Professional Documents
Culture Documents
تفريغ شرح كتاب الإيمان لابن أبي شيبة البدر
تفريغ شرح كتاب الإيمان لابن أبي شيبة البدر
لفضيلة الشيخ
عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظه اهلل تعاىل
الدرس األول
إن الحمد هلل ،نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ،ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ،من
يهده اهلل فال مضل له ،ومن يضلل فال هادي له ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك ،وأشهد أن محمد ًا
عبده ورسوله -صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فإننا أيها اإلخوة الكرام بين يدي قراءة كتاب قيم ومؤلف عظيم نافع يف أشرف مقصد وأجل مطلب؛ أال
وهو اإليمان الذي خَلقنا اهلل -سبحانه وتعالى -ألجله وأوجدنا لتحقيقه .واإليمان هو أجل األهداف
وأعظم الغايات وأنبلها على اإلطالق ،وهو سبب كل خير وفضيلة يف الدنيا واآلخرة.
وثمرات اإليمان ال حصر لها وال عد ،بل إن كل خير يناله العبد يف دنياه وأخراه وكل شر يصرف عنه هو
ثمرة من ثمار اإليمان ونتيجة من نتائجه .وباإليمان يفوز العبد برضا اهلل -سبحانه وتعالى -وينال جنته
وينجو من سخطه وعقابه ،ويفوز بأعظم كرامة وأجل منة ،أال وهي رؤية اهلل -سبحانه وتعالى -يوم القيامة
ُم ك ََماِت ََر ْو َنِال َق َم َرِ َل ْي َلةَِال َبدْ ر ََِلِ
كما قال -عليه الصالة والسالم – مخاط ًبا أهل اإليمان« :إِ َّنك ُْمِ َست ََر ْو َن َِر َّبك ِْ
يِرؤْ َيتهِ»(.)1
ونِف ُ
ت َُض ُام َ
وقد قال – عليه الصالة والسالم – يف دعائه العظيم الذي يرويه عمار بن ياسر ،وهو دعاء طويل قال يف
كِ، كِ َل َّذةَِالنَّ َظرِإ َل َ
ىِو ْجه َ ين» ،وقبلها قال« :و َأ ْس َأ ُل َ ًِم ْهتَد َِ
َاِهدَ اة ُ اج َع ْلن ُ
يمانَ ِ ،و ْ آخره« :ال َّل ُه َّمِ ز َِّينَّاِبزينَة ْ
ِاْل َ
ين»(.)2 اج َع ْلن ُ
َاِهدَ اة ًُِم ْهتَد َِ ِ،و ْ
يمان َ ِ،و ََلِف ْتن ٍَة ُِمض َّل ٍةِ،ال َّل ُه َّمِز َِّينَّاِبزينَة ْ
ِاْل َ
ٍ
ِض َّرا َء ُِمض َّرة َ الش ْو َقِإ َلىِل َقائ َ
كِفيِ َغ ْير َ َو َّ
ولهذا أقول أيها اإلخوة الكرام :إهنا لنعمة عظيمة أن يوفق المسلم وطالب العلم لدراسة اإليمان والعناية
به ومذاكرته ،فليحمد اهلل -عز وجل -على توفيقه ومنِّه ،وليسأله -سبحانه وتعالى -أن يوفقه لإلخالص
المقرب إلى اهلل -سبحانه وتعالى -ونيل ثوابه
ِّ وللعلم النافع الذي يسوق صاحبه إلى العمل الصالح
وأجره العظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( ،)554مسلم ( ،)633والرتمذي ( )2554واللفظ له ،وأبو داود ( ،)4729وابن ماجه (.)177
( )2رواه النسائي ( ،)1305وصححه األلباين.
3 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
3
وموضوع اإليمان كتب فيه أهل العلم – رحمهم اهلل تعالى -كتابات نافعة ومؤلفات قيمة يف قديم الزمان
وحديثه .وكتاب «اإليمان» للحافظ ابن أبي شيبة – رحمه اهلل تعالى – الذي نحن بصدد مدارسته ومذاكرته
هو معدود يف أوائل الكتب المؤلفة يف هذا الموضوع العظيم ،يف جملة كتب ألفها أئمة السلف – رحمهم
اهلل تعالى – يف هذا الباب كـ«اإليمان» البن أبي شيبة ،و«اإليمان» ألبي عبيد القاسم بن سالم ،و«اإليمان»
للعدين ،و«اإليمان» البن منده ،وغيرها من كتب أهل العلم المؤلفة يف هذا الباب .
ويمتاز كتاب «اإليمان» البن أبي شيبة $بكونه أتى على مهمات هذا الباب ومقاصده العظام ،واعتنى
بسوق األحاديث عن رسول اهلل ﷺ و اآلثار المروية عن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان يف هذا الباب
المبارك.
وابن أبي شيبة معروف بعنايته باآلثار وروايته لها ،ومؤلفه هذا «اإليمان» حوى جملة من اآلثار العظيمة
المتعلقة باإليمان .وكتابه هذا المفرد يف اإليمان ضمنه $كتابه «المصنف» ،ومن يقارن بين كتابه
«اإليمان» المفرد الذي بين أيدينا وكتاب اإليمان المضمن يف «مصنفه» – رحمه اهلل تعالى -يجد أهنما
شيء واحد مع فروق يسيرة جدً ا ،كتقديم وتأخير يف بعض المواضع ،واختصار يف بعض المواضع ،وإال
فهما شيء واحد ،وهو كتاب عظيم مبارك.
خالصا
ً نسأل اهلل الكريم الذي يسر لنا االجتماع لمدارسته أن ينفعنا به ،وأن يجعل جلوسنا لتعلمه لوجهه
ولنا ناف ًعا ،وأن يتقبل منا ذلك بقبول حسن .ونبدأ مستعينين باهلل متوكلين عليه ،ما شاء اهلل ال حول وال قوة
إال باهلل.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 4
قالِالحافظِأبوِبكرِعبدِاهللِبنِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويف:
( )1حدثنا غندر ،عن شعبة ،عن الحكم ،قال :سمعت عروة بن النزال يحدِّ ث ،عن معاذ بن جبل ﭬ،
قال :أقبلنا مع رسول اهلل ﷺ من غزوة تبوك ،فلما رأيته خال ًيا قلت :يا رسول اهلل ،أخبرني بعمل يدخلني
الشرحِ:
بدأ اإلمام ابن أبي شيبة – رحمه اهلل تعالى – كتابه «اإليمان» هبذا الحديث ،حديث معاذ بن جبل ،وساق
عظيما .وقد
ً هذا الحديث من طريقين .والحديث حديث عظيم يف بابه ،ومعاذ ﭬ سأل النبي ﷺ سؤ ًاال
أثنى النبي – عليه الصالة والسالم – على السؤال وبين عظمة األمر المسؤول عنه.
فيقول معاذ ﭬ« :أقبلنا مع رسول اهلل ﷺ من غزوة تبوك ،فلما رأيته خال ًيا قلت :يا رسول اهلل ،أخبرني
بعمل يدخلني الجنة» .وجاء يف بعض روايات الحديث« :ويباعدني من النار»( ،)1وجاء ً
أيضا يف بعض
روايات الحديث أنه ﭬ قال« :يا رسول اهلل ،ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني
وأحزنتني»( )2يشير ﭬ إلى أنه مهتم غاية االهتمام هبذا األمر وحق له؛ ألن هذا األمر هو أعظم األمور
وأجلها ،وهو نجاة العبد وفالحه وسعادته يف الدنيا واآلخرة .ومن يطالع كتب السنة يجد من هذا نماذج
كثيرة جدً ا من حيث عناية الصحابة ﭫ وشدة اهتمامهم بما تكون به نجاة األمر؛ نجاة العبد من النار
وفوزه بجنات النعيم.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1جامع الرتمذي» ( ،)2616و«سنن ابن ماجه» ( ،)3973و«مسند أحمد» ( ،)22016وغيرهم.
(« )2مسند أحمد» (.)22122
5 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
5
فيثني النبي -عليه الصالة والسالم -على السؤال ،قال – عليه الصالة والسالم َ « :-ل َقدْ َِس َأ ْل َ
تِ َع ْنِ َعظي ٍِم»؛
وهذا فيه تنبيه على جودة السؤال وعظم نفعه وكبر فائدته ،وأنه أعظم أمر ينبغي أن يسأل عنه وأن يعتنى به.
وهذا فيه تنبيه إلى أهمية فقه السؤال؛ كثير من الناس يسأل ولكن ال يحسن أن يسأل ،وبعضهم يسأل وال
يدري لماذا يسأل ،وبعضهم يسأل ويكون يف سؤاله نوايا ليست بطيبة ومقاصد ليست بحسنة وأغراض
ليست شريفة أحيا ًنا .وفرق بين من يسأل مهتما غاية االهتمام بنجاته وفالحه وسعادته يف الدنيا واآلخرة،
وبين من يسأل ألغراض أخرى بعيدة وربما مقاصد أخرى ذميمة ،شتان بين هؤالء وهؤالء .نظير هذا
السؤال سؤال وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي – عليه الصالة والسالم – قالوا« :يا رسول اهلل إنا ال
نستطيع أن نأتيك إال في الشهر الحرام ،وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر ،فمرنا بأمر فصل ،نخبر به
من وراءنا ،وندخل به الجنة»( .)1ولهذا السؤال نظائر كثيرة تدل على الهمة العالية والرغبة العظيمة يف
الصحابة ﭫ ،والحرص البالغ على نجاة األمر والفوز بجنات النعيم .قال« :يا رسول اهلل ،أخبرني بعمل
يدخلني الجنة ،ويباعدني من النار» قالَ « :ل َقدْ َِس َأ ْل َ
تِ َع ْنِ َعظي ٍِم».
ِاهللُ»؛ مع عظمة هذا األمر وعظمة مكانته ثم قال -عليه الصالة والسالم َ « : -و ُه َو َِيس ٌيرِ َع َل َ
ىِم ْن ِ َي َّس َر ُه ِ
يسيرا على كل أحد ،وإنما هو يسير على من يسره
وجاللة قدره وأنه أعظم مطلب إال أنه يسير ،لكنه ليس ً
اهلل له .اللهم يسرنا لليسرى ،وجنبنا العسرى ،وال تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .كان نبينا -عليه الصالة
يِو ََلِ َتن ُْص ْرِ
ِ،وان ُْص ْرن َ والسالم -يقول يف دعائه -صلوات اهلل وسالمه عليه َ « :-ر ِّب َِأعن َ
ِّيِو ََلِ تُع ْنِ َع َل َّي َ
ِالهدَ ىِلي»( ،)2ونبي اهلل موسى ڠ يقول يف دعائه :ﭿﯘ
يِو َي ِّسر ُ يِو ََلِت َْمك ُْرِ َع َل َّي َ
ِ،و ْاهدن َ َع َل َّي َ
ِ،و ْامك ُْرِل َ
ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﭾ [طه . ]26 – 25 :فاألمر يسير لكن ليس على كل أحد ،وإنما هو يسير على من
يسره اهلل عليه .وهذا فيه أن األمر بيد اهلل -جل وعال -من قبل ومن بعد ،وأن العبد ال نجاة له وال فالح،
وال قيام بطاعة وال سالمة من معصية ،إال إذا أعانه اهلل وسدده ووفقه وهداه وأصلحه ،فاألمر بيده -عز
عسيرا
ً أمرا
ِاهللُ» أي ليس ً وجل .-ولهذا نبه النبي ﷺ على هذا األمر العظيم ،قالَ « :و ُه َو َِيس ٌيرِ َع َل َ
ىِم ْن َِي َّس َر ُه ِ
وال صع ًبا وال شاقًا ،بل هو يسير ولكن ليس لكل أحد ،إنما هو يسير لمن يسره اهلل له .فما أحوج العبد
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( )53واللفظ له ،ومسلم (.)17
( )2رواه الرتمذي ( ،)3551وابن ماجه ( )3830هبذا اللفظ ،وصححه األلباين.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 6
وأشد افتقاره إلى أن يلح على اهلل -سبحانه وتعالى -أن ييسر له اليسرى ﭿ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﭾ [الليل.]10 – 5 :
والمطلوب من العبد يف هذا المقام أمران حتى يفوز هبذا المطلب .األول :الدعاء واللجوء إلى اهلل والطلب
منه واإللحاح عليه؛ ألن التيسير بيده والتوفيق بيده -سبحانه وتعالى .واألمر الثاين :أن يبذل األسباب.
وكالهما واضح يف الحديث.
ِاهللُ» ،وأما الثاين :يف األعمال التي ذكرها النبي – عليه أما األمر األول :فمن قولهَ « :و ُه َو َِيس ٌيرِ َع َل َ
ىِم ْن َِي َّس َر ُه ِ
الصالة والسالم – اآليت ذكرها والكالم عنها ،مما يدل على أن العبد البد أن يجاهد نفسه على فعل
الصالحات والتقرب إلى اهلل -سبحانه وتعالى -باألعمال الزاكيات ،بد ًءا بفرائض اإلسالم وواجبات
الدين ،ثم مجاهدة النفس على أبواب الرب األخرى.
ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭾ [السجدة.]17 – 16 :
وانتبه هنا لرتتيب الحديث :معاذ ﭬ سأل عن نجاة األمر ،فدله -عليه الصالة والسالم -على مباين
اإلسالم ،بمعنى أن من فعل مباين اإلسالم وحافظ عليها دخل الجنة ونجا من النار؛ وهي خمسة ،من فعلها
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1كما يف رواية الرتمذي ( )2616واللفظ له ،وابن ماجه ( ،)3973وأحمد ( ،)22016وصححه األلباين.
( )2المرجع السابق.
7 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
7
وحافظ عليها ولقي اهلل -سبحانه وتعالى -هبا محاف ًظا عليها دخل الجنة ونجا من النار .ثم يأيت بعد هذه
المباين أعمال تكون هبا الرفعة ،أما نجاة األمر فتكون بفرائض الدين وواجباته ،وما زاد على ذلك أعمال
كِ َع َل َ
ىِأ ْب َوابِا ْلخَ ْير؟» يعني تكون هبا رفعة اإلنسان .ولهذا قال -عليه الصالة والسالم -بعد ذلكَ « :أ ََل َِأ ُد ُّل َ
يضا هي أبواب
أمورا أ ً
إذا عرفت نجاة األمر -ما يكون به نجاتك من النار ودخولك الجنة -اعلم أن هناك ً
يف الخير وأبواب يف رفعة الدرجات وعلو المنازل.
ثم أخذ يب ِّين له أمثلة من أعظم ما تكون به رفعة العبد؛ فذكر الصيام وأنه جنة ،ومعنى أنه جنة أي جنة من
أيضا من النار .الصيام جنة لصاحبه من المعاصي؛ ألن فيه رياض ًة للنفس وهتذي ًبا ،وتقوى
المعاصي وجنة ً
للقلب .وإذا سلم العبد من المعاصي وأصبح عنده جنة منها سلم من العواقب الوخيمة المرتتبة على
يِسبيلِاهللِ َبا َعدَ ِاهللُِ َب ْينَ ُه َِو َب ْي َنِالنَّارِب َذل َ
كِا ْل َي ْومِ ِصا َم َِي ْو ًماِف َ
المعاصي ،فكان صيامه جنة له من النار .و« َم ْن َ
ين ِ َخري ًفاِ»( .)1الصيام جنة لصاحبه من النار ،وصالة الرجل من جوف الليل ً
أيضا جنة لصاحبه من َس ْبع َِ
النار ،ورفعة درجات وعلو منازل عند اهلل -سبحانه وتعالى .وهذا فيه أن هذه الطاعات كفارات وفيها
رفعة درجات وعلو منازل لصاحبها.
فجمع النبي – عليه الصالة والسالم – يف هذا الحديث بين التقرب إلى اهلل بالفرائض وهي أحب شيء إلى
اهلل ،ثم التقرب إليه بالنوافل ،كما جمع اهلل -سبحانه وتعالى -بينهما يف الحديث القدسي حيث قالَ « :و َماِ
ِحت ُ ٍ
اِيز َُالِ َع ْبد َ
يِي َت َق َّر ُبِإ َل َّيِبالن ََّوافل َ تِ َع َل ْيه َ َت َق َّر َبِإ َل َّيِ َع ْبديِب َش ْيء َِأ َح َّ
بِإ َل َّيِم َّماِا ْفت ََر ْض ُ
()2
َّىِأح َّب ُِه» ِ،و َم َ
إلى آخر الحديث.
ٍ
تِ َع َل ْيهِ» ،هذه فرائض اإلسالم ،مباين اإلسالم فقولهَ « :و َماِ َت َق َّر َبِإ َل َّيِ َع ْبديِب َش ْيء َِأ َح َّ
بِإ َل َّيِم َّماِا ْفت ََر ْض ُ
التي ذكرها النبي ﷺ يف حديث ابن عمر ،وذكرها يف حديث معاذ هذا ،وغيرهما من األحاديث.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( ،)2840ومسلم ( ،)1153والنسائي ( )2254واللفظ له.
( )2رواه البخاري (.)6502
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 8
ىِر ْأس ْ ِ
ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ
ِسنَامه؟» ولعلكم ثم قال – عليه الصالة والسالم – بعد ذلكَ « :أ َو ََلِِ َأ ُد ُّل َ
كِ َع َل َ
تالحظون هنا السخاء؛ سخاء العلم والبيان والتعليم ،يعني سؤال معاذ ﭬ انتهى يف الجواب األول الذي
وأمورا
ً أمورا
ذكر فيه – عليه الصالة والسالم -مباين اإلسالم ،ولكن زاده النبي – عليه الصالة والسالم – ً
يف التعليم والبيان .ونظير هذا كثير يف أحاديثه – عليه الصالة والسالم – بل حياته كلها -عليه الصالة
ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭾ [التوبة.]128 :
ىِر ْأس ْ ِ
ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ
ِسنَامه؟» .رأس األمر ،أي :األمر الذي بعث ألجله -عليه قالَ « :أ َو ََل َِأ ُد ُّل َ
كِ َع َل َ
الصالة والسالم ،-وخلق الناس وأوجدوا لتحقيقه .المراد باألمر الدين .مثله قوله – عليه الصالة والسالم
َاِه َذا ،)1(»...األمر أي :الدين الذي خلق الناس ألجله ،وأوجدوا لتحقيقه. ثِف َ
يِأ ْمرن َ َ « :-م ْن َِأ ْحدَ َ
ىِر ْأس ْ ِ
ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ
ِسنَامه؟» ثم بين ذلك -عليه الصالة والسالم – والحظ قالَ « :أ َو ََلِ َأ ُد ُّل َ
كِ َع َل َ
أيضا هنا أسلوب التشوبق يف التعليم والبيان منه -صلوات اهلل وسالمه عليه « :-أَلِأخبرك» ،ثم يذكر
ً
أمورا عظيمة :رأس األمر ،وعموده ،وذروة سنامه .القلب الحريص يكون حينئذ يف غاية الشوق وتمام
ً
الرغبة أن يعرف رأس األمر وعموده وذروة سنامه .مثل هذا ،لو أردت أن تع ِّلم هذه المسألة بعض الطالب
المبتدئين أو الناشئين تقول :هل تعرف رأس الدين؟ وهل تعرف عمود الدين؟ وهل تعرف ذروة سنام
الدين؟ تكون هبذه الطريقة هيأته وشوقته ورغبته يف تحصيل الفائدة على أتم حال .قالَ « :أ َو ََل َِأ ُد ُّل َ
كِ َع َلىِ
َر ْأس ْ ِ
ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ
ِسنَامه؟».
اِر ْأ ُس ْ
ِالَ ْمرِ َف ْاْل ْس ََل ُِم» ،والمراد باإلسالم هنا الشهادتان :شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمدً ا قالَ « :و َأ َّم َ
رسول اهلل .المراد برأس األمر هنا التوحيد بنوعيه توحيد المرسل و المرسل؛ توحيد المرسل الذي هو اهلل
رب العالمين باإلخالص وإفراده -سبحانه وتعالى -بجميع أنواع العبادة ،وتوحيد المرسل الذي هو
النبي الكريم – عليه الصالة والسالم -باالتباع ولزوم هنجه – صلوات اهلل وسالمه عليه -وهذا هو معنى
ظاهرا
ً شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمد ًا رسول اهلل .فالمراد باإلسالم هنا الشهادتان ،وتحقيق الشهادتين
وباطنًا ،هذا هو رأس األمر وأساس الدين ،والدين كله قائم على الشهادتين ،وال يكون دخول لهذا الدين
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( ،)2697ومسلم (.)1718
9 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
9
إال هبما ،وال تنفع صالة وال صيام وال حج وال صدقة وال غير ذلك من أعمال الرب إال إذا كانت تلك
األعمال قائمة على الشهادتين .فالشهادتان من الدين بمنزلة الرأس من الجسد ،وجسد بال رأس جثة
هامدة ،واألعمال الصالحات وإن كثرت وتنوعت وتعددت بدون الشهادتين تحقي ًقا لهما فهي أعمال
قائما على
حابطة ليست مقبولة ،ال يقبل اهلل -سبحانه وتعالى -أي عمل من األعمال إال إذا كان ً
اِر ْأ ُس ْ
ِالَ ْمرِ َف ْاْل ْس ََل ُمِ» الشهادتين :اإلخالص للمعبود والمتابعة للرسول ﷺ ،فهذا هو رأس األمرَ « ،و َأ َّم َ
ظاهرا وباطنًا بأن يخلص الدين هلل
ً أي :شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمد ًا رسول اهلل ،وتحقيق الشهادتين
وأن يجرد المتابعة للرسول الكريم – عليه الصالة والسالم – ،هذا رأس األمر .فإذا وجدت من إنسان
أعمال كثيرة جدً ا وطاعات متنوعة وصدقات...إلخ ،فإهنا ال تفيده إذا كانت بدون رأس األمر .مثل تلك
األعمال مثل جسد بال رأس .فهذا يبين لنا مكانة الشهادتين من الدين وأهنما للدين بمنزلة الرأس .قال:
اِر ْأ ُس ْ
ِالَ ْمرِ َف ْاْل ْس ََل ُمِ»ِ. « َو َأ َّم َ
أيضا فيه مكانة الصالة من الدين وأهنا من الدين بمثابة العمود ،ومن المعلوم « َو َأ َّماِ َع ُمو ُد ُهِ َف َّ
الص ََل ُِة» ،وهذا ً
أن العمود ال يقوم البناء إال عليه ،البناء ال يقوم إال على عماده.
()1
وال عماد إذا لم ترس أوتاد والبيت ال يبتنى إال على عمد
ألنِبناء الدين ال يقوم إال عليها .فالصالة عماد الدين ،قالَ « :و َأ َّماِ َع ُمو ُد ُهِ َف َّ
الص ََل ُِة» ،وقد جاء يف حديث
ن ِت ََرك ََها ِ َف َقدِْ ِ َك َف َِر»(.)3 آخر عنه – صلوات اهلل وسالمه عليه -قال« :ال َع ْهدُِ ِا َّلذي ِ َب ْينَنَا ِ َو َب ْين َُه ُِم ِ َّ
الص ََلةَُ ِ ،ف َم ِْ
َت ِ َل ُِهِ ن ِ َحا َف َِ
ظ ِ َع َل ْي َها ِكَان ْ ِ وجاء يف حديث آخر أن الصالة ذكرت عنده – عليه الصالة والسالم -فقالَ « :م ِْ
َلِن ََجا ًِةِ َو َي ْأتيِ َي ْو َِمِا ْلق َي َامةِِ
َلِ ُب ْر َهانًاِ َو َ ِ ُنِ َل ُِهِن ً
ُوراِ َو َ ِ نِ َل ِْمِ ُي َحاف ِْ
ظِ َع َل ْي َهاِ َل ِْمِ َتك ِْ ُوراِ َو ُب ْر َهانًاِ َون ََجا ًِةِ َي ْو َِمِا ْلق َي َامةَ ِ،و َم ِْ
ن ً
فِ»( .)4أبي بن خلف هذا كان ألد خصوم النبي – عليه الصالة ان ِو ُأبيِ ِبنِ ِ َخ َل ٍ َم َِع ِ َق ُار َِ
ون ِ َوف ْر َع ْو َنِ ِ َو َه َام َِ َ َ ِّ ْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1البيت منسوب إلى األفوه األودي ،شاعر يماين جاهلي ،واسمه صالءة بن عمرو بن مالك .تويف 50قبل الهجرة .انظر «األعالم» للزركلي
(.)206/3
( )2رواه البخاري ( ،)8ومسلم (.)16
( )3رواه الرتمذي ( ،)2621والنسائي ( ،)463وابن ماجه ( ،)1079وصححه األلباين.
( )4رواه أحمد ( )6576بإسناد حسن ،وابن حبان ( ،)1467والدارمي ( )2763كذلك ،وحسنه الشيخ ابن باز يف «مجموع فتاويه»
(.)278/10
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 10
والسالم – وأشدهم عداوة له – صلوات اهلل وسالمه عليه – ومن ال يصلي يحشر جن ًبا إلى جنب مع هذا
العدو اللدود للرسول الكريم – عليه الصالة والسالم – ومع فرعون ومع هامان ومع أعمدة الكفر
وصناديد الباطل شاء أم أبى؛ ألنه برتكه للصالة وتضييعه لها حكم على نفسه هبذا المآل والعياذ باهلل .
ثم قال يف بعض طرق الحديث « :قالَ ِ :أ ََلِ ِ ُأ ْخب ُر َكِ ِب َم ََلكِ ِ َذل َ
كِ ِ ُك ِّلهِ؟ قلت :بلى يا نبي اهلل ،فأخذ بلسانه،
كِ َه َذاِ»( .)1وهذا يبين الخطورة العظيمة البالغة للسان وأن هذه الجارحة الصغيرة لها خطر
قالِ:كُفَِِّ َع َل ْي َ ِ
عظيم جدً ا حتى أن النبي – عليه الصالة والسالم – قال يف حديث آخر صح عنه« :إ َذاِِ َأ ْص َب َحِِا ْب ُنِِآ َد َمِِ َفإ َِّنِ
اس َت َق ْمنَاِِ َوإ ْنِِِا ْع َو َج ْج َِ
تِ كَ ِِ،فإ ْنِِِ ْاس َت َق ْم َ ِ
تِِ ْ انِِ َف َت ُق ُ ِ
ولِِ:اتَّقِِِاهللَِِِفينَاِِ َفإن ََّماِِن َْح ُِ
نِِب َ الَ ْع َضا َءِِِ ُك َّل َهاِِِ ُت َك ِّف ُِرِِال ِّل َس َِ
ا ْع َو َج ْجنَا»( .)2واإلنسان بأصغريه القلب واللسان.
ْكِ ُأ ُّم َ ِ
كِ َياِ ُم َعا ُذَ ِ،و َه ْلِِ كِ َه َذاِ ،فقلت :يا نبي اهلل ،وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقالَ :ثك َلت َ ِ
قال« :كُفَِِّ َع َل ْي َ ِ
َل ِ َح َصائدُِ ِ َأ ْلسنَته ِْم»( )3أي :إال ما يحصدونه يوم
ى ِ ُو ُجوهه ِْم ِ َأ ِْو ِ َع َلى ِ َمنَاخره ِْم ِإ َّ ِ
َّاس ِفي ِالنَّارِ ِ َع َل ِ
ُب ِالن َ ِ
َيك ُّ ِ
القيامة من جنايات اللسان وأخطار اللسان على اإلنسان.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1كما يف رواية الرتمذي ( )2616واللفظ له ،وابن ماجه ( ،)3973وأحمد (.)22016
( )2رواه الرتمذي ( )2407واللفظ له ،وأحمد ( ،)11908وحسنه األلباين.
( )3كما يف رواية الرتمذي ( ،)2616وابن ماجه ( ،)3973وأحمد (.)22016
11 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
11
فهذا الحديث حديث جمع فيه النبي ﷺ الخير كله ،وهو من جوامع كلم النبي – عليه الصالة والسالم.
ولهذا أورده اإلمام النووي – رحمه اهلل تعالى – يف كتابه األربعين أن يورد األحاديث الجوامع ،جوامع
الكلم كلم النبي – عليه الصالة والسالم .-
والحديث له طرق عديدة لكن نبه الحافظ ابن رجب $يف كتابه «جامع العلوم والحكم» الذي شرح فيه
األربعين أهنا كلها ضعيفة ،بما فيها الطريقان اللذان ساقهما المصنِّف – رحمه اهلل تعالى.
قالِِِ:
(ِ)2حدثنا عبيدة بن حميد ،عن األعمش ،عن الحكم ،عن ميمون بن أبي شبيب ،عن معاذ ،قال :خرجنا
مع رسول اهلل ﷺ في غزوة تبوك ،ثم ذكر نحوه.
وأيضا لم
أيضا فيها ميمون بن أبي شبيب الذي يروي عن معاذ ،وهو صدوق كثير اإلرسالً ،
وهذه الطريق ً
يسمع من معاذ ﭬ كما نبه على ذلك الحافظ ابن رجب – رحمه اهلل تعالى.
أيضا« :عن
والحديث له طرق عديدة عن معاذ منها« :عن أبي وائل عن معاذ» رواه أحمد والرتمذي ،ومنها ً
مختصرا ،ومنها« :عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ» ،لكن كلها -كما
ً مكحول عن معاذ» عند ابن حبان
نبه الحافظ ابن رجب – ضعيفة.
لكن كل جملة من جمل هذا الحديث لها شواهدها ودالئلها يف أحاديث الرسول الكريم – عليه الصالة
والسالم – ،واعتنى الحافظ ابن رجب $بسوق جملة من الشواهد على صحة جمل هذا الحديث.
مناسبة إيراد الحديث :حديث معاذ بن جبل ﭬ أورده المصنِّف ألنه جمع اإليمان؛ اإليمان عقيدة
وشريعة ،وحديث معاذ بن جبل جمع ذلك كله .اإليمان عقيدة وشريعة :اعتقادات مكاهنا القلب ،وأعمال
صالحات تكون يف جوارح اإلنسان .قد قال السلف – رحمهم اهلل تعالى – يف تعريف اإليمان :اإليمان
قول واعتقاد وعمل ،وهذه كلها اجتمعت يف هذا الحديث .وصدر به المصنِّف – رحمه اهلل تعالى – ألنه
من األحاديث الجوامع يف بيان اإليمان وتقريره.
ثمِقالِالمصنفِ–ِرحمهِاهللِتعالىِ–ِِ:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 12
( )3حدثنا أبو األحوص ،عن منصور ،عن ربع ٍّي ،عن رجل ،من بني أسد ،عن عل ٍّيﭬ ،قال :قال رسول
ول ِاهللِ َب َع َثنيِ ِ،و َأن َ
ِّيِر ُس ُ َِ:لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِو ْحدَ ُه َ
َّىِي ْؤم َنِبه َّن َ
ِحت ُ يمان َ اهلل ﷺَ « :أ ْر َب ٌعِ َل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ
ِاْل َ
وثِم ْنِ َب ْعدِا ْل َم ْوتَ ِ،و ُي ْؤم ُنِبا ْل َقدَ رِ ُك ِّلهِ». ِ،وب َأ َّن ُه َِم ِّي ٌ
تِ ُث َّم َِم ْب ُع ٌ با ْل َح ِّق َ
الشرحِ:
ثم أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث عن علي بن أبي طالب ﭬ عن رسول اهلل ﷺ أنه
ن».
َّىِي ْؤم َنِبه َِّ
ِحت ُ يمان َ قالَ « :أ ْر َب ٌعِ َل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ
ِاْل َ
قولهَ « :ل ْنِ َيجدَِ» المراد بـ« َيجدَِ» هنا أي من الوجود وليس من الوجد ،ألنه يقال :يجد الرجل وجدً ا ويجد
وجو ًدا ،والوجد :هو لهيب يف القلب أو حركة يف القلب .أما المراد بالوجد هنا :يجد أي وجود ًا ،بمعنى
يمانِ» أهنا ال تحصل وال تثبت الحالوة وال تقع إال لمن اجتمعت فيه هذه الخصالَ « ،ل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ
ِاْل َ
حاصال مستقرا للشخص إال هبذه األمور األربعة التي ذكرها –
ً أي :لن يكون طعم اإليمان موجو ًدا ثاب ًتا
صلوات اهلل وسالمه عليه .-
13 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
13
ولِاهللِ َب َع َثنيِبا ْل َح ِّ ِ
ق» .هذا األمر األول من األمور األربعة :الشهادتان، ِ،و َأن َ
ِّيِر ُس ُ قالََ « :لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِو ْحدَ ُه َ
ظاهرا وباطنًا .وقد مر معنا يف حديث معاذ أهنما رأس األمر ،فال يجد عبد طعم اإليمان حتى
ً واإلقرار هبما
وإخالصا للمعبود ومتابعة
ً ً
راسخا ،إيما ًنا يف ظاهره وباطنه ،إذعا ًنا وانقيا ًدا يقر ويؤمن بالشهادتين إيما ًنا
يمان َِم ْن َِرض َيِباهلل َِر ًّباِ، للرسول الكريم – صلوات اهلل وسالمه عليه .-ويف حديث آخر قالَ « :ذ َاقِ َط ْع َم ْ
ِاْل َ
()1
ًاِ،وب ُم َح َّم ٍِدِﷺِ َر ُس ً ِ
وَل». َوب ْاْل ْس ََلمِدين َ
وثِم ْنِ َب ْعدِا ْل َم ْوتِ» أي أنه سيلقى اهلل -سبحانه وتعالى -ويقوم لرب العالمين ليلقى جزاءه على
« ُث َّم َِم ْب ُع ٌ
ما قدم يف هذه الحياة ،هذا األمر الثالث.
واألمر الرابع قالَ « :و ُي ْؤم ُن ِبا ْل َقدَ رِ ُك ِّلهِ» أي :حلوه ومره من اهلل تعالى ،وأن كل شيء بقدر ،حتى العجز
والكيس ،كل شيء بقدر ،وأن اهلل كتب مقادير الخالئق ،وأنه -جل وعال -أول ما خلق الخلق قال« :اكتب
ما هو كائن إلى يوم القيامة»( .)2فيؤمن بالقدر كله.
فال يذوق عبد حالوة اإليمان وطعمه إال إذا آمن هبذه األمور األربعة مجتمعة .وهذه اإليمانيات هي ركائز
يقوم عليها الدين.
أما األمر األول وهو اإليمان باهلل ر ًبا معبو ًدا وال معبود بحق سواه واإليمان بالرسول -عليه الصالة
والسالم -وتحقيق مقتضى الشهادتين ،شهادة أن ال إله إال اهلل ،وأن محمدً ا رسول اهلل ،فهذا رأس الدين.
وأما األمر الثاين والثالث :الموت والبعث ،فهذان من اإليمان باليوم اآلخر ،واإليمان باليوم اآلخر ركن
من أركان اإليمان وأصل من أصوله العظام.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه مسلم (.)34
( )2كما روى اآلجري يف «الشريعة» ( 182و 349و 351و 444و ،) 666والاللكائي يف «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة»
( ،)1223وعبد اهلل بن أحمد بن حنبل يف «السنة» ( 871و ،)894وابن بطة يف «اإلبانة الكربى» ( 1362وما بعده) ،وغيرهم.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 14
والحديث الذي رواه المصنِّف -حديث علي -يف إسناده رجل من بني أسد ،فاإلسناد ضعيف .وقد رواه
ابن حبان يف «صحيحه» من طريق سفيان عن منصور عن ربعي عن علي ،فأسقط الرجل .ورواه الرتمذي
على الوجهين ،ورجح الوجه اآلخر ،وقال -رحمه اهلل تعالى « :-رواه غير واحد عن منصور عن ربعي
عن علي» .وأما الدارقطني يف «العلل» فصوب رواية ربعي عن رجل ،وتكون بذلك معلولة .وقد جاء يف
«المعجم الكبير» للطرباين عن ابن مسعود ﭬ أنه قال« :لن يجد رجل طعم اإليمان حتى يؤمن بالقدر،
ويعلم أنه م ِّيت ،وأنه مبعوث»( ،)1فذكر األمور المذكورة يف الحديث إال واحدً اً .
وأيضا رواه الفريابي يف
كتابه «القدر».
قا ِلِ:
( )4حدثنا ابن فضيل ،عن عطاء بن السائب ،عن سالم بن أبي الجعد ،عن ابن عباس ،قال :جاء أعراب ٌّي
ك»ِقال :إنِّي رجل من أخوالك «و َع َل ْي َ
إلى النب ِّي ﷺ فقال :السالم عليك يا غالم بني عبد المطلب فقالَ ِ :
من بني سعد بن بكر ،وأنا رسول قومي إليك ووافدهم ،وأنا سائلك فمشيد مسألتي إياك ،ومناشدك فمشيد
يِس ْع ٍد»ِقال :من خلقك ،ومن هو خالق من قبلك ،ومن هو خالق ك َِي َ
اِأ َخاِ َبن َ «خ ْذِ َع َل ْي َ
مناشدتي إياك ،قالُ :
من بعدك؟ قال«ِِ:اهللُ» ،قال :فنشدتك باهلل أهو أرسلك؟ قالَ «ِِ:ن َع ْم» .قال :من خلق السموات السبع
الرزق؟ قال« :اهللُ»ِ ،قال :فأنشدتك باهلل أهو أرسلك؟ قالَ « :ن َع ْم» .قال:
واألرضين السبع ،وأجرى بينهما ِّ
فإنا وجدنا في كتابك ،وأمرتنا رسلك ،أن نص ِّلي في اليوم والليلة خمس صلوات لمواقيتها ،فنشدتك باهلل
أهو أمرك؟ قالَ « :ن َع ْم» .قال :فإنا وجدنا في كتابك ،وأمرتنا رسلك ،أن نأخذ من حواشي أموالنا فنرده
على فقرائنا ،فنشدتك باهلل أهو أمرك؟ قالَ « :ن َع ْم»ِ .قال :ثم قال :أما الخامسة فلست بسائلك عنها وال إرب
لي فيها ،قال :ثم قال :أما والذي بعثك بالح ِّق ،ألعملن بها ،ومن أطاعني من قومي ،ثم رجع ،فضحك
ِصدَ َقِ َل َيدْ ُخ َل َّنِا ْل َجنَّةَ»ِ.
«وا َّلذيِ َن ْفسيِب َيدهَ ِ،لئ ْن َ
رسول اهلل ﷺ حتى بدت نواجذه وقالَ :
الشرحِ:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1المعجم الكبير» للطرباين (.)8788
15 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
15
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن ابن عباس ﭭ «قال :جاء أعراب ٌّي إلى النب ِّي ﷺ فقال:
السالم عليك يا غالم بني عبد المطلب»؛ ومعلوم ما يف هذه الصيغة من الخطاب عن الرسول – عليه
الصالة والسالم -ما فيها من جفوة ،وهذا من الجفوة التي توجد يف بعض األعراب والتصرف غير
المنضبط« .فقال :السالم عليك يا غالم بني عبد المطلب فقالَ ِ:و َع َل ْي َ ِ
ك»ِِ-رد عليه السالم.
«قال :إنِّي رجل من أخوالك من بني سعد بن بكر ،وأنا رسول قومي إليك ووافدهم ،وأنا سائلك فمش ِّيد
مسألتي إياك» أي :مط ِّول يف المسألة؛ يقال :أشدت البنيان تشييدً ا ،ومشيد أي رفعه وطول بناءه ،وقوله:
«فمش ِّيد مسألتي» أي :مطول مسألتي ،يعني سأسألك وأطيل يف المسألة« ،ومناشدك فمشيد مناشدتي إياك»
والمناشدة هي السؤال ،وأصله رفع الصوت .فيقول أنا سأسأل وأطيل يف السؤال وسأناشد وأنشدك وأطيل
يف المناشدة.
يِس ْع ٍِد»؛ يعني أتاح له -عليه الصالة والسالم -أن يسأل .وهذا ً
أيضا فيه سعة ك َِي َ
اِأ َخاِ َبن َ قالُ « :خ ْذِ َع َل ْي َ
وكمال خلق النبي -عليه الصالة والسالم ،-واحتماله للناس وما قد يكون من بعضهم من جفوة وأساليب
غير مناسبة وال الئقة بمقامه -عليه الصالة والسالم -وقد قال اهلل :ﭿﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ
«قال :من خلقك» يخاطب النبي -عليه الصالة والسالم« -ومن هو خالق من قبلك ،ومن هو خالق من
وأيضا حديث أنس اآليت بعده وهو أن األعرابي
اهللُ» .أريد أن ننتبه لشيء يف هذا الحديث ً
بعدك؟ قالِ ِ :
يتكلم من حدود معلوماته ،فهو رجل يعيش يف البادية بين جبال وسماء وأرض ويريد من خالل هذا الذي
يعيش بينه أن يصل إلى شيء يقنعه بصدق ما جاء به من أمامه وهو الرسول الكريم -عليه الصالة والسالم
.-فبدأ ً
أوال :من خلقك؟ من خلق الذين من قبلك؟ ومن خلق الذين من بعدك؟ قال -عليه الصالة
اهللُ» .
والسالمِ « :-
«قال :فنشدتك باهلل أهو أرسلك؟» اآلن هذا األعرابي يرى أنه ال يمكن أن يذكر شخص باهلل وأنه خلقه
وخلق من بعده وخالق كل شيء ،ثم يستحلف به فيحلف وهو كاذب .ال يتصور أن رجالً يذكر باهلل هذا
التذكير ثم يستحلف باهلل ويحلف ويكون كاذ ًبا .قال «:فنشدتك باهلل»ِ يعني اآلن الذي تستحضر أنه خلقك
وخلق من قبلك أنشدك باهلل :آهلل أرسلك؟ قال« :نعم».
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 16
«قال :من خلق السموات» -اآلن ينتقل إلى حجة أخرى يقنع نفسه بصدق ما جاء به ِ« -قال :من خلق
اهللُ .قال :فأنشدتك باهلل أهو أرسلك؟»
الرزق؟ قالِ :
السموات السبع واألرضين السبع ،وأجرى بينهما ِّ
يعني من خلق هذه المخلوقات وأوجدها «أهو أرسلك؟ قالَ ِ:ن َع ْمِ» .اآلن اقتنع بعد هذا االستحالف وذكر
هذه الشواهد اقتنع الرجل« ،قال :فإنا وجدنا في كتابك ،وأمرتنا رسلك ،أن نص ِّلي في اليوم والليلة خمس
صلوات لمواقيتها ،فنشدتك باهلل أهو أمرك؟» هل هذه الصلوات أمرك اهلل هبا؟ «قالَ ِ:ن َع ْمِ .قال :فإنا وجدنا
في كتابك ،وأمرتنا رسلك ،أن نأخذ من حواشي أموالنا فنرده على فقرائنا» أي :أنه تؤخذ صدقة من
أغنيائهم فترد على فقرائهم وحاشية كل شيء جانبه وطرفه ،والمراد أنه ال تؤخذ من كرائم األموال .قال
«:فنرده على فقرائنا ،فنشدتك باهلل أهو أمرك؟» أي :بذلك« .قالَ :ن َع ْمِ ،قال :ثم قال :أما الخامسة فلست
بسائلك عنها»ِ أي :سأله عن مباين اإلسالم ولما وصل إلى الحج وهو الركن الخامس من أركان اإلسالم
سبيال،
ً «قال :أما الخامسة فلست بسائلك عنها وال إرب لي فيها»ِ وقد يكون ألن الحج من استطاع إليه
والحج ليس بواجب على كل مسلم ،إنما واجب على المستطيع.
«قال :أما الخامسة فلست بسائلك عنها» ِ.قال ابن عبد الرب -رحمه اهلل تعالى -يف كتابه «التمهيد»« :يعني
الحج ...ذلك أن العرب كانت تعرف الحج وتحج كل عام يف األغلب فلم ير يف ذلك ما يحتاج فيه إلى
المناشدة»( )1انتهى كالم ابن عبد الرب -رحمه اهلل تعالى« .قال :أما الخامسة فلست بسائلك عنها وال إرب
لي فيها».
«قال :ثم قال :أما والذي بعثك بالح ِّق ،ألعملن بها ،ومن أطاعني من قومي»ِ ألنه ذكر يف بدء حديثه أنه
رسول قومه إلى النبي -عليه الصالة والسالم -قال «:ألعملن بها ،ومن أطاعني من قومي ،ثم رجع.
فضحك رسول اهلل ﷺ حتى بدت نواجذه»ِ وهذا الضحك ضحك فرح وسرور هبذا الخير الذي عرفه هذا
األعرابي والتزمه وتعهد بلزومه والمحافظة عليه« .حتى بدت نواجذه وقالَ :وا َّلذيِ َن ْفسيِب َيدهَ ِ،لئ ْن َ
ِصدَ َقِ
َل َيدْ ُخ َل َّنِا ْل َجنَّ َِة» .والذي ذكر يف الحديث مباين اإلسالم الخمسة ،وقد مر معنا يف حديث معاذ قالَ ِ«ِ:أ ْخب ْرنيِ
ب َع َم ٍل ُِيدْ خ ُلنيِا ْل َجنَّ َِة َو ُي َباعدُ نيِم َنِالنَّارِ» وهنا قال -عليه الصالة والسالم َ «:-لئ ْن َ
ِصدَ َقِ َل َيدْ ُخ َل َّنِا ْل َجنَّ َِة»ِ،
فهذا يدل على أن من حفظ فرائض اإلسالم وحافظ عليها فإنه تكون هبا نجاة أمره ودخوله جنات النعيم،
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1التمهيد» (.)172/16
17 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
17
وما زاد على فرائض اإلسالم فهي رغائب ومستحبات تعلو هبا درجات العبد وترتفع هبا منازله يف جنات
النعيم.
والحديث يف إسناده عطاء بن السائب وكان قد اختلط ،وسماع ابن فضيل -وهو محمد بن فضيل بن
غزوان -بعد اختالطه ،ولكن للحديث طري ًقا أخرى عند أحمد يف المسند وشاهدً ا من حديث أنس يأيت
عند المصنِّف -رحمه اهلل تعالى .-
قا ِلِ:
( )5حدثنا شبابة بن سوار ،نا سليمان بن المغيرة ،عن ثابت ،عن أنس ،قالِ:كنا قد نهينا أن نسأل رسول
اهلل ﷺ عن شيء ،وكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ،فجاءه رجل
«صدَ َق» ِقال :فمن
من أهل البادية فقال :يا محمد ،أتى رسولك فزعم أنك تزعم أن اهلل أرسلك ،فقالَ :
خلق السماء؟ قال«ِ :اهللُ» ِقال :فمن خلق األرض؟ قال«ِ :اهللُ» ِقال :فمن نصب هذه الجبال؟ قال«ِ :اهللُ»ِ
قال :فبالذي خلق السماء ،وخلق األرض ،ونصب الجبال ،آهلل أرسلك؟ قالَ «ِ :ن َع ْم» ِقال :زعم رسولك
«صدَ َ ِ
ق» .قال :فبالذي خلق السموات ،وخلق األرض ،ونصب أن علينا خمس صلوات في يومنا ،قالَ :
«صدَ َ ِ
ق» .قال: الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قالَ «ِ:ن َع ِْم» .قال :زعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا ،قالَ ِ:
فبالذي خلق السماء ،وخلق األرض ،ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قالَ «ِ :ن َِع ِْم» .قال :زعم رسولك أن
«صدَ َ ِ
ق» .قال :فبالذي خلق السماء ،وخلق األرض ،ونصب يال ،قالَ ِ :
علينا الحج من استطاع إليه سب ً
الجبال آهلل أمرك بهذا؟ِقالَ «ِ:ن َع ْم»ِ .فقال :والذي بعثك بالح ِّق ال أزيد عليه شي ًئا ،وال أنقص منه شي ًئا .فقال
ِصدَ َقِ َد َخ َلِا ْل َجنَّةَ».
رسول اهلل ﷺ« :إ ْن َ
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -حديث أنس وهو يف الصحيحين ،خرجه البخاري ومسلم يف صحيحيهما.
يقول أنس ﭬ« :كنا قد نهينا أن نسأل رسول اهلل ﷺ عن شيء»ِ .وجاء يف بعض روايات الحديثُ « :كنَّاِ
نُهينَاِفيِا ْل ُق ْرآنِ»( ،)1ولعله كما ذكر بعض أهل العلم يشير إلى قول اهلل تعالى يف سورة المائدة :ﭿﮮ
ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1كما يف رواية مسلم ( ،)12وأحمد (.)13011
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 18
«وكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل» نص هنا ﭬ على العاقل ألنه ً
أوال :أسلوبه يف طرح
وأيضا :يف المباحثة والمساءلة تكون أسئلته أدق من غيره .قال« :وكان يعجبنا أن
السؤال أحسن من غيرهً ،
يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع»ِ يعني حتى نستفيد من األسئلة وإجابة النبي ﷺ
عليهاِ .
«فجاءه رجل من أهل البادية فقال :يا محمد ،أتى رسولك فزعم أنك تزعم أن اهلل أرسلك» .هذه اآلن يرى
أهنا دعوى تحتاج إلى دليل ،هذه دعوى تحتاج إلى برهان ودليل ،فيريد اآلن الرجل بمستوى معلوماته يف
بيئته -بين الجبال ويمشي على األرض وفوقه السماء -هذه حدود معلوماته فيريد أن يستخرج من خالل
ذلك الدليل« ،قال :فمن خلق السماء؟ قال« :اهللُ» ِقال :فمن خلق األرض؟ قال«ِ :اهللُ» ِقال :فمن نصب
هذه الجبال؟...وجعل فيها ما جعل؟» -كما جاء يف بعض الروايات(« - )1قال«ِ:اهللُ»ِقال :فبالذي خلق
السماء ،وخلق األرض ،ونصب الجبال ،آهلل أرسلك؟» بعد أن استحضر خلق اهلل لهذه المخلوقات
العظيمة الكبيرة ،ال يتصور أنه يذكر أحد هبا وخلق اهلل لها ثم يحلف باهلل ويكون كاذ ًبا على اهلل -سبحانه
وتعالى .-قال« :آهلل أرسلك؟ قالَ ِ:ن َع ِْم» .اآلن اقتنع الرجل.
«صدَ َ ِ
ق» .قال :فبالذي خلق السموات ،وخلق «قال :زعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا ،قالَ :
األرض ،ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قالَ «ِ:ن َع ِْم» .قال :زعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا ،قالِ:
«صدَ َ ِ
ق» .قال :فبالذي خلق السماء ،وخلق األرض ،ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قالَ «ِ:ن َع ِْم» .قال :زعم َ
«صدَ َ ِ
ق» .قال :فبالذي خلق السماء ،وخلق األرض، يال ،قالَ ِ:
رسولك أن علينا الحج من استطاع إليه سب ً
ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ِقالَ «ِ :ن َع ْم» .فقال :والذي بعثك بالح ِّق ال أزيد عليه شي ًئا ،وال أنقص منه
شي ًئا»ِويف بعض طرق الحديث ذكرت فيه مباين اإلسالم الخمسة كلها .ثم التزم الرجل بالمحافظة فقالِ:
ِصدَ َقِ َد َخ َلِا ْل َجنَّ َِة».
«ال أزيد عليه شي ًئا ،وال أنقص منه شي ًئا» ،فقال النبي -عليه الصالة والسالم « :-إ ْن َ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1كما عند مسلم ( ،)12وأحمد (.)12457
19 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
19
ِصدَ َ ِ
ق»ِ فيه أهمية الصدق مع اهلل يف فعل الفرائض والمحافظة على واجبات الدين ،وأن من وقولهِ« :إ ْن َ
صدق مع اهلل -سبحانه وتعالى -يف لزوم هذه الفرائض؛ فإنه ينجو من النار ،ويباعد من النار ،ويفوز بإذن
اهلل -تبارك وتعالى -بجنات النعيمِ.
واهلل تعالى أعلم ،وصلى اهلل وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الدرس الثان
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقولِاْلمامِالحافظِأبوِبكرِ،عبدِاهللِبنِِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويفِ،يفِكتابِ«اْليمان»ِِ:
( )6حدثنا زيد بن الحباب ،عن عل ِّي بن مسعدة ،نا قتادة ،نا أنس بن مالك ،قال :قال رسول اهلل ﷺ :
اهنَا». اهنَاِ،ال َِّت ْق َو َ
ىِه ُ ىِه ُ انِفيِا ْل َق ْلب»ِ ُث َّم ُِيش ُيرِب َيدهِإ َل َ
ىِصدْ ره«ِ:ال َّت ْق َو َ يم ُ
ٌِ،و ْاْل َ
« ْاْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ
الشرحِِ:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمد ًا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد،
فهذا الحديث ،حديث أنس بن مالك ﭬ ،أن النبي – عليه الصالة والسالم – قالْ « :اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َيةٌِ،
انِفيِا ْل َق ْلبِ»؛ِفيه اإلخبار عن حقيقة اإلسالم وحقيقة اإليمان ،وأن اإلسالم أمور ظاهرة وأعمال
يم ُ
َو ْاْل َ
ظاهرة ،وأن اإليمان اعتقادات وإيمانيات مكاهنا القلب .فاإليمان سر ،واإلسالم ظاهر علن.
اإلسالم أعمال ظاهرة واإليمان سر مكانه القلب؛ ألن اإليمان يتعلق بجنس التصديق واإلقرار ،واإلسالم
يتعلق بجنس األعمال وعموم الطاعات والقربات؛ ولهذا قال هناْ « :اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َي ٌِة» .المراد بـ « ْاْل ْس ََل ُمِ
َع ََلن َي ٌِة» أي :أمور ظاهرة ،والمراد بقوله« :فيِا ْل َق ْلبِ» أي :أنه سر مكانه القلب ،اإليمان مكانه القلب.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 20
وهذا البيان لإلسالم واإليمان هو يف حال اقرتاهنما واجتماعهما يف الذكر؛ ألن اإلسالم واإليمان لهما
حالتان :حالة اقرتان وحالة افرتاق ،اقرتان يف الذكر وافرتاق يف الذكر .وهنا اإلسالم واإليمان اقرتنا يف الذكر
كاقرتاهنما يف حديث جربيل المشهور؛ ولهذا يف حديث جربيل المشهور فسر – عليه الصالة والسالم –
اإلسالم باألعمال الظاهرة ،وفسر اإليمان بما يف القلب ،كما يف هذا الحديث.
يمِ
ِ،وتُق َ
ولِاهلل َ ِو َأ َّن ُِم َح َّمدً َ
اِر ُس ُ فسر اإلسالم باألعمال الظاهرة قال« :ا ْْل ْس ََل ُم َِأ ْنِ ت َْش َهدَ َِأ ْن ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُِ َ
يَل»( ،)1هذه أمور ظاهرة ،فسرها ِاس َت َط ْع َ
تِإ َل ْيه َِسب ً ِ ِ،وت َُح َّجِا ْل َب ْي َ
تِإن ْ ان ََِ،وت َُصو َم َِر َم َض َ
َِ،وت ُْؤت َيِال َّزكَاة َ
الص ََلة َ
َّ
بأمور ظاهرة كقوله هناْ «ِ :اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َي ٌِة» .ويف حديث جربيل لما سأل عن اإليمان قالَ « :أ ْنِ ت ُْؤم َنِباهللِ،
ِ،وت ُْؤم َنِبا ْل َقدَ ر َ
ِخ ْيره َِو َش ِّرهِ»( ،)2وهذه األمور الستة كلها يف القلب، ِ،وا ْل َي ْوم ْ
ِاْلخر َ ِ،و ُر ُسله َ
ِ،و ُكتُبه َ
َو َم ََلئكَته َ
انِفيِا ْل َق ْلبِ»ِ.هذا يف حال االقرتان ،إذا اقرتانا يف الذكر ،فذكرا م ًعا.
يم ُ
ٌِ،و ْاْل َ
فــ« ْاْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ
ويأيت اإلسالم واإليمان مقرتنين يف نصوص كثيرة يف القرآن والسنة ،كقوله تعالى :ﭿ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1راوه مسلم (.)8
( )2المرجع السابق.
( )3رواه البخاري ( ،)1120ومسلم (.)769
( )4رواه الرتمذي ( ،)1024وابن ماجه ( ،)1498وأحمد ( ،)8809وصححه األلباين.
21 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
21
َع َلىِ ْاْل ْس ََلمِ» ،أي :على األعمال والطاعات والعبادات والتقرب إلى – سبحانه وتعالى – بأنواع
القربات.
فالشاهد أن اإلسالم واإليمان تارة يذكران يف النصوص مقرتنين ،كما يف النصوص التي مر ذكر جملة منها
من القرآن والسنة ،وتارة يذكر كل منهما منفر ًدا عن اآلخر ،كقوله – سبحانه وتعالى – عن اإلسالم :ﭿﭸ
ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭾ [آل عمران ، ]19 :وقوله :ﭿﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭾ [آل عمران ، ]85 :وقوله :ﭿ
ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﭾ [المائدة ، ]3 :هنا ذكر اإلسالم مفر ًدا .ويف آيات أخرى كثيرة يذكر اإليمان مفر ًدا:
والقاعدة يف الباب يف معنى وحقيقة اإليمان واإلسالم حال االقرتان واالفرتاق أهنما :إذا اجتمعا افرتقا وإذا
انِفيِا ْل َق ْلبِ»ِِ
يم ُ
ٌِ،و ْاْل َ
افرتقا اجتمعا .إذا اجتمعا – مثل هذا الحديث الذي ذكره المصنفْ ِ« :اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ
-افرتقا أي :إذا جتمعا يف الذكر افرتقا يف المعنى؛ فيكون لإليمان معنى خاص ولإلسالم معنى آخر خاص.
إذا اجتمعا يف الذكر افرتقا يف المعنى .وإذا افرتقا أي :ذكر كل منهما مفر ًدا عن اآلخر ،اجتمعا أي :يف
المعنى ،بمعنى أن كل منهما حال انفراده يشمل معنى اآلخر.
فاإلسالم حال االنفراد كقوله ﭿﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭾ [آل عمران ]19 :يشمل العقيدة والشريعة ،يشمل
أيضا األعمال
الباطن والظاهر .وكذلك الشأن يف اإليمان إذا ذكر مفر ًدا ،فإنه يشمل االعتقاد ويشمل ً
شامال
ً الظاهرة ،كما قال أهل العلم يف تقرير ذلك يف قاعدة عظيمة ،قالوا« :إن من األسماء ما يكون
لمسميات متعددة عند إفراده وإطالقه ،فإذا قرن ذلك االسم بغيره صار داال على بعض تلك المسميات،
واالسم المقرون به دال على باقيها»(.)1
فإذن اإلسالم واإليمان إذا ذكرا م ًعا يف نص واحد ،كما هو الشأن يف هذا الحديث ،يكون لإلسالم معنى
ولإليمان معنى؛ اإلسالم يتناول األعمال الظاهرة كما قال يف الحديثْ «ِ :اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َِي ٌِة»ِ ،واإليمان له
انِفيِا ْل َق ْلبِ» .والمعنى المقرر يف هذا
يم ُ
معنى وهو األمور الباطنة التي تكون يف القلب كما قال هناَ « :و ْاْل َ
الحديث هو نفس المعنى المقرر يف حديث جربيل المشهور كما أسلفت بيان ذلك وتوضيحه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1جامع العلوم والحكم» البن رجب ( )106-105/1ط .األرناؤوط.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 22
انِفيِا ْل َق ْلبِ» أشار انِفيِا ْل َق ْلبِِ،ثم يشير بيده إلى صدره» .لما قال «ِ َو ْاْل َ
يم ُ يم ُ
ٌِ،و ْاْل َ
قالْ « :اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ
اهنَا» ِ،أي :أصل التقوى ومنبعها اهنَاِ،ال َّت ْق َو َ
ىِه ُ – عليه الصالة والسالم – بيده إلى صدره وقال« :ال َّت ْق َو َ
ىِه ُ
القلب ﭿ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭾ [الحج .]32 :ويف الحديث القدسي قالَ « :ياِ
ِواح ٍدِمنْك ِْ
ُم ،)1(»...فالتقوى ِوجنَّك ُْمِ كَانُواِ َع َلى ِ َأ ْت َقىِ َق ْلبِ ِ َر ُج ٍل َ
ِوإن َْسك ُْم َ ع َباديِ َل ْو َِأ َّن َِأ َّو َلك ُْم َ
ِوآخ َرك ُْم َ
منبعها وأصلها القلب؛ فإذا كان القلب متق ًيا هلل – سبحانه وتعالى – تبعته الجوارح يف تقواه ،وإذا كان القلب
يِالج َسد ُِم ْض َغةًِ:
َ بخالف ذلك انحرفت الجوارح بانحرافه ،كما قال – عليه الصالة والسالم–َ « :أَل ََِوإ َّنِف
ب»(.)2 ِالج َسدُ ِ ُك ُّل ُه َ
ِ،أَل ََِوه َيِال َق ْل ُ ِ ِ،وإ َذاِ َف َسدَ ْتِ َف َسدَ َ
ِالج َسدُ ِ ُك ُّل ُه َ
ِص َل َح َ
ت َ إ َذ َ
اِص َل َح ْ
فالتقوى أصلها ومنبعها وأساسها القلب؛ ولهذا ال يمكن أن يحكم على شخص جز ًما ويقينًا بأنه تقي أو
من المتقين ،لكن إذا ظهرت عليه أمارات التقوى وأمارات الصالح يقال« :نحسبه – واهلل حسيبه – من
المتقين ،وال نزكي على اهلل أحدً ا» أو« :ظاهره التقوى» .أما أن يجزم اإلنسان جز ًما فهذا ال يجوز؛ فإن اهلل
تعالى يقول :ﭿ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭾ [النجم . ]32 :التقوى يف القلب ،والقلب ال يطلع عليه إال
اهلل – سبحانه وتعالى .-قد تكون أعمال اإلنسان ظاهرها الصالح ،لكن القلب فيه ما فيه من الدواخل من
نفاق أو رياء أو غير ذلك مما ال يعلمه وال يطلع عليه إال العليم بذات الصدور – جل وعال –؛ فإشارة النبي
اهنَا»ِفيه التنبيه على ذلك. – عليه الصالة والسالم – إلى القلب قائالً«ِ:ال َّت ْق َو َ
ىِه ُ
أيضا على خطورة القلب الشديدة ،وأن هذه المضغة الصغيرة التي يف صدر اإلنسان وجوفه هي
وفيه التنبيه ً
التي يتحرك البدن بموجبها؛ ألن حركة البدن الظاهرة فرع عن مرادات القلوب ،والجوارح ال يمكن أن
تتخلف عن مرادات القلوب؛ ألن القلب أصل وهي تبع له ،كما قال بعض السلف« :القلب ملك وله
جنود ،فإذا صلح الملك صلحت جنوده ،وإذا فسد الملك فسدت جنوده »( .)3هذا مثل للتوضيح ،وإال
فإن القلب يف هذا الباب أشد من المثل المذكور؛ ألنه قد يطيب الملك ويخبث بعض الجند ،وقد يخبث
الملك ويطيب بعض الجند ،لكن القلب إذا طاب طابت الجوارح كلها ،وإذا فسدت فسدت الجوارح
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه مسلم (.)2577
( )2رواه البخاري ( ،)52ومسلم (.)1599
( )3رواه عبد الرزاق يف «المصنف» ( ،221/11رقم ،)20375ومن طريقه البيهقي يف «شعب اإليمان» ( )133/1عن أبي هريرة موقو ًفا.
وقال البيهقي :هكذا جاء موقو ًفا ،ومعناه يف القلب جاء يف حديث النعمان بن بشير مرفوعًا.
23 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
23
اهنَا»ِ اهنَاِ،ال َّت ْق َو َ
ىِه ُ كلها؛ ألن الجوارح ال يمكن أن تتخلف عن مرادات القلب .ولهذا قال هنا«ِ:ال َّت ْق َو َ
ىِه ُ
تنبيها منه – عليه الصالة والسالم – على خطورة القلب .ولهذا ما أحوج المسلم إلى أن يؤتى قلبه التقوى،
ً
الله َِّم ِآتِ ِ َن ْفسي ِ َت ْق َو َاهاِ،
ويف الدعاء المأثور عن نبينا – عليه الصالة والسالم – وهو يف صحيح مسلمُ « :
َّاهاَ ِ،أن َ ِ
ْتِ َول ُّي َهاِ َو َم ْو ََل َها»(.)1 نِ َزك َ َو َزك َِّهاِ َأن َ ِ
ْتِ َخ ْي ُِرِ َم ِْ
هذا الحديث يف إسناده علي بن مسعدة ،قال يف «التقريب»« :صدوق له أوهام»( ،)2وقال البخاري« :فيه
اهنَاِ،ال َّت ْق َو َ نظر» ،أي :علي بن مسعدة .فاإلسناد ضعيف ،لكن قوله«ِ:ال َّت ْق َو َ
()3
اهنَا»ِيشهد له حديث
ىِه ُ ىِه ُ
اهنَاِ ،ويشير إلى صدره ثالث أبي هريرة يف «صحيح مسلم» ،قال – عليه الصالة والسالم –« :ال َّت ْق َِو َ
ىِه ُ
مرات »(.)4
انِفيِا ْل َق ْلبِ» ،وإن كان جاء يف هذا اإلسناد الضعيف ،لكن من حيث
يم ُ
ٌِ،و ْاْل َ
وقولهْ «ِ ِ:اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ
انِفيِا ْل َق ْلبِ» مثل ما المعنى صحيح .معناه حقْ « :اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َِي ٌِة»ِ مثل ما جاء يف حديث جربيلَ « ،و ْاْل َ
يم ُ
جاء يف حديث جربيل – هذا يف حال اقرتاهنما .أما يف حال انفراد كل منهما يف الذكر فإنه يتناول الدين كله
عقيد ًة وشريع ًة.
أورد شيخ اإلسالم بن تيمية $هذا الحديث يف مواضع من كتبه ،وعلق يف أحد المواضع تعلي ًقا ً
نفيسا
انِفيِا ْل َق ْلبِ» .يقول ابن تيمية :$
يم ُ
ٌِ،و ْاْل َ
«اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ
على الحديث .يف الحديث – انتبه -قالْ :
«فاإلسالم أعمال اإليمان ،واإليمان عقود اإلسالم؛ فال إيمان إال بعمل ،وال عمل إال بعقد [قلب]»(.)5
وهذا يف التالزم بين اإلسالم واإليمان ،فاإلسالم واإليمان متالزمان؛ اإلسالم أعمال اإليمان :اإليمان
عقيدة يتبعها شريعة ،يتبعها امتثال وانقياد وطواعية ألوامر اهلل – سبحانه وتعالى – ،فاإلسالم أعمال
اإليمان .واإليمان عقود اإلسالم؛ ألن األعمال الظاهرة ليست بنافعة وال مجدية وال مثمرة لصاحبها شي ًئا
إال إذا كانت مبنية على عقود ،أي :عقيدة صحيحة ثابتة يف القلب ،وإال فإن األعمال مهما كثرت وتنوعت
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه مسلم (.)2722
(« )2تقريب التهذيب» (ص ،704رقم .)4832
(« )3التاريخ الكبير» للبخاري ( ،295-294/6رقم .)2448
( )4رواه مسلم (.)2564
(« )5مجموع الفتاوى» (.)334/7
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 24
ال تنفع ما لم تكن قائمة على عقود اإليمان قال اهلل تعالى :ﭿ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ
ﰅ ﰆ ﰇﭾ [المائدة.]5 :
25 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
25
قا ِلِ:
()1
انِ
يم َ
( )7حدثنا مصعب بن المقدام ،نا أبو هالل ،عن قتادة ،عن أنس ،قال :قال رسول اهلل ﷺََ « :لِإ َ
ل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه».
الشرحِ:
كذلك ابن القيم $له تعليق نفيس جدً ا على الحديث المتقدم يقول فيه « :$فكل إسالم ظاهر ال ينفذ
صاحبه منه إلى حقيقة اإليمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من اإليمان الباطن ،وكل حقيقة
باطنة ال يقوم صاحبها بشرائع اإلسالم الظاهرة ال تنفع ولو كانت ما كانت»( .)2وهذا ً
أيضا فيه التنبيه للتالزم
بين اإلسالم واإليمان ،وأنه ال إسالم إال بإيمان ،وال إيمان إال بإسالم.
ثم أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث ،حديث أنس بن مالك ﭬ ،أن النبي – عليه الصالة
انِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه» .واألمانة هي الشيء الذي يطلب حفظه ،وأن يؤدى لصاحبه
يم َ
والسالم – قالََ « :لِإ َ
واف ًيا كما اؤتمن عليه .وهذا الحديث فيه إخبار النبي – عليه الصالة والسالم – عن مكانة األمانة من
اإليمان ،وأن األمانة حفظها من اإليمان ،وإضاعتها نقص يف اإليمان الواجب؛ ولهذا نفى – عليه الصالة
انِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه».
يم َ
والسالم – اإليمان عمن ال أمانة له قالََ « :لِإ َ
والنفي هنا لإليمان ليس منصبا على أصل اإليمان؛ ألن أصل اإليمان ال ينتفي بفعل كبيرة أو ترك واجب
– ما لم يكن كفر ًا ،وإنما النفي هنا منصب على كمال اإليمان الواجب .فالمنفي ليس أصل اإليمان وإنما
هو كماله الواجب .والكمال كماالن :كمال مستحب ،وكمال واجب ،والكمال المستحب ال يأثم اإلنسان
برتكه وإنما تفوته الفضيلة ،والكمال الواجب يأثم اإلنسان برتكه .ولهذا يأيت يف النصوص نفي اإليمان يف
ترك واجب من واجبات اإليمان أو ارتكاب كبيرة من الكبائر.
ولهذا ينبغي أن يفهم هذا الحديث على بابه؛ ألن من لم يفهم الحديث على بابه قد ينحى به الفهم ويشتط
به الفهم إلى عقيدة الخوارج الذين يك ِّفرون بالكبيرة ويفهمون من مثل هذا الحديث ونظائره نفي أصل
اإليمان وكفر من وقع يف شيء من هذه الكبائر .والحق أن المنفي هنا كمال اإليمان الواجب ،بمعنى أن
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1يف نسخة «كتاب اإليمان» ،يظهر سقط قتادة بين أبي هالل وأنس ،والمثبت من «المصنف» البن أبي شيبة ط .الحوت (.)30320
(« )2الفوائد» البن القيم (ص ،)207ط .بكر أبو زيد.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 26
من ال أمانة له ،أو من ضعفت فيه األمانة ،ضعف إيمانه بحسب ضعف أمانته .ولهذا سيأيت معنا أثر عظيم
عن عروة بن الزبير – رحمه اهلل – فيه توضيح هذا الحديث قال« :ما نقصت أمانة عبد قط إال نقص
انِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه» ،فاإليمان
يم َ ()1
إيمانه» قال « :نقص» ولم يقل ذهب! وهذا فيه توضيح لقولهََ «ِ :لِإ َ
المنفي هنا ليس أصل اإليمان وإنما كمال اإليمان الواجب ،ولهذا قال عروة« :ما نقصت أمانة عبد قط إال
نقص إيمانه» .فاألمانة شأهنا يف الدين عظيم ،ومكانتها علية ،ومن علو مكانتها أن النبي – عليه الصالة
والسالم – نفى يف هذا الحديث اإليمان الواجب عمن ال أمانة له.
واألمانة ،وقد سبق تعريفها وبيان معناها والمراد هبا ،على ثالثة مراتب أو ثالثة أقسام :أمانة مع اهلل ،وأمانة
مع عباده ،وأمانة مع النفس .واألمانة مع اهلل بحفظ دينه ،والعبد مؤتمن على دين اهلل – تبارك وتعالى –
ومطلوب منه أن يحفظ الدين وأن يحافظ عليه ،وأن يؤدي حقوق اهلل – سبحانه وتعالى – كما أمره وكما
أمره رسوله – عليه الصالة والسالم .-واألمانة مع عباد اهلل بأن يؤدي الحقوق للناس ،وأن يؤدي األمانات
إلى أهلها .واألمانة مع النفس :اإلنسان مؤتمن على سمعه ،وعلى بصره ،وعلى يده ،وعلى جميع حواسه؛
ح َِف ِْظ َ ِ
ك»(.)2 اهللَِ َِي ِْ
ظِ ِ اح َفِ ِ
فهو مؤتمن عليها ،ويجب عليه أن يحفظ األمانة .ويف الحديث قالِْ « :
فاألمانة باهبا أوسع من حفظ الودائع أو الرهون التي تتعلق بالناس -هذا من األمانة ،-لكن معناها أوسع
من ذلك .وهي من اإليمان ،نقصها نقص يف اإليمان الواجب كما يدل لذلكم هذا الحديث ،حديث أنس
بن مالك – رضي اهلل عنه وأرضاه .-
واإلسناد هنا فيه أبو هالل – الراوي عن قتادة – صدوق فيه لين( ،)3لكن الحديث جاء من طرق عديدة
يصح هبا الحديث ويثبت عن رسول اهلل ﷺ.
قالِِ:
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ص 12من هذا الملف.
( )2رواه الرتمذي ( )2516وأحمد ( 2669و 2763و ،)2803وصححه األلباين.
(« )3تقريب التهذيب» (ص ،849رقم .)5960وأبو هالل هو محمد بن سليم الراسبي.
27 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
27
بِ ُك ُّل ُِهَ ِ.وا َّلذيِ َن ْفسيِب َيدهِ َل ْو َِش َق ْقت ُْمِ َع ْنِ َق ْلبِ
َّىِي ْس َو َّدِا ْل َق ْل ُ
ِحت َ َس ْو َدا ُءِفيِا ْل َق ْلبَِ ِ،ف ُك َّل َماِا ْز َدا َدِالنِّ َف ُ
اقِا ْز َدا َد ْت َ
ِ،و َل ْو َِش َِق ْقت ُْمِ َع ْنِ َق ْلب ُِمنَاف ٍق َِو َجدْ ت ُُمو ُه َِأ ْس َو َدِا ْل َق ْلبِ».
ُم ْؤم ٍن َِو َجدْ ت ُُمو ُه َِأ ْب َي َضِا ْل َق ْلب َ
الشرحِ:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا األثر عن علي بن أبي طالب – رضي اهلل عنه وأرضاه – قال«ِ:اإليمان
يبدأ» أي :بدايات اإليمان يف القلب «لمظة» أي :نكته صغيرة ونقطة يسيرة وقدر يسير ،ثم تتسع مساحته يف
القلب بتوفيق اهلل – سبحانه وتعالى – ومنه .فأول ما يبدأ ،يبدأ لمظة ،أي يبدأ نقطة يسيرة أو نكته قليلة أو
قدر يسير ،ثم يزداد .وهذا فيه إشارة إلى أن اإليمان يزيد وينقص ،ولزيادته أسباب ولضعفه أسباب ،وسيأيت
لهذا نصوص وآثار يرويها المصنف – رحمه اهلل تعالى .-فأول ما يبدأ اإليمان يف القلب يكون لمظة،
أي :نكته يسيرة أو نقطة قليلة ،ثم يبدأ يزداد وتتسع مساحته يف القلب.
قال«ِ :وإن النِّفاق يبدأ لمظة سوداء في القلب» أي :نقطة سوداء يف القلب« ،فكلما ازداد النِّفاق ازدادت
حتى يسود القلب كله .والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن وجدتموه أبيض القلب ،ولو شققتم
عن قلب منافق وجدتموه أسود القلب» .فهذا فيه حال القلب مع اإليمان قو ًة وضع ًفا ،وأن بدايات اإليمان
يضا النفاق،
يسيرا جدً ا ثم يزداد ،يزداد إلى أن يضيء القلب كله ويشرق باإليمان .وأ ً
قدرا ً
يف القلب تكون ً
بداياته نقطة سوداء يسيرة ،إلى أن يظلم القلب كله تما ًما بالنفاق.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه الرتمذي ( )1999وصححه األلباين .وروى البخاري نحوه ( )7439وفيه« :اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان
فأخرجوه» .ولمسلم نحوه ( )183بلفظ «ذرة من خير» بدل لفظ «ذرة من إيمان».
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 28
وهذا الذي جاء يف هذا األثر جاء معناه يف حديث يرفع إلى النبي – عليه الصالة والسالم – يف تفسير قوله
-جل وعال :-ﭿ ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭾ [المطففين ]14 :ومعنى ران :غطى ،بمعنى أن القلب ينكت
فيه نكتة سوداء ،ثم أخرى ،ثم ثالثة ،ثم رابعة ،إلى أن يغطي السواد القلب كله .ففي الرتمذي وغيره من
َت ِ ُن ْك َت ٌِة ِ َس ْو َدا ُِء ِفيِ ن ِإ َذا ِ َأ ْذن َ ِ
َب ِكَان ْ ِ حديث أبي هريرة أن النبي – عليه الصالة والسالم – قال« :إ َِّن ِا ْل ُم ْؤم َِ
َابِ َو َنز ََعِِ َو ْاس َت ْغ َف َرُ ِ،صق َلِِ َق ْل ُب ُِه» أي :نقي وطهر منها قلبهَ « ،وإ ِْنِزَا َدِِزَا َد ْتَ ِ،حتَّىِ َي ْع ُل َِوِ َق ْل َب ُِهَ ِ،ذ َِ
اكِ َق ْلبهَ ِ،فإ ِْنِت َ ِ
لِفيِا ْل ُق ْرآنِِ:ﭿﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﭾ [المطففين .)1(»]14 :وهذا المعنى انِا َّلذيِ َذك ََرِِ ِ
اهللُِ َع َّزِِ َو َج َّ ِ الر ُِ
َّ
الثابت يف هذا الحديث ،حديث أبي هريرة عن النبي – عليه الصالة والسالم – ،جاء عن جمع من الصحابة
والتابعين يف تفسير قول اهلل – جل وعال – :ﭿﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭾ [المطففين« ، ]14 :ران» أي:
غطى «على قلوهبم ما كانوا يكسبون» أي :من آثام وخطايا ،تكون نكتة تتلوها أخرى إلى أن يظلم القلب
باآلثام .
واإلسناد هنا فيه انقطاع بين عبد اهلل بن عمرو بن هند وعلي بن أبي طالب ﭬ ،فاإلسناد ضعيف ،لكن
المعنى من حيث الجملة له دالئل وشواهد كثيرة يف السنة ويف المأثور عن الصحابة ،وسيأيت بعضها عند
المصنف – رحمه اهلل تعالى .-
قالِِِ:$
( )9حدثنا وكيع ،نا األعمش ،عن سليمان بن ميسرة( ،)2عن طارق بن شهاب ،قال :قال عبد اهلل« :إ َّنِ
َّىِيص َيرِ َل ْو ُِنِ َق ْلبهِ َل ْو َنِ
ىِحت ََت ُِأ ْخ َر َ
ْبِ َف ُتنْك ُ بِ َّ
الذن َ ٌِس ْو َدا ُءُ ِ،ث َّم ُِي ْذن ُ
َتِفيِ َق ْلبهِ ُن ْك َتة َ
ْبِ َف ُينْك ُ ب َّ
ِالذن َ الر ُج َلِ َل ُي ْذن ُ
َّ
ِالر ْبدَ اءِ». َّ
الشاة َّ
الشرحِ:
ثم أورد $هذا األثر عن عبد اهلل بن مسعود ﭬ أنه قال« :إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة
سوداء»؛ «ينكت» ،أي :يوضع «في قلبه نكتة» ،أي :نقطة« ،سوداء» ،أي :لوهنا أسود« .ثم يذنب الذنب
فتنكت أخرى» ،فإذا استمر يف الذنوب استمر نكت السواد يف قلبه إلى أن يسود القلب كله ،ومر معنا يف
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه الرتمذي ( ،)3334وابن ماجه ( ،)4244وأحمد ( )7952واللفظ له ،وحسنه األلباين.
( )2جاء يف نسخة «كتاب اإليمان» (مسيرة) ،والمثبت من «المصنف» ( )30322ط .الحوت.
29 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
29
الحديث المرفوع عن النبي – عليه الصالة والسالم – أن هذا هو الران يف قوله تعالى :ﭿ ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ
ﮀ ﮁ ﮂ ﭾ [المطففين ، ]14 :أي :غطى «على قلوهبم ما كانوا يكسبون» أي :من ذنوب وآثام.
قال«ِ:حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء» ،والربداء أي :ذات لون بين السواد والغبرة« ،حتى يصير لون
قلبه لون الشاة الربداء»ِ،أي :الشاة السوداء التي عليها غربة ،فيصبح لوهنا أسود عليه غبرة ،وهذا منظر قبيح
يف عين الرائي والناظر ،فيكون القلب هبذه الصفة حينما تغطي الذنوب واآلثام – والعياذ باهلل – القلب.
قا ِلِ:
ٍ
ت َِأ َما َنةُِ َع ْبدِ َق ُّطِإ ََّلِ َن َق َصِإِ َ
يما ُن ُِه». ( )10حدثنا وكيع ،عن سفيان ،قال :قال هشام ،عن أبيه ،قالَ « :ماِ َن َق َص ْ
الشرحِِ:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا األثر عن عروة بن الزبير – رحمه اهلل تعالى – أنه قال« :ما نقصت أمانة
عبد قط إال نقص إيمانه» .ويف هذا األثر التنصيص على أن اإليمان ينقص قال« :إال نقص إيمانه»؛ فاإليمان
ينقص ولنقصه أسباب ،ومن أسباب نقصه نقص األمانة ،ونقص الطاعات والعبادات التي أمر – سبحانه
– عبده هبا ودعاه إلى فعلها ،كما أنه ينقص بارتكاب الذنوب والمعاصي واآلثام .فقوله« :إال نقص إيمانه»
فيه التنصيص على أن اإليمان ينقص.
والسنة جاء فيها التنصيص على ذلك يف مثل قوله – عليه الصالة والسالم –َ ...« :ما ِ َر َأ ْي ُ ِ
ت ِم ْنِ ِنَاق َصاتِِ
ن ِ َر َأى ِمنْك ِْ
ُم ِ ُمنْك ًَرا ِ َف ْل ُي َغ ِّي ْر ُِه ِب َيدهَ ِ ،فإ ِْن ِ َل ِْم ِ َي ْستَط ِْعِ ل ِ َود ٍِ
ين ،)1(»...وقوله – عليه الصالة والسالم –َ « :م ِْ َع ْق ٍِ
َو َأ َح ُّ
بِِِإ َلىِِاهللِِِم َنِِِا ْل ُم ْؤمنِِِ َّ
الضعيفِ»( .)3فاإليمان يقوى ويضعف ،ويزيد وينقص ،ولزيادته أسباب
ولنقصانه أسباب.
والمسلم إذا علم ذلك اجتهد يف معرفة أسباب زيادة اإليمان ليفعلها ،واجتهد كذلك يف معرفة أسباب نقص
اإليمان ليجتنبها ،سائالً ربه – تبارك وتعالى – أن يقوي إيمانه ،وأن يثبته ،وأن يحفظه ويعيذه من مضالت
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( ،)304ومسلم (.)79
( )2رواه مسلم (.)49
( )3رواه مسلم (.)2664
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 30
وقوله هنا« :ما نقصت أمانة عبد قط إال نقص إيمانه» فيه أن نقص األمانة من نقص اإليمان ،وهذا فيه دليل
على دخول األعمال يف مسمى اإليمان ،وأن اإليمان ينقص بنقص األعمال ألهنا داخلة يف مسماه؛ فكلما
ترك العبد من أعمال الدين وواجباته ،نقص إيمانه بحسب ما نقص عنده من أعمال اإليمانِ.
أما إسناد األثر السابق [رقم ،]9فقد ذكر الشيخ األلباين $أنه صحيح عن ابن مسعود ،قال« :وهذا األثر
صحيح اإلسناد عن ابن مسعود »(.)2
وأما هذا األثر ،أثر عروة بن الزبير ،ما أذكر شي ًئا حوله .وقفتم على شيء؟
الشارح :إسناده صحيح ،وكيع عن سفيان عن هاشم...نعم ما فيه...لكن خشيت أن فيه علة غير ظاهرة.
قا ِلِ:
وب».
ان َِه ُي ٌ ِ
يم ُ
( )11حدثنا سفيان بن عيينة ،عن عمرو ،عن عبيد بن عمير ،قالْ « :اْل َ
الشرحِ:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا األثر عن عبيد بن عمير أنه قال« :اإليمان هيوب» ،أي :اإليمان له هيبة.
وإذا أكرم اهلل – سبحانه وتعالى – عبده باإليمان ،جعل له هيبة يف قلوب الناس؛ ألن «اإليمان هيوب».
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه الحاكم يف «المستدرك» ،والطرباين يف «المعجم الكبير» ،كما يف «الصحيحة» (.)1585
(« )2كتاب اإليمان» (ص.)19
31 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
31
وإذا كان اإلنسان ذا إيمان صحيح ،وذا صلة قوية بربه – سبحانه وتعالى – جعل اهلل له هيبة يف قلوب
الناس؛ ألن «اإليمان هيوب».
ويروى عن بعض السلف أنه قال« :من خاف اهلل خافه كل شيء ،ومن لم يخف اهلل خاف من كل شيء»،
فهذا مثل قول عبيد بن عمير« :اإليمان هيوب» ،أي :أن اإليمان إذا وجد يف القلب وتمكن من القلب فله
هيبة ،وصاحبه ال يخاف إال اهلل – سبحانه وتعالى – ،ويجعل اهلل – سبحانه وتعالى – له هيبة يف قلوب
مذعورا من كل شيء.
ً الناس .ومن ال إيمان له يصبح قلبه قل ًبا خائ ًفا من كل شيء،
قا ِلِ:
( )12حدثنا ابن عيينة ،عن عمرو ،عن نافع بن جبير ،أن رسول اهلل ﷺ بعث بشر بن سحيم الغفاري يوم
النحر ينادي في منًىَ « :أ َّن ُه ََِل َِيدْ ُخ ُلِا ْل َجنَّ َِةِإ ََّلِ َن ْف ٌس ُِم ْؤمنَ ٌِة».
الشرحِ:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث العظيم ،حديث بشر بن سحيم الغفاري ﭬ ،أن رسول اهلل
ﷺ بعثه يوم النحر ينادي يف منى« :أنه ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة».
هذا إعالن عظيم يدوي يف الناس ،ودعا النبي – عليه الصالة والسالم – يف أيام التشريق غير واحد من
أصحابه إلى أن ينادوا يف الناس؛ لكثرة الجموع التي حجت بيت اهلل الحرام يف ذلك العام ،فأرسل عد ًدا من
أصحابه – عليه الصالة والسالم – ينادي هذا النداء« :ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة» ،أما النفس الكافرة
قال« :أن رسول اهلل ﷺ بعث بشر بن سحيم الغفاري يوم النحر ينادي .»...والحديث جاء له عدة روايات
لِا ْل َجنَّ َِةِإ ََّلِِ ُم ْؤم ٌِ
ن»(.)1 عن بشر ﭬ قال يف بعضها :أن النبي ﷺ خطب أيام التشريق فقال« :إ َّن ُِهِ ََلِِ َيدْ ُخ ُ ِ
ويف بعضها يقول أن النبي ﷺ «أمره أن ينادي بمنًى :أن ال يدخل الجنة إال نفس مسلمة.)2(»...
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه ابن أبي شيبة يف «المصنف» ( )15264ط .الحوت ،والطرباين يف «المعجم الكبير» ( ،)1210وأحمد (.)18957
( )2رواه أبو داود الطيالسي يف «مسنده» ( ،)1395والطرباين يف «المعجم الكبير» (.)1215
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 32
وجاء يف «صحيح مسلم» عن كعب بن مالك «أن رسول اهلل ﷺ بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق،
ن»(.)1 لِا ْل َجنَّ َِةِإ َّ ِ
َلِ ُم ْؤم ٌِ فنادىَ :أ َّن ُِهِ َ ِ
َلِ َيدْ ُخ ُ ِ
وأيضا يف العام الذي قبل عام حجة الوداع ،لما بعث النبي – عليه الصالة والسالم – أبا بكر ﭬ وحج
ً
بالناس وكان معه علي بن أبي طالب ،أمرهم – عليه الصالة والسالم – هبذا النداء( .)2وكان يف ذلك العام
ممن بعث ينادي هبذا النداء« :ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة»ِأبو هريرة ﭬ ،حتى قال أبو هريرة« :فكنت
أنادي حتى صحل صوتي»( )3يعني :حتى بح صويت وأنا أهتف بالناس« :ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة».
وأيضا جاء قبل ذلك يف غزوة خبير ،أمر – عليه الصالة والسالم – من ينادي بذلك قالَ « :ياِِا ْب َنِِا ْلخَ َّطاب ِِ،
ً
َلِا ْل ُم ْؤمن َِ
ُون»( .)4وجاء يف «صحيح البخاري» أنه أمر بال ًال فنادى لِا ْل َجنَّ َِةِإ َّ ِ بِ َفنَادِِفيِالنَّاسَ ِ،أ َّن ُِهِ َ ِ
َلِ َيدْ ُخ ُ ِ ا ْذ َه ْ ِ
بالناس« :إنه ال يدخل الجنة إال نفس مسلمة»(.)5
وجاء هذا النداء يف أحاديث كثيرة جدً ا ،يف مناسبات عديدة ،منها مما يحضرين :يف أيام التشريق ،ويف العام
الذي بعث فيه النبي ﷺ أبا بكر ﭬ ،ويف غزوة خبير؛ جاء يف مناسبات عديدة يأمر من ينادي هبذا النداء:
«ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة».
وهذا فيه بيان مكانة اإليمان العظيمة ،ومنزلته العلية الشريفة ،وأن الجنة ال مطمع ألحد يف أن يدخلها إال
ً
دخوال أوليا بدون حساب وال عذاب .وإذا إذا كان من أهل اإليمان .فإن كان من أهل اإليمان التام ،دخلها
كفرا ،فإنه قد يمر قبل دخول الجنة بمرحلة تطهير وتنقية يف النار،
كان إيما ًنا شابه آثام ومعاص ليست ً
فيدخل النار ليطهر وينقى ثم يدخل بعد ذلك الجنة.
ولهذا اإليمان إذا كان تا ًما منع من دخول النار ،وإذا كان ناق ًصا منع من الخلود فيها .اإليمان إذا كان تا ًما
ً
دخوال أوليا بدون حساب وال عذاب ،أما منع من دخول النار ،يمنع صاحبه من دخول النار ويدخل الجنة
ناقصا ،فإنه يمنع من الخلود فيها؛ ألن النار ال يخلد فيها إال الكافر المشرك ،وأما من كان يف قلبه
إذا كان ً
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1صحيح مسلم (.)1142
( )2انظر رواية أحمد ( ،)594والرتمذي (.)3091
( )3رواه أحمد ( ،)7977والنسائي ( ،)2958وصححه األلباين.
( )4رواه مسلم ( ،)114وأحمد ( ،)203وابن أبي شيبة يف «المصنف» (.)36885
( )5رواه البخاري ( .)3062وعنده ( )6606أنه ﷺ قال لهَ « :ياِبَل َُلُ ِ،ق ْمِ َفأَ ِّذنَِْ:ل ََِيدْ ُخ ُل َ
ِالجنَّةَِإ ََّل ُِم ْؤم ٌن».
33 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
33
الََ ِ :لِ ِإ َل َِه ِإ ََّلِ ِ ِ
اهللُِ إيمان – وإن قل – فإن مآله ومصيره إلى الجنة .ويف الحديثَ « :أ ْخر ُجوا ِم َنِ ِالنَّارِ ِ َم ِْ
ن ِ َق َ ِ
نِالخَ ْيرِِ َماِ َيز ُِنِ َذ َّر ًِةِ»(.)1
َانِفيِ َق ْلبهِِم َِ
َوك َِ
قالِ:
ِ،و َم ْنِ
ِصا َم َ ُِامر ٍئ َِو ََلِص َي ُام ُه َ
ِ،م ْن َِشا َء َ ( )13حدثنا وكيع ،نا هشام بن عروة ،عن أبيه قالََ « :ل َِيغ َُّر َّنك ُْم َ
ِص ََلة ْ
ينِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه». ِص َّل َ
ىَِ،لِد َ َشا َء َ
الشرحِ:
ثم أورد $هذا األثر عن عروة بن الزبير أنه قال« :ال يغرنكم صالة امرئ وال صيامه ،من شاء صام ،ومن
شاء صلى ،ال دين لمن ال أمانة له».
انِل َم ْنِ
يم َ
قوله« :ال دين لمن ال أمانة له» هو نظير ما مر مرفو ًعا إلى النبي – عليه الصالة والسالم –ََ « :لِإ َ
ََل َِأ َما َنةَِ َل ُِه» .والنفي هنا – كما عرفنا ساب ًقا – ليس ألصل اإليمان ،وإنما النفي هنا لكمال اإليمان الواجب.
األمانة واجبة ،وحفظها واجب .وإضاعة األمانة من نقص اإليمان الواجب ،فيأثم اإلنسان وهذا فيه أن
بذلك ويعاقب على ذلك – على تضييعه لألمانة؛ ألن حفظ األمانة من واجبات الدين ،ليست من
مستحبات الدين ،بل من واجبات الدين؛ ولهذا نفى النبي – عليه الصالة والسالم – اإليمان الواجب على
من ال أمانة له.
فقوله« :ال يغرنكم صالة امرئ وال صيامه» يعني :قد يكون اإلنسان ظاهره الصالح ،يصلي ويصوم ،ولكنه
مع ذلك مض ِّيع لألمانة ،وال يحفظ األمانة ،وإذا اؤتمن على قليل من المال أضاعه ،فكيف إذا اؤتمن على
مال كثير جدً ا؟
قال« :ال يغرنكم صالة امرئ وال صيامه ،من شاء صام ،ومن شاء صلى ،ال دين لمن ال أمانة له» .وقوله:
«ال يغرنكم»ِليس فيه هتوين من شأن الصالة والصيام .المحافظة على الصالة والمحافظة على الصيام هذا
من أمارات الخير ودالئله ،لكن إذا كان اإلنسان يصلي ويصوم ولكن يضيع األمانة ،فإضاعته لها دليل على
عظيما من واجبات دينه.
ً أنه أضاع واج ًبا
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه الرتمذي ( )2593وصححه األلباين .وتقدم نحوه (ص 10من هذا الملف).
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 34
قا ِل:
( )14حدثنا عفان ،نا حماد بن سلمة ،عن أبي جعفر الخطم ِّي ،عن أبيه ،عن جدِّ ه عمير بن حبيب بن
َاِو َخ َش ْينَا ُهِ َف َذل َ
كِ ص ،فقيل :فما زيادته؟ وما نقصانه؟ قالِ:إ َذاِ َِذك َْرن َ
َاِر َّبن َ ان َِيزيدُ َِو َينْ ُق ُ ِ
يم ُ
خماشة أنه قالْ « :اْل َ
ض َّي ْعنَاِ َف َذل َ
كِ ُن ْق َصانُهَ» َاِو َ ِ ِ،وإ َذاِ َغ َف ْلن َ
َاِونَسين َ ز َيا َد ُت ُه َ
الشرحِ:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى– هذا األثر العظيم عن الصحابي الجليل عمير الخطمي ﭬ أنه قال« :اإليمان
يزيد وينقص»ِأي :اإليمان يقوى ويضعف ،ولقوته أسباب ولنقصه أسباب.
قال« :اإليمان يزيد وينقص ،فقيل :فما زيادته؟ وما نقصانه؟» ،يعني :بأي شيء يزيد ،وبأي شيء ينقص؟
وهذا السؤال المطروح على عمير ﭬ دليل على حرص السلف على الخير .لما قال« :اإليمان يزيد
وينقص» سألوه« :فما زيادته؟ وما نقصانه؟» ،وهذا السؤال يدل على رغبة يف معرفة أسباب الزيادة لتفعل،
وأسباب النقصان لترتك وتجتنب ،ليحذر منها.
«فقيل :فما زيادته؟ وما نقصانه؟ قال :إذا ذكرنا ربنا وخشيناه فذلك زيادته ،وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك
نقصانه» ،أي :أن اإليمان يزيد بالذكر وبالطاعة وبصالح القلب بين العبد وبين ربه – سبحانه وتعالى –،
وينقص بالغفلة وباللهو والتضييع لألعمال .فبين – رضي اهلل عنه وأرضاه – األسباب التي تزيد اإليمان،
وكذلك األسباب التي تنقص اإليمان.
وكون اإليمان يزيد هذا نص عليه يف القرآن يف مواضع ،مثل قول اهلل – سبحانه وتعالى – :ﭿﭣ ﭤ ﭥ
[التوبة]124 : ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭾ
،وقول اهلل – عز وجل – :ﭿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ
فالشاهد أن هذا األثر عظيم جدً ا يف بابه ،عن عمير بن حبيب الخطمي ﭬ ،يف بيان أن اإليمان يزيد
وأيضا بيان أسباب زيادة اإليمان ،وأسباب نقص اإليمان.
وينقصً ،
و أبو جعفر الخطمي يروي هذا األثر عن أبيه عن جده .يقول الشيخ [األلباين] رحمه اهلل« :يزيد بن عمير،
لم أجد له ترجمة»(.)3
وقفت على كلمة لعبد الرحمن بن مهدي $يستأنس هبا جدً ا يف هذا المقام ،قال« :كان أبو جعفر وأبوه
وجده قو ًما يتوارثون الصدق بعضهم عن بعض»(.)4
واألثر معناه صحيح ،ودالئل صحة معناه وشواهد ذلك كثيرة يف كتاب اهلل وسنة نبيه ﷺ ،وهو يف الوقت
نفسه جميل يف مبناه وداللته على المقصود.
قا ِلِ:
( )15حدثنا ابن نمير ،عن سفيان ،عن عبيد اهلل ،عن نافع ،عن ابن عمر ،أنه كان يقول« :ال َّل ُه َّم ََِلِ َتنْز ْعِمنِّيِ
انِك ََم َ
اِأ ْع َط ْيتَنيهِ». يم َ
ْاْل َ
الشرحِِ:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى– هذا األثر عن ابن عمر أنه كان يقول يف دعائه« :اللهم ال تنزع منِّي اإليمان كما
أعطيتنيه».
قوله ﭬ« :كما أعطيتنيه» ،فيه أن اإليمان عطية من اهلل وهبة ومنة ،يمن – سبحانه وتعالى – باإليمان على
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( ،)304ومسلم (.)79
( )2رواه مسلم (.)49
(« )3كتاب اإليمان» (ص.)20
(« )4هتذيب الكمال» للمزي ( )393/22تحت ترجمة عمير بن يزيد (رقم .)4522
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 36
وهذا فيه أن قلب العبد بيد اهلل ،وأن قلوب العباد بيده – سبحانه وتعالى – يق ِّلبها كيف يشاء ،كما جاء يف
الله َّمِِ
حديث أم سلمة – ولعله سيأيت عند المصنِّف – ،أن النبي – عليه الصالة والسالم – كان أكثر دعائهُ « :
تِ َق ْلبيِ َع َلىِدين َ ِ
ك .قالت :قلت :يا رسول اهلل ،أو إن القلوب لتتقلب؟ قالَ :ن َع ْمَ ِ،ماِم ْنِِ بِا ْل ُق ُلوبَ ِ،ث ِّب ْ ِ
ُم َق ِّل َ ِ
لِ َأ َق َام ُهَ ِ،وإ ْنِِ َشا َِءِ نِ َأ َصابعِِاهللَ ِ،فإ ْنِِ َشا َءِِ ِ
اهللُِ َع َّزِِ َو َج َّ ِ َلِ َأ َِّنِ َق ْل َب ُِهِ َب ْي َنِِ ُأ ْص ُب َع ْينِِم ِْ
نِ َبنيِآ َد َمِِم ْنِِ َب َشرٍِِإ َّ ِ
َخ ْلقِِاهللِِم ِْ
َأزَا َغ ُِه»(.)1
«فإنِشاءِأقامه» ،أي :على اإليمان« ،وإنِشاءِأزاغه» ،أي :أضله عن اإليمان .فاألمر بيد اهلل – سبحانه
وتعالى – ،ولهذا قال ﭬ« :اللهم ال تنزع منِّي اإليمان كما أعطيتنيه» ،والمراد هبذا أي :ثبتني على دينك،
ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﭾ [إبراهيم.]27 :
وسبق أن أشرت إلى دعوة عظيمة يف هذا الباب ،دعا هبا نبينا – عليه الصالة والسالم – ،قال« :ال َّل ُه َّمِز َِّينَّاِ
ين»(.)2 اج َع ْلن ُ
َاِهدَ اة ًُِم ْهتَد َِ ِ،و ْ
يمان َ
ِاْل َ
بزينَة ْ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه أحمد ( .)26576ونحوه عند الرتمذي ( ،)3522وصححه األلباين.
( )2رواه النسائي ( ،)1305وصححه األلباين.
37 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
37
ن ِك ِّ ِ
ُل ِ َشرَِ»(،)1 اح ًِة ِلي ِم ِْ
ت ِ َر َ اج َعلِ ِا ْل َح َيا َِة ِز َيا َد ًةِ ِلي ِفي ِك ُِّلِ ِ َخ ْيرٍَ ِ ،و ْ
اج َعلِ ِا ْل َم ْو َ ِ آخ َرتي ِا َّلتي ِف َيها ِ َم َعاديَ ِ ِ،و ْ
يمانِ»( ،)2وهذا كله ِ،و َم ْنِت ََو َّف ْي َت ُهِمنَّاِ َفت ََو َّف ُهِ َع َل ْ
ىِاْل َ ومر معنا قري ًبا« :ال َّل ُه َّم َِم ْن َِأ ْح َي ْي َت ُهِمنَّاِ َف َأ ْحيهِ َع َل ْ
ىِاْل ْس ََلم َ
فيه أن األمر كله بيد اهلل – تبارك وتعالى .-
قا ِلِ:
انِ
يم ُ
( )16حدثنا يزيد بن هارون ،عن العوام ،عن عل ِّي بن مدرك ،عن أبي زرعة ،عن أبي هريرة ،قالْ « :اْل َ
ان».
يم ُِ
ِاْل َ
اج َع ُه ْ انَ ِ،ف َم ْن ََِل َمِ َن ْف َس ُه َِو َر َ
اج َع َِر َ يم ُ نَز ٌهَ ِ،ف َم ْنِ َزنَاِ َف َار َق ُه ْ
ِاْل َ
الشرحِ:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى– هذا األثر العظيم عن أبي هريرة ﭬ أنه قال« :اإليمان نزه» ،نزه :من النزاهة،
أي :صفة اإليمان النزاهة والطهارة والنقاء ،هذه صفة اإليمان« .اإليمان نزه» ،أي :صفته المالزمة له
النزاهة والطهارة من الذنوب واآلثام واألدران ،ومن خسائس األعمال« .اإليمان نزه» :صفته النزاهة.
ثم بين بالمثال نزاهة اإليمان ،فقال ﭬ« :فمن زنا» -هذا مثال « -فمن زنا فارقه اإليمان ،فمن الم نفسه
وراجع راجعه اإليمان» ،وهذا فيه التوضيح لقوله ﭬ« :اإليمان نزه» ،أي :صفته النزاهة ،والنزاهة هي
الطهارة والصفاء والنقاء .ثم ضرب ً
مثاال لتوضيح نزاهة اإليمان وطهارة اإليمان ونقاء اإليمان بحال من
[اإلسراء]32 : يزين – والعياذ باهلل – من يقع يف فاحشة الزنى :ﭿﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﭾ
،قال« :فمن زنا فارقه اإليمان».
واإليمان الذي يفارق الزاين ليس أصل اإليمان ،وإنما اإليمان الذي يفارق الزاين كمال اإليمان الواجب.
يِ
َلَِ َيزْن ِ
ومثل هذا تما ًما ما صح يف الحديث ،حديث أبي هريرة ،أن النبي – عليه الصالة والسالم – قالِ « :
ن»( ،)3فالنفي هنا ليس ألصل اإليمان ،وإنما هو لكمال اإليمان الواجب.
ينِِ َيزْنيِِِ َو ُه َِوِِ ُم ْؤم ٌِ
الزَّانيِِح َِ
فالمفارقة هنا ليست مفارقة أصل اإليمان لمن وقع يف الزنى ،وإنما مفارقة لكمال اإليمان الواجب .ومن
فارقه كمال اإليمان الواجب استحق العقوبة؛ من فارقه كمال اإليمان الواجب بفعل محرم أو ترك طاعة
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه مسلم (.)2720
( )2رواه الرتمذي ( ،)1024وابن ماجه ( ،)1498وأحمد ( ،)8809وصححه األلباين.
( )3رواه البخاري ( ،)2475ومسلم ( ،)57وغيرهما.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 38
قال« :فمن زنا فارقه اإليمان ،فمن الم نفسه وراجع» ،المراجعة هنا :التوبة والندم« ،راجعه اإليمان»« .فمن
الم نفسه» ،أي :على فعلها لهذا الذنب« ،وراجع» ،أي :تاب وعاد إلى اهلل – سبحانه وتعالى – والتوبة:
رجوع إلى اهلل برتك المعصية والندم على فعلها.
«فمن الم نفسه وراجع راجعه اإليمان» ،واإليمان الذي يراجعه هو اإليمان الذي ذهب عنه ،وهو اإليمان
الواجب .وقد جاء من حديث أبي هريرة بسند ثابت ،يف سنن أبي داود وغيره ،أن النبي ﷺ قال« :إِ َِذاِ َِز َِنىِِ
ج َِعِإِ َِل ِْيهِ»(َِ « .)1أ ِْق َِل َِع» يعني :تاب وندم ورجع إلى ظ َِّلةِِ َِفإِ َِذ َِ
اِأ ْقِ َِل َِعِ َِر َِ انِ َِع َِلىِ َرِ ِْأ ِ
سهِِ َِكال ُِّ انِ َِف َِ
ك َِ يم ُِ
ْل َِ ا ِْل َِع ِْبدُِِخَِ َِر َِ
جِمِنِْ ُِهِاِ ْ ِ
ىِر ْأِ ِ
سهِ ِ َِكال ُّظِ َِّلةِ» ،هذا فيه داللة على أن ان ِ َِع َِل َِ ج َِع ِإِ َِل ِْيهِ» اإليمان .وقولهَِ « :ف َِ
ك َِ اهلل – سبحانه وتعالى –َِ « ،ر َِ
أصل اإليمان لم ينتف عنه؛ ألن الظلة مالزمة لصاحبها ليست مفارقة له ،ففيه داللة على أنه الزال يف ظل
اإليمان ،لم يفارق اإليمان كلية وتما ًما ،لكنه استحق بفعله لهذه الكبيرة أن ينف عنه اإليمان الواجب الذي
يستحق بموجبه الثواب بال عقاب .أما إذا ارتكب هذه الذنوب ،فإنه عرض نفس للعقوبة ،ويكون بذلك
قد ظلم نفسه.
ونكتفي هبذا ،واهلل تعالى أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد ،وآله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1ورد هبذا اللفظ يف «صحيح الجامع الصغير» ( )586وصححه األلباين .وروى أبو داود ( )4690والرتمذي ( )2625نحوه.
39 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
39
الدرس الثالث
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقولِاْلمامِالحافظِأبوِبكرِ،عبدِاهللِبنِِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويفِ،يفِكتابِ«اْليمان»ِِ:
( )17حدثنا حفص بن غياث ،عن محمد بن عمرو ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول اهلل
ِخ ُل ًقاِ». يمان َ
ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ ﷺَ « :أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ
ينِإ َ
( )18حدثنا محمد بن بشر ،نا محمد بن عمرو ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول اهلل ﷺ:
ِخ ُل ًقا». يمان َ
ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ « َأك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ
ينِإ َ
الشرحِ:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد،
أورد اإلمام ابن أبي شيبة – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث ،حديث أبي هريرة ﭬ أن النبي – عليه الصالة
ِخ ُل ًقاِ» .أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث يف «كتاب يمان َ
ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ والسالم – قالَ «ِ:أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمِن َ
ينِإ َ
اإليمان» لبيان مكانة الخلق يف اإليمان ،وأن الدين اإلسالمي دين األخالق الفاضلة واآلداب الكاملة ،وأن
العبد كلما عظم حظه ونصيبه من الخلق كان ذلك أزيد يف إيمانه ،فاإليمان يزيد بأمور منها حسن الخلق؛
()1
ِالَ ْخ ََلقِ» تِلُت َِّم َم َ
ِصال َح ْ ألن حسن الخلق من اإليمان وقد قال – عليه الصالة والسالم –« :إن ََّماِ ُبع ْث ُ
ولما سئل -عليه الصالة والسالم -عن أكثر ما يدخل به الناس الجنة قالَ « :ت ْق َوىِاهلل َِو ُح ْس ُنِالخُ ُلقِ»(،)2
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري يف «األدب المفرد» ( ،)273وصححه األلباين .وانظر «الصحيحة» (.)45
( )2رواه أحمد ( ،)9696والرتمذي ( ،)2004وحسنه األلباين.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 40
اِي ْو َمِالق َي َامة َِأ َحاسنُِك ُْم َِأ ْخ ََل ًقا»( ، )1واألحاديث يف هذا الباب ويف هذا المعنى وقالَ « :أ ْق َر ُِبك ُْمِمن َ
ِّيِم ْجلِ ًس َ
عنه – صلوات اهلل وسالمه عليه -كثيرة جدً ا.
يما ًناِ» هذا صريح يف تفاضل أهل اإليمان يف اإليمان ،وأهنم ليسوا وقوله يف هذا الحديثَ ِ«ِ:أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ
ينِإ َ
فيه على درجة واحدة بل بينهم تفاوت ،فمنهم من إيمانه أكمل ومنهم من إيمانه دون ذلك ،ولهذا قال –
يمانًا» .فهذا فيه الدليل على تفاوت أهل اإليمان يف اإليمان عليه الصالة والسالم –َ « :أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ
ينِإ َ
وأهنم يف اإليمان ليسوا على درجة واحدة .قال اهلل تعالى :ﭿﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ
والخلق يراد به التعامل الطيب واألدب الرفيع وحسن المعاشرة ،ويراد به ما هو أوسع من ذلك ،أال وهو
الدين كله كما قال اهلل – سبحانه وتعالى – :ﭿ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭾ [القلم .]4 :قال ابن عباس ﭭ وغيره
أي :على دين عظيم ،ولهذا لما سئلت عائشة ڤ عن خلق النبي -عليه الصالة والسالم -قالتَ « :فإ َّنِ
َانِا ْل ُق ْر َِ
آن»( ،)2أي أنه -عليه الصالة والسالم -مؤتمر بأوامر القرآن منته عن نواهي ُخ ُل َقِ نَب ِّيِاهلل ِﷺ ِك َ
القرآن ،ليس يف القرآن أمر إال وهو ممتثله -عليه الصالة والسالم -على التمام والكمال وال يف القرآن
هني إال وهو منته عنه -عليه الصالة والسالم -فهذا خلقه :القرآن العظيم.
وهذا فيه تنبيه إلى فائدة مهمة يف باب األخالق أال وهي أن االعتقاد الصحيح والتوحيد واإلخالص هلل -
تبارك وتعالى -هو أساس األخالق ،ومن فقد التوحيد فقد األخالق ،حتى وإن حسن تعامله وحسنت
معاشرته ،فإن هذه المعاشرة الطيبة واآلداب الحسنة التي يعامل هبا الناس ليست بنافعته يوم يلقى اهلل -
سبحانه وتعالى -ألنه فقد أساس األخالق .وأي خلق عند من خلقه اهلل -سبحانه وتعالى -ثم يتجه
بالعبادة إلى غيره ويرزقه اهلل -سبحانه وتعالى -ويتجه بالسؤال والطلب إلى غيره؟ أين الخلق؟! وأين
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه الرتمذي ( ،)2018وصححه األلباين.
( )2رواه مسلم ( ،)746وأبو داود ( ،)1342والنسائي (.)1601
41 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
41
األدب؟ وأساس األدب األدب مع اهلل رب العالمين -سبحانه وتعالى ،-فإذا فقد األدب مع اهلل -جل
وعال -فال خلق وال خالق ،الخلق عديم يف من عدم التوحيد وال خالق له يوم يلقى اهلل -سبحانه وتعالى
،-أي ال حظ له والنصيب من ثواب اهلل وأجره يوم القيامة .ولهذا ينبغي أن يعلم أن الخلق ح ًقا واألدب
الرفيع صد ًقا هو ما قام به اإلنسان يرجو به ما عند اهلل ،أما التعامالت التي تكون بين بعض الناس لمصالح
ومآرب وإذا انتهى مأرب اإلنسان ومقصده تغيرت المعاملة وتغير السلوك ،فهذا التعامل يف ميزان اإليمان
وميزان الشرع ليس بشيء ،أي ليس بنافع لصاحبه .فالخلق ح ًقا وصد ًقا هو ما يقدمه اإلنسان يرجو به وجه
فالشاهد أن هذا الحديث العظيم المبارك يدل على مكانة األخالق يف اإلسالم ومنزلتها العلية يف اإليمان،
وأهنا من اإليمان ،وأن الزيادة يف األخالق حف ًظا لها ومحافظة عليها زيادة يف اإليمان ،وأكمل الناس أو
أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خل ًقا .
وهذا الحديث حديث أبي هريرة أورده -رحمه اهلل تعالى -من طريقين عن محمد بن عمرو ،ومحمد بن
وأيضا له شواهد ،يأيت منها شاهد عند
ً عمرو حسن الحديث ،فالحديث إسناده حسن ،لكن له طرق
المصنِّف $وله شواهد كثيرة ،فالحديث صحيح ثابت عن رسول اهلل -صلوات اهلل وسالمه عليه .-
قا ِلِ:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 42
( )19حدثنا حفص ،عن خالد ،عن أبي قالبة ،عن عائشة ،قالت :قال رسول اهلل ﷺَ « :أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ
ينِ
ِخ ُل ًقا». يمان َ
ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ إ َ
الشرحِ:
ثم أورد المصنف -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث؛ أورده من حديث أم المؤمنين عائشة ڤ .واإلسناد
فيه أبو قالبة وهو عبد اهلل بن زيد الجرمي ،لم يدرك عائشة ڤ ،لكن الحديث صحيح ثابت بما له من
شواهدِ.
قا ِلِ:
( )20حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ،عن سعيد بن أبي أيوب ،عن ابن عجالن ،عن القعقاع ،عن أبي
ِخ ُل ًقا». يمان َ
ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ صالح ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول اهلل ﷺَ « :أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ
ينِإ َ
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -حديث أبي هريرة المتقدم من طريقين مرا معنا ،أورده -رحمه اهلل تعالى -
من هذا الطريق عن ابن عجالن عن القعقاع عن أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة ﭬ قال« :قال
رسول اهلل ﷺ .»...وهذا اإلسناد كما قال األلباين -رحمه اهلل تعالى -أحسن من اإلسناد السابق المتقدم من
طريقين( .)1وعلى ٍّ
كل ،الحديث صحيح ثابت عن رسول اهلل -صلوات اهلل وسالمه عليه .-
قا ِلِ:
( )21حدثنا أبو أسامة ،عن جرير بن حازم ،عن يعلى بن حكيم ،قال :أكبر ظنِّي أنه [قال] :عن سعيد بن
ِاْل َخ ُِر». اِرف َع َِأ َحدُ ُه َِم ُ
اِرف َع ْ َاِجمي ًعاَ ِ،فإ َذ ُ
انِ ُقرن َ
يم َ جبير ،قال :قال ابن عمر« :إ َّنِا ْل َِ
ح َيا َء َِو ْاْل َ
الشرحِ:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1كتاب اإليمان» (ص.)20
43 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
43
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن ابن عمر ﭭ موقو ًفا عليه ،ورواه الحاكم يف «المستدرك»
والبيهقي يف «شعب اإليمان» عن ابن عمر مرفو ًعا إلى النبي ﷺ .قال« :إن الحياء واإليمان قرنا جمي ًعا»،
أي :أهنما صنوان ومتالزمان وال ينفك أحدهما عن اآلخر ،بينهما تالزم ال ينفك أحدهما عن اآلخر فإذا
رفع أحدهما رفع اآلخر :إذا رفع اإليمان من الشخص رفع الحياء ،وإذا رفع الحياء رفع اإليمان .فهذا فيه
أن الحياء قرين اإليمان ومالزم اإليمان ،وال ينفك عن اإليمان ،وهذا فيه بيان مكانة الحياء من اإليمان
وأن مكانته من اإليمان مكانة عظيمة جدا؛ ألن منزوع الحياء الذي ال يستحيي من اهلل سبحانه وتعالى -
وأعظم الحياء الحياء من اهلل -وال يستحيي من عباد اهلل ،أي خير يرجى ممن كانت هذه حاله؟! أي خير
يرجى ممن كانت هذه حاله إذا كان ليس فيه حياء من اهلل وال حياء من عباد اهلل -جل وعال -؟ ،وقد صح
ِح َّق َ
ِالح َياءِ»( )1وأعظم الحياء است َْح ُيواِم َنِاهلل َ
يف الحديث عن النبي -عليه الصالة والسالم -أنه قالْ «:
الحياء من رب العالمين وخالق الخلق أجمعين -سبحانه وتعالى -الذي خلق هذا اإلنسان وأوجده،
وشق له السمع والبصر ،وأوجد له هذه المنافع والمصالح ،ويسر له أموره ومصالحه ،فأعظم الحياء وأجله
شأ ًنا الحياء من اهلل -سبحانه وتعالى -رب العالمين .فإذا نزع الحياء من الشخص يفسد ،و«م َّم َ
اِأ ْد َر َكِ
ْت»( ،)2من ال حياء عنده يصنع من األعمال السيئة َّاسِم ْنِ َكَلَمِالنُّ ُب َّوةِالُو َلىِ:إ َذاِ َل ْمِت َْست َْحيِ َف ْ
اصن َْع َِماِشئ َ ِ الن ُ
والخصال الذميمة والتصرفات المقيتة وال يبالي؛ ألنه منزوع الحياء.
فالحياء من اإليمان وقد جاء يف الحديث أن النبي -عليه الصالة والسالم -قالَ « :وا ْل َح َيا ُءِ ُش ْع َبةٌِ م َنِ
َاهاِإ َما َطةُِ ُّونُِ ِ-ش ْع َبةًَ ِ،ف َأ ْف َض ُل َهاِ َق ْو ُل ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ
ِ،و َأ ْدن َ ونَِ ِ-أ ْوِب ْض ٌع َِوست َ
انِب ْض ٌع َِو َس ْب ُع َ
يم ُ
يمانِ» ،قالْ « :اْل َ
ْاْل َ
يمانِ»(.)3
ِاْل َ ْالَ َذىِ َعنِال َّطريق َِ
ِ،وا ْل َح َيا ُء ُِش ْع َبةٌِم َن ْ
وجاء يف الصحيحين من حديث ابن عمر ﭭ أن النبي ﷺ مر برجل يعظ أخاه يف الحياء -أي يقول له:
يمانِ»(.)4 لماذا تستحيي ،ولماذا الحياء؟ -فقال له النبي ﷺَ « :د ْع ُهِ َفإ َّن َ
ِالح َيا َءِم َنِاْل َ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه الرتمذي ( ،)2458وحسنه األلباين.
( )2رواه البخاري (.)6120
( )3رواه مسلم (.)35
( )4رواه البخاري ( ،)24ومسلم (.)36
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 44
فالحياء بركة على صاحبه ،وهو من إيمان الشخص ،وكلما قوي الحياء يف العبد قوي الخير ،والناس
أيضا جاء يف حديث آخر أن النبي -عليه الصالة والسالم -قال:
عظيما ،ولهذا ً
ً يتفاوتون يف الحياء تفاو ًتا
ان»( ،)1وهذا فيه دليل واضح على تفاضل الناس يف الحياء ،فيه أن ح َِي ُِ
اِأ َِّمتِيِ ُِع ِْث َِم ُِ يمانِ ِ َِو َِأ ِْ
اْل َِ
نِ ْ ِ «ا ِْل َِ
ح َِيا ُِء ِمِ َِ
أيضا تفاضل الناس يف الحياء وأهنم يف الحياء ليسوا على درجة واحدة ،بل بينهم
الحياء من اإليمان ،وفيه ً
تفاوت .فالحياء من اإليمان وكلما زاد الحياء يف الشخص زاد إيمانه؛ ألن الحياء من اإليمان وزيادته زيادة
أيضا يف حديث آخر أنه -عليه الصالة
إيمان ،وإذا نزع الحياء من الشخص تما ًما فأين الخير؟ وقد ثبت ً
ِخ ْي ٌرِ ُك ُّل ُِه»( ،)2فإذا فقد الحياء من الشخص فقد الخير.
والسالم -قال« :ا ْل َح َيا ُء َ
قال هنا «ِِ:إن الحياء واإليمان قرنا جمي ًعا» ،أي :جعل اهلل -سبحانه وتعالى -شأهنما أهنما مقرتنين
متالزمين ،ال ينفك أحدهما عن اآلخر ،وقد فسر النبي -عليه الصالة والسالم -معنى قوله« :قرنا جمي ًعا»
بقوله« :فإذا رفع أحدهما رفع اآلخر» يعني :إذا رفع اإليمان رفع الحياء وإذا رفع الحياء رفع اإليمان ألهنما
متالزمان .
كذلك مما ورد يف أن الحياء من اإليمان ما رواه الرتمذي وغيره بسند ثابت من حديث أبي هريرة ﭬ أن
الج َفا ُءِ
ِ،و َ ِ،وال َب َذا ُءِم َن َ
ِالج َفاء َ يِالجنَّة َ
َ انِف
يم ُ
ِ،واْل َ
يمان َ
الح َيا ُءِم َنِاْل َ
النبي -عليه الصالة والسالم -قالَ « :
فيِالنَّارِ»( ،)3ففيه ً
أيضا دليل أن الحياء من شعب اإليمان ،وأن العبد كلما ازداد حياء زاد إيمانه ،واإليمان
أيضا مقابله البذاء -وهو ضد الحياء -يفضي بصاحبه إلى
هو الذي يفضي بصاحبه إلى جنات النعيم .و ً
الجفاء ،والجفاء يفضي به إلى النار ،والعياذ باهلل.
قا ِلِ:
( )22حدثنا غندر ،عن شعبة ،عن سلمة ،عن إبراهيم ،عن علقمة ،قال :قال رجل عند عبد اهلل :إنِّي مؤمن،
!ِو َلكنَّاِن ُْؤم ُنِباهلل َِو َم ََلئكَته َِو ُكتُبه َِو ُر ُسلهِ».
قالُ « :ق ْلِ:إنِّيِفيِا ْل َجنَّة َ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه ابن عساكر يف «تاريخه» ،وصححه األلباين يف «الصحيحة» (.)1828
( )2رواه مسلم ( ،)37وأبو داود (.)4796
( )3رواه الرتمذي ( )2009عن أبي هريرة ،وابن ماجه ( )4184عن أبي بكرة ،وصححه األلباين.
45 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
45
الشرحِ:
ثم أورد المصنف -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن علقمة ،قال « :قال رجل عند عبد اهلل –أي ابن مسعودِ
ﭬِ« :-إنِّي مؤمن ،قال :قل :إنِّي في الجنة! ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله».
هذا األثر -وجملة من اآلثار تأيت بعده متوالية -كلها البحث فيها والكالم فيها عن مسألة معروفة عند أهل
العلم يف كتب العقائد بمسألة االستثناء يف اإليمان .والمصنف $بد ًءا من هذا األثر وجملة من اآلثار
عديدة تأيت بعده كلها يف هذه المسألة :مسألة االستثناء يف اإليمان .واالستثناء يف اإليمان هو أن يقول من
سئل أمؤمن أنت؟ هل أنت مؤمن؟ يقول :أنا مؤمن ويستثني ،ومعنى يستثني أن يقول :أنا مؤمن إن شاء
مثال عندما يسأل أمؤمن أنت؟ يقول :آمنت باهلل ومالئكته ،مثل ما
اهلل ،أو يقول :أنا مؤمن أرجو ،أو يقول ً
أيضا من صيغ االستثناء .إذا قيل لشخص أمؤمن أنت؟ قال :آمنت باهلل
وجه إلى ذلك ابن مسعود ،هذا ً
أيضا استثناء يف اإليمان .أو إذا سئل :أمؤمن أنت؟ يقول :ال إله
ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر ،هذا ً
إال اهلل ،أو يقول :أشهد أن ال إله إال اهلل ،هذا كله يسمى عند أهل العلم استثناء يف اإليمان.
والمراد باالستثناء يف اإليمان :عدم الجزم والقطع .ال يجزم اإلنسان وال يقطع لنفسه باإليمان .لماذا؟ ألن
اإليمان عند أهل السنة يتناول الدين كله؛ يتناول العقيدة التي يف القلب ،ويتناول األقوال التي باللسان،
ويتناول األعمال الصالحات الزاكيات الكثيرات ،كل ذلكم يتناوله اسم اإليمان ﭿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ
فاإليمان عند اإلطالق يتناول الدين كله :عقيدة وشريعة .وهذا أمر ال يجزم المسلم لنفسه به ،ال يجزم أنه
أتى باألعمال كلها ،ال يجزم أنه أتى بالطاعات كلها ،ال يجزم أنه كمل اإليمان ،ومر معنا قري ًباَ « :أك َْم ُلِ
ِخ ُل ًقا» .فهذه الخصال خصال اإليمان وهي كثيرة -وعرفنا ساب ًقا تفاوت أهل يمان َ
ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ ا ْل ُم ْؤمن َ
ينِإ َ
اإليمان فيها -ال يجزم اإلنسان لنفسه أنه كملها ،ولهذا كان االستثناء يف اإليمان سنة ماضية لدى السلف
أمورا ينبغي
قاطبة ،إذا سئل أحدهم عن اإليمان يستثني يف إيمانه ،وهم عندما يستثنون يف اإليمان يلحظون ً
أن نتنبه لها وهي:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 46
أوَل :أن اإليمان كما عرفنا يشمل الدين كله ،يشمل فعل األوامر وترك النواهي ،ويشمل الرغائب والنوافل
ًِ
والمستحبات ،كل ذلكم يشمله اإليمان ،وال أحد يجزم لنفسه أنه كمل األعمال وأتى هبا على التمام
والكمال .فإذا سئل :أمؤمن أنت؟ يقول :أنا مؤمن إن شاء اهلل ،أو :مؤمن أرجو ،مالح ًظا بذلك أن يف
ً
أعماال كثيرة وطاعات عديدة وعبادات متنوعة ،وال يجزم لنفسه أنه كملها. اإليمان
ثان ًِيا :أن اإليمان النافع هو المتقبل الذي تقبله اهلل -سبحانه وتعالى -من العامل ،وقد قال اهلل -سبحانه
وتعالى -يف صفة المؤمنين الكمل :ﭿﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭾ [المؤمنون ،]60:وقد جاء يف
«المسند» وغيره أن عائشة ڤ سألت النبي -عليه الصالة والسالم -عن هذه اآلية ،قالتَ « :أ ُه ُمِا َّلذ َ
ينِ
ونِ الخَ ْم َرِِ َو َي ْسر ُق َِ
ون؟» .هل هذا هو معنى قوله تعالى :ﭿﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭾ؛ أي :يفعلون ما َي ْش َر ُب َ
يفعلون من معاصي وهم خائفون من العقوبة؟ هل هذا معنى اآلية؟ قال -عليه الصالة والسالم ََ « :-ل َِياِ
ون َِأ ْن ََِلِ ُت ْق َب َلِمن ُْه ِْم»( .)1فاإليمان
ِ،و ُه ْم َِيخَ ا ُف َ
ون َ ون َِو ُي َص ُّل َ
ون َِو َيت ََصدَّ ُق َ وم َ ِ،و َلكن َُّه ُِمِا َّلذ َ
ين َِي ُص ُ ِالصدِّ يقِ َ
ْت ِّبن َ
النافع هو اإليمان المتقبل ،ومن الذي يجزم أن أعماله متقبلة؟ وابن عمر ﭭ يقول« :لو علمت أن اهلل
تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت .تدري ممن يتقبل اهلل؟ ﭿﮙ
ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﭾ [المائدة .)2(» ]27 :إذن مما يالحظه السلف -رحمهم اهلل -يف االستثناء يف اإليمان خوف
تقصيرا يستوجب
ً عدم القبول ،فيقول :أنا مؤمن إن شاء اهلل ،يخشى أن أعماله غير متقبلة وأن عنده فيها
ردها عليه وعدم قبولها منه.
ثال ًِثا :للسلف يف استثنائهم يف اإليمان أن االستثناء يكون عن غير شك ،يقول :إن شاء اهلل وال يلزم من ذلك
أن يكون شاكا يف إيمانه ،ولهذا قال الرسول -عليه الصالة والسالم -يف دعاء زيارة المقابر قالَ « :وإنَّاِإ ْنِ
َشا َءِاهللُِبك ُْم ََِلح ُق َِ
ون»( ، )3هل عنده شك يف اللحوق؟ فاالستثناء يكون ويقع من الشخص ال عن شك يف
أيضا ملحظ من األمور أو المآخذ التي يالحظها السلف يف استثنائهم يف اإليمان ،يستثنون يف
إيمانه ،فهذا ً
اإليمان دون شك منهم يف أصل اإليمان ،لكن عنده شك يف ماذا؟ ليس عنده شك يف أصل اإليمان ،لكن
عنده شك يف تكميل اإليمان .هل كمل إيمانه؟ هل إيمانه وأعماله وطاعاته متقبلة؟ هذا عنده فيه شك،
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه الرتمذي ( )3175واللفظ له ،وابن ماجه ( ،)4198وصححه األلباين.
( )2رواه ابن عساكر يف «تاريخ دمشق» ( ،)146/31وابن عبد الرب يف «التمهيد» (.)256/4
( )3رواه مسلم (.)249
47 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
47
ولهذا يستثني .ولهذا من يقول :أنا مؤمن إن شاء اهلل ،ليس عنده شك يف أصل إيمانه .ولهذا قال ابن مسعود
« :ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله» ،هذه ليس فيها استثناء .ولننتبه لهذا ،ال يقول أحد :أنا مؤمن
أيضا :ال إله إال اهلل إن شاء اهلل .ال إله إال اهلل ليس فيها استثناء ،واإليمان
بالمالئكة إن شاء اهلل ،وال يقول ً
بأصول اإليمان ليس فيها استثناء .ال يقول القائل :أنا مؤمن بالمالئكة إن شاء اهلل ،أو :مؤمن بالكتب إن
شاء اهلل ،االستثناء هنا ال وجه له .فاالستثناء ال يقع على األصل ،وإنما االستثناء يف األعمال والطاعات
العديدة المتنوعة.
أيضا من المالحظ التي يلحظها السلف -رحمهم اهلل -يف استثنائهم يف اإليمان :أن العبد ال يدري
راب ًعاً :
ما يختم له به ،وقد كان أكثر دعاء النبي -عليه الصالة والسالم -كما جاء يف حديث عائشة ڤ وغيرها:
تِ َق ْلبيِ َع َلى ِدين َ ِ
كِ .قالت :فقلت :يا بِا ْل ُق ُلوبِ َث ِّب ْ
اِم َق ِّل َ
«دعوات كان رسول اهلل ﷺ يكثر أن يدعو بهاَ ِ :ي ُ
لَ ِ،فإ َذاِ ِاْل َدم ِّيِ َب ْي َن ُِأ ْص ُب َع ْينِم ْن َِأ َصابعِاهللِ َعز َ
َِّو َج َّ ِ ب ْ رسول اهلل ،إنك تكثر تدعو بهذا الدعاءِ.فقالِ :إ َّنِ َق ْل َ
اِشا َء َِأ َق َام ُِه»(.)1 َشا َء َِأزَا َغ ُه َ
ِ،وإ َذ َ
فالشاهد أن السلف -رحمهم اهلل -عندما يستثنون يف اإليمان يلحظون هذه األمور يف استثنائهم إليماهنم.
ومما ينبغي أن يعلم يف هذا المقام أن اإليمان عند السلف له إطالقان :مطلق ومقيد ،إيمان مطلق وإيمان
مقيد .اإليمان المطلق يشمل الدين كله ،واإليمان المقيد مثل ما مر عن ابن مسعود :آمنت باهلل ومالئكته
وكتبه هذا مقيد ،وإذا عرف أن لإليمان إطالقين عند السلف -كما تدل على ذلك نصوص الشريعة -فإن
أيضا ارتباط هبذين االطالقين ،بمعنى :أن من سئل عن اإليمان وكان القصد
مسألة االستثناء يف اإليمان لها ً
هبذا السؤال أصل اإليمان فهذا ال استثناء فيه ،ولهذا الحظنا ابن مسعود قال« :ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته
وكتبه »...ولم يقل بتمام ذلك :إن شاء اهلل ،لكنه قال للشخص الذي قال« :إين مؤمن» قال« :قل إين يف
الجنة» ،لماذا؟ ألن «إين مؤمن» هذه تشمل الدين كله.
قال « :ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله» ،فهذه األمور لإليمان المقيد هذه ليس فيها استثناء.
كامال ،ومن جميل ما يروى يف هذا الباب أن الحسن
ً االستثناء يف اإليمان المطلق الذي يشمل الدين
البصري -رحمه اهلل تعالى ،وهو من علماء التابعين -سأله سائل عن اإليمان ،فقال« :اإليمان إيمانان،
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه أحمد ( ،)24604وصححه األلباين يف «الصحيحة» (.)2091
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 48
فإن كنت تسألني عن اإليمان باهلل ،ومالئكته ،وكتبه ورسله ،والجنة والنار ،والبعث والحساب ،فأنا مؤمن،
وإن كنت تسألني عن قول اهلل -عز وجل :-ﭿﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ
ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﭾ فواهلل ما
أدري أنا منهم أو ال»(.)1
قال« :اإليمان إيمانان» ،ولهذا مالحظة هذا االعتبار -اعتبار اإليمان المطلق الذي يتناول الدين كله
أيضا نافع يف هذه المسألة .ولهذا لو قيل لشخص :أمؤمن أنت؟ وفصل يف الجواب،
واإليمان المقيد -هذا ً
قال« :إن كنت تقصد أنني من أهل ال إله إال اهلل أو أنني مؤمن باهلل والمالئكة والكتب والرسل؛ نعم».
يقول :نعم ،وال يقول :إن شاء اهلل ،بل يجزم« .لكن إن كنت تقصد اإليمان المطلق الذي أثنى اهلل على أهله
ومدحهم وأثنى على أعمالهم وطاعاهتم وإخالصهم وصدقهم إلى آخر ذلك ،فأرجو» .فهذا ملحظ
السلف -رحمهم اهلل -يف االستثناء يف اإليمان والمصنف $أورد جملة من اآلثار النافعة المفيدة يف
هذا الباب ،بدأها هبذا األثر عن ابن مسعود« :قال رجل عند عبد اهلل :إنِّي مؤمن ،قال :قل :إنِّي في الجنة! ِ»ِ
أيضا ملحظ خامس إضافة إلى المالحظ األربعة التي
لماذا؟؛ ألن «ِإين مؤمن» هذه تزكية للنفس ،وهذا ً
ذكرهتا ساب ًقا للسلف يف استثنائهم لإليمان وهو البعد عن التزكية واهلل تعالى يقول :ﭿﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ
ﯟ ﯠ ﭾ [النجم ]32:ولهذا قال ابن مسعود لهذا الرجل لما قال «ِإين مؤمن» قالِ«:قل :إين يف الجنة»؛ ألن من
أيضا إنه يف الجنة؛ ألن المؤمن يف الجنة .قالِ«ِ:إنِّي مؤمن،
جزم أنه مؤمن باإلطالق هكذا فليجزم لنفسه ً
قال :قل :إنِّي في الجنة! ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»ِ ،وهذه أصول يقوم عليها الدين وهي
أصل اإليمان وهذه ال استثناء فيها.
قا ِلِ:
( )23حدثنا وكيع ،عن األعمش ،عن أبي وائل ،قال[« :جاء] رجل إلى عبد اهلل ،فقال :إنِّي لقيت رك ًبا
فقلت :من أنتم؟ قالوا :نحن المؤمنون! قال :فقالَ [ :أ ََلِ َقا ُلوا]ِ:ن َْح ُنِم ْن َِأ ْهلِا ْل َجنَّةِ!؟».
الشرحِ:
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البيهقي يف «شعب اإليمان» ( ،)75ويف «االعتقاد» (ص )201ط .إدارة البحوث العلمية واإلفتاء.
49 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
49
ثم أورد -رحمه اهلل -األثر نفسه عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال«ِ:جاء رجل إلى عبد اهلل -ابن مسعود-
،فقال :إنِّي لقيت رك ًبا فقلت :من أنتم؟ قالوا :نحن المؤمنون!» وهذه تزكية ،ولهذا أيضًا يذكرون -وهذا
من لطيف ما رواه الاللكائي يف «شرح االعتقاد» وغيره -أنه «قيل ألعراب ٍّي :أمؤمن أنت؟ قال :فجعل يقول:
أزكِّي نفسي؟»( ،)1هذا على الفطرة أجاب .قيل له :أمؤمن أنت؟ استحضر أن «أمؤمن أنت؟» تشمل الدين
كله ،فقال« :أزكي نفسي؟» وهذا األعرابي فطن إلى هذا األمر الذي غاب عن كثير من الناس ،والسيما من
اشتغلوا بعلوم الكالم ونحو ذلك بعيدين عن الفطرة وبعيدين عن الكتاب والسنة.
أناسا وأنه سألهم :من أنتم؟ فقالوا :نحن المؤمنون! وهذا فيه
فجاء رجل إلى ابن مسعود وأخرب أنه لقي ً
تزكية .قال ابن مسعود« :أال قالوا :نحن من أهل الجنة؟!» -ألن المؤمن يف الجنة -من ِّب ًها إلى أنه ينبغي
عليه أن يستثني .كيف يستثني؟ إما أن يقول« :أنا مؤمن إن شاء اهلل» ،أو يقول« :أنا مؤمن أرجو» ،أو يقول
كما تقدم عن ابن مسعود« :آمنت باهلل ومالئكته وكتبه ورسله» ،أو يقول« :ال إله إال اهلل» ،أو يقول« :أشهد
أن ال إله إال اهلل» ،هذا كله يسمى استثناء يف اإليمان بحيث ال يجزم اإلنسان لنفسه وال يزكي نفسه بأنه كمل
اإليمان بأعماله وطاعاته وعبادته المتنوعة؛ ألنه إذا قال :أنا مؤمن هكذا جز ًما فهي تتناول وتشمل الدين
كله ،فهنا إذا لوحظ هذا الملحظ يف اإليمان وهو شموله الدين كله ال بد من االستثاء.
قا ِلِ:
الشرحِ:
هذه الصيغة من صيغ االستثناء المأثورة عن السلف -رحمهم اهلل .-علقمة -تلميذ عبد اهلل بن مسعود
ﭬ -قيل له :أمؤمن أنت؟ قال :أرجو .قوله« :أرجو» هذا استثناء يف اإليمان ،أرجو أن أكون مؤمنًا؛ ألن
اإليمان يشمل الدين كله ويرجو أن يكون كذلك ،وال يجزم لنفسه بأنه كمل اإليمان.
ِ
قا ِلِ:
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (رقم.)1853
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 50
( )25حدثنا جرير ،عن مغيرة ،عن سماك بن سلمة ،عن عبد الرحمن بن عصمة ،أن عائشة قالتَ « :أ ْنت ُُمِ
ا ْل ُم ْؤمن َ
ُونِإ ْن َِشا َءِاهلل».
الشرح:
ثم أورد هذا األثر عن عائشة ڤ واألثر كما يف بعض المصادر له قصة ،وهو من رواية عبد الرحمن بن
عصمة والشيخ األلباين $قال« :لم أجد البن عصمة ترجمة»( .)1ويف بعض المصادر له قصة لهذا األثر
وهو أن معاوية بعث ألم المؤمنين عائشة ڤ هبدية ،فأتاها رسول معاوية ﭬ هبدية فقال« :أرسل هبا
إليك أمير المؤمنين» ،فقالت ڤ« :أنتم المؤمنون إن شاء اهلل تعالى وهو أميركم وقد قبلت هديته»(.)2
فالشاهد من هذا األثر أن من صيغ االستثناء يف اإليمان أن يقول من يستثني :أنا مؤمن إن شاء اهلل ،ومن
صيغه الصيغة التي مرت :أنا مؤمن أرجو.
قا ِلِ:
الشرحِ:
ثم أورد هذا األثر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال« :إذا سئل أحدكم :أمؤمن أنت؟ فال يشكن» أي:
يف إيمانه ،وهنا األثر إسناده ضعيف؛ ألن فيه عطاء بن السائب ،اختلط ،فاألثر ضعيف اإلسناد لكن على
فرض صحته عن أبي عبد الرحمن السلمي يحمل على أصل اإليمان؛ ألنا عرفنا فيما سبق أن اإليمان
إيمانان :اإليمان المطلق الذي يشمل الدين كله ،واإليمان الذي هو أصل اإليمان .فكالم أبي عبد الرحمن
السلمي ونظيره مما سيأيت عن بعض السلف يحمل على أصل اإليمان« .إذا سئل أحدكم :أمؤمن أنت؟
فال يشكن» ،أي :ال يشكن يف أصل إيمانه .إذن ماذا يقول؟ «أنا مؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله» ،وليس
المراد بقول أبي عبد الرحمن السلمي وغيره من أئمة السلف :ال يشكن بكمال اإليمان؛ ألن كمال اإليمان
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1كتاب اإليمان» (ص.)22
( )2رواه عبد اهلل بن أحمد يف «السنة» (.)349/1
51 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
51
من الذي يجزم لنفسه أنه كمل إيمانه؟ فكمال اإليمان هذا مشكوك فيه ،لكن أصل اإليمان ال شك فيه.
وأيضا عبيد اهلل بن يزيد اآليت يف األثر بعده يحمل على هذا -على أصل
فكالم أبي عبد الرحمن السلمي ً
اإليمان -وأصل اإليمان ال شك فيه وال استثناء فيهِ.
قا ِلِ:
يمانهِ».
كِفيِإ َ َأن َ
ْت؟ِ َف ََل َِي ُش ُّ
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عبيد اهلل بن يزيد األنصاري قال«ِ:إذا سئل أحدكم أمؤمن أنت؟
فال يشك في إيمانه» وكما قلنا يف األثر المروي عن أبي عبد الرحمن السلمي فال يشك يف إيمانه ،أي :يف
أصل اإليمان ،أما كمال اإليمان وتمامه فهذا ال يجزم فيه المسلم لنفسه ،وإن جزم به لنفسه فكما قال ابن
مسعود كما تقدم فليجزم لنفسه بماذا؟ بالجنة.
قا ِلِ:
( )28حدثنا وكيع ،عن مسعر ،عن موسى بن أبي كثير ،عن رجل ،لم يس ِّمه ،عن أبيه ،قال :سمعت ابن
ن». مسعود ،يقولَ « :أن ُ
َاِم ْؤم ٌِ
الشرحِ:
هذا ضعيف اإلسناد ،الرجل الذي لم يسم وأبوه مجهوالن ،فهذا ضعيف اإلسناد لم يثبت عن ابن مسعود،
ومر معنا الثابت عن ابن مسعود إنكاره على من قال أنا مؤمن قال« :قل :إنِّي في الجنة!» ،وعلى فرض
ثبوته -وهو لم يثبت عنه ﭬ -يحمل على أصل اإليمان ،فأصل اإليمان« :أنا مؤمن» أي :باهلل ومالئكته
وكتبه ورسله ،وأصل اإليمان ال استثناء فيه كما تقدم معنا من كالمه -رضي اهلل عنه وأرضاه .-
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1يف «كتاب اإليمان» عبيد اهلل بن زياد ،والصواب عبيد اهلل بن يزيد.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 52
قا ِلِ:
( )29حدثنا ابن مهد ٍّي ،عن سفيان ،عن معمر ،عن ابن طاوس ،عن أبيه ،وعن محمد ،عن إبراهيم ،أنهما
كانا إذا سئال قاالَ « :آمنَّاِباهللِ َو َم ََلئكَته َِو ُكتُبه َِو ُر ُسلهِ».
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر قال حدثنا مهدي عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه وعن
محمد عن إبراهيم ،فاألثر عن طاوس وعن إبراهيم النخعي «أنهما كانا إذا سئال قاال« :آمنا باهلل ومالئكته
وكتبه ورسله» ،هذه صيغة ثالثة من صيغ االستثناء .اآلن مر معنا ثالث صيغ يف االستثناء ،األولى« :إن شاء
اهلل» ،والثانية« :أرجو» ،والثالثة« :آمنا باهلل ومالئكته وكتبه ورسله» ،وهذه صيغة من صيغ االستثناء
المأثورة عن السلف ،فإذا قيل لشخص :أمؤمن أنت؟ يستثني ،إما أن يقول« :أرجو» ،أو يقول« :إن شاء
اهلل» ،أو يقول« :آمنت باهلل ومالئكته وكتبه» كما جاء يف هذا األثر عن طاوس عن ابراهيم .
القارئ :هنا يقول إن الصواب هو «محل بن إبراهيم» كذا يف «السنة» لعبداهلل بن اإلمام أحمد ،و«السنة»
للخالل ،والاللكائي ،وابن جرير ،واآلجري يف «الشريعة» كلهم من طريق محل بن إبراهيم وهو محل بن
محرز الض ِّبي الكويف تصحفت إلى «محمد عن إبراهيم».
الشارح :ما يبعد مثل هذا؛ ألن هذه النسخة فيها تصحيفات كثيرة ،وبعض التصحيفات يمكن أن تستدرك
من «المصنف» البن أبي شيبة ،مثل األثر اآليت اآلن بعده فيه تصحيف تم استداركه من «المصنف» البن
أبي شيبة .فهذه النسخة التي هي «كتاب اإليمان» فيها تصحيفات ،ولم يعثر إال على نسخة خطية واحدة
وفيها تصحيفات عديدة ،وبعضها تم استدراكها من «المصنف»؛ ألنه كما قدمت يف «المصنف» البن أبي
شيبة كتاب اإليمان وهو مطابق لهذا المفرد له -رحمه اهلل تعالى -مع فروقات يسيرة يف حذف بعض
اآلثار ،وتقديم وتأخير يسير ،وإال فهو مطابق له تما ًما ،فما يبعد ذلك خاصة أن الباحث أشار إلى أن األثر
المروي يف مصادر كثيرة عن «محل بن ابراهيم» ،وقال يف ترجمته« :محل بن محرز الضبي الكويف محتج
به ،والتصويب يكون عن محل بن محرز الضبي وهو الذي يقال له :محل بن ابراهيم».
53 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
53
إذن ،هذا األثر عن طاوس وعن محل بن إبراهيم وأشار إلى وجوده هبذا االسم يف مصادر منها« :السنة»
لإلمام عبد اهلل بن أحمد ،و«السنة» للخالل ،و«السنة» لاللكائي ،و«هتذيب اآلثار» البن جرير ،و«الشريعة»
لآلجري ،وتصويب طبعة الرشد لـ«المصنف» بـ«محل».
وعلى كل حال من المفيد -وقد فعلت ذلك قبل قرابة أكثر من خمسة عشر سنة -جلست يو ًما أقابل بين
كامال وسجلت على نسختي فروقات
ً «اإليمان» البن أبي شيبة و«المصنف» البن أبي شيبة وقابلته
استفدهتا أو تصويبات لـ«اإليمان» البن أبي شيبة من «المصنف» البن أبي شيبة ،فمن المفيد المقابلة على
«المصنف» وكالهما البن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى .-
قا ِلِ:
هنا أورد $هذا األثر قال« :حدثنا أبو معاوية عن الشيباين» ،الشيباين هو سليمان بن أبي سليمان أبو
إسحاق الكويف ،قيل :مات سنة مائة وتسع وعشرين ،وقيل :مائة وتسعة وثالثين ،وقيل :مائة وواحد
وأربعين ،وقيل :مائة واثنين وأربعين .قال« :لقيت عبد اهلل بن مغفل» ،عبد اهلل بن مغفل صحابي -رضي
اهلل عنه وأرضاه -والشيباين لم يلق عبد اهلل بن مغفل .عبد اهلل بن مغفل صحابي مات بالبصرة سنة سبع
وخمسين للهجرة ،وقيل :واحد وستين للهجرة ،واألثر مروي يف «المصنف» البن أبي شيبة ولم أقف على
هذا األثر بعد بحث عند أحد يف مصادر -سواء األجزاء أو األحاديث -إال عند ابن أبي شيبة ،فهو رواه يف
«كتاب االيمان» ورواه يف كتاب «المصنف» ولم أقف عليه عند أحد غير ابن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى-
.
يف «المصنف» قال« :عن عبد اهلل بن معقل» وهو الصواب ،وهو عبد اهلل بن معقل بن مق ِّرن المزين ،أبو
الوليد الكويف ،ثقة من كبار الثالثة ،مات سنة ثمان وثمانين للهجرة .وهذا التصحيف «عبد اهلل بن مغفل«
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 54
أيضا يف أثر آخر عند المصنِّف ،تكرر التصحيف نفسه يأيت معنا الح ًقا إن
بدل «عبد اهلل بن معقل» سيأيت ً
شاء اهلل.
أناسا من أهل
إذن ،يقول ابن أبي شيبة« :حدثنا معاوية عن الشيباين قال :لقيت عبد اهلل بن معقل ،فقلت :إن ً
الصالح يعيبون علي أن أقول أنا مؤمن .قال عبد اهلل بن معقل :لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمنًا».
وكما قدمت هذا األثر ونظائره مما يروى عن السلف يحمل على ماذا؟ على أصل اإليمان ،مثل ما قال
الحسن البصري « :$اإليمان إيمانان ،»...فهذا يحمل على أصل اإليمان الذي هو اإليمان باهلل
والمالئكة والكتب والرسل .قال« :لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمنًا» ،أي :باهلل ومالئكته وكتبه
ورسله ،وهذه ال استثناء فيها.
قا ِلِ:
( )31حدثنا وكيع ،عن عمر بن من ِّبه ،عن سوار بن شبيب ،قال« :جاء رجل إلى ابن عمر فقال :إن هاهنا
قو ًما يشهدون علي بالكفر! قال :فقالَ ِ«ِ:أ ََلِ َت ُق ُ
ول ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُِ َف ُتك َِّذ َب ُِه ِْم؟».
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن سوار بن شبيب قال« :جاء رجل إلى ابن عمر فقال :إن هاهنا
قو ًما يشهدون علي بالكفر! قال :فقال :أال تقول ال إله إال اهلل فتك ِّذبهم؟» هذه اآلن صيغة رابعة من الصيغ
المنقولة عن السلف -رحمهم اهلل -يف االستثناء يف اإليمان ،تستثني بأن تقول« :أرجو» ،أو تستثني بأن
تقول« :إن شاء اهلل» ،أو تستثني بأن تقول« :آمنت باهلل ومالئكته وكتبه» ،أو تستثني بأن تقول« :ال إله إال
اهلل» أو «أشهد أن ال إله إال اهلل» ،فهذه كلها من الصيغ التي جاءت عن السلف -رحمهم اهلل -يف هذا
الباب .والرجل يقول« :إن هاهنا قو ًما يشهدون علي بالكفر!» ولعله يقصد الخوارج الذين يك ِّفرون
ثيرا من الصحابة ،بل كفروا من شهد له النبي -عليه الصالة والسالم -تعيينًا بأنه يف
بالكبيرة وكفروا ك ً
الجنة؛ كفروا علي بن أبي طالب -رضي اهلل عنه وأرضاه ،-بل عده بعضهم أكفر أهل األرض! وهذا من
أضل الضالل وأبطل الباطل .عبد الرحمن بن ملجم وغيره من رؤوس الخوارج اجتمعوا وتشاوروا يف
القضاء وقتل أضل وأكثر أهل األرض وحددوا ثالثة :علي ،ومعاوية ،وعمرو بن العاص .فالخوارج كفروا
55 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
55
وكثيرا من عباد اهلل المؤمنين .فجاء هذا الرجل إلى ابن
ً كثيرا من الصحابة
بارتكاب الكبيرة ،ولهذا كفروا ً
عمر ﭭ وقال« :إن هاهنا قو ًما يشهدون علي بالكفر!» أي :يكفرون بالكبائر أو يكفرون بالذنوب ،فقال:
«أال تقول ال إله إال اهلل فتك ِّذبهم؟» كيف يكفرونه وهو يقول ال إله إال اهلل؟! قال« :أال تقول ال إله إال اهلل
فتك ِّذبهم؟»
قا ِلِ:
( )32حدثنا أبو معاوية ،عن الشيبان ِّي ،عن ابن عالقة ،عن عبد اهلل بن يزيد األنصار ِّي ،قال« :ت ََس َّم ْواِ
يمانِ».
ِ،و ْاْل َ ِاهللُِ:با ْل َحنيف َّية َ
ِ،و ْاْل ْس ََلم َ اسمك ُُمِا َّلذ َ
يِس َّماك ُُم ِ ب ْ
الشرحِ:
ثم أورد هذا األثر عن عبد اهلل بن يزيد األنصاري قال« :تسموا باسمكم الذي سماكم اهلل :بالحنيفية،
واإلسالم ،واإليمان» بأن يطلق هكذا اإلطالق العام على أهل اإليمان بأهنم أهل الحنيفية ،وأهنم أهل
اإلسالم ،وأهنم أهل اإليمان ،مثل لما يخطب الخطيب ويخاطب أهل اإليمان يقول« :أيها المؤمنون!»
داخال يف باب التزكية؛ ألن مراد الخطيب بـ«أيها المؤمنون!» ماذا؟ يعني :يا من
ً هذا ال حرج فيه وليس
أكرمكم اهلل بالدخول يف هذا الدين ،وال يقصد :يا من كملتم اإليمان وتممتم الدين .ولهذا مثل هذا «-أيها
المؤمنون!» -ال حرج فيه وال يشكل؛ ألن هذا المراد به أصل اإليمان .ومنه قول اهلل تعالى :ﭿﭞ ﭟ
ﭠﭾ [النساء ،]92 :هل المراد شخص رقيق كمل اإليمان؟ هل هذا المراد؟ ال! المراد من ﭿ ﭟ ﭠﭾ
أي :يشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمدً ا رسول اهلل ،من أهل اإلسالم ،هذا هو المراد ،مثل قوله :ﭿﮙ ﮚ
ﮛ ﮜ ﭾ [الحجرات ]9 :أي :من كانوا على اإليمان .فهذا محمول على هذا المعنى.
قال« :تسموا باسمكم الذي سماكم اهلل :بالحنيفية ،واإلسالم ،واإليمان» .فإذا قال اإلنسان مخاط ًبا
المؤمنين أو مخربًا عن المؤمنين بأهنم أهل اإليمان ،أو أهل الحنيفية ،أو أهل اإلسالم ،فهذا ال إشكال فيه
وال يلزم فيه االستثناءِ.
قا ِلِ:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 56
( )33حدثنا عبد اهلل بن إدريس ،عن األعمش ،عن شقيق ،عن سلمة بن سبرة ،قال :خطبنا معاذ بن جبل
ُون َِو َأ ْنت ُْم َِأ ْه ُلِا ْل َجنَّةِ».
فقالَ « :أ ْنت ُُمِا ْل ُم ْؤمن َ
الشرحِ:
ثم أورده -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن معاذ ،وسنده فيه كالم .سلمة بن سربة فيه جهالة ،فاإلسناد
ضعيف لسلمة الراوي له عن معاذ.
قال«ِ:خطبنا معاذ بن جبل فقال :أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة» .وعلى فرض ثبوته عن معاذ فال إشكال
فيه؛ ألن الخطاب العام ال يراد به التزكية ،وإنما المراد به اإلخبار أن أهل اإليمان هم أهل الجنة.
هذا األثر عن معاذ ﭬ على فرض ثبوته ،وعرفنا أن يف سنده كالم ،فإن هذا خطاب عام ،فالمؤمنون هم
أهل الجنة .فقوله« :أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة» ،أي :من كان من أهل اإليمان فهو من أهل الجنة،
يحمل على هذا المعنى .والخطاب العام هذا المقصد به ،مثل اآليات التي يف القرآن :ﭿ ﯓ ﯔ
ﯕﭾ أي :يا من من اهلل عليكم بالدخول يف اإليمان ،وليس المراد ﭿﯓ ﯔ ﯕﭾ ،أي :من كمل
اإليمان وتممه ،فيحمل على هذا المعنى.
وهبذا يكون أهنى -رحمه اهلل تعالى -اآلثار التي ساقها متوالية فيما يتعلق باالستثناء يف اإليمان ،وسيأيت
عنده الح ًقا ً
أيضا آثار يف مواضع من كتابه هذا تتعلق بالمسألة نفسها.
قالِ:
( )34حدثنا عمر بن أيوب ،عن جعفر بن برقان ،قال :كتب إلينا عمر بن عبد العزيزَ « :أ َّماِ َب ْعدَُِ ِ،فإ َّنِ ُع َرىِ
واِالص ََلةَِل َو ْقت َها».
َّ ِ،وإيتَا ُءِال َّزكَاةَ ِ،ف َص ُّل ِ،وإ َقا ُم َّ
ِالص ََلة َ انِباهلل َ
يم ُ
ِ:اْل َ ِ،و َق َوائ َم ْ
ِاْل ْس ََلم ْ الدِّ ين َ
الشرحِ:
ثم أورد $هذا األثر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب« :أما بعد ،فإن عرى الدِّ ين ،وقوائم اإلسالم:
اإليمان باهلل ،وإقام الصالة ،وإيتاء الزكاة ،فصلوا الصالة لوقتها» ،وكتب ذلك وهو خليفة المسلمين وأمير
57 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
57
المؤمنين -رحمه اهلل تعالى ،-فكتب بذلك -أي :للناس يف األمصار -وصي ًة منه لهم بالعناية بمباين
اإلسالم وقواعده العظام.
قال« :فإن عرى الدِّ ين ،وقوائم اإلسالم» عرى الدين التي هي المتمسك ،وقوائم اإلسالم التي عليها قيامه:
«اإليمان باهلل» وهو األصل الذي يقوم عليه دين اهلل -تبارك وتعالى « ،-وإقام الصالة ،وإيتاء الزكاة ،فصلوا
الصالة لوقتها» ،حث -رحمه اهلل تعالى -على المحافظة على الصالة وأدائها يف وقتها.
ونكتفي هبذا القدر ،واهلل تعالى أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه
أجمعين.
الدرس الرابع
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقولِالحافظِأبوِبكرِ،عبدِاهللِبنِِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويفِ،يفِكتابِ«اْليمان»ِ:
( )35حدثنا محمد بن بشر ،نا سعيد ،عن قتادة ،عن أنس ،أن نبي اهلل ﷺ قالَ « :يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ
َِ:لِ
َانِفيِ اِيز ُن َِشع َير ًِة» ،ثم قالَ « :يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ
َِ:لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ َانِفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ إ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ
ِ،وك َ
اِيز ُنِ اِيز ُنِ ُب َّر ًِة» ،ثم قالَ « :يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ
َانِ َفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ
َذ َّر ًِة».
الشرحِ:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 58
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ،أما بعد:
هذا الحديث الذي ساقه المصنف -رحمه اهلل تعالى -حديث أنس بن مالك -رضي اهلل عنه وأرضاه-
فيه بيان أمور عديدة تتعلق باإليمان الذي أفرد -رحمه اهلل تعالى -هذا المصنف لبيانه وتوضيح مسائله،
وحديث أنس بن مالك ﭬ فيه بيان حال أهل الكبائر من أهل اإليمان؛ وهو من يعرف بالفاسق الم ِّلي أو
المؤمن الذي ارتكب الكبائر ،واقرتف الذنوب ،وفعل المعاصي ،ما لم يكن ما قارفه كفر ًا باهلل -عز وجل-
؛ ألن الكافر له حكم آخر وهو الخلود يف نار جهنم أبد اآلباد ،ال يقضى عليه فيموت وال يخفف عنه من
عذاهبا ،كما قال اهلل -سبحانه وتعالى -ﭿﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﭾ [فاطر ،]36:فهذا الحديث يتعلق ببيان حكم أهل الكبائر من أهل اإليمان ،أهل
التوحيد الذين لم يكفروا باهلل ولم يشركوا باهلل -سبحانه وتعالى -لكنهم ظلموا أنفسهم بفعل المعاصي
واقرتاف الذنوب .فهؤالء إذا عذبوا يف النار يكون تعذبيهم فيها تطهير ًا لهم وتنقية ،وتمحيصًا ثم بعد ذلك
يخرجون من النار ويدخلون الجنة ،وقد جاء يف الصحيحين وغيرهما عن النبي -عليه الصالة والسالم-
بيان صفة اخراج هؤالء-أهل الكبائر -من النار ،حيث ذكر -عليه الصالة والسالم ،-أهنم يكونون يف النار
كقطع الفحم السوداء ،وأن النار تميتهم إماتة ،وأهنم يخرجون من النار ضبائر ضبائر ،أي :جماعات
جماعات ،ودفعات دفعات؛ ألهنم يف الكبائر متفاوتون ،ومكثهم يف النار متفاوت ،فمنهم من تطول مدته
ومنهم من تقصر ،ولهذا يخرجون من النار ضبائر ضبائر أي :جاعات جماعات ،ثم يلقون يف هنر الفردوس،
تِالح َّبةُِ
المتفحمة يف هنر الفردوس فيحيون بمائه ،قال -عليه الصالة والسالم« -ك ََماِ َتنْ ُب ُ
ِّ تلقى هذه القطع
ِالس ْيلِ»( ،)1فيحيون هؤالء بماء الفردوس -هنر يف الجنة -يلقون فيه وينبتون هناك ويحيوون
يِحميل َّ
ف َ
هناك كما تنبت الحبة يف حميل السيل ،أي :التي يحملها السيل ،ثم يلقيها على جنبتيه فتحيى وتنبت بماء
السيل ،فهؤالء يحيون بماء هنر الفردوس حين يلقون فيه ،فهذا فيه بيان لحال أهل الكبائر من أمة محمد -
َانِفيِ َق ْلبهِ عليه الصالة والسالم .قال -عليه الصالة والسالمَ « :-يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ
َِ:لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ
ِ،وك َ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( ،)806ومسلم (.)182
59 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
59
َانِفيِ َق ْلبهِم َن ِا ْلخَ ْير َِم َ
اِيز ُنِ ِشع َير ًِة» ،ثم قالَ « :يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ
َِ:لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ م َنِا ْلخَ ْير َِم َ
اِيز ُن َ
اِيز ُنِ َذ َّر ًِة». ُب َّر ًِة» ،ثم قالَ « :يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ
َانِ َفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ
الشعير والرب :الحب المعروف ،والذرة واحدة الذر ،صغار النمل ،وضبط الحديث هكذا «ذرة» بفتح الذال
والراء المشددة ،وقد تصحف على بعض الرواة فقرأه «ذرة» ،وراعى يف ذلك ما ذكر يف الحديث :حب
الشعير وحب الرب وحب الذرة ،فقرأه هكذا وخطأه األئمة كما هو مبين يف المصادر .فقوله «ذرة» ضبطها
هكذا بفتح الدال والراء مع تشديدها وهي واحدة الذر ،وهي صغار النمل ،وقيل يف معنى الذرة ،أي:
القطعة اليسيرة التي ال ترى إال يف شعاع الشمس ،وهو الهباء كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس وغيره،
المراد بالذرة القطعة اليسيرة جد ًا التي ال تكاد ترى إال مع شعاع الشمس .وهذا فيه أن اإليمان الذي يف
القلب ينفع صاحبه وإن قل ،حتى وإن كان بمقدار حبة الشعير أو حبة الرب ،أو يف مقدار ذرة ،واهلل -سبحانه
وتعالى -ال يظلم الناس شيئًا ،ال يظلمهم مثقال ذرة ،فإذا وجد لدى العبد من اإليمان ولو كان هبذا
المقدار-يعني ضعيفًا يسير ًا قليالً -فإنه ينفعه ،واإليمان النافع الذي لم يكن صاحبه على كفر باهلل -
سبحانه وتعالى .أما إذا كان على كفر باهلل أو شرك أو مرتكب لناقض من نواقض اإليمان فإذا كان عنده
جوانب من جوانب اإليمان ال تنفعه ،كما قال اهلل -سبحانه و تعالى -ﭿﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ
ﭾ [وسف ]106 :أي :ما عندهم من جوانب من إيمان ليست بنافعه ما دام قام فيهم ناقض لإليمان ومحبط له
ومبطل .فإذن الحديث يتعلق بعصاة المؤمنين ممن ارتكبوا الكبائر وقارفوا الذنوب واستوجبوا بذلك
دخول النار وعندهم إيمان ،فإيماهنم ينفعهم ولو كان بمقدار ذرة فإيماهنم نافع .وهذا الحديث يفيد أن
أهل اإليمان متفاوتون يف اإليمان حتى ما قام يف القلب منه ،فليس تفاوهتم يف األعمال الظاهرة فقط ،بل
يتفاوتون بالتصديق ،يتفاوتون باإلقرار ،يتفاوتون يف اإلذعان ،يتفاوتون يف أعمال القلوب عمومًا،
يتفاوتون فيها تفاوتًا عظيمًا ،ولهذا ذكر يف الحديث تفاوتًا ،منهم قدر اإليمان الذي يف قلبه مقدار شعيرة،
ومنهم من هو مقدار برة ،ومنهم من اإليمان الذي يف قلبه مقدار ذرة ،ومن الناس من أكرمهم اهلل -سبحانه
وتعالى -وكان إيمانه أمثال الجبال .سئل ابن عمر ﭬ «هل كان أصحاب النب ِّي ﷺ يضحكون؟ قال:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 60
«نعم ،واإليمان في قلوبهم أعظم من الجبال»( .)1وسئل سفيان بن عيينة -رحمه اهلل -عن اإليمان« :يزيد
()2
وينقص؟ قال :يزيد ما شاء اهلل ،وينقص حتى ال يبقى شيء»
فاإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف ،وما قام يف القلب من إيمان أيضًا يزيد وينقص ويقوى ويضعف،
وأهله فيه ليسوا سوا ًء على درجة واحدة ،ومن أبطل الباطل وأضل الضالل أن يعتقد أن أهل اإليمان فيه
سواء وأن درجتهم فيه واحدة؛ وكيف يقال إن إيمان أفسق الناس مثل إيمان صديق األمة -رضي اهلل عنه؟
أو إيمان األنبياء؟! فهذا ال يقال أبد ًا،وهذا من أبطل الباطل من الضالل ،فاإليمان أهله فيه متفاوتون ،سواء
يف أعمال اإليمان الظاهرة أو يف حقائق اإليمان الباطنة القائمة يف القلب ،فالناس يف ذلك متفاوتون
والحديث صريح يف ذكر التفاوت؛ التفاوت القلبي.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1مصنف عبد الرزاق» ( 20761و ،)20976ويف سنده انقطاع بين قتادة وابن عمر.
(« )2الشريعة» لآلجري ( ،)553/2و«اإلبانة» البن بطة ( ،)630/2و«حلية األولياء» ألبي نعيم األصفهاين (.)295/7
61 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
61
ِصاد ًقاِب َهاِ َد َخ َلِا ْل َجنَّ َِة»( .)1أما إن قالها ليس صادقًا من قلبه عليه الصالة والسالمَ « -م ْنِ َق َال َ
َِ:لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ
فإهنا ال تنفعه .ومن فوائد الحديث كذلك أن األعمال كلها ليست بنافعة إال إذا قامت على قدر من اإليمان
القلبي الذي يصحح األعمال ،فاألعمال بمجردها ليست بنافعة إال إذا قام يف القلب إيمان يصحح تلك
األعمال وإن قل ،وأما إذا كانت األعمال بال إيمان قلبي ال تنفع ،ولهذا قال اهلل -سبحانه وتعالى -ﭿﯽ
ونظائر هذا يف القرآن كثير .فاألعمال الصالحة مهما كثرت وتعددت وتنوعت ليست بنافعة صاحبها إال إذا
قام يف قلبه إيمان قلبي يصحح تلك األعمال ويجعلها مقبولة ،وأما إذا انتفى اإليمان القلبي فال ينتفع
بالعمل الظاهر.
الشاهد أن هذا حديث عظيم جد ًا يف باب اإليمان ،وبيان دخول األعمال يف مسمى اإليمان ،وبيان أن
اإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف ،وأن أهله فيه ليسوا سواء ،وفيه وأن األعمال الصالحة ال تنفع
صاحبها إال إذا قام يف قلبه إيمان يصحح تلك األعمال وتكون به مقبولة ،إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة
المستفادة من هذا الحديث المبارك ،حديث أنس بن مالك ،وهو مخرج يف الصحيحين وغيرهما.
قالِ:
( )36حدثنا يزيد بن هارون ،أنا ابن أبي ذئب ،عن الزهر ِّي ،عن عامر بن سعد ،عن أبيه :أن نف ًرا أتوا رسول
اهلل ﷺ فسألوه ،فأعطاهم إال رج ًال منهم ،فقال سعد :يا رسول اهلل أعطيتهم وتركت فالنًا واهلل إنِّي ألراه
مؤمنًا ،فقال رسول اهلل ﷺَ « :أ ْو ُِم ْسل ًما» فقال سعد :واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا ،فقال رسول اهلل ﷺَ « :أ ْو ُِم ْسل ًماِ»
فقال ذلك ثال ًثا ،وقال رسول اهلل ﷺ ذلك ثال ًثا.
الشرحِ:
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه أحمد ( 19597و ،)19689وروى البخاري ( )99نحوه.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 62
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث عامر بن سعد بن أبي الوقاص ﭬ عن أبيه« :أن نف ًرا
أتوا رسول اهلل ﷺ فسألوه ،فأعطاهم» ،سألوه عطا ًء ،أن يعطيهم ً
ماال يتمولون وينفقون منه ويحتاجون إليه،
سألوه «فأعطاهم إال رج ًال منهم» لم يعطه -عليه الصالة والسالم -وكان سعد قد حضر هذا األمر ويعرف
هذا الشخص الذي لم يعطه النبي -عليه الصالة والسالم ،-يعرف حاله ويرى استقامته يف ظاهره يف عبادته
خيرا عند النبي -عليه الصالة والسالم -رغب ًة منه يف أن يعطيه
ونحو ذلك كان وعلى معرفة به ،فأثنى عليه ً
النبي -عليه الصالة والسالم كما أعطاهم ،فقال« :يا رسول اهلل أعطيتهم وتركت فالنًا واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا»
ويف بعض الرويات« :ما لك عن فالن؟»(.)1
«واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا» ،أي :أظنه مؤمنًا ،وهذا فيه شاهد لما سبق من عدم الجزم والقطع باإليمان سواء
للنفس أو للغير ،قال« :إنِّي ألراه» أي أظنه ،والظن ليس بجزم ،قال« :واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا» فقال رسول
اهلل ﷺَ « :أ ْو ُِم ْسل ًما» ،وهنا ينبغي أن ننتبه إلى التفاوت بين مرتبتي اإلسالم واإليمان ،والتفاوت بينهما
تعرف حقيقته بفهم حديث جربيل المشهور؛ ألن جربيل لما سأل النبي -عليه الصالة والسالم -عن
ِ،وا ْل َي ْوم ْ
ِاْلخرِ، ِ،و ُر ُسله َ اإليمان فسره بالعقائد التي تكون يف القلب ،قالَ « :أ ْنِت ُْؤم َنِباهللَ ِ،و َم ََلئكَته َ
ِ،و ُكتُبه َ
ِخ ْيره َِو َش ِّرهِ» ،ولما سأله عن اإلسالم فسره باألعمال الظاهرة قالَ « :أ ْنِت َْش َهدَ َِأ ْن ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُِ َوت ُْؤم َنِبا ْل َقدَ ر َ
تِ ِ،وت َُح َّجِا ْل َب ْي َ ان َ َِ،وت َُصو َم َِر َم َض َ َِ،وت ُْؤت َيِال َّزكَاة َ ِالص ََلة َ يم َّ ِص َّلىِاهللُِ َع َل ْيه َِوِ َس َّل َم َ
ِ،وتُق َ اِر ُس ُ
ولِاهلل َ َو َأ َّن ُِم َح َّمدً َ
اك»، يَل» ،ولما سأله عن اإلحسان قالَ « :أ ْنِ َت ْع ُبدَ ِاهللَِك ََأن َ
َّكِت ََرا ُهَ ِ،فإ ْنِ َل ْمِ َتك ُْنِت ََرا ُهِ َفإ َّن ُه َِي َر َِ تِإ َل ْيه َِسب ً ِِاس َت َط ْع َ
إن ْ
وهذه الثالثة المذكورة يف الحديث هي مراتب الدين :اإلحسان واإليمان واإلسالم ،ويف تمام الحديث قال
يل َِأتَاك ُْم ُِي َع ِّل ُمك ُْمِدينَك ِْ
ُم»(.)2 – عليه الصالة والسالمَ « :-فإ َّن ُهِج ْبر ُ
فديننا على ثالث مراتب :اإلحسان أعالها ،ثم اإليمان ،ثم اإلسالم ،ومن كان يف الدرجة األعلى وهي
درجة اإلحسان فهو مؤمن مسلم؛ ألنه ال يقبل إلى الدرجة األعلى إال مرور ًا هبذه الدرجات التي دونه،
فأول ما يبدأ اإلنسان يف دخوله يف هذا الدين يكون مسلمًا ،فإذا تمكن اإليمان من قلبه ورسخ يف قلبه صار
بذلك مؤمنًا ،فإذا بلغ من اإلتقان واإلجادة واإلحسان يف العبادة والتقرب إلى اهلل -سبحانه وتعالى -أن
يعبد اهلل كأنه يرى اهلل فإنه يرتقي بذلك إلى درجة المقربين درجة اإلحسان .فالدين على ثالثة مراتب،
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( )27ومسلم (.)150
( )2حديث جربيل رواه البخاري ( ،)50ومسلم ( )8وهذه األلفاظ عند مسلم.
63 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
63
وسعد ﭬ لما رأى النبي-عليه الصالة والسالم -لم يعط هذا الرجل وهو يتوسم فيه خير ًا ويعلم من
كِ َع ْنِ ُفَل ٍَنِ َف َواهللِإن َ
ِّيِلَ َرا ُه ُِم ْؤمنًا» ،ولما كانت مرتبة اإليمان أعلى وال حاله صالحًا واستقام ًة قالَ « :ماِ َل َ
يبلغها العبد إال إذا تمكن اإليمان من قلبه ،وأمر القلب إلى اهلل -سبحانه وتعالى -ال اطالع ألحد عليه،
قال له النبي-عليه الصالة والسالمَ « :-أ ْو ُِم ْسل ًما» ،وهي أقل الدرجات وهي درجة اإلسالم ،والشخص
ﮖ ﭾ [الحجرات .]14:ﭿﮏ ﭾ هذه درجة أعلى وال يبلغها الشخص إال إذا تمكن اإليمان من قلبه ورسخ يف
نفسه ،فلما قالوا ذلك وادعو ذلك ألنفسهم قال اهلل :ﭿﮑ ﮒ ﮓﭾ ،وليس المراد بقوله لم تؤمنوا أي :أنتم
كفار ،وإنما المراد :لم تبلغوا درجة اإليمان التي يستحق هبا من بلغ هذا اللقب ،ﭿﮔ ﮕ ﮖ ﭾ وهي
الدرجة دون ذلك .فالنبي – عليه الصالة والسالم-أرشد سعد ًا لهذا المعنى لما قال« :واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا،
فقال رسول اهلل ﷺَ :أ ْو ُِم ْسل ًما» من ِّبهًا – عليه الصالة والسالم -يف ذلك إلى تفاوت اإليمان ،وأن من صلح
ظاهره يحكم له باإلسالم ،ال اإليمان وال اإلحسان ،يحكم له باإلسالم فيقال :مسلم ،وأما اإليمان فهو
أمر يتعلق بتحقق اإليمان وتمكنه يف القلب وهذا ال يحكم له بشخص ،وال يجزم له بشخص ،بل ال يجزم
به الشخص نفسه فضالً عن أن يجزم به لآلخرين ،فهذا أمر ال يقطع به بل ال بد فيه كما قدمنا من اإلستثناء:
«مؤمن أرجو»« ،مؤمن إن شاء اهلل»« ،آمنت باهلل ومالئكته« ،»...أشهد أن ال إله إال اهلل» ،أو نحو ذلك من
األلفاظ والصيغ التي مرت معنا عن السلف الصالح –رحمهم اهلل تعالى.-
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري (.)393
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 64
ومن دالئل هذا الحديث وفوائده :بيان درجات اإليمان وتفاوت أهل اإليمان فيه ،وأهنم ليسوا فيه على
درجة واحدة وهذا أمر دلت عليه السنة ودل عليه كذلك القرآن يف مثل قوله تعالى ﭿﮢ ﮣ ﮤ
ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭾ ،والظالم لنفسه هو الذي شهد أن الإله إال اهلل وأن محمدً ا رسول اهلل
–صلى اهلل عليه وسلم -استسلم ألمر اهلل -عز وجل ،-قام يف قلبه إيمان باهلل – عز وجل -وبما أمره –جل
وعال -باإليمان به ،ولكنه ظلم نفسه بالمعاصي أو ترك الواجبات التي ال يكون تركها كفر باهلل ،والمقتصد
هو الذي فعل الواجب وترك المحرم ،والسابق بالخيرات هو الذي فعل الواجبات وترك المحرمات
ونافس يف الرغائب والمستحبات .فأهل اإليمان يف اإليمان درجات ورتب ،ليسوا على رتبة واحدة ،منهم
المسلم ومنهم المؤمن ومنهم المحسن؛ منهم الظالم لنفسه ومنهم المقتصد ومنهم السابق بالخيرات.
قالِ:
( )37حدثنا أبو معاوية ،عن عاصم أبي عثمان ،عن سلمان ،قال :يقال له :سل تعطه -يعني النبي صلى
اهلل عليه وسلم -واشفع تشفع ،وادع تجب ،قال :فيرفع رأسه فيقولَ « :ر ِّب ُِأ َّمتي» مرتين أو ثال ًثا .قال
سلمان :فيشفع في ك ِّل من كان في قلبه مثقال حبة حنطة من إيمان ،أو قال :مثقال شعيرة من إيمان ،أو قال:
مثقال حبة خردل من إيمان .فقال سلمان :فذلكم المقام المحمود.
السرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن سلمان موقوفًا وله حكم الرفع ،وجاء مرفوعًا إلى النبي-
عليه الصالة والسالم -من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس بن مالك يف الصحيحين وغيرهما ،قال
سلمان –رضي اهلل عنه« -يقال له :سل تعطه» أي :أن النبي-عليه الصالة والسالم -إذا خر ساجد ًا هلل –
سبحانه وتعالى -يوم القيامة وحمد اهلل بالمحامد التي يعلمه اهلل إياها يف ذلك الوقت ،قالَ « :ف َأ ُقو ُمِ َب ْي َن َِيدَ ْيهِ
65 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
65
ِ،ي ْله ُمنيه ِ
ِاهللُ»( ،)1والثناء على اهلل –سبحانه وتعالى -ثناء عليه بأسمائه َف َأ ْح َمدُ ُهِب َم َحامدَ ََِل َِأ ْقد ُرِ َع َل ْيه ْ
ِاْل َن ُ
وصفاته ،ولهذا قال العلماء يف هذا الحديث وغيره أن أسماء اهلل ليست محصورة يف العدد المعين يف حديث
اِ،م ْن ِ َأ ْح َص َ
اهاِ ِاس ًماِما َئةًِإ ََّل َِواحدً َ
ين ْ أبي هريرة حيث قال – عليه الصالة والسالم« -إ َّنِل َّلهِت ْس َعة َ
ًِوت ْسع َ
َد َخ َل َ
ِالجنَّ َِة»( .)2أسماء اهلل ليست محصورة هبذا العدد ،بل هناك أسماء هلل – عزوجل – استأثر هبا يف علم
ِ،أ ْوِ َع َّل ْم َت ُه َِأ َحدً اِم ْنِخَِ ْلِق َ
كِ، ك َ ِ،أ ْو َِأ ْن َز ْل َت ُهِفيِكتَاب َ
ك َ تِبهِ َن ْف َس َ
ِ،س َّم ْي َ
ك َ ٍِه َوِ َل َ الغيب عندهَ « ،أ ْس َأ ُل َ
كِبك ُِّل ْ
ِاسم ُ
ِاست َْأ َث ْر َتِبهِفيِع ْلمِا ْل َغ ْيبِعنْدَ َِ
ك»( .)3فإذن من أسماء اهلل عز وجل الحسنى وصفاته العظيمة التي يثنى َأو ْ
عليه -جل وعال -هبا ويمجد ما يع ِّلمه اهلل -سبحانه وتعالى -نبيه يوم القيامة عندما يخر ساجد ًا هلل –عز
وجل -فيشفع للخالئق وهو المقام المحمود ،قال اهلل تعالى ﭿﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭾ [اإلسراء،]79 :
فيخر ساجد ًا هلل ويحمد اهلل بمحامد ويثني على اهلل بثناء يفتح اهلل عليه به يف ذلك المقام ،ثم يقول اهلل له
()4
ِ،و ُق ْل ُِي ْس َم ْع َِو ْاش َف ْعِت َُش َّف ِْع» « ْار َف ْعِ َر ْأ َس َ
ك َِو َس ْلِ ُت ْع َط ْه َ
قال« :يعني النبي صلى اهلل عليه وسلم -واشفع تشفع ،وادع تجب ،قال :فيرفع رأسه» أي :من سجوده -
عليه الصالة والسالم -قال« :فيرفع رأسه فيقولَ :ر ِّب ُِأ َّمتي ،مرتين أو ثال ًثا»َ « ،ر ِّب ُِأ َّمتي» هذه شفاعة منه
-عليه الصالة والسالم -ألمته ،وهذا يوضح لنا الحديث الذي يف مسلم عن أبي هريرة ﭬ أن النبي -
ِّيِاخ َت َب ْأ ُتِ َد ْع َوت َ
يِش َفا َعةًِ ِ،وإن ْعليه الصالة والسالم -قال« :لك ُِّلِنَب ٍّيِ َد ْع َو ٌةِ ُم ْست ََجا َبةٌَ ِ،ف َت َع َّج َلِك ُُّلِنَب ٍّيِ َد ْع َو َت ُه َ
اتِم ْن ُِأ َّمت َ
يَِل ُِي ْشر ُكِباهلل َِش ْيئًا»( .)5أما لُ َّمت َ
يِي ْو َمِا ْلق َي َامةِ» .لكن من تنال؟ قالَ « :فه َيِنَائ َلةٌِإ ْن َِشا َءِاهللُ َِم ْن َِم َ
الذي يشرك باهلل ال حظ ل والنصيب من شفاعة النبي الكريم -عليه الصالة والسالم ،-كما جاء يف مسلم
من حديث أبي هريرة أنه -عليه الصالة والسالم -قالَ « :أ ْس َعدُ ِالنَّاسِب َش َفا َعت َ
يِي ْو َمِالق َي َامة َِم ْن ِ َق َالِ َلَِإ َل َهِ
ِاهللَُ ِ،خال ًصاِم ْنِ َق ْلبِه َ
ِ،أ ْوِ َن ْفسهِ»( .)6أما الذي يشرك باهلل ،يدعو غير اهلل ،يستغيث بغير اهلل ،يلتجئ إلى غير إ ََّل ِ
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( ،)7410ومسلم ( )193واللفظ له.
( )2رواه البخاري ( ،)2736ومسلم (.)2677
( )3رواه أحمد ( 3712و ،)4318وابن حبان ( ،)972والطرباين يف «الكبير» ( ،)10352وصححه األلباين يف «الصحيحة» (.)199
( )4رواه البخاري ( ،)4476ومسلم (.)193
( )5رواه البخاري ( ،)6304ومسلم ( )199واللفظ له.
( )6رواه البخاري (.)99
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 66
اهلل ،يصرف العبادة لغير اهلل ،يطلب المدد والعون من غير اهلل ،هذا ال مطمع له وال نصيب يف شفاعة النبي
الكريم -عليه الصالة والسالم -ألنه قالَ « :فه َيِنَائ َلةٌِإ ْن َِشا َء ِ
ِاهللُ»؛ ألن األمر بيد اهلل.
ِالجنَّةَِ َع َلىِ
ت َ ولِاهللُِ َت َعا َلىِ :إن َ
ِّيِح َّر ْم ُ ونَ ِ،ف َأ ُّ
يِخز ٍْيِ َأ ْخزَىِ م ْنِ َأبيِالَ ْب َعد؟ِ َف َي ُق ُ ِ َأ ْنِ َلَِ تُخْ ز َينيِ َي ْو َمِ ُي ْب َع ُث َ
ك؟ِ َف َينْ ُظ ُرَ ِ،فإ َذ ُ
اِه َوِبذيخٍ ُِم ْلتَطخٍِ» هو ذكر الضباع يتحول على تِر ْج َل ْي َ
ِ،ماِت َْح َ
يم َ ينُ ِ،ث َّم ُِي َق ُال َ
ِ:ياِإ ْب َراه ُ الكَافر َ
هذه الصفة « َف ُي ْؤ َخ ُذِب َق َوائمهِ َف ُي ْل َقىِفيِالنَّارِ»( ،)1هذا والد إبراهيم الخليل -عليه السالم ،-قالَ « :ف ُي ْؤ َخ ُذِ
ب َق َوائمهِ َف ُي ْل َقىِ فيِ النَّارِ» .فمن كان كافر ًا مشركًا باهلل -سبحانه وتعالى -ال تنفعه شفاعة الشافعين،
فالشفاعة ال تنفع إال أهل التوحيد ،أما المشرك فال حظ له وال نصيب يف الشفاعة.
قال« :فيقولَ :ر ِّب ُِأ َّمتي ،مرتين أو ثال ًثا .قال سلمان :فيشفع في ك ِّل من كان في قلبه مثقال حبة حنطة من
إيمان ،أو قال :مثقال شعيرة من إيمان ،أو قال :مثقال حبة خردل من إيمان» ،وهذا أيضًا يوضح ما سبق
أن المشرك والكافر ال حظ له وال نصيب يف الشفاعة ،وإنما الشفاعة لمن قال ال إله إال اهلل ويف قلبه مثقال
حبة من إيمان ،أو مثقال خردلة من إيمان ،أو مثقال شعيرة من إيمان ،هؤالء لهم حظ ونصيب من الشفاعة.
أما الكافر والمشرك فهؤالء ال حظ لهم وال نصيب من شفاعة النبي -عليه الصالة والسالم -وال أبضًا من
شفاعة الشافعين من األنبياء والمالئكة وعباد اهلل -سبحانه وتعالى -المقربين.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري (.)3350
67 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
67
«فقال سلمان :فذلكم المقام المحمود» الذي يشرف اهلل -سبحانه وتعالى -ويكرم به نبيه الكريم محمدً ا
-صلوات اهلل وسالمه عليه.
هذا الحديث عن سلمان هو موقوف على سلمان لكن له حكم الرفع؛ ألنه ال يقال من قبيل الرأي ،وكما
قدمت له شاهد يف الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أنس بن مالك -رضي اهلل عنهم وعن
الصحابة أجمعين.
قالِ:
( )38حدثنا يزيد بن هارون ،أنا محمد بن عمرو ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول اهلل -
بِ
ِ،و ََل َِينْتَه ُ ِ،و ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ
ين َِي ْش َر ُب َِو ُِه َو ُِم ْؤم ٌن َ يِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ
صلى اهلل عليه وسلم ََ « :-ل َِيزْنيِالزَّان َ
َّاسِف َيه َ
اِأ ْب َص َار ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌنِ». ن ُْه َبة ًَِي ْر َف ُعِالن ُ
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث أبي هريرة ﭬ أن النبي -عليه الصالة والسالم -قال:
سرِ ُ ِ
قِ ين ِ َِي ِْزنِيِ» هذه الزيادة موجودة يف «المصنف» البن أبي شيبة ،$أيضًا « َِو ََلِ َِِي ْ ِ
َل َِِي ِْزنِيِال َِّزانِيِحِ َِ
«َِ
ن» أيضًا هذه الزيادة يف «مصنفه» « َو ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ
ين َِي ْش َر ُب َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌنِ، سرِ ُ ِ
قِ َِو ُِه َِوِ ُمِ ِْؤمِ ٌِ ينِ َِي ْ ِ السار ُ ِ
قِحِ َِ َّ
ن» .هذه أمور ذكرها النبي -عليه الصالة والسالم -ال َّاسِف َيه َ
اِأ ْب َص َار ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ بِن ُْه َبة ًَِي ْر َف ُعِالن ُ
َو ََل َِينْتَه ُ
على سبيل الحصر ،وإنما على سبيل التمثيل للكبائر العظام التي تؤثر على إيمان الشخص الواجب،
فتضعف دينه وتضعف إيمانه ويكون هبا معرضًا للعقوبة؛ عقوبة اهلل -سبحانه وتعالى -وسخطه -عز
وجل .-فذكر هذه األمور ال على سبيل الحصر ،وإنما على سبيل التمثيل بذكر الكبائر العظام واآلثام
العظيمة التي هي يف أعلى الكبائر ،وهي دون الكفر باهلل -عز وجل.-
سرِ ُ ِ
قِ َوِ ُهِ َِوِ ينِ َِي ْ ِ ِالسار ُ ِ
قِحِ َِ ق َّ سرِ ُ ِ
َل َِِي ْ ِ
ينِِ َِي ِْزنِي َِو ُِه َِوِ ُِم ِْؤمِ ٌنَِ ،وِ َ ِ
َل َِِي ِْزنِيِال َِّزانِيِحِ َ
قال -عليه الصالة والسالمِ َ « :-
َّاسِف َيه َ
اِأ ْب َص َار ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌنِ»ِِ. بِن ُْه َبة ًَِي ْر َف ُعِالن ُ نَ ِ،و ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ
ين َِي ْش َر ُب َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ
نَ ،و ََل َِينْتَه ُ ُِم ِْؤمِ ٌِ
هذه خصال وأعمال من وقع فيها أثرت يف إيمانه نقصًا وضعفًا ،وأصبح هبا معرضًا للعقوبة؛ عقوبة اهلل -
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 68
وهذه الذنوب المذكورة يف الحديث :الزنا ،وشرب الخمر ،والسرقة ،واالنتهاب -انتهاب األموال العامة
واختالسها -هذه كلها كبائر وعظائم وموبقات ومهلكات لفاعلهن ويكون صاحبها مسلوب اإليمان
الواجب ،ينفى عنه اإليمان الواجب الذي يسلم به من عقوبة اهلل -سبحانه وتعالى.-
وأهل السنة يف هذا الباب وسط بين ضاللتين :ضاللة المرجئة الذين يقولون عن هؤالء -أهل الزنا والسرقة
وغيرها -يقولون عنهم إهنم مؤمنون كاملين اإليمان وأن هذه الذنوب ال تؤثر شيئًا يف إيماهنم ،بل هم مع
وجود هذه الذنوب مؤمنون كاملي اإليمان؛ وبين الخوارج والمعتزلة الذين ينفون عنه اإليمان تمامًا
ويقولون كافر باهلل -عز وجل ،-والمعتزلة تقول هو يف منزلة بين المنزلتين .فهذا باطل وهذا باطل والحق
أيضا كما
قوام بين ذلك ،وأن مرتكب هذه الكبائر ليس كما يقول المرجئة مؤمن كامل اإليمان ،وليس ً
يقول الخوارج كافر منتقل من الدين ،بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته ،ولهذا جاء يف حديث يف الصحيح
عن عبادة بن الصامت أهنم بايعوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أال يسرقوا وأال يزنوا وذكر بعض
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1سبق يف «كتاب اإليمان» (رقم.)16
69 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
69
ابِم ْنِ َذل َ
ك َِش ْيئًاِ المعاصي -صلوات اهلل وسالمه عليه -ثم قالَ « :ف َم ْن َِو َفىِمنْك ُْمِ َف َأ ْج ُر ُهِ َع َلىِاهلل َ
ِ،و َم ْن َِأ َص َ ِ
ك َِش ْيئًاِ َف َست ََر ُهِاهللُِ َف َأ ْم ُر ُهِإ َِلىِاهللِ،إ ْن َِشا َءِ َعا َق َب ُِهِ َوإ ْن َِشا َءِ ٌِ،و َم ْن َِأ َص َ
ابِم ْنِ َذل َ بِبهِفيِالدُّ ْن َياِ َف ُه َوِ َل ُهِ َك َّف َارة َ
َف ُعوق َ
َع َفاِ َعنْ ُِه»( .)1ذكر هذه الذنوب -الزنا والسرقة - ...وذكر أن من عوقب يف الدنيا كان كفارة له ،ومن لم
يعاقب فهو إلى اهلل يوم القيامة ،إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له .وهذا دليله يف القرآن ،قال تعالى ﭿﮢ ﮣ ﮤ
ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﭾ [النساء .]48 :ويف حديث أبي ذر ﭬ قال النبي -عليه الصالة والسالم-
ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﭾ [النساء.]48 :
ومن فوائد هذا الحديث العظيمة -حديث أبي هريرة :-أن ترك المعاصي داخل يف مسمى اإليمان ،وهذه
فائدة ثمنية جد ًا مستفادة من هذا الحديث .فاإليمان يدخل يف مسماه العقائد التي تكون يف القلب ،يدخل
يف مسماه األقوال الطيبة التي تكون باللسان ،يدخل يف مسماه األعمال الصالحة التي يباشرها العبد ويفعلها
من صالة وصيام وغير ذلك ،ويدخل يف مسماه كذلك ترك المعاصي .فكما أن فعل الطاعة إيمان ،فإن ترك
متقربًا هبذا التجنب
المعصية كذلك إيمان ،فالذي يتجنب الزنى ويتجنب السرقة ويتجنب شرب الخمر ِّ
إلى اهلل -سبحانه وتعالى -هذا معدود يف إيمانه الذي يثيبه رب العالمين عليه عظيم الثواب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري ( )3892واللفظ له ،ومسلم (.)1709
( )2رواه البخاري ( )5827ومسلم (.)94
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 70
قالِ:
) (39حدثنا يزيد بن هارون ،أنا محمد بن إسحاق ،عن يحيى بن عباد بن عبد اهلل بن الزبير ،عن أبيه ،عن
ين َِي ْسر ُقِ
ِ،و ََل َِي ْسر ُقِح َ
ن َ يِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ
ين َِيزْن َ
عائشة ،قالت :سمعت رسول اهلل ﷺ يقولََ « :ل َِيزْنيِالزَّانيِح َ
اِو ُه َو ُِم ْؤم ٌنَ ِ،فإ َّياك ُْمِإ َّياك ُْمِ». ِ،و ََل َِي ْش َر ُب َِي ْعنيِا ْلخَ ْم َرِح َ
ين َِي ْش َر ُب َه َ َو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -الحديث المتقدم ،أورده من حديث أم المؤمنين عائشة ڤ وفيه زيادة
ُم» ،وهذه يستفاد منها أن النبي -عليه الصالة والسالم -ذكر ذلك ِّ
محذ ًرا األمة أشد التحذير، « َفإ َّياك ُْمِإ َّياك ِْ
تحذيرا لألمة من الوقوع يف هذه المعاصي واقرتاف هذه اآلثامَ « ،فإ َّياك ُْمِإ َّياك ُْمِ» أي :احذروها
ً يكرر ذلك
وحديث عائشة هذا ،يف إسناده عنعنة محمد بن اسحاق وهو مدلس ،لكن يشهد للحديث حديث أبو هريرة
وأيضا الزيادة التي يف تمامه « َفإ َّياك ُْمِإ َّياك ِْ
ُم» ثابتة يف صحيح مسلم( )1من حديث أبي وشواهد أخرى كثيرةً ،
هريرة يف بعض طرقه قالَ « :فإ َّياك ُْمِإ َّياك ُْمِ» محذ ًرا أمته -صلوات اهلل وسالمه عليه -من هذه الذنوب.
قالِ:
( )40حدثنا ابن علية ،عن الليث ،عن مدرك ،عن ابن أبي أوفى ،قال :قال رسول اهلل ﷺََ « :ل َِيزْنيِالزَّانيِ
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث ابن أبي أوىف ﭬ وهو بمعنى أو بلفظ حديث أبي
ين َِي ْسر ُقِ ِالسار ُقِح َ ِ،و ََل َِي ْسر ُق َّ
يِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َين َِيزْن َ هريرة وعائشة ﭭ المتقدمين .قالََ « :ل َِيزْنيِالزَّانيِح َ
ونِإ َل ْي َهاِ ِشر ٍ
ف َِي ْر َف ُعِا ْل ُم ْسل ُم َ بِن ُْه َب ًِةِ َذ َ
ات َ َ ِ،و ََل َِينْتَه ُ
اِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ ِ،و ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ
ين َِي ْش َر ُب َه َ َو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ
ن» .ذكر يف هذا الحديث هذه الكبائر مب ِّينًا -صلوات اهلل وسالمه عليه -تأثير هذه الكبائر
ُِرؤُِ َس ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ
عرض فاعلها للعقوبة كما سبق بيان ذلك ،والحديث أورده المصنف
على اإليمان ،وأهنا تنقص اإليمان وت ِّ
-رحمه اهلل تعالى -من طريقين.
قالِ:
) (41حدثنا الحسن بن موسى ،نا شعبة ،عن فراس ،عن مدرك ،عن ابن أبي أوفى ،عن النب ِّي ﷺ نحوه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1صحيح مسلم) (.)57
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 72
الحديث أورده المصنف -رحمه اهلل تعالى -من طريقين :األولى عن الليث عن مدرك ،والثانية عن فراس
عن مدرك ،فمداره على مدرك ولم يو ِّثقه إال ابن حبان ،وهو مدرك بن عمارة .والحديث يشهد له حديث
أبي هريرة المتقدم ،فهو حديث صحيح.
قال:
( )42حدثنا محمد بن بشر ،نا محمد بن عمرو ،عن أبي سلمة ،عن أبي هريرة ،قال :قال رسول اهلل ﷺ:
الشرحِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن أبي هريرة ﭬ أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال:
انِفيِا ْل َجنَّةِ» ،ما دام الرجل حييا متص ًفا بالحياء فإن هذا الحياء يكون قو ًة
يم ُ
ِ،و ْاْل َ
يمان َ قال« :ا ْل َح َيا ُءِم َن ْ
ِاْل َ
يف إيمانه ،قو ًة يف أعماله الصالحة ،سببًا يف بعده عن المعاصي واآلثام ،والنتيجة بإذن اهلل -تبارك وتعالى-
دخول الجنة .أما إذا كان اإلنسان صفي ًقا بدي ًئا ال حياء عنده ،فأمره كما جاء يف تمام الحديث « َوا ْل َب َذا ُءِم َنِ
ا ْل َج َفاءِ» ،والبذاء ضد الحياء ونقيضه .البذاء من الجفاء ،إذا كان اإلنسان جاف ًيا -جايف الطبع -يكن بذي ًئا
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه مسلم (.)37
( )2رواه البخاري ( ،)6117ومسلم (.)37
73 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
73
ْت»( .)1إذا كان اإلنسان َّاسِم ْنِ َكَلَمِالنُّ ُب َّوةِ،إ َذاِ َل ْمِت َْست َْحيِ َف ْ
اصن َْع َِماِشئ َ ِ يف كالمه وأقواله ،و«إ َّنِم َّم َ
اِأ ْد َر َكِالن ُ
بذي ًئا ال حياء عنده ،هذا يفضي به إلى األعمال السيئة القبيحة التي توصله -والعياذ باهلل -إلى النار.
قالِ:
( )43حدثنا حسين بن عل ٍّي ،عن زائدة ،عن هشام ،عن الحسن ،عن جابر بن عبد اهلل ،أنه قال :قيل :يا
اح ُِة» .قيل :فأي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قالَ « :أ ْح َسن ُُه ْمِ
الس َم َ
الص ْب ُر َِو َّ
رسول اهلل أي اإليمان أفضل؟ قالَّ « :
ُخ ُل ًقا».
الشرحِِ:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن جابر بن عبد اهلل ﭭ ،قال« :قيل :يا رسول اهلل أي اإليمان
اح ُِة» .ذكر -صلوات اهلل وسالمه عليه -هاتين الخصلتين .الصرب بأنواعه
الس َم َ
الص ْب ُرِ َو َّ
أفضل؟ قالَّ :
الثالثة :الصرب على طاعة اهلل ،والصرب عن معصية اهلل ،والصرب على أقدار اهلل المؤلمة؛ وأصل الصرب هو
حبس النفس ،وهو يف الشرع حبس لها على الطاعات لتفعلها ،وعن المعاصي لتجتنبها ،ويف أقدار اهلل
خيرا ،يمنع نفسه من كل كالم باطل أو
المؤلمة أال تجزع وال تسخط ،وال يقول إنسان يف حال المصيبة إال ً
فعل باطل ،يحبس نفسه عن ذلك.
اح ُِة» ،أي :سماحة النفس بأن تكون النفس سمح ًة يف الخير ،ونفس اإلنسان إذا كانت
الس َم َ
الص ْب ُر َِو َّ
قالَّ « :
سمحة انقاد للخيرات وإلى الفضائل ،فإذا اجتمع يف اإلنسان صرب وسماحة فإنه بإذن اهلل -تبارك وتعالى-
وأيضا يبتعد عن الرذائل ابتعا ًدا قويا؛ ألنه عنده صرب وعنده سماحة ،صرب
عظيما ً
ً يقبل على الخيرات إ ً
قباال
يحجزه وسماحة تدفعه للخيرات والفضائل ،فإذا اجتمع الصرب والسماحة فهذا الشك أنه من أقوى ما
يكون يف اإليمان والتمكن منه.
ــــــــــــــــــــــــــــ
( )1رواه البخاري (.)3484
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 74
وأما قوله ﭬ يف الحديث« :قيل :فأي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قالَ :أ ْح َسن ُُه ْم ُ
ِخ ُل ًقا» ،فقد مر معنا حديث
سنُِ ُِه ْمِِخُِ ُِلقًا»( )1ومر
ح َِ يم َ
انًاِأِ ِْ ينِإِ َِ
الم ْؤِمِنِ َِ أبي هريرة من طرق أن النبي -عليه الصالة والسالم -قالَِ « :أ ِْك َمِ ُ ِ
لِ ُِ
هناك الكالم على هذا الحديث وبيان معناه.
وإسناد حديث جابر الذي ساقه المصنف -رحمه اهلل تعالى -فيه عنعنة الحسن البصري ،وقد قال علي
بن المديني وأبو زرعة وغيرهما بأن الحسن لم يسمع من جابر -رضي اهلل عنه وأرضاه ،لكن ذكر العالمة
األلباين -رحمه اهلل وغفر له وأسكنه الجنة وجزاه عنا خير الجزاء -قال :له شاهد من حديث عمرو بن
عبسة يف «المسند» وآخر من حديث عبادة بن الصامت -رضي اهلل عنهما(.)2
واهلل تعالى أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن.
ــــــــــــــــــــــــــــ
(« )1كتاب اإليمان» (رقم.)17
(« )2كتاب اإليمان» (ص.)25
شرح كتاب اإلميان
البن أبي شيبة رمحه اهلل
لفضيلة الشيخ
عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظه اهلل تعاىل
الدرس الخامس
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه
أجمعين .أما بعد،
فيقول اإلمام الحافظ أبو بكر ،عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكوف -رحمه اهلل تعالى ،ف كتابه
«اإليمان»:
(َ )43حدَّ َثنَا ُح َس ْي ُن ْب ُن َعلِ ٍّيَ ،ع ْن َزائِدَ ةََ ،ع ْن ِه َشامٍَ ،ع ِن ا ْل َح َس ِنَ ،ع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد اهللِ َأ َّن ُه َق َال :قِ َيلَ :يا
يمانًا؟ َق َالَ « :أ ْح َسن ُُه ْم ِِ ِ اإل ِِ رس َ ِ
اح ُة» .ق َيلَ :ف َأ ُّي ا ْل ُم ْؤمني َن َأك َْم ُل إِ َ
الس َم َ يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َالَّ « :
الص ْب ُر َو َّ ول اهللَ ،أ ُّي ْ َ َ ُ
ُخ ُل ًقا».
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده لشريك له ،وأشهد أن محمد ًا عبده ورسوله
-صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد،
فهذا الحديث -حديث جابر بن عبد اهلل ﭭ -مر معنا ف لقاء األمس ووقفنا على شيء من مضامين
هذا الحديث العظيم المبارك ،لكن هناك بعض الجوانب التي يحسن أن نقف عليها مزيدً ا ف بيان هذا
اح ُة» .ل ِ َم ُخ َّصت هاتان اإل ِِ قوله ﭬ« :قِ َيل :يا رس َ ِ
الس َم َ يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َالَّ :
الص ْب ُر َو َّ ول اهللَ ،أ ُّي ْ َ َ َ ُ
اإل ِِ
اح ُة».
الس َم َ يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َالَّ :
الص ْب ُر َو َّ الخصلتان -الصرب والسماحة -بأهنما أفضل اإليمان؟ قالَ « :أ ُّي ْ َ
وإذا تأملت تجد أن دين اهلل -سبحانه وتعالى -إنما يكون قيامه على الصرب والسماحة؛ فدين اهلل -عز
3 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
3 ٍ
ونواه هنانا -جل وعال -عنها. وجل -أوامر ون ٍ
واه ،أوامر أمرنا اهلل -سبحانه وتعالى -هبا ودعانا إلى فعلها،
ٍ
وحبس للنفس و َمنْ ٍع لها .فإذا ُوفق العبدُ للصرب فتنقاد .وجانب النواهي يحتاج من العبد إلى صرب
والسماحة وفق للقيام بالدين كله .أما من ل سماحة عنده كيف ُيقبِل على الفرائض؟ ومن ل صرب عنده
راوي هذا الحديث عن جابر – قيل للحسن :ما الصرب والسماحة؟ قال« :الصرب عن محارم اهلل ،والسماحة
بفرائض اهلل» ،فالصرب والسماحة ُج ِمع بينهما ف هذا الحديث ،فكانت السماحة متعلقة بفعل الفرائض،
وقد أورد ابن القيم -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ف كتابه «مدارج السالكين» وعلق عليه تعلي ًقا
وأيضا بين مدلوله والمراد به ،فقال -رحمه اهلل تعالى« :-وهذا
عظيما جدً ا ،بين فيه مكانة هذا الحديثً ،
ً
من أجمع الكالم وأعظمه برها ًنا وأوعبه لمقامات اإليمان من أولها إلى آخرها ،فإن النفس يراد منها شيئان:
َب ْذ ُل ما أمِ َر ْ
ت به وإعطاؤه ،فالحامل عليه السماحة .وترك ما هنيت عنه وال ُبعد منه ،فالحامل عليه الصرب»،
فأصبح هاذان الخلقان -الصرب والسماحة -عليهما قيام الدين ،وعليهما مدار مقامات اإليمان كلها.
المعاصي -بإذن اهلل -ويحول بينه وبينها ،والسماحة التي ف نفسه تدفعه إلى اإلقبال على الطاعات وفعل
ظالما لنفسه.
غير راغبة ول مقبلة بسبب ما ف قلبه من شح وعدم رغبة وحرص على الخير ،فيكون بذلك ً
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 4
فهذا أيها اإلخوة الكرام يبين لنا معنى قول نبينا -عليه الصالة والسالم -عندما سئل« :أي اإليمان
أفضل؟» وف بعض روايات الحديث «أي األعمال أفضل؟ قال :الصبر والسماحة»؛ ألن األعمال سواء
سمحا.
ً صبورا
ً فعال أو تر ًكا ل تتم ول تتأتى للعبد إل إذا كان
كانت ً
ِ
معنعن ،لكن ذكر األلباين $أنه له والحديث عرفنا باألمس أن ف إسناده الحسن عن جابر وهو
ووجدت ف «مسند أبي يعلى» متابعة لجابر ،لكن فيها ضع ًفا ،من رواية يوسف بن
ُ شاهدان يتقوى هبما،
محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر .ويوسف ضعيف ،لكن الحديث صحيح ثابت عن النبي -عليه
يمانًا؟ َق َالَ :أ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا» ،هذه الجملة مر معنا ِِ ِ
وقوله ف تمام الحديث« :ق َيلَ :ف َأ ُّي ا ْل ُم ْؤمني َن َأك َْم ُل إِ َ
أيضا مر الكالم على مضمونه ومعناه.
نظيرها من حديث أنس بن مالك ،و ً
قال:
الشرح:
ثم أورد المصنف -رحمه اهلل تعالى -جملة من األحاديث المتعلقة بالصالة التي هي أعظم فرائض
اإلسالم وأعظم واجبات الدين بعد توحيد اهلل -جل وعال .وهي أعظم الفرائض ،ومر معنا أهنا عماد الدين
$بدء ًا من هذا الحديث -حديث جابر ﭬ -جملة من األحاديث تتعلق هبذه الفريضة العظيمة.
5 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
5
مناسبة لطيفة جدً ا من جهة أن المصنف أورد حديث جابر وفيه أن أفضل اإليمان الصرب
وهنا َ
والسماحة ،وعرفنا أن الصرب يتعلق ف هذا الحديث بجانب المحارم والبعد عنها ،وقد مر معنا قبله قول
ين َي ْسرِ ُق َو ُه َو النبي -عليه الصالة والسالمََ « :ل يزْنِي الزَّانِي ِحين يزْنِي وهو م ْؤ ِمن ،و ََل يسرِ ُق الس ِ ِ
ار ُق ح َ َّ َ ُ َ ُ ٌ َ َْ َ َ َ
ات َشر ٍ
ف َي ْر َف ُع ا ْل ُم ْس ِل ُم َ ِ ِ ِ
ون إِ َل ْي َها ُرؤُ َس ُه ْم ين َي ْش َر ُب َها َو ُه َو ُم ْؤم ٌنَ ،و ََل َينْت َِه ُ
ب ن ُْه َب ًة َذ َ َ ُم ْؤم ٌنَ ،و ََل َي ْش َر ُب ا ْلخَ ْم َر ح َ
َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن» .فهذا الجانب الذي مر يتعلق بالصرب وهو يحتاج من العبد إلى صرب .والجانب اآلخر الذي
يأيت بعد هذا الحديث -وهو فريضة الصالة -تحتاج إلى سماحة ،تحتاج من العبد إلى سماحة نفس لينقاد
ٍ
بسالسة وسهولة ألداء هذه الفريضة العظيمة؛ فمن لم يكن عنده صرب ربما انقادت نفسه إلى الشهوات
ومن أشنعها الزنا -والعياذ باهلل -وشرب الخمر ،ونحوها من الكبائر ،وإن لم تكن نفسه سمح ًة لم تنقد
اإل ِِ فذ ْكر هذا الحديث -حديث جابر« :قِ َيل :يا رس َ ِ
للفرائضِ .
يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َالَّ :
الص ْب ُر ول اهللَ ،أ ُّي ْ َ َ َ ُ ُ
ومتعلق بما هو ٍ
آت وهو أداء هذه ٌ اح ُة» -له َت َع ُّل ٌق بما مضى مما هو ُم ِض ٌر بكمال اإليمان الواجب،
الس َم َ
َو َّ
الص ََل ِة» .هذا الحديث خرجه ِ قالَ :عن جابِ ٍر ﭬَ ،ق َالَ :ق َال رس ُ ِ
ول اهلل ﷺَ « :ب ْي َن ا ْل َع ْبد َوا ْل ُك ْفرِ ت َْر ُك َّ َ ُ ْ َ
وأن لها المكانة ال َعلِية والمنزلة الرفيعة ،وأهنا للدين بمثابة العماد ،ل يقوم الدين إل عليها ،فمن ل يصلي
ل دين له -كما سيأيت ف حديث ابن مسعود ﭬ ،ومن ل يصلي ل حظ له ف اإلسالم؛ ألن شي ًئا سقط
عماده ل قيام له ،ألن العماد هو الذي عليه قيام البناء ،فإذا سقط العماد سقط البناء ،فمن ل صالة له ل دين
له ول حظ له ف اإلسالم.
وقوله هنا« :بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصالة» فيه أن اإلنسان إذ ترك الصالة كأنه ترك
الص ََل ِة» هذا لفظ الحديث ف «صحيح مسلم» ،بمعنى أنه إذا قال« :بين الرج ِل وبين ِّ ِ
الش ْرك َوا ْل ُك ْفرِ ت َْر ُك َّ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ
ِ
وأيضا تا ِر ُك التوحيد يكون برتكه للتوحيد ً
كافرا مشر ًكا. كافرا مشر ًكاً ،
ترك الصالة يكون ماذا؟ ً
المؤمن والكافر ،من صلى فهو من أهل اإلسالم« :من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم» ،فهي
كافر
مسلم ،ومن لم يكن من أهل الصالة فهو ٌ
ٌ فاصل بين المسلمين والكفار :فمن كان من أهل الصالة فهو
مستحق للنار والخلود فيها ،كما قال اهلل -عز وجل -عن الكفار أهل النار :ﭿ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ
ٌ
ﰞ ﰟ ﭾ [المدثر .]43 – 4٢ :فالصالة عماد للدين ،وبين العبد وبين الكفر والشرك باهلل – تعالى -ترك الصالة،
بمعنى أنه إذا ترك الصالة أصبح برتكه للصالة كافر ًا باهلل -عز وجل -مشر ًكا ،مثله تما ًما مثل من يرتك
التوحيد؛ فإن تارك التوحيد كافر مشرك ،ومثله تما ًما -كما يدل لذلك هذا الحديث -تارك الصالة،
ٌ
مشرك باهلل -عز وجل. كافر
فتاركها ٌ
قال:
الشرح:
ثم ساق هذه الطريق األخرى لهذا الحديث عن عبيدة عن األعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي
قال:
7 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
7
ولَ :س ِم ْع ُت َأبِي َي ُق ُ
ول: اضحٍ َ ،ع ْن ُح َس ْي ِن ْب ِن َواقِ ٍدَ ،ق َالَ :س ِم ْع ُت ا ْب َن ُب َر ْيدَ ةََ ،ي ُق ُ
( )46حدَّ َثنَا يحيى بن و ِ
َ َْ ْ ُ َ َ
الص ََل ِةَ ،ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر» ِ ول اهللِ ﷺ َي ُق ُ
ول« :ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ َس ِم ْع ُت َر ُس َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث بريدة ﭬ أنه سمع النبي ﷺ يقول« :ا ْل َع ْهدُ ا َّل ِذي
ِ
وغيرهم هو الصالة؛ فمن كان الص ََل ِةَ ،ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر» .العهد الذي بين المسلمين
َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ
تار ًكا للصالة كافر ،ومن كان من أهل الصالة فهو مسلم .وهبذا ُيعلم أن الصالة تعتربحدً ا فاصالً يمتاز هبا
ومن لم يكن من أهل الصالة فهو كافر؛ ألن الكفار تاركون للصالة ،ومن لم يكن مصل ًيا كان كافر ًا باهلل -
جل وعال.-
الص ََل ِةَ ،ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر» .فهذا الحديث نظير الحديث الذي قبله ِ
«ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ
كفر
ف الدللة على أن الصالة فريضة ،وأهنا رك ٌن من أركان اإلسالم وعما ٌد من أعمدة الدين ،وأن تركها ٌ
قال:
ِ ِ ِ ِ
يكَ ،ع ْن َعاص ٍمَ ،ع ْن ِز ٍّرَ ،ع ْن َع ْبد اهللَ ،ق َالَ « :م ْن َل ْم ُي َص ِّل َف ََل د َ
ين َل ُه». (َ )47حدَّ َثنَا َش ِر ٌ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عبد اهلل بن مسعود -موقو ًفا عليه -أنه قالَ « :م ْن َل ْم ُي َصل
َف َال ِدي َن َل ُه» .قولهَ « :م ْن َل ْم ُي َصل َف َال ِدي َن َل ُه» يدل عليه حديث جابر وحديث بريدة ﭭ المتقد َم ْي ِن؛ ألن
النبي -عليه الصالة والسالم َ -ح َك َم على تارك الصالة بأنه كافر ،أي :ل دين له ،هذا هو معنى قول ابن
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 8
مسعود ﭬَ « :م ْن َل ْم ُي َصل َف َال ِدي َن َل ُه» .ومثله تما ًما قول عمر بن الخطاب ﭬ« :ل حظ ف اإلسالم لمن
ترك الصالة» ،أي :إذا كان تار ًكا للصالة ل نصيب له ف اإلسالم؛ ألن الصالة عماد الدين ،فمن تركها كان
هذا األثر رواه المصنف عن َش ِريك وهو ابن عبد اهلل القاضي ،وهو ضعيف لسوء حفظه ،عن عاصم
وهو ابن هبدلة ،عن زر وهو ابن حبيش ،عن عبد اهلل بن مسعود ﭬ .وشريك لم يتفرد به بل توبع عليه،
قال:
ونَ ،ع ْن ِه َشا ٍم الدَّ ْست َُوائِيَ ،ع ْن َي ْح َيىَ ،ع ْن َأبِي قِ َال َبةََ ،ع ْن َأبِي ا ْل َملِيحِ َ ،ع ْن ُب َر ْيدَ ةَ،
(َ )48حدَّ َثنَا َي ِزيدُ ْب ُن َه ُار َ
الشرح:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن بريدة األسلمي ﭬ أن النبي ﷺ قالَ « :م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر
َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» .والحديث رواه البخاري $ف «صحيحه» من طريق هشام به.
وقولهَ « :م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر» أي :صالة العصر .وتخصيص صالة العصر ف هذا الحديث فيه دللة على
مكانة هذه الصالة ،وليس فيه دللة على تخصيص هذا الحكم هبا ،وإنما هو دال على مكانة هذه الصالة،
وعظيم منزلتها .و« َم ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» ،لماذا؟ ألن الصالة المفروضة -ومنها صالة العصر
ٍ
لعماد يقوم الدين عليه ،فتحبط -عما ٌد للدين ،ل يقوم الدين إل عليها ،فمن ترك الصالة يكون بذلك تار ًكا
أعماله وتبطل.
9 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
9
وهذا الحديث مع أحاديث أخرى استدل هبا جماعة من أهل العلم على أن من ترك ولو صال ًة واحد ًة
قال:
اعيَ ،ع ْن َي ْح َيى ْب ِن َأبِي كَثِ ٍيرَ ،ع ْن َأبِي قِ َال َبةََ ،ع ْن َأبِي ا ْلم َه ِ
اج ِرَ ،ع ْن ( )49حدَّ َثنَا ِعيسى ،ووكِيعَ ،ع ِن ْاألَو َز ِ
ْ َ َ ٌ َ
ُ َ
يث َي ِزيدَ َع ْن ِه َشا ٍم الدَّ ْست َُوائِي.
بريدَ ةََ ،ع ِن النَّبِي ﷺ مِ ْث َل ح ِد ِ
َ َُ ْ
(َ )50حدَّ َثنَا ُه َش ْي ٌم ،أنا َع َّبا ُد ْب ُن َم ْي َس َر َة ا ْل ِمنْ َق ِر ُّيَ ،ع ْن َأبِي قِ َال َبةََ ،وا ْل َح َس ُنَ ،أن َُّه َما كَانَا َجال ِ َس ْي ِن َف َق َال َأ ُبو قِ َال َب َة:
َق َال َأ ُبو الدَّ ْر َد ِاءَ « :م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر َحتَّى َت ُفو َت ُه ِم ْن َغ ْيرِ ُع ْذ ٍر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» َق َالَ :و َق َال ا ْل َح َس ُنَ :ق َال َر ُس ُ
ول
اهللِ ﷺَ « :م ْن ت ََر َك َص ََل ًة َم ْكتُو َب ًة َحتَّى َت ُفو َت ُه ِم ْن َغ ْيرِ ُع ْذ ٍر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه».
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث أبي الدرداء ﭬ ،وهو بمعنى حديث بريدة
األسلمي المتقدم ﭬ .وحديث أبي الدرداء ف إسناده عباد بن ميسرة وهو َلي ُن الحديث ،وفيه انقطاع،
ول اهللِ ﷺَ :م ْن ت ََر َك َص ََل ًة َم ْكتُو َب ًة َحتَّى َت ُفو َت ُه ِم ْن َغ ْيرِ ُع ْذ ٍر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» يدل
وقول الحسن « َق َال َر ُس ُ
له حديث بريدة ،وهو قول النبي عليه الصالة والسالمَ « :م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» ،وقد عرفنا أن
أيضا ف القرآن
والحديث فيه أدلة عديدة عن الرسول الكريم -عليه الصالة والسالم ،بل هناك أدلة ً
الكريم تدل على كفر تارك الصالة ،وقد اعتنى جماعة من أهل العلم بجمع هذه األدلة ومنهم العالمة ابن
قال ابن القيم -رحمه اهلل -بعد أن ساق جملة من األدلة الدالة على كفر تارك الصالة« :واألدلة التي
ذكرناها وغيرها تدل على أنه ل ُيق َبل من العبد شيء من أعماله إل بفعل الصالة ،فهي مفتاح ديوانه ورأس
ٌ
ومحال بقاء الربح بال رأس مال ،فإذا خسرها خسر أعماله كلها.»... مال ربحه،
الشاهد أن ابن القيم -رحمه اهلل -يذكر أن معنى قوله عليه الصالة والسالمَ « :ف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» أن
أعماله ل ُتق َبل؛ ألن الصالة عما ٌد للدين ،وهي رأس مال المرء ،فإذا كان رأس المال مفقو ًدا كيف يكون
رابحا بال رأس مال؟! فإذا خسرها خسر أعماله كلها ،هكذا قال -رحمه اهلل ،-فإذا خسر الصالة المكتوبة
ً
خسر أعماله كلها ،بمعنى أن تارك الصالة إن كان متصد ًقا ل ينتفع بصدقاته ،إن كان يحج ويعتمر ل ينتفع
محبط لألعمال« :ا ْل َع ْهدُ ا َّل ِذي َب ْي َننَا َو َب ْين َُه ْم
ٌ بحجه واعتماره ،إن كان يصوم ل ينتفع بصيامه؛ ألن ترك الصالة
وهذا المعنى قرره جماعة من أهل العلم ،ول أطيل ف النقول وإنما أكتفي بنقلين ،أحدهما عن
مشائخنا األفاضل ف اللجنة الدائمة لإلفتاء برئاسة الشيخ بن باز -رحمة اهلل عليه -ف حياته ،سئلوا عن
ترك صالة واحدة ،قالوا « :من ترك صالة واحدة متعمدا فهو كمن ترك جميع الصلوات ،فال تقبل منه بقية
الصلوات ،ول يقبل منه أي عمل حتى يقيم الصالة ويحافظ عليها كلها ولو كان ُم ِقرا بوجوهبا ،فاإلقرار
كفرا أكرب».
كافرا ً
بالوجوب ل يكفي عن أداء الصالة؛ ألنه برتك الصالة عمدً ا يكون ً
11 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
11
وقيل للشيخ بن باز :$ما الحكم إذا ترك صالة واحدة؟ قال « :صالة واحدة أو عشر! إذا تركها
عمدً ا حتى ذهب وقتها -مثل الفجر حتى طلعت الشمس عمدً ا -كفر ،وعليه التوبة إلى اهلل ،أو ترك العصر
حتى غابت الشمس ،أو العشاء حتى طلع الفجر ،هذا كفر على الصحيح ف أقوال العلماء.»...
خالف
ٌ ونكتفي من النقول هبذا .والمسألة -كما هو معلوم ،وكما أشار إلى ذلك سماحة الشيخ -فيها
بين أهل العلم ،ولكن كما قال – رحمه اهلل تعالى -هذا الصحيح من أقوال أهل العلم ،وهو الذي تشهد
له األدلة ،ومنها ما ساقه المصنف ابن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى.
وهذا أيها األخوة الكرام يستوجب على العاقل الناصح لنفسه أن يتقي اهلل -عز وجل -ف هذه الصالة؛
اب َو َخ ِس َر» ،وهي عماد لهذا الدين ،ذكر النبي -عليه الصالة والسالم -الصال َة يومًا ،فقال:
َف َسدَ ْت َف َقدْ َخ َ
ِ ِ ِ
ُورا َو ُب ْر َهانًا َون ََجا ًة َي ْو َم ا ْلق َي َامةَ ،و َم ْن َل ْم ُي َحاف ْظ َع َل ْي َها َل ْم َتك ُْن َل ُه ن ً
ُورا َو ََل ُب ْر َهانًا « َم ْن َحا َف َظ َع َل ْي َها كَان ْ
َت َل ُه ن ً
ان و ُأبي ب ِن َخ َل ٍ
ف»() ،وأبي بن خلف كان من أشد و ََل نَجا ًة وي ْأتِي يوم ا ْل ِقيام ِة مع َقار َ ِ
ون َوف ْر َع ْو َن َو َه َام َ َ َ ِّ ْ َ ََ َْ َ َ َ َ َ ُ َ
األعداء األلداء للرسول -عليه الصالة والسالم! ومن الذي يرضى لنفسه أن يحشر يوم القيامة جن ًبا إلى
جنب مع صناديد الكفر وأعمدة الباطل -والعياذ باهلل؟ و َم ْن َت َرك الصالة فقد رضي لنفسه بذلك ،شاء أم
أبى!
وهنا -أيها اإلخوة -أذكر نفسي وإياكم أن العبد ل يستطيع أن يكون مصل ًيا إل إذا أعانه اهلل .وتأمل -
رعاك اهلل -دعوة إمام الحنفاء ،خليل الرحمن ڠ ،حيث يقول :ﭿﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ
ﯪ ﯫﭾ [إبراهيم ،]40 :قال :ﭿﯢ ﯣ ﯤ ﯥﭾ ،فمن أراد أن يكون من أهل الصالة فعليه بأمرين
عظيمين للغاية:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 12
األمر األول :أن ُيلِ َّح على اهلل -سبحانه وتعالى -دو ًما بالدعاء أن يجعله من أهل الصالة :ﭿﯢ ﯣ
ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﭾ ،يسأل اهلل -جل وعال -أن يجعله كذلك؛ ألن اهلل – عز وجل
-إن لم يجعلك كذلك ل تستطيع ،لول اهلل ما اهتدينا ول صمنا ول صلينا .فتلح على اهلل -عز وجل -
وتكثر من الدعاء أن يجعلك من أهل الصالة ،صاد ًقا مع اهلل ف دعائك .واألمور بيده -سبحانه وتعالى،
«لو أخرج قلبي ،فجعل ف يساري ،وجيء بالخير ،فجعل ف يميني »...تأمل -رعاك اهلل – قال« :لو أخرج
قلبي ،فجعل ف يساري ،وجيء بالخير ،فجعل ف يميني ،ما استطعت أن أولج قلبي منه شيئا» -أي :الخير
الذي ف يده اليمنى« -ما استطعت أن أولج قلبي منه شيئا حتى يكون اهلل يضعه» .هذا أمر لبد أن نفهمه:
أن األمر بيد اهلل ،وأن الهداية بيد اهلل ،وأنك أن تكون من المصلين هذا بيد اهلل! قال النبي ﷺُ « :أ ِ
وص َ
يك َيا
ول :ال َّل ُه َّم َأ ِعنِّي َع َلى ِذ ْكرِ َكَ ،و ُش ْكرِ َكَ ،و ُح ْس ِن ِع َبا َدتِ َ
ك» ،إذا أعانك اهلل ُم َعا ُذ ََل تَدَ َع َّن فِي ُد ُبرِ ك ُِّل َص ََل ٍة َت ُق ُ
ل يحول بينك وبين الصالة شيء ،ول يمنعك منها مانع ،ول يثقلك عنها أي أمر .فهذا األمر األول.
لك األمران :الدعاء ومجاهدة النفس ،تكون بإذن اهلل -تبارك وتعالى -من المصلين .وقد جمع النبي -
است َِع ْن بِاَّلل َِ ،و ََل َت ْع َج ْز»« .اِ ْحرِ ْص عليه الصالة والسالم -بين األمرين ف قوله« :اِ ْحرِ ْص َع َلى َما َينْ َف ُع َ
كَ ،و ْ
ِ ك» هذا بذل السبب« ،و ِ
استَع ْن بِاَّلل» ،أي :اطلب َ
المدَّ والعون والتوفيق من اهلل -سبحانه َ ْ َع َلى َما َينْ َف ُع َ
وتعالى.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا ،وبأنك أنت اهلل ل إله إل أنت ،أن تجعلنا أجميعن
وذرياتنا من المقيمن الصالة .اللهم اجعلنا وذرياتنا من المقيمين الصالة .اللهم اجعلنا وذرياتنا من
المقيمين الصالة ،يا رب العالمين ،يا جواد ،يا كريم ،يا منان.
قال:
13 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
13
ان ل ِ َم ْن َل َأ َما َن َة َل ُهَ ،و َل ِدي َن ل ِ َم ْن «ل إِ َ
يم َ (َ )51حدَّ َثنَا َه ْو َذ ُة ْب ُن َخلِي َفةَ ،نا َع ْو ٌ
فَ ،ع ْن َق َسا َم َة ْب ِن ُز َه ْي ٍرَ ،ق َالَ :
َل َع ْهدَ َل ُه».
الشرح:
نفي
في هنا ٌ ل ِ َم ْن َل َع ْهدَ َل ُه» .وهذا ثبت مرفو ًعا ،وقد مر معنا ساب ًقا ،ومر ً
أيضا الكالم على معناه ،وأن الن َ
لإليمان الواجب ،و َع َر ْفنَا هناك أن اإليمان ل ُين َفى إل ف ْتر ِك واجب أو فِع ِل محرم :ترك واجب كما ف
قال:
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن مجاهد -رحمه اهلل تعالى -وهو من علماء التابعين ،أنه
ِ ِ
الر ْأ ُي ا ْل َح َس ُن» أي :الرأي قال« :إِ َّن َأ ْف َض َل ا ْلع َبا َدة َّ
الر ْأ ُي ا ْل َح َس ُن» .ومعنى قوله -رحمه اهلل تعالىَّ « :
الرأي
َ الموافق للنصوص ،الذي يتبع صاح ُبه السن َة؛ سن َة النبي عليه الصالة والسالم .وليس المراد با ِ
لرأي
الح ْس ِن ف شيء!
بح َس ٍن ،وليس من ُ النصوص واألدل َة ،فهذا ٌ
رأي مذمو ٌم وليس َ َ الذي يعارض به صاح ُبه
ِ
النصوص وفهم كال ِم اهلل -سبحانه وتعالى. ِ
األدلة واتباع المبني على الرأي وإنما المراد بالرأي الحسن
َّ َ
ٍ
رسالة له مطبوعة بعنوان «قاعدة وض َحه شيخ اإلسالم ابن تيمية -رحمه اهلل تعالى -ف
وهذا المعنى َّ
ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﭾ [سبأ.]6 :
قال:
الص َالحِ إِ ْن ِ ِ ِ ٍ ٍ (َ )53حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ
ف ْب ِن َم ْي ُمونَ ،ق َالُ :ق ْل ُت ل َع َطاء :إِ َّن ق َب َلنَا َق ْو ًما َن ُعدُّ ُه ْم م ْن َأ ْه ِل َّ
وس َ
او َيةََ ،ع ْن ُي ُ
ُونَ ،وك ََذلِ َ
ك َأ ْد َر ْكنَا َأ ْص َح َ
اب ون ا ْل ُم ْؤ ِمن ِ
ُون َعا ُبوا َذل ِ َك َع َل ْينَاَ ،ق َالَ :ف َق َال َع َطا ٌء« :ن َْح ُن ا ْل ُم ْس ِل ُم َ
ُق ْلنَا :ن َْح ُن ُم ْؤمِن َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عطاء بن أبي رباح ،قيل له« :إِ َّن قِ َب َلنَا َق ْو ًما َن ُعدُّ ُه ْم مِ ْن َأ ْه ِل
هذا األثر يتعلق بالمسألة السابقة التي مر معنا نقولت عديدة عن السلف -رحمهم اهلل -فيها وهي
وأيضا مر معنا ساب ًقا أن الستثناء ف اإليمان هو ُسنَّ ٌة ماضية ومتقررة لدى
مسألة الستثناء ف اإليمانً .
ٍ ِ
درس سابق .وهذا األثر فيه السلف -رحمهم اهلل -وأهنم يستثنون ف اإليمان لمآخ َذ َم َّر ذ ُ
كرها وبياهنا ف
حمل على أصل اإليمان ،كما ُي َوض ُح ذلك أثر الحسن البصري الذي نقل ُته
اهلل -من هذا اإلطالق فإنه ُي َ
ساب ًقا ،وهو أنه سئل أمؤم ٌن أنت؟ فقال« :اإليمان إيمانان .إن كنت تسألني عن اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه
ورسله واليوم اآلخر فأنا مؤمن .وإن كنت تسألني عن من قال اهلل فيهم :ﭿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ولهذا يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية -رحمه اهلل -كما ف مجموع فتاواه« :وأما جواز إطالق القول
بأين مؤمن فيصح إذا عنى أصل اإليمان دون كماله ،والدخول فيه دون تمامه ،كما يقول :أنا حاج وصائم
لمن شرع ف ذلك ،وكما يطلقه ف قوله :آمنت باهلل ورسله ،وف قوله :إن كنت تعني كذا وكذا» -أي :مثل
ما جاء عن الحسن « -أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالسم مع القرينة ،وعلى هذا يخرج
ما روي عن صاحب معاذ بن جبل ،وما روي ف حديث الحارث الذي قال :أنا مؤمن حقا» -وف إسناده
كالم « -وف حديث الوفد الذين قالوا :نحن المؤمنون ،وإن كان ف اإلسنادين نظر» اهـ .أي :إسناد حديث
حمل على هذا المعنى إن َصح ،لكنه ضعيف اإلسناد؛ ألن ف إسناده
وأيضا هذا األثر -أثر عطاء ُ -ي َ
ً
قال:
شَ ،ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن ُم َّرةََ ،ع ْن َأبِي ا ْل َب ْخت َِريَ ،ع ْن ُح َذ ْي َفةََ ،ق َال« :ا ْل ُق ُل ُ
وب (َ )54حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ
او َيةََ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
الشرح:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 16
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن حذيفة -رضي اهلل عنه وأرضاه -أنه قال« :ا ْل ُق ُل ُ
وب
َأ ْر َب َعةٌ» ،أي :قلوب الناس تنقسم إلى أربعة أقسام من حيث اإليمان والعتقاد ،أو الوقوع ف ضد ذلك من
الكفر والنفاق ،فقلوب الناس تنقسم إلى أربعة أقسام .والقسمة التي جاءت ف هذا األثر قسمة صحيحة
وواضحة وبينة ،ولها شواهدها ودلئلها الكثيرة ف كتاب اهلل وسنة نبيه -عليه الصالة والسالم -من حيث
وزعما وادعا ًء ،وإل فالقلب من حيث هو -قلب المنافق -ليس فيه إل الكفر باهلل -سبحانه وتعالى -
ً
لكنه ُي ِ
ظهر أن قلبه فيه إيمان وفيه تصديق باهلل وفيه إيمان بالرسل؛ دعوى يدعيها .فإذن « َق ْل ٌ
ب ُم ْص َف ٌح» أي:
قلب ُي ِ
ظهر اإليمان ويدعيه ،ويبطن الكفر وينطوي عليه ،فهذا قلب المنافق.
ب َأ ْغ َل ُق» ،والصواب: ب َأ ْغ َل ُ
ف» .ف «كتاب اإليمان» أو ف طبعة «كتاب اإليمان» قالَ « :ق ْل ٌ «و َق ْل ٌ
قالَ :
« َأ ْغ َل ُ
ف» ،أي :عليه غالف -كما هو ف «المصنف» لبن أبي شيبة -رحمه اهلل -وف مصادر التخريج
ب َأ ْغ َل ُ
ف» ،أي :عليه غالف «و َق ْل ٌ
ﭿ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﭾ [البقرة ، ]88 :أي :عليها غالف ،ومغطاة بغالف .قالَ :
غطاه وأحاط به ،فأصبح ل يصل إليه الحق بسبب الغالف الذي غطاه وحجبه عن أن يصل إليه الحق .قال:
ب ا ْل َكافِ ِر» ،ﭿﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭾ [فصلت ]5 :أي :عليها أغطية ،وعليها أغلِفة ،وعليها « َف َذ َ
اك َق ْل ُ
ب ا ْل َكافِ ِر» ،فالكافر على قلبه أغلفة وأغطية أغشية ،فال يصل إلينا شيء مما تدعونا إليه .قالَ « :ف َذ َ
اك َق ْل ُ
نفيس جد ًا ف
تعليق ٌ
ٌ قال ابن القيم $ف «إغاثة اللهفان» -وللفائدة ابن القيم $له على هذا األثر
راجع -قال -رحمه اهلل تعالى« :قلب أجرد ،أي :متجرد مما سوى اهلل ورسوله،
كتابه «إغاثة اللهفان» فل ُي َ
فقد تجرد وسلم مما سوى الحق» ،فهو قلب أجرد ليس فيه إل الحق ،متجرد هلل -عز وجل -فليس فيه
الم ْق ِريزي له كتاب نافع ف التوحيد سماه «تجريد التوحيد» .فقوله هناَ « :ق ْل ٌ
ب إل الحق .وأحد األئمة وهو َ
َأ ْج َر ُد» ،أي :متجرد مما سوى اهلل -عز وجلَّ ،
تجرد للحق ،ليس فيه إل الحق ،أما الباطل ل وجود له؛
فهذا قلب المؤمن .نسأل اهلل -عز وجل -لنا أجمعين من فضله -سبحانه وتعالى ،قال اهلل -عزوجل :ﭿ
ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭾ [النساء.]49 :
يم ٌ
ان» ،يعني فيه المادتان ،وهو غير القلب األول؛ القلب األول المصفح يه نِ َف ٌ
اق َوإِ َ
قال« :و َق ْلب فِ ِ
َ ٌ
نفاق .قالَ « :ف َم َث ُل ُه َم َث ُل ُق ْر َح ٍة َي ُمدُّ َها َق ْي ٌح َو َد ٌم» .القرحة التي تظهر ف البدن إن أ َمدَّ ها القيح ماذا تكون؟
ضرارا بالبدن .إذا أمدها القيح إزدادت مضرة على البدن ،لكن إذا توقف
ً تزداد َت َع ُّفنًا ،وتزداد إيال ًما ،وتزداد إ
القيح وأصبح الذي يمدها ويغذيها الدم؛ فإنه يكون هذا با ًبا للتماثل والشفاء .أما إذا كان الذي يمد القرحة
القيح؛ فإهنا تزداد وتكرب وتؤذي البدن ،أما إذا توقف القيح عن إمداد هذه القرحة وأصبح الذي يمدها الدم،
قلب فيه نفاق وفيه إيمان ،فمثله حذيفة – ويروى مرفو ًعا كما
تبدأ القرحة تتماثل وتصير إلى الشفاء .فهذا ٌ
ضرارا
ً سيأيت -بقرحة يمدها قيح ويمدها دم ،فحالها بحسب ما يمدها :إن كان الذي يمدها القيح زادت إ
«و َم َث ُل ُه
أيضا َم َّثل له بمثل آخر ،قالَ :
بالبدن ،وإن كان الذي يمدها الدم آلت إلى الشفاء والتماثل والعافية .و ً
أيضا بالثمرة التي تثمرها الشجرة ،وإذا كان الذي يصل إليها
الذي يصل إليها الماء الخبيث أضر هبا وأضر ً
الماء الطيب أزهرت وأينعت وطاب ثمرها .قالَ « :ف َأ ُّي َما َغ َل َ
ب َع َل ْي َها َغ َل َ
ب» ،هكذا ف هذه النسخة،
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 18
اء َغ َلب َع َليها َغ َلب»َ « .ف َأي م ٍ
اء» أي :من والصواب كما جاء ف «المصنَّف» وف مصادر التخريجَ « :ف َأي م ٍ
ُّ َ َ َ َْ ُّ َ
ٍ
المائين -الماء الخبيث أو الطيبَ « ،ف َأ ُّي َماء َغ َل َ
ب َع َل ْي َها َغ َل َ
ب» ،يعني إن كان غلب عليها الماء الخبيث
خبثت ،وإن كان غلب عليها الماء الطيب طابت؛ فصاحبه بين صراع مع نفسه :تارة يمد قلبه -والعياذ باهلل
-أشياء تغذي النفاق ،وتارة يمد قلبه أشياء تغذي اإليمان؛ فإن غلب عليه األشياء التي تغذي اإليمان صلح
قلبه ،وإن غلب عليه األشياء التي تغذي القلب بالنفاق مرض قلبه -والعياذ باهلل.
وهذا يدل على أن اإلنسان يجب عليه أن يصون قلبه من األمور التي ُت َولد النفاق وتمرض القلب،
بأن يمنع الوارادات التي ترد على قلبه وتمرضه .والقلب ترد عليه الوارادت من النظر ومن السمع :إما أن
من الناس ،مشاهدات القنوات الفضائية ومشاهدات الشبكات ف المواقع السيئة الخبيثة التي تمرض
القلوب وتمدها -والعياذ باهلل -بالنفاق والشهوات والشبهات فتمرضها تما ًما .فيحتاج العبد أن يغلق
المنافذ التي ُت ِمد القلب -والعياذ باهلل -بالنفاق ،وأن يحاول أن يزيد المنافذ التي تقوي القلب باإليمان
هذا األثر رواه أبو ال َبخرتي عن حذيفة ﭬ؛ وأبو البخرتي عن حذيفة ُم ْر َسل كما ف «هتذيب
الكمال» .ورواه اإلمام أحمد -رحمه اهلل تعالى -ف «المسند» مرفو ًعا :عن أبي البخرتي عن أبي سعيد
أيضا لم يدرك أبا سعيد ﭬ ،وف إسناده ليث -وهو ابن أبي ُس َليم
الخدري ﭬ مرفو ًعا .وأبو البخرتي ً
-وهو ضعيف .فاإلسناد ضعيف ،لكن األثر من حيث المعنى وانقسام القلوب إلى هذه األقسام واضح
وتدل عليه دلئل كثيرة .وشيخ اإلسالم ابن تيمية $أورد هذا األثر ف مواضع من كتبه ،وأورده ابن
الشرح:
أيضا ف المعنى نفسه عن أم سلمة وأم المؤمنين عائشة -رضي اهلل عنهما وعن الصحابة
وأورد ً
أجمعين ،-ولعلنا نؤجل الكالم على هذا الحديث ف لقاء الغد بإذن اهلل -تبارك وتعالى.
واهلل تعالى أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 20
الدرس السادس
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول اْلمام الحافظ أبو بكر ،عبد اَّلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اَّلل تعالى ،يف كتابه «اْليمان»:
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده لشريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله -
صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .أما بعد،
فقد أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – ف آخر ما سمعناه ف لقائنا السابق حديث حذيفة ﭬ موقو ًفا عليه
َل َّما ذكر المؤلف $حديث حذيفة ﭬ ،أعقبه بأحاديث فيها اللجوء إلى اهلل – سبحانه وتعالى – بأن
يثبت القلب على القول الثابت ،وأن يقيمه على الحق والهدى ،وأن يعيذه من الزيغ والضالل ،وهي
مشتملة على بيان أن قلوب العباد بيد اهلل يصرفها كيف يشاء ويدبرها كيف يشاء – سبحانه وتعالى – وأن
القلوب سريعة التقلب والتحول ،والقلب إنما سمي هبذا السم لكثرة تقلبه وتحوله .ولهذا كان العبد
ومفتقرا إلى اهلل – سبحانه وتعالى – أن يثبت قلبه وأل يزيغه ،وف دعاء المؤمنين ف القرآن :ﭿ ﯫ
ً مضطرا
ً
كثيرا
ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭾ [آل عمران .]8 :وكان نبينا – عليه الصالة والسالم – ً
21 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
21
ما يحلف بقولهَ« :ل ومقلب القلوب» ،وكذلك بقوله َ« :ل والذي نفسي بيده»؛ فالعبد أمره إلى اهلل – عز
وطوع تدبيره – سبحانه وتعالى – فما شاء اهلل كان وما لم يشأ لم يكن .ولهذا كان سيد ولد آدم
َ وجل –
أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – ف هذا المعنى عدة أحاديث ،بدأها بحديث أنس بن مالك ﭬ َق َال:
ب ا ْل ُق ُل ِ
وب» هذا فيه نداء إلى ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ
ك»َ « .يا ُم َق ِّل َ ب ا ْل ُق ُل ِ
وب َث ِّب ْ َان النَّبِي ﷺ ُي ْكثِ ُر َأ ْن َي ُق َ
ولَ « :يا ُم َق ِّل َ ُّ
ك َ
اإلقرار بأن القلوب بيد اهلل ،وأنه – سبحانه وتعالى – يقلبها كيف يشاء .فهذا
َ اهلل – عز وجل – متضم ٌن
ثبات القلب إنما هو بتثبيت اهلل ،فاهلل – عز وجل – هو الذي يثبت قلوب من شاء من عباده على الحق
والهدى ﭿﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ
ﭾ [إبراهيم.]٢7 :
حاله :قد َل ِق َي َك ،وآمن بك ،وآمن بما جئت به ،هل تخاف عليه أن يتقلب قلبه؟ قال – عليه الصالة والسالم
وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها» ،أي :كيف يشاء – سبحانه وتعالى – فإن شاء أقام
–َ « :ن َع ْم ،إِ َّن ا ْل ُق ُل َ
وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن
القلب على الحق والهدى ،وإن شاء أزاغه ،فهذا كله بيد اهلل – عز وجل .قال« :إِ َّن ا ْل ُق ُل َ
ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها» ،أي :كيف يشاء ،فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه ،كما سيأيت ف الحديث اآلخر الذي
وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن» فيه إثبات األصابع هلل – عز وجل – على الوجه الالئق بجالله وكماله –
وقوله« :إِ َّن ا ْل ُق ُل َ
سبحانه وتعالى .ويجب أن ُيعلم أن ما ُيضاف إلى اهلل – سبحانه وتعالى – ف القرآن وما ُيضاف إليه ف سنة
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 22
النبي الكريم – عليه الصالة والسالم – من الصفات فهو مختص به – جل وعال – يجب أن ُي َّنزه فيه –
تبارك وتعالى – عن الشبيه ِ
والم َثال ،وقد قال اهلل تعالى :ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭾ [الشورى ]11 :؛
فهو – جل وعال – له سمع ل كاألسماع ،وبصر ل كاألبصار ،وأصابع – كما ف هذا الحديث – ل
كاألصابع .ومن شبه شي ًئا من صفات اهلل بصفات خلقه فقد كفر باهلل العظيم؛ ألن التشبيه كفر باهلل ٌ
ناقل من
ملة اإلسالم ،ومن شبه اهلل بخلقه كفر ولو بصفة واحدة :من قال إن يد اهلل كيده فقد كفر باهلل! ولم ينفعه
صالة ،ول صيام ،ولحج ،ولصدقة ،ول بِر ،وخرج من ملة اإلسالم؛ ألن التشبيه كفر باهلل ناقل من ملة
اإلسالم .فصفات اهلل – سبحانه وتعالى – خاصة به ،لئقة بجالله وكماله .وكما أن التشبيه باطل ،فإن
أيضا باطل ،وجحدُ صفات اهلل الثابتة ف كتابه وسنة نبيه ﷺ فهذا كذلك باطل وضالل ،والحق
التعطيل ً
بال تمثيل ،وتنزي ٌه هلل – تبارك وتعالى – عن مماثلة المخلوقات دون تعطيل لشيء من صفاته – سبحانه
وإثبات
ٌ تنزيه ،وقوله :ﭿﭥ ﭦ ﭧﭾ هذا إثبات .وقاعدة أهل السنة ف هذا الباب :تنزي ٌه بال تعطي ٍل،
مثال :لو أثبتنا هلل كذا ل َل ِز َم أن يكون كذا وكذا! َأ ُه ْم أعلم باهلل مِ َن اهلل؟! َأ ُه ْم أعلم باهلل
صفات اهلل ،يقولون ً
ُ
الرسول ويجحدون! ويقولون فيما أثبته الرسول ﷺ لربه – يقولون :هذا ل يليق من رسول اهلل ﷺ؟ يثبِ ُت
باهلل؛ ألنه يلزم منه كيت وكيت مِ ْن لواز َم تدل على ضعف عقولهم ووهاء أفهامهم!
وأضرب هنا ً
مثال يتعلق بحديثنا هذا :قال المعطلة ف هذا الباب« :يلزم من إثبات األصابع هلل» – تعالى اهلل
وعطلوا ما دل عليه الحديث من عظمة الرب وجالله وكمال اقتداره – سبحانه وتعالى – مع أن هذا الالزم
23 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
23
ليس وار ًدا ،وليس بالزم ،بل هو دعوى يدعيها هؤلء! ول يلزم من قولنا« :السحاب بين السماء واألرض»
مماسا لألرض ،أو مالص ًقا للسماء ،أو مالص ًقا لألرض .وهذا ُيعرف
مماسا للسماء ،أو ً
أن يكون السحاب ً
ف أمور كثيرة من هذا البابُ :تط َلق البينية ول يلزم من ذلك المالصقة والمماسة ونحو ذلك من اإلدعاءات
وقاعدة أهل السنة ف الباب :إمرار نصوص الصفات كما جاءت .قال نبينا – عليه الصالة والسالم« :إِ َّن
وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ» نقول مثل ما قال – عليه الصالة والسالم ،قفل مثل ما قد قال تنجو
ا ْل ُق ُل َ
وتربح.
معتقدين ونقر مؤمنين بأن :قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .فإذا قال قائل:
كيف ذلك؟ نقول :الكيف مجهول؛ ألن النبي – عليه الصالة والسالم – أخربنا بذلك ولم يخربنا بكيفيته.
وإثباتنا لصفات ربنا إثبات وجود ل إثبات تكييف؛ فالصفات معلومة ،وكيفيتها مجهولة ،واإليمان هبا
رجل َ
مالك بن أنس – رحمه اهلل تعالى ،إما َم دار الهجرة، واجب ،والسؤال عن كيفيتها بدعة .ولما سأل ٌ
عن قوله تعالى :ﭿ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭾ [طه ، ]5 :قال :كيف استوى؟ قال« :اإلستواء معلوم ،والكيف
مجهول ،والسؤال عنه بدعة ،واإليمان به واجب» .ومثله قل ف جميع الصفات ،مثالً لو قال لك قائل:
«جاء ف الحديث :قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ،كيف ذلك؟» تجيب بما
أجاب مالك :$الصفات معلومة ،وكيفياهتا مجهولة ،واإليمان هبا واجب ،والسؤال عنها بدعة – أي:
اقتداره ،وأن قلوب العباد جميعها بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .القلوب على كثرهتا
وتعددها وتباين أماكنها يقلبها كيف يشاء :فهذا قلب يهديه ،وهذا قلب يزيغه ،وهذا قلب يثبته ،وهذا قلب
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 24
يضله؛ يفعل اهلل – تبارك وتعالى – ما يشاء ،فاألمر بيده – سبحانه وتعالى .فهذا كله يدل من جهة على
عظمة اهلل – تبارك وتعالى – وكمال اقتداره ،ومن جهة ثانية يدل على شدة حاجتنا وافتقارنا بأن نلجأ دو ًما
وأبدً ا إلى اهلل – سبحانه وتعالى – بأن يثبت قلوبنا وأن ل يزيغها وأن يعيذنا من مضالت الفتن ما ظهر منها
ت َق ْلبِي َع َلى ب ا ْل ُق ُل ِ
وب َث ِّب ْ وما بطن ،كما قد كان نبينا – عليه الصالة والسالم – يكثر ف دعائهَ « :يا ُم َق ِّل َ
ِدين ِ َ
ك».
وقد جاء ف «المسند» لإلمام أحمد عن المقداد بن األسود ﭬ قال« :ما آمن على أحد» يعني :ل آمن على
ب ا ْب ِن آ َد َم َأ ْس َر ُع أحد أن يزيغ أو يضل« ،ما آمن على أحد بعد الذي سمعت من رسول اهلل ﷺ يقولَ :ل َق ْل ُ
ت َغ َل َيانًا» .انظر إلى القدر عندما يشتد غليانه بالماء كيف يتقلب الماء بداخله، َت َق ُّل ًبا ِم َن ا ْل ِقدْ ِر إِ َذا ْاست َْج َم َع ْ
ب ا ْب ِن آ َد َم َأ ْس َر ُع َت َق ُّل ًبا ِم َن ا ْل ِقدْ ِر
وكيف يتقلب الطعام وما ُوضع بداخله تقل ًبا شديدً ا ،يقول نبينا ﷺَ « :ل َق ْل ُ
يش ٍة
ب ِم ْث ُل ِر َ وجاءأيضا عنه ﷺ من حديث أبي موسى األشعري قالَ « :م َث ُل ا ْل َق ْل ِ ً ت َغ َل َيانًا». است َْج َم َع ْ إِ َذا ْ
ض» ،وهو ف «السنة» لبن أبي عاصم ،وصححه األلباين .$وهذا كله يبين يح بِ َف ََل ٍة ِم َن ْالَ ْر ِالر ُ ُت َق ِّل ُب َها ِّ
أن قلب ابن آدم سريع اإلنحراف ،سريع التقلب ،سريع الزيغ ،سريع الضالل ،إل أن يثبته اهلل – سبحانه
وتعالى – بالقول الثابت ،ويعصمه من الفتن ،ويقيه من الضالل .
اللهم يا ربنا ،يا حي يا قيوم ،يا ذا الجالل واإلكرام ،نسألك بأسمائك كلها وصفاتك كلها ،يا ذا الجالل
واإلكرام ،أن تثبت قلوبنا على دينك .يا مقلب القوب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .يا مقلب القوب
القلوب ثبت قلوبنا على دينك .يا مقلب القوب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
قال:
ت َق ْلبِي ِِ
َان َأ ْك َث ُر ُد َعائهَ « :يا ُم َق ِّل َ
ب ا ْل ُق ُل ِ
وب َث ِّب ْ ول اهللِ ﷺ إِ َذا ك َ
َان ِعنْدَ ِك؟ َف َقا َل ْت :ك َ ُ َ ُ ا ْل ُم ْؤمِنِي َن َما ك َ
َان ُد َعاء رس ِ
وب َثب ْت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َك؟ َق َالَ « :يا ُأ َّم َس َل َم َة، ك»ُ .ق ْل ُت :يا رس َ ِ
َع َلى ِدين ِ َ
ول اهللَ ،ما َأ ْك َث َر ُد َعا َء َك َيا ُم َقل َ
ب ا ْل ُق ُل ِ َ َ ُ
َل ْي َس ِم ْن آ َد ِم ٍّي إِ ََّل َو َق ْل ُب ُه َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّللَِ ،ما َشا َء َأ َقا َمَ ،و َما َشا َء َأ َزا َغ».
25 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
25
الشرح:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث ،حديث أم سلمة ڤ ،أم المؤمنين .قال َش ْه ُر ْب ُن َح ْو َش ٍ
ب:
وب َثب ْت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َك؟ َق َالَ :يا ُأ َّم َس َل َم َةَ ،ل ْي َس ِم ْن آ َد ِم ٍّي إِ ََّل َو َق ْل ُب ُه َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّللَِ ،ما َشا َء
ا ْل ُق ُل ِ
ف َي َشا ُء» ،أيَ « :ما َشا َء َأ َقا َمَ ،و َما َشا َء َأزَا َغ».
ف َي َشا ُء» .معنى قولهُ « :ي َق ِّل ُب َها َك ْي َ
َك ْي َ
« َما َشا َء َأ َقا َم» ،أي :أقام َو ْج َهه على الصراط المستقيم ﭿﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﭾ [الروم ]30 :؛ فـ« َما َشا َء َأ َقا َم»،
أي :أقام وجهه على الصراط المستقيم والجادة السوية المفضية بصاحبها إلى جنات النعيم .ولهذا أهل
الجنة يحمدون اهلل على هذه النعمة أول الدخول ،يقولون :ﭿﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ
ﯺﯻ ﭾ [األعراف ، ]43 :يحمدون اهلل – سبحانه وتعالى – على منة إقامة الوجه على الصراط المستقيم ،والثبات
راض .قالَ « :و َما َشا َء َأزَا َغ» ،أي :أزاغ قلبه بأن
ٍ على الجادة إلى أن لقوا رهبم – جل وعال – وهو عنهم
حرفه وأضله عن صراطه المستقيم .قالَ « :ما َشا َء َأ َقا َمَ ،و َما َشا َء َأزَا َغ».
والحديث – حديث أم سلمة ڤ – فيه شهر بن حوشب ،صدوق كثير اإلرسال واألوهام ،لكنه توبع؛
رواه اآلجري ف «الشريعة» بسنده عن الحسن عن أمه عن أم سلمة بنحوه .وأم الحسن اسمها َخ ْي َرة ،وهي
مقبولة .فالحديث ف الطريقين حسن ،ويشهد له الحديث الذي قبله ،وكذلك حديث عائشة اآليت بعده.
قال:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 26
ون ،أنا َه َّما ُم ْب ُن َي ْح َيىَ ،ع ْن َعلِي ْب ِن َز ْي ٍدَ ،ع ْن ُأم ُم َح َّم ٍدَ ،ع ْن َعائِ َشةََ ،قا َل ْت :ك َ
َان (َ )57حدَّ َثنَا َي ِزيدُ ْب ُن َه ُار َ
ول اهللِ ،إِن ََّك َلتَدْ ُعو بِه َذا الدُّ َع ِ ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ
ك»ُ .ق ْل ُتَ :يا َر ُس َ ب ا ْل ُق ُل ِ ول اهللِ ﷺ َي ُق ُ
اء؟ َ وب َث ِّب ْ ولَ « :يا ُم َق ِّل َ َر ُس ُ
ب ا ْب ِن آ َد َم َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ِي اَّلل ِ إِ َذا َشا َء َأ ْن َي ْق ِل َب ُه إِ َلى ُهدً ى َق َل َب ُهَ ،وإِ ْن َشا َء َأ ْن ِ ِ
َق َالَ « :يا َعائ َشةَُ ،أ َو َما َع ِل ْمت َأ َّن َق ْل َ
الشرح:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – حديث أم المؤمنين عائشة ڤ ،وهو بمعنى حديث أنس وحديث أم سلمة
ب ا ْب ِن آ َد َم َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ِي اَّلل ِ إِ َذا َشا َء َأ ْن َي ْق ِل َب ُه إِ َلى ُهدً ى َق َل َب ُهَ ،وإِ ْن َشا َء َأ ْن َي ْق ِل َب ُه ِ ِ
َق َالَ :يا َعائ َشةَُ ،أ َو َما َع ِل ْمت َأ َّن َق ْل َ
إِ َلى َض ََل َل ٍة َق َل َب ُه» .وهو بمعنى ما جاء ف حديث أم سلمةَ « :ما َشا َء َأ َقا َمَ ،و َما َشا َء َأزَا َغ»؛ فقلوب العباد بين
أصبعين من أصابع اهلل ،بل جاء ف «صحيح مسلم» من حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ
أزاغه.
علي بن زيد هو ابن جدعان ،ضعيف الحديث ،وأم محمد مجهولة؛ فاإلسناد ضعيف ،لكن الحديث ثابت
قال:
(َ )58حدَّ َثنَا ُغنْدَ ٌرَ ،ع ْن ُش ْع َبةََ ،ع ِن ا ْل َح َك ِم ْب ِن ُع َت ْي َبةََ ،ق َالَ :س ِم ْع ُت ا ْب َن َأبِي َل ْي َلى ُي َحد ُ
ث َع ِن النَّبِي ﷺ َأ َّن ُه
ثم ساق هذا الحديث ،وهو بمعنى األحاديث التي قبله .وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن وهو تابعي،
فالحديث مرسل ،لكن الحديث َع َر ْفنَا ثبوته عن النبي ﷺ عن غير واحد من أصحاب النبي ﷺ.
قال:
شَ ،ع ْن َذ ٍّرَ ،ع ْن َوائِ ِل ْب ِن َم َها َنةََ ،ق َالَ :ق َال َع ْبدُ اهللَِ :ما َر َأ ْي ُت مِ َن نَاقِ ِ
ص (َ )59حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ
او َيةََ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
اح ٍد.
و ِ
َ
الشرح:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث ،حديث عبد اهلل بن مسعود ﭬ موقو ًفا عليه وله حكم الرفع،
وصح عن النبي ﷺ مرفو ًعا ف الصحيحين من حديث أبي سعيد ،وف «صحيح مسلم» من حديث أبي
هريرة وحديث ابن عمر ﭭ؛ فهو حديث صحيح ثابت عن رسول اهلل ﷺ.
ب لِلر َج ِ
ال الر ْأ ِي َأ ْغ َل ُ قال وائل بن مهانةَ « :ق َال َع ْبدُ اهللِ - »:أي :ابن مسعود َ « -ما َر َأ ْي ُت مِ َن نَاقِ ِ
ص الد ِ
ين َو َّ
َذ ِوي ْاألَم ِر َع َلى َأم ِر ِهم مِن النس ِ
اء» .وهذا فيه خطورة المرأة على الرجال وعلى ذوي اللب الحازم من ْ ْ َ َ ْ
الرجال ،يعني مهما كانت مكانة الرجل ومهما كان حزمه فإنه ل يأمن على نفسه من الفتنة بالمرأة ،ولسيما
وحرفته وأوقعته ف النحراف؛ ولهذا قال – عليه الصالة والسالم – مخاط ًبا النساء على وجه التحذير:
ال َذ ِوي ْالَمرِ ع َلى َأمرِ ِهم ِمن النِّس ِ
ب لِلر َج ِ ت ِم َن نَاقِ ِ
اء» ،وهذا قاله – عليه ْ ْ َ َ ْ َ الر ْأ ِي َأ ْغ َل ُ ِّ ص الدِّ ِ
ين َو َّ « َما َر َأ ْي ُ
الطرفين أسباب الفتنة ،فالمرأة ل تجعل نفسها َغ َر ًضا لفتن الرجال .بعض النساء – عيا ًذا باهلل – تخرج من
بيتها ليس لها غرض إل أن تفتن الرجال! ليس لها غرض؛ ليس لها حاجة ول ضرورة ف الخروج :تتعطر..
تتزين..تتجمل ..تلبس أحذية ذات صوت ..وليس لها غرض ف خروجها إل أن تفتن الرجال ،هذا
الر ْأ ِي» مثل قوله – عليه الصالة والسالم – ف الحديث اآلخرَ « :ما َر َأ ْي ُ
ت ت ِم َن نَاقِ ِ
ص الدِّ ِ
ين َو َّ قولهَ « :ما َر َأ ْي ُ
مفس ًرا ف الحديث :تركها للصالة أيام حيضتها ،فهي سبعة أيام ..ثمانية أيام..
وكذلك نقصان الدين جاء َّ
كامال ،هذا نقص
أقل أو أكثر ..تتوقف عن الصالة كل شهر؛ وهذا نقص مقارنة بالرجل الذي يصلي الشهر ً
ف العمل -عمل اإليمان الذي هو الصالة -لكن هذا النقص ليست ُمالمة عليه ول ُمحاسبة عليه؛ ألهنا
مأمورة به ،لكنه نقص من جهة عندما يقارن عملها بعمل الرجل :هذا أنقص ،لكن هذا النقص ليست مالمة
ونقص العقل؛ ألن هذا ل تحاسب عليه المرأة َ « -ق َالُ :تكْثِ ْر َن ال َّل ْع َنَ ،و َت ْك ُف ْر َن ال َع ِش َير» .هذا الذي تحاسب
عليه ،أما النقصان الذي ذكره فال تالم عليه ول تحاسب؛ ألهنا مأمورة بذلك :أن تتوقف عن الصالة مدة
الص َال َة َأ َّيا َم َح ْي ِض َهاَ .قا ُلواَ :ف َما ُن ْق َص ُ حيضتهاَ « .قا ُلوا :يا َأبا َعب ِد الرحم ِن وما ُن ْقص ُ ِ ِ
ان ان دين َها؟ َق َالَ :ت ْرك َُها َّ َ َ ْ َّ ْ َ َ َ َ
والسالم – وتعرتض عليه وتنتقد كالمه ،وكم من امرأة سفيهة قد قالت عندما سمعت هذا الحديث:
«لماذا؟ وكيف؟ وهذا كذا وكذا »...من الكالم الساقط الذي ل قيمة له! أما المرأة المؤمنة المصدقة
المطمئنة لكالم الرسول – عليه الصالة والسالم – وأنه ل ينطق عن الهوى ،ل تعارض شي ًئا من حديثه
ت ِمن نَاقِص ِ
ات َع ْق ٍل َ برأيها ،وتفهم حديث الرسول – عليه الصالة والسالم – على بابه .وقولهَ « :ما َر َأ ْي ُ ْ
أمرا تحاسب عليه المرأة ،ولكن تحاسب على التفريط والتقصير :كفران العشير ..كثرة َو ِد ٍ
ين» ،هذا ليس ً
اللعن ..التفريط ف الواجبات ..الوقوع ف المحرمات ..تحاسب عليه مثل ما يحاسب الرجل.
ٍ
معرتضات ومن لطيف ما ُي ْذ َكر ف هذا المقام أن بعض النساء سمعن هبذا الحديث فذهبن إلى أحد العلماء
على هذا الحديث ،فجئن إليه وسألنه عن صحة الحديث ،قال« :صحيح!» فقلن له« :كيف هذا؟ كيف
ُيقال أن المرأة ناقصة عقل ودين ونحن اآلن ف زماننا نرى ف النساء الطبيبة ،ونرى ف النساء المهندسة،
ونرى ف النساء كيت وكيت من الحاذقات الفطنات الاليت ُف ْق َن ف هذه األعمال الرجال! كيف ُيقال هذا؟»
فقال لهن ذلك العالم« :إن النبي – عليه الصالة والسالم – لما قال إن النساء ناقصات عقل ودين ما كان
يقصدكن هبذا الكالم - »...فكأهنن اسرتوحن لهذا الكالم و ُأ ِ
عجب َن به -قال« :ما كان يقصدكن هبذا
الكالم؛ كان يقصد نساء الصحابة ونساء المؤمنين .أما أنتن ل عقل ول دين!» المرأة التي تعرتض على
الرسول – عليه الصالة والسالم – ولماذا يقول كذا؟ هذا ل عقل ول دين! أين العقل وأين الدين ف من
تقول أن النبي ﷺ قال كذا وهذا خطأ؟! أو هذا ل يصح؟! أين عقلها وأين دينها إذا كانت وضعت نفسها
ف موضع المعرتض المنتقد على كالم الرسول – عليه الصالة والسالم؟! قال« :النبي ﷺ لما قال هذا
الكالم ما كان يقصدكن! يقصد نساء الصحابة ويقصد نساء المؤمنين ،أما أنتن ل عقل ول دين!» وحق
كالمه؛ المرأة التي تبلغ هبا الجرأة السافرة إلى أن تعرتض على كالم رسول اهلل ﷺ وتنتقد كالمه وتعارضه
بمثل هذه المعارضة ،هذه ما عندها ل عقل ول دين؛ ألنه لو كان عندها عقل ودين لحجزها من أن تعرتض
على كالم الصادق المصدوق الذي ل ينطق عن الهوى – صلوات اهلل وسالمه وبركاته عليه.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 30
قال:
الشرح:
المعنى سبق أن أشرت إليه – أنكروا هذا السؤال الذي أول من بدأه المرجئةَ « :أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ
ْت؟» يأتون إلى
الشخص المعروف بالصالح ..بالستقامة ..بالديانة ..بالعلم ..فيقولونَ « :أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ
ْت؟»
عرف طرحه بين الصحابة ،يلقى الشخص أخاه ويقولَ « :أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ
ْت؟» لكن المرجئة وهذا السؤال ما كان ُي َ
أحدثوا هذا السؤال لغرض ف صدورهم وحاجة ف نفوسهم أل وهي أهنم أرادوا من ذلك التوصل إلى
تقرير معتقدهم ف اإليمان ،وهو أن اإليمان هو التصديق وحده؛ ألن كل شخص يعلم من نفسه أنه مصدق
بالدين غير مكذب ومصدق بالرسول – عليه الصالة والسالم – غير مكذب ،فيقولون َ « :أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ
ْت؟»
فإذا قال« :نعم ،أنا مؤمن» أخرج بذلك األعمال من مسمى اإليمان وجزم لنفسه باإليمان الذي هو
التصديق؛ أرادوا بذلك التوصل إلى تقرير عقيدهتم الباطلة من حصر اإليمان ف التصديق وحده .وعلم
السلف غرضهم وغايتهم من ذلك ،فبدعوهم ف سؤالهم .ولهذا ُن ِقل عن غير واحد من أئمة السلف قولهم:
«سؤالك إياي :أمؤمن أنت؟ بدعة» ،هذا أمر محدَ ث ،ل ُيعرف عن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان؛ أول
من أحدثه المرجئة ،أحدثوه للغرض الذي أشرت إليه .ولهذا كان السلف ينكر هذا السؤال ،وبعض األئمة
يقول :أمؤمن أنت؟» ونقلوا هناك آثار ًا عديدة عن السلف ف هذا المعنى .
31 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
31 فإبراهيم النخعي سئل عن الرجل يقول للرجل :أمؤمن أنت؟ قال« :ا ْلجواب فِ ِ
يه بِدْ َع ٌة» ،إشارة إلى أن َ َّ ُ
السؤال المطروح نفسه سؤال محدَ ث ل أصل له ول ُيعرف عن الصحابة وعمن اتبعهم بإحسان.
قالَ « :و َما َي ُس ُّرنِي َأني َش َك ْك ُت» ،أي :ف إيماين ،يعني المؤمن ليس عنده شك ف إيمانه ،واإليمان ل ُيقبل
إل بالجزم ﭿﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭾ [الحجرات ، ]15 :أي :أيقنوا ولم يشكوا ،أما من كان
عنده شيء من الشك ف أصل اإليمان حبط عمله وكان من الخاسرين .لكن أعمال اإليمان وهل هي
متقبلة ،هذا أمر يشك فيه اإلنسان ويخاف أل تكون أعماله مقبولة ،وقد مر معنا اإلشارة إلى قول اهلل –
سبحانه وتعالى :-ﭿﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭾ [المؤمنون ، ]60 :أي :خائفةُ ،ت َقدم ما تقدم من
قال:
الشرح:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث عن أبي هريرة ،وقد مضى من طريق أخرى عند المصنف ،$
قال:
ارَ ،ع ْن ُح َذ ْي َفةََ ،ق َالَ :واَّلل ِ إِ َّن (َ )6٢حدَّ َثنَا َأ ُبو َخال ِ ٍد ْاألَ ْح َم ُرَ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
شَ ،ع ْن ُع َم َار َة ْب ِن ُع َم ْي ٍرَ ،ع ْن َأبِي َع َّم ٍ
الشرح:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 32
الر ُج َل َل ُي ْصبِ ُح َب ِص ًيراُ ،ث َّم ُي ْم ِسي َما َينْ ُظ ُر بِ ُش ْف ٍر» ،أي أن الشخص قد يصبح ف أول النهار ِ
قولهَ « :واهلل إِ َّن َّ
على اإليمان ،وعلى البصيرة ،وعلى المعرفة بالحق والهدى ،ثم ينقلب ف آخر النهار؛ مثل ما جاء ف
الحديث اآلخر« :يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافر ًا» بسبب الفتن التي قد تعرض له .وهذا يؤكد المعنى
الذي مر تقريره ،وهو أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ،وأن ما شاء أقامه
الر ُج َل َل ُي ْصبِ ُح َب ِص ًيراُ ،ث َّم ُي ْم ِسي َما َينْ ُظ ُر بِ ُش ْف ٍر». ِ
– سبحانه وتعالى – وما شاء أزاغه .قالَ « :واهلل إِ َّن َّ
قال:
اقَ ،عن س ِع ِ
يد ْب ِن َي َس ٍ يسَ ،ع ْن ُم َح َّم ِد ْب ِن إِ ْس َح َ
ارَ ،ق َالَ :ب َل َغ ُع َم َر َأ َّن َر ُج ًال بِ َّ
الشا ِم َي ْز ُع ُم ْ َ (َ )63حدَّ َثنَا ا ْب ُن إِ ْد ِر َ
ْت ا َّل ِذي َت ْز ُع ُم َأن ََّك ُم ْؤمِ ٌن؟ َف َق َالَ :ه ْل
اجلِ ُبو ُه َع َل َّيَ ،ف َق ِد َم َع َلى ُع َم َرَ ،ف َق َالَ :أن َ ِ
َب ُع َم ُر َأن ْ
ِ
َأ َّن ُه ُم ْؤم ٌنَ ،ق َالَ :ف َكت َ
َاز ٍلُ :م ْؤمِ ٌنَ ،وكَافِ ٌرَ ،و ُمنَافِ ٌقَ ،و َما َأنَا بِ َكافِ ٍر َو َل ُمنَافِ ٍقَ ،ق َال:
َّاس َع َلى َع ْه ِد النَّبِي ﷺ إِ َّل َع َلى َث َال َث ِة َمن ِ ك َ
َان الن ُ
يسُ [ :ق ْل ُتِ :ر ًضى بِ َما َق َال؟ َق َالِ ]:ر ًضى بِ َما َق َال.
َف َق َال ُع َم ُر :ا ْب ُس ْط َيدَ َكَ .ق َال ا ْب ُن إِ ْد ِر َ
الشرح:
أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – هنا هذا األثر عن سعيد بن يسار ،قالَ « :ب َل َغ ُع َم َر ﭬ َأ َّن َر ُج ًال بِ َّ
الشا ِم
َاز ٍلُ :م ْؤمِ ٌنَ ،وكَافِ ٌرَ ،و ُمنَافِ ٌق،
َّاس َع َلى َع ْه ِد النَّبِي ﷺ إِ َّل َع َلى َث َال َث ِة َمن ِ َت ْز ُع ُم َأن ََّك ُم ْؤمِ ٌن؟ َف َق َالَ :ه ْل ك َ
َان الن ُ
يسُ :ق ْل ُتِ :ر ًضى بِ َما َق َال؟ َق َالِ :ر ًضى ِ ِ
َو َما َأنَا بِ َكاف ٍر َو َل ُمنَاف ٍقَ ،ق َالَ :ف َق َال ُع َم ُر :ا ْب ُس ْط َيدَ َكَ .قا َل ا ْب ُن إِ ْد ِر َ
هذا األثر لم يثبت من حيث اإلسناد ،لكن التقسيم الذي ذكِر ف األثر إذا ُبني عليه الجزم باعتبار النظر إلى
33
لشيخ اإلسالم ابن تيمية $ف تقرير ذلك إذا اعترب أصل اإليمان .فإذا قيل الناس ثالثة أقسام :كفار
مظهرون للكفر ،ومنافقون مبطنون للكفر ،ويبقى قسم ثالث وهم المؤمنون على درجاهتم ،سواء منهم من
كان ضعيف اإليمان أو قوي اإليمان ،ليس بكافر ول بمنافق؛ فالقسمة الثالثية من حيث هي صحيحة،
والرجل يكون بذلك أراد أصل اإليمان .ولما استدعاه عمر -على فرض صحة هذا األثر -استدعاه مخافة
أن يكون يزكي نفسه بأنه مكمل لإليمان؛ فلما فهم منه أنه قصد هذا المعنى :أن الناس ثالثة أقسام ،وأنه
ليس من الكفار ول من المنافقين بل هو من أهل اإليمان ،ل يقصد أنه مكمل لإليمان ،رضي بكالمه وقال
رضى بكالمه ،أي :باعتبار أنه قصد أصل اإليمان .إذا صح األثر ُيحمل على هذا المعنى،
له :ابسط يدك ً -
إل أنه لم يصح ،قال الشيخ األلباين « :$محمد بن إسحاق هو ابن يسار صاحب السيرة ،وهو ثقة مدلس،
وأيضا فيه انقطاع؛ فإن سعيد بن يسار الذي يروي عن عمر يقول:
وقد عنعنه» .ففيه عنعنة ابن إسحاقً ،
« َب َل َغ ُع َم َر» ،وهو مولى ميمونة أم المؤمنين ،مات سنة 117هـ وهو ابن ثمانين سنة ،فتكون ولدته على
هذا سنة 37هـ ،أي :بعد وفاة عمر ﭬ ،حيث توف سنة ٢3هـ ،فتكون على هذا ولدته بعد وفاة عمر
بقرابة 15سنة أو قري ًبا من هذا .فاألثر فيه انقطاع ،وفيه عنعنة محمد بن إسحاق ،فهو غير ثابت؛ وإن ثبت
قال:
َسَ ،ع ِن النَّبِي ﷺ َق َال: ( )64حدَّ َثنَا َشباب ُة بن سو ٍار ،نا َلي ُث بن سع ٍدَ ،عن ي ِزيدَ َ ،عن سع ِد ب ِن ِسن ٍ
َانَ ،ع ْن َأن ٍ ْ َ ْ ْ ْ َ ْ ْ ُ َ ْ َ َ ْ ُ َ َّ َ
الر ُج ُل فِ َيها ُم ْؤ ِمنًاَ ،و ُي ْم ِسي كَافِ ًراَ ،و ُي ْصبِ ُح كَافِ ًرا، ِ ِ ِ ِ
السا َعة فت ٌَن كَق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظلمُِ ،ي ْصبِ ُح َّ
ُون َب ْي َن َيدَ ِي َّ
« َتك ُ
الشرح:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 34
السا َع ِة
ُون َب ْي َن َيدَ ِي َّ
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قالَ « :تك ُ
فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم»َ .و َصف – عليه الصالة والسالم – الفتن هبذه الصفة « :ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم»،
أيضا وصف الفتن بأهنا فتن عمياء صماء ،فإذا كانت الفتنة تأيت الشخص هبذه الصفة :عمياء ،صماء،
ويأيت ً
كقطع الليل المظلم؛ فإن اإلنسان إذا كان ف مثل هذا الوقت -الليل المظلم -ل تسبين له األمور ،وتلتبس
عليه الطرق وتشتبه عليه ،إل من كان معه نور اإليمان ،وإل الليل المظلم دامس الظالم وشديد الظالم ،ل
يستبين اإلنسان فيه طريقه إل إذا ا َّت َأ َد و َت َأ َّنى ومشى بضياء العلم ونوره ،أما من يتعجل ويندفع ،ول يستبين
َات َو ُأ ُم ٌ
ور الجادة ،ويتسرع ،فسرعان ما يهلك .ولهذا جاء عن ابن مسعود ﭬ أنه قال« :إِن ََّها َس َتك ُ
ُون َهن ٌ
ك بِالت َُّؤ َد ِة» ،ف ُيطلب من اإلنسان ف مثل هذه الحال أن يتأنى ويتبصر ويرتوى ،ويسير ف نور ُم ْشبِ َه ٌ ,
ات َف َع َل ْي َ
من أمره وف ضياء العلم ونوره ،وإل فإنه َي ِز ُّل؛ وكم من أناس وخلق هلكوا ف الفتن.
الر ُج ُل فِ َيها ُم ْؤ ِمنًاَ ،و ُي ْم ِسي كَافِ ًرا» ،يعني ف ِ ِ ِ ِ
السا َعة فت ٌَن كَق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظلمُِ ،ي ْصبِ ُح َّ
ُون َب ْي َن َيدَ ِي َّ
قالَ « :تك ُ
أول الصباح من أهل اإليمان ،وف آخر النهار – ف المساء – من أهل الكفر والطغيان – والعياذ باهلل.
« َو ُي ْصبِ ُح كَافِ ًراَ ،و ُي ْم ِسي ُم ْؤ ِمنًا» ،أي :بسبب ما يرى من الفتن.
الحديث ف إسناده سعد – الرواي له عن أنس – وهو صدوق له أفراد ،لكن له شاهد من حديث أبي هريرة
رواه مسلم ،وله شاهد من حديث أبي موسى يأيت عند المصنف – رحمه اهلل تعالى.
قال:
الشرح:
35 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
35
مرسل.
ثم أورد $هذا األثر عن الحذيفة بن اليمان ﭬ وهو لم يثبت ،فيحيى بن أبي عمرو عن حذيفة َ
ون ْ ِ
اإليِ َم ُ
ان ك ََال ٌم َو َل َع َم َل َّارَ :أ ْه ُل ِد ٍ
ين َي ُقو ُل َ يقول حذيفة« :إِني َألَ ْع َل ُم َأ ْه َل ِدينَ ْي ِنَ ،أ ْه ُل َذ ْين ِ َك الدينَ ْي ِن فِي الن ِ
َوإِ ْن َقت ََل َوإِ ْن َزنَا» ،أي أن األعمال ليست داخلة ف اإليمان ،وكذلك المعاصي ليست مؤثرة ف اإليمان ل
وعلى ٍّ
كل فاإلسناد منقطع ولم يثبت .وذم المرجئة ف إخراجهم العمل من مسمى اإليمان فيه نقول كثيرة
عن أئمة السلف – رحمهم اهلل ،وعقيدهتم يدل على بطالهنا كتاب اهلل – عز وجل – وسنة نبيه – صلوات
والليلة ،بل نصلي ف األسبوع مرتين! ل ن َُشدد ول نتزمت ،بل نصلي ف األسبوع مرتين! وهذه الطريقة
بدأت اآلن تظهر بشكل ٍ
مزر جدً ا ،وأصبح كل من أراد أن يتفلت من شيء من أمور الدين ولزمات الدين
وواجباته يقول :الدين يسر ،ويرمي من يعارضه فيما ل يعمل به من أمور الدين بالتزمت والتشدد؛ وقد قال
ك ا ْل ُم َتنَ ِّط ُع َ
ون» .قال أهل العلم« :المتنطعون» المتشددون ف غير موضع – عليه الصالة والسالمَ « :ه َل َ
الشدة ،أما الذي يتمسك بدينه ويحافظ على شرع اهلل ،ويلتزم واجبات اهلل وأوامر اهلل ،وينتهي عما هنى اهلل
– تبارك وتعالى – عنه ،فهذا ملتزم بشرع اهلل ،منقاد لحكم اهلل – سبحانه وتعالى – ،عامل بسماحة الدين
والسداد إصابة السنة ،ل التفلت وترك العمل بما جاء به الرسول – عليه الصالة والسالم! فلما ذكر – عليه
الصالة والسالم – أن الدين يسر ،قالَ « :ف َسدِّ ُدوا َو َق ِ
ار ُبوا» والسداد هو إصابة السنة ،والمقاربة أن يجاهد
نفسه إن لم يصب السداد يكون قري ًبا منه .أما أن يتفلت اإلنسان من الشريعة ومن أوامر الدين ،ويغشى
المحرمات ،ويزعم أن هذا ُب ْعدٌ عن التشدد وأن هذا عم ٌل بتيسير الدين فهذه مغالطة واضحة.
قال:
(َ )66حدَّ َثنَا َأ ُبو َخال ِ ٍد ْاألَ ْح َم ُرَ ،ع ِن ا ْب ِن َع ْج َال َنَ ،ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن ِدين ٍ
َارَ ،ع ْن َأبِي َصالِحٍ َ ،ع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةََ ،ق َال:
ون َأ ْو َأ َحدُ ا ْل َعدَ َد ْي ِنَ ،أ ْع ََل َها َش َها َد ُة َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللَُ ،و َأ ْدن َ
َاها إِ َما َط ُة ان ِست َ
ُّون َأ ْو َس ْب ُع َ يم ُ ول اهللِ ﷺِ ْ « :
اْل َ َق َال َر ُس ُ
يم ِ
ان». يقَ ،وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ْ ِ
اْل َ ْالَ َذى َع ِن ال َّطرِ ِ
الشرح:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث ،حديث أبي هريرة ﭬ عن النبي ﷺ ،وهو متفق عليه ،خرجه
البخاري ومسلم ف صحيحيهما ،وهو عند المصنف – رحمه اهلل تعالى – ف مصنَّفه وفيه زيادة «بضعة»:
ون َأ ْو بِ ْض َع ٌة َأ ْو َأ َحدُ ا ْل َعدَ َد ْي ِنَ ،أ ْع ََل َها َش َها َد ُة َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللَُ ،و َأ ْدن َ
َاها إِ َما َط ُة ْالَ َذى ان ِست َ
ُّون َأ ْو َس ْب ُع َ يم ُ «ِْ
اْل َ
يم ِ
ان». يقَ ،وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ْ ِ
اْل َ َع ِن ال َّطرِ ِ
عرف عند أهل العلم بـ(حديث شعب اإليمان) ،ومن أهل العلم من
وهذا الحديث حديث عظيم جامعُ ،ي َ
أفرده بمصنَّف خاص؛ واإلمام البيهقي $له كتاب أسماه «شعب اإليمان» ُطبع ف تسع مجلدات أو أكثر
وأيضا جماعة من أهل العلم قبله اعتنوا هبذا الحديث عناية دقيقة وأفردوه
ً كلها شرح لهذا الحديث،
بالتصنيف.
ان بِ ْض ٌع
يم ُ وقد جمع النبي – عليه الصالة والسالم – بيان حقيقة اإليمان ف هذا الحديث العظيم ،قالِ ْ « :
اْل َ
َاها إِ َما َط ُة ْالَ َذى َع ِن ال َّطرِ ِ
يقَ ،وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ون َأ ْو بِ ْض ٌع َو ِست َ
ُّون ُش ْع َبةًَ ،ف َأ ْف َض ُل َها َق ْو ُل ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللَُ ،و َأ ْدن َ َو َس ْب ُع َ
37 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
37 يم ِ
ان» .فأخرب – عليه الصالة والسالم – أن اإليمان منه ما يكون ف القلب ،ومنه ما يكون باللسان، ِم َن ْ ِ
اْل َ
وأيضا جمع
ً ومنه ما يكون على الجوارح؛ فاإليمان :قول واعتقاد وعمل ،والحديث جمع هذا كله.
الحديث التفاوت بين خصال اإليمان ،وأن خصال اإليمان ليست على درجة واحدة بل لها أعلى ولها
أدنى ،وأن أعلى خصال اإليمان وأرفعها قولََ « :ل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ» ،فهي أعلى شعب اإليمان كما أهنا أعظم
عن الطريق عمل يقوم به العبد بجوارحه ..بيده يحمل األذى ويميطه عن الطريق .وسمى النبي – عليه
الصالة والسالم – هذا العمل إيما ًنا و َعدَّ ُه ﷺ من جملة أعمال اإليمان؛ فاإليمان :قول واعتقاد وعمل،
وكلما زاد العبد من شعب اإليمان زاد إيمانه ،وكلما نقص نقص إيمانه.
وشعب اإليمان من حيث تأثيرها على اإليمان تنقسم إلى ثالثة أقسام :قسم يذهب اإليمان كله بذهابه ومن
ذلكم النطق بالشهادتين ،وقسم يذهب كمال اإليمان الواجب بذهابه وذلك إذا فعل محر ًما أو ترك واج ًبا
من واجبات الدين ل يبلغ به حد الكفر باهلل ،وقسم ثالث يذهب بذهابه كمال اإليمان المستحب .فأعمال
وقسم يذهب كمال اإليمان الواجب بذهابه عندما يفعل كبيرة أو يرتك واج ًبا من واجبات الدين ،وقسم
يذهب كمال اإليمان المستحب؛ ألن الكمال كمالن :كمال واجب وكمال مستحب .فأعمال الدين تنقسم
وبينهما خصال منها ما هو قريب إلى األعلى ،ومنها ما هو قريب إلى األدنى.
ون َأ ْو َأ َحدُ ا ْل َعدَ َد ْي ِنَ ،أ ْع ََل َها َش َها َد ُة َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللَُ ،و َأ ْدن َ
َاها إِ َما َط ُة ْالَ َذى َع ِن ان ِست َ
ُّون َأ ْو َس ْب ُع َ يم ُ قالِ ْ « :
اْل َ
يم ِ
ان» .والحياء – كما سبق أن مر معنا – خصلة مكاهنا القلب تبعث المتحلي يقَ ،وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ْ ِ
اْل َ ال َّطرِ ِ
هبا إلى فعل الجميل والبعد عن القبيح ،وقد عد النبي ﷺ الحياء من اإليمان .وهذا يفيد أن اإليمان تدخل
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 38
فيه أعمال القلوب ومنها الحياء ،وتدخل فيه أعمال الجوارح ومنها إماطة األذى عن الطريق ،وتدخل فيه
جاء ف بعض النُّ َسخ «عن أبي صالح» وهو خطأ ،والصواب« :عن أبي صالح» -وهو ذكوان السمان «عن
أبي هريرة».
قال:
يم ِ
ان». ول اهللِ ﷺ« :ا ْل َح َيا ُء ِم َن ْ ِ
اْل َ
الز ْه ِريَ ،عن سال ِ ٍمَ ،عن َأبِ ِ
يهَ ،ق َالَ :ق َال َر ُس ُ ْ ْ َ (َ )67حدَّ َثنَا ا ْب ُن ُع َي ْينَةََ ،ع ِن ُّ
الشرح:
ثم أورد المصنف $هذا الحديث ،حديث عبد اهلل بن عمر ،عن النبي – ﷺ أنه قال« :ا ْل َح َيا ُء ِم َن
النبي – عليه الصالة والسالم – مر على رجل يعظ أخاه ف الحياء ..يعاتبه ف الحياء ..يقول له :ل تستحِ !
إذا كان اإلنسان يستحي ،أو الولد الصغير يستحي ،ل ُينهى عن الحياء؛ مع أنه ف بعض المجالس ُيقال
للصغير« :ل تستحِ » ،و ُيعاتب ف الحياء« :لماذا تستحي؟» وربما قيلت له نفس الكلمة« :الحياء أضرك!
بينما إذا نشأ الطفل الصغير – والعياذ باهلل – ل حياء عنده يؤذي والديه ،ويؤذي جيرانه ،أما إذا نشأ ذا حياء
َّاس ِم ْن َكَلَ ِم النُّ ُب َّو ِة ،إِ َذا َل ْم ت َْست َْح ِي َفا ْف َع ْل َما ِشئ َ
ْت» .والعبد إذا أكرمه اهلل – سبحانه وتعالى ِ
«إِ َّن م َّما َأ ْد َر َك الن ُ
– ووفقه وهداه لهذه الخصلة العظيمة – الحياء – فإن الخير بإذن اهلل – سبحانه وتعالى – من مثله ُيرجى،
وأيضا ل ُتخشى منه بائقة؛ ألن الحياء يحجز ويمنع اإلنسان من أن يسيء إلى اآلخرين ،بل يدفعه إلى
ً
اإلحسان إلى اآلخرين ،فهو خلق يبعث صاحبه للتحلي باألخالق الفاضلة والمعامالت الطيبة والبعد عن
السيء من القول أو السيء من الفعل .وقد جاء عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة ف بيان مكانة الحياء وفضله،
ومر معنا اإلشارة إلى أن أعظم الحياء :الحياء من رب العالمين؛ وقد صح ف الحديث أن النبي – عليه
الح ْمدُ ل ِ َّل ِه، اءَ .ق َالُ :ق ْلنَا :يا رس َ ِ
الصالة والسالم – قال« :استَحيوا ِمن اَّلل ِ ح َّق الحي ِ
ول اهلل إِنَّا ن َْست َْحيِي َو َ َ َ ُ َ َ َ َ ْ ْ ُ
الر ْأ َس َو َما َو َعىَ ،وال َب ْط َن َو َما َح َوىَ ،و ْلت َْذ ُكرِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
الح َياء َأ ْن ت َْح َف َظ َّ َق َالَ :ل ْي َس َذ َ
اكَ ،و َلك َّن اَل ْست ْح َيا َء م َن اَّلل َح َّق َ
ك َف َقدْ استَحيا ِمن اَّلل ِ ح َّق الحي ِ
اء» .وهذا فيه اآلخ َر َة ت ََر َك ِزينَ َة الدُّ ْن َياَ ،ف َم ْن َف َع َل َذلِ َ
المو َت والبِ َلى ،ومن َأراد ِ
َ َ َ ْ ْ َ َ ََ ْ َ َ َْ َ
أن الحياء يقتضي من صاحبه أن يحفظ رأسه وما حواه الرأس من السمع والبصر واللسان ،وكذلك أن
أيضا حفظ
وأيضا حفظ البطن من أن يدخل فيه الحرام ،ويشمل ً
يحفظ البطن وهذا يشمل حفظ القلب ً
الفرج -هذا كله داخل ف الحياء .إذا كان اإلنسان منزوع الحياء فإنه ل يبالي ل فيما يكون منه ف بصره،
الحيِ ُّي
أيضا ما يكون منه ف جوارحه األخرى ،أما َ
ول ما يكون منه ف سمعه ،ول ما يكون منه ف يده ،ول ً
فحياؤه بإذن اهلل – سبحانه وتعالى – يسوقه إلى الخيرات ويحجزه عن الرذائل والمنكرات.
ونسأل اهلل الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يصلح شأننا أجمعين ،وأن يهدينا
مستقيما .اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ،وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا،
ً إليه صرا ًطا
وأصلح لنا اآلخرة التي فيها معادنا ،واجعل الحياة زيادة لنا ف كل خير ،والموت راحة لنا من كل شر.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 40
اللهم أعنا ول تعن علينا ،وانصرنا ول تنصر علينا ،وامكر لنا ول تمكر علينا ،واهدنا ويسر الهدى لنا،
اللهم اجعلنا لك شاكرين ،لك ذاكرين ،إليك أواهين منيبين ،لك مخبتين ،لك مطيعين .اللهم تقبل توبتنا،
واغسل حوبتنا ،وثبت حجتنا ،واهد قلوبنا ،وسدد ألسنتنا ،واسلل سخيمة صدورنا .اللهم وأصلح ذات
بيننا ،وألف بين قلوبنا ،واهدنا سبل السالم ،وأخرجنا من الظلمات إلى النور ،وبارك لنا ف أسماعنا
وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا ،واجعلنا مباركين أينما كنا .اللهم اغفر لنا ولوالدينا
وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين ،وصلى اهلل وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد،
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول اْلمام الحافظ أبو بكر ،عبد اَّلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اَّلل تعالى ،يف كتابه «اْليمان»:
يع ،نا ْاألَ ْع َم ُشَ ،ع ْن َس َل َم َة ْب ِن ك َُه ْيلٍَ ،ع ْن َح َّب َة ا ْل ُع َرنِيَ ،ق َالُ :كنَّا َم َع َس ْل َما َن َو َقدْ َصا َف ْفنَا ِ
(َ )68حدَّ َثنَا َوك ٌ
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .أما بعد،
فهذا األثر الذي رواه المام بن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى -عن سلمان الفارسي ﭬ يتعلق بمسألة سبق
ِ
ومنهجهم ف تقريرها :أل وهي مسألة الستثناء ف اإليمان. ِ
عقيدة أهل السنة والجماعة فيها، كر ِ
بيا ُنها وذ ُ
وعرفنا فيما سبق أن اإليمان قد يطلق ويراد به كماله وتمامه ،وقد يطلق ويراد به أصله؛ فتارة يطلق ويراد
به اإليمان المطلق ،وتارة يطلق ويراد به مطلق اإليمان .فإذا أريد األول فإن الستثناء ل بد منه؛ ألن العبد
هبذه الكلمة ،وقد قال اهلل – تعالى :ﭿﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﭾ [النجم .]3٢ :ولهذا مضت السنة لدى
السلف -رحمهم اهلل تعالى -بأن يستثنوا ف اإليمان ،فيقول القائل منهم« :أنا مؤمن أرجو» ،أو «أنا مؤمن
إن شاء اهلل» ،أو «آمنت باهلل ومالئكته» و نحو ذلك من الصيغ التي مر معنا إشارة إلى بعضها .وإذا أريد
ارتضى اإليمان دينًا فدخل فيه ،فأصل اإليمان إذا ُق ِصدَ هذا ل استثناء فيه .وهذا األثر المروي عن سلمان
حمل على هذا -إن صح عنه -وله نظائر سبق أن مر معنا بعضها.
ُي َ
وهذا األثر يرويه َح َّب ُة بن ُج َوين ال ُع َرنِ ُّي ،وهو صدوق له أغالط ،يقولُ « :كنَّا َم َع َس ْل َما َن َو َقدْ َصا َف ْفنَا ا ْل َعدُ َّو
اهلل ا ْل ُم ْؤمِن ِي َن بِ ُق َّو ِة ا ْل ُمنَافِ ِقي َن» .إذا كان المراد باإلشارة هنا من حيث اإلجمال -ل أهنا إشارة إلى
َو ُي َؤيدُ ُ
ُم َع َّين ِين -فال إشكال؛ أما إذا كانت اإلشارة إلى معينين ،فسيأيت معنا ف األثر عن بكر بن عبد اهلل المزين أنه
يضا يستطيع أن يجزم لمن عرف منه فسق وانحراف ل يستطيع أن يجزم لمن ُع ِر َ
ف بالصالح باإليمان ،ول أ ً
بالنفاق ،لكننا نرجو لمحسننا ونخشى على مسيئنا .أما إذا كان هذا من حيث اإلطالق دون التعيين ،فالناس
بعد ظهور اإليمان أصبحوا أقسا ًما ثالثة :مؤمن ،ومنافق ،وكافر مشرك؛ فإذا كانت اإلشارة هنا إلى العموم
الناس ف الخطب العامة والمواعظ« :يا أيها الذين آمنوا» و«أيها المؤمنون» -هذا ل تزكية فيه،
ُ يخا َطب
اإلطالق العام .واإلسناد فيه حبة بن جوين العرين ،وهو صدوق له أغالط.
اهلل ا ْل ُمنَافِ ِقي َن بِدَ ْع َو ِة ا ْل ُم ْؤمِنِي َن» ،يظهر -واهلل تعالى أعلم -أن هذا األثر -إن صح -المراد
قولهَ « :ف َين ُْص ُر َ
به ِع َظ ُم أثر دعاء المؤمنين ف النصر..هذا من جهة ،ومن جهة ثانية :أن اهلل -سبحانه وتعالى -قد يؤيد
الدين بالرجل الفاجر ،ل يلزم من كون الشخص ُيبلِي بال ًء حسنًا ف مجاهبة األعداء أن يكون مؤمنًا كامل
عظيما ف قتال
ً رجال أبلى بال ًء اإليمان .وف حياة النبي ﷺ ذكر النبي للصحابة ً
مثال من ذلك ،لما ذكروا له ً
العدو ،فقال النبي -عليه الصالة والسالم -عنهَ « :ه َذا ِم ْن َأ ْه ِل الن ِ
َّار» .فكون الشخص أبلى ف القتال
والنكاية ف العدو ليس كاف ًيا وحده بالشهادة له باإليمان ،أو الجزم له بالشهادة ف سبيل اهلل .ولهذا جاء ف
ف سبيل اهلل ،و«ف سبيل اهلل» هذه ف قلب المقاتِل ل يدري هبا اإلنسان .ففي مثل هذا المقام يقال« :نحسبه
43
من الشهداء» أو «نرجو أن يكون من الشهداء» أو «نظنه من الشهداء» ،دون الجزم بذلك.
قال:
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن سلمان ،وفيه توضيح لما سبق ف األثر الذي قبله على الكالم
يضا يمكن
بلغت اإليمان» -وأ ً
ُ قطعت أعضاء ما
ُ الذي مر ف إسناده .فقوله عن سلمان أنه قال لرجل« :لو
بلغت اإليمان» -المراد بقولهَ « :ل ْو ُقط ْع ُت َأ ْع َضا ًء» أي :ف سبيل
َ قطعت أعضاء ما
َ أن تكون العبارة« :لو
يم َ
ان» يعني ل أجزم لنفسي بذلك أين بلغت اإليمان. عت أعضاء «ما َب َل ْغ ُت ْ ِ
مقاتال حتى ُقط ُ
اإل َ ً َ ً اهلل مجاهدً ا
وهذا فيه أن العبد مهما اجتهد ف األعمال الصالحات والطاعات الزاكيات ل يزكي نفسه ،ول يجزم لنفسه
بأنه مؤمن هكذا على اإلطالق دون أن يستثني؛ ألن «مؤمن» تشمل الدين كله ،ولهذا قال ﭬَ « :ل ْو ُقط ْع ُت
يم َ
ان» ل أجزم لنفسي بأين قد بلغت اإليمان أو تممت َأ ْع َضاء» أي :مجاهدً ا ف سبيل اهلل «ما َب َل ْغ ُت ْ ِ
اإل َ َ ً
ُونَ ،و َه ُؤ َل ِء ا ْل ُمنَافِ ُق َ
ون ،»...قوله: اإليمان أو كملته .وهذا يوضح لنا األثر السابق ف قولهَ « :ه ُؤ َل ِء ا ْل ُم ْؤمِن َ
« َه ُؤ َل ِء ا ْل ُم ْؤمِن َ
ُون» المراد أصل اإليمان ل تمامه ،وعندما تحدث عن تمام اإليمان قال هناَ « :ل ْو ُقط ْع ُت
ِ
َأ ْع َضا ًء َما َب َل ْغ ُت ْاإل َ
يم َ
ان».
قال:
الشرح:
يضا عدم الجزم ألحد ما بعينه لخطأ ما أو لمخالفة بأنه منافق هكذا جز ًما ،وإنما نرجو لمحسننا ونخشى
وأ ً
ج ِد»
ج ِد» .قبل الدخول ف الموضوع ،كلمة « َأ ْه ِل ا ْلمس ِ
َ ْ
قال بكر بن عبد اهللَ « :ل ْو سئِ ْل ُت َع ْن َأ ْف َض َل َأ ْه ِل ا ْلمس ِ
َ ْ ُ
هذه لها مدلولها؛ ألن األفضلية تعرف ف المساجد ،أما من ليسوا من أهل المساجد هؤلء ليسوا من أهل
معذورا ،أما غير المعذور إذا كان ل يشهد الصالة مع الجماعة فهو
ً األفضلية ف شيء إل إن كان اإلنسان
على خطر عظيم ،بل إن الصحابة ﭫ كانوا كما ف «صحيح مسلم» عن عبد اهلل بن مسعود قالَ « :و َل َقدْ
ف َعن َْها إِ ََّل ُمنَافِ ٌق َم ْع ُلو ُم النِّ َف ِ
اق»ُ ،يخشى أن يكون من المنافقين؛ ألن النبي -عليه الصالة َر َأ ْي ُتنَا َو َما َيتَخَ َّل ُ
ون َما فِ ِ
يه َما َلَت َْو ُه َما والسالم – قال« :إِ َّن َأ ْث َق َل ص ََل ٍة ع َلى ا ْلمنَافِ ِقين ص ََل ُة ا ْل ِع َش ِ
اءَ ،و َص ََل ُة ا ْل َف ْجرَِ ،و َل ْو َي ْع َل ُم َ َ َ ُ َ َ
َو َل ْو َح ْب ًوا».
ظاهره من صالح ،بل لبد مع ذلك من صالح الباطن ،والباطن بين اإلنسان وبين ربه -جل وعال -ل
يطلع عليه إل عالم الغيوب -عز وجل .ولهذا قال اهلل – تعالى :ﭿﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﭾ [النجم،]3٢ :
فِي ا ْل َجن َِّة» ،لو شهدت أنه مؤمن مستكمل اإليمان لشهدت له أنه ف الجنة ،وهذا ورد نظيره عن ابن مسعود
45
قالَ « :م ْن َش ِهدَ َأ َّن ُه ُم ْؤمِ ٌن َف ْل َي ْش َهدْ َأ َّن ُه فِي ا ْل َجن َِّة» ،و« َل ْو ُق ْل ُت إِ ْحدَ ُاه َما َألَ ْت َب ْعت َُها ْاألُ ْخ َرى».
ث» َ -ش َّك الراوي « -ر ُج ٍل َف َقا ُلواَ :ت ْش َهدُ َأ َّنه منَافِ ٌق مس َت ْك ِم ُل الن َف ِ
اق ثم قال« :و َلو سئِ ْل ُت َعن َشر َأو َأ ْخب ِ
ْ َ ْ
ُ ْ ُ ُ َ َ ْ ُ
ت َأ َّن ُه فِي الن ِ
َّار» ،لكن كما َقدَّ ْم ُت -وهذا من عقيدة أهل ت َل َش ِهدْ ُ
ان؟ َل ْم َأ ْش َهدْ َ ،و َل ْو َش ِهدْ ُ ِ ِ
اإليم ِ
َب ِري ٌء م َن ْ َ
السنة -يرجى للمحسن و ُيخاف على المسيء؛ أما الجزم والتعيين فهذا ل يكون إل عن يقين ف هذا األمر
قال:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 46
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عبد اهلل بن عباس ﭭ أنه يقول ل ِ ِغلمانه -يدعو غلمانه واحدً ا
واحدً ا – يعني :كأنه يدعو كل واحد منهم على حدة فيكلمه ف هذا األمر ،والمراد بغلمانه :أي ما تحته من
العبيد ،وإذا كان يفعل ذلك بغلمانه فكيف إ ًذا باألبناء -أبناء اإلنسان؟ فكان يدعو غلمانه -أي :من تحته
من العبيد -ويقولَ « :أ َل ُأ َزو ُج َك؟» و« َأ َل» هذه للرتغيب والحث؛ فكان يعتني هبذا الباب مع غلمانه ومع
األبناء من باب أولى وأحرى -إذا كان هذا مع غلمانه فإن األمر مع األبناء من باب أولى وأحرى! والمبادرة
بتزويج األبناء والمسارعة إلى ذلك -ول سيما مع كثرة الفتن -مطلب شرعي ،وهذا المطلب واضح
اع ِمنْك ُُم ا ْل َبا َء َة َف ْل َي َتز ََّو ْج» لماذا؟ قال: الش َب ِ
ابَ ،م ِن ْ
اس َت َط َ تما ًما ف قول نبينا -عليه الصالة والسالمَ « :يا َم ْع َش َر َّ
وألجل هذه العلة كان يدعو عبد اهلل بن عباس غلمانه واحدً ا واحدً ا يقولَ « :أ َل ُأ َزو ُج َك؟» يذكر له األمر
أو يرغبه ف األمر الذي يحصنه من الفاحشة ويكون به العفاف ،وف الوقت نفسه يحذره من الفاحشة ويبين
له خطورهتا .وهذان جانبان لبد من إبرازهما للشاب :لبد أن يدرك الشاب ما ف الزواج من عفاف ،وما
فيه من غض للبصر ،وما فيه من تحصين للفرج ،وأنه ينبغي عليه أن يسارع للزواج قدر استطاعتهَ « :م ِن
ُم ا ْل َبا َء َة َف ْل َي َتز ََّو ْج » ،وف الوقت نفسه يجب على الشاب أن يدرك تما ًما خطورة الفاحشة :ﭿﮊ اس َت َط ِ
اع منْك ُ
َ ْ
ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭾ [اإلسراء]3٢ :؛ فالزنا فاحشة -هبذا وصفه اهلل سبحانه وتعالى -و َم َغ َّب ُته على
مــــن الحــــرام ويبقــــى الخــــزي والعــــا ُر تفنـــــى اللـــــذاذة ممـــــن نـــــال صـــــفوهتا
النـــــار
ُ خيـــــر ف لـــــذة مـــــن بعـــــدها
.........ل ـى عواقـــــب ســـــوء مـــــن مغبتهـــــاوتبقــــ
........
............ .......
47 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
47
فالشاب يجب عليه أن يعرف أهمية المبادرة إلى الزواج والمسارعة إليه ،وما فيه من غض للبصر وتحصين
للفرج ،وأن يعرف ف الوقت نفسه خطورة الفاحشة .وابن عباس ﭭ جمع بين األمرينَ « :أ َل ُأ َزو ُج َك؟»
اإليم ِ
ِ ِ ٍ ِ ِ
ان» هذا تحذير شديد ُور ْ َ هذا ترغيب ف الزواج وحث عليه ،وقولهَ « :ما م ْن َع ْبد َي ْزني إِ َّل ن ََز َع ُ
اهلل منْ ُه ن َ
يمان ن َِز ٌه» وأن العبد أو اإلنسان إذا زنى فارقه اإليمان، من هذه الفاحشة .وقد مر معنا ف الحديث أن ْ ِ
«اإل َ
ين َيزْنِي َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن» .وهذا كله يبين ويدل على خطورة هذه الفاحشة على إيمان اإلنسان، ِ ِ ِ
َيزْني الزَّاني ح َ
وأهنا ُت ِ
ذهب نور اإليمان ،فيظلم -والعياذ باهلل -يظلم مثل ما قال أحد السلف« :وإن َه ْم َل َج ْت هبم ال َب َراذين
و َط ْق َط َق ْت هبم البِغال ،فإن ذل المعصية ف رقاهبم ،أبى اهلل إل أن يذل من عصاه» .فالمعصية تكون سب ًبا
لظلمة الوجه ،والطاعة تكون سب ًبا لنور الوجه وضيائه؛ وكذلك الشأن ف البدعة :البدعة سبب لظلمة
الوجه ،حتى قال عبد اهلل بن المبارك -رحمه اهلل تعالى« :صاحب البدعة على وجهه الظلمة وإن ادهن كل
يوم ثالثين مرة» ،يعني :لو استعمل الدهون التي ُتس َتعمل للتجميل أو التحسين أو نحو ذلك تبقى ظلمة
البدعة على وجهه .فهذان أمران لبد أن يدركهما الشاب وأن يفهمهما تما ًما ف شبابه :أهمية المبادرة إلى
الزواج والمسارعة إليه لما فيه من عفة وحفظ للفرج وغض للبصر ،وأن يحذر وأن يعرف -ف الوقت
وقديما ،كان الزواج للشباب يكون ف سن مبكرة :كان يتزوج الشاب وعمره ثالث عشرة سنة ،وأربع عشرة
ً
سنة ،بل وإحدى عشرة سنة ،واثنا عشرة سنة! وابن هذا السن -خمس عشرة سنة -يكون مع الرجال..
ف َم َصف الرجال ..رجل ..وف تعامله وف حديثه وف أسلوبه؛ واآلن قد تجد ابن ثماين عشرة سنة ف يده
علبة العصير أمامه ويشوهتا بقدمه ويجري خلفها! وهو ابن ثماين عشرة سنة وعشرين سنة! وتجده إذا انتهى
من شرب العصير يرمي العلبة أمامه ويجري خلفها ويشوهتا بقدمه..يركلها بقدمه ويقفز -كأنه ابن ست
فمثل هذه األمور ..يعني ف واقع كثير من الشباب والنشأة الهزيلة ..النشأة الضعيفة ..النشأة المهرتئة..
يكون يبلغ ف السن مبلغ الرجال ولكنه ف عقله وفكره مبلغ الصغار! ومصيبة إذا كان البن هبذه الصفة:
ثماين عشرة سنة ثم يرمي علبة العصير أمامه ويشوهتا ،ويقول له والده :تعال أزوجك! هذا أيش يفعل هذا
وهذه حاله وهذه صفته؟! فالشاب ينبغي أن يعرف ما ينبغي أن يكون عليه من رجولة ،وما ينبغي أن ينشأ
عليه من صفات وأخالق وآداب ،وأن يعرف معالي األمور ،وأن يحذر من َس ْف َسافها ،حتى ينشأ نشأة طيبة
مباركة بدل أن يكرب به السن وينشأ على صفات من أشنع ما يكون وأبغض ما يكون! وأص َب َح ْت ُترى ف
المجتمعات المسلمة صور -حقيق ًة -مؤلم ٌة جدً ا لشباب ف هيئاهتم ..ف صورهم ..ف حركاهتم ..ف
أعمالهم ..وقد بلغوا العشرين ..أزيد من العشرين ..ف حالت مؤلمة جدً ا .فهذا جانب ينبغي أن ُيع َتنَى
بتوجيه الشباب إليه وحثهم عليه ،وبيان معالي األمور والتحذير من سفسافها.
اهلل مِنْ ُه ٍ ِ ِ قالَ « :ق َال َع ْبدُ اهللِ ْب ُن َع َّب ٍ
اس ل ِ ِغ ْل َمانِ ِه َيدْ ُعو ُغ َال ًما ُغ َال ًما َي ُق ُ
ولَ :أ َل ُأ َزو ُج َك؟ َما م ْن َع ْبد َي ْزني إِ َّل ن ََز َع ُ
اإليم ِ
ِ
ان» .واإليمان له نور وضياء ،وإذا وقع اإلنسان ف الفاحشة أذهب عن نفسه هذا النور ،وأذهب ُور ْ َ
ن َ
عن نفسه استحقاق اسم اإليمان ،واهلل يقول :ﭿﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋﭾ [الحجرات .]11 :أصبح بدل أن كان
من أهل األلفاظ واأللقاب الشريفة الفاضلة :اإليمان ،العفاف ،السرت ،الحياء..إلى غير ذلك ،أصبح
مستح ًقا أللفاظ ذميمة :العهر ،الفجور ،الفسق ،الفاحشة ،الرذيلة! أصبحت هذه األلقاب مستح ًقا لها
بسبب أعماله وفِعاله ،فيحذر المسلم أشد الحذر من األعمال التي تضر بدينه ومن أشنعها وأفظعها هذه
واإلسناد هنا فيه عثمان بن أبي صفية األنصاري .قال الشيخ « :$لم أعرف عثمان بن أبي صفية هذا،
لكنه لم يتفرد به ،فقد رواه المصنف فيما يأيت ( )94بإسناد حسن» .وعثمان بن أبي صفية له ترجمة ف
قال:
49 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
49
يهَ ،ع ْن َعائِ َشةََ ،ع ِن النَّبِي ﷺ َق َال:
اد ب ِن س َلمةََ ،عن ِه َشامٍَ ،عن َأبِ ِ
ْ ْ
ِ ان ْب ُن َح ْر ٍ
بَ ،ع ْن َح َّم ْ َ َ (َ )7٢حدَّ َثنَا ُس َل ْي َم ُ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة ڤ ،وقد تقدم برقم ( )39من وجه
قال:
ول ا َّل ِذي َس َأ َل َع ْبدَ اهللِ ْب َن ِ ِ اويةََ ،ع ِن َّ ِ
الش ْي َبانيَ ،ع ْن َث ْع َل َبةََ ،ع ْن َأبِي ق َال َبةََ ،حدَّ َثني َّ
الر ُس ُ (َ )73حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ َ
الس ِر َير ِة ِ ٍ ِ ِ ِ ِ ِ ٍ
َّاس كَانُوا َع َلى َع ْهد َر ُسول اهلل ﷺ َع َلى َث َال َثة َأ ْصنَافُ :م ْؤم ُن َّ َم ْس ُعود َف َق َالَ :أ ْن ُشدُ َك بِاهلل َأ َت ْع َل ُم َأ َّن الن َ
الس ِر َير ِة؟ َق َالَ :ف َق َال َع ْبدُ اهللِ« :ال َّل ُه َّم ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
الس ِر َيرة كَاف ُر ا ْل َع َالن َية ،و ُم ْؤم ُن ا ْل َع َالن َية كَاف ُر َّ
ِ ِ ِ ِ
ُم ْؤم ُن ا ْل َع َالن َية ،وكَاف ُر َّ
الس ِر َير ِةُ ،م ْؤمِ ُن ا ْل َع َالنِ َي ِةَ ،أنَا ُم ْؤمِ ٌن». ِ ِ ِ
َن َع ْم»َ .ق َالَ :ف َأن ُْشدُ َك بِاهلل م ْن َأي ِه ْم ُكن َْت؟ َق َالَ :ف َق َال« :ال َّل ُه َّم ُكن ُْت ُم ْؤم ُن َّ
ول َأنَا ُم ْؤمِ ٌن. الص َالحِ َي ِعي ُب َ ِ ِ ِ اقَ :ف َل ِق ُ
ون َع َلي َأ ْن َأ ُق َ
َّ َاسا م ْن َأ ْه ِل َّ يت َع ْبدَ اهلل ْب َن َم ْعق ٍل َف ُق ْل ُت :إِ َّن ُأن ً َق َال َأ ُبو إِ ْس َح َ
ت إِ ْن َل ْم َت ُك ْن ُم ْؤمِنًا». َق َالَ :ف َق َال َع ْبدُ اهللِ ْب ُن َم ْع ِقلٍَ « :ل َقدْ ِخ ْب َت َو َخ ِس ْر َ
الشرح:
الس ِر َير ِةُ ،م ْؤمِ ُن ا ْل َع َالنِ َي ِةَ ،أنَا ُم ْؤمِ ٌن» ،فإذا كان ُق ِصد هبذا أصل ِ ِ
م ْن َأي ِه ْم ُكن َْت؟ َق َالَ :ف َق َال :ال َّل ُه َّم ُكن ُْت ُم ْؤم ُن َّ
اإليمان فال إشكال ف ذلك ،أما إذا ُق ِصد اإليمان بما يشتمل عليه من أعمال ،وأن النافع منه هو المتقبل
عند اهلل -سبحانه وتعالى -فال يجزم اإلنسان مثل هذا الجزم بقوله« :أنا مؤمن» .وعلى كل ٍ
حال ،فاألثر
أشرت إليه.
ُ حمل على المعنى الذي
ضعيف اإلسناد لم يثبت ،وعلى فرض صحته ُي َ
اق» -أبو إسحاق هنا هو الشيباين ،ومر معنا ف اإلسناد ،قالَ « :حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ
او َيةََ ،ع ِن « َق َال َأ ُبو إِ ْس َح َ
مكتوب ( ُم َغ َّف ٍل) ،أي :الصحابي ،وسبق أن مر معنا هذا الخطأ أو هذا التصحيف ،ون َّب ُ
هت هناك برقم ()30
ول َأنَا ُم ْؤمِ ٌنَ .ق َالَ :ف َق َال َع ْبدُ اهللِ ْب ُن َم ْع ِق ٍلَ :ل َقدْ ِخ ْب َت َو َخ ِس ْر َ
ت إِ ْن َل ْم َت ُك ْن ُم ْؤمِنًا» .وهذا مر معنا باإلسناد َأ ُق َ
قال:
يم ال َّت ْي ِميَ ،ق َالَ « :و َما َع َلى َأ َح ِد ِه ْم َأ ْن ِ اويةََ ،عن موسى ب ِن مسلِ ٍم َّ ِ
الش ْي َبانيَ ،ع ْن إِ ْب َراه َ ْ ُ َ ْ ُ ْ (َ )74حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ َ
مِ َن ا ْل َك ِذ ِ
ب».
الشرح:
إذا كان هو المراد -ل يقال ما دخل عليه من الكفر أشد -إذا كان المراد تمام اإليمان وكماله .أما إذا قصد
51 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
51
أصله ،فالذي يقابل أصل اإليمان هو الكفر باهلل -سبحانه وتعالى ،أما الذي يقابل تمام اإليمان وكماله هو
نقص اإليمان وضعفه .فكالم إبراهيم التيمي محمول على إرادة أصل اإليمان بقولهَ « :أنَا ُم ْؤمِ ٌن».
وعرفنا فيما سبق أن كلمة (أنا مؤمن) إذا َق َصد هبا من أطلقها أصل اإليمان فال حرج ف ذلك ،لكن إذا قصد
البصري $عندما سئل عن اإليمان ،قال« :اإليمان إيمانان ،فإن كنت تسألني عن اإليمان باهلل،
ومالئكته ،وكتبه ورسله ،والجنة والنار ،والبعث والحساب ،فأنا مؤمن ،وإن كنت تسألني عن قول اهلل -
قال:
يمَ ،ع ْن َع ْل َق َمةََ ،ق َال :قِ َيل َل ُهَ :أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ
ْت؟ َق َالَ :أ ْر ُجو. ِ
شَ ،ع ْن إِ ْب َراه َ (َ )75حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ
او َيةََ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن علقمة -رحمه اهلل تعالى -أنه «قِ َيل َل ُهَ :أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ
ْت؟ َق َال:
َأ ْر ُجو» .وهذه صيغة من صيغ اإلستثناء ،وقد مر معنا نظيرها ،وأن من سئل« :أمؤمن أنت؟» الذي ينبغي
نظرا للتقصير ف تكميل األعمال ،وخشية أن ل تكون أعماله التي قام هبا متق َّب َلة،
عليه أن يجيب مع الستثناء ً
فيقول« :أنا مؤمن أرجو» ،أو يقول« :أنا مؤمن إن شاء اهلل» ،أو يقول« :آمنت باهلل ومالئكته» ،أو يقول« :ل
قال:
الزبِي ِديَ ،ق َال: ث ْب ِن َع ِم َير َة َّ ار ِبَ ،ع ِن ا ْل َح ِ او َيةََ ،ع ْن َد ُاو َد ْب ِن َأبِي ِهن ٍْدَ ،ع ْن َش ْه ِر ْب ِن َح ْو َش ٍ (َ )76حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ
ون َر ْح َم ُة َرب ُك ْمَ ،و َد ْع َو ُة َنبِي ُك ْم ﷺ، ص َف َخ َط َب ُه ْم َف َق َال :إِ َّن َه َذا ال َّطا ُع َ ِ
الشامَِ ،ف َقا َم ُم َعا ٌذ بِح ْم َ ون بِ َّ َو َق َع ال َّطا ُع ُ
آت َف َق َال :إِ َّن اذ ن َِصيبهم ْاألَو َفى مِنْهَ .ف َلما ن ََز َل َع ِن ا ْل ِمنْب ِر َأ َتاه ٍ حين َقب َل ُكم ،ال َّلهم ا ْق ِسم ِآل ِل مع ٍ ِ ِ
َ ُ ُ َّ َُ ُ ْ َُ ْ ُ َّ الصال َ ْ ْ ت َّ َو َم ْو ُ
الر ْح َم ِن ُم ْقبِ ًال يبَ ،ف َق َال :إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ ِ ٍ
الر ْح َم ِن ْب َن ُم َعاذ َقدْ ُأص َ
ونُ ،ث َّم ا ْن َط َل َق ن َْح َو ُه َف َل َّما َرآ ُه َع ْبدُ َّاج ُع َ َ َع ْبدَ َّ
الَ :يا ُبنَي ﭿ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔﭾ [الصافات: َق َالَ :يا َأ َب ِة ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭾ [البقرةَ ،]147:ق َ
َّ
الزبِي ِد ُّي ث ْب ُن َع ِم َير َة َّ يبَ ،ف َأ َتا ُه ا ْل َح ِ
ار ُ ِ ِ
َان ُم َعا ٌذ آخ َر ُه ْمَ ،ف ُأص َ اذ إِن َْسا ًنا إِن َْسا ًناَ ،حتَّى ك َ ات ُآل مع ٍ
َُ َ ،]10٢ق َالَ :ف َم َ
يك؟ َف َق َالَ :أ ْبكِي َع َلى ث َي ْبكِيَ ،ف َق َال ُم َعا ٌذَ :ما ُي ْبكِ َ ار ُ اق ُم َعا ٌذ َوا ْل َح ِ َي ُعو ُد ُهَ ،ق َالَ :و ُغ ِشي َع َلى ُم َعا ٌذ َغ ْش َيةًَ ،ف َأ َف َ
َ
ودَ ،ومِ ْن ُع َو ْي ِم ٍر ا ْل ِع ْل ِم ا َّل ِذي يدْ َفن مع َكَ ،ف َق َال :إِ ْن ُكن َْت َطالِب ا ْل ِع ْل ِم َل محا َل َة َفا ْط ُلبه مِن َعب ِد اهللِ ب ِن مسع ٍ
ْ َ ْ ُ ُْ ْ ْ َ َ َ ُ ُ ََ
اهلل َأ ْن َأ ْع ِر َف َها؟ َق َال: ف لي َأ ْص َل َح َك ُ
اك و َز َّل َة ا ْلعال ِ ِمَ ،ف ُق ْل ُت :و َكي َ ِ
َ ْ َ ارسيَ ،وإِ َّي َ َ َأبِي الدَّ ْر َدا ِءَ ،ومِ ْن َس ْل َم َ
ان ا ْل َف ِ ِ
ود بِا ْل ُكو َف ِة،ث ي ِريدُ َعبدَ اهللِ بن مسع ٍ ات ُم َعا ٌذ َر ْح َم ُة اهللِ َع َل ْي ِهَ ،و َخ َر َج ا ْل َح ِ ف بِ ِهَ .ق َالَ :ف َم َ ِ
ْ َ َ ْ ُ ْ ار ُ ُ ُور ُي ْع َر ُل ْل َحق ن ٌ
ونَ ،ف َج َرى َب ْين َُه ُم ا ْل َح ِد ُ اب َعب ِد اهللِ ب ِن مسع ٍ ِ َفا ْنت ََهى إِ َلى َبابِ ِهَ ،فإِ َذا َع َلى ا ْل َب ِ
يث َحتَّى ود َيت ََحدَّ ُث َ ْ َ ْ ُ اب َن َف ٌر م ْن َأ ْص َح ِ ْ
ْت؟ َف َق َالَ :ن َع ْمَ ،ق َالَ :ف َقا ُلوا :مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة؟ َق َال :إِ َّن لِي َذنُو ًبا َو َما َأ ْد ِري َما َي ْصن َُع َقا ُلواَ :يا َشامِ ُّيَ ،أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ
ت لِي َألَ ْن َب ْأ ُت ُك ْم َأني مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّةَ ،ق َالَ :ف َب ْين ََما ُه ْم ك ََذل ِ َك إِ ْذ َخ َر َج َع َل ْي ِه ْم َع ْبدُاهلل فِ َيهاَ ،و َل ْو َأ ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ
ُ
الشامِي؟ َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه ُم ْؤمِ ٌنَ ،و َل َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّةَ ،ف َق َال َع ْبدُ اهللِ: ب مِ ْن َأ ِخينَا َه َذا َّ اهللَ ،ف َقا ُلواَ :أ َل َت ْع َج ُ
ِ
اذَ ،ق َال: ون ،ص َّلى اهلل َع َلى مع ٍ ث :إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ َل ْو ُق ْل ُت إِ ْحدَ ُاه َما َألَ ْت َب ْعت َُها ْاألُ ْخ َرىَ ،ف َق َال ا ْل َح ِ
َُ ُ اج ُع َ َ َ ار ُ
ف بِاهللِ َأن ََّها مِن َْك اك َو َز َّل َة ا ْل َعال ِ ِمَ ،ف َأ ْحلِ ُاك؟ َق َالَ :ق َال :إِ َّي َ َو ْي َح َكَ ،و َم ْن ُم َعا ٌذ؟ َق َالُ :م َعا ُذ ْب ُن َج َبلٍَ ،ق َالَ :و َما َذ َ
ان إِ َّل َأنَّا ن ُْؤمِ ُن بِاهللَِ ،و َم َالئِ َكتِ ِهَ ،و ُك ُتبِ ِهَ ،و ُر ُسلِ ِهَ ،وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخ ِرَ ،وا ْل َجن َِّة َوالنَّ ِ
ار، يم ُ اإل َ
ودَ ،وما ْ ِ
َ
َل َز َّل ٌة يا ابن مسع ٍ
َ ْ َ َ ْ ُ
ت َل ُق ْلنَا :إِنَّا مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة. اهلل فِ َيهاَ ،ف َل ْو َأنَّا َن ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ
ُوب َما نَدْ ِري َما َي ْصن َُع ُ
ِ ِ ِ
َوا ْل َب ْعثَ ،وا ْلم َيزانَ ،و َلنَا ُذن ٌ
َت مِني َل َز َّل ٌة. َت مِني َل َز َّلةٌَ ،صدَ ْق َت َواهللِ إِ ْن كَان ْ َق َالَ :ف َق َال َع ْبدُ اهللَِ :صدَ ْق َتَ ،واهللِ إِ ْن كَان ْ
الشرح:
الزبِ ِ
يدي -ف النسخ المطبوعة ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر الطويل ،يرويه الحارث بن َعميرة َّ
«اإلصابة» ف قسم المخضرمين ،وقال« :أسلم ف عهد النبي ﷺ ،وصحب معاذ ابن جبل ،و َق ِدم معه من
53
اليمن بعد النبي ﷺ» اهـ .وذكره ابن أبي حاتم ف «الجرح والتعديل» ،وقال« :روى عن معاذ بن جبل ،روى
عنه َش ْه ُر بن حوشب» اهـ .وشهر بن حوشب -الذي يروي هذا األثر عن الحارث -صدوق كثير األوهام،
ف هذا األثر بسببه .والجملة األولى ف أول الحديث صحت بما لها من شواهد ،أما آخر هذا
ولهذا ُضع َ
األثر وما يتعلق بالسؤال عن اإليمان والعرتاض الذي قاله الحارث إنما جاء هبذا اإلسناد ،وهو إسناد
ضعيف.
الطبعات هناك خطأ ف هذا الموضع ُي َص َّحح – قالَ « :ف َخ َط َب ُه ْم َف َق َال :إِ َّن َه َذا ال َّطا ُع َ
ون َر ْح َم ُة َرب ُك ْمَ ،و َد ْع َو ُة
ت الصال ِ ِ
حي َن َق ْب َل ُك ْم» ،ذكر هذه الصفات للطاعونَ « .ر ْح َم ُة َرب ُك ْم» ،والرحمة ف الطاعون َنبِي ُك ْم ﷺَ ،و َم ْو ُ َّ
من جهة أن المؤمن ُيب َتلى بمثل هذه المصائب العظام ،فيصرب ويتلقاها بالصرب والرضا فتكون رحمة له،
وتكفيرا لخطيئاته؛ والمصائب كفارات ،فهي من هذه الجهة رحمة للمؤمنَ « .و َد ْع َو ُة
ً ورفعة ف درجاته،
ت الصال ِ ِ
حي َن َق ْب َل ُك ْم» ،أي :كان كثير منهم يموت َنبِي ُك ْم ﷺ» ،هذا جاء أ ً
يضا فيه حديث هبذا المعنىَ « .و َم ْو ُ َّ
هبذا المرض .فقال معاذ« :ال َّلهم ا ْق ِسم ِآل ِل مع ٍ
اذ ن َِصي َب ُه ُم ْاألَ ْو َفى مِنْ ُه» -جاء ف بعض الروايات أنه قال: َُ ْ ُ َّ
«من هذه الرحمة» ،فسأل آلله الرحمة .وأما سؤال اهلل -سبحانه وتعالى -للبالء ،فهذا يدخل ف عموم ما
َّاس َلَ َتت ََمن َّْوا لِ َقا َء ال َعدُ ِّوَ ،و َس ُلوا اَّللَ ال َعافِ َيةَ،
جاء ف الحديث أن النبي – عليه الصالة والسالم – قالَ « :أ ُّي َها الن ُ
ِ
اصبِ ُروا» ،وأهل العلم استشهدوا هبذا الحديث على عدم سؤال اهلل -عز وجل -المرض َفإِ َذا َلقيت ُُم ُ
وه ْم َف ْ
أو الطاعون أو نحو ذلك من البالء .وف هذا المعنى قال ابن القيم -وقد استشهد هبذا الحديث « :-ل
سيما والطاعون قد جاء أنه وخز أعدائنا من الجن ،فالطاعون كالطعان فال ينبغي الفرار منهما ول تمني
لقائهما» ،ل ينبغي الفرار بمعنى :إذا نزل الطاعون أو ُو ِجد الطاعون ف بلد واإلنسان فيه ل يفر ،وإذا كان
ِ ِ ِ
اصبِ ُروا» .وسؤال معاذَ :ل َّما ف بلد ل يذهب إليهاَ« ،لَ َتت ََمن َّْوا ل َقا َء ال َعدُ ِّوَ ،و َس ُلوا اَّللَ ال َعاف َيةََ ،فإِ َذا َلقيت ُُم ُ
وه ْم َف ْ
ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭾ
[البقرة .]156 - 155 :فبادر -رضي اهلل عنه وأرضاه -إلى قول هذه الكلمة« :إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ
اج ُع َ
ون» ،ومعناها: َ
أنا هلل عبد ،وأنا إليه راجع .وإذا ذكر المؤمن بقوله هذه الكلمة أنه عبد هلل ،طوع تدبير مالكه ،وأنه راجع هلل،
أجمل ما يكون؛ فالبن ُي َذكر والده بأن هذا قدر اهلل ،وهذا الذي كتبه اهلل -يستحثه بذلك على الصرب على
قضاء اهلل وعلى ما كتبه اهلل بتالوة هذه اآلية الكريمة ،فأجاب بقوله :ﭿﰏﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔﭾ.
ات مِ َن ا ْل ُج ُم َع ِة آخ َر ُه ْم» ،وجاء ف بعض الرواياتَ « :ف َم َ َان معا ٌذ ِ ٍ
ات ُآل ُم َعاذ إِن َْسا ًنا إِن َْسا ًناَ ،حتَّى ك َ ُ َ قالَ « :ف َم َ
َان ُهو» أي :معاذ ﭬ « ِ ِ اذ ُك ُّل ُه ْم ُث َّم ك َ إِ َلى ا ْلجمع ِة ُآل مع ٍ
آخ َر ُه ْم» أي :هبذا الطاعون َان ُه َو آخ َر ُه ْم» ُ « -ث َّم ك َ َ َُ ُ ُ َ
أيضا هنا ُم َص َّح َفة َ « -ي ُعو ُد ُه» -أي :ف المرض ،مرض الزبِي ِد ُّي» ً - ث ْب ُن َع ِم َير َة َّ ار ُ – قالَ « :ف َأ َتا ُه ا ْل َح ِ
اق ُم َعا ٌذ الطاعون – « َق َالَ :و ُغ ِشي َع َلى ُم َعا ٌذ َغ ْش َيةً» -يعني :أخذته إغماءة بسبب شدة المرض َ « -ف َأ َف َ
َ
يك؟ َف َق َالَ :أ ْبكِي َع َلى ا ْل ِع ْل ِم ا َّل ِذي ُيدْ َف ُن َم َع َك» .وكما جاء ف الحديث ث َي ْبكِيَ ،ف َق َال ُم َعا ٌذَ :ما ُي ْبكِ َ َوا ْل َح ِ
ار ُ
اءَ ،حتَّى إِ َذا َل ْم ُي ْب ِق َعالِ ًما
ض الع َلم ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
« -إِ َّن اَّللَ َلَ َي ْقبِ ُض الع ْل َم انْتزَا ًعا َي ْنت َِز ُع ُه م َن الع َبادَ ،و َلك ْن َي ْقبِ ُض الع ْل َم بِ َق ْب ِ ُ َ
وسا ُج َّه ًاَلَ ،ف ُسئِ ُلوا َف َأ ْفت َْوا بِ َغ ْيرِ ِع ْلمٍَ ،ف َض ُّلوا َو َأ َض ُّلوا»؛ فكان الحارث يبكي على العلم الذي َّاس ُر ُء ً اتَّخَ َذ الن ُ
سيدفن مع معاذ ﭬ .ولهذا عندما يموت العال ِم ،كم من العلم ُيد َفن؟! وهذا معنى عظيم يلمح إليه
الحارث :عندما يموت العالم الذي أكرمه اهلل -عز وجل -بالعلم الغزير ،والفهم ،ودقة اإلستنباط ،وحفظ
النصوص ،والعناية باألدلة ،إذا ُدفِن كم من العلم يدفن؟ مثل لما ُدفِن ابن باز -رحمة اهلل عليه -ودفن ابن
عثيمين ،$واأللباين ،$وغيرهم من العلماء األكابر ،كم من العلم يدفن بدفن هؤلء العلماء؟
55 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
نفس اللفظ الذي مر عن ابن مسعود« :ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»؛ كان يقصد هذا المعنى
ت َل ُق ْلنَا :إِنَّا مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة. اهلل فِ َيهاَ ،ف َل ْو َأنَّا َن ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ
ُوب َما نَدْ ِري َما َي ْصن َُع ُبكلمة «أنا مؤمن» َ « -و َلنَا ُذن ٌ
َت مِني َل َز َّلةٌ». َت مِني َل َز َّلةٌَ ،صدَ ْق َت َواهللِ إِ ْن كَان ْ َق َالَ :ف َق َال َع ْبدُ اهللَِ :صدَ ْق َتَ ،واهللِ إِ ْن كَان ْ
وعلى كل حال كلمة «أنا مؤمن» إن قصد هبا أصل اإليمان -كما هو واضح ف كالم الحارث هذا -فال
إشكال :تطلق بدون استثناء .وإذا قصد هبا تمام اإليمان وتزكية النفس ،لبد من الستثناء ،كما هو واضح
ف كالم عبد اهلل بن مسعود .ولكن هذا -كما َقدَّ ْم ُت -لم يثبت؛ ألن ف إسناده شهر بن حوشب ،واأللباين
$قال« :إسناد هذا األثر إلى ابن مسعود ضعيف من أجل شهر بن حوشب؛ فإنه ضعيف لكثرة أوهامه».
لكن صدر األثر والخطبة التي فيه جاءت عن معاذ من طرق صحيحة ،وأما تتمة القصة -وهي حادثة وفاة
معاذ ،ومخاطبة الحارث له ،وما بعد ذلك من لقاء الحارث بابن مسعود -هذا كله إنما جاء من هذا الطريق
ول يثبت .أما صدر القصة فجاءت من طرق صحت هبا عن معاذ -رضي اهلل عنه وأرضاه.
قال:
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن مالك بن مرثد الز َّماين ،عن أبيه مرثد ،قالَ « :ق َال َأ ُبو َذ ٍّر ﭬ:
َّار؟» وكثير ًا ما يتكرر هذا السؤال على النبي -عليه الصالة ول اهللِ ﷺ :ما َذا ُينْ ِ
جي ا ْل َع ْبدَ مِ َن الن ِ َس َأ ْل ُت َر ُس َ
َ
ان
يم ُ والسالم -مما يدل على حرص الصحابة ﭫ على الخير ،ومعرفة ما تكون به نجاة األمرَ « ،ق َالِ ْ :
اْل َ
ك اَّللُ َأ ْو َي ْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق ُه اَّللُ».
ان َع َم ًال َق َال :ت َْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق َ
اإليم ِ
ِ ِ ِ
بِاَّللَ .ق َالُ :ق ْل ُتَ :يا َنبِ َّي اهلل ،إِ َّن َم َع ْ َ
كثيرا معطوفة على اإليمان
والرضخ :المراد به النفقة ،أي :تنفق مما رزقك اهلل .واإليمان معه أعمال ،وتأيت ً
ف القرآن :ﭿﮑﮒﮓﮔ ﮕﭾ؛ وعطفها عليه ليس دال على خروجها من ُم َس َّما ُه ،بل هي
ِ
التأكيد عليها والهتما ِم باألعمال .وهنا ،من حرص أبي ذر -إن صح وذكرها من باب داخلة ف مسماه،
ُ
57 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
57 اإليم ِ
ِ ِ
ان َع َم ًال» ،يعني أراد أن يذكر له النبي ﷺ أعما ً
ل يتمسك هبا، هذا الحديث -قالَ « :يا َنبِ َّي اهلل ،إِ َّن َم َع ْ َ
ك اَّللُ َأ ْو َي ْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق ُه اَّللُ» أي:
فأرشده -عليه الصالة والسالم -إلى النفقةَ « ،ق َال :ت َْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق َ
ُينْ ِفق.
فاإلسناد ضعيف.
ونسأل اهلل الكريم ،رب العرش العظيم ،بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينجينا جمي ًعا من النار ،وأن
يجعلنا من أهل الجنة بمنه وكرمه .اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ،ونعوذ بك من
النار وما قرب إليها من قول وعمل ،ونسألك من الخير كله ما علمنا منه وما لم نعلم ،ونعوذ بك من الشر
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ،وأصلح لنا دنيانا التي فيها ُ
معاشنا ،وأصلح لنا آخرتنا التي فيها
معا ُدنا ،واجعل الحياة زيادة لنا ف كل خير ،والموت راحة لنا من كل شر .اللهم وأصلح ذات بيننا ،وألف
بين قلوبنا ،واهدنا سبل السالم وأخرجنا من الظلمات إلى النور وبارك لنا ف أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا
ونسأل اهلل عز وجل بأسمائه الحسنى والصفات العال للشباب العزاب أن يمن عليهم بالزوجات
الصالحات ،وأن يرزقهم العفاف ،وأن يمن علينا جمي ًعا بالتوفيق والسداد ،وأن يغفر لنا ولوالدينا
ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات ،إنه سميع قريب
مجيب.
واهلل تعالى أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد ،وآله وصحبه أجمعين.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 58
الدرس الثامن
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،
أما بعد:
فيقول اْلمام الحافظ أبو بكر عبد اَّلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف -رحمه اَّلل تعالى -يقول يف
كتابه «اْليمان»:
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمد ًا عبده ورسوله صلى
أثر موقوف على أم المؤمنين عائشة ڤ أهنا ُسئلت عن اإليمان ،فقالت لمن سألهاُ « :أ َفس ُر َأ ْو
فهذا ٌ
مجمال
ً بسط فيه القول والشرح والبيان والتوضيح ،أو تريد جوا ًبا
مفسرا ،أيُ :ي َ
ً ُأ ْج ِم ُل؟» ،أي :تريد جوا ًبا
مجمال،
ً بحيث يذكر فيه الكالم القليل الحاوي على المعاين الكثيرةَ « ،ق َالَ :أ ْج ِملِي» يعني أريد جوا ًبا
المؤمنين عائشة –ڤ ثبت مرفو ًعا إلى النبي -عليه الصالة والسالم ،-وأما هذا األثر الذي ساقه
المصنف -رحمه اهلل تعالى -فإن إسناده ضعيف ،فيه علي بن زيد وهو بن جدعان ضعيف ،وأم محمد ل
ُت َ
عرف ،ففيه علتان .فاإلسناد ضعيف ،ولكن الحديث صح مرفو ًعا عن النبي ﷺ من حديث عمر بن
است َْو ُصوا بِ َأ ْص َحابِي ِ ِ الخطاب ﭬ أنه خطب بالجابية فقالَ « :قام فِينَا رس ُ ِ
ول اهلل ﷺ َم َقامي في ُك ْمَ ،ف َق َالْ : َ ُ َ
َخ ْي ًرا »...وف آخره «َ ...و َم ْن َس َّر ْت ُه َح َسنَ ُت ُه َو َسا َء ْت ُه َس ِّي َئ ُت ُهَ ،ف ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن» ،رواه أحمد وغيره ،وإسناده صحيح.
59 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
وقوله -عليه الصالة والسالمَ « :و َم ْن َس َّر ْت ُه َح َسنَ ُت ُه َو َسا َء ْت ُه َس ِّي َئ ُت ُهَ ،ف ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن» ،هذا فيه تفسير لإليمان وبيان
59
له وإيضاح لحقيقته ،وذكر عالمة عظيمة من عالمات اإليمان ،أل وهي أن المؤمن يكون هبذه الصفة :تسره
حسنته وتسوؤئه سيئته ،وذلك أن اهلل -سبحانه وتعالى -حبب إلى المؤمنين اإليمان وزينه ف قلوهبم،
وكره إليهم الكفر والفسوق العصيان ،كما قال اهلل -سبحانه وتعالى -ف سورة الحجرات :ﭿﭾ ﭿ ﮀ
اإليمان من أصله و َين ُقضه ويخرج به فاعله من الملة .والفسوق هو ارتكاب الكبائر التي تخل بإيمان
المسلم الواجب ،فيكون بسببها مؤمنًا فاس ًقا ل يطلق عليه وصف اإليمان باإلطالق ولكن يقال« :مؤمن
فاسق» لرتكابه الفسوق الذي هو هنا المراد به الكبائر -كبائر اإلثم والعصيان وما دون ذلك .وهذه اآلية
ذكرت فيها هذه األمور الثالثة -الكفر والفسوق والعصيان -مرتبة حسب حالها ف شدة تأثيرها على
فذكِر الكفر ً
أول؛ ألنه ناقض لإليمان ،ثم ذكر الفسوق ثان ًيا؛ ألنه يؤثر ف كمال اإليمان الواجب اإليمانُ ،
وفاعله ل يستحق بفعله وصف اإليمان باإلطالق ،بل يقال عنه« :مؤمن فاسق» أو «مؤمن ناقص اإليمان»
ونحو ذلك ،ثم ذكر العصيان وهو الذنوب التي دون ذلك -دون الكبائر ،وقد قال اهلل -تعالى :ﭿﮒ ﮓ
ف اإليمان حسب حالها ف شدة تأثيرها ف اإليمان .الشاهد أن اهلل قال ف اآلية :ﭿﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ
من شاء من عباده -سبحانه وتعالى ،ولهذا فالمؤمن تسره حسنته وتسوؤه سيئته لما جعل اهلل -سبحانه
وتعالى -ف قلبه من حب لإليمان ولوازمه وفروعه ومقتضياته ،ولما جعل ف قلبه من كراهية للكفر
والفسوق والعصيان ،فهذه أمور مكروهة ،وقلب المسلم يكرهها ويبغضها ،فالحسنة تسره والسيئة تسوؤه،
فإذا كان هبذه الصفة فهذا من أمارات اإليمان :من أمارات أن اهلل حبب إليه اإليمان وزينه ف قلبه ،وكره إليه
الكفر والفسوق والعصيان؛ إذا كان هبذه الصفة :تسره حسنته وتسوؤه سيئته ،فهذا من عالمات إيمانه -
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 60
من عالمات أن ف قلبه حب لإليمان ولوازمه ومقتضياته ،وكره للكفر والفسوق والعصيان -بينما بعض
اإليمان أو ذهاب اإليمان .أما المؤمن كامل اإليمان فإنه هبذه الصفة كما قال -عليه الصالة والسالمَ « :م ْن
َس َّر ْت ُه َح َسنَ ُت ُه َو َسا َء ْت ُه َس ِّي َئ ُت ُهَ ،ف ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن» ،أي :هذه من عالمات اإليمان ،فهذه أمارة من أمارات اإليمان
الش ُّك مِ ْن َأبِي َب ْك ٍر» ،ومن ف اإلسناد َ « -ح َّما ُد ْب ُن َم ْع ِقلٍَ ،ع ْن َغال ِ ٍ
بَ ،ع ْن َب ْك ٍر» -ليس فيهم من هو هبذا « َّ
اللقب ،سواء (أبو بكر) أو (أبو العالء) .وكل منهما محتمل ،يعني :محتمل أن يكون (أبا بكر) ،ومحتمل
أيضا أن يكون (أبا العالء) .أبو بكر هو المصنف ،ويكون الذي قال هذه الكلمة من روى «كتاب اإليمان»
ً
الش ُّك مِ ْن َأبِي َب ْك ٍر» ،أي :مصنف الكتاب ،فهذا محتمل .ومحتمل أن يكون أبو العالء
عن المصنف ،قال « َّ
الراوي للكتاب عن ابن أبي شيبة؛ إذا رجعنا إلى أول الكتاب ف ذكر اإلسناد ،فالراوي للكتاب عن ابن أبي
َ
شيبة هو أبو العالء محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي الكوف قراء ًة عليه .فيحتمل أن يكون الشك من أبي
العالء الذي هو الراوي للكتاب عن ابن أبي شيبة ،ويحتمل أن يكون الشك من ابن أبي شيبة .وف
«المصنَّف» قال« :أبو بكر» ،وهنا قال« :أبو العالء» .وإذا كان -وهذا انقدح إلى ذهني اآلن -إذا كان أبو
العالء ليس من رواة «المصنَّف» فهذا يقوي أن الشك من أبي بكر وليس من أبي العالء ،وأن يكون الذي
قال:
يمَ ،ع ْن َع ْل َق َمةََ ،ع ْن َع ْب ِد اهللَِ ،ق َالَ :ق َال ِ (َ )79حدَّ َثنَا ُم َح َّمدُ ْب ُن َسابِ ٍق ،نا إِ ْس َرائِ ُيلَ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
شَ ،ع ْن إِ ْب َراه َ
ش ،و ََل بِا ْلب ِذ ِ
يء». َ
ِ
انَ ،و ََل بِا ْل َفاح ِ َ ول اهللِ ﷺَ « :ل ْي َس ا ْل ُم ْؤ ِم ُن بِال َّط َّع ِ
انَ ،و ََل بِال َّل َّع ِ َر ُس ُ
61 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
61
الشرح :
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن عبد اهلل بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قالَ « :ل ْي َس ا ْل ُم ْؤ ِم ُن
ش ،و ََل بِا ْلب ِذ ِ ِ انَ ،و ََل بِال َّل َّع ِ
بِال َّط َّع ِ
يء» ،والحديث رواه اإلمام أحمد ف «المسند» ،والرتمذي َ انَ ،و ََل بِا ْل َفاح ِ َ
وقولهَ « :ل ْي َس ا ْل ُم ْؤ ِم ُن» ،المراد بالمؤمن هنا أي :المؤمن الذي آمن اإليمان الكامل الواجب،
ش ،و ََل بِا ْلب ِذ ِ ِ انَ ،و ََل بِال َّل َّع ِ
ليس«بِال َّط َّع ِ
يء» ،أي :هذه الخصال ليست منه ،ول هي من صفاته، َ انَ ،و ََل بِا ْل َفاح ِ َ
بل هو بعيد عنها؛ ألن هذه الخصال تتناىف مع اإليمان الواجب .وعرفنا أن النفي يكون ف هذا المقام عند
ترك واجب أو فعل محرم ،وهبذا ُيع َلم أن هذه الخصال المذكورة هنا -اللعن والطعن والفحش والبذاء -
كلها خصال تناف كمال اإليمان الواجب ،فمن اتصف هبا أو بشيء منها أنقصت إيمانه الواجب وتعرض
والطعان مِ َن ال َّط ِ
عن ،والمراد به العيب؛ الطعان :ال َعياب الذي يشتغل بعيب الناس ،والكالم فيهم ،وذمهم،
والولوغ ف أعراضهم ،والتهكم هبم والسخرية ،فهذا يقال له طعان ،يعني :يطعن ف الناس ،وهي صيغة
مبالغة .ومِث ُلها اللعان وهو الذي يلعن الناس ،واللعن هو الدعاء على الناس بالشر ،والدعاء عليهم بالبعد
من رحمة اهلل ،فليس المؤمن بالطعان ول اللعان ،يعني :ل يشتغل بالطعن ول يشتغل باللعن؛ ألن اإليمان
رحمة ،والنبي -عليه الصالة والسالم -نبي الرحمة ،فمقتضى هذه الرحمة أل يكون الراحم طعا ًنا لعا ًنا،
ِ
اللعن الدعا ُء بالخير .فهذا ما تقتضيه رحمة اإليمان واتصاف النصح ،ويقوم مقام
ُ ِ
الطعن بل يقوم مقام
ُش َف َعا َء َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة» ،والشهادة هي ذكر الناس بالخير ،والشفاعة دعاء لهم بالخير .فمن كان ف الحياة الدنيا
هل مِ ْث ُل هذا مؤهل أن يكون يوم القيامة شهيدً ا للناس وشفي ًعا لهم عند اهلل؟! ما سلموا منه ف الدنيا؛ ففي
هال أن يكون شهيدً ا أو شفي ًعا للناس يوم القيامة .أما الذي يرحم الناس،
على اآلخرين ،فمثل هذا ليس مؤ ً
وينصح الناس ،ويرتفق هبم ،ويدعو لهم ،ويرغب ف صالحهم وهدايتهم ويتلطف ويحسن ،من كان هبذه
مؤهال أن يكون شهيدً ا لهم وأن يكون شفي ًعا لهم عند اهلل -سبحانه وتعالى -بخالف الطعان
ً الصفة كان
اللعان .الطعان اللعان لم يسلموا منه ف الدنيا ،فكيف يكون شهيدً ا لهم أو شفي ًعا عند اهلل -سبحانه وتعالى-
يوم القيامة وهم لم يسلموا منه ومن أذاه وشره ف الدنيا؟ فالمؤمن ليس بالطعان ول اللعان .وعند المؤمن
بدل الطعن النصح ،وبدل اللعن الدعاء بالخير ،وهذا ما يقتضيه اإليمان ورحمة الدين.
وكالمه .فليس بالفاحش ول البذيء ،أي :ل يفعل الفحش من األعمال ول يتكلم ف البذيء من األقوال.
وهذا فيه أن المؤمن قام به صالح لسانه وصالح بدنه ،فبدنه ل فحش فيه ولسانه ل بذاءة فيه .قالَ « :ل ْي َس
ش ،و ََل بِا ْلب ِذ ِ ِ ا ْل ُم ْؤ ِم ُن بِال َّط َّع ِ
انَ ،و ََل بِال َّل َّع ِ
يء». َ انَ ،و ََل بِا ْل َفاح ِ َ
قال:
خ َيا َن َة َوا ْلك َِذ َب». َعن َعب ِد اهللَِ ،ق َال« :ا ْلم ْؤ ِمن ي ْطبع ع َلى ا ْل ِ
خ ََل ِل ُك ِّل َها إِ ََّل ا ْل ِ
ُ ُ ُ َُ َ ْ ْ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث موقو ًفا على عبد اهلل ،وجاء -كما سيأيت عند المصنف -ف
الخيانة والكذب ،وشدة تأثيرهما على اإليمان ،وأهنما مجانبان لإليمان ،مثل ما جاء عن أبي بكر ﭬ أنه
ب لإليمان» ،بمعنى أن الكذب ف جانب واإليمان ف جانب آخر .والخيانة مجانبة ِ
قال« :الكذب مجان ٌ
63 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
63 خيا َن َة وا ْل َك ِذب»« ،ي ْطبع َع َلى ا ْل ِ
خ َال ِل كُل َها» ،أي :يمكن ِ ِ ِ
ُ َُ َ لإليمان .فـ«ا ْل ُم ْؤم ُن ُي ْط َب ُع َع َلى ا ْلخ َال ِل كُل َها إِ َّل ا ْل َ َ
خ َيا َن َة َوا ْل َك ِذ َب» ،فقد يبتلى هبا شي ًئا فشي ًئا بالتطبع حتى تؤثر ف إيمانه،
أن يطبع على الخالل كلها «إِ َّل ا ْل ِ
فالحديث فيه بيان خطورة الخيانة والكذب ،وهما ليسا من خصال اإليمان ،بل هما مجانبان لإليمان وهما
اؤْ ت ُِم َن َخ َ
ان» ،فالخيانة والكذب من صفات النفاق ،وهما مجانبان لإليمان.
قال:
الشرح:
قال:
الشرح:
ول اهللِ ﷺ :ي ْطوى ا ْلم ْؤ ِمن ع َلى ك ُِّل َشي ٍء إِ ََّل ا ْل ِ
خ َيا َن َة ثم أورد هذا الحديث عن أبي أمامة ﭬ قالَ « :ق َال َر ُس ُ
ْ ُ ُ َ ُ َ
َوا ْلك َِذ َب» ،يطوى من ال َطي وهو ضد النَ ْشر ،ومعنى « ُي ْط َوى» أي :ينطوي قلبه ويتصف بخصال كثيرة إل
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 64
الخيانة والكذب ،فالخيانة والكذب مجانبان للمؤمن ،ومجانبان لإليمانُ « ،ي ْط َوى ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َع َلى ك ُِّل َش ْي ٍء
خ َيا َن َة َوا ْلك َِذ َب» .واإلسناد ضعيف لجهالة من حدث األعمش به.
إِ ََّل ا ْل ِ
قال:
الشرح:
ُون
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث أبي موسى األشعري ﭬ عن النبي ﷺ أنه قالَ « :يك ُ
ان فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّلي ِل ا ْلم ْظ ِل ِم» ،ولم يقل «كقطع الليل المقمر» ،فتوجد ٍ
ليال مقمرة وتوجد ٍ
ليال فِي ِ
آخرِ الز ََّم ِ
ْ ُ
مظلمة التي هي ف هناية الشهر ،والمقمرة هي التي ف وسط الشهر .فالليالي المظلمة إذا مشى فيها اإلنسان
أيضا عن اإلنارة -اإلنارة الحديثة التى ف الطرقات اآلن -إذا مشى فيها ل يهتدي إلى طريقه ول
بعيدً ا ً
تتبين له جادته؛ ألنه ف مكان مظلم .ووصف الفتن بأهنا «ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم» أي :أهنا فتن عمياء ،يمشي
فيها اإلنسان مثل الشخص الذي يمشي ف الليلة المظلمة ويريد الطريق فال يهتدي له ،يريد الجادة فال
يهتدي لها ،وربما يمشي يظن أنه ف الطريق فيقع ف حفره ول يشعر؛ ألهنا ليلة مظلمة ،لكن لو كانت ليلة
مقمرة قمراء ،يرى الطريق ويسلم من العثار ،ويرى الحفر ويسلم من الصطدام باألشجار ونحو ذلك.
لكن إذا كانت الليلة مظلم ًة ما يهتدي اإلنسان فيها إلى طريقه ،وقد يعثر ،وقد يسقط ،وقد يهوي ف حفرة،
إلى آخره .فوصفت الفتن هبذه الصفة« :ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم»؛ ألهنا فتن عمياء يعمى فيها اإلنسان ،وإذا لم
يتأنى ف هذه الفتن ويتئد ويرتوى ويسأل ويتحرىَ ،يه َل ْك مع الهالكين .ولهذا الوصية -وصية السلف
َو َرائِ ُك ْم َب َال ًء ُم َبر ًحا »...كما قال علي ﭬَ « .ل َت ُكونُوا ُع ُج ًال» ،يعني :إياكم والعجلة ،فإذا تأنى اإلنسان ف
الفتن ،ولم يتعجل ،وأخذ يتحرى ،ويسأل ويرجو اهلل أن يسلمه ،وأن يعيذه من الفتن ما ظهر منها وما بطن،
65 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
َي ْس َل ْم .وأما إذا استشرف للفتنة ،وظهر لها وبرز لها ودخل فيها ،هلك؛ ألهنا فتنة عمياء «ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل
65
ا ْل ُم ْظ ِل ِم» .وهذا التشبيه بليغ جدً ا ف توضيح خفاء الفتن والتباسها وشيوعها ،قال« :فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل
وأيضا قوله« :فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل» -ما قال «كقطعة من ليل مظلم» -إشارة إلى كثرة الفتن
ً ا ْل ُم ْظ ِل ِم».
ذلك من األعمال؛ ألهنا -بإذن اهلل -مبادرته إليها ومسارعته لها وعنايته هبا تكون -بإذن اهلل -واق ًيا له،
قال:
انَ ،ع ْن َي ْح َيى ْب ِن َأبِي كَثِ ٍيرَ ،ع ْن ِه َال ِل ْب ِن َأبِي َم ْي ُمو َنةََ ،ع ْن
(َ )84حدَّ َثنَا ا ْب ُن ُع َل َّيةََ ،ع ِن ا ْل َح َّجاجِ ْب ِن َأبِي ُع ْث َم َ
ار َي ٌة َت ْر َعى َغن ًَما لِي قِ َب َل ُأ ُح ٍد َوا ْل ُج َّوانِ َّي ِةَ ،ف َأ ْط َل ْعت َُها
َت لِي َج ِ
الس َل ِميَ ،ق َال :كَان ْ َع َط ٍ
اءَ ،ع ْن ُم َع ِ
او َي َة ْب ِن ا ْل َح َك ِم ُّ
ون َلكِني َص َك ْكت َُها
ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ ِ ِ ِ ٍ ِ
ب بِ َشاة م ْن َغنَم َها َق َالَ :و َأنَا َر ُج ٌل م ْن َبني آ َد َم َ
آس ُ ِ
ات َي ْو ٍم َوإِ َذا ذئ ٌ
ْب َقدْ َذ َه َ َذ َ
الشرح:
َت لِي
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث من أحاديث اإليمان أن معاوية بن الحكم ﭬ قال« :كَان ْ
ار َي ٌة َت ْر َعى َغن ًَما لِي قِ َب َل ُأ ُح ٍد َوا ْل ُج َّوانِ َّي ِة» ،وأحد والجوانية عن المدينة من جهة الشمال ،فكانت من تلك
َج ِ
الجهة ،من قِ َبل أحد والجوانية ،أي :من جهة أحد والجوانية .قالَ « :ف َأ ْط َل ْعت َُها َذ َ
ات َي ْو ٍم» -أي :تابعها ذات
ضرارا هبا.
ً كال أو إ
وإذا غفل الراعي عن الغنم عدا عليها الذئب ،عدا عليها الذئب أ ً
ِ ِ ِ ٍ ِ ِ
ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ
ون» ،ومعنى آسف أي: ب بِ َشاة م ْن َغنَم َها َق َالَ :و َأنَا َر ُج ٌل م ْن َبني آ َد َم َ
آس ُ قالَ « :وإِ َذا ذئ ٌ
ْب َقدْ َذ َه َ
أغضب ،ومنه قول اهلل -عز وجل :ﭿﮨ ﮩﭾ [الزخرف ،]55 :أي :أغضبونا ،وف هذا إثبات الغضب صف ًة
ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ
ون» ،أي :أغضب كما يغضبون .والغضب الذي يضاف إلى اهلل -ومثاله اآلية آس ُ
هلل .قالَ « :
وصف خاص باهلل يليق بجالله -سبحانه وتعالى -ل يشبه ول يماثل وصف
ٌ التي أشرت إليها -
قالَ « :لكِني َص َك ْكت َُها َص َّك ًة» ،يعني :لما رأى األمر وهاله وآسفه -أي أغضبه ،قالَ « :ص َك ْكت َُها َص َّك ًة»،
والصكة هي الضربة ببسطة اليد ،يعني :ضربتها براحة يدي أو بيدي مبسوطة ،يقولَ « :ص َك ْكت َُها َص َّك ًة»،
أيضا نستفيد منه فائدة :أن اإلنسان وقت غضبه ينبغي عليه أن يتوقف عن الكالم وعن الفعل .إذا
وهذا ً
غضب من أهله ،إذا غضب من أولده ،إذا غضب من شخص يتبايع ويتعامل معه ،فعليه وقت الغضب أن
والفعل وقت الغضب قد يندم عليه اإلنسان ندمًا شديدً ا ،ويأسف على ذلك أس ًفا شديدً ا .ولهذا جاء ف
أن يتعامل مع اآلخرين هبدوء ،بينما إذا تعامل مع اآلخرين بغضب كم من حالت أزهقت فيها أرواح؟
بجمع يده
وكم من حالت تضررت فيها أعضاء بفقء عين أو كسر أسنان! أحد األزواج ف حال غضبه ُ -
-ضرب فم زوجته وكسر بذلك أسناهنا! ثم لما سكن الغضب أخذ يسرتضيها ويذهب هبا إلى طبيب
ً
أموال ليعالج األسنان .طيب لماذا هذا؟ فاألصل ف اإلنسان عند الغضب أل يتكلم؛ األسنان ،ويدفع له
أمامه وندم ،ول يفيده الندم .ولهذا ينبغي على اإلنسان وقت الغضب أن يضبط نفسه ف هذين األمرين:
لسانه ل يخرج منه أي كلمة وقت الغضب ،وحركة يده أو بدنه :ل يحرك أي شيء -يملك نفسه ،وهي
ليست مدة طويلة ،هي ف الغالب دقيقة أو دقيقتان...فورة الدم والغضب هي دقيقة ..دقيقتان ...ثالث،
فعال –
يعني ف هذه الحدود .فيمسك نفسه ويضبط أعصابه ف مثل هذه الحالة ،ثم بعد ذلك يجد أنه ً -
الدقيقتين أو الثالث أو األربع يجد -فعالً -أنه شديد وأنه يحسن التعامل ،وتجده يبتسم لآلخر ويتلطف
معه ،و«يا أخي الكريم هذا خطأ» ،ويبدأ يأيت بكالم جميل ،وكالم فيه معالجة نافعة ومجدية لألمر الذي
وقع فيه الخالف .بينما إذا تعامل وقت الغضب -ف الغالب -حصل هالك ودمار وأضرار وجنايات
ون َلكِني َص َك ْكت َُها َص َّك ًة» ،وندم -رضي اهلل عنه وأرضاه -على ذلك ،قالَ « :ف َأ َت ْي ُت
ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ
آس ُ
قالَ « :
ول اهللِ ﷺ َف َع َّظ َم َذل ِ َك َع َل َّي» ،أي :ب َّين -عليه الصالة والسالم -أن هذا األمر عظيم وخطير .قال:
إِ َلى رس ِ
َ ُ
ول اهللِ َأ َل ُأ ْعتِ ُق َها؟» أي :وأجعل عتقها كفارة لما وقع مني معها؟ « َأ َل
« َف َع َّظ َم َذل ِ َك َع َلي َف ُق ْل ُتَ :يا َر ُس َ
َّ
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 68
ُأ ْعتِ ُق َها؟» فقال -عليه الصالة والسالم« :ائْتِنِي بِ َهاَ ،ف َق َال َل َها» -يعني :أتى ليمتحنها ف إيماهنا – فأتى هبا،
فقالَ « :أ ْي َن اَّللَ؟» ،والسؤال الثاين « َم ْن َأنَا؟» سؤالن لإلمتحان من أجل العتقَ « :أ ْي َن اَّللَ؟» و « َم ْن َأنَا؟».
ول اهللِ» ﷺ .قوله « َأ ْي َن اَّللَ؟» ،أي :الذي نقصده ،نعبده ،نلجأ إليه ،نخضع له ،نصرف له العبادة ،نذل
َر ُس ُ
بين يديه ،أين اهلل؟ « َقا َل ْت :فِي السم ِ
اء» ،فهذا فيه إقرارها بعلو اهلل ،وعبوديتها له -سبحانه وتعالى -أي: َّ َ
خضع له وي َذلَ « .قا َل ْت :فِي السم ِ
اءَ .ق َالَ :م ْن َأنَا؟ اهلل الذي نلتجئ إليه؛ ألن اهلل هو المألوه المعبود الذي ُي َ
َّ َ ُ
ول اهللِ» ،ومقتضى اإلقرار بأنه رسول اهلل طاعته فيما أمر ،وتصديقه فيما أخرب ،واإلنتهاء َقا َل ْتَ :أن َ
ْت َر ُس ُ
عما هنى عنه وزجر .فكان ف هذين السؤالين جماع الدين كله؛ ألن الدين راجع إليهما .الدين إخالص
للمعبود ومتابعة للرسول :ل إله إل اهلل ،محمد رسول اهلل ﷺ ،هذا هو الدين .فاكتفى -عليه الصالة
فلما أجابت هبذا الجواب المسدد -قالت :اهلل ف السماء ،وقالت :أنت رسول اهلل ﷺ َ « -ق َالَ :ف َأ ْعتِ ْق َها
............... ...............
األدلة التي تدل على علو اهلل ف القرآن والسنة بالمئات ،ومع ذلك تجد أقوا ًما ضلوا ف هذا الباب؛ فذهبت
فئة إلى القول بأن اهلل ف كل مكان -تعالى اهلل عما يقولون ،وتنزه وتقدس سبحانه وتعالى عما يصفون،
وطائفة أخرى قالت :اهلل ل فوق ول تحت ول داخل العالم ول خارجه...إلى آخر هذا الكالم العاطل
يثبت علو اهلل على خلقه ليس أمامه إل أن يقع ف عقيدتين ضالتين ،من ينفي علو اهلل -سبحانه تعالى-
الذي ثبت بمئات اآليات ف القرآن واألحاديث ف السنة ليس أمامه إل إحدى عقيدتين ضالتين :إما أن
المنحرفة يكتبون فيها -من جملة عقائدهم « :-ل ُيس َأل عنه بأين» أي :اهلل ،هذا من جملة العتقاد ،وتجد
أولدهم وأبناءهم يحفظون من العقيدة« :ل يسأل عنه بأين»! ثم إذا وصل إلى مرحلة أخرى لحقة ف
عمره وقرأ هذا الحديث -وهو ف «صحيح مسلم» َ « -أ ْي َن اَّللَ؟» فيصطدم مع ما درسوه ف عقائدهم أن
اهلل «ل يسأل عنه بأين» ،ثم يفاجأ ف «صحيح مسلم» النبي ﷺ نفسه يقول « َأ ْي َن اَّللَ؟» هذا يصادم ما قرأه
وما درسه ،فماذا يكون؟ يتمحل أشياخه -ف الغالب -برد الحديث مع ثبوته عن النبي -عليه الصالة
والسالم ،-يتمحل رد الحديث إما بادعاء أنه تأويل ،أو الخوض ف الكالم بإسناده بغير فهم ول بصيرة،
أو بتمحل لوي النصوص عن معانيها وصرفها عن مرادها .وهذه مصيبة وبلية كربى ف هذا الباب يبتلى هبا
كثير من الناس بسبب األشياخ الذين يلقنون ويدرسون الصغار العقائد غير المستمدة من كتاب اهلل وسنة
وأيضا يكتبون ف كتب العقائد -مع هذه الكلمة «ل يسأل عنه بأين» -يقولون
نبيه -عليه الصالة والسالمً .
أيضا« :ول يشار إليه بإصبع»! ثم إذا حفظ الصغير وقرأ فيما بعد ف «صحيح مسلم» حديث جابر ف حجة
ً
الوداع والجموع الغفيرة ،اآلآلف أمام النبي -عليه الصالة والسالم َ « -قا ُلوا :ن َْش َهدُ َأن ََّك َقدْ َب َّل ْغ َت َو َأ َّد ْي َت
كتبها أشياخه .ومن نعمة اهلل على الشاب إذا تنسك أن يتنسك على صاحب سنة؛ ألهنا مصيبة إذا تنسك
على كتب الكالم وكتب األراء وكتب المنطق وكتب العقل .إذا كرب الشاب تصطدم هذه مع النصوص،
ويكون بين أمرين :إما أن يطرح تلك العقائد التي درسها ويقبل على النصوص ويأخذ العقيدة منها فيكون
بذلك نجاته ،وإما أن يصر على تلك العقائد التي نشأ عليها ويرى أهنا هي الحق ويبدأ يتعامل مع النصوص
معاملة من أسوأ ما يكون ،إما بالتكذيب بالنص أو برده أو بتحريفه أو بتأويله .وبعضهم يتجرأ على هذا
الحديث بالذات -حديث «أين اَّلل؟» ،حديث الجارية -بكلمات -واهلل -ل يجرأ اإلنسان أن يقولها ف
حق كلمة من عالم أو كلمة من أي إنسان؛ كلمات ل أجرؤ أن أصفها لكم من فحشها وسوئها
وبذائتها...يطلقوهنا على هذا الحديث العظيم الثابت عن الرسول الكريم -عليه الصالة والسالم -ل
لشيء إل ألنه صادم عقيدة نشؤوا عليها ورضعوها من الصغر .ومن نعمة اهلل على الشاب إذا تنسك أن
معظما للنصوص ،مدر ًكا لحرمتها ،متلق ًيا عنها ،متلق ًيا لها بالقبول،
ً يتنسك على صاحب سنة ،حتى ينشأ
قال:
اسَ ،و َع ِنيد ْب ِن ُج َب ْي ٍرَ ،ع ِن ا ْب ِن َع َّب ٍ الَ ،عن س ِع ِ (َ )85حدَّ َثنَا َعلِي ْب ُن ِه َشامٍَ ،ع ِن ا ْب ِن َأبِي َل ْي َلىَ ،ع ِن ا ْل ِمن َْه ِ
ْ َ ُّ
ا ْل َح َك ِمَ ،ي ْر َف ُع ُهَ :أ َّن َر ُج ًالَ ،أ َتى النَّبِ َّي ﷺ َف َق َال :إِ َّن َع َلى ُأمي َر َق َب ًة ُم ْؤمِنَةًَ ،و ِعن ِْدي َر َق َب ٌة َس ْو َدا ُء َأ ْع َج ِم َّي ٌةَ ،ق َال:
ول اَّللِ؟» َقا َل ْتَ :ن َع ْمَ .ق َالَ « :ف َأ ْعتِ ْق َها». ين َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللَُ ،و َأنِّي َر ُس ُ ِ ِ
«ائْت بِ َها»َ .ق َالَ « :أت َْش َهد َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن ابن عباس وعن الحكم يرفعهَ « :أ َّن َر ُج ًالَ ،أ َتى النَّبِ َّي ﷺ
ول اَّللِ؟»
َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللَُ ،و َأنِّي َر ُس ُ
71 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
71
وإسناد هذا الحديث ضعيف كما نبه على ذلك العالمة األلباين -رحمه اهلل تعالى .ابن أبي ليلى -وهو
محمد بن عبد الرحمن -صدوق سيء الحفظ جدً ا ،فاإلسناد ل يثبت .أما األول فهو صحيح ثابت ،وقد
قال:
الشرح:
ثم أرود المصنف -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث أبي هريرة ﭬ ،أن النبي ﷺ قالَ « :م َث ُل
ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َم َث ُل الز َّْر ِع» .وف بعض روايات الحديث – وستأيت « -ك ََم َث ِل ا ْلخَ َام ِة ِم َن الز َّْر ِع» ،وخامة الزرع
يح ت ُِمي ُل ُهَ ،و ََل َيز َُال ا ْل ُم ْؤ ِم ُن ُي ِصي ُب ُه َب ََل ٌء» ،فمثل ِ
المراد هبا الزرع الرطبَ « .م َث ُل ا ْل ُم ْؤم ِن َم َث ُل الز َّْرعََِ ،ل َتز َُال ِّ
الر ُ
وإذا جاءت الرياح يميل ،وإذا توقفت اعتدل ،وهكذا حاله مع الرياح .وهذا الحديث بيان لمثل المؤمن ف
إصابته بالبالء ،وأن المؤمن يصاب بالبالء بين وقت وآخر ،لكن هذا البالء ل يضر المؤمن .المؤمن ٍ
باق
على اعتداله وعلى ثباته وعلى استقامته ٍ -
باق على ذلك ،والبالء إذا جاءه يكون َم َث ُله مع البالء َم َث َل خامة
الزرع تميلها الرياح ،ومجرد أن تتوقف الرياح يرجع إلى استقامته كما كان ،وكأنه لم يصبه شيء ،وكأنه لم
يضره شيء .فالمؤمن البالء ل يضره ،بل هو كفارة له ،ورفعة لدرجاته؛ والمصائب كفارات ورفعة
ب َو ََل َس َقمٍَ ،و ََل َحز ٍَن َحتَّى ا ْل َه ُّم َي ُه ُّم ُه ،إِ ََّل َك َّف َر اَّللُ َعنْ ُه ِم ْن يب ا ْل ُم ْؤ ِم َن ِم ْن َو َص ٍ
بَ ،و ََل ن ََص ٍ ِ
للمؤمنَ « ،ما ُيص ُ
َخ َط َايا ُه» ،فالمصائب كفارات المؤمن .فهذا المثل يبين حال المؤمن مع المصائبَ « ،و ََل َيز َُال ا ْل ُم ْؤ ِم ُن
ُي ِصي ُب ُه َب ََل ٌء» لكن هذا البالء رفعة له وتكفير لخطاياه .ل تزال الريح تميله ،ول يزال المؤمن يصيبه بالء.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 72
« َو َم َث ُل ا ْلكَافِرِ َم َث ُل َش َج َر ِة ْالُ ْر ِز» .وشجرة األرز قيل هي الصنوبر ،وقيل شجرة تشبهها ،وهي شجرة ممتدة
بالرز؛
امتدا ًدا عال ًيا إلى السماء ،ومستقيمة ف امتدادها ،وليس فيها نبات .وليس المراد باألرز ما يعرف ُّ
وإنما الرز هو خامات زرع ،ينطبق عليها المثل الذي يتعلق بالمؤمن؛ ألن المؤمن مثل خامة الزرع ،أي:
النبت أو الزروع الرطبة القائمة التي هذا شأهنا مع الرياح .لكن شجرة األرز هذه ممتدة -ويقال أهنا
الصنوبر أو تشبهها -وممتدة وعالية ،و« ََل ت َْه َت ُّز َحتَّى ت ُْست َْح َصدَ » ،يعني :تأتيها الرياح فتخلخلها ثم تقتلعها
من أصلها فتسقط ،وف اللفظ اآلخر للحديث« :ك ََم َث ِل ْالَ ْرز َِة ا ْل ُم ْج ِذ َب ِة َع َلى َأ ْص ِل َهاََ ،ل ُي ِفيئ َُها َش ْي ٌء َحتَّى
ْجعا ُف َها مر ًة و ِ
احدَ ًة» .فقوله هنا ف بيان مثل الكافر ف المصائب أن الكافر ُي َم َّتع بصحته وعافيته َ َّ َ ُون ان ِ َ
َيك َ
ونشاطه إلى أن يأتيه الموت ويقتلعه على كفره ،ويلقى اهلل -سبحانه وتعالى -بكفره وجرائمه وجرائره،
حتى يكون من ُجثى جهنم ومن حطب النار .بينما المصائب والفتن التي تأيت المؤمن بين وقت وآخر هي
قال:
الشرح:
ثم ذكر المصنف -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،وهو متفق عليه ،أخرجه البخاري ومسلم ف
صحيحيهما .قالَ « :م َث ُل ا ْل ُم ْؤ ِم ِن ك ََم َث ِل ا ْلخَ َام ِة» ،والمراد بالخامة أي :خامة الزرع ،وهو النبات الرطب أو
الزروع الرطبة .فمثل المؤمن كمثل خامة الزرع ،والمثل هنا -كما سبق -يتعلق بحال المؤمن مع
«ت َْص َر ُع َها َم َّر ًة» أي :تخفضها وتميلهاَ « ،و َت ْع ِد ُل َها ُأ ْخ َرى» أي :ترفعها .فتجد المؤمن مع البالء مثله مثل خامة
73
قليال ،وإذا توقفت الرياح اعتدل ورجع إلى اعتدالهَ « .حتَّى ت َِه َ
يج» أي: الزرع ،إذا جاءت الرياح مال الزرع ً
حتى تيبس .فهذا حال المؤمن مستمر إلى أن يتوفاه اهلل -سبحانه تعالى -وتكون هذه كفارة له.
« َو َم َث ُل ا ْلكَافِرِ ك ََم َث ِل ْالَ ْر َز ِة ا ْل ُم ْج ِذ َب ِة» ،أي :الثابتة المنتصبة القائمة « َع َلى َأ ْص ِل َهاََ ،ل ُي ِفيئ َُها َش ْي ٌء» ،يعني:
ْجعا ُف َها مر ًة و ِ
احدَ ًة» ،يعني :حتى تأتيها رياح عاتية فتقتلعها من أصلها .وهذا َ َّ َ ُون ان ِ َ
صلبة مستقيمة « َحتَّى َيك َ
بيان لحال الكافر بأنه يبقى ممتع حتى يموت ويلقى اهلل -سبحانه وتعالى -بذنوبه وجرائمه ،بينما المؤمن
ل يزال يبتلى ول يزال البالء بالمؤمن حتى يلقى اهلل -سبحانه وتعالى -وليس عليه خطيئة .فالمصائب
كفارات ورفعة درجات عند اهلل -سبحانه وتعالى .ولهذا ينبغي للمبتلى أن يحتسب ذلك عند اهلل ،راج ًيا
قال:
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث أبي هريرة ﭬ موقو ًفا عليه ،قالَ « :م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ِن
يم َها َم َّر ًة ُأ ْخ َرى» .ومر معنا بيان هذا المثل ،وأنه يتعلق ِ ِ يف ك ََم َث ِل ا ْل َخا َم ِة مِ َن َّ
الض ِع ِ
الز ْرعُِ ،تمي ُل َها الر ُ
يح َو ُتق ُ َّ
بحال المؤمن مع البتالءات التي ل يزال ُيب َتلى هبا بين وقت وآخر فتكون له كفارة ورفعةَ « .ق َالُ :ق ْل ُتَ :يا
ِ الشع َث ِ
اء َفا ْلم ْؤمِن ا ْل َق ِوي؟ َق َال :م َث ُل الن َّْخ َل ِة ُت ْؤتِي ُأ ُك َلها ك َُّل ِح ٍ ِ ِ
ين في ظل َها َذل َكَ ،و َل ُت َقل ُب َها الر ُ
يح». َ َ ُّ ُ ُ َأ َبا َّ ْ
وتمثيل المؤمن بالنخلة بابه آخر ،يعني تمثيل المؤمن بخامة الزرع بابه يتعلق بالبتالءات ف هذا الحديث،
وتمثيل المؤمن بالنخلة -هذا بابه آخر -وهو مثل يوضح حقيقة اإليمان كما ف اآلية الكريمة :ﭿ ﯲ ﯳ
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 74
– عليه الصالة والسالم – قالِ « :ه َي النَّخْ َل ُة» ،فالنخلة جعلها اهلل -سبحانه وتعالى ً -
مثال للمؤمن؛
فالمؤمن ُي َش َّب ُه بخامة الزرع باعتبار ،ويشبه بالنخلة باعتبار ،ويشبه بالنحلة باعتبار -كما سيأيت معنا ف
الحديث اآليت -فلك ٍل من ذلك اعتبار :فتشبيهه بخامة الزرع باعتبار البتالءات ،وتشبيهه بالنخلة باعتبار
أصال
ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭾ [إبراهيم ، ]٢5 – ٢4 :فهذا مثل لبيان اإليمان وأن له ً
وثمرا.
وفر ًعا ً
قال:
يهَ ،ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َع ْم ٍروَ ،ق َالَ « :م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن ( )89حدَّ َثنَا ُغنْدَ رَ ،عن ُشعبةََ ،عن يع َلىَ ،عن َع َط ٍ
اءَ ،عن َأبِ ِ
ْ ْ ْ َْ ْ َْ ٌ َ
َم َث ُل الن َّْح َل ِةَ ،ت ْأك ُُل َطي ًبا َو َت َض ُع َطي ًبا».
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص موقو ًفا ،وبين الشيخ
األلباين - $كما ف «سلسلة األحاديث الصحيحة» -أن الحديث ثبت عن النبي ﷺ مرفو ًعا.
قالَ « :م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل الن َّْح َل ِة» -بالحاء المهملة ،ووقع ف بعض طبعات «كتاب اإليمان» لبن أبي شيبة
ِ
بالحاء غير ا ْل ُم ْع َج َمة َل يجوز الم َحدثِي َن»َ « :و َه َذا
بالخاء المعجمة« :النخلة» ،وجاء ف كتاب «تصحيفات ُ
يرها»؛ فإذا قيلَ « :م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل النَّ ْخ َل ِةَ ،ت ْأك ُُل َطي ًبا َو َت َض ُع َطي ًبا» -هذا تصحيف ،والصوابَ « :م َث ُل
َغ َ
ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل الن َّْح َل ِة» .والنحلة معروفة ،ومن صفتها أهنا « َت ْأك ُُل َطي ًبا» ،يعني :تتتبع الزروع أو الزهور
وأيضا « َت َض ُع َطي ًبا» ،تضع العسل؛ فهي « َت ْأك ُُل َطي ًبا َو َت َض ُع َطي ًبا».
واألشجار الطيبة وتأخذ منها حاجتهاً ،
وع َظم فائدهتا وهذا مثل للمؤمن ،والمماثلة بين المؤمن وبين النحلة من حيث :فطانة النحلة ،وقلة أذاهاِ ،
ونفعها ،وجهات أخرى عديدة فيها وجه مماثلة بين المؤمن وبين النحلة .قالَ « :م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل الن َّْح َل ِة»،
وذكر ف الحديث نفسه وجهين للشبه ،قالَ « :ت ْأك ُُل َطي ًبا» ً
وأيضا « َت َض ُع َطي ًبا» .وهذا فيه أن المؤمن من
وأيضا يرتتب
دخل إلى جوفه الحرامً . إيمانه أل يغذي نفسه بالحرام ،ول يبني جسمه على الحرام ،ول ي ِ
ُ
75 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
75 على ذلك صالح األعمال وزكاء ِ
الفعال وطيب التعامالت ،فهو ل يأكل إل طي ًبا ،ول يكون منه إل طيب؛
يب هو وجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة ،قال :ﭿﯲ ﯳ ﯴ ﯵ
فالطيب هو وجه الشبه ،مثل ما كان الط ُ
ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﭾ [إبراهيم .]٢4 :فالمؤمن طيب والنخلة طيبة ،والمؤمن طيب والنحلة طيبة :ل
تأكل إل طي ًبا ول تضع إل طي ًبا ،فهذا حال المؤمن.
وأشير ف الختام إلى أن الحديث السابقَ « :م َث ُل ا ْل ُم ْؤ ِم ِن ك ََم َث ِل ا ْلخَ َام ِة ِم َن الز َّْر ِع» ،أفرده ابن رجب -رحمه
اهلل تعالى -برسالة نافعة مطبوعة بعنوان« :غاية النفع شرح حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع» ،وأتى ف
هذه الرسالة بفوائد عظيمة ف بيان هذا الحديث وتوضيح مضمونه.
وبمجموع ما مر معنا فهذه ثالث أمثال ف الحديث للمؤمن :مثل المؤمن مثل خامة الزرع وهذا يتعلق
أصال وفر ًعا
بالبتالءات التي قد يصاب هبا المؤمن ،ومثل المؤمن مثل النخلة من حيث اإليمان وأن له ً
وأيضا ل تكون منه إل وثمارا ،ومثل المؤمن مثل النحلة ،فال يأكل إل طيبا ول ي ِ
دخل على نفسه إل طي ًباً ، ُ ً ً
المعامالت الطيبة والتصرفات الالئقة المناسبة التي تليق بإيمانه وديانته.
ونسأل اهلل الكريم رب العرش العظيم أن يزيننا أجمعين بزينة اإليمان ،وأن يجعلنا هداة مهتدين ،وأن
يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ،وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ،وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها
معادنا ،وأن يجعل الحياة زيادة لنا ف كل خير ،والموت راحة لنا من كل شر .اللهم اغفر لنا أجمعين،
ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات ،والمؤمنين والمؤمنات ،األحياء منهم واألموات ،وآخر
دعوانا أن الحمد اهلل رب العالمين ،وصلى اهلل وسلم وبارك وأنعم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد وآله
وصحبه أجمعين.
شرح كتاب اإلميان
البن أبي شيبة رمحه اهلل
لفضيلة الشيخ
عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظه اهلل تعاىل
الدرس التاسع
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول المام الحافظ أبو بكر ،عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى ،يف كتابه «اليمان»:
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد،
فهذا حديث من أحاديث اإليمان ،ساقه اإلمام ابن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى -يف كتابه «اإليمان» ،حديث
أبي موسى األشعري ﭬ أن رسول اهلل ﷺ قال« :ا ْل ُم ْؤ ِم ُن لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن كَا ْل ُب ْن َي ِ
ان َي ُشد َب ْع ُض ُه َب ْع ًضا» .وهو
حديث متفق على صحته ،خرجه اإلمامان البخاري ومسلم يف صحيحهما ،وفيهما ش ّبك بين أصابعه ،قال:
«ا ْل ُم ْؤ ِم ُن لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن كَا ْل ُبنْ َي ِ
ان َي ُشد َب ْع ُض ُه َب ْع ًضا» وشبك بين أصابعه -صلوات اهلل وسالمه عليه .وهذا فيه بيان
أثر اإليمان يف تحقيق الرابطة التي ال رابطة مثلها إطال ًقا ،فكل رابطة مآلها إلى االنفصام واالنقطاع مهما
قويت ومهما كانت أسباهبا إال رابطة اإليمان ،فإهنا رابطة وثيقة ال تنفصم ،باقية مع أهلها يف الدنيا واآلخرة،
وقد قال اهلل -سبحانه وتعالى :ﭿﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﭾ [الزخرف ،]٦٧ :وقال -جل وعال:
ﭿﮨ ﮩ ﮪﭾ [البقرة ]١٦٦ :أي :أسباب المودة التي كانت بينهم ،إال أخوة الدين ورابطة اإليمان؛ فإهنا
أعظم رابطة على اإلطالق ،وهي رابطة باقية بين أهلها ،مستمرة معهم يف الدنيا واآلخرة .وهذه الرابطة
وثيقة وقوية ومتماسكة ،وكلما قوي اإليمان قوي تماسك هذه الرابطة ،وإذا ضعف اإليمان ضعفت
الرابطة اإليمانية بضعف اإليمان .ويف هذا الحديث م ّثل -عليه الصالة والسالم -لقوة هذه الرابطة وقوة
3 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
3
تماسكها بالبنيان ،ومن المعلوم أن البنيان يتكون من أسس وجدر وسقف وأمور عديدة ،وال يتكون البنيان
الصالة والسالم -بين أصابعه مؤكدً ا هذا المعنى ،مقر ًرا هذه الحقيقة -صلوات اهلل وسالمه عليه .وإذا
كان األمر كذلك ،فإن آالم المؤمنين واحدة ،وآمالهم واحدة ،وهمومهم مشرتكة ،ولهذا قال -عليه الصالة
وإذا ضعفت فيهم هذه المعاين فإن هذا من عالمات ضعف اإليمان ،وإذا انتشرت بين المسلمين صفات
تناقِض هذا األصل العظيم فإن هذا من عالمات ضعف اإليمان ووهاء الدينً .
مثال ،إذا فشى الحسد ،أو
فشت النميمة ،أو البغي ،أو غير ذلك من الخصال الذميمة -إذا فشت بين الناس -هذا كله من أمارات
بعضا -
ضعف اإليمان ونقص الدين؛ ألن اإليمان جعل الرابطة بين المؤمنين كالجسد الواحد يشد بعضه ً
بعضا ،وكالجسد الواحد يألم كله بألم بعضه ،ويفرح كله بفرح بعضه -فهذا
مثلهم كالبنيان يشد بعضه ً
شأن أمة اإليمان؛ فإذا ضعفت هذه المعاين فيهم فال شك وال ريب أن هذا من ضعف إيماهنم ،وإذا قويت
هذه المعاين فهي من قوة اإليمان .وعليه فإن هذه الخصال تقوى وتضعف يف أمة اإليمان بحسب حظهم
ونقصا ،فكلما قوي إيماهنم قويت صلتهم ،وكلما ضعف إيماهنم ضعفت
ً من اإليمان قوة وضع ًفا وزيادة
صلتهم.
قال:
ارَ ،عن َعم ِرو ب ِن شرحبِ َيلَ ،ق َالَ :ق َال رسول اهللِ ِ
َ َ ْ شَ ،ع ْن َأبِي َعم ٍ ْ ْ ْ
انَ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
يعَ ،ع ْن س ْف َي َ
(َ )91حد َثنَا َوك ٌ
اش ِه».
ﷺ« :إِ َّن عمارا م ِلئ إِيمانًا إِ َلى م َش ِ
ُ َ َّ ً ُ َ َ
الشرح:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 4
َع ْم ِرو ْب ِن ش َر ْحبِ َيلَ ،ق َالَ :ق َال َرسول اهللِ ﷺ» ،وهو مرسل ،ووصله الحاكم من حديث ابن مسعود -رضي
اهلل عنه وأرضاه .والحديث ثبت عن النبي -عليه الصالة والسالم ،وله طرق يصح هبا عن النبي ﷺ.
اش ِه» .المشاش هو أطراف وروؤس األصابع وأطراف البدن ،فيقول -
قال« :إِ َّن عمارا م ِلئ إِيمانًا إِ َلى م َش ِ
ُ َ َّ ً ُ َ َ
اش ِه» ،أي :حتى أطرافه ،ملئ إيما ًنا إلى أطرافه ،وامتأل
عليه الصالة والسالم« :إِ َّن عمارا م ِليء إِيمانًا إِ َلى م َش ِ
ُ َ َ َّ ً َ
إيما ًنا -رضي اهلل عنه وأرضاه .وهذا من أوضح الدالئل وأبينها أن اإليمان يقوى ويضعف ،وأن أهله ليسوا
فيه سواء؛ فعمار ﭬ امتأل إيما ًنا بشهادة النبي -عليه الصالة والسالم ،ومن الناس من ليس فيه من
اإليمان إال مثقال ذرة كما مر معنا يف الحديث« :يخرج من النار من قال ال إله إال اهلل ويف قلبه مثقال ذرة من
اليمان» .فمن الناس من ليس فيه من اإليمان إال مثقال ذرة ،ومنهم من ملِ َئ إيما ًنا كما هو الشأن يف عمار
ﭬ بشهادة النبي الكريم -عليه الصالة والسالم .وهذا من الدالئل الواضحات على أن اإليمان يزيد
وينقص ،وأن أهله فيه متفاضلون ،وأهنم ليسوا فيه على درجة واحدة .والحديث فيه فضيلة عمار بن ياسر
ﭬ ومكانته من الدين ،فشهد له النبي -عليه الصالة والسالم -هبذه الشهادة العظيمة المباركة أنه « ُم ِل َئ
قال:
اش ِه».
إِ َلى م َش ِ
ُ
الشرح:
ثم أورد المصنف $الحديث من رواية علي بن أبي طالب -رضي اهلل عنه وأرضاه .واإلسناد فيه هانئ
بن هانئ ،مستور ،لكن الحديث حسن بما قبله .وعلي ﭬ لما دخل عمار قالَ « :م ْر َح ًبا بِالطي ِ
ب ا ْلم َطي ِ
ب» .
5 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
5
َ
أحاديث كثيرة عن رسول ﷺ ،وهي تؤنس الداخل ،ومعناها :حللت يف مرح ًبا كلمة ترحيب ،وتأيت يف
وكثيرا ما
ً بمقدَ مك؛ فهي كلمة ترحيب ومؤانسة للداخل،
مكان رحب وبين إخوة يأنسون بك ويفرحون َ
يتلقى النبي -عليه الصالة والسالم -الوفود ومن يدخل عليه هبذه الكلمة بعد السالم« :مرح ًبا» ،فهي
ب»« .الطي ِ
ب» أي :يف أخالقه كلمة ترحيب .فرحب علي ﭬ بعمار بن ياسر ﭬ ثم قال« :بِالطي ِ
ب ا ْلم َطي ِ
ّ
ب» الذي ط ّيبه رب العالمين باإليمان وطاعة اهلل -سبحانه وتعالى .والطِ ْيب إنما وصفاته ِ
وخالله« ،ا ْلم َطي ِ
يكون باإليمان وطاعة اهلل -عز وجل ،ولهذا يقال ألهل الجنة« :أهل الطِيب» ،وأهل اإليمان يقال لهم يوم
القيامة ﭿﯦ ﯧ ﯨﭾ [الزمر ،]٧٣ :فأهل الطيب هم أهل اإليمان .واختار علي ﭬ هذا الوصف
ب ا ْلم َطي ِ
ب» ألن النبي -عليه الصالة والسالم -شهد له بأنه امتأل إيما ًنا إلى وهذا التلقيب لعمار« :الطي ِ
عمار ﭬ باإليمان ،وال يكون طِيب إال باإليمان باهلل -عز وجل -وطاعته -سبحانه
ٌ مشاشه؛ فطاب
وتعالى .فبنا ًء على ذلك قال علي ﭬَ « :م ْر َح ًبا بِالطي ِ
ب ا ْلم َطي ِ
ب»؛ ألن النبي -عليه الصالة والسالم-
شهد له باإليمان.
ب» ،أي :ألن النبي ﷺ قال فيه« :إِ َّن َع َّم ًارا يستدل -رضي اهلل عنه وأرضاه -لقولهَ « :م ْر َح ًبا بِالطي ِ
ب ا ْلم َطي ِ
اش ِه».
م ِلئ إِيمانًا إِ َلى م َش ِ
ُ ُ َ َ
قال:
الشرح:
هذا أثر عظيم جدً ا عن الحسن البصري - $وهو من علماء التابعين -يف بيان حقيقة اإليمان ،وهو أثر
تناقله أهل العلم يف كتب االعتقاد واستحسنوه وتلقوه بالقبول .وهو أثر له مدلوله العظيم يف بيان حقيقة
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 6
اإليمان ،وأن اإليمان ليس مجرد دعوى تدعى أو أمنية ترتجى ،بل اإليمان له حقيقة ،فإن قامت هذه
الحقيقة -حقيقة اإليمان -يف الشخص كان مؤمنًا ،وال يكون مؤمنًا بمجرد التمني أو التحلي .والتمني هو
قول يقوله اإلنسان بلسانه ،ودعوى يدعيها بلسانه ،متمنيا على اهلل -سبحانه وتعالى .والتحلي هو أن ي ْظ ِه َر
من أعمال اإليمان وحلية اإليمان ما ال يكون مبطنًا له متحق ًقا باإليمان به ،فيكون حظه من اإليمان حلية
ظاهرة من غير أن يكون له حقيقة يف القلب ،فيكون مجرد تحلي الظاهر بأعمال اإليمان وأوصاف اإليمان
ان َل ْي َس بِالت َحلي َو َال بِالت َمني» ،إِ َذ ْن ما هو اإليمان؟ قال: ِ
دون أن يقوم يف قلبه حقيقة اإليمان« .إِن ْاإل َ
يم َ
ما وقر يف القلب وصدقه العمل .وقد قال -عليه الصالة والسالمَ « :أ َال َوإِ َّن فِي ا ْل َج َس ِد ُم ْض َغةً ،إِ َذا َص َل َح ْ
ت
ِ
َص َل َح ا ْل َج َسدُ كُل ُهَ ،وإِ َذا َف َسدَ ْت َف َسدَ ا ْل َج َسدُ كُل ُهَ ،أ َال َوه َي ا ْل َق ْل ُ
ب» ،فإذا وقر اإليمان يف القلب فإن الجوارح
تصلح تب ًعا له ،ولهذا قال العلماء« :كل مؤمن مسلم»؛ ألنه متى وقر اإليمان يف القلب أسلمت الجوارح هلل
وانقادت .قالوا« :كل مؤمن مسلم ،وليس كل مسلم مؤمنًا»؛ ألن درجة اإليمان أعلى وأرفع من درجة
اإلسالم؛ فمتى وقر اإليمان يف القلب وتمكن منه فالجوارح تنقاد مصدقة لما قام يف القلب من إيمان .ولهذا
فإن أعمال الجوارح تسمى تصدي ًقا -كما قال الحسنَ « :و َصد َقه ا ْل َع َمل» -فعمل الجوارح يسمى تصدي ًقا،
إما تصدي ًقا لإليمان أو تصدي ًقا لغيره ،مثل ما قال -عليه الصالة والسالم« :إِ َّن اهللَ َكت َ
َب َع َلى ا ْب ِن آ َد َم َح َّظ ُه
المنْطِ ُقَ ،وال َّن ْف ُس ت ََمنَّى َوت َْشت َِهي ،»...ثم قال:
ان َ ِم َن ال ِّزنَاَ ،أ ْد َر َك َذلِ َ
ك الَ َم َحا َلةََ ،ف ِزنَا ال َع ْي ِن ال َّن َظ ُرَ ،و ِزنَا ال ِّل َس ِ
ووقر فيه اإليمان صدّ قته الجوارح منقادة هلل -سبحانه وتعالى .ولهذا ال يتصور -كما قال أهل العلم -
فعال وح ًقا وصد ًقا ويرتَك العمل -هذا ال يتصور وقوعه! ألنه ال
وقو ًعا أن يكون اإليمان وقر يف القلب ً
إيمان ح ًقا وصد ًقا إال بإسالم – بعمل .فإذا وقر اإليمان يف القلب ح ًقا وصد ًقا فالجوارح ال بد أن تعمل
7 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
ِ 7
ان َل ْي َس
يم َ وتنقاد مطيعة هلل -سبحانه وتعالى؛ فال إيمان إال بعمل وطاعة وانقياد هلل -عز وجل .قال« :إِن ْ
اإل َ
يمان َما َو َق َر فِي ا ْل َق ْل ِ
ب َو َصد َقه ا ْل َع َمل». ِ
بِالت َحلي َو َال بِالت َمني ،إِن َما ْاإل َ
ضعيف ،لكن
ٌ الح َبطِي:
واإلسناد الذي ساقه المصنف -رحمه اهلل تعالى -هنا فيه زكريا ،وهو ابن عدي َ
يحسن أو يبلغ درجة الحسن .وقد قال شيخ اإلسالم ابن تيمية « :$وهذا مشهور عن الحسن يروى عنه
قال:
الشرح:
ثم أورد هذا األثر عن ابن عباس ﭭ ،وقد تقدم معنا هذا األثر من طريق أخرى فيما مضى بإسناد آخر،
يده من العبيد ،كان يدعوهم واحدً ا واحدً اَ « :م ْن َأ َرا َد مِنْكم ا ْل َبا َء َة َزو ْجنَاه» ،ثم لما رغبهم يف الزواج وأبدى
اإليم ِ
انَ ،فإِ ْن ِ ِ ٍ ِ ِ
ﭬ استعداده لتزويجهم ومعاونتهم يف الزواج قالَ « :ال َي ْزني منْك ْم َزان إِال ن ََز َع اهلل منْه ن َ
ور ْ َ
َشا َء َردهَ ،وإِ ْن َشا َء َأ ْن َي ْمنَعه َمنَ َعه» .وهذا فيه -كما سبق -بيان ذلك خطورة هذه الفاحشة على إيمان
الشخص ،وأهنا تذهب عن اإلنسان نور اإليمان وهباءه ،وال يكون مستح ًقا وصف اإليمان باإلطالق إال
مع التقييد بالفسق أو الفجور أو نحو ذلك ،واهلل يقول :ﭿﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋﭾ [الحجرات ،]١١ :فيكون يف
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 8
فعله لهذه الفاحشة مؤمنًا فاس ًقا :مؤمنًا ناقص اإليمان ،ال يستحق وصف اإليمان باإلطالق الرتكابه هذه
الكبيرة -كبيرة الزنا .وابن عباس ﭭ جمع لغلمانه بين أمرين :ترغيب يف الخير ،وتحذير من الشر.
القارئ :يف «المصنف» يقول األخ إنه (ابن مهدي)...ليس (ابن مسهر).
الشارح :أخربنا ابن مهدي ،عن سفيان ،...ممكن تراجع هذه ،يعني يف «كتاب اإليمان» الذي بين أيدينا:
«أخربنا ابن مس ِهر» ،وهناك فروقات – كما مر معنا -هناك فروقات بين «المصنف» وما هنا ،والخطأ يف
الغالب هنا يف هذه نسخة «اإليمان»؛ غال ًبا الخطأ فيها فهي كثيرة التصحيف .وبالمقابلة بين النسختين مع
قال:
اج ُم ْؤ ِمنًا».
ُي َسمو َن ا ْل َح َّج َ
الشرح:
بالظلم وسفك الدماء ،وأمور من هذا القبيل عرف هبا .واشتدت كلمة عدد من السلف يف شأنه ،وتجريم
أعماله ،ووصف شنائعه ،وللسلف -رحمهم اهلل -نقوالت وكلمات عديدة يف هذا المعنى.
والمصنف هنا نقل أشياء تتعلق بموضوع اإليمان مما يروى عن السلف يف كالمهم عن الحجاج ،فنقل عن
اج م ْؤمِنًا» ،وهذه التسمية طاوس بن كيسان $أنه قالَ « :ع َج ًبا ِ ِ
إل ْخ َوانِنَا مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل ِعر ِ
اق ي َس ُّمو َن ا ْل َحج َ َ
باإلطالق عرفنا ما فيها ساب ًقا يف حق كل شخص ،فكيف بشخص عرف بالظلم وسفك الدماء والعدوان
ونحو ذلك؟ فكان $يتعجب ممن يل ّقبه بذلك ويسميه مؤمنًا مع أن هذا اللقب العظيم ال يطلق على أي
9 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
9
مشتهرا بالظلم وسفك الدماء ونحو ذلك؟ ولهذا تعجب -رحمه
ً أحد لما فيه من التزكية ،فكيف بمن كان
قال:
الشرح:
ٌ
وفرق بين اللعن بالتعميم واللعن ا ْل َحجاج َق َال :ﭿﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﭾ» ،وهذا يسمى اللعن بالتعميم.
بالتعيين :فرق بين إطالق اللعن على الشخص المعين ،وبين إطالق اللعن بالتعميم يف األوصاف ،مثل أن
يقال« :لعن اهلل شارب الخمر» ،أو يقال« :لعن اهلل الرابي ،والمرتشي ،والنامصة» ،وغير ذلك مما جاء يف
السنة اللعن فيه بالتعميم .وأما اللعن بالتعيين ،فهو أن يطلق اللعن على الشخص المعين .والنبي -عليه
الصالة والسالم -صح عنه اللعن بالتعميم يف أحاديث كثيرة جدً ا ،وبعض أهل العلم جمع أحاديث اللعن
-يعني الخصال واألعمال التي توجب اللعن -وكل حديث جاء فيه لعن فهذا دليل على أن األمر كبيرة
«لعن اهلل الراشي والمرتشي»« ،لعن يف الخمر عشرة»« ،لعن الرابي والمرابي» ،ونحو ذلك من األحاديث
التي هبذا الباب -هذا كله لعن بالتعميم .وجيء مرة بشخص معين شرب الخمر وجلِد بين يدي النبي –
عليه الصالة والسالم ،ثم أتِ َي به ثانية وقد شرب الخمر ،فقال بعض الصحابة« :اللهم ال َعنْهَ ،ما َأ ْك َث َر َما ي ْؤ َتى
بِ ِه» ،فقال ﷺ« :الَ َت ْل َعنُو ُه »...مع أنه صح عنه اللعن بالتعميم ،ولكن لما أوقِ َع اللعن على معين هناهم عن
ت إِ َّنه ي ِ
حب اهللَ َو َر ُسو َل ُه» ،ولهذا ي َفرق بين اللعن بالتعميم واللعن ِ ِ
ذلك وقال« :الَ َت ْل َعنُو ُهَ ،ف َواهلل َما َعل ْم ُ ُ ُ
بالتعيين .ولهذا بعض السلف يف مثل هذه الحاالت يلعنون بالتعميم ،يقول« :أال لعنة اهلل على الظالمين».
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 10
وإذا كان من قيلت هذه الكلمة بمناسبة ذكره مستحقا لها شملته ،وإن لم يكن مستحقا لها لم تشمله،
بخالف ما لو عينه وقال« :لعنة اهلل على فالن» وسماه .وأهل العلم -كما ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية
رحمه اهلل تعالى -تنازعوا يف لعن الفاسق فقيل إنه جائز – يعني :أن يل َعن بعينه -وقيل ال يجوز .قال شيخ
اإلسالم « :$والمعروف عن أحمد» -أي :ابن حنبل « - $كراهة لعن المعين ،كالحجاج بن يوسف
وأمثاله ،وأن يقول كما قال اهلل تعالى :ﭿﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﭾ» ،مثل ما جاء اآلن عندنا عن إبراهيم
َان إِ َذا ذكِ َر ا ْل َحجاج» -أي :عنده َ « -ق َال :ﭿﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﭾ» ،فهذا لعن بالتعميم.
النخعي « َأنه ك َ
قال:
ا ْل َحج َ
اج».
الشرح:
وجاء عن بعض السلف يف هذا المعنى مثل ما جاء عن أبي وائل ،قيل له :تشهد على الحجاج أنه يف النار؟
فقال« :سبحان اهلل! أحكم على اهلل؟» وقال رجل للثوري :اشهد على الحجاج وأبي مسلم أهنما يف النار.
قال« :ال ،إذا أقرا بالتوحيد» .والذهبي $ذكر نقوالت عديدة تتعلق بالحجاج يف «تاريخ اإلسالم» ،وأما
أسطرا قليلة ،لكن يف «تاريخ اإلسالم» توسع يف ذكر النقول وقال« :وعندي
ً يف «سير أعالم النبالء» ذكر فيه
مجلد يف أخبار الحجاج» -أي :يف مخازيه وأعماله وشنائعه « -فيه عجائب ،لكن ال أعرف صحتها» ،يعني
هناك أشياء تروى وتنقل وتحكى ،لكنها تأيت هكذا مرسلة تحتاج إلى تحقيق وتثبت من صحتها .وابن عمر
وغيره من الصحابة كانوا ي َص ُّلون خلف الحجاج -وفجوره وظلمه عليه ،لكن الحكم عليه بالكفر وأنه
(مؤمن بالطاغوت كافر باهلل) هذا يحتاج إلى أمور حتى يبنَى عليها هذا الحكم .واألثر يف إسناده عن الشعبي
كالم ،وللسلف كلمات يف هذا المعنى مخالفة ومعارضة لما هنا.
11 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
11
قال:
يم َق َالَ « :ك َفى بِ َم ْن َي ُشك فِي َأ ْمرِ ا ْل َح َّجاجِ َل َحا ُه اهللُ». ِ انَ ،ع ْن َمنْص ٍ
ورَ ،ع ْن إِ ْب َراه َ يعَ ،ع ْن س ْف َي َ ِ
(َ )9٨حد َثنَا َوك ٌ
الشرح:
ثم ختم هبذا األثر فيما يتعلق بالحجاج بن يوسف ،قال إبراهيمَ « :ك َفى بِ َم ْن َيش ُّك فِي َأ ْم ِر ا ْل َحجاجِ َل َحاه
اهلل» .إبراهيم هو النخعي ،ومر معنا قري ًبا عنه أثر يف هذا المعنى .قالَ « :ك َفى بِ َم ْن َيش ُّك فِي َأ ْم ِر ا ْل َحجاجِ
َل َحاه اهلل» ،ومعنى لحاه اهلل أي :قبحه اهلل وأهلكه اهلل .وقولهَ « :ك َفى بِ َم ْن َيش ُّك فِي َأ ْم ِر ا ْل َحجاجِ » .قد يكون
القصد يف (أمره) يعني :فجوره وظلمه وعدوانه وسفكه للدماء وغير ذلك ،وهذا أمر مشهور وذائع
ومعروف عنه ،مما يدل على ما كان عليه من ظلم وتجرب وسفك للدماء ،وعدوان وأمور من هذا القبيل
قال:
ف َلنَا الت ْق َوى َف َق َال: اص ٍمَ ،ق َال :ق ْلنَا ل ِ َط ْل ِق ْب ِن َحبِ ٍ
يبِ :ص ْ انَ ،عن َع ِ
ْ (َ )99أ ْخ َب َرنَا َي ْح َيى ْبن آ َد َمَ ،ع ْن س ْف َي َ
«ال َّت ْق َوى َع َمل بِ َطا َع ِة اهلل َِ ،ر َجا َء َر ْح َم ِة اهلل َِ ،ع َلى نُور ِم َن اهللَِ ،وال َّت ْق َوى ت َْر ُك َم ْع ِص َي ِة اهلل َِ ،مخَ ا َف َة اهلل َِ ،ع َلى نُور
الشرح:
ثم أورد اإلمام ابن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن طلق بن حبيب -رحمه اهلل تعالى -وهو
له« :إن الفتنة قامت واشتعلت فكيف نتقيها؟» كيف نتقي الفتنة؟ قال« :اتقوها بالتقوى» ،اتقوا الفتنة بتقوى
اهلل -سبحانه وتعالى .فقالوا له« :أجمل لنا التقوى» ،وهنا يف هذه الرواية قالواِ « :ص ْ
ف َلنَا الت ْق َوى» ،أي:
«اتقوها بالتقوى» ،قالوا« :أجمل لنا التقوى» أو «صف لنا التقوى» -هذا يدل على خير يف هؤالء السائلين؛
ألنه لما ندهبم إلى التقوى طلبوا منه أن ي َعرفها لهم وأن ي َبين حدها وضابطها ليعملوا هبا.
نقوالت عديدة ألهل العلم يف استحسان هذا األثر ،منهم شيخ اإلسالم ابن تيمية $يف بعض كتبه ،ومنهم
الذهبي $يف ترجمته لطلق يف «سير أعالم النبالء» ،ومنهم الحافظ ابن رجب -رحمه اهلل تعالى -يف
كتابه «جامع العلوم والحكم» ،ومنهم ابن القيم $يف رسالة له قيمة جدً ا بعنوان« :الرسالة التبوكية» ،قال
فيها « :$وهذا أحسن ما قيل يف حد التقوى» ،وهو كالم عظيم ومتين للغاية يف بيان التقوى وإيضاح
حقيقتها.
وطلق -رحمه اهلل تعالى َ -ب ّين أن تقوى اهلل -عز وجل -ليست مجرد كلمة يقولها المرء بلسانه؛ ألنه من
السهل على كل لسان ومن اليسير على كل إنسان أن يقول عن نفسه« :إنني من المتقين» ،فتقوى اهلل -عز
وجل -عمل بالطاعة وترك للمعصية؛ ألن حقيقة التقوى واإلتقاء أن تجعل بينك وبين ما تخشاه وقاية
تقيك ،فمن يخشى الربد يلبس الثياب الشتوية ،ومن يخشى من حر الشمس يستعمل المظلة ،وهكذا.
فالذي يخاف ويخشى على نفسه من سخط اهلل وعقابه ومن النار -ﭿﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭾ [التحريم - ]٦ :ال بد
أن يجعل بينه وبين النار وبينه وبين سخط اهلل وقاية تقيه.
أمر اهلل -سبحانه وتعالى -عباده بفعله ،وترك لما هنى اهلل -سبحانه وتعالى -عن فعله .فالتقوى فعل
وترك :فعل للمأمور وترك للمنهي .األمر الثاين :أن تقوى اهلل -سبحانه وتعالى -ال بد أن تكون على
وأيضا يتعلم النواهي وأن يكون عنده فيها بصيرة ونور ليتقيها؛ ألن من ال علم له
فيها نور وبصيرة ليفعلهاً ،
بالمنهي وال علم له بخطورته وال علم له بعقوبته وأضراره عليه يف دنياه وأخراه يقع يف المنهي! ولهذا قيل
قديما« :كيف يتقي من ال يدري ما يتقي؟» إذا كان ال يعرف األمور التي تتقى ويجب أن تج َتنَب ،كيف
ً
يتقيها؟ وفاقد الشيء ال يعطيه .ولهذا فالمسلم مطالب بأن يكون على نور -أي :على علم وعلى بصيرة
-باألوامر والنواهي ،وبالفرائض والمحرمات ،فيتعلم الفرائض ليفعلها ويتعلم المحرمات ليجتنبها .ومن
اللطائف يف هذا الباب أن جماعة جاؤوا لمحمد بن الحسن الشيباين -تلميذ أبي حنيفة رحمهما اهلل تعالى
-وقالوا له« :ألف لنا كتا ًبا يف الزهد» ،فقال لهم -رحمه اهلل تعالى« :ألفت كتا ًبا يف البيوع» ،منب ًها بذلك أن
الزهد ال يكون إال بعلم؛ ألن من ال علم عنده ويبيع ويشرتي ويتعامل كيف يكون ِ
ور ًعا وكيف يكون زاهدً ا
وال علم عنده؟ ولهذا قد يزهد يف مباح ،وقد يفعل المحرم ويظنه مما ال يزهد فيه وال ي َتورع منه ،بسبب أنه
ال علم عنده! ولهذا العلم مطلوب يف البابين :باب األوامر لتفعل ،وباب النواهي لتتقى وتج َتنب.
أيضا إلى الرجاء والخوف ،وأن اإلنسان يفعل الطاعة راج ًيا الثواب واألجر من اهلل -سبحانه
ثم أشار ً
وتعالى ،-ويرتك المعصية خائ ًفا من العقاب الذي أعده اهلل -سبحانه وتعالى -لمن فعل المعصية؛ فيكون
مقبال على الطاعات راج ًيا عليها ثواب اهلل -سبحانه وتعالى ،وتار ًكا للمعاصي خو ًفا من عقاب
المسلم ً
اهلل وسخطه عليه -عز وجل .فإذا كان اإلنسان هبذا الوصف كان من المتقين ،وأما إن لم يكن هبذا الوصف
قال:
الشرح :
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 14
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن عبد اهلل بن عباس ﭭ ،قالَ « :ق َال َرسول اهللِ ﷺَ :ما ُه َو
ان َي ُشدالم ْؤ ِم َن لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن كَا ْل ُبنْ َي ِ ِ ِ
ان َو َج ُار ُه َطاو إِ َلى َجانبِه» .وهذا فيه شاهد لما سبق« :إِ َّن ُ بِ ُم ْؤ ِمن َم ْن َب َ
ات َش ْب َع َ
َب ْع ُض ُه َب ْع ًضاَ ،و َشب َك َأ َصابِ َعه».
وهنا قالَ « :ما ُه َو بِ ُم ْؤ ِمن» ،وعرفنا فيما سبق قاعدة يف هذا الباب قررها أهل العلم ،أال وهي أن نفي اإليمان
مستحبا فال ينفى عنه اإليمان -ال ينفى
َ ال يكون إال يف ترك واجب أو فعل محرم ،أما إذا ترك اإلنسان
اإليمان يف ترك مستحب ،وإنما يكون نفي اإليمان يف ترك واجب من واجبات اإليمان أو يف فعل أمر محرم.
ان َو َج ُار ُه َطاو إِ َلى َجانِبِ ِه»ٍ ،
طاو أي :جائع، قالَ « :ما ُه َو بِ ُم ْؤ ِمن» -أي :اإليمان الواجب َ « -م ْن َب َ
ات َش ْب َع َ
اشتد به الجوع ،ويعلم جاره بذلك وينام شبعان وجاره إلى جنبه ينام طاو ًيا من شدة الجوع؛ فيكون بصنيعه
ف جارك أو أن ح َهذا ترك واجبا من واجبات اإليمان ،ليس قد ترك مستحبا .يكون األمر مستحبا أن ت ْت ِ
ً
ت ْه ِديه -هذا يكون مستحبا .أما إذا كان الجار طاو ًيا جائ ًعا يتلوى ليله من الجوع ،وجاره اآلخر ينام إلى
جنبه شبعان ،فهذا ترك واج ًبا من واجبات إيمانه! إذا كان يعلم أن جاره هبذه الحال يكون ترك واج ًبا من
واجبات اإليمان .ولهذا قال -عليه الصالة والسالمَ « :ما ُه َو بِ ُم ْؤ ِمن» -أي :اإليمان الواجب َ « -م ْن َب َ
ات
ان َو َج ُار ُه َطاو إِ َلى َجانِبِ ِه».
َش ْب َع َ
واإلسناد فيه عبد اهلل بن مساور ،ذكره ابن حبان يف «الثقات» ،وقال الذهبي يف «الميزان» :مجهول ،لكن
األلباين -رحمه اهلل تعالى -قال« :والحديث صحيح بشواهده» ،وأورده يف سلسلته «الصحيحة».
قال:
شَ ،ع ْن َخ ْي َث َمةََ ،ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َع ْم ٍروَ ،ق َالَ « :ي ْأتِي َع َلى النَّا ِ
س (َ )101أ ْخ َب َرنَا ف َض ْيل ْبن ِع َي ٍ
اضَ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
يه ْم ُم ْؤ ِمن».
اج ِد َو َل ْي َس فِ ِ
ون فِي ا ْل َم َس ِ ز ََمان َي ْجت َِم ُع َ
ون َو ُي َصل َ
الشرح:
يه ْم م ْؤمِ ٌن» .قال األلباين -رحمه اهلل تعالى« :إسناده موقوف صحيح على
اج ِد َو َل ْي َس فِ ِ
ون فِي ا ْلمس ِ
َ َ َوي َص ُّل َ
شرط الشيخين .وأخرجه الحاكم ( )442/4من طريق سفيان عن األعمش به ،وصححه كما ذكرنا،
15 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
15
ووافقه الذهبي» .واإلسناد هنا الذي عندنا :فضيل بن عياض ،عن األعمش ،عن خيثمة -وهو ابن عبد
الرحمن بن أبي سربة ،فاإلسناد فيه عنعنة األعمش ،لكن رواه اآلجري يف «الشريعة» ،والفريابي يف «صفات
المنافقين» من طريق شعبة عن األعمش ،وقد قال شعبة« :كفيتكم تدليس ثالث» وذكر منهم األعمش.
أن يكون أهل المساجد مقصرين يف واجبات الدين ،بارتكاب الكبائر والتفريط يف الواجبات فيما دون
الكفر باهلل -سبحانه تعالى .وقد يكون النفي هنا مرا ًدا به كثرة النفاق ،وقد أورده الفريابي يف كتابه «صفات
المنافقين» .فإما أن تكون الكثرة المراد هبا ضعف اإليمان برتك واجبات اإليمان وفعل المحرمات ،أو
يكون ذلك بسبب كثرة النفاق بحيث ي َصلى وت ْش َهد الصالة نفا ًقا ال إيما ًنا باهلل -سبحانه وتعالى -وطاعة
له وطل ًبا لرضاه .والفريابي $أورد هذا األثر يف كتابه يف صفات المنافقين.
قال:
َس ب ِن مال ِ ٍ (َ )102حد َثنَا َي ْح َيى ْبن َي ْع َلى الت ْي ِميَ ،ع ْن َمنْص ٍ
ورَ ،ع ْن َط ْل ِق ْب ِن َحبِ ٍ
كَ ،ق َالَ « :ث ََلث َم ْن يبَ ،ع ْن َأن ِ ْ َ ُّ
ِ ِ ِ ِ يم ِ كُن فِ ِ
يه َو َجدَ َط ْع َم ْ ِ
ب إِ َل ْيه م َّما س َو ُاه َماَ ،و َأ ْن ُيح َّ
ب ُون اهللُ َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ
ان َو َح ََل َو َت ُهَ :أ ْن َيك َ ال َ َّ
فِي اهللَِ ،و َأ ْن ُي ْب ِغ َض فِي اهلل ِ»َ ،و َذك ََر ا ْلم ْش ِر َك.
الشرح:
ث من كن ف ِ ِ
يه َو َجدَ َط ْع َم ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن أنس بن مالك ﭬ ،قالَ « :ث َال ٌ َ ْ
وهذا الحديث جمع فيه -عليه الصالة والسالم -ثالث خصال عظيمة إذا كانت يف الشخص وجد هبا
اإليم ِ
ِ اإل ِِ
ان» أي: يمان» أي :وجو ًدا ال َو ْجدً ا -كما سبق بيان ذلكَ « ،و َجدَ َط ْع َم ْ َ
طعم اإليمان .و« َو َجدَ َط ْع َم ْ َ
وجو ًدا بأن يكون اإليمان له طعم يف الشخص وحالوة يذوقها ويجدها يف نفسه حالو ًة لإليمان وذو ًقا
لطعمه.
ب إِ َل ْي ِه مِما ِس َواه َما» ،بأن يقدم محبة اهلل ومحبة رسوله -عليه الصالة
ون اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َرسوله َأ َح ُّ
َيك َ
والسالم -على كل محبوب .والمحبوبات كثيرة جدً ا التي تحبها النفوس :اإلنسان يحب أهله ،يحب
ولده ،يحب تجارته ،يحب عشيرته -وال حرج يف حبه لهذه األشياء ،لكن يجب عليه أن يحب اهلل وأن
يحب رسوله -عليه الصالة والسالم -محب ًة مقدم ًة على كل محبوب ،وقد قال اهلل تعالى :ﭿﭻ ﭼ ﭽ
ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭾ [التوبة .]24 :ذكر يف هذه اآلية ثمانية محاب جبِل الناس جمي ًعا
على حبها -كل يحب هذه األشياء .فهذه المحاب الثمانية المذكورة يف اآلية الكريمة ال حرج يف حب
ٍ
إنسان جبِل على ذلك ،ولكن الخطورة تكمن يف تقديم هذه المحاب أو شيء منها على اإلنسان لها ،وكل
محبة اهلل -عز وجل -ومحبة رسوله -صلوات اهلل وسالمه عليه.
والحديث -حديث أنس -بدأ فيه النبي ﷺ بأعظم المطالب وأجل المقاصد :محبة اهلل وتقديمها على
كل المحاب ،ومحبة رسوله ﷺ؛ ومحبته ﷺ من محبة اهلل -جل وعال .ثم ذكر بعد ذلك ما ينبني على
هذه المحبة وما يرتتب عليها .ولعلنا نرجئ الكالم على معاين هذا الحديث العظيم إلى لقاء الغد بإذن اهلل
-تبارك وتعالى.
17 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
17
ونسأل اهلل الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا جمي ًعا حبه ،وحب من يحبه ،والعمل الذي يقربنا إلى حبه،
وأن يصلح لنا جمي ًعا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ،وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ،وأن يصلح لنا
آخرتنا التي فيها معادنا ،وأن يجعل الحياة زيادة لنا يف كل خير ،والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم وأصلح ذات بيننا ،وألف بين قلوبنا ،واهدنا سبل السالم ،وأخرجنا من الظلمات إلى النور ،وبارك
لنا يف أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا ،واجعلنا مباركين أينما كنا .اللهم واغفر لنا
ولوال ِدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات .ربنا آتنا يف
الدنيا حسنة ويف اآلخرة حسنة وقنا عذاب النار .وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين ،وصلى اهلل وسلم
وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 18
الدرس العاشر
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول المام الحافظ أبو بكر ،عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى ،يف كتابه «اليمان»:
َس ب ِن مال ِ ٍ (َ )١02حد َثنَا َي ْح َيى ْبن َي ْع َلى الت ْي ِميَ ،ع ْن َمنْص ٍ
ورَ ،ع ْن َط ْل ِق ْب ِن َحبِ ٍ
كَ ،ق َالَ « :ث ََلث َم ْن يبَ ،ع ْن َأن ِ ْ َ ُّ
ِ ِ ِ ِ يم ِ كُن فِ ِ
يه َو َجدَ َط ْع َم ْ ِ
ب إِ َل ْيه م َّما س َو ُاه َماَ ،و َأ ْن ُيح َّ
ب ُون اهللُ َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ
ان َو َح ََل َو َت ُهَ :أ ْن َيك َ ال َ َّ
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد،
فهذا الحديث ،حديث أنس بن مالك -رضي اهلل عنه وأرضاه ،فيه بيان لإليمان ،وبيان لما يجد به العبد
ويذوق حالوة اإليمان وطعمه .واإليمان له طعم وحالوة يجدها المؤمن إذا حقق إيمانه وآتى بما أرشد
إليه النبي ﷺ مما يذاق به حالوة اإليمان ويجد به العبد طعمه .قد قال -عليه الصالة والسالمَ « :ذ َاق َط ْع َم
هذه األمور الثالثة إذا تحققت لدى العبد ذاق طعم اإليمان وحالوته :األول أن يحقق المحبة -محبة اهلل
سبحانه وتعالى -وأن يكملها على الوصف الذي ذكر -عليه الصالة والسالم؛ أال وهو أن يكون اهلل
ورسوله أحب إليه مما سواهما ،بحيث تكون محبة اهلل ومحبة رسوله ﷺ مقدمة على كل المحاب مهما
أمورا ثمانية محبوبة لدى كل الناس ،جبل الناس على حبها -وال شيء يف ذلك
،]24فذكر -جل وعال ً -
وال محذور فيه ،لكن الخطورة عندما تقدم هذه المحاب أو يقدم شيء منها على محبة اهلل -جل وعال -
ومحبة رسوله ﷺ .ويف الحديث اآلخر قال -عليه الصالة والسالم« :الَ ُي ْؤ ِم ُن َأ َحدُ ك ُْمَ ،حتَّى َأك َ
ُون َأ َح َّ
ب
ِ إِ َل ْي ِه ِم ْن َوالِ ِد ِه َو َو َل ِد ِه َوالنَّا ِ
س َأ ْج َمع َ
ين» .ومحبة اهلل -جل وعال -مقدمة على كل المحاب ،ومحبة العبودية
والذل والخضوع واالنكسار هذه خاصة باهلل .ومحبة النبي -عليه الصالة والسالم -هي من محبة اهلل –
تعالى – وتبع لمحبة اهلل؛ فاألصل أن يحب اهلل -جل وعال -وأن يعمر قلبه بحبه ،ثم يتبع ذلك حب من
يحب -جل وعال -فيحب الرسول -عليه الصالة والسالم ،ويحب األنبياء ،ويحب أتباع األنبياء ،ويحب
دين اهلل -عز وجل ،وأعمال اإلسالم وشرائعه ،وهذه المحبة تبع لمحبة اهلل -عز وجل ،وقد كان من دعاء
فيحب هلل ويبغض هلل .واألمر الثالث -نفي المضاد وكراهيته وبغضه – َذ َ
كره -عليه الصالة والسالم –
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 20
ف فِي الن ِ
َّار» ،أي :أن قلبه يصبح بقولهَ « :و َأ ْن َيك َْر َه َأ ْن َي ُعو َد فِي ا ْل ُك ْفرِ َب ْعدَ َأ ْن َأ ْن َق َذ ُه اهللُ ِمنْ ُه ،ك ََما َيك َْر ُه َأ ْن ُي ْق َذ َ
فيه كراهية شديدة للكفر مثل كراهيته أن يلقى يف النار .والكفر َ -من كان مِن أهله ومات عليه -ليس له إال
النار يوم القيامة ،فهو من ج َثى جهنم ومن حطب النار يوم القيامة ،فالكفار ليس لهم إال النار .فهذا الحديث
ً
خصاال ثالثة إذا اجتمعت يف العبد وجد هبا حالوة اإليمان. العظيم َذ َكر فيه -عليه الصالة والسالم -
قال:
الشرح:
ثم أورد هذا األثر ،وهو يتعلق بالصالة ،وقد قال اهلل -سبحانه وتعالى :ﭿﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕﭾ [البقرة،]١4٣ :
أي :صالتكم؛ فالصالة إيمان ،وهي ركن عظيم من أركان الدين ،وال إسالم لمن ال صالة له ،وال دين له.
َف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر» .والصالة عماد الدين وأعظم أركانه بعد الشهادتين ،وهذا األثر بين لنا مكانة الصالة
يف نفوس الصحابة -رضي اهلل عنهم وأرضاهم -ومنزلتها العلية يف قلوهبم.
فيقول ابن عباس لما دخل هو والمسور بن مخرمة على عمر ﭬ حين ط ِع َن ،طعنه أبو لؤلؤة المجوسي
وهو يصلي بالناس -رضي اهلل عنه وأرضاه -لما كرب ودخل يف الصالة طعنه ،ولما نادى بذلك ﭬ وقال:
«قتلني» أو قال« :طعنني» بدأ الناس يجتمعون على الرجل ،وكان معه سكي ٌن فأخذ يطعن هبا كل من كان
كانوا ينادونه فما كان يرد ،فقال بعضهم :اذكروا له الصالة ،فقالوا« :الصالة»! فتن ّبه وهو يف تلك الحال!
قالوا« :الصالة»! فتن ّبه لما نادوه بالصالة .نادوه قبلها ،فقال أحدهم :نادوه بالصالة ،فقالوا« :الصالة»!
فقال كلمته هذه فور إفاقته من غيبوبته -اهلل أكرب! -قال كلمته هذه فور إفاقته من غيبوبته! قالوا:
«الصالة»! ،فأفاق من الغيبوبة وقال« :الص َالة...إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ
اإل ْس َال ِم َأ َض َ
اع الص َال َة» .أفاق من
غيبوبته والدم يثعب من بطنه ،وفور إفاقته من الغيبوبة قالوا« :الصالة»! قال« :الص َالة...إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد
فِي ْ ِ
اإل ْس َال ِم َأ َض َ
اع الص َال َة» .فصلى وجرحه يثعب د ًما! لما أسفر -وطعن يف الفجر -فلما أسفر أفاق،
وإفاقته لما قالوا« :الصالة» ،فقام من اإلغماءة وقال« :الص َالة...إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ
اإل ْس َال ِم َأ َض َ
اع
الص َال َة»؛ فالصالة كانت تمأل قلو َبهم ،وقلوبهم مشغولة هبا ،مثل ما قال -عليه الصالة والسالم -يف
السبعة الذين يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله -نسأل اهلل عز وجل لنا أجمعين من فضله -قال:
اج ِد» ،بمعنى :إذا خرج من الصالة انشغل قلبه بالصالة األخرىَ « ،ق ْل ُب ُه ُم َع َّلق
« َو َر ُجل َق ْل ُب ُه ُم َع َّلق فِي ا ْل َم َس ِ
اج ِد» .فالقلب الذي هبذا المستوى وهبذه الصفة إذا دخل يف غيبوبه وأفاق ليس – ً
أصال -يف قلبه فِي ا ْل َم َس ِ
إال الصالة .يحدثنى أحد األفاضل عن والده أنه دخل يف غيبوبه مدة شهور .يقول :فدخلت مرة المستشفى
ألزوره ،فقال لي« :والدك عنده شبه صحو اليوم ،إذا تريد تسأله عن شيء - »...بعد شهور! – يقول:
ثقيال لكرب سنه ،فأخذت أنادي عنده بصوت« :يا والدي» -أرفع فذهبت ِ
فر ًحا إلى والدي ،وكان سمعه ً
صويت ،يقول :فتنبه ،قالَ « :أذ َن؟» ما قال إال هذه الكلمة! بعد ثالثة شهور أو أربعة شهور يف غيبوبة! يقول:
فلما ناديت وكررت النداء تنبه ،قالَ « :أذ َن؟» يقول :ما قال غير هذه الكلمة! هذه ال تكون أبدً ا إال من قلب
فعال -معلق بالصالة ،ومهتم لهذه الصالة ومعظم لها ،ولها مكانة يف نفسه ،فيقع منه مثل هذا الكالم.
– ً
فهذه الكلمة القوية العظيمة قالها عمر -رضي اهلل عنه وأرضاه -فور إفاقته من غيبوبته؛ طعنه المجوسي
يف صالته وعلى إثر الطعنة دخل يف إغماءة ،ولما أسفر نادوه بالصالة فأفاق وقال هذه الكلمة العظيمة« :إِنه
َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ
اإل ْس َال ِم َأ َض َ
اع الص َال َة» ،ثم قام وصلى وجرحه يثعب د ًما...وجرحه يثعب د ًما! واآلن
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 22
الكسالى المتهاونين بالصالة...أدنى ظرف أو أدنى أمر -أو حتى زكام خفيف أو إعياء يسير جدً ا -تجده
ال يبالى بالصالة وال يهتم ،ويضيعها عند أدنى أمر! ففرق شاسع بين من قلبه ع ِم َر بحب الصالة واالهتمام
هبا وش ِغل هبا ،ومن لم يعظم الصالة التعظيم الالئق هبا ف َت َولد عن ذلك هتاون وتفريط وتكاسل عن هذه
الطاعة العظيمة.
وقوله -رضي اهلل عنه وأرضاه -بمحضر الصحابة وإقرارهم« :إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ
اإل ْس َال ِم َأ َض َ
اع
الص َال َة» ،دليل على أن تارك الصالة كافر ليس بمسلمَ « .ال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ
اإل ْس َال ِم َأ َض َ
اع الص َال َة» ،يعني:
ال نصيب -ال حظ ،أي :ال نصيب َ « -ال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ
اإل ْس َال ِم َأ َض َ
اع الص َال َة» ،أي :ال نصيب له يف
اإلسالم ،مثل ما مر عن ابن مسعود ﭬ أنه قالَ « :م ْن َل ْم ي َصل َف َال ِدي َن َله» ،وقول نبينا -عليه الصالة
الص ََل ِةَ ،ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر» .ولهذا يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ِ
والسالم« :ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ
- $وقد أورد أدلة كثيرة على كفر تارك الصالة من بينها أثر عمر ﭬ هذا -علق عليه ابن تيمية بقوله:
«قول عمر (ال حظ يف اإلسالم لمن ترك الصالة) أصرح شيء يف خروجه عن الملة» ،أي :أن تارك الصالة
َان َأ ْص َح ُ
اب ُم َح َّمد خارج من ملة اإلسالم ،ال حظ له يف اإلسالم .وقد جاء عن عبد اهلل بن شقيق قال« :ك َ
الص ََل ِة» .فتارك الصالة -كما قال أمير المؤمنين عمر بن ﷺ َال ير ْو َن َشيئًا ِم َن اِلَ ْعم ِ
ال ت َْر ُك ُه ُك ْفر َغ ْي َر َّ َ ْ ََ
الخطاب ﭬ -ال حظ له يف اإلسالم وال نصيب.
قال:
بِنَا َن ْز َدا ُد إِ َ
يمانًا».
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن علقمة أنه كان يقول ألصحابه« :ا ْمشوا بِنَا ن َْز َداد إِ َ
يمانًا» .هذا
األثر -وسيأيت له نظائر ساقها المصنف رحمه اهلل تعالى -فيه بيان عناية السلف -رحمهم اهلل تعالى –
23 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
23
باإليمان ،وجدهم واجتهادهم وتعاوهنم على تقوية اإليمان؛ فاإليمان يقوى ويضعف ،ويزيد وينقص،
ولزيادته أسباب ولضعفه أسباب .فكان الواحد من أصحاب النبي -عليه الصالة والسالم -يأخذ بيد
الصالِحِ الج ِل ِ
يس َّ
ٍ
سبحانه وتعالى ،كان ذلك لهم زياد َة إيمان ،ولهذا قال -عليه الصالة والسالمَ « :م َث ُل َ
ازداد إيماهنم جمي ًعا .ولهذا كان متأكدً ا على المسلم أن يحرص على الرفقه ،وكما قيل« :الصاحب
ساحب» ،ومؤثر يف جليسه والبد! فإذا وفق لرفقة صالحة وجلساء صالحين ،أعانوه على طاعة اهلل -
سبحانه وتعالى .فكان من دأب السلف وهديهم -رضي اهلل عنهم وأرضاهم ورحمهم -الجلوس لزيادة
اإليمان بتذاكر أمور اإليمان ،وخصال اإليمان ،والرتغيب والرتهيب ،والوعظ والتذكير ،وغير ذلك مما
ِ ِ
َان َيقول ألَ ْص َحابِه :ا ْمشوا بِنَا ن َْز َداد إِ َ
يمانًا» ،المراد :نجلس ونتفقه ونتعلم ونتذاكر، قالَ « :ع ْن َع ْل َق َمةََ ،أنه ك َ
القارئ -اإلسناد...؟
الشارح -اإلسناد :قال « َحد َثنَا ا ْبن ف َض ْي ٍل» ،قال يف «التقريب» :صدوق ،و...
القارئ – خطأ .مراجعة كتب الجرحِ ...ش َباك الضبي هو الذي يروى عن إبراهيم ويروي عنه الفضيل.
القارئ – نعم.
الشارح – أي.
القارئ – من «المصنف»...
الشارح -أيوه.
بمراجعة كتب التخريج يف «الشريعة» لآلجري ،و«السنة» للخالل ،وبعض المصادر -مما سيأيت التنبيه
عليه .وأكثر من مرة نبهت أن نسخة «كتاب اإليمان» هذه فيها تصحيفات كثيرة ،وتتبين هذه التصحيفات
بمراجعة المصادر.
قال:
الشرح:
أيضا» -يعني :ابن أبي شيبة « -بسند صحيح» .وقول معاذ -
حجر يف «الفتح»« :وصله أحمد وأبو بكر ً
«اجلِسوا بِنَا ن ْؤمِن َسا َع ًة» أي :نذكر اهلل ،والمراد بذكر اهلل -عز وجل -التفقه يف
رضي اهلل عنه وأرضاهْ :
ذكر هلل -عز وجل ،مِ ْثله قول النبي -عليه الصالة والسالم:
الدين وتالوة اآليات ومعرفة المعاين ،فهذا ٌ
فح َلق الذكر المراد هبا الجن ِة؟ َق َالِ « :ح َل ُق ِّ
الذ ْكرِ»ِ ، ِ
الجنَّة َف ْار َت ُعوا» َقالواَ :و َما ِر َياض َ
اض َ«إِ َذا َم َر ْرت ُْم بِرِ َي ِ
مجالس العلم التي ي َبين فيها الحالل والحرام وتوضح األحكام وي َذكر باهلل -سبحانه وتعالى.
قال:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 26
َان َأبو
او َي َة ْب ِن قرةََ ،ق َال :ك َ ونَ ،ع ْن ِع ْم َر َ
ان ا ْل َق ِص ِيرَ ،ع ْن م َع ِ (َ )١0٦أ ْخبرنَا َأبو أسامةََ ،عن مه ِدي ب ِن ميم ٍ
ْ َْ ْ َْ َ َ ََ
ِ ِ
اإليم ِ
ان يمانًا َدائِ ًماَ ،و ِع ْل ًما نَافِ ًعاَ ،و َهدْ ًيا َق ِّي ًما»َ .ق َال م َع ِ
او َيةَ :فن ََرى َأن م َن ْ َ الد ْر َد ِاء َيقول« :ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ْس َأ ُل َ
ك إِ َ
يمانًا َل ْي َس بِدَ ائِ ٍمَ ،ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفعَ ،ومِ َن ا ْل َهدْ ي َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم.
إِ َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الدعاء المأثور عن أبي الدرداء ﭬ ،وقد قال العالمة األلباين« :وهذا
ويبقى إلى أن يتوفاين اهلل -تبارك وتعالى – عليه .واإليمان ال ينفع إال إذا ختِ َم لإلنسان به ،أما لو استمر
على اإليمان ثم تغير يف الختام ومات على غيره ال ينفعه ذلك اإليمان؛ ألن العربة بالخواتيم .فقوله« :اللهم
قالَ « :و ِع ْل ًما نَافِ ًعا» ،وهذا فيه التنبيه إلى أن من العلم ما ليس بنافع ،ومن العلم ما هو ضار ،وقد كان نبينا
-عليه الصالة والسالم -يسأل اهلل العلم النافع كل يوم إذا أصبح ،كما يف حديث أم سلمة ڤ أن النبي
والمراد بالهدي القيم :ما كان عليه النبي -عليه الصالة والسالم.
فهذه دعوة عظيمة ثؤثر عن الصحابي الجليل أبي الدرداء -رضي اهلل عنه وأرضاه« :اللهم إِني َأ ْس َأل َك
يمانًا َدائِ ًماَ ،و ِع ْل ًما نَافِ ًعاَ ،و َهدْ ًيا َقي ًما» .قال معاوية -وهو ابن قرة ،راوي هذا األثر عن أبي الدرداء – قال:
إِ َ
يمانًا َل ْي َس بِدَ ائِ ٍم» أي :يؤمن ثم يرتد ً
مثال ،وينكص على عقبيه -نعوذ اإل ِ
يمان إِ َ
ِ ِ
« َفن ََرى» أو « َفن َرى َأن م َن ْ َ
باهلل عز وجل من الحور بعد الكور -فيتحول إلى الكفر باهلل -سبحانه وتعالى .قالَ « :فن ََرى» أو « َفن َرى َأن
27 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
يمانًا َل ْي َس بِدَ ائِ ٍم» ،والسلف -رحمهم اهلل تعالى -كانوا يخشون ويخافون من السوابق اإل ِ ِ
27 ِ
يمان إِ َ
م َن ْ َ
والخواتيم ،ويف الحديث يقول -عليه الصالة والسالم« :إِ َّن َأ َحدَ ك ُْم َل َي ْع َم ُل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة َحتَّى َما َيك ُ
ُون
َاب» -هذه السوابق َ « -ف َي ْع َم ُل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل الن ِ ِ ِ
َّار َف َيدْ ُخ ُل َها». َب ْينَ ُه َو َب ْين ََها إِ َّال ِذ َراعَ ،ف َي ْسبِ ُق َع َل ْيه ا ْلكت ُ
فمن اإليمان ما ليس بدائم ،ومن العلم ما ليس بنافع .وقولهَ « :ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفع» يحتمل أنه يف ذاته
نافع لكن صاحبه لم ينتفع به ،فيكون المعنى بقولهَ « :ال َينْ َفع» أي :صاحبه ،وإال هو يف نفسه نافع ،لكنه لم
ينفع صاحبه أو لم ينتفع به صاحبه .ويحتمل أن العلم يف نفسه ليس بنافع ،مثل العلوم الضارة التي يتعلمها
قالَ « :ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفعَ ،ومِ َن ا ْل َهدْ ي َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم» ،وهذا أ ً
يضا جانب يحتاج اإلنسان أن يتنبه له،
قيما ولكن يكون يف حقيقة األمر بدعة ليست مقبولة! وكم من
الهدي منه هدي ليس بقيم ،يظنه صاحبه ً
أناس تجده من سنوات طويلة -وقد بلغ السبعين أو الثمانين أو أكثر أو أقل -وهو مالزم لبدعة ال يرتكها
كل يوم ،ويحافظ عليها محافظة تامة ،وإذا سألته عنها أخربك بما يفيد أنه يعتقد أهنا أحسن األعمال وأطيب
ﮢ ﮣ ﭾ [الكهف .]١04 – ١0٣ :فاإلنسان قد يبتلى بعمل ويحافظ عليه ويدأب عليه ويدافع عنه وينافح عنه
وهو بدعة ،والنبي -عليه الصالة والسالم -قالَ « :م ْن َع ِم َل َع َم ًَل َل ْي َس َع َل ْي ِه َأ ْم ُرنَا َف ُه َو َرد» .إ ًذا ،من الهدي
وهنا ينبه معاوية بن قرة -يف تعليقه العظيم هذا على األثر -أن المسلم يحتاج إلى العناية بجانبين :جانب
صالح العلم ،وصالح العمل؛ ألن هناك من كان ز َللهم يف جهة العلمَ ،ف َسدَ ْ
ت علومهم ،مثل العقالنيين
الذين عظموا العقل ،وتكلموا بعلوم كثيرة لكنها ضياع! فلسفات وأراء ومنطقيات وضياع -ضياع عن دين
اهلل -سبحانه وتعالى -بعلوم يظنوهنا يقينيات وهي ضياع! ومن اإلنحراف والضياع ما هو يف جانب ماذا؟
السلوك والعمل ،وإليه اإلشارة بقولهَ « :ومِ َن ا ْل َهدْ ي َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم» ،وهذا يكثر عند أرباب الطرق،
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 28
تجدهم يواظبون على أعمال وعلى عبادات ال أصل لها يف دين اهلل! فيحتاج العبد أن يحذر من هذين
الجانبين :جانب فساد العلم ،وجانب فساد العمل ،كما قال هناَ « :ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفعَ ،ومِ َن ا ْل َهدْ ي
ٍ
معان عظيمة: َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم» .وهذا التوضيح من معاوية بن قرة فيه بيان لما تحتويه هذه الدعوة من
يمانًا َدائِ ًماَ ،و ِع ْل ًما نَافِ ًعاَ ،و َهدْ ًيا َقي ًما».
«اللهم إِني َأ ْس َأل َك إِ َ
قال:
اهلل َو َي ْح ِمدَ انِ ِه» ِ ِ ِ ِ لِلرج ِل مِ ْن إِ ْخ َوانِ ِهِ ْ :
«اجل ْس بِنَا َف ْلن ْؤمن َسا َعةًَ ،ف َي ْجل َسان َف َي ْذك َران َ
الشرح:
اإلنسان ما يدري ماذا يختم له .فها هو أبو الدرداء ﭬ يسأل اهلل -عز وجل -دوام اإليمان« :اللهم إِني
يمانًا َدائِ ًما» ،أي :إيما ًنا يبقى ويستمر معي ويدوم إلى أن يموت .فإذا استثنى العبد يف إيمانه بعدً ا
َأ ْس َأل َك إِ َ
عن تزكية النفس ،وخشية عدم القبول ،وألنه ال يدري ماذا يختم له به ،فهذا اعتبار كان موجو ًدا عند السلف
َان معا ٌذ يقول لِلرج ِل مِن إِ ْخوانِ ِه :اجلِس بِنَا َف ْلن ْؤمِن سا َعةًَ ،فيجلِس ِ ِ ِ
ان َ ْ َ َ ْ ْ ْ َ قالَ « :ع ِن ْاألَ ْس َود ْب ِن ه َال ِلَ ،ق َال :ك َ َ َ
اجلِ ْس بِنَا َف ْلن ْؤمِن َسا َع ًة» يعني :نذكر ِ ِِ ِ
َف َي ْذك َران َ
اهلل َو َي ْحمدَ انه» -هذا نظير األثر المتقدم عن معاذ .قولهْ « :
اهلل .ومعنى ذكر اهلل وحمده :بالعلم والفقه ،واستشعار هذا الدين والنعمة هبذا الدين ،فيتحرك يف القلب
ذكر اهلل وحمد اهلل وحسن الثناء على اهلل -سبحانه وتعالى.
قال:
29 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
29
َان ع َمر رب َما َي ْأخذ بِ َي ِد الرج ِل
(َ )١0٨أ ْخ َب َرنَا َأبو أ َسا َمةََ ،ع ْن م َحم ِد ْب ِن َط ْل َحةََ ،ع ْن ز َب ْي ٍدَ ،ع ْن َذ ٍّرَ ،ف َق َال :ك َ
ِ ِ
َوالر ْج َل ْي ِن م ْن َأ ْص َحابِه َف َيقول« :ق ْم بِنَا ن َْز َدا َد إِ َ
يمانًا».
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن معاوية عن عمر ﭬ أنه كان «رب َما َي ْأخذ بِ َي ِد الرج ِل َوالر ْج َل ْي ِن
ِ ِ
م ْن َأ ْص َحابِه َف َيقول :ق ْم بِنَا ن َْز َدا َد إِ َ
يمانًا» .وهذا كله من من باب العناية والرعاية باإليمان ،واالهتمام البالغ
والتواصي ،وذكر الرتغيب والرتهيب والجنة والنار والعقاب ،ونحو ذلك مما يحرك القلوب ويقوي
واإلسناد عن محمد بن طلحة ،عن زبيد ،عن ِزر -يف النسخة هنا عن ( َذر) ،وهو تصحيف -عن زر ،وهو
ابن حبيش ،وهو ثقة ،وهو يروي عن عمر بن الخطاب ﭬ -كما يف ترجمته -ويروي عنه زبيد بن
الحارث اليامي .والتصويب من «المصنف» ،جاء يف «المصنف» عن زر ،وكذلك يف «الشريعة» لآلجري
و«السنة» للخالل جاء هبذا اللفظ« :عن زر عن عمر» .وأورده ابن رجب $يف «فتح الباري» ونص على
ابن حبيش ،قال« :عن زر بن حبيش» .وبمطالعة ترجمة زر يف «التهذيب» وغيره :يروي عنه زبيد ،وهو
يروي عن عمر بن الخطاب ﭬ .وعلى هذا ،فاألثر متصل ليس فيه انقطاع .والشيخ $قال يف
الهامش« :غير أن ذرا -وهو ابن عبد اهلل المرهبي -لم يدرك عمر» ،لكن الصواب أنه «زر بن حبيش»
وليس «ذر» ،وزر بن حبيش أدرك عمر وروى عنه ،وهو ثقة ،فاإلسناد متصل.
قال:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 30
ار ِق ْب ِن ِش َه ٍ
اب ان ْب ِن َم ْي َس َرةََ ،وا ْلم ِغ َيرة ْبن ِش ْبلٍَ ،ع ْن َط ِ
يع ،نا ْاألَ ْع َمشَ ،ع ْن س َل ْي َم َِ
(َ )١09حد َثنَا َوك ٌ
يم ِةَ ،ف َم ْن َي ْض ِرب بِ َأ ْر َب ٍع َخ ْي ٌرِ ِ انَ ،ق َال« :إِن م َث َل الص َلو ِ
ات ا ْل َخ ْم ِ
س ك ََم َث ِل س َها ِم ا ْل َغن َ َ َ ْاألَ ْح َم ِسيَ ،ع ْن س َل ْي َم َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن سلمان الفارسي ﭬ أنه قال« :إِن م َث َل الص َلو ِ
ات ا ْل َخ ْم ِ
س َ َ
يم ِة» ،ومن المعلوم أن سهام الغنيمة كلما زادت كان ذلك أعظم يف حظ اإلنسان ونصيبه.ِ ِ
ك ََم َث ِل س َها ِم ا ْل َغن َ
يم ِةَ ،ف َم ْن َي ْض ِرب بِ َأ ْر َب ٍع َخ ْي ٌر مِم ْن َي ْض ِرب فِ ْي َها بِ َث َال َث ٍة»،ِ ِ قال« :إِن م َث َل الص َلو ِ
ات ا ْل َخ ْم ِ
س ك ََم َث ِل س َها ِم ا ْل َغن َ َ َ
يها بِ َث َال َث ٍة َخ ْي ٌر مِم ْن َي ْض ِربِ ٍ ِ ِ
« َف َم ْن َي ْض ِرب بِ َأ ْر َب ٍع» – أي سهام َ « -خ ْي ٌر مم ْن َي ْض ِرب ف ْي َها بِ َث َال َثةَ ،و َم ْن َي ْض ِرب ف َ
ويواظب على الصلوات الخمس؛ فالذي يصلي الصلوات الخمس بمثابة من ضرب بخمسة سهام ،وأربع
بأربع ،وهكذا .والحقيقة أن الصالة كلها بصلواهتا الخمس المفروضة التي افرتضها اهلل -سبحانه وتعالى
-كلها يمكن أن ي َضرب لها هذا المثل بأهنا كلها بمثابة السهم الواحد؛ فمن ترك صالة أو ترك ثالث
صلوات كمن ترك الصلوات كلها :ال سهم له يف اإلسالم ،وال حظ له وال نصيب يف اإلسالم!
وهذا األثر الذي جاء عن سلمان -رضي اهلل عنه وأرضاه -له قصة توضح مراده -رضي اهلل عنه وأرضاه،
يضا تزيل ما قد يرد يف الذهن من إشكال بتمثيل الصلوات بالسهام -سهام الغنيمة -وأن من صلى صالة
وأ ً
سهما واحدً ا ،وصالتين سهمين ،وهكذا .فاألثر له قصة ،وهي أن الراوي لألثر دخل
ً واحدة كمن قدم
على سلمان وكان عنده َأ َمة -واألثر وجدته يف «الزهد» ألبي داود السجستاين باإلسناد نفسه ،بلفظ أورد
معه قبل هذا الكالم قصة توضح المعنى ،وخالصة ذلك أنه دخل عليه فوجد عنده أمة -فسأله عنها قال:
31 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
ٍ 31
ات َف َأ َب ْت، « َه ِذ ِه َأ َص ْبت َها مِ َن ا ْل َم ْغن َِم َأ ْم ِ
س» ،ثم قال له سلمانَ « :و َقدْ َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َخ ْم َس َص َل َو
َف َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َأ ْر َب ًعا َف َأ َب ْتَ ،ف َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َث َال ًثا َف َأ َب ْتَ ،ف َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي ثِنْ َت ْي ِن َف َأ َب ْت،
جبت إِ ًذاَ ،فق ْلت :ما ت ْغنِي َعنْها ص َال ٌة و ِ ِ
احدَ ةٌ، َ َ َ َ َوأ ِريد َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َواحدَ ةًَ ،ف ِه َي َت ْأ َبى» ،فقال الراويَ « :ف َع ِ ْ
َت سائِر َها؟» فقال سلمان« :يا ابن َأ ِخي إِن م َث َل َه ِذ ِه الص َلو ِ
ات ا ْل َخ ْم ِ
س »...وذكر األثر ،ثم قال يف َ َ َ ْ َ إِ َذا َت َرك ْ َ َ
احدَ ٍة َر ِغ َب ْت فِ ِ
يهن كل ِهن». تمامه -ما يزيل اإلشكال ويوضح مراده -قال« :وإنها إِ َذا ر ِغب ْت فِي ص َال ٍة و ِ
َ َ َ َ َ
فهذا الكالم جاء من سلمان يف مقام ترغيب هذه المرأة يف الصالة ،وهي امرأة من الغنيمة -من السبي -
وال تعرف الصالة وال تعرف الدين ،فأراد أن يرغبها ويتدرج هبا يف الصالة شي ًئا فشي ًئا حتى تذوق طعم
الصالة وحالوهتا ،فإذا رغبت يف صالة واحدة وذاقت طعمها وعرفت مكانة الصالة حافظت على
الصلوات .فليس مراد سلمان أن صالة واحدة تجزئ أو تكفي ،وأن من كان له سهم واحد من الصالة
كفاه يف ذلك -ليس هذا مراده! ولكن كان مراده يف هذا المقام أن يرغب هذه المرأة التي أخذها -وكانت
غنيمة له من السبي -أن يرغبها ويتدرج هبا لتصلي ،ترغي ًبا لها يف الصالة وبيا ًنا لها بثواب الصالة ،فإذا
صلت صالة واحدة ورغبت فيها ساقها ذلك ودفعها إلى المحافظة على باقي الصلوات.
ٍ
بسياق أتم ،وفيه ما يوضح ٍ
بلفظ أتم أو واألثر -كما ذكرت -موجود يف «الزهد» ألبي داود السجستاين
قال:
ثَ ،ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن مرةََ ،ع ِن ا ْل َب َر ِاءَ ،ق َالَ :ق َال َرسول اهللِ ﷺَ « :أ ْو َث ُق ُع َرى
(َ )١١0أ ْخبرنَا ابن ف َضيلٍَ ،عن َلي ٍ
ْ ْ ْ ََ ْ
ال ْس ََل ِم ا ْل َحب فِي اهللَِ ،وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ».
ِْ
الشرح:
او َي َة ْب ِن س َو ْي ٍد [بن م َقر ٍن]َ ،ع ِن ا ْل َب َر ِاء يف «المصنف» :حد َثنَا ابن ف َضي ٍلَ ،عن َلي ٍ
ثَ ،ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن مر َةَ ،ع ْن م َع ِ ْ ْ ْ ْ َ
َق َالَ :ق َال َرسول اهللِ ﷺ .والشيخ األلباين نبه يف الهامش ،قال« :ورواه أحمد من طريق أخرى عنه ،عن
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 32
عمرو بن مرة ،عن معاوية بن سويد بن مقرن ،عن الرباء» .فمعاوية بن سويد بن مقرن سقط من هذه الطبعة،
في ْك َمل من «المصنف»؛ فهو يف «المصنف» باإلسناد نفسه وليس فيه هذا السقط .ويف اإلسناد ليث ،وهو
ابن أبي سليم ،صدوق اختلط جدً ا ولم يتميز حديثه فت ِرك .فاإلسناد ضعيف ،لكن الحديث حسن
بشواهده.
ال ْس ََل ِم ا ْل َحب فِي اهللَِ ،وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ» ،وهذا فيه بيان مكانة الحب يف اهلل والبغض يف
قالَ « :أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ
اهلل من اإلسالم ،وأنه أوثق عرى اإلسالم .والحب يف اهلل هو أن يحب الشخص ال يحبه إال هلل ،والبغض يف
التفريع الذي يتفرع عن محبة المسلم لربه -سبحانه وتعالى -يتفرع عن ذلك أن يكون حبه وبغضه يف اهلل،
ب إِ َل ْي ِه ِم َّما
ُون اهللُ َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ يم ِ
انَ :أ ْن َيك َ ال َ
وقد مر معنا الحديثَ « :ث ََلث من كُن فِ ِ
يه َو َجدَ بِ ِه َّن َح ََل َو َة ْ ِ َ ْ َّ
قال:
الشرح:
يم ِ
ان ثم أورد هذا األثر عن مجاهد ،وقد صح -كما عرفنا -مرفو ًعا إلى النبي ﷺ أنه قالَ « :أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ
ال َ
ا ْل َحب فِي اهللَِ ،وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ».
قال:
33 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
33
ون ،نا َداود ْبن َأبِي ِهن ٍْدَ ،ع ْن ز َر َار َة ْب ِن َأو َفىَ ،ع ْن َت ِم ٍ
يم الد ِاريَ ،ق َالَ « :أول َما (َ )١١2حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ
يحاسب بِ ِه ا ْلعبد يوم ا ْل ِقيام ِة الص َالة ا ْلم ْكتوبةَ ،فإِ ْن َأ َتمها وإِال قِ َيل :انْظروا َه ْل َله مِن َت َطوعٍ؟ َفأك ِْم َل ِ
ت ْ َ َ َ َ َْ َْ َ َ َ َ َ
ف بِ ِه فِي الن ِ
ار». يضة َو َل ْم َيك ْن َله َت َطو ٌع أ ِخ َذ بِ َط َر َف ْي ِه َفق ِذ َ
يضة [مِ ْن َت َط ُّو ِع ِه]َ ،فإِ ْن َل ْم ت ْك َم ِل ا ْل َف ِر َ
ا ْل َف ِر َ
الشرح:
َان ا ْنت ُِق َص ب بِ ِه ا ْل َع ْبدُ َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َص ََل ُت ُهَ ،فإِ ْن ُو ِجدَ ْت ت ََّام ًة كُتِ َب ْ
ت ت ََّامةًَ ،وإِ ْن ك َ بنحوه ،ولفظه« :إِ َّن َأ َّو َل َما ُي َح َ
اس ُ
يضة ِم ْن َت َطو ِع ِهُ ،ثم سائِر ْاِلَ ْعم ِ
ال ون َل ُه ِم ْن َت َطوع ُيك َِّم ُل َل ُه َما َض َّي َع ِم ْن َفرِ َ ِمن َْها َشيء َق َال :ا ْن ُظ ُروا َه ْل ت ِ
َجدُ َ
َ َّ َ ُ ْ
ب َذلِ َ
ك». ت َْجرِي َع َلى َح َس ِ
فهذا الحديث فيه مكانة الصالة من الدين ،وأهنا أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة .وأول ما يحاسب عليه
من عمله الصالة ،فإذا قبِ َلت نظِر يف سائر عمله ،وإذا ردت الصالة رد عمله؛ ألن َمن ال صالة له ال دين له
-كما مر معنا .من ال صالة له ال دين له! فهذا يبين لنا مكانة الصالة العظيمة من دين اهلل ،وأن هذه الصالة
قال:
الشرح:
ار» لم ِ
تأت يف هذا الطريق. هذه طريق ثانية للحديث ،وفيها أن الزيادة «ي ْؤ َخذ بِ َط َر َف ْي ِه َف َي ْق ِذف بِ ِه فِي الن ِ
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 34
قال:
ول اهللِ ﷺ َل ِق َي َع ْو َ
ف ون ،أنا َأبو َم ْع َش ٍرَ ،ع ْن م َحم ِد ْب ِن َصالِحٍ ْاألَن َْص ِ
اريَ :أن َرس َ (َ )١١4حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ
ف ْب َن َمالِك؟» َق َالَ :أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقاَ .ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ« :إِ َّن ف َأ ْص َب ْح َ
ت َيا َع ْو َ بن مال ِ ٍ
ك َف َق َالَ « :ك ْي َ ْ َ َ
ك؟» َق َالَ :يا َرسول اهللَِ ،أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َياَ ،ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِيَ ،و َأ ْظ َم ْأت
لِك ُِّل َق ْول َح ِقي َق ًةَ ،ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ
يهاَ ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِلش ربِي ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل ا ْلجن ِة يت ََزاور َ ِ ِ
ون ف َ َ َ َ َ َه َواج ِريَ ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ َ
ْت َفا ْل َز ْم». ار َيت ََضا َغ ْو َن فِ َيهاَ .ف َق َال َرسول اهللِ ﷺَ « :ع َر ْف َ
ت» َأ ْو « َل ِقن َ الن ِ
الشرح:
إلى لقاء الغد بإذن اهلل -سبحانه وتعالى .واهلل -تعالى -أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا
35 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
35
الدرس الحادي عشر
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول المام الحافظ أبو بكر ،عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى ،يف كتابه «اليمان»:
ول اهللِ ﷺ َل ِق َي َع ْو َ
ف ون ،أنا َأبو َم ْع َش ٍرَ ،ع ْن م َحم ِد ْب ِن َصالِحٍ ْاألَن َْص ِ
اريَ :أن َرس َ (َ )١١4حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ
ف ْب َن َمالِك؟» َق َالَ :أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقاَ .ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ« :إِ َّن ف َأ ْص َب ْح َ
ت َيا َع ْو َ بن مال ِ ٍ
ك َف َق َالَ « :ك ْي َ ْ َ َ
ك؟» َق َالَ :يا َرسول اهللَِ ،أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َياَ ،ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِيَ ،و َأ ْظ َم ْأت
لِك ُِّل َق ْول َح ِقي َق ًةَ ،ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ
يهاَ ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِلش ربِي ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل ا ْلجن ِة يت ََزاور َ ِ ِ
ون ف َ َ َ َ َ َه َواج ِريَ ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ َ
ْت َفا ْل َز ْم». ار َيت ََضا َغ ْو َن فِ َيهاَ .ف َق َال َرسول اهللِ ﷺَ « :ع َر ْف َ
ت» َأ ْو « َل ِقن َ الن ِ
ت َيا َح ِ
ار َ
ث (َ )١١5حد َثنَا ا ْبن ن َم ْي ٍر ،نا َمالِك ْبن مِ ْغ َو ٍلَ ،ع ْن ز َب ْي ٍدَ ،ق َالَ :ق َال َرسول اهللِ ﷺَ « :ك ْي َ
ف َأ ْص َب ْح َ
ْب َن َمالِك؟» َق َالَ :أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًاَ .ق َال« :إِ َّن لِك ُِّل َحق َح ِقي َق ًة» َق َالَ :أ ْص َب ْحت َقدْ َع َز َف ْت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا،
ابَ ،و َل َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل ش ربي َقدْ أب ِر َز ل ِ ْل ِ َف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِيَ ،و َأ ْظ َم ْأت ن ََه ِ
ح َس ِ ْ اريَ ،و َل َك َأن َما َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ َ
ان فِي َق ْلبِ ِه» َأ ْو
يم َ ون فِي ا ْل َجن ِةَ ،و َل َك َأني َأ ْس َمع ع َوا َء َأ ْه ِل الن ِ
ارَ .ق َالَ :ف َق َال َلهَ « :ع ْبد ن ََّو َر اهللُ ْ ِ
ال َ ا ْل َجن ِة َيت ََز َاور َ
ت َفا ْل َز ْم».
« َع َر ْف َ
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد،
فهذا حديث فيه قصة لهذا الصحابي -عوف بن مالك ﭬ -حول اإليمان .والمصنف -رحمه اهلل تعالى
-ساق هذه القصة من طريقين ،وكالهما لم يثبت ولم يصح به اإلسناد كما سيأيت بيان ذلك.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 36
الصباح ,كما أنه يف المساء يقال« :كيف أمسيت؟» وهو يأيت بعد السالم ،ال ي ْبدَ أ به قبل السالم وإنما يؤتى
به بعد السالم .يقال« :كيف أصبحت؟» يف وقت الصباح ،ويقال« :كيف أمسيت؟» يف وقت المساء.
فقال مجيبا على هذا السؤالَ « :أصبحت م ْؤمِنًا حقا» ،ل ِما ي ِ
ح ُّس به من أثر اإليمان على قلبه ،وذكره لآلخرة، َ َ ْ َ ْ ً
وذكره للموت والجزاء والحساب ،وعدم غفلته عن ذلك؛ فلِما أحس به يف قلبه من إيمان قالَ « :أ ْص َب ْحت
واعتقاد أن أعماله متقبلة -هذا تزكية للنفس .ولهذا جاء عن ابن مسعود -كما مر معنا ساب ًقا -أنه قال
لمن قال« :إين مؤمن» ،قال« :قل إين يف الجنة» ،يعني كما َش ِهدْ َ
ت لنفسك باألولى فاشهد بالثانية .لكن إذا
« َق َالَ :أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقاَ .ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ :إِ َّن لِك ُِّل َق ْول َح ِقي َق ًةَ ،ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ
ك؟» ،يعني :ما حقيقة
هذا القول الذي تقولهَ « :أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقا»؟ ما حقيقة ذلك؟ وهذا فيه التنبيه إلى أن مجرد قول اإلنسان
عن نفسه «إين كذا»« ،أنا من المتقين»« ،أنا من الصالحين» ،ليست بمنجية له عند اهلل -سبحانه وتعالى -
وال بنافعة له عنده إن لم يكن على ذلك حقيق ًة ،ولهذا قال -عليه الصالة والسالمَ « :ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ
ك؟»
37 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
« َق َالَ :يا َرسول اهللَِ ،أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا» ،أي :أنه لم يغرت بالدنيا ومتعها الزائلة وفتنها ومغرياهتا .قال:
37
« َأ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا» ،أي :لم ألتفت إليها ولم تشغلني عن طاعة ربي والقيام بما خلقت له وأ ِ
وجدت
اج ِري»َ « .أ ْس َه ْرت َل ْيلِي» أي :بالصالة والذكر والعبادة مع أخذ
لتحقيقة .قالَ « :ف َأس َهرت َل ْيلِيَ ،و َأ ْظم ْأت َه َو ِ
َ ْ ْ
قسط وحظ من النوم؛ ألن سهر الليل كله يف العبادة خالف هديه -عليه الصالة والسالم ،وقد قال -عليه
الصالة والسالمَ « :لكِنِّي َأ ُصو ُم َو ُأ ْفطِ ُرَ ،و ُأ َص ِّلي َو َأ ْر ُقدُ َ ،و َأ َتز ََّو ُج الن َِّسا َء» ،فقولهَ « :ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِي» إشارة إلى
كثرة العبادة والذكر يف الليلَ « .و َأ ْظم ْأت َه َو ِ
اج ِري» وهذا فيه إشارة إلى الصيام .فجمع يف كالمه هذا بين َ
وأيضا قيام الليلَ « .ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِيَ ،و َأ ْظ َم ْأت
كثرة الصيام بظمأ الهواجر -يعني :يف الصيف الشديد ً -
ش َربِي» وهذا فيه المراقبة ،ويف الحديث قالَ « :أ ْن َت ْع ُبدَ اهللَ ك ََأن َ
َّك ت ََرا ُه» وهذا َه َو ِ
اج ِريَ ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ
ويبكون ويصرخون .ويف حديث حنظلة -وهو ثابت يف «صحيح مسلم» -قالَ « :ل ِق َينِي َأبو َب ْك ٍرَ ،ف َق َال:
ول اهللِ
ان اهللِ ما َتقول؟ َق َال :ق ْلت :نَكون ِعنْدَ رس ِ ف َأن َ
ْت َيا َحنْ َظ َلة؟ َق َال :ق ْلت :نَا َف َق َحنْ َظ َلةَ ،ق َال :س ْب َح َ َك ْي َ
َ َ
ار َوا ْل َجن ِةَ ،حتى َك َأنا َر ْأي َع ْي ٍن» -أي :كأننا نشاهد الجنة ،وكأننا ً
أيضا نشاهد النار ،كأهنا ﷺ ،ي َذكرنَا بِالن ِ
ول اهللِ ﷺَ ،عا َفسنَا ْاألَ ْزواج و ْاألَو َالد والضيع ِ
اتَ ،فن َِسينَا كَثِ ًيرا،»... رأي العين َ « -فإِ َذا َخر ْجنَا مِ ْن ِعن ِْد رس ِ
َْ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َ
فخشي أن يكون هذا من النفاق .فذهب هو وأبو بكر إلى النبي -عليه الصالة والسالم -وأخرباه بذلك،
ون ِعن ِْدي َوفِي الذك ِْرَ ،ل َصا َف َحتْكم ا ْل َم َالئِ َكة َع َلى فقالَ « :وال ِذي َن ْف ِسي بِ َي ِد ِه إِ ْن َل ْو َتدوم َ
ون َع َلى َما َتكون َ
فر ِشكم وفِي طرقِكم ،و َلكِن يا حنْ َظ َلة سا َع ًة وسا َع ًة» ،وهذا فيه فضل مجالس العلم ِ
وح َل ِق الذكر ،من حيث َ َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ
إهنا تقوي اإليمان ،وتزيد اليقين ،وتذكر العبد باهلل ،وتبعد عنه الغفلة .فهنا يقول عوف ﭬَ « :ك َأني َأنْظر
ار َيت ََضا َغ ْو َن فِ َيها» ،أي :أنه على ذكر .والعلماء -
ون فِ َيهاَ ،و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل الن ِ
إِ َلى َأ ْه ِل ا ْل َجن ِة َيت ََز َاور َ
رحمهم اهلل -قالوا يف اإليمان باليوم اآلخر -الذي هو ركن من أركان اإليمان الستة – قالوا إن إيمان أهل
اإليمان به على درجتين ،الدرجة األولى :درجة اإليمان الجازم ،وهذا الذي ال يقبل من أحد شيء دونه،
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 38
ال بد أن يكون عند المسلم جزم ويقين بأن هناك يوما ِ
آخر ،وفيه الحساب والعقاب والجنة والنار ً
والتفاصيل التي جاءت عن ذلك اليوم يف سنة النبي الكريم -عليه الصالة والسالم ،والدرجة الثانية:
اإليمان الراسخ ،رسوخ اإليمان يف قلب المؤمن ،واستحضاره لذلك اليوم العظيم ،وعدم غفلته عن ذلك
اليوم وعن الحساب وعن العقاب وعن الجنة والنار .فعوف يشير إلى هذا المعنى :ما أكرمه اهلل -سبحانه
وتعالى -به من استحضار مستمر لذلك اليوم ،للجنة والنار والحساب والعقاب .وهذا -إذا كان العبد
-به عبده من الخير واإليمان والطاعة ،والمداومة على ذلك واإلستقامة عليه إلى الممات ،كما قال اهلل -
سبحانه وتعالى :ﭿﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭾ [فصلت ،]٣0 :ويف حديث سفيان الثقفي قال -عليه الصالة
ِ است َِق ْم» أي :دا ِو ْم على ذلك ِ
واستمر عليه إلى أن تلقى اهلل -سبحانه وتعالى، ْت بِاهللَ ،ف ْ
والسالمُ « :ق ْلَ :آمن ُ
ويقول اهلل -عز وجل :ﭿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﭾ [الحجر ،]99 :ويقول -جل وعال :ﭿ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ
ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭾ [آل عمران ،]١02 :أي :استمروا وداوموا على اإلسالم والطاعة والعبادة إلى
مقارب لما يف هذه الطريق مع اختالف يسير يف األلفاظ – قالَ « :ع َز َف ْت َن ْف ِسي َع ِن
ٌ ويف الطريق الثانية -
الدُّ ْن َيا» ،وهذا مفسر لما يف الرواية األولى ،قالَ « :أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا» .وقوله « َو َأ ْظ َم ْأت ن ََه ِ
اري» هو
التابعين ،فاإلسناد معضل .وكذلك الطريق األخرى عن زبيد قال« :قال رسول اهلل ﷺ ،»...وزبيد لم يدرك
أحدً ا من الصحابة ،فاإلسناد كذلك معضل .وجاء هذا الحديث من طرق ال تخلو من كالم ،وقد جمع
كثيرا منها الحافظ ابن حجر يف كتابه «اإلصابة» يف ترجمة عوف بن مالك ﭬ؛ جمع روايات هذا الحديث
ً
وطرقه ،وتوسع يف ذلك يف كتابه «اإلصابة» .والحديث غير ثابت ،وعلى فرض ثبوته -كما يقول شيخ
اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل تعالى -فإن قولهَ « :أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقا» وإقرار النبي له على هذه الكلمة،
قال:
اح َة َي ْأخذ بِ َي ِد الن ْف ِر ِ ( )116حد َثنَا َأبو أسامةََ ،عن موسى ب ِن مسلِ ٍم ،نا ابن سابِ ٍ
طَ ،ق َال :ك َ
َان َع ْبد اهلل ْبن َر َو َ ْ َ ْ َ ْ ْ َ َ َ
يمانًاَ .ت َعا َل ْوا ن َْذك ُُر اهللَ بِ َطا َعتِ ِهَ ،ل َع َّل ُه ِ ِ ِ
م ْن َأ ْص َحابِه َف َيقولَ « :ت َعا َل ْوا َف ْلن ُْؤم ُن َسا َعةًَ .ت َعا َل ْوا َف ْلن َْذ ُكرِ اهللَ َو ْل َت ْز َدا ُدوا إِ َ
ُي ْذك ُُرنَا بِ َمغ ِْف َرتِ ِه».
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عبد اهلل بن رواحة ﭬ أنه كان « َي ْأخذ بِ َي ِد الن ْف ِر مِ ْن َأ ْص َحابِ ِه
اهلل بِ َطا َعتِ ِهَ ،ل َعله ي ْذكرنَا اهلل َو ْلت َْز َدادوا إِ َ
يمانًاَ .ت َعا َل ْوا ن َْذكر َ
ِ
َف َيقولَ :ت َعا َل ْوا َف ْلن ْؤمن َسا َع ًةَ .ت َعا َل ْوا َف ْلن َْذك ِر َ
بِ َم ْغ ِف َرتِ ِه» .وقد مر معنا نظير هذا األثر المروي عن عبد اهلل بن رواحة؛ مر معنا نظيره عن معاذ ،وعن عمر،
وجاء هذا المعنى عن غير واحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان .وهذا كما أسلفت من عنايتهم -
رضي اهلل عنهم ورحمهم -باإليمان ،واهتمامهم به ،وتواصيهم على حفظه والمحافظة عليه ،وعملهم
على زيادتة وتقويته وتنميته بالمجالس المباركة ،مجالس الخير والتعاون والتذاكر ،بذكر اهلل -عز وجل،
وذكر أسمائه وصفاته وعظمته ،وتالوة آياته ،ومعرفة معاين كالمه ،وتدبر القرآن الكريم ،والتفقه يف دين اهلل
-سبحانه وتعالى -كل ذلكم داخل يف باب تقوية اإليمان وزيادته بذكر اهلل -جل وعال .ومجالس العلم
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 40
التي يبين فيها الحالل والحرام وتوضح فيها األحكام هي من مجالس الذكر؛ ليست مجالس غفلة ،بل هي
مجالس ذكر هلل -سبحانه وتعالى ،ويثيب اهلل -سبحانه وتعالى -الجالسين فيها ثواب الذاكرين له -
سبحانه وتعالى .ويذكر أن أحد السلف كان يف مجلس علم يبين للناس الحالل والحرام ،فكان يف المجلس
شاب ،فقال« :يا قوم اذكروا اهلل!» -سبحوا ،هللوا ،اذكروا اهلل -فقال« :يا هذا ونحن من اليوم يف ماذا؟»
فمجالس العلم التي يبين فيها الحالل والحرام ،وتتلى فيها اآليات وأحاديث الرسول -عليه الصالة
والسالم -هذه كلها مجالس ذكر هلل -سبحانه وتعالى ،تحفها المالئكة ،وتغشاها الرحمة ،وتنزل عليها
السكينة ،ويذكر اهلل -سبحانه وتعالى -أهلها يف من عنده .والصحابة ﭫ يعتنون هبذه المجالس
عليه؛ فإذا جلس مجالس الخير وسمع الخير وأخذ يتلقاه ويستفيده وينتفع به زاد إيمانه بذلك ،وإذا انصرف
إلى مجالس غفلة وجلس فيها ونظر إليها واستمع فإن الواردات التي ترد على قلبه يف مجالس الغفلة
تضعف اإليمان الذي يف قلبه .فالعبد يحتاج دو ًما إلى العناية بمجالس الخير ومالزمتها ليزداد بذلك إيمانه
ويروي هذا األثر عن عبد اهلل بن رواحة ﭬ ابن سابط -وهو عبد الرحمن بن سابط :ثقة كثير اإلرسال.
وبين العالمة األلباين $يف التعليق على «كتاب اإليمان» أنه لم يدرك ابن رواحة .والمعنى من حيث هو
ثابت عن غير واحد من أصحاب النبي -عليه الصالة والسالم -والتابعين لهم بإحسان ،من حيث
قال:
ان
يم َ بَ ،عن َأبِي ص ِ
اد ٍقَ ،ع ْن َعلِي ﭬ َق َال« :إِ َّن ل ْ ِ (َ )١١٧حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ
ون ،نا ا ْل َعوام ْبن َح ْو َش ٍ
ْل َ ٍّ َ ْ
يم ِ
انَ ،ف َم ْن َآم َن َص َّلىَ ،و َم ْن َص َّلى الص ََلةَُ ،وا ْل َج َما َعةُ؛ َف ََل ُت ْق َب ُل َص ََلة إِ َّال فِي ْ ِ
ال َ انَ ،و َّ
يم ُ ث َأ َثافِيِ ْ :
ال َ َث ََل َ
َّ
ال ْس ََل ِم َع ْن ُعن ُِق ِه».
َج َام َعَ ،و َم ْن َف َار َق ا ْل َج َما َع َة قِيدَ ِش ْبر َخ َل َع َر َق َب َة ْ ِ
41 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
41
الشرح:
ثم أورد المصنف اإلمام ابن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن علي بن أبي طالب -رضي اهلل
الاللكائي يف «شرح االعتقاد» من طريق يزيد بن هارون -شيخ ابن أبي شيبة -باإلسناد نفسه بلفظ« :إِن
وهو الصواب.
إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي» ،واألثايف هي الحجارة التي يوضع عليها القدر ،ليتكئ عليها وي َ
نضج الطعام قال« :إِن ا ْ ِ
ويوضع تحته النار؛ فيكون على ثالث أثايف ،أي :على ثالثة أحجار .وكانت العرب إذا أرادوا رمي شخص
مثال -بعظيمة ،أو الدعاء عليه بعظيمة ،قالوا« :ثال ِ َثة األثايف» « -ألقاه اهلل يف ثالثة األثايف» ،أو – ً
مثال -يف – ً
األمر العظيم أو المصيبة المهيلة يقولون« :هذه ثال ِ َثة األثايف» .ومرادهم بـ«ثالثة األثايف» الجبل أو الضلع
الكبير .إذا وجد اإلنسان حجرين ال يتكئ عليهما القدر ولم يجد ثال ًثا فيأيت إلى جنب الجبل ويضع
الحجرين ويكون ثالث األثايف الجبل .فقولهم «ثالثة األثايف» -عندما يرمى هبا شخص بمصيبة أو داهية -
مثل الجبل ،ومرادهم بـ«ثالثة األثايف» الجبل الذي يكون القدر يتكأ على طرفه ،والطرفين الباقيين يكون
إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي» ،يعني :اإلسالم يرتكي ويقوم على ثالث دعائم وركائز ،وبدون
الشاهد قوله هنا« :إِن ا ْ ِ
هذه الركائز الثالث ال يقوم .والعوام يقولون« :القدر ما يرتكي إال على ثالث» يعني :على حجرين ما
إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي» ،أي :ال يرتكي وال يثبت إال عليها؛ فلو و ِجد اثنان منها ال يثبت،
يرتكي .فيقول« :إِن ا ْ ِ
-وصفاته.
واألمر الثاين ،قالَ « :والص َالة» ،والمراد بالصالة أي :المكتوبة التي افرتضها اهلل -سبحانه وتعالى -على
عباده .وقد مر معنا يف الحديث -حديث معاذ – قال« :أال أخبرك برأس اِلمر وعموده وذروة سنامه؟»
يمان» ،واألمر الثاين فذكر« :رأس اِلمر السَلم» ،وعرفنا أن المراد به التوحيد -وهو المراد هنا بقوله « ْ ِ
اإل َ
َ « -والص َالة» -الذي هو عماد الدين .واألمر الثالث ،قالَ « :وا ْل َج َما َعة».
ِ ِ
اإليم ِ
ان»؛ ألن اهلل -سبحانه وتعالى -يقول :ﭿ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ قالَ « :ف َال ت ْق َبل َص َال ٌة إِال في ْ َ
أيضا قول اهلل -عز وجل :ﭿﭤ
ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭾ [المائدة ،]5 :فالصالة ال تقبل إال باإليمان .ومن ذلكم ً
أي :باهلل عز وجل ،وبكل ما أمر عباده -سبحانه وتعالى -باإليمان به.
ِ ِ
اإليم ِ
انَ ،ف َم ْن آ َم َن َصلىَ ،و َم ْن َصلى َجا َم َع» ،أي :لزم الجماعة .وهذا ً
أيضا قالَ « :ف َال ت ْق َبل َص َال ٌة إِال في ْ َ
ِ
لمحافظة المسلم على الصالة يف المساجد من تحقيق الجماعة ،التي هي مقصد من فيه األثر المبارك
َ
المبارك المتكرر يف اليوم والليلة خمس مرات يف المساجد، الجمع
َ مقاصد الشريعة يف جمع الناس هذا
فتجتمع أبداهنم ،وتأتلف قلوهبم ،وتقوى صلتهم ،وتتحقق لهم بذلك خيريتهم ،إلى غير ذلك من المصالح
واآلثار المباركة العائدة عليهم بمحافظتهم على هذه الصالة يف جماعة المسلمين.
بالجماعة .ولهذا قالوا« :ال إسالم إال بجماعة ،وال جماعة إال بأمير ،وال أمير إال بسمع وطاعة» ،فهذه أمور
ِ
آخ ٌذ بعضها بح َج ِز بعض ،وكل منهما ال يتحقق إال بتحقق اآلخر .ولهذا جاءت النصوص الكثيرة يف الحث
43 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
43
أيضا النصوص الكثيرة يف الحث على السمع والطاعة لألمراء وللوالة -
على لزوم الجماعة ،وجاءت ً
فجارا؛ ألن الصالة والجماعة وأعمال الرب وطلب العلم وغير ذلك من األعمال ما تنتظم
ً أبرارا كانوا أو
ً
وال تستقيم إال إذا كان للمسلمين جماعة ،وال يكون لهم جماعة إال بإمام وأمير ،وال أمير إال بسمع وطاعة.
فهذه األمور كلها منتظمة ،ال بد من تحقيقها لينتظم بذلك أمر المسلمين.
قال:
ان ْب ِن َعطِيةََ ،ع ْن َأبِي أ َما َمةََ ،ق َالَ :ق َال َرسول ون ،نا محمد بن م َطر ٍ
فَ ،ع ْن َحس َ َ ْ (َ )١١٨حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ
يم ِ
ان». ال َ اهللِ ﷺ« :ا ْل َح َيا ُء َوا ْل ِعي ُش ْع َبت ِ
َان ِم َن ْ ِ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن أبي أمامة الباهلي ﭬ قالَ « :ق َال َرسول اهللِ ﷺ :ا ْل َح َيا ُء
يم ِ
ان» .ومر معنا فيما يتعلق بالحياء أنه من شعب اإليمان -مر معنا غير حديث عند َان ِم َن ْ ِ
ال َ َوا ْل ِعي ُش ْع َبت ِ
المصنف يف هذا المعنى .وقولهَ « :وا ْل ِعي» بكسر العين .والمراد بالعي هنا قلة الكالم إال عن حاجة ،بمعنى
وأيضا قليل الكالم ال يتكلم إال عن حاجة ،فهذا من اإليمان .وقد قال -عليه
أن اإلنسان إذا كان ذا حياءً ،
َان ي ْؤ ِمن بِاهلل ِ واليو ِم ِ
اآلخرِ َف ْل َي ُق ْل َخ ْي ًرا َأ ْو لِ َي ْص ُم ْ
ت» .فمن اإليمان أن ال يتكلم َ َْ الصالة والسالمَ « :م ْن ك َ ُ ُ
اإلنسان إال عن حاجة و يف شيء نافع ومفيد ،وال يرخي للسانه العنان فيتكلم متى شاء بدون خطام وال
زمام؛ ألنه إذا أطلق للسانه العنان أورده الموارد ،وأدخله يف المعاطب .ولهذا كان بعض السلف يمسك
ول ِسج ٍن مِن لِس ٍ بلسان نفسه ويقولَ « :وال ِذي َال إِ َل َه َغ ْيرهَ ،ما َع َلى ْاألَ ْر ِ
ان» .والكلمة ْ َ ض َش ْي ٌء َأ ْح َوج إِ َلى ط ِ ْ
ما لم تخرج من اإلنسان يملكها ،وإذا خرجت َم َل َك ْته وأصبحت من عمله .وقد جاء عن بعض السلف:
«من كثر كالمه كثر َس َقطه» ،ولهذا كان من اإليمان حفظ اللسان وصيانة المنطق ،وأال يتكلم اإلنسان إال
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 44
عن حاجة .هذا معنى قوله هنا يف هذا الحديثَ « :وا ْل ِعي» ،فالحياء عرفناه والعي المراد به :قلة الكالم .هذا
من اإليمان.
َان ِم َن النِّ َف ِ
اق» .والبذاء ضد الحياء، ان ُش ْع َبت ِ
والحديث رواه الرتمذي وغيره ،وفيه زيادةَ « :وال َب َذا ُء َوال َب َي ُ
والبيان -يف هذا الحديث -ضد العي ،والمراد بالبيان أي :التشدق والتوسع يف الكالم وكثرة الحديث
بدون مباالة وبدون ضابط ،وإنما ينظر فقط لفصاحته وجمال أسلوبه ،أو طريقته أو انشداد الناس إليه يف
َان ِم َن النِّ َف ِ
اق» ،والمراد ان ُش ْع َبت ِ
كالمه أو نحو ذلك .فهذا يقول -عليه الصالة والسالمَ « :وال َب َذا ُء َوال َب َي ُ
باليبان أي :التشدق والتوسع يف الكالم دون أن يراعي يف كالمه ضوابط الشريعة وحدودها فيما يتعلق
والحديث -كما أشرت -رواه الرتمذي وغيره .وممن رواه الخرائطي يف كتابه «مكارم األخالق» من
قال:
بَ ،ع ِن ا ْب ِن ب َر ْيدَ ةََ ،ق َالَ :و َر ْدنَا ا ْل َم ِدينَ َة َف َأ َت ْينَا َع ْبدَ ( )١١9حد َثنَا ابن ف َضيلٍَ ،عن َع َط ِ
اء ْب ِن السائِ ِ
بَ ،ع ْن م َح ِ
ار ٍ ْ ْ ْ َ
ون َأ ْن َال َقدَ َرَ ،ف َق َال :مِ َن اهللِ ْب َن ع َم َر َفق ْلنَاَ :يا َأ َبا َع ْب ِد الر ْح َم ِن إِنا ن ْم ِع َن فِي ْاألَ ْر ِ
ضَ ،فنَ ْل َقى َق ْو ًما َي ْزعم َ
يت أو َلئِ َك َف َأ ْخبِ ْره ْم َأن َع ْبدَ اهللِ ْب َن ع َم َر مِنْه ْم َب ِري ٌءَ ،و َأنه ْم مِنْه ب َرآء ،ثم َق َال :إِ ْن ِش ْئ َت َحد ْثت َك
ثم َق َال :إِ َذا َل ِق َ
ول اهللِ ﷺَ ،ف َأ َتى َرج ٌل َجيد الث َي ِ
ابَ ،طيب الريحِ َ ،ح َسن ول اهللِ ﷺ؟ َف َق َالَ :أ َج ْل َق َال :كنا ِعنْدَ رس ِ
َ
َع ْن رس ِ
َ
ِ ا ْلوج ِه َف َق َال :يا رس َ ِ
الص ََلةََ ،وت ُْؤتِي ال َّزكَاةََ ،وت َُصو ُم َر َم َض َ
ان، يم َّ
ِ ِ
ول اهلل َما ْاإل ْس َالم؟ َق َال َرسول اهلل ﷺ« :تُق ُ َ َ َ ْ
يمان؟ َف َق َال َرسول اهللِ ﷺ: ِ ت ،و َت ْغت َِس ُل ِمن ا ْلجنَاب ِة»َ .ق َال :صدَ ْق َت ثم َق َال :يا رس َ ِ
ول اهلل َما ْاإل َ َ َ َ َ َ َ َوت َُحج ا ْل َب ْي َ َ
ينَ ،وبِا ْل َقدَ ِر َخ ْي ِر ِه َو َش ِّر ِهَ ،و ُح ْل ِو ِه َو ُم ِّر ِه»َ .ق َال: «ت ُْؤ ِم ُن بِاهللَِ ،وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخرَِ ،وا ْل َم ََلئِك َِةَ ،وا ْلكِت ِ
َابَ ،والنَّبِ ِّي َ
45 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
الر ُج ِل»َ .ق َالَ :فق ْمنَا بِ َأ ْج َم ِعنَا َف َط َل ْبنَاهَ ،ف َل ْم َن ْق ِد ْر َع َل ْي ِه،
45 ِ
ف َف َق َال َرسول اهلل ﷺَ « :ع َل َّي بِ َّ
َصدَ ْق َت .ثم ان َْص َر َ
الس ََل ُمَ ،جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر ِدينِك ُْم». ِ َف َق َال النبِي ﷺَ « :ه َذا ِج ْبرِ ُ
يل َع َل ْيه َّ ُّ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،وهو حديث مشهور بـ«حديث جربيل» حيث جاء إلى النبي -
عليه الصالة والسالم -والصحابة جلوس عنده ﷺ ،فجاء على صورة أعرابي شديد بياض الثياب شديد
سواد الشعر ،وسأل النبي -عليه الصالة والسالم -سؤاالت ثم انصرف .ويف تمام الحديث قال النبي -
الس ََل ُمَ ،جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر ِدينِك ُْم» ،فعلِم بذلك أن هذا الذي ِ عليه الصالة والسالمَ « :ه َذا ِج ْبرِ ُ
يل َع َل ْيه َّ
اشتمل عليه الحديث هو ديننا .فالحديث فيه جماع الدين ،وكل التفاصيل الواردة يف سنة النبي -عليه
الصالة والسالم -يف بيان دين اهلل راجع ٌة إلى هذا الحديث؛ فهو جماع دين اهلل -سبحانه وتعالى .ولهذا
بعض العلماء يسمي هذا الحديث – حديث جربيل المشهور « -أم السنة» ،مثلما أن الفاتحة تسمى «أم
ً
إجماال يف هذا الس ََل ُمَ ،جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر ِدينِك ُْم» ،فالدين اجتمع بيانه ِ الحديثَ « :ه َذا ِج ْبرِ ُ
يل َع َل ْيه َّ
الحديث العظيم المبارك .والمصنف -رحمه اهلل تعالى -روى هذا الحديث هنا من حديث ابن عمر يرويه
عن النبي -عليه الصالة والسالم ،والحديث يف «صحيح مسلم» يرويه ابن عمر عن أبيه قالَ « :ب ْين ََما ن َْحن
ول اهللِ ﷺ َذ َ
ات َي ْومٍ ،إِ ْذ َط َل َع َع َل ْينَا َرج ٌل »...إلى آخر الحديث المشهور. ِعنْدَ رس ِ
َ
وأورد له قصة ،يقول ابن بريدة -عبد اهلل – قالَ « :و َر ْدنَا ا ْل َم ِدينَ َة َف َأ َت ْينَا َع ْبدَ اهللِ ْب َن ع َم َر َفق ْلنَاَ :يا َأ َبا َع ْب ِد
ض» أي :ن ِ
بعد يف السير والسفر يف األرض؛ يقال :أمعن يف األرض ،أي :سافر الر ْح َم ِن إِنا ن ْم ِع َن فِي ْاألَ ْر ِ
زعم ٌ
باطل وإنكار لركن من أركان اإليمان ذلك ليست بقدر اهلل ،ولم يقدرها اهلل -سبحانه وتعالى! وهذا ٌ
وأص ٍل من أصول الدين .فقال ابن عمر« :مِ َن ا ْلم ْسلِ ِمي َن مِم ْن ي َصلي ل ِ ْل ِق ْب َل ِة؟» يعني :هؤالء الذين يقولون
هذا الكالم ،هل هم كفار أصليين؟ أم ينتسبون لإلسالم ويصلون؟ « َف َق َالَ :ن َع ْم ،مِم ْن ي َصلي ل ِ ْل ِق ْب َل ِةَ .ق َال:
ب» -أي :ابن عمر َ « -حتى َو ِد ْدت َأني َل ْم َأك ْن َس َأ ْلته» ،وهذا غضب منه ﭬ لدين اهلل -عز وجل. ِ
َف َغض َ
َب ِري ٌءَ ،و َأنه ْم مِنْه ب َرآء» ،يعني :ليس منهم وليسوا منه ،ويف رواية الحديث يف «صحيح مسلم» قالَ « :وال ِذي
َي ْحلِف بِ ِه َع ْبد اهللِ ْبن ع َم َرَ ،ل ْو َأن ِألَ َح ِد ِه ْم مِ ْث َل أح ٍد َذ َه ًبا َف َأ ْن َف َقهَ ،ما َقبِ َل اهلل مِنْه َحتى ي ْؤمِ َن بِا ْل َقدَ ِر» .وبراءته
كذب بالقدر لم يقبل منه عمل ولم ينتفع بطاعة؛ ألن الطاعات إنما تكون نافعة إذا كانت قائمة على
كامال – من أجل
اإليمان ،ومن أصول اإليمان :اإليمان بالقدر .ولهذا ساق ابن عمر الحديث بتمامه – ً
إال إذا كانت قائمة على هذه األصول ،فهي أصول لدين اهلل -سبحانه وتعالى -ال يقبل الدين إال هبا،
ومكانتها من الدين بمكانة األصول من األشجار .أرأيتم الشجرة إذا قطع أصلها هل ينتفع منها بثمر؟ وقد
انتفى شيء من هذه األصول الستة التي عليها قيام الدين ال ينتفع اإلنسان بعمل ،ولهذا حلف ابن عمر باهلل
-عز وجل -أن أعمال أولئك ال تقبل ما لم يؤمنوا بالقدر ،ثم ساق الحديث.
47 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
مسافرا ،وال
ً العجائب! أما يف زماننا هذا ليس األمر بغريب :يأيت الرجل من أقصى الدنيا ويصل إلى التو
تشعر أنه قادم من سفر؛ ألنه ينتقل من مكان إلى مكان يف مجالس وثيرة وأجواء مكيفة ،ال يتعرض لوهج
قديما إذا جاء الشخص من مسافة بعيدة يظهر عليه أثر السفر،
الصحراء ،وال يتعرض لحرارة الشمس .بينما ً
أمرا غري ًبا :رجل
يظهر عليه لفح الشمس ووهج الصحراء وعناء السفر ووعثاؤه -تظهر عليه تما ًما .فكان ً
وأيضا شعره أسود وليس عليه أثر غبار أو تراب أو نحو ذلك ،وال يعرفه أحد! « َو َال َي ْع ِرفه
بثياب نظيفةً ،
مِنا َأ َحدٌ »
ول اهللِ ما ْ ِ
اإل ْس َالم؟ َق َال َرسول « َحتى َج َل َس إِ َلى النبِي ﷺ »...وسأله هذه السؤاالت .قالَ « :ف َق َالَ :يا َرس َ
َ
تَ ،و َت ْغت َِس ُل ِم َن ا ْل َجنَا َب ِة» ،فذكر هنا أركان ِ
الص ََلةََ ،وت ُْؤتِي ال َّزكَاةََ ،وت َُصو ُم َر َم َض َ
انَ ،وت َُحج ا ْل َب ْي َ يم َّ
ِ
اهلل ﷺ :تُق ُ
اإلسالم ،ويف حديث عمر يف «صحيح مسلم» ذكر ً
أوال الشهادتين ،شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمد
يمان؟ َف َق َال َرسول اهللِ ﷺ :ت ُْؤ ِم ُن بِاهللَِ ،وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخرَِ ،وا ْل َم ََلئِك َِة، ول اهللِ ما ْ ِ
اإل َ َ « َق َالَ :صدَ ْق َت ثم َق َالَ :يا َرس َ
ينَ ،وبِا ْل َقدَ ِر َخ ْيرِ ِه َو َش ِّر ِهَ ،و ُح ْل ِو ِه َو ُم ِّر ِه» ،أي :من اهلل تعالى ،أي :أن األمور كلها بقدر ،ﭿﰌ َوا ْلكِت ِ
َابَ ،والنَّبِ ِّي َ
ﮙ ﮚﭾ [البقرة ،]20 :ﭿﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﭾ [التكوير .]29 :فاألمور كلها بقدر اهلل وقضائه ،وال يمكن
أن يقع شيء يف ملك اهلل لم يشأه -سبحانه وتعالى ،فالملك ملكه ،والخلق خلقه ،والعبيد عبيده ،وال
يمكن أن يقع يف هذا الملك شيء لم يشأه ،ومن قال بخالف ذلك ادعى بذلك -شاء أم أبى -أن هناك
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 48
خال ًقا غير اهلل! ولهذا قال أئمة السلف -رحمهم اهلل -عمن ينكرون القدر ،قالوا :هؤالء مجوس هذه األمة؛
ألهنم بذلك يقولون -أو يلزمهم بذلك -أن هناك خال ًقا غير اهلل -سبحانه وتعالى.
ف» ،ويف حديث عمر الذي يف «صحيح مسلم» سأله عن اإلحسان قال َ « :أ ْن َت ْع ُبدَ
« َق َالَ :صدَ ْق َت .ثم ان َْص َر َ
الر ُج ِل» ،أي :ائتوين بهَ « ،ق َالَ :فق ْمنَا بِ َأ ْج َم ِعنَا ِ
ف» أي :هذا الرجلَ « ،ف َق َال َرسول اهلل ﷺَ :ع َل َّي بِ َّ
ان َْص َر َ
الس ََل ُمَ ،جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر ِ َف َط َل ْبنَاهَ ،ف َل ْم َن ْق ِد ْر َع َل ْي ِه» ،يعني :لم نجدهَ « ،ف َق َال النبِي ﷺَ :ه َذا ِج ْبرِ ُ
يل َع َل ْيه َّ ُّ
ِدينِك ُْم» .وهذه الجملة التي ختم هبا النبي -عليه الصالة والسالم -هذا الحديث العظيم تبين مكانة هذا
والحديث -يف إسناد المصنف -فيه ابن فضيل ،شيخ المصنف ،وهو محمد بن فضيل بن غزوان ،سماعه
من عطاء بن السائب كان بعد اختالطه ،وقد سبق اإلشارة إلى هذا يف إسناد مر معنا عند المصنف $
برقم ( )4يف أوائل الكتاب .والحديث ثابت كما عرفنا ،وهو يف «صحيح مسلم» عن ابن عمر عن أبيه قال:
قال:
اقَ ،ع ْن َأبِي َل ْي َلى ا ْلكِن ِْديَ ،ع ْن ح ْج ِر ْب ِن َع ِد ٍّيَ ،ق َال :نا (َ )١20حد َثنَا ا ْبن َم ْه ِد ٍّيَ ،ع ْن س ْف َي َ
انَ ،ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ
يم ِ ور َش ْط ُر ْ ِ ِ
ان». ال َ َعلي« :إِ َّن الط ُه َ
الشرح:
ثم ساق المصنف -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن علي ﭬ موقو ًفا عليه -وقد صح عن النبي ﷺ
اإليم ِ
ِ
ان» ،من أهل العلم من قال :معناه والمراد به الطهارة من الذنوب والمعاصي، قوله «إِن ال ُّطه َ
ور َش ْطر ْ َ
ٍ
ونواه ،فالبعد عن الذنوب أوامر ويف تقرير ذلك قالوا :إن اإليمان أو المطلوب من العباد أمران -
ٌ
والمعاصي طهارة للعبد ،فهو يف طهارة أي :يف نقاء وسالمة مما هنى اهلل -تبارك وتعالى -عنه ،ﭿﯖ
ﯗﭾ [المدثر .]4 :وهذا قول ،ولكن مما يضعف هذا القول أن الحديث جاء له ألفاظ صحيحة ثابته ،منها:
يم ِ
ان» ،فيتعين أن المراد بالطهور أي: ان» ،ومنها أيضا «إِسبا ُغ ا ْلو ُض ِ
وء َش ْط ُر ْ ِ يم ِ الو ُضو ُء َش ْط ُر ِ
ال َ ُ ْ َ ال َ « ُ
الوضوء وهو الطهارة المعروفة إلقام الصالة وعبادة اهلل -سبحانه وتعالى.
واألصح يف معنى الطهور هو هذا :الوضوء ،والمراد باإليمان :الصالة ،وقد قال اهلل -تعالى :ﭿﮐ ﮑ ﮒ
ً
أقواال يف كتابه «جامع ﮓ ﮔﮕﭾ [البقرة ]١4٣ :أي :صالتكم .والحافظ ابن رجب -رحمه اهلل تعالى -ذكر
العلوم والحكم» واختار هذا -أن المراد بالطهور الوضوء ،والمراد باإليمان الصالة .ومعنى أن الوضوء
اإليم ِ
ِ
ان». شطر الصالة :أن الصالة ال قبول لها إال به وال تصح إال به .قال« :إِن ال ُّطه َ
ور َش ْطر ْ َ
وشاهد الحديث للكتاب أنه سمى العمل إيما ًنا؛ فالطهور الذي هو عمل ،والصالة التي هي عمل ،سميت
يف هذا الحديث إيما ًنا .وهذا دليل واضح وصريح على دخول العمل يف مسمى اإليمان ،وأن الطهارة التي
يقوم هبا اإلنسان بين يدي عبادته لربه وكذلك صالته وعبادته لربه هذا كله إيمان ،وداخل يف مسمى
اإليمان.
علي حجر بن عدي ،وحجر بن عدي ذكره ابن عبد الرب وابن حجر وغيرهما يف
ويروي هذا الحديث عن ٍّ
الصحابة ،وجزم الذهبي $يف «السير» بأن له صحبة ،وجماعة من أهل العلم -منهم البخاري وابن أبي
قال:
( )١2١حد َثنَا َعفان ،نا َأبان ا ْلعطار ،نا يحيى بن َأبِي كَثِ ٍيرَ ،عن َزي ٍدَ ،عن َأبِي سالمٍَ ،عن َأبِي مال ِ ٍ
ك ْاألَ ْش َع ِري، َ ْ َ ْ ْ ْ َ َْ ْ َ َ َ
يم ِ
ان». ال َ ور نِ ْص ُ
ف ِْ ول اهللِ ﷺ ك َ
َان َيقول« :الط ُه ُ َأن َرس َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث ،حديث أبي مالك األشعري ،أن رسول اهلل ﷺ كان يقول:
يم ِ
ان» .والحديث رواه اإلمام مسلم يف كتابه «الصحيح» من طريق أبان العطار به .وهنا ال َ ور نِ ْص ُ
ف ِْ «الط ُه ُ
يف نسخة «كتاب اإليمان» البن أبي شيبة سقطت حرف «عن» بين زيد وأبي سالم .وزيد هو ابن سالم بن
أبي سالم الحبشي ،وأبو سالم هو منطور الحبشي ،و«عن» موجودة يف «صحيح مسلم» ،وموجودة يف
قال:
يم ِ
ان». انَ ،ع ْن ِع ْك ِر َمةََ ،ق َال« :ا ْل ُو ُضو ُء َش ْط ُر ْ ِ
ال َ
( )١22حد َثنَا وكِيع ،نا ْاألَو َز ِ
اعيَ ،ع ْن َحس َ
ْ ُّ َ ٌ َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -الحديث نفسه موقو ًفا على عكرمة ،وهو من التابعين .وجاء يف «المصنف»
قال:
51 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
51
اقَ ،ع ْن َأبِي َل ْي َلى ا ْلكِن ِْديَ ،ع ْن غ َال ٍم ل ِ ْلح ْج ِر َأن ح ْج ًرا َر َأى
يع ،نا س ْف َيانَ ،ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ ِ
(َ )١2٣أ ْخ َب َرنَا َوك ٌ
ور نِ ْص ُ
ف ِ ِ ِ ِ ِ ط َف َق َال :يا غ َالم ،ن ِ ِ
َاو ْلني الصحي َف َة م َن ا ْلكوةَ .سم ْعت َعليا َيقول« :الط ُه ُ َ
ابنًا َله َخرج مِن ا ْل َغائِ ِ
َ َ َ ْ
يم ِ
ان». ِْ
ال َ
الشرح:
طريق أخرى للحديث المتقدم ،ويف اإلسناد غال ٌم لح ْجر ،وهو مجهول ،فاإلسناد هنا ضعيف لجهالة هذا
الغالم .لكن الحديث ثابت عن النبي -عليه الصالة والسالم -وهو كما عرفنا يف «صحيح مسلم» بلفظ:
يم ِ
ان» من حديث أبي مالك األشعري -رضي اهلل عنه وأرضاه. ور َش ْط ُر ْ ِ
ال َ «الط ُه ُ
واهلل تعالى أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 52
الحمد هلل رب العالمين ،والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد ،وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد،
فيقول المام الحافظ أبو بكر ،عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى ،يف كتابه «اليمان»:
ين َو َق َوائِ َم ُه(َ )١24حد َثنَا م َحمد ْبن بِ ْش ٍر ،نا َزك َِريا ،حدثنا ا ْل َح َو ِار ُّيَ ،أن َع ْبدَ اهللِ ْب َن َع ْم ٍرو َق َال« :إِ َّن ُع َرى الدِّ ِ
ج َها َد»، الصدَ َق َة َوا ْل ِ انَ .وإِ َّن ِم ْن َأ ْص َلحِ ْاِلَ ْعم ِ
ال َّ تَ ،و َص ْو ُم َر َم َض َ الص ََل ُة وال َّزكَا ُةَ ،ال ي َفر ُق بين َُهما ،وحج ا ْلبي ِ
َ َْ ُ َّ َ ْ َ َ َ َ َّ
ثم َقا َم َفا ْن َط َل َق.
الشرح:
الحمد هلل رب العالمين ،وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ،صلى
اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد،
أورد المصنف اإلمام ابن أبي شيبة -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص -ويف
«المصنف» البن أبي شيبة $باإلسناد نفسه ،قال :عبد اهلل بن عمر ،أي :ابن الخطاب ﭭ -قال« :إِن
ين َو َق َوائِ َمه الص َالة َوالزكَاةَ ،ال ي َفرق َب ْينَه َما» .العروة هي الم َت َمسك من الشيء الذي ال يمكن
ع َرى الد ِ
حفظه أو العناية به إال بالتمسك به .وعرى الدين شرائعه العظيمة وأحكامه المتينة التي يلزم المكلف أن
يكون متمس ًكا هبا محاف ً
ظا عليها ،وأعظم ذلكم توحيد اهلل -عز وجل ،وقد قال تعالى :ﭿﰊ ﰋ ﰌ
أعمدته وأصوله التي يبنى عليها -وقد جاء يف الحديث ،حديث عبد اهلل بن عمر ،أن النبي -عليه الصالة
والسالم -قالُ « :بنِي ِ
ال ْسَلَ ُم َع َلى َخ ْمس» وذكر هذه القوائم التي يقوم عليها دين اهلل -تبارك وتعالى - َ
ين َو َق َوائِ َمه» ،فيه التنبيه على مكانة ما سيذكر ،وأن منزلته من الدين بمنزلة
فقوله ﭬ« :إِن ع َرى الد ِ
ين َو َق َوائِ َمه الص َالة َوالزكَاةَ ،ال ي َفرق َب ْينَه َما» ،والزكاة -كما هو معلوم -قرينة الصالة
53
قال« :إِن ع َرى الد ِ
يف كتاب اهلل – تبارك وتعالى ،ويف مواضع كثيرة من القرآن الكريم تقرن هذه الفريضة – فريضة الزكاة -
بإقامة الصالة يف آيات كثيرة من كتاب اهلل -تبارك وتعالى ،فال يفرق بينهما ،أي :كل منهما فريضة افرتضها
اهلل -سبحانه وتعالى -على عباده :خمس صلوات يف اليوم والليلة ،وافرتض كذلك عليهم صدقة تؤخذ
من أغنيائهم وترد على فقرائهم .وسميت زكا ًة ألهنا تزكي صاحبها من الشح والبخل ،وتزكي ماله وتنقيه؛
ففيها طهارة للمال وفيها طهارة لصاحب المال ،والزكاة من معانيها :الطهارة.
واإلسناد عن محمد بن بشر ،وهو ابن ال َف َرافِ َصة الكويف ،قال« :حدثنا زكريا ،قال حدثنا الحواري» .وهذه
الزيادة من «المصنف» -وهي قوله «حدثنا الحواري» -فزيادة «حدثنا» من «المصنف» ،وزيادهتا ال بد
منها .وزكريا هو ابن أبي زائدة .والحواري هو ابن زياد ،يروي عن ابن عمر ،وذكره ابن حبان يف «الثقات».
والنسخة المطبوعة من «كتاب اإليمان» أثبِ َت فيها اإلسناد هكذا« :نا َزك َِريا ا ْل َح َو ِار ُّي» ،والشيخ األلباين
$قال« :لم أعرفه ،ولم يذكر السمعاين يف هذه النسبة من هو يف هذه الطبقة» ،والسبب يف ذلك هذا
لحق السقط من كتابه «المصنف» ،ويزول اإلشكال ويتبين من
السقط يف «كتاب اإليمان» البن أبي شيبة ،في َ
هو زكريا ومن هو كذلك الحواري .واألثر سبق أن مر معنا نحوه أو قري ًبا منه عن عمر بن عبد العزيز -
رحمه اهلل تعالى -برقم (.)٣4
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 54
قال:
ِِ ِ
(َ )١25أ ْخ َب َرنَا ا ْبن ع َليةََ ،ع ْن يون َسَ ،ع ِن ا ْل َح َس ِنَ ،ق َالَ :ق َال َرسول اهلل ﷺ« :إِ َّن َأك َْم َل ا ْل ُم ْؤمن َ
ين إِ َ
يمانًا
َأ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا».
الشرح:
مرسال ،أن رسول اهلل ﷺ قال« :إِ َّن َأك َْم َل
ً ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا الحديث عن الحسن البصري
يمانًا َأ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا» .ومر معنا الحديث ِِ
موصوال من حديث أبي هريرة وحديث عائشة ﭭ، ً ين إِ َ
ا ْل ُم ْؤمن َ
وأيضا مر الكالم على معناه هناك.
ً
قال:
اع َيلَ ،ع ْن َم ْع ِق ٍل ا ْل َخ ْث َع ِميَ ،ق َالَ :أ َتى َعلِيا َرج ٌل َوه َو فِي
( )١2٦حد َثنَا ابن نمي ٍر ،نا محمد بن َأبِي إِسم ِ
ْ َ َ ْ ْ َْ َ
الر ْح َب ِة َف َق َالَ :يا َأمِ َير ا ْلم ْؤمِنِي َن َما َت َرى فِي ا ْل َم ْر َأ ِة َال ت َصلي؟ َف َق َالَ « :م ْن َل ْم ُي َص ِّل َف ُه َو كَافِر».
الشرح:
القارئ :هنا يف النسخة سقط«...حد َثنَا ابن نمي ٍر ،نا محمد بن َأبِي إِسم ِ
اع َيل»... ْ َ َ ْ ْ َْ َ
الشارح :الشيخ األلباين ألحقها هنا بين معكوفتين« :محمد بن [ َأبِي] إِسم ِ
اع َيل». ْ َ َ ْ
قال:
ان».
يم َ
ال َ الص ََل َة َوآتَى ال َّزكَا َة َف َقدْ ت ََو َّس َط ْ ِ
َّ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن كعب -وهو كعب األحبار -أنه قالَ « :م ْن َأ َقا َم الص َال َة َوآ َتى
يم َ ِ
يضا يف األثر الذي بعده تقرير هذا المعنى .وفيهما بيان مكانة الصالة
ان» ،وسيأيت أ ً الزكَا َة َف َقدْ َت َوس َط ْاإل َ
وإيتاء الزكاة من اإليمان ،وأن من حافظ على الصالة وأدى الزكاة التي افرتض اهلل -سبحانه وتعالى -
على عباده فقد توسط اإليمان ،لكن بقي عليه أعمال وطاعات ونوافل َي ْكمل هبا إيمانه .لكنه هبذه الفرائض
يكون قد توسط اإليمان ،بمعنى أنه قد أتى بالفرض الواجب عليه ،وهناك أعمال تكمل اإليمان وتتممه.
قال:
بَ ،ق َالَ « :م ْن شَ ،ع ْن َأبِي َصالِحٍ َ ،ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َض ْم َرةََ ،ع ْن َك ْع ٍ (َ )١2٨حد َثنَا م َحمد ْبن ع َب ْي ٍدَ ،ع ِن ْاألَ ْع َم ِ
ب لِ َّل ِهَ ،و َأ ْبغ ََض لِ َّل ِهَ ،و َمن ََع لِ َّل ِهَ ،ف َق ِد
انَ ،و َم ْن َأ َح َّ
يم َ اع ُم َح َّمدً اَ ،ف َقدْ ت ََو َّس َط ْ ِ
ال َ الص ََل َة َوآتَى ال َّزكَاةََ ،و َأ َط َ
َأ َقا َم َّ
ان».
يم َ ْاس َتك َْم َل ْ ِ
ال َ
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 56
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن كعب ،وهو األثر السابق ،لكن فيه زيادة .قالَ « :م ْن َأ َقا َم الص َال َة
انَ ،و َم ْن َأ َحب لِل ِهَ ،و َأ ْب َغ َض لِل ِهَ ،و َمن ََع
يم َ اع م َحمدً اَ ،ف َقدْ َت َوس َط ْ ِ
اإل َ قالَ « :م ْن َأ َقا َم الص َال َة َوآ َتى الزكَاةََ ،و َأ َط َ
ان» ،وهذا الجزء األخير صح مرفو ًعا عن النبي ﷺ عند أبي داود والرتمذي يم َ لِل ِهَ ،ف َق ِد اس َت ْكم َل ْ ِ
اإل َ ْ َ
ب لِ َّل ِهَ ،و َأ ْبغ ََض لِ َّل ِه» هذا يتعلق بالقلب ،وقولهَ « :و َأ ْع َطى لِ َّلهَ ،و َمن ََع لِ َّل ِه» هذا يتعلقوغيرهما .وقولهَ « :م ْن َأ َح َّ
ب لِ َّل ِهَ ،و َأ ْبغ ََض لِ َّل ِهَ ،و َأ ْع َطى لِ َّل ِهَ ،و َمن ََع لِ َّل ِه» فيه كمال اإلنسان يف باطنه
بالعمل الظاهر .فقولهَ « :م ْن َأ َح َّ
وظاهره ،وإذا كمل الباطن والظاهر كمل اإليمان؛ إذا كمل باطن اإلنسان وكمل ظاهره يكون بذلك كمال
اإليمان.
ب لِ َّل ِه» أي :أحب اهلل -سبحانه وتعالى -وأصبح بنا ًء على حبه هلل ال يحب المرء إال هلل - فقولهَ « :م ْن َأ َح َّ
ِ ِ ِ
عز وجل -وال يبغضه إال هلل .وقولهَ « :و َأ ْع َطى ل َّلهَ ،و َمن ََع ل َّله» هذا فيه صالح الظاهر ،وهو ليس ً
خاصا
بالعطاء الذي هو عطاء المال والنفقة من المال ،بل هو أوسع من ذلك ،فيشمل العطاء ببذل جميع ما أمره
اهلل -سبحانه وتعالى -أن يقوم به مما افرتضه اهلل عليه وأمره بفعله ،فهو يتناول ذلك كله ،وعطاء المال
خاصا بمنع المال ،بل يشمل ويتناول االمتناع عن كل ما
يضا المقابل :المنع ليس ً
هو جزء من ذلك .وأ ً
شامال لصالح القلب وصالح الظاهر،
ً أمره اهلل -سبحانه وتعالى -باالمتناع عنه .فيكون الحديث هبذا
فالقلب حبه وبغضه هلل ،والظاهر عطاؤه ومنعه هلل ،فمن كان هبذه الصفة فقد استكمل اإليمان.
57 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
57
ان» فيه داللة ظاهرة وواضحة على أن اإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف،
يم َ وقولهَ « :ف َق ِد ْاس َتك َْم َل ْ ِ
ال َ
وأن من َكمل هذه الخصال َكمل إيمانه ،وأن من نقص منها نقص إيمانه بحسب ما نقص عنده من خصال
اإليمان .فاإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف ،وأهله ليسوا فيه على درجة واحدة.
يف اإلسناد شيخ المصنف « -قالَ :حد َثنَا م َحمد ْبن ع َب ْي ٍد» -وهو الطنافسي .ويف بعض النسخ فيه إضافة
«ع َب ْي ِد اهللِ» ،والصواب «ع َب ْيد» بغير إضافة.
قال:
ولَ ،ف َق َالَ :يا َأ َبا اشَ ،ع ْن ع َب ْي ِد اهللِ ْب ِن ع َب ْي ٍد ا ْل َك َال ِعي َق َالَ :أ َخ َذ بِ َي ِدي َم ْكح ٌ اعيل ْبن َعي ٍ ( )١29حد َثنَا إِسم ِ
ْ َ َ
اص»َ ،ف َشد بِ َق ْب َضتِ ِه َع َلى َيدَ ي ،ثم ف َتقول فِي َرج ٍل َت َر َك َص َال ًة َم ْكتو َب ًة م َت َعمدً ا؟ َفق ْلت« :م ْؤمِ ٌن َع ٍ بَ ،ك ْي َ َو ْه ٍ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن مكحول يف الحكم على تارك الصالة -ولو صالة واحدة -
متعمد ًا بأنه كافر .والمراد بالكفر هنا :األكرب الناقل من الملة ،وقد مر معنا قول النبي -عليه الصالة
ِ
والسالم« :ال َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ُم َّ
الص ََلةَُ ،ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر».
ف َتقول فِي َرج ٍل َت َر َك َص َال ًة قال عبيد اهلل بن عبيد الكالعيَ « :أ َخ َذ بِ َي ِدي َم ْكح ٌ
ولَ ،ف َق َالَ :يا َأ َبا َو ْه ٍ
بَ ،ك ْي َ
َم ْكتو َب ًة م َت َعمدً ا؟» وهذه الطريقة نافعة يف التعليم وضبط مسائل العلم :أن يطرح العالم على طالبه مسألة
فيسمع منه ،ثم يصحح له إن أخطأ ،أو يصوبه إن أصاب ،وهكذا فعل مكحول -رحمه اهلل تعالى -مع عبيد
ف َتقول فِي َرج ٍل َت َر َك َص َال ًة َم ْكتو َب ًة م َت َعمدً ا؟ َفق ْلت :م ْؤمِ ٌن َع ٍ
اص» - اهلل الكالعي .قالَ « :يا َأ َبا َو ْه ٍ
بَ ،ك ْي َ
اإليم ِ
ِ عاص َ « -ف َشد بِ َقب َضتِ ِه َع َلى يدَ ي ،ثم َق َال :يا َأبا و ْه ٍ ِ
ان ب ل َي ْعظ ْم َش ْأن ْ َ َ َ َ َ ْ ٍ حكم من كان كذلك أنه مؤمن
فِي َن ْف ِس َك» ،واهلل تعالى يقول :ﭿﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﭾ [البقرة ، ]١4٣ :ومنزلة الصالة من اإليمان منزلة العمود
ان فِي َن ْف ِس َك
اإليم ِ
ِ من البناء ،والصالة عماد الدين فمن تركها فقد كفر .فقال له« :يا َأبا و ْه ٍ ِ
ب ل َي ْعظ ْم َش ْأن ْ َ َ َ َ
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 58
قال:
اقَ ،ق َالَ :ق َال َعلِي َر ْح َمة اهللِ َع َل ْي ِه: (َ )١٣0حد َثنَا َأبو َخال ِ ٍد ْاألَ ْح َمرَ ،ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن َق ْي ٍ
سَ ،ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ
ب ِْ ِ ان بِمن ِْز َل ِة الر ْأ ِ ِ الص ْب ُر ِم َن ْ ِ
ان». يم ُ
ال َ الص ْب ُر َذ َه َ
ب َّس م َن ا ْل َج َسدَ ،فإِ َذا َذ َه َ َّ يم ِ َ ال َ « َّ
الشرح:
عبودية مكاهنا القلب -يحتاجه العبد يف جميع أعمال الدين ،وهو عبادة تصاحب المسلم يف كل أمور
الدين ،إن كانت طاعة فيحتاج فيها إلى صرب ليفعلها ،يحتاج إلى أن يحبس نفسه على فعلها ،وإن كانت
معصية فيحتاج إلى صرب يمنع به نفسه من فعلها ،وإن كانت من األقدار المؤلمة فيحتاج فيها إلى صرب يمنعه
من الجزع والتسخط والدعاء بدعوى الجاهلية .فالصرب مقامه من الدين عظيم ،وهو عبودية يحتاج إليها
59 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
س مِ َن ا ْل َج َس ِد»،
ان بِ َمن ِْز َل ِة الر ْأ ِ ِ ِ
اإليم ِ
59
المسلم يف جميع أعماله وجميع عباداته ،ولهذا قال ﭬ« :الص ْبر م َن ْ َ
وجسد بال رأس جثة هامدة ،وإنسان بال صرب ،إذا كان ال صرب عنده فكيف يؤدي العبادات؟ وإذا كان ال
صرب عنده كيف ينكف عن المنهيات والمعاصي؟ وإذا كان ال صرب عنده كيف تكون حاله عند المصائب
والملمات؟ فالصرب يحتاج إليه العبد حاجة ماسة يف أمور الدين كلها ،ولهذا كانت منزلته من الدين بمنزلة
ب الص ْبر َذ َه َ ِ
الرأس من الجسد .قالَ « :فإِ َذا َذ َه َ
ب ْاإل َ
يمان».
واألثر كما نبه الشيخ األلباين -رحمه اهلل تعالى -قال« :غير أن أبا اسحاق وهو السبيعي كان اختلط ولم
يسمع من علي ﭬ» .وجاء األثر من طريق أخرى يف «مصنف عبد الرزاق» رواه عن طريق معمر عن
الحكم بن أبان عن عكرمة عن علي وزاد فيه« :وال إيمان لمن ال صرب له» ،وهذه الزيادة فيها مكانة الصرب
من اإليمان ،وأن من ال صرب له ال إيمان له .كيف يستطيع أن يؤدي فرائض اإلسالم؟ وكيف يستطيع أن
ينتهي عن ما هناه اهلل -سبحانه وتعالى -عنه إذا لم يكن متحل ًيا بالصرب متص ًفا به؟
قال:
ار ﭬ َق َالَ « :ث ََلث َم ْن َج َم َع ُه َّن َج َم َع اقَ ،ع ْن ِص َلةََ ،ع ْن َعم ٍ انَ ،ع ْن َأبِي إِ ْس َح َيعَ ،ع ْن س ْف َي َ ِ
َ - 131حد َثنَا َوك ٌ
الس ََل ِم لِ ْل َعا َل ِم». اق ِم َن ْ ِ
ال ْقت ِ
َارَ ،و َب ْذ ُل َّ كَ ،و ْ ِ
ال ْن َف ُ اف ِم ْن َن ْف ِس َ
الن َْص ُ انِ ْ :
يم َ ِْ
ال َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر العظيم عن عمار بن ياسر -رضي اهلل عنه وأرضاه ،-ويروى
مرفو ًعا إلى النبي -عليه الصالة والسالم -وال يصح ،لكنه ثابت عن عمار -رضي اهلل عنه وأرضاه .-
يم َ ِ قالَ « :ث َال ٌ
ان» ،وهو هبذا ينبه إلى أن الثالث اآليت ذكرهن ه ّن جوامع الدين ،فمن ث َم ْن َج َم َعهن َج َم َع ْاإل َ
اجتمعت فيه اجتمع فيه اإليمان.
اإلن َْصاف مِ ْن َن ْف ِس َك» ،وبدأ به؛ ألنه أعظم هذه الخصال وأجلها .واإلنصاف من نفسه ،كون اإلنسان
قالِ ْ « :
ينصف من نفسه ،هذا متناول لإلنصاف من نفسه بينه وبين اهلل ألداء ما افرتض اهلل -سبحانه وتعالى -عليه،
واإلنصاف من نفسه بينه وبين العباد بأداء الحقوق ،وعدم االعتداء والظلم والبغي ونحو ذلك .ويتناول
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 60
اإلنصاف من نفسه تجاه نفسه لئال يظلمها بمعصية اهلل -تبارك وتعالى -ويعرضها لسخطه وعقابه ،فهو
يتناول ذلك كله.
اإل ْن َفاق مِ َن ْ ِ
اإل ْقت ِ
َار»« ،اإلنفاق» أي :البذل« ،من اإلقتار» أي :من الحاجة والفقر. وقولهَ « :و ْ ِ
وقولهَ « :و َب ْذل الس َال ِم ل ِ ْل َعا َل ِم» ،أي :لمن عرفت ومن لم تعرف ،فال تخص السالم بالمعرفة ،بل تسلم على
من لقيت ،وبالسالم السالمة ،وقد قال -عليه الصالة والسالم َ « :-أ ْف ُشوا َّ
الس ََل َم ت َْس َل ُموا» ،فالسالم فيه
أيضا المحبةَ « :أ َو َال َأ ُدلك ُْم َع َلى َش ْيء إِ َذا َف َع ْلت ُُمو ُه ت ََحا َب ْبت ُْم؟ َأ ْف ُشوا َّ
الس ََل َم َب ْينَك ُْم» .ففي إفشاء السالمة ،وفيه ً
أيضا شيوع المحبة بين المؤمنين.
السالم السالمة ،ويف إفشاء السالم ً
هذه خصال ثالثة عظيمة من جمعها جمع اإليمان كما قال ذلك عمار بن ياسر ﭬ .والبن القيم -رحمه
وشرح متين يف كتابه «زاد المعاد» على هذا األثر ،فنقف على كالمه -رحمه اهلل
ٌ تعليق نفيس
ٌ اهلل تعالى -
تعالى .-
قال ابن القيم -رحمه اهلل تعالى -يف كتابه «زاد المعاد يف هدي خير العباد» يف فصل :يف هديه ﷺ يف السالم
واالستئذان وتشيمت العاطس ،قال« :وقال البخاري يف صحيحه قال عمار :ثالث من جمعهن فقد جمع
اإليمان :اإلنصاف من نفسك ،وبذل السالم للعالم ،واإلنفاق من اإلقتار .وقد تضمنت هذه الكلمات
أصول الخير وفروعه؛ فإن اإلنصاف يوجب عليه أداء حقوق اهلل كاملة موفرة ،وأداء حقوق الناس كذلك،
وأن ال يطالبهم بما ليس له ،وال يحملهم فوق وسعهم ،ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه به ،ويعفيهم مما
يحب أن يعفوه منه ،ويحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه وعليها ،ويدخل يف هذا إنصافه نفسه من نفسه،
فال يدعي لها ما ليس لها ،وال يخبثها بتدنيسه لها ،وتصغيره إياها ،وتحقيرها بمعاصي اهلل ،وينميها ويكربها
ويرفعها بطاعة اهلل وتوحيده وحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه واإلنابة إليه وإيثار مرضاته ومحابه على
مراضي الخلق ومحاهبم ،وال يكون هبا مع الخلق وال مع اهلل ،بل يعزلها من البين كما عزلها اهلل ،ويكون
باهلل ال بنفسه يف حبه وبغضه وعطائه ومنعه وكالمه وسكوته ومدخله ومخرجه ،فينجي نفسه من البين ،وال
يرى لها مكانة يعمل عليها ،فيكون ممن ذمهم اهلل بقوله :ﭿﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀﭾ [األنعام.]١٣5 :
61 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
61 ِ
واألعمال لسيده» -أعماله ومنافعه ليست مستحق المناف ِع
َ فالعبد المحض ليس له مكانة يعمل عليها ،فإنه
له بل لسيده ،والمراد هنا أي :اهلل سبحانه وتعالى « -ونفسه م ْل ٌك لسيده ،فهو عامل على أن يؤدي إلى سيده
نجما حل عليه
أصال ،بل قد كوتب على حقوق منجمة ،كلما أدى ً
ما هو مستحق له عليه ،ليس له مكانة ً
نجم آخر ،وال يزال المكاتب عبدً ا ،ما بقي عليه شيء من نجوم الكتابة.
والمقصود أن إنصافه من نفسه يوجب عليه معرفة ربه ،وحقه عليه ،ومعرفة نفسه ،وما خلقت له ،وأن ال
يزاحم هبا مالكها وفاطرها ويدعي لها الملكة واالستحقاق ،ويزاحم مراد سيده ويدفعه بمراده هو ،أو
يقدمه ويؤثره عليه ،أو يقسم إرادته بين مراد سيده ومراده ،وهي قسمة ضيزى ،مثل قسمة الذين قالوا :ﭿ
ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ
فلينظر العبد ال يكون من أهل هذه القسمة بين نفسه وشركائه وبين اهلل لجهله وظلمه وإال لبس عليه وهو
جهوال ،فكيف يط َلب اإلنصاف ممن َوصفه الظلم والجهل؟ وكيف
ً ال يشعر؛ فإن اإلنسان خلق ظلو ًما
ينصف الخلق من لم ينصف الخالق؟ كما يف أثر إلهي «يقول اهلل عز وجل :ابن آدم ما أنصفتني ،خيري
وشر ك إلي صاعد ،كم أتحبب إليك بالنعم ،وأنا غني عنك ،وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت
إليك نازل ُّ
الم َلك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح».
فقير إلي ،وال يزال َ
ويف أثر آخر« :ابن آدم ما أنصفتني ،خلقتك وتعبد غيري ،وأرزقك وتشكر سواي».
غيره من لم ينصف نفسه وظلمها أقبح الظلم وسعى يف ضررها أعظم السعي ،ومنعها
ثم كيف ينصف َ
أعظم لذاهتا من حيث ظن أنه يعطيها إياها ،فأتعبها كل التعب وأشقاها كل الشقاء من حيث ظن أنه يريحها
ودساها كل التدسية وهو
ويسعدها ،وجد كل الجد يف حرماهنا حظها من اهلل ،وهو يظن أنه ينيلها حظوظهاّ ،
يظن أنه يكربها وينميها ،وحقرها كل التحقير وهو يظن أنه يعظمها ،فكيف يرجى اإلنصاف ممن هذا
إنصافه لنفسه؟ إذا كان هذا فعل العبد بنفسه فماذا تراه باألجانب يفعل؟
والمقصود أن قول عمار ﭬ« :ثالث من جمعهن فقد جمع اإليمان :اإلنصاف من نفسك ،وبذل السالم
للعالم ،واإلنفاق من اإلقتار» ،كالم جامع ألصول الخير وفروعه.
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 62
وبذل السالم للعالم يتضمن تواضعه ،وأنه ال يتكرب على أحد ،بل يبذل السالم للصغير والكبير ،والشريف
والوضيع ،ومن يعرفه ومن ال يعرفه ،والمتكرب ضد هذا؛ فإنه ال يرد السالم على كل من سلم عليه كربًا منه
وتيها ،فكيف يبذل السالم لكل أحد؟
ً
وأما اإلنفاق من اإلقتار فال يصدر إال عن قوة ثقة باهلل ،وأن اهلل يخلفه ما أنفقه ،وعن قوة يقين ،وتوكل،
وفضال ،وتكذي ًبا بوعد من
ً ورحمة ،وزهد يف الدنيا ،وسخاء نفس هبا ،ووثوق بوعد من وعده مغفرة منه
يعده الفقر ،ويأمر بالفحشاء .واهلل المستعان» .اهـ.
هذا كالم عظيم للغاية يف شرح وبيان معاين هذا األثر ،أثر عمار -رضي اهلل عنه وأرضاه .-ومِثل هذا
المرور على كالم ابن القيم $ليس كاف ًيا الستيعابه وفهمه ،ولكنني قصدت الداللة عليه ،فطالب العلم
يراجع هذا الكالم يف «زاد المعاد» ويتأمله مليا؛ فإنه عظيم غاية النفع ،وخاصة هذا البسط العظيم الذي
اإلن َْصاف مِ ْن َن ْف ِس َك».
ذكره -رحمه اهلل تعالى -لمعنى قول عمارِ ْ « :
قال:
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عمار ،وهو يف تفسير وبيان قوله تعالى :ﭿ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﭾ
[التوبة ]١2 :أي :الكفار ،ﭿ ﯖ ﯗ ﯘﭾ أي :ال عهود لهم وال مواثيق ،وإذا عادوا عهدً ا نكثوه ،وإذا أعطوا
ميثا ًقا لم يفوا ولم يلتزموا ،فهذه من خصال الكفار .فيستفاد من ذلك أن من خصال أهل اإليمان الوفاء
بالعهد ،الوفاء بالعهد هذا من خصال اإليمان ،فمن اإليمان ومن أعماله ومما يدخل يف مسماه الوفاء
بالعهد ،وعدم الوفاء به ليس من خصال أهل اإليمان ،وليس من شعب اإليمان ،بل هو من شعب الكفر.
ناقال من الملة.
كفرا ً
وكما أن الطاعات فروع لإليمان ،فإن المعاصي فروع للكفر وإن لم تكن ً
قال:
63 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
63
َان َيقولَ « :ال َيدْ ُخ ُل الن ََّار إِن َْسان فِي َق ْلبِ ِه ِم ْث َق ُال َح َّبة ِ (َ )١٣٣حد َثنَا َج ِر ٌيرَ ،ع ْن َمنْص ٍ
ورَ ،ع ْن إِ ْب َراه َ
يمَ ،ق َال :ك َ
ِ ِ
يمان». م ْن َخ ْر َدل م ْن إِ َ
الشرح:
ثم أورد – رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن إبراهيم ،وهو النخعي -رحمه اهلل تعالى ،-أنه قالَ « :ال َيدْ خل
ان» ،وقد مر معنا يف الحديث أن النبي -عليه الصالة ان فِي َق ْلبِ ِه مِ ْث َقال حب ٍة مِن َخرد ٍل مِن إِيم ٍ
الن َار إِن َْس ٌ
ْ َ ْ ْ َ َ
يم ِ ِ ِ ِ َّار من ك َ ِ ِ
ان» ،فيكون مراد إبراهيم النخعي - َان في َق ْلبِه م ْث َق ُال َذ َّرة م ْن إِ َ والسالم -قالَ « :يخْ ُر ُج م َن الن ِ َ ْ
رحمه اهلل تعالى -بكالمه هذا ،يكون مراده :نار الكفار التي يخلدون فيها أبد اآلباد ،فهذه النار ال يدخلها
من كان يف قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان .أما نار عصاة الموحدين ،فإنه يدخلها ويطهر فيها وينقى من
ذنوبه ،ثم بعد ذلك يدخل الجنة .فقول إبراهيمَ « :ال َيدْ خل الن َار» ،المراد بالنار أي :نار الكفار التي يخلدون
فيها ،على هذا يحمل كالمه -رحمه اهلل تعالى .-
قال:
يم ِ
ان :ا ْل ُحب ابَ ،ع ِن الص ْع ِق ْب ِن َح ْز ِن ا ْل َب ْك ِريَ ،ق َالَ :ق َال ﷺَ « :أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ
ال َ َ - 134حد َثنَا َز ْيد ْبن ا ْلح َب ِ
الشرح:
هذا اإلسناد وقع فيه سقط يف هذه النسخة « -كتاب اإليمان» -قال :حدثنا زيد بن الحباب ،عن الصعق بن
حزن البكري ،قال :حدثنا عقيل الجعدي ،عن أبي اسحاق ،عن سويد بن غفلة ،عن ابن مسعود .وهذه
الزيادة من «المصنف» سقطت من «كتاب اإليمان» ،فتلحق من «المصنف» البن أبي شيبة المصنف -
رحمه اهلل تعالى .-والشيخ األلباين -رحمه اهلل تعالى -قال يف التعليق عليه« :هو» -أي :الصعق بن حزن
البكري« -هو من أتباع التابعين وهو ثقة ،فالحديث معضل» ،لكن الواقع أن الحديث حصل يف إسناده
سقط ،فيكمل هذا السقط من «المصنف» البن أبي شيبة ،وساق الحديث عن ابن مسعود ﭬ وهو ثابت
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 64
ان :ا ْل ُحب فِي اهللَِ ،وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ» .وله
يم ِ عن النبي -عليه الصالة والسالم -أنه قالَ « :أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ
ال َ
وأيضا مر معنا الكالم على معناه.
شاهد سبق أن مر معنا من حديث الرباء برقم (ً ،)١١0
قال:
ِ ِ ِ ِ ِ ِ (َ )١٣5حد َثنَا َأبو أ َسا َمةََ ،ع ْن َج ِر ِير ْب ِن َح ِ
َبيسى ْبن َعاص ٍمَ ،حد َثني َعد ُّي ْبن َعد ٍّيَ ،ق َالَ :كت َ ازمٍَ ،حد ّثني ع َ
ِ اليم َ ِ ِ
ان َف َرائ ُضَ ،و َش َرائ ُعَ ،و ُحدُ ودَ ،و ُسنَنَ ،ف َم ِن ْ
اس َتك َْم َل َها ْاس َتك َْم َل إِ َلي ع َمر ْبن َع ْبد ا ْل َع ِز ِيزَ « :أ َّما َب ْعدُ َ ،فإِ َّن ْ ِ َ
انَ ،فإِ ْن َأ ِع ْش َف َس ُأ َب ِّين َُها َلك ُْم َحتَّى َت ْع َم ُلوا بِ َهاَ ،وإِ ْن َأنَا ِمت َق ْب َل
يم َ انَ ،و َم ْن َل ْم ي ْس َتك ِْم ْل َها َل ْم ي ْس َتك ِْم ِل ْ ِ
ال َ َ َ يم َ ِْ
ال َ
ك َف َما َأنَا َع َلى ُص ْح َبتِك ُْم بِ َحرِيص». َذلِ َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر العظيم عن عمر بن عبد العزيز -رحمه اهلل تعالى -أنه كتب كتا ًبا
يمان َف َرائِض» أي :افرتضها اهلل ِ ِ اإليم َ ِ
ان َف َرائضَ ،و َش َرائعَ ،وحدو ٌدَ ،وسنَ ٌن»ْ « .اإل َ
ِ
قال فيهَ « :أما َب ْعدَ ،فإِن ْ َ
على عباده وأوجب عليهم فعلهاَ « ،و َش َرائِع» أي :أوامر أمر اهلل -سبحانه وتعالى -عباده هباَ « ،وحدو ٌد»
أمر بعدم تعديها وهي كل ما هنى اهلل -سبحانه وتعالى -عباده عنهَ « ،وسنَ ٌن» أي :رغائب ومستحبات.
ِ
اس َت ْك َم َل ْاإل َ
يم َ
ان» ،وجميع هذه كلها داخلة يف مسمى اإليمان :الفرائض والشرائع قالَ « :ف َم ِن ْ
اس َت ْك َم َل َها ْ
والحدود والسنن ،كلها داخلة يف مسمى اإليمان ،فليس اإليمان شي ًئا يكون يف القلب فقط ،بل اإليمان
أيضا ذكر ،وتسبيح ،وهتليل ،وأمر بالمعروف ،وهني
أيضا قلبية ،وقول باللسان ،و ً
اعتقاد يف القلب وأعمال ً
أيضا أعمال يقوم هبا العبد
عن المنكر ،وغير ذلك من أعمال اللسان الداخلة يف مسمى اإليمان ،وكذلك ً
بجوارحه ،وهي فرائض أوجبها اهلل -سبحانه وتعالى -على عباده ،وحدود -محرمات هنى عباده أن
يفعلوها ،فرتكها إيمان وفعلها نقص لإليمان ،-ومستحبات من فعلها زاد إيمانه ،ومن لم يفعلها لم يأثم
بذلك ،ولم ينقص إيمانه الواجب برتكها؛ ألهنا مستحبات.
فالكمال كماالن :كمال واجب ،وكمال مستحب .وقول عمر -رحمه اهلل تعالى َ « :-ف َم ِن ْ
اس َت ْك َم َل َها
ِ
ان» يتناول االستكمال الواجب ويتناول االستكمال المستحب. اس َت ْك َم َل ْاإل َ
يم َ ْ
قالَ « :فإِ ْن َأ ِع ْش» يعني :إن أعطاين اهلل – جل وعال – فرصة أو فسحة يف العمر « َف َسأ َبين َها َلك ْم» ،وهذا يدل
على أهنا تفاصيل تحتاج إلى وقت لتشرح وتبين وتفصل .قالَ « :فإِ ْن َأ ِع ْش َف َسأ َبين َها َلك ْم َحتى َت ْع َملوا بِ َها».
وقولهَ « :حتى َت ْع َملوا بِ َها» ،هذا ً
أيضا فيه لفت انتباه إلى أن مقصود العلم العمل ،ليس المقصود من العلم
االستكثار من المعلومات ،وإنما المقصود منه العمل ،قالَ « :حتى َت ْع َملوا بِ َها» .وأما إذا كان اإلنسان يتعلم
وال نية عنده ،وال همة عنده تجاه العمل ،فعلمه حجة عليه ال له .قالَ « :حتى َت ْع َملوا بِ َهاَ ،وإِ ْن َأنَا مِ ُّت َق ْب َل
َذل ِ َك َف َما َأنَا َع َلى ص ْح َبتِك ْم بِ َح ِر ٍ
يص».
فهذا األثر من اآلثار العظيمة الجامعة لبيان اإليمان وتعريفه ،وأن اإليمان يشمل فرائض ،ويشمل شرائع،
وعمال فقد
ً علما
ويشمل البعد عن المحرمات ،ويشمل فعل الرغائب والمستحبات ،فمن استكمل ذلك ً
استكمل اإليمان.
قال:
ين ِم ْن َأ ْر َبع:
(َ )١٣٦حد َثنَا ا ْل َف ْضل ْبن د َك ْي ٍن ،نا ِه َشام ْبن َس ْع ٍدَ ،ع ْن َز ْي ِد ْب ِن َأ ْس َل َمَ ،ق َالَ « :ال ُبدَّ ِِلَ ْه ِل َه َذا الدِّ ِ
ان وتَص ِديق بِاهلل ِ وا ْلمرس ِلين َأولِ ِهم و ِ
آخرِ ِه ْمَ ،وبِا ْل َجن َِّة َوالن ِ ال ْس ََل ِمَ ،و َال ُبدَّ ِم َن ْ ِ
ُد ُخول فِي َد ْع َو ِة ْ ِ
َّار، َ ُ ْ َ َ َّ ْ َ يم ِ َ ْ ال َ
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 66
َكَ ،و َال ُبدَّ ِم ْن َأ ْن َت َع َّل َم ِع ْل ًما ت ُْح ِس ُن بِ ِه ِ ِ ِ ِ
َوا ْل َب ْعث َب ْعدَ ا ْل َم ْوتَ ،و َال ُبدَّ م ْن َأ ْن َت ْع َم َل َع َم ًَل ت َُصدِّ ُق بِه إِ َ
يمان َ
ك» ،ثم َق َر َأ :ﭿﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﭾ [طه.]٨2 :
َع َم َل َ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن زيد بن أسلم -رحمه اهلل تعالى -أنه قالَ « :ال بد ِألَ ْه ِل َه َذا
ين مِ ْن َأ ْر َب ٍع» ،ثم ذكرها.
الد ِ
ول فِي َد ْع َو ِة ْ ِ
اإل ْس َال ِم» ،وهذا فيه التنبيه على لزوم العناية بشرائع اإلسالم؛ ألن اإلسالم األمر األول« :دخ ٌ
إذا جمع مع اإليمان -كما هو يف هذا األثر -يقصد باإلسال ِم الشرائع كما مر معنا يف حديث جربيل ،قال:
الص ََلةََ ،وت ُْؤتِ َي ال َّزكَاةََ ،وت َُصو َم َر َم َض َ الس ََلم َأ ْن ت َْش َهدَ َأ ْن َال إِ َله إِ َّال اهلل و َأ َّن محمدً ا رس ُ ِ ِ
ان، يم َّ
ول اهللَ ،وتُق َ ُ َ ُ َ َّ َ ُ َ «ِْْ ُ
ت إِ َل ْي ِه َسبِ ًيَل» ،فهذا األمر األول. ت إِ ِن ْ
اس َت َط ْع َ َوت َُح َّج ا ْل َب ْي َ
ان» ،وشرح اإليمان بقولهَ « :تص ِد ٌيق بِاهللِ وا ْلمرسلِين َأول ِ ِهم و ِ
آخ ِر ِه ْم، اإليم ِِ ِ
ْ َ َ ْ َ َ ْ واألمر الثاينَ « :و َال بد م َن ْ َ
ث بعدَ ا ْلمو ِ
ِ َوبِا ْل َجن ِة َوالن ِ
ت» ،فهذا األمر الثاين ،ال بد من اإليمان .األمر األول اإلسالم بالعناية به، ارَ ،وا ْل َب ْع َ ْ َ ْ
وال سيما مباين اإلسالم الخمسة التي ذكرها النبي -عليه الصالة والسالم -يف حديث حربيل ،وذكرها
أيضا يف حديث ابن عمر ،ويف أحاديث كثيرة .وال بد من األمر الثاين وهو اإليمان ،وبين -رحمه اهلل تعالى
ً
-اإليمان بالتصديق باهلل وبالمرسلين أولهم وآخرهم ،وبالجنة والنار ،وبالبعث بعد الموت .هذا األمر
الثاين.
ِ ِ
واألمر الثالثَ « :و َال بد م ْن َأ ْن َت ْع َم َل َع َم ًال ت َصدق بِه إِ َ
يمان ََك» ،أي :ليس اإليمان مجرد التصديق واإلقرار
الذي يكون يف القلب ،بل ال بد أن يكون من العبد أعمال تصدق هذا اإليمان .وعرفنا فيما سبق أن أعمال
الجوارح تصدق القلب ،وأعمال الجوارح تسمى تصدي ًقا ،ومر معنا قول الحسن « :$إن اإليمان ليس
بالتحلي وال بالتمني ،إنما اإليمان ما وقر يف القلب وصدقه العمل» .فأعمال الجوارح تسمى تصدي ًقا،
ِ
ولهذا قال زيد َ « :$أ ْن َت ْع َم َل َع َم ًال ت َصدق بِه إِ َ
يمان ََك» ،أي :إيمانك الذي يف قلبك.
واألمر الرابعَ « :و َال بد مِ ْن َأ ْن َت َعل َم ِع ْل ًما ت ْح ِسن بِ ِه َع َم َل َك» ،أي :ال بد من أن تبني أعمالك على العلم .وقد
جاء عن عمر بن عبد العزيز -رحمه اهلل تعالى -أنه قال« :من تعبد بغير علم ،كان ما يفسد أكثر مما يصلح»؛
67 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
67
ألنه سيقوم ببدع وضالالت وبأعمال منكرات يظنها عبادات صحيحة مرضية عند اهلل -سبحانه وتعالى -
عمَل ليس عليه أمرنا فهو وهي بدع ال يقبلها اهلل منه؛ ألن النبي -عليه الصالة والسالم – قال« :من عمل ً
رد» أي :مردود على صاحبه غير مقبول منه .قالَ « :و َال بد مِ ْن» -وهذا األمر الرابع َ « -و َال بد مِ ْن َأ ْن َت َعل َم
ك» ،ثم َق َر َأ قول اهلل –سبحانه وتعالى :-ﭿ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭾ ِع ْل ًما ت ْح ِسن بِ ِه َع َم َل َ
[طه.]٨2 :
ويف هذه اآلية أن مغفرة اهلل ورحمته والفوز برضاه ال بد فيه من أعمال :ال بد فيه من توبة ،وال بد فيه من
إيمان ،وال بد فيه من أعمال صالحات ،وال بد فيه من لزوم الهداية وصراط اهلل المستقيم ،ال بد من لزوم
ذلك كله ليفوز العبد بمغفرة اهلل ورحمته ورضوانه ،فليست تنال بمجرد األماين ﭿ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ
ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭾ [النساء.]١2٣ :
قال:
ون لِ َع َمل ت ََر َك ُه َر ُجل (َ )١٣٧حد َثنَا َع ْبد ْاألَ ْع َلىَ ،ع ِن ا ْلج َر ْي ِريَ ،ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َش ِق ٍ
يق َق َالَ « :ما كَانُوا َي ُقو ُل َ
الص ََل ِةَ ،ف َقدْ كَانُوا َي ُقو ُل َ
ون :ت َْرك َُها ُك ْفر». ُك ْفر َغ ْي َر َّ
الشرح:
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن عبد اهلل بن شقيق ،وهو تابعي ثقة ،أدرك عد ًدا من أصحاب
ون» أي :الصحابة ﭫ الذين أدركهم« ،ل ِ َع َم ٍل َت َركَه َرج ٌل ك ْف ٌر َغ ْي َر الص َال ِة،
النبي ﷺ ،قالَ « :ما كَانوا َيقول َ
ونَ :ت ْرك َها ك ْف ٌر» ،والمراد بالكفر هنا األكرب الناقل من الملة.
َف َقدْ كَانوا َيقول َ
قال:
اشَ ،عن م ِغيرةََ ،ق َال :س ِمعت َش ِقي ًقا ،وس َأ َله رج ٌل :س ِمع َت ابن مسع ٍ
ود َيقول: َ ْ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ (َ )١٣٨حد َثنَا َأبو َب ْك ِر ْبن َعي ٍ ْ َ
َم ْن َش ِهدَ َأنه م ْؤمِ ٌن َف ْل َي ْش َهدْ َأنه فِي ا ْل َجن ِة؟ َق َالَ :ن َع ْم.
الشرح:
الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر 68
ثم أورد -رحمه اهلل تعالى -هذا األثر عن شقيق أن ابن مسعود ﭬ قالَ « :م ْن َش ِهدَ َأنه م ْؤمِ ٌن َف ْل َي ْش َهدْ َأنه
فِي ا ْل َجن ِة» ،والمراد باإليمان هنا :اإليمان المطلق الكامل ،كما مر شرح ذلك وبيانه ،وأن وصف اإليمان
إذا أطلق أو إذا ذكر هكذا على اإلطالق يتناول الدين كله ،وهذه تزكية للنفس ،فمن جزم لنفسه باإليمان
هذا الجزم -اإليمان الكامل التام -فليشهد لنفسه أنه يف الجنة .هذا مراد ابن مسعود ﭬ بقولهَ « :م ْن
َش ِهدَ َأنه م ْؤمِ ٌن» ،المراد باإليمان هنا الكامل .أما إذا ق ِصد أصل اإليمان فهذا ال حرج فيه ،وقد مر معنا
بعض اآلثار عن السلف وفيها إطالق اإليمان ،والمراد بذلك أصله .أما إذا أريد باإليمان تمام اإليمان
وكماله ،فال بد يف هذا المقام من استثناء بأن يقول« :أنا مؤمن أرجو» ،أو «أنا مؤمن إن شاء اهلل» ،أو «آمنت
باهلل» ،أو نحو ذلك من العبارات المأثورة عن السلف -رحمهم اهلل تعالى .-
قال:
الشرح:
ِ ِ ِ
ثم ختم هبذا األثر عن أبي وائل عن عاصم ،وهو ابن أبي النجود ،قال« :ق َيل ألَبِي َوائ ٍل :إِن ن ً
َاسا َي ْزعم َ
ون
ون الن َار» ،هكذا جاء يف طبعة «كتاب اإليمان» .وجاء يف «المصنف» بحذف «ال» َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َال َيدْ خل َ
ون الن َار» ،يف «المصنف» بحذف «ال» ويف «كتاب ون َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َيدْ خل َ
فجاءت العبارة هكذاَ « :ي ْزعم َ
اإليمان» مثبتة .ولعل األقرب -واهلل تعالى أعلم -إثباهتا ،ويكون المراد بالناس هنا « -إِن ن ً
َاسا َي ْزعم َ
ون»
ون َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َال َيدْ خل َ
ون الن َار» ،وهذا حسب عقيدة المرجئة أن األعمال ال تضر -أي :المرجئةَ « ،ي ْزعم َ
يف اإليمان ،ال يضر يف اإليمان ذنب ،فيزعمون أن المؤمنين ال يدخلون النار ،أي :أن المعاصي ال تؤثر،
فمن كان مؤمنًا ووقع يف الكبائر ال يدخل النار ،وهذه من عقيدة المرجئة.
ون الن َار .قالَ :ل َع ْمر َك َواهللِ إِن َح ْش َو َها َغ ْير ا ْلم ْؤمِنِي َن» ،حشو
ون َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َال َيدْ خل َ قال« :إِن ن ً
َاسا َي ْزعم َ
النار أي :الذين هم أهلها المخلدون فيها أبد اآلباد ،غير المؤمنين .أما عصاة الموحدين فإهنم يدخلون
69 شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول
69
النار دخول تطهير ال دخول تخليد وتأبيد ،وإنما الذي يدخل النار دخول تخليد وتأبيد هو الكافر كما قال
اهلل -سبحانه وتعالى :-ﭿﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﭾ [فاطر.]٣٦ :
الشرح:
ثم ختم كتابه «اإليمان» -رحمه اهلل تعالى -هبذه الخالصة لعقيدة أهل السنة والجماعة يف اإليمان ،أن
اإليمان عندنا -أي :أهل السنة والجماعة -قول وعمل ،يزيد ونقص .والمراد بالقول قول القلب عقيد ًة،
وقول اللسان نط ًقا وتل ّف ًظا .والمراد بالعمل أعمال القلوب ،وأعمال اللسان ،وأعمال الجوارح .فكل ذلكم
داخل يف مسمى اإليمان ،وهو يزيد وينقص ،ويقوى ويضعف ،وأهله ليسوا فيه على درجة واحدة ،وهذا
محل إجماع عند أهل السنة والجماعة ،وال خالف بينهم يف ذلك .وشواهد ذلك ودالئله يف الكتاب والسنة
كثيرة ،ومر معنا جملة منها يف هذا الكتاب المبارك «كتاب اإليمان» البن أبي شيبة.
ونسأل اهلل -عز وجل – لنا جمي ًعا التوفيق لما يحبه ويرضاه من سديد األقوال وصالح األعمال .واهلل
أعلم ،وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.