Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 218

‫شرح كتاب اإلميان‬

‫البن أبي شيبة رمحه اهلل‬

‫لفضيلة الشيخ‬
‫عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظه اهلل تعاىل‬

‫من الدرس (‪ )1‬إىل الدرس)‪(4‬‬

‫الشيخ مل يراجع التفريغ‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪2‬‬

‫الدرس األول‬

‫‪‬‬

‫إن الحمد هلل‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا‪ ،‬من‬
‫يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي له‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك‪ ،‬وأشهد أن محمد ًا‬
‫عبده ورسوله ‪ -‬صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫أما بعد‪،‬‬

‫فإننا أيها اإلخوة الكرام بين يدي قراءة كتاب قيم ومؤلف عظيم نافع يف أشرف مقصد وأجل مطلب؛ أال‬
‫وهو اإليمان الذي خَلقنا اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬ألجله وأوجدنا لتحقيقه‪ .‬واإليمان هو أجل األهداف‬
‫وأعظم الغايات وأنبلها على اإلطالق‪ ،‬وهو سبب كل خير وفضيلة يف الدنيا واآلخرة‪.‬‬

‫وثمرات اإليمان ال حصر لها وال عد‪ ،‬بل إن كل خير يناله العبد يف دنياه وأخراه وكل شر يصرف عنه هو‬
‫ثمرة من ثمار اإليمان ونتيجة من نتائجه‪ .‬وباإليمان يفوز العبد برضا اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وينال جنته‬
‫وينجو من سخطه وعقابه‪ ،‬ويفوز بأعظم كرامة وأجل منة‪ ،‬أال وهي رؤية اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يوم القيامة‬
‫ُم ك ََماِت ََر ْو َنِال َق َم َرِ َل ْي َلةَِال َبدْ ر ََِلِ‬
‫كما قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم – مخاط ًبا أهل اإليمان‪« :‬إِ َّنك ُْمِ َست ََر ْو َن َِر َّبك ِْ‬
‫يِرؤْ َيتهِ»(‪.)1‬‬
‫ونِف ُ‬
‫ت َُض ُام َ‬

‫وقد قال – عليه الصالة والسالم – يف دعائه العظيم الذي يرويه عمار بن ياسر‪ ،‬وهو دعاء طويل قال يف‬
‫ك‪ِ،‬‬ ‫كِ َل َّذةَِالنَّ َظرِإ َل َ‬
‫ىِو ْجه َ‬ ‫ين»‪ ،‬وقبلها قال‪« :‬و َأ ْس َأ ُل َ‬ ‫ًِم ْهتَد َِ‬
‫َاِهدَ اة ُ‬ ‫اج َع ْلن ُ‬
‫يمان‪َ ِ ،‬و ْ‬ ‫آخره‪« :‬ال َّل ُه َّمِ ز َِّينَّاِبزينَة ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫ين»(‪.)2‬‬ ‫اج َع ْلن ُ‬
‫َاِهدَ اة ًُِم ْهتَد َِ‬ ‫‪ِ،‬و ْ‬
‫يمان َ‬ ‫‪ِ،‬و ََلِف ْتن ٍَة ُِمض َّل ٍة‪ِ،‬ال َّل ُه َّمِز َِّينَّاِبزينَة ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫ٍ‬
‫ِض َّرا َء ُِمض َّرة َ‬ ‫الش ْو َقِإ َلىِل َقائ َ‬
‫كِفيِ َغ ْير َ‬ ‫َو َّ‬

‫ولهذا أقول أيها اإلخوة الكرام‪ :‬إهنا لنعمة عظيمة أن يوفق المسلم وطالب العلم لدراسة اإليمان والعناية‬
‫به ومذاكرته‪ ،‬فليحمد اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬على توفيقه ومنِّه‪ ،‬وليسأله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن يوفقه لإلخالص‬
‫المقرب إلى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ونيل ثوابه‬
‫ِّ‬ ‫وللعلم النافع الذي يسوق صاحبه إلى العمل الصالح‬
‫وأجره العظيم‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)554‬مسلم (‪ ،)633‬والرتمذي (‪ )2554‬واللفظ له‪ ،‬وأبو داود (‪ ،)4729‬وابن ماجه (‪.)177‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي (‪ ،)1305‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫‪3‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪3‬‬
‫وموضوع اإليمان كتب فيه أهل العلم – رحمهم اهلل تعالى‪ -‬كتابات نافعة ومؤلفات قيمة يف قديم الزمان‬
‫وحديثه‪ .‬وكتاب «اإليمان» للحافظ ابن أبي شيبة – رحمه اهلل تعالى – الذي نحن بصدد مدارسته ومذاكرته‬
‫هو معدود يف أوائل الكتب المؤلفة يف هذا الموضوع العظيم‪ ،‬يف جملة كتب ألفها أئمة السلف – رحمهم‬
‫اهلل تعالى – يف هذا الباب كـ«اإليمان» البن أبي شيبة‪ ،‬و«اإليمان» ألبي عبيد القاسم بن سالم‪ ،‬و«اإليمان»‬
‫للعدين‪ ،‬و«اإليمان» البن منده‪ ،‬وغيرها من كتب أهل العلم المؤلفة يف هذا الباب ‪.‬‬

‫ويمتاز كتاب «اإليمان» البن أبي شيبة ‪ $‬بكونه أتى على مهمات هذا الباب ومقاصده العظام‪ ،‬واعتنى‬
‫بسوق األحاديث عن رسول اهلل ﷺ و اآلثار المروية عن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان يف هذا الباب‬
‫المبارك‪.‬‬

‫وابن أبي شيبة معروف بعنايته باآلثار وروايته لها‪ ،‬ومؤلفه هذا «اإليمان» حوى جملة من اآلثار العظيمة‬
‫المتعلقة باإليمان‪ .‬وكتابه هذا المفرد يف اإليمان ضمنه ‪ $‬كتابه «المصنف»‪ ،‬ومن يقارن بين كتابه‬
‫«اإليمان» المفرد الذي بين أيدينا وكتاب اإليمان المضمن يف «مصنفه» – رحمه اهلل تعالى ‪ -‬يجد أهنما‬
‫شيء واحد مع فروق يسيرة جدً ا‪ ،‬كتقديم وتأخير يف بعض المواضع‪ ،‬واختصار يف بعض المواضع‪ ،‬وإال‬
‫فهما شيء واحد‪ ،‬وهو كتاب عظيم مبارك‪.‬‬

‫خالصا‬
‫ً‬ ‫نسأل اهلل الكريم الذي يسر لنا االجتماع لمدارسته أن ينفعنا به‪ ،‬وأن يجعل جلوسنا لتعلمه لوجهه‬
‫ولنا ناف ًعا‪ ،‬وأن يتقبل منا ذلك بقبول حسن‪ .‬ونبدأ مستعينين باهلل متوكلين عليه‪ ،‬ما شاء اهلل ال حول وال قوة‬
‫إال باهلل‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪4‬‬

‫قالِالحافظِأبوِبكرِعبدِاهللِبنِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويف‪:‬‬

‫(‪ )1‬حدثنا غندر‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن الحكم‪ ،‬قال‪ :‬سمعت عروة بن النزال يحدِّ ث‪ ،‬عن معاذ بن جبل ﭬ‪،‬‬
‫قال‪ :‬أقبلنا مع رسول اهلل ﷺ من غزوة تبوك‪ ،‬فلما رأيته خال ًيا قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أخبرني بعمل يدخلني‬

‫يمِالِ َّص ََلةَِا ْل َم ْكتُو َبة َ‬


‫َ‪ِ،‬وت َُِؤ ِّديِال َّزكَاةَِ‬ ‫ٍ‪ِ،‬و ُه َو َِيس ٌيرِ َع َل َ‬
‫ىِم ْن َِي َّس َر ُهِاهللُ‪ِ،‬تُق ُ‬ ‫الجنة‪ ،‬قال‪َ « :‬ب ْخ‪َ ِ،‬ل َقدْ َِس َأ ْل َ‬
‫تِ َع ْنِ َعظيم َ‬
‫اِر ْأ ُس ْ‬
‫ِالَ ْمرِ‬ ‫؟ِو َأ َّم َ‬ ‫ىِر ْأس ْ ِ‬
‫ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ‬
‫ِسنَامه َ‬ ‫ىِاهللَ ََِلِت ُْشر ُكِبه َِش ْيئًا‪َ ِ.‬أ َو ََل َِأ ُد ُّل َ‬
‫كِ َع َل َ‬ ‫َ‪ِ،‬و َت ْل َق ِ‬
‫وضة َ‬‫ا ْل َم ْف ُر َ‬
‫الص ََلةُ‪َ ِ،‬و َأ َّماِ ُذ ْر َوة َ ِ‬
‫ُِسنَامهِ َفا ْلج َها ُدِف َ‬
‫يِسبيلِاهللِ»‪.‬‬ ‫‪ِ،‬و َأ َّماِ َع ُمو ُد ُهِ َف َّ‬
‫َف ْاْل ْس ََل ُم َِم ْن َِأ ْس َل َم َِسل َم َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫بدأ اإلمام ابن أبي شيبة – رحمه اهلل تعالى – كتابه «اإليمان» هبذا الحديث‪ ،‬حديث معاذ بن جبل‪ ،‬وساق‬
‫عظيما‪ .‬وقد‬
‫ً‬ ‫هذا الحديث من طريقين‪ .‬والحديث حديث عظيم يف بابه‪ ،‬ومعاذ ﭬ سأل النبي ﷺ سؤ ًاال‬
‫أثنى النبي – عليه الصالة والسالم – على السؤال وبين عظمة األمر المسؤول عنه‪.‬‬

‫فيقول معاذ ﭬ‪« :‬أقبلنا مع رسول اهلل ﷺ من غزوة تبوك‪ ،‬فلما رأيته خال ًيا قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أخبرني‬
‫بعمل يدخلني الجنة»‪ .‬وجاء يف بعض روايات الحديث‪« :‬ويباعدني من النار»(‪ ،)1‬وجاء ً‬
‫أيضا يف بعض‬
‫روايات الحديث أنه ﭬ قال‪« :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ائذن لي أسألك عن كلمة قد أمرضتني وأسقمتني‬
‫وأحزنتني»(‪ )2‬يشير ﭬ إلى أنه مهتم غاية االهتمام هبذا األمر وحق له؛ ألن هذا األمر هو أعظم األمور‬
‫وأجلها‪ ،‬وهو نجاة العبد وفالحه وسعادته يف الدنيا واآلخرة‪ .‬ومن يطالع كتب السنة يجد من هذا نماذج‬
‫كثيرة جدً ا من حيث عناية الصحابة ﭫ وشدة اهتمامهم بما تكون به نجاة األمر؛ نجاة العبد من النار‬
‫وفوزه بجنات النعيم‪.‬‬

‫وأيضا لك أن تنتبه هنا‪ :‬يعني رجعوا من غزو‪ ،‬رجعوا من‬


‫فتحرى معاذ النبي ﷺ بعد العود من غزوة تبوك‪ً ،‬‬
‫عمل مبارك وعمل عظيم وعمل فاضل ثم يتحين فرص ًة مع النبي ﷺ فيسأل‪« :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أخبرني بعمل‬
‫يدخلني الجنة‪ ،‬ويباعدني من النار»! يقول ذلك وقد رجع من عمل مبارك وطاعة عظيمة وقربة جليلة‪،‬‬
‫وسيأيت يف الحديث نفسه أهنا ذروة سنام اإلسالم‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬جامع الرتمذي» (‪ ،)2616‬و«سنن ابن ماجه» (‪ ،)3973‬و«مسند أحمد» (‪ ،)22016‬وغيرهم‪.‬‬
‫(‪« )2‬مسند أحمد» (‪.)22122‬‬
‫‪5‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪5‬‬
‫فيثني النبي‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬على السؤال‪ ،‬قال – عليه الصالة والسالم ‪َ « :-‬ل َقدْ َِس َأ ْل َ‬
‫تِ َع ْنِ َعظي ٍِم»؛‬
‫وهذا فيه تنبيه على جودة السؤال وعظم نفعه وكبر فائدته‪ ،‬وأنه أعظم أمر ينبغي أن يسأل عنه وأن يعتنى به‪.‬‬
‫وهذا فيه تنبيه إلى أهمية فقه السؤال؛ كثير من الناس يسأل ولكن ال يحسن أن يسأل‪ ،‬وبعضهم يسأل وال‬
‫يدري لماذا يسأل‪ ،‬وبعضهم يسأل ويكون يف سؤاله نوايا ليست بطيبة ومقاصد ليست بحسنة وأغراض‬
‫ليست شريفة أحيا ًنا‪ .‬وفرق بين من يسأل مهتما غاية االهتمام بنجاته وفالحه وسعادته يف الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫وبين من يسأل ألغراض أخرى بعيدة وربما مقاصد أخرى ذميمة‪ ،‬شتان بين هؤالء وهؤالء‪ .‬نظير هذا‬
‫السؤال سؤال وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي – عليه الصالة والسالم – قالوا‪« :‬يا رسول اهلل إنا ال‬
‫نستطيع أن نأتيك إال في الشهر الحرام‪ ،‬وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر‪ ،‬فمرنا بأمر فصل‪ ،‬نخبر به‬
‫من وراءنا‪ ،‬وندخل به الجنة»(‪ .)1‬ولهذا السؤال نظائر كثيرة تدل على الهمة العالية والرغبة العظيمة يف‬
‫الصحابة ﭫ‪ ،‬والحرص البالغ على نجاة األمر والفوز بجنات النعيم‪ .‬قال‪« :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أخبرني بعمل‬
‫يدخلني الجنة‪ ،‬ويباعدني من النار» قال‪َ « :‬ل َقدْ َِس َأ ْل َ‬
‫تِ َع ْنِ َعظي ٍِم»‪.‬‬

‫ِاهللُ»؛ مع عظمة هذا األمر وعظمة مكانته‬ ‫ثم قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪َ « : -‬و ُه َو َِيس ٌيرِ َع َل َ‬
‫ىِم ْن ِ َي َّس َر ُه ِ‬
‫يسيرا على كل أحد‪ ،‬وإنما هو يسير على من يسره‬
‫وجاللة قدره وأنه أعظم مطلب إال أنه يسير‪ ،‬لكنه ليس ً‬
‫اهلل له‪ .‬اللهم يسرنا لليسرى‪ ،‬وجنبنا العسرى‪ ،‬وال تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين‪ .‬كان نبينا ‪ -‬عليه الصالة‬
‫يِو ََلِ َتن ُْص ْرِ‬
‫‪ِ،‬وان ُْص ْرن َ‬ ‫والسالم ‪ -‬يقول يف دعائه ‪ -‬صلوات اهلل وسالمه عليه ‪َ « :-‬ر ِّب َِأعن َ‬
‫ِّيِو ََلِ تُع ْنِ َع َل َّي َ‬
‫ِالهدَ ىِلي»(‪ ،)2‬ونبي اهلل موسى ڠ يقول يف دعائه‪ :‬ﭿﯘ‬
‫يِو َي ِّسر ُ‬ ‫يِو ََلِت َْمك ُْرِ َع َل َّي َ‬
‫‪ِ،‬و ْاهدن َ‬ ‫َع َل َّي َ‬
‫‪ِ،‬و ْامك ُْرِل َ‬
‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟﭾ [طه‪ . ]26 – 25 :‬فاألمر يسير لكن ليس على كل أحد‪ ،‬وإنما هو يسير على من‬
‫يسره اهلل عليه‪ .‬وهذا فيه أن األمر بيد اهلل ‪ -‬جل وعال ‪ -‬من قبل ومن بعد‪ ،‬وأن العبد ال نجاة له وال فالح‪،‬‬
‫وال قيام بطاعة وال سالمة من معصية‪ ،‬إال إذا أعانه اهلل وسدده ووفقه وهداه وأصلحه‪ ،‬فاألمر بيده ‪ -‬عز‬
‫عسيرا‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫ِاهللُ» أي ليس ً‬ ‫وجل‪ .-‬ولهذا نبه النبي ﷺ على هذا األمر العظيم‪ ،‬قال‪َ « :‬و ُه َو َِيس ٌيرِ َع َل َ‬
‫ىِم ْن َِي َّس َر ُه ِ‬
‫وال صع ًبا وال شاقًا‪ ،‬بل هو يسير ولكن ليس لكل أحد‪ ،‬إنما هو يسير لمن يسره اهلل له‪ .‬فما أحوج العبد‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ )53‬واللفظ له‪ ،‬ومسلم (‪.)17‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي (‪ ،)3551‬وابن ماجه (‪ )3830‬هبذا اللفظ‪ ،‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪6‬‬

‫وأشد افتقاره إلى أن يلح على اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن ييسر له اليسرى ﭿ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ‬

‫ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﯚ ﯛ ﯜ ﭾ [الليل‪.]10 – 5 :‬‬

‫والمطلوب من العبد يف هذا المقام أمران حتى يفوز هبذا المطلب‪ .‬األول‪ :‬الدعاء واللجوء إلى اهلل والطلب‬
‫منه واإللحاح عليه؛ ألن التيسير بيده والتوفيق بيده ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬واألمر الثاين‪ :‬أن يبذل األسباب‪.‬‬
‫وكالهما واضح يف الحديث‪.‬‬

‫ِاهللُ»‪ ،‬وأما الثاين‪ :‬يف األعمال التي ذكرها النبي – عليه‬ ‫أما األمر األول‪ :‬فمن قوله‪َ « :‬و ُه َو َِيس ٌيرِ َع َل َ‬
‫ىِم ْن َِي َّس َر ُه ِ‬
‫الصالة والسالم – اآليت ذكرها والكالم عنها‪ ،‬مما يدل على أن العبد البد أن يجاهد نفسه على فعل‬
‫الصالحات والتقرب إلى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬باألعمال الزاكيات‪ ،‬بد ًءا بفرائض اإلسالم وواجبات‬
‫الدين‪ ،‬ثم مجاهدة النفس على أبواب الرب األخرى‪.‬‬

‫ىِاهللَ ََِلِ ت ُْشر ُكِبهِ‬


‫َ‪ِ،‬و َت ْل َق ِ‬
‫وضة َ‬‫َ‪ِ،‬وت َُِؤ ِّديِال َّزكَاةَِا ْل َم ْف ُر َ‬
‫يمِال َّص ََل َةِا ْل َم ْكتُو َبة َ‬
‫قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ِ« :-‬تُق ُ‬
‫َش ْيئًا»‪ .‬ذكر هنا ً‬
‫أمورا ثالثة من مباين اإلسالم‪ ،‬وكما يعلم الجميع اإلسالم بني على خمس‪ :‬شهادة أن ال إله‬
‫إال اهلل وأن محمدً ا رسول اهلل‪ ،‬وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وحج بيت الحرام‪ .‬وذكر من‬
‫هذه المباين الخمس ثالثة أمور وهي‪ :‬الشهادة‪ ،‬وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ .‬وجاء يف بعض طرق الحديث‬
‫ِالص ََلةَ‪ِ،‬‬
‫يم َّ‬‫ًا‪ِ،‬وتُق ُ‬ ‫ىِم ْن َِي َّس َر ُهِاهللُِ َع َل ْيه‪َ ِ،‬ت ْع ُبدُ ِاهللَ ََِلِت ُْشر ُِ‬
‫كِبه َِش ْيئ َ‬ ‫ذكر هذه الخمس كلها‪ ،‬قال‪َ « :‬وإ َّن ُهِ َل َيس ٌيرِ َع َل َ‬
‫ج ِا ْل َب ْي َ ِ‬
‫ت»(‪ ،)1‬فذكر – عليه الصالة والسالم – األمور الخمسة‪ ،‬ثم‬ ‫‪ِ،‬وت َُح ُّ ِ‬
‫ان َ‬‫‪ِ،‬وت َُصو ُم َِر َم َض َ‬
‫َوت ُْؤتيِال َّزكَا َِة َ‬
‫ِجنَّةٌ‪ِ،‬‬ ‫كِ َع َل َ‬
‫ىِأ ْب َوابِا ْلخَ ْير َّ‬
‫؟ِالص ْو ُم ُ‬ ‫أعقبها يف بعض طرق الحديث بقوله – عليه الصالة والسالم ‪َ « :-‬أ ََل َِأ ُد ُّل َ‬
‫ِج ْوفِال َّل ْيلِ»(‪ ،)2‬ثم تال – عليه الصالة‬
‫ُِالر ُجلِم ْن َ‬
‫‪ِ،‬و َص ََلة َّ‬ ‫اِي ْطف ُئِا ْل َما ُِء ِالن َِ‬
‫َّار َ‬ ‫الصدَ َقةُِ ُت ْطف ُئِا ْلخَ طي َئةَِ ك ََم ُ‬
‫َو َّ‬
‫والسالم ‪ :-‬ﭿﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬

‫ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﭾ [السجدة‪.]17 – 16 :‬‬

‫وانتبه هنا لرتتيب الحديث‪ :‬معاذ ﭬ سأل عن نجاة األمر‪ ،‬فدله ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬على مباين‬
‫اإلسالم‪ ،‬بمعنى أن من فعل مباين اإلسالم وحافظ عليها دخل الجنة ونجا من النار؛ وهي خمسة‪ ،‬من فعلها‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬كما يف رواية الرتمذي (‪ )2616‬واللفظ له‪ ،‬وابن ماجه (‪ ،)3973‬وأحمد (‪ ،)22016‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫‪7‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪7‬‬
‫وحافظ عليها ولقي اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬هبا محاف ًظا عليها دخل الجنة ونجا من النار‪ .‬ثم يأيت بعد هذه‬
‫المباين أعمال تكون هبا الرفعة‪ ،‬أما نجاة األمر فتكون بفرائض الدين وواجباته‪ ،‬وما زاد على ذلك أعمال‬
‫كِ َع َل َ‬
‫ىِأ ْب َوابِا ْلخَ ْير؟» يعني‬ ‫تكون هبا رفعة اإلنسان‪ .‬ولهذا قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬بعد ذلك‪َ « :‬أ ََل َِأ ُد ُّل َ‬
‫يضا هي أبواب‬
‫أمورا أ ً‬
‫إذا عرفت نجاة األمر ‪ -‬ما يكون به نجاتك من النار ودخولك الجنة ‪ -‬اعلم أن هناك ً‬
‫يف الخير وأبواب يف رفعة الدرجات وعلو المنازل‪.‬‬

‫ثم أخذ يب ِّين له أمثلة من أعظم ما تكون به رفعة العبد؛ فذكر الصيام وأنه جنة‪ ،‬ومعنى أنه جنة أي جنة من‬
‫أيضا من النار‪ .‬الصيام جنة لصاحبه من المعاصي؛ ألن فيه رياض ًة للنفس وهتذي ًبا‪ ،‬وتقوى‬
‫المعاصي وجنة ً‬
‫للقلب‪ .‬وإذا سلم العبد من المعاصي وأصبح عنده جنة منها سلم من العواقب الوخيمة المرتتبة على‬
‫يِسبيلِاهللِ َبا َعدَ ِاهللُِ َب ْينَ ُه َِو َب ْي َنِالنَّارِب َذل َ‬
‫كِا ْل َي ْومِ‬ ‫ِصا َم َِي ْو ًماِف َ‬
‫المعاصي‪ ،‬فكان صيامه جنة له من النار‪ .‬و« َم ْن َ‬
‫ين ِ َخري ًفاِ»(‪ .)1‬الصيام جنة لصاحبه من النار‪ ،‬وصالة الرجل من جوف الليل ً‬
‫أيضا جنة لصاحبه من‬ ‫َس ْبع َِ‬
‫النار‪ ،‬ورفعة درجات وعلو منازل عند اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬وهذا فيه أن هذه الطاعات كفارات وفيها‬
‫رفعة درجات وعلو منازل لصاحبها‪.‬‬

‫فجمع النبي – عليه الصالة والسالم – يف هذا الحديث بين التقرب إلى اهلل بالفرائض وهي أحب شيء إلى‬
‫اهلل‪ ،‬ثم التقرب إليه بالنوافل‪ ،‬كما جمع اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬بينهما يف الحديث القدسي حيث قال‪َ « :‬و َماِ‬
‫ِحت ُ‬ ‫ٍ‬
‫اِيز َُالِ َع ْبد َ‬
‫يِي َت َق َّر ُبِإ َل َّيِبالن ََّوافل َ‬ ‫تِ َع َل ْيه َ‬ ‫َت َق َّر َبِإ َل َّيِ َع ْبديِب َش ْيء َِأ َح َّ‬
‫بِإ َل َّيِم َّماِا ْفت ََر ْض ُ‬
‫(‪)2‬‬
‫َّىِأح َّب ُِه»‬ ‫‪ِ،‬و َم َ‬
‫إلى آخر الحديث‪.‬‬
‫ٍ‬
‫تِ َع َل ْيهِ»‪ ،‬هذه فرائض اإلسالم‪ ،‬مباين اإلسالم‬ ‫فقوله‪َ « :‬و َماِ َت َق َّر َبِإ َل َّيِ َع ْبديِب َش ْيء َِأ َح َّ‬
‫بِإ َل َّيِم َّماِا ْفت ََر ْض ُ‬
‫التي ذكرها النبي ﷺ يف حديث ابن عمر‪ ،‬وذكرها يف حديث معاذ هذا‪ ،‬وغيرهما من األحاديث‪.‬‬

‫اِيز َُالِ َع ْبد َ‬


‫يِي َت َق َّر ُبِإ َل َّيِبالن ََّوافلِ»‪ ،‬هذا باب الرغائب والمستحبات وهو باب واسع‪ ،‬وإليه‬ ‫وقوله‪َ « :‬و َم َ‬
‫كِ َع َل َ‬
‫ىِأ ْب َوابِا ْلخَ ْير؟»‪.‬‬ ‫اإلشارة يف قول النبي – عليه الصالة والسالم ‪ -‬يف حديث معاذ‪َ ِ« :‬أ ََل َِأ ُد ُّل َ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)2840‬ومسلم (‪ ،)1153‬والنسائي (‪ )2254‬واللفظ له‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪.)6502‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪8‬‬

‫ىِر ْأس ْ ِ‬
‫ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ‬
‫ِسنَامه؟» ولعلكم‬ ‫ثم قال – عليه الصالة والسالم – بعد ذلك‪َ « :‬أ َو ََلِِ َأ ُد ُّل َ‬
‫كِ َع َل َ‬
‫تالحظون هنا السخاء؛ سخاء العلم والبيان والتعليم‪ ،‬يعني سؤال معاذ ﭬ انتهى يف الجواب األول الذي‬
‫وأمورا‬
‫ً‬ ‫أمورا‬
‫ذكر فيه – عليه الصالة والسالم ‪ -‬مباين اإلسالم‪ ،‬ولكن زاده النبي – عليه الصالة والسالم – ً‬
‫يف التعليم والبيان‪ .‬ونظير هذا كثير يف أحاديثه – عليه الصالة والسالم – بل حياته كلها ‪ -‬عليه الصالة‬

‫والسالم ‪ -‬سخاء علمي‪ ،‬وتعليم لألمة وحرص ونصح ﭿ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ‬

‫ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﭾ [التوبة‪.]128 :‬‬

‫ىِر ْأس ْ ِ‬
‫ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ‬
‫ِسنَامه؟»‪ .‬رأس األمر‪ ،‬أي‪ :‬األمر الذي بعث ألجله ‪ -‬عليه‬ ‫قال‪َ « :‬أ َو ََل َِأ ُد ُّل َ‬
‫كِ َع َل َ‬
‫الصالة والسالم ‪ ،-‬وخلق الناس وأوجدوا لتحقيقه‪ .‬المراد باألمر الدين‪ .‬مثله قوله – عليه الصالة والسالم‬
‫َاِه َذا‪ ،)1(»...‬األمر أي‪ :‬الدين الذي خلق الناس ألجله‪ ،‬وأوجدوا لتحقيقه‪.‬‬ ‫ثِف َ‬
‫يِأ ْمرن َ‬ ‫‪َ « :-‬م ْن َِأ ْحدَ َ‬

‫ىِر ْأس ْ ِ‬
‫ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ‬
‫ِسنَامه؟» ثم بين ذلك ‪ -‬عليه الصالة والسالم – والحظ‬ ‫قال‪َ « :‬أ َو ََلِ َأ ُد ُّل َ‬
‫كِ َع َل َ‬
‫أيضا هنا أسلوب التشوبق يف التعليم والبيان منه ‪ -‬صلوات اهلل وسالمه عليه ‪« :-‬أَلِأخبرك»‪ ،‬ثم يذكر‬
‫ً‬
‫أمورا عظيمة‪ :‬رأس األمر‪ ،‬وعموده‪ ،‬وذروة سنامه‪ .‬القلب الحريص يكون حينئذ يف غاية الشوق وتمام‬
‫ً‬
‫الرغبة أن يعرف رأس األمر وعموده وذروة سنامه‪ .‬مثل هذا‪ ،‬لو أردت أن تع ِّلم هذه المسألة بعض الطالب‬
‫المبتدئين أو الناشئين تقول‪ :‬هل تعرف رأس الدين؟ وهل تعرف عمود الدين؟ وهل تعرف ذروة سنام‬
‫الدين؟ تكون هبذه الطريقة هيأته وشوقته ورغبته يف تحصيل الفائدة على أتم حال‪ .‬قال‪َ « :‬أ َو ََل َِأ ُد ُّل َ‬
‫كِ َع َلىِ‬
‫َر ْأس ْ ِ‬
‫ِالَ ْمر َِو َع ُموده َِو ُذ ْر َوة َ ِ‬
‫ِسنَامه؟»‪.‬‬

‫اِر ْأ ُس ْ‬
‫ِالَ ْمرِ َف ْاْل ْس ََل ُِم»‪ ،‬والمراد باإلسالم هنا الشهادتان‪ :‬شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمدً ا‬ ‫قال‪َ « :‬و َأ َّم َ‬
‫رسول اهلل‪ .‬المراد برأس األمر هنا التوحيد بنوعيه توحيد المرسل و المرسل؛ توحيد المرسل الذي هو اهلل‬
‫رب العالمين باإلخالص وإفراده ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬بجميع أنواع العبادة‪ ،‬وتوحيد المرسل الذي هو‬
‫النبي الكريم – عليه الصالة والسالم ‪ -‬باالتباع ولزوم هنجه – صلوات اهلل وسالمه عليه ‪ -‬وهذا هو معنى‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمد ًا رسول اهلل‪ .‬فالمراد باإلسالم هنا الشهادتان‪ ،‬وتحقيق الشهادتين‬
‫وباطنًا‪ ،‬هذا هو رأس األمر وأساس الدين‪ ،‬والدين كله قائم على الشهادتين‪ ،‬وال يكون دخول لهذا الدين‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)2697‬ومسلم (‪.)1718‬‬
‫‪9‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪9‬‬
‫إال هبما‪ ،‬وال تنفع صالة وال صيام وال حج وال صدقة وال غير ذلك من أعمال الرب إال إذا كانت تلك‬
‫األعمال قائمة على الشهادتين‪ .‬فالشهادتان من الدين بمنزلة الرأس من الجسد‪ ،‬وجسد بال رأس جثة‬
‫هامدة‪ ،‬واألعمال الصالحات وإن كثرت وتنوعت وتعددت بدون الشهادتين تحقي ًقا لهما فهي أعمال‬
‫قائما على‬
‫حابطة ليست مقبولة‪ ،‬ال يقبل اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أي عمل من األعمال إال إذا كان ً‬
‫اِر ْأ ُس ْ‬
‫ِالَ ْمرِ َف ْاْل ْس ََل ُمِ»‬ ‫الشهادتين‪ :‬اإلخالص للمعبود والمتابعة للرسول ﷺ‪ ،‬فهذا هو رأس األمر‪َ « ،‬و َأ َّم َ‬
‫ظاهرا وباطنًا بأن يخلص الدين هلل‬
‫ً‬ ‫أي‪ :‬شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمد ًا رسول اهلل‪ ،‬وتحقيق الشهادتين‬
‫وأن يجرد المتابعة للرسول الكريم – عليه الصالة والسالم –‪ ،‬هذا رأس األمر‪ .‬فإذا وجدت من إنسان‬
‫أعمال كثيرة جدً ا وطاعات متنوعة وصدقات‪...‬إلخ‪ ،‬فإهنا ال تفيده إذا كانت بدون رأس األمر‪ .‬مثل تلك‬
‫األعمال مثل جسد بال رأس‪ .‬فهذا يبين لنا مكانة الشهادتين من الدين وأهنما للدين بمنزلة الرأس‪ .‬قال‪:‬‬
‫اِر ْأ ُس ْ‬
‫ِالَ ْمرِ َف ْاْل ْس ََل ُمِ»‪ِ.‬‬ ‫« َو َأ َّم َ‬

‫أيضا فيه مكانة الصالة من الدين وأهنا من الدين بمثابة العمود‪ ،‬ومن المعلوم‬ ‫« َو َأ َّماِ َع ُمو ُد ُهِ َف َّ‬
‫الص ََل ُِة»‪ ،‬وهذا ً‬
‫أن العمود ال يقوم البناء إال عليه‪ ،‬البناء ال يقوم إال على عماده‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وال عماد إذا لم ترس أوتاد‬ ‫والبيت ال يبتنى إال على عمد‬

‫(‪)2‬‬ ‫َل ُِم ِ َِع َِلىِخَِ ْمِ ٍ‬


‫سِ»‬ ‫س َِ‬
‫اْل ْ ِ‬
‫يِ ْ ِ‬
‫ولهذا سمى النبي – عليه الصالة والسالم – أركان اإلسالم بالمباين‪ ،‬قال‪ُِ « :‬بنِ َِ‬

‫ألنِبناء الدين ال يقوم إال عليها‪ .‬فالصالة عماد الدين‪ ،‬قال‪َ « :‬و َأ َّماِ َع ُمو ُد ُهِ َف َّ‬
‫الص ََل ُِة»‪ ،‬وقد جاء يف حديث‬
‫ن ِت ََرك ََها ِ َف َقدِْ ِ َك َف َِر»(‪.)3‬‬ ‫آخر عنه – صلوات اهلل وسالمه عليه ‪ -‬قال‪« :‬ال َع ْهدُِ ِا َّلذي ِ َب ْينَنَا ِ َو َب ْين َُه ُِم ِ َّ‬
‫الص ََلةُ‪َ ِ ،‬ف َم ِْ‬
‫َت ِ َل ُِهِ‬ ‫ن ِ َحا َف َِ‬
‫ظ ِ َع َل ْي َها ِكَان ْ ِ‬ ‫وجاء يف حديث آخر أن الصالة ذكرت عنده – عليه الصالة والسالم ‪ -‬فقال‪َ « :‬م ِْ‬
‫َلِن ََجا ًِةِ َو َي ْأتيِ َي ْو َِمِا ْلق َي َامةِِ‬
‫َلِ ُب ْر َهانًاِ َو َ ِ‬ ‫ُنِ َل ُِهِن ً‬
‫ُوراِ َو َ ِ‬ ‫نِ َل ِْمِ ُي َحاف ِْ‬
‫ظِ َع َل ْي َهاِ َل ِْمِ َتك ِْ‬ ‫ُوراِ َو ُب ْر َهانًاِ َون ََجا ًِةِ َي ْو َِمِا ْلق َي َامة‪َ ِ،‬و َم ِْ‬
‫ن ً‬
‫فِ»(‪ .)4‬أبي بن خلف هذا كان ألد خصوم النبي – عليه الصالة‬ ‫ان ِو ُأبيِ ِبنِ ِ َخ َل ٍ‬ ‫َم َِع ِ َق ُار َِ‬
‫ون ِ َوف ْر َع ْو َنِ ِ َو َه َام َِ َ َ ِّ ْ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬البيت منسوب إلى األفوه األودي‪ ،‬شاعر يماين جاهلي‪ ،‬واسمه صالءة بن عمرو بن مالك‪ .‬تويف ‪ 50‬قبل الهجرة‪ .‬انظر «األعالم» للزركلي‬
‫(‪.)206/3‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ ،)8‬ومسلم (‪.)16‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي (‪ ،)2621‬والنسائي (‪ ،)463‬وابن ماجه (‪ ،)1079‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه أحمد (‪ )6576‬بإسناد حسن‪ ،‬وابن حبان (‪ ،)1467‬والدارمي (‪ )2763‬كذلك‪ ،‬وحسنه الشيخ ابن باز يف «مجموع فتاويه»‬
‫(‪.)278/10‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪10‬‬

‫والسالم – وأشدهم عداوة له – صلوات اهلل وسالمه عليه – ومن ال يصلي يحشر جن ًبا إلى جنب مع هذا‬
‫العدو اللدود للرسول الكريم – عليه الصالة والسالم – ومع فرعون ومع هامان ومع أعمدة الكفر‬
‫وصناديد الباطل شاء أم أبى؛ ألنه برتكه للصالة وتضييعه لها حكم على نفسه هبذا المآل والعياذ باهلل ‪.‬‬

‫فالصالة عماد الدين قال‪َ « :‬و َأ َّماِ َع ُمو ُد ُهِ َف َّ‬


‫الص ََل ُِة» وليتضح األمر تذكر الخيمة التي لها أوتاد وعمود يف‬
‫وسطها تقوم عليه الخيمة ‪ ،‬عندما ينتزع ذلك العمود من وسطها تجد أن الخيمة منبسطة على األرض وال‬
‫تصلح ألن يسكن فيها وال أن ينتفع هبا‪ .‬فمنزلة الصالة من الدين منزلة العمود من الخيمة وشيء ضاع‬
‫عماده ال ينتفع به ‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬و َأ َّماِ ُذ ْر َوة َ ِ‬


‫ُِسنَامهِ َفا ْلج َها ُدِف َ‬
‫يِسبيلِاهللِ» ذروة السنام أي‪ :‬أعاله وأرفعه‪ ،‬وهذا فيه مكانة الجهاد وأن‬
‫بالجهاد علو الدين ورفعته وقوة أهله وقوة شكيمتهم وقوة هيبتهم‪ .‬فذروة سنامه الجهاد يف سيبل اهلل إلعالء‬
‫كلمة اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ليكون الدين كله هلل‪ ،‬هذا ذروة سنام الدين‪ .‬قال ‪َ « :‬و َأ َّماِ ُذ ْر َوة َ ِ‬
‫ُِسنَِامهِ َفا ْلج َها ُدِ‬
‫يِسبيلِاهللِ»‪.‬‬
‫ف َ‬

‫ثم قال يف بعض طرق الحديث ‪« :‬قال‪َ ِ :‬أ ََلِ ِ ُأ ْخب ُر َكِ ِب َم ََلكِ ِ َذل َ‬
‫كِ ِ ُك ِّلهِ؟ قلت‪ :‬بلى يا نبي اهلل‪ ،‬فأخذ بلسانه‪،‬‬
‫كِ َه َذاِ»(‪ .)1‬وهذا يبين الخطورة العظيمة البالغة للسان وأن هذه الجارحة الصغيرة لها خطر‬
‫قال‪ِ:‬كُفَِِّ َع َل ْي َ ِ‬
‫عظيم جدً ا حتى أن النبي – عليه الصالة والسالم – قال يف حديث آخر صح عنه‪« :‬إ َذاِِ َأ ْص َب َحِِا ْب ُنِِآ َد َمِِ َفإ َِّنِ‬
‫اس َت َق ْمنَاِِ َوإ ْنِِِا ْع َو َج ْج َِ‬
‫تِ‬ ‫ك‪َ ِِ،‬فإ ْنِِِ ْاس َت َق ْم َ ِ‬
‫تِِ ْ‬ ‫انِِ َف َت ُق ُ ِ‬
‫ول‪ِِ:‬اتَّقِِِاهللَِِِفينَاِِ َفإن ََّماِِن َْح ُِ‬
‫نِِب َ‬ ‫الَ ْع َضا َءِِِ ُك َّل َهاِِِ ُت َك ِّف ُِرِِال ِّل َس َِ‬
‫ا ْع َو َج ْجنَا»(‪ .)2‬واإلنسان بأصغريه القلب واللسان‪.‬‬

‫ْكِ ُأ ُّم َ ِ‬
‫كِ َياِ ُم َعا ُذ‪َ ِ،‬و َه ْلِِ‬ ‫كِ َه َذاِ‪ ،‬فقلت‪ :‬يا نبي اهلل‪ ،‬وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال‪َ :‬ثك َلت َ ِ‬
‫قال‪« :‬كُفَِِّ َع َل ْي َ ِ‬
‫َل ِ َح َصائدُِ ِ َأ ْلسنَته ِْم»(‪ )3‬أي‪ :‬إال ما يحصدونه يوم‬
‫ى ِ ُو ُجوهه ِْم ِ َأ ِْو ِ َع َلى ِ َمنَاخره ِْم ِإ َّ ِ‬
‫َّاس ِفي ِالنَّارِ ِ َع َل ِ‬
‫ُب ِالن َ ِ‬
‫َيك ُّ ِ‬
‫القيامة من جنايات اللسان وأخطار اللسان على اإلنسان‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬كما يف رواية الرتمذي (‪ )2616‬واللفظ له‪ ،‬وابن ماجه (‪ ،)3973‬وأحمد (‪.)22016‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي (‪ )2407‬واللفظ له‪ ،‬وأحمد (‪ ،)11908‬وحسنه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )3‬كما يف رواية الرتمذي (‪ ،)2616‬وابن ماجه (‪ ،)3973‬وأحمد (‪.)22016‬‬
‫‪11‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪11‬‬
‫فهذا الحديث حديث جمع فيه النبي ﷺ الخير كله‪ ،‬وهو من جوامع كلم النبي – عليه الصالة والسالم‪.‬‬
‫ولهذا أورده اإلمام النووي – رحمه اهلل تعالى – يف كتابه األربعين أن يورد األحاديث الجوامع‪ ،‬جوامع‬
‫الكلم كلم النبي – عليه الصالة والسالم ‪.-‬‬

‫والحديث له طرق عديدة لكن نبه الحافظ ابن رجب ‪ $‬يف كتابه «جامع العلوم والحكم» الذي شرح فيه‬
‫األربعين أهنا كلها ضعيفة‪ ،‬بما فيها الطريقان اللذان ساقهما المصنِّف – رحمه اهلل تعالى‪.‬‬

‫أيضا لم يسمع معاذ بن جبل‪ .‬الطريق الثانية‪:‬‬


‫فالطريق األولى‪ :‬فيها عروة بن النزال‪ ،‬مقبول‪ ،‬و ً‬

‫قالِ‪ِِ:‬‬

‫(‪ِ)2‬حدثنا عبيدة بن حميد‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن الحكم‪ ،‬عن ميمون بن أبي شبيب‪ ،‬عن معاذ‪ ،‬قال‪ :‬خرجنا‬
‫مع رسول اهلل ﷺ في غزوة تبوك‪ ،‬ثم ذكر نحوه‪.‬‬

‫وأيضا لم‬
‫أيضا فيها ميمون بن أبي شبيب الذي يروي عن معاذ‪ ،‬وهو صدوق كثير اإلرسال‪ً ،‬‬
‫وهذه الطريق ً‬
‫يسمع من معاذ ﭬ كما نبه على ذلك الحافظ ابن رجب – رحمه اهلل تعالى‪.‬‬

‫أيضا‪« :‬عن‬
‫والحديث له طرق عديدة عن معاذ منها‪« :‬عن أبي وائل عن معاذ» رواه أحمد والرتمذي‪ ،‬ومنها ً‬
‫مختصرا‪ ،‬ومنها‪« :‬عن عبدالرحمن بن غنم عن معاذ»‪ ،‬لكن كلها ‪ -‬كما‬
‫ً‬ ‫مكحول عن معاذ» عند ابن حبان‬
‫نبه الحافظ ابن رجب – ضعيفة‪.‬‬

‫لكن كل جملة من جمل هذا الحديث لها شواهدها ودالئلها يف أحاديث الرسول الكريم – عليه الصالة‬
‫والسالم –‪ ،‬واعتنى الحافظ ابن رجب ‪ $‬بسوق جملة من الشواهد على صحة جمل هذا الحديث‪.‬‬

‫مناسبة إيراد الحديث‪ :‬حديث معاذ بن جبل ﭬ أورده المصنِّف ألنه جمع اإليمان؛ اإليمان عقيدة‬
‫وشريعة‪ ،‬وحديث معاذ بن جبل جمع ذلك كله‪ .‬اإليمان عقيدة وشريعة‪ :‬اعتقادات مكاهنا القلب‪ ،‬وأعمال‬
‫صالحات تكون يف جوارح اإلنسان‪ .‬قد قال السلف – رحمهم اهلل تعالى – يف تعريف اإليمان‪ :‬اإليمان‬
‫قول واعتقاد وعمل‪ ،‬وهذه كلها اجتمعت يف هذا الحديث‪ .‬وصدر به المصنِّف – رحمه اهلل تعالى – ألنه‬
‫من األحاديث الجوامع يف بيان اإليمان وتقريره‪.‬‬

‫ثمِقالِالمصنفِ–ِرحمهِاهللِتعالىِ–‪ِِ:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪12‬‬

‫(‪ )3‬حدثنا أبو األحوص‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن ربع ٍّي‪ ،‬عن رجل‪ ،‬من بني أسد‪ ،‬عن عل ٍّيﭬ‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫ول ِاهللِ َب َع َثنيِ‬ ‫‪ِ،‬و َأن َ‬
‫ِّيِر ُس ُ‬ ‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِو ْحدَ ُه َ‬
‫َّىِي ْؤم َنِبه َّن َ‬
‫ِحت ُ‬ ‫يمان َ‬ ‫اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ْر َب ٌعِ َل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫وثِم ْنِ َب ْعدِا ْل َم ْوت‪َ ِ،‬و ُي ْؤم ُنِبا ْل َقدَ رِ ُك ِّلهِ»‪.‬‬ ‫‪ِ،‬وب َأ َّن ُه َِم ِّي ٌ‬
‫تِ ُث َّم َِم ْب ُع ٌ‬ ‫با ْل َح ِّق َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث عن علي بن أبي طالب ﭬ عن رسول اهلل ﷺ أنه‬
‫ن»‪.‬‬
‫َّىِي ْؤم َنِبه َِّ‬
‫ِحت ُ‬ ‫يمان َ‬ ‫قال‪َ « :‬أ ْر َب ٌعِ َل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ‬
‫ِاْل َ‬

‫بين – عليه الصالة والسالم – ً‬


‫أوال‪ :‬أن اإليمان له طعم وحالوة ومذاق جميل‪ ،‬لكن هذا الطعم وهذه‬
‫الحالوة وهذا الذوق ال ينال وال يجده اإلنسان إال إذا اجتمع فيه هذه األربع‪ ،‬قال‪َ « :‬أ ْر َب ٌعِ َل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ‬
‫ن» أي‪ :‬يؤمن هبن جمي ًعا ويكون اإليمان هبن عقيدة راسخة يف قلبه وثابتة يف‬
‫َّىِي ْؤم َنِبه َِّ‬
‫ِحت ُ‬ ‫يمان َ‬ ‫َط ْع َم ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫نفسه‪ ،‬ليس عنده فيها أدنى شك أو ريب‪ .‬والمطلوب يف هذا الباب اإليمان الجازم الذي ال شك فيه وال‬

‫[الحجرات‪:‬‬ ‫ريب كما قال اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ :-‬ﭿ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭾ‬


‫يمانِ‬ ‫‪ .]15‬فال بد من إيمان جازم ال يتخلله وال يتطرق له أي شك أو أدنى ريب‪ ،‬قال‪َ « :‬ل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫ن» ‪.‬‬
‫َّىِي ْؤم َنِبه َِّ‬
‫َحت ُ‬

‫وكثيرا ما يأيت لهذا نظائر يف حديثه – عليه الصالة والسالم –‬


‫ً‬ ‫وقوله‪َ « :‬أ ْر َب ٌِع»‪ ،‬هذا ً‬
‫أيضا من حسن التعليم‪،‬‬
‫يقول‪ :‬أربع أو ثالث أو خمس أو ست أو سبع وهكذا‪ .‬وهذا يجمع العلم ويضبط مسائله‪ ،‬فتجد طالب‬
‫العلم إذا ن ِّبه إلى أن المسائل المقصودة يف هذا الباب المعين عددها كذا تنضبط عنده‪ ،‬بخالف ما لو ذكرت‬
‫ن» ‪.‬‬
‫َّىِي ْؤم َنِبه َِّ‬
‫ِحت ُ‬ ‫يمان َ‬ ‫مرسلة بدون عدد‪ .‬قال‪َ « :‬أ ْر َب ٌعِ َل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ‬
‫ِاْل َ‬

‫قوله‪َ « :‬ل ْنِ َيجدَِ» المراد بـ« َيجدَِ» هنا أي من الوجود وليس من الوجد‪ ،‬ألنه يقال‪ :‬يجد الرجل وجدً ا ويجد‬
‫وجو ًدا‪ ،‬والوجد‪ :‬هو لهيب يف القلب أو حركة يف القلب‪ .‬أما المراد بالوجد هنا‪ :‬يجد أي وجود ًا‪ ،‬بمعنى‬
‫يمانِ»‬ ‫أهنا ال تحصل وال تثبت الحالوة وال تقع إال لمن اجتمعت فيه هذه الخصال‪َ « ،‬ل ْن َِيجدَ َِر ُج ٌلِ َط ْع َم ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫حاصال مستقرا للشخص إال هبذه األمور األربعة التي ذكرها –‬
‫ً‬ ‫أي‪ :‬لن يكون طعم اإليمان موجو ًدا ثاب ًتا‬
‫صلوات اهلل وسالمه عليه ‪.-‬‬
‫‪13‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪13‬‬
‫ولِاهللِ َب َع َثنيِبا ْل َح ِّ ِ‬
‫ق»‪ .‬هذا األمر األول من األمور األربعة‪ :‬الشهادتان‪،‬‬ ‫‪ِ،‬و َأن َ‬
‫ِّيِر ُس ُ‬ ‫قال‪ََ « :‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِو ْحدَ ُه َ‬
‫ظاهرا وباطنًا‪ .‬وقد مر معنا يف حديث معاذ أهنما رأس األمر‪ ،‬فال يجد عبد طعم اإليمان حتى‬
‫ً‬ ‫واإلقرار هبما‬
‫وإخالصا للمعبود ومتابعة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫راسخا‪ ،‬إيما ًنا يف ظاهره وباطنه‪ ،‬إذعا ًنا وانقيا ًدا‬ ‫يقر ويؤمن بالشهادتين إيما ًنا‬
‫يمان َِم ْن َِرض َيِباهلل َِر ًّبا‪ِ،‬‬ ‫للرسول الكريم – صلوات اهلل وسالمه عليه ‪ .-‬ويف حديث آخر قال‪َ « :‬ذ َاقِ َط ْع َم ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫(‪)1‬‬
‫ًا‪ِ،‬وب ُم َح َّم ٍِدِﷺِ َر ُس ً ِ‬
‫وَل»‪.‬‬ ‫َوب ْاْل ْس ََلمِدين َ‬

‫قال‪َ « :‬وب َأ َّن ُه َِم ِّي ٌ ِ‬


‫ت» أي‪ :‬يؤمن بأنه ميت‪ ،‬بأنه سيفارق هذه الحياة‪ ،‬وأنه لن يبقى فيها‪ .‬وهنا فيه التنبيه على أثر‬
‫ذكر الموت والعلم بأن اإلنسان ميت‪ ،‬وأن هذه الدنيا سيفارقها وأنه لن يبقى فيها؛ إذا وجدت هذه العقيدة‬
‫يف القلب وثبتت يف النفس صار لها أثرها العظيم يف ذوق حالوة اإليمان‪َ « .‬وبِ َأ َّن ُه َِم ِّي ٌ ِ‬
‫ت»ِأي‪ :‬أنه سيفارق هذه‬
‫الحياة ولن يبقى فيها‪.‬‬

‫وثِم ْنِ َب ْعدِا ْل َم ْوتِ» أي أنه سيلقى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ويقوم لرب العالمين ليلقى جزاءه على‬
‫« ُث َّم َِم ْب ُع ٌ‬
‫ما قدم يف هذه الحياة‪ ،‬هذا األمر الثالث‪.‬‬

‫واألمر الرابع قال‪َ « :‬و ُي ْؤم ُن ِبا ْل َقدَ رِ ُك ِّلهِ» أي‪ :‬حلوه ومره من اهلل تعالى‪ ،‬وأن كل شيء بقدر‪ ،‬حتى العجز‬
‫والكيس‪ ،‬كل شيء بقدر‪ ،‬وأن اهلل كتب مقادير الخالئق‪ ،‬وأنه ‪ -‬جل وعال ‪ -‬أول ما خلق الخلق قال‪« :‬اكتب‬
‫ما هو كائن إلى يوم القيامة»(‪ .)2‬فيؤمن بالقدر كله‪.‬‬

‫فال يذوق عبد حالوة اإليمان وطعمه إال إذا آمن هبذه األمور األربعة مجتمعة‪ .‬وهذه اإليمانيات هي ركائز‬
‫يقوم عليها الدين‪.‬‬

‫أما األمر األول وهو اإليمان باهلل ر ًبا معبو ًدا وال معبود بحق سواه واإليمان بالرسول ‪ -‬عليه الصالة‬
‫والسالم ‪ -‬وتحقيق مقتضى الشهادتين‪ ،‬شهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأن محمدً ا رسول اهلل‪ ،‬فهذا رأس الدين‪.‬‬

‫وأما األمر الثاين والثالث‪ :‬الموت والبعث‪ ،‬فهذان من اإليمان باليوم اآلخر‪ ،‬واإليمان باليوم اآلخر ركن‬
‫من أركان اإليمان وأصل من أصوله العظام‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪.)34‬‬
‫(‪ )2‬كما روى اآلجري يف «الشريعة» (‪ 182‬و‪ 349‬و‪ 351‬و‪ 444‬و‪ ،) 666‬والاللكائي يف «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة»‬
‫(‪ ،)1223‬وعبد اهلل بن أحمد بن حنبل يف «السنة» (‪ 871‬و‪ ،)894‬وابن بطة يف «اإلبانة الكربى» (‪ 1362‬وما بعده)‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪14‬‬

‫أيضا ركن من أركان اإليمان كما جاء يف حديث جربيل المشهور‪.‬‬


‫واألمر الرابع‪ :‬اإليمان بالقدر‪ً ،‬‬

‫والحديث الذي رواه المصنِّف ‪ -‬حديث علي ‪ -‬يف إسناده رجل من بني أسد‪ ،‬فاإلسناد ضعيف‪ .‬وقد رواه‬
‫ابن حبان يف «صحيحه» من طريق سفيان عن منصور عن ربعي عن علي‪ ،‬فأسقط الرجل‪ .‬ورواه الرتمذي‬
‫على الوجهين‪ ،‬ورجح الوجه اآلخر‪ ،‬وقال ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪« :-‬رواه غير واحد عن منصور عن ربعي‬
‫عن علي»‪ .‬وأما الدارقطني يف «العلل» فصوب رواية ربعي عن رجل‪ ،‬وتكون بذلك معلولة‪ .‬وقد جاء يف‬
‫«المعجم الكبير» للطرباين عن ابن مسعود ﭬ أنه قال‪« :‬لن يجد رجل طعم اإليمان حتى يؤمن بالقدر‪،‬‬
‫ويعلم أنه م ِّيت‪ ،‬وأنه مبعوث»(‪ ،)1‬فذكر األمور المذكورة يف الحديث إال واحدً ا‪ً .‬‬
‫وأيضا رواه الفريابي يف‬
‫كتابه «القدر»‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )4‬حدثنا ابن فضيل‪ ،‬عن عطاء بن السائب‪ ،‬عن سالم بن أبي الجعد‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬قال‪ :‬جاء أعراب ٌّي‬
‫ك»ِقال‪ :‬إنِّي رجل من أخوالك‬ ‫«و َع َل ْي َ‬
‫إلى النب ِّي ﷺ فقال‪ :‬السالم عليك يا غالم بني عبد المطلب فقال‪َ ِ :‬‬
‫من بني سعد بن بكر‪ ،‬وأنا رسول قومي إليك ووافدهم‪ ،‬وأنا سائلك فمشيد مسألتي إياك‪ ،‬ومناشدك فمشيد‬
‫يِس ْع ٍد»ِقال‪ :‬من خلقك‪ ،‬ومن هو خالق من قبلك‪ ،‬ومن هو خالق‬ ‫ك َِي َ‬
‫اِأ َخاِ َبن َ‬ ‫«خ ْذِ َع َل ْي َ‬
‫مناشدتي إياك‪ ،‬قال‪ُ :‬‬
‫من بعدك؟ قال‪«ِِ:‬اهللُ»‪ ،‬قال‪ :‬فنشدتك باهلل أهو أرسلك؟ قال‪َ «ِِ:‬ن َع ْم»‪ .‬قال‪ :‬من خلق السموات السبع‬
‫الرزق؟ قال‪« :‬اهللُ»ِ‪ ،‬قال‪ :‬فأنشدتك باهلل أهو أرسلك؟ قال‪َ « :‬ن َع ْم»‪ .‬قال‪:‬‬
‫واألرضين السبع‪ ،‬وأجرى بينهما ِّ‬
‫فإنا وجدنا في كتابك‪ ،‬وأمرتنا رسلك‪ ،‬أن نص ِّلي في اليوم والليلة خمس صلوات لمواقيتها‪ ،‬فنشدتك باهلل‬
‫أهو أمرك؟ قال‪َ « :‬ن َع ْم»‪ .‬قال‪ :‬فإنا وجدنا في كتابك‪ ،‬وأمرتنا رسلك‪ ،‬أن نأخذ من حواشي أموالنا فنرده‬
‫على فقرائنا‪ ،‬فنشدتك باهلل أهو أمرك؟ قال‪َ « :‬ن َع ْم»ِ‪ .‬قال‪ :‬ثم قال‪ :‬أما الخامسة فلست بسائلك عنها وال إرب‬
‫لي فيها‪ ،‬قال‪ :‬ثم قال‪ :‬أما والذي بعثك بالح ِّق‪ ،‬ألعملن بها‪ ،‬ومن أطاعني من قومي‪ ،‬ثم رجع‪ ،‬فضحك‬
‫ِصدَ َقِ َل َيدْ ُخ َل َّنِا ْل َجنَّةَ»‪ِ.‬‬
‫«وا َّلذيِ َن ْفسيِب َيده‪َ ِ،‬لئ ْن َ‬
‫رسول اهلل ﷺ حتى بدت نواجذه وقال‪َ :‬‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬المعجم الكبير» للطرباين (‪.)8788‬‬
‫‪15‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪15‬‬
‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن ابن عباس ﭭ «قال‪ :‬جاء أعراب ٌّي إلى النب ِّي ﷺ فقال‪:‬‬
‫السالم عليك يا غالم بني عبد المطلب»؛ ومعلوم ما يف هذه الصيغة من الخطاب عن الرسول – عليه‬
‫الصالة والسالم ‪ -‬ما فيها من جفوة‪ ،‬وهذا من الجفوة التي توجد يف بعض األعراب والتصرف غير‬
‫المنضبط‪« .‬فقال‪ :‬السالم عليك يا غالم بني عبد المطلب فقال‪َ ِ:‬و َع َل ْي َ ِ‬
‫ك»ِ‪ِ-‬رد عليه السالم‪.‬‬

‫«قال‪ :‬إنِّي رجل من أخوالك من بني سعد بن بكر‪ ،‬وأنا رسول قومي إليك ووافدهم‪ ،‬وأنا سائلك فمش ِّيد‬
‫مسألتي إياك» أي‪ :‬مط ِّول يف المسألة؛ يقال‪ :‬أشدت البنيان تشييدً ا‪ ،‬ومشيد أي رفعه وطول بناءه‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫«فمش ِّيد مسألتي» أي‪ :‬مطول مسألتي‪ ،‬يعني سأسألك وأطيل يف المسألة‪« ،‬ومناشدك فمشيد مناشدتي إياك»‬
‫والمناشدة هي السؤال‪ ،‬وأصله رفع الصوت‪ .‬فيقول أنا سأسأل وأطيل يف السؤال وسأناشد وأنشدك وأطيل‬
‫يف المناشدة‪.‬‬

‫يِس ْع ٍِد»؛ يعني أتاح له ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬أن يسأل‪ .‬وهذا ً‬
‫أيضا فيه سعة‬ ‫ك َِي َ‬
‫اِأ َخاِ َبن َ‬ ‫قال‪ُ « :‬خ ْذِ َع َل ْي َ‬
‫وكمال خلق النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ ،-‬واحتماله للناس وما قد يكون من بعضهم من جفوة وأساليب‬

‫غير مناسبة وال الئقة بمقامه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬وقد قال اهلل‪ :‬ﭿﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ ﭠ ﭡ‬

‫ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭾ [آل عمران‪.]159 :‬‬

‫«قال‪ :‬من خلقك» يخاطب النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪« -‬ومن هو خالق من قبلك‪ ،‬ومن هو خالق من‬
‫وأيضا حديث أنس اآليت بعده وهو أن األعرابي‬
‫اهللُ»‪ .‬أريد أن ننتبه لشيء يف هذا الحديث ً‬
‫بعدك؟ قال‪ِ ِ :‬‬
‫يتكلم من حدود معلوماته‪ ،‬فهو رجل يعيش يف البادية بين جبال وسماء وأرض ويريد من خالل هذا الذي‬
‫يعيش بينه أن يصل إلى شيء يقنعه بصدق ما جاء به من أمامه وهو الرسول الكريم ‪ -‬عليه الصالة والسالم‬
‫‪ .-‬فبدأ ً‬
‫أوال‪ :‬من خلقك؟ من خلق الذين من قبلك؟ ومن خلق الذين من بعدك؟ قال ‪ -‬عليه الصالة‬
‫اهللُ» ‪.‬‬
‫والسالم‪ِ « :-‬‬

‫«قال‪ :‬فنشدتك باهلل أهو أرسلك؟» اآلن هذا األعرابي يرى أنه ال يمكن أن يذكر شخص باهلل وأنه خلقه‬
‫وخلق من بعده وخالق كل شيء‪ ،‬ثم يستحلف به فيحلف وهو كاذب‪ .‬ال يتصور أن رجالً يذكر باهلل هذا‬
‫التذكير ثم يستحلف باهلل ويحلف ويكون كاذ ًبا‪ .‬قال ‪«:‬فنشدتك باهلل»ِ يعني اآلن الذي تستحضر أنه خلقك‬
‫وخلق من قبلك أنشدك باهلل‪ :‬آهلل أرسلك؟ قال‪« :‬نعم»‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪16‬‬

‫«قال‪ :‬من خلق السموات» ‪ -‬اآلن ينتقل إلى حجة أخرى يقنع نفسه بصدق ما جاء به ‪ِ« -‬قال‪ :‬من خلق‬
‫اهللُ‪ .‬قال‪ :‬فأنشدتك باهلل أهو أرسلك؟»‬
‫الرزق؟ قال‪ِ :‬‬
‫السموات السبع واألرضين السبع‪ ،‬وأجرى بينهما ِّ‬
‫يعني من خلق هذه المخلوقات وأوجدها «أهو أرسلك؟ قال‪َ ِ:‬ن َع ْمِ»‪ .‬اآلن اقتنع بعد هذا االستحالف وذكر‬
‫هذه الشواهد اقتنع الرجل‪« ،‬قال‪ :‬فإنا وجدنا في كتابك‪ ،‬وأمرتنا رسلك‪ ،‬أن نص ِّلي في اليوم والليلة خمس‬
‫صلوات لمواقيتها‪ ،‬فنشدتك باهلل أهو أمرك؟» هل هذه الصلوات أمرك اهلل هبا؟ «قال‪َ ِ:‬ن َع ْمِ‪ .‬قال‪ :‬فإنا وجدنا‬
‫في كتابك‪ ،‬وأمرتنا رسلك‪ ،‬أن نأخذ من حواشي أموالنا فنرده على فقرائنا» أي‪ :‬أنه تؤخذ صدقة من‬
‫أغنيائهم فترد على فقرائهم وحاشية كل شيء جانبه وطرفه‪ ،‬والمراد أنه ال تؤخذ من كرائم األموال‪ .‬قال‬
‫‪«:‬فنرده على فقرائنا‪ ،‬فنشدتك باهلل أهو أمرك؟» أي ‪:‬بذلك‪« .‬قال‪َ :‬ن َع ْمِ‪ ،‬قال‪ :‬ثم قال‪ :‬أما الخامسة فلست‬
‫بسائلك عنها»ِ أي‪ :‬سأله عن مباين اإلسالم ولما وصل إلى الحج وهو الركن الخامس من أركان اإلسالم‬
‫سبيال‪،‬‬
‫ً‬ ‫«قال‪ :‬أما الخامسة فلست بسائلك عنها وال إرب لي فيها»ِ وقد يكون ألن الحج من استطاع إليه‬
‫والحج ليس بواجب على كل مسلم‪ ،‬إنما واجب على المستطيع‪.‬‬

‫«قال‪ :‬أما الخامسة فلست بسائلك عنها»‪ ِ.‬قال ابن عبد الرب ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬يف كتابه «التمهيد»‪« :‬يعني‬
‫الحج‪ ...‬ذلك أن العرب كانت تعرف الحج وتحج كل عام يف األغلب فلم ير يف ذلك ما يحتاج فيه إلى‬
‫المناشدة»(‪ )1‬انتهى كالم ابن عبد الرب ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪« .‬قال‪ :‬أما الخامسة فلست بسائلك عنها وال إرب‬
‫لي فيها»‪.‬‬

‫«قال‪ :‬ثم قال‪ :‬أما والذي بعثك بالح ِّق‪ ،‬ألعملن بها‪ ،‬ومن أطاعني من قومي»ِ ألنه ذكر يف بدء حديثه أنه‬
‫رسول قومه إلى النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬قال ‪«:‬ألعملن بها‪ ،‬ومن أطاعني من قومي‪ ،‬ثم رجع‪.‬‬
‫فضحك رسول اهلل ﷺ حتى بدت نواجذه»ِ وهذا الضحك ضحك فرح وسرور هبذا الخير الذي عرفه هذا‬

‫األعرابي والتزمه وتعهد بلزومه والمحافظة عليه‪« .‬حتى بدت نواجذه وقال‪َ :‬وا َّلذيِ َن ْفسيِب َيده‪َ ِ،‬لئ ْن َ‬
‫ِصدَ َقِ‬
‫َل َيدْ ُخ َل َّنِا ْل َجنَّ َِة»‪ .‬والذي ذكر يف الحديث مباين اإلسالم الخمسة‪ ،‬وقد مر معنا يف حديث معاذ قال‪َ ِ«ِ:‬أ ْخب ْرنيِ‬

‫ب َع َم ٍل ُِيدْ خ ُلنيِا ْل َجنَّ َِة َو ُي َباعدُ نيِم َنِالنَّارِ» وهنا قال‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪َ «:-‬لئ ْن َ‬
‫ِصدَ َقِ َل َيدْ ُخ َل َّنِا ْل َجنَّ َِة»‪ِ،‬‬
‫فهذا يدل على أن من حفظ فرائض اإلسالم وحافظ عليها فإنه تكون هبا نجاة أمره ودخوله جنات النعيم‪،‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬التمهيد» (‪.)172/16‬‬
‫‪17‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪17‬‬
‫وما زاد على فرائض اإلسالم فهي رغائب ومستحبات تعلو هبا درجات العبد وترتفع هبا منازله يف جنات‬
‫النعيم‪.‬‬

‫والحديث يف إسناده عطاء بن السائب وكان قد اختلط‪ ،‬وسماع ابن فضيل ‪ -‬وهو محمد بن فضيل بن‬
‫غزوان ‪ -‬بعد اختالطه‪ ،‬ولكن للحديث طري ًقا أخرى عند أحمد يف المسند وشاهدً ا من حديث أنس يأيت‬
‫عند المصنِّف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪.-‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )5‬حدثنا شبابة بن سوار‪ ،‬نا سليمان بن المغيرة‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬عن أنس‪ ،‬قال‪ِ:‬كنا قد نهينا أن نسأل رسول‬
‫اهلل ﷺ عن شيء‪ ،‬وكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع‪ ،‬فجاءه رجل‬
‫«صدَ َق» ِقال‪ :‬فمن‬
‫من أهل البادية فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أتى رسولك فزعم أنك تزعم أن اهلل أرسلك‪ ،‬فقال‪َ :‬‬
‫خلق السماء؟ قال‪«ِ :‬اهللُ» ِقال‪ :‬فمن خلق األرض؟ قال‪«ِ :‬اهللُ» ِقال‪ :‬فمن نصب هذه الجبال؟ قال‪«ِ :‬اهللُ»ِ‬
‫قال‪ :‬فبالذي خلق السماء‪ ،‬وخلق األرض‪ ،‬ونصب الجبال‪ ،‬آهلل أرسلك؟ قال‪َ «ِ :‬ن َع ْم» ِقال‪ :‬زعم رسولك‬
‫«صدَ َ ِ‬
‫ق»‪ .‬قال‪ :‬فبالذي خلق السموات‪ ،‬وخلق األرض‪ ،‬ونصب‬ ‫أن علينا خمس صلوات في يومنا‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫«صدَ َ ِ‬
‫ق»‪ .‬قال‪:‬‬ ‫الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قال‪َ «ِ:‬ن َع ِْم»‪ .‬قال‪ :‬زعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا‪ ،‬قال‪َ ِ:‬‬
‫فبالذي خلق السماء‪ ،‬وخلق األرض‪ ،‬ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قال‪َ «ِ :‬ن َِع ِْم»‪ .‬قال‪ :‬زعم رسولك أن‬
‫«صدَ َ ِ‬
‫ق»‪ .‬قال‪ :‬فبالذي خلق السماء‪ ،‬وخلق األرض‪ ،‬ونصب‬ ‫يال‪ ،‬قال‪َ ِ :‬‬
‫علينا الحج من استطاع إليه سب ً‬
‫الجبال آهلل أمرك بهذا؟ِقال‪َ «ِ:‬ن َع ْم»ِ‪ .‬فقال‪ :‬والذي بعثك بالح ِّق ال أزيد عليه شي ًئا‪ ،‬وال أنقص منه شي ًئا‪ .‬فقال‬
‫ِصدَ َقِ َد َخ َلِا ْل َجنَّةَ»‪.‬‬
‫رسول اهلل ﷺ‪« :‬إ ْن َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬حديث أنس وهو يف الصحيحين‪ ،‬خرجه البخاري ومسلم يف صحيحيهما‪.‬‬
‫يقول أنس ﭬ‪« :‬كنا قد نهينا أن نسأل رسول اهلل ﷺ عن شيء»ِ‪ .‬وجاء يف بعض روايات الحديث‪ُ « :‬كنَّاِ‬

‫نُهينَاِفيِا ْل ُق ْرآنِ»(‪ ،)1‬ولعله كما ذكر بعض أهل العلم يشير إلى قول اهلل تعالى يف سورة المائدة‪ :‬ﭿﮮ‬

‫ﮯﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤﯥ‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬كما يف رواية مسلم (‪ ،)12‬وأحمد (‪.)13011‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪18‬‬

‫ﯦ ﯧ ﯨﭾ [المائدة‪ .]101 :‬والمراد بالسؤال هنا ً‬


‫أيضا‪ ،‬كما نبه أهل العلم‪ ،‬السؤال الذي ال ضرورة له‬
‫وال ضرورة تقتضيه‪ .‬قال‪«ِ:‬كنا قد نهينا أن نسأل رسول اهلل ﷺ عن شيء» أي‪ :‬مما ال ضرورة إليه‪.‬‬

‫«وكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل» نص هنا ﭬ على العاقل ألنه ً‬
‫أوال‪ :‬أسلوبه يف طرح‬
‫وأيضا‪ :‬يف المباحثة والمساءلة تكون أسئلته أدق من غيره‪ .‬قال‪« :‬وكان يعجبنا أن‬
‫السؤال أحسن من غيره‪ً ،‬‬
‫يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع»ِ يعني حتى نستفيد من األسئلة وإجابة النبي ﷺ‬
‫عليها‪ِ .‬‬

‫«فجاءه رجل من أهل البادية فقال‪ :‬يا محمد‪ ،‬أتى رسولك فزعم أنك تزعم أن اهلل أرسلك»‪ .‬هذه اآلن يرى‬
‫أهنا دعوى تحتاج إلى دليل‪ ،‬هذه دعوى تحتاج إلى برهان ودليل‪ ،‬فيريد اآلن الرجل بمستوى معلوماته يف‬
‫بيئته ‪ -‬بين الجبال ويمشي على األرض وفوقه السماء ‪ -‬هذه حدود معلوماته فيريد أن يستخرج من خالل‬
‫ذلك الدليل‪« ،‬قال‪ :‬فمن خلق السماء؟ قال‪« :‬اهللُ» ِقال‪ :‬فمن خلق األرض؟ قال‪«ِ :‬اهللُ» ِقال‪ :‬فمن نصب‬
‫هذه الجبال؟‪...‬وجعل فيها ما جعل؟» ‪ -‬كما جاء يف بعض الروايات(‪« - )1‬قال‪«ِ:‬اهللُ»ِقال‪ :‬فبالذي خلق‬
‫السماء‪ ،‬وخلق األرض‪ ،‬ونصب الجبال‪ ،‬آهلل أرسلك؟» بعد أن استحضر خلق اهلل لهذه المخلوقات‬
‫العظيمة الكبيرة‪ ،‬ال يتصور أنه يذكر أحد هبا وخلق اهلل لها ثم يحلف باهلل ويكون كاذ ًبا على اهلل ‪ -‬سبحانه‬
‫وتعالى ‪ .-‬قال‪« :‬آهلل أرسلك؟ قال‪َ ِ:‬ن َع ِْم»‪ .‬اآلن اقتنع الرجل‪.‬‬

‫«صدَ َ ِ‬
‫ق»‪ .‬قال‪ :‬فبالذي خلق السموات‪ ،‬وخلق‬ ‫«قال‪ :‬زعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫األرض‪ ،‬ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قال‪َ «ِ:‬ن َع ِْم»‪ .‬قال‪ :‬زعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا‪ ،‬قال‪ِ:‬‬
‫«صدَ َ ِ‬
‫ق»‪ .‬قال‪ :‬فبالذي خلق السماء‪ ،‬وخلق األرض‪ ،‬ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ قال‪َ «ِ:‬ن َع ِْم»‪ .‬قال‪ :‬زعم‬ ‫َ‬
‫«صدَ َ ِ‬
‫ق»‪ .‬قال‪ :‬فبالذي خلق السماء‪ ،‬وخلق األرض‪،‬‬ ‫يال‪ ،‬قال‪َ ِ:‬‬
‫رسولك أن علينا الحج من استطاع إليه سب ً‬
‫ونصب الجبال آهلل أمرك بهذا؟ِقال‪َ «ِ :‬ن َع ْم»‪ .‬فقال‪ :‬والذي بعثك بالح ِّق ال أزيد عليه شي ًئا‪ ،‬وال أنقص منه‬
‫شي ًئا»ِويف بعض طرق الحديث ذكرت فيه مباين اإلسالم الخمسة كلها‪ .‬ثم التزم الرجل بالمحافظة فقال‪ِ:‬‬
‫ِصدَ َقِ َد َخ َلِا ْل َجنَّ َِة»‪.‬‬
‫«ال أزيد عليه شي ًئا‪ ،‬وال أنقص منه شي ًئا»‪ ،‬فقال النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪« :-‬إ ْن َ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬كما عند مسلم (‪ ،)12‬وأحمد (‪.)12457‬‬
‫‪19‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪19‬‬
‫ِصدَ َ ِ‬
‫ق»ِ فيه أهمية الصدق مع اهلل يف فعل الفرائض والمحافظة على واجبات الدين‪ ،‬وأن من‬ ‫وقوله‪ِ« :‬إ ْن َ‬
‫صدق مع اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬يف لزوم هذه الفرائض؛ فإنه ينجو من النار‪ ،‬ويباعد من النار‪ ،‬ويفوز بإذن‬
‫اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬بجنات النعيم‪ِ.‬‬

‫واهلل تعالى أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫الدرس الثان‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقولِاْلمامِالحافظِأبوِبكر‪ِ،‬عبدِاهللِبنِِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويف‪ِ،‬يفِكتابِ«اْليمان»‪ِِ:‬‬

‫(‪ )6‬حدثنا زيد بن الحباب‪ ،‬عن عل ِّي بن مسعدة‪ ،‬نا قتادة‪ ،‬نا أنس بن مالك‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ ‪:‬‬
‫اهنَا»‪.‬‬ ‫اهنَا‪ِ،‬ال َِّت ْق َو َ‬
‫ىِه ُ‬ ‫ىِه ُ‬ ‫انِفيِا ْل َق ْلب»ِ ُث َّم ُِيش ُيرِب َيدهِإ َل َ‬
‫ىِصدْ ره‪«ِ:‬ال َّت ْق َو َ‬ ‫يم ُ‬
‫ٌ‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫« ْاْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ‬

‫الشرحِ‪ِ:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمد ًا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فهذا الحديث‪ ،‬حديث أنس بن مالك ﭬ‪ ،‬أن النبي – عليه الصالة والسالم – قال‪ْ « :‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َيةٌ‪ِ،‬‬
‫انِفيِا ْل َق ْلبِ»؛ِفيه اإلخبار عن حقيقة اإلسالم وحقيقة اإليمان‪ ،‬وأن اإلسالم أمور ظاهرة وأعمال‬
‫يم ُ‬
‫َو ْاْل َ‬
‫ظاهرة‪ ،‬وأن اإليمان اعتقادات وإيمانيات مكاهنا القلب‪ .‬فاإليمان سر‪ ،‬واإلسالم ظاهر علن‪.‬‬

‫اإلسالم أعمال ظاهرة واإليمان سر مكانه القلب؛ ألن اإليمان يتعلق بجنس التصديق واإلقرار‪ ،‬واإلسالم‬
‫يتعلق بجنس األعمال وعموم الطاعات والقربات؛ ولهذا قال هنا‪ْ « :‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َي ٌِة»‪ .‬المراد بـ « ْاْل ْس ََل ُمِ‬
‫َع ََلن َي ٌِة» أي‪ :‬أمور ظاهرة‪ ،‬والمراد بقوله‪« :‬فيِا ْل َق ْلبِ» أي‪ :‬أنه سر مكانه القلب‪ ،‬اإليمان مكانه القلب‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪20‬‬

‫وهذا البيان لإلسالم واإليمان هو يف حال اقرتاهنما واجتماعهما يف الذكر؛ ألن اإلسالم واإليمان لهما‬
‫حالتان‪ :‬حالة اقرتان وحالة افرتاق‪ ،‬اقرتان يف الذكر وافرتاق يف الذكر‪ .‬وهنا اإلسالم واإليمان اقرتنا يف الذكر‬
‫كاقرتاهنما يف حديث جربيل المشهور؛ ولهذا يف حديث جربيل المشهور فسر – عليه الصالة والسالم –‬
‫اإلسالم باألعمال الظاهرة‪ ،‬وفسر اإليمان بما يف القلب‪ ،‬كما يف هذا الحديث‪.‬‬

‫يمِ‬
‫‪ِ،‬وتُق َ‬
‫ولِاهلل َ‬ ‫ِو َأ َّن ُِم َح َّمدً َ‬
‫اِر ُس ُ‬ ‫فسر اإلسالم باألعمال الظاهرة قال‪« :‬ا ْْل ْس ََل ُم َِأ ْنِ ت َْش َهدَ َِأ ْن ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُِ َ‬
‫يَل»(‪ ،)1‬هذه أمور ظاهرة‪ ،‬فسرها‬ ‫ِاس َت َط ْع َ‬
‫تِإ َل ْيه َِسب ً ِ‬ ‫‪ِ،‬وت َُح َّجِا ْل َب ْي َ‬
‫تِإن ْ‬ ‫ان َ‬‫َ‪ِ،‬وت َُصو َم َِر َم َض َ‬
‫َ‪ِ،‬وت ُْؤت َيِال َّزكَاة َ‬
‫الص ََلة َ‬
‫َّ‬
‫بأمور ظاهرة كقوله هنا‪ْ «ِ :‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َي ٌِة»‪ .‬ويف حديث جربيل لما سأل عن اإليمان قال‪َ « :‬أ ْنِ ت ُْؤم َنِباهلل‪ِ،‬‬
‫‪ِ،‬وت ُْؤم َنِبا ْل َقدَ ر َ‬
‫ِخ ْيره َِو َش ِّرهِ»(‪ ،)2‬وهذه األمور الستة كلها يف القلب‪،‬‬ ‫‪ِ،‬وا ْل َي ْوم ْ‬
‫ِاْلخر َ‬ ‫‪ِ،‬و ُر ُسله َ‬
‫‪ِ،‬و ُكتُبه َ‬
‫َو َم ََلئكَته َ‬
‫انِفيِا ْل َق ْلبِ»‪ِ.‬هذا يف حال االقرتان‪ ،‬إذا اقرتانا يف الذكر‪ ،‬فذكرا م ًعا‪.‬‬
‫يم ُ‬
‫ٌ‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫فــ« ْاْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ‬

‫ويأيت اإلسالم واإليمان مقرتنين يف نصوص كثيرة يف القرآن والسنة‪ ،‬كقوله تعالى‪ :‬ﭿ ﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ‬

‫ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﭾ [الحجرات‪ ، ]14 :‬وقوله – جل وعال –‪ :‬ﭿ ﮢ ﮣ ﮤ‬

‫ﮥ ﮦﭾ [األحزاب‪ ، ]35 :‬ذكر اإلسالم واإليمان م ًعا‪.‬‬

‫ْت»(‪ .)3‬يف‬ ‫‪ِ،‬وب َ‬


‫كِ َآمن ُ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ك َِأ ْس َل ْم ُ‬
‫أيضا يف أحاديث‪ ،‬مثل قوله – عليه الصالة والسالم –‪« :‬ال َّل ُه َّمِ َل َ‬
‫ويأيت ً‬
‫اإلسالم قال‪َ « :‬ل َ ِ‬
‫ك»؛ ألهنا تعطي معنى االنقياد واالمتثال يف األعمال الظاهرة‪ ،‬ويف اإليمان قال‪« :‬ب َ ِ‬
‫ك»؛‬
‫ألهنا تعطي معنى االعتقاد الذي مكانه القلب‪.‬‬

‫َاِو ُأ ْن َثانَا» إلى‬


‫َا‪ِ،‬و َذكَرن َ‬
‫َا‪ِ،‬و َصغيرنَاِ َوكَبيرن َ‬ ‫َا‪ِ،‬و َشاهدن َ‬
‫َاِوغَائبن َ‬ ‫ويف الدعاء للميت قال‪« :‬ال َّل ُه َّمِاغْف ْرِل َح ِّين َ‬
‫َاِو َم ِّيتن َ‬
‫يمانِ»(‪ .)4‬لماذا قال عند‬ ‫‪ِ،‬و َم ْنِ ت ََو َّف ْي َت ُهِمنَّاِ َفت ََو َّف ُهِ َع َل ْ‬
‫ىِاْل َ‬ ‫أن قال‪« :‬ال َّل ُه َّم َِم ْن َِأ ْح َي ْي َت ُهِمنَّاِ َف َأ ْحيهِ َع َل ْ‬
‫ىِاْل ْس ََلم َ‬
‫يمانِ»؟ ألنه ليس هناك مجال ألن يعمل؛ من حضرته الوفاة ليس له مجال أن يصلي أو‬ ‫الوفاة‪َ « :‬ع َل ْ‬
‫ىِاْل َ‬
‫يمانِ»‪ ،‬أي‪ :‬توفه على عقيدة صحيحة؛‬ ‫يصوم أو يتصدق إلى آخره‪ .‬ولهذا يف الوفاة قال‪َ « :‬فت ََو َّف ُهِ َع َل ْ‬
‫ىِاْل َ‬
‫ألنه ليس عنده مجال وقد حضرته الوفاة أن يعمل‪ .‬لكن يف حال الحياة قال‪« :‬ال َّل ُه َّم َِم ْن َِأ ْح َي ْي َت ُهِمنَّاِ َِف َأ ْحيهِ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬راوه مسلم (‪.)8‬‬
‫(‪ )2‬المرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري (‪ ،)1120‬ومسلم (‪.)769‬‬
‫(‪ )4‬رواه الرتمذي (‪ ،)1024‬وابن ماجه (‪ ،)1498‬وأحمد (‪ ،)8809‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪21‬‬
‫َع َلىِ ْاْل ْس ََلمِ»‪ ،‬أي‪ :‬على األعمال والطاعات والعبادات والتقرب إلى – سبحانه وتعالى – بأنواع‬
‫القربات‪.‬‬

‫فالشاهد أن اإلسالم واإليمان تارة يذكران يف النصوص مقرتنين‪ ،‬كما يف النصوص التي مر ذكر جملة منها‬

‫من القرآن والسنة‪ ،‬وتارة يذكر كل منهما منفر ًدا عن اآلخر‪ ،‬كقوله – سبحانه وتعالى – عن اإلسالم‪ :‬ﭿﭸ‬

‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭾ [آل عمران‪ ، ]19 :‬وقوله‪ :‬ﭿﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳﭾ [آل عمران‪ ، ]85 :‬وقوله‪ :‬ﭿ‬

‫ﮂ ﮃ ﮄ ﮅﮆ ﭾ [المائدة‪ ، ]3 :‬هنا ذكر اإلسالم مفر ًدا‪ .‬ويف آيات أخرى كثيرة يذكر اإليمان مفر ًدا‪:‬‬

‫ﭿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭾ [النور‪ ،62 :‬والحجرات‪ ، ]15 :‬ذكر مفر ًدا‪.‬‬

‫والقاعدة يف الباب يف معنى وحقيقة اإليمان واإلسالم حال االقرتان واالفرتاق أهنما‪ :‬إذا اجتمعا افرتقا وإذا‬
‫انِفيِا ْل َق ْلبِ»ِِ‬
‫يم ُ‬
‫ٌ‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫افرتقا اجتمعا‪ .‬إذا اجتمعا – مثل هذا الحديث الذي ذكره المصنف‪ْ ِ« :‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ‬
‫‪ -‬افرتقا أي‪ :‬إذا جتمعا يف الذكر افرتقا يف المعنى؛ فيكون لإليمان معنى خاص ولإلسالم معنى آخر خاص‪.‬‬
‫إذا اجتمعا يف الذكر افرتقا يف المعنى‪ .‬وإذا افرتقا أي‪ :‬ذكر كل منهما مفر ًدا عن اآلخر‪ ،‬اجتمعا أي‪ :‬يف‬
‫المعنى‪ ،‬بمعنى أن كل منهما حال انفراده يشمل معنى اآلخر‪.‬‬

‫فاإلسالم حال االنفراد كقوله ﭿﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭾ [آل عمران‪ ]19 :‬يشمل العقيدة والشريعة‪ ،‬يشمل‬
‫أيضا األعمال‬
‫الباطن والظاهر‪ .‬وكذلك الشأن يف اإليمان إذا ذكر مفر ًدا‪ ،‬فإنه يشمل االعتقاد ويشمل ً‬
‫شامال‬
‫ً‬ ‫الظاهرة‪ ،‬كما قال أهل العلم يف تقرير ذلك يف قاعدة عظيمة‪ ،‬قالوا‪« :‬إن من األسماء ما يكون‬
‫لمسميات متعددة عند إفراده وإطالقه‪ ،‬فإذا قرن ذلك االسم بغيره صار داال على بعض تلك المسميات‪،‬‬
‫واالسم المقرون به دال على باقيها»(‪.)1‬‬

‫فإذن اإلسالم واإليمان إذا ذكرا م ًعا يف نص واحد‪ ،‬كما هو الشأن يف هذا الحديث‪ ،‬يكون لإلسالم معنى‬
‫ولإليمان معنى؛ اإلسالم يتناول األعمال الظاهرة كما قال يف الحديث‪ْ «ِ :‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َِي ٌِة»‪ِ ،‬واإليمان له‬
‫انِفيِا ْل َق ْلبِ»‪ .‬والمعنى المقرر يف هذا‬
‫يم ُ‬
‫معنى وهو األمور الباطنة التي تكون يف القلب كما قال هنا‪َ « :‬و ْاْل َ‬
‫الحديث هو نفس المعنى المقرر يف حديث جربيل المشهور كما أسلفت بيان ذلك وتوضيحه‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬جامع العلوم والحكم» البن رجب (‪ )106-105/1‬ط‪ .‬األرناؤوط‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪22‬‬

‫انِفيِا ْل َق ْلبِ» أشار‬ ‫انِفيِا ْل َق ْلبِ‪ِ،‬ثم يشير بيده إلى صدره»‪ .‬لما قال «ِ َو ْاْل َ‬
‫يم ُ‬ ‫يم ُ‬
‫ٌ‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫قال‪ْ « :‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ‬
‫اهنَا»‪ ِ،‬أي‪ :‬أصل التقوى ومنبعها‬ ‫اهنَا‪ِ،‬ال َّت ْق َو َ‬
‫ىِه ُ‬ ‫– عليه الصالة والسالم – بيده إلى صدره وقال‪« :‬ال َّت ْق َو َ‬
‫ىِه ُ‬
‫القلب ﭿ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰﭾ [الحج‪ .]32 :‬ويف الحديث القدسي قال‪َ « :‬ياِ‬
‫ِواح ٍدِمنْك ِْ‬
‫ُم‪ ،)1(»...‬فالتقوى‬ ‫ِوجنَّك ُْمِ كَانُواِ َع َلى ِ َأ ْت َقىِ َق ْلبِ ِ َر ُج ٍل َ‬
‫ِوإن َْسك ُْم َ‬ ‫ع َباديِ َل ْو َِأ َّن َِأ َّو َلك ُْم َ‬
‫ِوآخ َرك ُْم َ‬
‫منبعها وأصلها القلب؛ فإذا كان القلب متق ًيا هلل – سبحانه وتعالى – تبعته الجوارح يف تقواه‪ ،‬وإذا كان القلب‬
‫يِالج َسد ُِم ْض َغةً‪ِ:‬‬
‫َ‬ ‫بخالف ذلك انحرفت الجوارح بانحرافه‪ ،‬كما قال – عليه الصالة والسالم–‪َ « :‬أَل ََِوإ َّنِف‬
‫ب»(‪.)2‬‬ ‫ِالج َسدُ ِ ُك ُّل ُه َ‬
‫‪ِ،‬أَل ََِوه َيِال َق ْل ُ ِ‬ ‫‪ِ،‬وإ َذاِ َف َسدَ ْتِ َف َسدَ َ‬
‫ِالج َسدُ ِ ُك ُّل ُه َ‬
‫ِص َل َح َ‬
‫ت َ‬ ‫إ َذ َ‬
‫اِص َل َح ْ‬

‫فالتقوى أصلها ومنبعها وأساسها القلب؛ ولهذا ال يمكن أن يحكم على شخص جز ًما ويقينًا بأنه تقي أو‬
‫من المتقين‪ ،‬لكن إذا ظهرت عليه أمارات التقوى وأمارات الصالح يقال‪« :‬نحسبه – واهلل حسيبه – من‬
‫المتقين‪ ،‬وال نزكي على اهلل أحدً ا» أو‪« :‬ظاهره التقوى»‪ .‬أما أن يجزم اإلنسان جز ًما فهذا ال يجوز؛ فإن اهلل‬

‫تعالى يقول‪ :‬ﭿ ﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭾ [النجم‪ . ]32 :‬التقوى يف القلب‪ ،‬والقلب ال يطلع عليه إال‬
‫اهلل – سبحانه وتعالى ‪ .-‬قد تكون أعمال اإلنسان ظاهرها الصالح‪ ،‬لكن القلب فيه ما فيه من الدواخل من‬
‫نفاق أو رياء أو غير ذلك مما ال يعلمه وال يطلع عليه إال العليم بذات الصدور – جل وعال –؛ فإشارة النبي‬
‫اهنَا»ِفيه التنبيه على ذلك‪.‬‬ ‫– عليه الصالة والسالم – إلى القلب قائالً‪«ِ:‬ال َّت ْق َو َ‬
‫ىِه ُ‬

‫أيضا على خطورة القلب الشديدة‪ ،‬وأن هذه المضغة الصغيرة التي يف صدر اإلنسان وجوفه هي‬
‫وفيه التنبيه ً‬
‫التي يتحرك البدن بموجبها؛ ألن حركة البدن الظاهرة فرع عن مرادات القلوب‪ ،‬والجوارح ال يمكن أن‬
‫تتخلف عن مرادات القلوب؛ ألن القلب أصل وهي تبع له‪ ،‬كما قال بعض السلف‪« :‬القلب ملك وله‬
‫جنود‪ ،‬فإذا صلح الملك صلحت جنوده‪ ،‬وإذا فسد الملك فسدت جنوده »(‪ .)3‬هذا مثل للتوضيح‪ ،‬وإال‬
‫فإن القلب يف هذا الباب أشد من المثل المذكور؛ ألنه قد يطيب الملك ويخبث بعض الجند‪ ،‬وقد يخبث‬
‫الملك ويطيب بعض الجند‪ ،‬لكن القلب إذا طاب طابت الجوارح كلها‪ ،‬وإذا فسدت فسدت الجوارح‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪.)2577‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري ( ‪ ،)52‬ومسلم (‪.)1599‬‬
‫(‪ )3‬رواه عبد الرزاق يف «المصنف» (‪ ،221/11‬رقم ‪ ،)20375‬ومن طريقه البيهقي يف «شعب اإليمان» (‪ )133/1‬عن أبي هريرة موقو ًفا‪.‬‬
‫وقال البيهقي‪ :‬هكذا جاء موقو ًفا‪ ،‬ومعناه يف القلب جاء يف حديث النعمان بن بشير مرفوعًا‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪23‬‬
‫اهنَا»ِ‬ ‫اهنَا‪ِ،‬ال َّت ْق َو َ‬
‫ىِه ُ‬ ‫كلها؛ ألن الجوارح ال يمكن أن تتخلف عن مرادات القلب‪ .‬ولهذا قال هنا‪«ِ:‬ال َّت ْق َو َ‬
‫ىِه ُ‬
‫تنبيها منه – عليه الصالة والسالم – على خطورة القلب‪ .‬ولهذا ما أحوج المسلم إلى أن يؤتى قلبه التقوى‪،‬‬
‫ً‬
‫الله َِّم ِآتِ ِ َن ْفسي ِ َت ْق َو َاها‪ِ،‬‬
‫ويف الدعاء المأثور عن نبينا – عليه الصالة والسالم – وهو يف صحيح مسلم‪ُ « :‬‬
‫َّاها‪َ ِ،‬أن َ ِ‬
‫ْتِ َول ُّي َهاِ َو َم ْو ََل َها»(‪.)1‬‬ ‫نِ َزك َ‬ ‫َو َزك َِّهاِ َأن َ ِ‬
‫ْتِ َخ ْي ُِرِ َم ِْ‬

‫هذا الحديث يف إسناده علي بن مسعدة‪ ،‬قال يف «التقريب»‪« :‬صدوق له أوهام»(‪ ،)2‬وقال البخاري‪« :‬فيه‬

‫اهنَا‪ِ،‬ال َّت ْق َو َ‬ ‫نظر» ‪ ،‬أي‪ :‬علي بن مسعدة‪ .‬فاإلسناد ضعيف‪ ،‬لكن قوله‪«ِ:‬ال َّت ْق َو َ‬
‫(‪)3‬‬
‫اهنَا»ِيشهد له حديث‬
‫ىِه ُ‬ ‫ىِه ُ‬
‫اهنَا‪ِ ،‬ويشير إلى صدره ثالث‬ ‫أبي هريرة يف «صحيح مسلم»‪ ،‬قال – عليه الصالة والسالم –‪« :‬ال َّت ْق َِو َ‬
‫ىِه ُ‬
‫مرات »(‪.)4‬‬

‫انِفيِا ْل َق ْلبِ»‪ ،‬وإن كان جاء يف هذا اإلسناد الضعيف‪ ،‬لكن من حيث‬
‫يم ُ‬
‫ٌ‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫وقوله‪ْ «ِ ِ:‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ‬
‫انِفيِا ْل َق ْلبِ» مثل ما‬ ‫المعنى صحيح‪ .‬معناه حق‪ْ « :‬اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َِي ٌِة»ِ مثل ما جاء يف حديث جربيل‪َ « ،‬و ْاْل َ‬
‫يم ُ‬
‫جاء يف حديث جربيل – هذا يف حال اقرتاهنما‪ .‬أما يف حال انفراد كل منهما يف الذكر فإنه يتناول الدين كله‬
‫عقيد ًة وشريع ًة‪.‬‬

‫أورد شيخ اإلسالم بن تيمية ‪ $‬هذا الحديث يف مواضع من كتبه‪ ،‬وعلق يف أحد المواضع تعلي ًقا ً‬
‫نفيسا‬
‫انِفيِا ْل َق ْلبِ»‪ .‬يقول ابن تيمية ‪:$‬‬
‫يم ُ‬
‫ٌ‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫«اْل ْس ََل ُمِ َع ََلن َية َ‬
‫على الحديث‪ .‬يف الحديث – انتبه ‪ -‬قال‪ْ :‬‬
‫«فاإلسالم أعمال اإليمان‪ ،‬واإليمان عقود اإلسالم؛ فال إيمان إال بعمل‪ ،‬وال عمل إال بعقد [قلب]»(‪.)5‬‬
‫وهذا يف التالزم بين اإلسالم واإليمان‪ ،‬فاإلسالم واإليمان متالزمان؛ اإلسالم أعمال اإليمان‪ :‬اإليمان‬
‫عقيدة يتبعها شريعة‪ ،‬يتبعها امتثال وانقياد وطواعية ألوامر اهلل – سبحانه وتعالى –‪ ،‬فاإلسالم أعمال‬
‫اإليمان‪ .‬واإليمان عقود اإلسالم؛ ألن األعمال الظاهرة ليست بنافعة وال مجدية وال مثمرة لصاحبها شي ًئا‬
‫إال إذا كانت مبنية على عقود‪ ،‬أي‪ :‬عقيدة صحيحة ثابتة يف القلب‪ ،‬وإال فإن األعمال مهما كثرت وتنوعت‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪.)2722‬‬
‫(‪« )2‬تقريب التهذيب» (ص‪ ،704‬رقم ‪.)4832‬‬
‫(‪« )3‬التاريخ الكبير» للبخاري (‪ ،295-294/6‬رقم ‪.)2448‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم (‪.)2564‬‬
‫(‪« )5‬مجموع الفتاوى» (‪.)334/7‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪24‬‬

‫ال تنفع ما لم تكن قائمة على عقود اإليمان قال اهلل تعالى‪ :‬ﭿ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ‬

‫ﰅ ﰆ ﰇﭾ [المائدة‪.]5 :‬‬
‫‪25‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪25‬‬
‫قا ِل‪ِ:‬‬
‫(‪)1‬‬
‫انِ‬
‫يم َ‬
‫(‪ )7‬حدثنا مصعب بن المقدام‪ ،‬نا أبو هالل‪ ،‬عن قتادة ‪ ،‬عن أنس‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪ََ « :‬لِإ َ‬
‫ل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه»‪.‬‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫كذلك ابن القيم ‪ $‬له تعليق نفيس جدً ا على الحديث المتقدم يقول فيه ‪« :$‬فكل إسالم ظاهر ال ينفذ‬
‫صاحبه منه إلى حقيقة اإليمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من اإليمان الباطن‪ ،‬وكل حقيقة‬
‫باطنة ال يقوم صاحبها بشرائع اإلسالم الظاهرة ال تنفع ولو كانت ما كانت»(‪ .)2‬وهذا ً‬
‫أيضا فيه التنبيه للتالزم‬
‫بين اإلسالم واإليمان‪ ،‬وأنه ال إسالم إال بإيمان‪ ،‬وال إيمان إال بإسالم‪.‬‬

‫ثم أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث‪ ،‬حديث أنس بن مالك ﭬ‪ ،‬أن النبي – عليه الصالة‬
‫انِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه»‪ .‬واألمانة هي الشيء الذي يطلب حفظه‪ ،‬وأن يؤدى لصاحبه‬
‫يم َ‬
‫والسالم – قال‪ََ « :‬لِإ َ‬
‫واف ًيا كما اؤتمن عليه‪ .‬وهذا الحديث فيه إخبار النبي – عليه الصالة والسالم – عن مكانة األمانة من‬
‫اإليمان‪ ،‬وأن األمانة حفظها من اإليمان‪ ،‬وإضاعتها نقص يف اإليمان الواجب؛ ولهذا نفى – عليه الصالة‬
‫انِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه»‪.‬‬
‫يم َ‬
‫والسالم – اإليمان عمن ال أمانة له قال‪ََ « :‬لِإ َ‬

‫والنفي هنا لإليمان ليس منصبا على أصل اإليمان؛ ألن أصل اإليمان ال ينتفي بفعل كبيرة أو ترك واجب‬
‫– ما لم يكن كفر ًا‪ ،‬وإنما النفي هنا منصب على كمال اإليمان الواجب‪ .‬فالمنفي ليس أصل اإليمان وإنما‬
‫هو كماله الواجب‪ .‬والكمال كماالن‪ :‬كمال مستحب‪ ،‬وكمال واجب‪ ،‬والكمال المستحب ال يأثم اإلنسان‬
‫برتكه وإنما تفوته الفضيلة‪ ،‬والكمال الواجب يأثم اإلنسان برتكه‪ .‬ولهذا يأيت يف النصوص نفي اإليمان يف‬
‫ترك واجب من واجبات اإليمان أو ارتكاب كبيرة من الكبائر‪.‬‬

‫ولهذا ينبغي أن يفهم هذا الحديث على بابه؛ ألن من لم يفهم الحديث على بابه قد ينحى به الفهم ويشتط‬
‫به الفهم إلى عقيدة الخوارج الذين يك ِّفرون بالكبيرة ويفهمون من مثل هذا الحديث ونظائره نفي أصل‬
‫اإليمان وكفر من وقع يف شيء من هذه الكبائر‪ .‬والحق أن المنفي هنا كمال اإليمان الواجب‪ ،‬بمعنى أن‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يف نسخة «كتاب اإليمان»‪ ،‬يظهر سقط قتادة بين أبي هالل وأنس‪ ،‬والمثبت من «المصنف» البن أبي شيبة ط‪ .‬الحوت (‪.)30320‬‬
‫(‪« )2‬الفوائد» البن القيم (ص‪ ،)207‬ط‪ .‬بكر أبو زيد‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪26‬‬

‫من ال أمانة له‪ ،‬أو من ضعفت فيه األمانة‪ ،‬ضعف إيمانه بحسب ضعف أمانته‪ .‬ولهذا سيأيت معنا أثر عظيم‬
‫عن عروة بن الزبير – رحمه اهلل – فيه توضيح هذا الحديث قال‪« :‬ما نقصت أمانة عبد قط إال نقص‬
‫انِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه»‪ ،‬فاإليمان‬
‫يم َ‬ ‫(‪)1‬‬
‫إيمانه» قال‪ « :‬نقص» ولم يقل ذهب! وهذا فيه توضيح لقوله‪ََ «ِ :‬لِإ َ‬
‫المنفي هنا ليس أصل اإليمان وإنما كمال اإليمان الواجب‪ ،‬ولهذا قال عروة‪« :‬ما نقصت أمانة عبد قط إال‬
‫نقص إيمانه»‪ .‬فاألمانة شأهنا يف الدين عظيم‪ ،‬ومكانتها علية‪ ،‬ومن علو مكانتها أن النبي – عليه الصالة‬
‫والسالم – نفى يف هذا الحديث اإليمان الواجب عمن ال أمانة له‪.‬‬

‫واألمانة‪ ،‬وقد سبق تعريفها وبيان معناها والمراد هبا‪ ،‬على ثالثة مراتب أو ثالثة أقسام‪ :‬أمانة مع اهلل‪ ،‬وأمانة‬
‫مع عباده‪ ،‬وأمانة مع النفس‪ .‬واألمانة مع اهلل بحفظ دينه‪ ،‬والعبد مؤتمن على دين اهلل – تبارك وتعالى –‬
‫ومطلوب منه أن يحفظ الدين وأن يحافظ عليه‪ ،‬وأن يؤدي حقوق اهلل – سبحانه وتعالى – كما أمره وكما‬
‫أمره رسوله – عليه الصالة والسالم ‪ .-‬واألمانة مع عباد اهلل بأن يؤدي الحقوق للناس‪ ،‬وأن يؤدي األمانات‬
‫إلى أهلها‪ .‬واألمانة مع النفس‪ :‬اإلنسان مؤتمن على سمعه‪ ،‬وعلى بصره‪ ،‬وعلى يده‪ ،‬وعلى جميع حواسه؛‬
‫ح َِف ِْظ َ ِ‬
‫ك»(‪.)2‬‬ ‫اهللَِ َِي ِْ‬
‫ظِ ِ‬ ‫اح َفِ ِ‬
‫فهو مؤتمن عليها‪ ،‬ويجب عليه أن يحفظ األمانة‪ .‬ويف الحديث قال‪ِْ « :‬‬

‫فاألمانة باهبا أوسع من حفظ الودائع أو الرهون التي تتعلق بالناس ‪ -‬هذا من األمانة ‪ ،-‬لكن معناها أوسع‬
‫من ذلك‪ .‬وهي من اإليمان‪ ،‬نقصها نقص يف اإليمان الواجب كما يدل لذلكم هذا الحديث‪ ،‬حديث أنس‬
‫بن مالك – رضي اهلل عنه وأرضاه ‪.-‬‬

‫واإلسناد هنا فيه أبو هالل – الراوي عن قتادة – صدوق فيه لين(‪ ،)3‬لكن الحديث جاء من طرق عديدة‬
‫يصح هبا الحديث ويثبت عن رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫قالِ‪ِ:‬‬

‫ان َِي ْبدَ ُأِ‬


‫يم ُ‬
‫(‪ )8‬حدثنا أبو أسامة‪ ،‬نا عوف‪ ،‬عن عبد اهلل بن عمرو بن هند الجمل ِّي‪ ،‬قال‪ :‬قال عل ٌّي ﭬ‪ْ « :‬اْل َ‬
‫اق َِي ْبدَ ُأِ ُل ْم َظةٌِ‬ ‫بِ ُِك ُّل ُه َ‬
‫‪ِ،‬وإ َّنِالنِّ َف َ‬ ‫َّىِي ْب َي َّضِا ْل َق ْل ُ‬
‫اِحت َ‬ ‫انِا ْز َدا َد ْتِ َب َي ً‬
‫اض َ‬ ‫يم ُ‬ ‫ُل ْم َظةٌِ َب ْي َضا ُءِفيِا ْل َق ْلب‪ُ ِ،‬ك َّل َماِا ْز َدا َد ْ‬
‫ِاْل َ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ص ‪ 12‬من هذا الملف‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي (‪ )2516‬وأحمد (‪ 2669‬و‪ 2763‬و‪ ،)2803‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪« )3‬تقريب التهذيب» (ص‪ ،849‬رقم ‪ .)5960‬وأبو هالل هو محمد بن سليم الراسبي‪.‬‬
‫‪27‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪27‬‬
‫بِ ُك ُّل ُِه‪َ ِ.‬وا َّلذيِ َن ْفسيِب َيدهِ َل ْو َِش َق ْقت ُْمِ َع ْنِ َق ْلبِ‬
‫َّىِي ْس َو َّدِا ْل َق ْل ُ‬
‫ِحت َ‬ ‫َس ْو َدا ُءِفيِا ْل َق ْلبِ‪َ ِ،‬ف ُك َّل َماِا ْز َدا َدِالنِّ َف ُ‬
‫اقِا ْز َدا َد ْت َ‬
‫‪ِ،‬و َل ْو َِش َِق ْقت ُْمِ َع ْنِ َق ْلب ُِمنَاف ٍق َِو َجدْ ت ُُمو ُه َِأ ْس َو َدِا ْل َق ْلبِ»‪.‬‬
‫ُم ْؤم ٍن َِو َجدْ ت ُُمو ُه َِأ ْب َي َضِا ْل َق ْلب َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا األثر عن علي بن أبي طالب – رضي اهلل عنه وأرضاه – قال‪«ِ:‬اإليمان‬
‫يبدأ» أي‪ :‬بدايات اإليمان يف القلب «لمظة» أي‪ :‬نكته صغيرة ونقطة يسيرة وقدر يسير‪ ،‬ثم تتسع مساحته يف‬
‫القلب بتوفيق اهلل – سبحانه وتعالى – ومنه‪ .‬فأول ما يبدأ‪ ،‬يبدأ لمظة‪ ،‬أي يبدأ نقطة يسيرة أو نكته قليلة أو‬
‫قدر يسير‪ ،‬ثم يزداد‪ .‬وهذا فيه إشارة إلى أن اإليمان يزيد وينقص‪ ،‬ولزيادته أسباب ولضعفه أسباب‪ ،‬وسيأيت‬
‫لهذا نصوص وآثار يرويها المصنف – رحمه اهلل تعالى ‪ .-‬فأول ما يبدأ اإليمان يف القلب يكون لمظة‪،‬‬
‫أي‪ :‬نكته يسيرة أو نقطة قليلة‪ ،‬ثم يبدأ يزداد وتتسع مساحته يف القلب‪.‬‬

‫اضا حتى يبيض القلب كله»‪ ،‬يعني‬


‫قال‪« :‬اإليمان يبدأ لمظة بيضاء في القلب‪ ،‬كلما ازداد اإليمان ازدادت بي ً‬
‫يصبح القلب كله أبيض إذا عمر القلب باإليمان؛ ألن القلوب يف اإليمان متفاوتة‪ :‬هناك قلوب ال إيمان‬
‫الِ َذ َّر ٍِةِم ْنِِ‬
‫َانِفيِ َق ْلبهِِم ْث َق ُ ِ‬
‫ن ِك َِ‬
‫نِالنَّارِِ َم ِْ‬
‫جِم َِ‬
‫أصال‪ ،‬وهناك قلوب فيها إيمان يسير‪ ،‬ويف الحديث ‪َ «:‬يخْ ُر ُِ‬
‫فيها ً‬
‫ٍ‬ ‫ٍ (‪)1‬‬
‫ان» فقد يكون يف القلب « َذ َّر ِة»ِِأي‪ :‬حبة‪ ،‬قدر يسير جدً ا‪ ،‬وقد يكون القلب كله إيمان‪ ،‬ويكون ً‬
‫عامرا‬ ‫يم ِ‬
‫إ َ‬
‫بياضا حتى يبيض القلب‬
‫باإليمان‪ .‬فأول ما يبدأ اإليمان بالقلب يكون نكتة‪ ،‬ثم كلما ازداد اإليمان ازدادت ً‬
‫كله‪ ،‬وهذا حين يعمر القلب تما ًما باإليمان‪.‬‬

‫قال‪«ِ :‬وإن النِّفاق يبدأ لمظة سوداء في القلب» أي‪ :‬نقطة سوداء يف القلب‪« ،‬فكلما ازداد النِّفاق ازدادت‬
‫حتى يسود القلب كله‪ .‬والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن وجدتموه أبيض القلب‪ ،‬ولو شققتم‬
‫عن قلب منافق وجدتموه أسود القلب»‪ .‬فهذا فيه حال القلب مع اإليمان قو ًة وضع ًفا‪ ،‬وأن بدايات اإليمان‬
‫يضا النفاق‪،‬‬
‫يسيرا جدً ا ثم يزداد‪ ،‬يزداد إلى أن يضيء القلب كله ويشرق باإليمان‪ .‬وأ ً‬
‫قدرا ً‬
‫يف القلب تكون ً‬
‫بداياته نقطة سوداء يسيرة‪ ،‬إلى أن يظلم القلب كله تما ًما بالنفاق‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي (‪ )1999‬وصححه األلباين‪ .‬وروى البخاري نحوه (‪ )7439‬وفيه‪« :‬اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان‬
‫فأخرجوه»‪ .‬ولمسلم نحوه (‪ )183‬بلفظ «ذرة من خير» بدل لفظ «ذرة من إيمان»‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪28‬‬

‫وهذا الذي جاء يف هذا األثر جاء معناه يف حديث يرفع إلى النبي – عليه الصالة والسالم – يف تفسير قوله‬

‫‪ -‬جل وعال ‪ :-‬ﭿ ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭾ [المطففين‪ ]14 :‬ومعنى ران‪ :‬غطى‪ ،‬بمعنى أن القلب ينكت‬
‫فيه نكتة سوداء‪ ،‬ثم أخرى‪ ،‬ثم ثالثة‪ ،‬ثم رابعة‪ ،‬إلى أن يغطي السواد القلب كله‪ .‬ففي الرتمذي وغيره من‬
‫َت ِ ُن ْك َت ٌِة ِ َس ْو َدا ُِء ِفيِ‬ ‫ن ِإ َذا ِ َأ ْذن َ ِ‬
‫َب ِكَان ْ ِ‬ ‫حديث أبي هريرة أن النبي – عليه الصالة والسالم – قال‪« :‬إ َِّن ِا ْل ُم ْؤم َِ‬
‫َابِ َو َنز ََعِِ َو ْاس َت ْغ َف َر‪ُ ِ،‬صق َلِِ َق ْل ُب ُِه» أي‪ :‬نقي وطهر منها قلبه‪َ « ،‬وإ ِْنِزَا َدِِزَا َد ْت‪َ ِ،‬حتَّىِ َي ْع ُل َِوِ َق ْل َب ُِه‪َ ِ،‬ذ َِ‬
‫اكِ‬ ‫َق ْلبه‪َ ِ،‬فإ ِْنِت َ ِ‬

‫لِفيِا ْل ُق ْرآنِ‪ِ:‬ﭿﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂﭾ [المطففين‪ .)1(»]14 :‬وهذا المعنى‬ ‫انِا َّلذيِ َذك ََرِِ ِ‬
‫اهللُِ َع َّزِِ َو َج َّ ِ‬ ‫الر ُِ‬
‫َّ‬
‫الثابت يف هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي هريرة عن النبي – عليه الصالة والسالم –‪ ،‬جاء عن جمع من الصحابة‬

‫والتابعين يف تفسير قول اهلل – جل وعال –‪ :‬ﭿﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﭾ [المطففين‪« ، ]14 :‬ران» أي‪:‬‬
‫غطى «على قلوهبم ما كانوا يكسبون» أي‪ :‬من آثام وخطايا‪ ،‬تكون نكتة تتلوها أخرى إلى أن يظلم القلب‬
‫باآلثام ‪.‬‬

‫واإلسناد هنا فيه انقطاع بين عبد اهلل بن عمرو بن هند وعلي بن أبي طالب ﭬ‪ ،‬فاإلسناد ضعيف‪ ،‬لكن‬
‫المعنى من حيث الجملة له دالئل وشواهد كثيرة يف السنة ويف المأثور عن الصحابة‪ ،‬وسيأيت بعضها عند‬
‫المصنف – رحمه اهلل تعالى ‪.-‬‬

‫قالِ‪ِِ:$‬‬

‫(‪ )9‬حدثنا وكيع‪ ،‬نا األعمش‪ ،‬عن سليمان بن ميسرة(‪ ،)2‬عن طارق بن شهاب‪ ،‬قال‪ :‬قال عبد اهلل‪« :‬إ َّنِ‬
‫َّىِيص َيرِ َل ْو ُِنِ َق ْلبهِ َل ْو َنِ‬
‫ىِحت َ‬‫َت ُِأ ْخ َر َ‬
‫ْبِ َف ُتنْك ُ‬ ‫بِ َّ‬
‫الذن َ‬ ‫ٌِس ْو َدا ُء‪ُ ِ،‬ث َّم ُِي ْذن ُ‬
‫َتِفيِ َق ْلبهِ ُن ْك َتة َ‬
‫ْبِ َف ُينْك ُ‬ ‫ب َّ‬
‫ِالذن َ‬ ‫الر ُج َلِ َل ُي ْذن ُ‬
‫َّ‬
‫ِالر ْبدَ اءِ»‪.‬‬ ‫َّ‬
‫الشاة َّ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ $‬هذا األثر عن عبد اهلل بن مسعود ﭬ أنه قال‪« :‬إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة‬
‫سوداء»؛ «ينكت»‪ ،‬أي‪ :‬يوضع «في قلبه نكتة»‪ ،‬أي‪ :‬نقطة‪« ،‬سوداء»‪ ،‬أي‪ :‬لوهنا أسود‪« .‬ثم يذنب الذنب‬
‫فتنكت أخرى»‪ ،‬فإذا استمر يف الذنوب استمر نكت السواد يف قلبه إلى أن يسود القلب كله‪ ،‬ومر معنا يف‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي (‪ ،)3334‬وابن ماجه (‪ ،)4244‬وأحمد (‪ )7952‬واللفظ له‪ ،‬وحسنه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )2‬جاء يف نسخة «كتاب اإليمان» (مسيرة)‪ ،‬والمثبت من «المصنف» (‪ )30322‬ط‪ .‬الحوت‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪29‬‬
‫الحديث المرفوع عن النبي – عليه الصالة والسالم – أن هذا هو الران يف قوله تعالى‪ :‬ﭿ ﭹﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ‬

‫ﮀ ﮁ ﮂ ﭾ [المطففين‪ ، ]14 :‬أي‪ :‬غطى «على قلوهبم ما كانوا يكسبون» أي‪ :‬من ذنوب وآثام‪.‬‬

‫قال‪«ِ:‬حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء»‪ ،‬والربداء أي‪ :‬ذات لون بين السواد والغبرة‪« ،‬حتى يصير لون‬
‫قلبه لون الشاة الربداء»‪ِ،‬أي‪ :‬الشاة السوداء التي عليها غربة‪ ،‬فيصبح لوهنا أسود عليه غبرة‪ ،‬وهذا منظر قبيح‬
‫يف عين الرائي والناظر‪ ،‬فيكون القلب هبذه الصفة حينما تغطي الذنوب واآلثام – والعياذ باهلل – القلب‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬
‫ٍ‬
‫ت َِأ َما َنةُِ َع ْبدِ َق ُّطِإ ََّلِ َن َق َصِإِ َ‬
‫يما ُن ُِه»‪.‬‬ ‫(‪ )10‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬قال‪ :‬قال هشام‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪َ « :‬ماِ َن َق َص ْ‬

‫الشرحِ‪ِ:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا األثر عن عروة بن الزبير – رحمه اهلل تعالى – أنه قال‪« :‬ما نقصت أمانة‬
‫عبد قط إال نقص إيمانه»‪ .‬ويف هذا األثر التنصيص على أن اإليمان ينقص قال‪« :‬إال نقص إيمانه»؛ فاإليمان‬
‫ينقص ولنقصه أسباب‪ ،‬ومن أسباب نقصه نقص األمانة‪ ،‬ونقص الطاعات والعبادات التي أمر – سبحانه‬
‫– عبده هبا ودعاه إلى فعلها‪ ،‬كما أنه ينقص بارتكاب الذنوب والمعاصي واآلثام‪ .‬فقوله‪« :‬إال نقص إيمانه»‬
‫فيه التنصيص على أن اإليمان ينقص‪.‬‬

‫والسنة جاء فيها التنصيص على ذلك يف مثل قوله – عليه الصالة والسالم –‪َ ...« :‬ما ِ َر َأ ْي ُ ِ‬
‫ت ِم ْنِ ِنَاق َصاتِِ‬
‫ن ِ َر َأى ِمنْك ِْ‬
‫ُم ِ ُمنْك ًَرا ِ َف ْل ُي َغ ِّي ْر ُِه ِب َيده‪َ ِ ،‬فإ ِْن ِ َل ِْم ِ َي ْستَط ِْعِ‬ ‫ل ِ َود ٍِ‬
‫ين‪ ،)1(»...‬وقوله – عليه الصالة والسالم –‪َ « :‬م ِْ‬ ‫َع ْق ٍِ‬

‫نِا ْل َقو ُّ‬


‫ي‪َ ِ،‬خ ْي ٌِرِ‬ ‫كِ َأ ْض َعفُِِ ْاْل َ‬
‫يمانِ»(‪ ،)2‬ويف الحديث اآلخر قال‪« :‬ا ْل ُم ْؤم ُِ‬ ‫َفبل َسانه‪َ ِ،‬فإ ِْنِ َل ِْمِ َي ْستَط ِْعِ َفب َق ْلبه‪َ ِ،‬و َذل َ ِ‬

‫َو َأ َح ُّ‬
‫بِِِإ َلىِِاهللِِِم َنِِِا ْل ُم ْؤمنِِِ َّ‬
‫الضعيفِ»(‪ .)3‬فاإليمان يقوى ويضعف‪ ،‬ويزيد وينقص‪ ،‬ولزيادته أسباب‬
‫ولنقصانه أسباب‪.‬‬

‫والمسلم إذا علم ذلك اجتهد يف معرفة أسباب زيادة اإليمان ليفعلها‪ ،‬واجتهد كذلك يف معرفة أسباب نقص‬
‫اإليمان ليجتنبها‪ ،‬سائالً ربه – تبارك وتعالى – أن يقوي إيمانه‪ ،‬وأن يثبته‪ ،‬وأن يحفظه ويعيذه من مضالت‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)304‬ومسلم (‪.)79‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم (‪.)49‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم (‪.)2664‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪30‬‬

‫ان ِ َل َيخْ َل ُقِ ِفيِ ِ َج ْو ِ‬


‫فِ‬ ‫يم َِ‬
‫الفتن‪ .‬وقد جاء يف الحديث عن النبي – عليه الصالة والسالم – أنه قال‪« :‬إ َِّن ِ ْاْل َ‬
‫قِال َّث ْو ُ ِ‬
‫بِ‬ ‫فِ َأ َحدك ِْ‬
‫ُمِك ََماِ َيخْ َل ُ ِ‬ ‫انِ َل َيخْ َل ُ ِ‬
‫قِفيِ َج ْو ِ‬ ‫يم َِ‬ ‫قِال َّث ْو ُ ِ‬
‫ب»‪ ،‬أي‪ :‬يبلى ويتقادم‪ ،‬قال‪« :‬إ َِّنِ ْاْل َ‬ ‫َأ َحدك ِْ‬
‫ُمِك ََماِ َيخْ َل ُ ِ‬
‫انِفيِِ ُق ُلوبك ِْ‬
‫ُم»(‪ .)1‬نسأل اهلل الكريم رب العرش العظيم أن يجدد إيماننا‬ ‫اس َأ ُلواِِاهللَِِ َأ ْنِِ ُي َجدِّ َِدِ ْاْل َ‬
‫يم َِ‬ ‫ا ْلخَ ل ُق‪َ ِ،‬ف ْ‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫وقوله هنا‪« :‬ما نقصت أمانة عبد قط إال نقص إيمانه» فيه أن نقص األمانة من نقص اإليمان‪ ،‬وهذا فيه دليل‬
‫على دخول األعمال يف مسمى اإليمان‪ ،‬وأن اإليمان ينقص بنقص األعمال ألهنا داخلة يف مسماه؛ فكلما‬
‫ترك العبد من أعمال الدين وواجباته‪ ،‬نقص إيمانه بحسب ما نقص عنده من أعمال اإليمان‪ِ.‬‬

‫أما إسناد األثر السابق [رقم ‪ ،]9‬فقد ذكر الشيخ األلباين ‪ $‬أنه صحيح عن ابن مسعود‪ ،‬قال‪« :‬وهذا األثر‬
‫صحيح اإلسناد عن ابن مسعود »(‪.)2‬‬

‫وأما هذا األثر‪ ،‬أثر عروة بن الزبير‪ ،‬ما أذكر شي ًئا حوله‪ .‬وقفتم على شيء؟‬

‫القارئ‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬

‫الشارح‪ :‬إسناده صحيح‪ ،‬وكيع عن سفيان عن هاشم‪...‬نعم ما فيه‪...‬لكن خشيت أن فيه علة غير ظاهرة‪.‬‬

‫كثيرا منه يف‬


‫وبالمناسبة – والحق يقال – أنا أعترب أخانا الشيخ عبد الرحمن من مشايخنا‪ ،‬واستفدنا حقيقة ً‬
‫خيرا – على الوالد‪ .‬فأنا أعتربه من مشايخي‪ ،‬رفع اهلل قدره وبارك‬
‫سنوات كثيرة يف قراءته المتقنة – جزاه اهلل ً‬
‫فيه‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫وب»‪.‬‬
‫ان َِه ُي ٌ ِ‬
‫يم ُ‬
‫(‪ )11‬حدثنا سفيان بن عيينة‪ ،‬عن عمرو‪ ،‬عن عبيد بن عمير‪ ،‬قال‪ْ « :‬اْل َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا األثر عن عبيد بن عمير أنه قال‪« :‬اإليمان هيوب»‪ ،‬أي‪ :‬اإليمان له هيبة‪.‬‬
‫وإذا أكرم اهلل – سبحانه وتعالى – عبده باإليمان‪ ،‬جعل له هيبة يف قلوب الناس؛ ألن «اإليمان هيوب»‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الحاكم يف «المستدرك»‪ ،‬والطرباين يف «المعجم الكبير»‪ ،‬كما يف «الصحيحة» (‪.)1585‬‬
‫(‪« )2‬كتاب اإليمان» (ص‪.)19‬‬
‫‪31‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪31‬‬
‫وإذا كان اإلنسان ذا إيمان صحيح‪ ،‬وذا صلة قوية بربه – سبحانه وتعالى – جعل اهلل له هيبة يف قلوب‬
‫الناس؛ ألن «اإليمان هيوب»‪.‬‬

‫ويروى عن بعض السلف أنه قال‪« :‬من خاف اهلل خافه كل شيء‪ ،‬ومن لم يخف اهلل خاف من كل شيء»‪،‬‬
‫فهذا مثل قول عبيد بن عمير‪« :‬اإليمان هيوب»‪ ،‬أي‪ :‬أن اإليمان إذا وجد يف القلب وتمكن من القلب فله‬
‫هيبة‪ ،‬وصاحبه ال يخاف إال اهلل – سبحانه وتعالى –‪ ،‬ويجعل اهلل – سبحانه وتعالى – له هيبة يف قلوب‬
‫مذعورا من كل شيء‪.‬‬
‫ً‬ ‫الناس‪ .‬ومن ال إيمان له يصبح قلبه قل ًبا خائ ًفا من كل شيء‪،‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )12‬حدثنا ابن عيينة‪ ،‬عن عمرو‪ ،‬عن نافع بن جبير‪ ،‬أن رسول اهلل ﷺ بعث بشر بن سحيم الغفاري يوم‬
‫النحر ينادي في منًى‪َ « :‬أ َّن ُه ََِل َِيدْ ُخ ُلِا ْل َجنَّ َِةِإ ََّلِ َن ْف ٌس ُِم ْؤمنَ ٌِة»‪.‬‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث العظيم‪ ،‬حديث بشر بن سحيم الغفاري ﭬ‪ ،‬أن رسول اهلل‬
‫ﷺ بعثه يوم النحر ينادي يف منى‪« :‬أنه ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة»‪.‬‬

‫هذا إعالن عظيم يدوي يف الناس‪ ،‬ودعا النبي – عليه الصالة والسالم – يف أيام التشريق غير واحد من‬
‫أصحابه إلى أن ينادوا يف الناس؛ لكثرة الجموع التي حجت بيت اهلل الحرام يف ذلك العام‪ ،‬فأرسل عد ًدا من‬
‫أصحابه – عليه الصالة والسالم – ينادي هذا النداء‪« :‬ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة»‪ ،‬أما النفس الكافرة‬

‫ال تدخل الجنة‪ :‬ﭿﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ‬

‫ﮜ ﮝ ﮞ ﮟﮠﭾ [األعراف‪ ، ]40 :‬فالجنة ال يدخلها إال نفس مؤمنة‪.‬‬

‫قال‪« :‬أن رسول اهلل ﷺ بعث بشر بن سحيم الغفاري يوم النحر ينادي‪ .»...‬والحديث جاء له عدة روايات‬
‫لِا ْل َجنَّ َِةِإ ََّلِِ ُم ْؤم ٌِ‬
‫ن»(‪.)1‬‬ ‫عن بشر ﭬ قال يف بعضها‪ :‬أن النبي ﷺ خطب أيام التشريق فقال‪« :‬إ َّن ُِهِ ََلِِ َيدْ ُخ ُ ِ‬

‫ويف بعضها يقول أن النبي ﷺ «أمره أن ينادي بمنًى‪ :‬أن ال يدخل الجنة إال نفس مسلمة‪.)2(»...‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه ابن أبي شيبة يف «المصنف» (‪ )15264‬ط‪ .‬الحوت‪ ،‬والطرباين يف «المعجم الكبير» (‪ ،)1210‬وأحمد (‪.)18957‬‬
‫(‪ )2‬رواه أبو داود الطيالسي يف «مسنده» (‪ ،)1395‬والطرباين يف «المعجم الكبير» (‪.)1215‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪32‬‬

‫وجاء يف «صحيح مسلم» عن كعب بن مالك «أن رسول اهلل ﷺ بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق‪،‬‬
‫ن»(‪.)1‬‬ ‫لِا ْل َجنَّ َِةِإ َّ ِ‬
‫َلِ ُم ْؤم ٌِ‬ ‫فنادى‪َ :‬أ َّن ُِهِ َ ِ‬
‫َلِ َيدْ ُخ ُ ِ‬

‫وأيضا يف العام الذي قبل عام حجة الوداع‪ ،‬لما بعث النبي – عليه الصالة والسالم – أبا بكر ﭬ وحج‬
‫ً‬
‫بالناس وكان معه علي بن أبي طالب‪ ،‬أمرهم – عليه الصالة والسالم – هبذا النداء(‪ .)2‬وكان يف ذلك العام‬
‫ممن بعث ينادي هبذا النداء‪« :‬ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة»ِأبو هريرة ﭬ‪ ،‬حتى قال أبو هريرة‪« :‬فكنت‬
‫أنادي حتى صحل صوتي»(‪ )3‬يعني‪ :‬حتى بح صويت وأنا أهتف بالناس‪« :‬ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة»‪.‬‬

‫وأيضا جاء قبل ذلك يف غزوة خبير‪ ،‬أمر – عليه الصالة والسالم – من ينادي بذلك قال‪َ « :‬ياِِا ْب َنِِا ْلخَ َّطاب ِ‪ِ،‬‬
‫ً‬
‫َلِا ْل ُم ْؤمن َِ‬
‫ُون»(‪ .)4‬وجاء يف «صحيح البخاري» أنه أمر بال ًال فنادى‬ ‫لِا ْل َجنَّ َِةِإ َّ ِ‬ ‫بِ َفنَادِِفيِالنَّاس‪َ ِ،‬أ َّن ُِهِ َ ِ‬
‫َلِ َيدْ ُخ ُ ِ‬ ‫ا ْذ َه ْ ِ‬
‫بالناس‪« :‬إنه ال يدخل الجنة إال نفس مسلمة»(‪.)5‬‬

‫وجاء هذا النداء يف أحاديث كثيرة جدً ا‪ ،‬يف مناسبات عديدة‪ ،‬منها مما يحضرين‪ :‬يف أيام التشريق‪ ،‬ويف العام‬
‫الذي بعث فيه النبي ﷺ أبا بكر ﭬ‪ ،‬ويف غزوة خبير؛ جاء يف مناسبات عديدة يأمر من ينادي هبذا النداء‪:‬‬
‫«ال يدخل الجنة إال نفس مؤمنة»‪.‬‬

‫وهذا فيه بيان مكانة اإليمان العظيمة‪ ،‬ومنزلته العلية الشريفة‪ ،‬وأن الجنة ال مطمع ألحد يف أن يدخلها إال‬
‫ً‬
‫دخوال أوليا بدون حساب وال عذاب‪ .‬وإذا‬ ‫إذا كان من أهل اإليمان‪ .‬فإن كان من أهل اإليمان التام‪ ،‬دخلها‬
‫كفرا‪ ،‬فإنه قد يمر قبل دخول الجنة بمرحلة تطهير وتنقية يف النار‪،‬‬
‫كان إيما ًنا شابه آثام ومعاص ليست ً‬
‫فيدخل النار ليطهر وينقى ثم يدخل بعد ذلك الجنة‪.‬‬

‫ولهذا اإليمان إذا كان تا ًما منع من دخول النار‪ ،‬وإذا كان ناق ًصا منع من الخلود فيها‪ .‬اإليمان إذا كان تا ًما‬
‫ً‬
‫دخوال أوليا بدون حساب وال عذاب‪ ،‬أما‬ ‫منع من دخول النار‪ ،‬يمنع صاحبه من دخول النار ويدخل الجنة‬
‫ناقصا‪ ،‬فإنه يمنع من الخلود فيها؛ ألن النار ال يخلد فيها إال الكافر المشرك‪ ،‬وأما من كان يف قلبه‬
‫إذا كان ً‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬صحيح مسلم (‪.)1142‬‬
‫(‪ )2‬انظر رواية أحمد (‪ ،)594‬والرتمذي (‪.)3091‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد (‪ ،)7977‬والنسائي (‪ ،)2958‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )4‬رواه مسلم (‪ ،)114‬وأحمد (‪ ،)203‬وابن أبي شيبة يف «المصنف» (‪.)36885‬‬

‫(‪ )5‬رواه البخاري (‪ .)3062‬وعنده (‪ )6606‬أنه ﷺ قال له‪َ « :‬ياِبَل َُل‪ُ ِ،‬ق ْمِ َفأَ ِّذنْ‪َِ:‬ل ََِيدْ ُخ ُل َ‬
‫ِالجنَّةَِإ ََّل ُِم ْؤم ٌن»‪.‬‬
‫‪33‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪33‬‬
‫ال‪ََ ِ :‬لِ ِإ َل َِه ِإ ََّلِ ِ ِ‬
‫اهللُِ‬ ‫إيمان – وإن قل – فإن مآله ومصيره إلى الجنة‪ .‬ويف الحديث‪َ « :‬أ ْخر ُجوا ِم َنِ ِالنَّارِ ِ َم ِْ‬
‫ن ِ َق َ ِ‬
‫نِالخَ ْيرِِ َماِ َيز ُِنِ َذ َّر ًِةِ»(‪.)1‬‬
‫َانِفيِ َق ْلبهِِم َِ‬
‫َوك َِ‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫‪ِ،‬و َم ْنِ‬
‫ِصا َم َ‬ ‫ُِامر ٍئ َِو ََلِص َي ُام ُه َ‬
‫‪ِ،‬م ْن َِشا َء َ‬ ‫(‪ )13‬حدثنا وكيع‪ ،‬نا هشام بن عروة‪ ،‬عن أبيه قال‪ََ « :‬ل َِيغ َُّر َّنك ُْم َ‬
‫ِص ََلة ْ‬
‫ينِل َم ْن ََِل َِأ َما َنةَِ َل ُِه»‪.‬‬ ‫ِص َّل َ‬
‫ى‪َِ،‬لِد َ‬ ‫َشا َء َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ $‬هذا األثر عن عروة بن الزبير أنه قال‪« :‬ال يغرنكم صالة امرئ وال صيامه‪ ،‬من شاء صام‪ ،‬ومن‬
‫شاء صلى‪ ،‬ال دين لمن ال أمانة له»‪.‬‬

‫انِل َم ْنِ‬
‫يم َ‬
‫قوله‪« :‬ال دين لمن ال أمانة له» هو نظير ما مر مرفو ًعا إلى النبي – عليه الصالة والسالم –‪ََ « :‬لِإ َ‬
‫ََل َِأ َما َنةَِ َل ُِه»‪ .‬والنفي هنا – كما عرفنا ساب ًقا – ليس ألصل اإليمان‪ ،‬وإنما النفي هنا لكمال اإليمان الواجب‪.‬‬
‫األمانة واجبة‪ ،‬وحفظها واجب‪ .‬وإضاعة األمانة من نقص اإليمان الواجب‪ ،‬فيأثم اإلنسان‬ ‫وهذا فيه أن‬
‫بذلك ويعاقب على ذلك – على تضييعه لألمانة؛ ألن حفظ األمانة من واجبات الدين‪ ،‬ليست من‬
‫مستحبات الدين‪ ،‬بل من واجبات الدين؛ ولهذا نفى النبي – عليه الصالة والسالم – اإليمان الواجب على‬
‫من ال أمانة له‪.‬‬

‫فقوله‪« :‬ال يغرنكم صالة امرئ وال صيامه» يعني‪ :‬قد يكون اإلنسان ظاهره الصالح‪ ،‬يصلي ويصوم‪ ،‬ولكنه‬
‫مع ذلك مض ِّيع لألمانة‪ ،‬وال يحفظ األمانة‪ ،‬وإذا اؤتمن على قليل من المال أضاعه‪ ،‬فكيف إذا اؤتمن على‬
‫مال كثير جدً ا؟‬

‫قال‪« :‬ال يغرنكم صالة امرئ وال صيامه‪ ،‬من شاء صام‪ ،‬ومن شاء صلى‪ ،‬ال دين لمن ال أمانة له»‪ .‬وقوله‪:‬‬
‫«ال يغرنكم»ِليس فيه هتوين من شأن الصالة والصيام‪ .‬المحافظة على الصالة والمحافظة على الصيام هذا‬
‫من أمارات الخير ودالئله‪ ،‬لكن إذا كان اإلنسان يصلي ويصوم ولكن يضيع األمانة‪ ،‬فإضاعته لها دليل على‬
‫عظيما من واجبات دينه‪.‬‬
‫ً‬ ‫أنه أضاع واج ًبا‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي (‪ )2593‬وصححه األلباين‪ .‬وتقدم نحوه (ص ‪ 10‬من هذا الملف)‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪34‬‬

‫قا ِل‪:‬‬

‫(‪ )14‬حدثنا عفان‪ ،‬نا حماد بن سلمة‪ ،‬عن أبي جعفر الخطم ِّي‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن جدِّ ه عمير بن حبيب بن‬
‫َاِو َخ َش ْينَا ُهِ َف َذل َ‬
‫كِ‬ ‫ص‪ ،‬فقيل‪ :‬فما زيادته؟ وما نقصانه؟ قال‪ِ:‬إ َذاِ َِذك َْرن َ‬
‫َاِر َّبن َ‬ ‫ان َِيزيدُ َِو َينْ ُق ُ ِ‬
‫يم ُ‬
‫خماشة أنه قال‪ْ « :‬اْل َ‬
‫ض َّي ْعنَاِ َف َذل َ‬
‫كِ ُن ْق َصانُهَ»‬ ‫َاِو َ ِ‬ ‫‪ِ،‬وإ َذاِ َغ َف ْلن َ‬
‫َاِونَسين َ‬ ‫ز َيا َد ُت ُه َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى– هذا األثر العظيم عن الصحابي الجليل عمير الخطمي ﭬ أنه قال‪« :‬اإليمان‬
‫يزيد وينقص»ِأي‪ :‬اإليمان يقوى ويضعف‪ ،‬ولقوته أسباب ولنقصه أسباب‪.‬‬

‫قال‪« :‬اإليمان يزيد وينقص‪ ،‬فقيل‪ :‬فما زيادته؟ وما نقصانه؟»‪ ،‬يعني‪ :‬بأي شيء يزيد‪ ،‬وبأي شيء ينقص؟‬
‫وهذا السؤال المطروح على عمير ﭬ دليل على حرص السلف على الخير‪ .‬لما قال‪« :‬اإليمان يزيد‬
‫وينقص» سألوه‪« :‬فما زيادته؟ وما نقصانه؟»‪ ،‬وهذا السؤال يدل على رغبة يف معرفة أسباب الزيادة لتفعل‪،‬‬
‫وأسباب النقصان لترتك وتجتنب‪ ،‬ليحذر منها‪.‬‬

‫«فقيل‪ :‬فما زيادته؟ وما نقصانه؟ قال‪ :‬إذا ذكرنا ربنا وخشيناه فذلك زيادته‪ ،‬وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك‬
‫نقصانه»‪ ،‬أي‪ :‬أن اإليمان يزيد بالذكر وبالطاعة وبصالح القلب بين العبد وبين ربه – سبحانه وتعالى –‪،‬‬
‫وينقص بالغفلة وباللهو والتضييع لألعمال‪ .‬فبين – رضي اهلل عنه وأرضاه – األسباب التي تزيد اإليمان‪،‬‬
‫وكذلك األسباب التي تنقص اإليمان‪.‬‬

‫وكون اإليمان يزيد هذا نص عليه يف القرآن يف مواضع‪ ،‬مثل قول اهلل – سبحانه وتعالى –‪ :‬ﭿﭣ ﭤ ﭥ‬

‫[التوبة‪]124 :‬‬ ‫ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭾ‬
‫‪ ،‬وقول اهلل – عز وجل –‪ :‬ﭿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ‬

‫مصرحا به يف القرآن‪ ،‬ونطق به القرآن‪.‬‬


‫ً‬ ‫ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭾ [األنفال‪ .]2 :‬فزيادة اإليمان جاء‬
‫‪35‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪35‬‬
‫ن ِنَاق َصاتِ ِ َع ْق ٍلِِ‬ ‫مصرحا به يف السنة يف قوله ﷺ‪َ ...« :‬ما ِ َر َأ ْي ُ ِ‬
‫ت ِم ِْ‬ ‫ً‬ ‫ونقصان اإليمان نطقت به السنة‪ ،‬فجاء‬

‫كِ َأ ْض َعفُِِ ْاْل َ‬


‫يمانِ»(‪ ،)2‬ونحوهما من األحاديث عن رسول اهلل – صلوات اهلل‬ ‫َود ٍِ‬
‫ين‪ ،)1(»...‬وقوله‪َ ...« :‬و َذل َ ِ‬
‫وسالمه عليه –‪.‬‬

‫فالشاهد أن هذا األثر عظيم جدً ا يف بابه‪ ،‬عن عمير بن حبيب الخطمي ﭬ‪ ،‬يف بيان أن اإليمان يزيد‬
‫وأيضا بيان أسباب زيادة اإليمان‪ ،‬وأسباب نقص اإليمان‪.‬‬
‫وينقص‪ً ،‬‬

‫و أبو جعفر الخطمي يروي هذا األثر عن أبيه عن جده‪ .‬يقول الشيخ [األلباين] رحمه اهلل‪« :‬يزيد بن عمير‪،‬‬
‫لم أجد له ترجمة»(‪.)3‬‬

‫وقفت على كلمة لعبد الرحمن بن مهدي ‪ $‬يستأنس هبا جدً ا يف هذا المقام‪ ،‬قال‪« :‬كان أبو جعفر وأبوه‬
‫وجده قو ًما يتوارثون الصدق بعضهم عن بعض»(‪.)4‬‬

‫واألثر معناه صحيح‪ ،‬ودالئل صحة معناه وشواهد ذلك كثيرة يف كتاب اهلل وسنة نبيه ﷺ‪ ،‬وهو يف الوقت‬
‫نفسه جميل يف مبناه وداللته على المقصود‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )15‬حدثنا ابن نمير‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن عبيد اهلل‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر‪ ،‬أنه كان يقول‪« :‬ال َّل ُه َّم ََِلِ َتنْز ْعِمنِّيِ‬
‫انِك ََم َ‬
‫اِأ ْع َط ْيتَنيهِ»‪.‬‬ ‫يم َ‬
‫ْاْل َ‬

‫الشرحِ‪ِ:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى– هذا األثر عن ابن عمر أنه كان يقول يف دعائه‪« :‬اللهم ال تنزع منِّي اإليمان كما‬
‫أعطيتنيه»‪.‬‬

‫قوله ﭬ‪« :‬كما أعطيتنيه»‪ ،‬فيه أن اإليمان عطية من اهلل وهبة ومنة‪ ،‬يمن – سبحانه وتعالى – باإليمان على‬

‫من يشاء‪ ،‬كما قال – عز وجل –‪ :‬ﭿ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)304‬ومسلم (‪.)79‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم (‪.)49‬‬
‫(‪« )3‬كتاب اإليمان» (ص‪.)20‬‬
‫(‪« )4‬هتذيب الكمال» للمزي (‪ )393/22‬تحت ترجمة عمير بن يزيد (رقم ‪.)4522‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪36‬‬

‫ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﮕ ﮖ ﮗﭾ [الحجرات‪ .]8 – 7 :‬فاإليمان فضل‬


‫من اهلل ونعمة وعطية‪ ،‬ولهذا قال ابن عمر‪« :‬كما أعطيتنيه»‪ ،‬فاإليمان عطية وهبة ومنة‪ ،‬يمن به – سبحانه‬

‫أيضا‪ ،‬يقول اهلل – عز وجل –‪ :‬ﭿﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ‬


‫وتعالى – على من شاء من عباده‪ .‬و ً‬
‫ﯼﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇﭾ [الحجرات‪ ،]17 :‬ويقول – جل وعال –‪ :‬ﭿ ﭣ ﭤ‬

‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ ﭾ [النور‪ . ]21 :‬فاإليمان عطية ومنة إلهية‪ ،‬يمن‬


‫به – سبحانه وتعالى – على من شاء من عباده‪ .‬ولهذا يستشعر ابن عمر ﭭ المنة فيقول‪« :‬كما أعطيتنيه»‪ِ،‬‬
‫أي كما أكرمتني ووهبتني ومننت علي بأن جعلتني من أهل اإليمان‪ ،‬ال تنزع مني اإليمان‪.‬‬

‫وهذا فيه أن قلب العبد بيد اهلل‪ ،‬وأن قلوب العباد بيده – سبحانه وتعالى – يق ِّلبها كيف يشاء‪ ،‬كما جاء يف‬
‫الله َّمِِ‬
‫حديث أم سلمة – ولعله سيأيت عند المصنِّف –‪ ،‬أن النبي – عليه الصالة والسالم – كان أكثر دعائه‪ُ « :‬‬
‫تِ َق ْلبيِ َع َلىِدين َ ِ‬
‫ك‪ .‬قالت‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬أو إن القلوب لتتقلب؟ قال‪َ :‬ن َع ْم‪َ ِ،‬ماِم ْنِِ‬ ‫بِا ْل ُق ُلوب‪َ ِ،‬ث ِّب ْ ِ‬
‫ُم َق ِّل َ ِ‬
‫لِ َأ َق َام ُه‪َ ِ،‬وإ ْنِِ َشا َِءِ‬ ‫نِ َأ َصابعِِاهلل‪َ ِ،‬فإ ْنِِ َشا َءِِ ِ‬
‫اهللُِ َع َّزِِ َو َج َّ ِ‬ ‫َلِ َأ َِّنِ َق ْل َب ُِهِ َب ْي َنِِ ُأ ْص ُب َع ْينِِم ِْ‬
‫نِ َبنيِآ َد َمِِم ْنِِ َب َشرٍِِإ َّ ِ‬
‫َخ ْلقِِاهللِِم ِْ‬
‫َأزَا َغ ُِه»(‪.)1‬‬

‫«فإنِشاءِأقامه»‪ ،‬أي‪ :‬على اإليمان‪« ،‬وإنِشاءِأزاغه»‪ ،‬أي‪ :‬أضله عن اإليمان‪ .‬فاألمر بيد اهلل – سبحانه‬
‫وتعالى –‪ ،‬ولهذا قال ﭬ‪« :‬اللهم ال تنزع منِّي اإليمان كما أعطيتنيه»‪ ،‬والمراد هبذا أي‪ :‬ثبتني على دينك‪،‬‬

‫واهلل – سبحانه وتعالى – يقول‪ :‬ﭿﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ‬

‫ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀﭾ [إبراهيم‪.]27 :‬‬

‫وسبق أن أشرت إلى دعوة عظيمة يف هذا الباب‪ ،‬دعا هبا نبينا – عليه الصالة والسالم –‪ ،‬قال‪« :‬ال َّل ُه َّمِز َِّينَّاِ‬
‫ين»(‪.)2‬‬ ‫اج َع ْلن ُ‬
‫َاِهدَ اة ًُِم ْهتَد َِ‬ ‫‪ِ،‬و ْ‬
‫يمان َ‬
‫ِاْل َ‬
‫بزينَة ْ‬

‫وأيضا يف الدعاء المأثور عنه – عليه الصالة‬


‫وهذا فيه أن اإليمان منة من اهلل وهبة منه – سبحانه وتعالى –‪ً ،‬‬
‫ايِا َّلتيِف َيهاِ َم َعاشي‪َ ِ،‬و َأ ْصل ْحِِليِِ‬ ‫حِليِدينيِا َّلذيِ ُه َِوِع ْص َم ُِةِ َأ ْمري‪َ ِ،‬و َأ ْصل ِْ‬
‫حِليِ ُد ْن َي َِ‬ ‫الله َِّمِ َأ ْصل ِْ‬
‫والسالم –‪ُ « :‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد (‪ .)26576‬ونحوه عند الرتمذي (‪ ،)3522‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه النسائي (‪ ،)1305‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫‪37‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪37‬‬
‫ن ِك ِّ ِ‬
‫ُل ِ َشرَِ»(‪،)1‬‬ ‫اح ًِة ِلي ِم ِْ‬
‫ت ِ َر َ‬ ‫اج َعلِ ِا ْل َح َيا َِة ِز َيا َد ًةِ ِلي ِفي ِك ُِّلِ ِ َخ ْيرٍ‪َ ِ ،‬و ْ‬
‫اج َعلِ ِا ْل َم ْو َ ِ‬ ‫آخ َرتي ِا َّلتي ِف َيها ِ َم َعادي‪َ ِ ِ،‬و ْ‬
‫يمانِ»(‪ ،)2‬وهذا كله‬ ‫‪ِ،‬و َم ْنِت ََو َّف ْي َت ُهِمنَّاِ َفت ََو َّف ُهِ َع َل ْ‬
‫ىِاْل َ‬ ‫ومر معنا قري ًبا‪« :‬ال َّل ُه َّم َِم ْن َِأ ْح َي ْي َت ُهِمنَّاِ َف َأ ْحيهِ َع َل ْ‬
‫ىِاْل ْس ََلم َ‬
‫فيه أن األمر كله بيد اهلل – تبارك وتعالى ‪.-‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫انِ‬
‫يم ُ‬
‫(‪ )16‬حدثنا يزيد بن هارون‪ ،‬عن العوام‪ ،‬عن عل ِّي بن مدرك‪ ،‬عن أبي زرعة‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ْ « :‬اْل َ‬
‫ان»‪.‬‬
‫يم ُِ‬
‫ِاْل َ‬
‫اج َع ُه ْ‬ ‫ان‪َ ِ،‬ف َم ْن ََِل َمِ َن ْف َس ُه َِو َر َ‬
‫اج َع َِر َ‬ ‫يم ُ‬ ‫نَز ٌه‪َ ِ،‬ف َم ْنِ َزنَاِ َف َار َق ُه ْ‬
‫ِاْل َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى– هذا األثر العظيم عن أبي هريرة ﭬ أنه قال‪« :‬اإليمان نزه»‪ ،‬نزه‪ :‬من النزاهة‪،‬‬
‫أي‪ :‬صفة اإليمان النزاهة والطهارة والنقاء‪ ،‬هذه صفة اإليمان‪« .‬اإليمان نزه»‪ ،‬أي‪ :‬صفته المالزمة له‬
‫النزاهة والطهارة من الذنوب واآلثام واألدران‪ ،‬ومن خسائس األعمال‪« .‬اإليمان نزه»‪ :‬صفته النزاهة‪.‬‬

‫ثم بين بالمثال نزاهة اإليمان‪ ،‬فقال ﭬ‪« :‬فمن زنا» ‪ -‬هذا مثال ‪« -‬فمن زنا فارقه اإليمان‪ ،‬فمن الم نفسه‬
‫وراجع راجعه اإليمان»‪ ،‬وهذا فيه التوضيح لقوله ﭬ‪« :‬اإليمان نزه»‪ ،‬أي‪ :‬صفته النزاهة‪ ،‬والنزاهة هي‬
‫الطهارة والصفاء والنقاء‪ .‬ثم ضرب ً‬
‫مثاال لتوضيح نزاهة اإليمان وطهارة اإليمان ونقاء اإليمان بحال من‬

‫[اإلسراء‪]32 :‬‬ ‫يزين – والعياذ باهلل – من يقع يف فاحشة الزنى‪ :‬ﭿﮊ ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒﭾ‬
‫‪ ،‬قال‪« :‬فمن زنا فارقه اإليمان»‪.‬‬

‫واإليمان الذي يفارق الزاين ليس أصل اإليمان‪ ،‬وإنما اإليمان الذي يفارق الزاين كمال اإليمان الواجب‪.‬‬
‫يِ‬
‫َلَِ َيزْن ِ‬
‫ومثل هذا تما ًما ما صح يف الحديث‪ ،‬حديث أبي هريرة‪ ،‬أن النبي – عليه الصالة والسالم – قال‪ِ « :‬‬
‫ن»(‪ ،)3‬فالنفي هنا ليس ألصل اإليمان‪ ،‬وإنما هو لكمال اإليمان الواجب‪.‬‬
‫ينِِ َيزْنيِِِ َو ُه َِوِِ ُم ْؤم ٌِ‬
‫الزَّانيِِح َِ‬
‫فالمفارقة هنا ليست مفارقة أصل اإليمان لمن وقع يف الزنى‪ ،‬وإنما مفارقة لكمال اإليمان الواجب‪ .‬ومن‬
‫فارقه كمال اإليمان الواجب استحق العقوبة؛ من فارقه كمال اإليمان الواجب بفعل محرم أو ترك طاعة‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪.)2720‬‬
‫(‪ )2‬رواه الرتمذي (‪ ،)1024‬وابن ماجه (‪ ،)1498‬وأحمد (‪ ،)8809‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري (‪ ،)2475‬ومسلم (‪ ،)57‬وغيرهما‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪38‬‬

‫أيضا مستح ًقا لوصف اإليمان على اإلطالق‪ ،‬بل ال بد أن‬


‫واجبة يكون بذلك مستح ًقا للعقوبة‪ ،‬وال يكون ً‬
‫يكون مضمو ًما لوصفه باإليمان بما يشعر بارتكابه محر ًما أو تركه واج ًبا‪ .‬ولهذا يقول السلف ‪ -‬رحمهم‬
‫اهلل ‪ -‬يف مثل هؤالء‪ ،‬يقولون‪ :‬مؤمن ناقص اإليمان‪ ،‬أو‪ :‬مؤمن فاسق‪ ،‬أو‪ :‬مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته‪ .‬فال‬
‫أيضا وصف اإليمان المطلق‪ ،‬بل يقال‪ :‬مؤمن‬
‫يسلب عنه وصف اإليمان الذي هو أصل اإليمان‪ ،‬وال يعطى ً‬
‫بإيمانه‪ ،‬فاسق بكبيرته‪ ،‬أو يقال‪ :‬مؤمن ناقص اإليمان‪ ،‬أو‪ :‬مؤمن ضعيف اإليمان‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬

‫قال‪« :‬فمن زنا فارقه اإليمان‪ ،‬فمن الم نفسه وراجع»‪ ،‬المراجعة هنا‪ :‬التوبة والندم‪« ،‬راجعه اإليمان»‪« .‬فمن‬
‫الم نفسه»‪ ،‬أي‪ :‬على فعلها لهذا الذنب‪« ،‬وراجع»‪ ،‬أي‪ :‬تاب وعاد إلى اهلل – سبحانه وتعالى – والتوبة‪:‬‬
‫رجوع إلى اهلل برتك المعصية والندم على فعلها‪.‬‬

‫«فمن الم نفسه وراجع راجعه اإليمان»‪ ،‬واإليمان الذي يراجعه هو اإليمان الذي ذهب عنه‪ ،‬وهو اإليمان‬
‫الواجب‪ .‬وقد جاء من حديث أبي هريرة بسند ثابت‪ ،‬يف سنن أبي داود وغيره‪ ،‬أن النبي ﷺ قال‪« :‬إِ َِذاِ َِز َِنىِِ‬
‫ج َِعِإِ َِل ِْيهِ»(‪َِ « .)1‬أ ِْق َِل َِع» يعني‪ :‬تاب وندم ورجع إلى‬ ‫ظ َِّلةِِ َِفإِ َِذ َِ‬
‫اِأ ْقِ َِل َِعِ َِر َِ‬ ‫انِ َِع َِلىِ َرِ ِْأ ِ‬
‫سهِِ َِكال ُِّ‬ ‫انِ َِف َِ‬
‫ك َِ‬ ‫يم ُِ‬
‫ْل َِ‬ ‫ا ِْل َِع ِْبدُِِخَِ َِر َِ‬
‫جِمِنِْ ُِهِاِ ْ ِ‬
‫ىِر ْأِ ِ‬
‫سهِ ِ َِكال ُّظِ َِّلةِ»‪ ،‬هذا فيه داللة على أن‬ ‫ان ِ َِع َِل َِ‬ ‫ج َِع ِإِ َِل ِْيهِ» اإليمان‪ .‬وقوله‪َِ « :‬ف َِ‬
‫ك َِ‬ ‫اهلل – سبحانه وتعالى –‪َِ « ،‬ر َِ‬
‫أصل اإليمان لم ينتف عنه؛ ألن الظلة مالزمة لصاحبها ليست مفارقة له‪ ،‬ففيه داللة على أنه الزال يف ظل‬
‫اإليمان‪ ،‬لم يفارق اإليمان كلية وتما ًما‪ ،‬لكنه استحق بفعله لهذه الكبيرة أن ينف عنه اإليمان الواجب الذي‬
‫يستحق بموجبه الثواب بال عقاب‪ .‬أما إذا ارتكب هذه الذنوب‪ ،‬فإنه عرض نفس للعقوبة‪ ،‬ويكون بذلك‬
‫قد ظلم نفسه‪.‬‬

‫ونكتفي هبذا‪ ،‬واهلل تعالى أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬ورد هبذا اللفظ يف «صحيح الجامع الصغير» (‪ )586‬وصححه األلباين‪ .‬وروى أبو داود (‪ )4690‬والرتمذي (‪ )2625‬نحوه‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪39‬‬
‫الدرس الثالث‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقولِاْلمامِالحافظِأبوِبكر‪ِ،‬عبدِاهللِبنِِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويف‪ِ،‬يفِكتابِ«اْليمان»‪ِِ:‬‬

‫(‪ )17‬حدثنا حفص بن غياث‪ ،‬عن محمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫ِخ ُل ًقاِ»‪.‬‬ ‫يمان َ‬
‫ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ‬ ‫ﷺ‪َ « :‬أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِإ َ‬

‫(‪ )18‬حدثنا محمد بن بشر‪ ،‬نا محمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬
‫ِخ ُل ًقا»‪.‬‬ ‫يمان َ‬
‫ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ‬ ‫« َأك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِإ َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫أورد اإلمام ابن أبي شيبة – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي هريرة ﭬ أن النبي – عليه الصالة‬
‫ِخ ُل ًقاِ»‪ .‬أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث يف «كتاب‬ ‫يمان َ‬
‫ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ‬ ‫والسالم – قال‪َ «ِ:‬أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمِن َ‬
‫ينِإ َ‬
‫اإليمان» لبيان مكانة الخلق يف اإليمان‪ ،‬وأن الدين اإلسالمي دين األخالق الفاضلة واآلداب الكاملة‪ ،‬وأن‬
‫العبد كلما عظم حظه ونصيبه من الخلق كان ذلك أزيد يف إيمانه‪ ،‬فاإليمان يزيد بأمور منها حسن الخلق؛‬
‫(‪)1‬‬
‫ِالَ ْخ ََلقِ»‬ ‫تِلُت َِّم َم َ‬
‫ِصال َح ْ‬ ‫ألن حسن الخلق من اإليمان وقد قال – عليه الصالة والسالم –‪« :‬إن ََّماِ ُبع ْث ُ‬
‫ولما سئل ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬عن أكثر ما يدخل به الناس الجنة قال‪َ « :‬ت ْق َوىِاهلل َِو ُح ْس ُنِالخُ ُلقِ»(‪،)2‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري يف «األدب المفرد» (‪ ،)273‬وصححه األلباين‪ .‬وانظر «الصحيحة» (‪.)45‬‬
‫(‪ )2‬رواه أحمد (‪ ،)9696‬والرتمذي (‪ ،)2004‬وحسنه األلباين‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪40‬‬

‫اِي ْو َمِالق َي َامة َِأ َحاسنُِك ُْم َِأ ْخ ََل ًقا»(‪ ، )1‬واألحاديث يف هذا الباب ويف هذا المعنى‬ ‫وقال‪َ « :‬أ ْق َر ُِبك ُْمِمن َ‬
‫ِّيِم ْجلِ ًس َ‬
‫عنه – صلوات اهلل وسالمه عليه ‪ -‬كثيرة جدً ا‪.‬‬

‫يما ًناِ» هذا صريح يف تفاضل أهل اإليمان يف اإليمان‪ ،‬وأهنم ليسوا‬ ‫وقوله يف هذا الحديث‪َ ِ«ِ:‬أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِإ َ‬
‫فيه على درجة واحدة بل بينهم تفاوت‪ ،‬فمنهم من إيمانه أكمل ومنهم من إيمانه دون ذلك‪ ،‬ولهذا قال –‬
‫يمانًا»‪ .‬فهذا فيه الدليل على تفاوت أهل اإليمان يف اإليمان‬ ‫عليه الصالة والسالم –‪َ « :‬أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِإ َ‬
‫وأهنم يف اإليمان ليسوا على درجة واحدة‪ .‬قال اهلل تعالى‪ :‬ﭿﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ‬

‫ﭱ ﭲﭾ [فاطر‪ .]32 :‬فهم فيه على مراتب وكل مرتبة من مراتبه ً‬


‫أيضا هم فيها على درجات‬
‫ومتفاوتون‪ ،‬فليس أهل اإليمان فيه على درجة واحدة‪ ،‬بل هم متفاوتون يف ذلك‪ ،‬وهنا قال‪َ «ِِ:‬أك َْم ُلِ‬
‫ِخ ُل ًقا»‪ ،‬فقوله‪َ « :‬أ ْح َسن ُُه ْم ُ‬
‫ِخ ُل ًقا» يف هذا السياق يدل على أن حسن الخلق من‬ ‫يمان َ‬
‫ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِإ َ‬
‫اإليمان ألنه أمر يكمل به اإليمان‪ ،‬وأن العبد كلما حسن خلقه كان ذلك أكمل يف إيمانه‪.‬‬

‫والخلق يراد به التعامل الطيب واألدب الرفيع وحسن المعاشرة‪ ،‬ويراد به ما هو أوسع من ذلك‪ ،‬أال وهو‬

‫الدين كله كما قال اهلل – سبحانه وتعالى –‪ :‬ﭿ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﭾ [القلم‪ .]4 :‬قال ابن عباس ﭭ وغيره‬
‫أي‪ :‬على دين عظيم‪ ،‬ولهذا لما سئلت عائشة ڤ عن خلق النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬قالت‪َ « :‬فإ َّنِ‬
‫َانِا ْل ُق ْر َِ‬
‫آن»(‪ ،)2‬أي أنه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬مؤتمر بأوامر القرآن منته عن نواهي‬ ‫ُخ ُل َقِ نَب ِّيِاهلل ِﷺ ِك َ‬
‫القرآن‪ ،‬ليس يف القرآن أمر إال وهو ممتثله ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬على التمام والكمال وال يف القرآن‬
‫هني إال وهو منته عنه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬فهذا خلقه‪ :‬القرآن العظيم‪.‬‬

‫وهذا فيه تنبيه إلى فائدة مهمة يف باب األخالق أال وهي أن االعتقاد الصحيح والتوحيد واإلخالص هلل ‪-‬‬
‫تبارك وتعالى ‪ -‬هو أساس األخالق‪ ،‬ومن فقد التوحيد فقد األخالق‪ ،‬حتى وإن حسن تعامله وحسنت‬
‫معاشرته‪ ،‬فإن هذه المعاشرة الطيبة واآلداب الحسنة التي يعامل هبا الناس ليست بنافعته يوم يلقى اهلل ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬ألنه فقد أساس األخالق‪ .‬وأي خلق عند من خلقه اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ثم يتجه‬
‫بالعبادة إلى غيره ويرزقه اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ويتجه بالسؤال والطلب إلى غيره؟ أين الخلق؟! وأين‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي (‪ ،)2018‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم (‪ ،)746‬وأبو داود (‪ ،)1342‬والنسائي (‪.)1601‬‬
‫‪41‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪41‬‬
‫األدب؟ وأساس األدب األدب مع اهلل رب العالمين ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ ،-‬فإذا فقد األدب مع اهلل ‪ -‬جل‬
‫وعال ‪ -‬فال خلق وال خالق‪ ،‬الخلق عديم يف من عدم التوحيد وال خالق له يوم يلقى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‬
‫‪ ،-‬أي ال حظ له والنصيب من ثواب اهلل وأجره يوم القيامة‪ .‬ولهذا ينبغي أن يعلم أن الخلق ح ًقا واألدب‬
‫الرفيع صد ًقا هو ما قام به اإلنسان يرجو به ما عند اهلل‪ ،‬أما التعامالت التي تكون بين بعض الناس لمصالح‬
‫ومآرب وإذا انتهى مأرب اإلنسان ومقصده تغيرت المعاملة وتغير السلوك‪ ،‬فهذا التعامل يف ميزان اإليمان‬
‫وميزان الشرع ليس بشيء‪ ،‬أي ليس بنافع لصاحبه‪ .‬فالخلق ح ًقا وصد ًقا هو ما يقدمه اإلنسان يرجو به وجه‬

‫اهلل ﭿ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭾ [اإلنسان‪ . ]9 :‬ولهذا األخالق ينبغي أن تفهم على وجهها‪،‬‬


‫األخالق التي هي المعاملة الطيبة واآلداب الكريمة هي داخلة يف باب التقرب إلى اهلل‪ ،‬فاإلنسان يتقرب‬
‫إلى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬بمعاملة الناس بالخلق الحسن واألدب الرفيع يعامل أبويه بالخلق الحسن‬
‫يرجو بذلك ما عند اهلل‪ ،‬ويعامل جيرانه ويعامل إخوانه ويعامل من يعامل بالمعاملة الطيبة؛ ألن كل معاملة‬
‫يعامل هبا الناس يرجو هبا شي ًئا عند اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى ‪ .-‬ولهذا مر معنا يف الحديث أن تقوى اهلل وحسن‬
‫الخلق أكثر ما يكون به دخول الجنة‪ ،‬لكن حسن الخلق الذي يكون به دخول الجنة هو ذلكم الخلق الذي‬
‫تقرب به صاحبه إلى اهلل ‪ -‬جل وعال ‪ ،-‬أما من يأيت بالخلق لمآرب ومقاصد ومصالح ثم ينتهي بانتهاء‬
‫داخال يف عمل اإلنسان الصالح الذي يرجى عليه ثواب اآلخرة؛ ألن العمل الصالح‬
‫ً‬ ‫المصلحة فهذا ليس‬
‫هو ما كان قصد به وجه اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬واتبع فيه المسلم النبي الكريم ‪ -‬صلوات اهلل وسالمه عليه‬
‫‪.-‬‬

‫فالشاهد أن هذا الحديث العظيم المبارك يدل على مكانة األخالق يف اإلسالم ومنزلتها العلية يف اإليمان‪،‬‬
‫وأهنا من اإليمان‪ ،‬وأن الزيادة يف األخالق حف ًظا لها ومحافظة عليها زيادة يف اإليمان‪ ،‬وأكمل الناس أو‬
‫أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خل ًقا ‪.‬‬

‫وهذا الحديث حديث أبي هريرة أورده ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬من طريقين عن محمد بن عمرو‪ ،‬ومحمد بن‬
‫وأيضا له شواهد‪ ،‬يأيت منها شاهد عند‬
‫ً‬ ‫عمرو حسن الحديث‪ ،‬فالحديث إسناده حسن‪ ،‬لكن له طرق‬
‫المصنِّف ‪ $‬وله شواهد كثيرة‪ ،‬فالحديث صحيح ثابت عن رسول اهلل ‪ -‬صلوات اهلل وسالمه عليه ‪.-‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪42‬‬

‫(‪ )19‬حدثنا حفص‪ ،‬عن خالد‪ ،‬عن أبي قالبة‪ ،‬عن عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِ‬
‫ِخ ُل ًقا»‪.‬‬ ‫يمان َ‬
‫ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ‬ ‫إ َ‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث؛ أورده من حديث أم المؤمنين عائشة ڤ‪ .‬واإلسناد‬
‫فيه أبو قالبة وهو عبد اهلل بن زيد الجرمي‪ ،‬لم يدرك عائشة ڤ‪ ،‬لكن الحديث صحيح ثابت بما له من‬
‫شواهد‪ِ.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )20‬حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ‪ ،‬عن سعيد بن أبي أيوب‪ ،‬عن ابن عجالن‪ ،‬عن القعقاع‪ ،‬عن أبي‬
‫ِخ ُل ًقا»‪.‬‬ ‫يمان َ‬
‫ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ‬ ‫صالح‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أك َْم ُلِا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِإ َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬حديث أبي هريرة المتقدم من طريقين مرا معنا‪ ،‬أورده ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪-‬‬
‫من هذا الطريق عن ابن عجالن عن القعقاع عن أبي صالح ذكوان السمان عن أبي هريرة ﭬ قال‪« :‬قال‬
‫رسول اهلل ﷺ‪ .»...‬وهذا اإلسناد كما قال األلباين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬أحسن من اإلسناد السابق المتقدم من‬
‫طريقين(‪ .)1‬وعلى ٍّ‬
‫كل‪ ،‬الحديث صحيح ثابت عن رسول اهلل ‪ -‬صلوات اهلل وسالمه عليه ‪.-‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )21‬حدثنا أبو أسامة‪ ،‬عن جرير بن حازم‪ ،‬عن يعلى بن حكيم‪ ،‬قال‪ :‬أكبر ظنِّي أنه [قال]‪ :‬عن سعيد بن‬
‫ِاْل َخ ُِر»‪.‬‬ ‫اِرف َع َِأ َحدُ ُه َِم ُ‬
‫اِرف َع ْ‬ ‫َاِجمي ًعا‪َ ِ،‬فإ َذ ُ‬
‫انِ ُقرن َ‬
‫يم َ‬ ‫جبير‪ ،‬قال‪ :‬قال ابن عمر‪« :‬إ َّنِا ْل َِ‬
‫ح َيا َء َِو ْاْل َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬كتاب اإليمان» (ص‪.)20‬‬
‫‪43‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪43‬‬
‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن ابن عمر ﭭ موقو ًفا عليه‪ ،‬ورواه الحاكم يف «المستدرك»‬
‫والبيهقي يف «شعب اإليمان» عن ابن عمر مرفو ًعا إلى النبي ﷺ‪ .‬قال‪« :‬إن الحياء واإليمان قرنا جمي ًعا»‪،‬‬
‫أي‪ :‬أهنما صنوان ومتالزمان وال ينفك أحدهما عن اآلخر‪ ،‬بينهما تالزم ال ينفك أحدهما عن اآلخر فإذا‬
‫رفع أحدهما رفع اآلخر‪ :‬إذا رفع اإليمان من الشخص رفع الحياء‪ ،‬وإذا رفع الحياء رفع اإليمان‪ .‬فهذا فيه‬
‫أن الحياء قرين اإليمان ومالزم اإليمان‪ ،‬وال ينفك عن اإليمان‪ ،‬وهذا فيه بيان مكانة الحياء من اإليمان‬
‫وأن مكانته من اإليمان مكانة عظيمة جدا؛ ألن منزوع الحياء الذي ال يستحيي من اهلل سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫وأعظم الحياء الحياء من اهلل ‪ -‬وال يستحيي من عباد اهلل‪ ،‬أي خير يرجى ممن كانت هذه حاله؟! أي خير‬
‫يرجى ممن كانت هذه حاله إذا كان ليس فيه حياء من اهلل وال حياء من عباد اهلل ‪ -‬جل وعال ‪-‬؟ ‪ ،‬وقد صح‬

‫ِح َّق َ‬
‫ِالح َياءِ»(‪ )1‬وأعظم الحياء‬ ‫است َْح ُيواِم َنِاهلل َ‬
‫يف الحديث عن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أنه قال‪ْ «:‬‬
‫الحياء من رب العالمين وخالق الخلق أجمعين ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الذي خلق هذا اإلنسان وأوجده‪،‬‬
‫وشق له السمع والبصر‪ ،‬وأوجد له هذه المنافع والمصالح‪ ،‬ويسر له أموره ومصالحه‪ ،‬فأعظم الحياء وأجله‬
‫شأ ًنا الحياء من اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬رب العالمين‪ .‬فإذا نزع الحياء من الشخص يفسد‪ ،‬و«م َّم َ‬
‫اِأ ْد َر َكِ‬
‫ْت»(‪ ،)2‬من ال حياء عنده يصنع من األعمال السيئة‬ ‫َّاسِم ْنِ َكَلَمِالنُّ ُب َّوةِالُو َلى‪ِ:‬إ َذاِ َل ْمِت َْست َْحيِ َف ْ‬
‫اصن َْع َِماِشئ َ ِ‬ ‫الن ُ‬
‫والخصال الذميمة والتصرفات المقيتة وال يبالي؛ ألنه منزوع الحياء‪.‬‬

‫فالحياء من اإليمان وقد جاء يف الحديث أن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬قال‪َ « :‬وا ْل َح َيا ُءِ ُش ْع َبةٌِ م َنِ‬
‫َاهاِإ َما َطةُِ‬ ‫ُّونِ‪ُ ِ-‬ش ْع َبةً‪َ ِ،‬ف َأ ْف َض ُل َهاِ َق ْو ُل ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ‬
‫‪ِ،‬و َأ ْدن َ‬ ‫ونِ‪َ ِ-‬أ ْوِب ْض ٌع َِوست َ‬
‫انِب ْض ٌع َِو َس ْب ُع َ‬
‫يم ُ‬
‫يمانِ»‪ ،‬قال‪ْ « :‬اْل َ‬
‫ْاْل َ‬
‫يمانِ»(‪.)3‬‬
‫ِاْل َ‬ ‫ْالَ َذىِ َعنِال َّطريق َِ‬
‫‪ِ،‬وا ْل َح َيا ُء ُِش ْع َبةٌِم َن ْ‬

‫وجاء يف الصحيحين من حديث ابن عمر ﭭ أن النبي ﷺ مر برجل يعظ أخاه يف الحياء ‪ -‬أي يقول له‪:‬‬
‫يمانِ»(‪.)4‬‬ ‫لماذا تستحيي‪ ،‬ولماذا الحياء؟ ‪ -‬فقال له النبي ﷺ‪َ « :‬د ْع ُهِ َفإ َّن َ‬
‫ِالح َيا َءِم َنِاْل َ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي (‪ ،)2458‬وحسنه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪.)6120‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم (‪.)35‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري (‪ ،)24‬ومسلم (‪.)36‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪44‬‬

‫فالحياء بركة على صاحبه‪ ،‬وهو من إيمان الشخص‪ ،‬وكلما قوي الحياء يف العبد قوي الخير‪ ،‬والناس‬
‫أيضا جاء يف حديث آخر أن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬قال‪:‬‬
‫عظيما‪ ،‬ولهذا ً‬
‫ً‬ ‫يتفاوتون يف الحياء تفاو ًتا‬
‫ان»(‪ ،)1‬وهذا فيه دليل واضح على تفاضل الناس يف الحياء‪ ،‬فيه أن‬ ‫ح َِي ُِ‬
‫اِأ َِّمتِيِ ُِع ِْث َِم ُِ‬ ‫يمانِ ِ َِو َِأ ِْ‬
‫اْل َِ‬
‫نِ ْ ِ‬ ‫«ا ِْل َِ‬
‫ح َِيا ُِء ِمِ َِ‬
‫أيضا تفاضل الناس يف الحياء وأهنم يف الحياء ليسوا على درجة واحدة‪ ،‬بل بينهم‬
‫الحياء من اإليمان‪ ،‬وفيه ً‬
‫تفاوت‪ .‬فالحياء من اإليمان وكلما زاد الحياء يف الشخص زاد إيمانه؛ ألن الحياء من اإليمان وزيادته زيادة‬
‫أيضا يف حديث آخر أنه ‪ -‬عليه الصالة‬
‫إيمان‪ ،‬وإذا نزع الحياء من الشخص تما ًما فأين الخير؟ وقد ثبت ً‬
‫ِخ ْي ٌرِ ُك ُّل ُِه»(‪ ،)2‬فإذا فقد الحياء من الشخص فقد الخير‪.‬‬
‫والسالم ‪ -‬قال‪« :‬ا ْل َح َيا ُء َ‬

‫قال هنا ‪«ِِ:‬إن الحياء واإليمان قرنا جمي ًعا»‪ ،‬أي‪ :‬جعل اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬شأهنما أهنما مقرتنين‬
‫متالزمين‪ ،‬ال ينفك أحدهما عن اآلخر‪ ،‬وقد فسر النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬معنى قوله‪« :‬قرنا جمي ًعا»‬
‫بقوله‪« :‬فإذا رفع أحدهما رفع اآلخر» يعني‪ :‬إذا رفع اإليمان رفع الحياء وإذا رفع الحياء رفع اإليمان ألهنما‬
‫متالزمان ‪.‬‬

‫كذلك مما ورد يف أن الحياء من اإليمان ما رواه الرتمذي وغيره بسند ثابت من حديث أبي هريرة ﭬ أن‬
‫الج َفا ُءِ‬
‫‪ِ،‬و َ‬ ‫‪ِ،‬وال َب َذا ُءِم َن َ‬
‫ِالج َفاء َ‬ ‫يِالجنَّة َ‬
‫َ‬ ‫انِف‬
‫يم ُ‬
‫‪ِ،‬واْل َ‬
‫يمان َ‬
‫الح َيا ُءِم َنِاْل َ‬
‫النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬قال‪َ « :‬‬
‫فيِالنَّارِ»(‪ ،)3‬ففيه ً‬
‫أيضا دليل أن الحياء من شعب اإليمان‪ ،‬وأن العبد كلما ازداد حياء زاد إيمانه‪ ،‬واإليمان‬
‫أيضا مقابله البذاء ‪ -‬وهو ضد الحياء ‪ -‬يفضي بصاحبه إلى‬
‫هو الذي يفضي بصاحبه إلى جنات النعيم‪ .‬و ً‬
‫الجفاء‪ ،‬والجفاء يفضي به إلى النار‪ ،‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )22‬حدثنا غندر‪ ،‬عن شعبة‪ ،‬عن سلمة‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن علقمة‪ ،‬قال‪ :‬قال رجل عند عبد اهلل‪ :‬إنِّي مؤمن‪،‬‬
‫!ِو َلكنَّاِن ُْؤم ُنِباهلل َِو َم ََلئكَته َِو ُكتُبه َِو ُر ُسلهِ»‪.‬‬
‫قال‪ُ « :‬ق ْل‪ِ:‬إنِّيِفيِا ْل َجنَّة َ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه ابن عساكر يف «تاريخه»‪ ،‬وصححه األلباين يف «الصحيحة» (‪.)1828‬‬
‫(‪ )2‬رواه مسلم (‪ ،)37‬وأبو داود (‪.)4796‬‬
‫(‪ )3‬رواه الرتمذي (‪ )2009‬عن أبي هريرة‪ ،‬وابن ماجه (‪ )4184‬عن أبي بكرة‪ ،‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪45‬‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن علقمة‪ ،‬قال‪ « :‬قال رجل عند عبد اهلل –أي ابن مسعودِ‬
‫ﭬِ‪« :-‬إنِّي مؤمن‪ ،‬قال‪ :‬قل‪ :‬إنِّي في الجنة! ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»‪.‬‬

‫هذا األثر ‪ -‬وجملة من اآلثار تأيت بعده متوالية ‪ -‬كلها البحث فيها والكالم فيها عن مسألة معروفة عند أهل‬
‫العلم يف كتب العقائد بمسألة االستثناء يف اإليمان‪ .‬والمصنف ‪ $‬بد ًءا من هذا األثر وجملة من اآلثار‬
‫عديدة تأيت بعده كلها يف هذه المسألة‪ :‬مسألة االستثناء يف اإليمان‪ .‬واالستثناء يف اإليمان هو أن يقول من‬
‫سئل أمؤمن أنت؟ هل أنت مؤمن؟ يقول‪ :‬أنا مؤمن ويستثني‪ ،‬ومعنى يستثني أن يقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء‬
‫مثال عندما يسأل أمؤمن أنت؟ يقول‪ :‬آمنت باهلل ومالئكته‪ ،‬مثل ما‬
‫اهلل‪ ،‬أو يقول‪ :‬أنا مؤمن أرجو‪ ،‬أو يقول ً‬
‫أيضا من صيغ االستثناء‪ .‬إذا قيل لشخص أمؤمن أنت؟ قال‪ :‬آمنت باهلل‬
‫وجه إلى ذلك ابن مسعود‪ ،‬هذا ً‬
‫أيضا استثناء يف اإليمان‪ .‬أو إذا سئل‪ :‬أمؤمن أنت؟ يقول‪ :‬ال إله‬
‫ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر‪ ،‬هذا ً‬
‫إال اهلل‪ ،‬أو يقول‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل‪ ،‬هذا كله يسمى عند أهل العلم استثناء يف اإليمان‪.‬‬

‫والمراد باالستثناء يف اإليمان‪ :‬عدم الجزم والقطع‪ .‬ال يجزم اإلنسان وال يقطع لنفسه باإليمان‪ .‬لماذا؟ ألن‬
‫اإليمان عند أهل السنة يتناول الدين كله؛ يتناول العقيدة التي يف القلب‪ ،‬ويتناول األقوال التي باللسان‪،‬‬
‫ويتناول األعمال الصالحات الزاكيات الكثيرات‪ ،‬كل ذلكم يتناوله اسم اإليمان ﭿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ‬

‫ﭫﭬﭭ ﭮﭯﭰﭱﭲ ﭳﭴ ﭵﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ‬


‫ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﭾ [األنفال‪ ،]4 – 2 :‬من الذي يجزم لنفسه أنه من هؤالء؟‬

‫فاإليمان عند اإلطالق يتناول الدين كله‪ :‬عقيدة وشريعة‪ .‬وهذا أمر ال يجزم المسلم لنفسه به‪ ،‬ال يجزم أنه‬
‫أتى باألعمال كلها‪ ،‬ال يجزم أنه أتى بالطاعات كلها‪ ،‬ال يجزم أنه كمل اإليمان‪ ،‬ومر معنا قري ًبا‪َ « :‬أك َْم ُلِ‬
‫ِخ ُل ًقا»‪ .‬فهذه الخصال خصال اإليمان وهي كثيرة ‪ -‬وعرفنا ساب ًقا تفاوت أهل‬ ‫يمان َ‬
‫ًاِأ ْح َسن ُُه ْم ُ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ينِإ َ‬
‫اإليمان فيها ‪ -‬ال يجزم اإلنسان لنفسه أنه كملها‪ ،‬ولهذا كان االستثناء يف اإليمان سنة ماضية لدى السلف‬
‫أمورا ينبغي‬
‫قاطبة‪ ،‬إذا سئل أحدهم عن اإليمان يستثني يف إيمانه‪ ،‬وهم عندما يستثنون يف اإليمان يلحظون ً‬
‫أن نتنبه لها وهي‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪46‬‬

‫أوَل‪ :‬أن اإليمان كما عرفنا يشمل الدين كله‪ ،‬يشمل فعل األوامر وترك النواهي‪ ،‬ويشمل الرغائب والنوافل‬
‫ًِ‬
‫والمستحبات‪ ،‬كل ذلكم يشمله اإليمان‪ ،‬وال أحد يجزم لنفسه أنه كمل األعمال وأتى هبا على التمام‬
‫والكمال‪ .‬فإذا سئل‪ :‬أمؤمن أنت؟ يقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬أو‪ :‬مؤمن أرجو‪ ،‬مالح ًظا بذلك أن يف‬
‫ً‬
‫أعماال كثيرة وطاعات عديدة وعبادات متنوعة‪ ،‬وال يجزم لنفسه أنه كملها‪.‬‬ ‫اإليمان‬

‫ثان ًِيا‪ :‬أن اإليمان النافع هو المتقبل الذي تقبله اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬من العامل‪ ،‬وقد قال اهلل ‪ -‬سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬يف صفة المؤمنين الكمل‪ :‬ﭿﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭾ [المؤمنون‪ ،]60:‬وقد جاء يف‬

‫«المسند» وغيره أن عائشة ڤ سألت النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬عن هذه اآلية‪ ،‬قالت‪َ « :‬أ ُه ُمِا َّلذ َ‬
‫ينِ‬
‫ونِ الخَ ْم َرِِ َو َي ْسر ُق َِ‬
‫ون؟»‪ .‬هل هذا هو معنى قوله تعالى‪ :‬ﭿﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭾ؛ أي‪ :‬يفعلون ما‬ ‫َي ْش َر ُب َ‬
‫يفعلون من معاصي وهم خائفون من العقوبة؟ هل هذا معنى اآلية؟ قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ََ « :-‬ل َِياِ‬
‫ون َِأ ْن ََِلِ ُت ْق َب َلِمن ُْه ِْم»(‪ .)1‬فاإليمان‬
‫‪ِ،‬و ُه ْم َِيخَ ا ُف َ‬
‫ون َ‬ ‫ون َِو ُي َص ُّل َ‬
‫ون َِو َيت ََصدَّ ُق َ‬ ‫وم َ‬ ‫‪ِ،‬و َلكن َُّه ُِمِا َّلذ َ‬
‫ين َِي ُص ُ‬ ‫ِالصدِّ يقِ َ‬
‫ْت ِّ‬‫بن َ‬
‫النافع هو اإليمان المتقبل‪ ،‬ومن الذي يجزم أن أعماله متقبلة؟ وابن عمر ﭭ يقول‪« :‬لو علمت أن اهلل‬
‫تقبل مني سجدة واحدة أو صدقة درهم لم يكن غائب أحب إلي من الموت‪ .‬تدري ممن يتقبل اهلل؟ ﭿﮙ‬

‫ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﭾ [المائدة‪ .)2(» ]27 :‬إذن مما يالحظه السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬يف االستثناء يف اإليمان خوف‬
‫تقصيرا يستوجب‬
‫ً‬ ‫عدم القبول‪ ،‬فيقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬يخشى أن أعماله غير متقبلة وأن عنده فيها‬
‫ردها عليه وعدم قبولها منه‪.‬‬

‫ثال ًِثا‪ :‬للسلف يف استثنائهم يف اإليمان أن االستثناء يكون عن غير شك‪ ،‬يقول‪ :‬إن شاء اهلل وال يلزم من ذلك‬
‫أن يكون شاكا يف إيمانه‪ ،‬ولهذا قال الرسول ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬يف دعاء زيارة المقابر قال‪َ « :‬وإنَّاِإ ْنِ‬
‫َشا َءِاهللُِبك ُْم ََِلح ُق َِ‬
‫ون»(‪ ، )3‬هل عنده شك يف اللحوق؟ فاالستثناء يكون ويقع من الشخص ال عن شك يف‬
‫أيضا ملحظ من األمور أو المآخذ التي يالحظها السلف يف استثنائهم يف اإليمان‪ ،‬يستثنون يف‬
‫إيمانه‪ ،‬فهذا ً‬
‫اإليمان دون شك منهم يف أصل اإليمان‪ ،‬لكن عنده شك يف ماذا؟ ليس عنده شك يف أصل اإليمان‪ ،‬لكن‬
‫عنده شك يف تكميل اإليمان‪ .‬هل كمل إيمانه؟ هل إيمانه وأعماله وطاعاته متقبلة؟ هذا عنده فيه شك‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه الرتمذي (‪ )3175‬واللفظ له‪ ،‬وابن ماجه (‪ ،)4198‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه ابن عساكر يف «تاريخ دمشق» (‪ ،)146/31‬وابن عبد الرب يف «التمهيد» (‪.)256/4‬‬
‫(‪ )3‬رواه مسلم (‪.)249‬‬
‫‪47‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪47‬‬
‫ولهذا يستثني‪ .‬ولهذا من يقول‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬ليس عنده شك يف أصل إيمانه‪ .‬ولهذا قال ابن مسعود‬
‫‪« :‬ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»‪ ،‬هذه ليس فيها استثناء‪ .‬ولننتبه لهذا‪ ،‬ال يقول أحد‪ :‬أنا مؤمن‬
‫أيضا‪ :‬ال إله إال اهلل إن شاء اهلل‪ .‬ال إله إال اهلل ليس فيها استثناء‪ ،‬واإليمان‬
‫بالمالئكة إن شاء اهلل‪ ،‬وال يقول ً‬
‫بأصول اإليمان ليس فيها استثناء‪ .‬ال يقول القائل‪ :‬أنا مؤمن بالمالئكة إن شاء اهلل‪ ،‬أو‪ :‬مؤمن بالكتب إن‬
‫شاء اهلل‪ ،‬االستثناء هنا ال وجه له‪ .‬فاالستثناء ال يقع على األصل‪ ،‬وإنما االستثناء يف األعمال والطاعات‬
‫العديدة المتنوعة‪.‬‬

‫أيضا من المالحظ التي يلحظها السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬يف استثنائهم يف اإليمان‪ :‬أن العبد ال يدري‬
‫راب ًعا‪ً :‬‬
‫ما يختم له به‪ ،‬وقد كان أكثر دعاء النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬كما جاء يف حديث عائشة ڤ وغيرها‪:‬‬
‫تِ َق ْلبيِ َع َلى ِدين َ ِ‬
‫ك‪ِ .‬قالت‪ :‬فقلت‪ :‬يا‬ ‫بِا ْل ُق ُلوبِ َث ِّب ْ‬
‫اِم َق ِّل َ‬
‫«دعوات كان رسول اهلل ﷺ يكثر أن يدعو بها‪َ ِ :‬ي ُ‬
‫ل‪َ ِ،‬فإ َذاِ‬ ‫ِاْل َدم ِّيِ َب ْي َن ُِأ ْص ُب َع ْينِم ْن َِأ َصابعِاهللِ َعز َ‬
‫َِّو َج َّ ِ‬ ‫ب ْ‬ ‫رسول اهلل‪ ،‬إنك تكثر تدعو بهذا الدعاء‪ِ.‬فقال‪ِ :‬إ َّنِ َق ْل َ‬
‫اِشا َء َِأ َق َام ُِه»(‪.)1‬‬ ‫َشا َء َِأزَا َغ ُه َ‬
‫‪ِ،‬وإ َذ َ‬

‫فالشاهد أن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬عندما يستثنون يف اإليمان يلحظون هذه األمور يف استثنائهم إليماهنم‪.‬‬
‫ومما ينبغي أن يعلم يف هذا المقام أن اإليمان عند السلف له إطالقان‪ :‬مطلق ومقيد‪ ،‬إيمان مطلق وإيمان‬
‫مقيد‪ .‬اإليمان المطلق يشمل الدين كله‪ ،‬واإليمان المقيد مثل ما مر عن ابن مسعود‪ :‬آمنت باهلل ومالئكته‬
‫وكتبه هذا مقيد‪ ،‬وإذا عرف أن لإليمان إطالقين عند السلف ‪ -‬كما تدل على ذلك نصوص الشريعة ‪ -‬فإن‬
‫أيضا ارتباط هبذين االطالقين‪ ،‬بمعنى‪ :‬أن من سئل عن اإليمان وكان القصد‬
‫مسألة االستثناء يف اإليمان لها ً‬
‫هبذا السؤال أصل اإليمان فهذا ال استثناء فيه‪ ،‬ولهذا الحظنا ابن مسعود قال‪« :‬ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته‬
‫وكتبه‪ »...‬ولم يقل بتمام ذلك‪ :‬إن شاء اهلل‪ ،‬لكنه قال للشخص الذي قال‪« :‬إين مؤمن» قال‪« :‬قل إين يف‬
‫الجنة»‪ ،‬لماذا؟ ألن «إين مؤمن» هذه تشمل الدين كله‪.‬‬

‫قال ‪« :‬ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»‪ ،‬فهذه األمور لإليمان المقيد هذه ليس فيها استثناء‪.‬‬
‫كامال‪ ،‬ومن جميل ما يروى يف هذا الباب أن الحسن‬
‫ً‬ ‫االستثناء يف اإليمان المطلق الذي يشمل الدين‬
‫البصري ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ ،‬وهو من علماء التابعين ‪ -‬سأله سائل عن اإليمان‪ ،‬فقال‪« :‬اإليمان إيمانان‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد (‪ ،)24604‬وصححه األلباين يف «الصحيحة» (‪.)2091‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪48‬‬

‫فإن كنت تسألني عن اإليمان باهلل‪ ،‬ومالئكته‪ ،‬وكتبه ورسله‪ ،‬والجنة والنار‪ ،‬والبعث والحساب‪ ،‬فأنا مؤمن‪،‬‬
‫وإن كنت تسألني عن قول اهلل ‪ -‬عز وجل‪ :-‬ﭿﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ‬

‫ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﭾ فواهلل ما‬
‫أدري أنا منهم أو ال»(‪.)1‬‬

‫قال‪« :‬اإليمان إيمانان»‪ ،‬ولهذا مالحظة هذا االعتبار ‪ -‬اعتبار اإليمان المطلق الذي يتناول الدين كله‬
‫أيضا نافع يف هذه المسألة‪ .‬ولهذا لو قيل لشخص‪ :‬أمؤمن أنت؟ وفصل يف الجواب‪،‬‬
‫واإليمان المقيد ‪ -‬هذا ً‬
‫قال‪« :‬إن كنت تقصد أنني من أهل ال إله إال اهلل أو أنني مؤمن باهلل والمالئكة والكتب والرسل؛ نعم»‪.‬‬
‫يقول‪ :‬نعم‪ ،‬وال يقول‪ :‬إن شاء اهلل‪ ،‬بل يجزم‪« .‬لكن إن كنت تقصد اإليمان المطلق الذي أثنى اهلل على أهله‬
‫ومدحهم وأثنى على أعمالهم وطاعاهتم وإخالصهم وصدقهم إلى آخر ذلك‪ ،‬فأرجو»‪ .‬فهذا ملحظ‬
‫السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬يف االستثناء يف اإليمان والمصنف ‪ $‬أورد جملة من اآلثار النافعة المفيدة يف‬
‫هذا الباب‪ ،‬بدأها هبذا األثر عن ابن مسعود‪« :‬قال رجل عند عبد اهلل‪ :‬إنِّي مؤمن‪ ،‬قال‪ :‬قل‪ :‬إنِّي في الجنة! ِ»ِ‬
‫أيضا ملحظ خامس إضافة إلى المالحظ األربعة التي‬
‫لماذا؟؛ ألن «ِإين مؤمن» هذه تزكية للنفس‪ ،‬وهذا ً‬
‫ذكرهتا ساب ًقا للسلف يف استثنائهم لإليمان وهو البعد عن التزكية واهلل تعالى يقول ‪ :‬ﭿﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ‬

‫ﯟ ﯠ ﭾ [النجم‪ ]32:‬ولهذا قال ابن مسعود لهذا الرجل لما قال «ِإين مؤمن» قال‪ِ«:‬قل‪ :‬إين يف الجنة»؛ ألن من‬
‫أيضا إنه يف الجنة؛ ألن المؤمن يف الجنة‪ .‬قال‪ِ«ِ:‬إنِّي مؤمن‪،‬‬
‫جزم أنه مؤمن باإلطالق هكذا فليجزم لنفسه ً‬
‫قال‪ :‬قل‪ :‬إنِّي في الجنة! ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»‪ِ ،‬وهذه أصول يقوم عليها الدين وهي‬
‫أصل اإليمان وهذه ال استثناء فيها‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )23‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي وائل‪ ،‬قال‪[« :‬جاء] رجل إلى عبد اهلل‪ ،‬فقال‪ :‬إنِّي لقيت رك ًبا‬
‫فقلت‪ :‬من أنتم؟ قالوا‪ :‬نحن المؤمنون! قال‪ :‬فقال‪َ [ :‬أ ََلِ َقا ُلوا]‪ِ:‬ن َْح ُنِم ْن َِأ ْهلِا ْل َجنَّةِ!؟»‪.‬‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البيهقي يف «شعب اإليمان» (‪ ،)75‬ويف «االعتقاد» (ص‪ )201‬ط‪ .‬إدارة البحوث العلمية واإلفتاء‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪49‬‬
‫ثم أورد ‪-‬رحمه اهلل‪ -‬األثر نفسه عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال‪«ِ:‬جاء رجل إلى عبد اهلل ‪-‬ابن مسعود‪-‬‬
‫‪ ،‬فقال‪ :‬إنِّي لقيت رك ًبا فقلت‪ :‬من أنتم؟ قالوا‪ :‬نحن المؤمنون!» وهذه تزكية‪ ،‬ولهذا أيضًا يذكرون ‪ -‬وهذا‬
‫من لطيف ما رواه الاللكائي يف «شرح االعتقاد» وغيره ‪ -‬أنه «قيل ألعراب ٍّي‪ :‬أمؤمن أنت؟ قال‪ :‬فجعل يقول‪:‬‬
‫أزكِّي نفسي؟»(‪ ،)1‬هذا على الفطرة أجاب‪ .‬قيل له‪ :‬أمؤمن أنت؟ استحضر أن «أمؤمن أنت؟» تشمل الدين‬
‫كله‪ ،‬فقال‪« :‬أزكي نفسي؟» وهذا األعرابي فطن إلى هذا األمر الذي غاب عن كثير من الناس‪ ،‬والسيما من‬
‫اشتغلوا بعلوم الكالم ونحو ذلك بعيدين عن الفطرة وبعيدين عن الكتاب والسنة‪.‬‬

‫أناسا وأنه سألهم‪ :‬من أنتم؟ فقالوا‪ :‬نحن المؤمنون! وهذا فيه‬
‫فجاء رجل إلى ابن مسعود وأخرب أنه لقي ً‬
‫تزكية‪ .‬قال ابن مسعود‪« :‬أال قالوا‪ :‬نحن من أهل الجنة؟!» ‪ -‬ألن المؤمن يف الجنة ‪ -‬من ِّب ًها إلى أنه ينبغي‬
‫عليه أن يستثني‪ .‬كيف يستثني؟ إما أن يقول‪« :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل»‪ ،‬أو يقول‪« :‬أنا مؤمن أرجو»‪ ،‬أو يقول‬
‫كما تقدم عن ابن مسعود‪« :‬آمنت باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»‪ ،‬أو يقول‪« :‬ال إله إال اهلل»‪ ،‬أو يقول‪« :‬أشهد‬
‫أن ال إله إال اهلل»‪ ،‬هذا كله يسمى استثناء يف اإليمان بحيث ال يجزم اإلنسان لنفسه وال يزكي نفسه بأنه كمل‬
‫اإليمان بأعماله وطاعاته وعبادته المتنوعة؛ ألنه إذا قال‪ :‬أنا مؤمن هكذا جز ًما فهي تتناول وتشمل الدين‬
‫كله‪ ،‬فهنا إذا لوحظ هذا الملحظ يف اإليمان وهو شموله الدين كله ال بد من االستثاء‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫ْت؟ِ َق َال‪َ ِ:‬أ ْر ُجو»‪.‬‬


‫‪ِ:‬أ ُم ْؤم ٌن َِأن َ‬
‫يلِ َِل ُه َ‬
‫(‪ )24‬حدثنا جرير‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن علقمة‪ ،‬قال‪« :‬ق َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬
‫هذه الصيغة من صيغ االستثناء المأثورة عن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ .-‬علقمة ‪ -‬تلميذ عبد اهلل بن مسعود‬
‫ﭬ ‪ -‬قيل له‪ :‬أمؤمن أنت؟ قال‪ :‬أرجو‪ .‬قوله‪« :‬أرجو» هذا استثناء يف اإليمان‪ ،‬أرجو أن أكون مؤمنًا؛ ألن‬
‫اإليمان يشمل الدين كله ويرجو أن يكون كذلك‪ ،‬وال يجزم لنفسه بأنه كمل اإليمان‪.‬‬
‫ِ‬
‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (رقم‪.)1853‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪50‬‬

‫(‪ )25‬حدثنا جرير‪ ،‬عن مغيرة‪ ،‬عن سماك بن سلمة‪ ،‬عن عبد الرحمن بن عصمة‪ ،‬أن عائشة قالت‪َ « :‬أ ْنت ُُمِ‬
‫ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ُونِإ ْن َِشا َءِاهلل»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد هذا األثر عن عائشة ڤ واألثر كما يف بعض المصادر له قصة‪ ،‬وهو من رواية عبد الرحمن بن‬
‫عصمة والشيخ األلباين ‪ $‬قال‪« :‬لم أجد البن عصمة ترجمة»(‪ .)1‬ويف بعض المصادر له قصة لهذا األثر‬
‫وهو أن معاوية بعث ألم المؤمنين عائشة ڤ هبدية‪ ،‬فأتاها رسول معاوية ﭬ هبدية فقال‪« :‬أرسل هبا‬
‫إليك أمير المؤمنين»‪ ،‬فقالت ڤ‪« :‬أنتم المؤمنون إن شاء اهلل تعالى وهو أميركم وقد قبلت هديته»(‪.)2‬‬
‫فالشاهد من هذا األثر أن من صيغ االستثناء يف اإليمان أن يقول من يستثني‪ :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل‪ ،‬ومن‬
‫صيغه الصيغة التي مرت‪ :‬أنا مؤمن أرجو‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫اِسئ َل َِأ َحدُ ك ِْ‬


‫ُم‪ِ:‬‬ ‫(‪ )26‬حدثنا أبو أسامة‪ ،‬عن مسعر‪ ،‬عن عطاء بن السائب‪ ،‬عن أبي عبد الرحمن‪ ،‬قال‪« :‬إ َذ ُ‬
‫َأ ُم ْؤم ٌن َِأن َ‬
‫ْت؟ِ َف ََل َِي ُشك َِّ‬
‫َّن»‪.‬‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد هذا األثر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال‪« :‬إذا سئل أحدكم‪ :‬أمؤمن أنت؟ فال يشكن» أي‪:‬‬
‫يف إيمانه‪ ،‬وهنا األثر إسناده ضعيف؛ ألن فيه عطاء بن السائب‪ ،‬اختلط‪ ،‬فاألثر ضعيف اإلسناد لكن على‬
‫فرض صحته عن أبي عبد الرحمن السلمي يحمل على أصل اإليمان؛ ألنا عرفنا فيما سبق أن اإليمان‬
‫إيمانان‪ :‬اإليمان المطلق الذي يشمل الدين كله‪ ،‬واإليمان الذي هو أصل اإليمان‪ .‬فكالم أبي عبد الرحمن‬
‫السلمي ونظيره مما سيأيت عن بعض السلف يحمل على أصل اإليمان‪« .‬إذا سئل أحدكم‪ :‬أمؤمن أنت؟‬
‫فال يشكن»‪ ،‬أي‪ :‬ال يشكن يف أصل إيمانه‪ .‬إذن ماذا يقول؟ «أنا مؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»‪ ،‬وليس‬
‫المراد بقول أبي عبد الرحمن السلمي وغيره من أئمة السلف‪ :‬ال يشكن بكمال اإليمان؛ ألن كمال اإليمان‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬كتاب اإليمان» (ص‪.)22‬‬
‫(‪ )2‬رواه عبد اهلل بن أحمد يف «السنة» (‪.)349/1‬‬
‫‪51‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪51‬‬
‫من الذي يجزم لنفسه أنه كمل إيمانه؟ فكمال اإليمان هذا مشكوك فيه‪ ،‬لكن أصل اإليمان ال شك فيه‪.‬‬
‫وأيضا عبيد اهلل بن يزيد اآليت يف األثر بعده يحمل على هذا ‪ -‬على أصل‬
‫فكالم أبي عبد الرحمن السلمي ً‬
‫اإليمان ‪ -‬وأصل اإليمان ال شك فيه وال استثناء فيه‪ِ.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫اِسئ َل َِأ َحدُ ك ُْم َِأ ُم ْؤم ٌنِ‬


‫‪ - 27‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن مسعر‪ ،‬عن زياد بن عالقة‪ ،‬عن عبيد اهلل بن يزيد ‪ ،‬قال‪« :‬إ َذ ُ‬
‫(‪)1‬‬

‫يمانهِ»‪.‬‬
‫كِفيِإ َ‬ ‫َأن َ‬
‫ْت؟ِ َف ََل َِي ُش ُّ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عبيد اهلل بن يزيد األنصاري قال‪«ِ:‬إذا سئل أحدكم أمؤمن أنت؟‬
‫فال يشك في إيمانه» وكما قلنا يف األثر المروي عن أبي عبد الرحمن السلمي فال يشك يف إيمانه‪ ،‬أي‪ :‬يف‬
‫أصل اإليمان‪ ،‬أما كمال اإليمان وتمامه فهذا ال يجزم فيه المسلم لنفسه‪ ،‬وإن جزم به لنفسه فكما قال ابن‬
‫مسعود كما تقدم فليجزم لنفسه بماذا؟ بالجنة‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )28‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن مسعر‪ ،‬عن موسى بن أبي كثير‪ ،‬عن رجل‪ ،‬لم يس ِّمه‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬قال‪ :‬سمعت ابن‬
‫ن»‪.‬‬ ‫مسعود‪ ،‬يقول‪َ « :‬أن ُ‬
‫َاِم ْؤم ٌِ‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫هذا ضعيف اإلسناد‪ ،‬الرجل الذي لم يسم وأبوه مجهوالن‪ ،‬فهذا ضعيف اإلسناد لم يثبت عن ابن مسعود‪،‬‬
‫ومر معنا الثابت عن ابن مسعود إنكاره على من قال أنا مؤمن قال‪« :‬قل‪ :‬إنِّي في الجنة!»‪ ،‬وعلى فرض‬
‫ثبوته ‪ -‬وهو لم يثبت عنه ﭬ ‪ -‬يحمل على أصل اإليمان‪ ،‬فأصل اإليمان‪« :‬أنا مؤمن» أي‪ :‬باهلل ومالئكته‬
‫وكتبه ورسله‪ ،‬وأصل اإليمان ال استثناء فيه كما تقدم معنا من كالمه ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪.-‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬يف «كتاب اإليمان» عبيد اهلل بن زياد‪ ،‬والصواب عبيد اهلل بن يزيد‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪52‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )29‬حدثنا ابن مهد ٍّي‪ ،‬عن سفيان‪ ،‬عن معمر‪ ،‬عن ابن طاوس‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬وعن محمد‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬أنهما‬
‫كانا إذا سئال قاال‪َ « :‬آمنَّاِباهللِ َو َم ََلئكَته َِو ُكتُبه َِو ُر ُسلهِ»‪.‬‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر قال حدثنا مهدي عن سفيان عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه وعن‬
‫محمد عن إبراهيم‪ ،‬فاألثر عن طاوس وعن إبراهيم النخعي «أنهما كانا إذا سئال قاال‪« :‬آمنا باهلل ومالئكته‬
‫وكتبه ورسله»‪ ،‬هذه صيغة ثالثة من صيغ االستثناء‪ .‬اآلن مر معنا ثالث صيغ يف االستثناء‪ ،‬األولى‪« :‬إن شاء‬
‫اهلل»‪ ،‬والثانية‪« :‬أرجو»‪ ،‬والثالثة‪« :‬آمنا باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»‪ ،‬وهذه صيغة من صيغ االستثناء‬
‫المأثورة عن السلف‪ ،‬فإذا قيل لشخص‪ :‬أمؤمن أنت؟ يستثني‪ ،‬إما أن يقول‪« :‬أرجو»‪ ،‬أو يقول‪« :‬إن شاء‬
‫اهلل»‪ ،‬أو يقول‪« :‬آمنت باهلل ومالئكته وكتبه» كما جاء يف هذا األثر عن طاوس عن ابراهيم ‪.‬‬

‫القارئ‪ :‬هنا يقول إن الصواب هو «محل بن إبراهيم» كذا يف «السنة» لعبداهلل بن اإلمام أحمد‪ ،‬و«السنة»‬
‫للخالل‪ ،‬والاللكائي‪ ،‬وابن جرير‪ ،‬واآلجري يف «الشريعة» كلهم من طريق محل بن إبراهيم وهو محل بن‬
‫محرز الض ِّبي الكويف تصحفت إلى «محمد عن إبراهيم»‪.‬‬

‫الشارح‪ :‬ما يبعد مثل هذا؛ ألن هذه النسخة فيها تصحيفات كثيرة‪ ،‬وبعض التصحيفات يمكن أن تستدرك‬
‫من «المصنف» البن أبي شيبة‪ ،‬مثل األثر اآليت اآلن بعده فيه تصحيف تم استداركه من «المصنف» البن‬
‫أبي شيبة‪ .‬فهذه النسخة التي هي «كتاب اإليمان» فيها تصحيفات‪ ،‬ولم يعثر إال على نسخة خطية واحدة‬
‫وفيها تصحيفات عديدة‪ ،‬وبعضها تم استدراكها من «المصنف»؛ ألنه كما قدمت يف «المصنف» البن أبي‬
‫شيبة كتاب اإليمان وهو مطابق لهذا المفرد له ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬مع فروقات يسيرة يف حذف بعض‬
‫اآلثار‪ ،‬وتقديم وتأخير يسير‪ ،‬وإال فهو مطابق له تما ًما‪ ،‬فما يبعد ذلك خاصة أن الباحث أشار إلى أن األثر‬
‫المروي يف مصادر كثيرة عن «محل بن ابراهيم»‪ ،‬وقال يف ترجمته‪« :‬محل بن محرز الضبي الكويف محتج‬
‫به‪ ،‬والتصويب يكون عن محل بن محرز الضبي وهو الذي يقال له‪ :‬محل بن ابراهيم»‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪53‬‬
‫إذن‪ ،‬هذا األثر عن طاوس وعن محل بن إبراهيم وأشار إلى وجوده هبذا االسم يف مصادر منها‪« :‬السنة»‬
‫لإلمام عبد اهلل بن أحمد‪ ،‬و«السنة» للخالل‪ ،‬و«السنة» لاللكائي‪ ،‬و«هتذيب اآلثار» البن جرير‪ ،‬و«الشريعة»‬
‫لآلجري‪ ،‬وتصويب طبعة الرشد لـ«المصنف» بـ«محل»‪.‬‬

‫وعلى كل حال من المفيد ‪ -‬وقد فعلت ذلك قبل قرابة أكثر من خمسة عشر سنة ‪ -‬جلست يو ًما أقابل بين‬
‫كامال وسجلت على نسختي فروقات‬
‫ً‬ ‫«اإليمان» البن أبي شيبة و«المصنف» البن أبي شيبة وقابلته‬
‫استفدهتا أو تصويبات لـ«اإليمان» البن أبي شيبة من «المصنف» البن أبي شيبة‪ ،‬فمن المفيد المقابلة على‬
‫«المصنف» وكالهما البن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪.-‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫اسا من أهل الصالح‬


‫(‪ )30‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬عن الشيبان ِّي‪ ،‬قال‪ :‬لقيت عبد اهلل بن مغفل قال‪ :‬فقلت إن أن ً‬
‫ت َِو َخس ْر َتِإ ْنِ َل ْمِ َتك ُْن ُِم ْؤمنًا»‪.‬‬
‫يعيبون علي أن أقول‪ :‬أنا مؤمن قال‪ :‬فقال عبد اهلل بن مغفل‪َ « :‬ل َقدْ ِخ ْب َ‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫هنا أورد ‪ $‬هذا األثر قال‪« :‬حدثنا أبو معاوية عن الشيباين»‪ ،‬الشيباين هو سليمان بن أبي سليمان أبو‬
‫إسحاق الكويف‪ ،‬قيل‪ :‬مات سنة مائة وتسع وعشرين‪ ،‬وقيل‪ :‬مائة وتسعة وثالثين‪ ،‬وقيل‪ :‬مائة وواحد‬
‫وأربعين‪ ،‬وقيل‪ :‬مائة واثنين وأربعين‪ .‬قال‪« :‬لقيت عبد اهلل بن مغفل»‪ ،‬عبد اهلل بن مغفل صحابي ‪ -‬رضي‬
‫اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬والشيباين لم يلق عبد اهلل بن مغفل‪ .‬عبد اهلل بن مغفل صحابي مات بالبصرة سنة سبع‬
‫وخمسين للهجرة‪ ،‬وقيل‪ :‬واحد وستين للهجرة‪ ،‬واألثر مروي يف «المصنف» البن أبي شيبة ولم أقف على‬
‫هذا األثر بعد بحث عند أحد يف مصادر ‪ -‬سواء األجزاء أو األحاديث ‪ -‬إال عند ابن أبي شيبة‪ ،‬فهو رواه يف‬
‫«كتاب االيمان» ورواه يف كتاب «المصنف» ولم أقف عليه عند أحد غير ابن أبي شيبة ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪-‬‬
‫‪.‬‬

‫يف «المصنف» قال‪« :‬عن عبد اهلل بن معقل» وهو الصواب‪ ،‬وهو عبد اهلل بن معقل بن مق ِّرن المزين‪ ،‬أبو‬
‫الوليد الكويف‪ ،‬ثقة من كبار الثالثة‪ ،‬مات سنة ثمان وثمانين للهجرة‪ .‬وهذا التصحيف «عبد اهلل بن مغفل«‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪54‬‬

‫أيضا يف أثر آخر عند المصنِّف‪ ،‬تكرر التصحيف نفسه يأيت معنا الح ًقا إن‬
‫بدل «عبد اهلل بن معقل» سيأيت ً‬
‫شاء اهلل‪.‬‬

‫أناسا من أهل‬
‫إذن‪ ،‬يقول ابن أبي شيبة‪« :‬حدثنا معاوية عن الشيباين قال‪ :‬لقيت عبد اهلل بن معقل‪ ،‬فقلت‪ :‬إن ً‬
‫الصالح يعيبون علي أن أقول أنا مؤمن‪ .‬قال عبد اهلل بن معقل‪ :‬لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمنًا»‪.‬‬

‫وكما قدمت هذا األثر ونظائره مما يروى عن السلف يحمل على ماذا؟ على أصل اإليمان‪ ،‬مثل ما قال‬
‫الحسن البصري ‪« :$‬اإليمان إيمانان‪ ،»...‬فهذا يحمل على أصل اإليمان الذي هو اإليمان باهلل‬
‫والمالئكة والكتب والرسل‪ .‬قال‪« :‬لقد خبت وخسرت إن لم تكن مؤمنًا»‪ ،‬أي‪ :‬باهلل ومالئكته وكتبه‬
‫ورسله‪ ،‬وهذه ال استثناء فيها‪.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )31‬حدثنا وكيع‪ ،‬عن عمر بن من ِّبه‪ ،‬عن سوار بن شبيب‪ ،‬قال‪« :‬جاء رجل إلى ابن عمر فقال‪ :‬إن هاهنا‬
‫قو ًما يشهدون علي بالكفر! قال‪ :‬فقال‪َ ِ«ِ:‬أ ََلِ َت ُق ُ‬
‫ول ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُِ َف ُتك َِّذ َب ُِه ِْم؟»‪.‬‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن سوار بن شبيب قال‪« :‬جاء رجل إلى ابن عمر فقال‪ :‬إن هاهنا‬
‫قو ًما يشهدون علي بالكفر! قال‪ :‬فقال‪ :‬أال تقول ال إله إال اهلل فتك ِّذبهم؟» هذه اآلن صيغة رابعة من الصيغ‬
‫المنقولة عن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬يف االستثناء يف اإليمان‪ ،‬تستثني بأن تقول‪« :‬أرجو»‪ ،‬أو تستثني بأن‬
‫تقول‪« :‬إن شاء اهلل»‪ ،‬أو تستثني بأن تقول‪« :‬آمنت باهلل ومالئكته وكتبه»‪ ،‬أو تستثني بأن تقول‪« :‬ال إله إال‬
‫اهلل» أو «أشهد أن ال إله إال اهلل»‪ ،‬فهذه كلها من الصيغ التي جاءت عن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬يف هذا‬
‫الباب‪ .‬والرجل يقول‪« :‬إن هاهنا قو ًما يشهدون علي بالكفر!» ولعله يقصد الخوارج الذين يك ِّفرون‬
‫ثيرا من الصحابة‪ ،‬بل كفروا من شهد له النبي‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬تعيينًا بأنه يف‬
‫بالكبيرة وكفروا ك ً‬
‫الجنة؛ كفروا علي بن أبي طالب ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ ،-‬بل عده بعضهم أكفر أهل األرض! وهذا من‬
‫أضل الضالل وأبطل الباطل‪ .‬عبد الرحمن بن ملجم وغيره من رؤوس الخوارج اجتمعوا وتشاوروا يف‬
‫القضاء وقتل أضل وأكثر أهل األرض وحددوا ثالثة‪ :‬علي‪ ،‬ومعاوية‪ ،‬وعمرو بن العاص‪ .‬فالخوارج كفروا‬
‫‪55‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪55‬‬
‫وكثيرا من عباد اهلل المؤمنين‪ .‬فجاء هذا الرجل إلى ابن‬
‫ً‬ ‫كثيرا من الصحابة‬
‫بارتكاب الكبيرة‪ ،‬ولهذا كفروا ً‬
‫عمر ﭭ وقال‪« :‬إن هاهنا قو ًما يشهدون علي بالكفر!» أي‪ :‬يكفرون بالكبائر أو يكفرون بالذنوب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«أال تقول ال إله إال اهلل فتك ِّذبهم؟» كيف يكفرونه وهو يقول ال إله إال اهلل؟! قال‪« :‬أال تقول ال إله إال اهلل‬
‫فتك ِّذبهم؟»‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬

‫(‪ )32‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬عن الشيبان ِّي‪ ،‬عن ابن عالقة‪ ،‬عن عبد اهلل بن يزيد األنصار ِّي‪ ،‬قال‪« :‬ت ََس َّم ْواِ‬
‫يمانِ»‪.‬‬
‫‪ِ،‬و ْاْل َ‬ ‫ِاهللُ‪ِ:‬با ْل َحنيف َّية َ‬
‫‪ِ،‬و ْاْل ْس ََلم َ‬ ‫اسمك ُُمِا َّلذ َ‬
‫يِس َّماك ُُم ِ‬ ‫ب ْ‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد هذا األثر عن عبد اهلل بن يزيد األنصاري قال‪« :‬تسموا باسمكم الذي سماكم اهلل‪ :‬بالحنيفية‪،‬‬
‫واإلسالم‪ ،‬واإليمان» بأن يطلق هكذا اإلطالق العام على أهل اإليمان بأهنم أهل الحنيفية‪ ،‬وأهنم أهل‬
‫اإلسالم‪ ،‬وأهنم أهل اإليمان‪ ،‬مثل لما يخطب الخطيب ويخاطب أهل اإليمان يقول‪« :‬أيها المؤمنون!»‬
‫داخال يف باب التزكية؛ ألن مراد الخطيب بـ«أيها المؤمنون!» ماذا؟ يعني‪ :‬يا من‬
‫ً‬ ‫هذا ال حرج فيه وليس‬
‫أكرمكم اهلل بالدخول يف هذا الدين‪ ،‬وال يقصد‪ :‬يا من كملتم اإليمان وتممتم الدين‪ .‬ولهذا مثل هذا ‪«-‬أيها‬
‫المؤمنون!»‪ -‬ال حرج فيه وال يشكل؛ ألن هذا المراد به أصل اإليمان‪ .‬ومنه قول اهلل تعالى‪ :‬ﭿﭞ ﭟ‬

‫ﭠﭾ [النساء‪ ،]92 :‬هل المراد شخص رقيق كمل اإليمان؟ هل هذا المراد؟ ال! المراد من ﭿ ﭟ ﭠﭾ‬

‫أي‪ :‬يشهد أن ال إله إال اهلل وأن محمدً ا رسول اهلل‪ ،‬من أهل اإلسالم‪ ،‬هذا هو المراد‪ ،‬مثل قوله‪ :‬ﭿﮙ ﮚ‬

‫ﮛ ﮜ ﭾ [الحجرات‪ ]9 :‬أي‪ :‬من كانوا على اإليمان‪ .‬فهذا محمول على هذا المعنى‪.‬‬

‫قال‪« :‬تسموا باسمكم الذي سماكم اهلل‪ :‬بالحنيفية‪ ،‬واإلسالم‪ ،‬واإليمان»‪ .‬فإذا قال اإلنسان مخاط ًبا‬
‫المؤمنين أو مخربًا عن المؤمنين بأهنم أهل اإليمان‪ ،‬أو أهل الحنيفية‪ ،‬أو أهل اإلسالم‪ ،‬فهذا ال إشكال فيه‬
‫وال يلزم فيه االستثناء‪ِ.‬‬

‫قا ِل‪ِ:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪56‬‬

‫(‪ )33‬حدثنا عبد اهلل بن إدريس‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن شقيق‪ ،‬عن سلمة بن سبرة‪ ،‬قال‪ :‬خطبنا معاذ بن جبل‬
‫ُون َِو َأ ْنت ُْم َِأ ْه ُلِا ْل َجنَّةِ»‪.‬‬
‫فقال‪َ « :‬أ ْنت ُُمِا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورده ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن معاذ‪ ،‬وسنده فيه كالم‪ .‬سلمة بن سربة فيه جهالة‪ ،‬فاإلسناد‬
‫ضعيف لسلمة الراوي له عن معاذ‪.‬‬

‫قال‪«ِ:‬خطبنا معاذ بن جبل فقال‪ :‬أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة»‪ .‬وعلى فرض ثبوته عن معاذ فال إشكال‬
‫فيه؛ ألن الخطاب العام ال يراد به التزكية‪ ،‬وإنما المراد به اإلخبار أن أهل اإليمان هم أهل الجنة‪.‬‬

‫هذا األثر عن معاذ ﭬ على فرض ثبوته‪ ،‬وعرفنا أن يف سنده كالم‪ ،‬فإن هذا خطاب عام‪ ،‬فالمؤمنون هم‬
‫أهل الجنة‪ .‬فقوله‪« :‬أنتم المؤمنون وأنتم أهل الجنة»‪ ،‬أي‪ :‬من كان من أهل اإليمان فهو من أهل الجنة‪،‬‬
‫يحمل على هذا المعنى‪ .‬والخطاب العام هذا المقصد به‪ ،‬مثل اآليات التي يف القرآن‪ :‬ﭿ ﯓ ﯔ‬

‫ﯕﭾ أي‪ :‬يا من من اهلل عليكم بالدخول يف اإليمان‪ ،‬وليس المراد ﭿﯓ ﯔ ﯕﭾ‪ ،‬أي‪ :‬من كمل‬
‫اإليمان وتممه‪ ،‬فيحمل على هذا المعنى‪.‬‬

‫وهبذا يكون أهنى ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬اآلثار التي ساقها متوالية فيما يتعلق باالستثناء يف اإليمان‪ ،‬وسيأيت‬
‫عنده الح ًقا ً‬
‫أيضا آثار يف مواضع من كتابه هذا تتعلق بالمسألة نفسها‪.‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫(‪ )34‬حدثنا عمر بن أيوب‪ ،‬عن جعفر بن برقان‪ ،‬قال‪ :‬كتب إلينا عمر بن عبد العزيز‪َ « :‬أ َّماِ َب ْعدُِ‪َ ِ،‬فإ َّنِ ُع َرىِ‬
‫واِالص ََلةَِل َو ْقت َها»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫‪ِ،‬وإيتَا ُءِال َّزكَاة‪َ ِ،‬ف َص ُّل‬ ‫‪ِ،‬وإ َقا ُم َّ‬
‫ِالص ََلة َ‬ ‫انِباهلل َ‬
‫يم ُ‬
‫‪ِ:‬اْل َ‬ ‫‪ِ،‬و َق َوائ َم ْ‬
‫ِاْل ْس ََلم ْ‬ ‫الدِّ ين َ‬
‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ $‬هذا األثر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب‪« :‬أما بعد‪ ،‬فإن عرى الدِّ ين‪ ،‬وقوائم اإلسالم‪:‬‬
‫اإليمان باهلل‪ ،‬وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬فصلوا الصالة لوقتها»‪ ،‬وكتب ذلك وهو خليفة المسلمين وأمير‬
‫‪57‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪57‬‬
‫المؤمنين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ ،-‬فكتب بذلك ‪ -‬أي‪ :‬للناس يف األمصار ‪ -‬وصي ًة منه لهم بالعناية بمباين‬
‫اإلسالم وقواعده العظام‪.‬‬

‫قال‪« :‬فإن عرى الدِّ ين‪ ،‬وقوائم اإلسالم» عرى الدين التي هي المتمسك‪ ،‬وقوائم اإلسالم التي عليها قيامه‪:‬‬
‫«اإليمان باهلل» وهو األصل الذي يقوم عليه دين اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى ‪« ،-‬وإقام الصالة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬فصلوا‬
‫الصالة لوقتها»‪ ،‬حث ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬على المحافظة على الصالة وأدائها يف وقتها‪.‬‬

‫ونكتفي هبذا القدر‪ ،‬واهلل تعالى أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫الدرس الرابع‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقولِالحافظِأبوِبكر‪ِ،‬عبدِاهللِبنِِمحمدِبنِأبيِشيبةِالكويف‪ِ،‬يفِكتابِ«اْليمان»‪ِ:‬‬

‫(‪ )35‬حدثنا محمد بن بشر‪ ،‬نا سعيد‪ ،‬عن قتادة‪ ،‬عن أنس‪ ،‬أن نبي اهلل ﷺ قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِ‬
‫َانِفيِ‬ ‫اِيز ُن َِشع َير ًِة»‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ‬ ‫َانِفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬ ‫إ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ‬
‫‪ِ،‬وك َ‬
‫اِيز ُنِ‬ ‫اِيز ُنِ ُب َّر ًِة»‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ‬
‫َانِ َفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬ ‫َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬
‫َذ َّر ًِة»‪.‬‬

‫الشرح‪ِ:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪58‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫هذا الحديث الذي ساقه المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬حديث أنس بن مالك ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪-‬‬
‫فيه بيان أمور عديدة تتعلق باإليمان الذي أفرد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا المصنف لبيانه وتوضيح مسائله‪،‬‬
‫وحديث أنس بن مالك ﭬ فيه بيان حال أهل الكبائر من أهل اإليمان؛ وهو من يعرف بالفاسق الم ِّلي أو‬
‫المؤمن الذي ارتكب الكبائر‪ ،‬واقرتف الذنوب‪ ،‬وفعل المعاصي‪ ،‬ما لم يكن ما قارفه كفر ًا باهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫؛ ألن الكافر له حكم آخر وهو الخلود يف نار جهنم أبد اآلباد‪ ،‬ال يقضى عليه فيموت وال يخفف عنه من‬
‫عذاهبا‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬ﭿﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ‬

‫ﯔﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙﭾ [فاطر‪ ،]36:‬فهذا الحديث يتعلق ببيان حكم أهل الكبائر من أهل اإليمان‪ ،‬أهل‬
‫التوحيد الذين لم يكفروا باهلل ولم يشركوا باهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬لكنهم ظلموا أنفسهم بفعل المعاصي‬
‫واقرتاف الذنوب‪ .‬فهؤالء إذا عذبوا يف النار يكون تعذبيهم فيها تطهير ًا لهم وتنقية‪ ،‬وتمحيصًا ثم بعد ذلك‬
‫يخرجون من النار ويدخلون الجنة‪ ،‬وقد جاء يف الصحيحين وغيرهما عن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬‬
‫بيان صفة اخراج هؤالء‪-‬أهل الكبائر‪ -‬من النار‪ ،‬حيث ذكر ‪-‬عليه الصالة والسالم ‪ ،-‬أهنم يكونون يف النار‬
‫كقطع الفحم السوداء‪ ،‬وأن النار تميتهم إماتة‪ ،‬وأهنم يخرجون من النار ضبائر ضبائر‪ ،‬أي‪ :‬جماعات‬
‫جماعات‪ ،‬ودفعات دفعات؛ ألهنم يف الكبائر متفاوتون‪ ،‬ومكثهم يف النار متفاوت‪ ،‬فمنهم من تطول مدته‬
‫ومنهم من تقصر‪ ،‬ولهذا يخرجون من النار ضبائر ضبائر أي‪ :‬جاعات جماعات‪ ،‬ثم يلقون يف هنر الفردوس‪،‬‬
‫تِالح َّبةُِ‬
‫المتفحمة يف هنر الفردوس فيحيون بمائه‪ ،‬قال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪« -‬ك ََماِ َتنْ ُب ُ‬
‫ِّ‬ ‫تلقى هذه القطع‬
‫ِالس ْيلِ»(‪ ،)1‬فيحيون هؤالء بماء الفردوس ‪-‬هنر يف الجنة‪ -‬يلقون فيه وينبتون هناك ويحيوون‬
‫يِحميل َّ‬
‫ف َ‬
‫هناك كما تنبت الحبة يف حميل السيل‪ ،‬أي‪ :‬التي يحملها السيل‪ ،‬ثم يلقيها على جنبتيه فتحيى وتنبت بماء‬
‫السيل‪ ،‬فهؤالء يحيون بماء هنر الفردوس حين يلقون فيه‪ ،‬فهذا فيه بيان لحال أهل الكبائر من أمة محمد ‪-‬‬
‫َانِفيِ َق ْلبهِ‬ ‫عليه الصالة والسالم‪ .‬قال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪َ « :-‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ‬
‫‪ِ،‬وك َ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)806‬ومسلم (‪.)182‬‬
‫‪59‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪59‬‬
‫َانِفيِ َق ْلبهِم َن ِا ْلخَ ْير َِم َ‬
‫اِيز ُنِ‬ ‫ِشع َير ًِة»‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ‬ ‫م َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬
‫اِيز ُن َ‬
‫اِيز ُنِ َذ َّر ًِة»‪.‬‬ ‫ُب َّر ًِة»‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ‬
‫َانِ َفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬

‫الشعير والرب‪ :‬الحب المعروف‪ ،‬والذرة واحدة الذر‪ ،‬صغار النمل‪ ،‬وضبط الحديث هكذا «ذرة» بفتح الذال‬
‫والراء المشددة‪ ،‬وقد تصحف على بعض الرواة فقرأه «ذرة»‪ ،‬وراعى يف ذلك ما ذكر يف الحديث‪ :‬حب‬
‫الشعير وحب الرب وحب الذرة‪ ،‬فقرأه هكذا وخطأه األئمة كما هو مبين يف المصادر‪ .‬فقوله «ذرة» ضبطها‬
‫هكذا بفتح الدال والراء مع تشديدها وهي واحدة الذر‪ ،‬وهي صغار النمل‪ ،‬وقيل يف معنى الذرة‪ ،‬أي‪:‬‬
‫القطعة اليسيرة التي ال ترى إال يف شعاع الشمس‪ ،‬وهو الهباء كما جاء هذا المعنى عن ابن عباس وغيره‪،‬‬
‫المراد بالذرة القطعة اليسيرة جد ًا التي ال تكاد ترى إال مع شعاع الشمس‪ .‬وهذا فيه أن اإليمان الذي يف‬
‫القلب ينفع صاحبه وإن قل‪ ،‬حتى وإن كان بمقدار حبة الشعير أو حبة الرب‪ ،‬أو يف مقدار ذرة‪ ،‬واهلل ‪-‬سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬ال يظلم الناس شيئًا‪ ،‬ال يظلمهم مثقال ذرة‪ ،‬فإذا وجد لدى العبد من اإليمان ولو كان هبذا‬
‫المقدار‪-‬يعني ضعيفًا يسير ًا قليالً‪ -‬فإنه ينفعه‪ ،‬واإليمان النافع الذي لم يكن صاحبه على كفر باهلل ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى‪ .‬أما إذا كان على كفر باهلل أو شرك أو مرتكب لناقض من نواقض اإليمان فإذا كان عنده‬
‫جوانب من جوانب اإليمان ال تنفعه‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬سبحانه و تعالى‪ -‬ﭿﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ‬

‫ﭾ [وسف‪ ]106 :‬أي‪ :‬ما عندهم من جوانب من إيمان ليست بنافعه ما دام قام فيهم ناقض لإليمان ومحبط له‬
‫ومبطل‪ .‬فإذن الحديث يتعلق بعصاة المؤمنين ممن ارتكبوا الكبائر وقارفوا الذنوب واستوجبوا بذلك‬
‫دخول النار وعندهم إيمان‪ ،‬فإيماهنم ينفعهم ولو كان بمقدار ذرة فإيماهنم نافع‪ .‬وهذا الحديث يفيد أن‬
‫أهل اإليمان متفاوتون يف اإليمان حتى ما قام يف القلب منه‪ ،‬فليس تفاوهتم يف األعمال الظاهرة فقط‪ ،‬بل‬
‫يتفاوتون بالتصديق‪ ،‬يتفاوتون باإلقرار‪ ،‬يتفاوتون يف اإلذعان‪ ،‬يتفاوتون يف أعمال القلوب عمومًا‪،‬‬
‫يتفاوتون فيها تفاوتًا عظيمًا‪ ،‬ولهذا ذكر يف الحديث تفاوتًا‪ ،‬منهم قدر اإليمان الذي يف قلبه مقدار شعيرة‪،‬‬
‫ومنهم من هو مقدار برة‪ ،‬ومنهم من اإليمان الذي يف قلبه مقدار ذرة‪ ،‬ومن الناس من أكرمهم اهلل ‪-‬سبحانه‬
‫وتعالى‪ -‬وكان إيمانه أمثال الجبال‪ .‬سئل ابن عمر ﭬ «هل كان أصحاب النب ِّي ﷺ يضحكون؟ قال‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪60‬‬

‫«نعم‪ ،‬واإليمان في قلوبهم أعظم من الجبال»(‪ .)1‬وسئل سفيان بن عيينة ‪ -‬رحمه اهلل‪ -‬عن اإليمان‪« :‬يزيد‬
‫(‪)2‬‬
‫وينقص؟ قال‪ :‬يزيد ما شاء اهلل‪ ،‬وينقص حتى ال يبقى شيء»‬

‫فاإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف‪ ،‬وما قام يف القلب من إيمان أيضًا يزيد وينقص ويقوى ويضعف‪،‬‬
‫وأهله فيه ليسوا سوا ًء على درجة واحدة‪ ،‬ومن أبطل الباطل وأضل الضالل أن يعتقد أن أهل اإليمان فيه‬
‫سواء وأن درجتهم فيه واحدة؛ وكيف يقال إن إيمان أفسق الناس مثل إيمان صديق األمة ‪-‬رضي اهلل عنه؟‬
‫أو إيمان األنبياء؟! فهذا ال يقال أبد ًا‪،‬وهذا من أبطل الباطل من الضالل‪ ،‬فاإليمان أهله فيه متفاوتون‪ ،‬سواء‬
‫يف أعمال اإليمان الظاهرة أو يف حقائق اإليمان الباطنة القائمة يف القلب‪ ،‬فالناس يف ذلك متفاوتون‬
‫والحديث صريح يف ذكر التفاوت؛ التفاوت القلبي‪.‬‬

‫َانِفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬


‫اِيز ُن َ‬
‫ِشع َير ًِة»‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِ‬ ‫‪ِ،‬وك َ‬ ‫قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ‬
‫اِيز ُنِ ُب َّر ًِة»‪ ،‬ثم قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال ََِلِإ َل َهِإ ََّلِ‬
‫َانِفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬ ‫النَّار َِم ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َِوك َ‬
‫اِيز ُنِ َذ َّر ًِة»‪ ،‬وهذه متفاوته يف القدر والوزن‪ ،‬فميزانه مختلف‪ ،‬فهذا فيه داللة‬
‫َانِ َفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬
‫اهللُ َِوك َ‬
‫واضحة على التفاوت‪ .‬وقوله يف الحديث «م َنِا ْلخَ ْيرِ» أي‪ :‬من اإليمان كما جاء مصرحًا به يف روايات‬
‫أخرى للحديث‪ ،‬فقوله «م َنِا ْلخَ ْيرِ» أي‪ :‬من اإليمان‪.‬‬

‫َانِفيِ َق ْلبهِم َنِا ْلخَ ْير َِم َ‬


‫اِيز ُن َِشع َير ًِة»؛ الحظ اآلن قوله « َم ْنِ‬ ‫قال‪َ « :‬يخْ ُر ُجِم َنِالنَّار َِم ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ‬
‫‪ِ،‬وك َ‬
‫َانِفيِ َق ْلبهِ»‪ ،‬فيه التنبيه إلى أن «ال إله إال اله» ال تنفع صاحبها بمجرد نطقها باللسان‪،‬‬
‫‪ِ،‬وك َ‬ ‫َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّل ِ‬
‫ِاهللُ َ‬
‫البد أن يقوم شيئًا يف القلب لتكون به «ال إله إال اهلل» نافعة؛ وإال فأن المنافقين الذين يف الدرك األسفل من‬
‫النار قالوا ال إله إال اهلل وقالوا محمد رسول اهلل‪ ،‬ولكن لم يقم يف قلبهم إيمان فلم ينفعهم ذلك‪ .‬ﭿﯛ ﯜ‬

‫ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭾ [البقرة‪ ]14 :‬هذا قول باللسان فقط‪ ،‬ﭿﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ ﭾ [المنافقون‪ ]1 :‬هذا‬


‫قول باللسان فقط‪ ،‬ال ينفعهم‪ .‬اإليمان النافع أو النطق النافع بـ«ال إله إال اهلل» هو الذي يقوم معه بالقلب‬
‫تصديق ذلك‪ ،‬بمعنى‪ :‬أن يواطئ القلب اللسان‪ ،‬فال يكفي أن يقولها بلسانه‪ ،‬ولهذا جاء يف الحديث عنه ‪-‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬مصنف عبد الرزاق» (‪ 20761‬و‪ ،)20976‬ويف سنده انقطاع بين قتادة وابن عمر‪.‬‬
‫(‪« )2‬الشريعة» لآلجري (‪ ،)553/2‬و«اإلبانة» البن بطة (‪ ،)630/2‬و«حلية األولياء» ألبي نعيم األصفهاين (‪.)295/7‬‬
‫‪61‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪61‬‬
‫ِصاد ًقاِب َهاِ َد َخ َلِا ْل َجنَّ َِة»(‪ .)1‬أما إن قالها ليس صادقًا من قلبه‬ ‫عليه الصالة والسالم‪َ « -‬م ْنِ َق َال َ‬
‫‪َِ:‬لِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ‬
‫فإهنا ال تنفعه‪ .‬ومن فوائد الحديث كذلك أن األعمال كلها ليست بنافعة إال إذا قامت على قدر من اإليمان‬
‫القلبي الذي يصحح األعمال‪ ،‬فاألعمال بمجردها ليست بنافعة إال إذا قام يف القلب إيمان يصحح تلك‬
‫األعمال وإن قل‪ ،‬وأما إذا كانت األعمال بال إيمان قلبي ال تنفع‪ ،‬ولهذا قال اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬ﭿﯽ‬

‫ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭾ [المائدة‪ ، ]5 :‬ترى يف آيات كثيرة تقييد قبول األعمال الظاهرة‬


‫بوجود اإليمان الباطن كقوله سبحانه وتعالى ﭿﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬

‫[النحل‪]97 :‬‬ ‫ﭯ ﭾ [اإلسراء‪ ، ]19 :‬وقوله تعالى‪ :‬ﭿ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﭾ‬

‫ونظائر هذا يف القرآن كثير‪ .‬فاألعمال الصالحة مهما كثرت وتعددت وتنوعت ليست بنافعة صاحبها إال إذا‬
‫قام يف قلبه إيمان قلبي يصحح تلك األعمال ويجعلها مقبولة‪ ،‬وأما إذا انتفى اإليمان القلبي فال ينتفع‬
‫بالعمل الظاهر‪.‬‬

‫الشاهد أن هذا حديث عظيم جد ًا يف باب اإليمان‪ ،‬وبيان دخول األعمال يف مسمى اإليمان‪ ،‬وبيان أن‬
‫اإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف‪ ،‬وأن أهله فيه ليسوا سواء‪ ،‬وفيه وأن األعمال الصالحة ال تنفع‬
‫صاحبها إال إذا قام يف قلبه إيمان يصحح تلك األعمال وتكون به مقبولة‪ ،‬إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة‬
‫المستفادة من هذا الحديث المبارك‪ ،‬حديث أنس بن مالك‪ ،‬وهو مخرج يف الصحيحين وغيرهما‪.‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫(‪ )36‬حدثنا يزيد بن هارون‪ ،‬أنا ابن أبي ذئب‪ ،‬عن الزهر ِّي‪ ،‬عن عامر بن سعد‪ ،‬عن أبيه‪ :‬أن نف ًرا أتوا رسول‬
‫اهلل ﷺ فسألوه‪ ،‬فأعطاهم إال رج ًال منهم‪ ،‬فقال سعد‪ :‬يا رسول اهلل أعطيتهم وتركت فالنًا واهلل إنِّي ألراه‬
‫مؤمنًا‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ْو ُِم ْسل ًما» فقال سعد‪ :‬واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا‪ ،‬فقال رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ْو ُِم ْسل ًماِ»‬
‫فقال ذلك ثال ًثا‪ ،‬وقال رسول اهلل ﷺ ذلك ثال ًثا‪.‬‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد (‪ 19597‬و‪ ،)19689‬وروى البخاري (‪ )99‬نحوه‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪62‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث عامر بن سعد بن أبي الوقاص ﭬ عن أبيه‪« :‬أن نف ًرا‬
‫أتوا رسول اهلل ﷺ فسألوه‪ ،‬فأعطاهم»‪ ،‬سألوه عطا ًء‪ ،‬أن يعطيهم ً‬
‫ماال يتمولون وينفقون منه ويحتاجون إليه‪،‬‬
‫سألوه «فأعطاهم إال رج ًال منهم» لم يعطه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬وكان سعد قد حضر هذا األمر ويعرف‬
‫هذا الشخص الذي لم يعطه النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،-‬يعرف حاله ويرى استقامته يف ظاهره يف عبادته‬
‫خيرا عند النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬رغب ًة منه يف أن يعطيه‬
‫ونحو ذلك كان وعلى معرفة به‪ ،‬فأثنى عليه ً‬
‫النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم كما أعطاهم‪ ،‬فقال‪« :‬يا رسول اهلل أعطيتهم وتركت فالنًا واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا»‬
‫ويف بعض الرويات‪« :‬ما لك عن فالن؟»(‪.)1‬‬

‫«واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا»‪ ،‬أي‪ :‬أظنه مؤمنًا‪ ،‬وهذا فيه شاهد لما سبق من عدم الجزم والقطع باإليمان سواء‬
‫للنفس أو للغير‪ ،‬قال‪« :‬إنِّي ألراه» أي أظنه‪ ،‬والظن ليس بجزم‪ ،‬قال‪« :‬واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا» فقال رسول‬
‫اهلل ﷺ‪َ « :‬أ ْو ُِم ْسل ًما»‪ ،‬وهنا ينبغي أن ننتبه إلى التفاوت بين مرتبتي اإلسالم واإليمان‪ ،‬والتفاوت بينهما‬
‫تعرف حقيقته بفهم حديث جربيل المشهور؛ ألن جربيل لما سأل النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬عن‬
‫‪ِ،‬وا ْل َي ْوم ْ‬
‫ِاْلخر‪ِ،‬‬ ‫‪ِ،‬و ُر ُسله َ‬ ‫اإليمان فسره بالعقائد التي تكون يف القلب‪ ،‬قال‪َ « :‬أ ْنِت ُْؤم َنِباهلل‪َ ِ،‬و َم ََلئكَته َ‬
‫‪ِ،‬و ُكتُبه َ‬
‫ِخ ْيره َِو َش ِّرهِ»‪ ،‬ولما سأله عن اإلسالم فسره باألعمال الظاهرة قال‪َ « :‬أ ْنِت َْش َهدَ َِأ ْن ََِلِإ َل َهِإ ََّلِاهللُِ‬ ‫َوت ُْؤم َنِبا ْل َقدَ ر َ‬
‫تِ‬ ‫‪ِ،‬وت َُح َّجِا ْل َب ْي َ‬ ‫ان َ‬ ‫َ‪ِ،‬وت َُصو َم َِر َم َض َ‬ ‫َ‪ِ،‬وت ُْؤت َيِال َّزكَاة َ‬ ‫ِالص ََلة َ‬ ‫يم َّ‬ ‫ِص َّلىِاهللُِ َع َل ْيه َِوِ َس َّل َم َ‬
‫‪ِ،‬وتُق َ‬ ‫اِر ُس ُ‬
‫ولِاهلل َ‬ ‫َو َأ َّن ُِم َح َّمدً َ‬
‫اك»‪،‬‬ ‫يَل»‪ ،‬ولما سأله عن اإلحسان قال‪َ « :‬أ ْنِ َت ْع ُبدَ ِاهللَِك ََأن َ‬
‫َّكِت ََرا ُه‪َ ِ،‬فإ ْنِ َل ْمِ َتك ُْنِت ََرا ُهِ َفإ َّن ُه َِي َر َِ‬ ‫تِإ َل ْيه َِسب ً ِ‬‫ِاس َت َط ْع َ‬
‫إن ْ‬
‫وهذه الثالثة المذكورة يف الحديث هي مراتب الدين‪ :‬اإلحسان واإليمان واإلسالم‪ ،‬ويف تمام الحديث قال‬
‫يل َِأتَاك ُْم ُِي َع ِّل ُمك ُْمِدينَك ِْ‬
‫ُم»(‪.)2‬‬ ‫– عليه الصالة والسالم‪َ « :-‬فإ َّن ُهِج ْبر ُ‬

‫فديننا على ثالث مراتب‪ :‬اإلحسان أعالها‪ ،‬ثم اإليمان‪ ،‬ثم اإلسالم‪ ،‬ومن كان يف الدرجة األعلى وهي‬
‫درجة اإلحسان فهو مؤمن مسلم؛ ألنه ال يقبل إلى الدرجة األعلى إال مرور ًا هبذه الدرجات التي دونه‪،‬‬
‫فأول ما يبدأ اإلنسان يف دخوله يف هذا الدين يكون مسلمًا‪ ،‬فإذا تمكن اإليمان من قلبه ورسخ يف قلبه صار‬
‫بذلك مؤمنًا‪ ،‬فإذا بلغ من اإلتقان واإلجادة واإلحسان يف العبادة والتقرب إلى اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬أن‬
‫يعبد اهلل كأنه يرى اهلل فإنه يرتقي بذلك إلى درجة المقربين درجة اإلحسان‪ .‬فالدين على ثالثة مراتب‪،‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ )27‬ومسلم (‪.)150‬‬
‫(‪ )2‬حديث جربيل رواه البخاري (‪ ،)50‬ومسلم (‪ )8‬وهذه األلفاظ عند مسلم‪.‬‬
‫‪63‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪63‬‬
‫وسعد ﭬ لما رأى النبي‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬لم يعط هذا الرجل وهو يتوسم فيه خير ًا ويعلم من‬
‫كِ َع ْنِ ُفَل ٍَنِ َف َواهللِإن َ‬
‫ِّيِلَ َرا ُه ُِم ْؤمنًا»‪ ،‬ولما كانت مرتبة اإليمان أعلى وال‬ ‫حاله صالحًا واستقام ًة قال‪َ « :‬ماِ َل َ‬
‫يبلغها العبد إال إذا تمكن اإليمان من قلبه‪ ،‬وأمر القلب إلى اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬ال اطالع ألحد عليه‪،‬‬
‫قال له النبي‪-‬عليه الصالة والسالم‪َ « :-‬أ ْو ُِم ْسل ًما»‪ ،‬وهي أقل الدرجات وهي درجة اإلسالم‪ ،‬والشخص‬

‫َا‪ِ،‬و َأك ََلِ َذب َ‬


‫يح َتنَا‪ِ،‬‬ ‫َا‪ِ،‬و َص َّل َ‬
‫ىِصَلَ َتن َ‬ ‫اس َت ْق َب َلِق ْب َل َتن َ‬ ‫ِشهدَ َِأ ْنَِلَِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ َ‬
‫‪ِ،‬و ْ‬ ‫يحكم عليه باإلسالم بالظاهر‪َ « :‬م ْن َ‬
‫ِالم ْسل ُم‪َ ِ،‬ل ُه َِماِ‬ ‫‪ِ،‬و َع َل ْيه َِماِ َع َل ُ‬
‫ىِالم ْسلمِ» ؛ ما قال‪« :‬فهو المؤمن»‪ ،‬بل قال‪َ « :‬ف ُه َو ُ‬
‫(‪)1‬‬
‫ِالم ْسل ُم‪َ ِ،‬ل ُه َِماِل ْل ُم ْسلم َ‬
‫َف ُه َو ُ‬
‫‪ِ،‬و َع َل ْيه َِماِ َع َل ُ‬
‫ىِالم ْسلمِ»‪ .‬فالشخص عندما يرى ظاهره يحكم عليه باإلسالم‪ ،‬ال يحكم له باإليمان‬ ‫ل ْل ُم ْسلم َ‬
‫أيضا ال يحكم له باإلحسان‪ ،‬وإنما يحكم له باإلحسان ألن اإلسالم فسره النبي‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬‬
‫و ً‬
‫بالظاهر‪ ،‬ولهذا قد يحكم الناس لشخص باإلسالم لما يرون من ظاهره لكن باطنه خراب تباب وقد يكون‬
‫من المنافقين‪ ،‬وال ضير عليه يف هذا الحكم ألهنم حكموا عليه باإلسالم بما يرونه من ظاهره‪ ،‬لنا الظاهر‬
‫وربنا ‪-‬جل وعال‪ -‬يتولى السرائر‪ ،‬لكن إذا حكم على شخص باإليمان فاإليمان درجة أعلى‪ ،‬وهي تحقق‬
‫اإليمان الذي يف القلب‪ ،‬ولننتبه يف هذا المعنى يف قول ربنا – عز وجل ﭿﮍ ﮎ ﮏﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ‬

‫ﮖ ﭾ [الحجرات‪ .]14:‬ﭿﮏ ﭾ هذه درجة أعلى وال يبلغها الشخص إال إذا تمكن اإليمان من قلبه ورسخ يف‬
‫نفسه‪ ،‬فلما قالوا ذلك وادعو ذلك ألنفسهم قال اهلل‪ :‬ﭿﮑ ﮒ ﮓﭾ‪ ،‬وليس المراد بقوله لم تؤمنوا أي‪ :‬أنتم‬
‫كفار‪ ،‬وإنما المراد‪ :‬لم تبلغوا درجة اإليمان التي يستحق هبا من بلغ هذا اللقب‪ ،‬ﭿﮔ ﮕ ﮖ ﭾ وهي‬
‫الدرجة دون ذلك‪ .‬فالنبي – عليه الصالة والسالم‪-‬أرشد سعد ًا لهذا المعنى لما قال‪« :‬واهلل إنِّي ألراه مؤمنًا‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل ﷺ‪َ :‬أ ْو ُِم ْسل ًما» من ِّبهًا – عليه الصالة والسالم‪ -‬يف ذلك إلى تفاوت اإليمان‪ ،‬وأن من صلح‬
‫ظاهره يحكم له باإلسالم‪ ،‬ال اإليمان وال اإلحسان‪ ،‬يحكم له باإلسالم فيقال‪ :‬مسلم‪ ،‬وأما اإليمان فهو‬
‫أمر يتعلق بتحقق اإليمان وتمكنه يف القلب وهذا ال يحكم له بشخص‪ ،‬وال يجزم له بشخص‪ ،‬بل ال يجزم‬
‫به الشخص نفسه فضالً عن أن يجزم به لآلخرين‪ ،‬فهذا أمر ال يقطع به بل ال بد فيه كما قدمنا من اإلستثناء‪:‬‬
‫«مؤمن أرجو»‪« ،‬مؤمن إن شاء اهلل»‪« ،‬آمنت باهلل ومالئكته‪« ،»...‬أشهد أن ال إله إال اهلل»‪ ،‬أو نحو ذلك من‬
‫األلفاظ والصيغ التي مرت معنا عن السلف الصالح –رحمهم اهلل تعالى‪.-‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪.)393‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪64‬‬

‫ومن دالئل هذا الحديث وفوائده‪ :‬بيان درجات اإليمان وتفاوت أهل اإليمان فيه‪ ،‬وأهنم ليسوا فيه على‬
‫درجة واحدة وهذا أمر دلت عليه السنة ودل عليه كذلك القرآن يف مثل قوله تعالى ﭿﮢ ﮣ ﮤ‬

‫ﮥ ﮦ ﭾ [األحزاب‪ ، ]35 :‬وقول اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬ﭿﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ‬

‫ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭾ [فاطر‪ ]32 :‬وهذه الثالث الدرجات المذكورة يف اآلية هي‬


‫الثالث درجات المذكورة يف حديث جربيل‪ :‬اإلسالم واإليمان واإلحسان‪ ،‬قال‪ :‬ﭿﭫ ﭬ ﭭ ﭮ‬

‫ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴﭵ ﭾ‪ ،‬والظالم لنفسه هو الذي شهد أن الإله إال اهلل وأن محمدً ا رسول اهلل‬
‫–صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬استسلم ألمر اهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬قام يف قلبه إيمان باهلل – عز وجل‪ -‬وبما أمره –جل‬
‫وعال‪ -‬باإليمان به‪ ،‬ولكنه ظلم نفسه بالمعاصي أو ترك الواجبات التي ال يكون تركها كفر باهلل‪ ،‬والمقتصد‬
‫هو الذي فعل الواجب وترك المحرم‪ ،‬والسابق بالخيرات هو الذي فعل الواجبات وترك المحرمات‬
‫ونافس يف الرغائب والمستحبات‪ .‬فأهل اإليمان يف اإليمان درجات ورتب‪ ،‬ليسوا على رتبة واحدة‪ ،‬منهم‬
‫المسلم ومنهم المؤمن ومنهم المحسن؛ منهم الظالم لنفسه ومنهم المقتصد ومنهم السابق بالخيرات‪.‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫(‪ )37‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬عن عاصم أبي عثمان‪ ،‬عن سلمان‪ ،‬قال‪ :‬يقال له‪ :‬سل تعطه ‪ -‬يعني النبي صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ -‬واشفع تشفع‪ ،‬وادع تجب‪ ،‬قال‪ :‬فيرفع رأسه فيقول‪َ « :‬ر ِّب ُِأ َّمتي» مرتين أو ثال ًثا‪ .‬قال‬
‫سلمان‪ :‬فيشفع في ك ِّل من كان في قلبه مثقال حبة حنطة من إيمان‪ ،‬أو قال‪ :‬مثقال شعيرة من إيمان‪ ،‬أو قال‪:‬‬
‫مثقال حبة خردل من إيمان‪ .‬فقال سلمان‪ :‬فذلكم المقام المحمود‪.‬‬

‫السرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن سلمان موقوفًا وله حكم الرفع‪ ،‬وجاء مرفوعًا إلى النبي‪-‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪ -‬من حديث أبي هريرة ومن حديث أنس بن مالك يف الصحيحين وغيرهما‪ ،‬قال‬
‫سلمان –رضي اهلل عنه‪« -‬يقال له‪ :‬سل تعطه» أي‪ :‬أن النبي‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬إذا خر ساجد ًا هلل –‬
‫سبحانه وتعالى‪ -‬يوم القيامة وحمد اهلل بالمحامد التي يعلمه اهلل إياها يف ذلك الوقت‪ ،‬قال‪َ « :‬ف َأ ُقو ُمِ َب ْي َن َِيدَ ْيهِ‬
‫‪65‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪65‬‬
‫‪ِ،‬ي ْله ُمنيه ِ‬
‫ِاهللُ»(‪ ،)1‬والثناء على اهلل –سبحانه وتعالى‪ -‬ثناء عليه بأسمائه‬ ‫َف َأ ْح َمدُ ُهِب َم َحامدَ ََِل َِأ ْقد ُرِ َع َل ْيه ْ‬
‫ِاْل َن ُ‬
‫وصفاته‪ ،‬ولهذا قال العلماء يف هذا الحديث وغيره أن أسماء اهلل ليست محصورة يف العدد المعين يف حديث‬

‫ا‪ِ،‬م ْن ِ َأ ْح َص َ‬
‫اهاِ‬ ‫ِاس ًماِما َئةًِإ ََّل َِواحدً َ‬
‫ين ْ‬ ‫أبي هريرة حيث قال – عليه الصالة والسالم‪« -‬إ َّنِل َّلهِت ْس َعة َ‬
‫ًِوت ْسع َ‬
‫َد َخ َل َ‬
‫ِالجنَّ َِة»(‪ .)2‬أسماء اهلل ليست محصورة هبذا العدد‪ ،‬بل هناك أسماء هلل – عزوجل – استأثر هبا يف علم‬
‫‪ِ،‬أ ْوِ َع َّل ْم َت ُه َِأ َحدً اِم ْنِخَِ ْلِق َ‬
‫ك‪ِ،‬‬ ‫ك َ‬ ‫‪ِ،‬أ ْو َِأ ْن َز ْل َت ُهِفيِكتَاب َ‬
‫ك َ‬ ‫تِبهِ َن ْف َس َ‬
‫‪ِ،‬س َّم ْي َ‬
‫ك َ‬ ‫ٍِه َوِ َل َ‬ ‫الغيب عنده‪َ « ،‬أ ْس َأ ُل َ‬
‫كِبك ُِّل ْ‬
‫ِاسم ُ‬
‫ِاست َْأ َث ْر َتِبهِفيِع ْلمِا ْل َغ ْيبِعنْدَ َِ‬
‫ك»(‪ .)3‬فإذن من أسماء اهلل عز وجل الحسنى وصفاته العظيمة التي يثنى‬ ‫َأو ْ‬
‫عليه ‪-‬جل وعال‪ -‬هبا ويمجد ما يع ِّلمه اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬نبيه يوم القيامة عندما يخر ساجد ًا هلل –عز‬
‫وجل‪ -‬فيشفع للخالئق وهو المقام المحمود‪ ،‬قال اهلل تعالى ﭿﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﭾ [اإلسراء‪،]79 :‬‬
‫فيخر ساجد ًا هلل ويحمد اهلل بمحامد ويثني على اهلل بثناء يفتح اهلل عليه به يف ذلك المقام‪ ،‬ثم يقول اهلل له‬
‫(‪)4‬‬
‫‪ِ،‬و ُق ْل ُِي ْس َم ْع َِو ْاش َف ْعِت َُش َّف ِْع»‬ ‫« ْار َف ْعِ َر ْأ َس َ‬
‫ك َِو َس ْلِ ُت ْع َط ْه َ‬

‫قال‪« :‬يعني النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬واشفع تشفع‪ ،‬وادع تجب‪ ،‬قال‪ :‬فيرفع رأسه» أي‪ :‬من سجوده ‪-‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪ -‬قال‪« :‬فيرفع رأسه فيقول‪َ :‬ر ِّب ُِأ َّمتي‪ ،‬مرتين أو ثال ًثا»‪َ « ،‬ر ِّب ُِأ َّمتي» هذه شفاعة منه‬
‫‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ألمته‪ ،‬وهذا يوضح لنا الحديث الذي يف مسلم عن أبي هريرة ﭬ أن النبي ‪-‬‬
‫ِّيِاخ َت َب ْأ ُتِ َد ْع َوت َ‬
‫يِش َفا َعةًِ‬ ‫‪ِ،‬وإن ْ‬‫عليه الصالة والسالم‪ -‬قال‪« :‬لك ُِّلِنَب ٍّيِ َد ْع َو ٌةِ ُم ْست ََجا َبةٌ‪َ ِ،‬ف َت َع َّج َلِك ُُّلِنَب ٍّيِ َد ْع َو َت ُه َ‬
‫اتِم ْن ُِأ َّمت َ‬
‫يَِل ُِي ْشر ُكِباهلل َِش ْيئًا»(‪ .)5‬أما‬ ‫لُ َّمت َ‬
‫يِي ْو َمِا ْلق َي َامةِ»‪ .‬لكن من تنال؟ قال‪َ « :‬فه َيِنَائ َلةٌِإ ْن َِشا َءِاهللُ َِم ْن َِم َ‬
‫الذي يشرك باهلل ال حظ ل والنصيب من شفاعة النبي الكريم ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،-‬كما جاء يف مسلم‬

‫من حديث أبي هريرة أنه ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬قال‪َ « :‬أ ْس َعدُ ِالنَّاسِب َش َفا َعت َ‬
‫يِي ْو َمِالق َي َامة َِم ْن ِ َق َالِ َلَِإ َل َهِ‬
‫ِاهللُ‪َ ِ،‬خال ًصاِم ْنِ َق ْلبِه َ‬
‫‪ِ،‬أ ْوِ َن ْفسهِ»(‪ .)6‬أما الذي يشرك باهلل‪ ،‬يدعو غير اهلل‪ ،‬يستغيث بغير اهلل‪ ،‬يلتجئ إلى غير‬ ‫إ ََّل ِ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ ،)7410‬ومسلم (‪ )193‬واللفظ له‪.‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ ،)2736‬ومسلم (‪.)2677‬‬
‫(‪ )3‬رواه أحمد (‪ 3712‬و‪ ،)4318‬وابن حبان (‪ ،)972‬والطرباين يف «الكبير» (‪ ،)10352‬وصححه األلباين يف «الصحيحة» (‪.)199‬‬
‫(‪ )4‬رواه البخاري (‪ ،)4476‬ومسلم (‪.)193‬‬
‫(‪ )5‬رواه البخاري (‪ ،)6304‬ومسلم (‪ )199‬واللفظ له‪.‬‬
‫(‪ )6‬رواه البخاري (‪.)99‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪66‬‬

‫اهلل‪ ،‬يصرف العبادة لغير اهلل‪ ،‬يطلب المدد والعون من غير اهلل‪ ،‬هذا ال مطمع له وال نصيب يف شفاعة النبي‬
‫الكريم ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ألنه قال‪َ « :‬فه َيِنَائ َلةٌِإ ْن َِشا َء ِ‬
‫ِاهللُ»؛ ألن األمر بيد اهلل‪.‬‬

‫ِاهللُ‪َ ِ،‬خال ًصاِم ْنِ َق ْلبه َ‬


‫‪ِ،‬أ ْوِ َن ْفسهِ»‪ ،‬وهو أيضًا ينبه بذلك‬ ‫« َأ ْس َعدُ ِالنَّاسِب َش َفا َعت َ‬
‫يِي ْو َمِالق َي َامة َِم ْنِ َق َالَِلَِإ َل َهِإ ََّل ِ‬
‫‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أن الشفاعة ال تكون إال بإذن اهلل للشافع ورضا اهلل عن المشفوع له‪ ،‬واهلل سبحانه‬
‫وتعالى ال يرضى إال عن أهل التوحيد‪ ،‬أما من كان مشركًا باهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬فال تنفعه شفاعة الشافعين‪،‬‬
‫ومن أعظم الرباهين على ذلك وأبين الحجج بيانًا يف هذا المقام ما جاء يف قصة ابراهيم الخليل ‪-‬عليه‬
‫ىِو ْجهِآز ََرِ َقت ََرة ٌَِو َغ َب َرةٌ‪ِ،‬‬ ‫يم َِأ َبا ُهِآز ََر َِي ْو َمِالق َي َامة َ‬
‫‪ِ،‬و َع َل َ‬ ‫السالم‪ -‬حينما يلقى أباه يوم القيامة‪ ،‬قال‪َ « :‬ي ْل َقىِإ ْب َراه ُ‬
‫ولِ‬ ‫‪ِ:‬أ َل ْم َِأ ُق ْلِ َل َ‬
‫كَِلَِ َت ْعصني؟» إبراهيم الخليل يقول لوالده‪ :‬ألم أقل لك ال تعصني؟ « َف َي ُق ُ‬ ‫يم َ‬ ‫َف َي ُق ُ‬
‫ولِ َل ُهِإ ْب َراه ُ‬
‫اِر ِّبِإن َ‬
‫َّك َِو َعدْ تَنيِ‬ ‫يم» مناجيًا رب العالمين ‪-‬سبحانه وتعالى‪َ ِ« :-‬ي َ‬
‫ولِإ ْب َراه ُِ‬ ‫َأ ُبو ُه‪َ ِ:‬فال َي ْو َمَِل ََِأ ْعص َ‬
‫يك‪َ ِ،‬ف َي ُق ُ‬

‫ِالجنَّةَِ َع َلىِ‬
‫ت َ‬ ‫ولِاهللُِ َت َعا َلى‪ِ :‬إن َ‬
‫ِّيِح َّر ْم ُ‬ ‫ون‪َ ِ،‬ف َأ ُّ‬
‫يِخز ٍْيِ َأ ْخزَىِ م ْنِ َأبيِالَ ْب َعد؟ِ َف َي ُق ُ ِ‬ ‫َأ ْنِ َلَِ تُخْ ز َينيِ َي ْو َمِ ُي ْب َع ُث َ‬
‫ك؟ِ َف َينْ ُظ ُر‪َ ِ،‬فإ َذ ُ‬
‫اِه َوِبذيخٍ ُِم ْلتَطخٍِ» هو ذكر الضباع يتحول على‬ ‫تِر ْج َل ْي َ‬
‫‪ِ،‬ماِت َْح َ‬
‫يم َ‬ ‫ين‪ُ ِ،‬ث َّم ُِي َق ُال َ‬
‫‪ِ:‬ياِإ ْب َراه ُ‬ ‫الكَافر َ‬
‫هذه الصفة « َف ُي ْؤ َخ ُذِب َق َوائمهِ َف ُي ْل َقىِفيِالنَّارِ»(‪ ،)1‬هذا والد إبراهيم الخليل ‪-‬عليه السالم‪ ،-‬قال‪َ « :‬ف ُي ْؤ َخ ُذِ‬
‫ب َق َوائمهِ َف ُي ْل َقىِ فيِ النَّارِ»‪ .‬فمن كان كافر ًا مشركًا باهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬ال تنفعه شفاعة الشافعين‪،‬‬
‫فالشفاعة ال تنفع إال أهل التوحيد‪ ،‬أما المشرك فال حظ له وال نصيب يف الشفاعة‪.‬‬

‫قال‪« :‬فيقول‪َ :‬ر ِّب ُِأ َّمتي‪ ،‬مرتين أو ثال ًثا‪ .‬قال سلمان‪ :‬فيشفع في ك ِّل من كان في قلبه مثقال حبة حنطة من‬
‫إيمان‪ ،‬أو قال‪ :‬مثقال شعيرة من إيمان‪ ،‬أو قال‪ :‬مثقال حبة خردل من إيمان»‪ ،‬وهذا أيضًا يوضح ما سبق‬
‫أن المشرك والكافر ال حظ له وال نصيب يف الشفاعة‪ ،‬وإنما الشفاعة لمن قال ال إله إال اهلل ويف قلبه مثقال‬
‫حبة من إيمان‪ ،‬أو مثقال خردلة من إيمان‪ ،‬أو مثقال شعيرة من إيمان‪ ،‬هؤالء لهم حظ ونصيب من الشفاعة‪.‬‬
‫أما الكافر والمشرك فهؤالء ال حظ لهم وال نصيب من شفاعة النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬وال أبضًا من‬
‫شفاعة الشافعين من األنبياء والمالئكة وعباد اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬المقربين‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪.)3350‬‬
‫‪67‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪67‬‬
‫«فقال سلمان‪ :‬فذلكم المقام المحمود» الذي يشرف اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬ويكرم به نبيه الكريم محمدً ا‬
‫‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫هذا الحديث عن سلمان هو موقوف على سلمان لكن له حكم الرفع؛ ألنه ال يقال من قبيل الرأي‪ ،‬وكما‬
‫قدمت له شاهد يف الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أنس بن مالك ‪-‬رضي اهلل عنهم وعن‬
‫الصحابة أجمعين‪.‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫(‪ )38‬حدثنا يزيد بن هارون‪ ،‬أنا محمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ‪-‬‬
‫بِ‬
‫‪ِ،‬و ََل َِينْتَه ُ‬ ‫‪ِ،‬و ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ‬
‫ين َِي ْش َر ُب َِو ُِه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬ ‫يِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ََ « :-‬ل َِيزْنيِالزَّان َ‬
‫َّاسِف َيه َ‬
‫اِأ ْب َص َار ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌنِ»‪.‬‬ ‫ن ُْه َبة ًَِي ْر َف ُعِالن ُ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي هريرة ﭬ أن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬قال‪:‬‬
‫سرِ ُ ِ‬
‫قِ‬ ‫ين ِ َِي ِْزنِيِ» هذه الزيادة موجودة يف «المصنف» البن أبي شيبة ‪ ،$‬أيضًا « َِو ََلِ َِِي ْ ِ‬
‫َل َِِي ِْزنِيِال َِّزانِيِحِ َِ‬
‫«َِ‬

‫ن» أيضًا هذه الزيادة يف «مصنفه» « َو ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ‬
‫ين َِي ْش َر ُب َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن‪ِ،‬‬ ‫سرِ ُ ِ‬
‫قِ َِو ُِه َِوِ ُمِ ِْؤمِ ٌِ‬ ‫ينِ َِي ْ ِ‬ ‫السار ُ ِ‬
‫قِحِ َِ‬ ‫َّ‬
‫ن»‪ .‬هذه أمور ذكرها النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ال‬ ‫َّاسِف َيه َ‬
‫اِأ ْب َص َار ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ‬ ‫بِن ُْه َبة ًَِي ْر َف ُعِالن ُ‬
‫َو ََل َِينْتَه ُ‬
‫على سبيل الحصر‪ ،‬وإنما على سبيل التمثيل للكبائر العظام التي تؤثر على إيمان الشخص الواجب‪،‬‬
‫فتضعف دينه وتضعف إيمانه ويكون هبا معرضًا للعقوبة؛ عقوبة اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬وسخطه ‪-‬عز‬
‫وجل‪ .-‬فذكر هذه األمور ال على سبيل الحصر‪ ،‬وإنما على سبيل التمثيل بذكر الكبائر العظام واآلثام‬
‫العظيمة التي هي يف أعلى الكبائر‪ ،‬وهي دون الكفر باهلل ‪-‬عز وجل‪.-‬‬

‫سرِ ُ ِ‬
‫قِ َوِ ُهِ َِوِ‬ ‫ينِ َِي ْ ِ‬ ‫ِالسار ُ ِ‬
‫قِحِ َِ‬ ‫ق َّ‬ ‫سرِ ُ ِ‬
‫َل َِِي ْ ِ‬
‫ينِِ َِي ِْزنِي َِو ُِه َِوِ ُِم ِْؤمِ ٌنِ‪َ ،‬وِ َ ِ‬
‫َل َِِي ِْزنِيِال َِّزانِيِحِ َ‬
‫قال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ِ َ « :-‬‬
‫َّاسِف َيه َ‬
‫اِأ ْب َص َار ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌنِ»ِ‪ِ.‬‬ ‫بِن ُْه َبة ًَِي ْر َف ُعِالن ُ‬ ‫ن‪َ ِ،‬و ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ‬
‫ين َِي ْش َر ُب َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ‬
‫ن‪َ ،‬و ََل َِينْتَه ُ‬ ‫ُِم ِْؤمِ ٌِ‬
‫هذه خصال وأعمال من وقع فيها أثرت يف إيمانه نقصًا وضعفًا‪ ،‬وأصبح هبا معرضًا للعقوبة؛ عقوبة اهلل ‪-‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪68‬‬

‫ن» ليس عائد ًا إلى أصل اإليمان؛‬


‫ينِ َِي ِْزنِي َِو ُِه َِوِ ُِم ِْؤمِ ٌِ‬
‫َل َِِي ِْزنِيِال َِّزانِيِحِ َِ‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،-‬والنفي هنا يف قوله « َ ِ‬
‫ألن اإليمان من أصله ال ينتفي بإرتكاب الكبيرة‪ ،‬وإنما ينتفي بوجود الناقض لإليمان‪ ،‬أما هذه الكبائر‬
‫ليست ناقضة لإليمان‪ ،‬ولكنها مؤ ِّثرة تأثير ًا بالغًا يف كمال اإليمان الواجب‪ ،‬فال يكون فاعلها كافر ًا‪ ،‬وال‬
‫يكون أيضًا مستحقًا لقب اإليمان بإطالق‪ ،‬وإنما أصبح هبا مؤمنًا فاسقًا‪ ،‬أو مؤمنًا ناقص اإليمان‪ ،‬أو‬
‫مؤمنًا بإيمانه فاسقًا بكبيرته‪ ،‬لم يصبح هبذه اآلثام مستحقًا اإليمان المطلق الذي يكون صاحبه ناجيًا من‬
‫ان»(‪ )1‬وعرفنا أن اإليمان‬
‫يم ُِ‬ ‫انِنَز ٌه‪َ ِ،‬ف َم ْنِ َزنَاِ َف َار َق ُه ْ‬
‫ِاْل َ‬ ‫يم ُ‬
‫عقوبة اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ ،-‬وقد مر معنا أن « ْاْل َ‬
‫الذي يفارقه ليس المراد به أصل اإليمان وإنما المراد به اإليمان الواجب الكامل الذي به ال يكون مستحقًا‬
‫للعقوبة‪ ،‬بل يكون ناجيًا من العقوبة ناجيًا من سخط اهلل‪ ،‬مستحقًا دخول الجنة دخو ً‬
‫ال أوليًا بدون حساب‬
‫وال عذاب‪ ،‬أما من يقارف هذه الذنوب فإنه يذهب عنه اإليمان الواجب الذي تكون به النجاة من العقوبة‪،‬‬
‫ويكون به دخول الجنة دخو ً‬
‫ال أوليًا‪ ،‬فإذا قارف هذه األعمال أصبح مؤمنًا فاسقًا‪ ،‬أصبح معرضًا لعقوبة‬
‫ينِِ‬
‫َل َِِي ِْزنِيِال َِّزانِيِحِ َ‬
‫اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ ،-‬فبين ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ذلك يف هذا الحديث بقوله « َ ِ‬
‫ن» إلى آخر الحديث‪.‬‬
‫َِي ِْزنِي َِو ُِه َِوِ ُِم ِْؤمِ ٌِ‬

‫وهذه الذنوب المذكورة يف الحديث‪ :‬الزنا‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬والسرقة‪ ،‬واالنتهاب ‪ -‬انتهاب األموال العامة‬
‫واختالسها ‪ -‬هذه كلها كبائر وعظائم وموبقات ومهلكات لفاعلهن ويكون صاحبها مسلوب اإليمان‬
‫الواجب‪ ،‬ينفى عنه اإليمان الواجب الذي يسلم به من عقوبة اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪.-‬‬

‫وأهل السنة يف هذا الباب وسط بين ضاللتين‪ :‬ضاللة المرجئة الذين يقولون عن هؤالء ‪ -‬أهل الزنا والسرقة‬
‫وغيرها ‪ -‬يقولون عنهم إهنم مؤمنون كاملين اإليمان وأن هذه الذنوب ال تؤثر شيئًا يف إيماهنم‪ ،‬بل هم مع‬
‫وجود هذه الذنوب مؤمنون كاملي اإليمان؛ وبين الخوارج والمعتزلة الذين ينفون عنه اإليمان تمامًا‬
‫ويقولون كافر باهلل ‪-‬عز وجل‪ ،-‬والمعتزلة تقول هو يف منزلة بين المنزلتين‪ .‬فهذا باطل وهذا باطل والحق‬
‫أيضا كما‬
‫قوام بين ذلك‪ ،‬وأن مرتكب هذه الكبائر ليس كما يقول المرجئة مؤمن كامل اإليمان‪ ،‬وليس ً‬
‫يقول الخوارج كافر منتقل من الدين‪ ،‬بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته‪ ،‬ولهذا جاء يف حديث يف الصحيح‬
‫عن عبادة بن الصامت أهنم بايعوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على أال يسرقوا وأال يزنوا وذكر بعض‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬سبق يف «كتاب اإليمان» (رقم‪.)16‬‬
‫‪69‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪69‬‬
‫ابِم ْنِ َذل َ‬
‫ك َِش ْيئًاِ‬ ‫المعاصي ‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪ -‬ثم قال‪َ « :‬ف َم ْن َِو َفىِمنْك ُْمِ َف َأ ْج ُر ُهِ َع َلىِاهلل َ‬
‫‪ِ،‬و َم ْن َِأ َص َ ِ‬
‫ك َِش ْيئًاِ َف َست ََر ُهِاهللُِ َف َأ ْم ُر ُهِإ َِلىِاهلل‪ِ،‬إ ْن َِشا َءِ َعا َق َب ُِهِ َوإ ْن َِشا َءِ‬ ‫ٌ‪ِ،‬و َم ْن َِأ َص َ‬
‫ابِم ْنِ َذل َ‬ ‫بِبهِفيِالدُّ ْن َياِ َف ُه َوِ َل ُهِ َك َّف َارة َ‬
‫َف ُعوق َ‬
‫َع َفاِ َعنْ ُِه»(‪ .)1‬ذكر هذه الذنوب ‪ -‬الزنا والسرقة‪ - ...‬وذكر أن من عوقب يف الدنيا كان كفارة له‪ ،‬ومن لم‬
‫يعاقب فهو إلى اهلل يوم القيامة‪ ،‬إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له‪ .‬وهذا دليله يف القرآن‪ ،‬قال تعالى ﭿﮢ ﮣ ﮤ‬

‫ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﭾ [النساء‪ .]48 :‬ويف حديث أبي ذر ﭬ قال النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬‬

‫كِإ ََّلِ َدخَِ َل َ‬


‫ِالجنَّ َِة»‪ِ،‬قلت‪ :‬وإن زنى وإن سرق؟ قال‪َ « :‬وإ ْنِ‬ ‫‪َ « :‬ماِم ْنِ َع ْب ٍدِ َق َال‪َِ:‬لَِإ َل َهِإ ََّلِاهللُ‪ُ ِ،‬ث َّم َِم َ‬
‫اتِ َع َلىِ َذل َ‬
‫ِس َر َ ِ‬
‫ق»(‪ ،)2‬مب ِّينًا بذلك ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أن أهل ال إله إال اهلل‪ ،‬أهل التوحيد‪ ،‬مآلهم إلى‬ ‫َىِوإ ْن َ‬
‫َزن َ‬
‫الجنة حتى وإن وقعوا يف المعاصي‪ ،‬لكن دخولهم الجنة قد ال يكون إال بعد دخول للنار وتطهير فيها‬
‫وتنقية‪ ،‬كما مر معنا أن من أهل ال إله إال اهلل من يدخلون النار ويخرجون منها بعد أن يطهروا ويمحصوا‬
‫فيها؛ ألن الجنة هي دار الطيب المحض وال يدخلها إال الطيب ﭿﯦ ﯧ ﯨﭾ [الزمر‪ ،]73 :‬فإذا جاء‬
‫اإلنسان يوم القيامة ومعه إيمان مشوب بخبث ط ِّهر يف النار من خبثه ثم أدخل الجنة بعد تطهيره وتنقيته من‬
‫الخبث الذي جاء يحمله‪ ،‬أما إذا كان هناك ما يطهره قبل ذلك من مصائب أو أهوال يمر هبا ‪ -‬أهوال يوم‬
‫القيامة ‪ -‬أو نحو ذلك فتكون كفارة له فيدخل الجنة مباشرة‪ ،‬فهذا كما مر معنا يف الحديث قال‪َ ِ« :‬ف َأ ْم ُر ُهِإ َلِىِ‬
‫اهلل‪ِ،‬إ ْن َِشا َءِ َعا َق َب ُِهِ َوإ ْن َ‬
‫ِشا َءِ َع َفاِ َعنْ ُِه» سبحانه وتعالى‪ .‬وشاهد ذلك يف القرآن ﭿ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ‬

‫ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮﮯ ﭾ [النساء‪.]48 :‬‬

‫ومن فوائد هذا الحديث العظيمة ‪ -‬حديث أبي هريرة ‪ :-‬أن ترك المعاصي داخل يف مسمى اإليمان‪ ،‬وهذه‬
‫فائدة ثمنية جد ًا مستفادة من هذا الحديث‪ .‬فاإليمان يدخل يف مسماه العقائد التي تكون يف القلب‪ ،‬يدخل‬
‫يف مسماه األقوال الطيبة التي تكون باللسان‪ ،‬يدخل يف مسماه األعمال الصالحة التي يباشرها العبد ويفعلها‬
‫من صالة وصيام وغير ذلك‪ ،‬ويدخل يف مسماه كذلك ترك المعاصي‪ .‬فكما أن فعل الطاعة إيمان‪ ،‬فإن ترك‬
‫متقربًا هبذا التجنب‬
‫المعصية كذلك إيمان‪ ،‬فالذي يتجنب الزنى ويتجنب السرقة ويتجنب شرب الخمر ِّ‬
‫إلى اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬هذا معدود يف إيمانه الذي يثيبه رب العالمين عليه عظيم الثواب‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪ )3892‬واللفظ له‪ ،‬ومسلم (‪.)1709‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ )5827‬ومسلم (‪.)94‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪70‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫)‪ (39‬حدثنا يزيد بن هارون‪ ،‬أنا محمد بن إسحاق‪ ،‬عن يحيى بن عباد بن عبد اهلل بن الزبير‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن‬
‫ين َِي ْسر ُقِ‬
‫‪ِ،‬و ََل َِي ْسر ُقِح َ‬
‫ن َ‬ ‫يِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ‬
‫ين َِيزْن َ‬
‫عائشة‪ ،‬قالت‪ :‬سمعت رسول اهلل ﷺ يقول‪ََ « :‬ل َِيزْنيِالزَّانيِح َ‬
‫اِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن‪َ ِ،‬فإ َّياك ُْمِإ َّياك ُْمِ»‪.‬‬ ‫‪ِ،‬و ََل َِي ْش َر ُب َِي ْعنيِا ْلخَ ْم َرِح َ‬
‫ين َِي ْش َر ُب َه َ‬ ‫َو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬الحديث المتقدم‪ ،‬أورده من حديث أم المؤمنين عائشة ڤ وفيه زيادة‬
‫ُم»‪ ،‬وهذه يستفاد منها أن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ذكر ذلك ِّ‬
‫محذ ًرا األمة أشد التحذير‪،‬‬ ‫« َفإ َّياك ُْمِإ َّياك ِْ‬
‫تحذيرا لألمة من الوقوع يف هذه المعاصي واقرتاف هذه اآلثام‪َ « ،‬فإ َّياك ُْمِإ َّياك ُْمِ» أي‪ :‬احذروها‬
‫ً‬ ‫يكرر ذلك‬

‫محذرا عن كبائر الذنوب‪َ « :‬أ ََلِإن ََّم ُ‬


‫اِه َّنِ‬ ‫ً‬ ‫احذروها‪ .‬ويف حجة الوداع قال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أيضًا‬
‫ُوا‪ِ،‬و ََلِت َْسر ُقوا»(‪ .)1‬وجاء‬ ‫يِح َّر َمِاهللُِإ ََّلِبا ْل َح ِّق َ‬
‫‪ِ،‬و ََلِ َت ِْزن َ‬ ‫ًا‪ِ،‬و ََلِ َت ْق ُت ُلواِالنَّ ْف َسِا َّلت َ‬ ‫َأ ْر َب ٌع َ‬
‫‪ِ:‬أ ْن ََِلِت ُْشركُواِباهلل َ‬
‫ِش ْيئ َ‬
‫عنه التحذير من هذه اآلثام يف نصوص كثيرة جد ًا جمعها أهل العلم يف كتب الكبائر‪ ،‬ويف هذه فائدة أن مثل‬
‫هذه اآلثام ينبغي أن يعرفها المسلم‪ ،‬وينبغي أن يعرف خطورهتا‪ ،‬وينبغي أن يعرف عقوبتها ليحذرها‬
‫ويتقيها‪ ،‬وإال كما قيل‪ :‬كيف يتقي من ال يدري ما يتقي؟! إذا ال يعرف الكبائر وال يعرف خطورهتا وال‬
‫يعرف مضرهتا عليه يف الدنيا واآلخرة كيف يتقيها؟ وأهل العلم ‪-‬رحمهم اهلل‪ -‬نصحًا لألمة جمعوا‬
‫مصنفات خاصى بالكبائر‪ ،‬ليس فيها إال الكبائر‪ :‬الكبيرة األولى‪ ،‬الكبيرة الثانية‪ ،‬الكبيرة الثالثة‪ ،...‬يعدِّ دون‬
‫الكبائر تحذير ًا منها‪ ،‬ومن الناس من يمشي يف هذه الحياة الدنيا إلى أن يموت على وجهه وال يقرأ عن‬
‫الكبائر‪ ،‬وال يعرفها‪ ،‬وال يعرف عقوباهتا‪ ،‬ولهذا يسهل عليه مقارفتها والوقوع فيها‪ ،‬بينما إذا تعلم وتفقه‬
‫وقرأ العقوبات ارتدع وأ صبح لديه يف قلبه زاجر وواعظ ومانع من الوقوع يف تلك اآلثام‪ ،‬ولهذا الكتب‬
‫المؤلفة يف هذا الباب ينبغي أن تقرأ‪ ،‬وقد قلت يف أكثر من مناسبة إن كتاب «الكبائر» لإلمام الذهبي ‪$‬‬
‫من أحسن ما ألف يف هذا الباب‪ ،‬وينبغي للمسلم أن يقرأه يف حياته ولو مرة واحدة‪ ،‬خاصة يف زماننا هذا‬
‫حصن نفسه‬
‫الذي كثرت فيه المغريات يف ارتكاب الكبائر وفعل المعاصي والذنوب‪ ،‬فيقرأ المسلم حتى ي ِّ‬
‫بالعلم‪ ،‬فإذا جاءه شيء من هذه المغريات حصنه بإذن اهلل ‪-‬تبارك وتعالى‪ -‬العلم‪ ،‬فالعلم نور لصاحبه‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه أحمد (‪ ،)18990‬وصححه األلباين يف «الصحيحة» (‪.)1759‬‬
‫‪71‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪71‬‬
‫وحاجز وزاجر ومانع من مقارفة المعاصي وارتكاب الذنوب‪ .‬فالنبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬ذكر ذلك‬
‫لألمة على وجه التحذير ولهذا ختم الحديث بقوله « َفإ َّياك ُْمِإ َّياك ِْ‬
‫ُم» أي‪ :‬احذروا‪.‬‬

‫وحديث عائشة هذا‪ ،‬يف إسناده عنعنة محمد بن اسحاق وهو مدلس‪ ،‬لكن يشهد للحديث حديث أبو هريرة‬
‫وأيضا الزيادة التي يف تمامه « َفإ َّياك ُْمِإ َّياك ِْ‬
‫ُم» ثابتة يف صحيح مسلم(‪ )1‬من حديث أبي‬ ‫وشواهد أخرى كثيرة‪ً ،‬‬
‫هريرة يف بعض طرقه قال‪َ « :‬فإ َّياك ُْمِإ َّياك ُْمِ» محذ ًرا أمته ‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪ -‬من هذه الذنوب‪.‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫(‪ )40‬حدثنا ابن علية‪ ،‬عن الليث‪ ،‬عن مدرك‪ ،‬عن ابن أبي أوفى‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪ََ « :‬ل َِيزْنيِالزَّانيِ‬

‫‪ِ،‬و ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِحِ َ‬


‫ين َِي ْش َر ُب َه َ‬
‫اِو ُه َوِ‬ ‫ين َِي ْسر ُق َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬ ‫ِالسار ُقِح َ‬ ‫‪ِ،‬و ََل َِي ْسر ُق َّ‬
‫يِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬
‫ين َِيزْن َ‬ ‫ح َ‬
‫ات َِشر ٍ‬
‫ن»‪.‬‬ ‫ونِإ َل ْي َه ُِ‬
‫اِرؤُِ َس ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ‬ ‫ف َِي ْر َف ُعِا ْل ُم ْسل ُم َ‬ ‫بِن ُْه َبةًِ َذ َ َ‬
‫‪ِ،‬و ََل َِينْتَه ُ‬
‫ُم ْؤم ٌن َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث ابن أبي أوىف ﭬ وهو بمعنى أو بلفظ حديث أبي‬
‫ين َِي ْسر ُقِ‬ ‫ِالسار ُقِح َ‬ ‫‪ِ،‬و ََل َِي ْسر ُق َّ‬
‫يِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬‫ين َِيزْن َ‬ ‫هريرة وعائشة ﭭ المتقدمين‪ .‬قال‪ََ « :‬ل َِيزْنيِالزَّانيِح َ‬
‫ونِإ َل ْي َهاِ‬ ‫ِشر ٍ‬
‫ف َِي ْر َف ُعِا ْل ُم ْسل ُم َ‬ ‫بِن ُْه َب ًِةِ َذ َ‬
‫ات َ َ‬ ‫‪ِ،‬و ََل َِينْتَه ُ‬
‫اِو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬ ‫‪ِ،‬و ََل َِي ْش َر ُبِا ْلخَ ْم َرِح َ‬
‫ين َِي ْش َر ُب َه َ‬ ‫َو ُه َو ُِم ْؤم ٌن َ‬
‫ن»‪ .‬ذكر يف هذا الحديث هذه الكبائر مب ِّينًا ‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪ -‬تأثير هذه الكبائر‬
‫ُِرؤُِ َس ُه ْم َِو ُه َو ُِم ْؤم ٌِ‬
‫عرض فاعلها للعقوبة كما سبق بيان ذلك‪ ،‬والحديث أورده المصنف‬
‫على اإليمان‪ ،‬وأهنا تنقص اإليمان وت ِّ‬
‫‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬من طريقين‪.‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫)‪ (41‬حدثنا الحسن بن موسى‪ ،‬نا شعبة‪ ،‬عن فراس‪ ،‬عن مدرك‪ ،‬عن ابن أبي أوفى‪ ،‬عن النب ِّي ﷺ نحوه‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬صحيح مسلم) (‪.)57‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪72‬‬

‫الحديث أورده المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬من طريقين‪ :‬األولى عن الليث عن مدرك‪ ،‬والثانية عن فراس‬
‫عن مدرك‪ ،‬فمداره على مدرك ولم يو ِّثقه إال ابن حبان‪ ،‬وهو مدرك بن عمارة‪ .‬والحديث يشهد له حديث‬
‫أبي هريرة المتقدم ‪ ،‬فهو حديث صحيح‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫(‪ )42‬حدثنا محمد بن بشر‪ ،‬نا محمد بن عمرو‪ ،‬عن أبي سلمة‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪:‬‬

‫‪ِ،‬وا ْل َب َذا ُءِم َنِا ْل َج َفاء َ‬


‫‪ِ،‬وا ْل َج َفا ُءِفيِالنَّارِ»‪.‬‬ ‫انِفيِا ْل َجنَّة َ‬
‫يم ُ‬
‫‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫يمان َ‬ ‫«ا ْل َح َيا ُءِم َن ْ‬
‫ِاْل َ‬

‫الشرح‪ِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن أبي هريرة ﭬ أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪:‬‬

‫‪ِ،‬وا ْل َب َذا ُءِم َنِا ْل َج َفاء َ‬


‫‪ِ،‬وا ْل َج َفا ُءِفيِالنَّارِ»‪.‬‬ ‫انِفيِا ْل َجنَّة َ‬
‫يم ُ‬
‫‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫يمان َ‬ ‫«ا ْل َح َيا ُءِم َن ْ‬
‫ِاْل َ‬

‫وأيضا مر ذكر جملة من األحاديث هبذا المعنى أن الحياء‬


‫يمانِ»‪ ،‬مر معنا حديث هبذا المعنى‪ً ،‬‬ ‫«ا ْل َح َيا ُءِم َن ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫من اإليمان وشعبة من شعب اإليمان‪ ،‬والحياء هو خصلة تكون يف القلب ‪ -‬الحياء مكانه القلب ‪ -‬تبعث‬
‫أو تدفع صاحبها إلى فعل الجميل والبعد عن القبيح‪ .‬الحياء خصلة يف القلب تبعث صاحبها إلى فعل‬
‫الجميل والبعد عن القبيح‪ ،‬والقلب الحيي يبتعد صاحبه عن الرذائل ويقبل على الفضائل‪ ،‬لكن إذا نزع‬
‫الحياء من القلب أقبل اإلنسان على الرذائل وابتعد عن الفضائل‪ ،‬والحياء مكانته من الدين عظيمة‬
‫ِخ ْي ٌرِ ُك ُّل ُِه»(‪ )1‬كما قال ذلك نبينا ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬و«ا ْل َح َيا ُء ََِل َِي ْأتيِإ ََّلِبخَ ْيرٍِ»(‪ ،)2‬واإلنسان‬
‫و«ا ْل َح َيا ُء َ‬
‫الحيي حياؤه يسوقه إلى الفضائل والخيرات‪.‬‬

‫انِفيِا ْل َجنَّةِ»‪ ،‬ما دام الرجل حييا متص ًفا بالحياء فإن هذا الحياء يكون قو ًة‬
‫يم ُ‬
‫‪ِ،‬و ْاْل َ‬
‫يمان َ‬ ‫قال‪« :‬ا ْل َح َيا ُءِم َن ْ‬
‫ِاْل َ‬
‫يف إيمانه‪ ،‬قو ًة يف أعماله الصالحة‪ ،‬سببًا يف بعده عن المعاصي واآلثام‪ ،‬والنتيجة بإذن اهلل ‪-‬تبارك وتعالى‪-‬‬
‫دخول الجنة‪ .‬أما إذا كان اإلنسان صفي ًقا بدي ًئا ال حياء عنده‪ ،‬فأمره كما جاء يف تمام الحديث « َوا ْل َب َذا ُءِم َنِ‬
‫ا ْل َج َفاءِ»‪ ،‬والبذاء ضد الحياء ونقيضه‪ .‬البذاء من الجفاء‪ ،‬إذا كان اإلنسان جاف ًيا ‪ -‬جايف الطبع ‪ -‬يكن بذي ًئا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه مسلم (‪.)37‬‬
‫(‪ )2‬رواه البخاري (‪ ،)6117‬ومسلم (‪.)37‬‬
‫‪73‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪73‬‬
‫ْت»(‪ .)1‬إذا كان اإلنسان‬ ‫َّاسِم ْنِ َكَلَمِالنُّ ُب َّوة‪ِ،‬إ َذاِ َل ْمِت َْست َْحيِ َف ْ‬
‫اصن َْع َِماِشئ َ ِ‬ ‫يف كالمه وأقواله‪ ،‬و«إ َّنِم َّم َ‬
‫اِأ ْد َر َكِالن ُ‬
‫بذي ًئا ال حياء عنده‪ ،‬هذا يفضي به إلى األعمال السيئة القبيحة التي توصله ‪-‬والعياذ باهلل‪ -‬إلى النار‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬وا ْل َب َذا ُءِم َنِا ْل َج َفاء َ‬


‫‪ِ،‬وا ْل َج َفا ُءِفيِالنَّارِ»‪ ،‬والحديث إسناده حسن من أجل محمد بن عمرو‪ ،‬وهو ابن‬
‫علقمة ‪-‬وقد مر معنا‪ -‬وهو حسن الحديث‪.‬‬

‫قال‪ِ:‬‬

‫(‪ )43‬حدثنا حسين بن عل ٍّي‪ ،‬عن زائدة‪ ،‬عن هشام‪ ،‬عن الحسن‪ ،‬عن جابر بن عبد اهلل‪ ،‬أنه قال‪ :‬قيل‪ :‬يا‬
‫اح ُِة»‪ .‬قيل‪ :‬فأي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال‪َ « :‬أ ْح َسن ُُه ْمِ‬
‫الس َم َ‬
‫الص ْب ُر َِو َّ‬
‫رسول اهلل أي اإليمان أفضل؟ قال‪َّ « :‬‬
‫ُخ ُل ًقا»‪.‬‬

‫الشرح‪ِِ:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن جابر بن عبد اهلل ﭭ‪ ،‬قال‪« :‬قيل‪ :‬يا رسول اهلل أي اإليمان‬
‫اح ُِة»‪ .‬ذكر ‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪ -‬هاتين الخصلتين‪ .‬الصرب بأنواعه‬
‫الس َم َ‬
‫الص ْب ُرِ َو َّ‬
‫أفضل؟ قال‪َّ :‬‬
‫الثالثة‪ :‬الصرب على طاعة اهلل‪ ،‬والصرب عن معصية اهلل‪ ،‬والصرب على أقدار اهلل المؤلمة؛ وأصل الصرب هو‬
‫حبس النفس‪ ،‬وهو يف الشرع حبس لها على الطاعات لتفعلها‪ ،‬وعن المعاصي لتجتنبها‪ ،‬ويف أقدار اهلل‬
‫خيرا‪ ،‬يمنع نفسه من كل كالم باطل أو‬
‫المؤلمة أال تجزع وال تسخط‪ ،‬وال يقول إنسان يف حال المصيبة إال ً‬
‫فعل باطل‪ ،‬يحبس نفسه عن ذلك‪.‬‬

‫اح ُِة»‪ ،‬أي‪ :‬سماحة النفس بأن تكون النفس سمح ًة يف الخير‪ ،‬ونفس اإلنسان إذا كانت‬
‫الس َم َ‬
‫الص ْب ُر َِو َّ‬
‫قال‪َّ « :‬‬
‫سمحة انقاد للخيرات وإلى الفضائل‪ ،‬فإذا اجتمع يف اإلنسان صرب وسماحة فإنه بإذن اهلل ‪-‬تبارك وتعالى‪-‬‬
‫وأيضا يبتعد عن الرذائل ابتعا ًدا قويا؛ ألنه عنده صرب وعنده سماحة‪ ،‬صرب‬
‫عظيما ً‬
‫ً‬ ‫يقبل على الخيرات إ ً‬
‫قباال‬
‫يحجزه وسماحة تدفعه للخيرات والفضائل‪ ،‬فإذا اجتمع الصرب والسماحة فهذا الشك أنه من أقوى ما‬
‫يكون يف اإليمان والتمكن منه‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه البخاري (‪.)3484‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪74‬‬

‫وأما قوله ﭬ يف الحديث‪« :‬قيل‪ :‬فأي المؤمنين أكمل إيمانًا؟ قال‪َ :‬أ ْح َسن ُُه ْم ُ‬
‫ِخ ُل ًقا»‪ ،‬فقد مر معنا حديث‬
‫سنُِ ُِه ْمِِخُِ ُِلقًا»(‪ )1‬ومر‬
‫ح َِ‬ ‫يم َ‬
‫انًاِأِ ِْ‬ ‫ينِإِ َِ‬
‫الم ْؤِمِنِ َِ‬ ‫أبي هريرة من طرق أن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬قال‪َِ « :‬أ ِْك َمِ ُ ِ‬
‫لِ ُِ‬
‫هناك الكالم على هذا الحديث وبيان معناه‪.‬‬

‫وإسناد حديث جابر الذي ساقه المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬فيه عنعنة الحسن البصري‪ ،‬وقد قال علي‬
‫بن المديني وأبو زرعة وغيرهما بأن الحسن لم يسمع من جابر ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،‬لكن ذكر العالمة‬
‫األلباين ‪-‬رحمه اهلل وغفر له وأسكنه الجنة وجزاه عنا خير الجزاء‪ -‬قال‪ :‬له شاهد من حديث عمرو بن‬
‫عبسة يف «المسند» وآخر من حديث عبادة بن الصامت ‪-‬رضي اهلل عنهما(‪.)2‬‬

‫واهلل تعالى أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعن‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪« )1‬كتاب اإليمان» (رقم‪.)17‬‬
‫(‪« )2‬كتاب اإليمان» (ص‪.)25‬‬
‫شرح كتاب اإلميان‬
‫البن أبي شيبة رمحه اهلل‬

‫لفضيلة الشيخ‬
‫عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظه اهلل تعاىل‬

‫من الدرس (‪ )5‬إىل الدرس)‪(8‬‬

‫الشيخ مل يراجع التفريغ‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪2‬‬

‫الدرس الخامس‬

‫‪‬‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه‬
‫أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فيقول اإلمام الحافظ أبو بكر‪ ،‬عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكوف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ ،‬ف كتابه‬
‫«اإليمان»‪:‬‬

‫(‪َ )43‬حدَّ َثنَا ُح َس ْي ُن ْب ُن َعلِ ٍّي‪َ ،‬ع ْن َزائِدَ ةَ‪َ ،‬ع ْن ِه َشامٍ‪َ ،‬ع ِن ا ْل َح َس ِن‪َ ،‬ع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد اهللِ َأ َّن ُه َق َال‪ :‬قِ َيل‪َ :‬يا‬

‫يمانًا؟ َق َال‪َ « :‬أ ْح َسن ُُه ْم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اإل ِ‬‫ِ‬ ‫رس َ ِ‬
‫اح ُة»‪ .‬ق َيل‪َ :‬ف َأ ُّي ا ْل ُم ْؤمني َن َأك َْم ُل إِ َ‬
‫الس َم َ‬ ‫يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َال‪َّ « :‬‬
‫الص ْب ُر َو َّ‬ ‫ول اهلل‪َ ،‬أ ُّي ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ُخ ُل ًقا»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده لشريك له‪ ،‬وأشهد أن محمد ًا عبده ورسوله‬

‫‪ -‬صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فهذا الحديث ‪ -‬حديث جابر بن عبد اهلل ﭭ ‪ -‬مر معنا ف لقاء األمس ووقفنا على شيء من مضامين‬

‫هذا الحديث العظيم المبارك‪ ،‬لكن هناك بعض الجوانب التي يحسن أن نقف عليها مزيدً ا ف بيان هذا‬

‫الحديث وتوضيح دللته‪.‬‬

‫اح ُة»‪ .‬ل ِ َم ُخ َّصت هاتان‬ ‫اإل ِ‬‫ِ‬ ‫قوله ﭬ‪« :‬قِ َيل‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫الس َم َ‬ ‫يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َال‪َّ :‬‬
‫الص ْب ُر َو َّ‬ ‫ول اهلل‪َ ،‬أ ُّي ْ َ‬ ‫َ َ ُ‬
‫اإل ِ‬‫ِ‬
‫اح ُة»‪.‬‬
‫الس َم َ‬ ‫يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َال‪َّ :‬‬
‫الص ْب ُر َو َّ‬ ‫الخصلتان ‪-‬الصرب والسماحة‪ -‬بأهنما أفضل اإليمان؟ قال‪َ « :‬أ ُّي ْ َ‬
‫وإذا تأملت تجد أن دين اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬إنما يكون قيامه على الصرب والسماحة؛ فدين اهلل ‪-‬عز‬
‫‪3‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪3‬‬ ‫ٍ‬
‫ونواه هنانا ‪-‬جل وعال‪ -‬عنها‪.‬‬ ‫وجل‪ -‬أوامر ون ٍ‬
‫واه‪ ،‬أوامر أمرنا اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬هبا ودعانا إلى فعلها‪،‬‬

‫نفسه سمح ًة منقادة َسلِ َسة‪ ،‬قالوا‪ :‬السماحة‬


‫فباب األوامر يحتاج من العبد إلى سماحة نفس‪ ،‬بحيث ُتقبِل ُ‬
‫السالسة والسهولة‪ ،‬فتكون نفس اإلنسان سلسة سمحة منقادة‪ ،‬تسمع األمر عن اهلل ‪-‬تبارك وتعالى‪-‬‬

‫ٍ‬
‫وحبس للنفس و َمنْ ٍع لها‪ .‬فإذا ُوفق العبدُ للصرب‬ ‫فتنقاد‪ .‬وجانب النواهي يحتاج من العبد إلى صرب‬

‫والسماحة وفق للقيام بالدين كله‪ .‬أما من ل سماحة عنده كيف ُيقبِل على الفرائض؟ ومن ل صرب عنده‬

‫كيف ي ُكف عن النواهي؟ ولهذا روى البيهقي ف «شعب اإليمان» ُ‬


‫وغيره عن الحسن البصري ‪ - $‬وهو‬

‫راوي هذا الحديث عن جابر – قيل للحسن‪ :‬ما الصرب والسماحة؟ قال‪« :‬الصرب عن محارم اهلل‪ ،‬والسماحة‬

‫بفرائض اهلل»‪ ،‬فالصرب والسماحة ُج ِمع بينهما ف هذا الحديث‪ ،‬فكانت السماحة متعلقة بفعل الفرائض‪،‬‬

‫والصرب متعل ًقا بالنكفاف عن النواهي‪.‬‬

‫وقد أورد ابن القيم ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث ف كتابه «مدارج السالكين» وعلق عليه تعلي ًقا‬

‫وأيضا بين مدلوله والمراد به‪ ،‬فقال ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪« :-‬وهذا‬
‫عظيما جدً ا‪ ،‬بين فيه مكانة هذا الحديث‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫من أجمع الكالم وأعظمه برها ًنا وأوعبه لمقامات اإليمان من أولها إلى آخرها‪ ،‬فإن النفس يراد منها شيئان‪:‬‬

‫َب ْذ ُل ما أمِ َر ْ‬
‫ت به وإعطاؤه‪ ،‬فالحامل عليه السماحة‪ .‬وترك ما هنيت عنه وال ُبعد منه‪ ،‬فالحامل عليه الصرب»‪،‬‬

‫فأصبح هاذان الخلقان ‪ -‬الصرب والسماحة ‪ -‬عليهما قيام الدين‪ ،‬وعليهما مدار مقامات اإليمان كلها‪.‬‬

‫سمحا؛ فإن هذا الصرب الذي عنده يحجزه عن‬


‫ً‬ ‫صبورا‬
‫ً‬ ‫فإذا أكرم اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬عبده فكان‬

‫المعاصي ‪ -‬بإذن اهلل ‪ -‬ويحول بينه وبينها‪ ،‬والسماحة التي ف نفسه تدفعه إلى اإلقبال على الطاعات وفعل‬

‫عر َضت له لم يستطع‬


‫ما أمره اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬به‪ .‬أما الشخص الذي ل صرب عنده‪ ،‬فإن الشهوة إذا َ‬
‫منعها؛ ألنه ل صرب له‪ .‬وكذلك الشخص الذي ل سماحة ف نفسه ُيد َعى وينا َدى إلى فرائض اهلل ‪-‬سبحانه‬

‫نفسه‪ ،‬فال تنقاد ول ُتقبِل‪ ،‬وإذا انقادت تنقاد كاره ًة‬


‫وتعالى‪ -‬وواجبات الدين الالزمة عليه فيبخل وتشح ُ‬

‫ظالما لنفسه‪.‬‬
‫غير راغبة ول مقبلة بسبب ما ف قلبه من شح وعدم رغبة وحرص على الخير‪ ،‬فيكون بذلك ً‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪4‬‬

‫فهذا أيها اإلخوة الكرام يبين لنا معنى قول نبينا ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬عندما سئل‪« :‬أي اإليمان‬

‫أفضل؟» وف بعض روايات الحديث «أي األعمال أفضل؟ قال‪ :‬الصبر والسماحة»؛ ألن األعمال سواء‬

‫سمحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫صبورا‬
‫ً‬ ‫فعال أو تر ًكا ل تتم ول تتأتى للعبد إل إذا كان‬
‫كانت ً‬

‫ِ‬
‫معنعن‪ ،‬لكن ذكر األلباين ‪ $‬أنه له‬ ‫والحديث عرفنا باألمس أن ف إسناده الحسن عن جابر وهو‬

‫ووجدت ف «مسند أبي يعلى» متابعة لجابر‪ ،‬لكن فيها ضع ًفا‪ ،‬من رواية يوسف بن‬
‫ُ‬ ‫شاهدان يتقوى هبما‪،‬‬

‫محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر‪ .‬ويوسف ضعيف‪ ،‬لكن الحديث صحيح ثابت عن النبي ‪-‬عليه‬

‫الصالة والسالم‪ -‬بما له من شواهد‪.‬‬

‫يمانًا؟ َق َال‪َ :‬أ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا»‪ ،‬هذه الجملة مر معنا‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫وقوله ف تمام الحديث‪« :‬ق َيل‪َ :‬ف َأ ُّي ا ْل ُم ْؤمني َن َأك َْم ُل إِ َ‬
‫أيضا مر الكالم على مضمونه ومعناه‪.‬‬
‫نظيرها من حديث أنس بن مالك‪ ،‬و ً‬

‫قال‪:‬‬

‫ول اهللِ ﷺ‪َ « :‬ب ْي َن ا ْل َع ْب ِد َوا ْل ُك ْفرِ‬


‫الز َب ْي ِر‪َ ،‬ع ْن َجابِ ٍر‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُّ‬
‫يع‪َ ،‬ع ْن ُس ْف َي َ‬‫ِ‬
‫(‪َ - )44‬حدَّ َثنَا َوك ٌ‬

‫الص ََل ِة»‪.‬‬


‫ت َْر ُك َّ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬جملة من األحاديث المتعلقة بالصالة التي هي أعظم فرائض‬

‫اإلسالم وأعظم واجبات الدين بعد توحيد اهلل ‪ -‬جل وعال‪ .‬وهي أعظم الفرائض‪ ،‬ومر معنا أهنا عماد الدين‬

‫ود ِه َو ُذ ْر َو ِة َسن َِام ِه؟ َو َأ َّما َر ْأ ُس ْالَ ْمرِ‬


‫س ْالَمرِ وعم ِ‬
‫ك َع َلى َر ْأ ِ ْ َ َ ُ‬
‫ف أول حديث ساقه المصنف‪َ « :‬أ َو ََل َأ ُد ُّل َ‬

‫يل اَّلل ِ»‪ .‬فساق المصنف‬


‫ج َها ُد فِي َسبِ ِ‬
‫الص ََلةُ‪َ ،‬و َأ َّما ُذ ْر َو ُة َسن َِام ِه َفا ْل ِ‬
‫اْل ْس ََل ُم َم ْن َأ ْس َل َم َس ِل َم‪َ ،‬و َأ َّما َع ُمو ُد ُه َف َّ‬
‫َف ْ ِ‬

‫‪ $‬بدء ًا من هذا الحديث ‪ -‬حديث جابر ﭬ‪ -‬جملة من األحاديث تتعلق هبذه الفريضة العظيمة‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪5‬‬
‫مناسبة لطيفة جدً ا من جهة أن المصنف أورد حديث جابر وفيه أن أفضل اإليمان الصرب‬
‫وهنا َ‬
‫والسماحة‪ ،‬وعرفنا أن الصرب يتعلق ف هذا الحديث بجانب المحارم والبعد عنها‪ ،‬وقد مر معنا قبله قول‬

‫ين َي ْسرِ ُق َو ُه َو‬ ‫النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ََ « :‬ل يزْنِي الزَّانِي ِحين يزْنِي وهو م ْؤ ِمن‪ ،‬و ََل يسرِ ُق الس ِ ِ‬
‫ار ُق ح َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ُ َ ُ ٌ َ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ات َشر ٍ‬
‫ف َي ْر َف ُع ا ْل ُم ْس ِل ُم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ون إِ َل ْي َها ُرؤُ َس ُه ْم‬ ‫ين َي ْش َر ُب َها َو ُه َو ُم ْؤم ٌن‪َ ،‬و ََل َينْت َِه ُ‬
‫ب ن ُْه َب ًة َذ َ َ‬ ‫ُم ْؤم ٌن‪َ ،‬و ََل َي ْش َر ُب ا ْلخَ ْم َر ح َ‬

‫َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪ .‬فهذا الجانب الذي مر يتعلق بالصرب وهو يحتاج من العبد إلى صرب‪ .‬والجانب اآلخر الذي‬

‫يأيت بعد هذا الحديث ‪ -‬وهو فريضة الصالة ‪ -‬تحتاج إلى سماحة‪ ،‬تحتاج من العبد إلى سماحة نفس لينقاد‬
‫ٍ‬
‫بسالسة وسهولة ألداء هذه الفريضة العظيمة؛ فمن لم يكن عنده صرب ربما انقادت نفسه إلى الشهوات‬

‫ومن أشنعها الزنا ‪ -‬والعياذ باهلل ‪ -‬وشرب الخمر‪ ،‬ونحوها من الكبائر‪ ،‬وإن لم تكن نفسه سمح ًة لم تنقد‬
‫اإل ِ‬‫ِ‬ ‫فذ ْكر هذا الحديث ‪ -‬حديث جابر‪« :‬قِ َيل‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫للفرائض‪ِ .‬‬
‫يمان َأ ْف َض ُل؟ َق َال‪َّ :‬‬
‫الص ْب ُر‬ ‫ول اهلل‪َ ،‬أ ُّي ْ َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ومتعلق بما هو ٍ‬
‫آت وهو أداء هذه‬ ‫ٌ‬ ‫اح ُة» ‪ -‬له َت َع ُّل ٌق بما مضى مما هو ُم ِض ٌر بكمال اإليمان الواجب‪،‬‬
‫الس َم َ‬
‫َو َّ‬

‫الفريضة العظيمة‪ ،‬فريضة الصالة‪.‬‬

‫الص ََل ِة»‪ .‬هذا الحديث خرجه‬ ‫ِ‬ ‫قال‪َ :‬عن جابِ ٍر ﭬ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال رس ُ ِ‬
‫ول اهلل ﷺ‪َ « :‬ب ْي َن ا ْل َع ْبد َوا ْل ُك ْفرِ ت َْر ُك َّ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ‬

‫جابرا ﭬ يقول‪ ...‬و َذ َكر الحديث‪.‬‬


‫اإلمام مسلم ف «صحيحه» من طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع ً‬
‫الص ََل ِة»‪ .‬وهذا فيه بيان مكانة الصالة من الدين‪،‬‬ ‫ولفظه عند مسلم‪« :‬بين الرج ِل وبين ِّ ِ‬
‫الش ْرك َوا ْل ُك ْفرِ ت َْر ُك َّ‬ ‫َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ‬

‫وأن لها المكانة ال َعلِية والمنزلة الرفيعة‪ ،‬وأهنا للدين بمثابة العماد‪ ،‬ل يقوم الدين إل عليها‪ ،‬فمن ل يصلي‬

‫ل دين له ‪ -‬كما سيأيت ف حديث ابن مسعود ﭬ‪ ،‬ومن ل يصلي ل حظ له ف اإلسالم؛ ألن شي ًئا سقط‬

‫عماده ل قيام له‪ ،‬ألن العماد هو الذي عليه قيام البناء‪ ،‬فإذا سقط العماد سقط البناء‪ ،‬فمن ل صالة له ل دين‬

‫له ول حظ له ف اإلسالم‪.‬‬

‫وقوله هنا‪« :‬بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصالة» فيه أن اإلنسان إذ ترك الصالة كأنه ترك‬

‫كافرا مشر ًكا‪ ،‬ألنه‬


‫كافرا مشر ًكا‪ ،‬وإذا ترك الصالة كان كذلك ً‬
‫التوحيد؛ ألن اإلنسان إذا ترك التوحيد كان ً‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪6‬‬

‫الص ََل ِة» هذا لفظ الحديث ف «صحيح مسلم»‪ ،‬بمعنى أنه إذا‬ ‫قال‪« :‬بين الرج ِل وبين ِّ ِ‬
‫الش ْرك َوا ْل ُك ْفرِ ت َْر ُك َّ‬ ‫َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ‬
‫ِ‬
‫وأيضا تا ِر ُك التوحيد يكون برتكه للتوحيد ً‬
‫كافرا مشر ًكا‪.‬‬ ‫كافرا مشر ًكا‪ً ،‬‬
‫ترك الصالة يكون ماذا؟ ً‬

‫كفر أكرب ناقل من ملة اإلسالم‪،‬‬ ‫ٌ‬


‫وشرك باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وهو ٌ‬ ‫كفر‬
‫فرتك الصالة كرتك التوحيد‪ٌ :‬‬
‫الص ََل ِة»‪ ،‬أي‪ :‬الكفار‪ ،‬هذه ميزة وفاصل بين‬ ‫ِ‬
‫وسيأيت ف الحديث الذي بعده‪« :‬ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ‬

‫المؤمن والكافر‪ ،‬من صلى فهو من أهل اإلسالم‪« :‬من استقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم»‪ ،‬فهي‬

‫كافر‬
‫مسلم‪ ،‬ومن لم يكن من أهل الصالة فهو ٌ‬
‫ٌ‬ ‫فاصل بين المسلمين والكفار‪ :‬فمن كان من أهل الصالة فهو‬

‫مستحق للنار والخلود فيها‪ ،‬كما قال اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬عن الكفار أهل النار‪ :‬ﭿ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ‬
‫ٌ‬

‫ﰞ ﰟ ﭾ [المدثر‪ .]43 – 4٢ :‬فالصالة عماد للدين‪ ،‬وبين العبد وبين الكفر والشرك باهلل – تعالى ‪ -‬ترك الصالة‪،‬‬

‫بمعنى أنه إذا ترك الصالة أصبح برتكه للصالة كافر ًا باهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬مشر ًكا‪ ،‬مثله تما ًما مثل من يرتك‬

‫التوحيد؛ فإن تارك التوحيد كافر مشرك‪ ،‬ومثله تما ًما ‪ -‬كما يدل لذلك هذا الحديث ‪ -‬تارك الصالة‪،‬‬

‫ٌ‬
‫مشرك باهلل ‪ -‬عز وجل‪.‬‬ ‫كافر‬
‫فتاركها ٌ‬

‫قال‪:‬‬

‫ان‪َ ،‬ع ْن َجابِ ِر ْب ِن َع ْب ِد اهللِ‪َ ،‬ع ِن النَّبِي ﷺ بِن َْح ِو ِه‬


‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُس ْف َي َ‬
‫(‪َ )45‬حدَّ َثنَا َعبِيدَ ةُ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم ساق هذه الطريق األخرى لهذا الحديث عن عبيدة عن األعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي‬

‫ﷺ بنحوه‪ .‬وقد رواه اإلمام مسلم ‪ $‬من طريق األعمش به‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫‪7‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪7‬‬
‫ول‪َ :‬س ِم ْع ُت َأبِي َي ُق ُ‬
‫ول‪:‬‬ ‫اضحٍ ‪َ ،‬ع ْن ُح َس ْي ِن ْب ِن َواقِ ٍد‪َ ،‬ق َال‪َ :‬س ِم ْع ُت ا ْب َن ُب َر ْيدَ ةَ‪َ ،‬ي ُق ُ‬
‫(‪ )46‬حدَّ َثنَا يحيى بن و ِ‬
‫َ َْ ْ ُ َ‬ ‫َ‬

‫الص ََل ِة‪َ ،‬ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر»‬ ‫ِ‬ ‫ول اهللِ ﷺ َي ُق ُ‬
‫ول‪« :‬ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ‬ ‫َس ِم ْع ُت َر ُس َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث بريدة ﭬ أنه سمع النبي ﷺ يقول‪« :‬ا ْل َع ْهدُ ا َّل ِذي‬
‫ِ‬
‫وغيرهم هو الصالة؛ فمن كان‬ ‫الص ََل ِة‪َ ،‬ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر»‪ .‬العهد الذي بين المسلمين‬
‫َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ‬

‫تار ًكا للصالة كافر‪ ،‬ومن كان من أهل الصالة فهو مسلم‪ .‬وهبذا ُيعلم أن الصالة تعتربحدً ا فاصالً يمتاز هبا‬

‫شهد له باإلسالم واهلل يتولى سريرته‪،‬‬


‫المسلم عن غيره‪ ،‬فمن كان من المصلين فهذا من أمارات إسالمه و ُي َ‬

‫ومن لم يكن من أهل الصالة فهو كافر؛ ألن الكفار تاركون للصالة‪ ،‬ومن لم يكن مصل ًيا كان كافر ًا باهلل ‪-‬‬

‫جل وعال‪.-‬‬

‫الص ََل ِة‪َ ،‬ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر»‪ .‬فهذا الحديث نظير الحديث الذي قبله‬ ‫ِ‬
‫«ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ‬

‫كفر‬
‫ف الدللة على أن الصالة فريضة‪ ،‬وأهنا رك ٌن من أركان اإلسالم وعما ٌد من أعمدة الدين‪ ،‬وأن تركها ٌ‬

‫باهلل ‪ -‬عز وجل‪ ،‬والكفر هنا هو الكفر األكرب الناقل من الملة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يك‪َ ،‬ع ْن َعاص ٍم‪َ ،‬ع ْن ِز ٍّر‪َ ،‬ع ْن َع ْبد اهلل‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬م ْن َل ْم ُي َص ِّل َف ََل د َ‬
‫ين َل ُه»‪.‬‬ ‫(‪َ )47‬حدَّ َثنَا َش ِر ٌ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عبد اهلل بن مسعود ‪ -‬موقو ًفا عليه ‪ -‬أنه قال‪َ « :‬م ْن َل ْم ُي َصل‬

‫َف َال ِدي َن َل ُه»‪ .‬قوله‪َ « :‬م ْن َل ْم ُي َصل َف َال ِدي َن َل ُه» يدل عليه حديث جابر وحديث بريدة ﭭ المتقد َم ْي ِن؛ ألن‬

‫النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪َ -‬ح َك َم على تارك الصالة بأنه كافر‪ ،‬أي‪ :‬ل دين له‪ ،‬هذا هو معنى قول ابن‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪8‬‬

‫مسعود ﭬ‪َ « :‬م ْن َل ْم ُي َصل َف َال ِدي َن َل ُه»‪ .‬ومثله تما ًما قول عمر بن الخطاب ﭬ‪« :‬ل حظ ف اإلسالم لمن‬

‫ترك الصالة»‪ ،‬أي‪ :‬إذا كان تار ًكا للصالة ل نصيب له ف اإلسالم؛ ألن الصالة عماد الدين‪ ،‬فمن تركها كان‬

‫برتكه للصالة من الكافرين‪.‬‬

‫هذا األثر رواه المصنف عن َش ِريك وهو ابن عبد اهلل القاضي‪ ،‬وهو ضعيف لسوء حفظه‪ ،‬عن عاصم‬

‫وهو ابن هبدلة‪ ،‬عن زر وهو ابن حبيش‪ ،‬عن عبد اهلل بن مسعود ﭬ‪ .‬وشريك لم يتفرد به بل توبع عليه‪،‬‬

‫فرواه عبد اهلل بن أحمد ف «السنة» َ‬


‫والخالل ف «السنة» من طريق سفيان الثوري عن عاصم به‪ ،‬وعاصم بن‬

‫هبدلة حسن الحديث‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ون‪َ ،‬ع ْن ِه َشا ٍم الدَّ ْست َُوائِي‪َ ،‬ع ْن َي ْح َيى‪َ ،‬ع ْن َأبِي قِ َال َبةَ‪َ ،‬ع ْن َأبِي ا ْل َملِيحِ ‪َ ،‬ع ْن ُب َر ْيدَ ةَ‪،‬‬
‫(‪َ )48‬حدَّ َثنَا َي ِزيدُ ْب ُن َه ُار َ‬

‫َع ِن النَّبِي ﷺ َق َال‪َ « :‬م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن بريدة األسلمي ﭬ أن النبي ﷺ قال‪َ « :‬م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر‬

‫َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه»‪ .‬والحديث رواه البخاري ‪ $‬ف «صحيحه» من طريق هشام به‪.‬‬

‫وقوله‪َ « :‬م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر» أي‪ :‬صالة العصر‪ .‬وتخصيص صالة العصر ف هذا الحديث فيه دللة على‬

‫مكانة هذه الصالة‪ ،‬وليس فيه دللة على تخصيص هذا الحكم هبا‪ ،‬وإنما هو دال على مكانة هذه الصالة‪،‬‬

‫تنبيها على مكانتها‬


‫قال اهلل تعالى‪ :‬ﭿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕﭾ [البقرة‪ ]٢38 :‬أي‪ :‬صالة العصر‪ً ،‬‬

‫وعظيم منزلتها‪ .‬و« َم ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه»‪ ،‬لماذا؟ ألن الصالة المفروضة ‪ -‬ومنها صالة العصر‬
‫ٍ‬
‫لعماد يقوم الدين عليه‪ ،‬فتحبط‬ ‫‪ -‬عما ٌد للدين‪ ،‬ل يقوم الدين إل عليها‪ ،‬فمن ترك الصالة يكون بذلك تار ًكا‬

‫أعماله وتبطل‪.‬‬
‫‪9‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪9‬‬
‫وهذا الحديث مع أحاديث أخرى استدل هبا جماعة من أهل العلم على أن من ترك ولو صال ًة واحد ًة‬

‫متعمدً ا يكون بذلك كافر ًا‪ ،‬وسيأيت ٌ‬


‫ذكر لبعض النقول عن أهل العلم ف هذا الباب‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫اعي‪َ ،‬ع ْن َي ْح َيى ْب ِن َأبِي كَثِ ٍير‪َ ،‬ع ْن َأبِي قِ َال َبةَ‪َ ،‬ع ْن َأبِي ا ْلم َه ِ‬
‫اج ِر‪َ ،‬ع ْن‬ ‫(‪ )49‬حدَّ َثنَا ِعيسى‪ ،‬ووكِيع‪َ ،‬ع ِن ْاألَو َز ِ‬
‫ْ‬ ‫َ َ ٌ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫يث َي ِزيدَ َع ْن ِه َشا ٍم الدَّ ْست َُوائِي‪.‬‬
‫بريدَ ةَ‪َ ،‬ع ِن النَّبِي ﷺ مِ ْث َل ح ِد ِ‬
‫َ‬ ‫َُ ْ‬

‫(‪َ )50‬حدَّ َثنَا ُه َش ْي ٌم‪ ،‬أنا َع َّبا ُد ْب ُن َم ْي َس َر َة ا ْل ِمنْ َق ِر ُّي‪َ ،‬ع ْن َأبِي قِ َال َبةَ‪َ ،‬وا ْل َح َس ُن‪َ ،‬أن َُّه َما كَانَا َجال ِ َس ْي ِن َف َق َال َأ ُبو قِ َال َب َة‪:‬‬

‫َق َال َأ ُبو الدَّ ْر َد ِاء‪َ « :‬م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر َحتَّى َت ُفو َت ُه ِم ْن َغ ْيرِ ُع ْذ ٍر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» َق َال‪َ :‬و َق َال ا ْل َح َس ُن‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫ول‬

‫اهللِ ﷺ‪َ « :‬م ْن ت ََر َك َص ََل ًة َم ْكتُو َب ًة َحتَّى َت ُفو َت ُه ِم ْن َغ ْيرِ ُع ْذ ٍر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي الدرداء ﭬ‪ ،‬وهو بمعنى حديث بريدة‬

‫األسلمي المتقدم ﭬ‪ .‬وحديث أبي الدرداء ف إسناده عباد بن ميسرة وهو َلي ُن الحديث‪ ،‬وفيه انقطاع‪،‬‬

‫صحيحا ثاب ًتا عن رسول اهلل ﷺ من حديث‬


‫ً‬ ‫فأبو قالبة لم يسمع من أبي الدرداء ﭬ‪ ،‬لكن المعنى مر معنا‬

‫بريدة ﭬ‪ ،‬وكما مر هو مخرج ف «صحيح البخاري»‪.‬‬

‫ول اهللِ ﷺ‪َ :‬م ْن ت ََر َك َص ََل ًة َم ْكتُو َب ًة َحتَّى َت ُفو َت ُه ِم ْن َغ ْيرِ ُع ْذ ٍر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» يدل‬
‫وقول الحسن « َق َال َر ُس ُ‬

‫له حديث بريدة‪ ،‬وهو قول النبي عليه الصالة والسالم‪َ « :‬م ْن ت ََر َك ا ْل َع ْص َر َف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه»‪ ،‬وقد عرفنا أن‬

‫تخصيصا للحكم ف هذه الفريضة دون غيرها من الفرائض الخمس‬


‫ً‬ ‫هذا ٌ‬
‫بيان لمكانة صالة العصر‪ ،‬وليس‬

‫التي كتبها اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬على عباده‪.‬‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪10‬‬

‫أيضا ف القرآن‬
‫والحديث فيه أدلة عديدة عن الرسول الكريم ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬بل هناك أدلة ً‬

‫الكريم تدل على كفر تارك الصالة‪ ،‬وقد اعتنى جماعة من أهل العلم بجمع هذه األدلة ومنهم العالمة ابن‬

‫جدير بطالب العلم أن يقرأه‪ ،‬فهو غزير‬


‫ٌ‬ ‫القيم ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬ف كتابه «الصالة»‪ ،‬وهو كتاب عظيم‪،‬‬

‫الفوائد‪ ،‬عظيم المنافع ف هذا الباب العظيم‪.‬‬

‫قال ابن القيم ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬بعد أن ساق جملة من األدلة الدالة على كفر تارك الصالة‪« :‬واألدلة التي‬
‫ذكرناها وغيرها تدل على أنه ل ُيق َبل من العبد شيء من أعماله إل بفعل الصالة‪ ،‬فهي مفتاح ديوانه ورأس‬
‫ٌ‬
‫ومحال بقاء الربح بال رأس مال‪ ،‬فإذا خسرها خسر أعماله كلها‪.»...‬‬ ‫مال ربحه‪،‬‬

‫الشاهد أن ابن القيم ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬يذكر أن معنى قوله عليه الصالة والسالم‪َ « :‬ف َقدْ َحبِ َط َع َم ُل ُه» أن‬

‫أعماله ل ُتق َبل؛ ألن الصالة عما ٌد للدين‪ ،‬وهي رأس مال المرء‪ ،‬فإذا كان رأس المال مفقو ًدا كيف يكون‬

‫رابحا بال رأس مال؟! فإذا خسرها خسر أعماله كلها‪ ،‬هكذا قال ‪ -‬رحمه اهلل ‪ ،-‬فإذا خسر الصالة المكتوبة‬
‫ً‬

‫خسر أعماله كلها‪ ،‬بمعنى أن تارك الصالة إن كان متصد ًقا ل ينتفع بصدقاته‪ ،‬إن كان يحج ويعتمر ل ينتفع‬

‫محبط لألعمال‪« :‬ا ْل َع ْهدُ ا َّل ِذي َب ْي َننَا َو َب ْين َُه ْم‬
‫ٌ‬ ‫بحجه واعتماره‪ ،‬إن كان يصوم ل ينتفع بصيامه؛ ألن ترك الصالة‬

‫الص ََل ِة‪َ ،‬ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر»‪.‬‬


‫ت َْر ُك َّ‬

‫وهذا المعنى قرره جماعة من أهل العلم‪ ،‬ول أطيل ف النقول وإنما أكتفي بنقلين‪ ،‬أحدهما عن‬

‫مشائخنا األفاضل ف اللجنة الدائمة لإلفتاء برئاسة الشيخ بن باز ‪ -‬رحمة اهلل عليه ‪ -‬ف حياته‪ ،‬سئلوا عن‬

‫ترك صالة واحدة‪ ،‬قالوا‪ « :‬من ترك صالة واحدة متعمدا فهو كمن ترك جميع الصلوات‪ ،‬فال تقبل منه بقية‬

‫الصلوات‪ ،‬ول يقبل منه أي عمل حتى يقيم الصالة ويحافظ عليها كلها ولو كان ُم ِقرا بوجوهبا‪ ،‬فاإلقرار‬

‫كفرا أكرب»‪.‬‬
‫كافرا ً‬
‫بالوجوب ل يكفي عن أداء الصالة؛ ألنه برتك الصالة عمدً ا يكون ً‬
‫‪11‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪11‬‬
‫وقيل للشيخ بن باز ‪ :$‬ما الحكم إذا ترك صالة واحدة؟ قال‪ « :‬صالة واحدة أو عشر! إذا تركها‬

‫عمدً ا حتى ذهب وقتها ‪ -‬مثل الفجر حتى طلعت الشمس عمدً ا ‪ -‬كفر‪ ،‬وعليه التوبة إلى اهلل‪ ،‬أو ترك العصر‬

‫حتى غابت الشمس‪ ،‬أو العشاء حتى طلع الفجر‪ ،‬هذا كفر على الصحيح ف أقوال العلماء‪.»...‬‬

‫خالف‬
‫ٌ‬ ‫ونكتفي من النقول هبذا‪ .‬والمسألة ‪ -‬كما هو معلوم‪ ،‬وكما أشار إلى ذلك سماحة الشيخ ‪ -‬فيها‬

‫بين أهل العلم‪ ،‬ولكن كما قال – رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الصحيح من أقوال أهل العلم‪ ،‬وهو الذي تشهد‬

‫له األدلة‪ ،‬ومنها ما ساقه المصنف ابن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪.‬‬

‫وهذا أيها األخوة الكرام يستوجب على العاقل الناصح لنفسه أن يتقي اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ف هذه الصالة؛‬

‫َت َأ ْي َما ُنك ُْم»‪ ،‬وأخرب ‪ -‬عليه الصالة‬


‫الص ََلةَ‪َ ،‬و َما َم َلك ْ‬
‫الص ََل َة َّ‬
‫فإن آخر ما أوصى به النبي ﷺ الصال ُة‪ ،‬قال‪َّ « :‬‬

‫الق َي َام ِة ِم ْن َع َم ِل ِه َص ََل ُت ُه‪َ ،‬فإِ ْن َص ُل َح ْ‬


‫ت َف َقدْ َأ ْف َل َح َو َأن َْج َح‪َ ،‬وإِ ْن‬ ‫والسالم ‪« -‬إِ َّن َأو َل ما يحاسب بِ ِه العبدُ يوم ِ‬
‫َْ َْ َ‬ ‫َّ َ ُ َ َ ُ‬

‫اب َو َخ ِس َر»‪ ،‬وهي عماد لهذا الدين‪ ،‬ذكر النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬الصال َة يومًا‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫َف َسدَ ْت َف َقدْ َخ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُورا َو ُب ْر َهانًا َون ََجا ًة َي ْو َم ا ْلق َي َامة‪َ ،‬و َم ْن َل ْم ُي َحاف ْظ َع َل ْي َها َل ْم َتك ُْن َل ُه ن ً‬
‫ُورا َو ََل ُب ْر َهانًا‬ ‫« َم ْن َحا َف َظ َع َل ْي َها كَان ْ‬
‫َت َل ُه ن ً‬
‫ان و ُأبي ب ِن َخ َل ٍ‬
‫ف»()‪ ،‬وأبي بن خلف كان من أشد‬ ‫و ََل نَجا ًة وي ْأتِي يوم ا ْل ِقيام ِة مع َقار َ ِ‬
‫ون َوف ْر َع ْو َن َو َه َام َ َ َ ِّ ْ‬ ‫َ ََ َْ َ َ َ َ َ ُ‬ ‫َ‬

‫األعداء األلداء للرسول ‪ -‬عليه الصالة والسالم! ومن الذي يرضى لنفسه أن يحشر يوم القيامة جن ًبا إلى‬

‫جنب مع صناديد الكفر وأعمدة الباطل ‪ -‬والعياذ باهلل؟ و َم ْن َت َرك الصالة فقد رضي لنفسه بذلك‪ ،‬شاء أم‬

‫أبى!‬

‫وهنا ‪ -‬أيها اإلخوة ‪ -‬أذكر نفسي وإياكم أن العبد ل يستطيع أن يكون مصل ًيا إل إذا أعانه اهلل‪ .‬وتأمل ‪-‬‬

‫رعاك اهلل ‪ -‬دعوة إمام الحنفاء‪ ،‬خليل الرحمن ڠ‪ ،‬حيث يقول‪ :‬ﭿﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ‬

‫ﯪ ﯫﭾ [إبراهيم‪ ،]40 :‬قال‪ :‬ﭿﯢ ﯣ ﯤ ﯥﭾ ‪ ،‬فمن أراد أن يكون من أهل الصالة فعليه بأمرين‬

‫عظيمين للغاية‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪12‬‬

‫األمر األول‪ :‬أن ُيلِ َّح على اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬دو ًما بالدعاء أن يجعله من أهل الصالة‪ :‬ﭿﯢ ﯣ‬

‫ﯤ ﯥ ﯦ ﯧﯨ ﯩ ﯪ ﯫﭾ‪ ،‬يسأل اهلل ‪ -‬جل وعال ‪ -‬أن يجعله كذلك؛ ألن اهلل – عز وجل‬

‫‪ -‬إن لم يجعلك كذلك ل تستطيع‪ ،‬لول اهلل ما اهتدينا ول صمنا ول صلينا‪ .‬فتلح على اهلل ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬

‫وتكثر من الدعاء أن يجعلك من أهل الصالة‪ ،‬صاد ًقا مع اهلل ف دعائك‪ .‬واألمور بيده ‪ -‬سبحانه وتعالى‪،‬‬

‫جميال ناف ًعا‪ ،‬قال ‪:$‬‬


‫ً‬ ‫عظيما‬
‫ً‬ ‫حتى قال مطرف بن عبد اهلل بن الشخير وهو من علماء التابعين‪ ،‬قال كال ًما‬

‫«لو أخرج قلبي‪ ،‬فجعل ف يساري‪ ،‬وجيء بالخير‪ ،‬فجعل ف يميني‪ »...‬تأمل ‪ -‬رعاك اهلل – قال‪« :‬لو أخرج‬

‫قلبي‪ ،‬فجعل ف يساري‪ ،‬وجيء بالخير‪ ،‬فجعل ف يميني‪ ،‬ما استطعت أن أولج قلبي منه شيئا» ‪ -‬أي‪ :‬الخير‬

‫الذي ف يده اليمنى‪« -‬ما استطعت أن أولج قلبي منه شيئا حتى يكون اهلل يضعه»‪ .‬هذا أمر لبد أن نفهمه‪:‬‬
‫أن األمر بيد اهلل‪ ،‬وأن الهداية بيد اهلل‪ ،‬وأنك أن تكون من المصلين هذا بيد اهلل! قال النبي ﷺ‪ُ « :‬أ ِ‬
‫وص َ‬
‫يك َيا‬

‫ول‪ :‬ال َّل ُه َّم َأ ِعنِّي َع َلى ِذ ْكرِ َك‪َ ،‬و ُش ْكرِ َك‪َ ،‬و ُح ْس ِن ِع َبا َدتِ َ‬
‫ك»‪ ،‬إذا أعانك اهلل‬ ‫ُم َعا ُذ ََل تَدَ َع َّن فِي ُد ُبرِ ك ُِّل َص ََل ٍة َت ُق ُ‬

‫ل يحول بينك وبين الصالة شيء‪ ،‬ول يمنعك منها مانع‪ ،‬ول يثقلك عنها أي أمر‪ .‬فهذا األمر األول‪.‬‬

‫األمر الثاين‪ :‬مجاهدة النفس‪ ،‬ﭿﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﭾ [العنكبوت‪ .]69 :‬فإذا اجتمع‬

‫لك األمران‪ :‬الدعاء ومجاهدة النفس‪ ،‬تكون بإذن اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬من المصلين‪ .‬وقد جمع النبي ‪-‬‬

‫است َِع ْن بِاَّلل ِ‪َ ،‬و ََل َت ْع َج ْز»‪« .‬اِ ْحرِ ْص‬ ‫عليه الصالة والسالم ‪ -‬بين األمرين ف قوله‪« :‬اِ ْحرِ ْص َع َلى َما َينْ َف ُع َ‬
‫ك‪َ ،‬و ْ‬
‫ِ‬ ‫ك» هذا بذل السبب‪« ،‬و ِ‬
‫استَع ْن بِاَّلل»‪ ،‬أي‪ :‬اطلب َ‬
‫المدَّ والعون والتوفيق من اهلل ‪ -‬سبحانه‬ ‫َ ْ‬ ‫َع َلى َما َينْ َف ُع َ‬

‫وتعالى‪.‬‬

‫اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا‪ ،‬وبأنك أنت اهلل ل إله إل أنت‪ ،‬أن تجعلنا أجميعن‬

‫وذرياتنا من المقيمن الصالة‪ .‬اللهم اجعلنا وذرياتنا من المقيمين الصالة‪ .‬اللهم اجعلنا وذرياتنا من‬

‫المقيمين الصالة‪ ،‬يا رب العالمين‪ ،‬يا جواد‪ ،‬يا كريم‪ ،‬يا منان‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫‪13‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪13‬‬
‫ان ل ِ َم ْن َل َأ َما َن َة َل ُه‪َ ،‬و َل ِدي َن ل ِ َم ْن‬ ‫«ل إِ َ‬
‫يم َ‬ ‫(‪َ )51‬حدَّ َثنَا َه ْو َذ ُة ْب ُن َخلِي َفةَ‪ ،‬نا َع ْو ٌ‬
‫ف‪َ ،‬ع ْن َق َسا َم َة ْب ِن ُز َه ْي ٍر‪َ ،‬ق َال‪َ :‬‬
‫َل َع ْهدَ َل ُه»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ان ل ِ َم ْن َل َأ َما َن َة َل ُه‪َ ،‬و َل ِدي َن‬ ‫«ل إِ َ‬


‫يم َ‬ ‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذه األثر عن قسامة بن زهير قال‪َ :‬‬

‫نفي‬
‫في هنا ٌ‬ ‫ل ِ َم ْن َل َع ْهدَ َل ُه»‪ .‬وهذا ثبت مرفو ًعا‪ ،‬وقد مر معنا ساب ًقا‪ ،‬ومر ً‬
‫أيضا الكالم على معناه‪ ،‬وأن الن َ‬
‫لإليمان الواجب‪ ،‬و َع َر ْفنَا هناك أن اإليمان ل ُين َفى إل ف ْتر ِك واجب أو فِع ِل محرم‪ :‬ترك واجب كما ف‬

‫ين َيزْنِي َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫«ل إِيم َ ِ‬


‫ان ل َم ْن َل َأ َما َن َة َل ُه »‪ ،‬وفعل محرم كما ف قوله «لََا َيزْني الزَّاني ح َ‬ ‫قوله هنا َ َ‬

‫قال‪:‬‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫(‪َ )5٢‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬


‫الر ْأ ُ‬
‫ي ا ْل َح َس ُن»‪.‬‬ ‫ش‪َ ،‬ع ْن ُم َجاهد‪َ ،‬ق َال‪« :‬إِ َّن َأ ْف َض َل ا ْلع َبا َدة َّ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن مجاهد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬وهو من علماء التابعين‪ ،‬أنه‬
‫ِ ِ‬
‫الر ْأ ُي ا ْل َح َس ُن» أي‪ :‬الرأي‬ ‫قال‪« :‬إِ َّن َأ ْف َض َل ا ْلع َبا َدة َّ‬
‫الر ْأ ُي ا ْل َح َس ُن»‪ .‬ومعنى قوله ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪َّ « :‬‬
‫الرأي‬
‫َ‬ ‫الموافق للنصوص‪ ،‬الذي يتبع صاح ُبه السن َة؛ سن َة النبي عليه الصالة والسالم‪ .‬وليس المراد با ِ‬
‫لرأي‬

‫الح ْس ِن ف شيء!‬
‫بح َس ٍن‪ ،‬وليس من ُ‬ ‫النصوص واألدل َة‪ ،‬فهذا ٌ‬
‫رأي مذمو ٌم وليس َ‬ ‫َ‬ ‫الذي يعارض به صاح ُبه‬

‫ِ‬
‫النصوص وفهم كال ِم اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫ِ‬
‫األدلة واتباع‬ ‫المبني على‬ ‫الرأي‬ ‫وإنما المراد بالرأي الحسن‬
‫َّ‬ ‫َ‬

‫ٍ‬
‫رسالة له مطبوعة بعنوان «قاعدة‬ ‫وض َحه شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬ف‬
‫وهذا المعنى َّ‬

‫ف المحبة»‪ ،‬ون َق َله عنه ً‬


‫أيضا العالمة ابن القيم ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬ف كتابه «إغاثة اللهفان»‪ .‬وبين شيخ‬

‫الر ْأ ُي ا ْل َح َس ُن» أي‪ :‬الرأي الموافق‬


‫اإلسالم بن تيمية ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬أن المراد بقول مجاهد‪َّ « :‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪14‬‬

‫للنصوص وهو ات َباع السنة‪ ،‬وأورد شاهدً ا لذلك َ‬


‫قول اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ :‬ﭿ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ‬

‫ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞﭾ [سبأ‪.]6 :‬‬

‫قال‪:‬‬

‫الص َالحِ إِ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫(‪َ )53‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬
‫ف ْب ِن َم ْي ُمون‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬ق ْل ُت ل َع َطاء‪ :‬إِ َّن ق َب َلنَا َق ْو ًما َن ُعدُّ ُه ْم م ْن َأ ْه ِل َّ‬
‫وس َ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ْن ُي ُ‬
‫ُون‪َ ،‬وك ََذلِ َ‬
‫ك َأ ْد َر ْكنَا َأ ْص َح َ‬
‫اب‬ ‫ون ا ْل ُم ْؤ ِمن ِ‬
‫ُون َعا ُبوا َذل ِ َك َع َل ْينَا‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َق َال َع َطا ٌء‪« :‬ن َْح ُن ا ْل ُم ْس ِل ُم َ‬
‫ُق ْلنَا‪ :‬ن َْح ُن ُم ْؤمِن َ‬

‫ول اَّلل ِ ﷺ َي ُقو ُل َ‬


‫ون»‪.‬‬ ‫رس ِ‬
‫َ ُ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عطاء بن أبي رباح‪ ،‬قيل له‪« :‬إِ َّن قِ َب َلنَا َق ْو ًما َن ُعدُّ ُه ْم مِ ْن َأ ْه ِل‬

‫ُون‪َ ،‬وك ََذل ِ َك َأ ْد َر ْكنَا‬


‫ون ا ْلم ْؤمِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الص َالحِ إِ ْن ُق ْلنَا‪ :‬ن َْح ُن ُم ْؤمِن َ‬
‫ُون َعا ُبوا َذل َك َع َل ْينَا»‪ ،‬فقال عطاء‪« :‬ن َْح ُن ا ْل ُم ْسل ُم َ ُ‬ ‫َّ‬

‫ول اهللِ ﷺ َي ُقو ُل َ‬


‫ون»‪.‬‬ ‫اب رس ِ‬
‫َأ ْص َح َ َ ُ‬

‫هذا األثر يتعلق بالمسألة السابقة التي مر معنا نقولت عديدة عن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬فيها وهي‬

‫وأيضا مر معنا ساب ًقا أن الستثناء ف اإليمان هو ُسنَّ ٌة ماضية ومتقررة لدى‬
‫مسألة الستثناء ف اإليمان‪ً .‬‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫درس سابق‪ .‬وهذا األثر فيه‬ ‫السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬وأهنم يستثنون ف اإليمان لمآخ َذ َم َّر ذ ُ‬
‫كرها وبياهنا ف‬

‫وأيضا مر فيما سبق أن ما صح عن السلف ‪ -‬رحمهم‬


‫قول‪« :‬أنا مؤمن» أو «نحن المؤمنون» بدون استثناء‪ً ،‬‬

‫حمل على أصل اإليمان‪ ،‬كما ُي َوض ُح ذلك أثر الحسن البصري الذي نقل ُته‬
‫اهلل ‪ -‬من هذا اإلطالق فإنه ُي َ‬
‫ساب ًقا‪ ،‬وهو أنه سئل أمؤم ٌن أنت؟ فقال‪« :‬اإليمان إيمانان‪ .‬إن كنت تسألني عن اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه‬

‫ورسله واليوم اآلخر فأنا مؤمن‪ .‬وإن كنت تسألني عن من قال اهلل فيهم‪ :‬ﭿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬

‫ﭭ ﭮﭯﭰﭱ ﭲ ﭳﭴ ﭵﭶ ﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭾﭿ‬


‫‪15‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪15‬‬
‫ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﭾ فأرجو أن أكون منهم»‪ .‬فما جاء عن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل تعالى ‪ -‬فيه قول‪« :‬أنا‬

‫حمل على هذا‪.‬‬


‫مؤمن» بدون استثناء ُي َ‬

‫ولهذا يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬كما ف مجموع فتاواه‪« :‬وأما جواز إطالق القول‬

‫بأين مؤمن فيصح إذا عنى أصل اإليمان دون كماله‪ ،‬والدخول فيه دون تمامه‪ ،‬كما يقول‪ :‬أنا حاج وصائم‬

‫لمن شرع ف ذلك‪ ،‬وكما يطلقه ف قوله‪ :‬آمنت باهلل ورسله‪ ،‬وف قوله‪ :‬إن كنت تعني كذا وكذا» ‪ -‬أي‪ :‬مثل‬

‫ما جاء عن الحسن ‪« -‬أن جواز إخباره بالفعل يقتضي جواز إخباره بالسم مع القرينة‪ ،‬وعلى هذا يخرج‬

‫ما روي عن صاحب معاذ بن جبل‪ ،‬وما روي ف حديث الحارث الذي قال‪ :‬أنا مؤمن حقا» ‪ -‬وف إسناده‬

‫كالم ‪« -‬وف حديث الوفد الذين قالوا‪ :‬نحن المؤمنون‪ ،‬وإن كان ف اإلسنادين نظر» اهـ‪ .‬أي‪ :‬إسناد حديث‬

‫الحارث وإسناد حديث الوفد الذين قالوا‪ :‬نحن المؤمنون‪.‬‬

‫حمل على هذا المعنى إن َصح‪ ،‬لكنه ضعيف اإلسناد؛ ألن ف إسناده‬
‫وأيضا هذا األثر ‪ -‬أثر عطاء ‪ُ -‬ي َ‬
‫ً‬

‫حمل على أن المراد‬


‫يوسف بن ميمون وهو ضعيف‪ ،‬فهو من حيث اإلسناد غير ثابت‪ ،‬ولو صح فإنه ُي َ‬

‫باإليمان األصل‪ ،‬ل التمام والكمال‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ش‪َ ،‬ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن ُم َّرةَ‪َ ،‬ع ْن َأبِي ا ْل َب ْخت َِري‪َ ،‬ع ْن ُح َذ ْي َفةَ‪َ ،‬ق َال‪« :‬ا ْل ُق ُل ُ‬
‫وب‬ ‫(‪َ )54‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫اج ُي ْز ِه ُر‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ب ا ْل َكاف ِر‪َ ،‬و َق ْل ٌ‬
‫ب َأ ْج َر ُد َك َأ َّن فيه س َر ٌ‬ ‫ب ا ْل ُمنَاف ِق‪َ ،‬و َق ْل ٌ‬
‫ب َأ ْغ َل ُق َف َذ َ‬
‫اك َق ْل ُ‬ ‫َأ ْر َب َعةٌ‪َ :‬ق ْل ٌ‬
‫ب ُم ْص َف ٌح َف َذل َك َق ْل ُ‬

‫ان َف َم َث ُل ُه َم َث ُل ُق ْر َح ٍة َي ُمدُّ َها َق ْي ٌح َو َد ٌم‪َ ،‬و َم َث ُل ُه َم َث ُل َش َج َر ٍة َي ْس ِق َيها َما ٌء‬ ‫يه نِ َف ٌ‬


‫اق َوإِ َ‬
‫يم ٌ‬ ‫َف َذل ِ َك َق ْلب ا ْلم ْؤمِ ِن‪ ،‬و َق ْلب فِ ِ‬
‫َ ٌ‬ ‫ُ ُ‬

‫ب‪َ ،‬ف َأ ُّي َما َغ َل َ‬


‫ب َع َل ْي َها َغ َل َ‬
‫ب»‪.‬‬ ‫َخبِ ٌ‬
‫يث َو َطي ٌ‬

‫الشرح‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪16‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن حذيفة ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬أنه قال‪« :‬ا ْل ُق ُل ُ‬
‫وب‬

‫َأ ْر َب َعةٌ»‪ ،‬أي‪ :‬قلوب الناس تنقسم إلى أربعة أقسام من حيث اإليمان والعتقاد‪ ،‬أو الوقوع ف ضد ذلك من‬

‫الكفر والنفاق‪ ،‬فقلوب الناس تنقسم إلى أربعة أقسام‪ .‬والقسمة التي جاءت ف هذا األثر قسمة صحيحة‬

‫وواضحة وبينة‪ ،‬ولها شواهدها ودلئلها الكثيرة ف كتاب اهلل وسنة نبيه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬من حيث‬

‫أن القلوب منقسمة إلى هذه األقسام‪.‬‬

‫القلب األول‪ ،‬قال‪َ « :‬ق ْل ٌ‬


‫ب ُم ْص َف ٌح» أو « ُم َص َّف ٌح»‪ ،‬أي‪ :‬له صفحتان‪ ،‬معنى ذلك أن له وجهان‪ :‬وجه‬

‫يميل إلى الكفر‪ ،‬ووجه يميل إلى اإليمان‪ .‬قال‪َ « :‬ق ْل ٌ‬


‫ب ُم ْص َف ٌح» أي‪ :‬فيه إيمان ونفاق‪ ،‬له وجهان‪ :‬وجه‬

‫ب ا ْل ُمنَافِ ِق»‪ .‬والمراد باإليمان الذي فيه أي‪َ :‬ت َظ ُ‬


‫اه ًرا‬ ‫ِ‬
‫إيمان‪ ،‬ووجه نفاق؛ ففيه إيمان وفيه نفاق‪َ « ،‬ف َذل َك َق ْل ُ‬

‫وزعما وادعا ًء‪ ،‬وإل فالقلب من حيث هو ‪ -‬قلب المنافق ‪ -‬ليس فيه إل الكفر باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫ً‬
‫لكنه ُي ِ‬
‫ظهر أن قلبه فيه إيمان وفيه تصديق باهلل وفيه إيمان بالرسل؛ دعوى يدعيها‪ .‬فإذن « َق ْل ٌ‬
‫ب ُم ْص َف ٌح» أي‪:‬‬
‫قلب ُي ِ‬
‫ظهر اإليمان ويدعيه‪ ،‬ويبطن الكفر وينطوي عليه‪ ،‬فهذا قلب المنافق‪.‬‬

‫ب َأ ْغ َل ُق»‪ ،‬والصواب‪:‬‬ ‫ب َأ ْغ َل ُ‬
‫ف»‪ .‬ف «كتاب اإليمان» أو ف طبعة «كتاب اإليمان» قال‪َ « :‬ق ْل ٌ‬ ‫«و َق ْل ٌ‬
‫قال‪َ :‬‬

‫« َأ ْغ َل ُ‬
‫ف»‪ ،‬أي‪ :‬عليه غالف ‪ -‬كما هو ف «المصنف» لبن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل ‪ -‬وف مصادر التخريج‬

‫ف عليه بالغالف‪ ،‬وطوي بالغالف‪ ،‬ومثله قوله – تعالى‪:‬‬ ‫ب َأ ْغ َل ُ‬


‫ف»‪ ،‬أي‪ :‬الذي ُل َّ‬ ‫األخرى لهذا األثر ‪َ « -‬ق ْل ٌ‬

‫ب َأ ْغ َل ُ‬
‫ف»‪ ،‬أي‪ :‬عليه غالف‬ ‫«و َق ْل ٌ‬
‫ﭿ ﯦ ﯧ ﯨﯩ ﭾ [البقرة‪ ، ]88 :‬أي‪ :‬عليها غالف‪ ،‬ومغطاة بغالف‪ .‬قال‪َ :‬‬

‫غطاه وأحاط به‪ ،‬فأصبح ل يصل إليه الحق بسبب الغالف الذي غطاه وحجبه عن أن يصل إليه الحق‪ .‬قال‪:‬‬

‫ب ا ْل َكافِ ِر»‪ ،‬ﭿﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮﭾ [فصلت‪ ]5 :‬أي‪ :‬عليها أغطية‪ ،‬وعليها أغلِفة‪ ،‬وعليها‬ ‫« َف َذ َ‬
‫اك َق ْل ُ‬

‫ب ا ْل َكافِ ِر»‪ ،‬فالكافر على قلبه أغلفة وأغطية‬ ‫أغشية‪ ،‬فال يصل إلينا شيء مما تدعونا إليه‪ .‬قال‪َ « :‬ف َذ َ‬
‫اك َق ْل ُ‬

‫ب تحول بين وصول الحق إلى قلبه والهتداء هبداه‪.‬‬


‫وح ُج ٌ‬
‫ُ‬
‫‪17‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫ب ا ْل ُم ْؤمِ ِن»‪ .‬قوله‪َ « :‬أ ْج َر ُد»‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬


‫‪17‬‬
‫ب َأ ْج َر ُد َك َأ َّن فيه س َر ٌ‬
‫اج ُي ْزه ُر»‪ ،‬أي‪ُ :‬يوقد ويضيء‪َ « ،‬ف َذل َك َق ْل ُ‬ ‫«و َق ْل ٌ‬
‫قال‪َ :‬‬

‫نفيس جد ًا ف‬
‫تعليق ٌ‬
‫ٌ‬ ‫قال ابن القيم ‪ $‬ف «إغاثة اللهفان» ‪ -‬وللفائدة ابن القيم ‪ $‬له على هذا األثر‬

‫راجع‪ -‬قال ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪« :‬قلب أجرد‪ ،‬أي‪ :‬متجرد مما سوى اهلل ورسوله‪،‬‬
‫كتابه «إغاثة اللهفان» فل ُي َ‬

‫فقد تجرد وسلم مما سوى الحق»‪ ،‬فهو قلب أجرد ليس فيه إل الحق‪ ،‬متجرد هلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فليس فيه‬

‫الم ْق ِريزي له كتاب نافع ف التوحيد سماه «تجريد التوحيد»‪ .‬فقوله هنا‪َ « :‬ق ْل ٌ‬
‫ب‬ ‫إل الحق‪ .‬وأحد األئمة وهو َ‬

‫َأ ْج َر ُد»‪ ،‬أي‪ :‬متجرد مما سوى اهلل ‪ -‬عز وجل‪َّ ،‬‬
‫تجرد للحق‪ ،‬ليس فيه إل الحق‪ ،‬أما الباطل ل وجود له؛‬

‫فهذا قلب المؤمن‪ .‬نسأل اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لنا أجمعين من فضله ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ ،‬قال اهلل ‪ -‬عزوجل‪ :‬ﭿ‬

‫ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﭾ [النساء‪.]49 :‬‬

‫يم ٌ‬
‫ان»‪ ،‬يعني فيه المادتان‪ ،‬وهو غير القلب األول؛ القلب األول المصفح‬ ‫يه نِ َف ٌ‬
‫اق َوإِ َ‬
‫قال‪« :‬و َق ْلب فِ ِ‬
‫َ ٌ‬

‫قلب فيه إيمان وفيه‬


‫هذا قلب المنافق واإليمان الذي فيه إيمان التظاهر واإلدعاء‪ ،‬لكن هذا القلب الرابع ٌ‬

‫نفاق‪ .‬قال‪َ « :‬ف َم َث ُل ُه َم َث ُل ُق ْر َح ٍة َي ُمدُّ َها َق ْي ٌح َو َد ٌم»‪ .‬القرحة التي تظهر ف البدن إن أ َمدَّ ها القيح ماذا تكون؟‬

‫ضرارا بالبدن‪ .‬إذا أمدها القيح إزدادت مضرة على البدن‪ ،‬لكن إذا توقف‬
‫ً‬ ‫تزداد َت َع ُّفنًا‪ ،‬وتزداد إيال ًما‪ ،‬وتزداد إ‬

‫القيح وأصبح الذي يمدها ويغذيها الدم؛ فإنه يكون هذا با ًبا للتماثل والشفاء‪ .‬أما إذا كان الذي يمد القرحة‬

‫القيح؛ فإهنا تزداد وتكرب وتؤذي البدن‪ ،‬أما إذا توقف القيح عن إمداد هذه القرحة وأصبح الذي يمدها الدم‪،‬‬

‫قلب فيه نفاق وفيه إيمان‪ ،‬فمثله حذيفة – ويروى مرفو ًعا كما‬
‫تبدأ القرحة تتماثل وتصير إلى الشفاء‪ .‬فهذا ٌ‬

‫ضرارا‬
‫ً‬ ‫سيأيت ‪ -‬بقرحة يمدها قيح ويمدها دم‪ ،‬فحالها بحسب ما يمدها‪ :‬إن كان الذي يمدها القيح زادت إ‬

‫«و َم َث ُل ُه‬
‫أيضا َم َّثل له بمثل آخر‪ ،‬قال‪َ :‬‬
‫بالبدن‪ ،‬وإن كان الذي يمدها الدم آلت إلى الشفاء والتماثل والعافية‪ .‬و ً‬

‫ب» ‪ -‬هذه ساقطة ف بعض النسخ – « َي ْس ِق َيها َما ٌء َخبِ ٌ‬


‫يث َو َما ٌء َطي ٌ‬
‫ب»‪-‬‬ ‫َم َث ُل َش َج َر ٍة َي ْس ِق َيها َما ٌء َخبِ ٌ‬
‫يث َو َما ٌء َطي ٌ‬
‫يها َما ٌء َخبِ ٌ‬ ‫ِ‬
‫يث َو َما ٌء َطي ٌ‬
‫ب»‪ ،‬فإذا أصبح الماء‬ ‫وهي موجودة ف «المصنَّف» وف مصادر التخريج ‪َ « -‬ي ْسق َ‬

‫أيضا بالثمرة التي تثمرها الشجرة‪ ،‬وإذا كان الذي يصل إليها‬
‫الذي يصل إليها الماء الخبيث أضر هبا وأضر ً‬

‫الماء الطيب أزهرت وأينعت وطاب ثمرها‪ .‬قال‪َ « :‬ف َأ ُّي َما َغ َل َ‬
‫ب َع َل ْي َها َغ َل َ‬
‫ب»‪ ،‬هكذا ف هذه النسخة‪،‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪18‬‬
‫اء َغ َلب َع َليها َغ َلب»‪َ « .‬ف َأي م ٍ‬
‫اء» أي‪ :‬من‬ ‫والصواب كما جاء ف «المصنَّف» وف مصادر التخريج‪َ « :‬ف َأي م ٍ‬
‫ُّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ‬ ‫ُّ َ‬
‫ٍ‬
‫المائين ‪ -‬الماء الخبيث أو الطيب‪َ « ،‬ف َأ ُّي َماء َغ َل َ‬
‫ب َع َل ْي َها َغ َل َ‬
‫ب»‪ ،‬يعني إن كان غلب عليها الماء الخبيث‬

‫خبثت‪ ،‬وإن كان غلب عليها الماء الطيب طابت؛ فصاحبه بين صراع مع نفسه‪ :‬تارة يمد قلبه ‪ -‬والعياذ باهلل‬

‫‪ -‬أشياء تغذي النفاق‪ ،‬وتارة يمد قلبه أشياء تغذي اإليمان؛ فإن غلب عليه األشياء التي تغذي اإليمان صلح‬

‫قلبه‪ ،‬وإن غلب عليه األشياء التي تغذي القلب بالنفاق مرض قلبه ‪ -‬والعياذ باهلل‪.‬‬

‫وهذا يدل على أن اإلنسان يجب عليه أن يصون قلبه من األمور التي ُت َولد النفاق وتمرض القلب‪،‬‬

‫بأن يمنع الوارادات التي ترد على قلبه وتمرضه‪ .‬والقلب ترد عليه الوارادت من النظر ومن السمع‪ :‬إما أن‬

‫بالمشاهدات التي أمرضت القلوب‪ ،‬أمرضت قلوب كثير‬


‫َ‬ ‫يسمع أو ينظر ‪ -‬ينظر قراء ًة‪ ،‬أو كما ف زماننا هذا‬

‫من الناس‪ ،‬مشاهدات القنوات الفضائية ومشاهدات الشبكات ف المواقع السيئة الخبيثة التي تمرض‬

‫القلوب وتمدها ‪ -‬والعياذ باهلل ‪-‬بالنفاق والشهوات والشبهات فتمرضها تما ًما‪ .‬فيحتاج العبد أن يغلق‬

‫المنافذ التي ُت ِمد القلب ‪ -‬والعياذ باهلل‪ -‬بالنفاق‪ ،‬وأن يحاول أن يزيد المنافذ التي تقوي القلب باإليمان‬

‫وصالحا واستقام ًة ‪ -‬بإذن اهلل ‪ -‬عز وجل‪.‬‬


‫ً‬ ‫وتزيده قوة‬

‫هذا األثر رواه أبو ال َبخرتي عن حذيفة ﭬ؛ وأبو البخرتي عن حذيفة ُم ْر َسل كما ف «هتذيب‬

‫الكمال»‪ .‬ورواه اإلمام أحمد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬ف «المسند» مرفو ًعا‪ :‬عن أبي البخرتي عن أبي سعيد‬

‫أيضا لم يدرك أبا سعيد ﭬ‪ ،‬وف إسناده ليث ‪ -‬وهو ابن أبي ُس َليم‬
‫الخدري ﭬ مرفو ًعا‪ .‬وأبو البخرتي ً‬

‫‪ -‬وهو ضعيف‪ .‬فاإلسناد ضعيف‪ ،‬لكن األثر من حيث المعنى وانقسام القلوب إلى هذه األقسام واضح‬

‫وتدل عليه دلئل كثيرة‪ .‬وشيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬أورد هذا األثر ف مواضع من كتبه‪ ،‬وأورده ابن‬

‫شرحا ناف ًعا‪ ،‬وقال ف «إغاثة اللهفان»‪« :‬صح عن حذيفة»‪ ،‬فقد‬


‫القيم ‪ $‬ف كتابه «إغاثة اللهفان» وشرحه ً‬
‫شرحا ناف ًعا يمكن أن ِ‬
‫يرج َع إليه طالب‬ ‫يكون ‪ $‬وقف على طرق صح هبا عنده عن حذيفة ﭬ‪ ،‬وشرحه ً‬

‫العلم ف كتاب «إغاثة اللهفان» لبن القيم ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪.‬‬


‫‪19‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪19‬‬
‫قال‪:‬‬

‫َان النَّبِي ﷺ ُي ْكثِ ُر َأ ْن َي ُق َ‬


‫ول‪َ « :‬يا‬ ‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُس ْف َي َ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن َأن ٍ‬
‫َس‪َ ،‬ق َال‪ :‬ك َ‬ ‫(‪َ )55‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬
‫ُّ‬
‫ول اهللِ‪ ،‬آ َمنَّا بِ َك َوبِ َما ِج ْئ َت بِ ِه‪َ ،‬ف َه ْل َت َخ ُ‬
‫اف َع َل ْينَا؟ َق َال‪:‬‬ ‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬
‫ك» َقا ُلوا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫ُم َق ِّل َ‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها»‪.‬‬


‫« َن َع ْم‪ ،‬إِ َّن ا ْل ُق ُل َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫َان النَّبِ ُّي ﷺ ُي ْكثِ ُر َأ ْن‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن أنس بن مالك ﭬ َق َال‪ :‬ك َ‬

‫ول اهللِ‪ ،‬آ َمنَّا بِ َك َوبِ َما ِج ْئ َت بِ ِه‪َ ،‬ف َه ْل َت َخ ُ‬


‫اف‬ ‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬
‫ك» َقا ُلوا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫ول‪َ « :‬يا ُم َق ِّل َ‬
‫َي ُق َ‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها»‪.‬‬


‫َع َل ْينَا؟ َق َال‪َ « :‬ن َع ْم‪ ،‬إِ َّن ا ْل ُق ُل َ‬

‫أيضا ف المعنى نفسه عن أم سلمة وأم المؤمنين عائشة ‪ -‬رضي اهلل عنهما وعن الصحابة‬
‫وأورد ً‬

‫أجمعين ‪ ،-‬ولعلنا نؤجل الكالم على هذا الحديث ف لقاء الغد بإذن اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى‪.‬‬

‫واهلل تعالى أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪20‬‬

‫الدرس السادس‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقول اْلمام الحافظ أبو بكر‪ ،‬عبد اَّلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اَّلل تعالى‪ ،‬يف كتابه «اْليمان»‪:‬‬

‫َان النَّبِي ﷺ ُي ْكثِ ُر َأ ْن َي ُق َ‬


‫ول‪َ « :‬يا‬ ‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُس ْف َي َ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن َأن ٍ‬
‫َس‪َ ،‬ق َال‪ :‬ك َ‬ ‫(‪َ )55‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬
‫ُّ‬
‫ول اهللِ‪ ،‬آ َمنَّا بِ َك َوبِ َما ِج ْئ َت بِ ِه‪َ ،‬ف َه ْل َت َخ ُ‬
‫اف َع َل ْينَا؟ َق َال‪:‬‬ ‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬
‫ك»‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫ُم َق ِّل َ‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها»‪.‬‬


‫« َن َع ْم‪ ،‬إِ َّن ا ْل ُق ُل َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده لشريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله ‪-‬‬

‫صلى اهلل وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فقد أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – ف آخر ما سمعناه ف لقائنا السابق حديث حذيفة ﭬ موقو ًفا عليه‬

‫ف أن القلوب أربعة‪ ،‬وذكر أقسام القلوب‪.‬‬

‫َل َّما ذكر المؤلف ‪ $‬حديث حذيفة ﭬ‪ ،‬أعقبه بأحاديث فيها اللجوء إلى اهلل – سبحانه وتعالى – بأن‬

‫يثبت القلب على القول الثابت‪ ،‬وأن يقيمه على الحق والهدى‪ ،‬وأن يعيذه من الزيغ والضالل‪ ،‬وهي‬

‫مشتملة على بيان أن قلوب العباد بيد اهلل يصرفها كيف يشاء ويدبرها كيف يشاء – سبحانه وتعالى – وأن‬

‫القلوب سريعة التقلب والتحول‪ ،‬والقلب إنما سمي هبذا السم لكثرة تقلبه وتحوله‪ .‬ولهذا كان العبد‬

‫ومفتقرا إلى اهلل – سبحانه وتعالى – أن يثبت قلبه وأل يزيغه‪ ،‬وف دعاء المؤمنين ف القرآن‪ :‬ﭿ ﯫ‬
‫ً‬ ‫مضطرا‬
‫ً‬
‫كثيرا‬
‫ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﭾ [آل عمران‪ .]8 :‬وكان نبينا – عليه الصالة والسالم – ً‬
‫‪21‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪21‬‬
‫ما يحلف بقوله‪َ« :‬ل ومقلب القلوب»‪ ،‬وكذلك بقوله ‪َ« :‬ل والذي نفسي بيده»؛ فالعبد أمره إلى اهلل – عز‬

‫وطوع تدبيره – سبحانه وتعالى – فما شاء اهلل كان وما لم يشأ لم يكن‪ .‬ولهذا كان سيد ولد آدم‬
‫َ‬ ‫وجل –‬

‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬


‫ك»‪ ،‬وكان‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫أجمعين وإمام المتقين وأفضل عباد اهلل يكثر من الدعاء بـ « َيا ُم َق ِّل َ‬

‫ذلكم أكثر دعاء النبي ﷺ‪.‬‬

‫أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – ف هذا المعنى عدة أحاديث‪ ،‬بدأها بحديث أنس بن مالك ﭬ َق َال‪:‬‬

‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب» هذا فيه نداء إلى‬ ‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬
‫ك»‪َ « .‬يا ُم َق ِّل َ‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫َان النَّبِي ﷺ ُي ْكثِ ُر َأ ْن َي ُق َ‬
‫ول‪َ « :‬يا ُم َق ِّل َ‬ ‫ُّ‬
‫ك َ‬

‫اإلقرار بأن القلوب بيد اهلل‪ ،‬وأنه – سبحانه وتعالى – يقلبها كيف يشاء‪ .‬فهذا‬
‫َ‬ ‫اهلل – عز وجل – متضم ٌن‬

‫وب»‪ ،‬وفيه التوسل إلى اهلل – سبحانه وتعالى – ب َك ْو ِن قلوب العباد‬


‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫النداء فيه هذا اإلقرار « َيا ُم َق ِّل َ‬

‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬


‫ك»‪ .‬وهذا فيه أن‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫بيده يقلبها – سبحانه وتعالى ‪ -‬كيف يشاء؛ قال‪َ « :‬يا ُم َق ِّل َ‬

‫ثبات القلب إنما هو بتثبيت اهلل‪ ،‬فاهلل – عز وجل – هو الذي يثبت قلوب من شاء من عباده على الحق‬

‫والهدى ﭿﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ‬

‫ﭾ [إبراهيم‪.]٢7 :‬‬

‫ول اهللِ‪ ،‬آ َمنَّا بِ َك َوبِ َما ِج ْئ َت بِ ِه‪َ ،‬ف َه ْل َت َخ ُ‬


‫اف َع َل ْينَا؟» أي‪ :‬هل تخاف على من كانت هذه‬ ‫قال‪َ « :‬قا ُلوا‪َ :‬يا َر ُس َ‬

‫حاله‪ :‬قد َل ِق َي َك‪ ،‬وآمن بك‪ ،‬وآمن بما جئت به‪ ،‬هل تخاف عليه أن يتقلب قلبه؟ قال – عليه الصالة والسالم‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها»‪ ،‬أي‪ :‬كيف يشاء – سبحانه وتعالى – فإن شاء أقام‬
‫–‪َ « :‬ن َع ْم‪ ،‬إِ َّن ا ْل ُق ُل َ‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن‬
‫القلب على الحق والهدى‪ ،‬وإن شاء أزاغه‪ ،‬فهذا كله بيد اهلل – عز وجل‪ .‬قال‪« :‬إِ َّن ا ْل ُق ُل َ‬

‫ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها»‪ ،‬أي‪ :‬كيف يشاء‪ ،‬فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه‪ ،‬كما سيأيت ف الحديث اآلخر الذي‬

‫ساقه المصنف – رحمه اهلل تعالى‪.‬‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن» فيه إثبات األصابع هلل – عز وجل – على الوجه الالئق بجالله وكماله –‬
‫وقوله‪« :‬إِ َّن ا ْل ُق ُل َ‬

‫سبحانه وتعالى‪ .‬ويجب أن ُيعلم أن ما ُيضاف إلى اهلل – سبحانه وتعالى – ف القرآن وما ُيضاف إليه ف سنة‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪22‬‬

‫النبي الكريم – عليه الصالة والسالم – من الصفات فهو مختص به – جل وعال – يجب أن ُي َّنزه فيه –‬
‫تبارك وتعالى – عن الشبيه ِ‬
‫والم َثال‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪ :‬ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭾ [الشورى‪ ]11 :‬؛‬

‫فهو – جل وعال – له سمع ل كاألسماع‪ ،‬وبصر ل كاألبصار‪ ،‬وأصابع – كما ف هذا الحديث – ل‬

‫كاألصابع‪ .‬ومن شبه شي ًئا من صفات اهلل بصفات خلقه فقد كفر باهلل العظيم؛ ألن التشبيه كفر باهلل ٌ‬
‫ناقل من‬

‫ملة اإلسالم‪ ،‬ومن شبه اهلل بخلقه كفر ولو بصفة واحدة‪ :‬من قال إن يد اهلل كيده فقد كفر باهلل! ولم ينفعه‬

‫صالة‪ ،‬ول صيام‪ ،‬ولحج‪ ،‬ولصدقة‪ ،‬ول بِر‪ ،‬وخرج من ملة اإلسالم؛ ألن التشبيه كفر باهلل ناقل من ملة‬

‫اإلسالم‪ .‬فصفات اهلل – سبحانه وتعالى – خاصة به‪ ،‬لئقة بجالله وكماله‪ .‬وكما أن التشبيه باطل‪ ،‬فإن‬

‫أيضا باطل‪ ،‬وجحدُ صفات اهلل الثابتة ف كتابه وسنة نبيه ﷺ فهذا كذلك باطل وضالل‪ ،‬والحق‬
‫التعطيل ً‬

‫إثبات الصفات هلل – سبحانه وتعالى – وعدم تعطيلها إثبا ًتا‬


‫ُ‬ ‫َق َوا ٌم بين ذلك‪ ،‬وهو ما عليه أئمة السلف‪ ،‬وهو‬

‫بال تمثيل‪ ،‬وتنزي ٌه هلل – تبارك وتعالى – عن مماثلة المخلوقات دون تعطيل لشيء من صفاته – سبحانه‬

‫وتعالى – كما قال – جل وعز‪ :‬ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭾ ؛ فقوله‪ :‬ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤﭾ هذا‬

‫وإثبات‬
‫ٌ‬ ‫تنزيه‪ ،‬وقوله‪ :‬ﭿﭥ ﭦ ﭧﭾ هذا إثبات‪ .‬وقاعدة أهل السنة ف هذا الباب‪ :‬تنزي ٌه بال تعطي ٍل‪،‬‬

‫بال تمثي ٍل‪.‬‬

‫بش َب ٍه عقلية واهية وهاء بيت‬


‫قديما وحدي ًثا إلى إنكار صفات اهلل – سبحانه وتعالى – ُ‬
‫وقد دأب المعطلة ً‬
‫العنكبوت! وبموجب تلك الشبهات جحدوا صفات اهلل‪ ،‬فأخذوا يوردون لوازم عقلية بموجبها ينكرون‬

‫مثال‪ :‬لو أثبتنا هلل كذا ل َل ِز َم أن يكون كذا وكذا! َأ ُه ْم أعلم باهلل مِ َن اهلل؟! َأ ُه ْم أعلم باهلل‬
‫صفات اهلل‪ ،‬يقولون ً‬

‫ُ‬
‫الرسول ويجحدون! ويقولون فيما أثبته الرسول ﷺ لربه – يقولون‪ :‬هذا ل يليق‬ ‫من رسول اهلل ﷺ؟ يثبِ ُت‬

‫باهلل؛ ألنه يلزم منه كيت وكيت مِ ْن لواز َم تدل على ضعف عقولهم ووهاء أفهامهم!‬

‫وأضرب هنا ً‬
‫مثال يتعلق بحديثنا هذا‪ :‬قال المعطلة ف هذا الباب‪« :‬يلزم من إثبات األصابع هلل» – تعالى اهلل‬

‫اسة لقلوب العباد»؛ وألجل هذا نفوا األصابع وجحدوها‬


‫كبيرا – «أن تكون أصابع اهلل ُم َم َّ‬
‫علوا ً‬
‫عن قولهم ً‬

‫وعطلوا ما دل عليه الحديث من عظمة الرب وجالله وكمال اقتداره – سبحانه وتعالى – مع أن هذا الالزم‬
‫‪23‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪23‬‬
‫ليس وار ًدا‪ ،‬وليس بالزم‪ ،‬بل هو دعوى يدعيها هؤلء! ول يلزم من قولنا‪« :‬السحاب بين السماء واألرض»‬

‫مماسا لألرض‪ ،‬أو مالص ًقا للسماء‪ ،‬أو مالص ًقا لألرض‪ .‬وهذا ُيعرف‬
‫مماسا للسماء‪ ،‬أو ً‬
‫أن يكون السحاب ً‬
‫ف أمور كثيرة من هذا الباب‪ُ :‬تط َلق البينية ول يلزم من ذلك المالصقة والمماسة ونحو ذلك من اإلدعاءات‬

‫الباطلة التي يدعيها هؤلء‪.‬‬

‫وقاعدة أهل السنة ف الباب‪ :‬إمرار نصوص الصفات كما جاءت‪ .‬قال نبينا – عليه الصالة والسالم‪« :‬إِ َّن‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ» نقول مثل ما قال – عليه الصالة والسالم‪ ،‬قفل مثل ما قد قال تنجو‬
‫ا ْل ُق ُل َ‬

‫وتربح‪.‬‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها»؛ نقول‬


‫نقول مثل ما قال – صلوات اهلل وسالمه عليه – قال‪« :‬إِ َّن ا ْل ُق ُل َ‬

‫معتقدين ونقر مؤمنين بأن‪ :‬قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‪ .‬فإذا قال قائل‪:‬‬

‫كيف ذلك؟ نقول‪ :‬الكيف مجهول؛ ألن النبي – عليه الصالة والسالم – أخربنا بذلك ولم يخربنا بكيفيته‪.‬‬

‫وإثباتنا لصفات ربنا إثبات وجود ل إثبات تكييف؛ فالصفات معلومة‪ ،‬وكيفيتها مجهولة‪ ،‬واإليمان هبا‬

‫رجل َ‬
‫مالك بن أنس – رحمه اهلل تعالى‪ ،‬إما َم دار الهجرة‪،‬‬ ‫واجب‪ ،‬والسؤال عن كيفيتها بدعة‪ .‬ولما سأل ٌ‬

‫عن قوله تعالى‪ :‬ﭿ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﭾ [طه‪ ، ]5 :‬قال‪ :‬كيف استوى؟ قال‪« :‬اإلستواء معلوم‪ ،‬والكيف‬

‫مجهول‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬واإليمان به واجب»‪ .‬ومثله قل ف جميع الصفات‪ ،‬مثالً لو قال لك قائل‪:‬‬

‫«جاء ف الحديث‪ :‬قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‪ ،‬كيف ذلك؟» تجيب بما‬

‫أجاب مالك ‪ :$‬الصفات معلومة‪ ،‬وكيفياهتا مجهولة‪ ،‬واإليمان هبا واجب‪ ،‬والسؤال عنها بدعة – أي‪:‬‬

‫عن كيفية صفات اهلل – تبارك وتعالى‪.‬‬

‫الشاهد أن هذا الحديث حديث عظيم القدر‪ ،‬جليل المكانة‪ٌ ،‬‬


‫دال على عظمة اهلل – تبارك وتعالى – وكمال‬

‫اقتداره‪ ،‬وأن قلوب العباد جميعها بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‪ .‬القلوب على كثرهتا‬

‫وتعددها وتباين أماكنها يقلبها كيف يشاء‪ :‬فهذا قلب يهديه‪ ،‬وهذا قلب يزيغه‪ ،‬وهذا قلب يثبته‪ ،‬وهذا قلب‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪24‬‬

‫يضله؛ يفعل اهلل – تبارك وتعالى – ما يشاء‪ ،‬فاألمر بيده – سبحانه وتعالى‪ .‬فهذا كله يدل من جهة على‬

‫عظمة اهلل – تبارك وتعالى – وكمال اقتداره‪ ،‬ومن جهة ثانية يدل على شدة حاجتنا وافتقارنا بأن نلجأ دو ًما‬

‫وأبدً ا إلى اهلل – سبحانه وتعالى – بأن يثبت قلوبنا وأن ل يزيغها وأن يعيذنا من مضالت الفتن ما ظهر منها‬

‫ت َق ْلبِي َع َلى‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫وما بطن‪ ،‬كما قد كان نبينا – عليه الصالة والسالم – يكثر ف دعائه‪َ « :‬يا ُم َق ِّل َ‬

‫ِدين ِ َ‬
‫ك»‪.‬‬

‫وقد جاء ف «المسند» لإلمام أحمد عن المقداد بن األسود ﭬ قال‪« :‬ما آمن على أحد» يعني‪ :‬ل آمن على‬
‫ب ا ْب ِن آ َد َم َأ ْس َر ُع‬ ‫أحد أن يزيغ أو يضل‪« ،‬ما آمن على أحد بعد الذي سمعت من رسول اهلل ﷺ يقول‪َ :‬ل َق ْل ُ‬
‫ت َغ َل َيانًا»‪ .‬انظر إلى القدر عندما يشتد غليانه بالماء كيف يتقلب الماء بداخله‪،‬‬ ‫َت َق ُّل ًبا ِم َن ا ْل ِقدْ ِر إِ َذا ْاست َْج َم َع ْ‬
‫ب ا ْب ِن آ َد َم َأ ْس َر ُع َت َق ُّل ًبا ِم َن ا ْل ِقدْ ِر‬
‫وكيف يتقلب الطعام وما ُوضع بداخله تقل ًبا شديدً ا‪ ،‬يقول نبينا ﷺ‪َ « :‬ل َق ْل ُ‬
‫يش ٍة‬
‫ب ِم ْث ُل ِر َ‬ ‫وجاءأيضا عنه ﷺ من حديث أبي موسى األشعري قال‪َ « :‬م َث ُل ا ْل َق ْل ِ‬ ‫ً‬ ‫ت َغ َل َيانًا»‪.‬‬ ‫است َْج َم َع ْ‬ ‫إِ َذا ْ‬
‫ض»‪ ،‬وهو ف «السنة» لبن أبي عاصم‪ ،‬وصححه األلباين ‪ .$‬وهذا كله يبين‬ ‫يح بِ َف ََل ٍة ِم َن ْالَ ْر ِ‬‫الر ُ‬ ‫ُت َق ِّل ُب َها ِّ‬
‫أن قلب ابن آدم سريع اإلنحراف‪ ،‬سريع التقلب‪ ،‬سريع الزيغ‪ ،‬سريع الضالل‪ ،‬إل أن يثبته اهلل – سبحانه‬
‫وتعالى – بالقول الثابت‪ ،‬ويعصمه من الفتن‪ ،‬ويقيه من الضالل ‪.‬‬
‫اللهم يا ربنا‪ ،‬يا حي يا قيوم‪ ،‬يا ذا الجالل واإلكرام‪ ،‬نسألك بأسمائك كلها وصفاتك كلها‪ ،‬يا ذا الجالل‬

‫واإلكرام‪ ،‬أن تثبت قلوبنا على دينك‪ .‬يا مقلب القوب القلوب ثبت قلوبنا على دينك‪ .‬يا مقلب القوب‬

‫القلوب ثبت قلوبنا على دينك‪ .‬يا مقلب القوب القلوب ثبت قلوبنا على دينك‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ب‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬ق ْل ُت ِألُم َس َل َمةَ‪َ :‬يا ُأ َّم‬


‫ب ا ْل َح ِر ِير‪ ،‬نا َش ْه ُر ْب ُن َح ْو َش ٍ‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )56‬حدَّ َثنَا معا ُذ بن مع ٍ‬
‫اذ‪ ،‬نا َأ ُبو َك ْع ٍ‬
‫ب َصاح ُ‬ ‫َُ ْ ُ َُ‬ ‫َ‬

‫ت َق ْلبِي‬ ‫ِِ‬
‫َان َأ ْك َث ُر ُد َعائه‪َ « :‬يا ُم َق ِّل َ‬
‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫ول اهللِ ﷺ إِ َذا ك َ‬
‫َان ِعنْدَ ِك؟ َف َقا َل ْت‪ :‬ك َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫ا ْل ُم ْؤمِنِي َن َما ك َ‬
‫َان ُد َعاء رس ِ‬

‫وب َثب ْت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َك؟ َق َال‪َ « :‬يا ُأ َّم َس َل َم َة‪،‬‬ ‫ك»‪ُ .‬ق ْل ُت‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫َع َلى ِدين ِ َ‬
‫ول اهلل‪َ ،‬ما َأ ْك َث َر ُد َعا َء َك َيا ُم َقل َ‬
‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬ ‫َ َ ُ‬
‫َل ْي َس ِم ْن آ َد ِم ٍّي إِ ََّل َو َق ْل ُب ُه َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّللِ‪َ ،‬ما َشا َء َأ َقا َم‪َ ،‬و َما َشا َء َأ َزا َغ»‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪25‬‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث‪ ،‬حديث أم سلمة ڤ‪ ،‬أم المؤمنين‪ .‬قال َش ْه ُر ْب ُن َح ْو َش ٍ‬
‫ب‪:‬‬

‫ول اهللِ ﷺ إِ َذا‬ ‫ِ‬


‫اء رس ِ‬
‫َان َأ ْك َث ُر ُد َع َ ُ‬ ‫« ُق ْل ُت ِألُم َس َل َم َة ڤ‪َ :‬يا ُأ َّم ا ْل ُم ْؤمِنِي َن َما ك َ‬
‫َان‪ - »...‬ف «المصنَّف» ‪َ « -‬ما ك َ‬

‫ول اهللِ ﷺ إِ َذا ك َ‬


‫َان ِعنْدَ ِك؟‬ ‫ِ‬
‫اء رس ِ‬ ‫َان ِعنْدَ ِك؟» ‪ -‬وأظن «أكثر» ساقطة ف بعض النسخ ‪َ « -‬ما ك َ‬
‫َان َأ ْك َث ُر ُد َع َ ُ‬ ‫ك َ‬
‫ك‪ُ .‬ق ْل ُت‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬ ‫ِِ‬
‫ول اهلل‪َ ،‬ما َأ ْك َث َر ُد َعا َء َك َيا ُم َقل َ‬
‫ب‬ ‫َ َ ُ‬ ‫وب َث ِّب ْ‬ ‫َان َأ ْك َث ُر ُد َعائه‪َ :‬يا ُم َق ِّل َ‬
‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬ ‫َف َقا َل ْت‪ :‬ك َ‬

‫وب َثب ْت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َك؟ َق َال‪َ :‬يا ُأ َّم َس َل َم َة‪َ ،‬ل ْي َس ِم ْن آ َد ِم ٍّي إِ ََّل َو َق ْل ُب ُه َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّللِ‪َ ،‬ما َشا َء‬
‫ا ْل ُق ُل ِ‬

‫َأ َقا َم‪َ ،‬و َما َشا َء َأزَا َغ»‪.‬‬

‫وب َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ْي ِن ِم ْن َأ َصابِ ِع اَّلل ِ ُي َق ِّل ُب َها‬ ‫ِ‬


‫قو ُله هنا‪َ « :‬ما َشا َء َأ َقا َم‪َ ،‬و َما َشا َء َأزَا َغ» يوضح معنى قوله‪« :‬إِ َّن ال ُق ُل َ‬

‫ف َي َشا ُء»‪ ،‬أي‪َ « :‬ما َشا َء َأ َقا َم‪َ ،‬و َما َشا َء َأزَا َغ»‪.‬‬
‫ف َي َشا ُء»‪ .‬معنى قوله‪ُ « :‬ي َق ِّل ُب َها َك ْي َ‬
‫َك ْي َ‬

‫« َما َشا َء َأ َقا َم»‪ ،‬أي‪ :‬أقام َو ْج َهه على الصراط المستقيم ﭿﯔ ﯕ ﯖ ﯗﯘ ﭾ [الروم‪ ]30 :‬؛ فـ« َما َشا َء َأ َقا َم»‪،‬‬

‫أي‪ :‬أقام وجهه على الصراط المستقيم والجادة السوية المفضية بصاحبها إلى جنات النعيم‪ .‬ولهذا أهل‬

‫الجنة يحمدون اهلل على هذه النعمة أول الدخول‪ ،‬يقولون‪ :‬ﭿﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ‬

‫ﯺﯻ ﭾ [األعراف‪ ، ]43 :‬يحمدون اهلل – سبحانه وتعالى – على منة إقامة الوجه على الصراط المستقيم‪ ،‬والثبات‬

‫راض‪ .‬قال‪َ « :‬و َما َشا َء َأزَا َغ»‪ ،‬أي‪ :‬أزاغ قلبه بأن‬
‫ٍ‬ ‫على الجادة إلى أن لقوا رهبم – جل وعال – وهو عنهم‬

‫حرفه وأضله عن صراطه المستقيم‪ .‬قال‪َ « :‬ما َشا َء َأ َقا َم‪َ ،‬و َما َشا َء َأزَا َغ»‪.‬‬

‫والحديث – حديث أم سلمة ڤ – فيه شهر بن حوشب‪ ،‬صدوق كثير اإلرسال واألوهام‪ ،‬لكنه توبع؛‬

‫رواه اآلجري ف «الشريعة» بسنده عن الحسن عن أمه عن أم سلمة بنحوه‪ .‬وأم الحسن اسمها َخ ْي َرة‪ ،‬وهي‬

‫مقبولة‪ .‬فالحديث ف الطريقين حسن‪ ،‬ويشهد له الحديث الذي قبله‪ ،‬وكذلك حديث عائشة اآليت بعده‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪26‬‬

‫ون‪ ،‬أنا َه َّما ُم ْب ُن َي ْح َيى‪َ ،‬ع ْن َعلِي ْب ِن َز ْي ٍد‪َ ،‬ع ْن ُأم ُم َح َّم ٍد‪َ ،‬ع ْن َعائِ َشةَ‪َ ،‬قا َل ْت‪ :‬ك َ‬
‫َان‬ ‫(‪َ )57‬حدَّ َثنَا َي ِزيدُ ْب ُن َه ُار َ‬
‫ول اهللِ‪ ،‬إِن ََّك َلتَدْ ُعو بِه َذا الدُّ َع ِ‬ ‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬
‫ك»‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬ ‫ول اهللِ ﷺ َي ُق ُ‬
‫اء؟‬ ‫َ‬ ‫وب َث ِّب ْ‬ ‫ول‪َ « :‬يا ُم َق ِّل َ‬ ‫َر ُس ُ‬

‫ب ا ْب ِن آ َد َم َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ِي اَّلل ِ إِ َذا َشا َء َأ ْن َي ْق ِل َب ُه إِ َلى ُهدً ى َق َل َب ُه‪َ ،‬وإِ ْن َشا َء َأ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َق َال‪َ « :‬يا َعائ َشةُ‪َ ،‬أ َو َما َع ِل ْمت َأ َّن َق ْل َ‬

‫َي ْق ِل َب ُه إِ َلى َض ََل َل ٍة َق َل َب ُه»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – حديث أم المؤمنين عائشة ڤ‪ ،‬وهو بمعنى حديث أنس وحديث أم سلمة‬

‫ول‬ ‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬


‫ك‪ُ .‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬ ‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬
‫وب َث ِّب ْ‬ ‫ول اهللِ ﷺ َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬يا ُم َق ِّل َ‬ ‫َان َر ُس ُ‬ ‫ﭭ المتقد َم ِ‬
‫ين‪ .‬قالت‪« :‬ك َ‬
‫اهللِ‪ ،‬إِن ََّك َلتَدْ ُعو بِه َذا الدُّ َع ِ‬
‫اء؟» ‪ -‬أي‪ :‬مع مكانتك العظيمة ومنزلتك العلية ‪« -‬إِن ََّك َلتَدْ ُعو بِه َذا الدُّ َع ِ‬
‫اء؟‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ب ا ْب ِن آ َد َم َب ْي َن ُأ ْص ُب َع ِي اَّلل ِ إِ َذا َشا َء َأ ْن َي ْق ِل َب ُه إِ َلى ُهدً ى َق َل َب ُه‪َ ،‬وإِ ْن َشا َء َأ ْن َي ْق ِل َب ُه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َق َال‪َ :‬يا َعائ َشةُ‪َ ،‬أ َو َما َع ِل ْمت َأ َّن َق ْل َ‬

‫إِ َلى َض ََل َل ٍة َق َل َب ُه»‪ .‬وهو بمعنى ما جاء ف حديث أم سلمة‪َ « :‬ما َشا َء َأ َقا َم‪َ ،‬و َما َشا َء َأزَا َغ»؛ فقلوب العباد بين‬

‫أصبعين من أصابع اهلل‪ ،‬بل جاء ف «صحيح مسلم» من حديث عبد اهلل بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ‬

‫اح ٍد» ‪ -‬قلوب بني آدم على كثرهتا‬


‫بو ِ‬
‫الر ْح َم ِن‪َ ،‬ك َق ْل ٍ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وب َبني آ َد َم ُك َّل َها َب ْي َن إِ ْص َب َع ْي ِن م ْن َأ َصابِ ِع َّ‬
‫قال‪« :‬إِ َّن ُق ُل َ‬
‫كقلب واحد ‪ُ « -‬ي َص ِّر ُف ُه َح ْي ُ‬
‫ث َي َشا ُء»‪ ،‬فما شاء أقامه – سبحانه وتعالى – أي‪ :‬على الحق والهدى‪ ،‬وما شاء‬

‫أزاغه‪.‬‬

‫علي بن زيد هو ابن جدعان‪ ،‬ضعيف الحديث‪ ،‬وأم محمد مجهولة؛ فاإلسناد ضعيف‪ ،‬لكن الحديث ثابت‬

‫عن النبي ﷺ بما له من شواهد ‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫(‪َ )58‬حدَّ َثنَا ُغنْدَ ٌر‪َ ،‬ع ْن ُش ْع َبةَ‪َ ،‬ع ِن ا ْل َح َك ِم ْب ِن ُع َت ْي َبةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬س ِم ْع ُت ا ْب َن َأبِي َل ْي َلى ُي َحد ُ‬
‫ث َع ِن النَّبِي ﷺ َأ َّن ُه‬

‫ت َق ْلبِي َع َلى ِدين ِ َ‬ ‫ِ‬


‫ك»‪.‬‬ ‫وب َث ِّب ْ‬ ‫َان ُيدْ ُعو بِ َه َذا الدُّ َعاء‪َ « :‬يا ُم َق ِّل َ‬
‫ب ا ْل ُق ُل ِ‬ ‫ك َ‬
‫‪27‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪27‬‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ثم ساق هذا الحديث‪ ،‬وهو بمعنى األحاديث التي قبله‪ .‬وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن وهو تابعي‪،‬‬

‫فالحديث مرسل‪ ،‬لكن الحديث َع َر ْفنَا ثبوته عن النبي ﷺ عن غير واحد من أصحاب النبي ﷺ‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ش‪َ ،‬ع ْن َذ ٍّر‪َ ،‬ع ْن َوائِ ِل ْب ِن َم َها َنةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َع ْبدُ اهللِ‪َ :‬ما َر َأ ْي ُت مِ َن نَاقِ ِ‬
‫ص‬ ‫(‪َ )59‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫ان ِدين ِ َها؟‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين والر ْأ ِي َأ ْغ َل ِ‬


‫ب للر َجال َذ ِوي ْاألَ ْم ِر َع َلى َأ ْم ِره ْم م َن الن َساء‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬يا َأ َبا َع ْبد َّ‬
‫الر ْح َم ِن َو َما ُن ْق َص ُ‬ ‫ُ‬ ‫الد ِ َ َّ‬
‫وز َش َها َد ُة ا ْم َر َأ َت ْي ِن إِ َّل بِ َش َها َد ِة َر ُج ٍل‬ ‫الص َال َة َأ َّيا َم َح ْي ِض َها‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬ف َما ُن ْق َص ُ‬
‫ان َع ْقلِ َها؟ َق َال‪َ :‬ل َت ُج ُ‬ ‫َق َال‪َ :‬ت ْرك َُها َّ‬

‫اح ٍد‪.‬‬
‫و ِ‬
‫َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث‪ ،‬حديث عبد اهلل بن مسعود ﭬ موقو ًفا عليه وله حكم الرفع‪،‬‬

‫وصح عن النبي ﷺ مرفو ًعا ف الصحيحين من حديث أبي سعيد‪ ،‬وف «صحيح مسلم» من حديث أبي‬

‫هريرة وحديث ابن عمر ﭭ؛ فهو حديث صحيح ثابت عن رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫ب لِلر َج ِ‬
‫ال‬ ‫الر ْأ ِي َأ ْغ َل ُ‬ ‫قال وائل بن مهانة‪َ « :‬ق َال َع ْبدُ اهللِ‪ - »:‬أي‪ :‬ابن مسعود ‪َ « -‬ما َر َأ ْي ُت مِ َن نَاقِ ِ‬
‫ص الد ِ‬
‫ين َو َّ‬
‫َذ ِوي ْاألَم ِر َع َلى َأم ِر ِهم مِن النس ِ‬
‫اء»‪ .‬وهذا فيه خطورة المرأة على الرجال وعلى ذوي اللب الحازم من‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫ْ‬
‫الرجال‪ ،‬يعني مهما كانت مكانة الرجل ومهما كان حزمه فإنه ل يأمن على نفسه من الفتنة بالمرأة‪ ،‬ولسيما‬

‫غرضا له فتنت الرجل‬


‫إذا عرض نفسه لالفتتان‪ .‬والمرأة بما فيها من ميل للرجل إذا اتخذها الشيطان ً‬

‫وحرفته وأوقعته ف النحراف؛ ولهذا قال – عليه الصالة والسالم – مخاط ًبا النساء على وجه التحذير‪:‬‬
‫ال َذ ِوي ْالَمرِ ع َلى َأمرِ ِهم ِمن النِّس ِ‬
‫ب لِلر َج ِ‬ ‫ت ِم َن نَاقِ ِ‬
‫اء»‪ ،‬وهذا قاله – عليه‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫الر ْأ ِي َأ ْغ َل ُ ِّ‬ ‫ص الدِّ ِ‬
‫ين َو َّ‬ ‫« َما َر َأ ْي ُ‬

‫وتحذيرا للرجال من الفتتان بالنساء؛ بأن يقطع كل من‬


‫ً‬ ‫تحذيرا من َف ْت ِن الرجال‪،‬‬
‫ً‬ ‫الصالة والسالم – للمرأة‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪28‬‬

‫الطرفين أسباب الفتنة‪ ،‬فالمرأة ل تجعل نفسها َغ َر ًضا لفتن الرجال‪ .‬بعض النساء – عيا ًذا باهلل – تخرج من‬

‫بيتها ليس لها غرض إل أن تفتن الرجال! ليس لها غرض؛ ليس لها حاجة ول ضرورة ف الخروج‪ :‬تتعطر‪..‬‬

‫تتزين‪..‬تتجمل‪ ..‬تلبس أحذية ذات صوت‪ ..‬وليس لها غرض ف خروجها إل أن تفتن الرجال‪ ،‬هذا‬

‫محذرا هنا – وجاء عنه‬


‫ً‬ ‫غرضها! و َيف َتتِن هبا من الرجال من يفتتن‪ .‬ولهذا قال – عليه الصالة والسالم –‬
‫َت فِي النِّس ِ‬
‫اء»‪ ،‬وحذر‬ ‫أحاديث كثيرة ف هذا الباب على وجه التحذير – قال‪َ « :‬فإِ َّن َأ َّو َل فِ ْتن َِة َبنِي إِ ْس َرائِ َ‬
‫يل كَان ْ‬
‫َ‬
‫من فتنة النساء ف غير ما حديث – صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫الر ْأ ِي» مثل قوله – عليه الصالة والسالم – ف الحديث اآلخر‪َ « :‬ما َر َأ ْي ُ‬
‫ت‬ ‫ت ِم َن نَاقِ ِ‬
‫ص الدِّ ِ‬
‫ين َو َّ‬ ‫قوله‪َ « :‬ما َر َأ ْي ُ‬

‫مفس ًرا ف الحديث أن شهادة المرأتين بشهادة الرجل الواحد‪،‬‬ ‫ات َع ْق ٍل َو ِد ٍ‬


‫ين»‪ .‬ونقصان العقل جاء َّ‬
‫ِمن نَاقِص ِ‬
‫ْ َ‬

‫مفس ًرا ف الحديث‪ :‬تركها للصالة أيام حيضتها‪ ،‬فهي سبعة أيام‪ ..‬ثمانية أيام‪..‬‬
‫وكذلك نقصان الدين جاء َّ‬
‫كامال‪ ،‬هذا نقص‬
‫أقل أو أكثر‪ ..‬تتوقف عن الصالة كل شهر؛ وهذا نقص مقارنة بالرجل الذي يصلي الشهر ً‬

‫ف العمل ‪ -‬عمل اإليمان الذي هو الصالة ‪ -‬لكن هذا النقص ليست ُمالمة عليه ول ُمحاسبة عليه؛ ألهنا‬

‫مأمورة به‪ ،‬لكنه نقص من جهة عندما يقارن عملها بعمل الرجل‪ :‬هذا أنقص‪ ،‬لكن هذا النقص ليست مالمة‬

‫عليه ول محاسبة عليه؛ ألهنا مأمورة به ومكلفة به‪.‬‬

‫از ِم ِم ْن إِ ْحدَ اك َُّن»‪ ،‬وف الحديث اآلخر قال‬


‫الح ِ‬
‫الر ُج ِل َ‬
‫ب َّ‬
‫ين َأ ْذه ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫قال‪« :‬ما ر َأي ُ ِ‬
‫ت م ْن نَاق َصات َع ْق ٍل َود ٍ َ َ‬
‫ب ل ُل ِّ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ول اهللِ؟» ‪ -‬ما قال‪ :‬بنقص اإليمان‬ ‫‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬فإِنِّي ُأ ِري ُتك َُّن َأ ْك َث َر َأ ْه ِل الن ِ‬
‫َّار‪َ .‬ف ُق ْل َن‪َ :‬وبِ َم َيا َر ُس َ‬

‫ونقص العقل؛ ألن هذا ل تحاسب عليه المرأة ‪َ « -‬ق َال‪ُ :‬تكْثِ ْر َن ال َّل ْع َن‪َ ،‬و َت ْك ُف ْر َن ال َع ِش َير»‪ .‬هذا الذي تحاسب‬

‫عليه‪ ،‬أما النقصان الذي ذكره فال تالم عليه ول تحاسب؛ ألهنا مأمورة بذلك‪ :‬أن تتوقف عن الصالة مدة‬

‫الص َال َة َأ َّيا َم َح ْي ِض َها‪َ .‬قا ُلوا‪َ :‬ف َما ُن ْق َص ُ‬ ‫حيضتها‪َ « .‬قا ُلوا‪ :‬يا َأبا َعب ِد الرحم ِن وما ُن ْقص ُ ِ ِ‬
‫ان‬ ‫ان دين َها؟ َق َال‪َ :‬ت ْرك َُها َّ‬ ‫َ َ ْ َّ ْ َ َ َ َ‬

‫اح ٍد»‪ .‬وهذا المعنى – كما أسلفت – صح مرفو ًعا‬


‫وز َشهاد ُة امر َأ َتي ِن إِ َّل بِ َشهاد ِة رج ٍل و ِ‬
‫َ َ َ ُ َ‬ ‫َع ْقلِ َها؟ َق َال‪َ :‬ل َت ُج ُ َ َ ْ َ ْ‬

‫عن النبي – عليه الصالة والسالم‪.‬‬


‫‪29‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪29‬‬
‫والمرأة الجاهلة بدين اهلل وبكالم رسول اهلل ﷺ ل تبالي ف أن تفتات على الرسول الكريم – عليه الصالة‬

‫والسالم – وتعرتض عليه وتنتقد كالمه‪ ،‬وكم من امرأة سفيهة قد قالت عندما سمعت هذا الحديث‪:‬‬

‫«لماذا؟ وكيف؟ وهذا كذا وكذا‪ »...‬من الكالم الساقط الذي ل قيمة له! أما المرأة المؤمنة المصدقة‬

‫المطمئنة لكالم الرسول – عليه الصالة والسالم – وأنه ل ينطق عن الهوى‪ ،‬ل تعارض شي ًئا من حديثه‬
‫ت ِمن نَاقِص ِ‬
‫ات َع ْق ٍل‬ ‫َ‬ ‫برأيها‪ ،‬وتفهم حديث الرسول – عليه الصالة والسالم – على بابه‪ .‬وقوله‪َ « :‬ما َر َأ ْي ُ ْ‬

‫أمرا تحاسب عليه المرأة‪ ،‬ولكن تحاسب على التفريط والتقصير‪ :‬كفران العشير‪ ..‬كثرة‬ ‫َو ِد ٍ‬
‫ين»‪ ،‬هذا ليس ً‬
‫اللعن‪ ..‬التفريط ف الواجبات‪ ..‬الوقوع ف المحرمات‪ ..‬تحاسب عليه مثل ما يحاسب الرجل‪.‬‬

‫ٍ‬
‫معرتضات‬ ‫ومن لطيف ما ُي ْذ َكر ف هذا المقام أن بعض النساء سمعن هبذا الحديث فذهبن إلى أحد العلماء‬

‫على هذا الحديث‪ ،‬فجئن إليه وسألنه عن صحة الحديث‪ ،‬قال‪« :‬صحيح!» فقلن له‪« :‬كيف هذا؟ كيف‬

‫ُيقال أن المرأة ناقصة عقل ودين ونحن اآلن ف زماننا نرى ف النساء الطبيبة‪ ،‬ونرى ف النساء المهندسة‪،‬‬

‫ونرى ف النساء كيت وكيت من الحاذقات الفطنات الاليت ُف ْق َن ف هذه األعمال الرجال! كيف ُيقال هذا؟»‬

‫فقال لهن ذلك العالم‪« :‬إن النبي – عليه الصالة والسالم – لما قال إن النساء ناقصات عقل ودين ما كان‬
‫يقصدكن هبذا الكالم‪ - »...‬فكأهنن اسرتوحن لهذا الكالم و ُأ ِ‬
‫عجب َن به ‪ -‬قال‪« :‬ما كان يقصدكن هبذا‬

‫الكالم؛ كان يقصد نساء الصحابة ونساء المؤمنين‪ .‬أما أنتن ل عقل ول دين!» المرأة التي تعرتض على‬

‫الرسول – عليه الصالة والسالم – ولماذا يقول كذا؟ هذا ل عقل ول دين! أين العقل وأين الدين ف من‬

‫تقول أن النبي ﷺ قال كذا وهذا خطأ؟! أو هذا ل يصح؟! أين عقلها وأين دينها إذا كانت وضعت نفسها‬

‫ف موضع المعرتض المنتقد على كالم الرسول – عليه الصالة والسالم؟! قال‪« :‬النبي ﷺ لما قال هذا‬

‫الكالم ما كان يقصدكن! يقصد نساء الصحابة ويقصد نساء المؤمنين‪ ،‬أما أنتن ل عقل ول دين!» وحق‬

‫كالمه؛ المرأة التي تبلغ هبا الجرأة السافرة إلى أن تعرتض على كالم رسول اهلل ﷺ وتنتقد كالمه وتعارضه‬

‫بمثل هذه المعارضة‪ ،‬هذه ما عندها ل عقل ول دين؛ ألنه لو كان عندها عقل ودين لحجزها من أن تعرتض‬

‫على كالم الصادق المصدوق الذي ل ينطق عن الهوى – صلوات اهلل وسالمه وبركاته عليه‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪30‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ول ل ِ َّلر ُج ِل‪:‬‬


‫الر ُج ِل َي ُق ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اش‪َ ،‬ع ْن ُمغ َيرةَ‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬سئ َل إِ ْب َراه ُ‬
‫يم َع ِن َّ‬ ‫(‪َ )60‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُأ َسا َمةَ‪َ ،‬ع ِن ا ْل َح َس ِن ْب ِن َع َّي ٍ‬

‫يه بِدْ َعةٌ‪َ ،‬و َما َي ُس ُّرنِي َأني َش َك ْك ُت‪.‬‬


‫ْت؟ َق َال‪ :‬ا ْلجواب فِ ِ‬
‫َ َّ ُ‬ ‫َأ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫الضبي قال‪ُ « :‬سئ َل إِ ْب َراه ُ‬
‫يم» – أي‪ :‬النخعي –‬ ‫قسم َّ‬
‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا األثر عن مغيرة بن م َ‬
‫ْت؟ َق َال‪ :‬ا ْلجواب فِ ِ‬
‫يه بِدْ َع ٌة‪ »...‬السلف – رحمهم اهلل تعالى – وهذا‬ ‫ول ل ِ َّلر ُج ِل‪َ :‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫َ َّ ُ‬ ‫« َع ِن َّ‬
‫الر ُج ِل َي ُق ُ‬

‫المعنى سبق أن أشرت إليه – أنكروا هذا السؤال الذي أول من بدأه المرجئة‪َ « :‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ْت؟» يأتون إلى‬

‫الشخص المعروف بالصالح‪ ..‬بالستقامة‪ ..‬بالديانة‪ ..‬بالعلم‪ ..‬فيقولون‪َ « :‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ْت؟»‬

‫عرف طرحه بين الصحابة‪ ،‬يلقى الشخص أخاه ويقول‪َ « :‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ْت؟» لكن المرجئة‬ ‫وهذا السؤال ما كان ُي َ‬
‫أحدثوا هذا السؤال لغرض ف صدورهم وحاجة ف نفوسهم أل وهي أهنم أرادوا من ذلك التوصل إلى‬

‫تقرير معتقدهم ف اإليمان‪ ،‬وهو أن اإليمان هو التصديق وحده؛ ألن كل شخص يعلم من نفسه أنه مصدق‬

‫بالدين غير مكذب ومصدق بالرسول – عليه الصالة والسالم – غير مكذب‪ ،‬فيقولون ‪َ « :‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ْت؟»‬

‫فإذا قال‪« :‬نعم‪ ،‬أنا مؤمن» أخرج بذلك األعمال من مسمى اإليمان وجزم لنفسه باإليمان الذي هو‬

‫التصديق؛ أرادوا بذلك التوصل إلى تقرير عقيدهتم الباطلة من حصر اإليمان ف التصديق وحده‪ .‬وعلم‬

‫السلف غرضهم وغايتهم من ذلك‪ ،‬فبدعوهم ف سؤالهم‪ .‬ولهذا ُن ِقل عن غير واحد من أئمة السلف قولهم‪:‬‬

‫«سؤالك إياي‪ :‬أمؤمن أنت؟ بدعة»‪ ،‬هذا أمر محدَ ث‪ ،‬ل ُيعرف عن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان؛ أول‬

‫من أحدثه المرجئة‪ ،‬أحدثوه للغرض الذي أشرت إليه‪ .‬ولهذا كان السلف ينكر هذا السؤال‪ ،‬وبعض األئمة‬

‫خاصا هبذا‪« :‬تبديع السلف لمن‬


‫‪ -‬ومنهم اآلجري ف كتابه «الشريعة» وابن بطة ف كتابه «اإلبانة» ‪ -‬عقد با ًبا ً‬

‫يقول‪ :‬أمؤمن أنت؟» ونقلوا هناك آثار ًا عديدة عن السلف ف هذا المعنى ‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪31‬‬ ‫فإبراهيم النخعي سئل عن الرجل يقول للرجل‪ :‬أمؤمن أنت؟ قال‪« :‬ا ْلجواب فِ ِ‬
‫يه بِدْ َع ٌة»‪ ،‬إشارة إلى أن‬ ‫َ َّ ُ‬

‫السؤال المطروح نفسه سؤال محدَ ث ل أصل له ول ُيعرف عن الصحابة وعمن اتبعهم بإحسان‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬و َما َي ُس ُّرنِي َأني َش َك ْك ُت»‪ ،‬أي‪ :‬ف إيماين‪ ،‬يعني المؤمن ليس عنده شك ف إيمانه‪ ،‬واإليمان ل ُيقبل‬

‫إل بالجزم ﭿﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﭾ [الحجرات‪ ، ]15 :‬أي‪ :‬أيقنوا ولم يشكوا‪ ،‬أما من كان‬

‫عنده شيء من الشك ف أصل اإليمان حبط عمله وكان من الخاسرين‪ .‬لكن أعمال اإليمان وهل هي‬

‫متقبلة‪ ،‬هذا أمر يشك فيه اإلنسان ويخاف أل تكون أعماله مقبولة‪ ،‬وقد مر معنا اإلشارة إلى قول اهلل –‬

‫سبحانه وتعالى‪ :-‬ﭿﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚﭾ [المؤمنون‪ ، ]60 :‬أي‪ :‬خائفة‪ُ ،‬ت َقدم ما تقدم من‬

‫طاعات‪ ،‬وهي خائفة أل ُتق َبل منها‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫الزانِي ِحي َن َي ْزنِي‬


‫«ل َي ْزنِي َّ‬ ‫يد‪َ ،‬عن َع َط ٍ‬
‫اء‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬‬ ‫الش ِه ِ‬ ‫(‪َ )61‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُأ َسا َمةَ‪َ ،‬ع ْن َحبِ ِ‬
‫يب ْب ِن َّ‬
‫ْ‬

‫َو ُه َو ُم ْؤمِ ٌن‪َ ،‬و َل َي ْس ِر ُق َو ُه َو ُم ْؤمِ ٌن‪َ ،‬و َل َي ْش َر ُب ا ْل َخ ْم َر َو ُه َو ُم ْؤمِ ٌن»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث عن أبي هريرة‪ ،‬وقد مضى من طريق أخرى عند المصنف ‪،$‬‬

‫ومضى هناك الكالم على معناه‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ار‪َ ،‬ع ْن ُح َذ ْي َفةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬واَّلل ِ إِ َّن‬ ‫(‪َ )6٢‬حدَّ َثنَا َأ ُبو َخال ِ ٍد ْاألَ ْح َم ُر‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬
‫ش‪َ ،‬ع ْن ُع َم َار َة ْب ِن ُع َم ْي ٍر‪َ ،‬ع ْن َأبِي َع َّم ٍ‬

‫الر ُج َل َل ُي ْصبِ ُح َب ِص ًيرا‪ُ ،‬ث َّم ُي ْم ِسي َما َينْ ُظ ُر بِ ُش ْفرٍ‪.‬‬


‫َّ‬

‫الشرح‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪32‬‬

‫الر ُج َل َل ُي ْصبِ ُح َب ِص ًيرا‪ُ ،‬ث َّم ُي ْم ِسي َما‬ ‫ِ‬


‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – عن حذيفة بن اليمان ﭬ قال‪َ « :‬واهلل إِ َّن َّ‬
‫َينْ ُظ ُر بِ ُش ْف ٍر»‪ ،‬و(ا ُّ‬
‫لشفر) بضم الشين وقد ُتف َتح‪ ،‬حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر‪ .‬وقال الشيخ‬

‫األلباين عن هذا األثر‪« :‬إسناد هذا األثر صحيح»‪.‬‬

‫الر ُج َل َل ُي ْصبِ ُح َب ِص ًيرا‪ُ ،‬ث َّم ُي ْم ِسي َما َينْ ُظ ُر بِ ُش ْف ٍر»‪ ،‬أي أن الشخص قد يصبح ف أول النهار‬ ‫ِ‬
‫قوله‪َ « :‬واهلل إِ َّن َّ‬
‫على اإليمان‪ ،‬وعلى البصيرة‪ ،‬وعلى المعرفة بالحق والهدى‪ ،‬ثم ينقلب ف آخر النهار؛ مثل ما جاء ف‬

‫الحديث اآلخر‪« :‬يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافر ًا» بسبب الفتن التي قد تعرض له‪ .‬وهذا يؤكد المعنى‬

‫الذي مر تقريره‪ ،‬وهو أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‪ ،‬وأن ما شاء أقامه‬

‫الر ُج َل َل ُي ْصبِ ُح َب ِص ًيرا‪ُ ،‬ث َّم ُي ْم ِسي َما َينْ ُظ ُر بِ ُش ْف ٍر»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫– سبحانه وتعالى – وما شاء أزاغه‪ .‬قال‪َ « :‬واهلل إِ َّن َّ‬

‫قال‪:‬‬

‫اق‪َ ،‬عن س ِع ِ‬
‫يد ْب ِن َي َس ٍ‬ ‫يس‪َ ،‬ع ْن ُم َح َّم ِد ْب ِن إِ ْس َح َ‬
‫ار‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ب َل َغ ُع َم َر َأ َّن َر ُج ًال بِ َّ‬
‫الشا ِم َي ْز ُع ُم‬ ‫ْ َ‬ ‫(‪َ )63‬حدَّ َثنَا ا ْب ُن إِ ْد ِر َ‬

‫ْت ا َّل ِذي َت ْز ُع ُم َأن ََّك ُم ْؤمِ ٌن؟ َف َق َال‪َ :‬ه ْل‬
‫اجلِ ُبو ُه َع َل َّي‪َ ،‬ف َق ِد َم َع َلى ُع َم َر‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬أن َ‬ ‫ِ‬
‫َب ُع َم ُر َأن ْ‬
‫ِ‬
‫َأ َّن ُه ُم ْؤم ٌن‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َكت َ‬

‫َاز ٍل‪ُ :‬م ْؤمِ ٌن‪َ ،‬وكَافِ ٌر‪َ ،‬و ُمنَافِ ٌق‪َ ،‬و َما َأنَا بِ َكافِ ٍر َو َل ُمنَافِ ٍق‪َ ،‬ق َال‪:‬‬
‫َّاس َع َلى َع ْه ِد النَّبِي ﷺ إِ َّل َع َلى َث َال َث ِة َمن ِ‬ ‫ك َ‬
‫َان الن ُ‬

‫يس‪ُ [ :‬ق ْل ُت‪ِ :‬ر ًضى بِ َما َق َال؟ َق َال‪ِ ]:‬ر ًضى بِ َما َق َال‪.‬‬
‫َف َق َال ُع َم ُر‪ :‬ا ْب ُس ْط َيدَ َك‪َ .‬ق َال ا ْب ُن إِ ْد ِر َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫أورد المصنف – رحمه اهلل تعالى – هنا هذا األثر عن سعيد بن يسار‪ ،‬قال‪َ « :‬ب َل َغ ُع َم َر ﭬ َأ َّن َر ُج ًال بِ َّ‬
‫الشا ِم‬

‫ْت ا َّل ِذي‬


‫اجلِ ُبو ُه َع َل َّي» ‪ -‬أي‪ :‬ائتوا به إلي ‪َ « -‬ف َق ِد َم َع َلى ُع َم َر‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬أن َ‬ ‫ِ‬
‫َب ُع َم ُر َأن ْ‬
‫ِ‬
‫َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه ُم ْؤم ٌن‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َكت َ‬

‫َاز ٍل‪ُ :‬م ْؤمِ ٌن‪َ ،‬وكَافِ ٌر‪َ ،‬و ُمنَافِ ٌق‪،‬‬
‫َّاس َع َلى َع ْه ِد النَّبِي ﷺ إِ َّل َع َلى َث َال َث ِة َمن ِ‬ ‫َت ْز ُع ُم َأن ََّك ُم ْؤمِ ٌن؟ َف َق َال‪َ :‬ه ْل ك َ‬
‫َان الن ُ‬

‫يس‪ُ :‬ق ْل ُت‪ِ :‬ر ًضى بِ َما َق َال؟ َق َال‪ِ :‬ر ًضى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َما َأنَا بِ َكاف ٍر َو َل ُمنَاف ٍق‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َق َال ُع َم ُر‪ :‬ا ْب ُس ْط َيدَ َك‪َ .‬قا َل ا ْب ُن إِ ْد ِر َ‬

‫بِ َما َق َال»‪.‬‬


‫‪33‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫هذا األثر لم يثبت من حيث اإلسناد‪ ،‬لكن التقسيم الذي ذكِر ف األثر إذا ُبني عليه الجزم باعتبار النظر إلى‬
‫‪33‬‬

‫أشرت إلى كالم‬


‫ُ‬ ‫وأيضا‬
‫أصل اإليمان فهذا يصح؛ كما مر نقل بعض اآلثار عن السلف ف هذا المعنى‪ً ،‬‬

‫لشيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬ف تقرير ذلك إذا اعترب أصل اإليمان‪ .‬فإذا قيل الناس ثالثة أقسام‪ :‬كفار‬

‫مظهرون للكفر‪ ،‬ومنافقون مبطنون للكفر‪ ،‬ويبقى قسم ثالث وهم المؤمنون على درجاهتم‪ ،‬سواء منهم من‬

‫كان ضعيف اإليمان أو قوي اإليمان‪ ،‬ليس بكافر ول بمنافق؛ فالقسمة الثالثية من حيث هي صحيحة‪،‬‬

‫والرجل يكون بذلك أراد أصل اإليمان‪ .‬ولما استدعاه عمر ‪ -‬على فرض صحة هذا األثر ‪ -‬استدعاه مخافة‬

‫أن يكون يزكي نفسه بأنه مكمل لإليمان؛ فلما فهم منه أنه قصد هذا المعنى‪ :‬أن الناس ثالثة أقسام‪ ،‬وأنه‬

‫ليس من الكفار ول من المنافقين بل هو من أهل اإليمان‪ ،‬ل يقصد أنه مكمل لإليمان‪ ،‬رضي بكالمه وقال‬

‫رضى بكالمه‪ ،‬أي‪ :‬باعتبار أنه قصد أصل اإليمان‪ .‬إذا صح األثر ُيحمل على هذا المعنى‪،‬‬
‫له‪ :‬ابسط يدك ‪ً -‬‬

‫إل أنه لم يصح‪ ،‬قال الشيخ األلباين ‪« :$‬محمد بن إسحاق هو ابن يسار صاحب السيرة‪ ،‬وهو ثقة مدلس‪،‬‬

‫وأيضا فيه انقطاع؛ فإن سعيد بن يسار الذي يروي عن عمر يقول‪:‬‬
‫وقد عنعنه»‪ .‬ففيه عنعنة ابن إسحاق‪ً ،‬‬

‫« َب َل َغ ُع َم َر»‪ ،‬وهو مولى ميمونة أم المؤمنين‪ ،‬مات سنة ‪117‬هـ وهو ابن ثمانين سنة‪ ،‬فتكون ولدته على‬

‫هذا سنة ‪37‬هـ‪ ،‬أي‪ :‬بعد وفاة عمر ﭬ‪ ،‬حيث توف سنة ‪٢3‬هـ‪ ،‬فتكون على هذا ولدته بعد وفاة عمر‬

‫بقرابة ‪15‬سنة أو قري ًبا من هذا‪ .‬فاألثر فيه انقطاع‪ ،‬وفيه عنعنة محمد بن إسحاق‪ ،‬فهو غير ثابت؛ وإن ثبت‬

‫فإنه محمول على ما أشرت إليه‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫َس‪َ ،‬ع ِن النَّبِي ﷺ َق َال‪:‬‬ ‫(‪ )64‬حدَّ َثنَا َشباب ُة بن سو ٍار‪ ،‬نا َلي ُث بن سع ٍد‪َ ،‬عن ي ِزيدَ ‪َ ،‬عن سع ِد ب ِن ِسن ٍ‬
‫َان‪َ ،‬ع ْن َأن ٍ‬ ‫ْ َ ْ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ ْ ُ َ ْ‬ ‫َ َ ْ ُ َ َّ‬ ‫َ‬

‫الر ُج ُل فِ َيها ُم ْؤ ِمنًا‪َ ،‬و ُي ْم ِسي كَافِ ًرا‪َ ،‬و ُي ْصبِ ُح كَافِ ًرا‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫السا َعة فت ٌَن كَق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظلمِ‪ُ ،‬ي ْصبِ ُح َّ‬
‫ُون َب ْي َن َيدَ ِي َّ‬
‫« َتك ُ‬

‫َو ُي ْم ِسي ُم ْؤ ِمنًا»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪34‬‬

‫السا َع ِة‬
‫ُون َب ْي َن َيدَ ِي َّ‬
‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث عن أنس بن مالك أن النبي ﷺ قال‪َ « :‬تك ُ‬

‫فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم»‪َ .‬و َصف – عليه الصالة والسالم – الفتن هبذه الصفة‪ « :‬ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم»‪،‬‬

‫أيضا وصف الفتن بأهنا فتن عمياء صماء‪ ،‬فإذا كانت الفتنة تأيت الشخص هبذه الصفة‪ :‬عمياء‪ ،‬صماء‪،‬‬
‫ويأيت ً‬

‫كقطع الليل المظلم؛ فإن اإلنسان إذا كان ف مثل هذا الوقت ‪ -‬الليل المظلم ‪ -‬ل تسبين له األمور‪ ،‬وتلتبس‬

‫عليه الطرق وتشتبه عليه‪ ،‬إل من كان معه نور اإليمان‪ ،‬وإل الليل المظلم دامس الظالم وشديد الظالم‪ ،‬ل‬

‫يستبين اإلنسان فيه طريقه إل إذا ا َّت َأ َد و َت َأ َّنى ومشى بضياء العلم ونوره‪ ،‬أما من يتعجل ويندفع‪ ،‬ول يستبين‬

‫َات َو ُأ ُم ٌ‬
‫ور‬ ‫الجادة‪ ،‬ويتسرع‪ ،‬فسرعان ما يهلك‪ .‬ولهذا جاء عن ابن مسعود ﭬ أنه قال‪« :‬إِن ََّها َس َتك ُ‬
‫ُون َهن ٌ‬

‫ك بِالت َُّؤ َد ِة»‪ ،‬ف ُيطلب من اإلنسان ف مثل هذه الحال أن يتأنى ويتبصر ويرتوى‪ ،‬ويسير ف نور‬ ‫ُم ْشبِ َه ٌ ‪,‬‬
‫ات َف َع َل ْي َ‬

‫من أمره وف ضياء العلم ونوره‪ ،‬وإل فإنه َي ِز ُّل؛ وكم من أناس وخلق هلكوا ف الفتن‪.‬‬

‫الر ُج ُل فِ َيها ُم ْؤ ِمنًا‪َ ،‬و ُي ْم ِسي كَافِ ًرا»‪ ،‬يعني ف‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫السا َعة فت ٌَن كَق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظلمِ‪ُ ،‬ي ْصبِ ُح َّ‬
‫ُون َب ْي َن َيدَ ِي َّ‬
‫قال‪َ « :‬تك ُ‬

‫أول الصباح من أهل اإليمان‪ ،‬وف آخر النهار – ف المساء – من أهل الكفر والطغيان – والعياذ باهلل‪.‬‬

‫« َو ُي ْصبِ ُح كَافِ ًرا‪َ ،‬و ُي ْم ِسي ُم ْؤ ِمنًا»‪ ،‬أي‪ :‬بسبب ما يرى من الفتن‪.‬‬

‫الحديث ف إسناده سعد – الرواي له عن أنس – وهو صدوق له أفراد‪ ،‬لكن له شاهد من حديث أبي هريرة‬

‫رواه مسلم‪ ،‬وله شاهد من حديث أبي موسى يأيت عند المصنف – رحمه اهلل تعالى‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫الس ْي َبانِي‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال ُح َذ ْي َف ُة‪« :‬إِنِّي‬ ‫ِ‬


‫يسى ْب ُن ُيون َُس‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْو َزاعي‪َ ،‬ع ْن َي ْح َيى ْب ِن َأبِي َع ْم ٍرو َّ‬
‫ِ‬
‫(‪َ )65‬حدَّ َثنَا ع َ‬
‫ان ك َََل ٌم َو ََل َع َم َل َوإِ ْن َقت ََل َوإِ ْن َزنَا‪،‬‬ ‫ون ْ ِ‬
‫اْليِ َم ُ‬ ‫َّار‪َ :‬أ ْه ُل ِد ٍ‬
‫ين َي ُقو ُل َ‬ ‫ك الدِّ ينَ ْي ِن فِي الن ِ‬
‫َلَ ْع َل ُم َأ ْه َل ِدينَ ْي ِن‪َ ،‬أ ْه ُل َذ ْين ِ َ‬
‫س ص َلو ٍ‬ ‫َو َأ ْه ُل ِد ٍ‬
‫ات ك َُّل َي ْومٍ‪َ ،‬وإِن ََّما ُه َما‬ ‫َان َأ َّو ُلونَا ‪ُ -‬أ َرا ُه َذك ََر كَلِ َم ًة َس َق َط ْت َعني ‪َ -‬لت َْأ ُم ُرنَا بِخَ ْم ِ َ َ‬ ‫ين َي ُقو ُل َ‬
‫ون‪ :‬ك َ‬
‫َان ص ََل ُة ا ْل ِع َش ِ‬
‫اء‪َ ،‬و َص ََل ُة ا ْل َف ْجرِ»‪.‬‬ ‫َص ََلت ِ َ‬

‫الشرح‪:‬‬
‫‪35‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪35‬‬
‫مرسل‪.‬‬
‫ثم أورد ‪ $‬هذا األثر عن الحذيفة بن اليمان ﭬ وهو لم يثبت‪ ،‬فيحيى بن أبي عمرو عن حذيفة َ‬

‫ون ْ ِ‬
‫اإليِ َم ُ‬
‫ان ك ََال ٌم َو َل َع َم َل‬ ‫َّار‪َ :‬أ ْه ُل ِد ٍ‬
‫ين َي ُقو ُل َ‬ ‫يقول حذيفة‪« :‬إِني َألَ ْع َل ُم َأ ْه َل ِدينَ ْي ِن‪َ ،‬أ ْه ُل َذ ْين ِ َك الدينَ ْي ِن فِي الن ِ‬

‫َوإِ ْن َقت ََل َوإِ ْن َزنَا»‪ ،‬أي أن األعمال ليست داخلة ف اإليمان‪ ،‬وكذلك المعاصي ليست مؤثرة ف اإليمان ل‬

‫ان ك ََال ٌم َو َل َع َم َل»‪ ،‬وهذا قول المرجئة‪َ « .‬و َأ ْه ُل ِد ٍ‬


‫ين‬ ‫تنقصه ول تضعفه؛ فاإليمان تام بدون األعمال‪ِ ْ « :‬‬
‫اإليِ َم ُ‬
‫س ص َلو ٍ‬
‫ات ك َُّل يومٍ‪ ،‬وإِنَّما ُهما ص َال َت ِ‬
‫ان‬ ‫َْ َ َ َ َ‬ ‫َان َأ َّو ُلونَا ‪ُ -‬أ َرا ُه َذك ََر كَلِ َم ًة َس َق َط ْت َعني ‪َ -‬ل َت ْأ ُم ُرنَا بِ َخ ْم ِ َ َ‬ ‫َي ُقو ُل َ‬
‫ون‪ :‬ك َ‬
‫ص َال ُة ا ْل ِع َش ِ‬
‫اء‪َ ،‬و َص َال ُة ا ْل َف ْج ِر»‪.‬‬ ‫َ‬

‫وعلى ٍّ‬
‫كل فاإلسناد منقطع ولم يثبت‪ .‬وذم المرجئة ف إخراجهم العمل من مسمى اإليمان فيه نقول كثيرة‬

‫عن أئمة السلف – رحمهم اهلل‪ ،‬وعقيدهتم يدل على بطالهنا كتاب اهلل – عز وجل – وسنة نبيه – صلوات‬

‫اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫وبمناسبة ما جاء ف هذا األثر قوله ف آخره‪« :‬وإِنَّما ُهما ص َال َت ِ‬


‫ان»‪ُ ،‬ذكر لي عن جماعة ف دولة أجنبية وصفوا‬ ‫َ َ َ َ‬
‫أنفسهم بأهنم بعيدون عن ال َّت َزم ِ‬
‫ت والتشدد ‪ -‬هكذا يصفون أنفسهم‪ :‬بعيدين عن التزمت والتشدد ‪-‬‬ ‫ُّ‬
‫ويقولون إهنم مسلمون وأن اإلسالم دين يسر ل تزمت فيه ول تشدد‪ ،‬ولهم أعمال مبنية على البعد المزعوم‬

‫نتزمت فنصلي خمس صلوات ف اليوم‬


‫ُ‬ ‫عن التزمت والتشدد‪ ،‬ومن ذلكم ‪ -‬كما نُقل لي ‪ -‬قالوا‪ :‬نحن ل ل‬

‫والليلة‪ ،‬بل نصلي ف األسبوع مرتين! ل ن َُشدد ول نتزمت‪ ،‬بل نصلي ف األسبوع مرتين! وهذه الطريقة‬
‫بدأت اآلن تظهر بشكل ٍ‬
‫مزر جدً ا‪ ،‬وأصبح كل من أراد أن يتفلت من شيء من أمور الدين ولزمات الدين‬

‫وواجباته يقول‪ :‬الدين يسر‪ ،‬ويرمي من يعارضه فيما ل يعمل به من أمور الدين بالتزمت والتشدد؛ وقد قال‬

‫ك ا ْل ُم َتنَ ِّط ُع َ‬
‫ون»‪ .‬قال أهل العلم‪« :‬المتنطعون» المتشددون ف غير موضع‬ ‫– عليه الصالة والسالم‪َ « :‬ه َل َ‬

‫الشدة‪ ،‬أما الذي يتمسك بدينه ويحافظ على شرع اهلل‪ ،‬ويلتزم واجبات اهلل وأوامر اهلل‪ ،‬وينتهي عما هنى اهلل‬

‫– تبارك وتعالى – عنه‪ ،‬فهذا ملتزم بشرع اهلل‪ ،‬منقاد لحكم اهلل – سبحانه وتعالى –‪ ،‬عامل بسماحة الدين‬

‫ار ُبوا‪َ ،‬و َأ ْب ِش ُروا»‪ ،‬قال‪َ « :‬ف َسدِّ ُدوا»‪،‬‬


‫ين َأ َحدٌ إِ ََّل َغ َل َب ُه‪َ ،‬ف َسدِّ ُدوا َو َق ِ‬ ‫ويسره؛ «إِ َّن الدِّ َ‬
‫ين ُي ْس ٌر‪َ ،‬و َل ْن ُي َشا َّد الدِّ َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪36‬‬

‫والسداد إصابة السنة‪ ،‬ل التفلت وترك العمل بما جاء به الرسول – عليه الصالة والسالم! فلما ذكر – عليه‬
‫الصالة والسالم – أن الدين يسر‪ ،‬قال‪َ « :‬ف َسدِّ ُدوا َو َق ِ‬
‫ار ُبوا» والسداد هو إصابة السنة‪ ،‬والمقاربة أن يجاهد‬

‫نفسه إن لم يصب السداد يكون قري ًبا منه‪ .‬أما أن يتفلت اإلنسان من الشريعة ومن أوامر الدين‪ ،‬ويغشى‬

‫المحرمات‪ ،‬ويزعم أن هذا ُب ْعدٌ عن التشدد وأن هذا عم ٌل بتيسير الدين فهذه مغالطة واضحة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫(‪َ )66‬حدَّ َثنَا َأ ُبو َخال ِ ٍد ْاألَ ْح َم ُر‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َع ْج َال َن‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن ِدين ٍ‬
‫َار‪َ ،‬ع ْن َأبِي َصالِحٍ ‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬ق َال‪:‬‬

‫ون َأ ْو َأ َحدُ ا ْل َعدَ َد ْي ِن‪َ ،‬أ ْع ََل َها َش َها َد ُة َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ‪َ ،‬و َأ ْدن َ‬
‫َاها إِ َما َط ُة‬ ‫ان ِست َ‬
‫ُّون َأ ْو َس ْب ُع َ‬ ‫يم ُ‬ ‫ول اهللِ ﷺ‪ِ ْ « :‬‬
‫اْل َ‬ ‫َق َال َر ُس ُ‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫يق‪َ ،‬وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫ْالَ َذى َع ِن ال َّطرِ ِ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى – هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي هريرة ﭬ عن النبي ﷺ‪ ،‬وهو متفق عليه‪ ،‬خرجه‬

‫البخاري ومسلم ف صحيحيهما‪ ،‬وهو عند المصنف – رحمه اهلل تعالى – ف مصنَّفه وفيه زيادة «بضعة»‪:‬‬

‫ون َأ ْو بِ ْض َع ٌة َأ ْو َأ َحدُ ا ْل َعدَ َد ْي ِن‪َ ،‬أ ْع ََل َها َش َها َد ُة َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ‪َ ،‬و َأ ْدن َ‬
‫َاها إِ َما َط ُة ْالَ َذى‬ ‫ان ِست َ‬
‫ُّون َأ ْو َس ْب ُع َ‬ ‫يم ُ‬ ‫«ِْ‬
‫اْل َ‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫يق‪َ ،‬وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫َع ِن ال َّطرِ ِ‬

‫عرف عند أهل العلم بـ(حديث شعب اإليمان)‪ ،‬ومن أهل العلم من‬
‫وهذا الحديث حديث عظيم جامع‪ُ ،‬ي َ‬
‫أفرده بمصنَّف خاص؛ واإلمام البيهقي ‪ $‬له كتاب أسماه «شعب اإليمان» ُطبع ف تسع مجلدات أو أكثر‬

‫وأيضا جماعة من أهل العلم قبله اعتنوا هبذا الحديث عناية دقيقة وأفردوه‬
‫ً‬ ‫كلها شرح لهذا الحديث‪،‬‬

‫بالتصنيف‪.‬‬

‫ان بِ ْض ٌع‬
‫يم ُ‬ ‫وقد جمع النبي – عليه الصالة والسالم – بيان حقيقة اإليمان ف هذا الحديث العظيم‪ ،‬قال‪ِ ْ « :‬‬
‫اْل َ‬
‫َاها إِ َما َط ُة ْالَ َذى َع ِن ال َّطرِ ِ‬
‫يق‪َ ،‬وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة‬ ‫ون َأ ْو بِ ْض ٌع َو ِست َ‬
‫ُّون ُش ْع َبةً‪َ ،‬ف َأ ْف َض ُل َها َق ْو ُل ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ‪َ ،‬و َأ ْدن َ‬ ‫َو َس ْب ُع َ‬
‫‪37‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪37‬‬ ‫يم ِ‬
‫ان»‪ .‬فأخرب – عليه الصالة والسالم – أن اإليمان منه ما يكون ف القلب‪ ،‬ومنه ما يكون باللسان‪،‬‬ ‫ِم َن ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫وأيضا جمع‬
‫ً‬ ‫ومنه ما يكون على الجوارح؛ فاإليمان‪ :‬قول واعتقاد وعمل‪ ،‬والحديث جمع هذا كله‪.‬‬

‫الحديث التفاوت بين خصال اإليمان‪ ،‬وأن خصال اإليمان ليست على درجة واحدة بل لها أعلى ولها‬

‫أدنى‪ ،‬وأن أعلى خصال اإليمان وأرفعها قول‪ََ « :‬ل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ»‪ ،‬فهي أعلى شعب اإليمان كما أهنا أعظم‬

‫مباين اإلسالم‪َ « ،‬و َأ ْدن َ‬


‫َاها» ‪ -‬أي‪ :‬شعب اإليمان ‪« -‬إِ َما َط ُة ْالَ َذى َع ِن ال َّطرِ ِ‬
‫يق»‪ .‬ومن المعلوم أن إماطة األذى‬

‫عن الطريق عمل يقوم به العبد بجوارحه‪ ..‬بيده يحمل األذى ويميطه عن الطريق‪ .‬وسمى النبي – عليه‬

‫الصالة والسالم – هذا العمل إيما ًنا و َعدَّ ُه ﷺ من جملة أعمال اإليمان؛ فاإليمان‪ :‬قول واعتقاد وعمل‪،‬‬

‫وكلما زاد العبد من شعب اإليمان زاد إيمانه‪ ،‬وكلما نقص نقص إيمانه‪.‬‬

‫وشعب اإليمان من حيث تأثيرها على اإليمان تنقسم إلى ثالثة أقسام‪ :‬قسم يذهب اإليمان كله بذهابه ومن‬

‫ذلكم النطق بالشهادتين‪ ،‬وقسم يذهب كمال اإليمان الواجب بذهابه وذلك إذا فعل محر ًما أو ترك واج ًبا‬

‫من واجبات الدين ل يبلغ به حد الكفر باهلل‪ ،‬وقسم ثالث يذهب بذهابه كمال اإليمان المستحب‪ .‬فأعمال‬

‫أيضا ترك الصالة ‪ -‬كما سبق بيان ذلك‪،‬‬


‫اإليمان على ثالثة أقسام‪ :‬قسم يذهب اإليمان بذهابه ومن ذلكم ً‬

‫وقسم يذهب كمال اإليمان الواجب بذهابه عندما يفعل كبيرة أو يرتك واج ًبا من واجبات الدين‪ ،‬وقسم‬

‫يذهب كمال اإليمان المستحب؛ ألن الكمال كمالن‪ :‬كمال واجب وكمال مستحب‪ .‬فأعمال الدين تنقسم‬

‫أيضا من الحديث‪ ،‬قال‪:‬‬


‫إلى هذه األقسام الثالثة من حيث تأثيرها على اإليمان‪ ،‬وهذا مستفاد ً‬

‫مستوى واحد‪ ،‬بل لها أعلى ولها أدنى‪،‬‬


‫ً‬ ‫« َأ ْع ََل َها‪َ ...‬و َأ ْدن َ‬
‫َاها‪ ،»...‬فليست هي ف تأثيرها على اإليمان على‬

‫وبينهما خصال منها ما هو قريب إلى األعلى‪ ،‬ومنها ما هو قريب إلى األدنى‪.‬‬

‫ون َأ ْو َأ َحدُ ا ْل َعدَ َد ْي ِن‪َ ،‬أ ْع ََل َها َش َها َد ُة َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ‪َ ،‬و َأ ْدن َ‬
‫َاها إِ َما َط ُة ْالَ َذى َع ِن‬ ‫ان ِست َ‬
‫ُّون َأ ْو َس ْب ُع َ‬ ‫يم ُ‬ ‫قال‪ِ ْ « :‬‬
‫اْل َ‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪ .‬والحياء – كما سبق أن مر معنا – خصلة مكاهنا القلب تبعث المتحلي‬ ‫يق‪َ ،‬وا ْل َح َيا ُء ُش ْع َب ٌة ِم َن ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫ال َّطرِ ِ‬

‫هبا إلى فعل الجميل والبعد عن القبيح‪ ،‬وقد عد النبي ﷺ الحياء من اإليمان‪ .‬وهذا يفيد أن اإليمان تدخل‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪38‬‬

‫فيه أعمال القلوب ومنها الحياء‪ ،‬وتدخل فيه أعمال الجوارح ومنها إماطة األذى عن الطريق‪ ،‬وتدخل فيه‬

‫أيضا أقوال اللسان‪ ،‬وأعلى اإليمان قول‪ :‬ل إله إل اهلل‪.‬‬


‫ً‬

‫جاء ف بعض النُّ َسخ «عن أبي صالح» وهو خطأ‪ ،‬والصواب‪« :‬عن أبي صالح» ‪ -‬وهو ذكوان السمان «عن‬

‫أبي هريرة»‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫ول اهللِ ﷺ‪« :‬ا ْل َح َيا ُء ِم َن ْ ِ‬
‫اْل َ‬
‫الز ْه ِري‪َ ،‬عن سال ِ ٍم‪َ ،‬عن َأبِ ِ‬
‫يه‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫(‪َ )67‬حدَّ َثنَا ا ْب ُن ُع َي ْينَةَ‪َ ،‬ع ِن ُّ‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد المصنف ‪ $‬هذا الحديث‪ ،‬حديث عبد اهلل بن عمر‪ ،‬عن النبي – ﷺ أنه قال‪« :‬ا ْل َح َيا ُء ِم َن‬

‫ب َأ َخا ُه فِي‬ ‫ِ‬ ‫يم ِ‬


‫ان»‪ .‬الحديث ف الصحيحين‪ ،‬ولفظه عند البخاري‪َ « :‬م َّر النَّبِ ُّي ﷺ َع َلى َر ُجلٍ‪َ ،‬و ُه َو ُي َعات ُ‬ ‫ِْ‬
‫اْل َ‬
‫ول اهللِ‬ ‫ول‪ :‬إِن ََّك َلت َْست َْحيِي‪َ ،‬حتَّى َك َأ َّن ُه َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬قدْ َأ َض َّر بِ َك» ‪ -‬قد أضر بك‪ ،‬أي‪ :‬الحياء ‪َ « -‬ف َق َال َر ُس ُ‬ ‫الحي ِ‬
‫اء‪َ ،‬ي ُق ُ‬ ‫ََ‬
‫يم ِ‬
‫ان» له قصة‪ ،‬وهي أن‬ ‫ان»‪ .‬فقوله – عليه الصالة والسالم‪« :‬ا ْل َح َيا ُء ِم َن ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫يم ِ‬ ‫الح َيا َء ِم َن ِ‬
‫اْل َ‬ ‫ﷺ‪َ :‬د ْع ُه‪َ ،‬فإِ َّن َ‬

‫النبي – عليه الصالة والسالم – مر على رجل يعظ أخاه ف الحياء‪ ..‬يعاتبه ف الحياء‪ ..‬يقول له‪ :‬ل تستحِ !‬

‫أيضا عن نبينا – عليه الصالة والسالم –‬


‫فقال له النبي – عليه الصالة والسالم‪َ « :‬د ْع ُه»؛ ألن الحياء كما جاء ً‬

‫خير كله‪ ،‬ول يأيت إل بخير‪.‬‬

‫إذا كان اإلنسان يستحي‪ ،‬أو الولد الصغير يستحي‪ ،‬ل ُينهى عن الحياء؛ مع أنه ف بعض المجالس ُيقال‬

‫للصغير‪« :‬ل تستحِ »‪ ،‬و ُيعاتب ف الحياء‪« :‬لماذا تستحي؟» وربما قيلت له نفس الكلمة‪« :‬الحياء أضرك!‬

‫كثيرا على الحياء‪ ،‬مع أن الحياء خير كله!‬


‫ماذا استفدت من هذا الحياء؟» ونحو ذلك‪ ..‬يعاتبون الصغار ً‬

‫بينما إذا نشأ الطفل الصغير – والعياذ باهلل – ل حياء عنده يؤذي والديه‪ ،‬ويؤذي جيرانه‪ ،‬أما إذا نشأ ذا حياء‬

‫فهو على خير عظيم‪.‬‬


‫‪39‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪39‬‬
‫والحياء خصلة عظيمة من خصال الدين؛ واألنبياء جمي ًعا كانوا يدعون أقوامهم إلى الحياء وف الحديث‪:‬‬

‫َّاس ِم ْن َكَلَ ِم النُّ ُب َّو ِة‪ ،‬إِ َذا َل ْم ت َْست َْح ِي َفا ْف َع ْل َما ِشئ َ‬
‫ْت»‪ .‬والعبد إذا أكرمه اهلل – سبحانه وتعالى‬ ‫ِ‬
‫«إِ َّن م َّما َأ ْد َر َك الن ُ‬

‫– ووفقه وهداه لهذه الخصلة العظيمة – الحياء – فإن الخير بإذن اهلل – سبحانه وتعالى – من مثله ُيرجى‪،‬‬

‫وأيضا ل ُتخشى منه بائقة؛ ألن الحياء يحجز ويمنع اإلنسان من أن يسيء إلى اآلخرين‪ ،‬بل يدفعه إلى‬
‫ً‬

‫اإلحسان إلى اآلخرين‪ ،‬فهو خلق يبعث صاحبه للتحلي باألخالق الفاضلة والمعامالت الطيبة والبعد عن‬

‫السيء من القول أو السيء من الفعل‪ .‬وقد جاء عن النبي ﷺ أحاديث كثيرة ف بيان مكانة الحياء وفضله‪،‬‬

‫وأنه من اإليمان‪ ،‬وأنه ل يأيت إل بخير‪.‬‬

‫ومر معنا اإلشارة إلى أن أعظم الحياء‪ :‬الحياء من رب العالمين؛ وقد صح ف الحديث أن النبي – عليه‬

‫الح ْمدُ ل ِ َّل ِه‪،‬‬ ‫اء‪َ .‬ق َال‪ُ :‬ق ْلنَا‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫الصالة والسالم – قال‪« :‬استَحيوا ِمن اَّلل ِ ح َّق الحي ِ‬
‫ول اهلل إِنَّا ن َْست َْحيِي َو َ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ُ‬
‫الر ْأ َس َو َما َو َعى‪َ ،‬وال َب ْط َن َو َما َح َوى‪َ ،‬و ْلت َْذ ُكرِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫الح َياء َأ ْن ت َْح َف َظ َّ‬ ‫َق َال‪َ :‬ل ْي َس َذ َ‬
‫اك‪َ ،‬و َلك َّن اَل ْست ْح َيا َء م َن اَّلل َح َّق َ‬
‫ك َف َقدْ استَحيا ِمن اَّلل ِ ح َّق الحي ِ‬
‫اء»‪ .‬وهذا فيه‬ ‫اآلخ َر َة ت ََر َك ِزينَ َة الدُّ ْن َيا‪َ ،‬ف َم ْن َف َع َل َذلِ َ‬
‫المو َت والبِ َلى‪ ،‬ومن َأراد ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ َ َ‬ ‫ََ ْ َ َ‬ ‫َْ َ‬

‫أن الحياء يقتضي من صاحبه أن يحفظ رأسه وما حواه الرأس من السمع والبصر واللسان‪ ،‬وكذلك أن‬

‫أيضا حفظ‬
‫وأيضا حفظ البطن من أن يدخل فيه الحرام‪ ،‬ويشمل ً‬
‫يحفظ البطن وهذا يشمل حفظ القلب ً‬

‫الفرج ‪ -‬هذا كله داخل ف الحياء‪ .‬إذا كان اإلنسان منزوع الحياء فإنه ل يبالي ل فيما يكون منه ف بصره‪،‬‬

‫الحيِ ُّي‬
‫أيضا ما يكون منه ف جوارحه األخرى‪ ،‬أما َ‬
‫ول ما يكون منه ف سمعه‪ ،‬ول ما يكون منه ف يده‪ ،‬ول ً‬

‫فحياؤه بإذن اهلل – سبحانه وتعالى – يسوقه إلى الخيرات ويحجزه عن الرذائل والمنكرات‪.‬‬

‫ونسأل اهلل الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يصلح شأننا أجمعين‪ ،‬وأن يهدينا‬

‫مستقيما‪ .‬اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا‪ ،‬وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا‪،‬‬
‫ً‬ ‫إليه صرا ًطا‬

‫وأصلح لنا اآلخرة التي فيها معادنا‪ ،‬واجعل الحياة زيادة لنا ف كل خير‪ ،‬والموت راحة لنا من كل شر‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪40‬‬

‫اللهم أعنا ول تعن علينا‪ ،‬وانصرنا ول تنصر علينا‪ ،‬وامكر لنا ول تمكر علينا‪ ،‬واهدنا ويسر الهدى لنا‪،‬‬

‫وانصرنا على من بغى علينا ‪.‬‬

‫اللهم اجعلنا لك شاكرين‪ ،‬لك ذاكرين‪ ،‬إليك أواهين منيبين‪ ،‬لك مخبتين‪ ،‬لك مطيعين‪ .‬اللهم تقبل توبتنا‪،‬‬

‫واغسل حوبتنا‪ ،‬وثبت حجتنا‪ ،‬واهد قلوبنا‪ ،‬وسدد ألسنتنا‪ ،‬واسلل سخيمة صدورنا‪ .‬اللهم وأصلح ذات‬

‫بيننا‪ ،‬وألف بين قلوبنا‪ ،‬واهدنا سبل السالم‪ ،‬وأخرجنا من الظلمات إلى النور‪ ،‬وبارك لنا ف أسماعنا‬

‫وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا‪ ،‬واجعلنا مباركين أينما كنا‪ .‬اللهم اغفر لنا ولوالدينا‬

‫ولمشايخنا‪ ،‬وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات‪.‬‬

‫وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد‪،‬‬

‫وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬


‫‪41‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪41‬‬
‫الدرس السابع‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقول اْلمام الحافظ أبو بكر‪ ،‬عبد اَّلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اَّلل تعالى‪ ،‬يف كتابه «اْليمان»‪:‬‬

‫يع‪ ،‬نا ْاألَ ْع َم ُش‪َ ،‬ع ْن َس َل َم َة ْب ِن ك َُه ْيلٍ‪َ ،‬ع ْن َح َّب َة ا ْل ُع َرنِي‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬كنَّا َم َع َس ْل َما َن َو َقدْ َصا َف ْفنَا‬ ‫ِ‬
‫(‪َ )68‬حدَّ َثنَا َوك ٌ‬

‫ين بِدَ ْع َو ِة‬ ‫ِِ‬ ‫ون‪َ ،‬و َه ُؤ ََل ِء ا ْل ُم ْشرِك َ‬


‫ُون‪َ ،‬ف َين ُْص ُر اَّللَ ا ْل ُمنَافق َ‬ ‫ُون‪َ ،‬و َه ُؤ ََل ِء ا ْل ُمنَافِ ُق َ‬
‫ا ْل َعدُ َّو َف َق َال‪َ « :‬ه ُؤ ََل ِء ا ْل ُم ْؤ ِمن َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬
‫ين بِ ُق َّوة ا ْل ُمنَافق َ‬
‫ين»‪.‬‬ ‫ين‪َ ،‬و ُي َؤ ِّيدُ اَّللُ ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمن َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فهذا األثر الذي رواه المام بن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬عن سلمان الفارسي ﭬ يتعلق بمسألة سبق‬
‫ِ‬
‫ومنهجهم ف تقريرها‪ :‬أل وهي مسألة الستثناء ف اإليمان‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عقيدة أهل السنة والجماعة فيها‪،‬‬ ‫كر‬ ‫ِ‬
‫بيا ُنها وذ ُ‬
‫وعرفنا فيما سبق أن اإليمان قد يطلق ويراد به كماله وتمامه‪ ،‬وقد يطلق ويراد به أصله؛ فتارة يطلق ويراد‬

‫به اإليمان المطلق‪ ،‬وتارة يطلق ويراد به مطلق اإليمان‪ .‬فإذا أريد األول فإن الستثناء ل بد منه؛ ألن العبد‬

‫يضا عن أعماله أهي متقبلة أم ل؟ فال يزكي نفسه‬


‫تقصيرا ف األعمال والطاعات‪ ،‬ول يدري أ ً‬
‫ً‬ ‫يعلم من نفسه‬

‫هبذه الكلمة‪ ،‬وقد قال اهلل – تعالى‪ :‬ﭿﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﭾ [النجم‪ .]3٢ :‬ولهذا مضت السنة لدى‬

‫السلف ‪-‬رحمهم اهلل تعالى‪ -‬بأن يستثنوا ف اإليمان‪ ،‬فيقول القائل منهم‪« :‬أنا مؤمن أرجو»‪ ،‬أو «أنا مؤمن‬

‫إن شاء اهلل»‪ ،‬أو «آمنت باهلل ومالئكته» و نحو ذلك من الصيغ التي مر معنا إشارة إلى بعضها‪ .‬وإذا أريد‬

‫نفسه أنه من أهل هذا الدين‪ ،‬وأنه ممن‬


‫باإليمان أصل اإليمان فهذا ليس فيه استثناء؛ بمعنى أن العبد يعلم َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪42‬‬

‫ارتضى اإليمان دينًا فدخل فيه‪ ،‬فأصل اإليمان إذا ُق ِصدَ هذا ل استثناء فيه‪ .‬وهذا األثر المروي عن سلمان‬

‫حمل على هذا ‪ -‬إن صح عنه ‪ -‬وله نظائر سبق أن مر معنا بعضها‪.‬‬
‫ُي َ‬

‫وهذا األثر يرويه َح َّب ُة بن ُج َوين ال ُع َرنِ ُّي‪ ،‬وهو صدوق له أغالط‪ ،‬يقول‪ُ « :‬كنَّا َم َع َس ْل َما َن َو َقدْ َصا َف ْفنَا ا ْل َعدُ َّو‬

‫اهلل ا ْل ُمنَافِ ِقي َن بِدَ ْع َو ِة ا ْل ُم ْؤمِنِي َن‪،‬‬ ‫ون‪َ ،‬و َه ُؤ َل ِء ا ْل ُم ْش ِرك َ‬


‫ُون‪َ ،‬ف َين ُْص ُر َ‬ ‫ُون‪َ ،‬و َه ُؤ َل ِء ا ْل ُمنَافِ ُق َ‬
‫َف َق َال‪َ :‬ه ُؤ َل ِء ا ْل ُم ْؤمِن َ‬

‫اهلل ا ْل ُم ْؤمِن ِي َن بِ ُق َّو ِة ا ْل ُمنَافِ ِقي َن»‪ .‬إذا كان المراد باإلشارة هنا من حيث اإلجمال ‪ -‬ل أهنا إشارة إلى‬
‫َو ُي َؤيدُ ُ‬
‫ُم َع َّين ِين ‪ -‬فال إشكال؛ أما إذا كانت اإلشارة إلى معينين‪ ،‬فسيأيت معنا ف األثر عن بكر بن عبد اهلل المزين أنه‬

‫يضا يستطيع أن يجزم لمن عرف منه فسق وانحراف‬ ‫ل يستطيع أن يجزم لمن ُع ِر َ‬
‫ف بالصالح باإليمان‪ ،‬ول أ ً‬

‫بالنفاق‪ ،‬لكننا نرجو لمحسننا ونخشى على مسيئنا‪ .‬أما إذا كان هذا من حيث اإلطالق دون التعيين‪ ،‬فالناس‬

‫بعد ظهور اإليمان أصبحوا أقسا ًما ثالثة‪ :‬مؤمن‪ ،‬ومنافق‪ ،‬وكافر مشرك؛ فإذا كانت اإلشارة هنا إلى العموم‬

‫يضا؛ مثل ما‬


‫‪ -‬على وجه اإلطالق ‪ -‬فال إشكال‪ ،‬وإطالق الوصف بالمؤمنين هبذه الصفة ل إشكال فيه أ ً‬

‫الناس ف الخطب العامة والمواعظ‪« :‬يا أيها الذين آمنوا» و«أيها المؤمنون» ‪ -‬هذا ل تزكية فيه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يخا َطب‬

‫حمل على أن المراد به أصل اإليمان‪ ،‬وأنه من باب‬


‫داخال ف النهي‪ .‬فهذا األثر ‪ -‬إن صح ‪ُ -‬ي َ‬
‫ً‬ ‫وليس‬

‫اإلطالق العام‪ .‬واإلسناد فيه حبة بن جوين العرين‪ ،‬وهو صدوق له أغالط‪.‬‬

‫اهلل ا ْل ُمنَافِ ِقي َن بِدَ ْع َو ِة ا ْل ُم ْؤمِنِي َن»‪ ،‬يظهر ‪ -‬واهلل تعالى أعلم ‪ -‬أن هذا األثر ‪ -‬إن صح ‪ -‬المراد‬
‫قوله‪َ « :‬ف َين ُْص ُر َ‬
‫به ِع َظ ُم أثر دعاء المؤمنين ف النصر‪..‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية‪ :‬أن اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬قد يؤيد‬

‫الدين بالرجل الفاجر‪ ،‬ل يلزم من كون الشخص ُيبلِي بال ًء حسنًا ف مجاهبة األعداء أن يكون مؤمنًا كامل‬

‫عظيما ف قتال‬
‫ً‬ ‫رجال أبلى بال ًء‬ ‫اإليمان‪ .‬وف حياة النبي ﷺ ذكر النبي للصحابة ً‬
‫مثال من ذلك‪ ،‬لما ذكروا له ً‬
‫العدو‪ ،‬فقال النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ -‬عنه‪َ « :‬ه َذا ِم ْن َأ ْه ِل الن ِ‬
‫َّار»‪ .‬فكون الشخص أبلى ف القتال‬

‫والنكاية ف العدو ليس كاف ًيا وحده بالشهادة له باإليمان‪ ،‬أو الجزم له بالشهادة ف سبيل اهلل‪ .‬ولهذا جاء ف‬

‫جزم ألن الشهادة إنما تكون ف حق من قتل‬


‫اآلثار النهي من أن يقال‪« :‬فالن شهيد»؛ ألن هذه تزكية‪ ،‬ول ُي َ‬
‫‪43‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫ف سبيل اهلل‪ ،‬و«ف سبيل اهلل» هذه ف قلب المقاتِل ل يدري هبا اإلنسان‪ .‬ففي مثل هذا المقام يقال‪« :‬نحسبه‬
‫‪43‬‬

‫من الشهداء» أو «نرجو أن يكون من الشهداء» أو «نظنه من الشهداء»‪ ،‬دون الجزم بذلك‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ان ل ِ َر ُجلٍ‪َ « :‬ل ْو‬ ‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬


‫اق‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُق َّرةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َس ْل َم ُ‬ ‫ان‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬
‫(‪َ )69‬حدَّ َثنَا َع ْبدَ ُة ْب ُن ُس َل ْي َم َ‬

‫ان» َأ ْو ك ََما َق َال‪.‬‬


‫يم َ‬ ‫ْت ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫ت َأ ْع َضا ًء َما َب َلغ َ‬
‫ُق ِّط ْع َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر عن سلمان‪ ،‬وفيه توضيح لما سبق ف األثر الذي قبله على الكالم‬

‫يضا يمكن‬
‫بلغت اإليمان» ‪ -‬وأ ً‬
‫ُ‬ ‫قطعت أعضاء ما‬
‫ُ‬ ‫الذي مر ف إسناده‪ .‬فقوله عن سلمان أنه قال لرجل‪« :‬لو‬

‫بلغت اإليمان» ‪ -‬المراد بقوله‪َ « :‬ل ْو ُقط ْع ُت َأ ْع َضا ًء» أي‪ :‬ف سبيل‬
‫َ‬ ‫قطعت أعضاء ما‬
‫َ‬ ‫أن تكون العبارة‪« :‬لو‬

‫يم َ‬
‫ان» يعني ل أجزم لنفسي بذلك أين بلغت اإليمان‪.‬‬ ‫عت أعضاء «ما َب َل ْغ ُت ْ ِ‬
‫مقاتال حتى ُقط ُ‬
‫اإل َ‬ ‫ً َ‬ ‫ً‬ ‫اهلل مجاهدً ا‬

‫وهذا فيه أن العبد مهما اجتهد ف األعمال الصالحات والطاعات الزاكيات ل يزكي نفسه‪ ،‬ول يجزم لنفسه‬

‫بأنه مؤمن هكذا على اإلطالق دون أن يستثني؛ ألن «مؤمن» تشمل الدين كله‪ ،‬ولهذا قال ﭬ‪َ « :‬ل ْو ُقط ْع ُت‬

‫يم َ‬
‫ان» ل أجزم لنفسي بأين قد بلغت اإليمان أو تممت‬ ‫َأ ْع َضاء» أي‪ :‬مجاهدً ا ف سبيل اهلل «ما َب َل ْغ ُت ْ ِ‬
‫اإل َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ُون‪َ ،‬و َه ُؤ َل ِء ا ْل ُمنَافِ ُق َ‬
‫ون‪ ،»...‬قوله‪:‬‬ ‫اإليمان أو كملته‪ .‬وهذا يوضح لنا األثر السابق ف قوله‪َ « :‬ه ُؤ َل ِء ا ْل ُم ْؤمِن َ‬

‫« َه ُؤ َل ِء ا ْل ُم ْؤمِن َ‬
‫ُون» المراد أصل اإليمان ل تمامه‪ ،‬وعندما تحدث عن تمام اإليمان قال هنا‪َ « :‬ل ْو ُقط ْع ُت‬
‫ِ‬
‫َأ ْع َضا ًء َما َب َل ْغ ُت ْاإل َ‬
‫يم َ‬
‫ان»‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ج ِد َف َقا ُلوا‪َ :‬ت ْش َهدُ‬


‫ب‪َ ،‬ع ْن َب ْك ٍر َق َال‪َ « :‬ل ْو سئِ ْل ُت َع ْن َأ ْف َض َل َأ ْه ِل ا ْلمس ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫(‪َ )70‬حدَّ َثنَا َح َّما ُد ْب ُن َم ْع ِقلٍ‪َ ،‬ع ْن َغال ِ ٍ‬

‫ت َأ َّن ُه فِي ا ْل َجن َِّة‪َ ،‬و َل ْو ُسئِ ْل ُت َع ْن‬


‫ت َل َش ِهدْ ُ‬ ‫ان ب ِريء مِ َن الن َف ِ‬
‫اق؟ َل ْم َأ ْش َهدْ ‪َ ،‬و َل ْو َش ِهدْ ُ‬ ‫يم َ ٌ‬
‫اإل ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َأ َّن ُه ُم ْؤم ٌن ُم ْس َت ْكم ُل ْ َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪44‬‬
‫ِ ِ‬
‫اإليم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َشر ‪َ -‬أو َأ ْخب ِ‬
‫ان؟‬ ‫الش ُّك م ْن َأبِي ا ْل َع َالء ‪َ -‬ر ُج ٍل َف َقا ُلوا‪َ :‬ت ْش َهدُ َأ َّن ُه ُمنَاف ٌق ُم ْس َت ْكم ُل الن َفاق َب ِري ٌء م َن ْ َ‬
‫ث‪َّ ،‬‬ ‫ْ َ‬
‫ت َأ َّن ُه فِي الن ِ‬
‫َّار»‪.‬‬ ‫ت َل َش ِهدْ ُ‬
‫َل ْم َأ ْش َهدْ ‪َ ،‬و َل ْو َش ِهدْ ُ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الم َزنِي ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬وهو أثر عظيم‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر عن بكر وهو ابن عبد اهلل ُ‬
‫جدً ا ف بيان هذه المسألة العظيمة‪ ،‬وهي البعد عن التزكية ‪ -‬تزكية النفس أو تزكية اآلخرين ‪ -‬باإليمان‪،‬‬

‫يضا عدم الجزم ألحد ما بعينه لخطأ ما أو لمخالفة بأنه منافق هكذا جز ًما‪ ،‬وإنما نرجو لمحسننا ونخشى‬
‫وأ ً‬

‫على مسيئنا‪ ،‬نرجو لمحسننا ونخشى أو نخاف على المسيء منا‪.‬‬

‫ج ِد»‬
‫ج ِد»‪ .‬قبل الدخول ف الموضوع‪ ،‬كلمة « َأ ْه ِل ا ْلمس ِ‬
‫َ ْ‬
‫قال بكر بن عبد اهلل‪َ « :‬ل ْو سئِ ْل ُت َع ْن َأ ْف َض َل َأ ْه ِل ا ْلمس ِ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫هذه لها مدلولها؛ ألن األفضلية تعرف ف المساجد‪ ،‬أما من ليسوا من أهل المساجد هؤلء ليسوا من أهل‬

‫معذورا‪ ،‬أما غير المعذور إذا كان ل يشهد الصالة مع الجماعة فهو‬
‫ً‬ ‫األفضلية ف شيء إل إن كان اإلنسان‬

‫على خطر عظيم‪ ،‬بل إن الصحابة ﭫ كانوا كما ف «صحيح مسلم» عن عبد اهلل بن مسعود قال‪َ « :‬و َل َقدْ‬
‫ف َعن َْها إِ ََّل ُمنَافِ ٌق َم ْع ُلو ُم النِّ َف ِ‬
‫اق»‪ُ ،‬يخشى أن يكون من المنافقين؛ ألن النبي ‪ -‬عليه الصالة‬ ‫َر َأ ْي ُتنَا َو َما َيتَخَ َّل ُ‬
‫ون َما فِ ِ‬
‫يه َما َلَت َْو ُه َما‬ ‫والسالم – قال‪« :‬إِ َّن َأ ْث َق َل ص ََل ٍة ع َلى ا ْلمنَافِ ِقين ص ََل ُة ا ْل ِع َش ِ‬
‫اء‪َ ،‬و َص ََل ُة ا ْل َف ْجرِ‪َ ،‬و َل ْو َي ْع َل ُم َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫َو َل ْو َح ْب ًوا»‪.‬‬

‫ان ب ِريء مِ َن الن َف ِ‬


‫اإل ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اق؟ َل ْم‬ ‫يم َ ٌ‬ ‫قال‪َ « :‬ل ْو ُسئ ْل ُت َع ْن َأ ْف َض َل َأ ْه ِل ا ْل َم ْسجد َف َقا ُلوا‪َ :‬ت ْش َهدُ َأ َّن ُه ُم ْؤم ٌن ُم ْس َت ْكم ُل ْ َ‬
‫َأ ْش َهدْ »؛ ألن مثل هذا الجزم ل يمكن‪ ،‬ألن «مؤمن كامل اإليمان» ل يكفي فيها ما ُيرى عليه اإلنسان ف‬

‫ظاهره من صالح‪ ،‬بل لبد مع ذلك من صالح الباطن‪ ،‬والباطن بين اإلنسان وبين ربه ‪ -‬جل وعال ‪ -‬ل‬

‫يطلع عليه إل عالم الغيوب ‪ -‬عز وجل‪ .‬ولهذا قال اهلل – تعالى‪ :‬ﭿﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠﭾ [النجم‪،]3٢ :‬‬

‫ت» ‪ -‬أي‪ :‬له بذلك ‪َ « -‬ل َش ِهدْ ُ‬


‫ت َأ َّن ُه‬ ‫فهذا أمر ل يطلع عليه إل اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬قال ‪َ « :$‬و َل ْو َش ِهدْ ُ‬
‫‪45‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫فِي ا ْل َجن َِّة»‪ ،‬لو شهدت أنه مؤمن مستكمل اإليمان لشهدت له أنه ف الجنة‪ ،‬وهذا ورد نظيره عن ابن مسعود‬
‫‪45‬‬

‫قال‪َ « :‬م ْن َش ِهدَ َأ َّن ُه ُم ْؤمِ ٌن َف ْل َي ْش َهدْ َأ َّن ُه فِي ا ْل َجن َِّة»‪ ،‬و« َل ْو ُق ْل ُت إِ ْحدَ ُاه َما َألَ ْت َب ْعت َُها ْاألُ ْخ َرى»‪.‬‬

‫ث» ‪َ -‬ش َّك الراوي ‪« -‬ر ُج ٍل َف َقا ُلوا‪َ :‬ت ْش َهدُ َأ َّنه منَافِ ٌق مس َت ْك ِم ُل الن َف ِ‬
‫اق‬ ‫ثم قال‪« :‬و َلو سئِ ْل ُت َعن َشر َأو َأ ْخب ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ُ ْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫ت َأ َّن ُه فِي الن ِ‬
‫َّار»‪ ،‬لكن كما َقدَّ ْم ُت ‪ -‬وهذا من عقيدة أهل‬ ‫ت َل َش ِهدْ ُ‬
‫ان؟ َل ْم َأ ْش َهدْ ‪َ ،‬و َل ْو َش ِهدْ ُ‬ ‫ِ ِ‬
‫اإليم ِ‬
‫َب ِري ٌء م َن ْ َ‬
‫السنة ‪ -‬يرجى للمحسن و ُيخاف على المسيء؛ أما الجزم والتعيين فهذا ل يكون إل عن يقين ف هذا األمر‬

‫يصير إليه اإلنسان‪.‬‬

‫القارئ‪ :‬قوله هنا «الشك من أبي العالء»‪...‬؟‬

‫الشارح‪ :‬أبو العالء أحد الرواة‪.‬‬

‫القارئ‪ :‬لكن أخ هنا أرسل يقول أن ف «المصنَّف» الصواب‪ :‬أبو بكر؟‬

‫الشارح‪ :‬شك أبو بكر؟ ويكون من؟‬

‫القارئ‪... :‬ما تبينت لي‪ .‬إذا كنتم راجعتم؟‬

‫الشارح‪ :‬ف الطبعة التي معكم‪ ..‬ما فيها شيء؟‬

‫القارئ‪ :‬أبو العالء‪.‬‬

‫الشارح‪ :‬أبو العالء؟‬

‫القارئ‪ :‬نعم‪ ،‬موجود‪..‬‬

‫الشارح‪ :‬على كل حال هذه ُت َر َ‬


‫اجع‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪46‬‬

‫ار ُّي‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َع ْبدُ اهللِ ْب ُن‬


‫ان ْب ُن َأبِي َص ِف َّي َة ْاألَن َْص ِ‬ ‫(‪َ )71‬حدَّ َثنَا َع ْبدُ اهللِ ْب ُن ن َُم ْي ٍر‪ ،‬نا ُف َض ْي ُل ْب ُن َغ ْز َو َ‬
‫ان‪ ،‬نا ُع ْث َم ُ‬
‫يم ِ‬ ‫ُور ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اس ل ِ ِغ ْل َمانِ ِه َيدْ ُعو ُغ َال ًما ُغ َال ًما َي ُق ُ‬
‫ول‪َ « :‬أ ََل ُأز َِّو ُج َ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫اْل َ‬ ‫ك؟ َما م ْن َع ْبد َيزْني إِ ََّل َنز ََع اَّللُ منْ ُه ن َ‬ ‫َع َّب ٍ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر عن عبد اهلل بن عباس ﭭ أنه يقول ل ِ ِغلمانه ‪ -‬يدعو غلمانه واحدً ا‬

‫واحدً ا – يعني‪ :‬كأنه يدعو كل واحد منهم على حدة فيكلمه ف هذا األمر‪ ،‬والمراد بغلمانه‪ :‬أي ما تحته من‬

‫العبيد‪ ،‬وإذا كان يفعل ذلك بغلمانه فكيف إ ًذا باألبناء ‪ -‬أبناء اإلنسان؟ فكان يدعو غلمانه ‪ -‬أي‪ :‬من تحته‬

‫من العبيد ‪ -‬ويقول‪َ « :‬أ َل ُأ َزو ُج َك؟» و« َأ َل» هذه للرتغيب والحث؛ فكان يعتني هبذا الباب مع غلمانه ومع‬

‫األبناء من باب أولى وأحرى ‪ -‬إذا كان هذا مع غلمانه فإن األمر مع األبناء من باب أولى وأحرى! والمبادرة‬

‫بتزويج األبناء والمسارعة إلى ذلك ‪ -‬ول سيما مع كثرة الفتن ‪ -‬مطلب شرعي‪ ،‬وهذا المطلب واضح‬

‫اع ِمنْك ُُم ا ْل َبا َء َة َف ْل َي َتز ََّو ْج» لماذا؟ قال‪:‬‬ ‫الش َب ِ‬
‫اب‪َ ،‬م ِن ْ‬
‫اس َت َط َ‬ ‫تما ًما ف قول نبينا ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬يا َم ْع َش َر َّ‬

‫َض لِ ْل َب َصرِ َو َأ ْح َص ُن لِ ْل َف ْرجِ »‪.‬‬


‫« َفإِ َّن ُه َأغ ُّ‬

‫وألجل هذه العلة كان يدعو عبد اهلل بن عباس غلمانه واحدً ا واحدً ا يقول‪َ « :‬أ َل ُأ َزو ُج َك؟» يذكر له األمر‬

‫أو يرغبه ف األمر الذي يحصنه من الفاحشة ويكون به العفاف‪ ،‬وف الوقت نفسه يحذره من الفاحشة ويبين‬

‫له خطورهتا‪ .‬وهذان جانبان لبد من إبرازهما للشاب‪ :‬لبد أن يدرك الشاب ما ف الزواج من عفاف‪ ،‬وما‬

‫فيه من غض للبصر‪ ،‬وما فيه من تحصين للفرج‪ ،‬وأنه ينبغي عليه أن يسارع للزواج قدر استطاعته‪َ « :‬م ِن‬

‫ُم ا ْل َبا َء َة َف ْل َي َتز ََّو ْج »‪ ،‬وف الوقت نفسه يجب على الشاب أن يدرك تما ًما خطورة الفاحشة‪ :‬ﭿﮊ‬ ‫اس َت َط ِ‬
‫اع منْك ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ﮋ ﮌﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭾ [اإلسراء‪]3٢ :‬؛ فالزنا فاحشة ‪ -‬هبذا وصفه اهلل سبحانه وتعالى‪ -‬و َم َغ َّب ُته على‬

‫فاعله ف دنياه وأخراه َو ِخيم ٌة‪ ،‬كما قال القائل‪:‬‬

‫مــــن الحــــرام ويبقــــى الخــــزي والعــــا ُر‬ ‫تفنـــــى اللـــــذاذة ممـــــن نـــــال صـــــفوهتا‬
‫النـــــار‬
‫ُ‬ ‫خيـــــر ف لـــــذة مـــــن بعـــــدها‬
‫‪.........‬‬‫ل‬ ‫ـى عواقـــــب ســـــوء مـــــن مغبتهـــــا‬‫وتبقــــ‬
‫‪........‬‬
‫‪............‬‬ ‫‪.......‬‬
‫‪47‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪47‬‬
‫فالشاب يجب عليه أن يعرف أهمية المبادرة إلى الزواج والمسارعة إليه‪ ،‬وما فيه من غض للبصر وتحصين‬

‫للفرج‪ ،‬وأن يعرف ف الوقت نفسه خطورة الفاحشة‪ .‬وابن عباس ﭭ جمع بين األمرين‪َ « :‬أ َل ُأ َزو ُج َك؟»‬
‫اإليم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان» هذا تحذير شديد‬ ‫ُور ْ َ‬ ‫هذا ترغيب ف الزواج وحث عليه‪ ،‬وقوله‪َ « :‬ما م ْن َع ْبد َي ْزني إِ َّل ن ََز َع ُ‬
‫اهلل منْ ُه ن َ‬
‫يمان ن َِز ٌه» وأن العبد أو اإلنسان إذا زنى فارقه اإليمان‪،‬‬ ‫من هذه الفاحشة‪ .‬وقد مر معنا ف الحديث أن ْ ِ‬
‫«اإل َ‬

‫َان َع َل ْي ِه كَال ُّظ َّل ِة»‪ ،‬ومر معنا ً‬


‫أيضا «َلَ‬ ‫ان ك َ‬
‫يم ُ‬ ‫الر ُج ُل َخ َر َج ِمنْ ُه ْ ِ‬
‫اْل َ‬ ‫يضا إشارة إلى حديث «إِ َذا َزنَى َّ‬
‫ومر علينا أ ً‬

‫ين َيزْنِي َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪ .‬وهذا كله يبين ويدل على خطورة هذه الفاحشة على إيمان اإلنسان‪،‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َيزْني الزَّاني ح َ‬
‫وأهنا ُت ِ‬
‫ذهب نور اإليمان‪ ،‬فيظلم ‪ -‬والعياذ باهلل ‪ -‬يظلم مثل ما قال أحد السلف‪« :‬وإن َه ْم َل َج ْت هبم ال َب َراذين‬

‫و َط ْق َط َق ْت هبم البِغال‪ ،‬فإن ذل المعصية ف رقاهبم‪ ،‬أبى اهلل إل أن يذل من عصاه»‪ .‬فالمعصية تكون سب ًبا‬

‫لظلمة الوجه‪ ،‬والطاعة تكون سب ًبا لنور الوجه وضيائه؛ وكذلك الشأن ف البدعة‪ :‬البدعة سبب لظلمة‬

‫الوجه‪ ،‬حتى قال عبد اهلل بن المبارك ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪« :‬صاحب البدعة على وجهه الظلمة وإن ادهن كل‬

‫يوم ثالثين مرة»‪ ،‬يعني‪ :‬لو استعمل الدهون التي ُتس َتعمل للتجميل أو التحسين أو نحو ذلك تبقى ظلمة‬

‫البدعة على وجهه‪ .‬فهذان أمران لبد أن يدركهما الشاب وأن يفهمهما تما ًما ف شبابه‪ :‬أهمية المبادرة إلى‬

‫الزواج والمسارعة إليه لما فيه من عفة وحفظ للفرج وغض للبصر‪ ،‬وأن يحذر وأن يعرف ‪ -‬ف الوقت‬

‫نفسه ‪ -‬خطورة الفاحشة وشدة ضررها‪.‬‬

‫وقديما‪ ،‬كان الزواج للشباب يكون ف سن مبكرة‪ :‬كان يتزوج الشاب وعمره ثالث عشرة سنة‪ ،‬وأربع عشرة‬
‫ً‬
‫سنة‪ ،‬بل وإحدى عشرة سنة‪ ،‬واثنا عشرة سنة! وابن هذا السن ‪ -‬خمس عشرة سنة ‪ -‬يكون مع الرجال‪..‬‬

‫ف َم َصف الرجال‪ ..‬رجل‪ ..‬وف تعامله وف حديثه وف أسلوبه؛ واآلن قد تجد ابن ثماين عشرة سنة ف يده‬

‫الحب أو البسكوت‪ ،‬ويمشي ف الشارع ويأكل‪ ،‬وإذا انتهى من األكل يرمي‬


‫علبة العصير‪ ،‬وف اليد الثانية َ‬

‫علبة العصير أمامه ويشوهتا بقدمه ويجري خلفها! وهو ابن ثماين عشرة سنة وعشرين سنة! وتجده إذا انتهى‬

‫من شرب العصير يرمي العلبة أمامه ويجري خلفها ويشوهتا بقدمه‪..‬يركلها بقدمه ويقفز ‪ -‬كأنه ابن ست‬

‫سنوات أو خمس سنوات!‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪48‬‬

‫فمثل هذه األمور‪ ..‬يعني ف واقع كثير من الشباب والنشأة الهزيلة‪ ..‬النشأة الضعيفة‪ ..‬النشأة المهرتئة‪..‬‬

‫يكون يبلغ ف السن مبلغ الرجال ولكنه ف عقله وفكره مبلغ الصغار! ومصيبة إذا كان البن هبذه الصفة‪:‬‬

‫ثماين عشرة سنة ثم يرمي علبة العصير أمامه ويشوهتا‪ ،‬ويقول له والده‪ :‬تعال أزوجك! هذا أيش يفعل هذا‬

‫وهذه حاله وهذه صفته؟! فالشاب ينبغي أن يعرف ما ينبغي أن يكون عليه من رجولة‪ ،‬وما ينبغي أن ينشأ‬

‫عليه من صفات وأخالق وآداب‪ ،‬وأن يعرف معالي األمور‪ ،‬وأن يحذر من َس ْف َسافها‪ ،‬حتى ينشأ نشأة طيبة‬

‫مباركة بدل أن يكرب به السن وينشأ على صفات من أشنع ما يكون وأبغض ما يكون! وأص َب َح ْت ُترى ف‬

‫المجتمعات المسلمة صور ‪ -‬حقيق ًة ‪ -‬مؤلم ٌة جدً ا لشباب ف هيئاهتم‪ ..‬ف صورهم‪ ..‬ف حركاهتم‪ ..‬ف‬

‫أعمالهم‪ ..‬وقد بلغوا العشرين‪ ..‬أزيد من العشرين‪ ..‬ف حالت مؤلمة جدً ا‪ .‬فهذا جانب ينبغي أن ُيع َتنَى‬

‫بتوجيه الشباب إليه وحثهم عليه‪ ،‬وبيان معالي األمور والتحذير من سفسافها‪.‬‬

‫اهلل مِنْ ُه‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال‪َ « :‬ق َال َع ْبدُ اهللِ ْب ُن َع َّب ٍ‬
‫اس ل ِ ِغ ْل َمانِ ِه َيدْ ُعو ُغ َال ًما ُغ َال ًما َي ُق ُ‬
‫ول‪َ :‬أ َل ُأ َزو ُج َك؟ َما م ْن َع ْبد َي ْزني إِ َّل ن ََز َع ُ‬
‫اإليم ِ‬
‫ِ‬
‫ان»‪ .‬واإليمان له نور وضياء‪ ،‬وإذا وقع اإلنسان ف الفاحشة أذهب عن نفسه هذا النور‪ ،‬وأذهب‬ ‫ُور ْ َ‬
‫ن َ‬
‫عن نفسه استحقاق اسم اإليمان‪ ،‬واهلل يقول‪ :‬ﭿﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋﭾ [الحجرات‪ .]11 :‬أصبح بدل أن كان‬

‫من أهل األلفاظ واأللقاب الشريفة الفاضلة‪ :‬اإليمان‪ ،‬العفاف‪ ،‬السرت‪ ،‬الحياء‪..‬إلى غير ذلك‪ ،‬أصبح‬

‫مستح ًقا أللفاظ ذميمة‪ :‬العهر‪ ،‬الفجور‪ ،‬الفسق‪ ،‬الفاحشة‪ ،‬الرذيلة! أصبحت هذه األلقاب مستح ًقا لها‬

‫بسبب أعماله وفِعاله‪ ،‬فيحذر المسلم أشد الحذر من األعمال التي تضر بدينه ومن أشنعها وأفظعها هذه‬

‫الفاحشة‪ :‬فاحشة الزنا‪.‬‬

‫واإلسناد هنا فيه عثمان بن أبي صفية األنصاري‪ .‬قال الشيخ ‪« :$‬لم أعرف عثمان بن أبي صفية هذا‪،‬‬

‫لكنه لم يتفرد به‪ ،‬فقد رواه المصنف فيما يأيت (‪ )94‬بإسناد حسن»‪ .‬وعثمان بن أبي صفية له ترجمة ف‬

‫«هتذيب التهذيب» (‪.)113/7‬‬

‫قال‪:‬‬
‫‪49‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪49‬‬
‫يه‪َ ،‬ع ْن َعائِ َشةَ‪َ ،‬ع ِن النَّبِي ﷺ َق َال‪:‬‬
‫اد ب ِن س َلمةَ‪َ ،‬عن ِه َشامٍ‪َ ،‬عن َأبِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ان ْب ُن َح ْر ٍ‬
‫ب‪َ ،‬ع ْن َح َّم ْ َ َ‬ ‫(‪َ )7٢‬حدَّ َثنَا ُس َل ْي َم ُ‬

‫ين َي ْسرِ ُق َو ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫« ََل َيزْني الزَّاني َو ُه َو ُم ْؤم ٌن‪َ ،‬و ََل َي ْسرِ ُق ح َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث عن أم المؤمنين عائشة ڤ‪ ،‬وقد تقدم برقم (‪ )39‬من وجه‬

‫آخر عنها ڤ‪ ،‬ومضى شرحه والكالم على معناه هناك‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ول ا َّل ِذي َس َأ َل َع ْبدَ اهللِ ْب َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اويةَ‪َ ،‬ع ِن َّ ِ‬
‫الش ْي َباني‪َ ،‬ع ْن َث ْع َل َبةَ‪َ ،‬ع ْن َأبِي ق َال َبةَ‪َ ،‬حدَّ َثني َّ‬
‫الر ُس ُ‬ ‫(‪َ )73‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ َ‬
‫الس ِر َير ِة‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّاس كَانُوا َع َلى َع ْهد َر ُسول اهلل ﷺ َع َلى َث َال َثة َأ ْصنَاف‪ُ :‬م ْؤم ُن َّ‬ ‫َم ْس ُعود َف َق َال‪َ :‬أ ْن ُشدُ َك بِاهلل َأ َت ْع َل ُم َأ َّن الن َ‬
‫الس ِر َير ِة؟ َق َال‪َ :‬ف َق َال َع ْبدُ اهللِ‪« :‬ال َّل ُه َّم‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫الس ِر َيرة كَاف ُر ا ْل َع َالن َية‪ ،‬و ُم ْؤم ُن ا ْل َع َالن َية كَاف ُر َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ُم ْؤم ُن ا ْل َع َالن َية‪ ،‬وكَاف ُر َّ‬
‫الس ِر َير ِة‪ُ ،‬م ْؤمِ ُن ا ْل َع َالنِ َي ِة‪َ ،‬أنَا ُم ْؤمِ ٌن»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َن َع ْم»‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َأن ُْشدُ َك بِاهلل م ْن َأي ِه ْم ُكن َْت؟ َق َال‪َ :‬ف َق َال‪« :‬ال َّل ُه َّم ُكن ُْت ُم ْؤم ُن َّ‬
‫ول َأنَا ُم ْؤمِ ٌن‪.‬‬ ‫الص َالحِ َي ِعي ُب َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اق‪َ :‬ف َل ِق ُ‬
‫ون َع َلي َأ ْن َأ ُق َ‬
‫َّ‬ ‫َاسا م ْن َأ ْه ِل َّ‬ ‫يت َع ْبدَ اهلل ْب َن َم ْعق ٍل َف ُق ْل ُت‪ :‬إِ َّن ُأن ً‬ ‫َق َال َأ ُبو إِ ْس َح َ‬
‫ت إِ ْن َل ْم َت ُك ْن ُم ْؤمِنًا»‪.‬‬ ‫َق َال‪َ :‬ف َق َال َع ْبدُ اهللِ ْب ُن َم ْع ِقلٍ‪َ « :‬ل َقدْ ِخ ْب َت َو َخ ِس ْر َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ول ا َّل ِذي س َأ َل َعبدَ اهللِ بن مسع ٍ‬


‫الر ُس ُ‬ ‫ِ‬
‫ود»‪،‬‬ ‫ْ َ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر عن أبي قالبة‪ ،‬قال‪َ « :‬حدَّ َثني َّ‬
‫والرسول هنا مجهول لم ُيذ َكر من هو‪ ،‬ول ُتعرف حاله‪ ،‬فيكون اإلسناد ضعي ًفا ل يصح‪ .‬قال‪َ « :‬حدَّ َثنِي‬
‫ول ا َّل ِذي س َأ َل َعبدَ اهللِ بن مسع ٍ‬
‫ود َف َق َال‪َ :‬أن ُْشدُ َك» ‪ -‬أي‪ :‬هذا الرجل الذي ل يعرف من هو ‪ -‬قال‪:‬‬ ‫الر ُس ُ‬
‫ْ َ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الس ِر َير ِة ُم ْؤمِ ُن‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫« َأن ُْشدُ َك بِاهلل َأ َت ْع َل ُم َأ َّن الن َ‬
‫َّاس كَانُوا َع َلى َع ْهد َر ُسول اهلل ﷺ َع َلى َث َال َثة َأ ْصنَاف‪ُ :‬م ْؤم ُن َّ‬

‫الس ِر َير ِة؟» وهذه القسمة صحيحة‪ ،‬وقد ذكر‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫الس ِر َيرة كَاف ُر ا ْل َع َالن َية‪ ،‬و ُم ْؤم ُن ا ْل َع َالن َية كَاف ُر َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ا ْل َع َالن َية‪ ،‬وكَاف ُر َّ‬
‫اهلل ‪ -‬عز وجل‪ -‬هذه القسمة ف أول سورة البقرة‪ :‬ذكر ً‬
‫أول المؤمنين‪ ،‬ثم ذكر الكفار‪ ،‬ثم ذكر المنافقين؛‬
‫فالقسمة من حيث هي صحيحة‪ ،‬لكن الذي بني على ذلك‪َ « :‬ف َق َال َعبدُ اهللِ‪ :‬ال َّلهم َنعم‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َأن ُْشدُ َك بِاهللِ‬
‫ُ َّ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪50‬‬

‫الس ِر َير ِة‪ُ ،‬م ْؤمِ ُن ا ْل َع َالنِ َي ِة‪َ ،‬أنَا ُم ْؤمِ ٌن»‪ ،‬فإذا كان ُق ِصد هبذا أصل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َأي ِه ْم ُكن َْت؟ َق َال‪َ :‬ف َق َال‪ :‬ال َّل ُه َّم ُكن ُْت ُم ْؤم ُن َّ‬
‫اإليمان فال إشكال ف ذلك‪ ،‬أما إذا ُق ِصد اإليمان بما يشتمل عليه من أعمال‪ ،‬وأن النافع منه هو المتقبل‬
‫عند اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬فال يجزم اإلنسان مثل هذا الجزم بقوله‪« :‬أنا مؤمن»‪ .‬وعلى كل ٍ‬
‫حال‪ ،‬فاألثر‬

‫أشرت إليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حمل على المعنى الذي‬
‫ضعيف اإلسناد لم يثبت‪ ،‬وعلى فرض صحته ُي َ‬

‫اق» ‪ -‬أبو إسحاق هنا هو الشيباين‪ ،‬ومر معنا ف اإلسناد‪ ،‬قال‪َ « :‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن‬ ‫« َق َال َأ ُبو إِ ْس َح َ‬

‫يت َع ْبدَ اهللِ ْب َن َم ْع ِقلٍ» ‪ -‬ف طبعة «كتاب اإليمان»‬


‫اق‪َ :‬ف َل ِق ُ‬
‫الش ْي َبانِي» الشيباين هو أبو إسحاق ‪َ « -‬ق َال َأ ُبو إِ ْس َح َ‬
‫َّ‬

‫مكتوب ( ُم َغ َّف ٍل)‪ ،‬أي‪ :‬الصحابي‪ ،‬وسبق أن مر معنا هذا الخطأ أو هذا التصحيف‪ ،‬ون َّب ُ‬
‫هت هناك برقم (‪)30‬‬

‫الص َالحِ َي ِعي ُب َ‬


‫ون َع َل َّي َأ ْن‬ ‫ِ‬
‫إلى أن هذا خطأ‪ ،‬وأن الصواب أنه (عبد اهلل بن معقل) ‪َ « -‬ف ُق ْل ُت‪ :‬إِ َّن ُأن ً‬
‫َاسا م ْن َأ ْه ِل َّ‬

‫ول َأنَا ُم ْؤمِ ٌن‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َق َال َع ْبدُ اهللِ ْب ُن َم ْع ِق ٍل‪َ :‬ل َقدْ ِخ ْب َت َو َخ ِس ْر َ‬
‫ت إِ ْن َل ْم َت ُك ْن ُم ْؤمِنًا»‪ .‬وهذا مر معنا باإلسناد‬ ‫َأ ُق َ‬

‫نفسه برقم (‪ ،)30‬ومر أي ًضا الكالم على معناه هناك ‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يم ال َّت ْي ِمي‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬و َما َع َلى َأ َح ِد ِه ْم َأ ْن‬ ‫ِ‬ ‫اويةَ‪َ ،‬عن موسى ب ِن مسلِ ٍم َّ ِ‬
‫الش ْي َباني‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َراه َ‬ ‫ْ ُ َ ْ ُ ْ‬ ‫(‪َ )74‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ َ‬

‫َان كَا ِذ ًبا َل َما َد َخ َل َع َل ْي ِه مِ َن ا ْل ُك ْف ِر َأ َشدُّ‬


‫اهلل َع َلى ِصدْ قِ ِه‪َ ،‬و َلئِ ْن ك َ‬ ‫ِ‬ ‫ول َأنَا ُم ْؤمِ ٌن؟ َف َواهللِ إِ ْن ك َ‬
‫َان َصاد ًقا َل ُي َعذ ْب ُه ُ‬ ‫َي ُق َ‬

‫مِ َن ا ْل َك ِذ ِ‬
‫ب»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ول َأنَا ُم ْؤمِ ٌن؟»‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر عن إبراهيم التيمي أنه قال‪َ « :‬و َما َع َلى َأ َح ِد ِه ْم َأ ْن َي ُق َ‬

‫َاذ ًبا َل َما َد َخ َل َع َل ْي ِه مِ َن ا ْل ُك ْف ِر‬


‫َان ك ِ‬
‫اهلل َع َلى ِصدْ قِ ِه‪َ ،‬و َلئِ ْن ك َ‬ ‫ِ‬ ‫ثم علل ذلك ‪ -‬قال‪َ « :‬ف َواهللِ إِ ْن ك َ‬
‫َان َصاد ًقا َل ُي َعذ ْب ُه ُ‬
‫َأ َشدُّ مِ َن ا ْل َك ِذ ِ‬
‫ب»‪ ،‬وهذا واضح تما ًما أن المراد بـ (أنا مؤمن) أصل اإليمان ل تمامه؛ ألن تمام اإليمان ‪-‬‬

‫إذا كان هو المراد ‪ -‬ل يقال ما دخل عليه من الكفر أشد ‪ -‬إذا كان المراد تمام اإليمان وكماله‪ .‬أما إذا قصد‬
‫‪51‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪51‬‬
‫أصله‪ ،‬فالذي يقابل أصل اإليمان هو الكفر باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ ،‬أما الذي يقابل تمام اإليمان وكماله هو‬

‫نقص اإليمان وضعفه‪ .‬فكالم إبراهيم التيمي محمول على إرادة أصل اإليمان بقوله‪َ « :‬أنَا ُم ْؤمِ ٌن»‪.‬‬

‫وعرفنا فيما سبق أن كلمة (أنا مؤمن) إذا َق َصد هبا من أطلقها أصل اإليمان فال حرج ف ذلك‪ ،‬لكن إذا قصد‬

‫وو ُضح لنا هذا تما ًما ف إجابة الحسن‬


‫اإليمان المطلق‪ ،‬اإليمان التام‪ ،‬اإليمان الكامل‪ ،‬فهذا لبد أن يستثني‪َ .‬‬

‫البصري ‪ $‬عندما سئل عن اإليمان‪ ،‬قال‪« :‬اإليمان إيمانان‪ ،‬فإن كنت تسألني عن اإليمان باهلل‪،‬‬

‫ومالئكته‪ ،‬وكتبه ورسله‪ ،‬والجنة والنار‪ ،‬والبعث والحساب‪ ،‬فأنا مؤمن‪ ،‬وإن كنت تسألني عن قول اهلل ‪-‬‬

‫عز وجل‪ :-‬ﭿ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ‬

‫ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄ ﭾ فواهلل ما أدري أنا منهم أو ل»‪.‬‬

‫ول َأنَا ُم ْؤمِ ٌن؟» أي‪ :‬يقصد أصل‬


‫حمل على هذا‪ ،‬إذا يقول‪َ « :‬و َما َع َلى َأ َح ِد ِه ْم َأ ْن َي ُق َ‬
‫فكالم إبراهيم التيمي ُي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يستثن يكون‬ ‫اإليمان‪ ،‬أما إذا ُقصد تمام اإليمان و ُقصد اإليمان ُ‬
‫الم َتق َّبل فالبد من اإلستثناء؛ ألنه إن لم‬

‫بذلك قد زكى نفسه‪ ،‬واهلل – تعالى‪ -‬يقول‪ :‬ﭿﯙ ﯚ ﯛﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭾ [النجم‪.]3٢ :‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يم‪َ ،‬ع ْن َع ْل َق َمةَ‪َ ،‬ق َال‪ :‬قِ َيل َل ُه‪َ :‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ْت؟ َق َال‪َ :‬أ ْر ُجو‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ش‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َراه َ‬ ‫(‪َ )75‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر عن علقمة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬أنه «قِ َيل َل ُه‪َ :‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ْت؟ َق َال‪:‬‬

‫َأ ْر ُجو»‪ .‬وهذه صيغة من صيغ اإلستثناء‪ ،‬وقد مر معنا نظيرها‪ ،‬وأن من سئل‪« :‬أمؤمن أنت؟» الذي ينبغي‬

‫نظرا للتقصير ف تكميل األعمال‪ ،‬وخشية أن ل تكون أعماله التي قام هبا متق َّب َلة‪،‬‬
‫عليه أن يجيب مع الستثناء ً‬
‫فيقول‪« :‬أنا مؤمن أرجو»‪ ،‬أو يقول‪« :‬أنا مؤمن إن شاء اهلل»‪ ،‬أو يقول‪« :‬آمنت باهلل ومالئكته»‪ ،‬أو يقول‪« :‬ل‬

‫إله إل اهلل» ونحو ذلك‪.‬‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪52‬‬

‫قال‪:‬‬

‫الزبِي ِدي‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫ث ْب ِن َع ِم َير َة َّ‬ ‫ار ِ‬‫ب‪َ ،‬ع ِن ا ْل َح ِ‬ ‫او َيةَ‪َ ،‬ع ْن َد ُاو َد ْب ِن َأبِي ِهن ٍْد‪َ ،‬ع ْن َش ْه ِر ْب ِن َح ْو َش ٍ‬ ‫(‪َ )76‬حدَّ َثنَا َأ ُبو ُم َع ِ‬

‫ون َر ْح َم ُة َرب ُك ْم‪َ ،‬و َد ْع َو ُة َنبِي ُك ْم ﷺ‪،‬‬ ‫ص َف َخ َط َب ُه ْم َف َق َال‪ :‬إِ َّن َه َذا ال َّطا ُع َ‬ ‫ِ‬
‫الشامِ‪َ ،‬ف َقا َم ُم َعا ٌذ بِح ْم َ‬ ‫ون بِ َّ‬ ‫َو َق َع ال َّطا ُع ُ‬
‫آت َف َق َال‪ :‬إِ َّن‬ ‫اذ ن َِصيبهم ْاألَو َفى مِنْه‪َ .‬ف َلما ن ََز َل َع ِن ا ْل ِمنْب ِر َأ َتاه ٍ‬ ‫حين َقب َل ُكم‪ ،‬ال َّلهم ا ْق ِسم ِآل ِل مع ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َُ ُ ْ‬ ‫َُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫الصال َ ْ ْ‬ ‫ت َّ‬ ‫َو َم ْو ُ‬
‫الر ْح َم ِن ُم ْقبِ ًال‬ ‫يب‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫الر ْح َم ِن ْب َن ُم َعاذ َقدْ ُأص َ‬
‫ون‪ُ ،‬ث َّم ا ْن َط َل َق ن َْح َو ُه َف َل َّما َرآ ُه َع ْبدُ َّ‬‫اج ُع َ‬ ‫َ‬ ‫َع ْبدَ َّ‬
‫ال‪َ :‬يا ُبنَي ﭿ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔﭾ [الصافات‪:‬‬ ‫َق َال‪َ :‬يا َأ َب ِة ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭾ [البقرة‪َ ،]147:‬ق َ‬
‫َّ‬
‫الزبِي ِد ُّي‬ ‫ث ْب ُن َع ِم َير َة َّ‬ ‫يب‪َ ،‬ف َأ َتا ُه ا ْل َح ِ‬
‫ار ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان ُم َعا ٌذ آخ َر ُه ْم‪َ ،‬ف ُأص َ‬ ‫اذ إِن َْسا ًنا إِن َْسا ًنا‪َ ،‬حتَّى ك َ‬ ‫ات ُآل مع ٍ‬
‫َُ‬ ‫‪َ ،]10٢‬ق َال‪َ :‬ف َم َ‬
‫يك؟ َف َق َال‪َ :‬أ ْبكِي َع َلى‬ ‫ث َي ْبكِي‪َ ،‬ف َق َال ُم َعا ٌذ‪َ :‬ما ُي ْبكِ َ‬ ‫ار ُ‬ ‫اق ُم َعا ٌذ َوا ْل َح ِ‬ ‫َي ُعو ُد ُه‪َ ،‬ق َال‪َ :‬و ُغ ِشي َع َلى ُم َعا ٌذ َغ ْش َيةً‪َ ،‬ف َأ َف َ‬
‫َ‬
‫ود‪َ ،‬ومِ ْن ُع َو ْي ِم ٍر‬ ‫ا ْل ِع ْل ِم ا َّل ِذي يدْ َفن مع َك‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬إِ ْن ُكن َْت َطالِب ا ْل ِع ْل ِم َل محا َل َة َفا ْط ُلبه مِن َعب ِد اهللِ ب ِن مسع ٍ‬
‫ْ َ ْ ُ‬ ‫ُْ ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ََ‬
‫اهلل َأ ْن َأ ْع ِر َف َها؟ َق َال‪:‬‬ ‫ف لي َأ ْص َل َح َك ُ‬
‫اك و َز َّل َة ا ْلعال ِ ِم‪َ ،‬ف ُق ْل ُت‪ :‬و َكي َ ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ارسي‪َ ،‬وإِ َّي َ َ‬ ‫َأبِي الدَّ ْر َدا ِء‪َ ،‬ومِ ْن َس ْل َم َ‬
‫ان ا ْل َف ِ ِ‬

‫ود بِا ْل ُكو َف ِة‪،‬‬‫ث ي ِريدُ َعبدَ اهللِ بن مسع ٍ‬ ‫ات ُم َعا ٌذ َر ْح َم ُة اهللِ َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َخ َر َج ا ْل َح ِ‬ ‫ف بِ ِه‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َم َ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ار ُ ُ‬ ‫ُور ُي ْع َر ُ‬‫ل ْل َحق ن ٌ‬
‫ون‪َ ،‬ف َج َرى َب ْين َُه ُم ا ْل َح ِد ُ‬ ‫اب َعب ِد اهللِ ب ِن مسع ٍ‬ ‫ِ‬ ‫َفا ْنت ََهى إِ َلى َبابِ ِه‪َ ،‬فإِ َذا َع َلى ا ْل َب ِ‬
‫يث َحتَّى‬ ‫ود َيت ََحدَّ ُث َ‬ ‫ْ َ ْ ُ‬ ‫اب َن َف ٌر م ْن َأ ْص َح ِ ْ‬
‫ْت؟ َف َق َال‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َقا ُلوا‪ :‬مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة؟ َق َال‪ :‬إِ َّن لِي َذنُو ًبا َو َما َأ ْد ِري َما َي ْصن َُع‬ ‫َقا ُلوا‪َ :‬يا َشامِ ُّي‪َ ،‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ت لِي َألَ ْن َب ْأ ُت ُك ْم َأني مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َب ْين ََما ُه ْم ك ََذل ِ َك إِ ْذ َخ َر َج َع َل ْي ِه ْم َع ْبدُ‬‫اهلل فِ َيها‪َ ،‬و َل ْو َأ ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ‬
‫ُ‬
‫الشامِي؟ َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه ُم ْؤمِ ٌن‪َ ،‬و َل َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة‪َ ،‬ف َق َال َع ْبدُ اهللِ‪:‬‬ ‫ب مِ ْن َأ ِخينَا َه َذا َّ‬ ‫اهلل‪َ ،‬ف َقا ُلوا‪َ :‬أ َل َت ْع َج ُ‬
‫ِ‬

‫اذ‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫ون‪ ،‬ص َّلى اهلل َع َلى مع ٍ‬ ‫ث‪ :‬إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ‬ ‫َل ْو ُق ْل ُت إِ ْحدَ ُاه َما َألَ ْت َب ْعت َُها ْاألُ ْخ َرى‪َ ،‬ف َق َال ا ْل َح ِ‬
‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫اج ُع َ َ‬ ‫َ‬ ‫ار ُ‬
‫ف بِاهللِ َأن ََّها مِن َْك‬ ‫اك َو َز َّل َة ا ْل َعال ِ ِم‪َ ،‬ف َأ ْحلِ ُ‬‫اك؟ َق َال‪َ :‬ق َال‪ :‬إِ َّي َ‬ ‫َو ْي َح َك‪َ ،‬و َم ْن ُم َعا ٌذ؟ َق َال‪ُ :‬م َعا ُذ ْب ُن َج َبلٍ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬و َما َذ َ‬
‫ان إِ َّل َأنَّا ن ُْؤمِ ُن بِاهللِ‪َ ،‬و َم َالئِ َكتِ ِه‪َ ،‬و ُك ُتبِ ِه‪َ ،‬و ُر ُسلِ ِه‪َ ،‬وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخ ِر‪َ ،‬وا ْل َجن َِّة َوالنَّ ِ‬
‫ار‪،‬‬ ‫يم ُ‬ ‫اإل َ‬
‫ود‪َ ،‬وما ْ ِ‬
‫َ‬
‫َل َز َّل ٌة يا ابن مسع ٍ‬
‫َ ْ َ َ ْ ُ‬
‫ت َل ُق ْلنَا‪ :‬إِنَّا مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة‪.‬‬ ‫اهلل فِ َيها‪َ ،‬ف َل ْو َأنَّا َن ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ‬
‫ُوب َما نَدْ ِري َما َي ْصن َُع ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َوا ْل َب ْعث‪َ ،‬وا ْلم َيزان‪َ ،‬و َلنَا ُذن ٌ‬
‫َت مِني َل َز َّل ٌة‪.‬‬ ‫َت مِني َل َز َّلةٌ‪َ ،‬صدَ ْق َت َواهللِ إِ ْن كَان ْ‬ ‫َق َال‪َ :‬ف َق َال َع ْبدُ اهللِ‪َ :‬صدَ ْق َت‪َ ،‬واهللِ إِ ْن كَان ْ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الزبِ ِ‬
‫يدي ‪ -‬ف النسخ المطبوعة‬ ‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر الطويل‪ ،‬يرويه الحارث بن َعميرة َّ‬

‫يدي) مِ ْن َزبِيد من اليمن ‪ -‬وقد ترجم له الحافظ ابن حجر ف كتابه‬


‫الزبِ ِ‬
‫الز َب ْي ِري) وهو خطأ‪ ،‬والصواب‪َّ ( :‬‬
‫( ُّ‬
‫‪53‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫«اإلصابة» ف قسم المخضرمين‪ ،‬وقال‪« :‬أسلم ف عهد النبي ﷺ‪ ،‬وصحب معاذ ابن جبل‪ ،‬و َق ِدم معه من‬
‫‪53‬‬

‫اليمن بعد النبي ﷺ» اهـ‪ .‬وذكره ابن أبي حاتم ف «الجرح والتعديل»‪ ،‬وقال‪« :‬روى عن معاذ بن جبل‪ ،‬روى‬

‫عنه َش ْه ُر بن حوشب» اهـ‪ .‬وشهر بن حوشب ‪ -‬الذي يروي هذا األثر عن الحارث ‪ -‬صدوق كثير األوهام‪،‬‬

‫ف هذا األثر بسببه‪ .‬والجملة األولى ف أول الحديث صحت بما لها من شواهد‪ ،‬أما آخر هذا‬
‫ولهذا ُضع َ‬

‫األثر وما يتعلق بالسؤال عن اإليمان والعرتاض الذي قاله الحارث إنما جاء هبذا اإلسناد‪ ،‬وهو إسناد‬

‫ضعيف‪.‬‬

‫ِ‬ ‫قال الحارث بن َع ِميرة َّ‬


‫الشامِ‪َ ،‬ف َقا َم ُم َعا ٌذ بِح ْم َ‬
‫ص َف َخ َط َب ُه ْم» ‪ -‬أ ً‬
‫يضا ف بعض‬ ‫ون بِ َّ‬
‫الزبِيدي‪َ « :‬و َق َع ال َّطا ُع ُ‬

‫الطبعات هناك خطأ ف هذا الموضع ُي َص َّحح – قال‪َ « :‬ف َخ َط َب ُه ْم َف َق َال‪ :‬إِ َّن َه َذا ال َّطا ُع َ‬
‫ون َر ْح َم ُة َرب ُك ْم‪َ ،‬و َد ْع َو ُة‬
‫ت الصال ِ ِ‬
‫حي َن َق ْب َل ُك ْم»‪ ،‬ذكر هذه الصفات للطاعون‪َ « .‬ر ْح َم ُة َرب ُك ْم»‪ ،‬والرحمة ف الطاعون‬ ‫َنبِي ُك ْم ﷺ‪َ ،‬و َم ْو ُ َّ‬

‫من جهة أن المؤمن ُيب َتلى بمثل هذه المصائب العظام‪ ،‬فيصرب ويتلقاها بالصرب والرضا فتكون رحمة له‪،‬‬

‫وتكفيرا لخطيئاته؛ والمصائب كفارات‪ ،‬فهي من هذه الجهة رحمة للمؤمن‪َ « .‬و َد ْع َو ُة‬
‫ً‬ ‫ورفعة ف درجاته‪،‬‬
‫ت الصال ِ ِ‬
‫حي َن َق ْب َل ُك ْم»‪ ،‬أي‪ :‬كان كثير منهم يموت‬ ‫َنبِي ُك ْم ﷺ»‪ ،‬هذا جاء أ ً‬
‫يضا فيه حديث هبذا المعنى‪َ « .‬و َم ْو ُ َّ‬
‫هبذا المرض‪ .‬فقال معاذ‪« :‬ال َّلهم ا ْق ِسم ِآل ِل مع ٍ‬
‫اذ ن َِصي َب ُه ُم ْاألَ ْو َفى مِنْ ُه» ‪ -‬جاء ف بعض الروايات أنه قال‪:‬‬ ‫َُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َّ‬
‫«من هذه الرحمة»‪ ،‬فسأل آلله الرحمة‪ .‬وأما سؤال اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬للبالء‪ ،‬فهذا يدخل ف عموم ما‬

‫َّاس َلَ َتت ََمن َّْوا لِ َقا َء ال َعدُ ِّو‪َ ،‬و َس ُلوا اَّللَ ال َعافِ َيةَ‪،‬‬
‫جاء ف الحديث أن النبي – عليه الصالة والسالم – قال‪َ « :‬أ ُّي َها الن ُ‬
‫ِ‬
‫اصبِ ُروا»‪ ،‬وأهل العلم استشهدوا هبذا الحديث على عدم سؤال اهلل ‪ -‬عز وجل‪ -‬المرض‬ ‫َفإِ َذا َلقيت ُُم ُ‬
‫وه ْم َف ْ‬

‫أو الطاعون أو نحو ذلك من البالء‪ .‬وف هذا المعنى قال ابن القيم ‪ -‬وقد استشهد هبذا الحديث ‪« :-‬ل‬

‫سيما والطاعون قد جاء أنه وخز أعدائنا من الجن‪ ،‬فالطاعون كالطعان فال ينبغي الفرار منهما ول تمني‬

‫لقائهما»‪ ،‬ل ينبغي الفرار بمعنى‪ :‬إذا نزل الطاعون أو ُو ِجد الطاعون ف بلد واإلنسان فيه ل يفر‪ ،‬وإذا كان‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اصبِ ُروا»‪ .‬وسؤال معاذ‪َ :‬ل َّما‬ ‫ف بلد ل يذهب إليها‪َ« ،‬لَ َتت ََمن َّْوا ل َقا َء ال َعدُ ِّو‪َ ،‬و َس ُلوا اَّللَ ال َعاف َيةَ‪َ ،‬فإِ َذا َلقيت ُُم ُ‬
‫وه ْم َف ْ‬

‫َذكر الرحمة‪ ،‬سأل اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬الرحمة آلل معاذ‪.‬‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪54‬‬
‫« َف َلما ن ََز َل َع ِن ا ْل ِمنْب ِر» ‪ -‬ف نفس الوقت‪ ،‬بعد هذه الخطبة ‪َ « -‬ف َلما ن ََز َل َع ِن ا ْل ِمنْب ِر َأ َتاه ٍ‬
‫آت َف َق َال‪ :‬إِ َّن َع ْبدَ‬ ‫َ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫يب» ‪ -‬يعني‪ :‬أصابه الطاعون ‪َ « -‬ف َق َال‪ :‬إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ‬
‫اج ُع َ‬
‫ون»‪ ،‬وهذه كلمة‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫الر ْح َم ِن ْب َن ُم َعاذ َقدْ ُأص َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫اسرتجاع ُت ُ‬
‫قال عند المصيبة؛ فبادر إليها ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،‬وقد قال اهلل ‪ -‬تعالى‪ :‬ﭿﭠ ﭡ ﭢ‬

‫ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭾ‬
‫[البقرة‪ .]156 - 155 :‬فبادر ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬إلى قول هذه الكلمة‪« :‬إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ‬
‫اج ُع َ‬
‫ون»‪ ،‬ومعناها‪:‬‬ ‫َ‬
‫أنا هلل عبد‪ ،‬وأنا إليه راجع‪ .‬وإذا ذكر المؤمن بقوله هذه الكلمة أنه عبد هلل‪ ،‬طوع تدبير مالكه‪ ،‬وأنه راجع هلل‪،‬‬

‫وأنه يوم القيامة سيحاسبه؛ كان ف ذلك أعظم تسلية له ف مصابه‪.‬‬

‫ال‪َ :‬يا َأ َب ِة ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭾ‬


‫الر ْح َم ِن» ‪ -‬أي‪ :‬ابنه ‪ُ « -‬م ْقبِ ًال َق َ‬
‫« ُث َّم ا ْن َط َل َق ن َْح َو ُه َف َل َّما َرآ ُه َع ْبدُ َّ‬
‫[البقرة‪َ ،]147:‬ق َال‪َ :‬يا ُبن ََّي ﭿ ﰏﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔﭾ [الصافات‪ .»]10٢ :‬والكالم من البن والرد من األب من‬

‫أجمل ما يكون؛ فالبن ُي َذكر والده بأن هذا قدر اهلل‪ ،‬وهذا الذي كتبه اهلل ‪ -‬يستحثه بذلك على الصرب على‬

‫قضاء اهلل وعلى ما كتبه اهلل بتالوة هذه اآلية الكريمة‪ ،‬فأجاب بقوله‪ :‬ﭿﰏﰐﰑ ﰒ ﰓ ﰔﭾ‪.‬‬

‫ات مِ َن ا ْل ُج ُم َع ِة‬ ‫آخ َر ُه ْم»‪ ،‬وجاء ف بعض الروايات‪َ « :‬ف َم َ‬ ‫َان معا ٌذ ِ‬ ‫ٍ‬
‫ات ُآل ُم َعاذ إِن َْسا ًنا إِن َْسا ًنا‪َ ،‬حتَّى ك َ ُ َ‬ ‫قال‪َ « :‬ف َم َ‬
‫َان ُهو» أي‪ :‬معاذ ﭬ « ِ‬ ‫ِ‬ ‫اذ ُك ُّل ُه ْم ُث َّم ك َ‬ ‫إِ َلى ا ْلجمع ِة ُآل مع ٍ‬
‫آخ َر ُه ْم» أي‪ :‬هبذا الطاعون‬ ‫َان ُه َو آخ َر ُه ْم» ‪ُ « -‬ث َّم ك َ َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ ُ َ‬
‫أيضا هنا ُم َص َّح َفة ‪َ « -‬ي ُعو ُد ُه» ‪ -‬أي‪ :‬ف المرض‪ ،‬مرض‬ ‫الزبِي ِد ُّي» ‪ً -‬‬ ‫ث ْب ُن َع ِم َير َة َّ‬ ‫ار ُ‬ ‫– قال‪َ « :‬ف َأ َتا ُه ا ْل َح ِ‬

‫اق ُم َعا ٌذ‬ ‫الطاعون – « َق َال‪َ :‬و ُغ ِشي َع َلى ُم َعا ٌذ َغ ْش َيةً» ‪ -‬يعني‪ :‬أخذته إغماءة بسبب شدة المرض ‪َ « -‬ف َأ َف َ‬
‫َ‬
‫يك؟ َف َق َال‪َ :‬أ ْبكِي َع َلى ا ْل ِع ْل ِم ا َّل ِذي ُيدْ َف ُن َم َع َك»‪ .‬وكما جاء ف الحديث‬ ‫ث َي ْبكِي‪َ ،‬ف َق َال ُم َعا ٌذ‪َ :‬ما ُي ْبكِ َ‬ ‫َوا ْل َح ِ‬
‫ار ُ‬
‫اء‪َ ،‬حتَّى إِ َذا َل ْم ُي ْب ِق َعالِ ًما‬
‫ض الع َلم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪« -‬إِ َّن اَّللَ َلَ َي ْقبِ ُض الع ْل َم انْتزَا ًعا َي ْنت َِز ُع ُه م َن الع َباد‪َ ،‬و َلك ْن َي ْقبِ ُض الع ْل َم بِ َق ْب ِ ُ َ‬
‫وسا ُج َّه ًاَل‪َ ،‬ف ُسئِ ُلوا َف َأ ْفت َْوا بِ َغ ْيرِ ِع ْلمٍ‪َ ،‬ف َض ُّلوا َو َأ َض ُّلوا»؛ فكان الحارث يبكي على العلم الذي‬ ‫َّاس ُر ُء ً‬ ‫اتَّخَ َذ الن ُ‬
‫سيدفن مع معاذ ﭬ‪ .‬ولهذا عندما يموت العال ِم‪ ،‬كم من العلم ُيد َفن؟! وهذا معنى عظيم يلمح إليه‬
‫الحارث‪ :‬عندما يموت العالم الذي أكرمه اهلل ‪ -‬عز وجل‪ -‬بالعلم الغزير‪ ،‬والفهم‪ ،‬ودقة اإلستنباط‪ ،‬وحفظ‬
‫النصوص‪ ،‬والعناية باألدلة‪ ،‬إذا ُدفِن كم من العلم يدفن؟ مثل لما ُدفِن ابن باز ‪ -‬رحمة اهلل عليه ‪ -‬ودفن ابن‬
‫عثيمين ‪ ،$‬واأللباين ‪ ،$‬وغيرهم من العلماء األكابر‪ ،‬كم من العلم يدفن بدفن هؤلء العلماء؟‬
‫‪55‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫ب ا ْل ِع ْل ِم َل َم َحا َل َة» ‪-‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫‪55‬‬
‫ٍ‬
‫مهتم‬ ‫معتن بالطلب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫قال‪َ « :‬أ ْبكي َع َلى ا ْلع ْل ِم ا َّلذي ُيدْ َف ُن َم َع َك‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬إِ ْن ُكن َْت َطال َ‬
‫ار ِسي» ‪ -‬أحاله إلى‬ ‫ود‪َ ،‬ومِ ْن ُع َو ْي ِم ٍر َأبِي الدَّ ْر َد ِاء‪َ ،‬ومِ ْن َس ْل َم َ‬
‫ان ا ْل َف ِ‬ ‫بالتحصيل ‪َ « -‬فا ْط ُلبه مِن َعب ِد اهللِ ب ِن مسع ٍ‬
‫ْ َ ْ ُ‬ ‫ُْ ْ ْ‬
‫اك َو َز َّل َة ا ْل َعال ِ ِم» ‪ -‬أي‪ :‬احذر زلة‬ ‫ثالثة من فقهاء الصحابة‪ ،‬رضي اهلل عن الصحابة أجمعين‪ -‬وقال‪َ « :‬وإِ َّي َ‬
‫ات معا ٌذ رحم ُة اهللِ‬ ‫ف لِي َأص َلح َك اهلل َأ ْن َأ ْع ِر َفها؟ َق َال‪ :‬ل ِ ْلحق نُور يعر ُ ِ‬
‫ف بِه‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َم َ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ٌ َُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫العالم ‪َ « -‬ف ُق ْل ُت‪َ :‬و َك ْي َ‬
‫اب َن َف ٌر مِ ْن َأ ْص َح ِ‬ ‫ث ي ِريدُ َعبدَ اهللِ بن مسع ٍ‬
‫ود بِا ْل ُكو َف ِة‪َ ،‬فا ْنت ََهى إِ َلى َبابِ ِه‪َ ،‬فإِ َذا َع َلى ا ْل َب ِ‬ ‫َع َل ْي ِه‪َ ،‬و َخ َر َج ا ْل َح ِ‬
‫اب‬ ‫ْ َ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ار ُ ُ‬
‫ْت؟ َف َق َال‪َ :‬ن َع ْم‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫يث َحتَّى َقا ُلوا‪َ :‬يا َشامِ ُّي‪َ ،‬أ ُم ْؤمِ ٌن َأن َ‬
‫ون‪َ ،‬ف َج َرى َب ْين َُه ُم ا ْل َح ِد ُ‬
‫ود َيت ََحدَّ ُث َ‬‫َعب ِد اهللِ ب ِن مسع ٍ‬
‫ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ت لِي َألَ ْن َب ْأ ُت ُك ْم َأني‬
‫يها‪َ ،‬و َل ْو َأ ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ‬‫َف َقا ُلوا‪ :‬مِن َأ ْه ِل ا ْلجن َِّة؟ َق َال‪ :‬إِ َّن لِي َذنُوبا وما َأد ِري ما يصنَع ِ‬
‫اهلل ف َ‬
‫ً َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة» ‪ -‬وهنا واضح أنه لما قال‪« :‬أنا مؤمن» ما قصد أنه مؤمن مكمل اإليمان‪ ،‬ولهذا قال‪« :‬إِ َّن‬
‫لِي َذنُو ًبا»؛ فما قصد بكلمة «أنا مؤمن» أي مكمل اإليمان‪ .‬وإذا قال اإلنسان‪« :‬أنا مؤمن» وقصد أصل‬
‫اإليمان فهذا ل حرج فيه‪ ،‬ومر معنا عدة نقولت عن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬ف هذا المعنى‪.‬‬
‫الشامِي؟ َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه ُم ْؤمِ ٌن‪،‬‬ ‫ب مِ ْن َأ ِخينَا َه َذا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫« َق َال‪َ :‬ف َب ْين ََما ُه ْم ك ََذل َك إِ ْذ َخ َر َج َع َل ْي ِه ْم َع ْبدُ اهلل‪َ ،‬ف َقا ُلوا‪َ :‬أ َل َت ْع َج ُ‬
‫َو َل َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة»‪ .‬ومر معنا ساب ًقا – ف رقم (‪َ « :)٢٢‬ق َال َر ُج ٌل ِعنْدَ َع ْب ِد اهللِ‪ :‬إِني ُم ْؤمِ ٌن‪َ ،‬ق َال‪:‬‬
‫ُق ْل‪ :‬إِني فِي ا ْل َجن َِّة! َو َلكِنَّا ن ُْؤمِ ُن بِاهللِ َو َم َالئِ َكتِ ِه َو ُك ُتبِ ِه َو ُر ُسلِ ِه»‪ .‬فالرجل هنا ‪ -‬الذي هو الحارث ‪ -‬قصد‬
‫ت لِي َألَ ْن َب ْأ ُت ُك ْم َأني‬ ‫اهلل فِ َيها‪َ ،‬و َل ْو َأ ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ‬ ‫ِ‬
‫أصل اإليمان‪ ،‬ولهذا قال‪« :‬إِ َّن لي َذنُو ًبا َو َما َأ ْد ِري َما َي ْصن َُع ُ‬
‫الشامِي؟‬
‫ب مِ ْن َأ ِخينَا َه َذا َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َأ ْه ِل ا ْل َجنَّة‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ف َب ْين ََما ُه ْم ك ََذل َك إِ ْذ َخ َر َج َع َل ْي ِه ْم َع ْبدُ اهلل‪َ ،‬ف َقا ُلوا‪َ :‬أ َل َت ْع َج ُ‬
‫َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه ُم ْؤمِ ٌن‪َ ،‬و َل َي ْز ُع ُم َأ َّن ُه مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة‪َ ،‬ف َق َال َع ْبدُ اهللِ‪َ :‬ل ْو ُق ْل ُت إِ ْحدَ ُاه َما َألَ ْت َب ْعت َُها ْاألُ ْخ َرى» ‪ -‬إذا‬
‫جزمت أنك مؤمن فاجزم بأنك من أهل الجنة! فأراد الرجل أن يوضح مراده‪ :‬أنه ما قصد تزكية نفسه بتتميم‬
‫اهلل َع َلى‬ ‫ث‪ :‬إِنَّا ل ِ َّل ِه َوإِنَّا إِ َل ْي ِه ر ِ‬ ‫اإليمان وتكميله‪ ،‬وإنما قصد بذلك أصل اإليمان‪َ « ،‬ف َق َال ا ْل َح ِ‬
‫ون‪َ ،‬ص َّلى ُ‬ ‫اج ُع َ‬ ‫َ‬ ‫ار ُ‬
‫اذ» ‪ -‬أخذ يدعو لمعاذ هبذه الدعوة‪( :‬صلى اهلل عليه)؛ ألنه تذكر كلمة معاذ التي قال له‪« :‬إِ َّي َ‬
‫اك َو َز َّل َة‬ ‫مع ٍ‬
‫َُ‬
‫اك َو َز َّل َة ا ْل َعال ِ ِم‪،‬‬ ‫ا ْل َعال ِ ِم» ‪َ « -‬ق َال‪َ :‬و ْي َح َك‪َ ،‬و َم ْن ُم َعا ٌذ؟ َق َال‪ُ :‬م َعا ُذ ْب ُن َج َبلٍ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬و َما َذ َ‬
‫اك؟ َق َال‪َ :‬ق َال‪ :‬إِ َّي َ‬
‫ود»‪ .‬كالم بن مسعود ‪ -‬واألثر لم يصح‪ ،‬لكن إن صح ‪ -‬كالم بن‬ ‫ف بِاهللِ َأنَّها مِن َْك َل َز َّل ٌة يا ابن مسع ٍ‬
‫َف َأ ْحلِ ُ‬
‫َ ْ َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬
‫مسعود له وجه من جهة أن المراد بذلك عدم تزكية النفس بتكميل اإليمان‪ ،‬و كالمه هذا له وجه من جهة‬
‫ف بِاهللِ َأن ََّها‬
‫أنه قصد بكالمه أصل اإليمان‪ ،‬لكن األثر لم يصح‪ ،‬وعرفنا ما ف إسناده من علة‪ .‬فقال‪َ « :‬ف َأ ْحلِ ُ‬
‫ان إِ َّل َأنَّا ن ُْؤمِ ُن بِاهللِ‪َ ،‬و َم َالئِ َكتِ ِه‪َ ،‬و ُك ُتبِ ِه‪َ ،‬و ُر ُسلِ ِه‪َ ،‬وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخ ِر‪ - »...‬وهذا‬
‫يم ُ‬
‫اإل َ‬ ‫َ‬
‫مِن َْك َل َز َّل ٌة يا ابن مسع ٍ‬
‫ود‪َ ،‬وما ْ ِ‬ ‫َ ْ َ َ ْ ُ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪56‬‬

‫نفس اللفظ الذي مر عن ابن مسعود‪« :‬ولكنا نؤمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله»؛ كان يقصد هذا المعنى‬
‫ت َل ُق ْلنَا‪ :‬إِنَّا مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة‪.‬‬ ‫اهلل فِ َيها‪َ ،‬ف َل ْو َأنَّا َن ْع َل ُم َأن ََّها ُغ ِف َر ْ‬
‫ُوب َما نَدْ ِري َما َي ْصن َُع ُ‬‫بكلمة «أنا مؤمن» ‪َ « -‬و َلنَا ُذن ٌ‬
‫َت مِني َل َز َّلةٌ»‪.‬‬ ‫َت مِني َل َز َّلةٌ‪َ ،‬صدَ ْق َت َواهللِ إِ ْن كَان ْ‬ ‫َق َال‪َ :‬ف َق َال َع ْبدُ اهللِ‪َ :‬صدَ ْق َت‪َ ،‬واهللِ إِ ْن كَان ْ‬
‫وعلى كل حال كلمة «أنا مؤمن» إن قصد هبا أصل اإليمان ‪ -‬كما هو واضح ف كالم الحارث هذا ‪ -‬فال‬
‫إشكال‪ :‬تطلق بدون استثناء‪ .‬وإذا قصد هبا تمام اإليمان وتزكية النفس‪ ،‬لبد من الستثناء‪ ،‬كما هو واضح‬
‫ف كالم عبد اهلل بن مسعود‪ .‬ولكن هذا ‪ -‬كما َقدَّ ْم ُت ‪ -‬لم يثبت؛ ألن ف إسناده شهر بن حوشب‪ ،‬واأللباين‬
‫‪ $‬قال‪« :‬إسناد هذا األثر إلى ابن مسعود ضعيف من أجل شهر بن حوشب؛ فإنه ضعيف لكثرة أوهامه»‪.‬‬
‫لكن صدر األثر والخطبة التي فيه جاءت عن معاذ من طرق صحيحة‪ ،‬وأما تتمة القصة ‪ -‬وهي حادثة وفاة‬
‫معاذ‪ ،‬ومخاطبة الحارث له‪ ،‬وما بعد ذلك من لقاء الحارث بابن مسعود ‪ -‬هذا كله إنما جاء من هذا الطريق‬
‫ول يثبت‪ .‬أما صدر القصة فجاءت من طرق صحت هبا عن معاذ ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ك ب ِن مر َث ٍد الزمانِي‪َ ،‬عن َأبِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب ْب ُن ا ْل ِم ْقدَ امِ‪ ،‬نا ِع ْك ِر َم ُة ْب ُن َع َّم ٍ‬


‫يه‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ار‪ ،‬نا َأ ُبو ُز َم ْيلٍ‪َ ،‬ع ْن َمال ْ َ ْ‬ ‫(‪َ )77‬حدَّ َثنَا ُم ْص َع ُ‬
‫يما ُن بِاَّلل ِ»‪َ .‬ق َال‪ُ :‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َنبِ َّي‬ ‫َّار؟ َق َال‪ِ ْ « :‬‬ ‫جي ا ْل َع ْبدَ مِ َن الن ِ‬ ‫ول اهللِ ﷺ‪ :‬ما َذا ُينْ ِ‬ ‫َق َال‪َ :‬ق َال َأ ُبو َذ ٍّر‪َ :‬س َأ ْل ُت َر ُس َ‬
‫اْل َ‬ ‫َ‬
‫ك اَّللُ» َأ ْو « َي ْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق ُه اَّللُ»‪.‬‬ ‫ان َع َم ًال َق َال‪« :‬ت َْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق َ‬
‫اإليم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل‪ ،‬إِ َّن َم َع ْ َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا األثر عن مالك بن مرثد الز َّماين‪ ،‬عن أبيه مرثد‪ ،‬قال‪َ « :‬ق َال َأ ُبو َذ ٍّر ﭬ‪:‬‬

‫َّار؟» وكثير ًا ما يتكرر هذا السؤال على النبي ‪ -‬عليه الصالة‬ ‫ول اهللِ ﷺ‪ :‬ما َذا ُينْ ِ‬
‫جي ا ْل َع ْبدَ مِ َن الن ِ‬ ‫َس َأ ْل ُت َر ُس َ‬
‫َ‬
‫ان‬
‫يم ُ‬ ‫والسالم‪ -‬مما يدل على حرص الصحابة ﭫ على الخير‪ ،‬ومعرفة ما تكون به نجاة األمر‪َ « ،‬ق َال‪ِ ْ :‬‬
‫اْل َ‬
‫ك اَّللُ َأ ْو َي ْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق ُه اَّللُ»‪.‬‬
‫ان َع َم ًال َق َال‪ :‬ت َْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق َ‬
‫اإليم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِاَّلل‪َ .‬ق َال‪ُ :‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َنبِ َّي اهلل‪ ،‬إِ َّن َم َع ْ َ‬
‫كثيرا معطوفة على اإليمان‬
‫والرضخ‪ :‬المراد به النفقة ‪ ،‬أي‪ :‬تنفق مما رزقك اهلل‪ .‬واإليمان معه أعمال‪ ،‬وتأيت ً‬
‫ف القرآن‪ :‬ﭿﮑﮒﮓﮔ ﮕﭾ؛ وعطفها عليه ليس دال على خروجها من ُم َس َّما ُه‪ ،‬بل هي‬
‫ِ‬
‫التأكيد عليها والهتما ِم باألعمال‪ .‬وهنا‪ ،‬من حرص أبي ذر ‪ -‬إن صح‬ ‫وذكرها من باب‬ ‫داخلة ف مسماه‪،‬‬
‫ُ‬
‫‪57‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪57‬‬ ‫اإليم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َع َم ًال»‪ ،‬يعني أراد أن يذكر له النبي ﷺ أعما ً‬
‫ل يتمسك هبا‪،‬‬ ‫هذا الحديث ‪ -‬قال‪َ « :‬يا َنبِ َّي اهلل‪ ،‬إِ َّن َم َع ْ َ‬
‫ك اَّللُ َأ ْو َي ْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق ُه اَّللُ» أي‪:‬‬
‫فأرشده ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ -‬إلى النفقة‪َ « ،‬ق َال‪ :‬ت َْر َض ُخ ِم َّما َر َز َق َ‬

‫ُينْ ِفق‪.‬‬

‫واإلسناد ضعيف‪« ،‬مالِك بن مر َث ٍد الزمانِي َعن َأبِ ِ‬


‫يه» ‪ -‬أبوه مقبول‪ .‬وقال الحافظ ف «التقريب»‪ :‬مقبول‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ‬
‫وقال الذهبي ‪ -‬رحمه اهلل تعالى عن مرثد‪« :‬فيه جهالة»؛ فحديثه إذا لم يوجد من يتابعه عليه ل ُيح َت ُّج به‪،‬‬

‫فاإلسناد ضعيف‪.‬‬

‫ونسأل اهلل الكريم‪ ،‬رب العرش العظيم‪ ،‬بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينجينا جمي ًعا من النار‪ ،‬وأن‬

‫يجعلنا من أهل الجنة بمنه وكرمه‪ .‬اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل‪ ،‬ونعوذ بك من‬

‫النار وما قرب إليها من قول وعمل‪ ،‬ونسألك من الخير كله ما علمنا منه وما لم نعلم‪ ،‬ونعوذ بك من الشر‬

‫كله ما علمنا منه وما لم نعلم‪.‬‬

‫اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا‪ ،‬وأصلح لنا دنيانا التي فيها ُ‬
‫معاشنا‪ ،‬وأصلح لنا آخرتنا التي فيها‬

‫معا ُدنا‪ ،‬واجعل الحياة زيادة لنا ف كل خير‪ ،‬والموت راحة لنا من كل شر‪ .‬اللهم وأصلح ذات بيننا‪ ،‬وألف‬

‫بين قلوبنا‪ ،‬واهدنا سبل السالم وأخرجنا من الظلمات إلى النور وبارك لنا ف أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا‬

‫وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا‪ ،‬واجعلنا مباركين أينما كنا‪.‬‬

‫ونسأل اهلل عز وجل بأسمائه الحسنى والصفات العال للشباب العزاب أن يمن عليهم بالزوجات‬

‫الصالحات‪ ،‬وأن يرزقهم العفاف‪ ،‬وأن يمن علينا جمي ًعا بالتوفيق والسداد‪ ،‬وأن يغفر لنا ولوالدينا‬

‫ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات‪ ،‬إنه سميع قريب‬

‫مجيب‪.‬‬

‫واهلل تعالى أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪58‬‬

‫الدرس الثامن‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪،‬‬

‫أما بعد‪:‬‬

‫فيقول اْلمام الحافظ أبو بكر عبد اَّلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف ‪-‬رحمه اَّلل تعالى‪ -‬يقول يف‬

‫كتابه «اْليمان»‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬


‫ان؟‬ ‫ان‪ ،‬نا َح َّما ُد ْب ُن َز ْيد‪َ ،‬ع ْن َعلي ْب ِن َز ْيد‪َ ،‬ع ْن ُأم ُم َح َّمد َأ َّن َر ُج ًال َق َال ل َعائ َشةَ‪َ :‬ما ْاإل َ‬
‫يم ُ‬ ‫(‪َ )78‬حدَّ َثنَا َع َّف ُ‬

‫«م ْن َس َّر ْت ُه َح َس َن ُت ُه‪َ ،‬و َسا َء ْت ُه َس ِّي َئ ُت ُه َف ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬


‫َف َقا َل ْت‪ُ :‬أ َفس ُر َأ ْو ُأ ْجم ُل؟ َق َال‪َ :‬أ ْجملي‪َ ،‬ف َقا َل ْت‪َ :‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين وأشهد أن ل إله إل اهلل وحده ل شريك له ‪ ،‬وأشهد أن محمد ًا عبده ورسوله صلى‬

‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ ،‬أما بعد‪،‬‬

‫أثر موقوف على أم المؤمنين عائشة ڤ أهنا ُسئلت عن اإليمان‪ ،‬فقالت لمن سألها‪ُ « :‬أ َفس ُر َأ ْو‬
‫فهذا ٌ‬
‫مجمال‬
‫ً‬ ‫بسط فيه القول والشرح والبيان والتوضيح‪ ،‬أو تريد جوا ًبا‬
‫مفسرا‪ ،‬أي‪ُ :‬ي َ‬
‫ً‬ ‫ُأ ْج ِم ُل؟»‪ ،‬أي‪ :‬تريد جوا ًبا‬

‫مجمال‪،‬‬
‫ً‬ ‫بحيث يذكر فيه الكالم القليل الحاوي على المعاين الكثيرة‪َ « ،‬ق َال‪َ :‬أ ْج ِملِي» يعني أريد جوا ًبا‬

‫تفسيرا لإليمان عن أم‬


‫ً‬ ‫فقالت ڤ‪َ « :‬م ْن َس َّر ْت ُه َح َسنَ ُت ُه‪َ ،‬و َسا َء ْت ُه َسي َئ ُت ُه َف ُه َو ُم ْؤمِ ٌن»‪ .‬وهذا المعنى الذي جاء‬

‫المؤمنين عائشة –ڤ ثبت مرفو ًعا إلى النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ ،-‬وأما هذا األثر الذي ساقه‬

‫المصنف ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬فإن إسناده ضعيف‪ ،‬فيه علي بن زيد وهو بن جدعان ضعيف‪ ،‬وأم محمد ل‬

‫ُت َ‬
‫عرف‪ ،‬ففيه علتان‪ .‬فاإلسناد ضعيف‪ ،‬ولكن الحديث صح مرفو ًعا عن النبي ﷺ من حديث عمر بن‬

‫است َْو ُصوا بِ َأ ْص َحابِي‬ ‫ِ ِ‬ ‫الخطاب ﭬ أنه خطب بالجابية فقال‪َ « :‬قام فِينَا رس ُ ِ‬
‫ول اهلل ﷺ َم َقامي في ُك ْم‪َ ،‬ف َق َال‪ْ :‬‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫َخ ْي ًرا‪ »...‬وف آخره «‪َ ...‬و َم ْن َس َّر ْت ُه َح َسنَ ُت ُه َو َسا َء ْت ُه َس ِّي َئ ُت ُه‪َ ،‬ف ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪ ،‬رواه أحمد وغيره‪ ،‬وإسناده صحيح‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫وقوله ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬و َم ْن َس َّر ْت ُه َح َسنَ ُت ُه َو َسا َء ْت ُه َس ِّي َئ ُت ُه‪َ ،‬ف ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪ ،‬هذا فيه تفسير لإليمان وبيان‬
‫‪59‬‬

‫له وإيضاح لحقيقته‪ ،‬وذكر عالمة عظيمة من عالمات اإليمان‪ ،‬أل وهي أن المؤمن يكون هبذه الصفة‪ :‬تسره‬

‫حسنته وتسوؤئه سيئته‪ ،‬وذلك أن اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬حبب إلى المؤمنين اإليمان وزينه ف قلوهبم‪،‬‬

‫وكره إليهم الكفر والفسوق العصيان‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬ف سورة الحجرات‪ :‬ﭿﭾ ﭿ ﮀ‬

‫ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎﭾ [الحجرات‪ .]7 :‬الكفر هو الذي يضاد‬

‫اإليمان من أصله و َين ُقضه ويخرج به فاعله من الملة‪ .‬والفسوق هو ارتكاب الكبائر التي تخل بإيمان‬

‫المسلم الواجب‪ ،‬فيكون بسببها مؤمنًا فاس ًقا ل يطلق عليه وصف اإليمان باإلطالق ولكن يقال‪« :‬مؤمن‬

‫فاسق» لرتكابه الفسوق الذي هو هنا المراد به الكبائر ‪ -‬كبائر اإلثم والعصيان وما دون ذلك‪ .‬وهذه اآلية‬

‫ذكرت فيها هذه األمور الثالثة ‪ -‬الكفر والفسوق والعصيان ‪ -‬مرتبة حسب حالها ف شدة تأثيرها على‬

‫فذكِر الكفر ً‬
‫أول؛ ألنه ناقض لإليمان‪ ،‬ثم ذكر الفسوق ثان ًيا؛ ألنه يؤثر ف كمال اإليمان الواجب‬ ‫اإليمان‪ُ ،‬‬

‫وفاعله ل يستحق بفعله وصف اإليمان باإلطالق‪ ،‬بل يقال عنه‪« :‬مؤمن فاسق» أو «مؤمن ناقص اإليمان»‬

‫ونحو ذلك‪ ،‬ثم ذكر العصيان وهو الذنوب التي دون ذلك ‪ -‬دون الكبائر‪ ،‬وقد قال اهلل ‪ -‬تعالى‪ :‬ﭿﮒ ﮓ‬

‫ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﭾ [النساء‪ ،]31 :‬فذكرت هذه األمور التي تؤثر‬

‫ف اإليمان حسب حالها ف شدة تأثيرها ف اإليمان‪ .‬الشاهد أن اهلل قال ف اآلية‪ :‬ﭿﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬

‫ب و َك َّره تفضالً منه ونعمة‪ ،‬ولهذا قال ‪ -‬جل وعال‪ -‬ف‬


‫ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊﮋﭾ‪َ ،‬ح َّب َ‬

‫تفضل من اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬ومن وإنعام على‬


‫تمام هذا السياق‪ :‬ﭿﮐ ﮑ ﮒ ﮓﮔ ﭾ [الحجرات‪ ،]8 :‬فهذا ُّ‬

‫من شاء من عباده ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ ،‬ولهذا فالمؤمن تسره حسنته وتسوؤه سيئته لما جعل اهلل ‪ -‬سبحانه‬

‫وتعالى‪ -‬ف قلبه من حب لإليمان ولوازمه وفروعه ومقتضياته‪ ،‬ولما جعل ف قلبه من كراهية للكفر‬

‫والفسوق والعصيان‪ ،‬فهذه أمور مكروهة‪ ،‬وقلب المسلم يكرهها ويبغضها‪ ،‬فالحسنة تسره والسيئة تسوؤه‪،‬‬

‫فإذا كان هبذه الصفة فهذا من أمارات اإليمان‪ :‬من أمارات أن اهلل حبب إليه اإليمان وزينه ف قلبه‪ ،‬وكره إليه‬

‫الكفر والفسوق والعصيان؛ إذا كان هبذه الصفة‪ :‬تسره حسنته وتسوؤه سيئته‪ ،‬فهذا من عالمات إيمانه ‪-‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪60‬‬

‫من عالمات أن ف قلبه حب لإليمان ولوازمه ومقتضياته‪ ،‬وكره للكفر والفسوق والعصيان ‪ -‬بينما بعض‬

‫أيضا كراهية للسيئ والقبيح‪ ،‬وهذا من أمارات ضعف‬


‫الناس ليس ف قلبه هذا المعنى‪ ،‬ل مسرة للحسن ول ً‬

‫اإليمان أو ذهاب اإليمان‪ .‬أما المؤمن كامل اإليمان فإنه هبذه الصفة كما قال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬م ْن‬

‫َس َّر ْت ُه َح َسنَ ُت ُه َو َسا َء ْت ُه َس ِّي َئ ُت ُه‪َ ،‬ف ُه َو ُم ْؤ ِم ٌن»‪ ،‬أي‪ :‬هذه من عالمات اإليمان‪ ،‬فهذه أمارة من أمارات اإليمان‬

‫وهي منبنية على ما دل عليه قول اهلل ‪ -‬تعالى‪ :‬ﭿﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ‬

‫ﮊﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﭾ [الحجرات‪. ]7 :‬‬

‫الش ُّك مِ ْن َأبِي ا ْل َع َال ِء»‪ ،‬وف «المصنَّف»‪:‬‬


‫مر معنا ف الدرس الماضي ‪ -‬ف رقم (‪( – )70‬أبو العالء)‪ ،‬قال‪َّ « :‬‬

‫الش ُّك مِ ْن َأبِي َب ْك ٍر»‪ ،‬ومن ف اإلسناد ‪َ « -‬ح َّما ُد ْب ُن َم ْع ِقلٍ‪َ ،‬ع ْن َغال ِ ٍ‬
‫ب‪َ ،‬ع ْن َب ْك ٍر» ‪ -‬ليس فيهم من هو هبذا‬ ‫« َّ‬

‫اللقب‪ ،‬سواء (أبو بكر) أو (أبو العالء)‪ .‬وكل منهما محتمل‪ ،‬يعني‪ :‬محتمل أن يكون (أبا بكر)‪ ،‬ومحتمل‬

‫أيضا أن يكون (أبا العالء)‪ .‬أبو بكر هو المصنف‪ ،‬ويكون الذي قال هذه الكلمة من روى «كتاب اإليمان»‬
‫ً‬

‫الش ُّك مِ ْن َأبِي َب ْك ٍر»‪ ،‬أي‪ :‬مصنف الكتاب‪ ،‬فهذا محتمل‪ .‬ومحتمل أن يكون أبو العالء‬
‫عن المصنف‪ ،‬قال « َّ‬

‫الراوي للكتاب عن ابن أبي شيبة؛ إذا رجعنا إلى أول الكتاب ف ذكر اإلسناد‪ ،‬فالراوي للكتاب عن ابن أبي‬
‫َ‬

‫شيبة هو أبو العالء محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي الكوف قراء ًة عليه‪ .‬فيحتمل أن يكون الشك من أبي‬

‫العالء الذي هو الراوي للكتاب عن ابن أبي شيبة‪ ،‬ويحتمل أن يكون الشك من ابن أبي شيبة‪ .‬وف‬

‫«المصنَّف» قال‪« :‬أبو بكر»‪ ،‬وهنا قال‪« :‬أبو العالء»‪ .‬وإذا كان ‪ -‬وهذا انقدح إلى ذهني اآلن ‪ -‬إذا كان أبو‬

‫العالء ليس من رواة «المصنَّف» فهذا يقوي أن الشك من أبي بكر وليس من أبي العالء‪ ،‬وأن يكون الذي‬

‫ف «المصنَّف» هو الصواب‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يم‪َ ،‬ع ْن َع ْل َق َمةَ‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال‬ ‫ِ‬ ‫(‪َ )79‬حدَّ َثنَا ُم َح َّمدُ ْب ُن َسابِ ٍق‪ ،‬نا إِ ْس َرائِ ُيل‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬
‫ش‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َراه َ‬
‫ش‪ ،‬و ََل بِا ْلب ِذ ِ‬
‫يء»‪.‬‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ان‪َ ،‬و ََل بِا ْل َفاح ِ َ‬ ‫ول اهللِ ﷺ‪َ « :‬ل ْي َس ا ْل ُم ْؤ ِم ُن بِال َّط َّع ِ‬
‫ان‪َ ،‬و ََل بِال َّل َّع ِ‬ ‫َر ُس ُ‬
‫‪61‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪61‬‬
‫الشرح ‪:‬‬

‫ثم أورد ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث عن عبد اهلل بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال‪َ « :‬ل ْي َس ا ْل ُم ْؤ ِم ُن‬
‫ش‪ ،‬و ََل بِا ْلب ِذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان‪َ ،‬و ََل بِال َّل َّع ِ‬
‫بِال َّط َّع ِ‬
‫يء»‪ ،‬والحديث رواه اإلمام أحمد ف «المسند»‪ ،‬والرتمذي‬ ‫َ‬ ‫ان‪َ ،‬و ََل بِا ْل َفاح ِ َ‬

‫وحسنه‪ ،‬والحاكم وصححه‪.‬‬

‫وقوله‪َ « :‬ل ْي َس ا ْل ُم ْؤ ِم ُن»‪ ،‬المراد بالمؤمن هنا أي‪ :‬المؤمن الذي آمن اإليمان الكامل الواجب‪،‬‬
‫ش‪ ،‬و ََل بِا ْلب ِذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان‪َ ،‬و ََل بِال َّل َّع ِ‬
‫ليس«بِال َّط َّع ِ‬
‫يء»‪ ،‬أي‪ :‬هذه الخصال ليست منه‪ ،‬ول هي من صفاته‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ان‪َ ،‬و ََل بِا ْل َفاح ِ َ‬

‫بل هو بعيد عنها؛ ألن هذه الخصال تتناىف مع اإليمان الواجب‪ .‬وعرفنا أن النفي يكون ف هذا المقام عند‬

‫ترك واجب أو فعل محرم‪ ،‬وهبذا ُيع َلم أن هذه الخصال المذكورة هنا ‪ -‬اللعن والطعن والفحش والبذاء ‪-‬‬

‫كلها خصال تناف كمال اإليمان الواجب‪ ،‬فمن اتصف هبا أو بشيء منها أنقصت إيمانه الواجب وتعرض‬

‫بسبب فعله لها أو وقوعه فيها للعقوبة‪.‬‬

‫والطعان مِ َن ال َّط ِ‬
‫عن‪ ،‬والمراد به العيب؛ الطعان‪ :‬ال َعياب الذي يشتغل بعيب الناس‪ ،‬والكالم فيهم‪ ،‬وذمهم‪،‬‬

‫والولوغ ف أعراضهم‪ ،‬والتهكم هبم والسخرية‪ ،‬فهذا يقال له طعان‪ ،‬يعني‪ :‬يطعن ف الناس‪ ،‬وهي صيغة‬

‫مبالغة‪ .‬ومِث ُلها اللعان وهو الذي يلعن الناس‪ ،‬واللعن هو الدعاء على الناس بالشر‪ ،‬والدعاء عليهم بالبعد‬

‫من رحمة اهلل‪ ،‬فليس المؤمن بالطعان ول اللعان‪ ،‬يعني‪ :‬ل يشتغل بالطعن ول يشتغل باللعن؛ ألن اإليمان‬

‫رحمة‪ ،‬والنبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬نبي الرحمة‪ ،‬فمقتضى هذه الرحمة أل يكون الراحم طعا ًنا لعا ًنا‪،‬‬

‫ِ‬
‫اللعن الدعا ُء بالخير‪ .‬فهذا ما تقتضيه رحمة اإليمان واتصاف‬ ‫النصح‪ ،‬ويقوم مقام‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الطعن‬ ‫بل يقوم مقام‬

‫ث َل َّعانًا‪َ ،‬وإِن ََّما ُب ِع ْث ُ‬


‫ت‬ ‫المؤمن باإليمان وبرحمة اإليمان‪ ،‬والنبي ‪-‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬قال‪« :‬إِنِّي َل ْم ُأ ْب َع ْ‬
‫ِ‬
‫ُون ُش َهدَ ا َء‪َ ،‬و ََل‬ ‫َر ْح َم ًة»‪ ،‬وقد جاء ف حديث أن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪ -‬قال‪« :‬إِ َّن ال َّل َّعان َ‬
‫ين ََل َيكُون َ‬

‫ُش َف َعا َء َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة»‪ ،‬والشهادة هي ذكر الناس بالخير‪ ،‬والشفاعة دعاء لهم بالخير‪ .‬فمن كان ف الحياة الدنيا‬

‫دائما يلعن ويشتم ويسب‪،‬‬


‫مشتغال بطعن الناس ف أعراضهم والتهكم هبم والسخرية‪ ،‬ولعا ًنا‪ً :‬‬
‫ً‬ ‫طعا ًنا لعا ًنا‪،‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪62‬‬

‫هل مِ ْث ُل هذا مؤهل أن يكون يوم القيامة شهيدً ا للناس وشفي ًعا لهم عند اهلل؟! ما سلموا منه ف الدنيا؛ ففي‬

‫وأيضا ف الدنيا كان لعا ًنا يشتم ويسب ويدعو‬


‫الدنيا يطعن فيهم وف أعراضهم‪ ،‬ويلغ ف أعراضهم‪ ،‬ويتهكم‪ً ،‬‬

‫هال أن يكون شهيدً ا أو شفي ًعا للناس يوم القيامة‪ .‬أما الذي يرحم الناس‪،‬‬
‫على اآلخرين‪ ،‬فمثل هذا ليس مؤ ً‬

‫وينصح الناس‪ ،‬ويرتفق هبم‪ ،‬ويدعو لهم‪ ،‬ويرغب ف صالحهم وهدايتهم ويتلطف ويحسن‪ ،‬من كان هبذه‬

‫مؤهال أن يكون شهيدً ا لهم وأن يكون شفي ًعا لهم عند اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬بخالف الطعان‬
‫ً‬ ‫الصفة كان‬

‫اللعان‪ .‬الطعان اللعان لم يسلموا منه ف الدنيا‪ ،‬فكيف يكون شهيدً ا لهم أو شفي ًعا عند اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪-‬‬

‫يوم القيامة وهم لم يسلموا منه ومن أذاه وشره ف الدنيا؟ فالمؤمن ليس بالطعان ول اللعان‪ .‬وعند المؤمن‬

‫بدل الطعن النصح‪ ،‬وبدل اللعن الدعاء بالخير‪ ،‬وهذا ما يقتضيه اإليمان ورحمة الدين‪.‬‬

‫ش‪ ،‬و ََل بِا ْلب ِذ ِ‬ ‫ِ‬


‫يء»‪ ،‬الفاحش أي‪ :‬ف أفعاله وأعماله وسلوكه‪ ،‬والبذيء أي‪ :‬ف لسانه‬ ‫َ‬ ‫قال‪َ « :‬و ََل بِا ْل َفاح ِ َ‬

‫وكالمه‪ .‬فليس بالفاحش ول البذيء‪ ،‬أي‪ :‬ل يفعل الفحش من األعمال ول يتكلم ف البذيء من األقوال‪.‬‬

‫وهذا فيه أن المؤمن قام به صالح لسانه وصالح بدنه‪ ،‬فبدنه ل فحش فيه ولسانه ل بذاءة فيه‪ .‬قال‪َ « :‬ل ْي َس‬
‫ش‪ ،‬و ََل بِا ْلب ِذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ا ْل ُم ْؤ ِم ُن بِال َّط َّع ِ‬
‫ان‪َ ،‬و ََل بِال َّل َّع ِ‬
‫يء»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ان‪َ ،‬و ََل بِا ْل َفاح ِ َ‬

‫قال‪:‬‬

‫الر ْح َم ِن ْب ِن َي ِزيدَ ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ك ب ِن ا ْلح ِ ِ‬


‫ِ ِ‬ ‫ان‪َ ،‬ع ْن َمن ُْص ٍ‬ ‫(‪ )80‬حدَّ َثنَا يحيى بن س ِع ٍ‬
‫يد‪َ ،‬ع ْن ُس ْف َي َ‬
‫ارث‪َ ،‬ع ْن َع ْبد َّ‬ ‫َ‬ ‫ور‪َ ،‬ع ْن َمال ْ‬ ‫َ َْ ْ ُ َ‬ ‫َ‬

‫خ َيا َن َة َوا ْلك َِذ َب»‪.‬‬ ‫َعن َعب ِد اهللِ‪َ ،‬ق َال‪« :‬ا ْلم ْؤ ِمن ي ْطبع ع َلى ا ْل ِ‬
‫خ ََل ِل ُك ِّل َها إِ ََّل ا ْل ِ‬
‫ُ ُ ُ َُ َ‬ ‫ْ ْ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث موقو ًفا على عبد اهلل‪ ،‬وجاء ‪ -‬كما سيأيت عند المصنف ‪ -‬ف‬

‫خ َيا َن َة َوا ْل َك ِذ َب»‪ ،‬وهذا فيه خطورة‬


‫خ َال ِل كُلها إِ َّل ا ْل ِ‬
‫َ‬
‫بعض الطرق مرفو ًعا‪ .‬قال‪« :‬ا ْلم ْؤمِن ي ْطبع َع َلى ا ْل ِ‬
‫ُ ُ ُ َُ‬

‫الخيانة والكذب‪ ،‬وشدة تأثيرهما على اإليمان‪ ،‬وأهنما مجانبان لإليمان‪ ،‬مثل ما جاء عن أبي بكر ﭬ أنه‬

‫ب لإليمان»‪ ،‬بمعنى أن الكذب ف جانب واإليمان ف جانب آخر‪ .‬والخيانة مجانبة‬ ‫ِ‬
‫قال‪« :‬الكذب مجان ٌ‬
‫‪63‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪63‬‬ ‫خيا َن َة وا ْل َك ِذب»‪« ،‬ي ْطبع َع َلى ا ْل ِ‬
‫خ َال ِل كُل َها»‪ ،‬أي‪ :‬يمكن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َُ‬ ‫َ‬ ‫لإليمان‪ .‬فـ«ا ْل ُم ْؤم ُن ُي ْط َب ُع َع َلى ا ْلخ َال ِل كُل َها إِ َّل ا ْل َ َ‬

‫خ َيا َن َة َوا ْل َك ِذ َب»‪ ،‬فقد يبتلى هبا شي ًئا فشي ًئا بالتطبع حتى تؤثر ف إيمانه‪،‬‬
‫أن يطبع على الخالل كلها «إِ َّل ا ْل ِ‬

‫ويكون لها التأثير الشديد على إيمانه‪.‬‬

‫فالحديث فيه بيان خطورة الخيانة والكذب‪ ،‬وهما ليسا من خصال اإليمان‪ ،‬بل هما مجانبان لإليمان وهما‬

‫ث ك ََذ َب‪َ ،‬وإِ َذا َو َعدَ َأ ْخ َل َ‬


‫ف‪َ ،‬وإِ َذا‬ ‫المنَافِ ِق َثَل ٌ‬
‫َث‪ :‬إِ َذا َحدَّ َ‬ ‫من خصال النفاق ‪ -‬كما ف الحديث‪ ،‬قال‪َ « :‬آي ُة ُ‬

‫اؤْ ت ُِم َن َخ َ‬
‫ان»‪ ،‬فالخيانة والكذب من صفات النفاق‪ ،‬وهما مجانبان لإليمان‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ب ْب ِن َس ْع ٍد‪َ ،‬ع ْن َس ْع ٍد‪َ ،‬ق َال‪:‬‬


‫ان‪َ ،‬ع ْن َس َل َم َة ْب ِن ك َُه ْيلٍ‪َ ،‬ع ْن ُم ْص َع ِ‬ ‫(‪ )81‬حدَّ َثنَا يحيى بن س ِع ٍ‬
‫يد‪َ ،‬ع ْن ُس ْف َي َ‬ ‫َ َْ ْ ُ َ‬ ‫َ‬

‫خ َيا َن َة َوا ْلك َِذ َب»‬


‫خ ََل ِل ُك ِّل َها إِ ََّل ا ْل ِ‬
‫«ا ْلم ْؤ ِمن ي ْطبع ع َلى ا ْل ِ‬
‫ُ ُ ُ َُ َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد الحديث المتقدم عن سعد‪ ،‬وهو بن أبي وقاص ﭬ‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ول اهللِ ﷺ‪ُ « :‬ي ْط َوى ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َع َلى‬


‫يع‪ ،‬نا ْاألَ ْع َم ُش‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬حد ْث ُت َع ْن َأبِي ُأ َما َمةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬ ‫ِ‬
‫(‪َ )82‬حدَّ َثنَا َوك ٌ‬

‫خ َيا َن َة َوا ْلك َِذ َب»‪.‬‬


‫ك ُِّل َشي ٍء إِ ََّل ا ْل ِ‬
‫ْ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ول اهللِ ﷺ‪ :‬ي ْطوى ا ْلم ْؤ ِمن ع َلى ك ُِّل َشي ٍء إِ ََّل ا ْل ِ‬
‫خ َيا َن َة‬ ‫ثم أورد هذا الحديث عن أبي أمامة ﭬ قال‪َ « :‬ق َال َر ُس ُ‬
‫ْ‬ ‫ُ ُ َ‬ ‫ُ َ‬

‫َوا ْلك َِذ َب»‪ ،‬يطوى من ال َطي وهو ضد النَ ْشر‪ ،‬ومعنى « ُي ْط َوى» أي‪ :‬ينطوي قلبه ويتصف بخصال كثيرة إل‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪64‬‬

‫الخيانة والكذب‪ ،‬فالخيانة والكذب مجانبان للمؤمن‪ ،‬ومجانبان لإليمان‪ُ « ،‬ي ْط َوى ا ْل ُم ْؤ ِم ُن َع َلى ك ُِّل َش ْي ٍء‬

‫خ َيا َن َة َوا ْلك َِذ َب»‪ .‬واإلسناد ضعيف لجهالة من حدث األعمش به‪.‬‬
‫إِ ََّل ا ْل ِ‬

‫قال‪:‬‬

‫وسى‪َ ،‬ع ِن النَّبِي ﷺ َق َال‪َ « :‬يك ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫ُون‬ ‫(‪َ )83‬حدَّ َثنَا ُح َس ْي ُن ْب ُن َعل ٍّي‪َ ،‬ع ْن َزائدَ ةَ‪َ ،‬ع ْن ه َشامٍ‪َ ،‬ع ِن ا ْل َح َس ِن‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُم َ‬
‫الر ُج ُل ُم ْؤ ِمنًا َو ُي ْم ِسي كَافِ ًرا‪َ ،‬و ُي ْم ِسي ُم ْؤ ِمنًا َو ُي ْصبِ ُح كَافِ ًرا»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آخرِ الزَّم ِ ِ‬
‫ان فت ٌَن كَق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظل ِم‪ُ ،‬ي ْصبِ ُح َّ‬ ‫َ‬
‫فِي ِ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ُون‬
‫ثم أورد ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي موسى األشعري ﭬ عن النبي ﷺ أنه قال‪َ « :‬يك ُ‬
‫ان فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّلي ِل ا ْلم ْظ ِل ِم»‪ ،‬ولم يقل «كقطع الليل المقمر»‪ ،‬فتوجد ٍ‬
‫ليال مقمرة وتوجد ٍ‬
‫ليال‬ ‫فِي ِ‬
‫آخرِ الز ََّم ِ‬
‫ْ ُ‬
‫مظلمة التي هي ف هناية الشهر‪ ،‬والمقمرة هي التي ف وسط الشهر‪ .‬فالليالي المظلمة إذا مشى فيها اإلنسان‬

‫أيضا عن اإلنارة ‪ -‬اإلنارة الحديثة التى ف الطرقات اآلن ‪ -‬إذا مشى فيها ل يهتدي إلى طريقه ول‬
‫بعيدً ا ً‬

‫تتبين له جادته؛ ألنه ف مكان مظلم‪ .‬ووصف الفتن بأهنا «ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم» أي‪ :‬أهنا فتن عمياء‪ ،‬يمشي‬

‫فيها اإلنسان مثل الشخص الذي يمشي ف الليلة المظلمة ويريد الطريق فال يهتدي له‪ ،‬يريد الجادة فال‬

‫يهتدي لها‪ ،‬وربما يمشي يظن أنه ف الطريق فيقع ف حفره ول يشعر؛ ألهنا ليلة مظلمة‪ ،‬لكن لو كانت ليلة‬

‫مقمرة قمراء‪ ،‬يرى الطريق ويسلم من العثار‪ ،‬ويرى الحفر ويسلم من الصطدام باألشجار ونحو ذلك‪.‬‬

‫لكن إذا كانت الليلة مظلم ًة ما يهتدي اإلنسان فيها إلى طريقه‪ ،‬وقد يعثر‪ ،‬وقد يسقط‪ ،‬وقد يهوي ف حفرة‪،‬‬

‫إلى آخره‪ .‬فوصفت الفتن هبذه الصفة‪« :‬ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم»؛ ألهنا فتن عمياء يعمى فيها اإلنسان‪ ،‬وإذا لم‬

‫يتأنى ف هذه الفتن ويتئد ويرتوى ويسأل ويتحرى‪َ ،‬يه َل ْك مع الهالكين‪ .‬ولهذا الوصية ‪ -‬وصية السلف‬

‫يع ُب ُذ ًرا‪َ ،‬فإِ ْن مِ ْن‬


‫وأهل العلم ف وصيتهم ‪ -‬للمؤمن ف الفتن أن يتئد وأل يستعجل‪َ « :‬ل َت ُكونُوا ُع ُج ًال َم َذايِ َ‬

‫َو َرائِ ُك ْم َب َال ًء ُم َبر ًحا‪ »...‬كما قال علي ﭬ‪َ « .‬ل َت ُكونُوا ُع ُج ًال»‪ ،‬يعني‪ :‬إياكم والعجلة‪ ،‬فإذا تأنى اإلنسان ف‬

‫الفتن‪ ،‬ولم يتعجل‪ ،‬وأخذ يتحرى‪ ،‬ويسأل ويرجو اهلل أن يسلمه‪ ،‬وأن يعيذه من الفتن ما ظهر منها وما بطن‪،‬‬
‫‪65‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫َي ْس َل ْم‪ .‬وأما إذا استشرف للفتنة‪ ،‬وظهر لها وبرز لها ودخل فيها‪ ،‬هلك؛ ألهنا فتنة عمياء «ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل‬
‫‪65‬‬

‫ا ْل ُم ْظ ِل ِم»‪ .‬وهذا التشبيه بليغ جدً ا ف توضيح خفاء الفتن والتباسها وشيوعها‪ ،‬قال‪« :‬فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل‬

‫وأيضا قوله‪« :‬فِت ٌَن ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل» ‪ -‬ما قال «كقطعة من ليل مظلم» ‪ -‬إشارة إلى كثرة الفتن‬
‫ً‬ ‫ا ْل ُم ْظ ِل ِم»‪.‬‬

‫وتالحقها‪ ،‬وكلها هبذه الصفة مظلمة عمياء‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫آخرِ الزَّم ِ ِ‬


‫ُون فِي ِ‬
‫ان فت ٌَن كَق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظل ِم‪ُ ،‬ي ْصبِ ُح َّ‬
‫الر ُج ُل» ‪ -‬والرجل هنا ذكره ل مفهوم له‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قال‪َ « :‬يك ُ‬

‫الر ُج ُل»‪ ،‬وإل فالحكم‬


‫يشمل الرجل ويشمل المرأة‪ ،‬لكن لما كان الخطاب ف الغالب للرجال قيل هنا « َّ‬
‫الر ُج ُل ُم ْؤ ِمنًا َو ُي ْم ِسي كَافِ ًرا‪َ ،‬و ُي ْم ِسي ُم ْؤ ِمنًا َو ُي ْصبِ ُح كَافِ ًرا»‪ ،‬أي‪:‬‬
‫للرجال والنساء على حد سواء ‪ُ « -‬ي ْصبِ ُح َّ‬
‫نصحا لألمة؛ وقد جاء الحديث‬
‫ً‬ ‫بسبب هذه الفتن العمياء المظلمة‪ .‬وهذا كله قاله ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪-‬‬

‫ال فِ َتنًا ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم‪»...‬‬ ‫ِ‬


‫ادروا بِ ْالَ ْعم ِ‬
‫َ‬ ‫ف «صحيح مسلم» وف أوله قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬ب ُ‬
‫ال فِ َتنًا ك َِق َط ِع ال َّل ْي ِل ا ْل ُم ْظ ِل ِم»‪ ،‬وهذا فيه أهمية األعمال الصالحة‬ ‫ِ‬
‫ادروا بِ ْالَ ْعم ِ‬
‫َ‬ ‫إلى آخر الحديث‪ .‬قال‪َ « :‬ب ُ‬
‫للوقاية من الفتن‪ ،‬وأن العبد ينبغي عليه أن يجتهد ف األعمال الصالحة من صالة وصيام ودعاء وذكر وغير‬

‫ذلك من األعمال؛ ألهنا ‪ -‬بإذن اهلل ‪ -‬مبادرته إليها ومسارعته لها وعنايته هبا تكون ‪ -‬بإذن اهلل ‪ -‬واق ًيا له‪،‬‬

‫الر ُج ُل ُم ْؤ ِمنًا َو ُي ْم ِسي كَافِ ًرا‪،‬‬


‫وصمام أمان له ‪ -‬بإذن اهلل ‪ -‬من الفتن التي كقطع الليل المظلم‪ .‬قال‪ُ « :‬ي ْصبِ ُح َّ‬
‫َو ُي ْم ِسي ُم ْؤ ِمنًا َو ُي ْصبِ ُح كَافِ ًرا»‪ ،‬أي‪ :‬بسبب هذه الفتن العمياء المظلمة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ان‪َ ،‬ع ْن َي ْح َيى ْب ِن َأبِي كَثِ ٍير‪َ ،‬ع ْن ِه َال ِل ْب ِن َأبِي َم ْي ُمو َنةَ‪َ ،‬ع ْن‬
‫(‪َ )84‬حدَّ َثنَا ا ْب ُن ُع َل َّيةَ‪َ ،‬ع ِن ا ْل َح َّجاجِ ْب ِن َأبِي ُع ْث َم َ‬

‫ار َي ٌة َت ْر َعى َغن ًَما لِي قِ َب َل ُأ ُح ٍد َوا ْل ُج َّوانِ َّي ِة‪َ ،‬ف َأ ْط َل ْعت َُها‬
‫َت لِي َج ِ‬
‫الس َل ِمي‪َ ،‬ق َال‪ :‬كَان ْ‬ ‫َع َط ٍ‬
‫اء‪َ ،‬ع ْن ُم َع ِ‬
‫او َي َة ْب ِن ا ْل َح َك ِم ُّ‬
‫ون َلكِني َص َك ْكت َُها‬
‫ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬
‫ب بِ َشاة م ْن َغنَم َها َق َال‪َ :‬و َأنَا َر ُج ٌل م ْن َبني آ َد َم َ‬
‫آس ُ‬ ‫ِ‬
‫ات َي ْو ٍم َوإِ َذا ذئ ٌ‬
‫ْب َقدْ َذ َه َ‬ ‫َذ َ‬

‫ول اهللِ َأ َل ُأ ْعتِ ُق َها؟ َق َال‪« :‬ائْتِنِي بِ َها» َف َق َال‬


‫ول اهللِ ﷺ َف َع َّظ َم َذل ِ َك َع َلي َف ُق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫َّ‬
‫َص َّكةً‪َ ،‬ف َأ َت ْي ُت إِ َلى رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫ول اهللِ‪َ .‬ق َال‪َ « :‬ف َأ ْعتِ ْق َها َفإِن ََّها ُم ْؤ ِمنَ ٌة»‪.‬‬
‫ْت َر ُس ُ‬ ‫َلها‪َ « :‬أين اَّلل؟» َقا َل ْت‪ :‬فِي السم ِ‬
‫اء‪َ .‬ق َال‪َ « :‬م ْن َأنَا؟» َقا َل ْت‪َ :‬أن َ‬ ‫َّ َ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪66‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫َت لِي‬
‫ثم أورد ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث من أحاديث اإليمان أن معاوية بن الحكم ﭬ قال‪« :‬كَان ْ‬

‫ار َي ٌة َت ْر َعى َغن ًَما لِي قِ َب َل ُأ ُح ٍد َوا ْل ُج َّوانِ َّي ِة»‪ ،‬وأحد والجوانية عن المدينة من جهة الشمال‪ ،‬فكانت من تلك‬
‫َج ِ‬

‫الجهة‪ ،‬من قِ َبل أحد والجوانية‪ ،‬أي‪ :‬من جهة أحد والجوانية‪ .‬قال‪َ « :‬ف َأ ْط َل ْعت َُها َذ َ‬
‫ات َي ْو ٍم» ‪ -‬أي‪ :‬تابعها ذات‬

‫اة مِ ْن َغن َِم َها»‪ ،‬والذئب عدو الغنم‪،‬‬


‫يوم وتفقد ماشيته وما كلفه برعايته من أغنام ‪« -‬وإِ َذا ِذئْب َقدْ َذ َهب بِ َش ٍ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬

‫ضرارا هبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫كال أو إ‬
‫وإذا غفل الراعي عن الغنم عدا عليها الذئب‪ ،‬عدا عليها الذئب أ ً‬

‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ‬
‫ون»‪ ،‬ومعنى آسف أي‪:‬‬ ‫ب بِ َشاة م ْن َغنَم َها َق َال‪َ :‬و َأنَا َر ُج ٌل م ْن َبني آ َد َم َ‬
‫آس ُ‬ ‫قال‪َ « :‬وإِ َذا ذئ ٌ‬
‫ْب َقدْ َذ َه َ‬

‫أغضب‪ ،‬ومنه قول اهلل ‪-‬عز وجل‪ :‬ﭿﮨ ﮩﭾ [الزخرف‪ ،]55 :‬أي‪ :‬أغضبونا‪ ،‬وف هذا إثبات الغضب صف ًة‬

‫ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ‬
‫ون»‪ ،‬أي‪ :‬أغضب كما يغضبون‪ .‬والغضب الذي يضاف إلى اهلل ‪ -‬ومثاله اآلية‬ ‫آس ُ‬
‫هلل‪ .‬قال‪َ « :‬‬
‫وصف خاص باهلل يليق بجالله ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬ل يشبه ول يماثل وصف‬
‫ٌ‬ ‫التي أشرت إليها ‪-‬‬

‫المخلوقين‪ ،‬فنثبته هلل على حد قوله تعالى‪ :‬ﭿﭡ ﭢ ﭣﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭾ [الشورى‪.]11 :‬‬

‫قال‪َ « :‬لكِني َص َك ْكت َُها َص َّك ًة»‪ ،‬يعني‪ :‬لما رأى األمر وهاله وآسفه ‪ -‬أي أغضبه‪ ،‬قال‪َ « :‬ص َك ْكت َُها َص َّك ًة»‪،‬‬

‫والصكة هي الضربة ببسطة اليد‪ ،‬يعني‪ :‬ضربتها براحة يدي أو بيدي مبسوطة‪ ،‬يقول‪َ « :‬ص َك ْكت َُها َص َّك ًة»‪،‬‬

‫ول اهللِ ﷺ»‪ ،‬يعني‪ :‬هو ً‬


‫أيضا ندم‪ ،‬وأتى النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬‬ ‫أي‪ :‬ضربتها ضربة‪َ « ،‬ف َأ َت ْي ُت إِ َلى رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫ألنه ندم‪.‬‬

‫أيضا نستفيد منه فائدة‪ :‬أن اإلنسان وقت غضبه ينبغي عليه أن يتوقف عن الكالم وعن الفعل‪ .‬إذا‬
‫وهذا ً‬

‫غضب من أهله‪ ،‬إذا غضب من أولده‪ ،‬إذا غضب من شخص يتبايع ويتعامل معه‪ ،‬فعليه وقت الغضب أن‬

‫أيضا يحرك يده؛ ألن الكالم وقت الغضب‬


‫أيضا عن الفعل‪ ،‬فال يتكلم بلسانه ول ً‬
‫يقف عن الكالم ويقف ً‬

‫والفعل وقت الغضب قد يندم عليه اإلنسان ندمًا شديدً ا‪ ،‬ويأسف على ذلك أس ًفا شديدً ا‪ .‬ولهذا جاء ف‬

‫ب َأ َحدُ ك ُْم َف ْل َي ْسك ْ‬ ‫ِ‬


‫ُت»‪ ،‬يعني‪:‬‬ ‫هذا الباب حديثان‪ :‬الحديث األول قال فيه ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪« :‬إِ َذا غَض َ‬
‫‪67‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪67‬‬
‫ل يتكلم وقت الغضب‪ ،‬بل ينتظر حتى تطفأ جمرة الغضب وتسكن وبعد ذلك يتكلم‪ ،‬والحديث الثاين قال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب َوإِ ََّل‬ ‫ب َأ َحدُ ك ُْم َو ُه َو َقائ ٌم َف ْل َي ْج ِل ْس‪َ ،‬فإِ ْن َذ َه َ‬
‫ب َعنْ ُه ا ْلغ ََض ُ‬ ‫فيه ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪« :‬إِ َذا غَض َ‬
‫َف ْل َي ْض َط ِ‬
‫ج ْع»‪ ،‬الجلوس وقت الغضب واإلضطجاع يسكن األعضاء وهتدأ النفس‪ ،‬ويصبح بعد ذلك مهيأ‬

‫أن يتعامل مع اآلخرين هبدوء‪ ،‬بينما إذا تعامل مع اآلخرين بغضب كم من حالت أزهقت فيها أرواح؟‬

‫بجمع يده‬
‫وكم من حالت تضررت فيها أعضاء بفقء عين أو كسر أسنان! أحد األزواج ف حال غضبه ‪ُ -‬‬

‫‪ -‬ضرب فم زوجته وكسر بذلك أسناهنا! ثم لما سكن الغضب أخذ يسرتضيها ويذهب هبا إلى طبيب‬

‫ً‬
‫أموال ليعالج األسنان‪ .‬طيب لماذا هذا؟ فاألصل ف اإلنسان عند الغضب أل يتكلم؛‬ ‫األسنان‪ ،‬ويدفع له‬

‫كثيرا جد ًا؛ وقت الغضب تكلم بالطالق‪ ،‬وقت‬


‫كثيرا من الناس تكلم وقت الغضب بالطالق وندم ‪ً -‬‬
‫ألن ً‬
‫الغضب تحركت يده حركة تألم ِ‬
‫وأسف عليها ولكن ل تفيده‪ ،‬بل حصلت حالت تحركت يده فمات من‬

‫أمامه وندم‪ ،‬ول يفيده الندم‪ .‬ولهذا ينبغي على اإلنسان وقت الغضب أن يضبط نفسه ف هذين األمرين‪:‬‬

‫لسانه ل يخرج منه أي كلمة وقت الغضب‪ ،‬وحركة يده أو بدنه‪ :‬ل يحرك أي شيء ‪ -‬يملك نفسه‪ ،‬وهي‬

‫ليست مدة طويلة‪ ،‬هي ف الغالب دقيقة أو دقيقتان‪...‬فورة الدم والغضب هي دقيقة‪ ..‬دقيقتان‪ ...‬ثالث‪،‬‬

‫فعال –‬
‫يعني ف هذه الحدود‪ .‬فيمسك نفسه ويضبط أعصابه ف مثل هذه الحالة‪ ،‬ثم بعد ذلك يجد أنه ‪ً -‬‬

‫ك َن ْف َس ُه ِعنْدَ الغ ََض ِ‬


‫ب»‪ .‬فبعد‬ ‫الش ِديدُ ا َّل ِذي َي ْم ِل ُ‬
‫الص َر َع ِة‪ ،‬إِن ََّما َّ‬ ‫شديد‪ ،‬كما جاء ف الحديث‪َ « :‬ليس َّ ِ‬
‫الشديدُ بِ ُّ‬ ‫ْ َ‬

‫الدقيقتين أو الثالث أو األربع يجد ‪ -‬فعالً ‪ -‬أنه شديد وأنه يحسن التعامل‪ ،‬وتجده يبتسم لآلخر ويتلطف‬

‫معه‪ ،‬و«يا أخي الكريم هذا خطأ»‪ ،‬ويبدأ يأيت بكالم جميل‪ ،‬وكالم فيه معالجة نافعة ومجدية لألمر الذي‬

‫وقع فيه الخالف‪ .‬بينما إذا تعامل وقت الغضب ‪ -‬ف الغالب ‪ -‬حصل هالك ودمار وأضرار وجنايات‬

‫وتعديات‪ ،‬فينبغي على اإلنسان أن يراعي هذا‪.‬‬

‫ون َلكِني َص َك ْكت َُها َص َّك ًة»‪ ،‬وندم ‪-‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ -‬على ذلك‪ ،‬قال‪َ « :‬ف َأ َت ْي ُت‬
‫ف ك ََما َي ْأ َس ُف َ‬
‫آس ُ‬
‫قال‪َ « :‬‬
‫ول اهللِ ﷺ َف َع َّظ َم َذل ِ َك َع َل َّي»‪ ،‬أي‪ :‬ب َّين ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أن هذا األمر عظيم وخطير‪ .‬قال‪:‬‬
‫إِ َلى رس ِ‬
‫َ ُ‬
‫ول اهللِ َأ َل ُأ ْعتِ ُق َها؟» أي‪ :‬وأجعل عتقها كفارة لما وقع مني معها؟ « َأ َل‬
‫« َف َع َّظ َم َذل ِ َك َع َلي َف ُق ْل ُت‪َ :‬يا َر ُس َ‬
‫َّ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪68‬‬

‫ُأ ْعتِ ُق َها؟» فقال ‪-‬عليه الصالة والسالم‪« :‬ائْتِنِي بِ َها‪َ ،‬ف َق َال َل َها» ‪ -‬يعني‪ :‬أتى ليمتحنها ف إيماهنا – فأتى هبا‪،‬‬

‫فقال‪َ « :‬أ ْي َن اَّللَ؟»‪ ،‬والسؤال الثاين « َم ْن َأنَا؟» سؤالن لإلمتحان من أجل العتق‪َ « :‬أ ْي َن اَّللَ؟» و « َم ْن َأنَا؟»‪.‬‬

‫« َف َق َال َلها‪َ :‬أين اَّلل؟ َقا َل ْت‪ :‬فِي السم ِ‬


‫اء»‪ ،‬فكانت مؤمنة باهلل وبعلو اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬على عرشه‬ ‫َّ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫المجيد‪ ،‬مستويا عليه استواء يليق بجالله وكماله وعظمته‪َ « .‬قا َل ْت‪ :‬فِي السم ِ‬
‫اء‪َ .‬ق َال‪َ :‬م ْن َأنَا؟ َقا َل ْت‪َ :‬أن َ‬
‫ْت‬ ‫َّ َ‬ ‫ً‬

‫ول اهللِ» ﷺ‪ .‬قوله « َأ ْي َن اَّللَ؟»‪ ،‬أي‪ :‬الذي نقصده‪ ،‬نعبده‪ ،‬نلجأ إليه‪ ،‬نخضع له‪ ،‬نصرف له العبادة‪ ،‬نذل‬
‫َر ُس ُ‬
‫بين يديه‪ ،‬أين اهلل؟ « َقا َل ْت‪ :‬فِي السم ِ‬
‫اء»‪ ،‬فهذا فيه إقرارها بعلو اهلل‪ ،‬وعبوديتها له ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أي‪:‬‬ ‫َّ َ‬
‫خضع له وي َذل‪َ « .‬قا َل ْت‪ :‬فِي السم ِ‬
‫اء‪َ .‬ق َال‪َ :‬م ْن َأنَا؟‬ ‫اهلل الذي نلتجئ إليه؛ ألن اهلل هو المألوه المعبود الذي ُي َ‬
‫َّ َ‬ ‫ُ‬

‫ول اهللِ»‪ ،‬ومقتضى اإلقرار بأنه رسول اهلل طاعته فيما أمر‪ ،‬وتصديقه فيما أخرب‪ ،‬واإلنتهاء‬ ‫َقا َل ْت‪َ :‬أن َ‬
‫ْت َر ُس ُ‬

‫عما هنى عنه وزجر‪ .‬فكان ف هذين السؤالين جماع الدين كله؛ ألن الدين راجع إليهما‪ .‬الدين إخالص‬

‫للمعبود ومتابعة للرسول‪ :‬ل إله إل اهلل‪ ،‬محمد رسول اهلل ﷺ‪ ،‬هذا هو الدين‪ .‬فاكتفى ‪ -‬عليه الصالة‬

‫والسالم ‪ -‬ف امتحان إيماهنا هبذين السؤالين‪.‬‬

‫فلما أجابت هبذا الجواب المسدد ‪ -‬قالت‪ :‬اهلل ف السماء‪ ،‬وقالت‪ :‬أنت رسول اهلل ﷺ ‪َ « -‬ق َال‪َ :‬ف َأ ْعتِ ْق َها‬

‫وكفر باهلل ‪-‬سبحانه‬ ‫َفإِن ََّها م ْؤ ِمنَ ٌة»‪ِ .‬‬


‫فمن اإليمان اإلقرار بأن اهلل ف السماء‪ ،‬وجحدُ ذلك جحدٌ لإليمان‬
‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫وتعالى‪ .‬واألدلة على أن اهلل ف السماء ف القرآن والسنة كثيرة جد ًا‪ ،‬بل قال ابن القيم ‪ $‬ف رده على‬

‫بعض أهل الضالل ف هذا الباب‪:‬‬

‫ألفـــــــا تـــــــدل عليـــــــه بـــــــل ألفـــــــان‬ ‫يــــــــــــا قومنــــــــــــا واهلل إن لقولنــــــــــــا‬

‫‪...............‬‬ ‫‪...............‬‬
‫األدلة التي تدل على علو اهلل ف القرآن والسنة بالمئات‪ ،‬ومع ذلك تجد أقوا ًما ضلوا ف هذا الباب؛ فذهبت‬

‫فئة إلى القول بأن اهلل ف كل مكان ‪ -‬تعالى اهلل عما يقولون‪ ،‬وتنزه وتقدس سبحانه وتعالى عما يصفون‪،‬‬

‫وطائفة أخرى قالت‪ :‬اهلل ل فوق ول تحت ول داخل العالم ول خارجه‪...‬إلى آخر هذا الكالم العاطل‬

‫الم َعطل يعبد عد ًما»‪ ،‬أي‪:‬‬


‫قديما‪ُ « :‬‬
‫الباطل‪ ،‬الذي هنايته ومؤداه وصف اهلل بالعدم! ولهذا قال بعض السلف ً‬
‫‪69‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪69‬‬
‫الذي ينفي صفات اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬هناية ومآل نفيه وصف اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬بالعدم‪ .‬فمن لم‬

‫يثبت علو اهلل على خلقه ليس أمامه إل أن يقع ف عقيدتين ضالتين‪ ،‬من ينفي علو اهلل ‪-‬سبحانه تعالى‪-‬‬

‫الذي ثبت بمئات اآليات ف القرآن واألحاديث ف السنة ليس أمامه إل إحدى عقيدتين ضالتين‪ :‬إما أن‬

‫عظيما‪ ،‬وإما أن يقول‪ :‬اهلل ل فوق ول تحت‪...‬إلى آخر‬


‫ً‬ ‫علوا‬
‫يقول‪ :‬اهلل ف كل مكان ‪ -‬تعالى اهلل عن ذلك ً‬

‫هذا الباطل والضالل‪.‬‬

‫« َف َق َال َلها‪َ :‬أين اَّلل؟ َقا َل ْت‪ :‬فِي السم ِ‬


‫اء»‪ .‬قول النبي ﷺ لهذه الجارية « َأ ْي َن اَّللَ؟» هذا دليل على أن هذا‬ ‫َّ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫السؤال صحيح ول شيء فيه‪ ،‬والنبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬سأل هذا السؤال‪ .‬وف بعض كتب العقائد‬

‫المنحرفة يكتبون فيها ‪ -‬من جملة عقائدهم ‪« :-‬ل ُيس َأل عنه بأين» أي‪ :‬اهلل‪ ،‬هذا من جملة العتقاد‪ ،‬وتجد‬

‫أولدهم وأبناءهم يحفظون من العقيدة‪« :‬ل يسأل عنه بأين»! ثم إذا وصل إلى مرحلة أخرى لحقة ف‬

‫عمره وقرأ هذا الحديث ‪ -‬وهو ف «صحيح مسلم» ‪َ « -‬أ ْي َن اَّللَ؟» فيصطدم مع ما درسوه ف عقائدهم أن‬

‫اهلل «ل يسأل عنه بأين»‪ ،‬ثم يفاجأ ف «صحيح مسلم» النبي ﷺ نفسه يقول « َأ ْي َن اَّللَ؟» هذا يصادم ما قرأه‬

‫وما درسه‪ ،‬فماذا يكون؟ يتمحل أشياخه ‪ -‬ف الغالب ‪ -‬برد الحديث مع ثبوته عن النبي ‪ -‬عليه الصالة‬

‫والسالم ‪ ،-‬يتمحل رد الحديث إما بادعاء أنه تأويل‪ ،‬أو الخوض ف الكالم بإسناده بغير فهم ول بصيرة‪،‬‬

‫أو بتمحل لوي النصوص عن معانيها وصرفها عن مرادها‪ .‬وهذه مصيبة وبلية كربى ف هذا الباب يبتلى هبا‬

‫كثير من الناس بسبب األشياخ الذين يلقنون ويدرسون الصغار العقائد غير المستمدة من كتاب اهلل وسنة‬

‫وأيضا يكتبون ف كتب العقائد ‪ -‬مع هذه الكلمة «ل يسأل عنه بأين» ‪ -‬يقولون‬
‫نبيه ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ً .‬‬

‫أيضا‪« :‬ول يشار إليه بإصبع»! ثم إذا حفظ الصغير وقرأ فيما بعد ف «صحيح مسلم» حديث جابر ف حجة‬
‫ً‬

‫الوداع والجموع الغفيرة‪ ،‬اآلآلف أمام النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪َ « -‬قا ُلوا‪ :‬ن َْش َهدُ َأن ََّك َقدْ َب َّل ْغ َت َو َأ َّد ْي َت‬

‫َّاس‪ :‬ال َّل ُه َّم ْاش َهدْ ‪ ،‬ال َّل ُه َّم ْ‬


‫اش َهدْ ‪َ ،‬ثالَ َ‬
‫ث‬ ‫ونَصح َت‪َ .‬ف َق َال بِإِصب ِع ِه السباب ِة ير َفعها إِ َلى السم ِ‬
‫اء َو َينْ ُكت َُها إِ َلى الن ِ‬ ‫َّ َ‬ ‫َّ َّ َ َ ْ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫مر ٍ‬
‫ات»‪ ،‬فيطالع من قرأ ف كتب العقائد التي تلقاها على أشياخه أنه «ل يشار إليه بإصبع» يقرأ فيه أن النبي‬ ‫َ َّ‬
‫قائال‪« :‬ال َّل ُه َّم ْ‬
‫اش َهدْ » فتصطدم مع تلك العقيدة التي‬ ‫‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ -‬أشار هذه اإلشارة إلى العلو ً‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪70‬‬

‫كتبها أشياخه‪ .‬ومن نعمة اهلل على الشاب إذا تنسك أن يتنسك على صاحب سنة؛ ألهنا مصيبة إذا تنسك‬

‫على كتب الكالم وكتب األراء وكتب المنطق وكتب العقل‪ .‬إذا كرب الشاب تصطدم هذه مع النصوص‪،‬‬

‫ويكون بين أمرين‪ :‬إما أن يطرح تلك العقائد التي درسها ويقبل على النصوص ويأخذ العقيدة منها فيكون‬

‫بذلك نجاته‪ ،‬وإما أن يصر على تلك العقائد التي نشأ عليها ويرى أهنا هي الحق ويبدأ يتعامل مع النصوص‬

‫معاملة من أسوأ ما يكون‪ ،‬إما بالتكذيب بالنص أو برده أو بتحريفه أو بتأويله‪ .‬وبعضهم يتجرأ على هذا‬

‫الحديث بالذات ‪ -‬حديث «أين اَّلل؟»‪ ،‬حديث الجارية ‪ -‬بكلمات ‪ -‬واهلل ‪ -‬ل يجرأ اإلنسان أن يقولها ف‬

‫حق كلمة من عالم أو كلمة من أي إنسان؛ كلمات ل أجرؤ أن أصفها لكم من فحشها وسوئها‬

‫وبذائتها‪...‬يطلقوهنا على هذا الحديث العظيم الثابت عن الرسول الكريم ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬ل‬

‫لشيء إل ألنه صادم عقيدة نشؤوا عليها ورضعوها من الصغر‪ .‬ومن نعمة اهلل على الشاب إذا تنسك أن‬

‫معظما للنصوص‪ ،‬مدر ًكا لحرمتها‪ ،‬متلق ًيا عنها‪ ،‬متلق ًيا لها بالقبول‪،‬‬
‫ً‬ ‫يتنسك على صاحب سنة‪ ،‬حتى ينشأ‬

‫معظما لكالم الرسول ﷺ‪.‬‬


‫ً‬

‫قال‪:‬‬

‫اس‪َ ،‬و َع ِن‬‫يد ْب ِن ُج َب ْي ٍر‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َع َّب ٍ‬ ‫ال‪َ ،‬عن س ِع ِ‬ ‫(‪َ )85‬حدَّ َثنَا َعلِي ْب ُن ِه َشامٍ‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َأبِي َل ْي َلى‪َ ،‬ع ِن ا ْل ِمن َْه ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ُّ‬
‫ا ْل َح َك ِم‪َ ،‬ي ْر َف ُع ُه‪َ :‬أ َّن َر ُج ًال‪َ ،‬أ َتى النَّبِ َّي ﷺ َف َق َال‪ :‬إِ َّن َع َلى ُأمي َر َق َب ًة ُم ْؤمِنَةً‪َ ،‬و ِعن ِْدي َر َق َب ٌة َس ْو َدا ُء َأ ْع َج ِم َّي ٌة‪َ ،‬ق َال‪:‬‬
‫ول اَّللِ؟» َقا َل ْت‪َ :‬ن َع ْم‪َ .‬ق َال‪َ « :‬ف َأ ْعتِ ْق َها»‪.‬‬ ‫ين َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ‪َ ،‬و َأنِّي َر ُس ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«ائْت بِ َها»‪َ .‬ق َال‪َ « :‬أت َْش َهد َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث عن ابن عباس وعن الحكم يرفعه‪َ « :‬أ َّن َر ُج ًال‪َ ،‬أ َتى النَّبِ َّي ﷺ‬

‫ين َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫َف َق َال‪ :‬إِ َّن َع َلى ُأمي َر َق َب ًة ُم ْؤمنَةً‪َ ،‬وعنْدي َر َق َب ٌة َس ْو َدا ُء َأ ْع َجم َّي ٌة‪َ ،‬ق َال‪ :‬ائْت بِ َها‪َ .‬ق َال‪َ :‬أت َْش َهد َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫و َأنِّي رس ُ ِ‬
‫ول اَّلل؟ َقا َل ْت‪َ :‬ن َع ْم‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َأ ْعت ْق َها»‪ .‬وهنا كان المتحان لهذه المرأة هبذين السؤالين‪َ « :‬أت َْش َهد َ‬
‫ين‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬

‫ول اَّللِ؟»‬
‫َأ ْن ََل إِ َل َه إِ ََّل اَّللُ‪َ ،‬و َأنِّي َر ُس ُ‬
‫‪71‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪71‬‬
‫وإسناد هذا الحديث ضعيف كما نبه على ذلك العالمة األلباين‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ .‬ابن أبي ليلى ‪ -‬وهو‬

‫محمد بن عبد الرحمن ‪ -‬صدوق سيء الحفظ جدً ا‪ ،‬فاإلسناد ل يثبت‪ .‬أما األول فهو صحيح ثابت‪ ،‬وقد‬

‫خرجه اإلمام مسلم من طريق المصنف وغيره‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ب‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َر ُس ُ‬


‫ول‬ ‫الز ْه ِري‪َ ،‬عن س ِع ِ‬
‫يد ْب ِن ا ْل ُم َسي ِ‬ ‫(‪َ )86‬حدَّ َثنَا َع ْبدُ ْاألَ ْع َلى‪َ ،‬ع ْن َم ْع َم ٍر‪َ ،‬ع ِن ُّ‬
‫ْ َ‬
‫يح ت ُِمي ُل ُه‪َ ،‬و ََل َيز َُال ا ْل ُم ْؤ ِم ُن ُي ِصي ُب ُه َب ََل ٌء‪َ ،‬و َم َث ُل ا ْلكَافِرِ َم َث ُل َش َج َر ِة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الر ُ‬‫اهلل ﷺ‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤم ِن َم َث ُل الز َّْرعِ‪ََ ،‬ل َتز َُال ِّ‬
‫ْالُ ْر ِز‪ََ ،‬ل ت َْه َت ُّز َحتَّى ت ُْست َْح َصدَ »‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أرود المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي هريرة ﭬ‪ ،‬أن النبي ﷺ قال‪َ « :‬م َث ُل‬

‫ا ْل ُم ْؤ ِم ِن َم َث ُل الز َّْر ِع»‪ .‬وف بعض روايات الحديث – وستأيت ‪« -‬ك ََم َث ِل ا ْلخَ َام ِة ِم َن الز َّْر ِع»‪ ،‬وخامة الزرع‬

‫يح ت ُِمي ُل ُه‪َ ،‬و ََل َيز َُال ا ْل ُم ْؤ ِم ُن ُي ِصي ُب ُه َب ََل ٌء»‪ ،‬فمثل‬ ‫ِ‬
‫المراد هبا الزرع الرطب‪َ « .‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤم ِن َم َث ُل الز َّْرعِ‪ََ ،‬ل َتز َُال ِّ‬
‫الر ُ‬

‫قليال‪ ،‬وإذا توقفت اعتدل‪،‬‬


‫المؤمن مثل خامة الزرع‪ ،‬ومن المعلوم أن الزرع الرطب إذا جاءت الرياح يميل ً‬

‫وإذا جاءت الرياح يميل‪ ،‬وإذا توقفت اعتدل‪ ،‬وهكذا حاله مع الرياح‪ .‬وهذا الحديث بيان لمثل المؤمن ف‬
‫إصابته بالبالء‪ ،‬وأن المؤمن يصاب بالبالء بين وقت وآخر‪ ،‬لكن هذا البالء ل يضر المؤمن‪ .‬المؤمن ٍ‬
‫باق‬
‫على اعتداله وعلى ثباته وعلى استقامته ‪ٍ -‬‬
‫باق على ذلك‪ ،‬والبالء إذا جاءه يكون َم َث ُله مع البالء َم َث َل خامة‬

‫الزرع تميلها الرياح‪ ،‬ومجرد أن تتوقف الرياح يرجع إلى استقامته كما كان‪ ،‬وكأنه لم يصبه شيء‪ ،‬وكأنه لم‬

‫يضره شيء‪ .‬فالمؤمن البالء ل يضره‪ ،‬بل هو كفارة له‪ ،‬ورفعة لدرجاته؛ والمصائب كفارات ورفعة‬

‫ب َو ََل َس َقمٍ‪َ ،‬و ََل َحز ٍَن َحتَّى ا ْل َه ُّم َي ُه ُّم ُه‪ ،‬إِ ََّل َك َّف َر اَّللُ َعنْ ُه ِم ْن‬ ‫يب ا ْل ُم ْؤ ِم َن ِم ْن َو َص ٍ‬
‫ب‪َ ،‬و ََل ن ََص ٍ‬ ‫ِ‬
‫للمؤمن‪َ « ،‬ما ُيص ُ‬

‫َخ َط َايا ُه»‪ ،‬فالمصائب كفارات المؤمن‪ .‬فهذا المثل يبين حال المؤمن مع المصائب‪َ « ،‬و ََل َيز َُال ا ْل ُم ْؤ ِم ُن‬

‫ُي ِصي ُب ُه َب ََل ٌء» لكن هذا البالء رفعة له وتكفير لخطاياه‪ .‬ل تزال الريح تميله‪ ،‬ول يزال المؤمن يصيبه بالء‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪72‬‬

‫« َو َم َث ُل ا ْلكَافِرِ َم َث ُل َش َج َر ِة ْالُ ْر ِز»‪ .‬وشجرة األرز قيل هي الصنوبر‪ ،‬وقيل شجرة تشبهها‪ ،‬وهي شجرة ممتدة‬

‫بالرز؛‬
‫امتدا ًدا عال ًيا إلى السماء‪ ،‬ومستقيمة ف امتدادها‪ ،‬وليس فيها نبات‪ .‬وليس المراد باألرز ما يعرف ُّ‬
‫وإنما الرز هو خامات زرع‪ ،‬ينطبق عليها المثل الذي يتعلق بالمؤمن؛ ألن المؤمن مثل خامة الزرع‪ ،‬أي‪:‬‬

‫النبت أو الزروع الرطبة القائمة التي هذا شأهنا مع الرياح‪ .‬لكن شجرة األرز هذه ممتدة ‪ -‬ويقال أهنا‬

‫الصنوبر أو تشبهها ‪ -‬وممتدة وعالية‪ ،‬و« ََل ت َْه َت ُّز َحتَّى ت ُْست َْح َصدَ »‪ ،‬يعني‪ :‬تأتيها الرياح فتخلخلها ثم تقتلعها‬

‫من أصلها فتسقط‪ ،‬وف اللفظ اآلخر للحديث‪« :‬ك ََم َث ِل ْالَ ْرز َِة ا ْل ُم ْج ِذ َب ِة َع َلى َأ ْص ِل َها‪ََ ،‬ل ُي ِفيئ َُها َش ْي ٌء َحتَّى‬
‫ْجعا ُف َها مر ًة و ِ‬
‫احدَ ًة»‪ .‬فقوله هنا ف بيان مثل الكافر ف المصائب أن الكافر ُي َم َّتع بصحته وعافيته‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ُون ان ِ َ‬
‫َيك َ‬

‫ونشاطه إلى أن يأتيه الموت ويقتلعه على كفره‪ ،‬ويلقى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬بكفره وجرائمه وجرائره‪،‬‬

‫حتى يكون من ُجثى جهنم ومن حطب النار‪ .‬بينما المصائب والفتن التي تأيت المؤمن بين وقت وآخر هي‬

‫ف حقه كفارة‪ ،‬وتطهير له ورفعة عند اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫والحديث مخرج ف «صحيح مسلم» من طريق المصنف باإلسناد نفسه‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ك‪َ ،‬عن َأبِ ِ‬


‫ب ب ِن مال ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يه َك ْع ٍ‬
‫ب َق َال‪َ :‬ق َال‬ ‫ْ‬ ‫(‪َ )87‬حدَّ َثنَا ا ْب ُن ن َُم ْي ٍر‪ ،‬نا َزك َِر َّيا‪َ ،‬ع ْن َس ْعد ْب ِن إِ ْب َراه َ‬
‫يم‪َ ،‬حدَّ َثني ا ْب ُن َك ْع ِ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫رس ُ ِ‬
‫يح ت َْص َر ُع َها َم َّر ًة َو َت ْعد ُل َها ُأ ْخ َرى َحتَّى ت َِه َ‬
‫يج‪،‬‬ ‫ول اهلل ﷺ‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤم ِن ك ََم َث ِل ا ْلخَ َامة م َن الز َّْر ِع تُفيئ َُها ِّ‬
‫الر ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ْجعا ُف َها مر ًة و ِ‬ ‫َو َم َث ُل ا ْلكَافِرِ ك ََم َث ِل ْالَ ْرز َِة ا ْل ُم ْج ِذ َب ِة َع َلى َأ ْص ِل َها‪ََ ،‬ل ُي ِفيئ َُها َش ْي ٌء َحتَّى َيك َ‬
‫احدَ ًة»‪.‬‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ُون ان ِ َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم ذكر المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬وهو متفق عليه‪ ،‬أخرجه البخاري ومسلم ف‬

‫صحيحيهما‪ .‬قال‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤ ِم ِن ك ََم َث ِل ا ْلخَ َام ِة»‪ ،‬والمراد بالخامة أي‪ :‬خامة الزرع‪ ،‬وهو النبات الرطب أو‬

‫الزروع الرطبة‪ .‬فمثل المؤمن كمثل خامة الزرع‪ ،‬والمثل هنا ‪ -‬كما سبق ‪ -‬يتعلق بحال المؤمن مع‬

‫يح ت َْص َر ُع َها َم َّر ًة َو َت ْع ِد ُل َها ُأ ْخ َرى»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫المصائب والبتالءات‪َ « .‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤم ِن ك ََم َث ِل ا ْلخَ َامة م َن الز َّْر ِع تُفيئ َُها ِّ‬
‫الر ُ‬
‫‪73‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫«ت َْص َر ُع َها َم َّر ًة» أي‪ :‬تخفضها وتميلها‪َ « ،‬و َت ْع ِد ُل َها ُأ ْخ َرى» أي‪ :‬ترفعها‪ .‬فتجد المؤمن مع البالء مثله مثل خامة‬
‫‪73‬‬

‫قليال‪ ،‬وإذا توقفت الرياح اعتدل ورجع إلى اعتداله‪َ « .‬حتَّى ت َِه َ‬
‫يج» أي‪:‬‬ ‫الزرع‪ ،‬إذا جاءت الرياح مال الزرع ً‬

‫حتى تيبس‪ .‬فهذا حال المؤمن مستمر إلى أن يتوفاه اهلل ‪ -‬سبحانه تعالى‪ -‬وتكون هذه كفارة له‪.‬‬

‫« َو َم َث ُل ا ْلكَافِرِ ك ََم َث ِل ْالَ ْر َز ِة ا ْل ُم ْج ِذ َب ِة»‪ ،‬أي‪ :‬الثابتة المنتصبة القائمة « َع َلى َأ ْص ِل َها‪ََ ،‬ل ُي ِفيئ َُها َش ْي ٌء»‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫ْجعا ُف َها مر ًة و ِ‬
‫احدَ ًة»‪ ،‬يعني‪ :‬حتى تأتيها رياح عاتية فتقتلعها من أصلها‪ .‬وهذا‬ ‫َ َّ َ‬ ‫ُون ان ِ َ‬
‫صلبة مستقيمة « َحتَّى َيك َ‬

‫بيان لحال الكافر بأنه يبقى ممتع حتى يموت ويلقى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬بذنوبه وجرائمه‪ ،‬بينما المؤمن‬

‫ل يزال يبتلى ول يزال البالء بالمؤمن حتى يلقى اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬وليس عليه خطيئة‪ .‬فالمصائب‬

‫كفارات ورفعة درجات عند اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ .‬ولهذا ينبغي للمبتلى أن يحتسب ذلك عند اهلل‪ ،‬راج ًيا‬

‫أن يكون كفارة له و ُم ْس َت ْع َت ًبا‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يد‪َ ،‬عن ب ِش ِير ب ِن ن َِه ٍ‬


‫يك‪َ ،‬ع ْن َأبِي ُه َر ْي َرةَ‪َ ،‬ق َال‪:‬‬ ‫ان ب ِن حدَ ي ٍر‪َ ،‬عن يحيى ب ِن س ِع ٍ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ َْ ْ َ‬ ‫يع‪ ،‬ع ْن ع ْم َر َ ْ ُ ْ‬
‫(‪َ )88‬حدَّ َثنَا َوك ُ‬
‫الشع َث ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يف ك ََم َث ِل ا ْل َخا َم ِة مِ َن َّ‬
‫الض ِع ِ‬
‫َم َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ِن َّ‬
‫اء‬ ‫يم َها َم َّر ًة ُأ ْخ َرى‪َ ،‬ق َال‪ُ :‬ق ْل ُت‪َ :‬يا َأ َبا َّ ْ‬ ‫الز ْرعِ‪ُ ،‬تمي ُل َها الر ُ‬
‫يح َو ُتق ُ‬
‫ِ‬ ‫َفا ْلم ْؤمِن ا ْل َق ِوي؟ َق َال‪ :‬م َث ُل الن َّْخ َل ِة ُت ْؤتِي ُأ ُك َلها ك َُّل ِح ٍ ِ ِ‬
‫ين في ظل َها َذل َك‪َ ،‬و َل ُت َقل ُب َها الر ُ‬
‫يح»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ ُ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي هريرة ﭬ موقو ًفا عليه‪ ،‬قال‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ِن‬

‫يم َها َم َّر ًة ُأ ْخ َرى»‪ .‬ومر معنا بيان هذا المثل‪ ،‬وأنه يتعلق‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يف ك ََم َث ِل ا ْل َخا َم ِة مِ َن َّ‬
‫الض ِع ِ‬
‫الز ْرعِ‪ُ ،‬تمي ُل َها الر ُ‬
‫يح َو ُتق ُ‬ ‫َّ‬

‫بحال المؤمن مع البتالءات التي ل يزال ُيب َتلى هبا بين وقت وآخر فتكون له كفارة ورفعة‪َ « .‬ق َال‪ُ :‬ق ْل ُت‪َ :‬يا‬
‫ِ‬ ‫الشع َث ِ‬
‫اء َفا ْلم ْؤمِن ا ْل َق ِوي؟ َق َال‪ :‬م َث ُل الن َّْخ َل ِة ُت ْؤتِي ُأ ُك َلها ك َُّل ِح ٍ ِ ِ‬
‫ين في ظل َها َذل َك‪َ ،‬و َل ُت َقل ُب َها الر ُ‬
‫يح»‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َأ َبا َّ ْ‬

‫وتمثيل المؤمن بالنخلة بابه آخر‪ ،‬يعني تمثيل المؤمن بخامة الزرع بابه يتعلق بالبتالءات ف هذا الحديث‪،‬‬

‫وتمثيل المؤمن بالنخلة ‪ -‬هذا بابه آخر ‪ -‬وهو مثل يوضح حقيقة اإليمان كما ف اآلية الكريمة‪ :‬ﭿ ﯲ ﯳ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪74‬‬

‫ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿﰀﭾ [إبراهيم‪ ،]٢4 :‬وجاء ف الحديث أن النبي‬

‫– عليه الصالة والسالم – قال‪ِ « :‬ه َي النَّخْ َل ُة»‪ ،‬فالنخلة جعلها اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ً -‬‬
‫مثال للمؤمن؛‬

‫فالمؤمن ُي َش َّب ُه بخامة الزرع باعتبار‪ ،‬ويشبه بالنخلة باعتبار‪ ،‬ويشبه بالنحلة باعتبار ‪ -‬كما سيأيت معنا ف‬

‫الحديث اآليت ‪ -‬فلك ٍل من ذلك اعتبار‪ :‬فتشبيهه بخامة الزرع باعتبار البتالءات‪ ،‬وتشبيهه بالنخلة باعتبار‬

‫وثمرا‪ ،‬قال‪ :‬ﭿﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬


‫أصال وفر ًعا ً‬
‫بيان حقيقة اإليمان وأن له ً‬

‫أصال‬
‫ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭾ [إبراهيم‪ ، ]٢5 – ٢4 :‬فهذا مثل لبيان اإليمان وأن له ً‬

‫وثمرا‪.‬‬
‫وفر ًعا ً‬

‫قال‪:‬‬

‫يه‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َع ْم ٍرو‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن‬ ‫(‪ )89‬حدَّ َثنَا ُغنْدَ ر‪َ ،‬عن ُشعبةَ‪َ ،‬عن يع َلى‪َ ،‬عن َع َط ٍ‬
‫اء‪َ ،‬عن َأبِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫َم َث ُل الن َّْح َل ِة‪َ ،‬ت ْأك ُُل َطي ًبا َو َت َض ُع َطي ًبا»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص موقو ًفا‪ ،‬وبين الشيخ‬
‫األلباين ‪ - $‬كما ف «سلسلة األحاديث الصحيحة» ‪ -‬أن الحديث ثبت عن النبي ﷺ مرفو ًعا‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل الن َّْح َل ِة» ‪ -‬بالحاء المهملة‪ ،‬ووقع ف بعض طبعات «كتاب اإليمان» لبن أبي شيبة‬
‫ِ‬
‫بالحاء غير ا ْل ُم ْع َج َمة َل يجوز‬ ‫الم َحدثِي َن»‪َ « :‬و َه َذا‬
‫بالخاء المعجمة‪« :‬النخلة»‪ ،‬وجاء ف كتاب «تصحيفات ُ‬
‫يرها»؛ فإذا قيل‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل النَّ ْخ َل ِة‪َ ،‬ت ْأك ُُل َطي ًبا َو َت َض ُع َطي ًبا» ‪ -‬هذا تصحيف‪ ،‬والصواب‪َ « :‬م َث ُل‬
‫َغ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل الن َّْح َل ِة»‪ .‬والنحلة معروفة‪ ،‬ومن صفتها أهنا « َت ْأك ُُل َطي ًبا»‪ ،‬يعني‪ :‬تتتبع الزروع أو الزهور‬
‫وأيضا « َت َض ُع َطي ًبا»‪ ،‬تضع العسل؛ فهي « َت ْأك ُُل َطي ًبا َو َت َض ُع َطي ًبا»‪.‬‬
‫واألشجار الطيبة وتأخذ منها حاجتها‪ً ،‬‬
‫وع َظم فائدهتا‬ ‫وهذا مثل للمؤمن‪ ،‬والمماثلة بين المؤمن وبين النحلة من حيث‪ :‬فطانة النحلة‪ ،‬وقلة أذاها‪ِ ،‬‬

‫ونفعها‪ ،‬وجهات أخرى عديدة فيها وجه مماثلة بين المؤمن وبين النحلة‪ .‬قال‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤمِ ُن َم َث ُل الن َّْح َل ِة»‪،‬‬
‫وذكر ف الحديث نفسه وجهين للشبه‪ ،‬قال‪َ « :‬ت ْأك ُُل َطي ًبا» ً‬
‫وأيضا « َت َض ُع َطي ًبا»‪ .‬وهذا فيه أن المؤمن من‬
‫وأيضا يرتتب‬
‫دخل إلى جوفه الحرام‪ً .‬‬ ‫إيمانه أل يغذي نفسه بالحرام‪ ،‬ول يبني جسمه على الحرام‪ ،‬ول ي ِ‬
‫ُ‬
‫‪75‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪75‬‬ ‫على ذلك صالح األعمال وزكاء ِ‬
‫الفعال وطيب التعامالت‪ ،‬فهو ل يأكل إل طي ًبا‪ ،‬ول يكون منه إل طيب؛‬
‫يب هو وجه الشبه بين المؤمن وبين النخلة‪ ،‬قال‪ :‬ﭿﯲ ﯳ ﯴ ﯵ‬
‫فالطيب هو وجه الشبه‪ ،‬مثل ما كان الط ُ‬
‫ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻﭾ [إبراهيم‪ .]٢4 :‬فالمؤمن طيب والنخلة طيبة‪ ،‬والمؤمن طيب والنحلة طيبة‪ :‬ل‬
‫تأكل إل طي ًبا ول تضع إل طي ًبا‪ ،‬فهذا حال المؤمن‪.‬‬

‫وأشير ف الختام إلى أن الحديث السابق‪َ « :‬م َث ُل ا ْل ُم ْؤ ِم ِن ك ََم َث ِل ا ْلخَ َام ِة ِم َن الز َّْر ِع»‪ ،‬أفرده ابن رجب ‪ -‬رحمه‬
‫اهلل تعالى ‪ -‬برسالة نافعة مطبوعة بعنوان‪« :‬غاية النفع شرح حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع»‪ ،‬وأتى ف‬
‫هذه الرسالة بفوائد عظيمة ف بيان هذا الحديث وتوضيح مضمونه‪.‬‬

‫وبمجموع ما مر معنا فهذه ثالث أمثال ف الحديث للمؤمن‪ :‬مثل المؤمن مثل خامة الزرع وهذا يتعلق‬
‫أصال وفر ًعا‬
‫بالبتالءات التي قد يصاب هبا المؤمن‪ ،‬ومثل المؤمن مثل النخلة من حيث اإليمان وأن له ً‬
‫وأيضا ل تكون منه إل‬ ‫وثمارا‪ ،‬ومثل المؤمن مثل النحلة‪ ،‬فال يأكل إل طيبا ول ي ِ‬
‫دخل على نفسه إل طي ًبا‪ً ،‬‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫المعامالت الطيبة والتصرفات الالئقة المناسبة التي تليق بإيمانه وديانته‪.‬‬

‫ونسأل اهلل الكريم رب العرش العظيم أن يزيننا أجمعين بزينة اإليمان‪ ،‬وأن يجعلنا هداة مهتدين‪ ،‬وأن‬
‫يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا‪ ،‬وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا‪ ،‬وأن يصلح لنا آخرتنا التي فيها‬
‫معادنا‪ ،‬وأن يجعل الحياة زيادة لنا ف كل خير‪ ،‬والموت راحة لنا من كل شر‪ .‬اللهم اغفر لنا أجمعين‪،‬‬
‫ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات‪ ،‬والمؤمنين والمؤمنات‪ ،‬األحياء منهم واألموات‪ ،‬وآخر‬
‫دعوانا أن الحمد اهلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم وبارك وأنعم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد وآله‬
‫وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫شرح كتاب اإلميان‬
‫البن أبي شيبة رمحه اهلل‬

‫لفضيلة الشيخ‬
‫عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر حفظه اهلل تعاىل‬

‫من الدرس (‪ )9‬إىل الدرس)‪(12‬‬

‫الشيخ مل يراجع التفريغ‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪2‬‬

‫الدرس التاسع‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقول المام الحافظ أبو بكر‪ ،‬عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى‪ ،‬يف كتابه «اليمان»‪:‬‬

‫وسى‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َرسول اهللِ ﷺ‪:‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫)‪َ (90‬أ ْخ َب َرنَا ا ْبن إِ ْد ِر َ‬
‫يس‪َ ،‬ع ْن ب َر ْيد ْب ِن َع ْبد اهلل‪َ ،‬ع ْن َأبِي ب ْر َدةَ‪َ ،‬ع ْن َأبِي م َ‬
‫«ا ْل ُم ْؤ ِم ُن لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن كَا ْل ُبنْ َي ِ‬
‫ان َي ُشد َب ْع ُض ُه َب ْع ًضا»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فهذا حديث من أحاديث اإليمان‪ ،‬ساقه اإلمام ابن أبي شيبة ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬يف كتابه «اإليمان»‪ ،‬حديث‬
‫أبي موسى األشعري ﭬ أن رسول اهلل ﷺ قال‪« :‬ا ْل ُم ْؤ ِم ُن لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن كَا ْل ُب ْن َي ِ‬
‫ان َي ُشد َب ْع ُض ُه َب ْع ًضا»‪ .‬وهو‬

‫حديث متفق على صحته‪ ،‬خرجه اإلمامان البخاري ومسلم يف صحيحهما‪ ،‬وفيهما ش ّبك بين أصابعه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫«ا ْل ُم ْؤ ِم ُن لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن كَا ْل ُبنْ َي ِ‬
‫ان َي ُشد َب ْع ُض ُه َب ْع ًضا» وشبك بين أصابعه ‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪ .‬وهذا فيه بيان‬

‫أثر اإليمان يف تحقيق الرابطة التي ال رابطة مثلها إطال ًقا‪ ،‬فكل رابطة مآلها إلى االنفصام واالنقطاع مهما‬

‫قويت ومهما كانت أسباهبا إال رابطة اإليمان‪ ،‬فإهنا رابطة وثيقة ال تنفصم‪ ،‬باقية مع أهلها يف الدنيا واآلخرة‪،‬‬

‫وقد قال اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ :‬ﭿﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﭾ [الزخرف‪ ،]٦٧ :‬وقال ‪-‬جل وعال‪:‬‬

‫ﭿﮨ ﮩ ﮪﭾ [البقرة‪ ]١٦٦ :‬أي‪ :‬أسباب المودة التي كانت بينهم‪ ،‬إال أخوة الدين ورابطة اإليمان؛ فإهنا‬

‫أعظم رابطة على اإلطالق‪ ،‬وهي رابطة باقية بين أهلها‪ ،‬مستمرة معهم يف الدنيا واآلخرة‪ .‬وهذه الرابطة‬

‫وثيقة وقوية ومتماسكة‪ ،‬وكلما قوي اإليمان قوي تماسك هذه الرابطة‪ ،‬وإذا ضعف اإليمان ضعفت‬

‫الرابطة اإليمانية بضعف اإليمان‪ .‬ويف هذا الحديث م ّثل ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬لقوة هذه الرابطة وقوة‬
‫‪3‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪3‬‬
‫تماسكها بالبنيان‪ ،‬ومن المعلوم أن البنيان يتكون من أسس وجدر وسقف وأمور عديدة‪ ،‬وال يتكون البنيان‬

‫بعضا‪ ،‬وش ّبك ‪ -‬عليه‬


‫عضا‪ .‬فمثل المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه ً‬ ‫ِ‬
‫وكون بعضها يشد ب ً‬ ‫هبا إال بتماسكها‬

‫الصالة والسالم ‪ -‬بين أصابعه مؤكدً ا هذا المعنى‪ ،‬مقر ًرا هذه الحقيقة ‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪ .‬وإذا‬

‫كان األمر كذلك‪ ،‬فإن آالم المؤمنين واحدة‪ ،‬وآمالهم واحدة‪ ،‬وهمومهم مشرتكة‪ ،‬ولهذا قال ‪ -‬عليه الصالة‬

‫اش َتكَى ِمنْ ُه‬


‫اح ِم ِه ْم‪َ ،‬و َت َعا ُط ِف ِه ْم َم َث ُل ا ْل َج َس ِد إِ َذا ْ‬ ‫ِ‬ ‫والسالم ‪ -‬يف حديث آخر‪« :‬م َث ُل ا ْلم ْؤ ِمن ِ ِ‬
‫ين في ت ََوا ِّده ْم‪َ ،‬وت ََر ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫الس َهرِ َوا ْل ُح َّمى»‪ .‬ومن المعلوم أن الجسد الواحد إذا تألم بعضه تألم كله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُع ْضو تَدَ ا َعى َل ُه َسائ ُر ا ْل َج َسد بِ َّ‬
‫بتألم بعضه‪ ،‬فألمه واحد‪ ،‬وفرحه واحد‪ ،‬وسروره واحد ‪ -‬وهكذا الشأن يف أمة اإليمان وأهل دين اإلسالم‪.‬‬

‫وإذا ضعفت فيهم هذه المعاين فإن هذا من عالمات ضعف اإليمان‪ ،‬وإذا انتشرت بين المسلمين صفات‬

‫تناقِض هذا األصل العظيم فإن هذا من عالمات ضعف اإليمان ووهاء الدين‪ً .‬‬
‫مثال‪ ،‬إذا فشى الحسد‪ ،‬أو‬

‫فشت النميمة‪ ،‬أو البغي‪ ،‬أو غير ذلك من الخصال الذميمة ‪ -‬إذا فشت بين الناس ‪ -‬هذا كله من أمارات‬

‫بعضا ‪-‬‬
‫ضعف اإليمان ونقص الدين؛ ألن اإليمان جعل الرابطة بين المؤمنين كالجسد الواحد يشد بعضه ً‬

‫بعضا‪ ،‬وكالجسد الواحد يألم كله بألم بعضه‪ ،‬ويفرح كله بفرح بعضه ‪ -‬فهذا‬
‫مثلهم كالبنيان يشد بعضه ً‬

‫شأن أمة اإليمان؛ فإذا ضعفت هذه المعاين فيهم فال شك وال ريب أن هذا من ضعف إيماهنم‪ ،‬وإذا قويت‬

‫هذه المعاين فهي من قوة اإليمان‪ .‬وعليه فإن هذه الخصال تقوى وتضعف يف أمة اإليمان بحسب حظهم‬

‫ونقصا‪ ،‬فكلما قوي إيماهنم قويت صلتهم‪ ،‬وكلما ضعف إيماهنم ضعفت‬
‫ً‬ ‫من اإليمان قوة وضع ًفا وزيادة‬

‫صلتهم‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ار‪َ ،‬عن َعم ِرو ب ِن شرحبِ َيل‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال رسول اهللِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي َعم ٍ ْ ْ ْ‬
‫ان‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬
‫يع‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬
‫(‪َ )91‬حد َثنَا َوك ٌ‬

‫اش ِه»‪.‬‬
‫ﷺ‪« :‬إِ َّن عمارا م ِلئ إِيمانًا إِ َلى م َش ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َّ ً ُ َ َ‬

‫الشرح‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪4‬‬

‫يب ْب ِن ح َم ْي ٍد‪َ « ،‬ع ْن‬


‫ار»‪ِ ،‬ع ِر ِ‬
‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن رسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ع ْن َأبِي َعم ٍ‬

‫َع ْم ِرو ْب ِن ش َر ْحبِ َيل‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َرسول اهللِ ﷺ»‪ ،‬وهو مرسل‪ ،‬ووصله الحاكم من حديث ابن مسعود ‪ -‬رضي‬

‫اهلل عنه وأرضاه‪ .‬والحديث ثبت عن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬وله طرق يصح هبا عن النبي ﷺ‪.‬‬

‫اش ِه»‪ .‬المشاش هو أطراف وروؤس األصابع وأطراف البدن‪ ،‬فيقول ‪-‬‬
‫قال‪« :‬إِ َّن عمارا م ِلئ إِيمانًا إِ َلى م َش ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َّ ً ُ َ َ‬
‫اش ِه»‪ ،‬أي‪ :‬حتى أطرافه‪ ،‬ملئ إيما ًنا إلى أطرافه‪ ،‬وامتأل‬
‫عليه الصالة والسالم‪« :‬إِ َّن عمارا م ِليء إِيمانًا إِ َلى م َش ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َّ ً َ‬
‫إيما ًنا ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ .‬وهذا من أوضح الدالئل وأبينها أن اإليمان يقوى ويضعف‪ ،‬وأن أهله ليسوا‬

‫فيه سواء؛ فعمار ﭬ امتأل إيما ًنا بشهادة النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬ومن الناس من ليس فيه من‬

‫اإليمان إال مثقال ذرة كما مر معنا يف الحديث‪« :‬يخرج من النار من قال ال إله إال اهلل ويف قلبه مثقال ذرة من‬

‫اليمان»‪ .‬فمن الناس من ليس فيه من اإليمان إال مثقال ذرة‪ ،‬ومنهم من ملِ َئ إيما ًنا كما هو الشأن يف عمار‬

‫ﭬ بشهادة النبي الكريم ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ .‬وهذا من الدالئل الواضحات على أن اإليمان يزيد‬

‫وينقص‪ ،‬وأن أهله فيه متفاضلون‪ ،‬وأهنم ليسوا فيه على درجة واحدة‪ .‬والحديث فيه فضيلة عمار بن ياسر‬

‫ﭬ ومكانته من الدين‪ ،‬فشهد له النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬هبذه الشهادة العظيمة المباركة أنه « ُم ِل َئ‬

‫اش ِه»‪ ،‬أي‪ :‬حتى أطرافه‪ ،‬رضي اهلل عنه وأراضاه‪.‬‬


‫إِيمانًا إِ َلى م َش ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬

‫قال‪:‬‬

‫وسا ِعنْدَ َعلِ ٍّي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬


‫اق‪َ ،‬ع ْن َهان ِئ ْب ِن َهان ٍئ‪َ ،‬ق َال‪ :‬كنا جل ً‬ ‫(‪َ )92‬أ ْخ َب َرنَا َعثام ْبن َعلِي‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬
‫ٍّ‬
‫ِ‬ ‫ب‪ ،‬س ِمعت رس َ ِ‬
‫يمانًا‬‫ول اهلل ﷺ َيقول‪« :‬إِ َّن َع َّم ًارا َمليء إِ َ‬ ‫ب ا ْلم َطي ِ َ ْ َ‬ ‫ﭬ‪َ ،‬فدَ َخ َل َعم ٌار‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬م ْر َح ًبا بِالطي ِ‬

‫اش ِه»‪.‬‬
‫إِ َلى م َش ِ‬
‫ُ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد المصنف ‪ $‬الحديث من رواية علي بن أبي طالب ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ .‬واإلسناد فيه هانئ‬

‫بن هانئ‪ ،‬مستور‪ ،‬لكن الحديث حسن بما قبله‪ .‬وعلي ﭬ لما دخل عمار قال‪َ « :‬م ْر َح ًبا بِالطي ِ‬
‫ب ا ْلم َطي ِ‬
‫ب» ‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪5‬‬
‫َ‬
‫أحاديث كثيرة عن رسول ﷺ‪ ،‬وهي تؤنس الداخل‪ ،‬ومعناها‪ :‬حللت يف‬ ‫مرح ًبا كلمة ترحيب‪ ،‬وتأيت يف‬

‫وكثيرا ما‬
‫ً‬ ‫بمقدَ مك؛ فهي كلمة ترحيب ومؤانسة للداخل‪،‬‬
‫مكان رحب وبين إخوة يأنسون بك ويفرحون َ‬
‫يتلقى النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬الوفود ومن يدخل عليه هبذه الكلمة بعد السالم‪« :‬مرح ًبا»‪ ،‬فهي‬

‫ب»‪« .‬الطي ِ‬
‫ب» أي‪ :‬يف أخالقه‬ ‫كلمة ترحيب‪ .‬فرحب علي ﭬ بعمار بن ياسر ﭬ ثم قال‪« :‬بِالطي ِ‬
‫ب ا ْلم َطي ِ‬
‫ّ‬
‫ب» الذي ط ّيبه رب العالمين باإليمان وطاعة اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬والطِ ْيب إنما‬ ‫وصفاته ِ‬
‫وخالله‪« ،‬ا ْلم َطي ِ‬

‫يكون باإليمان وطاعة اهلل ‪ -‬عز وجل‪ ،‬ولهذا يقال ألهل الجنة‪« :‬أهل الطِيب»‪ ،‬وأهل اإليمان يقال لهم يوم‬

‫القيامة ﭿﯦ ﯧ ﯨﭾ [الزمر‪ ،]٧٣ :‬فأهل الطيب هم أهل اإليمان‪ .‬واختار علي ﭬ هذا الوصف‬

‫ب ا ْلم َطي ِ‬
‫ب» ألن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬شهد له بأنه امتأل إيما ًنا إلى‬ ‫وهذا التلقيب لعمار‪« :‬الطي ِ‬

‫عمار ﭬ باإليمان‪ ،‬وال يكون طِيب إال باإليمان باهلل ‪-‬عز وجل‪ -‬وطاعته ‪ -‬سبحانه‬
‫ٌ‬ ‫مشاشه؛ فطاب‬

‫وتعالى‪ .‬فبنا ًء على ذلك قال علي ﭬ‪َ « :‬م ْر َح ًبا بِالطي ِ‬
‫ب ا ْلم َطي ِ‬
‫ب»؛ ألن النبي ‪-‬عليه الصالة والسالم‪-‬‬

‫شهد له باإليمان‪.‬‬

‫ول اهللِ ﷺ يقول‪ :‬إِ َّن عمارا م ِلئ إِيمانًا إِ َلى م َش ِ‬


‫اش ِه»‪ ،‬وكأنه‬ ‫ب‪َ ،‬س ِم ْعت َرس َ‬ ‫قال‪َ « :‬م ْر َح ًبا بِالطي ِ‬
‫ب ا ْلم َطي ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َّ ً ُ َ َ‬ ‫َ‬

‫ب»‪ ،‬أي‪ :‬ألن النبي ﷺ قال فيه‪« :‬إِ َّن َع َّم ًارا‬ ‫يستدل ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬لقوله‪َ « :‬م ْر َح ًبا بِالطي ِ‬
‫ب ا ْلم َطي ِ‬

‫اش ِه»‪.‬‬
‫م ِلئ إِيمانًا إِ َلى م َش ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ َ‬

‫قال‪:‬‬

‫ان َل ْي َس بِالت ََّح ِّلي‬


‫يم َ‬ ‫ان‪ ،‬نا َزك َِريا‪َ ،‬ق َال‪َ :‬س ِم ْعت ا ْل َح َس َن‪َ ،‬يقول‪« :‬إِ َّن ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫(‪َ )9٣‬حد َثنَا َعفان‪ ،‬نا َج ْع َفر ْبن س َل ْي َم َ‬

‫ان َما َو َق َر فِي ا ْل َق ْل ِ‬


‫ب َو َصدَّ َق ُه ا ْل َع َم ُل»‪.‬‬ ‫يم ُ‬ ‫َو َال بِالت ََّمنِّي‪ ،‬إِن ََّما ْ ِ‬
‫ال َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫هذا أثر عظيم جدً ا عن الحسن البصري ‪ - $‬وهو من علماء التابعين ‪ -‬يف بيان حقيقة اإليمان‪ ،‬وهو أثر‬

‫تناقله أهل العلم يف كتب االعتقاد واستحسنوه وتلقوه بالقبول‪ .‬وهو أثر له مدلوله العظيم يف بيان حقيقة‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪6‬‬

‫اإليمان‪ ،‬وأن اإليمان ليس مجرد دعوى تدعى أو أمنية ترتجى‪ ،‬بل اإليمان له حقيقة‪ ،‬فإن قامت هذه‬

‫الحقيقة ‪ -‬حقيقة اإليمان ‪ -‬يف الشخص كان مؤمنًا‪ ،‬وال يكون مؤمنًا بمجرد التمني أو التحلي‪ .‬والتمني هو‬

‫قول يقوله اإلنسان بلسانه‪ ،‬ودعوى يدعيها بلسانه‪ ،‬متمنيا على اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬والتحلي هو أن ي ْظ ِه َر‬

‫من أعمال اإليمان وحلية اإليمان ما ال يكون مبطنًا له متحق ًقا باإليمان به‪ ،‬فيكون حظه من اإليمان حلية‬

‫ظاهرة من غير أن يكون له حقيقة يف القلب‪ ،‬فيكون مجرد تحلي الظاهر بأعمال اإليمان وأوصاف اإليمان‬

‫ان َل ْي َس بِالت َحلي َو َال بِالت َمني»‪ ،‬إِ َذ ْن ما هو اإليمان؟ قال‪:‬‬ ‫ِ‬
‫دون أن يقوم يف قلبه حقيقة اإليمان‪« .‬إِن ْاإل َ‬
‫يم َ‬

‫يمان َما َو َق َر فِي ا ْل َق ْل ِ‬


‫ب َو َصد َقه ا ْل َع َمل»‪ ،‬وهذا كالم جامع وعظيم ومتين للغاية يف بيان حقيقة‬ ‫ِ‬
‫«إِن َما ْاإل َ‬
‫يمان َما َو َق َر فِي ا ْل َق ْل ِ‬
‫ب» من اإلقرار والتصديق واإلذعان‪َ « ،‬و َصد َقه ا ْل َع َمل» بأن تعمل الجوارح‬ ‫ِ‬
‫اإليمان‪ْ « .‬اإل َ‬
‫وتنقاد بموجب ما قام يف قلب المؤمن من إيمان باهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وبما أمره باإليمان به‪ .‬فحقيقة اإليمان‪:‬‬

‫ما وقر يف القلب وصدقه العمل‪ .‬وقد قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬أ َال َوإِ َّن فِي ا ْل َج َس ِد ُم ْض َغةً‪ ،‬إِ َذا َص َل َح ْ‬
‫ت‬
‫ِ‬
‫َص َل َح ا ْل َج َسدُ كُل ُه‪َ ،‬وإِ َذا َف َسدَ ْت َف َسدَ ا ْل َج َسدُ كُل ُه‪َ ،‬أ َال َوه َي ا ْل َق ْل ُ‬
‫ب»‪ ،‬فإذا وقر اإليمان يف القلب فإن الجوارح‬

‫تصلح تب ًعا له‪ ،‬ولهذا قال العلماء‪« :‬كل مؤمن مسلم»؛ ألنه متى وقر اإليمان يف القلب أسلمت الجوارح هلل‬

‫وانقادت‪ .‬قالوا‪« :‬كل مؤمن مسلم‪ ،‬وليس كل مسلم مؤمنًا»؛ ألن درجة اإليمان أعلى وأرفع من درجة‬

‫اإلسالم؛ فمتى وقر اإليمان يف القلب وتمكن منه فالجوارح تنقاد مصدقة لما قام يف القلب من إيمان‪ .‬ولهذا‬

‫فإن أعمال الجوارح تسمى تصدي ًقا ‪ -‬كما قال الحسن‪َ « :‬و َصد َقه ا ْل َع َمل» ‪ -‬فعمل الجوارح يسمى تصدي ًقا‪،‬‬

‫إما تصدي ًقا لإليمان أو تصدي ًقا لغيره‪ ،‬مثل ما قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪« :‬إِ َّن اهللَ َكت َ‬
‫َب َع َلى ا ْب ِن آ َد َم َح َّظ ُه‬

‫المنْطِ ُق‪َ ،‬وال َّن ْف ُس ت ََمنَّى َوت َْشت َِهي‪ ،»...‬ثم قال‪:‬‬
‫ان َ‬ ‫ِم َن ال ِّزنَا‪َ ،‬أ ْد َر َك َذلِ َ‬
‫ك الَ َم َحا َلةَ‪َ ،‬ف ِزنَا ال َع ْي ِن ال َّن َظ ُر‪َ ،‬و ِزنَا ال ِّل َس ِ‬

‫« َوال َف ْر ُج ُي َصدِّ ُق َذلِ َ‬


‫ك ُك َّل ُه َو ُيك َِّذ ُب ُه»‪ ،‬فسمى عمل الجوارح تصدي ًقا‪ .‬فالجوارح إذا ع ِمر القلب باإليمان‬

‫ووقر فيه اإليمان صدّ قته الجوارح منقادة هلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬ولهذا ال يتصور ‪ -‬كما قال أهل العلم ‪-‬‬

‫فعال وح ًقا وصد ًقا ويرتَك العمل ‪ -‬هذا ال يتصور وقوعه! ألنه ال‬
‫وقو ًعا أن يكون اإليمان وقر يف القلب ً‬

‫إيمان ح ًقا وصد ًقا إال بإسالم – بعمل‪ .‬فإذا وقر اإليمان يف القلب ح ًقا وصد ًقا فالجوارح ال بد أن تعمل‬
‫‪7‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫ِ ‪7‬‬
‫ان َل ْي َس‬
‫يم َ‬ ‫وتنقاد مطيعة هلل ‪-‬سبحانه وتعالى؛ فال إيمان إال بعمل وطاعة وانقياد هلل ‪ -‬عز وجل‪ .‬قال‪« :‬إِن ْ‬
‫اإل َ‬
‫يمان َما َو َق َر فِي ا ْل َق ْل ِ‬
‫ب َو َصد َقه ا ْل َع َمل»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بِالت َحلي َو َال بِالت َمني‪ ،‬إِن َما ْاإل َ‬

‫ضعيف‪ ،‬لكن‬
‫ٌ‬ ‫الح َبطِي‪:‬‬
‫واإلسناد الذي ساقه المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هنا فيه زكريا‪ ،‬وهو ابن عدي َ‬

‫ف كذلك ‪ -‬لكن بمجموع هذه الطرق‬


‫رواه ابن بطة يف «اإلبانة» من طريقين آخرين ‪ -‬ويف الطريقين َض ْع ٌ‬

‫يحسن أو يبلغ درجة الحسن‪ .‬وقد قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪« :$‬وهذا مشهور عن الحسن يروى عنه‬

‫كثيرا يف كتب‬ ‫ِ‬


‫من غير وجه»‪ .‬وأئمة أهل العلم تلقوا هذا األثر بالقبول واستحسنوه واستجودوه‪ ،‬ونقل ً‬
‫الح َسن ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬يف بيان حقيقة اإليمان وأنه ليس أمنية أو دعوى تدعى‪،‬‬
‫العقائد لمتانة ما ذكره َ‬

‫ولكنه أمر َي َق ُّر يف القلب وتصدقه الجوارح ً‬


‫عمال وطاع ًة وانقيا ًدا هلل ‪ -‬عز وجل‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫اس‪َ ،‬أنه َق َال ل ِ ِغ ْل َمانِ ِه‪:‬‬


‫اه ٍد‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َعب ٍ‬
‫اج ِر‪َ ،‬عن مج ِ‬
‫ْ َ‬
‫ِ‬
‫اهيم ْب ِن ا ْلم َه ِ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َر َ‬
‫(‪َ )94‬أ ْخ َب َرنَا ا ْبن م ْس ِه ٍر‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬
‫يم ِ‬
‫ان‪َ ،‬فإِ ْن َشا َء َر َّد ُه‪َ ،‬وإِ ْن َشا َء َأ ْن َي ْمنَ ُع ُه‬ ‫ُور ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َ‬ ‫« َم ْن َأ َرا َد منْك ُُم ا ْل َبا َء َة ز ََّو ْجنَا ُه‪َ ،‬ال َيزْني منْك ُْم زَان إِ َّال َنز ََع اهللُ منْ ُه ن َ‬
‫َمنَ َع ُه»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد هذا األثر عن ابن عباس ﭭ‪ ،‬وقد تقدم معنا هذا األثر من طريق أخرى فيما مضى بإسناد آخر‪،‬‬

‫اس‪َ ،‬أنه َق َال ل ِ ِغ ْل َمانِ ِه»‪ ،‬أي‪َ :‬من تحت‬


‫اه ٍد‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َعب ٍ‬
‫وأيضا مضى الكالم على معناه هناك‪ .‬قال‪َ « :‬عن مج ِ‬
‫ْ َ‬ ‫ً‬

‫يده من العبيد‪ ،‬كان يدعوهم واحدً ا واحدً ا‪َ « :‬م ْن َأ َرا َد مِنْكم ا ْل َبا َء َة َزو ْجنَاه»‪ ،‬ثم لما رغبهم يف الزواج وأبدى‬
‫اإليم ِ‬
‫ان‪َ ،‬فإِ ْن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ﭬ استعداده لتزويجهم ومعاونتهم يف الزواج قال‪َ « :‬ال َي ْزني منْك ْم َزان إِال ن ََز َع اهلل منْه ن َ‬
‫ور ْ َ‬
‫َشا َء َرده‪َ ،‬وإِ ْن َشا َء َأ ْن َي ْمنَعه َمنَ َعه»‪ .‬وهذا فيه ‪ -‬كما سبق ‪ -‬بيان ذلك خطورة هذه الفاحشة على إيمان‬

‫الشخص‪ ،‬وأهنا تذهب عن اإلنسان نور اإليمان وهباءه‪ ،‬وال يكون مستح ًقا وصف اإليمان باإلطالق إال‬

‫مع التقييد بالفسق أو الفجور أو نحو ذلك‪ ،‬واهلل يقول‪ :‬ﭿﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋﭾ [الحجرات‪ ،]١١ :‬فيكون يف‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪8‬‬

‫فعله لهذه الفاحشة مؤمنًا فاس ًقا‪ :‬مؤمنًا ناقص اإليمان‪ ،‬ال يستحق وصف اإليمان باإلطالق الرتكابه هذه‬

‫الكبيرة ‪ -‬كبيرة الزنا‪ .‬وابن عباس ﭭ جمع لغلمانه بين أمرين‪ :‬ترغيب يف الخير‪ ،‬وتحذير من الشر‪.‬‬

‫القارئ‪ :‬يف «المصنف» يقول األخ إنه (ابن مهدي)‪...‬ليس (ابن مسهر)‪.‬‬

‫الشارح‪ :‬أخربنا ابن مهدي‪ ،‬عن سفيان‪ ،...‬ممكن تراجع هذه‪ ،‬يعني يف «كتاب اإليمان» الذي بين أيدينا‪:‬‬

‫«أخربنا ابن مس ِهر»‪ ،‬وهناك فروقات – كما مر معنا ‪ -‬هناك فروقات بين «المصنف» وما هنا‪ ،‬والخطأ يف‬

‫الغالب هنا يف هذه نسخة «اإليمان»؛ غال ًبا الخطأ فيها فهي كثيرة التصحيف‪ .‬وبالمقابلة بين النسختين مع‬

‫أيضا بمراجعة المصادر األخرى ‪ -‬يتبين الصواب يف ذلك‪ ،‬واهلل أعلم‪.‬‬


‫التحقيق ‪ً -‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يه‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ع َج ًبا ِ ِ‬


‫ل ْخ َوانِنَا ِم ْن َأ ْه ِل ا ْل ِع َر ِاق‬ ‫س‪َ ،‬عن َأبِ ِ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن َم ْع َم ٍر‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َطاو ٍ ْ‬ ‫(‪َ )95‬أ ْخ َب َرنَا َقبِ َ‬
‫يصة‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬

‫اج ُم ْؤ ِمنًا»‪.‬‬
‫ُي َسمو َن ا ْل َح َّج َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫أيضا بعده بعض اآلثار كلها تتعلق بالحجاج بن يوسف‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر‪ ،‬ويأيت ً‬

‫أيضا من كتب الرتاجم ‪ -‬كان عرف‬


‫الثقفي‪ .‬والحجاج ‪ -‬كما ذكر يف ترجمته يف «سير أعالم النبالء» وغيره ً‬

‫بالظلم وسفك الدماء‪ ،‬وأمور من هذا القبيل عرف هبا‪ .‬واشتدت كلمة عدد من السلف يف شأنه‪ ،‬وتجريم‬

‫أعماله‪ ،‬ووصف شنائعه‪ ،‬وللسلف ‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬نقوالت وكلمات عديدة يف هذا المعنى‪.‬‬

‫والمصنف هنا نقل أشياء تتعلق بموضوع اإليمان مما يروى عن السلف يف كالمهم عن الحجاج‪ ،‬فنقل عن‬

‫اج م ْؤمِنًا»‪ ،‬وهذه التسمية‬ ‫طاوس بن كيسان ‪ $‬أنه قال‪َ « :‬ع َج ًبا ِ ِ‬
‫إل ْخ َوانِنَا مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل ِعر ِ‬
‫اق ي َس ُّمو َن ا ْل َحج َ‬ ‫َ‬
‫باإلطالق عرفنا ما فيها ساب ًقا يف حق كل شخص‪ ،‬فكيف بشخص عرف بالظلم وسفك الدماء والعدوان‬

‫ونحو ذلك؟ فكان ‪ $‬يتعجب ممن يل ّقبه بذلك ويسميه مؤمنًا مع أن هذا اللقب العظيم ال يطلق على أي‬
‫‪9‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪9‬‬
‫مشتهرا بالظلم وسفك الدماء ونحو ذلك؟ ولهذا تعجب ‪ -‬رحمه‬
‫ً‬ ‫أحد لما فيه من التزكية‪ ،‬فكيف بمن كان‬

‫اج م ْؤمِنًا»‪.‬‬ ‫اهلل تعالى ‪ -‬من صنيعهم فقال‪َ « :‬ع َج ًبا ِ ِ‬


‫إل ْخ َوانِنَا مِ ْن َأ ْه ِل ا ْل ِعر ِ‬
‫اق ي َسم ْو َن ا ْل َحج َ‬ ‫َ‬

‫قال‪:‬‬

‫َان إِ َذا ذكِ َر ا ْل َحجاج َق َ‬


‫ال‪ :‬ﭿﯹ ﯺ ﯻ ﯼ‬ ‫ِ‬ ‫ان‪َ ،‬ع ْن َمنْص ٍ‬
‫ور‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َراه َ‬
‫يم‪َ :،‬أنه ك َ‬ ‫يع‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬‫ِ‬
‫(‪َ )9٦‬حد َثنَا َوك ٌ‬
‫ﯽﭾ [هود‪.]١٨ :‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫َان إِ َذا ذكِ َر‬


‫ثم نقل ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن إبراهيم ‪ -‬وهو النخعي رحمه اهلل تعالى ‪َ « -‬أنه ك َ‬

‫ٌ‬
‫وفرق بين اللعن بالتعميم واللعن‬ ‫ا ْل َحجاج َق َال‪ :‬ﭿﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﭾ»‪ ،‬وهذا يسمى اللعن بالتعميم‪.‬‬

‫بالتعيين‪ :‬فرق بين إطالق اللعن على الشخص المعين‪ ،‬وبين إطالق اللعن بالتعميم يف األوصاف‪ ،‬مثل أن‬

‫يقال‪« :‬لعن اهلل شارب الخمر»‪ ،‬أو يقال‪« :‬لعن اهلل الرابي‪ ،‬والمرتشي‪ ،‬والنامصة»‪ ،‬وغير ذلك مما جاء يف‬

‫السنة اللعن فيه بالتعميم‪ .‬وأما اللعن بالتعيين‪ ،‬فهو أن يطلق اللعن على الشخص المعين‪ .‬والنبي ‪ -‬عليه‬

‫الصالة والسالم ‪ -‬صح عنه اللعن بالتعميم يف أحاديث كثيرة جدً ا‪ ،‬وبعض أهل العلم جمع أحاديث اللعن‬

‫‪ -‬يعني الخصال واألعمال التي توجب اللعن ‪ -‬وكل حديث جاء فيه لعن فهذا دليل على أن األمر كبيرة‬

‫فمثال قوله‪« :‬لعن اهلل النامصة»‪،‬‬


‫من الكبائر‪ ،‬فال يكون اللعن إال يف كبيرة‪ .‬واللعن طر ٌد وإبعا ٌد من رحمة اهلل‪ً ،‬‬

‫«لعن اهلل الراشي والمرتشي»‪« ،‬لعن يف الخمر عشرة»‪« ،‬لعن الرابي والمرابي»‪ ،‬ونحو ذلك من األحاديث‬

‫التي هبذا الباب ‪ -‬هذا كله لعن بالتعميم‪ .‬وجيء مرة بشخص معين شرب الخمر وجلِد بين يدي النبي –‬

‫عليه الصالة والسالم‪ ،‬ثم أتِ َي به ثانية وقد شرب الخمر‪ ،‬فقال بعض الصحابة‪« :‬اللهم ال َعنْه‪َ ،‬ما َأ ْك َث َر َما ي ْؤ َتى‬

‫بِ ِه»‪ ،‬فقال ﷺ‪« :‬الَ َت ْل َعنُو ُه‪ »...‬مع أنه صح عنه اللعن بالتعميم‪ ،‬ولكن لما أوقِ َع اللعن على معين هناهم عن‬
‫ت إِ َّنه ي ِ‬
‫حب اهللَ َو َر ُسو َل ُه»‪ ،‬ولهذا ي َفرق بين اللعن بالتعميم واللعن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذلك وقال‪« :‬الَ َت ْل َعنُو ُه‪َ ،‬ف َواهلل َما َعل ْم ُ ُ ُ‬
‫بالتعيين‪ .‬ولهذا بعض السلف يف مثل هذه الحاالت يلعنون بالتعميم‪ ،‬يقول‪« :‬أال لعنة اهلل على الظالمين»‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪10‬‬

‫وإذا كان من قيلت هذه الكلمة بمناسبة ذكره مستحقا لها شملته‪ ،‬وإن لم يكن مستحقا لها لم تشمله‪،‬‬

‫بخالف ما لو عينه وقال‪« :‬لعنة اهلل على فالن» وسماه‪ .‬وأهل العلم ‪ -‬كما ذكر شيخ اإلسالم ابن تيمية‬

‫رحمه اهلل تعالى‪ -‬تنازعوا يف لعن الفاسق فقيل إنه جائز – يعني‪ :‬أن يل َعن بعينه ‪ -‬وقيل ال يجوز‪ .‬قال شيخ‬

‫اإلسالم ‪« :$‬والمعروف عن أحمد» ‪ -‬أي‪ :‬ابن حنبل ‪« - $‬كراهة لعن المعين‪ ،‬كالحجاج بن يوسف‬

‫وأمثاله‪ ،‬وأن يقول كما قال اهلل تعالى‪ :‬ﭿﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﭾ»‪ ،‬مثل ما جاء اآلن عندنا عن إبراهيم‬

‫َان إِ َذا ذكِ َر ا ْل َحجاج» ‪ -‬أي‪ :‬عنده ‪َ « -‬ق َال‪ :‬ﭿﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽﭾ»‪ ،‬فهذا لعن بالتعميم‪.‬‬
‫النخعي « َأنه ك َ‬

‫قال‪:‬‬

‫ُوت كَافِر بِاهلل ِ‪َ ،‬ي ْعنِي‬


‫اش‪َ ،‬ع ِن ْاألَج َلحِ ‪َ ،‬ع ِن الشعبِي‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬أ ْش َهدُ َأ َّنه م ْؤ ِمن بِال َّطاغ ِ‬
‫ُُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫‪َ - 97‬حد َثنَا َأبو َب ْك ِر ْبن َعي ٍ‬

‫ا ْل َحج َ‬
‫اج»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫وت كَافِ ٌر بِاهللِ‪،‬‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن الشعبي ‪ $‬أنه قال‪َ « :‬أ ْشهد َأنه م ْؤمِن بِالطاغ ِ‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫َي ْعني ا ْل َحج َ‬
‫اج»‪ .‬واألثر يف إسناده األجلح بن عبد اهلل‪ ،‬الراوي عن الشعبي‪ ،‬قيل يف ترجمته‪ :‬صدوق شيعي‪.‬‬

‫وجاء عن بعض السلف يف هذا المعنى مثل ما جاء عن أبي وائل‪ ،‬قيل له‪ :‬تشهد على الحجاج أنه يف النار؟‬
‫فقال‪« :‬سبحان اهلل! أحكم على اهلل؟» وقال رجل للثوري‪ :‬اشهد على الحجاج وأبي مسلم أهنما يف النار‪.‬‬
‫قال‪« :‬ال‪ ،‬إذا أقرا بالتوحيد»‪ .‬والذهبي ‪ $‬ذكر نقوالت عديدة تتعلق بالحجاج يف «تاريخ اإلسالم»‪ ،‬وأما‬
‫أسطرا قليلة‪ ،‬لكن يف «تاريخ اإلسالم» توسع يف ذكر النقول وقال‪« :‬وعندي‬
‫ً‬ ‫يف «سير أعالم النبالء» ذكر فيه‬
‫مجلد يف أخبار الحجاج» ‪ -‬أي‪ :‬يف مخازيه وأعماله وشنائعه ‪« -‬فيه عجائب‪ ،‬لكن ال أعرف صحتها»‪ ،‬يعني‬
‫هناك أشياء تروى وتنقل وتحكى‪ ،‬لكنها تأيت هكذا مرسلة تحتاج إلى تحقيق وتثبت من صحتها‪ .‬وابن عمر‬
‫وغيره من الصحابة كانوا ي َص ُّلون خلف الحجاج ‪ -‬وفجوره وظلمه عليه‪ ،‬لكن الحكم عليه بالكفر وأنه‬
‫(مؤمن بالطاغوت كافر باهلل) هذا يحتاج إلى أمور حتى يبنَى عليها هذا الحكم‪ .‬واألثر يف إسناده عن الشعبي‬
‫كالم‪ ،‬وللسلف كلمات يف هذا المعنى مخالفة ومعارضة لما هنا‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪11‬‬
‫قال‪:‬‬

‫يم َق َال‪َ « :‬ك َفى بِ َم ْن َي ُشك فِي َأ ْمرِ ا ْل َح َّجاجِ َل َحا ُه اهللُ»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ان‪َ ،‬ع ْن َمنْص ٍ‬
‫ور‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َراه َ‬ ‫يع‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬ ‫ِ‬
‫(‪َ )9٨‬حد َثنَا َوك ٌ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم ختم هبذا األثر فيما يتعلق بالحجاج بن يوسف‪ ،‬قال إبراهيم‪َ « :‬ك َفى بِ َم ْن َيش ُّك فِي َأ ْم ِر ا ْل َحجاجِ َل َحاه‬

‫اهلل»‪ .‬إبراهيم هو النخعي‪ ،‬ومر معنا قري ًبا عنه أثر يف هذا المعنى‪ .‬قال‪َ « :‬ك َفى بِ َم ْن َيش ُّك فِي َأ ْم ِر ا ْل َحجاجِ‬

‫َل َحاه اهلل»‪ ،‬ومعنى لحاه اهلل أي‪ :‬قبحه اهلل وأهلكه اهلل‪ .‬وقوله‪َ « :‬ك َفى بِ َم ْن َيش ُّك فِي َأ ْم ِر ا ْل َحجاجِ »‪ .‬قد يكون‬

‫القصد يف (أمره) يعني‪ :‬فجوره وظلمه وعدوانه وسفكه للدماء وغير ذلك‪ ،‬وهذا أمر مشهور وذائع‬

‫ومعروف عنه‪ ،‬مما يدل على ما كان عليه من ظلم وتجرب وسفك للدماء‪ ،‬وعدوان وأمور من هذا القبيل‬

‫كثيرة ن ِق َلت يف ترجمته‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ف َلنَا الت ْق َوى َف َق َال‪:‬‬ ‫اص ٍم‪َ ،‬ق َال‪ :‬ق ْلنَا ل ِ َط ْل ِق ْب ِن َحبِ ٍ‬
‫يب‪ِ :‬ص ْ‬ ‫ان‪َ ،‬عن َع ِ‬
‫ْ‬ ‫(‪َ )99‬أ ْخ َب َرنَا َي ْح َيى ْبن آ َد َم‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬

‫«ال َّت ْق َوى َع َمل بِ َطا َع ِة اهلل ِ‪َ ،‬ر َجا َء َر ْح َم ِة اهلل ِ‪َ ،‬ع َلى نُور ِم َن اهللِ‪َ ،‬وال َّت ْق َوى ت َْر ُك َم ْع ِص َي ِة اهلل ِ‪َ ،‬مخَ ا َف َة اهلل ِ‪َ ،‬ع َلى نُور‬

‫ِم َن اهلل ِ»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد اإلمام ابن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن طلق بن حبيب ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬وهو‬

‫من علماء التابعين‪ ،‬أنه قيل له‪ِ « :‬ص ْ‬


‫ف َلنَا الت ْق َوى»‪ .‬ويف بعض مصادر هذا األثر أن جماعة أتوا طل ًقا وقالوا‬

‫له‪« :‬إن الفتنة قامت واشتعلت فكيف نتقيها؟» كيف نتقي الفتنة؟ قال‪« :‬اتقوها بالتقوى»‪ ،‬اتقوا الفتنة بتقوى‬

‫اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬فقالوا له‪« :‬أجمل لنا التقوى»‪ ،‬وهنا يف هذه الرواية قالوا‪ِ « :‬ص ْ‬
‫ف َلنَا الت ْق َوى»‪ ،‬أي‪:‬‬

‫اذكر لنا تعري ًفا لها أو حدا وضاب ًطا ت َ‬


‫عرف به حقيقة التقوى‪ .‬وهذا السؤال ‪ -‬الذي طرحه هؤالء لما قال‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪12‬‬

‫«اتقوها بالتقوى»‪ ،‬قالوا‪« :‬أجمل لنا التقوى» أو «صف لنا التقوى» ‪ -‬هذا يدل على خير يف هؤالء السائلين؛‬

‫ألنه لما ندهبم إلى التقوى طلبوا منه أن ي َعرفها لهم وأن ي َبين حدها وضابطها ليعملوا هبا‪.‬‬

‫ور مِ َن اهللِ‪َ ،‬والت ْق َوى َت ْرك‬


‫ف َلنَا الت ْق َوى‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬الت ْق َوى َع َم ٌل بِ َطا َع ِة اهللِ‪َ ،‬ر َجا َء َر ْح َم ِة اهللِ‪َ ،‬ع َلى ن ٍ‬
‫قالوا‪ِ « :‬ص ْ‬

‫ور مِ َن اهللِ»‪ .‬وهذا األثر ً‬


‫أيضا استجوده أهل العلم واستحسنوه‪ ،‬ووقفت على‬ ‫َم ْع ِص َي ِة اهللِ‪َ ،‬م َخا َف َة اهللِ‪َ ،‬ع َلى ن ٍ‬

‫نقوالت عديدة ألهل العلم يف استحسان هذا األثر‪ ،‬منهم شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪ $‬يف بعض كتبه‪ ،‬ومنهم‬

‫الذهبي ‪ $‬يف ترجمته لطلق يف «سير أعالم النبالء»‪ ،‬ومنهم الحافظ ابن رجب ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬يف‬

‫كتابه «جامع العلوم والحكم»‪ ،‬ومنهم ابن القيم ‪ $‬يف رسالة له قيمة جدً ا بعنوان‪« :‬الرسالة التبوكية»‪ ،‬قال‬

‫فيها ‪« :$‬وهذا أحسن ما قيل يف حد التقوى»‪ ،‬وهو كالم عظيم ومتين للغاية يف بيان التقوى وإيضاح‬

‫حقيقتها‪.‬‬

‫وطلق ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪َ -‬ب ّين أن تقوى اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ليست مجرد كلمة يقولها المرء بلسانه؛ ألنه من‬

‫السهل على كل لسان ومن اليسير على كل إنسان أن يقول عن نفسه‪« :‬إنني من المتقين»‪ ،‬فتقوى اهلل ‪ -‬عز‬

‫وجل ‪ -‬عمل بالطاعة وترك للمعصية؛ ألن حقيقة التقوى واإلتقاء أن تجعل بينك وبين ما تخشاه وقاية‬

‫تقيك‪ ،‬فمن يخشى الربد يلبس الثياب الشتوية‪ ،‬ومن يخشى من حر الشمس يستعمل المظلة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫فالذي يخاف ويخشى على نفسه من سخط اهلل وعقابه ومن النار ‪ -‬ﭿﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭾ [التحريم‪ - ]٦ :‬ال بد‬

‫أن يجعل بينه وبين النار وبينه وبين سخط اهلل وقاية تقيه‪.‬‬

‫ور مِ َن اهللِ‪ ،‬و« َت ْرك‬


‫ما هي هذه الوقاية؟ هي ما ب ّينه طلق ‪ $‬بقوله‪َ « :‬ع َم ٌل بِ َطا َع ِة اهللِ‪َ ،‬ر َجا َء َر ْح َم ِة اهللِ‪َ ،‬ع َلى ن ٍ‬

‫ور مِ َن اهللِ»‪ ،‬فهي – ً‬


‫أوال‪ :‬فعل لألوامر وترك للنواهي؛ فعل لألوامر‪ ،‬فعل لما‬ ‫َم ْع ِص َي ِة اهللِ‪َ ،‬م َخا َف َة اهللِ‪َ ،‬ع َلى ن ٍ‬

‫أمر اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عباده بفعله‪ ،‬وترك لما هنى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن فعله‪ .‬فالتقوى فعل‬

‫وترك‪ :‬فعل للمأمور وترك للمنهي‪ .‬األمر الثاين‪ :‬أن تقوى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ال بد أن تكون على‬

‫ور مِ َن اهللِ»‪ .‬والنور المراد به هنا البصيرة‬


‫أيضا يف المنهي‪ ،‬ولهذا قال‪َ « :‬ع َلى ن ٍ‬
‫بصيرة يف المأمور‪ ،‬وبصيرة ً‬
‫‪13‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪13‬‬
‫وهي العلم‪ ،‬بمعنى أن المسلم الذي يريد لنفسه أن يكون من المتقين عليه أن يتعلم األوامر وأن يكون عنده‬

‫وأيضا يتعلم النواهي وأن يكون عنده فيها بصيرة ونور ليتقيها؛ ألن من ال علم له‬
‫فيها نور وبصيرة ليفعلها‪ً ،‬‬

‫بالمنهي وال علم له بخطورته وال علم له بعقوبته وأضراره عليه يف دنياه وأخراه يقع يف المنهي! ولهذا قيل‬

‫قديما‪« :‬كيف يتقي من ال يدري ما يتقي؟» إذا كان ال يعرف األمور التي تتقى ويجب أن تج َتنَب‪ ،‬كيف‬
‫ً‬
‫يتقيها؟ وفاقد الشيء ال يعطيه‪ .‬ولهذا فالمسلم مطالب بأن يكون على نور ‪ -‬أي‪ :‬على علم وعلى بصيرة‬

‫‪ -‬باألوامر والنواهي‪ ،‬وبالفرائض والمحرمات‪ ،‬فيتعلم الفرائض ليفعلها ويتعلم المحرمات ليجتنبها‪ .‬ومن‬

‫اللطائف يف هذا الباب أن جماعة جاؤوا لمحمد بن الحسن الشيباين ‪ -‬تلميذ أبي حنيفة رحمهما اهلل تعالى‬

‫‪ -‬وقالوا له‪« :‬ألف لنا كتا ًبا يف الزهد»‪ ،‬فقال لهم ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪« :‬ألفت كتا ًبا يف البيوع»‪ ،‬منب ًها بذلك أن‬
‫الزهد ال يكون إال بعلم؛ ألن من ال علم عنده ويبيع ويشرتي ويتعامل كيف يكون ِ‬
‫ور ًعا وكيف يكون زاهدً ا‬

‫وال علم عنده؟ ولهذا قد يزهد يف مباح‪ ،‬وقد يفعل المحرم ويظنه مما ال يزهد فيه وال ي َتورع منه‪ ،‬بسبب أنه‬

‫ال علم عنده! ولهذا العلم مطلوب يف البابين‪ :‬باب األوامر لتفعل‪ ،‬وباب النواهي لتتقى وتج َتنب‪.‬‬

‫أيضا إلى الرجاء والخوف‪ ،‬وأن اإلنسان يفعل الطاعة راج ًيا الثواب واألجر من اهلل ‪ -‬سبحانه‬
‫ثم أشار ً‬

‫وتعالى ‪ ،-‬ويرتك المعصية خائ ًفا من العقاب الذي أعده اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬لمن فعل المعصية؛ فيكون‬

‫مقبال على الطاعات راج ًيا عليها ثواب اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ ،‬وتار ًكا للمعاصي خو ًفا من عقاب‬
‫المسلم ً‬

‫اهلل وسخطه عليه ‪ -‬عز وجل‪ .‬فإذا كان اإلنسان هبذا الوصف كان من المتقين‪ ،‬وأما إن لم يكن هبذا الوصف‬

‫كان من المدعين ‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ك ْب ِن َأبِي َب ِش ٍير‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن م َس ِ‬


‫او ٍر‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن َعب ٍ‬
‫اس‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َرسول‬ ‫(‪َ )١00‬أ ْخبرنَا وكِيع‪َ ،‬عن َعب ِد ا ْلملِ ِ‬
‫ََ َ ٌ ْ ْ َ‬
‫ان َو َج ُار ُه َطاو إِ َلى َجانِبِ ِه»‪.‬‬ ‫اهللِ ﷺ‪َ « :‬ما ُه َو بِ ُم ْؤ ِمن َم ْن َب َ‬
‫ات َش ْب َع َ‬

‫الشرح ‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪14‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن عبد اهلل بن عباس ﭭ‪ ،‬قال‪َ « :‬ق َال َرسول اهللِ ﷺ‪َ :‬ما ُه َو‬
‫ان َي ُشد‬‫الم ْؤ ِم َن لِ ْل ُم ْؤ ِم ِن كَا ْل ُبنْ َي ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ان َو َج ُار ُه َطاو إِ َلى َجانبِه»‪ .‬وهذا فيه شاهد لما سبق‪« :‬إِ َّن ُ‬ ‫بِ ُم ْؤ ِمن َم ْن َب َ‬
‫ات َش ْب َع َ‬
‫َب ْع ُض ُه َب ْع ًضا‪َ ،‬و َشب َك َأ َصابِ َعه»‪.‬‬
‫وهنا قال‪َ « :‬ما ُه َو بِ ُم ْؤ ِمن»‪ ،‬وعرفنا فيما سبق قاعدة يف هذا الباب قررها أهل العلم‪ ،‬أال وهي أن نفي اإليمان‬
‫مستحبا فال ينفى عنه اإليمان ‪ -‬ال ينفى‬
‫َ‬ ‫ال يكون إال يف ترك واجب أو فعل محرم‪ ،‬أما إذا ترك اإلنسان‬
‫اإليمان يف ترك مستحب‪ ،‬وإنما يكون نفي اإليمان يف ترك واجب من واجبات اإليمان أو يف فعل أمر محرم‪.‬‬
‫ان َو َج ُار ُه َطاو إِ َلى َجانِبِ ِه»‪ٍ ،‬‬
‫طاو أي‪ :‬جائع‪،‬‬ ‫قال‪َ « :‬ما ُه َو بِ ُم ْؤ ِمن» ‪ -‬أي‪ :‬اإليمان الواجب ‪َ « -‬م ْن َب َ‬
‫ات َش ْب َع َ‬
‫اشتد به الجوع‪ ،‬ويعلم جاره بذلك وينام شبعان وجاره إلى جنبه ينام طاو ًيا من شدة الجوع؛ فيكون بصنيعه‬
‫ف جارك أو أن‬ ‫ح َ‬‫هذا ترك واجبا من واجبات اإليمان‪ ،‬ليس قد ترك مستحبا‪ .‬يكون األمر مستحبا أن ت ْت ِ‬
‫ً‬
‫ت ْه ِديه ‪ -‬هذا يكون مستحبا‪ .‬أما إذا كان الجار طاو ًيا جائ ًعا يتلوى ليله من الجوع‪ ،‬وجاره اآلخر ينام إلى‬
‫جنبه شبعان‪ ،‬فهذا ترك واج ًبا من واجبات إيمانه! إذا كان يعلم أن جاره هبذه الحال يكون ترك واج ًبا من‬
‫واجبات اإليمان‪ .‬ولهذا قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬ما ُه َو بِ ُم ْؤ ِمن» ‪ -‬أي‪ :‬اإليمان الواجب ‪َ « -‬م ْن َب َ‬
‫ات‬
‫ان َو َج ُار ُه َطاو إِ َلى َجانِبِ ِه»‪.‬‬
‫َش ْب َع َ‬
‫واإلسناد فيه عبد اهلل بن مساور‪ ،‬ذكره ابن حبان يف «الثقات»‪ ،‬وقال الذهبي يف «الميزان»‪ :‬مجهول‪ ،‬لكن‬
‫األلباين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬قال‪« :‬والحديث صحيح بشواهده»‪ ،‬وأورده يف سلسلته «الصحيحة»‪.‬‬
‫قال‪:‬‬

‫ش‪َ ،‬ع ْن َخ ْي َث َمةَ‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َع ْم ٍرو‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ي ْأتِي َع َلى النَّا ِ‬
‫س‬ ‫(‪َ )101‬أ ْخ َب َرنَا ف َض ْيل ْبن ِع َي ٍ‬
‫اض‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫يه ْم ُم ْؤ ِمن»‪.‬‬
‫اج ِد َو َل ْي َس فِ ِ‬
‫ون فِي ا ْل َم َس ِ‬ ‫ز ََمان َي ْجت َِم ُع َ‬
‫ون َو ُي َصل َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ان َي ْجت َِمع َ‬


‫ون‬ ‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عبد اهلل بن عمرو ﭭ‪ ،‬قال‪َ « :‬ي ْأتِي َع َلى الن ِ‬
‫اس َز َم ٌ‬

‫يه ْم م ْؤمِ ٌن»‪ .‬قال األلباين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪« :‬إسناده موقوف صحيح على‬
‫اج ِد َو َل ْي َس فِ ِ‬
‫ون فِي ا ْلمس ِ‬
‫َ َ‬ ‫َوي َص ُّل َ‬

‫شرط الشيخين‪ .‬وأخرجه الحاكم (‪ )442/4‬من طريق سفيان عن األعمش به‪ ،‬وصححه كما ذكرنا‪،‬‬
‫‪15‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪15‬‬
‫ووافقه الذهبي»‪ .‬واإلسناد هنا الذي عندنا‪ :‬فضيل بن عياض‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن خيثمة ‪ -‬وهو ابن عبد‬

‫الرحمن بن أبي سربة‪ ،‬فاإلسناد فيه عنعنة األعمش‪ ،‬لكن رواه اآلجري يف «الشريعة»‪ ،‬والفريابي يف «صفات‬

‫المنافقين» من طريق شعبة عن األعمش‪ ،‬وقد قال شعبة‪« :‬كفيتكم تدليس ثالث» وذكر منهم األعمش‪.‬‬

‫يه ْم م ْؤمِ ٌن»‪ ،‬المراد بقوله‪َ « :‬ل ْي َس‬


‫اج ِد َو َل ْي َس فِ ِ‬
‫ون فِي ا ْلمس ِ‬
‫َ َ‬ ‫ان َي ْجت َِمع َ‬
‫ون َوي َص ُّل َ‬ ‫وقوله‪َ « :‬ي ْأتِي َع َلى الن ِ‬
‫اس َز َم ٌ‬

‫يه ْم م ْؤمِ ٌن» أي‪ :‬اإليمان الواجب ‪ -‬بمعنى‬


‫يه ْم م ْؤمِ ٌن» إما أن يكون المقصود‪ :‬اإليمان الواجب ‪َ « -‬ل ْي َس فِ ِ‬
‫فِ ِ‬

‫أن يكون أهل المساجد مقصرين يف واجبات الدين‪ ،‬بارتكاب الكبائر والتفريط يف الواجبات فيما دون‬

‫الكفر باهلل ‪ -‬سبحانه تعالى‪ .‬وقد يكون النفي هنا مرا ًدا به كثرة النفاق‪ ،‬وقد أورده الفريابي يف كتابه «صفات‬

‫المنافقين»‪ .‬فإما أن تكون الكثرة المراد هبا ضعف اإليمان برتك واجبات اإليمان وفعل المحرمات‪ ،‬أو‬

‫يكون ذلك بسبب كثرة النفاق بحيث ي َصلى وت ْش َهد الصالة نفا ًقا ال إيما ًنا باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وطاعة‬

‫له وطل ًبا لرضاه‪ .‬والفريابي ‪ $‬أورد هذا األثر يف كتابه يف صفات المنافقين‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫َس ب ِن مال ِ ٍ‬ ‫(‪َ )102‬حد َثنَا َي ْح َيى ْبن َي ْع َلى الت ْي ِمي‪َ ،‬ع ْن َمنْص ٍ‬
‫ور‪َ ،‬ع ْن َط ْل ِق ْب ِن َحبِ ٍ‬
‫ك‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ث ََلث َم ْن‬ ‫يب‪َ ،‬ع ْن َأن ِ ْ َ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫يم ِ‬ ‫كُن فِ ِ‬
‫يه َو َجدَ َط ْع َم ْ ِ‬
‫ب إِ َل ْيه م َّما س َو ُاه َما‪َ ،‬و َأ ْن ُيح َّ‬
‫ب‬ ‫ُون اهللُ َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ‬
‫ان َو َح ََل َو َت ُه‪َ :‬أ ْن َيك َ‬ ‫ال َ‬ ‫َّ‬

‫فِي اهللِ‪َ ،‬و َأ ْن ُي ْب ِغ َض فِي اهلل ِ»‪َ ،‬و َذك ََر ا ْلم ْش ِر َك‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ث من كن ف ِ ِ‬
‫يه َو َجدَ َط ْع َم‬ ‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن أنس بن مالك ﭬ‪ ،‬قال‪َ « :‬ث َال ٌ َ ْ‬

‫حب فِي اهللِ‪َ ،‬و َأ ْن‬


‫ون اهلل َتبار َك و َتعا َلى ورسوله َأحب إِ َلي ِه مِما ِسواهما‪ ،‬و َأ ْن ي ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ َ َ‬
‫اإليم ِ‬
‫ان َو َح َال َو َته‪َ :‬أ ْن َيك َ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬
‫مختصرة‪ .‬والحديث ‪ -‬حديث‬
‫َ‬ ‫ي ْب ِغ َض فِي اهللِ ‪َ -‬و َذك ََر ا ْلم ْش ِر َك»‪ .‬والخصلة الثالثة ذكِ َرت يف هذا الحديث‬
‫أنس ‪ -‬رواه البخاري ومسلم عن أنس مرفو ًعا إلى النبي ﷺ بأتم من هنا‪ ،‬ولفظه‪َ « :‬ث ََلث من كُن فِ ِ‬
‫يه َو َجدَ‬ ‫َ ْ َّ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪16‬‬

‫حب ُه إِ َّال لِ َّل ِه‪َ ،‬و َأ ْن َيك َْر َه‬


‫حب ا ْلمرء َال ي ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ب إِ َل ْيه م َّما س َو ُاه َما‪َ ،‬و َأ ْن ُي َّ َ ْ َ ُ‬
‫َان اهللُ َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ‬ ‫يم ِ‬
‫ان‪َ :‬م ْن ك َ‬ ‫بِ ِه َّن َح ََل َو َة ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫ف فِي الن ِ‬
‫َّار»‪.‬‬ ‫َأ ْن َي ُعو َد فِي ا ْل ُك ْفرِ َب ْعدَ َأ ْن َأ ْن َق َذ ُه اهللُ ِمنْ ُه‪ ،‬ك ََما َيك َْر ُه َأ ْن ُي ْق َذ َ‬

‫وهذا الحديث جمع فيه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬ثالث خصال عظيمة إذا كانت يف الشخص وجد هبا‬
‫اإليم ِ‬
‫ِ‬ ‫اإل ِ‬‫ِ‬
‫ان» أي‪:‬‬ ‫يمان» أي‪ :‬وجو ًدا ال َو ْجدً ا ‪ -‬كما سبق بيان ذلك‪َ « ،‬و َجدَ َط ْع َم ْ َ‬
‫طعم اإليمان‪ .‬و« َو َجدَ َط ْع َم ْ َ‬
‫وجو ًدا بأن يكون اإليمان له طعم يف الشخص وحالوة يذوقها ويجدها يف نفسه حالو ًة لإليمان وذو ًقا‬

‫لطعمه‪.‬‬

‫أوال‪َ « :‬أ ْن‬ ‫اإليم ِ‬


‫ان َو َح َال َو َته»‪ ،‬ثم ذكرها مرتبة حسب أهميتها‪ ،‬فذكر ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ث َم ْن كن فيه َو َجدَ َط ْع َم ْ َ‬
‫قال‪َ « :‬ث َال ٌ‬

‫ب إِ َل ْي ِه مِما ِس َواه َما»‪ ،‬بأن يقدم محبة اهلل ومحبة رسوله ‪ -‬عليه الصالة‬
‫ون اهلل َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َرسوله َأ َح ُّ‬
‫َيك َ‬

‫والسالم ‪ -‬على كل محبوب‪ .‬والمحبوبات كثيرة جدً ا التي تحبها النفوس‪ :‬اإلنسان يحب أهله‪ ،‬يحب‬

‫ولده‪ ،‬يحب تجارته‪ ،‬يحب عشيرته ‪ -‬وال حرج يف حبه لهذه األشياء‪ ،‬لكن يجب عليه أن يحب اهلل وأن‬

‫يحب رسوله ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬محب ًة مقدم ًة على كل محبوب‪ ،‬وقد قال اهلل تعالى‪ :‬ﭿﭻ ﭼ ﭽ‬

‫ﭾﭿﮀﮁ ﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇ ﮈ ﮉﮊ‬

‫ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﭾ [التوبة‪ .]24 :‬ذكر يف هذه اآلية ثمانية محاب جبِل الناس جمي ًعا‬

‫على حبها ‪ -‬كل يحب هذه األشياء‪ .‬فهذه المحاب الثمانية المذكورة يف اآلية الكريمة ال حرج يف حب‬
‫ٍ‬
‫إنسان جبِل على ذلك‪ ،‬ولكن الخطورة تكمن يف تقديم هذه المحاب أو شيء منها على‬ ‫اإلنسان لها‪ ،‬وكل‬

‫محبة اهلل ‪ -‬عز وجل‪ -‬ومحبة رسوله ‪-‬صلوات اهلل وسالمه عليه‪.‬‬

‫والحديث ‪ -‬حديث أنس ‪ -‬بدأ فيه النبي ﷺ بأعظم المطالب وأجل المقاصد‪ :‬محبة اهلل وتقديمها على‬

‫كل المحاب‪ ،‬ومحبة رسوله ﷺ؛ ومحبته ﷺ من محبة اهلل ‪ -‬جل وعال‪ .‬ثم ذكر بعد ذلك ما ينبني على‬

‫هذه المحبة وما يرتتب عليها‪ .‬ولعلنا نرجئ الكالم على معاين هذا الحديث العظيم إلى لقاء الغد بإذن اهلل‬

‫‪ -‬تبارك وتعالى‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪17‬‬
‫ونسأل اهلل الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا جمي ًعا حبه‪ ،‬وحب من يحبه‪ ،‬والعمل الذي يقربنا إلى حبه‪،‬‬

‫وأن يصلح لنا جمي ًعا ديننا الذي هو عصمة أمرنا‪ ،‬وأن يصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا‪ ،‬وأن يصلح لنا‬

‫آخرتنا التي فيها معادنا‪ ،‬وأن يجعل الحياة زيادة لنا يف كل خير‪ ،‬والموت راحة لنا من كل شر‪.‬‬

‫اللهم وأصلح ذات بيننا‪ ،‬وألف بين قلوبنا‪ ،‬واهدنا سبل السالم‪ ،‬وأخرجنا من الظلمات إلى النور‪ ،‬وبارك‬

‫لنا يف أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذرياتنا وأموالنا وأوقاتنا‪ ،‬واجعلنا مباركين أينما كنا‪ .‬اللهم واغفر لنا‬

‫ولوال ِدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات‪ .‬ربنا آتنا يف‬

‫الدنيا حسنة ويف اآلخرة حسنة وقنا عذاب النار‪ .‬وآخر دعوانا أن الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وصلى اهلل وسلم‬

‫وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫‪‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪18‬‬

‫الدرس العاشر‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقول المام الحافظ أبو بكر‪ ،‬عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى‪ ،‬يف كتابه «اليمان»‪:‬‬
‫َس ب ِن مال ِ ٍ‬ ‫(‪َ )١02‬حد َثنَا َي ْح َيى ْبن َي ْع َلى الت ْي ِمي‪َ ،‬ع ْن َمنْص ٍ‬
‫ور‪َ ،‬ع ْن َط ْل ِق ْب ِن َحبِ ٍ‬
‫ك‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ث ََلث َم ْن‬ ‫يب‪َ ،‬ع ْن َأن ِ ْ َ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫يم ِ‬ ‫كُن فِ ِ‬
‫يه َو َجدَ َط ْع َم ْ ِ‬
‫ب إِ َل ْيه م َّما س َو ُاه َما‪َ ،‬و َأ ْن ُيح َّ‬
‫ب‬ ‫ُون اهللُ َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ‬
‫ان َو َح ََل َو َت ُه‪َ :‬أ ْن َيك َ‬ ‫ال َ‬ ‫َّ‬

‫فِي اهللِ‪َ ،‬و َأ ْن ُي ْب ِغ َض فِي اهلل ِ» َو َذك ََر ا ْلم ْش ِر َك‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فهذا الحديث‪ ،‬حديث أنس بن مالك ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪ ،‬فيه بيان لإليمان‪ ،‬وبيان لما يجد به العبد‬

‫ويذوق حالوة اإليمان وطعمه‪ .‬واإليمان له طعم وحالوة يجدها المؤمن إذا حقق إيمانه وآتى بما أرشد‬

‫إليه النبي ﷺ مما يذاق به حالوة اإليمان ويجد به العبد طعمه‪ .‬قد قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬ذ َاق َط ْع َم‬

‫ال ْس ََل ِم ِدينًا‪َ ،‬وبِ ُم َح َّمد َر ُس ً‬


‫وال»‪ ،‬ويف هذا الحديث قال ‪ -‬عليه الصالة‬ ‫ان َم ْن َر ِضي بِاهلل ِ َر ًّبا‪َ ،‬وبِ ْ ِ‬
‫يم ِ‬ ‫ِْ‬
‫ال َ‬
‫َ‬
‫أمورا‬ ‫يم ِ‬ ‫والسالم‪َ « :‬ث ََلث من كُن فِ ِ‬
‫يه َو َجدَ بِ ِه َّن َح ََل َو َة ْ ِ‬
‫ان»‪ ،‬أي‪ :‬طعمه‪ .‬وذكر ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ً -‬‬ ‫ال َ‬ ‫َ ْ َّ‬

‫ب فِي اهللِ‪َ ،‬و َأ ْن ُي ْب ِغ َض فِي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬


‫ب إِ َل ْيه م َّما س َو ُاه َما‪َ ،‬و َأ ْن ُيح َّ‬
‫ُون اهللُ َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ‬
‫ثالثة‪ ،‬قال‪َ « :‬أ ْن َيك َ‬
‫ٍ‬
‫بلفظ‬ ‫مخرجا يف الصحيحين‬
‫ً‬ ‫اهلل ِ‪َ ،‬و َذك ََر ا ْلم ْش ِر َك»‪ .‬هكذا جاءت الرواية هنا مختصرة‪ ،‬لكن الحديث جاء‬
‫ف فِي الن ِ‬
‫َّار»‪ .‬ويكون بذلك‬ ‫أتم‪ ،‬وذكر الخصلة الثالثة بقوله‪َ « :‬أ ْن َيك َْر َه َأ ْن َي ُعو َد فِي ال ُك ْفرِ َك َما َيك َْر ُه َأ ْن ُي ْق َذ َ‬

‫أمورا ثالثة ينال هبا طعم اإليمان‪ ،‬وهي من حيث اإلجمال‪:‬‬


‫قد ذكر ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ً -‬‬
‫‪19‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪19‬‬
‫األمر األول‪ :‬تحقيق اإليمان وتتميمه بالمحبة ‪ -‬محبة اهلل ‪-‬عز وجل‪.-‬‬

‫واألمر الثاين‪ :‬تفريع ذلك‪ ،‬ما يتفرع على هذه المحبة‪.‬‬

‫واألمر الثالث‪ :‬نفي المضاد‪.‬‬

‫هذه األمور الثالثة إذا تحققت لدى العبد ذاق طعم اإليمان وحالوته‪ :‬األول أن يحقق المحبة ‪ -‬محبة اهلل‬

‫سبحانه وتعالى ‪ -‬وأن يكملها على الوصف الذي ذكر ‪ -‬عليه الصالة والسالم؛ أال وهو أن يكون اهلل‬

‫ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬بحيث تكون محبة اهلل ومحبة رسوله ﷺ مقدمة على كل المحاب مهما‬

‫كانت وأ ًيا كانت‪ .‬وقد قال اهلل ‪ -‬تعالى‪ :‬ﭿ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ‬

‫[التوبة‪:‬‬ ‫ﮄﮅﮆﮇ ﮈ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏ ﮐﮑﮒﭾ‬

‫أمورا ثمانية محبوبة لدى كل الناس‪ ،‬جبل الناس على حبها ‪ -‬وال شيء يف ذلك‬
‫‪ ،]24‬فذكر ‪ -‬جل وعال ‪ً -‬‬
‫وال محذور فيه‪ ،‬لكن الخطورة عندما تقدم هذه المحاب أو يقدم شيء منها على محبة اهلل ‪ -‬جل وعال ‪-‬‬

‫ومحبة رسوله ﷺ‪ .‬ويف الحديث اآلخر قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪« :‬الَ ُي ْؤ ِم ُن َأ َحدُ ك ُْم‪َ ،‬حتَّى َأك َ‬
‫ُون َأ َح َّ‬
‫ب‬
‫ِ‬ ‫إِ َل ْي ِه ِم ْن َوالِ ِد ِه َو َو َل ِد ِه َوالنَّا ِ‬
‫س َأ ْج َمع َ‬
‫ين»‪ .‬ومحبة اهلل ‪ -‬جل وعال ‪ -‬مقدمة على كل المحاب‪ ،‬ومحبة العبودية‬

‫والذل والخضوع واالنكسار هذه خاصة باهلل‪ .‬ومحبة النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬هي من محبة اهلل –‬

‫تعالى – وتبع لمحبة اهلل؛ فاألصل أن يحب اهلل ‪ -‬جل وعال ‪ -‬وأن يعمر قلبه بحبه‪ ،‬ثم يتبع ذلك حب من‬

‫يحب ‪-‬جل وعال ‪ -‬فيحب الرسول ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬ويحب األنبياء‪ ،‬ويحب أتباع األنبياء‪ ،‬ويحب‬

‫دين اهلل ‪ -‬عز وجل‪ ،‬وأعمال اإلسالم وشرائعه‪ ،‬وهذه المحبة تبع لمحبة اهلل ‪ -‬عز وجل‪ ،‬وقد كان من دعاء‬

‫ب َع َمل ُي َق ِّر ُب إِ َلى ُح ِّب َ‬ ‫ك‪ ،‬وحب من ي ِ‬


‫حب َ‬ ‫نبينا ﷺ‪َ « :‬و َأ ْس َأ ُل َ‬
‫ك»‪ .‬فاألمر األول ‪ -‬وهو تحقيق‬ ‫ك‪َ ،‬و ُح َّ‬ ‫ك ُح َّب َ َ ُ َّ َ ْ ُ‬
‫ب إِ َل ْي ِه‬
‫ُون اهللُ َت َب َار َك َو َت َعا َلى َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ‬
‫كره ‪ -‬عليه الصالة والسالم – بقوله‪َ « :‬أ ْن َيك َ‬
‫المحبة وتتميمها ‪َ -‬ذ َ‬
‫حب ُه إِ َّال لِ َّل ِه»‪،‬‬
‫حب المرء الَ ي ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫م َّما س َو ُاه َما»‪ .‬األمر الثاين ‪ -‬وهوتفريع ذلك‪ ،‬أي‪ :‬ما يتفرع عنه – قال‪َ « :‬أ ْن ُي َّ َ ْ َ ُ‬
‫وهذا أوثق عرى اإليمان كما سيأيت بذلك الحديث عن رسول اهلل ﷺ‪ ،‬فتكون محبة العبد تب ًعا لمحبة اهلل‪،‬‬

‫فيحب هلل ويبغض هلل‪ .‬واألمر الثالث ‪ -‬نفي المضاد وكراهيته وبغضه – َذ َ‬
‫كره ‪ -‬عليه الصالة والسالم –‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪20‬‬
‫ف فِي الن ِ‬
‫َّار»‪ ،‬أي‪ :‬أن قلبه يصبح‬ ‫بقوله‪َ « :‬و َأ ْن َيك َْر َه َأ ْن َي ُعو َد فِي ا ْل ُك ْفرِ َب ْعدَ َأ ْن َأ ْن َق َذ ُه اهللُ ِمنْ ُه‪ ،‬ك ََما َيك َْر ُه َأ ْن ُي ْق َذ َ‬

‫فيه كراهية شديدة للكفر مثل كراهيته أن يلقى يف النار‪ .‬والكفر ‪َ -‬من كان مِن أهله ومات عليه ‪ -‬ليس له إال‬

‫النار يوم القيامة‪ ،‬فهو من ج َثى جهنم ومن حطب النار يوم القيامة‪ ،‬فالكفار ليس لهم إال النار‪ .‬فهذا الحديث‬

‫ً‬
‫خصاال ثالثة إذا اجتمعت يف العبد وجد هبا حالوة اإليمان‪.‬‬ ‫العظيم َذ َكر فيه ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪-‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يه‪َ ،‬ع ِن ا ْل ِم ْس َو ِر ْب ِن َم ْخ َر َمةَ‪َ ،‬وا ْب ِن َعب ٍ‬


‫اس‪َ :‬أنه َما َد َخ َال َع َلى‬ ‫(‪ )١0٣‬حد َثنَا ابن نمي ٍر ِه َشام بن عروةَ‪َ ،‬عن َأبِ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ‬
‫الص ََل َة»‪َ .‬ف َصلى َوج ْرحه‬‫اع َّ‬ ‫ال ْس ََل ِم َأ َض َ‬‫الص ََل ُة‪َ ،‬ف َق َال‪« :‬إِ َّن ُه َال َح َّظ ِِلَ َحد فِي ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ع َم َر ﭬ حي َن طع َن‪َ ،‬ف َق َال‪َّ :‬‬
‫َي ْث َعب َد ًما ﭬ‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد هذا األثر‪ ،‬وهو يتعلق بالصالة‪ ،‬وقد قال اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ :‬ﭿﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕﭾ [البقرة‪،]١4٣ :‬‬

‫أي‪ :‬صالتكم؛ فالصالة إيمان‪ ،‬وهي ركن عظيم من أركان الدين‪ ،‬وال إسالم لمن ال صالة له‪ ،‬وال دين له‪.‬‬

‫الص ََل ِة‪،‬‬ ‫ِ‬


‫وقد مر معنا أحاديث هبذا المعنى‪ ،‬منها قوله ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪« :‬ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْي َننَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ‬

‫َف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر»‪ .‬والصالة عماد الدين وأعظم أركانه بعد الشهادتين‪ ،‬وهذا األثر بين لنا مكانة الصالة‬

‫يف نفوس الصحابة ‪ -‬رضي اهلل عنهم وأرضاهم ‪-‬ومنزلتها العلية يف قلوهبم‪.‬‬

‫فيقول ابن عباس لما دخل هو والمسور بن مخرمة على عمر ﭬ حين ط ِع َن‪ ،‬طعنه أبو لؤلؤة المجوسي‬

‫وهو يصلي بالناس ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬لما كرب ودخل يف الصالة طعنه‪ ،‬ولما نادى بذلك ﭬ وقال‪:‬‬

‫«قتلني» أو قال‪« :‬طعنني» بدأ الناس يجتمعون على الرجل‪ ،‬وكان معه سكي ٌن فأخذ يطعن هبا كل من كان‬

‫نفسا‪ ،‬ولما تمكنوا منه طعن نفسه بالسكين‬


‫حوله‪ ،‬فطعن يف ذلك اليوم ثالثة عشرصحاب ًيا أو ثالث عشرة ً‬
‫التى كانت معه‪ .‬وعمر ﭬ كان الدم يثعب من بطنه‪ ،‬وإذا سقوه حلي ًبا أو نحوه خرج من فوره من بطنه‪،‬‬
‫‪21‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪21‬‬
‫فكان يف تلك الحال يغمى عليه ويفيق وال يسأل عن شيء إال الصالة‪ :‬أصلى الناس؟ ولما أسفر وأصبح‬

‫كانوا ينادونه فما كان يرد‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬اذكروا له الصالة‪ ،‬فقالوا‪« :‬الصالة»! فتن ّبه وهو يف تلك الحال!‬

‫قالوا‪« :‬الصالة»! فتن ّبه لما نادوه بالصالة‪ .‬نادوه قبلها‪ ،‬فقال أحدهم‪ :‬نادوه بالصالة‪ ،‬فقالوا‪« :‬الصالة»!‬

‫فقال كلمته هذه فور إفاقته من غيبوبته ‪ -‬اهلل أكرب! ‪ -‬قال كلمته هذه فور إفاقته من غيبوبته! قالوا‪:‬‬
‫«الصالة»!‪ ،‬فأفاق من الغيبوبة وقال‪« :‬الص َالة‪...‬إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم َأ َض َ‬
‫اع الص َال َة»‪ .‬أفاق من‬

‫غيبوبته والدم يثعب من بطنه‪ ،‬وفور إفاقته من الغيبوبة قالوا‪« :‬الصالة»! قال‪« :‬الص َالة‪...‬إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد‬
‫فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم َأ َض َ‬
‫اع الص َال َة»‪ .‬فصلى وجرحه يثعب د ًما! لما أسفر ‪ -‬وطعن يف الفجر ‪ -‬فلما أسفر أفاق‪،‬‬
‫وإفاقته لما قالوا‪« :‬الصالة»‪ ،‬فقام من اإلغماءة وقال‪« :‬الص َالة‪...‬إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم َأ َض َ‬
‫اع‬

‫الص َال َة»؛ فالصالة كانت تمأل قلو َبهم‪ ،‬وقلوبهم مشغولة هبا‪ ،‬مثل ما قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬يف‬

‫السبعة الذين يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله ‪ -‬نسأل اهلل عز وجل لنا أجمعين من فضله ‪ -‬قال‪:‬‬

‫اج ِد»‪ ،‬بمعنى‪ :‬إذا خرج من الصالة انشغل قلبه بالصالة األخرى‪َ « ،‬ق ْل ُب ُه ُم َع َّلق‬
‫« َو َر ُجل َق ْل ُب ُه ُم َع َّلق فِي ا ْل َم َس ِ‬

‫اج ِد»‪ .‬فالقلب الذي هبذا المستوى وهبذه الصفة إذا دخل يف غيبوبه وأفاق ليس – ً‬
‫أصال ‪ -‬يف قلبه‬ ‫فِي ا ْل َم َس ِ‬

‫إال الصالة‪ .‬يحدثنى أحد األفاضل عن والده أنه دخل يف غيبوبه مدة شهور‪ .‬يقول‪ :‬فدخلت مرة المستشفى‬

‫ألزوره‪ ،‬فقال لي‪« :‬والدك عنده شبه صحو اليوم‪ ،‬إذا تريد تسأله عن شيء‪ - »...‬بعد شهور! – يقول‪:‬‬

‫ثقيال لكرب سنه‪ ،‬فأخذت أنادي عنده بصوت‪« :‬يا والدي» ‪ -‬أرفع‬ ‫فذهبت ِ‬
‫فر ًحا إلى والدي‪ ،‬وكان سمعه ً‬

‫صويت‪ ،‬يقول‪ :‬فتنبه‪ ،‬قال‪َ « :‬أذ َن؟» ما قال إال هذه الكلمة! بعد ثالثة شهور أو أربعة شهور يف غيبوبة! يقول‪:‬‬

‫فلما ناديت وكررت النداء تنبه‪ ،‬قال‪َ « :‬أذ َن؟» يقول‪ :‬ما قال غير هذه الكلمة! هذه ال تكون أبدً ا إال من قلب‬

‫فعال ‪ -‬معلق بالصالة‪ ،‬ومهتم لهذه الصالة ومعظم لها‪ ،‬ولها مكانة يف نفسه‪ ،‬فيقع منه مثل هذا الكالم‪.‬‬
‫– ً‬

‫فهذه الكلمة القوية العظيمة قالها عمر ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬فور إفاقته من غيبوبته؛ طعنه المجوسي‬

‫يف صالته وعلى إثر الطعنة دخل يف إغماءة‪ ،‬ولما أسفر نادوه بالصالة فأفاق وقال هذه الكلمة العظيمة‪« :‬إِنه‬
‫َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم َأ َض َ‬
‫اع الص َال َة»‪ ،‬ثم قام وصلى وجرحه يثعب د ًما‪...‬وجرحه يثعب د ًما! واآلن‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪22‬‬

‫الكسالى المتهاونين بالصالة‪...‬أدنى ظرف أو أدنى أمر ‪ -‬أو حتى زكام خفيف أو إعياء يسير جدً ا ‪ -‬تجده‬

‫ال يبالى بالصالة وال يهتم‪ ،‬ويضيعها عند أدنى أمر! ففرق شاسع بين من قلبه ع ِم َر بحب الصالة واالهتمام‬

‫هبا وش ِغل هبا‪ ،‬ومن لم يعظم الصالة التعظيم الالئق هبا ف َت َولد عن ذلك هتاون وتفريط وتكاسل عن هذه‬

‫الطاعة العظيمة‪.‬‬

‫وقوله ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬بمحضر الصحابة وإقرارهم‪« :‬إِنه َال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم َأ َض َ‬
‫اع‬
‫الص َال َة»‪ ،‬دليل على أن تارك الصالة كافر ليس بمسلم‪َ « .‬ال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم َأ َض َ‬
‫اع الص َال َة»‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫ال نصيب ‪ -‬ال حظ‪ ،‬أي‪ :‬ال نصيب ‪َ « -‬ال َحظ ِألَ َح ٍد فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم َأ َض َ‬
‫اع الص َال َة»‪ ،‬أي‪ :‬ال نصيب له يف‬

‫اإلسالم‪ ،‬مثل ما مر عن ابن مسعود ﭬ أنه قال‪َ « :‬م ْن َل ْم ي َصل َف َال ِدي َن َله»‪ ،‬وقول نبينا ‪ -‬عليه الصالة‬

‫الص ََل ِة‪َ ،‬ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر»‪ .‬ولهذا يقول شيخ اإلسالم ابن تيمية‬ ‫ِ‬
‫والسالم‪« :‬ا ْل َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ْم ت َْر ُك َّ‬

‫‪ - $‬وقد أورد أدلة كثيرة على كفر تارك الصالة من بينها أثر عمر ﭬ هذا ‪ -‬علق عليه ابن تيمية بقوله‪:‬‬

‫«قول عمر (ال حظ يف اإلسالم لمن ترك الصالة) أصرح شيء يف خروجه عن الملة»‪ ،‬أي‪ :‬أن تارك الصالة‬

‫َان َأ ْص َح ُ‬
‫اب ُم َح َّمد‬ ‫خارج من ملة اإلسالم‪ ،‬ال حظ له يف اإلسالم‪ .‬وقد جاء عن عبد اهلل بن شقيق قال‪« :‬ك َ‬

‫الص ََل ِة»‪ .‬فتارك الصالة ‪ -‬كما قال أمير المؤمنين عمر بن‬ ‫ﷺ َال ير ْو َن َشيئًا ِم َن اِلَ ْعم ِ‬
‫ال ت َْر ُك ُه ُك ْفر َغ ْي َر َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ‬
‫الخطاب ﭬ ‪ -‬ال حظ له يف اإلسالم وال نصيب‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫َان َيقول ِألَ ْص َحابِ ِه‪ْ « :‬ام ُشوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬


‫(‪َ )١04‬حد َثنَا ا ْبن ف َض ْيلٍ‪َ ،‬ع ْن َأبِيه‪َ ،‬ع ْن س َماك‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َراه َ‬
‫يم‪َ ،‬ع ْن َع ْل َق َمةَ‪َ ،‬أنه ك َ‬

‫بِنَا َن ْز َدا ُد إِ َ‬
‫يمانًا»‪.‬‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن علقمة أنه كان يقول ألصحابه‪« :‬ا ْمشوا بِنَا ن َْز َداد إِ َ‬
‫يمانًا»‪ .‬هذا‬

‫األثر ‪ -‬وسيأيت له نظائر ساقها المصنف رحمه اهلل تعالى ‪ -‬فيه بيان عناية السلف ‪ -‬رحمهم اهلل تعالى –‬
‫‪23‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪23‬‬
‫باإليمان‪ ،‬وجدهم واجتهادهم وتعاوهنم على تقوية اإليمان؛ فاإليمان يقوى ويضعف‪ ،‬ويزيد وينقص‪،‬‬

‫ولزيادته أسباب ولضعفه أسباب‪ .‬فكان الواحد من أصحاب النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬يأخذ بيد‬

‫أخيه ويقول‪« :‬ا ْمشوا بِنَا ن َْز َداد إِ َ‬


‫يمانًا»‪ ،‬وهذا من باب قول اهلل تعالى‪ :‬ﭿﯱﯲ ﯳﭾ [القصص‪ .]٣5 :‬فإذا‬
‫جلس األَ َخ َوان أو ِ‬
‫اإل ْخوان يتذاكرون اإليمان‪ ،‬ويتعاونون على الرب والتقوى‪ ،‬ويتفقهون يف دين اهلل ‪-‬‬

‫الصالِحِ‬ ‫الج ِل ِ‬
‫يس َّ‬
‫ٍ‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬كان ذلك لهم زياد َة إيمان‪ ،‬ولهذا قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬م َث ُل َ‬

‫َجدَ ِمنْ ُه‬


‫َاع ِمنْ ُه‪َ ،‬وإِ َّما َأ ْن ت ِ‬ ‫ك‪ :‬إِ َّما َأ ْن ُي ْح ِذ َي َ‬
‫ك‪َ ،‬وإِ َّما َأ ْن َت ْبت َ‬
‫المس ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس ْوء‪ ،‬ك ََحام ِل الم ْسك َونَافخِ الكيرِ‪َ ،‬ف َحام ُل ْ‬
‫َو َّ‬
‫ين َخ ِل ِيل ِه‪َ ،‬ف ْل َينْ ُظ ْر َأ َحدُ ك ُْم َم ْن ُيخَ الِ ُل»‪ ،‬فإذا‬
‫الر ُج ُل َع َلى ِد ِ‬ ‫ِر ً‬
‫يحا َط ِّي َب ًة ‪ .»...‬وقال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َّ « :‬‬
‫أخا مِ ْع َوا ًنا على الطاعة‪ ،‬وعلى العبادة‪ ،‬وعلى اإليمان‪ ،‬وعلى طاعة اهلل‪،‬‬
‫كان األخ الذي يجالسه اإلنسان ً‬

‫ازداد إيماهنم جمي ًعا‪ .‬ولهذا كان متأكدً ا على المسلم أن يحرص على الرفقه‪ ،‬وكما قيل‪« :‬الصاحب‬

‫ساحب»‪ ،‬ومؤثر يف جليسه والبد! فإذا وفق لرفقة صالحة وجلساء صالحين‪ ،‬أعانوه على طاعة اهلل ‪-‬‬

‫سبحانه وتعالى‪ .‬فكان من دأب السلف وهديهم ‪ -‬رضي اهلل عنهم وأرضاهم ورحمهم ‪ -‬الجلوس لزيادة‬

‫اإليمان بتذاكر أمور اإليمان‪ ،‬وخصال اإليمان‪ ،‬والرتغيب والرتهيب‪ ،‬والوعظ والتذكير‪ ،‬وغير ذلك مما‬

‫يكون به زيادة اإليمان وقوته‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان َيقول ألَ ْص َحابِه‪ :‬ا ْمشوا بِنَا ن َْز َداد إِ َ‬
‫يمانًا»‪ ،‬المراد‪ :‬نجلس ونتفقه ونتعلم ونتذاكر‪،‬‬ ‫قال‪َ « :‬ع ْن َع ْل َق َمةَ‪َ ،‬أنه ك َ‬

‫فيزداد بذلك إيماننَا‪.‬‬

‫القارئ ‪ -‬اإلسناد‪...‬؟‬

‫الشارح ‪ -‬اإلسناد‪ :‬قال « َحد َثنَا ا ْبن ف َض ْي ٍل»‪ ،‬قال يف «التقريب»‪ :‬صدوق‪ ،‬و‪...‬‬

‫القارئ ‪ -‬اإلشكال أنه يف «المصنف» ِش َباك وليس ِس َماك‪.‬‬

‫الشارح ‪ -‬عن ِس َماك؟‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪24‬‬

‫القارئ – خطأ‪ .‬مراجعة كتب الجرح‪ِ ...‬ش َباك الضبي هو الذي يروى عن إبراهيم ويروي عنه الفضيل‪.‬‬

‫ِسماك ال يروي‪...‬ليس يف ترجمته أنه‪...‬‬

‫الشارح ‪ -‬ماذا قال الشيخ يف التعليق؟‬

‫القارئ ‪ -‬ال هوالشيخ ما نبه‪.‬‬

‫الشارح ‪ -‬ما تعرض له‪...‬؟‬

‫القارئ – نعم‪.‬‬

‫الشارح ‪ -‬لكن قال‪« :‬إسناده صحيح على شرط الشيخين»‪.‬‬

‫القارئ ‪ -‬هناك كالم‪...‬تصحيف‪...‬‬

‫الشارح – أي‪.‬‬

‫القارئ ‪ -‬التصحيف يف كلمة سماك‪.‬‬

‫الشارح ‪ -‬أي نعم‪ ،‬طيب‪ .‬إذ ًا التصويب من أين؟‬

‫القارئ – من «المصنف»‪...‬‬

‫الشارح ‪ -‬من «المصنف»‪...‬‬

‫القارئ ‪ -‬وكذلك مراجعة «هتذيب الكمال»‪...‬سماك ال يروي عن إبراهيم‪...‬‬

‫الشارح ‪ -‬أيوه‪.‬‬

‫القارئ – ‪...‬وال يروي عنه‪ ،‬وإنما شباك الضبي هو الذي فيه‪.‬‬


‫‪25‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪25‬‬
‫الشارح – أي نعم‪ .‬إذ ًا هذه تالحظ‪« ،‬سماك» الصواب‪« :‬شباك» ‪ -‬وهو الضبي ‪ -‬عن إبراهيم‪ ،‬عن علقمة‪،‬‬

‫يضا لو تراجع مصادر التخريج األخرى مثل بعض كتب «اإليمان»‪،‬‬


‫والتصويب من «المصنف»‪ .‬ويا حبذا أ ً‬

‫ف هنا عندنا و َتنَب ْهت للتصويب فيه‬


‫أو «الشريعة» لآلجرى‪ ،‬أو «السنة» للخالل‪ .‬سيأيت معنا أثر قريب َت َصح َ‬

‫بمراجعة كتب التخريج يف «الشريعة» لآلجري‪ ،‬و«السنة» للخالل‪ ،‬وبعض المصادر ‪ -‬مما سيأيت التنبيه‬

‫عليه‪ .‬وأكثر من مرة نبهت أن نسخة «كتاب اإليمان» هذه فيها تصحيفات كثيرة‪ ،‬وتتبين هذه التصحيفات‬

‫بمراجعة المصادر‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫اد‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْس َو ِد ْب ِن ِه َال ِل ا ْلم َح ِ‬


‫اربِي‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال م َعا ٌذ‪:‬‬ ‫(‪ )١05‬حد َثنَا وكِيع‪ ،‬نا ْاألَ ْعمش‪َ ،‬عن جامِ ِع ب ِن َشد ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ‬
‫«اجلسوا بِنَا ن ْؤمن َسا َع ًة‪َ ،‬ي ْعني ن َْذكر َ‬
‫اهلل َت َعا َلى»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫«اجلِسوا بِنَا ن ْؤمِن َسا َع ًة‪َ ،‬ي ْعنِي ن َْذكر‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن معاذ بن جبل ﭬ أنه قال‪ْ :‬‬

‫اهلل َت َعا َلى»‪ .‬وهذا بمعنى ما سبق‪ ،‬وهبذا المعنى أ ً‬


‫يضا وردت آثار عديدة عن الصحابة ‪ -‬رضي اهلل عنهم‬ ‫َ‬
‫وأرضاهم‪ .‬والحديث أورده البخاري؛ ألن اإلمام البخاري علقه يف كتابه «الصحيح»‪ ،‬وقال الحافظ ابن‬

‫أيضا» ‪ -‬يعني‪ :‬ابن أبي شيبة ‪« -‬بسند صحيح»‪ .‬وقول معاذ ‪-‬‬
‫حجر يف «الفتح»‪« :‬وصله أحمد وأبو بكر ً‬

‫«اجلِسوا بِنَا ن ْؤمِن َسا َع ًة» أي‪ :‬نذكر اهلل‪ ،‬والمراد بذكر اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬التفقه يف‬
‫رضي اهلل عنه وأرضاه‪ْ :‬‬

‫ذكر هلل ‪ -‬عز وجل‪ ،‬مِ ْثله قول النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪:‬‬
‫الدين وتالوة اآليات ومعرفة المعاين‪ ،‬فهذا ٌ‬
‫فح َلق الذكر المراد هبا‬ ‫الجن ِة؟ َق َال‪ِ « :‬ح َل ُق ِّ‬
‫الذ ْكرِ»‪ِ ،‬‬ ‫ِ‬
‫الجنَّة َف ْار َت ُعوا» َقالوا‪َ :‬و َما ِر َياض َ‬
‫اض َ‬‫«إِ َذا َم َر ْرت ُْم بِرِ َي ِ‬

‫مجالس العلم التي ي َبين فيها الحالل والحرام وتوضح األحكام وي َذكر باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪26‬‬

‫َان َأبو‬
‫او َي َة ْب ِن قرةَ‪َ ،‬ق َال‪ :‬ك َ‬ ‫ون‪َ ،‬ع ْن ِع ْم َر َ‬
‫ان ا ْل َق ِص ِير‪َ ،‬ع ْن م َع ِ‬ ‫(‪َ )١0٦‬أ ْخبرنَا َأبو أسامةَ‪َ ،‬عن مه ِدي ب ِن ميم ٍ‬
‫ْ َْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ َ‬ ‫ََ‬
‫ِ ِ‬
‫اإليم ِ‬
‫ان‬ ‫يمانًا َدائِ ًما‪َ ،‬و ِع ْل ًما نَافِ ًعا‪َ ،‬و َهدْ ًيا َق ِّي ًما»‪َ .‬ق َال م َع ِ‬
‫او َية‪َ :‬فن ََرى َأن م َن ْ َ‬ ‫الد ْر َد ِاء َيقول‪« :‬ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ْس َأ ُل َ‬
‫ك إِ َ‬
‫يمانًا َل ْي َس بِدَ ائِ ٍم‪َ ،‬ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفع‪َ ،‬ومِ َن ا ْل َهدْ ي َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم‪.‬‬
‫إِ َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الدعاء المأثور عن أبي الدرداء ﭬ‪ ،‬وقد قال العالمة األلباين‪« :‬وهذا‬

‫يمانًا َدائِ ًما»‪ ،‬والمراد باإليمان‬


‫األثر صحيح اإلسناد»‪ ،‬أي‪ :‬إلى أبي الدرداء‪ .‬كان يقول‪« :‬اللهم إِني َأ ْس َأل َك إِ َ‬
‫الدائم أي‪ :‬المستمر الثابت الذي يبقى مع اإلنسان ويموت عليه‪ ،‬ويف الدعاء للميت يقال‪« :‬ال َّل ُه َّم َم ْن َأ ْح َي ْي َت ُه‬

‫يمانًا َدائِ ًما» أي‪ :‬إيمانا يدوم معي‬ ‫يم ِ‬


‫ان»‪ ،‬فقوله هنا‪« :‬إِ َ‬ ‫ال ْس ََلمِ‪َ ،‬و َم ْن ت ََو َّف ْي َت ُه ِمنَّا َفت ََو َّف ُه َع َلى ِ‬
‫ال َ‬ ‫ِمنَّا َف َأ ْحيِ ِه َع َلى ِ‬

‫ويبقى إلى أن يتوفاين اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى – عليه‪ .‬واإليمان ال ينفع إال إذا ختِ َم لإلنسان به‪ ،‬أما لو استمر‬

‫على اإليمان ثم تغير يف الختام ومات على غيره ال ينفعه ذلك اإليمان؛ ألن العربة بالخواتيم‪ .‬فقوله‪« :‬اللهم‬

‫مستمرا باق ًيا ثاب ًتا إلى أن أموت على اإليمان‪.‬‬


‫ً‬ ‫يمانًا َدائِ ًما» أي‪ :‬إيما ًنا‬
‫إِني َأ ْس َأل َك إِ َ‬

‫قال‪َ « :‬و ِع ْل ًما نَافِ ًعا»‪ ،‬وهذا فيه التنبيه إلى أن من العلم ما ليس بنافع‪ ،‬ومن العلم ما هو ضار‪ ،‬وقد كان نبينا‬

‫‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬يسأل اهلل العلم النافع كل يوم إذا أصبح‪ ،‬كما يف حديث أم سلمة ڤ أن النبي‬

‫ك ِع ْل ًما نَافِ ًعا‪،‬‬


‫‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬كان يقول كل يوم بعد صالة الصبح بعد أن ي َسلم‪« :‬ال َّل ُه َّم إِنِّي َأ ْس َأ ُل َ‬

‫مستقيما‪ ،‬ﭿﭧ ﭨ ﭩ ﭾ [الفاتحة‪، ]٦ :‬‬


‫ً‬ ‫َو ِر ْز ًقا َط ِّي ًبا‪َ ،‬و َع َم ًَل ُم َت َق َّب ًَل»‪ .‬وقوله‪َ « :‬و َهدْ ًيا َقي ًما» أي‪ :‬هد ًيا‬

‫والمراد بالهدي القيم‪ :‬ما كان عليه النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫فهذه دعوة عظيمة ثؤثر عن الصحابي الجليل أبي الدرداء ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪« :‬اللهم إِني َأ ْس َأل َك‬

‫يمانًا َدائِ ًما‪َ ،‬و ِع ْل ًما نَافِ ًعا‪َ ،‬و َهدْ ًيا َقي ًما»‪ .‬قال معاوية ‪ -‬وهو ابن قرة‪ ،‬راوي هذا األثر عن أبي الدرداء – قال‪:‬‬
‫إِ َ‬
‫يمانًا َل ْي َس بِدَ ائِ ٍم» أي‪ :‬يؤمن ثم يرتد ً‬
‫مثال‪ ،‬وينكص على عقبيه ‪ -‬نعوذ‬ ‫اإل ِ‬
‫يمان إِ َ‬
‫ِ ِ‬
‫« َفن ََرى» أو « َفن َرى َأن م َن ْ َ‬
‫باهلل عز وجل من الحور بعد الكور ‪ -‬فيتحول إلى الكفر باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬قال‪َ « :‬فن ََرى» أو « َفن َرى َأن‬
‫‪27‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫يمانًا َل ْي َس بِدَ ائِ ٍم»‪ ،‬والسلف ‪ -‬رحمهم اهلل تعالى ‪ -‬كانوا يخشون ويخافون من السوابق‬ ‫اإل ِ‬ ‫ِ‬
‫‪27‬‬ ‫ِ‬
‫يمان إِ َ‬
‫م َن ْ َ‬

‫والخواتيم‪ ،‬ويف الحديث يقول ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪« :‬إِ َّن َأ َحدَ ك ُْم َل َي ْع َم ُل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل ا ْل َجن َِّة َحتَّى َما َيك ُ‬
‫ُون‬
‫َاب» ‪ -‬هذه السوابق ‪َ « -‬ف َي ْع َم ُل بِ َع َم ِل َأ ْه ِل الن ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّار َف َيدْ ُخ ُل َها»‪.‬‬ ‫َب ْينَ ُه َو َب ْين ََها إِ َّال ِذ َراع‪َ ،‬ف َي ْسبِ ُق َع َل ْيه ا ْلكت ُ‬

‫فمن اإليمان ما ليس بدائم‪ ،‬ومن العلم ما ليس بنافع‪ .‬وقوله‪َ « :‬ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفع» يحتمل أنه يف ذاته‬

‫نافع لكن صاحبه لم ينتفع به‪ ،‬فيكون المعنى بقوله‪َ « :‬ال َينْ َفع» أي‪ :‬صاحبه‪ ،‬وإال هو يف نفسه نافع‪ ،‬لكنه لم‬

‫ينفع صاحبه أو لم ينتفع به صاحبه‪ .‬ويحتمل أن العلم يف نفسه ليس بنافع‪ ،‬مثل العلوم الضارة التي يتعلمها‬

‫بعض الناس‪ ،‬فتكون َم َضر ًة عليه‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفع‪َ ،‬ومِ َن ا ْل َهدْ ي َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم»‪ ،‬وهذا أ ً‬
‫يضا جانب يحتاج اإلنسان أن يتنبه له‪،‬‬

‫قيما ولكن يكون يف حقيقة األمر بدعة ليست مقبولة! وكم من‬
‫الهدي منه هدي ليس بقيم‪ ،‬يظنه صاحبه ً‬
‫أناس تجده من سنوات طويلة ‪ -‬وقد بلغ السبعين أو الثمانين أو أكثر أو أقل ‪ -‬وهو مالزم لبدعة ال يرتكها‬

‫كل يوم‪ ،‬ويحافظ عليها محافظة تامة‪ ،‬وإذا سألته عنها أخربك بما يفيد أنه يعتقد أهنا أحسن األعمال وأطيب‬

‫األعمال‪ ،‬وقد قال اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ :‬ﭿ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬

‫ﮢ ﮣ ﭾ [الكهف‪ .]١04 – ١0٣ :‬فاإلنسان قد يبتلى بعمل ويحافظ عليه ويدأب عليه ويدافع عنه وينافح عنه‬

‫وهو بدعة‪ ،‬والنبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬قال‪َ « :‬م ْن َع ِم َل َع َم ًَل َل ْي َس َع َل ْي ِه َأ ْم ُرنَا َف ُه َو َرد»‪ .‬إ ًذا‪ ،‬من الهدي‬

‫ما ليس بقيم‪.‬‬

‫وهنا ينبه معاوية بن قرة ‪ -‬يف تعليقه العظيم هذا على األثر ‪ -‬أن المسلم يحتاج إلى العناية بجانبين‪ :‬جانب‬

‫صالح العلم‪ ،‬وصالح العمل؛ ألن هناك من كان ز َللهم يف جهة العلم‪َ ،‬ف َسدَ ْ‬
‫ت علومهم‪ ،‬مثل العقالنيين‬

‫الذين عظموا العقل‪ ،‬وتكلموا بعلوم كثيرة لكنها ضياع! فلسفات وأراء ومنطقيات وضياع ‪ -‬ضياع عن دين‬

‫اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬بعلوم يظنوهنا يقينيات وهي ضياع! ومن اإلنحراف والضياع ما هو يف جانب ماذا؟‬

‫السلوك والعمل‪ ،‬وإليه اإلشارة بقوله‪َ « :‬ومِ َن ا ْل َهدْ ي َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم»‪ ،‬وهذا يكثر عند أرباب الطرق‪،‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪28‬‬

‫تجدهم يواظبون على أعمال وعلى عبادات ال أصل لها يف دين اهلل! فيحتاج العبد أن يحذر من هذين‬

‫الجانبين‪ :‬جانب فساد العلم‪ ،‬وجانب فساد العمل‪ ،‬كما قال هنا‪َ « :‬ومِ َن ا ْل ِع ْل ِم ِع ْل ًما َال َينْ َفع‪َ ،‬ومِ َن ا ْل َهدْ ي‬
‫ٍ‬
‫معان عظيمة‪:‬‬ ‫َهدْ ًيا َل ْي َس بِ َقي ٍم»‪ .‬وهذا التوضيح من معاوية بن قرة فيه بيان لما تحتويه هذه الدعوة من‬

‫يمانًا َدائِ ًما‪َ ،‬و ِع ْل ًما نَافِ ًعا‪َ ،‬و َهدْ ًيا َقي ًما»‪.‬‬
‫«اللهم إِني َأ ْس َأل َك إِ َ‬

‫قال‪:‬‬

‫اد‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْس َو ِد ْب ِن ِه َال ِل‪َ ،‬ق َال‪ :‬ك َ‬


‫َان م َعا ٌذ َيقول‬ ‫ش‪َ ،‬عن جامِ ِع ب ِن َشد ٍ‬
‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫(‪َ )١0٧‬حد َثنَا َأبو أ َسا َمةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫اهلل َو َي ْح ِمدَ انِ ِه»‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫لِلرج ِل مِ ْن إِ ْخ َوانِ ِه‪ِ ْ :‬‬
‫«اجل ْس بِنَا َف ْلن ْؤمن َسا َعةً‪َ ،‬ف َي ْجل َسان َف َي ْذك َران َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫يمانًا َدائِ ًما»‪ ،‬فهذا يصلح أن يستشهد به لما سبق‪،‬‬


‫وقول أبي الدرداء يف الدعوة الماضية‪« :‬اللهم إِني َأ ْس َأل َك إِ َ‬
‫وهو أن السلف ‪ -‬أشرت فيما سبق ‪ -‬كانوا يستثنون يف اإليمان العتبارات عديدة‪ ،‬منها‪ :‬النظر للعاقبة؛‬

‫اإلنسان ما يدري ماذا يختم له‪ .‬فها هو أبو الدرداء ﭬ يسأل اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬دوام اإليمان‪« :‬اللهم إِني‬

‫يمانًا َدائِ ًما»‪ ،‬أي‪ :‬إيما ًنا يبقى ويستمر معي ويدوم إلى أن يموت‪ .‬فإذا استثنى العبد يف إيمانه بعدً ا‬
‫َأ ْس َأل َك إِ َ‬
‫عن تزكية النفس‪ ،‬وخشية عدم القبول‪ ،‬وألنه ال يدري ماذا يختم له به‪ ،‬فهذا اعتبار كان موجو ًدا عند السلف‬

‫‪ -‬رحمهم اهلل ‪ -‬يالحظونه يف استثنائهم يف اإليمان‪.‬‬

‫َان معا ٌذ يقول لِلرج ِل مِن إِ ْخوانِ ِه‪ :‬اجلِس بِنَا َف ْلن ْؤمِن سا َعةً‪َ ،‬فيجلِس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ان‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫قال‪َ « :‬ع ِن ْاألَ ْس َود ْب ِن ه َال ِل‪َ ،‬ق َال‪ :‬ك َ َ َ‬

‫اجلِ ْس بِنَا َف ْلن ْؤمِن َسا َع ًة» يعني‪ :‬نذكر‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫َف َي ْذك َران َ‬
‫اهلل َو َي ْحمدَ انه» ‪ -‬هذا نظير األثر المتقدم عن معاذ‪ .‬قوله‪ْ « :‬‬

‫اهلل‪ .‬ومعنى ذكر اهلل وحمده‪ :‬بالعلم والفقه‪ ،‬واستشعار هذا الدين والنعمة هبذا الدين‪ ،‬فيتحرك يف القلب‬

‫ذكر اهلل وحمد اهلل وحسن الثناء على اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫‪29‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪29‬‬
‫َان ع َمر رب َما َي ْأخذ بِ َي ِد الرج ِل‬
‫(‪َ )١0٨‬أ ْخ َب َرنَا َأبو أ َسا َمةَ‪َ ،‬ع ْن م َحم ِد ْب ِن َط ْل َحةَ‪َ ،‬ع ْن ز َب ْي ٍد‪َ ،‬ع ْن َذ ٍّر‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬ك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوالر ْج َل ْي ِن م ْن َأ ْص َحابِه َف َيقول‪« :‬ق ْم بِنَا ن َْز َدا َد إِ َ‬
‫يمانًا»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن معاوية عن عمر ﭬ أنه كان «رب َما َي ْأخذ بِ َي ِد الرج ِل َوالر ْج َل ْي ِن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َأ ْص َحابِه َف َيقول‪ :‬ق ْم بِنَا ن َْز َدا َد إِ َ‬
‫يمانًا»‪ .‬وهذا كله من من باب العناية والرعاية باإليمان‪ ،‬واالهتمام البالغ‬

‫به‪ ،‬والتواصي بالمحافظة عليه وقوته وزيادته‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َان ع َمر رب َما َي ْأخذ بِ َيد الرج ِل َوالر ْج َل ْي ِن م ْن َأ ْص َحابِه َف َيقول‪ :‬ق ْم بِنَا ن َْز َدا َد إِ َ‬
‫يمانًا»‪ ،‬وزيادة اإليمان بالتذاكر‬ ‫«ك َ‬

‫والتواصي‪ ،‬وذكر الرتغيب والرتهيب والجنة والنار والعقاب‪ ،‬ونحو ذلك مما يحرك القلوب ويقوي‬

‫اإليمان ويزيد الصلة باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫واإلسناد عن محمد بن طلحة‪ ،‬عن زبيد‪ ،‬عن ِزر ‪ -‬يف النسخة هنا عن ( َذر)‪ ،‬وهو تصحيف ‪ -‬عن زر‪ ،‬وهو‬

‫ابن حبيش‪ ،‬وهو ثقة‪ ،‬وهو يروي عن عمر بن الخطاب ﭬ ‪ -‬كما يف ترجمته ‪ -‬ويروي عنه زبيد بن‬

‫الحارث اليامي‪ .‬والتصويب من «المصنف»‪ ،‬جاء يف «المصنف» عن زر‪ ،‬وكذلك يف «الشريعة» لآلجري‬

‫و«السنة» للخالل جاء هبذا اللفظ‪« :‬عن زر عن عمر»‪ .‬وأورده ابن رجب ‪ $‬يف «فتح الباري» ونص على‬

‫ابن حبيش‪ ،‬قال‪« :‬عن زر بن حبيش»‪ .‬وبمطالعة ترجمة زر يف «التهذيب» وغيره‪ :‬يروي عنه زبيد‪ ،‬وهو‬

‫يروي عن عمر بن الخطاب ﭬ‪ .‬وعلى هذا‪ ،‬فاألثر متصل ليس فيه انقطاع‪ .‬والشيخ ‪ $‬قال يف‬

‫الهامش‪« :‬غير أن ذرا ‪ -‬وهو ابن عبد اهلل المرهبي ‪ -‬لم يدرك عمر»‪ ،‬لكن الصواب أنه «زر بن حبيش»‬

‫وليس «ذر»‪ ،‬وزر بن حبيش أدرك عمر وروى عنه‪ ،‬وهو ثقة‪ ،‬فاإلسناد متصل‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪30‬‬

‫ار ِق ْب ِن ِش َه ٍ‬
‫اب‬ ‫ان ْب ِن َم ْي َس َرةَ‪َ ،‬وا ْلم ِغ َيرة ْبن ِش ْبلٍ‪َ ،‬ع ْن َط ِ‬
‫يع‪ ،‬نا ْاألَ ْع َمش‪َ ،‬ع ْن س َل ْي َم َ‬‫ِ‬
‫(‪َ )١09‬حد َثنَا َوك ٌ‬

‫يم ِة‪َ ،‬ف َم ْن َي ْض ِرب بِ َأ ْر َب ٍع َخ ْي ٌر‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان‪َ ،‬ق َال‪« :‬إِن م َث َل الص َلو ِ‬
‫ات ا ْل َخ ْم ِ‬
‫س ك ََم َث ِل س َها ِم ا ْل َغن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْاألَ ْح َم ِسي‪َ ،‬ع ْن س َل ْي َم َ‬

‫يها بِ َس ْه َم ْي ِن‪َ ،‬و َم ْن َي ْض ِرب فِ َيها بِ َس ْه َم ْي ِن‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬


‫يها بِ َث َال َثة َخ ْي ٌر مم ْن َي ْض ِرب ف َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مم ْن َي ْض ِرب ف ْي َها بِ َث َال َثة‪َ ،‬و َم ْن َي ْض ِرب ف َ‬
‫اح ٍد‪َ ،‬وما َي ْج َعل اهلل م ْن َله س ْهم فِي ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم ك ََم ْن َال َس ْه َم َله»‪.‬‬ ‫َخير مِمن ي ْض ِرب فِيها بِو ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ َ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌْ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن سلمان الفارسي ﭬ أنه قال‪« :‬إِن م َث َل الص َلو ِ‬
‫ات ا ْل َخ ْم ِ‬
‫س‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يم ِة»‪ ،‬ومن المعلوم أن سهام الغنيمة كلما زادت كان ذلك أعظم يف حظ اإلنسان ونصيبه‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ََم َث ِل س َها ِم ا ْل َغن َ‬
‫يم ِة‪َ ،‬ف َم ْن َي ْض ِرب بِ َأ ْر َب ٍع َخ ْي ٌر مِم ْن َي ْض ِرب فِ ْي َها بِ َث َال َث ٍة»‪،‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال‪« :‬إِن م َث َل الص َلو ِ‬
‫ات ا ْل َخ ْم ِ‬
‫س ك ََم َث ِل س َها ِم ا ْل َغن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يها بِ َث َال َث ٍة َخ ْي ٌر مِم ْن َي ْض ِرب‬‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫« َف َم ْن َي ْض ِرب بِ َأ ْر َب ٍع» – أي سهام ‪َ « -‬خ ْي ٌر مم ْن َي ْض ِرب ف ْي َها بِ َث َال َثة‪َ ،‬و َم ْن َي ْض ِرب ف َ‬

‫اح ٍد‪َ ،‬و َما َي ْج َعل اهلل َم ْن َله َس ْه ٌم فِي‬


‫فِيها بِسهمي ِن‪ ،‬ومن ي ْض ِرب فِيها بِسهمي ِن َخير مِمن ي ْض ِرب فِيها بِو ِ‬
‫َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ٌْ‬ ‫َ َ ْ َْ‬ ‫َ َ ْ َْ َ َ ْ َ‬
‫ِْ‬
‫اإل ْس َال ِم ك ََم ْن َال َس ْه َم َله»‪ .‬وهذا مثل ذكره سلمان ﭬ لبيان األجر والثواب الذي يحصله من يصلي‬

‫ويواظب على الصلوات الخمس؛ فالذي يصلي الصلوات الخمس بمثابة من ضرب بخمسة سهام‪ ،‬وأربع‬

‫بأربع‪ ،‬وهكذا‪ .‬والحقيقة أن الصالة كلها بصلواهتا الخمس المفروضة التي افرتضها اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‬

‫‪ -‬كلها يمكن أن ي َضرب لها هذا المثل بأهنا كلها بمثابة السهم الواحد؛ فمن ترك صالة أو ترك ثالث‬

‫صلوات كمن ترك الصلوات كلها‪ :‬ال سهم له يف اإلسالم‪ ،‬وال حظ له وال نصيب يف اإلسالم!‬

‫وهذا األثر الذي جاء عن سلمان ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ -‬له قصة توضح مراده ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪،‬‬

‫يضا تزيل ما قد يرد يف الذهن من إشكال بتمثيل الصلوات بالسهام ‪ -‬سهام الغنيمة ‪ -‬وأن من صلى صالة‬
‫وأ ً‬

‫سهما واحدً ا‪ ،‬وصالتين سهمين‪ ،‬وهكذا‪ .‬فاألثر له قصة‪ ،‬وهي أن الراوي لألثر دخل‬
‫ً‬ ‫واحدة كمن قدم‬

‫على سلمان وكان عنده َأ َمة‪ -‬واألثر وجدته يف «الزهد» ألبي داود السجستاين باإلسناد نفسه‪ ،‬بلفظ أورد‬

‫معه قبل هذا الكالم قصة توضح المعنى‪ ،‬وخالصة ذلك أنه دخل عليه فوجد عنده أمة ‪ -‬فسأله عنها قال‪:‬‬
‫‪31‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫ٍ ‪31‬‬
‫ات َف َأ َب ْت‪،‬‬ ‫« َه ِذ ِه َأ َص ْبت َها مِ َن ا ْل َم ْغن َِم َأ ْم ِ‬
‫س»‪ ،‬ثم قال له سلمان‪َ « :‬و َقدْ َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َخ ْم َس َص َل َو‬

‫َف َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َأ ْر َب ًعا َف َأ َب ْت‪َ ،‬ف َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َث َال ًثا َف َأ َب ْت‪َ ،‬ف َأ َر ْدت َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي ثِنْ َت ْي ِن َف َأ َب ْت‪،‬‬
‫جبت إِ ًذا‪َ ،‬فق ْلت‪ :‬ما ت ْغنِي َعنْها ص َال ٌة و ِ‬ ‫ِ‬
‫احدَ ةٌ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َوأ ِريد َها َع َلى َأ ْن ت َصل َي َواحدَ ةً‪َ ،‬ف ِه َي َت ْأ َبى»‪ ،‬فقال الراوي‪َ « :‬ف َع ِ ْ‬
‫َت سائِر َها؟» فقال سلمان‪« :‬يا ابن َأ ِخي إِن م َث َل َه ِذ ِه الص َلو ِ‬
‫ات ا ْل َخ ْم ِ‬
‫س‪ »...‬وذكر األثر‪ ،‬ثم قال يف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫إِ َذا َت َرك ْ َ َ‬
‫احدَ ٍة َر ِغ َب ْت فِ ِ‬
‫يهن كل ِهن»‪.‬‬ ‫تمامه ‪ -‬ما يزيل اإلشكال ويوضح مراده ‪ -‬قال‪« :‬وإنها إِ َذا ر ِغب ْت فِي ص َال ٍة و ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬

‫فهذا الكالم جاء من سلمان يف مقام ترغيب هذه المرأة يف الصالة‪ ،‬وهي امرأة من الغنيمة ‪ -‬من السبي ‪-‬‬

‫وال تعرف الصالة وال تعرف الدين‪ ،‬فأراد أن يرغبها ويتدرج هبا يف الصالة شي ًئا فشي ًئا حتى تذوق طعم‬

‫الصالة وحالوهتا‪ ،‬فإذا رغبت يف صالة واحدة وذاقت طعمها وعرفت مكانة الصالة حافظت على‬

‫الصلوات‪ .‬فليس مراد سلمان أن صالة واحدة تجزئ أو تكفي‪ ،‬وأن من كان له سهم واحد من الصالة‬

‫كفاه يف ذلك ‪ -‬ليس هذا مراده! ولكن كان مراده يف هذا المقام أن يرغب هذه المرأة التي أخذها ‪ -‬وكانت‬

‫غنيمة له من السبي ‪ -‬أن يرغبها ويتدرج هبا لتصلي‪ ،‬ترغي ًبا لها يف الصالة وبيا ًنا لها بثواب الصالة‪ ،‬فإذا‬

‫صلت صالة واحدة ورغبت فيها ساقها ذلك ودفعها إلى المحافظة على باقي الصلوات‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بسياق أتم‪ ،‬وفيه ما يوضح‬ ‫ٍ‬
‫بلفظ أتم أو‬ ‫واألثر ‪ -‬كما ذكرت ‪ -‬موجود يف «الزهد» ألبي داود السجستاين‬

‫هذا األثر ويزيل ما قد يكون فيه من إشكال‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ث‪َ ،‬ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن مرةَ‪َ ،‬ع ِن ا ْل َب َر ِاء‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َرسول اهللِ ﷺ‪َ « :‬أ ْو َث ُق ُع َرى‬
‫(‪َ )١١0‬أ ْخبرنَا ابن ف َضيلٍ‪َ ،‬عن َلي ٍ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ‬
‫ال ْس ََل ِم ا ْل َحب فِي اهللِ‪َ ،‬وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ»‪.‬‬
‫ِْ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫او َي َة ْب ِن س َو ْي ٍد [بن م َقر ٍن]‪َ ،‬ع ِن ا ْل َب َر ِاء‬ ‫يف «المصنف»‪ :‬حد َثنَا ابن ف َضي ٍل‪َ ،‬عن َلي ٍ‬
‫ث‪َ ،‬ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن مر َة‪َ ،‬ع ْن م َع ِ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫َق َال‪َ :‬ق َال َرسول اهللِ ﷺ‪ .‬والشيخ األلباين نبه يف الهامش‪ ،‬قال‪« :‬ورواه أحمد من طريق أخرى عنه‪ ،‬عن‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪32‬‬

‫عمرو بن مرة‪ ،‬عن معاوية بن سويد بن مقرن‪ ،‬عن الرباء»‪ .‬فمعاوية بن سويد بن مقرن سقط من هذه الطبعة‪،‬‬

‫في ْك َمل من «المصنف»؛ فهو يف «المصنف» باإلسناد نفسه وليس فيه هذا السقط‪ .‬ويف اإلسناد ليث‪ ،‬وهو‬

‫ابن أبي سليم‪ ،‬صدوق اختلط جدً ا ولم يتميز حديثه فت ِرك‪ .‬فاإلسناد ضعيف‪ ،‬لكن الحديث حسن‬

‫بشواهده‪.‬‬

‫ال ْس ََل ِم ا ْل َحب فِي اهللِ‪َ ،‬وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ»‪ ،‬وهذا فيه بيان مكانة الحب يف اهلل والبغض يف‬
‫قال‪َ « :‬أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ‬

‫اهلل من اإلسالم‪ ،‬وأنه أوثق عرى اإلسالم‪ .‬والحب يف اهلل هو أن يحب الشخص ال يحبه إال هلل‪ ،‬والبغض يف‬

‫اهلل أحب ما يح ُّبه اهلل وأبغض ما يبغضه اهلل‪ .‬وهذا‬


‫أحب َ‬‫اهلل هو أن يبغض الشخص ال يبغضه إال هلل؛ فهو َلما َ‬

‫التفريع الذي يتفرع عن محبة المسلم لربه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يتفرع عن ذلك أن يكون حبه وبغضه يف اهلل‪،‬‬

‫ب إِ َل ْي ِه ِم َّما‬
‫ُون اهللُ َو َر ُسو ُل ُه َأ َح َّ‬ ‫يم ِ‬
‫ان‪َ :‬أ ْن َيك َ‬ ‫ال َ‬
‫وقد مر معنا الحديث‪َ « :‬ث ََلث من كُن فِ ِ‬
‫يه َو َجدَ بِ ِه َّن َح ََل َو َة ْ ِ‬ ‫َ ْ َّ‬

‫حب ُه إِ َّال هللِ»‪ ،‬وجاء أ ً‬


‫يضا يف حديث آخر أن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم –‬ ‫حب ا ْلمرء َال ي ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س َو ُاه َما‪َ ،‬و َأ ْن ُي َّ َ ْ َ ُ‬
‫ان»‪.‬‬
‫يم َ‬ ‫ب لِ َّل ِه‪َ ،‬و َأ ْبغ ََض لِ َّل ِه‪َ ،‬و َأ ْع َطى لِ َّل ِه‪َ ،‬و َمن ََع لِ َّل ِه‪َ ،‬ف َق ِد ْاس َتك َْم َل ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫قال‪َ « :‬م ْن َأ َح َّ‬

‫قال‪:‬‬

‫ب فِي‬ ‫اإل ِ‬‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ ِ‬


‫(‪َ )١١١‬حد َثنَا ا ْبن ن َم ْي ٍر‪َ ،‬ع ْن َمالك ْب ِن م ْغ َول‪َ ،‬ع ْن ز َب ْيد‪َ ،‬ع ْن م َجاهد‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬أ ْو َثق ع َرى ْ َ‬
‫يمان ا ْل َح ُّ‬

‫اهللِ‪َ ،‬وا ْلب ْغض فِي اهللِ»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫يم ِ‬
‫ان‬ ‫ثم أورد هذا األثر عن مجاهد‪ ،‬وقد صح ‪ -‬كما عرفنا ‪ -‬مرفو ًعا إلى النبي ﷺ أنه قال‪َ « :‬أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫ا ْل َحب فِي اهللِ‪َ ،‬وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ»‪.‬‬

‫قال‪:‬‬
‫‪33‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪33‬‬
‫ون‪ ،‬نا َداود ْبن َأبِي ِهن ٍْد‪َ ،‬ع ْن ز َر َار َة ْب ِن َأو َفى‪َ ،‬ع ْن َت ِم ٍ‬
‫يم الد ِاري‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬أول َما‬ ‫(‪َ )١١2‬حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ‬
‫يحاسب بِ ِه ا ْلعبد يوم ا ْل ِقيام ِة الص َالة ا ْلم ْكتوبة‪َ ،‬فإِ ْن َأ َتمها وإِال قِ َيل‪ :‬انْظروا َه ْل َله مِن َت َطوعٍ؟ َفأك ِْم َل ِ‬
‫ت‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ َْ َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ف بِ ِه فِي الن ِ‬
‫ار»‪.‬‬ ‫يضة َو َل ْم َيك ْن َله َت َطو ٌع أ ِخ َذ بِ َط َر َف ْي ِه َفق ِذ َ‬
‫يضة [مِ ْن َت َط ُّو ِع ِه]‪َ ،‬فإِ ْن َل ْم ت ْك َم ِل ا ْل َف ِر َ‬
‫ا ْل َف ِر َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫اسب بِ ِه ا ْل َع ْبد َي ْو َم‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن تميم بن أوس الداري ﭬ قال‪َ « :‬أول َما ي َح َ‬
‫يضة مِ ْن َت َط ُّو ِع ِه‪َ ،‬فإِ ْن‬ ‫ا ْل ِقيام ِة الص َالة ا ْلم ْكتوبة‪َ ،‬فإِ ْن َأ َتمها وإِال قِ َيل‪ :‬انْظروا َه ْل َله مِن َت َطوعٍ؟ َفأك ِْم َل ِ‬
‫ت ا ْل َف ِر َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ف بِ ِه فِي الن ِ‬
‫ار»‪ .‬وهذا صح مرفو ًعا إلى النبي ﷺ‬ ‫يضة َو َل ْم َيك ْن َله َت َطو ٌع أ ِخ َذ بِ َط َر َف ْي ِه َفق ِذ َ‬
‫َل ْم ت ْك َم ِل ا ْل َف ِر َ‬

‫َان ا ْنت ُِق َص‬ ‫ب بِ ِه ا ْل َع ْبدُ َي ْو َم ا ْل ِق َي َام ِة َص ََل ُت ُه‪َ ،‬فإِ ْن ُو ِجدَ ْت ت ََّام ًة كُتِ َب ْ‬
‫ت ت ََّامةً‪َ ،‬وإِ ْن ك َ‬ ‫بنحوه‪ ،‬ولفظه‪« :‬إِ َّن َأ َّو َل َما ُي َح َ‬
‫اس ُ‬
‫يضة ِم ْن َت َطو ِع ِه‪ُ ،‬ثم سائِر ْاِلَ ْعم ِ‬
‫ال‬ ‫ون َل ُه ِم ْن َت َطوع ُيك َِّم ُل َل ُه َما َض َّي َع ِم ْن َفرِ َ‬ ‫ِمن َْها َشيء َق َال‪ :‬ا ْن ُظ ُروا َه ْل ت ِ‬
‫َجدُ َ‬
‫َ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ب َذلِ َ‬
‫ك»‪.‬‬ ‫ت َْجرِي َع َلى َح َس ِ‬

‫فهذا الحديث فيه مكانة الصالة من الدين‪ ،‬وأهنا أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة‪ .‬وأول ما يحاسب عليه‬

‫من عمله الصالة‪ ،‬فإذا قبِ َلت نظِر يف سائر عمله‪ ،‬وإذا ردت الصالة رد عمله؛ ألن َمن ال صالة له ال دين له‬

‫‪ -‬كما مر معنا‪ .‬من ال صالة له ال دين له! فهذا يبين لنا مكانة الصالة العظيمة من دين اهلل‪ ،‬وأن هذه الصالة‬

‫المفروضة هي أول ما يحاسب عليه العبد ويسأل عنه يوم القيامة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يث َي ِزيدَ إِال َأنه َل ْم َي ْذك ْر‪« :‬ي ْؤ َخذ بِ َط َر َف ْي ِه‬


‫يم‪ ،‬بِ ِم ْث ِل ح ِد ِ‬
‫َ‬ ‫(‪َ )١١٣‬أ ْخ َب َرنَا ه َش ْي ٌم‪ ،‬أنا َداود‪َ ،‬ع ْن ز َر َارةَ‪َ ،‬ع ْن َت ِم ٍ‬

‫َف َي ْق ِذف بِ ِه فِي الن ِ‬


‫ار»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ار» لم ِ‬
‫تأت يف هذا الطريق‪.‬‬ ‫هذه طريق ثانية للحديث‪ ،‬وفيها أن الزيادة «ي ْؤ َخذ بِ َط َر َف ْي ِه َف َي ْق ِذف بِ ِه فِي الن ِ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪34‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ول اهللِ ﷺ َل ِق َي َع ْو َ‬
‫ف‬ ‫ون‪ ،‬أنا َأبو َم ْع َش ٍر‪َ ،‬ع ْن م َحم ِد ْب ِن َصالِحٍ ْاألَن َْص ِ‬
‫اري‪َ :‬أن َرس َ‬ ‫(‪َ )١١4‬حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ‬

‫ف ْب َن َمالِك؟» َق َال‪َ :‬أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقا‪َ .‬ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪« :‬إِ َّن‬ ‫ف َأ ْص َب ْح َ‬
‫ت َيا َع ْو َ‬ ‫بن مال ِ ٍ‬
‫ك َف َق َال‪َ « :‬ك ْي َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ك؟» َق َال‪َ :‬يا َرسول اهللِ‪َ ،‬أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا‪َ ،‬ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِي‪َ ،‬و َأ ْظ َم ْأت‬
‫لِك ُِّل َق ْول َح ِقي َق ًة‪َ ،‬ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ‬

‫يها‪َ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل‬‫ش ربِي‪ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل ا ْلجن ِة يت ََزاور َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون ف َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َه َواج ِري‪َ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ َ‬
‫ْت َفا ْل َز ْم»‪.‬‬ ‫ار َيت ََضا َغ ْو َن فِ َيها‪َ .‬ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪َ « :‬ع َر ْف َ‬
‫ت» َأ ْو « َل ِقن َ‬ ‫الن ِ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫وأيضا سيأيت إيراده له من طريق أخرى؛ فنرجئ الكالم عليه‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ً ،‬‬

‫إلى لقاء الغد بإذن اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬واهلل ‪ -‬تعالى ‪ -‬أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا‬

‫محمد‪ ،‬وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪‬‬
‫‪35‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪35‬‬
‫الدرس الحادي عشر‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقول المام الحافظ أبو بكر‪ ،‬عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى‪ ،‬يف كتابه «اليمان»‪:‬‬

‫ول اهللِ ﷺ َل ِق َي َع ْو َ‬
‫ف‬ ‫ون‪ ،‬أنا َأبو َم ْع َش ٍر‪َ ،‬ع ْن م َحم ِد ْب ِن َصالِحٍ ْاألَن َْص ِ‬
‫اري‪َ :‬أن َرس َ‬ ‫(‪َ )١١4‬حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ‬

‫ف ْب َن َمالِك؟» َق َال‪َ :‬أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقا‪َ .‬ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪« :‬إِ َّن‬ ‫ف َأ ْص َب ْح َ‬
‫ت َيا َع ْو َ‬ ‫بن مال ِ ٍ‬
‫ك َف َق َال‪َ « :‬ك ْي َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ك؟» َق َال‪َ :‬يا َرسول اهللِ‪َ ،‬أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا‪َ ،‬ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِي‪َ ،‬و َأ ْظ َم ْأت‬
‫لِك ُِّل َق ْول َح ِقي َق ًة‪َ ،‬ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ‬

‫يها‪َ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل‬‫ش ربِي‪ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل ا ْلجن ِة يت ََزاور َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ون ف َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َه َواج ِري‪َ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ َ‬
‫ْت َفا ْل َز ْم»‪.‬‬ ‫ار َيت ََضا َغ ْو َن فِ َيها‪َ .‬ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪َ « :‬ع َر ْف َ‬
‫ت» َأ ْو « َل ِقن َ‬ ‫الن ِ‬

‫ت َيا َح ِ‬
‫ار َ‬
‫ث‬ ‫(‪َ )١١5‬حد َثنَا ا ْبن ن َم ْي ٍر‪ ،‬نا َمالِك ْبن مِ ْغ َو ٍل‪َ ،‬ع ْن ز َب ْي ٍد‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َرسول اهللِ ﷺ‪َ « :‬ك ْي َ‬
‫ف َأ ْص َب ْح َ‬

‫ْب َن َمالِك؟» َق َال‪َ :‬أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا‪َ .‬ق َال‪« :‬إِ َّن لِك ُِّل َحق َح ِقي َق ًة» َق َال‪َ :‬أ ْص َب ْحت َقدْ َع َز َف ْت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا‪،‬‬

‫اب‪َ ،‬و َل َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل‬ ‫ش ربي َقدْ أب ِر َز ل ِ ْل ِ‬ ‫َف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِي‪َ ،‬و َأ ْظ َم ْأت ن ََه ِ‬
‫ح َس ِ‬ ‫ْ‬ ‫اري‪َ ،‬و َل َك َأن َما َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ َ‬
‫ان فِي َق ْلبِ ِه» َأ ْو‬
‫يم َ‬ ‫ون فِي ا ْل َجن ِة‪َ ،‬و َل َك َأني َأ ْس َمع ع َوا َء َأ ْه ِل الن ِ‬
‫ار‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َق َال َله‪َ « :‬ع ْبد ن ََّو َر اهللُ ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫ا ْل َجن ِة َيت ََز َاور َ‬

‫ت َفا ْل َز ْم»‪.‬‬
‫« َع َر ْف َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫فهذا حديث فيه قصة لهذا الصحابي ‪ -‬عوف بن مالك ﭬ ‪ -‬حول اإليمان‪ .‬والمصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‬

‫‪ -‬ساق هذه القصة من طريقين‪ ،‬وكالهما لم يثبت ولم يصح به اإلسناد كما سيأيت بيان ذلك‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪36‬‬

‫ف ْب َن َمالِك؟»‪ ،‬وهذا السؤال يقال يف‬ ‫ف َأ ْص َب ْح َ‬


‫ت َيا َع ْو َ‬ ‫َ‬
‫رسول اهلل ﷺ فقال‪َ « :‬ك ْي َ‬ ‫قال‪ :‬لقي عوف بن مالك‬

‫الصباح‪ ,‬كما أنه يف المساء يقال‪« :‬كيف أمسيت؟» وهو يأيت بعد السالم‪ ،‬ال ي ْبدَ أ به قبل السالم وإنما يؤتى‬

‫به بعد السالم‪ .‬يقال‪« :‬كيف أصبحت؟» يف وقت الصباح‪ ،‬ويقال‪« :‬كيف أمسيت؟» يف وقت المساء‪.‬‬

‫فقال مجيبا على هذا السؤال‪َ « :‬أصبحت م ْؤمِنًا حقا»‪ ،‬ل ِما ي ِ‬
‫ح ُّس به من أثر اإليمان على قلبه‪ ،‬وذكره لآلخرة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫ً‬

‫وذكره للموت والجزاء والحساب‪ ،‬وعدم غفلته عن ذلك؛ فلِما أحس به يف قلبه من إيمان قال‪َ « :‬أ ْص َب ْحت‬

‫حمل ‪ -‬على فرض‬ ‫ِ‬


‫م ْؤمنًا َحقا»‪ .‬وهذا كما َب ّين أهل العلم‪ ،‬ومنهم شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل تعالى‪ ،‬ي َ‬
‫حمل ال على تكميل اإليمان‪ ،‬وتتميمه‪ ،‬واإلتيان بأعماله‪،‬‬
‫ثبوته‪ ،‬مع أن يف سنده كال ًما ويف ثبوته نظر ‪ -‬ي َ‬
‫حمل ‪ -‬كما سبق بيان ذلك ‪ -‬على أصل اإليمان‪،‬‬
‫واعتقاد أن أعماله متقبلة ‪ -‬ال يحمل على هذا! وإنما ي َ‬
‫ال على تمامه وكماله‪ .‬وقول القائل‪« :‬أنا مؤمن» وهو يقصد بذلك تمام اإليمان وكماله‪ ،‬ووفاءه باألعمال‪،‬‬

‫واعتقاد أن أعماله متقبلة ‪ -‬هذا تزكية للنفس‪ .‬ولهذا جاء عن ابن مسعود ‪ -‬كما مر معنا ساب ًقا ‪ -‬أنه قال‬

‫لمن قال‪« :‬إين مؤمن»‪ ،‬قال‪« :‬قل إين يف الجنة»‪ ،‬يعني كما َش ِهدْ َ‬
‫ت لنفسك باألولى فاشهد بالثانية‪ .‬لكن إذا‬

‫حمل هذا الحديث إن صح‪،‬‬


‫قال‪« :‬إين مؤمن» وقصد هبا أصل اإليمان ال تمامه‪ ،‬فهذا ال بأس به‪ ،‬وعليه ي َ‬
‫نظرا ويف ثبوته كال ًما‪ .‬وكذلك على هذا يحمل ما جاء يف هذا المعنى عن السلف ‪-‬رحمهم‬
‫مع أن يف صحته ً‬
‫اهلل تعالى‪ -‬من إطالق القول بـ«إين مؤمن» دون استثناء‪ .‬فما جاء من ذلك ك ُّله يحمل على أصل اإليمان‪،‬‬

‫ال على تمام اإليمان وكماله‪.‬‬

‫« َق َال‪َ :‬أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقا‪َ .‬ف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪ :‬إِ َّن لِك ُِّل َق ْول َح ِقي َق ًة‪َ ،‬ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ‬
‫ك؟»‪ ،‬يعني‪ :‬ما حقيقة‬

‫هذا القول الذي تقوله‪َ « :‬أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقا»؟ ما حقيقة ذلك؟ وهذا فيه التنبيه إلى أن مجرد قول اإلنسان‬

‫عن نفسه «إين كذا»‪« ،‬أنا من المتقين»‪« ،‬أنا من الصالحين»‪ ،‬ليست بمنجية له عند اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬

‫وال بنافعة له عنده إن لم يكن على ذلك حقيق ًة‪ ،‬ولهذا قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬ف َما َح ِقي َق ُة َذلِ َ‬
‫ك؟»‬
‫‪37‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫« َق َال‪َ :‬يا َرسول اهللِ‪َ ،‬أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا»‪ ،‬أي‪ :‬أنه لم يغرت بالدنيا ومتعها الزائلة وفتنها ومغرياهتا‪ .‬قال‪:‬‬
‫‪37‬‬

‫« َأ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا»‪ ،‬أي‪ :‬لم ألتفت إليها ولم تشغلني عن طاعة ربي والقيام بما خلقت له وأ ِ‬
‫وجدت‬

‫اج ِري»‪َ « .‬أ ْس َه ْرت َل ْيلِي» أي‪ :‬بالصالة والذكر والعبادة مع أخذ‬
‫لتحقيقة‪ .‬قال‪َ « :‬ف َأس َهرت َل ْيلِي‪َ ،‬و َأ ْظم ْأت َه َو ِ‬
‫َ‬ ‫ْ ْ‬
‫قسط وحظ من النوم؛ ألن سهر الليل كله يف العبادة خالف هديه ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬وقد قال ‪ -‬عليه‬

‫الصالة والسالم‪َ « :‬لكِنِّي َأ ُصو ُم َو ُأ ْفطِ ُر‪َ ،‬و ُأ َص ِّلي َو َأ ْر ُقدُ ‪َ ،‬و َأ َتز ََّو ُج الن َِّسا َء»‪ ،‬فقوله‪َ « :‬ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِي» إشارة إلى‬
‫كثرة العبادة والذكر يف الليل‪َ « .‬و َأ ْظم ْأت َه َو ِ‬
‫اج ِري» وهذا فيه إشارة إلى الصيام‪ .‬فجمع يف كالمه هذا بين‬ ‫َ‬
‫وأيضا قيام الليل‪َ « .‬ف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِي‪َ ،‬و َأ ْظ َم ْأت‬
‫كثرة الصيام بظمأ الهواجر ‪ -‬يعني‪ :‬يف الصيف الشديد ‪ً -‬‬

‫ش َربِي» وهذا فيه المراقبة‪ ،‬ويف الحديث قال‪َ « :‬أ ْن َت ْع ُبدَ اهللَ ك ََأن َ‬
‫َّك ت ََرا ُه» وهذا‬ ‫َه َو ِ‬
‫اج ِري‪َ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ‬

‫اك»‪ .‬قال‪َ « :‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ‬


‫ش َربِي‪،‬‬ ‫تمام العبادة‪ ،‬قال‪َ « :‬أ ْن َت ْع ُبدَ اهللَ ك ََأن َ‬
‫َّك ت ََرا ُه‪َ ،‬فإِ ْن َل ْم َتك ُْن ت ََرا ُه َفإِ َّن ُه َي َر َ‬

‫ار َيت ََضا َغ ْو َن فِ َيها»‪ ،‬أي‪ :‬يصيحون‬


‫ون فِ َيها‪َ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل الن ِ‬
‫َو َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل ا ْل َجن ِة َيت ََز َاور َ‬

‫ويبكون ويصرخون‪ .‬ويف حديث حنظلة ‪ -‬وهو ثابت يف «صحيح مسلم» ‪ -‬قال‪َ « :‬ل ِق َينِي َأبو َب ْك ٍر‪َ ،‬ف َق َال‪:‬‬
‫ول اهللِ‬
‫ان اهللِ ما َتقول؟ َق َال‪ :‬ق ْلت‪ :‬نَكون ِعنْدَ رس ِ‬ ‫ف َأن َ‬
‫ْت َيا َحنْ َظ َلة؟ َق َال‪ :‬ق ْلت‪ :‬نَا َف َق َحنْ َظ َلة‪َ ،‬ق َال‪ :‬س ْب َح َ‬ ‫َك ْي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫ار َوا ْل َجن ِة‪َ ،‬حتى َك َأنا َر ْأي َع ْي ٍن» ‪ -‬أي‪ :‬كأننا نشاهد الجنة‪ ،‬وكأننا ً‬
‫أيضا نشاهد النار‪ ،‬كأهنا‬ ‫ﷺ‪ ،‬ي َذكرنَا بِالن ِ‬

‫ول اهللِ ﷺ‪َ ،‬عا َفسنَا ْاألَ ْزواج و ْاألَو َالد والضيع ِ‬
‫ات‪َ ،‬فن َِسينَا كَثِ ًيرا‪،»...‬‬ ‫رأي العين ‪َ « -‬فإِ َذا َخر ْجنَا مِ ْن ِعن ِْد رس ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فخشي أن يكون هذا من النفاق‪ .‬فذهب هو وأبو بكر إلى النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬وأخرباه بذلك‪،‬‬

‫ون ِعن ِْدي َوفِي الذك ِْر‪َ ،‬ل َصا َف َحتْكم ا ْل َم َالئِ َكة َع َلى‬ ‫فقال‪َ « :‬وال ِذي َن ْف ِسي بِ َي ِد ِه إِ ْن َل ْو َتدوم َ‬
‫ون َع َلى َما َتكون َ‬
‫فر ِشكم وفِي طرقِكم‪ ،‬و َلكِن يا حنْ َظ َلة سا َع ًة وسا َع ًة»‪ ،‬وهذا فيه فضل مجالس العلم ِ‬
‫وح َل ِق الذكر‪ ،‬من حيث‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ َ‬ ‫ْ َ‬

‫إهنا تقوي اإليمان‪ ،‬وتزيد اليقين‪ ،‬وتذكر العبد باهلل‪ ،‬وتبعد عنه الغفلة‪ .‬فهنا يقول عوف ﭬ‪َ « :‬ك َأني َأنْظر‬

‫ار َيت ََضا َغ ْو َن فِ َيها»‪ ،‬أي‪ :‬أنه على ذكر‪ .‬والعلماء ‪-‬‬
‫ون فِ َيها‪َ ،‬و َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل الن ِ‬
‫إِ َلى َأ ْه ِل ا ْل َجن ِة َيت ََز َاور َ‬

‫رحمهم اهلل ‪ -‬قالوا يف اإليمان باليوم اآلخر ‪ -‬الذي هو ركن من أركان اإليمان الستة – قالوا إن إيمان أهل‬

‫اإليمان به على درجتين‪ ،‬الدرجة األولى‪ :‬درجة اإليمان الجازم‪ ،‬وهذا الذي ال يقبل من أحد شيء دونه‪،‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪38‬‬
‫ال بد أن يكون عند المسلم جزم ويقين بأن هناك يوما ِ‬
‫آخر‪ ،‬وفيه الحساب والعقاب والجنة والنار‬ ‫ً‬
‫والتفاصيل التي جاءت عن ذلك اليوم يف سنة النبي الكريم ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬والدرجة الثانية‪:‬‬

‫اإليمان الراسخ‪ ،‬رسوخ اإليمان يف قلب المؤمن‪ ،‬واستحضاره لذلك اليوم العظيم‪ ،‬وعدم غفلته عن ذلك‬

‫اليوم وعن الحساب وعن العقاب وعن الجنة والنار‪ .‬فعوف يشير إلى هذا المعنى‪ :‬ما أكرمه اهلل ‪ -‬سبحانه‬

‫وتعالى ‪ -‬به من استحضار مستمر لذلك اليوم‪ ،‬للجنة والنار والحساب والعقاب‪ .‬وهذا ‪ -‬إذا كان العبد‬

‫جزه عن المعاصي ودفعه إلى اإلقبال على العبادات والطاعات‪.‬‬


‫مستحضرا له‪ ،‬غير غافل عنه ‪َ -‬ح َ‬
‫ً‬

‫ْت َفا ْل َز ْم»‪ ،‬ويف هذا أهمية الثبات على ما ي ِ‬


‫كرم اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‬ ‫« َف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪َ :‬ع َر ْف َ‬
‫ت‪َ ،‬أ ْو‪َ :‬ل ِقن َ‬

‫‪ -‬به عبده من الخير واإليمان والطاعة‪ ،‬والمداومة على ذلك واإلستقامة عليه إلى الممات‪ ،‬كما قال اهلل ‪-‬‬

‫سبحانه وتعالى‪ :‬ﭿﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭾ [فصلت‪ ،]٣0 :‬ويف حديث سفيان الثقفي قال ‪ -‬عليه الصالة‬
‫ِ‬ ‫است َِق ْم» أي‪ :‬دا ِو ْم على ذلك‬ ‫ِ‬
‫واستمر عليه إلى أن تلقى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪،‬‬ ‫ْت بِاهلل‪َ ،‬ف ْ‬
‫والسالم‪ُ « :‬ق ْل‪َ :‬آمن ُ‬

‫ويقول اهلل ‪ -‬عز وجل‪ :‬ﭿ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆﭾ [الحجر‪ ،]99 :‬ويقول ‪-‬جل وعال‪ :‬ﭿ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ‬

‫ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭾ [آل عمران‪ ،]١02 :‬أي‪ :‬استمروا وداوموا على اإلسالم والطاعة والعبادة إلى‬

‫ت‪َ ،‬أ ْو‪َ :‬ل ِقن َ‬


‫ْت َفا ْل َز ْم»‪ ،‬أي‪ :‬الزم هذا الذي أكرمك‬ ‫ٍ‬
‫راض‪ .‬فقوله‪َ « :‬ع َر ْف َ‬ ‫أن َتل َقوا َ‬
‫اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وهو عنكم‬

‫اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬به وم ّن عليك به‪.‬‬

‫مقارب لما يف هذه الطريق مع اختالف يسير يف األلفاظ – قال‪َ « :‬ع َز َف ْت َن ْف ِسي َع ِن‬
‫ٌ‬ ‫ويف الطريق الثانية ‪-‬‬
‫الدُّ ْن َيا»‪ ،‬وهذا مفسر لما يف الرواية األولى‪ ،‬قال‪َ « :‬أ ْط َل ْقت َن ْف ِسي َع ِن الدُّ ْن َيا»‪ .‬وقوله « َو َأ ْظ َم ْأت ن ََه ِ‬
‫اري» هو‬

‫اج ِري»‪ ،‬أي‪ :‬بالصيام‪ .‬وقوله « َف َأ ْس َه ْرت َل ْيلِي» نظير ما يف‬


‫بمعنى قوله يف الرواية األولى‪َ « :‬و َأ ْظم ْأت َه َو ِ‬
‫َ‬
‫اب‪َ ،‬و َل َك َأني َأنْظر إِ َلى َأ ْه ِل ا ْل َجن ِة‬ ‫ش ربي َقدْ أب ِر َز ل ِ ْل ِ‬
‫ح َس ِ‬ ‫ْ‬ ‫الرواية األولى‪ .‬قال‪َ « :‬و َل َك َأن َما َأنْظر إِ َلى َع ْر ِ َ‬
‫ون فِي ا ْل َجن ِة‪َ ،‬و َل َك َأني َأ ْس َمع ع َوا َء َأ ْه ِل الن ِ‬
‫ار» ‪ -‬أي‪ :‬صراخهم وبكاءهم ‪َ « -‬ق َال‪َ :‬ف َق َال َله‪َ :‬ع ْبد ن ََّو َر‬ ‫َيت ََز َاور َ‬
‫ِ‬
‫واستمر عليه إلى أن يتوفاك اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‬ ‫ان فِي َق ْلبِ ِه‪َ ،‬أ ْو َع َر ْف َ‬
‫ت َفا ْل َز ْم»‪ ،‬أي‪ :‬الزم هذا األمر‬ ‫يم َ‬ ‫اهللُ ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫‪ -‬وأنت على هذه الحال‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪39‬‬
‫والحديث لم يثبت‪ .‬اإلسناد األولى فيها أبو معشر وهو ضعيف‪ .‬ومحمد بن صالح األنصاري من أتباع‬

‫التابعين‪ ،‬فاإلسناد معضل‪ .‬وكذلك الطريق األخرى عن زبيد قال‪« :‬قال رسول اهلل ﷺ‪ ،»...‬وزبيد لم يدرك‬

‫أحدً ا من الصحابة‪ ،‬فاإلسناد كذلك معضل‪ .‬وجاء هذا الحديث من طرق ال تخلو من كالم‪ ،‬وقد جمع‬

‫كثيرا منها الحافظ ابن حجر يف كتابه «اإلصابة» يف ترجمة عوف بن مالك ﭬ؛ جمع روايات هذا الحديث‬
‫ً‬
‫وطرقه‪ ،‬وتوسع يف ذلك يف كتابه «اإلصابة»‪ .‬والحديث غير ثابت‪ ،‬وعلى فرض ثبوته ‪ -‬كما يقول شيخ‬

‫اإلسالم ابن تيمية رحمه اهلل تعالى‪ -‬فإن قوله‪َ « :‬أ ْص َب ْحت م ْؤمِنًا َحقا» وإقرار النبي له على هذه الكلمة‪،‬‬

‫حمل على أصل اإليمان ال على تمامه وكماله‪.‬‬


‫ي َ‬

‫قال‪:‬‬

‫اح َة َي ْأخذ بِ َي ِد الن ْف ِر‬ ‫ِ‬ ‫(‪ )116‬حد َثنَا َأبو أسامةَ‪َ ،‬عن موسى ب ِن مسلِ ٍم‪ ،‬نا ابن سابِ ٍ‬
‫ط‪َ ،‬ق َال‪ :‬ك َ‬
‫َان َع ْبد اهلل ْبن َر َو َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬

‫يمانًا‪َ .‬ت َعا َل ْوا ن َْذك ُُر اهللَ بِ َطا َعتِ ِه‪َ ،‬ل َع َّل ُه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن َأ ْص َحابِه َف َيقول‪َ « :‬ت َعا َل ْوا َف ْلن ُْؤم ُن َسا َعةً‪َ .‬ت َعا َل ْوا َف ْلن َْذ ُكرِ اهللَ َو ْل َت ْز َدا ُدوا إِ َ‬
‫ُي ْذك ُُرنَا بِ َمغ ِْف َرتِ ِه»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عبد اهلل بن رواحة ﭬ أنه كان « َي ْأخذ بِ َي ِد الن ْف ِر مِ ْن َأ ْص َحابِ ِه‬

‫اهلل بِ َطا َعتِ ِه‪َ ،‬ل َعله ي ْذكرنَا‬ ‫اهلل َو ْلت َْز َدادوا إِ َ‬
‫يمانًا‪َ .‬ت َعا َل ْوا ن َْذكر َ‬
‫ِ‬
‫َف َيقول‪َ :‬ت َعا َل ْوا َف ْلن ْؤمن َسا َع ًة‪َ .‬ت َعا َل ْوا َف ْلن َْذك ِر َ‬
‫بِ َم ْغ ِف َرتِ ِه»‪ .‬وقد مر معنا نظير هذا األثر المروي عن عبد اهلل بن رواحة؛ مر معنا نظيره عن معاذ‪ ،‬وعن عمر‪،‬‬

‫وجاء هذا المعنى عن غير واحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان‪ .‬وهذا كما أسلفت من عنايتهم ‪-‬‬

‫رضي اهلل عنهم ورحمهم ‪ -‬باإليمان‪ ،‬واهتمامهم به‪ ،‬وتواصيهم على حفظه والمحافظة عليه‪ ،‬وعملهم‬

‫على زيادتة وتقويته وتنميته بالمجالس المباركة‪ ،‬مجالس الخير والتعاون والتذاكر‪ ،‬بذكر اهلل ‪ -‬عز وجل‪،‬‬

‫وذكر أسمائه وصفاته وعظمته‪ ،‬وتالوة آياته‪ ،‬ومعرفة معاين كالمه‪ ،‬وتدبر القرآن الكريم‪ ،‬والتفقه يف دين اهلل‬

‫‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬كل ذلكم داخل يف باب تقوية اإليمان وزيادته بذكر اهلل ‪ -‬جل وعال‪ .‬ومجالس العلم‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪40‬‬

‫التي يبين فيها الحالل والحرام وتوضح فيها األحكام هي من مجالس الذكر؛ ليست مجالس غفلة‪ ،‬بل هي‬

‫مجالس ذكر هلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ ،‬ويثيب اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الجالسين فيها ثواب الذاكرين له ‪-‬‬

‫سبحانه وتعالى‪ .‬ويذكر أن أحد السلف كان يف مجلس علم يبين للناس الحالل والحرام‪ ،‬فكان يف المجلس‬

‫شاب‪ ،‬فقال‪« :‬يا قوم اذكروا اهلل!» ‪ -‬سبحوا‪ ،‬هللوا‪ ،‬اذكروا اهلل ‪ -‬فقال‪« :‬يا هذا ونحن من اليوم يف ماذا؟»‬

‫فمجالس العلم التي يبين فيها الحالل والحرام‪ ،‬وتتلى فيها اآليات وأحاديث الرسول ‪ -‬عليه الصالة‬

‫والسالم ‪ -‬هذه كلها مجالس ذكر هلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ ،‬تحفها المالئكة‪ ،‬وتغشاها الرحمة‪ ،‬وتنزل عليها‬

‫السكينة‪ ،‬ويذكر اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أهلها يف من عنده‪ .‬والصحابة ﭫ يعتنون هبذه المجالس‬

‫حرصا منهم على اإليمان وتقويته‪ .‬وقلب اإلنسان بحسب ما يرد‬


‫ً‬ ‫ويتواصون على جلوسها والعناية هبا‬

‫عليه؛ فإذا جلس مجالس الخير وسمع الخير وأخذ يتلقاه ويستفيده وينتفع به زاد إيمانه بذلك‪ ،‬وإذا انصرف‬

‫إلى مجالس غفلة وجلس فيها ونظر إليها واستمع فإن الواردات التي ترد على قلبه يف مجالس الغفلة‬

‫تضعف اإليمان الذي يف قلبه‪ .‬فالعبد يحتاج دو ًما إلى العناية بمجالس الخير ومالزمتها ليزداد بذلك إيمانه‬

‫ولتقوى بذلك صلته باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫ويروي هذا األثر عن عبد اهلل بن رواحة ﭬ ابن سابط ‪ -‬وهو عبد الرحمن بن سابط‪ :‬ثقة كثير اإلرسال‪.‬‬

‫وبين العالمة األلباين ‪ $‬يف التعليق على «كتاب اإليمان» أنه لم يدرك ابن رواحة‪ .‬والمعنى من حيث هو‬

‫ثابت عن غير واحد من أصحاب النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬من حيث‬

‫تواصيهم باإليمان‪ ،‬وعنايتهم به‪ ،‬وعملهم على تقويته وزيادته‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ان‬
‫يم َ‬ ‫ب‪َ ،‬عن َأبِي ص ِ‬
‫اد ٍق‪َ ،‬ع ْن َعلِي ﭬ َق َال‪« :‬إِ َّن ل ْ ِ‬ ‫(‪َ )١١٧‬حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ‬
‫ون‪ ،‬نا ا ْل َعوام ْبن َح ْو َش ٍ‬
‫ْل َ‬ ‫ٍّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يم ِ‬
‫ان‪َ ،‬ف َم ْن َآم َن َص َّلى‪َ ،‬و َم ْن َص َّلى‬ ‫الص ََلةُ‪َ ،‬وا ْل َج َما َعةُ؛ َف ََل ُت ْق َب ُل َص ََلة إِ َّال فِي ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫ان‪َ ،‬و َّ‬
‫يم ُ‬ ‫ث َأ َثافِي‪ِ ْ :‬‬
‫ال َ‬ ‫َث ََل َ‬
‫َّ‬
‫ال ْس ََل ِم َع ْن ُعن ُِق ِه»‪.‬‬
‫َج َام َع‪َ ،‬و َم ْن َف َار َق ا ْل َج َما َع َة قِيدَ ِش ْبر َخ َل َع َر َق َب َة ْ ِ‬
‫‪41‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪41‬‬
‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد المصنف اإلمام ابن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن علي بن أبي طالب ‪ -‬رضي اهلل‬

‫ث َأ َثافِي»‪ ،‬هكذا جاءت اللفظة يف المطبوع من «كتاب اإليمان»‪،‬‬


‫ان َث َال َ‬ ‫لإلِ َ‬
‫يم َ‬ ‫عنه وأرضاه ‪ -‬أنه قال‪« :‬إِن ْ‬

‫إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي»‪ً ،‬‬


‫وأيضا روى هذا األثر‬ ‫وجاءت يف «المصنف» البن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪« :‬إِن ا ْ ِ‬

‫الاللكائي يف «شرح االعتقاد» من طريق يزيد بن هارون ‪ -‬شيخ ابن أبي شيبة ‪ -‬باإلسناد نفسه بلفظ‪« :‬إِن‬

‫إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي»‪،‬‬


‫إلس َالم َث َالث َأ َثافِي»‪ ،‬وكذلك ابن عبد الرب يف «التمهيد» وغيرهم هبذا اللفظ‪« :‬إِن ا ْ ِ‬
‫اْ ْ َ‬
‫ِ‬

‫وهو الصواب‪.‬‬

‫إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي»‪ ،‬واألثايف هي الحجارة التي يوضع عليها القدر‪ ،‬ليتكئ عليها وي َ‬
‫نضج الطعام‬ ‫قال‪« :‬إِن ا ْ ِ‬

‫ويوضع تحته النار؛ فيكون على ثالث أثايف‪ ،‬أي‪ :‬على ثالثة أحجار‪ .‬وكانت العرب إذا أرادوا رمي شخص‬

‫مثال ‪ -‬بعظيمة‪ ،‬أو الدعاء عليه بعظيمة‪ ،‬قالوا‪« :‬ثال ِ َثة األثايف» ‪« -‬ألقاه اهلل يف ثالثة األثايف»‪ ،‬أو – ً‬
‫مثال ‪ -‬يف‬ ‫– ً‬

‫األمر العظيم أو المصيبة المهيلة يقولون‪« :‬هذه ثال ِ َثة األثايف»‪ .‬ومرادهم بـ«ثالثة األثايف» الجبل أو الضلع‬

‫الكبير‪ .‬إذا وجد اإلنسان حجرين ال يتكئ عليهما القدر ولم يجد ثال ًثا فيأيت إلى جنب الجبل ويضع‬

‫الحجرين ويكون ثالث األثايف الجبل‪ .‬فقولهم «ثالثة األثايف» ‪ -‬عندما يرمى هبا شخص بمصيبة أو داهية ‪-‬‬

‫مثل الجبل‪ ،‬ومرادهم بـ«ثالثة األثايف» الجبل الذي يكون القدر يتكأ على طرفه‪ ،‬والطرفين الباقيين يكون‬

‫فيهما أو تحتهما حجران‪ ،‬فيرسو بذلك القدر‪.‬‬

‫إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي»‪ ،‬يعني‪ :‬اإلسالم يرتكي ويقوم على ثالث دعائم وركائز‪ ،‬وبدون‬
‫الشاهد قوله هنا‪« :‬إِن ا ْ ِ‬

‫هذه الركائز الثالث ال يقوم‪ .‬والعوام يقولون‪« :‬القدر ما يرتكي إال على ثالث» يعني‪ :‬على حجرين ما‬

‫إل ْس َال َم َث َالث َأ َثافِي»‪ ،‬أي‪ :‬ال يرتكي وال يثبت إال عليها؛ فلو و ِجد اثنان منها ال يثبت‪،‬‬
‫يرتكي‪ .‬فيقول‪« :‬إِن ا ْ ِ‬

‫وال يكون له قيام إال بوجود هذه الثالث‪ .‬ما هي؟‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪42‬‬
‫ِ‬
‫قال‪ْ « :‬اإل َ‬
‫يمان» أي‪ :‬اإليمان باهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وبوحدانية اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وتحقيق التوحيد واإلخالص‪،‬‬
‫ِ‬
‫ومراده بـ« ْاإل َ‬
‫يمان» أي‪ :‬اإليمان بوحدانية اهلل ‪ -‬عز وجل – يف ربوبيته وألوهيته وأسمائه ‪ -‬سبحانه وتعالى‬

‫‪ -‬وصفاته‪.‬‬

‫واألمر الثاين‪ ،‬قال‪َ « :‬والص َالة»‪ ،‬والمراد بالصالة أي‪ :‬المكتوبة التي افرتضها اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬على‬

‫عباده‪ .‬وقد مر معنا يف الحديث ‪ -‬حديث معاذ – قال‪« :‬أال أخبرك برأس اِلمر وعموده وذروة سنامه؟»‬

‫يمان»‪ ،‬واألمر الثاين‬ ‫فذكر‪« :‬رأس اِلمر السَلم»‪ ،‬وعرفنا أن المراد به التوحيد ‪ -‬وهو المراد هنا بقوله « ْ ِ‬
‫اإل َ‬
‫‪َ « -‬والص َالة» ‪ -‬الذي هو عماد الدين‪ .‬واألمر الثالث‪ ،‬قال‪َ « :‬وا ْل َج َما َعة»‪.‬‬

‫ِ ِ‬
‫اإليم ِ‬
‫ان»؛ ألن اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول‪ :‬ﭿ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ‬ ‫قال‪َ « :‬ف َال ت ْق َبل َص َال ٌة إِال في ْ َ‬
‫أيضا قول اهلل ‪ -‬عز وجل‪ :‬ﭿﭤ‬
‫ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭾ [المائدة‪ ،]5 :‬فالصالة ال تقبل إال باإليمان‪ .‬ومن ذلكم ً‬

‫ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭾ [اإلسراء‪ .]١9 :‬فالعمل ال يقبل إال باإليمان ‪-‬‬

‫أي‪ :‬باهلل عز وجل‪ ،‬وبكل ما أمر عباده ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬باإليمان به‪.‬‬

‫ِ ِ‬
‫اإليم ِ‬
‫ان‪َ ،‬ف َم ْن آ َم َن َصلى‪َ ،‬و َم ْن َصلى َجا َم َع»‪ ،‬أي‪ :‬لزم الجماعة‪ .‬وهذا ً‬
‫أيضا‬ ‫قال‪َ « :‬ف َال ت ْق َبل َص َال ٌة إِال في ْ َ‬
‫ِ‬
‫لمحافظة المسلم على الصالة يف المساجد من تحقيق الجماعة‪ ،‬التي هي مقصد من‬ ‫فيه األثر المبارك‬

‫َ‬
‫المبارك المتكرر يف اليوم والليلة خمس مرات يف المساجد‪،‬‬ ‫الجمع‬
‫َ‬ ‫مقاصد الشريعة يف جمع الناس هذا‬

‫فتجتمع أبداهنم‪ ،‬وتأتلف قلوهبم‪ ،‬وتقوى صلتهم‪ ،‬وتتحقق لهم بذلك خيريتهم‪ ،‬إلى غير ذلك من المصالح‬

‫واآلثار المباركة العائدة عليهم بمحافظتهم على هذه الصالة يف جماعة المسلمين‪.‬‬

‫اإل ْس َال ِم َع ْن عن ِق ِه»؛ ألنه ال إسالم إال بجماعة‪ .‬الصالة وأعمال‬


‫قال‪َ « :‬وم ْن َفار َق ا ْل َجما َع َة قِيدَ ِش ْب ٍر َخ َل َع ر َق َب َة ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫الدين كلها ال تتحقق وال تتم للناس ‪ -‬والصالة يف المساجد وأعمال الرب وغير ذلك ‪ -‬ال تتحقق إال‬

‫بالجماعة‪ .‬ولهذا قالوا‪« :‬ال إسالم إال بجماعة‪ ،‬وال جماعة إال بأمير‪ ،‬وال أمير إال بسمع وطاعة»‪ ،‬فهذه أمور‬
‫ِ‬
‫آخ ٌذ بعضها بح َج ِز بعض‪ ،‬وكل منهما ال يتحقق إال بتحقق اآلخر‪ .‬ولهذا جاءت النصوص الكثيرة يف الحث‬
‫‪43‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪43‬‬
‫أيضا النصوص الكثيرة يف الحث على السمع والطاعة لألمراء وللوالة ‪-‬‬
‫على لزوم الجماعة‪ ،‬وجاءت ً‬

‫فجارا؛ ألن الصالة والجماعة وأعمال الرب وطلب العلم وغير ذلك من األعمال ما تنتظم‬
‫ً‬ ‫أبرارا كانوا أو‬
‫ً‬
‫وال تستقيم إال إذا كان للمسلمين جماعة‪ ،‬وال يكون لهم جماعة إال بإمام وأمير‪ ،‬وال أمير إال بسمع وطاعة‪.‬‬

‫فهذه األمور كلها منتظمة‪ ،‬ال بد من تحقيقها لينتظم بذلك أمر المسلمين‪.‬‬

‫وهذا األثر يرويه أبو صادق األزدي‪ ،‬وحديثه عن علي ﭬ مرسل‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ان ْب ِن َعطِيةَ‪َ ،‬ع ْن َأبِي أ َما َمةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َرسول‬ ‫ون‪ ،‬نا محمد بن م َطر ٍ‬
‫ف‪َ ،‬ع ْن َحس َ‬ ‫َ ْ‬ ‫(‪َ )١١٨‬حد َثنَا َي ِزيد ْبن َهار َ‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫ال َ‬ ‫اهللِ ﷺ‪« :‬ا ْل َح َيا ُء َوا ْل ِعي ُش ْع َبت ِ‬
‫َان ِم َن ْ ِ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن أبي أمامة الباهلي ﭬ قال‪َ « :‬ق َال َرسول اهللِ ﷺ‪ :‬ا ْل َح َيا ُء‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪ .‬ومر معنا فيما يتعلق بالحياء أنه من شعب اإليمان ‪ -‬مر معنا غير حديث عند‬ ‫َان ِم َن ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫َوا ْل ِعي ُش ْع َبت ِ‬

‫المصنف يف هذا المعنى‪ .‬وقوله‪َ « :‬وا ْل ِعي» بكسر العين‪ .‬والمراد بالعي هنا قلة الكالم إال عن حاجة‪ ،‬بمعنى‬

‫وأيضا قليل الكالم ال يتكلم إال عن حاجة‪ ،‬فهذا من اإليمان‪ .‬وقد قال ‪ -‬عليه‬
‫أن اإلنسان إذا كان ذا حياء‪ً ،‬‬
‫َان ي ْؤ ِمن بِاهلل ِ واليو ِم ِ‬
‫اآلخرِ َف ْل َي ُق ْل َخ ْي ًرا َأ ْو لِ َي ْص ُم ْ‬
‫ت»‪ .‬فمن اإليمان أن ال يتكلم‬ ‫َ َْ‬ ‫الصالة والسالم‪َ « :‬م ْن ك َ ُ ُ‬

‫اإلنسان إال عن حاجة و يف شيء نافع ومفيد‪ ،‬وال يرخي للسانه العنان فيتكلم متى شاء بدون خطام وال‬

‫زمام؛ ألنه إذا أطلق للسانه العنان أورده الموارد‪ ،‬وأدخله يف المعاطب‪ .‬ولهذا كان بعض السلف يمسك‬
‫ول ِسج ٍن مِن لِس ٍ‬ ‫بلسان نفسه ويقول‪َ « :‬وال ِذي َال إِ َل َه َغ ْيره‪َ ،‬ما َع َلى ْاألَ ْر ِ‬
‫ان»‪ .‬والكلمة‬ ‫ْ َ‬ ‫ض َش ْي ٌء َأ ْح َوج إِ َلى ط ِ ْ‬

‫ما لم تخرج من اإلنسان يملكها‪ ،‬وإذا خرجت َم َل َك ْته وأصبحت من عمله‪ .‬وقد جاء عن بعض السلف‪:‬‬

‫«من كثر كالمه كثر َس َقطه»‪ ،‬ولهذا كان من اإليمان حفظ اللسان وصيانة المنطق‪ ،‬وأال يتكلم اإلنسان إال‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪44‬‬

‫عن حاجة‪ .‬هذا معنى قوله هنا يف هذا الحديث‪َ « :‬وا ْل ِعي»‪ ،‬فالحياء عرفناه والعي المراد به‪ :‬قلة الكالم‪ .‬هذا‬

‫من اإليمان‪.‬‬

‫َان ِم َن النِّ َف ِ‬
‫اق»‪ .‬والبذاء ضد الحياء‪،‬‬ ‫ان ُش ْع َبت ِ‬
‫والحديث رواه الرتمذي وغيره‪ ،‬وفيه زيادة‪َ « :‬وال َب َذا ُء َوال َب َي ُ‬

‫والبيان ‪ -‬يف هذا الحديث ‪ -‬ضد العي‪ ،‬والمراد بالبيان أي‪ :‬التشدق والتوسع يف الكالم وكثرة الحديث‬

‫بدون مباالة وبدون ضابط‪ ،‬وإنما ينظر فقط لفصاحته وجمال أسلوبه‪ ،‬أو طريقته أو انشداد الناس إليه يف‬
‫َان ِم َن النِّ َف ِ‬
‫اق»‪ ،‬والمراد‬ ‫ان ُش ْع َبت ِ‬
‫كالمه أو نحو ذلك‪ .‬فهذا يقول ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪َ « :‬وال َب َذا ُء َوال َب َي ُ‬

‫باليبان أي‪ :‬التشدق والتوسع يف الكالم دون أن يراعي يف كالمه ضوابط الشريعة وحدودها فيما يتعلق‬

‫بصيانة اللسان وحفظه‪.‬‬

‫والحديث ‪ -‬كما أشرت ‪ -‬رواه الرتمذي وغيره‪ .‬وممن رواه الخرائطي يف كتابه «مكارم األخالق» من‬

‫طريق يزيد بن هارون ‪ -‬شيخ المصنف ‪ -‬به‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ب‪َ ،‬ع ِن ا ْب ِن ب َر ْيدَ ةَ‪َ ،‬ق َال‪َ :‬و َر ْدنَا ا ْل َم ِدينَ َة َف َأ َت ْينَا َع ْبدَ‬ ‫(‪ )١١9‬حد َثنَا ابن ف َضيلٍ‪َ ،‬عن َع َط ِ‬
‫اء ْب ِن السائِ ِ‬
‫ب‪َ ،‬ع ْن م َح ِ‬
‫ار ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬

‫ون َأ ْن َال َقدَ َر‪َ ،‬ف َق َال‪ :‬مِ َن‬ ‫اهللِ ْب َن ع َم َر َفق ْلنَا‪َ :‬يا َأ َبا َع ْب ِد الر ْح َم ِن إِنا ن ْم ِع َن فِي ْاألَ ْر ِ‬
‫ض‪َ ،‬فنَ ْل َقى َق ْو ًما َي ْزعم َ‬

‫ب‪َ ،‬حتى َو ِد ْدت َأني َل ْم َأك ْن َس َأ ْلته‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬


‫ا ْلم ْسلِمي َن مم ْن ي َصلي ل ْلق ْب َلة؟ َف َق َال‪َ :‬ن َع ْم‪ ،‬مم ْن ي َصلي ل ْلق ْب َلة‪َ .‬ق َال‪َ :‬ف َغض َ‬

‫يت أو َلئِ َك َف َأ ْخبِ ْره ْم َأن َع ْبدَ اهللِ ْب َن ع َم َر مِنْه ْم َب ِري ٌء‪َ ،‬و َأنه ْم مِنْه ب َرآء‪ ،‬ثم َق َال‪ :‬إِ ْن ِش ْئ َت َحد ْثت َك‬
‫ثم َق َال‪ :‬إِ َذا َل ِق َ‬
‫ول اهللِ ﷺ‪َ ،‬ف َأ َتى َرج ٌل َجيد الث َي ِ‬
‫اب‪َ ،‬طيب الريحِ ‪َ ،‬ح َسن‬ ‫ول اهللِ ﷺ؟ َف َق َال‪َ :‬أ َج ْل َق َال‪ :‬كنا ِعنْدَ رس ِ‬
‫َ‬
‫َع ْن رس ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ا ْلوج ِه َف َق َال‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫الص ََلةَ‪َ ،‬وت ُْؤتِي ال َّزكَاةَ‪َ ،‬وت َُصو ُم َر َم َض َ‬
‫ان‪،‬‬ ‫يم َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ول اهلل َما ْاإل ْس َالم؟ َق َال َرسول اهلل ﷺ‪« :‬تُق ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ‬

‫يمان؟ َف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫ت‪ ،‬و َت ْغت َِس ُل ِمن ا ْلجنَاب ِة»‪َ .‬ق َال‪ :‬صدَ ْق َت ثم َق َال‪ :‬يا رس َ ِ‬
‫ول اهلل َما ْاإل َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َوت َُحج ا ْل َب ْي َ َ‬

‫ين‪َ ،‬وبِا ْل َقدَ ِر َخ ْي ِر ِه َو َش ِّر ِه‪َ ،‬و ُح ْل ِو ِه َو ُم ِّر ِه»‪َ .‬ق َال‪:‬‬ ‫«ت ُْؤ ِم ُن بِاهللِ‪َ ،‬وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخرِ‪َ ،‬وا ْل َم ََلئِك َِة‪َ ،‬وا ْلكِت ِ‬
‫َاب‪َ ،‬والنَّبِ ِّي َ‬
‫‪45‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫الر ُج ِل»‪َ .‬ق َال‪َ :‬فق ْمنَا بِ َأ ْج َم ِعنَا َف َط َل ْبنَاه‪َ ،‬ف َل ْم َن ْق ِد ْر َع َل ْي ِه‪،‬‬
‫‪45‬‬ ‫ِ‬
‫ف َف َق َال َرسول اهلل ﷺ‪َ « :‬ع َل َّي بِ َّ‬
‫َصدَ ْق َت‪ .‬ثم ان َْص َر َ‬

‫الس ََل ُم‪َ ،‬جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر ِدينِك ُْم»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َف َق َال النبِي ﷺ‪َ « :‬ه َذا ِج ْبرِ ُ‬
‫يل َع َل ْيه َّ‬ ‫ُّ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬وهو حديث مشهور بـ«حديث جربيل» حيث جاء إلى النبي ‪-‬‬

‫عليه الصالة والسالم ‪ -‬والصحابة جلوس عنده ﷺ‪ ،‬فجاء على صورة أعرابي شديد بياض الثياب شديد‬

‫سواد الشعر‪ ،‬وسأل النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬سؤاالت ثم انصرف‪ .‬ويف تمام الحديث قال النبي ‪-‬‬

‫الس ََل ُم‪َ ،‬جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر ِدينِك ُْم»‪ ،‬فعلِم بذلك أن هذا الذي‬ ‫ِ‬ ‫عليه الصالة والسالم‪َ « :‬ه َذا ِج ْبرِ ُ‬
‫يل َع َل ْيه َّ‬
‫اشتمل عليه الحديث هو ديننا‪ .‬فالحديث فيه جماع الدين‪ ،‬وكل التفاصيل الواردة يف سنة النبي ‪ -‬عليه‬

‫الصالة والسالم ‪ -‬يف بيان دين اهلل راجع ٌة إلى هذا الحديث؛ فهو جماع دين اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى‪ .‬ولهذا‬

‫بعض العلماء يسمي هذا الحديث – حديث جربيل المشهور ‪« -‬أم السنة»‪ ،‬مثلما أن الفاتحة تسمى «أم‬

‫تفصيال‪ ،‬وهذا الحديث يسمى‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫إجماال ما حواه القرآن‬ ‫القرآن»‪ .‬والفاتحة تسمى «أم القرآن»؛ ألهنا حوت‬

‫تفصيال‪ ،‬ويدل لذلك قوله ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬يف تمام‬


‫ً‬ ‫ً‬
‫إجماال ما حوته السنة‬ ‫«أم السنة»؛ ألنه حوى‬

‫ً‬
‫إجماال يف هذا‬ ‫الس ََل ُم‪َ ،‬جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر ِدينِك ُْم»‪ ،‬فالدين اجتمع بيانه‬ ‫ِ‬ ‫الحديث‪َ « :‬ه َذا ِج ْبرِ ُ‬
‫يل َع َل ْيه َّ‬
‫الحديث العظيم المبارك‪ .‬والمصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬روى هذا الحديث هنا من حديث ابن عمر يرويه‬

‫عن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬والحديث يف «صحيح مسلم» يرويه ابن عمر عن أبيه قال‪َ « :‬ب ْين ََما ن َْحن‬

‫ول اهللِ ﷺ َذ َ‬
‫ات َي ْومٍ‪ ،‬إِ ْذ َط َل َع َع َل ْينَا َرج ٌل‪ »...‬إلى آخر الحديث المشهور‪.‬‬ ‫ِعنْدَ رس ِ‬
‫َ‬

‫وأورد له قصة‪ ،‬يقول ابن بريدة ‪ -‬عبد اهلل – قال‪َ « :‬و َر ْدنَا ا ْل َم ِدينَ َة َف َأ َت ْينَا َع ْبدَ اهللِ ْب َن ع َم َر َفق ْلنَا‪َ :‬يا َأ َبا َع ْب ِد‬
‫ض» أي‪ :‬ن ِ‬
‫بعد يف السير والسفر يف األرض؛ يقال‪ :‬أمعن يف األرض‪ ،‬أي‪ :‬سافر‬ ‫الر ْح َم ِن إِنا ن ْم ِع َن فِي ْاألَ ْر ِ‬

‫سفرا بعيدً ا‪ ،‬فيقول نحن «ن ْم ِع َن فِي ْاألَ ْر ِ‬


‫ض»‪ ،‬يعني‪ :‬نسافر يف بعض المرات مسافات بعيدة‪ .‬يقول‪:‬‬ ‫فيها ً‬
‫ون َأ ْن َال َقدَ َر»‪ ،‬يعني‪ :‬يزعمون أن األمر أنف‪ ،‬وأن األمور الواقعة من أعمال العباد ونحو‬
‫« َفنَ ْل َقى َق ْو ًما َي ْزعم َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪46‬‬

‫زعم ٌ‬
‫باطل وإنكار لركن من أركان اإليمان‬ ‫ذلك ليست بقدر اهلل‪ ،‬ولم يقدرها اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى! وهذا ٌ‬
‫وأص ٍل من أصول الدين‪ .‬فقال ابن عمر‪« :‬مِ َن ا ْلم ْسلِ ِمي َن مِم ْن ي َصلي ل ِ ْل ِق ْب َل ِة؟» يعني‪ :‬هؤالء الذين يقولون‬

‫هذا الكالم‪ ،‬هل هم كفار أصليين؟ أم ينتسبون لإلسالم ويصلون؟ « َف َق َال‪َ :‬ن َع ْم‪ ،‬مِم ْن ي َصلي ل ِ ْل ِق ْب َل ِة‪َ .‬ق َال‪:‬‬

‫ب» ‪ -‬أي‪ :‬ابن عمر ‪َ « -‬حتى َو ِد ْدت َأني َل ْم َأك ْن َس َأ ْلته»‪ ،‬وهذا غضب منه ﭬ لدين اهلل ‪ -‬عز وجل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َف َغض َ‬

‫يت أو َلئِ َك َف َأ ْخبِ ْره ْم َأن َع ْبدَ اهللِ ْب َن ع َم َر مِنْه ْم‬


‫ب َحتى َو ِد ْدت َأني َل ْم َأك ْن َس َأ ْلته‪ .‬ثم َق َال‪ :‬إِ َذا َل ِق َ‬ ‫ِ‬
‫قال‪َ « :‬ف َغض َ‬

‫َب ِري ٌء‪َ ،‬و َأنه ْم مِنْه ب َرآء»‪ ،‬يعني‪ :‬ليس منهم وليسوا منه‪ ،‬ويف رواية الحديث يف «صحيح مسلم» قال‪َ « :‬وال ِذي‬

‫َي ْحلِف بِ ِه َع ْبد اهللِ ْبن ع َم َر‪َ ،‬ل ْو َأن ِألَ َح ِد ِه ْم مِ ْث َل أح ٍد َذ َه ًبا َف َأ ْن َف َقه‪َ ،‬ما َقبِ َل اهلل مِنْه َحتى ي ْؤمِ َن بِا ْل َقدَ ِر»‪ .‬وبراءته‬

‫كفر باهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ .‬والقدر قدرة اهلل‪ ،‬فجحد القدر‬


‫منهم ألن إنكار القدر وعدم اإليمان به وجحده ٌ‬
‫اإليمان بِا ْل َقدَ ِر نِ َظام التو ِح ِ‬
‫ِ‬
‫يد»‪ ،‬يعني‪ :‬ال‬ ‫ْ‬ ‫كفر باهلل ‪ -‬عز وجل‪ .‬ولهذا جاء عن ابن عباس ﭭ أنه قال‪َ ْ « :‬‬
‫يد‪َ ،‬ف َم ْن َوحدَ َوكَذ َب بِا ْل َقدَ ِر َف َقدْ َن َق َض الت ْو ِحيدَ »‪،‬‬
‫اإليمان بِا ْل َقدَ ِر نِ َظام التو ِح ِ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫ينتظم التوحيد إال به‪ ،‬قال‪َ ْ « :‬‬
‫يعني‪ :‬نقض تكذيبه بالقدر توحيدَ ه هلل ‪-‬عز وجل‪ ،‬وانتقاضه بطالنه‪ ،‬فال َينْت َِفع به ما دام ّ‬
‫مكذ ًبا بالقدر‪ .‬فمن‬

‫كذب بالقدر لم يقبل منه عمل ولم ينتفع بطاعة؛ ألن الطاعات إنما تكون نافعة إذا كانت قائمة على‬

‫كامال – من أجل‬
‫اإليمان‪ ،‬ومن أصول اإليمان‪ :‬اإليمان بالقدر‪ .‬ولهذا ساق ابن عمر الحديث بتمامه – ً‬

‫ان‪َ ،‬ق َال‪َ :‬أ ْن ت ُْؤ ِم َن بِاهللِ‪،‬‬


‫اإليم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لفظة واحدة فيه‪ ،‬وهي قوله‪َ « :‬وت ُْؤم َن بِا ْل َقدَ ِر» ‪ -‬لما قال جربيل‪َ « :‬ف َأ ْخبِ ْرني َع ِن ْ َ‬
‫َو َم ََلئِكَتِ ِه‪َ ،‬و ُك ُتبِ ِه‪َ ،‬و ُر ُس ِل ِه‪َ ،‬وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخرِ‪َ ،‬وت ُْؤ ِم َن بِا ْل َقدَ ِر َخ ْيرِ ِه َو َش ِّر ِه»‪ ،‬ف َعد ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬اإليمان‬

‫وأصال من أصول الدين‪ .‬وأمور اإليمان وأعمال الدين ال تقبل‬


‫ً‬ ‫بالقدر خيره وشره ركنًا من أركان اإليمان‬

‫إال إذا كانت قائمة على هذه األصول‪ ،‬فهي أصول لدين اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ال يقبل الدين إال هبا‪،‬‬

‫ومكانتها من الدين بمكانة األصول من األشجار‪ .‬أرأيتم الشجرة إذا قطع أصلها هل ينتفع منها بثمر؟ وقد‬

‫قال اهلل تعالى‪ :‬ﭿﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭾ [إبراهيم‪ .]24 :‬فإذا‬

‫انتفى شيء من هذه األصول الستة التي عليها قيام الدين ال ينتفع اإلنسان بعمل‪ ،‬ولهذا حلف ابن عمر باهلل‬

‫‪ -‬عز وجل ‪ -‬أن أعمال أولئك ال تقبل ما لم يؤمنوا بالقدر‪ ،‬ثم ساق الحديث‪.‬‬
‫‪47‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫ول اهللِ ﷺ‪َ ،‬ف َأ َتى َرج ٌل َجيد‬


‫ول اهللِ ﷺ؟ َف َق َال‪َ :‬أ َج ْل َق َال‪ :‬كنا ِعنْدَ رس ِ‬
‫«ثم َق َال‪ :‬إِ ْن ِش ْئ َت َحد ْثت َك َع ْن رس ِ‬
‫‪47‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اب‪َ ،‬طيب الريحِ ‪َ ،‬ح َسن ا ْل َو ْج ِه‪ ،»...‬ولفظ الحديث عند مسلم من حديث ابن عمر عن أبيه عمر بن‬
‫الث َي ِ‬

‫اب‪َ ،‬ش ِديد‬


‫اض الث َي ِ‬ ‫ول اهللِ ﷺ َذ َ‬
‫ات َي ْومٍ‪ ،‬إِ ْذ َط َل َع َع َل ْينَا َرج ٌل َش ِديد َب َي ِ‬ ‫الخطاب قال‪َ « :‬ب ْينَما ن َْحن ِعنْدَ رس ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اد الش َع ِر‪َ ،‬ال ي َرى َع َل ْي ِه َأ َثر الس َف ِر‪َ ،‬و َال َي ْع ِرفه مِنا َأ َحدٌ »‪ ،‬وهذه يف ذاك الزمان من أغرب الغرائب وأعجب‬
‫سو ِ‬
‫َ َ‬

‫مسافرا‪ ،‬وال‬
‫ً‬ ‫العجائب! أما يف زماننا هذا ليس األمر بغريب‪ :‬يأيت الرجل من أقصى الدنيا ويصل إلى التو‬

‫تشعر أنه قادم من سفر؛ ألنه ينتقل من مكان إلى مكان يف مجالس وثيرة وأجواء مكيفة‪ ،‬ال يتعرض لوهج‬

‫قديما إذا جاء الشخص من مسافة بعيدة يظهر عليه أثر السفر‪،‬‬
‫الصحراء‪ ،‬وال يتعرض لحرارة الشمس‪ .‬بينما ً‬
‫أمرا غري ًبا‪ :‬رجل‬
‫يظهر عليه لفح الشمس ووهج الصحراء وعناء السفر ووعثاؤه ‪ -‬تظهر عليه تما ًما‪ .‬فكان ً‬
‫وأيضا شعره أسود وليس عليه أثر غبار أو تراب أو نحو ذلك‪ ،‬وال يعرفه أحد! « َو َال َي ْع ِرفه‬
‫بثياب نظيفة‪ً ،‬‬

‫مِنا َأ َحدٌ »‬

‫ول اهللِ ما ْ ِ‬
‫اإل ْس َالم؟ َق َال َرسول‬ ‫« َحتى َج َل َس إِ َلى النبِي ﷺ‪ »...‬وسأله هذه السؤاالت‪ .‬قال‪َ « :‬ف َق َال‪َ :‬يا َرس َ‬
‫َ‬
‫ت‪َ ،‬و َت ْغت َِس ُل ِم َن ا ْل َجنَا َب ِة»‪ ،‬فذكر هنا أركان‬ ‫ِ‬
‫الص ََلةَ‪َ ،‬وت ُْؤتِي ال َّزكَاةَ‪َ ،‬وت َُصو ُم َر َم َض َ‬
‫ان‪َ ،‬وت َُحج ا ْل َب ْي َ‬ ‫يم َّ‬
‫ِ‬
‫اهلل ﷺ‪ :‬تُق ُ‬
‫اإلسالم‪ ،‬ويف حديث عمر يف «صحيح مسلم» ذكر ً‬
‫أوال الشهادتين‪ ،‬شهادة أن ال إله إال اهلل وأن محمد‬

‫رسول اهلل‪ ،‬ثم ذكر بقية أركان اإلسالم‪.‬‬

‫يمان؟ َف َق َال َرسول اهللِ ﷺ‪ :‬ت ُْؤ ِم ُن بِاهللِ‪َ ،‬وا ْل َي ْو ِم ْاآل ِخرِ‪َ ،‬وا ْل َم ََلئِك َِة‪،‬‬ ‫ول اهللِ ما ْ ِ‬
‫اإل َ‬ ‫َ‬ ‫« َق َال‪َ :‬صدَ ْق َت ثم َق َال‪َ :‬يا َرس َ‬

‫ين‪َ ،‬وبِا ْل َقدَ ِر َخ ْيرِ ِه َو َش ِّر ِه‪َ ،‬و ُح ْل ِو ِه َو ُم ِّر ِه»‪ ،‬أي‪ :‬من اهلل تعالى‪ ،‬أي‪ :‬أن األمور كلها بقدر‪ ،‬ﭿﰌ‬ ‫َوا ْلكِت ِ‬
‫َاب‪َ ،‬والنَّبِ ِّي َ‬

‫ﰍ ﰎ ﰏ ﰐﭾ [القمر‪ ،]49 :‬ﭿﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﭾ [طه‪ ،]40:‬ﭿﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﭾ [األحزاب‪ ،]٣٨ :‬ﭿﮕ ﮖ ﮗ ﮘ‬

‫ﮙ ﮚﭾ [البقرة‪ ،]20 :‬ﭿﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵﭾ [التكوير‪ .]29 :‬فاألمور كلها بقدر اهلل وقضائه‪ ،‬وال يمكن‬

‫أن يقع شيء يف ملك اهلل لم يشأه ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ ،‬فالملك ملكه‪ ،‬والخلق خلقه‪ ،‬والعبيد عبيده‪ ،‬وال‬

‫يمكن أن يقع يف هذا الملك شيء لم يشأه‪ ،‬ومن قال بخالف ذلك ادعى بذلك ‪ -‬شاء أم أبى ‪ -‬أن هناك‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪48‬‬

‫خال ًقا غير اهلل! ولهذا قال أئمة السلف ‪-‬رحمهم اهلل‪ -‬عمن ينكرون القدر‪ ،‬قالوا‪ :‬هؤالء مجوس هذه األمة؛‬

‫ألهنم بذلك يقولون ‪ -‬أو يلزمهم بذلك ‪ -‬أن هناك خال ًقا غير اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫ف»‪ ،‬ويف حديث عمر الذي يف «صحيح مسلم» سأله عن اإلحسان قال ‪َ « :‬أ ْن َت ْع ُبدَ‬
‫« َق َال‪َ :‬صدَ ْق َت‪ .‬ثم ان َْص َر َ‬

‫أيضا عن الساعة وعن أشراطها وأماراهتا‪ .‬قال‪« :‬ثم‬


‫اك»‪ ،‬ثم سأله ً‬ ‫اهللَ ك ََأن َ‬
‫َّك ت ََرا ُه‪َ ،‬فإِ ْن َل ْم َتك ُْن ت ََرا ُه َفإِ َّن ُه َي َر َ‬

‫الر ُج ِل»‪ ،‬أي‪ :‬ائتوين به‪َ « ،‬ق َال‪َ :‬فق ْمنَا بِ َأ ْج َم ِعنَا‬ ‫ِ‬
‫ف» أي‪ :‬هذا الرجل‪َ « ،‬ف َق َال َرسول اهلل ﷺ‪َ :‬ع َل َّي بِ َّ‬
‫ان َْص َر َ‬

‫الس ََل ُم‪َ ،‬جا َءك ُْم ُي َع ِّل ُمك ُْم َأ ْم َر‬ ‫ِ‬ ‫َف َط َل ْبنَاه‪َ ،‬ف َل ْم َن ْق ِد ْر َع َل ْي ِه»‪ ،‬يعني‪ :‬لم نجده‪َ « ،‬ف َق َال النبِي ﷺ‪َ :‬ه َذا ِج ْبرِ ُ‬
‫يل َع َل ْيه َّ‬ ‫ُّ‬
‫ِدينِك ُْم»‪ .‬وهذه الجملة التي ختم هبا النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬هذا الحديث العظيم تبين مكانة هذا‬

‫النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬الدي َن كله‪.‬‬


‫الحديث‪ ،‬وأنه جماع للدين كله‪ ،‬جمع فيه ُّ‬

‫والحديث ‪ -‬يف إسناد المصنف ‪ -‬فيه ابن فضيل‪ ،‬شيخ المصنف‪ ،‬وهو محمد بن فضيل بن غزوان‪ ،‬سماعه‬

‫من عطاء بن السائب كان بعد اختالطه‪ ،‬وقد سبق اإلشارة إلى هذا يف إسناد مر معنا عند المصنف ‪$‬‬

‫برقم (‪ )4‬يف أوائل الكتاب‪ .‬والحديث ثابت كما عرفنا‪ ،‬وهو يف «صحيح مسلم» عن ابن عمر عن أبيه قال‪:‬‬

‫ول اهللِ ﷺ‪ »...‬وذكر الحديث بتمامه‪.‬‬


‫« َب ْينَما ن َْحن ِعنْدَ رس ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫قال‪:‬‬

‫اق‪َ ،‬ع ْن َأبِي َل ْي َلى ا ْلكِن ِْدي‪َ ،‬ع ْن ح ْج ِر ْب ِن َع ِد ٍّي‪َ ،‬ق َال‪ :‬نا‬ ‫(‪َ )١20‬حد َثنَا ا ْبن َم ْه ِد ٍّي‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬
‫يم ِ‬ ‫ور َش ْط ُر ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫ال َ‬ ‫َعلي‪« :‬إِ َّن الط ُه َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم ساق المصنف ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن علي ﭬ موقو ًفا عليه ‪ -‬وقد صح عن النبي ﷺ‬

‫ور» بضم الطاء‪« ،‬إِن ال ُّطه َ‬


‫ور َش ْطر‬ ‫من غير طريق‪ ،‬وسيأيت عند المصنف رحمه اهلل تعالى ‪ -‬أنه قال‪« :‬إِن ال ُّطه َ‬
‫اإليم ِ‬
‫ان»‪ ،‬والمراد بال ُّطهور بالضم أي‪ :‬الوضوء‪ ،‬فعل الوضوء‪ ،‬أن يتوضأ اإلنسان ويتطهر‪ ،‬فهذا شطر‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬
‫‪49‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪49‬‬ ‫اإليم ِ‬
‫ِ‬
‫ان» أي‪ :‬نصف اإليمان كما يأيت يف بعض ألفاظ الحديث‪ .‬وقيل إن المراد‬ ‫اإليمان‪ .‬ومعنى « َش ْطر ْ َ‬
‫بال ُّطهور أي‪ :‬الطهارة من الذنوب والبعد عنها‪ ،‬ويف تقرير هذا المعنى قالوا إن دين اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫ٍ‬
‫ونواه‪.‬‬ ‫نصفان‪ :‬أوامر‬

‫اإليم ِ‬
‫ِ‬
‫ان»‪ ،‬من أهل العلم من قال‪ :‬معناه والمراد به الطهارة من الذنوب والمعاصي‪،‬‬ ‫قوله «إِن ال ُّطه َ‬
‫ور َش ْطر ْ َ‬
‫ٍ‬
‫ونواه‪ ،‬فالبعد عن الذنوب‬ ‫أوامر‬ ‫ويف تقرير ذلك قالوا‪ :‬إن اإليمان أو المطلوب من العباد أمران ‪-‬‬
‫ٌ‬
‫والمعاصي طهارة للعبد‪ ،‬فهو يف طهارة أي‪ :‬يف نقاء وسالمة مما هنى اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عنه‪ ،‬ﭿﯖ‬

‫ﯗﭾ [المدثر‪ .]4 :‬وهذا قول‪ ،‬ولكن مما يضعف هذا القول أن الحديث جاء له ألفاظ صحيحة ثابته‪ ،‬منها‪:‬‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪ ،‬فيتعين أن المراد بالطهور أي‪:‬‬ ‫ان»‪ ،‬ومنها أيضا «إِسبا ُغ ا ْلو ُض ِ‬
‫وء َش ْط ُر ْ ِ‬ ‫يم ِ‬ ‫الو ُضو ُء َش ْط ُر ِ‬
‫ال َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ال َ‬ ‫« ُ‬

‫الوضوء وهو الطهارة المعروفة إلقام الصالة وعبادة اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫واألصح يف معنى الطهور هو هذا‪ :‬الوضوء‪ ،‬والمراد باإليمان‪ :‬الصالة‪ ،‬وقد قال اهلل ‪ -‬تعالى‪ :‬ﭿﮐ ﮑ ﮒ‬

‫ً‬
‫أقواال يف كتابه «جامع‬ ‫ﮓ ﮔﮕﭾ [البقرة‪ ]١4٣ :‬أي‪ :‬صالتكم‪ .‬والحافظ ابن رجب ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬ذكر‬

‫العلوم والحكم» واختار هذا ‪ -‬أن المراد بالطهور الوضوء‪ ،‬والمراد باإليمان الصالة‪ .‬ومعنى أن الوضوء‬
‫اإليم ِ‬
‫ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫شطر الصالة‪ :‬أن الصالة ال قبول لها إال به وال تصح إال به‪ .‬قال‪« :‬إِن ال ُّطه َ‬
‫ور َش ْطر ْ َ‬

‫وشاهد الحديث للكتاب أنه سمى العمل إيما ًنا؛ فالطهور الذي هو عمل‪ ،‬والصالة التي هي عمل‪ ،‬سميت‬

‫يف هذا الحديث إيما ًنا‪ .‬وهذا دليل واضح وصريح على دخول العمل يف مسمى اإليمان‪ ،‬وأن الطهارة التي‬

‫يقوم هبا اإلنسان بين يدي عبادته لربه وكذلك صالته وعبادته لربه هذا كله إيمان‪ ،‬وداخل يف مسمى‬

‫اإليمان‪.‬‬

‫علي حجر بن عدي‪ ،‬وحجر بن عدي ذكره ابن عبد الرب وابن حجر وغيرهما يف‬
‫ويروي هذا الحديث عن ٍّ‬
‫الصحابة‪ ،‬وجزم الذهبي ‪ $‬يف «السير» بأن له صحبة‪ ،‬وجماعة من أهل العلم ‪ -‬منهم البخاري وابن أبي‬

‫حاتم وابن حبان ‪ -‬ذكروه يف التابعين‪.‬‬


‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪50‬‬

‫قال‪:‬‬

‫(‪ )١2١‬حد َثنَا َعفان‪ ،‬نا َأبان ا ْلعطار‪ ،‬نا يحيى بن َأبِي كَثِ ٍير‪َ ،‬عن َزي ٍد‪َ ،‬عن َأبِي سالمٍ‪َ ،‬عن َأبِي مال ِ ٍ‬
‫ك ْاألَ ْش َع ِري‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫ال َ‬ ‫ور نِ ْص ُ‬
‫ف ِْ‬ ‫ول اهللِ ﷺ ك َ‬
‫َان َيقول‪« :‬الط ُه ُ‬ ‫َأن َرس َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث‪ ،‬حديث أبي مالك األشعري‪ ،‬أن رسول اهلل ﷺ كان يقول‪:‬‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪ .‬والحديث رواه اإلمام مسلم يف كتابه «الصحيح» من طريق أبان العطار به‪ .‬وهنا‬ ‫ال َ‬ ‫ور نِ ْص ُ‬
‫ف ِْ‬ ‫«الط ُه ُ‬
‫يف نسخة «كتاب اإليمان» البن أبي شيبة سقطت حرف «عن» بين زيد وأبي سالم‪ .‬وزيد هو ابن سالم بن‬

‫أبي سالم الحبشي‪ ،‬وأبو سالم هو منطور الحبشي‪ ،‬و«عن» موجودة يف «صحيح مسلم»‪ ،‬وموجودة يف‬

‫«المصنف» البن أبي شيبة‪ ،‬وسقوطها هنا هو من تصحيفات أو أخطاء النساخ‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫ان‪َ ،‬ع ْن ِع ْك ِر َمةَ‪َ ،‬ق َال‪« :‬ا ْل ُو ُضو ُء َش ْط ُر ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫(‪ )١22‬حد َثنَا وكِيع‪ ،‬نا ْاألَو َز ِ‬
‫اعي‪َ ،‬ع ْن َحس َ‬
‫ْ ُّ‬ ‫َ ٌ‬ ‫َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬الحديث نفسه موقو ًفا على عكرمة‪ ،‬وهو من التابعين‪ .‬وجاء يف «المصنف»‬

‫أيضا أن يف بعض روايات الحديث‪:‬‬ ‫يم ِ‬


‫ان»‪ .‬وأشرت ً‬ ‫عن حسان بن عطية‪ ،‬قال عكرمة‪« :‬ا ْل ُو ُضو ُء َش ْط ُر ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫ور‬ ‫يم ِ‬ ‫«إِسبا ُغ ا ْلو ُض ِ‬
‫وء َش ْط ُر ْ ِ‬
‫ان»‪ ،‬وهذا اللفظ وكذلك اللفظ الذي هنا يفسر ما سبق‪ ،‬وهو قوله «الط ُه ُ‬ ‫ال َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َ‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫َش ْط ُر ْ ِ‬
‫ال َ‬

‫قال‪:‬‬
‫‪51‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪51‬‬
‫اق‪َ ،‬ع ْن َأبِي َل ْي َلى ا ْلكِن ِْدي‪َ ،‬ع ْن غ َال ٍم ل ِ ْلح ْج ِر َأن ح ْج ًرا َر َأى‬
‫يع‪ ،‬نا س ْف َيان‪َ ،‬ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬ ‫ِ‬
‫(‪َ )١2٣‬أ ْخ َب َرنَا َوك ٌ‬

‫ور نِ ْص ُ‬
‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ط َف َق َال‪ :‬يا غ َالم‪ ،‬ن ِ ِ‬
‫َاو ْلني الصحي َف َة م َن ا ْلكوة‪َ .‬سم ْعت َعليا َيقول‪« :‬الط ُه ُ‬ ‫َ‬
‫ابنًا َله َخرج مِن ا ْل َغائِ ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫يم ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫ِْ‬
‫ال َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫اق‪َ ،‬ع ْن َأبِي َل ْي َلى ا ْلكِن ِْدي»‪ .‬هذه‬


‫يظهر أهنا « َع ْن َأبِي َل ْي َلى»‪ ،‬وقد تقدم معنا قبل ثالث أسانيد « َع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬

‫طريق أخرى للحديث المتقدم‪ ،‬ويف اإلسناد غال ٌم لح ْجر‪ ،‬وهو مجهول‪ ،‬فاإلسناد هنا ضعيف لجهالة هذا‬

‫الغالم‪ .‬لكن الحديث ثابت عن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬وهو كما عرفنا يف «صحيح مسلم» بلفظ‪:‬‬
‫يم ِ‬
‫ان» من حديث أبي مالك األشعري ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه‪.‬‬ ‫ور َش ْط ُر ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫«الط ُه ُ‬

‫واهلل تعالى أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬

‫‪‬‬

‫‪‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪52‬‬

‫الدرس الثاين عشر‬

‫‪‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالم على عبد اهلل ورسوله نبينا محمد‪ ،‬وعلى آله وصحبه أجمعين‪.‬‬
‫أما بعد‪،‬‬

‫فيقول المام الحافظ أبو بكر‪ ،‬عبد اهلل بن محمد بن أبي شيبة الكويف – رحمه اهلل تعالى‪ ،‬يف كتابه «اليمان»‪:‬‬

‫ين َو َق َوائِ َم ُه‬‫(‪َ )١24‬حد َثنَا م َحمد ْبن بِ ْش ٍر‪ ،‬نا َزك َِريا‪ ،‬حدثنا ا ْل َح َو ِار ُّي‪َ ،‬أن َع ْبدَ اهللِ ْب َن َع ْم ٍرو َق َال‪« :‬إِ َّن ُع َرى الدِّ ِ‬

‫ج َها َد»‪،‬‬ ‫الصدَ َق َة َوا ْل ِ‬ ‫ان‪َ .‬وإِ َّن ِم ْن َأ ْص َلحِ ْاِلَ ْعم ِ‬
‫ال َّ‬ ‫ت‪َ ،‬و َص ْو ُم َر َم َض َ‬ ‫الص ََل ُة وال َّزكَا ُة‪َ ،‬ال ي َفر ُق بين َُهما‪ ،‬وحج ا ْلبي ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َّ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ثم َقا َم َفا ْن َط َل َق‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدً ا عبده ورسوله‪ ،‬صلى‬
‫اهلل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين‪ .‬أما بعد‪،‬‬

‫أورد المصنف اإلمام ابن أبي شيبة ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص ‪ -‬ويف‬
‫«المصنف» البن أبي شيبة ‪ $‬باإلسناد نفسه‪ ،‬قال‪ :‬عبد اهلل بن عمر‪ ،‬أي‪ :‬ابن الخطاب ﭭ ‪ -‬قال‪« :‬إِن‬
‫ين َو َق َوائِ َمه الص َالة َوالزكَاة‪َ ،‬ال ي َفرق َب ْينَه َما»‪ .‬العروة هي الم َت َمسك من الشيء الذي ال يمكن‬
‫ع َرى الد ِ‬

‫حفظه أو العناية به إال بالتمسك به‪ .‬وعرى الدين شرائعه العظيمة وأحكامه المتينة التي يلزم المكلف أن‬
‫يكون متمس ًكا هبا محاف ً‬
‫ظا عليها‪ ،‬وأعظم ذلكم توحيد اهلل ‪ -‬عز وجل‪ ،‬وقد قال تعالى‪ :‬ﭿﰊ ﰋ ﰌ‬

‫ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕﰖ ﭾ [البقرة‪ .]25٦ :‬والصالة عروة من عرى الدين التي يلزم‬


‫ين َو َق َوائِ َمه»‪ ،‬أي‪:‬‬
‫التمسك هبا‪ ،‬وهكذا مباين اإلسالم العظيمة‪ .‬ولهذا قال عبد اهلل ﭬ‪« :‬إِن ع َرى الد ِ‬

‫أعمدته وأصوله التي يبنى عليها ‪ -‬وقد جاء يف الحديث‪ ،‬حديث عبد اهلل بن عمر‪ ،‬أن النبي ‪ -‬عليه الصالة‬
‫والسالم ‪ -‬قال‪ُ « :‬بنِي ِ‬
‫ال ْسَلَ ُم َع َلى َخ ْمس» وذكر هذه القوائم التي يقوم عليها دين اهلل ‪-‬تبارك وتعالى ‪-‬‬ ‫َ‬
‫ين َو َق َوائِ َمه»‪ ،‬فيه التنبيه على مكانة ما سيذكر‪ ،‬وأن منزلته من الدين بمنزلة‬
‫فقوله ﭬ‪« :‬إِن ع َرى الد ِ‬

‫األعمدة والقوائم التي ال يقوم البناء إال عليها‪.‬‬


‫‪53‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫ين َو َق َوائِ َمه الص َالة َوالزكَاة‪َ ،‬ال ي َفرق َب ْينَه َما»‪ ،‬والزكاة ‪ -‬كما هو معلوم ‪ -‬قرينة الصالة‬
‫‪53‬‬
‫قال‪« :‬إِن ع َرى الد ِ‬

‫يف كتاب اهلل – تبارك وتعالى‪ ،‬ويف مواضع كثيرة من القرآن الكريم تقرن هذه الفريضة – فريضة الزكاة ‪-‬‬
‫بإقامة الصالة يف آيات كثيرة من كتاب اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى‪ ،‬فال يفرق بينهما‪ ،‬أي‪ :‬كل منهما فريضة افرتضها‬
‫اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬على عباده‪ :‬خمس صلوات يف اليوم والليلة‪ ،‬وافرتض كذلك عليهم صدقة تؤخذ‬
‫من أغنيائهم وترد على فقرائهم‪ .‬وسميت زكا ًة ألهنا تزكي صاحبها من الشح والبخل‪ ،‬وتزكي ماله وتنقيه؛‬
‫ففيها طهارة للمال وفيها طهارة لصاحب المال‪ ،‬والزكاة من معانيها‪ :‬الطهارة‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬ال ي َفرق بينَهما‪ ،‬وحج ا ْلبي ِ‬


‫ت»‪ ،‬أي‪ :‬مرة واحدة يف العمر‪ ،‬وهذه فريضة من فرائض اإلسالم‪ ،‬قال اهلل‬ ‫َ ْ َ َ َ ُّ َ ْ‬
‫‪ -‬تعالى‪ :‬ﭿﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕﯖ ﭾ [آل عمران‪ .]9٧ :‬والحج الفريضة مرة يف العمر كله‪ ،‬وما زاد‬
‫عن ذلك فهو ٌ‬
‫نفل وتطوع‪.‬‬

‫شهر واحد يصومونه‬


‫يضا هذا فريضة فرضها اهلل على عباده وكتبها عليهم‪ ،‬وهو ٌ‬ ‫قال‪َ « :‬و َص ْوم َر َم َض َ‬
‫ان»‪ .‬وأ ً‬
‫يف كل سنة‪ ،‬وهو شهر رمضان المبارك‪.‬‬

‫قال‪َ « :‬وإِن مِ ْن َأ ْص َلحِ ْاألَ ْعم ِ‬


‫ال الصدَ َق َة َوا ْل ِ‬
‫ج َها َد‪ ،‬ثم َقا َم َفا ْن َط َل َق»‪ .‬لما ذكر الفرائض أردف هبذه األعمال‬ ‫َ‬
‫الصالحة العظيمة‪ ،‬فذكر الصدقة‪ ،‬أي‪ :‬النفل‪ ،‬وأما الصدقة الفريضة تقدمت‪ .‬وذكر الجهاد الذي فيه إعال ٌء‬
‫لكلمة اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى‪.‬‬

‫واإلسناد عن محمد بن بشر‪ ،‬وهو ابن ال َف َرافِ َصة الكويف‪ ،‬قال‪« :‬حدثنا زكريا‪ ،‬قال حدثنا الحواري»‪ .‬وهذه‬
‫الزيادة من «المصنف» ‪ -‬وهي قوله «حدثنا الحواري» ‪ -‬فزيادة «حدثنا» من «المصنف»‪ ،‬وزيادهتا ال بد‬
‫منها‪ .‬وزكريا هو ابن أبي زائدة‪ .‬والحواري هو ابن زياد‪ ،‬يروي عن ابن عمر‪ ،‬وذكره ابن حبان يف «الثقات»‪.‬‬
‫والنسخة المطبوعة من «كتاب اإليمان» أثبِ َت فيها اإلسناد هكذا‪« :‬نا َزك َِريا ا ْل َح َو ِار ُّي»‪ ،‬والشيخ األلباين‬
‫‪ $‬قال‪« :‬لم أعرفه‪ ،‬ولم يذكر السمعاين يف هذه النسبة من هو يف هذه الطبقة»‪ ،‬والسبب يف ذلك هذا‬
‫لحق السقط من كتابه «المصنف»‪ ،‬ويزول اإلشكال ويتبين من‬
‫السقط يف «كتاب اإليمان» البن أبي شيبة‪ ،‬في َ‬
‫هو زكريا ومن هو كذلك الحواري‪ .‬واألثر سبق أن مر معنا نحوه أو قري ًبا منه عن عمر بن عبد العزيز ‪-‬‬
‫رحمه اهلل تعالى ‪ -‬برقم (‪.)٣4‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪54‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫(‪َ )١25‬أ ْخ َب َرنَا ا ْبن ع َليةَ‪َ ،‬ع ْن يون َس‪َ ،‬ع ِن ا ْل َح َس ِن‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َرسول اهلل ﷺ‪« :‬إِ َّن َأك َْم َل ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ين إِ َ‬
‫يمانًا‬
‫َأ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫مرسال‪ ،‬أن رسول اهلل ﷺ قال‪« :‬إِ َّن َأك َْم َل‬
‫ً‬ ‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا الحديث عن الحسن البصري‬
‫يمانًا َأ ْح َسن ُُه ْم ُخ ُل ًقا»‪ .‬ومر معنا الحديث‬ ‫ِِ‬
‫موصوال من حديث أبي هريرة وحديث عائشة ﭭ‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ين إِ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫وأيضا مر الكالم على معناه هناك‪.‬‬
‫ً‬

‫قال‪:‬‬

‫اع َيل‪َ ،‬ع ْن َم ْع ِق ٍل ا ْل َخ ْث َع ِمي‪َ ،‬ق َال‪َ :‬أ َتى َعلِيا َرج ٌل َوه َو فِي‬
‫(‪ )١2٦‬حد َثنَا ابن نمي ٍر‪ ،‬نا محمد بن َأبِي إِسم ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ‬
‫الر ْح َب ِة َف َق َال‪َ :‬يا َأمِ َير ا ْلم ْؤمِنِي َن َما َت َرى فِي ا ْل َم ْر َأ ِة َال ت َصلي؟ َف َق َال‪َ « :‬م ْن َل ْم ُي َص ِّل َف ُه َو كَافِر»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫رجال سأله‪َ « :‬يا َأمِ َير ا ْلم ْؤمِنِي َن َما‬


‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن علي بن أبي طالب ﭬ أن ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ناقال من ملة اإلسالم‪ .‬ومر معنا‬ ‫َت َرى في ا ْل َم ْر َأة َال ت َصلي؟ َف َق َال‪َ :‬م ْن َل ْم ي َصل َفه َو كَاف ٌر»‪ ،‬أي‪ً :‬‬
‫كفرا أكرب‪ً ،‬‬
‫أيضا يف هذا المعنى؛ مر معنا قول عمر بن الخطاب ﭬ‪« :‬الحظ يف اإلسالم لمن ضيع‬
‫أحاديث وآثار ً‬
‫أيضا قول عبد اهلل بن‬
‫وأيضا مر معنا قول ابن مسعود ﭬ‪« :‬ال دين لمن ال صالة له»‪ ،‬وسيأيت ً‬
‫الصالة»‪ً ،‬‬
‫كفر باهلل‬
‫شقيق أن الصحابة ﭫ أنه لم يكن هناك شيء من األعمال تركه كفر غير الصالة‪ .‬فالصالة تركها ٌ‬
‫أيضا بعض النقوالت عن‬
‫‪ -‬تبارك وتعالى‪ ،‬والدالئل والشواهد على ذلك كثيرة‪ .‬ومر معنا يف هذا الباب ً‬
‫أهل العلم فأغنى عن اإلعادة هنا‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪55‬‬
‫واإلسناد هنا فيه معقل الخثعمي‪ ،‬وهو مجهول؛ فاإلسناد ضعيف لجهالة معقل‪ .‬والمعنى المقرر يف األثر‬
‫حق‪ ،‬ويشهد له كالم عبد اهلل بن شقيق اآليت أن الصحابة ﭫ كانوا يعدون ترك الصالة كفر ًا باهلل ‪ -‬تبارك‬
‫ٌ‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫القارئ‪ :‬هنا يف النسخة سقط‪«...‬حد َثنَا ابن نمي ٍر‪ ،‬نا محمد بن َأبِي إِسم ِ‬
‫اع َيل»‪...‬‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ْ َْ‬ ‫َ‬

‫الشارح‪ :‬ابن أبي إسماعيل‪.‬‬

‫القارئ‪ :‬وهنا عندنا نسخة «محمد بن إِسم ِ‬


‫اع َيل»‪...‬‬ ‫َ ْ ْ َ‬

‫الشارح‪ :‬الشيخ األلباين ألحقها هنا بين معكوفتين‪« :‬محمد بن [ َأبِي] إِسم ِ‬
‫اع َيل»‪.‬‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬

‫قال‪:‬‬

‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي َصالِحٍ ‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َض ْم َرةَ‪َ ،‬ع ْن َك ْع ٍ‬


‫ب َق َال‪َ « :‬م ْن َأ َقا َم‬ ‫(‪َ )١2٧‬أ ْخ َب َرنَا َأبو م َع ِ‬
‫او َيةَ‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫ان»‪.‬‬
‫يم َ‬
‫ال َ‬ ‫الص ََل َة َوآتَى ال َّزكَا َة َف َقدْ ت ََو َّس َط ْ ِ‬
‫َّ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن كعب ‪ -‬وهو كعب األحبار ‪ -‬أنه قال‪َ « :‬م ْن َأ َقا َم الص َال َة َوآ َتى‬
‫يم َ‬ ‫ِ‬
‫يضا يف األثر الذي بعده تقرير هذا المعنى‪ .‬وفيهما بيان مكانة الصالة‬
‫ان»‪ ،‬وسيأيت أ ً‬ ‫الزكَا َة َف َقدْ َت َوس َط ْاإل َ‬
‫وإيتاء الزكاة من اإليمان‪ ،‬وأن من حافظ على الصالة وأدى الزكاة التي افرتض اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫على عباده فقد توسط اإليمان‪ ،‬لكن بقي عليه أعمال وطاعات ونوافل َي ْكمل هبا إيمانه‪ .‬لكنه هبذه الفرائض‬
‫يكون قد توسط اإليمان‪ ،‬بمعنى أنه قد أتى بالفرض الواجب عليه‪ ،‬وهناك أعمال تكمل اإليمان وتتممه‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ب‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬م ْن‬ ‫ش‪َ ،‬ع ْن َأبِي َصالِحٍ ‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َض ْم َرةَ‪َ ،‬ع ْن َك ْع ٍ‬ ‫(‪َ )١2٨‬حد َثنَا م َحمد ْبن ع َب ْي ٍد‪َ ،‬ع ِن ْاألَ ْع َم ِ‬

‫ب لِ َّل ِه‪َ ،‬و َأ ْبغ ََض لِ َّل ِه‪َ ،‬و َمن ََع لِ َّل ِه‪َ ،‬ف َق ِد‬
‫ان‪َ ،‬و َم ْن َأ َح َّ‬
‫يم َ‬ ‫اع ُم َح َّمدً ا‪َ ،‬ف َقدْ ت ََو َّس َط ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫الص ََل َة َوآتَى ال َّزكَاةَ‪َ ،‬و َأ َط َ‬
‫َأ َقا َم َّ‬
‫ان»‪.‬‬
‫يم َ‬ ‫ْاس َتك َْم َل ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪56‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن كعب‪ ،‬وهو األثر السابق‪ ،‬لكن فيه زيادة‪ .‬قال‪َ « :‬م ْن َأ َقا َم الص َال َة‬

‫َوآ َتى الزكَاةَ‪َ ،‬و َأ َط َ‬


‫اع م َحمدً ا»‪ ،‬كذا يف طبعة «كتاب اإليمان» البن أبي شيبة‪ ،‬وجاء يف «المصنف» ويف بعض‬
‫مصادر التخريج‪« :‬من أقام الصالة وآتى الزكاة وسمع وأطاع»‪ ،‬أي‪ :‬سمع وأطاع لألمير‪ .‬ويأيت الجمع بين‬
‫هذه الخصال يف بعض األحاديث المرفوعة عن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم‪ ،‬مثل قوله يف حجة الوداع‪:‬‬
‫وموا َش ْه َرك ُْم‪َ ،‬و َأدوا َزكَا َة َأ ْم َوالِك ُْم‪َ ،‬و َأطِي ُعوا َذا َأ ْمرِك ُْم تَدْ ُخ ُلوا َجنَّ َة‬
‫«ا ْع ُبدُ وا َر َّبك ُْم‪َ ،‬و َصلوا َخ ْم َسك ُْم‪َ ،‬و ُص ُ‬
‫َر ِّبك ُْم»‪ .‬فيأيت يف بعض األحاديث الجمع بين أداء الصالة المفروضة والزكاة المكتوبة والسمع والطاعة‬
‫أيضا قري ًبا أنه ال إيمان إال بصالة‪ ،‬وال صالة إال بجماعة‪ ،‬وأن هذه أمور آخذ بعضها‬
‫لألمير‪ .‬وقد مر معنا ً‬
‫بحجز بعض‪ ،‬ال بد منها مجتمعة‪ ،‬فبها يكون إقامة الدين واستقامة أمره‪.‬‬

‫ان‪َ ،‬و َم ْن َأ َحب لِل ِه‪َ ،‬و َأ ْب َغ َض لِل ِه‪َ ،‬و َمن ََع‬
‫يم َ‬ ‫اع م َحمدً ا‪َ ،‬ف َقدْ َت َوس َط ْ ِ‬
‫اإل َ‬ ‫قال‪َ « :‬م ْن َأ َقا َم الص َال َة َوآ َتى الزكَاةَ‪َ ،‬و َأ َط َ‬
‫ان»‪ ،‬وهذا الجزء األخير صح مرفو ًعا عن النبي ﷺ عند أبي داود والرتمذي‬ ‫يم َ‬ ‫لِل ِه‪َ ،‬ف َق ِد اس َت ْكم َل ْ ِ‬
‫اإل َ‬ ‫ْ َ‬
‫ب لِ َّل ِه‪َ ،‬و َأ ْبغ ََض لِ َّل ِه» هذا يتعلق بالقلب‪ ،‬وقوله‪َ « :‬و َأ ْع َطى لِ َّله‪َ ،‬و َمن ََع لِ َّل ِه» هذا يتعلق‬‫وغيرهما‪ .‬وقوله‪َ « :‬م ْن َأ َح َّ‬
‫ب لِ َّل ِه‪َ ،‬و َأ ْبغ ََض لِ َّل ِه‪َ ،‬و َأ ْع َطى لِ َّل ِه‪َ ،‬و َمن ََع لِ َّل ِه» فيه كمال اإلنسان يف باطنه‬
‫بالعمل الظاهر‪ .‬فقوله‪َ « :‬م ْن َأ َح َّ‬
‫وظاهره‪ ،‬وإذا كمل الباطن والظاهر كمل اإليمان؛ إذا كمل باطن اإلنسان وكمل ظاهره يكون بذلك كمال‬
‫اإليمان‪.‬‬

‫ب لِ َّل ِه» أي‪ :‬أحب اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬وأصبح بنا ًء على حبه هلل ال يحب المرء إال هلل ‪-‬‬ ‫فقوله‪َ « :‬م ْن َأ َح َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫عز وجل ‪ -‬وال يبغضه إال هلل‪ .‬وقوله‪َ « :‬و َأ ْع َطى ل َّله‪َ ،‬و َمن ََع ل َّله» هذا فيه صالح الظاهر‪ ،‬وهو ليس ً‬
‫خاصا‬
‫بالعطاء الذي هو عطاء المال والنفقة من المال‪ ،‬بل هو أوسع من ذلك‪ ،‬فيشمل العطاء ببذل جميع ما أمره‬
‫اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن يقوم به مما افرتضه اهلل عليه وأمره بفعله‪ ،‬فهو يتناول ذلك كله‪ ،‬وعطاء المال‬
‫خاصا بمنع المال‪ ،‬بل يشمل ويتناول االمتناع عن كل ما‬
‫يضا المقابل‪ :‬المنع ليس ً‬
‫هو جزء من ذلك‪ .‬وأ ً‬
‫شامال لصالح القلب وصالح الظاهر‪،‬‬
‫ً‬ ‫أمره اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬باالمتناع عنه‪ .‬فيكون الحديث هبذا‬
‫فالقلب حبه وبغضه هلل‪ ،‬والظاهر عطاؤه ومنعه هلل‪ ،‬فمن كان هبذه الصفة فقد استكمل اإليمان‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪57‬‬
‫ان» فيه داللة ظاهرة وواضحة على أن اإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف‪،‬‬
‫يم َ‬ ‫وقوله‪َ « :‬ف َق ِد ْاس َتك َْم َل ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫وأن من َكمل هذه الخصال َكمل إيمانه‪ ،‬وأن من نقص منها نقص إيمانه بحسب ما نقص عنده من خصال‬
‫اإليمان‪ .‬فاإليمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف‪ ،‬وأهله ليسوا فيه على درجة واحدة‪.‬‬

‫يف اإلسناد شيخ المصنف ‪« -‬قال‪َ :‬حد َثنَا م َحمد ْبن ع َب ْي ٍد» ‪ -‬وهو الطنافسي‪ .‬ويف بعض النسخ فيه إضافة‬
‫«ع َب ْي ِد اهللِ»‪ ،‬والصواب «ع َب ْيد» بغير إضافة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ول‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬يا َأ َبا‬ ‫اش‪َ ،‬ع ْن ع َب ْي ِد اهللِ ْب ِن ع َب ْي ٍد ا ْل َك َال ِعي َق َال‪َ :‬أ َخ َذ بِ َي ِدي َم ْكح ٌ‬ ‫اعيل ْبن َعي ٍ‬ ‫(‪ )١29‬حد َثنَا إِسم ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫اص»‪َ ،‬ف َشد بِ َق ْب َضتِ ِه َع َلى َيدَ ي‪ ،‬ثم‬ ‫ف َتقول فِي َرج ٍل َت َر َك َص َال ًة َم ْكتو َب ًة م َت َعمدً ا؟ َفق ْلت‪« :‬م ْؤمِ ٌن َع ٍ‬ ‫ب‪َ ،‬ك ْي َ‬ ‫َو ْه ٍ‬

‫َت ِمنْ ُه ِذ َّم ُة اهللِ‪َ ،‬و َم ْن‬ ‫ان فِي َن ْف ِس َ‬


‫ك؛ َم ْن ت ََر َك َص ََل ًة َم ْكتُو َب ًة ُم َت َع ِّمدً ا َف َقدْ َبرِئ ْ‬ ‫يم ِ‬ ‫َق َال‪« :‬يا َأ َبا َو ْهب لِ َي ْع ُظ ْم َش ْأ ُن ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫َ‬
‫َت ِمنْ ُه ِذ َّم ُة اهلل ِ َف َقدْ َك َف َر»‪.‬‬‫َبرِئ ْ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن مكحول يف الحكم على تارك الصالة ‪ -‬ولو صالة واحدة ‪-‬‬
‫متعمد ًا بأنه كافر‪ .‬والمراد بالكفر هنا‪ :‬األكرب الناقل من الملة‪ ،‬وقد مر معنا قول النبي ‪-‬عليه الصالة‬
‫ِ‬
‫والسالم‪« :‬ال َع ْهدُ ا َّلذي َب ْينَنَا َو َب ْين َُه ُم َّ‬
‫الص ََلةُ‪َ ،‬ف َم ْن ت ََرك ََها َف َقدْ َك َف َر»‪.‬‬

‫ف َتقول فِي َرج ٍل َت َر َك َص َال ًة‬ ‫قال عبيد اهلل بن عبيد الكالعي‪َ « :‬أ َخ َذ بِ َي ِدي َم ْكح ٌ‬
‫ول‪َ ،‬ف َق َال‪َ :‬يا َأ َبا َو ْه ٍ‬
‫ب‪َ ،‬ك ْي َ‬
‫َم ْكتو َب ًة م َت َعمدً ا؟» وهذه الطريقة نافعة يف التعليم وضبط مسائل العلم‪ :‬أن يطرح العالم على طالبه مسألة‬
‫فيسمع منه‪ ،‬ثم يصحح له إن أخطأ‪ ،‬أو يصوبه إن أصاب‪ ،‬وهكذا فعل مكحول ‪-‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬مع عبيد‬
‫ف َتقول فِي َرج ٍل َت َر َك َص َال ًة َم ْكتو َب ًة م َت َعمدً ا؟ َفق ْلت‪ :‬م ْؤمِ ٌن َع ٍ‬
‫اص» ‪-‬‬ ‫اهلل الكالعي‪ .‬قال‪َ « :‬يا َأ َبا َو ْه ٍ‬
‫ب‪َ ،‬ك ْي َ‬
‫اإليم ِ‬
‫ِ‬ ‫عاص ‪َ « -‬ف َشد بِ َقب َضتِ ِه َع َلى يدَ ي‪ ،‬ثم َق َال‪ :‬يا َأبا و ْه ٍ ِ‬
‫ان‬ ‫ب ل َي ْعظ ْم َش ْأن ْ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ٍ‬ ‫حكم من كان كذلك أنه مؤمن‬
‫فِي َن ْف ِس َك»‪ ،‬واهلل تعالى يقول‪ :‬ﭿﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔﮕ ﭾ [البقرة‪ ، ]١4٣ :‬ومنزلة الصالة من اإليمان منزلة العمود‬
‫ان فِي َن ْف ِس َك‬
‫اإليم ِ‬
‫ِ‬ ‫من البناء‪ ،‬والصالة عماد الدين فمن تركها فقد كفر‪ .‬فقال له‪« :‬يا َأبا و ْه ٍ ِ‬
‫ب ل َي ْعظ ْم َش ْأن ْ َ‬ ‫َ َ َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪58‬‬

‫َت مِنْه ِذمة اهللِ َف َقدْ َك َف َر»‪.‬‬


‫َت مِنْه ِذمة اهللِ‪َ ،‬و َم ْن َب ِرئ ْ‬
‫َم ْن َت َر َك َص َال ًة َم ْكتو َب ًة م َت َعمدً ا»‪ ،‬أي‪ :‬تعمد تركها « َف َقدْ َب ِرئ ْ‬
‫ويف هذا حكمه لمن ترك صالة ‪ -‬ولو واحدة متعمد ًا‪ ،‬تعمد تركها ‪ -‬بأنه يكفر‪ .‬والمراد كما قدمت بالكفر‬
‫الكفر األكرب الناقل من الملة‪ .‬وسبق أن نقلت بعض النقوالت من أهل العلم يف هذا المعنى‪ ،‬من ذلكم قول‬
‫مشايخنا األفاضل يف اللجنة الدائمة لإلفتاء برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬قالوا يف‬
‫فتوى لهم يف هذا الباب‪« :‬من ترك صالة واحدة متعمدً ا فهو كمن ترك جميع الصلوات‪ ،‬فال تقبل منه بقية‬
‫الصلوات‪ ،‬وال يقبل منه أي عمل حتى يقيم الصالة ويحافظ عليها كلها ولو كان م ِقرا بوجوهبا‪ ،‬فاإلقرار‬
‫كفرا أكرب» اهـ‪ .‬والنقوالت عن‬
‫كافرا ً‬
‫بالوجوب ال يكفي عن أداء الصالة؛ ألنه برتك الصالة عمدً ا يكون ً‬
‫أهل العلم يف هذا كثيرة‪ ،‬وهذا مكحول من أئمة السلف يقرر هذا األمر هبذه الطريقة التعليمية ألحد طالبه‪،‬‬
‫ومنبها له على مكانة الصالة العظيمة من الدين‪ ،‬وأن الواجب على المسلم أن‬
‫ً‬ ‫مبينًا له حكم تارك الصالة‪،‬‬
‫يعظم هذه الصالة‪ ،‬وأن يعرف مكانتها‪ ،‬وأن يحافظ عليها محافظة شديدة‪ ،‬وأال يغ َلب عليها؛ ألن ال َغلِيبة‬
‫على الصالة هزيمة هي أشر هزيمة وخسران هو من أشد الخسران‪ ،‬ومن ضيع الصالة فال حظ له من دين‬
‫اهلل ‪ -‬جل وعال‪ ،‬فال حظ يف اإلسالم لمن ضيع الصالة‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫اق‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال َعلِي َر ْح َمة اهللِ َع َل ْي ِه‪:‬‬ ‫(‪َ )١٣0‬حد َثنَا َأبو َخال ِ ٍد ْاألَ ْح َمر‪َ ،‬ع ْن َع ْم ِرو ْب ِن َق ْي ٍ‬
‫س‪َ ،‬ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬
‫ب ِْ‬ ‫ِ‬ ‫ان بِمن ِْز َل ِة الر ْأ ِ ِ‬ ‫الص ْب ُر ِم َن ْ ِ‬
‫ان»‪.‬‬ ‫يم ُ‬
‫ال َ‬ ‫الص ْب ُر َذ َه َ‬
‫ب َّ‬‫س م َن ا ْل َج َسد‪َ ،‬فإِ َذا َذ َه َ‬ ‫َّ‬ ‫يم ِ َ‬ ‫ال َ‬ ‫« َّ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ان بِ َمن ِْز َل ِة‬ ‫ِ ِ‬


‫اإليم ِ‬
‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن علي ‪ -‬رضي اهلل تعالى عنه ‪ -‬أنه قال‪« :‬الص ْبر م َن ْ َ‬
‫س مِ َن ا ْل َج َس ِد»‪ ،‬أي‪ :‬أن منزلة الصرب من اإليمان عل ّية‪ ،‬ومكانته من الدين رفيعة؛ ألن الصرب ‪ -‬وهو‬ ‫الر ْأ ِ‬

‫عبودية مكاهنا القلب ‪ -‬يحتاجه العبد يف جميع أعمال الدين‪ ،‬وهو عبادة تصاحب المسلم يف كل أمور‬
‫الدين‪ ،‬إن كانت طاعة فيحتاج فيها إلى صرب ليفعلها‪ ،‬يحتاج إلى أن يحبس نفسه على فعلها‪ ،‬وإن كانت‬
‫معصية فيحتاج إلى صرب يمنع به نفسه من فعلها‪ ،‬وإن كانت من األقدار المؤلمة فيحتاج فيها إلى صرب يمنعه‬
‫من الجزع والتسخط والدعاء بدعوى الجاهلية‪ .‬فالصرب مقامه من الدين عظيم‪ ،‬وهو عبودية يحتاج إليها‬
‫‪59‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬

‫س مِ َن ا ْل َج َس ِد»‪،‬‬
‫ان بِ َمن ِْز َل ِة الر ْأ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اإليم ِ‬
‫‪59‬‬
‫المسلم يف جميع أعماله وجميع عباداته‪ ،‬ولهذا قال ﭬ‪« :‬الص ْبر م َن ْ َ‬
‫وجسد بال رأس جثة هامدة‪ ،‬وإنسان بال صرب‪ ،‬إذا كان ال صرب عنده فكيف يؤدي العبادات؟ وإذا كان ال‬
‫صرب عنده كيف ينكف عن المنهيات والمعاصي؟ وإذا كان ال صرب عنده كيف تكون حاله عند المصائب‬
‫والملمات؟ فالصرب يحتاج إليه العبد حاجة ماسة يف أمور الدين كلها‪ ،‬ولهذا كانت منزلته من الدين بمنزلة‬
‫ب الص ْبر َذ َه َ ِ‬
‫الرأس من الجسد‪ .‬قال‪َ « :‬فإِ َذا َذ َه َ‬
‫ب ْاإل َ‬
‫يمان»‪.‬‬

‫واألثر كما نبه الشيخ األلباين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬قال‪« :‬غير أن أبا اسحاق وهو السبيعي كان اختلط ولم‬
‫يسمع من علي ﭬ»‪ .‬وجاء األثر من طريق أخرى يف «مصنف عبد الرزاق» رواه عن طريق معمر عن‬
‫الحكم بن أبان عن عكرمة عن علي وزاد فيه‪« :‬وال إيمان لمن ال صرب له»‪ ،‬وهذه الزيادة فيها مكانة الصرب‬
‫من اإليمان‪ ،‬وأن من ال صرب له ال إيمان له‪ .‬كيف يستطيع أن يؤدي فرائض اإلسالم؟ وكيف يستطيع أن‬
‫ينتهي عن ما هناه اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى‪ -‬عنه إذا لم يكن متحل ًيا بالصرب متص ًفا به؟‬

‫قال‪:‬‬

‫ار ﭬ َق َال‪َ « :‬ث ََلث َم ْن َج َم َع ُه َّن َج َم َع‬ ‫اق‪َ ،‬ع ْن ِص َلةَ‪َ ،‬ع ْن َعم ٍ‬ ‫ان‪َ ،‬ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬‫يع‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬ ‫ِ‬
‫‪َ - 131‬حد َثنَا َوك ٌ‬
‫الس ََل ِم لِ ْل َعا َل ِم»‪.‬‬ ‫اق ِم َن ْ ِ‬
‫ال ْقت ِ‬
‫َار‪َ ،‬و َب ْذ ُل َّ‬ ‫ك‪َ ،‬و ْ ِ‬
‫ال ْن َف ُ‬ ‫اف ِم ْن َن ْف ِس َ‬
‫الن َْص ُ‬ ‫ان‪ِ ْ :‬‬
‫يم َ‬ ‫ِْ‬
‫ال َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر العظيم عن عمار بن ياسر ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ ،-‬ويروى‬
‫مرفو ًعا إلى النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬وال يصح‪ ،‬لكنه ثابت عن عمار ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪.-‬‬
‫يم َ‬ ‫ِ‬ ‫قال‪َ « :‬ث َال ٌ‬
‫ان»‪ ،‬وهو هبذا ينبه إلى أن الثالث اآليت ذكرهن ه ّن جوامع الدين‪ ،‬فمن‬ ‫ث َم ْن َج َم َعهن َج َم َع ْاإل َ‬
‫اجتمعت فيه اجتمع فيه اإليمان‪.‬‬

‫اإلن َْصاف مِ ْن َن ْف ِس َك»‪ ،‬وبدأ به؛ ألنه أعظم هذه الخصال وأجلها‪ .‬واإلنصاف من نفسه‪ ،‬كون اإلنسان‬
‫قال‪ِ ْ « :‬‬

‫ينصف من نفسه‪ ،‬هذا متناول لإلنصاف من نفسه بينه وبين اهلل ألداء ما افرتض اهلل ‪-‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عليه‪،‬‬
‫واإلنصاف من نفسه بينه وبين العباد بأداء الحقوق‪ ،‬وعدم االعتداء والظلم والبغي ونحو ذلك‪ .‬ويتناول‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪60‬‬

‫اإلنصاف من نفسه تجاه نفسه لئال يظلمها بمعصية اهلل ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬ويعرضها لسخطه وعقابه‪ ،‬فهو‬
‫يتناول ذلك كله‪.‬‬

‫اإل ْن َفاق مِ َن ْ ِ‬
‫اإل ْقت ِ‬
‫َار»‪« ،‬اإلنفاق» أي‪ :‬البذل‪« ،‬من اإلقتار» أي‪ :‬من الحاجة والفقر‪.‬‬ ‫وقوله‪َ « :‬و ْ ِ‬

‫وقوله‪َ « :‬و َب ْذل الس َال ِم ل ِ ْل َعا َل ِم»‪ ،‬أي‪ :‬لمن عرفت ومن لم تعرف‪ ،‬فال تخص السالم بالمعرفة‪ ،‬بل تسلم على‬

‫من لقيت‪ ،‬وبالسالم السالمة‪ ،‬وقد قال ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪َ « :-‬أ ْف ُشوا َّ‬
‫الس ََل َم ت َْس َل ُموا»‪ ،‬فالسالم فيه‬

‫أيضا المحبة‪َ « :‬أ َو َال َأ ُدلك ُْم َع َلى َش ْيء إِ َذا َف َع ْلت ُُمو ُه ت ََحا َب ْبت ُْم؟ َأ ْف ُشوا َّ‬
‫الس ََل َم َب ْينَك ُْم»‪ .‬ففي إفشاء‬ ‫السالمة‪ ،‬وفيه ً‬
‫أيضا شيوع المحبة بين المؤمنين‪.‬‬
‫السالم السالمة‪ ،‬ويف إفشاء السالم ً‬

‫هذه خصال ثالثة عظيمة من جمعها جمع اإليمان كما قال ذلك عمار بن ياسر ﭬ‪ .‬والبن القيم ‪ -‬رحمه‬
‫وشرح متين يف كتابه «زاد المعاد» على هذا األثر‪ ،‬فنقف على كالمه ‪ -‬رحمه اهلل‬
‫ٌ‬ ‫تعليق نفيس‬
‫ٌ‬ ‫اهلل تعالى ‪-‬‬
‫تعالى ‪.-‬‬

‫قال ابن القيم ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬يف كتابه «زاد المعاد يف هدي خير العباد» يف فصل‪ :‬يف هديه ﷺ يف السالم‬
‫واالستئذان وتشيمت العاطس‪ ،‬قال‪« :‬وقال البخاري يف صحيحه قال عمار‪ :‬ثالث من جمعهن فقد جمع‬
‫اإليمان‪ :‬اإلنصاف من نفسك‪ ،‬وبذل السالم للعالم‪ ،‬واإلنفاق من اإلقتار‪ .‬وقد تضمنت هذه الكلمات‬
‫أصول الخير وفروعه؛ فإن اإلنصاف يوجب عليه أداء حقوق اهلل كاملة موفرة‪ ،‬وأداء حقوق الناس كذلك‪،‬‬
‫وأن ال يطالبهم بما ليس له‪ ،‬وال يحملهم فوق وسعهم‪ ،‬ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه به‪ ،‬ويعفيهم مما‬
‫يحب أن يعفوه منه‪ ،‬ويحكم لهم وعليهم بما يحكم به لنفسه وعليها‪ ،‬ويدخل يف هذا إنصافه نفسه من نفسه‪،‬‬
‫فال يدعي لها ما ليس لها‪ ،‬وال يخبثها بتدنيسه لها‪ ،‬وتصغيره إياها‪ ،‬وتحقيرها بمعاصي اهلل‪ ،‬وينميها ويكربها‬
‫ويرفعها بطاعة اهلل وتوحيده وحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه واإلنابة إليه وإيثار مرضاته ومحابه على‬
‫مراضي الخلق ومحاهبم‪ ،‬وال يكون هبا مع الخلق وال مع اهلل‪ ،‬بل يعزلها من البين كما عزلها اهلل‪ ،‬ويكون‬
‫باهلل ال بنفسه يف حبه وبغضه وعطائه ومنعه وكالمه وسكوته ومدخله ومخرجه‪ ،‬فينجي نفسه من البين‪ ،‬وال‬
‫يرى لها مكانة يعمل عليها‪ ،‬فيكون ممن ذمهم اهلل بقوله‪ :‬ﭿﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿﮀﭾ [األنعام‪.]١٣5 :‬‬
‫‪61‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪61‬‬ ‫ِ‬
‫واألعمال لسيده» ‪ -‬أعماله ومنافعه ليست‬ ‫مستحق المناف ِع‬
‫َ‬ ‫فالعبد المحض ليس له مكانة يعمل عليها‪ ،‬فإنه‬
‫له بل لسيده‪ ،‬والمراد هنا أي‪ :‬اهلل سبحانه وتعالى ‪« -‬ونفسه م ْل ٌك لسيده‪ ،‬فهو عامل على أن يؤدي إلى سيده‬
‫نجما حل عليه‬
‫أصال‪ ،‬بل قد كوتب على حقوق منجمة‪ ،‬كلما أدى ً‬
‫ما هو مستحق له عليه‪ ،‬ليس له مكانة ً‬
‫نجم آخر‪ ،‬وال يزال المكاتب عبدً ا‪ ،‬ما بقي عليه شيء من نجوم الكتابة‪.‬‬

‫والمقصود أن إنصافه من نفسه يوجب عليه معرفة ربه‪ ،‬وحقه عليه‪ ،‬ومعرفة نفسه‪ ،‬وما خلقت له‪ ،‬وأن ال‬
‫يزاحم هبا مالكها وفاطرها ويدعي لها الملكة واالستحقاق‪ ،‬ويزاحم مراد سيده ويدفعه بمراده هو‪ ،‬أو‬
‫يقدمه ويؤثره عليه‪ ،‬أو يقسم إرادته بين مراد سيده ومراده‪ ،‬وهي قسمة ضيزى‪ ،‬مثل قسمة الذين قالوا‪ :‬ﭿ‬

‫ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ‬

‫ﮫﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﭾ [األنعام‪.]١٣٦ :‬‬

‫فلينظر العبد ال يكون من أهل هذه القسمة بين نفسه وشركائه وبين اهلل لجهله وظلمه وإال لبس عليه وهو‬
‫جهوال‪ ،‬فكيف يط َلب اإلنصاف ممن َوصفه الظلم والجهل؟ وكيف‬
‫ً‬ ‫ال يشعر؛ فإن اإلنسان خلق ظلو ًما‬
‫ينصف الخلق من لم ينصف الخالق؟ كما يف أثر إلهي «يقول اهلل عز وجل‪ :‬ابن آدم ما أنصفتني‪ ،‬خيري‬
‫وشر ك إلي صاعد‪ ،‬كم أتحبب إليك بالنعم‪ ،‬وأنا غني عنك‪ ،‬وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت‬
‫إليك نازل ُّ‬
‫الم َلك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح»‪.‬‬
‫فقير إلي‪ ،‬وال يزال َ‬

‫ويف أثر آخر‪« :‬ابن آدم ما أنصفتني‪ ،‬خلقتك وتعبد غيري‪ ،‬وأرزقك وتشكر سواي»‪.‬‬

‫غيره من لم ينصف نفسه وظلمها أقبح الظلم وسعى يف ضررها أعظم السعي‪ ،‬ومنعها‬
‫ثم كيف ينصف َ‬
‫أعظم لذاهتا من حيث ظن أنه يعطيها إياها‪ ،‬فأتعبها كل التعب وأشقاها كل الشقاء من حيث ظن أنه يريحها‬
‫ودساها كل التدسية وهو‬
‫ويسعدها‪ ،‬وجد كل الجد يف حرماهنا حظها من اهلل‪ ،‬وهو يظن أنه ينيلها حظوظها‪ّ ،‬‬
‫يظن أنه يكربها وينميها‪ ،‬وحقرها كل التحقير وهو يظن أنه يعظمها‪ ،‬فكيف يرجى اإلنصاف ممن هذا‬
‫إنصافه لنفسه؟ إذا كان هذا فعل العبد بنفسه فماذا تراه باألجانب يفعل؟‬

‫والمقصود أن قول عمار ﭬ‪« :‬ثالث من جمعهن فقد جمع اإليمان‪ :‬اإلنصاف من نفسك‪ ،‬وبذل السالم‬
‫للعالم‪ ،‬واإلنفاق من اإلقتار»‪ ،‬كالم جامع ألصول الخير وفروعه‪.‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪62‬‬

‫وبذل السالم للعالم يتضمن تواضعه‪ ،‬وأنه ال يتكرب على أحد‪ ،‬بل يبذل السالم للصغير والكبير‪ ،‬والشريف‬
‫والوضيع‪ ،‬ومن يعرفه ومن ال يعرفه‪ ،‬والمتكرب ضد هذا؛ فإنه ال يرد السالم على كل من سلم عليه كربًا منه‬
‫وتيها‪ ،‬فكيف يبذل السالم لكل أحد؟‬
‫ً‬

‫وأما اإلنفاق من اإلقتار فال يصدر إال عن قوة ثقة باهلل‪ ،‬وأن اهلل يخلفه ما أنفقه‪ ،‬وعن قوة يقين‪ ،‬وتوكل‪،‬‬
‫وفضال‪ ،‬وتكذي ًبا بوعد من‬
‫ً‬ ‫ورحمة‪ ،‬وزهد يف الدنيا‪ ،‬وسخاء نفس هبا‪ ،‬ووثوق بوعد من وعده مغفرة منه‬
‫يعده الفقر‪ ،‬ويأمر بالفحشاء‪ .‬واهلل المستعان»‪ .‬اهـ‪.‬‬

‫هذا كالم عظيم للغاية يف شرح وبيان معاين هذا األثر‪ ،‬أثر عمار ‪ -‬رضي اهلل عنه وأرضاه ‪ .-‬ومِثل هذا‬
‫المرور على كالم ابن القيم ‪ $‬ليس كاف ًيا الستيعابه وفهمه‪ ،‬ولكنني قصدت الداللة عليه‪ ،‬فطالب العلم‬
‫يراجع هذا الكالم يف «زاد المعاد» ويتأمله مليا؛ فإنه عظيم غاية النفع‪ ،‬وخاصة هذا البسط العظيم الذي‬
‫اإلن َْصاف مِ ْن َن ْف ِس َك»‪.‬‬
‫ذكره ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬لمعنى قول عمار‪ِ ْ « :‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ار فِي َق ْول ِ ِه‪ :‬ﭿ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘﭾ‬


‫اق‪َ ،‬ع ْن ِص َلةَ‪َ ،‬ع ْن َعم ٍ‬
‫ان‪َ ،‬ع ْن َأبِي إِ ْس َح َ‬
‫يع‪َ ،‬ع ْن س ْف َي َ‬ ‫ِ‬
‫(‪َ )١٣2‬حد َثنَا َوك ٌ‬
‫َف َق َال‪َ « :‬ال َع ْهدَ َل ُه ْم»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عمار‪ ،‬وهو يف تفسير وبيان قوله تعالى‪ :‬ﭿ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﭾ‬

‫[التوبة‪ ]١2 :‬أي‪ :‬الكفار‪ ،‬ﭿ ﯖ ﯗ ﯘﭾ أي‪ :‬ال عهود لهم وال مواثيق‪ ،‬وإذا عادوا عهدً ا نكثوه‪ ،‬وإذا أعطوا‬
‫ميثا ًقا لم يفوا ولم يلتزموا‪ ،‬فهذه من خصال الكفار‪ .‬فيستفاد من ذلك أن من خصال أهل اإليمان الوفاء‬
‫بالعهد‪ ،‬الوفاء بالعهد هذا من خصال اإليمان‪ ،‬فمن اإليمان ومن أعماله ومما يدخل يف مسماه الوفاء‬
‫بالعهد‪ ،‬وعدم الوفاء به ليس من خصال أهل اإليمان‪ ،‬وليس من شعب اإليمان‪ ،‬بل هو من شعب الكفر‪.‬‬
‫ناقال من الملة‪.‬‬
‫كفرا ً‬
‫وكما أن الطاعات فروع لإليمان‪ ،‬فإن المعاصي فروع للكفر وإن لم تكن ً‬

‫قال‪:‬‬
‫‪63‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪63‬‬
‫َان َيقول‪َ « :‬ال َيدْ ُخ ُل الن ََّار إِن َْسان فِي َق ْلبِ ِه ِم ْث َق ُال َح َّبة‬ ‫ِ‬ ‫(‪َ )١٣٣‬حد َثنَا َج ِر ٌير‪َ ،‬ع ْن َمنْص ٍ‬
‫ور‪َ ،‬ع ْن إِ ْب َراه َ‬
‫يم‪َ ،‬ق َال‪ :‬ك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يمان»‪.‬‬ ‫م ْن َخ ْر َدل م ْن إِ َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد – رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن إبراهيم‪ ،‬وهو النخعي ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ ،-‬أنه قال‪َ « :‬ال َيدْ خل‬
‫ان»‪ ،‬وقد مر معنا يف الحديث أن النبي ‪ -‬عليه الصالة‬ ‫ان فِي َق ْلبِ ِه مِ ْث َقال حب ٍة مِن َخرد ٍل مِن إِيم ٍ‬
‫الن َار إِن َْس ٌ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫َ‬
‫يم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّار من ك َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان»‪ ،‬فيكون مراد إبراهيم النخعي ‪-‬‬ ‫َان في َق ْلبِه م ْث َق ُال َذ َّرة م ْن إِ َ‬ ‫والسالم ‪ -‬قال‪َ « :‬يخْ ُر ُج م َن الن ِ َ ْ‬
‫رحمه اهلل تعالى ‪ -‬بكالمه هذا‪ ،‬يكون مراده‪ :‬نار الكفار التي يخلدون فيها أبد اآلباد‪ ،‬فهذه النار ال يدخلها‬
‫من كان يف قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان‪ .‬أما نار عصاة الموحدين‪ ،‬فإنه يدخلها ويطهر فيها وينقى من‬
‫ذنوبه‪ ،‬ثم بعد ذلك يدخل الجنة‪ .‬فقول إبراهيم‪َ « :‬ال َيدْ خل الن َار»‪ ،‬المراد بالنار أي‪ :‬نار الكفار التي يخلدون‬
‫فيها‪ ،‬على هذا يحمل كالمه ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪.-‬‬

‫قال‪:‬‬

‫يم ِ‬
‫ان‪ :‬ا ْل ُحب‬ ‫اب‪َ ،‬ع ِن الص ْع ِق ْب ِن َح ْز ِن ا ْل َب ْك ِري‪َ ،‬ق َال‪َ :‬ق َال ﷺ‪َ « :‬أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫‪َ - 134‬حد َثنَا َز ْيد ْبن ا ْلح َب ِ‬

‫فِي اهللِ‪َ ،‬وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫هذا اإلسناد وقع فيه سقط يف هذه النسخة ‪« -‬كتاب اإليمان» ‪ -‬قال‪ :‬حدثنا زيد بن الحباب‪ ،‬عن الصعق بن‬
‫حزن البكري‪ ،‬قال‪ :‬حدثنا عقيل الجعدي‪ ،‬عن أبي اسحاق‪ ،‬عن سويد بن غفلة‪ ،‬عن ابن مسعود‪ .‬وهذه‬
‫الزيادة من «المصنف» سقطت من «كتاب اإليمان»‪ ،‬فتلحق من «المصنف» البن أبي شيبة المصنف ‪-‬‬
‫رحمه اهلل تعالى ‪ .-‬والشيخ األلباين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬قال يف التعليق عليه‪« :‬هو» ‪-‬أي‪ :‬الصعق بن حزن‬
‫البكري‪« -‬هو من أتباع التابعين وهو ثقة‪ ،‬فالحديث معضل»‪ ،‬لكن الواقع أن الحديث حصل يف إسناده‬
‫سقط‪ ،‬فيكمل هذا السقط من «المصنف» البن أبي شيبة‪ ،‬وساق الحديث عن ابن مسعود ﭬ وهو ثابت‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪64‬‬

‫ان‪ :‬ا ْل ُحب فِي اهللِ‪َ ،‬وا ْل ُبغ ُْض فِي اهلل ِ»‪ .‬وله‬
‫يم ِ‬ ‫عن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬أنه قال‪َ « :‬أ ْو َث ُق ُع َرى ْ ِ‬
‫ال َ‬
‫وأيضا مر معنا الكالم على معناه‪.‬‬
‫شاهد سبق أن مر معنا من حديث الرباء برقم (‪ً ،)١١0‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫(‪َ )١٣5‬حد َثنَا َأبو أ َسا َمةَ‪َ ،‬ع ْن َج ِر ِير ْب ِن َح ِ‬
‫َب‬‫يسى ْبن َعاص ٍم‪َ ،‬حد َثني َعد ُّي ْبن َعد ٍّي‪َ ،‬ق َال‪َ :‬كت َ‬ ‫ازمٍ‪َ ،‬حد ّثني ع َ‬
‫ِ‬ ‫اليم َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ان َف َرائ ُض‪َ ،‬و َش َرائ ُع‪َ ،‬و ُحدُ ود‪َ ،‬و ُسنَن‪َ ،‬ف َم ِن ْ‬
‫اس َتك َْم َل َها ْاس َتك َْم َل‬ ‫إِ َلي ع َمر ْبن َع ْبد ا ْل َع ِز ِيز‪َ « :‬أ َّما َب ْعدُ ‪َ ،‬فإِ َّن ْ ِ َ‬
‫ان‪َ ،‬فإِ ْن َأ ِع ْش َف َس ُأ َب ِّين َُها َلك ُْم َحتَّى َت ْع َم ُلوا بِ َها‪َ ،‬وإِ ْن َأنَا ِمت َق ْب َل‬
‫يم َ‬ ‫ان‪َ ،‬و َم ْن َل ْم ي ْس َتك ِْم ْل َها َل ْم ي ْس َتك ِْم ِل ْ ِ‬
‫ال َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يم َ‬ ‫ِْ‬
‫ال َ‬
‫ك َف َما َأنَا َع َلى ُص ْح َبتِك ُْم بِ َحرِيص»‪.‬‬ ‫َذلِ َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر العظيم عن عمر بن عبد العزيز ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬أنه كتب كتا ًبا‬
‫يمان َف َرائِض» أي‪ :‬افرتضها اهلل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اإليم َ ِ‬
‫ان َف َرائض‪َ ،‬و َش َرائع‪َ ،‬وحدو ٌد‪َ ،‬وسنَ ٌن»‪ْ « .‬اإل َ‬
‫ِ‬
‫قال فيه‪َ « :‬أما َب ْعد‪َ ،‬فإِن ْ َ‬
‫على عباده وأوجب عليهم فعلها‪َ « ،‬و َش َرائِع» أي‪ :‬أوامر أمر اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عباده هبا‪َ « ،‬وحدو ٌد»‬
‫أمر بعدم تعديها وهي كل ما هنى اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عباده عنه‪َ « ،‬وسنَ ٌن» أي‪ :‬رغائب ومستحبات‪.‬‬
‫ِ‬
‫اس َت ْك َم َل ْاإل َ‬
‫يم َ‬
‫ان»‪ ،‬وجميع هذه كلها داخلة يف مسمى اإليمان‪ :‬الفرائض والشرائع‬ ‫قال‪َ « :‬ف َم ِن ْ‬
‫اس َت ْك َم َل َها ْ‬
‫والحدود والسنن‪ ،‬كلها داخلة يف مسمى اإليمان‪ ،‬فليس اإليمان شي ًئا يكون يف القلب فقط‪ ،‬بل اإليمان‬
‫أيضا ذكر‪ ،‬وتسبيح‪ ،‬وهتليل‪ ،‬وأمر بالمعروف‪ ،‬وهني‬
‫أيضا قلبية‪ ،‬وقول باللسان‪ ،‬و ً‬
‫اعتقاد يف القلب وأعمال ً‬
‫أيضا أعمال يقوم هبا العبد‬
‫عن المنكر‪ ،‬وغير ذلك من أعمال اللسان الداخلة يف مسمى اإليمان‪ ،‬وكذلك ً‬
‫بجوارحه‪ ،‬وهي فرائض أوجبها اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬على عباده‪ ،‬وحدود ‪ -‬محرمات هنى عباده أن‬
‫يفعلوها‪ ،‬فرتكها إيمان وفعلها نقص لإليمان ‪ ،-‬ومستحبات من فعلها زاد إيمانه‪ ،‬ومن لم يفعلها لم يأثم‬
‫بذلك‪ ،‬ولم ينقص إيمانه الواجب برتكها؛ ألهنا مستحبات‪.‬‬

‫ولهذا قال أهل العلم‪« :‬الكمال يف اإليمان كماالن‪ٌ :‬‬


‫كمال واجب‪ ،‬برتكه يأثم العبد ويعرض نفس للعقوبة‪،‬‬
‫معرضا للعقوبة»‪.‬‬
‫ً‬ ‫أيضا‬
‫آثما‪ ،‬وال ً‬
‫وكمال مستحب‪ ،‬إذا فعله زاد بذلك إيمانه‪ ،‬وإن لم يفعله ال يكون بذلك ً‬
‫وهذا يتناول السنن‪ ،‬والرغائب‪ ،‬والمستحبات‪ ،‬وكل ما لم يأمر اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عباده أمر إيجاب‪.‬‬
‫‪65‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪65‬‬ ‫قال‪َ « :‬فم ِن اس َت ْكم َل َها اس َت ْكم َل ْ ِ‬
‫ٌ‬
‫استكمال واجب‪ ،‬وهو استكمال‬ ‫أيضا نوعان‪:‬‬ ‫يم َ‬
‫ان»‪ ،‬واالستكمال هنا ً‬ ‫اإل َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫الفرائض والبعد عن المحرمات‪ ،‬هذا االستكمال واجب‪ .‬واستكمال مستحب‪ ،‬وهو تعلق بالسنن‪.‬‬

‫فالكمال كماالن‪ :‬كمال واجب‪ ،‬وكمال مستحب‪ .‬وقول عمر ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪َ « :-‬ف َم ِن ْ‬
‫اس َت ْك َم َل َها‬
‫ِ‬
‫ان» يتناول االستكمال الواجب ويتناول االستكمال المستحب‪.‬‬ ‫اس َت ْك َم َل ْاإل َ‬
‫يم َ‬ ‫ْ‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫قال‪َ « :‬و َم ْن َل ْم َي ْس َت ْكم ْل َها َل ْم َي ْس َت ْكم ِل ْاإل َ‬
‫يم َ‬
‫ان»‪ .‬السنن من لم يستكملها لم يستكمل اإليمان المستحب‪،‬‬

‫والفرائض من لم يستكملها لم يستكمل اإليمان الواجب‪ .‬والفرائض منها ما َت ْركه ٌ‬


‫كفر باهلل ‪ -‬سبحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬مثل ما مر معنا يف الصالة‪ .‬والشرائع التي شرعها اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬على عباده وأوجب‬
‫أيضا الحدود التي هي المحرمات‪ ،‬إذا وقع‬ ‫عليهم فعلها إذا لم يفعلها تنقص كمال إيمانه الواجب‪ .‬كذلك ً‬
‫يم َ‬
‫ان»‬ ‫العبد يف شيء منها نقص إيمانه الواجب بحسب ذلك‪ .‬فقوله‪َ « :‬وم ْن َلم َيس َت ْك ِم ْل َها َلم َيس َت ْك ِم ِل ْ ِ‬
‫اإل َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ْ ْ‬
‫أيضا االستكمال المستحب‪.‬‬
‫هذا يتناول االستكمال الواجب ويتناول ً‬

‫قال‪َ « :‬فإِ ْن َأ ِع ْش» يعني‪ :‬إن أعطاين اهلل – جل وعال – فرصة أو فسحة يف العمر « َف َسأ َبين َها َلك ْم»‪ ،‬وهذا يدل‬
‫على أهنا تفاصيل تحتاج إلى وقت لتشرح وتبين وتفصل‪ .‬قال‪َ « :‬فإِ ْن َأ ِع ْش َف َسأ َبين َها َلك ْم َحتى َت ْع َملوا بِ َها»‪.‬‬
‫وقوله‪َ « :‬حتى َت ْع َملوا بِ َها»‪ ،‬هذا ً‬
‫أيضا فيه لفت انتباه إلى أن مقصود العلم العمل‪ ،‬ليس المقصود من العلم‬
‫االستكثار من المعلومات‪ ،‬وإنما المقصود منه العمل‪ ،‬قال‪َ « :‬حتى َت ْع َملوا بِ َها»‪ .‬وأما إذا كان اإلنسان يتعلم‬
‫وال نية عنده‪ ،‬وال همة عنده تجاه العمل‪ ،‬فعلمه حجة عليه ال له‪ .‬قال‪َ « :‬حتى َت ْع َملوا بِ َها‪َ ،‬وإِ ْن َأنَا مِ ُّت َق ْب َل‬
‫َذل ِ َك َف َما َأنَا َع َلى ص ْح َبتِك ْم بِ َح ِر ٍ‬
‫يص»‪.‬‬

‫فهذا األثر من اآلثار العظيمة الجامعة لبيان اإليمان وتعريفه‪ ،‬وأن اإليمان يشمل فرائض‪ ،‬ويشمل شرائع‪،‬‬
‫وعمال فقد‬
‫ً‬ ‫علما‬
‫ويشمل البعد عن المحرمات‪ ،‬ويشمل فعل الرغائب والمستحبات‪ ،‬فمن استكمل ذلك ً‬
‫استكمل اإليمان‪.‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ين ِم ْن َأ ْر َبع‪:‬‬
‫(‪َ )١٣٦‬حد َثنَا ا ْل َف ْضل ْبن د َك ْي ٍن‪ ،‬نا ِه َشام ْبن َس ْع ٍد‪َ ،‬ع ْن َز ْي ِد ْب ِن َأ ْس َل َم‪َ ،‬ق َال‪َ « :‬ال ُبدَّ ِِلَ ْه ِل َه َذا الدِّ ِ‬
‫ان وتَص ِديق بِاهلل ِ وا ْلمرس ِلين َأولِ ِهم و ِ‬
‫آخرِ ِه ْم‪َ ،‬وبِا ْل َجن َِّة َوالن ِ‬ ‫ال ْس ََل ِم‪َ ،‬و َال ُبدَّ ِم َن ْ ِ‬
‫ُد ُخول فِي َد ْع َو ِة ْ ِ‬
‫َّار‪،‬‬ ‫َ ُ ْ َ َ َّ ْ َ‬ ‫يم ِ َ ْ‬ ‫ال َ‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪66‬‬

‫َك‪َ ،‬و َال ُبدَّ ِم ْن َأ ْن َت َع َّل َم ِع ْل ًما ت ُْح ِس ُن بِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َوا ْل َب ْعث َب ْعدَ ا ْل َم ْوت‪َ ،‬و َال ُبدَّ م ْن َأ ْن َت ْع َم َل َع َم ًَل ت َُصدِّ ُق بِه إِ َ‬
‫يمان َ‬
‫ك»‪ ،‬ثم َق َر َأ‪ :‬ﭿﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝﭾ [طه‪.]٨2 :‬‬
‫َع َم َل َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن زيد بن أسلم ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬أنه قال‪َ « :‬ال بد ِألَ ْه ِل َه َذا‬
‫ين مِ ْن َأ ْر َب ٍع»‪ ،‬ثم ذكرها‪.‬‬
‫الد ِ‬

‫ول فِي َد ْع َو ِة ْ ِ‬
‫اإل ْس َال ِم»‪ ،‬وهذا فيه التنبيه على لزوم العناية بشرائع اإلسالم؛ ألن اإلسالم‬ ‫األمر األول‪« :‬دخ ٌ‬
‫إذا جمع مع اإليمان ‪ -‬كما هو يف هذا األثر ‪ -‬يقصد باإلسال ِم الشرائع كما مر معنا يف حديث جربيل‪ ،‬قال‪:‬‬
‫الص ََلةَ‪َ ،‬وت ُْؤتِ َي ال َّزكَاةَ‪َ ،‬وت َُصو َم َر َم َض َ‬ ‫الس ََلم َأ ْن ت َْش َهدَ َأ ْن َال إِ َله إِ َّال اهلل و َأ َّن محمدً ا رس ُ ِ ِ‬
‫ان‪،‬‬ ‫يم َّ‬
‫ول اهلل‪َ ،‬وتُق َ‬ ‫ُ َ ُ َ َّ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫«ِْْ ُ‬
‫ت إِ َل ْي ِه َسبِ ًيَل»‪ ،‬فهذا األمر األول‪.‬‬ ‫ت إِ ِن ْ‬
‫اس َت َط ْع َ‬ ‫َوت َُح َّج ا ْل َب ْي َ‬

‫ان»‪ ،‬وشرح اإليمان بقوله‪َ « :‬تص ِد ٌيق بِاهللِ وا ْلمرسلِين َأول ِ ِهم و ِ‬
‫آخ ِر ِه ْم‪،‬‬ ‫اإليم ِ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫واألمر الثاين‪َ « :‬و َال بد م َن ْ َ‬
‫ث بعدَ ا ْلمو ِ‬
‫ِ‬ ‫َوبِا ْل َجن ِة َوالن ِ‬
‫ت»‪ ،‬فهذا األمر الثاين‪ ،‬ال بد من اإليمان‪ .‬األمر األول اإلسالم بالعناية به‪،‬‬ ‫ار‪َ ،‬وا ْل َب ْع َ ْ َ ْ‬
‫وال سيما مباين اإلسالم الخمسة التي ذكرها النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم ‪ -‬يف حديث حربيل‪ ،‬وذكرها‬
‫أيضا يف حديث ابن عمر‪ ،‬ويف أحاديث كثيرة‪ .‬وال بد من األمر الثاين وهو اإليمان‪ ،‬وبين ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‬
‫ً‬
‫‪ -‬اإليمان بالتصديق باهلل وبالمرسلين أولهم وآخرهم‪ ،‬وبالجنة والنار‪ ،‬وبالبعث بعد الموت‪ .‬هذا األمر‬
‫الثاين‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬
‫واألمر الثالث‪َ « :‬و َال بد م ْن َأ ْن َت ْع َم َل َع َم ًال ت َصدق بِه إِ َ‬
‫يمان ََك»‪ ،‬أي‪ :‬ليس اإليمان مجرد التصديق واإلقرار‬
‫الذي يكون يف القلب‪ ،‬بل ال بد أن يكون من العبد أعمال تصدق هذا اإليمان‪ .‬وعرفنا فيما سبق أن أعمال‬
‫الجوارح تصدق القلب‪ ،‬وأعمال الجوارح تسمى تصدي ًقا‪ ،‬ومر معنا قول الحسن ‪« :$‬إن اإليمان ليس‬
‫بالتحلي وال بالتمني‪ ،‬إنما اإليمان ما وقر يف القلب وصدقه العمل»‪ .‬فأعمال الجوارح تسمى تصدي ًقا‪،‬‬
‫ِ‬
‫ولهذا قال زيد ‪َ « :$‬أ ْن َت ْع َم َل َع َم ًال ت َصدق بِه إِ َ‬
‫يمان ََك»‪ ،‬أي‪ :‬إيمانك الذي يف قلبك‪.‬‬

‫واألمر الرابع‪َ « :‬و َال بد مِ ْن َأ ْن َت َعل َم ِع ْل ًما ت ْح ِسن بِ ِه َع َم َل َك»‪ ،‬أي‪ :‬ال بد من أن تبني أعمالك على العلم‪ .‬وقد‬
‫جاء عن عمر بن عبد العزيز ‪ -‬رحمه اهلل تعالى‪ -‬أنه قال‪« :‬من تعبد بغير علم‪ ،‬كان ما يفسد أكثر مما يصلح»؛‬
‫‪67‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪67‬‬
‫ألنه سيقوم ببدع وضالالت وبأعمال منكرات يظنها عبادات صحيحة مرضية عند اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫عمَل ليس عليه أمرنا فهو‬ ‫وهي بدع ال يقبلها اهلل منه؛ ألن النبي ‪ -‬عليه الصالة والسالم – قال‪« :‬من عمل ً‬
‫رد» أي‪ :‬مردود على صاحبه غير مقبول منه‪ .‬قال‪َ « :‬و َال بد مِ ْن» ‪ -‬وهذا األمر الرابع ‪َ « -‬و َال بد مِ ْن َأ ْن َت َعل َم‬
‫ك»‪ ،‬ثم َق َر َأ قول اهلل –سبحانه وتعالى ‪ :-‬ﭿ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﭾ‬ ‫ِع ْل ًما ت ْح ِسن بِ ِه َع َم َل َ‬
‫[طه‪.]٨2 :‬‬

‫ويف هذه اآلية أن مغفرة اهلل ورحمته والفوز برضاه ال بد فيه من أعمال‪ :‬ال بد فيه من توبة‪ ،‬وال بد فيه من‬
‫إيمان‪ ،‬وال بد فيه من أعمال صالحات‪ ،‬وال بد فيه من لزوم الهداية وصراط اهلل المستقيم‪ ،‬ال بد من لزوم‬
‫ذلك كله ليفوز العبد بمغفرة اهلل ورحمته ورضوانه‪ ،‬فليست تنال بمجرد األماين ﭿ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ‬

‫ﭭ ﭮﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭾ [النساء‪.]١2٣ :‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ون لِ َع َمل ت ََر َك ُه َر ُجل‬ ‫(‪َ )١٣٧‬حد َثنَا َع ْبد ْاألَ ْع َلى‪َ ،‬ع ِن ا ْلج َر ْي ِري‪َ ،‬ع ْن َع ْب ِد اهللِ ْب ِن َش ِق ٍ‬
‫يق َق َال‪َ « :‬ما كَانُوا َي ُقو ُل َ‬
‫الص ََل ِة‪َ ،‬ف َقدْ كَانُوا َي ُقو ُل َ‬
‫ون‪ :‬ت َْرك َُها ُك ْفر»‪.‬‬ ‫ُك ْفر َغ ْي َر َّ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن عبد اهلل بن شقيق‪ ،‬وهو تابعي ثقة‪ ،‬أدرك عد ًدا من أصحاب‬
‫ون» أي‪ :‬الصحابة ﭫ الذين أدركهم‪« ،‬ل ِ َع َم ٍل َت َركَه َرج ٌل ك ْف ٌر َغ ْي َر الص َال ِة‪،‬‬
‫النبي ﷺ‪ ،‬قال‪َ « :‬ما كَانوا َيقول َ‬
‫ون‪َ :‬ت ْرك َها ك ْف ٌر»‪ ،‬والمراد بالكفر هنا األكرب الناقل من الملة‪.‬‬
‫َف َقدْ كَانوا َيقول َ‬

‫قال‪:‬‬

‫اش‪َ ،‬عن م ِغيرةَ‪َ ،‬ق َال‪ :‬س ِمعت َش ِقي ًقا‪ ،‬وس َأ َله رج ٌل‪ :‬س ِمع َت ابن مسع ٍ‬
‫ود َيقول‪:‬‬ ‫َ ْ ْ َ َ ْ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫(‪َ )١٣٨‬حد َثنَا َأبو َب ْك ِر ْبن َعي ٍ ْ َ‬
‫َم ْن َش ِهدَ َأنه م ْؤمِ ٌن َف ْل َي ْش َهدْ َأنه فِي ا ْل َجن ِة؟ َق َال‪َ :‬ن َع ْم‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬
‫الشيخ عبد الرزاق بن عبد احملسن البدر‬ ‫‪68‬‬

‫ثم أورد ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هذا األثر عن شقيق أن ابن مسعود ﭬ قال‪َ « :‬م ْن َش ِهدَ َأنه م ْؤمِ ٌن َف ْل َي ْش َهدْ َأنه‬
‫فِي ا ْل َجن ِة»‪ ،‬والمراد باإليمان هنا‪ :‬اإليمان المطلق الكامل‪ ،‬كما مر شرح ذلك وبيانه‪ ،‬وأن وصف اإليمان‬
‫إذا أطلق أو إذا ذكر هكذا على اإلطالق يتناول الدين كله‪ ،‬وهذه تزكية للنفس‪ ،‬فمن جزم لنفسه باإليمان‬
‫هذا الجزم ‪ -‬اإليمان الكامل التام ‪ -‬فليشهد لنفسه أنه يف الجنة‪ .‬هذا مراد ابن مسعود ﭬ بقوله‪َ « :‬م ْن‬
‫َش ِهدَ َأنه م ْؤمِ ٌن»‪ ،‬المراد باإليمان هنا الكامل‪ .‬أما إذا ق ِصد أصل اإليمان فهذا ال حرج فيه‪ ،‬وقد مر معنا‬
‫بعض اآلثار عن السلف وفيها إطالق اإليمان‪ ،‬والمراد بذلك أصله‪ .‬أما إذا أريد باإليمان تمام اإليمان‬
‫وكماله‪ ،‬فال بد يف هذا المقام من استثناء بأن يقول‪« :‬أنا مؤمن أرجو»‪ ،‬أو «أنا مؤمن إن شاء اهلل»‪ ،‬أو «آمنت‬
‫باهلل»‪ ،‬أو نحو ذلك من العبارات المأثورة عن السلف ‪ -‬رحمهم اهلل تعالى ‪.-‬‬

‫قال‪:‬‬

‫ون َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َال َيدْ خل َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬


‫ون‬ ‫اش‪َ ،‬ع ْن َعاص ٍم‪َ ،‬ق َال‪ :‬ق َيل ألَبِي َوائ ٍل‪ :‬إِن ن ً‬
‫َاسا َي ْزعم َ‬ ‫(‪َ )١٣9‬حد َثنَا َأبو َب ْك ِر ْبن َعي ٍ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫الن َار‪َ .‬ق َال‪َ « :‬ل َع ْم ُر َك َواهلل إِ َّن َح ْش َو َها َغ ْي ُر ا ْل ُم ْؤمن َ‬
‫ين»‪.‬‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ثم ختم هبذا األثر عن أبي وائل عن عاصم‪ ،‬وهو ابن أبي النجود‪ ،‬قال‪« :‬ق َيل ألَبِي َوائ ٍل‪ :‬إِن ن ً‬
‫َاسا َي ْزعم َ‬
‫ون‬
‫ون الن َار»‪ ،‬هكذا جاء يف طبعة «كتاب اإليمان»‪ .‬وجاء يف «المصنف» بحذف «ال»‬ ‫َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َال َيدْ خل َ‬
‫ون الن َار»‪ ،‬يف «المصنف» بحذف «ال» ويف «كتاب‬ ‫ون َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َيدْ خل َ‬
‫فجاءت العبارة هكذا‪َ « :‬ي ْزعم َ‬

‫اإليمان» مثبتة‪ .‬ولعل األقرب ‪ -‬واهلل تعالى أعلم ‪ -‬إثباهتا‪ ،‬ويكون المراد بالناس هنا ‪« -‬إِن ن ً‬
‫َاسا َي ْزعم َ‬
‫ون»‬
‫ون َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َال َيدْ خل َ‬
‫ون الن َار»‪ ،‬وهذا حسب عقيدة المرجئة أن األعمال ال تضر‬ ‫‪ -‬أي‪ :‬المرجئة‪َ « ،‬ي ْزعم َ‬
‫يف اإليمان‪ ،‬ال يضر يف اإليمان ذنب‪ ،‬فيزعمون أن المؤمنين ال يدخلون النار‪ ،‬أي‪ :‬أن المعاصي ال تؤثر‪،‬‬
‫فمن كان مؤمنًا ووقع يف الكبائر ال يدخل النار‪ ،‬وهذه من عقيدة المرجئة‪.‬‬

‫ون الن َار‪ .‬قال‪َ :‬ل َع ْمر َك َواهللِ إِن َح ْش َو َها َغ ْير ا ْلم ْؤمِنِي َن»‪ ،‬حشو‬
‫ون َأن ا ْلم ْؤمِنِي َن َال َيدْ خل َ‬ ‫قال‪« :‬إِن ن ً‬
‫َاسا َي ْزعم َ‬
‫النار أي‪ :‬الذين هم أهلها المخلدون فيها أبد اآلباد‪ ،‬غير المؤمنين‪ .‬أما عصاة الموحدين فإهنم يدخلون‬
‫‪69‬‬ ‫شرح منظومة سلم الوصول إىل علم األصول‬
‫‪69‬‬
‫النار دخول تطهير ال دخول تخليد وتأبيد‪ ،‬وإنما الذي يدخل النار دخول تخليد وتأبيد هو الكافر كما قال‬
‫اهلل ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ :-‬ﭿﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔﭾ [فاطر‪.]٣٦ :‬‬

‫ان ِعنْدَ نَا َق ْول َو َع َمل‪َ ،‬و َي ِزيدُ َو َينْ ُق ُص»‪.‬‬


‫يم ُ‬ ‫« َق َال َأ ُبو َبكْر‪ِ ْ :‬‬
‫ال َ‬

‫الشرح‪:‬‬

‫ثم ختم كتابه «اإليمان» ‪ -‬رحمه اهلل تعالى ‪ -‬هبذه الخالصة لعقيدة أهل السنة والجماعة يف اإليمان‪ ،‬أن‬
‫اإليمان عندنا ‪ -‬أي‪ :‬أهل السنة والجماعة ‪ -‬قول وعمل‪ ،‬يزيد ونقص‪ .‬والمراد بالقول قول القلب عقيد ًة‪،‬‬
‫وقول اللسان نط ًقا وتل ّف ًظا‪ .‬والمراد بالعمل أعمال القلوب‪ ،‬وأعمال اللسان‪ ،‬وأعمال الجوارح‪ .‬فكل ذلكم‬
‫داخل يف مسمى اإليمان‪ ،‬وهو يزيد وينقص‪ ،‬ويقوى ويضعف‪ ،‬وأهله ليسوا فيه على درجة واحدة‪ ،‬وهذا‬
‫محل إجماع عند أهل السنة والجماعة‪ ،‬وال خالف بينهم يف ذلك‪ .‬وشواهد ذلك ودالئله يف الكتاب والسنة‬
‫كثيرة‪ ،‬ومر معنا جملة منها يف هذا الكتاب المبارك «كتاب اإليمان» البن أبي شيبة‪.‬‬

‫ظاهرا وباطنًا‪ ،‬ونسأله‬


‫ً‬ ‫وآخرا‪ ،‬وشكره – سبحانه ‪-‬‬
‫ً‬ ‫ونختم قراءتنا لهذا الكتاب بحمد اهلل ‪ -‬عز وجل ‪ً -‬‬
‫أوال‬
‫‪ -‬جل وعال ‪ -‬أن يزييننا جمي ًعا بزينة اإليمان‪ ،‬وأن يجعلنا هداة مهتدين‪ ،‬وأن يصلح لنا شأننا كله‪ ،‬وأن يغفر‬
‫لنا ولوالدينا ولمشايخنا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات األحياء منهم واألموات‪.‬‬

‫ونسأل اهلل ‪ -‬عز وجل – لنا جمي ًعا التوفيق لما يحبه ويرضاه من سديد األقوال وصالح األعمال‪ .‬واهلل‬
‫أعلم‪ ،‬وصلى اهلل وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين‪.‬‬

You might also like