Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 9

‫‪1‬‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪2‬‬

‫يا له من شعور غريب‪،‬‬


‫أن تشتاق ألكثر شيء تكرهه أو ظننت أنك تكرهه ‪،‬‬
‫وما يزيد غرابة الشعور أنك السيء بالقصة والشرير الذي ‪-‬بشكل ما‪-‬‬
‫يراه الجميع الضحية المسكينة‪،‬‬
‫بعد الندم‪ ،‬لن يظل سوى المزيد منه‪..‬‬
‫مزيد من ندم‪.‬‬
‫ُمكتملّة ‪.‬‬

‫{الناحية القانونية © ‪ :‬أل ُحقوق تَعو ُد لي ككاتِبة أصلية}‪.‬‬


‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫‪Instagram:may_3.6‬‬
‫‪Telegram:MAY2333‬‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪3‬‬

‫"هل تستحق أن تُنشر؟"‬


‫بعد ما حصل قبل أيام‪ ،‬سيكون تجاهل نشرها مضيعة لحياة كاملة تم وأدها بأجزاء الثانية‪ ،‬بل‬
‫تلطيخ اليد بدماء أحدهم‪ ،‬قتل عن طريق النيّة فقط وياله من تأثير سريع!‬
‫سا عميقًا وزفره بشكل أعمق‪ ،‬وباشر بالضغط على أزرار حاسوبه المحمول‪ ،‬يكتب بشيء‬ ‫أخذ نف ً‬
‫من التردد الذي يسهل على من يراقبه استشعاره‪ ،‬لكن وحمدًا لل لم يكن هناك أحد‪.‬‬
‫لطالما أزعجه أن يكتب بوجود شخص أو شيء يتحرك‪ ،‬ل ساعة في المنزل تدق في رأسه ‪-‬فقط‬
‫واحدة كانت لسنوات متوقفة وعادت‪ -‬ول أرواح تشاركه السقف لتوتره بأنفاسها‪.‬‬

‫ل صوت يُسمع سوى كبسة األزرار المتتابعة‪ ،‬وكم كان يُع ّد هذا الجو المثالي له‪ .‬الجو الذي كان‬
‫سببًا بجعله واحدًا من أشهر كُتّاب الروايات الذين ل يمكن ّأل يسمع باسمهم أحد!‬

‫لكن منذ أيام قلئل‪ ،‬بات يشعر أن هذه الطقوس ما عادت تجدي بل لم تكتفي ّإل بإثارة شعور‬
‫الختناق لديه‪ ،‬ما دفعه لكتابة خاتمة الرواية التي ه ّم بها لتوه‪.‬‬
‫يغرد العصفور دون علمه أنك جاحد‬
‫" ّ‬
‫يغرد لك غير فاهم للغة تذمراتك‪ ،‬ظانًا أنها شيء من اإلعجاب‬
‫ّ‬
‫ناسيًا أنك ل تملك أجنحة‪ ،‬يمكنك التصفيق إل أنك ل تفعل‬
‫وما زال ل يفهم لم ترمي عليه بالحجارة!‬
‫هل ألنك لم تجد الورد حولك؟ أل تقاوم إل أن ترمي شيئًا من شدّة إعجابك!‬

‫لكنك أصبته!‬
‫وطار بعيدًا خائفًا خائب األمل منك‬
‫طار‪ ..‬وعرفت عند السكون الذي احتل حياتك أن صوته كان كل ما اعتدت سماعه‬
‫سلِب منك‪ ...‬بك‬
‫وقد ُ‬

‫ولهذا أكتب روايتي األخيرة معلنًا اعتزالي‬


‫هل يعتزل الكاتب في ذروة شهرته؟ أجل‪ ،‬حين يفقد الشيء الذي كان يكتب ألجله‬

‫ل‪ ،‬بل حين يفقد الشيء الذي ألجله صار ما هو عليه اآلن‪ ،‬وإن كان قد أنكر ذلك لسنوات"‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪4‬‬

‫وثانيةً أعاد طرح سؤاله‪ ،‬هذه المرة بصوت مسموع ع ّل الصمت الذي ضاق ذرعًا به يجيب‪:‬‬
‫هل تستحق أن تُنشر؟‬

‫ماذا لو عرف الناس الحقيقة خلفها؟ هل ستكون برأيهم أجمل رواية كتبها أم نكرة تُحرق كل‬
‫نسخها المطبوعة؟ هذا إن طُ ِبعت!‬
‫مرة أخرى‪ ،‬هل يرسله أم ل! عليه أن‬
‫أغلق حاسوبه بعد أن انتهى من تخزين الملف‪ ،‬سيفكر ّ‬
‫يجيب على السؤال األول ً‬
‫أول‪.‬‬
‫دفع بكرسيه ذي العجلت للخلف‪ ،‬ناهضًا بسرعة‪ ...‬راميًا خصلته السوداء بعيدًا عن عينيه‪،‬‬
‫وربما كانت هذه حركة خاطئة إذ كانت الشيء الوحيد الذي يخفي تجمع الدمع غير المألوف‬
‫لديه‪.‬‬

‫عليه أن يع ّد عشاءه بنفسه وهذا شيء آخر غير مألوف‪.‬‬


‫***‬
‫ياله من حلم يتكرر كل ليلة‪ ،‬يحطم رتابة األيام التي يعيشها بملل تباعًا‪ ،‬وتظن لوهلة أن قطرات‬
‫العرق التي تتراقص على جبينه بعد اليقظة الفزعة ستعطي انطباعًا عن ما هية هذا الحلم‪ ،‬إن‬
‫صح تسميته بهذا‪.‬‬
‫لكنك لن تخمن‪ ،‬حتى لو أخبرك أركاد بأنه يراها كل يوم تجري أمامه يلحقها ذلك الدموي‬
‫سا من إمساكها لسرعتها بل هو الخوف‬ ‫يجرها خلفه‪ ،‬متباطئًا في ملحقته لها ليس يأ ً‬
‫بفأسه التي ّ‬
‫الذي ينبعث منها‪ ،‬تلك الرائحة التي تشبع بها المكان وأين ما اختبأت سيجدها لذا على مهله‪ ،‬ليس‬
‫هناك ما هو أفضل من التلعب بفريستك قبل الفتك بها‪ ،‬الحظوة بجرعات من األمل التي ما‬
‫تكفي لس ّد رمق الروح المتهالكة ثم سلبها إيّاها بكل بساطة‪.‬‬

‫ليس الكابوس في أن يراها تُطارد هكذا‪ ،‬لقد اعتاد كما يظن على هذا المشهد منذ عدّة أيام‪ ،‬ولن‬
‫يكون رؤية روحها تُزهق وأعني حرفيًا (رؤية روحها) ففي الحلم كل شيء ُمتاح‪ ،‬حتى هذه‬
‫اإلطللة القريبة للحدث دون أن يعيرك الجاني أدنى اهتمام‪ ،‬وليس وكأنك غير موجود بل هي‬
‫الصدمة حين يرفع قناعه ‪-‬الملطخ بشيء أسود بدا كالدماء لكنه ليس كذلك‪ -‬ليظهر وجهك نفسه‪.‬‬
‫كما لو أنك تشاهد فيل ًما ببطولتك‪.‬‬
‫أنفاس متقطعة وقبل الشهقة األخيرة‪ ،‬تغطي وجهها بارتفاع الفأس نحوها لتنطق‪ :‬أركاد!‬
‫مرة رغم أنه‬
‫ومجددًا لم يكن هذا هو الكابوس‪ ،‬على األقل ليس بالنسبة له‪ ،‬يتساءل في كل ّ‬
‫ظا بشيء من بقايا النبضات عالقة تطالب‬ ‫يعرف الجواب "لماذا يقتلع قلبها الذي ما زال محتف ً‬
‫بجرعة أمل صغيرة تحييه؟ يحمله نحو تلك المنصة العالية بعد أن تبدّلت هيأته لشيء أنيق‬
‫بسترته الرسمية البيضاء‪ ،‬قميص بذات اللون مع ربطة عنق بلون السائل الملطخ لفأسه المعلقة‬
‫على حزامه‪ ،‬يالها من أناقة غريبة تكفي ليصفق الجمهور بحرارة‪ ،‬لماذا يسلم القلب للشخص‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪5‬‬

‫الواقف أمامه عديم الملمح ليأخذ منه تلك الشهادة التقديرية والتمثال الصغير الذهبي علمةً‬
‫إلبداعه مجهول المصدر؟‬
‫كان هذا كابوسه‪ ،‬تلك البتسامة التي ترتسم على محياه حين ينحني احترا ًما للجمهور المتحمس‪،‬‬
‫يفر منه‪ .‬كابوسه الذي ل يستيقظ منه فزعًا أبدًا لكنه يتمنى‬
‫لحظة انتصاره هي كابوسه الذي لن ّ‬
‫لو أنه ل يستقظ البتة‪.‬‬
‫فجرا‪ ،‬موعد الطقوس اليومية ودوامة حياته التي توقفت منذ مدّة‪ ،‬تدور لترميه في‬
‫الساعة الثالثة ً‬
‫ّ‬
‫مميزة عنده‪ ،‬لقد كانت الساعة الفاصلة بين‬ ‫ذات المكان بشكل متكرر‪ .‬تملك هذه الساعة ذكرى‬
‫فشله ونجاحه‪ ،‬بين القاع الذي كان فيه وعاد بعد ق ّمة دامت لسنوات‪ ،‬ليس وكأن أحدًا يعلم‬
‫سرا بينهما لألبد‪.‬‬
‫بعودته‪ ،‬ل أحد غيرها ول أحد يستطيع سماعها ليعرف منها‪ .‬ستظل الهاوية ً‬
‫"تستطيع فعلها‪ ،‬عدم رؤيتك للجمال داخل كتاباتك ل يعني عدم وجوده‪ ،‬فها أنا أراه واض ًحا‬
‫يتألأل شغوفًا‪ ،‬يطلب رحمتك ّأل تقوم بوأده بعد أن ذاق حلوة ذاته لتوه"‬

‫‪-‬كم كانت عبارات سخيفة ترددينها باستمرار‪ ،‬وكم كنتُ أكثر سخافة لنجرافي معها حتى‬
‫وصلت لما وصلت إليه‪.‬‬

‫ليس من أحد حوله لذا ل مانع من التحدث بصوت مرتفع ليتناسى وحدته التي تذكره بها دقات‬
‫عقارب الساعة الجدارية الكبيرة المزعجة التي كانت متوقفة لسنوات لكنها عادت للعمل فجأة‪.‬‬
‫"ألم أقل لك أنك تستطيع فعلها! يا إلهي لقد تحقق ما كنت أدعوه حقًا‪ ،‬فخورة بك"‬
‫ت بشيء غير‬
‫أمال فمه صانعًا نصف ابتسامة ساخرة من ذكرى كهذه‪ :‬فخورة؟ كما لو أنكِ قم ِ‬
‫الدعاء الذي ما احتجته يو ًما‪.‬‬

‫ضوء القمر المكتمل تلك الليلة كان يكفي لتحويل رجاله الخياليين في طيّات كتبه لذئاب جائعة‬
‫تجوب مدينته إل أنها لم تفعل‪ ،‬ليس لشيء سوى أن الذئب األكبر يكفي‪ ،‬وما يفعله هذا القمر‬
‫اليوم إنارة الجدار المقابل للنافذة الخالية من الستائر‪ ،‬ليستقر الضوء الخفيف على قطعة من‬
‫ّ‬
‫التمزق‪.‬‬ ‫بخلوها من إطار يحميها من‬
‫ّ‬ ‫صحيفة معلقة بترتيب مهمل كما يجب الوصف‬
‫الخيال لن يمتد ليجعل هذا الضوء المتسلل يكفي لقراءة ما هو مكتوب لكنه فقط حفظها عن ظهر‬
‫ط‬‫مرة قرأها ولو حاول العد لفاق عدد الخراف التي يطاردها الذئب قبل أن يغ ّ‬
‫قلب‪ ،‬ل يعلم كم ّ‬
‫في النوم‪.‬‬
‫"حوار مع الفائز بجائزة رواية العام السيد أركاد دويل‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪6‬‬

‫‪-‬لقد خل كتابك من أي إهداء‪ ،‬ظن الجميع أن السيدة سوزانا ستحظى باهتمامك األكبر إذ نعلم‬
‫بسبب من تم نشر كتابك‬
‫هل شعرت بعجز في ترتيب كلمات اإلهداء لثقل المهمة سيد أركاد؟‬
‫‪-‬اهتمام؟ ثقل؟ هل هناك من يستحق اإلهداء أكثر من الكاتب نفسه؟‬

‫‪"...‬‬
‫حوارا يحوي هكذا جواب يُنشر‪ ،‬لكن لن يدرك أحد الشيء األكثر غرابة‪ ،‬ل‬
‫ً‬ ‫كان غريبًا كيف أن‬
‫أحد سيفعل يو ًما‪.‬‬
‫"عزيزي‪ ،‬كم أنا سعيدة بنشرهم لحوارك‪ ،‬كم أعجبتني ثقتك باإلجابة إذ لو كنت مكانك لما قدرت‬
‫على غير اللف والدوران بمجاملت عقيمة‪ ،‬بالفعل أنت أكثر من يستحق اإلهداء وكم أتمنى لو‬
‫سا‪ ،‬فخورة بك"‬‫كنت قد كتبته أسا ً‬
‫للمرة الثانية‪ ،‬يقف الشريط عند هذه الكلمة غير مستوعب لسببها‪ ،‬لسبب التمسك بها‪ ،‬وكما‬
‫المرات التي أراد‬
‫تجري عادته حين يصل لهذه المرحلة يتساءل‪ ،‬هل غضبت منه يو ًما؟ كم عدد ّ‬
‫يمرغ لطافتها المصطنعة –بنظره‪ -‬بالتراب‪ ،‬لكم كانت أمنية ما عاد‬
‫فيها أن يسحق أعصابها‪ ،‬أن ّ‬
‫بمقدوره تحقيقها اآلن‪ ،‬تبدل الوقت وتبدلت األماني‪.‬‬

‫"هل تعلم ما كان حلمي يا أركاد؟ أشك أن ستفعل إذ حين يتحول الحلم لحقيقة يفقد هيأته األولى‬
‫ويفقد القدرة على الشعور بنهاية مطافه‪ ،‬هل كنت تدرك نهاية حلمي السعيدة أركاد؟"‬
‫‪-‬ببساطة‪ ،‬يستحيل أن أدرك نفسي بنفسي دون السخرية من سخافة أحلمكِ ‪ ،‬صغيرة جدًا ومتدنية‬
‫ت بإنجازه منها‪.‬‬
‫كسقف طموحاتك وما قم ِ‬
‫تستمر القصة أدناه‬

‫كان السؤال يُطرح باستمرار‪ ،‬من أين يأتي السلم الذي يخلق ملمحها طاف ًحا يُغرق ما حوله‬
‫بهدوء يُحسد هذا الغريق عليه؟ من أين وهي تعايش الشيطان بذاته!‬

‫لقد كان أشهر الكتّاب في عقده الرابع لكنه وللحق تجاوز بسلطة لسانه واستهزائه باآلخرين‬
‫العقود العشرة التي يمكن أن يعيشها المرء كح ّد‪ .‬كانت انطلقة غريبة ساحقة بنجاحها‪ ،‬طامرة ما‬
‫حولها من إنجازات متواضعة وأسماء ألصحابها تحت تراب النسيان في فترة قياسية‪ ،‬أنى‬
‫الوسيلة؟ ما السر في نجاح بدا كأنه أتى في طرفة عين من السهولة؟‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪7‬‬

‫"في اإليمان كل األسرار يا أركاد‪ ،‬حين يؤمن بك شخص من أعماق قلبه سيدفعك لغيوم السماء‬
‫السابعة التي لن تبصرها إل حين وصولك‪ ،‬وسأكون لك هذا الشخص‪ ،‬ستراها كما لم يفعل أحد‬
‫ألنك تقدر‪ ،‬أؤمن أنك تقدر ويبقى أن تؤمن أنت فقط"‬

‫لماذا يؤمن أحد بشخص آخر غير نفسه؟ أحيانًا يشك المرء باستحقاقه لإليمان فكيف بآخر ل‬
‫يعرف ما قلبه وإرادته!‬

‫ت اإليمان بي يا سوزانا حين لم أقدر أنا على ذلك؟ وبدل السؤال بكيف‪ ،‬أسأل‬
‫‪-‬كيف استطع ِ‬
‫ي ول أراه؟‬
‫ت ترينه ف ّ‬
‫لماذا؟ ما الذي كن ِ‬

‫يفكر مقاط ًعا ذاته‪ ،‬يبدو اسم سوزانا مألوفًا بشكل غريب‪ ،‬لم؟ ليس اسم زوجته فقط بل مألوفًا‬
‫بشكل آخر‪ ،‬يتجاوز وقت حلمها حين تستمر بترديد السؤال "هل تعلم ما كان حلمي يا أركاد؟"‬
‫أنى لحلم أن يتحقق بزواجها ما لم تكن قد تمنته قبل ذلك‪ ،‬لكنه زواج تقليدي للغاية‪ ،‬تدبير من‬
‫المحرك‬
‫ّ‬ ‫والدته المسيطرة على حياته متهمة إياها بالركود والتوقف في مكانها‪ ،‬والزواج سيكون‬
‫من هي سوزانا؟ لماذا يشعر أنها تذكره بطفلة كانت تشاركه كل ألعابها في المدرسة البتدائية؟‬
‫دون حاجة لذكر مدى مقت الناس له‪ ،‬لطفل عديم البراءة مثله من وقته ذاك‪ ،‬كانت الوحيدة التي‬
‫تعيره اهتما ًما بل بالغ الهتمام وشديده‬
‫ً‬
‫أصل؟ عيونها‬ ‫لماذا كانت تهتم؟ أين أنانية األطفال بالحتفاظ بألعابهم؟ لم لم يشعر أنها طفلة‬
‫كانت تلمع ببريق غريب ل يشابه أي عين رآها‪ ،‬ليس وكأنها جميلة‪ ،‬هل يعرف الطفل ما هي‬
‫مقومات الجمال من األساس؟‬
‫يسارا أسفل شفتها‪ ،‬تما ًما مثل زوجته سوزانا‪ ،‬وكأن ضبابًا بدأ ينقشع‬
‫ً‬ ‫كانت لديها تلك الشامة‬
‫أخيرا عن عينيه بعد حجبه للكثير من الذكريات الثمينة لسنوات‪.‬‬
‫ً‬
‫"ستكون شيئًا عظي ًما يو ًما أركاد‪ ،‬أمي دائ ًما تقول لي أن األشخاص العظام يولدون حين يتوقف‬
‫الناس عن اإليمان بهم‪ ،‬ول إيمان تجاهك منذ البداية‪ ،‬طفل ل يعطيه أحد أدنى فرصة ليحلم"‬

‫ت من قال أن النجاح يولد حين يؤمن شخص ما بك؟ سوزانا‪ ...‬لم أكن أعلم أنكِ ظل حياتي‬
‫‪-‬ألس ِ‬
‫الذي يظهر لي حتى في عمق الظلم‪ .‬يظهر لي حتى بعد اختفائكِ‬

‫توجه نحو حاسوبه ليكمل كتابة الرواية األخيرة‪ ،‬لختتامها دون معرفة بما يجب أن يفعله‬
‫تستمر القصة أدناه‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪8‬‬

‫‪-‬هل هو الوداع سوزانا أم أنني سألتقي بكِ بكل بساطة؟‬


‫***‬
‫فجرا‪ ،‬لطالما أحب الوحدة‪ ،‬لطالما كره أن يشاركه أحد حياته ولو سألته اآلن بعد سنة‬
‫الثالثة ً‬
‫الترمل لقال أنه ما يزال يحبها‪ ،‬يألف الفراغ الذي صنعه بيديه بعد حفره لروحه‬
‫ونصف من ّ‬
‫ورميها في الهاوية‬

‫أشعل المصباح المنضدي قرب سريره لينير الغرفة بضوء باهت يكفي ليجول عقله في الزوايا‬
‫بحثًا عن بقايا الذكريات التي يقتات عليها‬
‫نظر إلى الرفوف المواجهة للنافذة‪ ،‬تلك المجاورة لقطعة الصحيفة القديمة غير أنها باتت تبدو‬
‫أجدد بتأطيرها وتعليقها بشكل يليق بها إن كانت تستحق!‬
‫وعلى تلك الرفوف كان ذلك الشيء يرسل لمعة بين حين وآخر‪ ،‬مجسّم ذهبي يمثّل الجائزة التي‬
‫نالها عن روايته األخيرة‬
‫‪-‬جائزة في الحلم وأخرى في الواقع‪ ،‬أُحسد على هذا حت ًما‬
‫لكن يتشاركها مع من؟ ربما مع ذلك الملصق الموضوع بإطار فضي قرب الجائزة‪ ،‬يحمل‬
‫صورة زوجته سوزانا وتحتها "مفقودة"‬
‫اختفاء بل أثر منذ سنة ونصف‪ ،‬ل دليل يُذكر ول احتمال لبقائها حيّة‪ ،‬البعض يفسره هروبًا من‬
‫الجحيم الذي كانت تعيشه بل استغرب الكل تأخر هروبها لخمس سنوات‬

‫نهض من سريره متوج ًها بخطى ثقيلة ونظرات جادّة نحو الكتاب الموضوع على أحد الرفوف‬
‫مجاورا لكتب أخرى كثيرة غير أنه موضوع بشكل مختلف‪ ،‬نائم غير واقف‪ ،‬يفتحه كل يوم لذا‬
‫ً‬
‫يتكاسل من إدخاله بين البقية ومعاودة إخراجه‬

‫الرواية األخيرة‪ ،‬والتحفة األخيرة‪ ،‬تلك التي تطلبت منه جهدًا وكلفته زوجته لتكتمل‪ ،‬وما زال‬
‫يسأل نفسه هل كانت تستحق؟‬
‫"لن يقف شيء بوجهك يا أركاد‪ ،‬ل تنس السحر الذي تمتلكه‪ ،‬ذاك الذي أوصلك لما أنت عليه‬
‫اآلن"‬
‫ي إنهاء كل رواياتي‪ ،‬أحيانًا ل يجد‬
‫"أي سحر هذا؟ إنها العقدة التي توقف الكاتب‪ ،‬ليس وكأن عل ّ‬
‫ً‬
‫سبيل فيتوقف"‬ ‫الكاتب‬

‫"ربما ل يجد الكاتب لكنك ستجد‪ ،‬ف ّكر وتخيّل يا عزيزي‪ ،‬لب ّد من سبيل تكمل معه األحداث‪،‬‬
‫وسأذكرك بهذا حين أقرؤها كاملة"‬
‫ّ‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬


‫‪9‬‬

‫ت‪ .‬لن تفعلي يو ًما ول أدري هل هو‬


‫‪-‬لكنكِ لم تفعلي‪ ،‬أنهيتها وبمقدور الجميع قراءتها عداكِ أن ِ‬
‫شيء يؤسف عليه أم ل‪ .‬ما زلت متعطشًا لسيل مديحكِ نحو كل ما أكتب‬

‫فتح الرواية التي عنونها بـ"ترنيمة الهاوية" وقلب صفحاتها حتى وصل للمئة الثانية من الثلث‬
‫حيث ذلك المشهد‪ ،‬وتلك الفأس يقتلع بها صاحبها قلب ضحيته‪ ،‬لول ضحية كهذه لما عثروا على‬
‫الجاني في نهاية المطاف‪ ...‬لول هذه الضحية لما اكتملت األحداث‪ ...‬لول سوزانا لما تمكن من‬
‫إنهائها‬

‫لم تخبره يو ًما أن السحر يمكن أن يمتد خار ًجا من حروفه نحو العالم الحقيقي‪ ،‬ما الذي دهاه‬
‫وقتها ليفكر "شخصية قوية وضعيفة في ذات الوقت‪ ،‬ل تخاف لكنها تهرب متمسكة بشيء ثمين‬
‫لها‪ ،‬شخصية ستخسر الكثير لو قُتِلت‪ ...‬شخصية مثل سوزانا ستفي بالغرض"‬
‫لم يعلم وقتها كيف اختفت زوجته‪ ،‬لم يعلم كيف تمت كتابة هذا المشهد من دون تدخله‪ ،‬كيف‬
‫صارت سوزانا ضحيته التي بفضلها نال جائزته‪ ،‬كانت محقّة بشيء مهم أل وهو السحر الذي‬
‫يمتلكه موصل إياه لهنا‬
‫حين يفوز المرء بحلمه بعد أن يخسر من كان يعتبره حلمه‪ ،‬هل يُمكن أن يُس ّمى ً‬
‫فائزا؟‬

‫لو عرف أحد أن هذه الضحية داخل كتابه لم تكن سوى زوجته التي حتى في كابوسه يراها‬
‫ترسم طيف ابتسامة كما لو أنها سعيدة بتضحيتها مقابل نجاح عزيز قلبها ال ُمقتلع‪ ،‬هل سيظل‬
‫ً‬
‫فائزا في نظره؟‬

‫هو ولحد اآلن لم يعرف‪ ،‬هل كانت تستحق أن تُنشر؟‬

‫انتهت‪!،،،‬‬
‫ترنيمة الهاوية‪.‬‬

‫مي سليمان أبو غريقانة‬

You might also like