Professional Documents
Culture Documents
ترنيمة الهاوية
ترنيمة الهاوية
Instagram:may_3.6
Telegram:MAY2333
ل صوت يُسمع سوى كبسة األزرار المتتابعة ،وكم كان يُع ّد هذا الجو المثالي له .الجو الذي كان
سببًا بجعله واحدًا من أشهر كُتّاب الروايات الذين ل يمكن ّأل يسمع باسمهم أحد!
لكن منذ أيام قلئل ،بات يشعر أن هذه الطقوس ما عادت تجدي بل لم تكتفي ّإل بإثارة شعور
الختناق لديه ،ما دفعه لكتابة خاتمة الرواية التي ه ّم بها لتوه.
يغرد العصفور دون علمه أنك جاحد
" ّ
يغرد لك غير فاهم للغة تذمراتك ،ظانًا أنها شيء من اإلعجاب
ّ
ناسيًا أنك ل تملك أجنحة ،يمكنك التصفيق إل أنك ل تفعل
وما زال ل يفهم لم ترمي عليه بالحجارة!
هل ألنك لم تجد الورد حولك؟ أل تقاوم إل أن ترمي شيئًا من شدّة إعجابك!
لكنك أصبته!
وطار بعيدًا خائفًا خائب األمل منك
طار ..وعرفت عند السكون الذي احتل حياتك أن صوته كان كل ما اعتدت سماعه
سلِب منك ...بك
وقد ُ
ل ،بل حين يفقد الشيء الذي ألجله صار ما هو عليه اآلن ،وإن كان قد أنكر ذلك لسنوات"
وثانيةً أعاد طرح سؤاله ،هذه المرة بصوت مسموع ع ّل الصمت الذي ضاق ذرعًا به يجيب:
هل تستحق أن تُنشر؟
ماذا لو عرف الناس الحقيقة خلفها؟ هل ستكون برأيهم أجمل رواية كتبها أم نكرة تُحرق كل
نسخها المطبوعة؟ هذا إن طُ ِبعت!
مرة أخرى ،هل يرسله أم ل! عليه أن
أغلق حاسوبه بعد أن انتهى من تخزين الملف ،سيفكر ّ
يجيب على السؤال األول ً
أول.
دفع بكرسيه ذي العجلت للخلف ،ناهضًا بسرعة ...راميًا خصلته السوداء بعيدًا عن عينيه،
وربما كانت هذه حركة خاطئة إذ كانت الشيء الوحيد الذي يخفي تجمع الدمع غير المألوف
لديه.
ليس الكابوس في أن يراها تُطارد هكذا ،لقد اعتاد كما يظن على هذا المشهد منذ عدّة أيام ،ولن
يكون رؤية روحها تُزهق وأعني حرفيًا (رؤية روحها) ففي الحلم كل شيء ُمتاح ،حتى هذه
اإلطللة القريبة للحدث دون أن يعيرك الجاني أدنى اهتمام ،وليس وكأنك غير موجود بل هي
الصدمة حين يرفع قناعه -الملطخ بشيء أسود بدا كالدماء لكنه ليس كذلك -ليظهر وجهك نفسه.
كما لو أنك تشاهد فيل ًما ببطولتك.
أنفاس متقطعة وقبل الشهقة األخيرة ،تغطي وجهها بارتفاع الفأس نحوها لتنطق :أركاد!
مرة رغم أنه
ومجددًا لم يكن هذا هو الكابوس ،على األقل ليس بالنسبة له ،يتساءل في كل ّ
ظا بشيء من بقايا النبضات عالقة تطالب يعرف الجواب "لماذا يقتلع قلبها الذي ما زال محتف ً
بجرعة أمل صغيرة تحييه؟ يحمله نحو تلك المنصة العالية بعد أن تبدّلت هيأته لشيء أنيق
بسترته الرسمية البيضاء ،قميص بذات اللون مع ربطة عنق بلون السائل الملطخ لفأسه المعلقة
على حزامه ،يالها من أناقة غريبة تكفي ليصفق الجمهور بحرارة ،لماذا يسلم القلب للشخص
الواقف أمامه عديم الملمح ليأخذ منه تلك الشهادة التقديرية والتمثال الصغير الذهبي علمةً
إلبداعه مجهول المصدر؟
كان هذا كابوسه ،تلك البتسامة التي ترتسم على محياه حين ينحني احترا ًما للجمهور المتحمس،
يفر منه .كابوسه الذي ل يستيقظ منه فزعًا أبدًا لكنه يتمنى
لحظة انتصاره هي كابوسه الذي لن ّ
لو أنه ل يستقظ البتة.
فجرا ،موعد الطقوس اليومية ودوامة حياته التي توقفت منذ مدّة ،تدور لترميه في
الساعة الثالثة ً
ّ
مميزة عنده ،لقد كانت الساعة الفاصلة بين ذات المكان بشكل متكرر .تملك هذه الساعة ذكرى
فشله ونجاحه ،بين القاع الذي كان فيه وعاد بعد ق ّمة دامت لسنوات ،ليس وكأن أحدًا يعلم
سرا بينهما لألبد.
بعودته ،ل أحد غيرها ول أحد يستطيع سماعها ليعرف منها .ستظل الهاوية ً
"تستطيع فعلها ،عدم رؤيتك للجمال داخل كتاباتك ل يعني عدم وجوده ،فها أنا أراه واض ًحا
يتألأل شغوفًا ،يطلب رحمتك ّأل تقوم بوأده بعد أن ذاق حلوة ذاته لتوه"
-كم كانت عبارات سخيفة ترددينها باستمرار ،وكم كنتُ أكثر سخافة لنجرافي معها حتى
وصلت لما وصلت إليه.
ليس من أحد حوله لذا ل مانع من التحدث بصوت مرتفع ليتناسى وحدته التي تذكره بها دقات
عقارب الساعة الجدارية الكبيرة المزعجة التي كانت متوقفة لسنوات لكنها عادت للعمل فجأة.
"ألم أقل لك أنك تستطيع فعلها! يا إلهي لقد تحقق ما كنت أدعوه حقًا ،فخورة بك"
ت بشيء غير
أمال فمه صانعًا نصف ابتسامة ساخرة من ذكرى كهذه :فخورة؟ كما لو أنكِ قم ِ
الدعاء الذي ما احتجته يو ًما.
ضوء القمر المكتمل تلك الليلة كان يكفي لتحويل رجاله الخياليين في طيّات كتبه لذئاب جائعة
تجوب مدينته إل أنها لم تفعل ،ليس لشيء سوى أن الذئب األكبر يكفي ،وما يفعله هذا القمر
اليوم إنارة الجدار المقابل للنافذة الخالية من الستائر ،ليستقر الضوء الخفيف على قطعة من
ّ
التمزق. بخلوها من إطار يحميها من
ّ صحيفة معلقة بترتيب مهمل كما يجب الوصف
الخيال لن يمتد ليجعل هذا الضوء المتسلل يكفي لقراءة ما هو مكتوب لكنه فقط حفظها عن ظهر
طمرة قرأها ولو حاول العد لفاق عدد الخراف التي يطاردها الذئب قبل أن يغ ّ
قلب ،ل يعلم كم ّ
في النوم.
"حوار مع الفائز بجائزة رواية العام السيد أركاد دويل
-لقد خل كتابك من أي إهداء ،ظن الجميع أن السيدة سوزانا ستحظى باهتمامك األكبر إذ نعلم
بسبب من تم نشر كتابك
هل شعرت بعجز في ترتيب كلمات اإلهداء لثقل المهمة سيد أركاد؟
-اهتمام؟ ثقل؟ هل هناك من يستحق اإلهداء أكثر من الكاتب نفسه؟
"...
حوارا يحوي هكذا جواب يُنشر ،لكن لن يدرك أحد الشيء األكثر غرابة ،ل
ً كان غريبًا كيف أن
أحد سيفعل يو ًما.
"عزيزي ،كم أنا سعيدة بنشرهم لحوارك ،كم أعجبتني ثقتك باإلجابة إذ لو كنت مكانك لما قدرت
على غير اللف والدوران بمجاملت عقيمة ،بالفعل أنت أكثر من يستحق اإلهداء وكم أتمنى لو
سا ،فخورة بك"كنت قد كتبته أسا ً
للمرة الثانية ،يقف الشريط عند هذه الكلمة غير مستوعب لسببها ،لسبب التمسك بها ،وكما
المرات التي أراد
تجري عادته حين يصل لهذه المرحلة يتساءل ،هل غضبت منه يو ًما؟ كم عدد ّ
يمرغ لطافتها المصطنعة –بنظره -بالتراب ،لكم كانت أمنية ما عاد
فيها أن يسحق أعصابها ،أن ّ
بمقدوره تحقيقها اآلن ،تبدل الوقت وتبدلت األماني.
"هل تعلم ما كان حلمي يا أركاد؟ أشك أن ستفعل إذ حين يتحول الحلم لحقيقة يفقد هيأته األولى
ويفقد القدرة على الشعور بنهاية مطافه ،هل كنت تدرك نهاية حلمي السعيدة أركاد؟"
-ببساطة ،يستحيل أن أدرك نفسي بنفسي دون السخرية من سخافة أحلمكِ ،صغيرة جدًا ومتدنية
ت بإنجازه منها.
كسقف طموحاتك وما قم ِ
تستمر القصة أدناه
كان السؤال يُطرح باستمرار ،من أين يأتي السلم الذي يخلق ملمحها طاف ًحا يُغرق ما حوله
بهدوء يُحسد هذا الغريق عليه؟ من أين وهي تعايش الشيطان بذاته!
لقد كان أشهر الكتّاب في عقده الرابع لكنه وللحق تجاوز بسلطة لسانه واستهزائه باآلخرين
العقود العشرة التي يمكن أن يعيشها المرء كح ّد .كانت انطلقة غريبة ساحقة بنجاحها ،طامرة ما
حولها من إنجازات متواضعة وأسماء ألصحابها تحت تراب النسيان في فترة قياسية ،أنى
الوسيلة؟ ما السر في نجاح بدا كأنه أتى في طرفة عين من السهولة؟
"في اإليمان كل األسرار يا أركاد ،حين يؤمن بك شخص من أعماق قلبه سيدفعك لغيوم السماء
السابعة التي لن تبصرها إل حين وصولك ،وسأكون لك هذا الشخص ،ستراها كما لم يفعل أحد
ألنك تقدر ،أؤمن أنك تقدر ويبقى أن تؤمن أنت فقط"
لماذا يؤمن أحد بشخص آخر غير نفسه؟ أحيانًا يشك المرء باستحقاقه لإليمان فكيف بآخر ل
يعرف ما قلبه وإرادته!
ت اإليمان بي يا سوزانا حين لم أقدر أنا على ذلك؟ وبدل السؤال بكيف ،أسأل
-كيف استطع ِ
ي ول أراه؟
ت ترينه ف ّ
لماذا؟ ما الذي كن ِ
يفكر مقاط ًعا ذاته ،يبدو اسم سوزانا مألوفًا بشكل غريب ،لم؟ ليس اسم زوجته فقط بل مألوفًا
بشكل آخر ،يتجاوز وقت حلمها حين تستمر بترديد السؤال "هل تعلم ما كان حلمي يا أركاد؟"
أنى لحلم أن يتحقق بزواجها ما لم تكن قد تمنته قبل ذلك ،لكنه زواج تقليدي للغاية ،تدبير من
المحرك
ّ والدته المسيطرة على حياته متهمة إياها بالركود والتوقف في مكانها ،والزواج سيكون
من هي سوزانا؟ لماذا يشعر أنها تذكره بطفلة كانت تشاركه كل ألعابها في المدرسة البتدائية؟
دون حاجة لذكر مدى مقت الناس له ،لطفل عديم البراءة مثله من وقته ذاك ،كانت الوحيدة التي
تعيره اهتما ًما بل بالغ الهتمام وشديده
ً
أصل؟ عيونها لماذا كانت تهتم؟ أين أنانية األطفال بالحتفاظ بألعابهم؟ لم لم يشعر أنها طفلة
كانت تلمع ببريق غريب ل يشابه أي عين رآها ،ليس وكأنها جميلة ،هل يعرف الطفل ما هي
مقومات الجمال من األساس؟
يسارا أسفل شفتها ،تما ًما مثل زوجته سوزانا ،وكأن ضبابًا بدأ ينقشع
ً كانت لديها تلك الشامة
أخيرا عن عينيه بعد حجبه للكثير من الذكريات الثمينة لسنوات.
ً
"ستكون شيئًا عظي ًما يو ًما أركاد ،أمي دائ ًما تقول لي أن األشخاص العظام يولدون حين يتوقف
الناس عن اإليمان بهم ،ول إيمان تجاهك منذ البداية ،طفل ل يعطيه أحد أدنى فرصة ليحلم"
ت من قال أن النجاح يولد حين يؤمن شخص ما بك؟ سوزانا ...لم أكن أعلم أنكِ ظل حياتي
-ألس ِ
الذي يظهر لي حتى في عمق الظلم .يظهر لي حتى بعد اختفائكِ
توجه نحو حاسوبه ليكمل كتابة الرواية األخيرة ،لختتامها دون معرفة بما يجب أن يفعله
تستمر القصة أدناه
أشعل المصباح المنضدي قرب سريره لينير الغرفة بضوء باهت يكفي ليجول عقله في الزوايا
بحثًا عن بقايا الذكريات التي يقتات عليها
نظر إلى الرفوف المواجهة للنافذة ،تلك المجاورة لقطعة الصحيفة القديمة غير أنها باتت تبدو
أجدد بتأطيرها وتعليقها بشكل يليق بها إن كانت تستحق!
وعلى تلك الرفوف كان ذلك الشيء يرسل لمعة بين حين وآخر ،مجسّم ذهبي يمثّل الجائزة التي
نالها عن روايته األخيرة
-جائزة في الحلم وأخرى في الواقع ،أُحسد على هذا حت ًما
لكن يتشاركها مع من؟ ربما مع ذلك الملصق الموضوع بإطار فضي قرب الجائزة ،يحمل
صورة زوجته سوزانا وتحتها "مفقودة"
اختفاء بل أثر منذ سنة ونصف ،ل دليل يُذكر ول احتمال لبقائها حيّة ،البعض يفسره هروبًا من
الجحيم الذي كانت تعيشه بل استغرب الكل تأخر هروبها لخمس سنوات
نهض من سريره متوج ًها بخطى ثقيلة ونظرات جادّة نحو الكتاب الموضوع على أحد الرفوف
مجاورا لكتب أخرى كثيرة غير أنه موضوع بشكل مختلف ،نائم غير واقف ،يفتحه كل يوم لذا
ً
يتكاسل من إدخاله بين البقية ومعاودة إخراجه
الرواية األخيرة ،والتحفة األخيرة ،تلك التي تطلبت منه جهدًا وكلفته زوجته لتكتمل ،وما زال
يسأل نفسه هل كانت تستحق؟
"لن يقف شيء بوجهك يا أركاد ،ل تنس السحر الذي تمتلكه ،ذاك الذي أوصلك لما أنت عليه
اآلن"
ي إنهاء كل رواياتي ،أحيانًا ل يجد
"أي سحر هذا؟ إنها العقدة التي توقف الكاتب ،ليس وكأن عل ّ
ً
سبيل فيتوقف" الكاتب
"ربما ل يجد الكاتب لكنك ستجد ،ف ّكر وتخيّل يا عزيزي ،لب ّد من سبيل تكمل معه األحداث،
وسأذكرك بهذا حين أقرؤها كاملة"
ّ
فتح الرواية التي عنونها بـ"ترنيمة الهاوية" وقلب صفحاتها حتى وصل للمئة الثانية من الثلث
حيث ذلك المشهد ،وتلك الفأس يقتلع بها صاحبها قلب ضحيته ،لول ضحية كهذه لما عثروا على
الجاني في نهاية المطاف ...لول هذه الضحية لما اكتملت األحداث ...لول سوزانا لما تمكن من
إنهائها
لم تخبره يو ًما أن السحر يمكن أن يمتد خار ًجا من حروفه نحو العالم الحقيقي ،ما الذي دهاه
وقتها ليفكر "شخصية قوية وضعيفة في ذات الوقت ،ل تخاف لكنها تهرب متمسكة بشيء ثمين
لها ،شخصية ستخسر الكثير لو قُتِلت ...شخصية مثل سوزانا ستفي بالغرض"
لم يعلم وقتها كيف اختفت زوجته ،لم يعلم كيف تمت كتابة هذا المشهد من دون تدخله ،كيف
صارت سوزانا ضحيته التي بفضلها نال جائزته ،كانت محقّة بشيء مهم أل وهو السحر الذي
يمتلكه موصل إياه لهنا
حين يفوز المرء بحلمه بعد أن يخسر من كان يعتبره حلمه ،هل يُمكن أن يُس ّمى ً
فائزا؟
لو عرف أحد أن هذه الضحية داخل كتابه لم تكن سوى زوجته التي حتى في كابوسه يراها
ترسم طيف ابتسامة كما لو أنها سعيدة بتضحيتها مقابل نجاح عزيز قلبها ال ُمقتلع ،هل سيظل
ً
فائزا في نظره؟
انتهت!،،،
ترنيمة الهاوية.