ،
98الكواكبي ،أم القرى.135 ،108 ،
99الكواكبي ،أم القرى.16 ،13 ،
100الكواكبي ،أم القرى.5 ،
101الكواكبي ،أم القرى.127 ،
102الكواكبي ،أم القرى.211 ،
103الكواكبي ،أم القرى.212 ،
38
حسن البنا ،من الهدوء والسكينة في بادئ األمر ،والسعي إلى كسب قلوب الحكام ال
مواجهتهم .وهو مسلك لم يكن واضحا في الحالتين :هل هو خيار استراتيجي ،أم مناورة
تكتيكية ،أم خطة مرحلية .لكن الذي يترجح –في الحالتين أيضا -أنه كان أقرب إلى الخطة
املرحلية .فلم تمنع الكواكبي دعوته إلى أن يكون "مظهر الجمعية العجز واملسكنة" من أن
يقبل فكرة "اإللجاء" في أوقات الضرورات ،ولم يمنع البنا ُّ
تودده إلى حكام املسلمين والسعي
إلى كسب قلوبهم -عبر املراسالت -من إعداد ُ
العدة لساعة الحسم واملواجهة مع االستعمار
واالستبداد.
ويبقى أن نقول إن حسن البنا ،وإن استلهم من الكواكبي اسم "اإلخوان "،وهيكلهم
التنظيمي ،ورسالتهم اإلصالحية في املجال التربوي واالجتماعي ،فإنه لم يستلهم منه –بكل
أسف -موقفه الصلب من االستبداد السياس ي ،وما اتسم به تنظيره السياس ي من وضوح
نظري وأخالقي في موضوع الحريات السياسية .ولو كان البنا استلهم هذا الشق من فكر
الكواكبيَّ ،
وقدره حق قدره ،لربما كان تاريخ الحركات اإلسالمية قد سارمسارا آخر.
بمصطلح "الفتور العام "،وقد سلك الكواكبي في (أم القرى) مسلكا استقرائيا ،أحاط فيه
بكل األسباب املحتملة لحالة الفتور العام في األمة اإلسالمية ،ثم َّ
تبنى في (طبائع االستبداد)
منهجا تحليليا ،أوصله إلى أن كل تلك األسباب ترجع إلى سبب واحد هو االستبداد السياس ي،
القرى) ،وخططا عملية لإلصالح السياس ي من خالل كتابه (طبائع االستبداد) ،وخصوصا في
39
القسم األخير من الكتاب الذي تناول مسألة"السعي إلى رفع االستبداد ".وقد وجدت الدراسة
َ
قرابة عقلية بين الكواكبي وعبد الرحمن بن خلدون ،الذي درس الكواكبي مقدمته بدأب،
ْ واستوعب مراميها ُ
بعمق .كما وجدت قرابة عملية بين الكواكبي وحسن البنا ،الذي أخذ عن
الكواكبي شيئا من َّ
حاسته العملية ،ومنظوره التنظيمي ،وخططه املرحلية ،ونقلها من عالم
ُّ
التخيل الذي صاغها فيه الكواكبي إلى خضم الحياة املتحركة الدافقة.
َّ َّ
األهم من فكر الكواكبي ،وهو لكن الدراسة انتهت إلى أن حسن البنا لم يستلهم الشق
تحليله ملخاطر االستبداد ،وموقفه الفكري األخالقي الصارم من هذه الظاهرة املقيتة .فما
ُ َ
عاته ،وكل َ
حملة الهم والقلم في األمة ،أن يعيدوا قراءة الكواكبي اليوم، أج َدر دعاة اإلسالم وو
ْ
َ
فكم ترك لنا هذا العبقري من حكمة سياسية ال ت ْبلى على مرالزمان.
ْ
40
الئحة املراجع
ابن خلدون ،عبد الرحمن .كتاب العبر وديوان املبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن
عاصرهم من ذوي السلطان األكبر .بيروت :دار الفكر.1988 ،
أبو حمدان ،سمير .عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة االستبداد .بيروت :الشركة العاملية للكتاب،
.1992
برج ،محمد عبد الرحمن .عبد الرحمن الكواكبي .القاهرة :الهيئة املصرية العامة للكتاب.1972 ،
بن قينة ،عمر .الرؤية الفكرية في الحاكم والرعية لدى ابن املقفع والعنابي والكواكبيَّ .
عمان:
دار أسامة.2000 ،
حمود ،ماجدة .عبد الرحمن الكواكبي فارس النهضة واألدب .دمشق :اتحاد الكتاب العرب،
.2001
دايةْ ،
جان .اإلمام الكواكبي فصل الدين عن الدولة .لندن :دار سوراقيا.1988 ،
رضا ،محمد رشيد" .الخالفة اإلسالمية والجامعة العثمانية "،مجلة املنار ،املجلد .13
العقاد ،عباس محمود .عبد الرحمن الكواكبي .القاهرة :مؤسسة هنداوي.2012 ،
عمارة ،محمد .عبد الرحمن الكواكبي ..األعمال الكاملة .القاهرة :دار الشروق.2007 ،
طحان ،محمد جمال .األعمال الكاملة للكواكبي ..دراسة وتحقيق .بيروت :مركز دراسات
الوحدة العربية .2007
41
كتورة ،جورج .طبائع الكواكبي في طبائع االستبداد ..دراسة تحليلية .بيروت :املؤسسة
الجامعية.1987 ،
الكواكبي ،عبد الرحمن .طبائع االستبداد ومصارع االستعباد .حلب :املطبعة العصرية ،بال تاريخ .
السعيد ،حسن .عبد الرحمن الكواكبي ..جدلية االستبداد والدين .إيران :دون ذكر الناشر،
.2000
الشهرستاني ،محمد بن عبد الكريم .امللل والنحل .القاهرة :مؤسسة الحلبي ،بال تاريخ.
َّ
الص ِّقلي ،ابن القطاع .كتاب األفعال .بيروت :عالم الكتب.1983 ،
ِّ
ْ
مجمع اللغة العربية ،املعجم الوسيط .القاهرة :دار الشروق الدولية2014 ،
Weismann, Itzchak. Abd Al-Rahman Al-Kawakibi: Islamic Reform and Arab Revival.
London: Oneworld Publications, 2015.
42