Professional Documents
Culture Documents
قمر أبو غريب كان حزيناً
قمر أبو غريب كان حزيناً
قمر أبو غريب كان حزيناً
أجزاء من كتاب
قمر أبو غريب ...كان حزينا
وقائع سجن أبو غريب .قسم األحكام اخلاصة
1987ـ 2002
2
قمنا يف موقع مذكرات كتاب قرأته جبمع مواد هذا الكتاب من
مل نعثر على نسخ من هذا الكتاب سواء أكانت أكرتونية أو مطبوعة،
نعرف حجمه من الكتاب املطبوع الذي مل نعثر عليه! وقد قمنا يف آخر
الكتاب بتذييل قصة "فراس" التي وجدناها يف أحد املواقع مسندة إىل
الكتاب املنشور.
3
ابتسم..ابتسم..بعد شوية..ابتسم هكذا كان المصور يصدر تعليماته لي
كمصور محترف ومشهور في بغداد بكونه مصور اللقطات الجميلة
والسعيدة .وكان
ذلك بعد أيام قليلة من خروجي من السجن ،صورة تصلح لجواز سفر،
للذكرى ،أو تلبية لرغبة العائلة بوصفها الصورة األولى في الحرية .ولكن
هذا المصور الماهر كان يجهل بالطبع مالذي يعانيه إنسان مثلي ،يتعرض
للتهشيم دون هوادة منذ عشرين عاماً! ومن عذابات ال يمكن حتى تخيلها،
منها :أنه لم يشاهد زوجته وأوالده طيلة هذه المدة ،منها ستة عشر عاما ً
يرزح في سجن أبو غريب ،لم يستلم فيها سوى رسائل معدودة ال يتجاوز
عددها أصابع اليد الواحدة.
189شهرا ً
813أسبوعا ً
5960يوما ً
13560ساعة
8193600دقيقة
4
أفقت من أفكاري على صوت المصور … ابتسم …ابتسم ،وتذكرت فورا ً
الجملة األخيرة التي بها أنهى كونستانتان جورجيو روايته الشهيرة " الساعة
الخامسة والعشرين ،عندما طالب المصور بطل الرواية يوهان مورتيز
باالبتسام لكي تكون الصورة جميلة ،كأن ما ينقصه هو فقط أن يبتسم
ولتصبح الصورة جميلة ، Smile …. Just smileتلك الجملة كانت
الخاتمة في رواية جورجيو ،وها أنا أضعها كجملة أولى في هذا العمل الذي
أقدمه إلى القراء في بالدنا بدرجة رئيسية … ولكن لماذا هذا الكتاب ؟
بادئ ذي بدء ،أقول إنني لم أكن أريد أن أدون يوميات أو مذكرات عن
تجربة سجن أبو غريب العميقة ،وهي مؤلمة قبل أي وصف آخر ،مرحلة
وتجربة طالت واستطالت حتى بلغت ستة عشر سنة ،هي من أكثر مراحل
سجن أبو غريب ظالما ً وقهراً .لم أكن أشأ أن أكتب عن تلك السنين إذ ال شك
أن ذاكرتي تحتفظ بذكريات مريرة … والمسيرة كانت تنطوي على صور
مؤسفة إلى جانب الصور المشرقة ،ولكننا نريد هنا تجاوز الصور المؤسفة
لنركز على الصور المشرقة ،على الطيبين من أبناء شعبنا وهي الصورة
العامة الغالبة.
أنني لم أشأ أن يكون هذا العمل من أدب السجون ،فأنا لم أتناول الموضوعة
على شكل يوميات أو مذكرات ،بل جوهر التجربة إنسانيا ً وسياسيا ً وثقافياً.
لقد توخيت الدقة في المعلومات التي أوردتها ،فما أؤكده فهو أكيد ،أما تلك
5
المعلومات المسموعة والمنقولة التي تدور في إطار الشائعات ،والتي تسيء
(برأيي ) إلى التاريخ أو تقلص من الحقيقة أو تعمد إلى المبالغة في الوقائع
والمعطيات التي ال تفيد بالدنا وال قضية الحقوق األساسية لإلنسان العراقي.
إن الرفاق واألصدقاء واألخوة والزمالء الذين عاشوا تجربة سـجن أبو
غريـب ،في الحقبة بين ،2002-1987وأقدر أعدادهم بحوالي – 13000
،13500واحتماالت الزيادة والنقصان قليلة .وهناك نزالء حصلوا على
مراسيم عفو خاصة وعددهم بسيط ،و من توفي في السجن ألسباب صحية،
وهم بين عشرون وخمسة وعشرون نزيالً ،كانت وفاة البعض منهم مفاجأة
كبيرة مثل الرفيق العزيز سالم حسن ،واألخ عبد اللطيف والمرحوم نجم عبد
هللا السعدون ،واستشهاد الرفيق معن وهيب ،الذي أعدم لمواصلته النضال
داخل السجن ،وإعدام الشاب عوده ديوان والي ،وانتحار المرحوم أحمد
الغزي ،وسوف لن يفارقني إلى األبد منظر شقيقته التي جاءت إلى السجن
للمواجهة ففوجئت بوفاة شقيقها ،وال يمكنني مطلقا ً أن أصف منظرها،
وتغالبني الدموع كلما تذكرتها .وهناك حادثة إعدام سبعة عشر من النزالء
عام 1991كما أن عددا ً محدودا ً من النزالء تمكن من الفرار من السجن ….
إلى الجميع تحية وفاء.
هناك حشد كبير جدا ً من الرفاق واألصدقاء واألخوة الذين يستحقون التحية،
وعددهم كبير جداً ،وأخشى أن تخونني الذاكرة في بعضهم ،لذلك وتجاوزا ً
لهذه الحالة … .تحية محبة لهم جميعاَ.
6
كل تضحية هي رخيصة من أجل بالدنا وشعبنا
عندما فتحت عيني ،حيث كان أخي وسام يبذل جهده بإيقاظي بطريقة يخفف
فيها الصدمة إلى أقصى قدر ممكن ،ولكن أنى له ذلك ،فقد فتحت عيناي على
جندي يرتدي الثياب المرقطة يصوب بندقيته اآللية صوبي وال تبعد فوهتها
بأكثر من متر واحد عني ،وكأنني عصفور نادر يخشى أن يفلت من يديه ،بل
من مرمى بندقيته.
لم نكن بحاجة لبرهة طويلة لمعرفة كيف حدث هذا األمر ،فهناك خرق ما في
مكان ما من عملية لم تكن منسقة كما ينبغي ،رغم أن أطرافها جميعا كانوا
على درجة من الوعي والتجربة السياسية.
7
كانت السلطات قد منعتني من السفر للعودة إلى ألمانيا حيث تقيم عائلتي،
وكنت قبل ذلك قد قدمت استقالتي من وزارة الخارجية احتجاجا ً على سوء
المعاملة ،وبذلك قطعت كل صلة لي بأي دائرة من دوائر الدولة ،كما حرمت
أيضا ً من راتبي التقاعدي وباءت كافة الجهود للخروج من البالد بصورة
شرعية بالفشل بما في ذلك محاوالت بذلها أصدقاء لي ،وحصولي على عقد
عمل ممتاز وفي إحدى دول الخليج .وكانت السلطات تصر على إبقائي في
بغداد وتعمل على كل ما يضايقني ويؤدي إلى هذا الهدف :البقاء في العراق
والعمل في دائرة حكومية تعينها هي ،بما يؤدي إلى وضعي تحت أنظارها
وسيطرتها ،وكان أفضل ما توصلت إليه بهذا الصدد هو العمل في الجامعات
العراقية ،فيما كانت عائلتي (زوجتي وطفالن) ما يزالون يقيمون في ألمانيا
في ظروف صحية ومعيشية ونفسية يصعب فيها االنتقال إلى العراق ،ثم
تحول األمر برمته إلى موقف مهين يصعب احتماله.
أما بالنسبة لي ،فقد اتضح بصورة مؤكدة ،أن اإلقامة والعمل في بغداد هو
ضرب من ضروب المغامرة ومجازفة ال حدود لها ،فقد كانت الثقة في أوطأ
درجاتها .وإذ لم تكن السلطات تمتلك معلومات مؤكدة عن نشاطي السياسي،
ولكن تلك السلطات كانت واثقة بأنها قد تعاملت معي بقسوة وفظاظة بما
يكفي ليضعني في صفوف المعارضة الناشطة في الخارج ،وتلك السلطات لم
تكن تريد أن تهديها شخصا ً مثلي.
8
والواقع فإن السلطات كانت قد تعاملت معي طيلة سنوات بريبة ،فبالنسبة لها،
للسلطات ،ليس سوى العمل الحزبي والتعاون ،وعدا ذلك يضع المرء في
دائرة الريبة والشك ،وكنت أساسا ً شخصية غير مرغوب بها ،حيث كنت من
القلة القليلة من موظفي وزارة الخارجية ،خارج إطار عمل الحزب الحاكم،
فيما كانت مواقفي وآرائي تبدو مزعجة ،كما أنني لم أكن من هؤالء الذين
يحرقون البخور ويطلقون المدائح والتزلف للقيادات .فقد كنت أريد العمل
وفق مقاييس العمل والكفاءة العلمية والوظيفية ،ال أكثر وال أقل … ولكن
ذلك كان صعبا ً … بل يكاد أن يكون مستحيالً.
بعد مضي ثالث سنوات ونصف ،كانت جهودي لمغادرة العراق بصورة
نظامية قد ذهبت أدراج الرياح .وكانت عائلتي ما تزال في برلين (ألمانيا)
وأظهرت السلطات إصرارا ً متزايدا ً على إبقائي في العراق خالفا ً إلرادتي
فقامت بتعييني مدرسا ً في جامعة المستنصرية(معهد دراسات آسيا وشمال
أفريقيا) وكنت قد فقدت األمل نهائيا ً في نيل معاملة عادية ،بل أنني كنت
أتوقع المزيد من تدهور موقفي حيال السلطات ،وحتى العمل الجامعي
األكاديمي لم يكن ليخلو من احتماالت سلبية ،ذلك أن العمل الجامعي كان
مشحونا ً بالفعاليات الدعائية والتحريض ،وزج الكادر التدريسي في أنشطة ال
عالقة لها بالتقاليد الجامعية الرزينة ،بل وتتعارض معها في معظم األحيان.
ومن نافلة الكالم القول بأنني لست معاديا ً لالتجاه القومي االشتراكي ،ولكن
تباعدا ً في مواقعنا الفكرية والسياسية ضمن هذا التيار في مفردات وتفاصيل
9
عديدة ابتدأت منذ عام ،1963واستمرت في التفاعل حتى عام 1968فغدا
تناقضا ً وتنافراً ،ثم تطور إلى مالحقات وتصفيات ،حتى طغت المفردات
والتفاصيل لتصبح أولويات وشعارات رئيسية ،ثم تعاظم دور الفرد في
مصير الشعارات الرئيسية.
أما اآلن ،وقد اتضحت خيوط المسألة فيما بعد ،وكان الشخص الذي كلفته
الشخصية القيادية الكردية ،كان لألسف عميالً لألجهزة األمنية ،وقد كشف
اعتقالنا أمر خيانته ،وقد كشفت األجهزة (االستخبارات العسكرية) عمالته،
إال أنها اعتقدت أن الصيد كان ثمينا ً يستحق معه كشف شخصية هذا العميل
وافتضاح أمره .وهكذا كشفت خيانة عمر علي جرمكه ،وذلك اسمه الحقيقي،
ولكن ثمن تلك الخيانة كان باهظاً ،بل باهظا ً للغاية.
وفي غرف توقيف مكثنا فيها ربما لساعة أو أقل في مركز استخبارات
السليمانية ،تخلصت من بعض األشياء كانت في جيبي ،مادية ومعنوية ،جرى
تسفيرنا بحراسة مشددة إلى كركوك حيث أودعنا موقف استخبارات الفيلق
في معسكر كركوك .والتحقيق الذي كان ابتدائياً ،لم يكن القائم به يحرص
على سماع تفاصيل ،فقد اكتفوا بمعرفة هوياتنا معرفة دقيقة ،وبعد التأكد منها
جرى تسفيرنا بعد مبيت ليلة واحدة فقط إلى بغداد ،مديرية االستخبارات
العسكرية في الكاظمية .وقد تمكنت من معرفة الطرق والشوارع التي نمضي
فيها ،رغم أن عيوننا كانت معصوبة ،فبغداد هي روحنا وكيف ال يعرف
المرء شرايين روحه.
الوقت كان ليالً … فقد استغرقت الرحلة من كركوك إلى بغداد ردحا ً من
الزمن ،وتمت عملية استالمنا في ظروف ال يمكن وصفها اعتيادية ،ال تخلو
من ضربات عشوائية ال معنى لها ،مع شالل من السباب والشتائم التي تفتقر
بصورة تامة إلى األدب واألخالق العامة ،ناهيك عن القانون الغائب ذكره
وتطبيقه والحقيقة أنني لم أكن أفهم مغزى ذلك فقد نكون مذنبين من وجهة
نظر السلطات (بهذا القدر أو ذاك) ،وقد نستحق المحاكمة والعقاب ،ولكني ال
أفهم معنى الشتائم والضرب الذي ال ينطوي إال على معنى واحد ،هو أن
هؤالء الحراس قد اعتادوا اإلهانة ،أخذا ً وعطاء ،وفقدوا حتما الكثير من
12
صفات البشر المحترمين ،ولكن من يهتم …؟ فألمر ال يدور عن احترام هنا،
بل أنني كنت في كثير من الحاالت أتطلع بعمق إلى وجوه المضطلعين
بعمليات الضرب والتعذيب وحفالت الشتائم واإلهانات ،ترى هل كنا نسير
وإياهم في شوارع هذه المدينة ،هل يضمنا جميعا ً هذا الوطن الحبيب ..؟ أم
ترى ويا للفزع ربما قد دخلنا مطاعم ومقاهي مشتركة .األمر بحاجة حقا ً إلى
علماء في الهندسة الوراثية.
13
وموقف مديرية االستخبارات العسكرية(السياسي) والذي يطلق عليه الشعبة
الخامسة ،هو أسوأ موقف شاهدته في حياتي ،وأنا أمتلك تجربة طويلة
بالمواقف والمعتقالت ،فهو أسوؤها لجهة المكان واإلدارة وتضيف الصرامة
العسكرية مزيدا ً من الظالل القاتمة حتى ليغدو حالكا ً وقاسياً .فالزنزانات
الصغيرة التي ال تتسع منطقيا ً (وأي منطق!) ،إال لثالثة أشخاص ،كانت تضم
ما ال يقل عن 12شخصاً .وال يمكننا الحديث عن الراحة أو نظافة طعام
مشبع ،فتلك مصطلحات على المرء أن ينساها نهائياً.
ابتدأ التحقيق بعد يوم أو يومين ،واستغرق وقتا ً طويالً معي بالذات ،لسبع
مرات وعلى يد ثالثة محققين .وقد ابتدأ المحقق في مستهل الجلسة األولى
قائالً ،بأنه يعرفني بصورة جيدة جيدا ويمتلك كافة المعلومات عن تاريخي
السياسي … وأضاف بأنه متأكد بأنني أمين سر القيادة القطرية للحزب …
حزب البعث العربي االشتراكي (الجناح اليساري للحزب ومقر قيادته في
دمشق) ،وهم يطلقون على هذا التنظيم (المنشقين) فيما نطلق نحن عليهم
…اليمين.
ومن هنا فقد تأكد لي بأنهم سيواصلون اإللحاح على هذه النقطة بالذات ،فتلك
تهمة خطيرة ،وليس المهم مآل هذه التهمة بقدر ما هو الضغط البدني
والنفسي الذي سوف يسلط علي ،كما سوف يطلب مني اإلجابة على أسئلة ال
أعرف أجوبتها ،ألنني كنت قد قطعت الصلة التنظيمية مع الحزب منذ عام
1974بل وإني منذ عام 1970كنت أمارس واجبات حزبية ال عالقة لها
14
بتنظيمات الحزب في العراق ،وتنحصر مهماتي الحزبية ،على متابعة
العراقيين القادمين والمقيمين في سوريا ،إضافة إلى واجبات قومية .ولكن من
البديهي أن يبقى والء المرء وإخالصه لحزب تفانى في خدمته ،وهو حي في
قلب وعقل اإلنسان .وقد يختلف المرء مع أفراد وليس مع أهداف وشعارات
األمة.
فقلت للمحقق بكل برود ،إن تصوره غير صحيح ،وإني منصرف بصفة تامة
للبحث العلمي والكتابة والترجمة ،وإن مؤلفاتي وأعمالي تشير بوضوح كاف
لهذه الفعاليات ،وإن قدرة اإلنسان ووقته ال يسمح له بأكثر من ذلك .فحدث
انفراج بسيط عندما قال ،نعم إنه ال يملك دليالً ماديا ً واضحا ً على ذلك ،ولكنه
وبناء على األدلة الحسية (كانت هناك تقارير كثيرة قد كتبت ضدي في ألمانيا
وبغداد) فإنه سيظل على قناعته إلى أن بتوصل إلى إثباتها.
ثم أن التحقيق استغرق وقتا ً طويالً بسبب ضيق أفق أو سخافة المحققين،
فأكثر من مرة يشتد حنق المحقق فينتفض قائالً :بأنه هو مثقف أيضا ً ولست
أنت فقط .ولعل المحقق شعر بشيء من الهزل والسخرية في أقوالي ،وأنا ال
أنكر أنني كنت أحاول أن أحافظ على الفارق في المستوى :سياسياً ،بين
مناضل ومحقق ،أو بين دبلوماسي وأستاذ جامعي وكاتب ( كنت في ذلك
الوقت عضوا ً في اتحاد األدباء والكتاب ،وقد نشر لي حتى ذلك الوقت خمسة
كتب وثالثة تحت الطبع ،وعضوا ً في الجمعية العراقية للعلوم السياسية)،
وبين ضابط غاوي ثقافة مهنته الرئيسية الحرب والضرب ولكن ضرب
15
أعداء البالد ،وليس إخضاع الناس إلى تحقيقات سياسية مهينة ،نعم كان
يحاول إهانتي ولكنه لم يبلغ ذلك قط ،وكنت أبين له أنه أقل من يقدر على
ذلك …أقل بكثير… فأنا ممتلئ كبرياء واعتزاز بنفسي وبما فعلت ،وهذه
ليست سوى خربشات على جدار عال ،وأنا حريص على إبقائه عالياً.
وعندما حاول أن يجرحني بشتم التنظيم الذي انتميت إليه وسب أبرز
شخصياته :األمين العام للحزب ،أو الرفيق أحمد العزاوي والرفيق باقر
ياسين ،كنت أتعمد تحويل الموضوع وأجيب على أسئلة كان قد طرحها علي،
فقد سألني عندما وجد بين أوراقي مخطوطة لعمل مسرحي بعنوان (الناس
واألمل والمستقبل) وجوهر أحداث والعقدة الدرامية للعمل كانت تدور في
مرحلة حرب حزيران ، 1967/وإن كانت تنطوي على رموز كثيرة .وبدا
أن المحقق بالغ العصبية والضيق ،ولم أكن أفهم معنى ذلك .فهو يسأل مثالً
بجدية تامة :لماذا أكتب مسرحيات ،وكانت أي إجابة يمكن أن تؤدي إلى
أسئلة أخرى ،فأجيبه مثالً :قتالً للضجر والملل .ولكن األمر لم يكن لينتهي
بهذا الجواب ،فيسأل مجددا ً :هل تعتقد أنك كاتب مسرحيات جيد ..؟ فأقول
له ،ال أعلم فذلك أمر يقرره القراء والمشاهدون .فينتفض قائالً :وهل كنت
تنوي نشرها أو عرضها على خشبه المسرح ..؟ فأجيبه بكل برود :ال أعلم،
فاألمر سيتعلق أوالً وأخيرا ً بنشر العمل وتسويقه تجارياً.
كما أنهم عثروا بين أوراقي على مشاريع أعمال ذات طابع استراتيجي مثل:
أخطاء استراتيجية فادحة ،والبحث يدور عن أخطاء القيادات المتصارعة
16
خالل الحرب العالمية الثانية .ولم يكن يسرهم وجود مثل هذه األعمال،
ولكني كنت أواصل اللعب معهم ،معصوب العينين.
ذات ليلة طلبني المحقق ،وكانوا يفعلون ذلك بطريقة مهينة(لمن يشعر
باإلهانة) بتوثيق األيادي إلى الخلف وتعصيت العيون والسير حافيا ً مرتديا ً
دشداشة آية في القذارة .وفور وقوفي أمامه ،سألني بلهجة جادة تماما ً :من
يكون العقيد هشام ؟ .ولبرهة وجيزة جداً ،أذهلني هذا السؤال ،ولكن أذني
التقطت صوت تقليب أوراق ،فأدركت على الفور أنهم يعبثون بمحتويات
حقيبة األوراق التي كانت معي .وأن هناك ظرفا ً كبيرا ً كتب عليه العنوان
باللغة اإلنكليزية هكذا ، Col. Hesham :وهكذا فأن السيد المحقق أعتقد
(خطأ ً بالطبع) أن .Collهي مختصر كلمة عقيد ،ولم يكن يعلم … ..وما
أكثر األشياء التي ال يعلمها ،أن مختصر كلمة العقيد هو . .Colووجدتها
فرصتي للعب بأعصابه .فقلت له متسائالً :عقيد ؟ .قال نعم عقيد .فقلت بعد
برهة تفكير ،كان فيها محققي يحرق فيها أعصابه ،فقد اعتقد أنه وضع يده
على سر خطير ،قد يقوده إلى تنظيم عسكري .فقال بنفاد صبر :عقيد أو غير
عقيد ،من هو ،اعترف حاالً .فقلت له هناك مقدم اسمه هشام .فطار شوقا ً
وقال :ومن يكون .قلت له شقيقي هشام وهو مقدم في الجيش .فأصيب بخيبة
أمل شديدة ،ولكنه مع ذلك أعاد الكرة بغباء :ال ،أنه عقيد فمن هو ؟ .
فأدركت أن البد من وضع نهاية لهذه المهزلة ،و إال فإن إثارة أعصاب
المحققين بشدة ،عملية غير محمودة العواقب ،فقلت له بصوت تعمدت أن
17
يكون هادئا ً جدا ً … :أنت تقلب أوراق حقيبتي أليس كذلك ؟ وهناك ظرف
كبير الحجم باللغة اإلنكليزية ؟ فقال بضيق نفس ،نعم ،وهل تتصور إننا
نجهل اإلنكليزية ؟ .فقلت له :بالتأكيد ال ،ولكن مختصر عقيد هو .colوما
مكتوب على الظرف هو .Collوهو مختصر كلمة زميل وهشام هو أستاذ
في كلية التربية البدنية ،والرسالة هي لي تتضمن الموسم القادم للدراسات
العليا في جامعة بيتسبيرج في الواليات المتحدة األمريكية ،وفرصة المشاركة
في كورسات الدراسات العليا.
ومن أهم ما عثروا عليه بين أوراقي ،مشروع مقال بعنوان " النداء األخير
قبل غرق السفينة"وهو لما يكتمل بعد ،أشير فيه إلى أزمة النظام العربي
بصفة عامة والمشكالت التي تواجهها ،وضرورة إتاحة سقف أعلى للحريات
الفردية والثقافية .ورغم رصانة المقال وعدم تحديده لجهة معينة أو نظام
معين ،إال أن المحقق(وفيما بعد الحاكم) اعتبر أن المقال يقصد القيادة في
العراق ،وعلى هذا األساس بنى قناعاته الالحقة وبموجبها أحلت وفق المادة
208المتعلقة بالمطبوعات أو الكتابات إلى محكمة الثورة وحكم علي
بموجبها.
مناقشات طويلة ومجادالت ،ربما لم يكن لبعضها عالقة بالتحقيق ،فقد كنت
أشعر وكأنني حيوان جميل ،نادر أو ثمين بين أيديهم .لسبع جلسات طويلة
أشترك فيها عدد من المحققين ،بينهم ضباط كبار من االستخبارات
العسكرية ،وكان الحديث فيها يدور عن أشياء سخيفة أحياناً ،أو في محاوالت
18
بائسة الستعراض (ثقافتهم) .أما أنا ،فقد كنت أدرك بأن نهاية مهزلة التحقيق
هذه ليست هنا ،على األقل بالنسبة لي ،وأن مصيري سوف يحسم في مكان
آخر ،وال قيمة البتة ألراء هؤالء المحققين ،وعلى األرجح فإن مصيري
سوف سيكون اإلعدام ،إذ هي فرصة للتخلص مني ،وإن كانت األسباب
الداعية لذلك ال تستحق ذلك ،بل بناء على فواتير قديمة بعضها يعود إلى
مرحلة 1964وما بعد ،ثم مرحلة السبعينات في سورية ،وأخيرا ً مرحلة
1974إذن المستحقات قديمة وجديدة ،وال عالقة لها (تقريباً) بموضوع
مغادرة البالد وما يدور من تحقيق أو ما سيسفر عنه من نتائج.
وفي ختام جوالت التحقيق السبعة ،أرغمني المحقق على توقيع إفادة كنت
معصوب العينين خاللها بما ال يسمح لي باالطالع على مضمونها وما يمكن
أن يكون مدون فيها ،وكانت هذه آية في العدالة واألصول القانونية ! وال
أستطيع أن أفهم إلى اآلن ،لماذا كانت هذه األساليب معقدة وسخيفة إلى هذا
القدر ؟ على كل حال وقعت تحت التهديد ،إال إني قلت له ،إنني أعلم أن هذا
التوقيع يعني اإلعدام وهو ما ال يهمني مطلقاً .فاعتقد المحقق إنني أبالغ في
قولي مبالغة ال داعي لها ،فسخر من كالمي .فقلت له :إن هذا ليس مهماً،
المقابر مليئة بقبور البشر ،ومن المؤكد أن اإلنسان يموت ألسباب مختلفة
معظمها ال دخل لكم بها.
عندما وصلنا إلى بوابة السجن العسكري رقم واحد ،ورغم أن عيوننا كانت
معصوبة ،وأيدينا مقيدة إلى الخلف ،كان نسيم الليل البارد منعش ويتسلل إلى
أعماق القلب ،ولكن ما كان بانتظارنا
أمام بوابة السجن كان شيئا ً فضيعاً ،فقد وضعونا وسط دائرة تحلق الجنود
حولنا وانهالوا علينا بالضرب بكل ما في أيديهم :عصي ،أعمدة خيام،
توصيالت كهربائية(كيبالت) ،أنابيب مطاطية(صوندات) ،بل كان الحماس
الوحشي ومتعة التعذيب قد أوصل بعضهم إلى خلع النطاق العسكري
واستخدامه في الضرب .واآلن وبعد انقضاء كل ذلك ،أليس في هذا مدعاة
للخجل … ترى أال يخجل اليوم الذين قاموا بهذه األعمال ؟ … لست مبالغا ً
على اإلطالق فيما أذكر من حقائق ،بل على العكس ،فإنني أتجاهل الكثير من
التفنن في اإلهانة والسرقات … ترى هل يصعب علينا إلى هذه الدرجة أن
20
نخلق مؤسسات محترمة يقوم عليها رجال محترمون ؟ ال يأخذون األمر على
أنه أمر شخصي وعداوة بين المواطن والدولة ؟ وإذا كان هناك رجال غير
محترمين أو مجرمين ،فلتكن الدولة ومؤسساتها محترمة ،ال يلجؤون إلى
الشتائم واستخدام األطراف العليا والسفلي .إنني أسجل هذه هنا للعبرة فقط
… ترى هل نستفيد ؟
كنت أعرف هذا السجن بدقة ،فقد سبق وأن كنت هنا نزيالً عام ،1962أي
قبل خمسة وعشرين عاما ً بالضبط .لذلك كنا نسير معصوبي العيون ،إال أنني
كنت أعرف ممرات السجن وطرقه الداخلية .وهكذا يعيد الزمن نفسه ،فقد
أودعونا بالضبط في ذات القاطع الذي كنت فيه عام 1962ولكن في
الزنزانة المقابلة تماماً .ورغم فضاضة الحالة ،إال إنني كنت في يقظة ذهنية
تسمح لي تذكر تلك األيام والرفاق الذين قاسمونا تلك الزنزانات التي كنا فيها
بكل روح نضالية ،رفاقية وأخوية صادقة ،فتذكرت فؤاد عبد هللا عزيز
ورياض محمد يحي ،وخضير عباس وعدنان الجبوري ،وصباح عبد الغني
عرب ،وطالب حمودي ،وابراهيم سلمان القيسي وكثيرين غيرهم من الرفاق
.
وفي اليوم التالي تكررت مهزلة تعصيب العيون وشد الوثاق ،لنقلنا إلى مكان
آخر تبين فيما بعد أنه معتقل خصص لالستخبارات العسكرية ،وهو تابع
أصالً لقسم األحكام القصيرة في سجن أبو غريب العام .وهو عبارة عن
قاعتين تضم كل منها عشرين زنزانة كل واحدة منها بحجم 5 × 4,5متر،
21
وهذا المعتقل كان مخصصا ً لمن انتهي التحقيق معه ،وهو بانتظار المحاكمة،
فهو إذن محطة نهائية وبوابة إلى محكمة الثورة(السيئة الصيت) ومنها يتفرع
الموقوفون إلى ثالثة ترع ،أو جداول :
األول :وهو األكبر ،حيث كان يحكم بنسبة تتراوح بين % 70-80من
الموقوفين بالسجن ،وعلى األغلب بالحبس المؤبد( 20سنه) ،أو باإلعدام
وهو بنسبة% 10من الموقوفين ،وأخيرا ً يذهب نسبة % 5 – 10إلى
السجون الجنائية ألن قضاياه ال تمت إلى السياسة بصلة ولكنها كانت تعرض
أمام محكمة الثورة مثل السرقات الليلية ،التزوير ،انتحال الصفة ،إيذاء
النفس ،الرشوة والعموالت …الخ.
وتنطوي أنظمة هذا المعتقل على قسوة شديدة تهدف إلى إبقاء المعتقل في
خوف ورعب دائميين ،وعندما يمثل أمام المحكمة ،فهو يكون في حالة يرثى
لها من اإلرهاق النفسي والمعنوي بعد تعرض طويل(ال يقل عن أربعة
شهور) لإلهانة والضرب والضغوط من كافة األصناف ،بحيث يكون وقع
اإلعدام ليس مؤلما ً بدرجة فضيعة كما هو متوقع( وإن كان الصمود
والصالبة قضية نسبية ومتفاوتة بين الصالبة التامة واالنهيار) ،أما الحكم
بالسجن ،حتى المؤبد 20سنة ،فيعتبر هدية تستحق القبالت والتهاني .ومن
بين آالف القضايا التي تعرفت عليها ،لم تكن هناك أحكام تقل عن المؤبد ،إال
نادراً.
22
الوضع الغذائي في هذا الموقف كان أفضل من موقف الشعبة الخامسة،
وكذلك شروط النظافة(إلى حد ما )ولكنه ما يزال بعيدا ً عن الحد األدنى.
وبالطبع فإن مواجهة الموقوفين لذويهم كانت مستحيلة ،وليس باإلمكان معرفة
ما يدور خارج هذا الموقف ،في انقطاع تام عن الحياة الخارجية .واألخبار
كانت محصورة بالقادمين الجدد وهي تدور غالبا ً عن أمر واحد رئيسي :
أخبار الحرب مع إيران ،وكذلك المؤشرات ،إلى صدور عفو ،حيث كان هذا
الهاجس الدائم للموقوفين ،وكذلك للسجناء فيما بعد.
وصرامة الموقف وتشدد الحراس ،لم يكن يحول دون قيام عالقات إنسانية
ومن غير الممكن نسيان الشاب سامي .كان شيوعيا ً من العاملين في الوسط
المسرحي ،ألقي القبض عليه خالل عملية عسكرية في الشمال ،لذلك كان
الحكم باإلعدام أمرا ً متوقعاً ،ولكنه مع ذلك كان محبا ً للحياة ،متمسكا ً بها حتى
آخر لحظة .وفي ظهيرة يوم كان قد ابتدأ فيه القيظ في العراق ،كان أخي
وسام في الزنزانة المقابلة لزنزانتي تماما ً رقم ،))4يشير لي باالقتراب من
القضبان ،تناهى إلى سمعي أغنية كنت أحب سماعها ،وكانت تلك متعة تفوق
التصور في تلك الصحراء البادية ،وتصورت أن أحدا ً من الحراس قد رفع
صوت المذياع دون قصد منه ،على أية حال ،كانت هذه هدية رائعة ،وما
لبثت أن علمت أن هذا الصوت الجميل ما هو إال غناء سامي ،الذي ما أن
انتهي من الغناء حتى كلمني من وراء القضبان دون أن يراني ،لقد فعل ذلك
ألجلي .أين أنت يا سامي لكي أحتضنك اليوم …
23
سامي أعدم مع رفيقه حسين نهاية عام 1987فآه ثم آه.
وباستثناء يوم الجمعة ،كان الموقف يشهد معظم أيام األسبوع احتفالية مؤلمة،
يأتي الحراس وبأيديهم القيود الحديدية ،ثم يبدؤون بمناداة األسماء ،أسماء من
جاء دوره للمحاكمة ،وهنا فاالحتمال قائم بل مرجح ،أن تنتهي المحاكمة في
جلسة واحدة ،في محكمة الثورة ،والذاهبون يودعون ما أمكنهم ذلك األصدقاء
والزمالء من الذين تعرفوا عليهم هنا غالبا ً في الموقف … والباقون
ينتظرون إلى ما بعد الظهر حوالي الساعة الرابعة عودة المأمورين من
الحراس ليستعلموا منهم مصير زمالئهم .لقد كانت مذبحة عواطف رهيبة …
كان يوم 1987-4-6االثنين ،وهو من أيام النحس ،كذلك يوم الخميس ألنها
أيام القضايا الصعبة ،والتي يحكم فيها (غالبا)ً باإلعدام ،نودي علينا وكنا
أربعة ،أنا وأخي وسام وصديقي بيروت الطالباني ،وصديقنا سالم مدلول.
وفي محاكمة لم تستغرق ربما أكثر من 20دقيقة أمام محكمة الثورة
ورئيسها عواد البندر ،عبارة عن إهانة للعدل والقانون وألي نظام سياسي
يقيم مثل هذه المحكمة المهزلة … وإنه ألمر غير مفهوم مطلقاً ،لماذا يلجأ
أي نظام مهما كانت شعاراته ،طبقية كانت أو دينية أو قومية إلى تصفية
(خصومه) ،وأضع كلمة خصومة بين قوسين ،ألنها مسألة نسبية للغاية ،وال
أستطيع أن أفهم لماذا يتحايل المحقق وحاكم التحقيق والحاكم على أحكام
قانون وضعته الدولة بنفسها ،وتتجاهل المبادئ األولى للعدل والحق ،وإن أي
محاولة للتذكير بالعدالة والحق والقانون سيكون بمثابة نكتة سخيفة.
24
ال يمكن بلوغ الخير بوسائل الشر :هذه قاعدة ذهبية في السياسة والحياة.
لكن التطرف يدفع إلى التبرير ويستخدم مصطلحات براقة :محاربة الفساد ـ
أعداء الثورة ـ إقامة الحد ـ (في هذه علقها على شماعة الشريعة ) وبذلك فأنه
يطلق العنان لمنجله ،مع االعتذار الشديد لهذه اآللة المقدسة التي تأكل العرق
وتطعم الخبز …! (أعتذر واألمثال تضرب وال تقاس) ،لحصد رؤوس الناس
وإذا أهتاج لنظر الدماء وأعتاد عليها ،يتحول األمر كله إلى مأساة ،و(الثورة)
أي ثورة ،إلى حفلة مجازر.
كانت محاكمة قصيرة كما أسلفنا ،محاكمة فريدة من نوعها المتهم فيها مدان
قبل بدء المحكمة .وأول حديث للحاكم مع المتهم بعد سماعه ألقوال المدعي
العام ،التي هي في معظم األحوال افتراضات وخرافات وتخيالت ،يطرح
الحاكم سؤاالً :هل أنت متهم أم بريء .وإذا أجاب المتهم بأنه بريء ،يرد
الحاكم عليه :أثبت لنا براءتك …؟ وهذا يتجاهل بصورة غريبة قاعدة
قانونية رئيسية ومتفق عليها في فقه القانون تنص :المتهم بريء حتى تثبت
إدانته ,ولكن في محكمة عواد البندر كان األمر معكوساً…! وكانت محاكمتنا
تتم بدون شاهد …! محاكمة بدون شاهد ،أعدم في نهايتها أربعة رجال !!
ترى هل يمكن مسح هذه من الذاكرة والتاريخ ..؟
توصل الحاكم عواد البندر والمدعي العام إلى تفصيل مدهش لنظرية الشروع
البائسة ،وقد فندت ،ويستطيع غيري أن يفعل ذلك أيضا ً إذا كان على إطالع
على القانون بسهولة ويسر ،ولم يكن باإلمكان مطلقا ً تطبيق نظرية الشروع ،
25
والمدخل العام لتفسيرها هو التعريف التالي :فعل خاب أثره بسبب خارج
عن إرادة الفاعل .وهو وإن تحقق فيعاقب بالحبس لمدة ال تزيد على الخمسة
سنوات ،هذا إذا كان شروعا ً بالقتل !! أما نحن فقد ألقي القبض علينا فجرا ً في
بيت أستاذ جامعي ،فحكم علينا وفق المادة 157– 175ومادة إضافية
بالنسبة لي هي 208والمادة الرئيسية التي حكمنا بموجبها 157تنص " كل
من قاتل قوات الجمهورية العراقية مع قوات أجنبية خارج العراق” ،لن
أزيد ،فالزيادة كالنقصان …!
***
وصلنا إلى قسم األحكام الطويلة(أو ما يطلق عليه الثقيلة) في سجن أبو
غريب ،حيث يكون قسم اإلعدام ( ويسمى أحيانا ً المغلق) ،كما هناك دائرة
خاصة بالمحكومين باإلعدام يطلق عليها ( القلم السري ) تتولى استالم
المحكوم عليه باإلعدام ،وتعد أضابير خاصة بهم حمراء اللون ،وهناك
استمارات تمأل تضم تفاصيل عن هوية األفراد ،تفاصيل غير عادية،
العالمات الفارقة ،منعا ً ألي التباس متعمد أو عفوي .وبعدها يتم استالم كل
شيء من المحكوم عليهم ،وكل شيء يشمل أي شيء عدا منشفة صغيرة،
ودشداشة أو بيجامه ،وبطانية واحدة ،ومصحف ومسبحة.
وهناك ثالثة أقسام للمحكومين باإلعدام يكون إشغالها حسب االكتضاض،
والمحكومون باإلعدام في القضايا الجنائية ينتظرون زمنا ً أطول من
السياسيين بسبب إمكانية تميز األحكام ،أما القضايا السياسية وأحكام محكمة
الثورة فقد كانت غير خاضعة للتميز .وكل قسم هو عبارة عن قاعة واسعة
مؤلفة من طابقين يحتوي كل طابق على حوالي 15زنزانة في صفين
27
متقابلين يفصل بينهما ممر بعرض 10متر تقريبا ً والطابق األعلى يطل على
الطابق األسفل ،وهناك ممر ضيق ربما بمتر واحد في الطابق العلوي أمام
زنزانات الطابق العلوي ،أما المدخل إلى القسم فهو في وسط القسم تماما ً
بحيث يفصل صف الغرف إلى شطرين ليشكل مدخالً إلى القسم بعرض
وطول زنزانة له بوابتان .لفتحهما وغلقهما وقع عجيب يصعب وصفه.
أما الزنزانات ،فهي صغيرة جدا ً x2,5 2متر مخصصة لفرد واحد ،أو
اثنين ،ولكنها كانت تزدحم بما ال يقل عن 10أفراد في كل زنزانة ،إضافة
إلى وجود مرافق صحية وحنفية ماء في ركن الزنزانة مكشوفة ال يسترها
ساتر ،ألجل المراقبة ،ولكن النزالء كانوا يقيمون ساترا ً من البطانيات في
أوقات محددة من اليوم لقضاء الحاجة واالستحمام.
وزعنا على الغرف ،وكنت في الزنزانة رقم ، 24وقصتي مع الرقم أربعة،
مفارقة عجيب ،فجميع الغرف والزنزانات التي مكثت فيها كانت تحمل الرقم
أربعة أو أربعة عشر ،وآخر زنزانة التي مكثت فيها سبعة سنوات متواصلة
خرجت بعدها للحرية ،كانت تحمل رقم أربعة ،ولكن بعد 16سنة.
أستقبلني األخوان في الزنزانة أفضل استقبال وكانوا :كريم /جندي في
القاعدة البحرية في أم قصر ،وشقيق فائز الذي حكم عليه باإلعدام معي بنفس
اليوم ،طراد نصر هللا /وهو من رفاقنا القدماء الرائعين من الناصرية،
والرفيق وداد /وهو من رفاقنا أيضا ً من سوق الشيوخ ،كان لي بمثابة الولد
أو األخ الصغير ،كريم /وهو من األخوان المسلمين ،من أهالي الرمادي ،أبو
28
مقداد/
معلم مدرسة ،إنسان رائع األخالق والشهامة من أهالي المدينة قضاء القرنه-
بصره ،ومعنا شاب كردي من أهالي السليمانية وأخوان آخرون ،رحمهم هللا
جميعا ً.
لقد تعرضت مرات كثيرة جدا ً ألسئلة ملحة ،عن أعداد وأوضاع المحكومين
باإلعدام ،وها أنا أورد األرقام كما عايشتها بنفسي ،لم تؤسس على أحكام
الهوى ،بل هي مشاهدات ومعايشات شخصية .فعندما دخلت قاطع
المحكومين باإلعدام في سجن أبو غريب يوم ( ،6 – 4 – 1987وأريد هنا
التأكيد ،أنه كان المكان الوحيد الذي يتم فيه تنفيذ أحكام اإلعدام شنقا ً الصادرة
من المحاكم السياسية ،محكمة الثورة ومحكمة األمن ومحكمة المخابرات و
األخيرة لم تكن تتعامل إال مع بعض القضايا وأغلب القضايا كانت تعرض
على محكمة األمن) كان الموقف فيه كما يلي :ـ
كان تنفيذ أحكام اإلعدام متوقفا ً منذ 1– 10 – 1986ماعدا وجبات ثالث
صغيرة وواحدة كبيرة ،وعدد المحكومين باإلعدام الذين ينتظرون التنفيذ
يناهز ال 300وبدقة ،حوالي 280شخص .أما
الحاالت الثالثة الصغيرة ،ثم الكبيرة ،فهي كما يلي :ـ
ـ تنفيذ اإلعدام بالفريق الركن عمر هزاع وولديه وثالثة آخرين بينهم امرأة،
بتهمه التهجم على رئيس الجمهورية.
ـ تنفيذ اإلعدام بالمهندس عبد الوهاب المفتي أمين العاصمة
29
ومجموعته(حوالي خمسة أفراد) بتهمة الفساد المالي( الرشوة واالختالس).
ـ تنفيذ اإلعدام بشخص واحد من السماوة لمحاولته اغتيال محافظ السما وة.
ـ أما الحالة الكبيرة ،فكانت كبيرة بكل المعاني :ففي يوم 29 – 12 – 1986
نودي على مجموعة من شباب الكوفة ،وكانوا قد شكلوا مجموعة سياسية /
عسكرية لتنفيذ تفجيرات واغتياالت ،وعند اقتيادهم إلى قاعة التنفيذ ،وتوديع
زمالئهم ،أخذ البعض يردد هتافات معادية ،قام المحكومون بترديدها من
بعدهم ،وبعد أن اقتيد هؤالء الشباب ،تصاعد الهتاف وفعاليات أخرى مثل سد
ثقوب أقفال الزنزانات بالصابون ،وقذف الحراس ورجال األمن بقطع
الصابون ومسحوق الغسيل ،وقذف بقايا الطعام والماء وما تيسر( وهو قليل
بالطبع)بأيدي النزالء على حراس السجن ورجال األمن .ومع تصاعد حدة
الهتافات ،لجأت السلطات إلى استخدام عناصر من قوات الطوارئ للتدخل،
كما حضرت لجنة من مديرية األمن العامة ،وربما شخصيات حكومية أخرى
حاولوا تهدئة الموقف دون جدوى .ثم تدخلت قوات الطوارئ فدخلت إلى
القسم وأطلقت النيران فقتلت حوالي 15فردا ً في زنزاناتهم .ساد الهدوء على
أثرها ،وتم تنظيف ممرات القسم ،وابتدأ التحقيق مع كافة المحكومين فردا ً
فرداً ،جرى بعدها تنفيذ اإلعدام بكل من يعتقد أنه ساهم في األحداث ،السيما
اإلسالميين منهم وعناصر قليلة من كل تشكيلة ،حتى بلغ عدد الذين نفذت
فيهم أحكام التنفيذ 156فرداً ،وقد جرى تنفيذ اإلعدام بأعداد ال أعرفها من
السجناء االعتياديين(األحكام الجنائية) الذين سمعوا الهتافات في القسم
30
السياسي ،وأراد بعضهم المشاركة ،لذلك جرى تنفيذ اإلعدام بعدد منهم.
لم أكن موجودا ً في تلك الفترة في قسم اإلعدام ،إال أن الرفيق الشهيد البطل
ثجيل عبد الحسين (أبو شاكر) والرفيق طراد نصر هللا والرفيق وداد،
حدثوني تفصيالً عن تلك األحداث بدقة تامة ،وهنا البد أن أذكر بصفة خاصة
رفاقنا ومنهم الرفيق ريحان بلط (أبو لؤي) والرفاق خالد وسكران واآلخرين
كلهم كانوا قمة في الشجاعة والبطولة ،بل أنهم كانوا يصافحون الموت بكل
رجولة ولم يفقد أي منهم اتزانه ،وكانوا يتداولون األحداث بموضوعية …
أنني أقف تحية لهم ولذكراهم التي سوف لن تغيب عن البال … فلن أستطيع
أن أنسى لحظة دخولي إلى قسم اإلعدام ،وكان البعض منهم يعرفني ،فهب
هؤالء الرفاق األبطال الستقبالي ،وكان الشهيد البطل وداد يأبى أن أقوم بأي
عمل فكان لي بمثابة الولد أو األخ الصغير والرفيق في ذلك المكان…
المجد والخلود لألبطال.
كان ورود المحكومين باإلعدام من محكمة الثورة مستمراً ،وبمعدالت غير
بسيطة 10 ،أفراد كمعدل أسبوعياً ،وربما أقل من ذلك أو أكثر بقليل بحيث
يكون الموقف وفق المعطيات التالية:ـ
ـ كان تنفيذ حكم اإلعدام قد توقف ابتداء من ( 1 – 10 – 1986باستثناء
الحاالت التي ذكرناها) والقادمون الجدد المحكومين باإلعدام يشكلون تراكما ً
في األعداد.
ـ في الحاالت الثالث التي مر ذكرها نفذ اإلعدام بحوالي 11فردا ً.
31
ـ بعد التظاهرة التي حدثت بتاريخ 29 – 12 – 1986تم تنفيذ اإلعدام ب
156:فردا ً.
ـ عندما دخلت قاطع اإلعدام بتاريخ 6 – 4 – 1987كان الموجود يناهز
280فرد.
ـ عندما غادرت قسم اإلعدام بعد ثمانية وثالثين يوما ً بالتخفيض إلى السجن
المؤبد ،كان الموجود الكلي هو 301فرداً ،بما في ذلك نحن األربعة الذين
خفضنا إلى الحبس المؤبد.
ـ في شهر شباط 1988/تم تخفيض أحد األصدقاء من اإلعدام إلى المؤبد،
وهو شخص نزيه يعتمد على أقواله ،أخبرني عن عمليات التنفيذ التي كانت
قد استؤنفت بتاريخ ، 2 – 6 – 1987شملت ربما 200 – 250فردا ً من
كافة االتجاهات السياسية أو ذات الطابع السياسي ،فعلى سبيل المثال كان
معي في زنزانة اإلعدام مدير تربية إحدى المحافظات ،بتهمة بيع أسئلة
االمتحانات وقبض رشوه ،كما تم تنفيذ اإلعدام بالمرحوم العقيد الركن
المتقاعد رافع الحمامي ،وقد عقدت أواصر صداقة بيني وبينه وكان إنسانا ً
رائعاً ،حكم عليه بتهمة إقامة دعوة غداء في مطعم فاخر كلفت في حينها
500دينار ! وبعبارة أخرى فإن جناح المحكومين باإلعدام كان يضم كافة
القضايا التي تدخل ضمن باب األحكام الخاصة من قانون العقوبات العراقي
من المادة 156وحتى المادة ، 198كما كان يضم المحكومين باإلعدام وفق
مواد كثيرة المادة الشهيرة 225وهي مادة التهجم على رئيس الجمهورية،
32
وتصل عقوبتها القصوى إلى اإلعدام ،وقد حكم فعالً على العديد من
المواطنين وفق هذه المادة وأشهر تلك الحاالت :الفريق الركن عمر هزاع
وولديه وكذلك اللواء الركن فالح أكرم فهمي وهو قائد عسكري ورياضي
المع ،أعدم لألسف ومثله آخرون ألسباب تافهة ال تستحق اإلعدام مطلقاً،
ومنهم أيضا ً العميد عبد الرسول ،وهو ضابط مهندس وهو صانع مدفع
الهاون العراقي الفائق الجودة ،أعدم لسبب تافه ،كلمة قيلت دون قصد.
وقد دققت كثيرا ً عن اتجاهات المحكومين باإلعدام ،والحقيقة أنها كانت
موزعة على كافة الفئات السياسية و الدينية والعرقية من الشعب العراقي
دون تميز .وكانت على األغلب كما يلي:ـ
35%أكراد من مختلف االتجاهات والقضايا.
35%حركات إسالمية وحسب التسلسل ( حزب الدعوة ،وحزب العمل،
واألخوان المسلمون)
10%شيوعيون وبعث يساري.
10%تهجم ،تجاوز حدود ،قضايا متفرقه.
10%تجسس ،فساد أداري ،قبض عموالت.
أما لجهة توزيع األفراد حسب المستوى الدراسي ،لم يكن هناك من حملة
الشهادات العليا ،ولكن كان هناك أعداد من خريجي الكليات ،ولكن بعدد
بسيط ،بما في ذلك الضباط ،والسواد األعظم من المحكومين كانوا من أفراد
الشعب البسطاء وباستثناء المنتمين إلى األحزاب السياسية المعروفة مثل
33
البعث اليساري والشيوعي ،فإن المستوى الثقافي لألفراد كان بسيطاً ،وأحيانا ً
بسيط جدا ً ولكن مقابل عاطفة دينية متأججة.
على أن موجود قاطع اإلعدام الذي كان في ذروته عام 1985بدأ يتراجع
تدريجيا ً ثم انخفض بشدة بعد نهاية الحرب العراقية اإليرانية ،ولكنه ما لبث
أن بدأ يتصاعد مرة أخرى ،مع أحداث الكويت ولكنه لم يصل قط إلى
معدالت الثمانينات ،وقد علمت من مصادر موثوقة أن معدل اإلعدام كان
100فرد سنويا ً حتى ،1995ربما تصاعد في 1997ولكنه انخفض مرة
أخرى ،وبقي كذلك طيلة التسعينات.
كانت مواجهة المحكوم عليهم باإلعدام من السياسيين مع ذويهم محظورة
تماما ً ،وكميات الطعام التي كانت تقدم بائسة ،بالطبع كانت زنزانات مقفلة
بصورة مستمرة وكانت حالقة الذقن غير ممكنة ،بل أن أدوات الحالقة لم
تكن متوفرة وكذلك فرشاة ومعجون األسنان ،وبداهة األقالم واألوراق
وأدوات الطعام ،وحتى قالمة األظافر .وفي الواقع فإن الزنزانات لم تحتو إال
على عدد معين من البطانيات ،ولكل نزيل صحن وقدح من البالستك ،ولكن
كمية وافرة من الصابون ومسحوق الغسيل الذي يوضع في كيس نايلون ،كان
هذا هو كل شيء ،الذي هو في الواقع ال شيء … ال شيء البتة قي انتظار
الموت.
كيف يأتي الموت …؟ كان تنفيذ أحكام اإلعدام للسياسيين يتم يومي األحد
واألربعاء ،وكان النزالء يتحايلون لمعرفة فيما إذا كان هناك في ذلك اليوم
34
تنفيذ أو ال ،بدفع مبالغ (ال أهمية للنقود إطالقا ً في زنزانات اإلعدام ،وهي
مجرد ورق ال يمكن الحصول بها على أي شيء ..ألنه ال يوجد أي شيء)
للعامل الذي كان يجلب الطعام ويوزعه على الزنزانات ،وهو نزيل من قسم
األحكام الطويلة( األحكام الجنائية) الذي كان يقوم بتهيئة قاعة التنفيذ وهي
تشتمل على ثمانية زنزانات وستة مشانق يفصل بين كل واحد منها جدار من
السلك المشبك ، B R Cويتم تحضير القاعة والحبال منذ الصباح الباكر،
وفي حوالي الساعة الثانية ظهرا ً يحضر المأمورون وبأيديهم القيود الحديدية،
ويبدؤون بالمناداة على األسماء التي ورد التصديق على أحكامها الصادرة
من المحكمة.
يودع المغادرون زمالءهم وترتفع األصوات بالدعاء وكلمات الوداع ،وتقيد
أياديهم ويغادرون القسم في موكب مؤلم ،وإذا أقام المحكوم فترة طويلة هنا،
فإن المنظر قد يصبح مألوفا ً بعض الشيء ،ويتناقل الناس أخبار رجال اقتيدوا
من هنا إلى الموت ،وكانوا في صورة رائعة من البطولة .فقد روى لي األخ
محمد الجبوري الذي أمضى خمس سنوات في قسم اإلعدام ثم خفض إلى
المؤبد ،وكان قد شهد تنفيذ اإلعدام بحوالي 500فرد تقريبا ً ،أي بمعدل 100
سنويا ً بين األعوام ، 1991 – 1995وكان األخ محمد قد تقاسم الزنزانة مع
الرفيق البطل الشهيد محمد عبد الطائي ،إلى لحظة المناداة للتنفيذ .وقال لي
أنه لم يشهد رباطة جأش وشجاعة واستخفاف بالموت وبعبارات بليغة ،كنت
أطلب من األخ محمد الجبوري أن يعيدها لي مرارا ً وتكراراً ،ربما لعشرات
35
المرات ،وكم اشعر بالفخر واالعتزاز بهذا الرفيق واألخ والصديق ،شعور
بالفخر يغطي على مشاعر الحزن العميق ،وكان صديقا ً لي منذ 1960وقد
عملنا معا ً في منظمات حزبية مرات عديدة ،وقد بعث لي الشهيد محمد
بتحياته من موقف المخابرات ،الحاكمية) مع األخ عبد العزيز الكبيسي الذي
كان معه في زنزانة واحدة ،وحكم عليه بالسجن لمدة 40سنة .كما روى لي
أحد الضباط الذين حضروا تنفيذ اإلعدام بالمناضل علي عليان ،بأنه كان قمة
من قمم البطولة والرجولة الفذة عندما واجه حبل المشنقة ،رافضا ً تعصيب
عينيه ،وقال مخاطبا ً الحاضرين من مكانه المرتفع(منصة اإلعدام) ،بأنه غير
مكترث أبدا ً لما يحصل له ،بل هو يأسف ألجلهم إذ ينفذون بوعي أو بال
وعي أحكاما ً بحق عراقيين مخلصين للوطن ،وال بد من القول أيضا ً أن
البعض(قلة قليلة)كان يصاب بانهيار يتخذ أشكاالً مختلفة ،فإما أن يفقد القدرة
على الكالم أو السير .كما من المؤسف القول أني شاهدت ثالث أو أربع
حاالت من الجنون في زنزانات اإلعدام ،وربما هناك من مارس تمثيل
الجنون ،العتقاده أن ذلك قد ينجيه من الموت ،كما حصلت حاالت محدودة
من الوفيات داخل قسم اإلعدام ،والمتوفون كانوا شبانا ً وأسباب الوفاة هي
على األرجح سكتة قلبية أو دماغية.
وقسم اإلعدام تجربة رهيبة ،ليس فقط بسبب الموت المرتقب مع كل طرقة
على الباب ،ال سيما يومي األحد واألربعاء( وتلك أيام التنفيذ للسياسيين،
بصفة عامة ،ولكنا لم تكن قاعدة نهائية)بل بسبب صرامة النظام واإلغالق
36
المستمر ألبواب الزنزانات ،وكانت النوافذ قد أغلقت بصفائح ،مثبتة باللحام
على الشباك وكان عسيرا ً معرفة حتى الوقت ،ناهيك عما يدور خارج القسم
الذي كان يبدو لنا وكأنه في كوكب آخر .وكانت هناك إشاعة تقول أن ثقبا ً في
إحدى نوافذ زنزانات الطابق األسفل ،ومنها كان نزالء تلك الزنزانة يطلعون
على لمحات مما يدور قرب قاعة التنفيذ ،ولكن الرؤية والتمييز كانا
ضعيفين ،لذلك لم يكن باإلمكان الحصول على معلومات دقيقة عن األحداث
التي تدور خارج قسم اإلعدام ،أو في قاعة التنفيذ.
والنزالء المحكومون باإلعدام ،ينطبق عليهم القول (في معظم الحاالت)
متفائلون إلى أقصى حدود التفاؤل ،ويصل هذا إلى حدود محزنة .فوقوف
عصفور ،وأكثر من ذلك إذا كان بلبالً على الشباك العلوي لقسم اإلعدام قد
يعني للكثيرين أنه إشارة الفرج ! أما إذا ابتسم أحد الحراس أو المأمورين،
فإن اإلشارة أكثر قوة ،أما رؤية صالحة في المنام ،فإنها إشارة قوية للفرج.
ولكن ما هو الفرج ..؟
المحكوم باإلعدام كالغريق في بحر متالطم األمواج ،ال قعر له وال ضفاف،
فهو إذن على استعداد نفسي أولي لتقبل كل إشاعة أو إشارة مهما كانت
ضعيفة ،والفرج قد يكون صدور قرار عفو ألي سبب من األسباب ،وهو
األكثر رجحاناً ،أو تخفيض من حكم اإلعدام إلى الحبس المؤبد (السيما إذا
كانت القضية غير مهمة) ،ويذهب البعض أن تغير النظام السياسي في البالد
يؤدي بهم إلى الخروج من هذا المكان.
37
وقد يبدو حكم اإلعدام شيئا ً رهيباً ،وربما هو كذلك فعالً ،بيد أن المحكوم
باإلعدام يعتاد على ذلك ،أي أنه يألف فكرة أن حياته قد انتهت ( مع فسحة
قليلة أو كثيرة من األمل كما أسلفنا) ،ولكن التفاوت هنا هو في سرعة تقبل
فكرة نهاية رحلة العمر على هذه الصورة ( مع أن أي صورة أخرى هي
غير مفرحة أيضا ً !) فالبعض كان يتقبل الفكرة بسرعة كبيرة ،دقائق أو
ساعات بعد صدور الحكم ،وربما عند آخرين تستغرق أكثر من ذلك ،وقد
تبقى الفكرة تتصارع في وعي اإلنسان حتى اللحظات األخيرة ،والعوامل
المهمة التي تؤدي إلى تماسك الفرد هي :شدة إيمانه بالقضية النضالية،
والتأهيل الثقافي والنضالي ،واإليمان الديني.
وقد سمعت أن الكثيرين من المحكومين باإلعدام الذين يبقون متماسكين حتى
اللحظات األخيرة ،ينهار بعضهم لدى رؤيته لحبل المشنقة ،وقد ينتاب آخرين
ضرب من هستيريا الصياح والهتاف (يسقط ويعيش) أو إطالق الشتائم أو
التوسل ،والهتاف بحياة فالن من الناس ،وقد يعمد البعض إلى إيهام لجنة
التنفيذ (مدير السجن ،ضابط األمن ،المدعي العام ،المأمورين ،الطبيب) بأن
لديهم معلومات مهمة أو خطيرة يودون اإلدالء بها ،من أجل اإلبقاء على
حياتهم ولو لبضعة أيام ،ولكن مذكرة اإلعدام إذا وردت تحمل ختم وإشارة
التصديق والتنفيذ ،فإن ذلك على األرجح لم يكن يحتمل التأجيل ،فقد سبق
السيف العذل.
أما أنا فقد كنت قد استعددت لهذا اليوم أتم االستعداد ،ومنذ زمن بعيد جداً،
38
منذ انتمائي لحزب البعث العربي االشتراكي عام . 1958ومن مصادفات
القدر ،أنني كنت قد قرأت بتأثر شديد وعميق مذكرات العقيد الركن صالح
الدين الصباغ ،أحد قادة حركة مايس ، 1941 /وقد نفذ به حكم اإلعدام
ولكن بعد سنوات من الهروب واالختفاء في إيران وتركيا ،حتى وقع بأيدي
السلطات البريطانية التي سلمته إلى الحكومة العراقية ،فحكمت عليه
باإلعدام ،فكتب في وصيته مخاطبا ً أوالده :إنه يعز عليه مفارقتهم دون أن
يراهم ،وال بد أن أشكال وجوههم قد تغيرت ،وكنت أشعر بالضبط بنفس
المشاعر ،حيث مضت مدة تقارب تلك المدة التي أمضاها صالح الدين
الصباغ دون رؤيته ألوالده ،دون رؤية ولدي فراس وفواز ،ولكنني كنت
على استعداد لتقبل تلك التضحية ،فقد تنازلت عن حياتي منذ زمن بعيد،
وكنت مقتنعا ً بأني سألقى وجه ربي اغتياالً أو إعداما ً أو شهيدا ً في معركة
وطنية أو قومية ،ورغم أني لم أكن قد فعلت شيئا ً يستحق هذا الحكم األخير،
إال أنني أدركت أنني أدفع فواتير ومستحقات قديمة ،وقد وجدت السلطات أنها
فرصة سانحة للتخلص مني (قبل صدور التخفيض إلى الحبس المؤبد) ،وقد
علمت فيما بعد من مصادر ال يرقى إليها الشك ،أن السلطات كانت تعتقد
بأنني غير منتم حاليا ً إلى تنظيم ،مع قناعة بعض الجهات ،أنني ما زلت
منضما ً مع البعث اليساري ،وإنني سأنضم عند أول سانحة إلى أي فعالية
معادية ،ثورة أو انقالب ،أو حركة داخل حزب السلطة كما حدث عام 1979
) ،لذلك كنت قد أعددت كلمة قصيرة مرتجلة بالطبع ،ولكنها بليغة ساعة
39
التنفيذ.
كان شهر رمضان قد حل علينا ،وتنفيذ أحكام اإلعدام تتوقف عادة خالل هذا
الشهر ،إلى ما بعد العيد ،وبعد مرور مناسبة الثامن من شباط ،وعيد تأسيس
الجيش ،و 28نيسان ،مولد الرئيس صدام ،مرور هذه المناسبات دون صدور
العفو المنشود ،أيقن النزالء السيما العقالء منهم ،أن تنفيذ أحكام اإلعدام
سوف تتواصل حال انقضاء أيام عيد الفطر.
ومع إيقاف التنفيذ في شهر رمضان إال أنها لم تكن قاعدة نهائية ،وكل شيء
ممكن .وفي قسم اإلعدام يطلق على من يمضي على قدومه 21يوما ً فأكثر،
مرشحا ً للتنفيذ في الوجبة القادمة ،وباللهجة البغدادية ( طابك على السرة)،
أي أنه في الدور.
كانت الساعة قد قاربت الثانية من يوم 13أيار ، 1987األربعاء ،أي أن
كافة المؤشرات المشؤومة متوفرة :األربعاء (وهو يوم مشؤوم في عائلتنا)
اليوم 13الساعة الثانية ،عندما سمع صوت المفتاح يدور في باب قسم
اإلعدام ،الباب األول ،يترك النزالء كل شيء ،وآذانهم تستعد اللتقاط أي
شيء حتى همس الذباب ،وبعد فتح الباب الثاني ،كان يسود الصمت المطبق،
وآذان وأنظار المحكومين باإلعدام تتطلع إلى المأمور الذي يتوسط ممر
القاعة في الطابق األسفل ،بيده ورقة بيضاء ،رفعها وشرع بقراءة األسماء.
كانت األسماء أربعة :هي اسمي و من معي في القضية .وبعد أن أتم قراءة
األسماء استدرك قائالً وبسرعة :إنها … إنها مرسوم تخفيض .وبالطبع يحق
40
للكثيرين عدم تصديق قصة التخفيض ،إال إنني كنت ال أفكر بشيء ،ولم
يصدق ذلك الكثير من النزالء ،بما فيهم أخي وسام المشمول بالتخفيض طبعا ً.
وقفنا في الردهة بين البابين ،وقرأ علينا أحدهم مرسوم التخفيض من اإلعدام
إلى الحبس المؤبد … ومن لم يصدق منا نحن األربعة (ألن نزالء القسم ال
يسمعون وال يشاهدون شيئاً) ،أيقن اآلن أن شبح الموت ابتعد … نعم أن
سيف الموت الحاد قد ابتعد ولكن دون أن يختفي نهائياً .فبيننا وبين الموت
ورقه!!
والغريب أن الكثير من حراس قاطع اإلعدام كانوا متعاطفين معنا ،بل إن
أحدهم انخرط في نوبة بكاء ،وكاد أن ينهار على األرض ،فجلس متكئا ً إلى
الجدار ،وطفق يبكي كاألطفال!!
نقلنا إلى قسم األحكام الخاصة ،وقد أخذتنا إلى هناك سيارة الند كروزر ،وها
نحن أمام قلم التسجيل في قسم األحكام الخاصة (السجن السياسي) بلحى
طويلة ،حفاة ،مرضى ،وقد اصفرت وجوهنا من جراء سوء تغذية طويلة
األمد ،وعدم التعرض ألشعة الشمس ،وبالنسبة لي كانت األورام تمأل كافة
أجزاء الجسم من قمة الرأس وحتى أخمص القدمين .ولكننا نستعيد أنفاسنا
وأنفسنا بعد حلولنا فيما يسمى بزنزانات قسم االستقبال ،التي يودع فيها
النزالء ريثما يتم توزيعهم على قاعات وأقسام السجن الكثيرة الغاصة
بالسجناء ،الذين يطلق عليهم رسمياً ،بالنزالء.
41
***
قسم األحكام الخاصة
يجهل الكثير من العراقيين وغيرهم أكثر ما تنطوي عليه كلمة سجن أبو
غريب ،وهي تسمية غير رسمية ولكنها شائعة جدا َ.
يتألف هذا السجن واسمه الرسمي :المديرية العامة إلصالح الكبار ،يتألف
من مستطيل ضخم له واجهة أمامية مطلة على الطريق القديم بغداد ـ الفلوجة
ـ الرمادي ( ،الطريق الزراعي) طولها 600– 700متراً ،وعمق يمثل
الضلع الطويل لهذا المستطيل يمتد إلى الداخل بحوالي 1500 – 2000مترا
هذه األرقام ،ليست دقيقة ولكنها أقرب إلى الواقع ،وهكذا ينشأ مستطيل هائل
فسيح بسور شاهق ،يرتفع إلى ثمانية أمتار من األسمنت البلوك الشديد
المتانة .والسور والمتانة ،ال يدع مجاالً للتفكير بمحاولة اجتيازه ،وداخل هذا
المستطيل الهائل يقع مجمع أبو غريب لإلصالح االجتماعي ،وهو مكون من
:ـ
ـ خمسة أقسام (سجون) موزعة بانتظام وبأحجام متفاوتة داخل هذه المساحة.
ـ دائرة أمن أبو غريب.
ـ مخازن األرزاق.
ـ دائرة المدعي العام ( وقد أنشأت مؤخرا ً ).
ـ المديرية العامة لإلصالح االجتماعي.
يتوزع القسمان الرئيسيان :األحكام القصيرة (الخفيفة) ،واألحكام
42
الطويلة(الثقيلة)في أقصى زوايا المستطيل العليا والقصيرة إلى الزاوية
اليمنى ،والطويلة إلى الزاوية اليسرى.
•قسم األحكام القصيرة يعني أنه يختص بالمحكومين بين أكثر من سنة حتى
خمس سنوات ،وهي أحكام الجنح في القانون ،وهذا القسم هو أكبر
أقسام(سجون) أبو غريب.
•قسم األحكام الطويلة ،ويعني أنه يختص بالمحكومين بين أكثر من خمس
سنوات حتى اإلعدام ،وهي أحكام الجنايات في القانون ،وهو يلي قسم
األحكام القصيرة في الحجم.
•قسم اإلفراج ،وهو يختص بالمحكومين بالمخالفات في القانون ،للمحكومين
سنة واحدة ،وهو قسم صغير ال يتسع إال لبضعة عشرات من النزالء ،ربما
100 – 120فرد .وبناية هذا القسم تقع بين األحكام القصيرة والطويلة.
•المديرية العامة لإلصالح االجتماعي ،وهذه تقع في الزاوية السفلى اليمنى
للمستطيل وهي بناية ليست كبيرة الحجم ولكن يليها مباشرة جدار فاصل عن
سائر أقسام المجتمع ،ولكنه ال يضاهي في ارتفاعه وسماكته جدار السجن
الخارجي.
•ومقابل قسم األحكام القصيرة ،كان األجانب ويطلق عليه (قسم غير
العراقيين) متوسط الحجم إال أنه األكثر بين األقسام نظافة وترتيبا ً (هكذا كنا
نسمع) وهناك تسهيالت في اإلدارة .وهذا السجن كان يضم كل محكوم غير
عراقي بصرف النظر عن جريمته والمدة التي حكم بها وإدارة هذا القسم
43
خاضعة إلى رئاسة المخابرات.
•ومقابل سجن األحكام الطويلة ،هناك هذا القسم الشهير ،قسم األحكام
الخاصة ،وهو السجن المخصص للمحكومين بمواد األحكام الخاصة.
•مخازن األرزاق ،كانت بالقرب من األحكام الطويلة ،وليس بعيدا ً عن ذات
المكان ،كانت دائرة المدعي العام.
اآلن لنعد إلى قسم األحكام الخاصة ،ماذا تعني تلك اللفظة:
القانون العراقي يعتبر ،أن ليست هناك جريمة سياسية ،حتى لو كان الباعث
عليها سياسي ولكنها ليست جرائم سياسية ،لذلك أطلق عليها المشرع لفظة
خاصة .وقد وردت في نص أحكام القانون العراقي هكذا :األحكام الخاصة.
وهي تبدأ من المادة 156حتى المادة ،198وبعدها تبدأ مواد األمن الداخلي
وهي حوالي 40مادة ،منها أحكام اغتيال رئيس الجمهورية والتهجم
والمنشورات والكتب الممنوعة وتوزيعها وما شابه ذلك .ونزالء هذا القسم هم
الذين حكموا في محكمة الثورة ،أو ما تالها من المحاكم الخاصة بعد إنهاء
أعمال تلك المحكمة السيئة الصيت ،والمحكومون بمواد األمن الخارجي
محرومون من اإلفراج الشرطي( %25من مدة الحكم) أما المحكومين بمواد
األمن الداخلي ،فيتمتعون بهذا الحق ،ولكن بعد أخذ موافقة جهات اإلحالة،
األمن ،المخابرات ،االستخبارات!!
وكان قسم األحكام الخاصة قد صمم باألساس ألن يكون موقفا ً للمتهمين
44
المحالين إلى المحاكم ،وربما استخدم لفترة وجيزة كسجن للنساء قبل أن
يرحلن بصفة نهائية إلى سجن خاص بهن في الرصافة ،وفي النصف األول
من السبعينات تحول إلى سجن سياسي ،على أن سجن أبو غريب نفسه وضع
قيد االستخدام في مطلع السبعينات ،1971بعد أن استغرق بناؤه أكثر من
ست سنوات ،أي منذ أن كان سكان العراق ستة ماليين نسمة وقد اعتمدت
خرائط متقدمة في تشييده .ويضم كافة المرافق الخدمية الممتازة ،بما في ذلك
التدفئة والمياه الساخنة .ولكن تباطؤ الصيانة واالكتظاظ واالستخدام الكثيف
وسوء اإلدارة والفساد ،أوصله إلى حالة مزرية.
الجزء األساسي في القسم هو جزء اإلدارة ،ثم ممر طويل ،تقع الردهات
واألقسام على جانبيه ،وربما يبلغ طول الممر حوالي 250متراً ،واألقسام
على شكلين ،إما أن تسمى (ق) ،والقاف الواحد هو عبارة عن قاعة طويلة
تضم 20غرفة 10 ،غرف في كل طابق ،وكل غرفة (زنزانة) هي بحجم
5 × 4,5وهناك مرافق صحية يمكن استخدامها كحمام لالغتسال أيضا ً وهو
ما كان غالبا ً يستخدم لهذا الغرض حصراً ،ويضم القسم أيضا ً حمام عمومي
ومرافق صحية عامة ومخازن تحولت إلى غرف ،وغدت امتيازا ً يمنح لمن
تريد السلطات أن تعطيه وضعا ً مميزاً ،وهكذا كان على األغلب.
والصنف الثاني من األقسام يدعى (م) وهو عبارة عن بناء ذو طابقين ال
يطل فيه األعلى على األسفل ،بل هو عبارة عن ردهتين مستقلتين ال يحتوي
على غرف ،بل ردهة مفتوحة يشاهد من كان في آخرها من هو في أولها.
45
ثم أن هناك عددا ً من المرافق تحولت أقسام مثل :المطعم والمسرح
والمدرسة ،كما حاولت إدارة اإلصالحية(حسب تسميتها الرسمية) تدارك
االكتظاظ ببناء قسمين ضخمين سميت بالجملون األول والثاني ،ذو سقف من
األلمنيوم وسقف ثانوي من الفلين الصناعي(ستايربور) ،وفي فصل الصيف
كانت الحياة فيه تتحول إلى فرن بشري أو ربما أسوأ ،وكان هناك مستشفى
ال بأس بحجمه وقدراته ،كانت خدماته تفوق إمكاناته ،بسبب تفاني األطباء،
سواء الموظفين منهم أو النزالء ،في خدمة المرضى .كما أن هناك مكتبة
كانت تضم قدرا ً ال بأس به من الكتب كما ً ونوعاً ،إال أنها تعرضت لموجات
من السرقة على يد النزالء والموظفين ،وهناك مطبخ ومخازن لألرزاق،
كانت مرتعا ً للجرذان البشرية وبنسبة أقل للجرذان الحقيقية ،وهناك حقائق
مذهلة عن السرقات وقد مارسها حشد من الشخصيات الرسمية ،بل كذلك
عدد من النزالء سواء بسواء.
وكان السجن يدار رسميا ً من قبل المأمورين التابعين إلى المديرية العامة
لإلصالح االجتماعي ،التابعة إلى وزارة الشؤون االجتماعية ،وهناك
مأمورون يرتدون بدله رسمية ،ويضعون رتب وعالمات على أكتافهم ،إال
أنها ليست عسكرية ،كما يحظر عليهم ارتداؤها خارج السجن ،واألقل منهم
يسمى حارس إصالحية ،ومنهم من يسمى حرس مفاتيح ،وهؤالء يتولون فتح
وغلق أبواب األقسام .أو حرس برج ،كناية إلى واجبه في األبراج التي
تراقب أسوار السجن.
46
وقسم األحكام الخاصة ،وكذلك سائر األقسام ،محاط بسياج شاهق قد يصل
إلى ارتفاع ثمانية أمتار بما يجعله في عزلة تامة عن سائر األقسام ،وهو
بمثابة الجزر في مساحة مجمع أبو غريب إن جاز التعبير … ولكن أي جزر
!..
كان مجمع سجن أبو غريب قد ورث سجن بغداد المركزي ( وكان موقعه في
باب المعظم ) ،وقد بوشر بتشييد سجن أبو غريب الحديث والذي يقع في
منطقة أبو غريب ،غربي بغداد باتجاه الفلوجة ،ومن هنا اكتسب اسمه
الشهير ،بوشر بتشييده ،ربما في ، 1964وقد جلبت أحدث الخرائط لتشييد
سجن حديث ،حيث كان السجن القديم بغداد المركزي ،قد تقادم به الزمن،
وأبنيته متهالكة وال يلبي المتطلبات الحديثة .وهكذا فقد تعاقدت الحكومة مع
شركات أجنبية بالتعاون مع مقاولين عراقيين لتشييد السجن ،كما تبدل اسم
مديرية السجون العامة إلى مديرية اإلصالح االجتماعي .وقد استغرق إنشاؤه
سنوات طويلة ،ويشاع أن عدة مقاولين تتابعوا عليه ،ودارت عمليات رشاوى
وعموالت ،رغم أن الشائعات ال يعول عليها في العراق مطلقاً .وكان سكان
العراق آنذاك 6 – 7مليون نسمه.
وقد تم إلغاء السجن القديم في مطلع السبعينات(،ثم هدم وشيد بدالً عنه وزارة
الصحة ،ومنشآت صحية تابعة لمدينة الطب وجامعة بغداد) وأغلب الظن أن
االنتقال إلى السجن الجديد قد جرى على عجل وحتى قبيل إكمال اللمسات
األخيرة فيه(،والعجلة والفوضى وكثرة المتدخلين هي عادة سائدة لألسف) ،
47
ولكن البد من ذكر أن البناء كان ممتازا ً والمواد المستخدمة فيه كانت من
الدرجة األولى ،ومن أحدث الطرز (في وقته) ،ولكن لألسف كانت نظم
مجاري المياه الثقيلة غير منجزة بعد ( ولم تنجز إلى حد اآلن) ،ومثلت
مصدر إزعاج للنزالء واإلدارة على حد السواء ،وكذلك تمديدات المياه النقية
والكهرباء كانت ممتازة ،ولكنها غير مصممة الستيعاب األعداد الكبيرة من
النزالء ،باإلضافة إلى سوء استخدام المعدات ،أدى إلى استهالك متسارع
الوتيرة ،مقابل تباطؤ في الصيانة ،لذلك كان مجمع أبو غريب في حالته
النهائية بوضع يرثى له ،وقد جرت عمليات صيانة في أواخر التسعينات
أعادت إليه شيئا ً من الجاهزية.
وفي ظروف الضخ المستمر للنزالء إلى السجن (وسوف أتناول هنا قسم
األحكام الخاصة بصفة رئيسية) ،تعرض السجن ومرافقه إلى التآكل
المستمر والتدهور في مستوى مرافقه الخدمية ،وفي المراحل الالحقة بعد
الحصار الشامل على البالد ،وقلة الموارد المخصصة للسجن ،حدث تسارع
في تدهور الموقف ،لوال جهود كبيرة ،كان المصدر الرئيسي فيها عمل
النزالء وتبرعاتهم ومواردهم ،أمكن إيقاف التدهور السريع.
وكان الموقف الغذائي والصحي وأوضاع السجن بصفة عامة معقولة وتحت
السيطرة حتى وقوع الحصار الذي قلص إلى درجة كبيرة من مستوى
اإلمكانات الغذائية بدرجة رئيسية ،وال أريد أن أذكر أرقاما ً وإحصائيات لست
متأكدا ً من دقتها ،ولكن على سبيل المثال االعتماد على ما يقدم من غذاء ،
48
والكمية كانت جيدة جدا ً والنوعية جيدة ،وفي بعض األحيان جيدة جداَ ،ولكن
في مرحلة بعد الحصار ،انحسر هذا المستوى إلى درجة لم يعد فيها باإلمكان
االعتماد على الطعام الذي تقدمه اإلدارة لذلك فقد تم مضاعفة عدد مواجهات
النزالء إلى أسبوعية ،بدالً من مرتين في الشهر ،وذلك من أجل تغطية حاجة
النزالء من الطعام والمواد المعيشية.
والطعام الذي قلت كميته وتراجعت جودته ،واآلن دخلت عناصر جديدة على
الخط ،فحراس السجن صاروا بعد الحصار يتناولون وجباتهم من كمية طعام
النزالء ،هذا ناهيك عن طول يد مأموري السجن الذين صاروا ربما يمونون
بيوتهم من طعام النزالء ،وهكذا فإن القليل المتبقي ،لم يكن سوى نزر يسير
ال يسمن وال يغني عن جوع .لذلك كان هناك اتفاق غير مبرم( ،كالعرف
الدستوري …!) بل لم يجر حتى اتفاق عليه ،أن النزيل الذي يتمتع بأوضاع
مالية جيدة يترك طعام الدولة لغيره من النزالء ،بل وأن النزالء الذين كانت
أحوال ذويهم تسمح لهم بجلب أطعمة ألبنائهم ،كانوا يشركون معهم زمالء
آخرين ،وهكذا يمكن القول أن تكافالً وتضامنا ً على مستوى طيب بين النزالء
على اختالف قدراتهم االقتصادية والمالية أمكن معه تجاوز محنة قلة الطعام
.
على أن مستوى الخدمات الطبية ،بقي على درجة جيدة ،بل جيدة جداً ،رغم
أن هناك أعدادا ً من النزالء ومعظمهم من غير السياسيين (،وكانت إدارة
السجن قد وضعت في أعوام التسعينات مئات من العاديين في قسم األحكام
49
الخاصة تداركا ً للزحام الشديد في قسمي األحكام الطويلة والقصيرة) ،وكان
من جملة المتاعب التي أوجدوها ،المراجعات الكثيفة للمستشفى التي كانت
تصيب الكادر الطبي باإلرهاق ،وربما باالنهيار بسبب شيوع ظاهرة
التمارض والمشاجرات التي كانت تنتهي دموية في معظم الحاالت ،وكذلك
استخدام أصناف عديدة من األدوية كمهدئات ،أو باألحرى كوسائل مخدرة أو
منومة بما يؤدي إلى اإلدمان ،باإلضافة إلى عمليات التهريب المنظمة بدقة
شديدة ،التي كان يشارك في معظمها إن لم أقل جلها ،موظفو الدائرة ،السيما
من حراس (اإلصالحية) ،فاألمر ينطوي على أرباح طائلة.
وهناك أصناف من الحبوب شاع ذكرها مثل :آرتين ،وأعتقد أنه يستخدم
كعالج للحاالت العقلية والعصبية أو الكآبة أو االنفصام في الشخصية
(الشيزوفينيا) ،ولست متأكدا ً بالضبط من هذه المعطيات ،إال أنني أعلم أنها
كانت توصف كعالج لمرضى الحاالت النفسية ،وغيرها من األصناف
الممنوعة أو تلك المقيد استخدامها إال بمعرفة الطبيب المختص ،كانت تهرب
إلى السجن ويتناولها النزالء إلى درجة اإلدمان الذي يستنزف صحتهم
وقواهم العقلية باإلضافة إلى إمكاناتهم المادية .وكان من المؤسف أن تشيع
مثل هذه الظواهر في السجن السياسي ،وهي لم تكن موجودة في الستينات
حيث كانت السجون مدارس للمناضلين.
وكانت السلطات قد درجت على إصدار قرارات عفو في مناسبات مختلفة،
وبذلك كان من المعروف أن النزيل لن يمكث في السجن لفترات طويلة،
50
وليس مألوفا ً أن يمضي النزيل أكثر من خمس سنوات ،ونادرا ً ما تطول
ألكثر من ثالث سنوات ،وندر أن أمضى نزيل مدة أكثر من عشر سنوات،
وسوف آتي على ذكر ذلك تفصيالً ،أما العدد القليل الذي كان يستثنى من
قرارات العفو فكان حصرا ً :ـ
ـ المحكومين بقضايا التجسس :وهذه قضية معقدة اختلط فيها الحابل بالنابل،
بحيث لم يعد ممكنا ً معرفة (بدقة تامة) المتهمين بقضايا تجسس حقيقية من
الذين اتهموا بهذه التهمة دون دالئل واضحة تكفي إللحاق هذه التهمة
الخطيرة ،وعدد هذه الفئة لم يكن يتجاوز العشرات.
ـ المخفضين من عقوبة اإلعدام :وهذه بدورها قضية ال تخلو من التعقيد،
فالمخفض من اإلعدام إلى السجن المؤبد قد أصبح سجينا ً عادياً ،ولكن
المشرع يريد من ذلك إبقاء من يريد إبقاءه في السجن وإخراج من يرتأؤن
بقرار… ولم يكن نزالء هذه الفئة يزيد عن 30 – 40فردا ً.
هذا بالنسبة للسجن السياسي ،أما بالنسبة لنزالء األقسام األخرى ،فقد كانت
قوائم االستثناء من العفو متباينة ،ولكن وفق أحكام القانون ،كانت الجرائم
الثابتة في االستثناء هي:
-1جرائم المخدرات.
-2جرائم اللواطة واالغتصاب.
-3جرائم الزنا بالمحارم.
51
كانت هذه الجرائم الثالثة ثابتة في قوائم االستثناء ،ولكن كان يمكن أن
يضاف إليها جرائم أخرى مثل :ـ
-1القتل العمد (الذي لم يتنازل فيه ذوي المجني عليه)
-2اختالس أموال الدولة.
-3التزوير.
وال أستطيع أن أتبين بدقة ما هي الحكمة من جلب أعداد كبيرة من الناس إلى
السجن وإطالق سراحهم بعد فترة يذوقون فيها األمرين ،لربما أن فلسفة
الدولة ،وربما دول أخرى على هذه الشاكلة تعتقد ،أن المرارة التي كابدها
السجين سوف تردع الكثيرين منهم عن مسارات العمل المعادي للنظام ،ولكن
بالمقابل فإن أعدادا ً أخرى سيتضاعف حقدها على النظام.
ووفق هذه النظرية ( التي أفترضها) ،فأن مكوث النزالء في السجن كان
يتوقف على درجة أو فداحة 0الذنب) المقترف ،لذلك كانت الفئة المحرومة
دائما من المراحم والعفو ،هم المحكومون بجرائم التجسس ،وحتى عناصر
هذه الفئة غير ثابتة تقريباً ،فقد اعتبر لسنوات طويلة ،أكثر من عشرة أو
خمسة عشر مادة من مواد األمن الخارجي من مواد التجسس ،واألمر ال
يتعدى االجتهاد ،وربما حتى المزاج ..وقد يتدخل في تعزيز هذا األمر
بدرجات متفاوتة في الحسم ،موقف ورأي رئيس اللجنة وأعضاؤها ،ولكم من
المؤكد ،أن كانت هناك مواد شهيرة مستثناة من المراحم والعفو ،المواد :
A164 – 159 -158وهي مواد تنص صراحة على التعاون مع مخابرات
52
دولة أجنبية.
وال أريد بذلك القول أن كل من وجهت له هذه المادة وحكم بموجبها كان
يستحقها فعالً فقد :أن هناك أبرياء بصورة تامة .بمعنى لم تكن لديهم أي شكل
من أشكال االتصال بجهات أجنبية .وكان هناك من كانت لديهم اتصاالت
حزبية مع منظماتهم المهاجرة إلى خارج الوطن ،أو تلك األحزاب المتعاونة
مع دول وأنظمة أجنبية ،عربية أوغيرعربية ،وكان هناك من أجرى دون
قصد ،أو علم دقيق منها اتصاالً بجهات أجنبية استغلت بساطتها أو سذاجتها،
أو اندفاعها ،فوظفت هذا الحماس أو السخط ألغراضها ،وال تستحق هذه
العقوبة القاسية(الحبس المؤبد).
كانت مراسيم العفو تصدر في مناسبات غير ثابتة ،وفترات غير محسوبة،
ولكن أقصى مدة مضت دون إصدار عفو ،كان قي تموز ،1995 /حتى
تموز 2002 /ولكن في المرحلة بين 1986ـ ( 2002وكان قد صدر في
عام 1986عفو كبير) ،كانت قد صدرت مراسيم العفو التالية :ـ
•نيسان : 1988 /عفو عجيب حافل باالستثناءات ،بحيث لم يشمل من
السجن السياسي سوى نزيل واحد فقط اسمه سعد عليوي شيبان ،فسمي العفو
باسمه.
•آب : 1988 /بعد نهاية الحرب ،صدر عفو عام وشامل لألكراد فقط،
شمل حوالي 1500نزيل كردي.
•آب : 1988/بعد يوم واحد ،صدر عفو عام عن العراقيين مع استثناء
53
التجسس والمخفضين من اإلعدام ،وبعض المحكومين من المادة 175خرج
بموجبه أكثر من 1000نزيل ،وبقي 601نزيل في السجن.
•أيلول :1990/عفو خاص شمل حوالي 550نزيالً من القضايا السياسية
البسيطة.
•تموز: 1991/عفو شامل كبير شمل حوالي 6000نزيل ولم يستثن من
السجن السياسي سوى مواد التجسس وبعض المخفضين من اإلعدام ،وبقي
في السجن حوالي 120فرداً.
•نيسان :1995/عفو خاص يخفض محكومية بعض القضايا البسيطة ،أطلق
بموجبه عدد بسيط من النزالء.
•تموز: 1995/عفو خاص يشمل حوالي %75من مدة المحكومية ،عدا
التجسس والمخفضين من اإلعدام.
•تموز :1995/عفو عام أطلق بموجبه سراح جميع السجناء السياسيين عدا
قضايا التجسس والمخفضين من اإلعدام ،أبقى على 98نزيل فقط.
•تموز: 2002/عفو ،هو عبارة عن مرحمة شملت أكثر من %50من مدة
المحكومية ،أطلق سراح حوالي 800– 1000نزيل فيما أبقى على حوالي
1200منهم.
•تشرين األول :2002/عفو عام شامل أطلق سراح كافة السجناء
والموقوفين في العراق دون أي استثناء.
54
إذن فهناك عشرة مراسيم عفو ،منها من أطلقت سراح نزيل واحد فقط
( ،)1988ومنها من لم يبقي نزيل واحد ! وحتى المحكومين باإلعدام أطلق
سراحهم إلى الشارع!
كنت على الصعيد الشخصي ال أعلق آماالً كبيرة على الخروج من السجن،
وكانت تجربة عفو ، 1991حيث أطلق سراح مئات المخفضين من اإلعدام
(حوالي ،)450ثم علمت بصورة مؤكدة تماما ،أن اسمي قد شطب من قوائم
العفو .أما في عفو عام 1995فقد كان أعضاء اللجنة المكلفة بتنفيذ قرار
العفو من أصدقاء ومعارف ،كانوا يؤكدون لي يوميا ً بأن إطالق سراحي
مؤكد ضمن قرار العفو ،إال أن ذلك تغير فجأة ،وأنهت اللجنة أعمالها ،ولم
تبق في السجن سوى 98نزيالً ،من أصل حوالي 2500نزيل قبل العفو.
بل وإني أدركت بعد محاوالت عديدة بذلها أصدقاء ومعارف من أجل إطالق
سراحي لم تسفر عن نتيجة ،أدركت أن األمر سيطول ،وسيطول جداً ،السيما
بعد إطالق سراح أخي وسام ،وكانت دوائر األمن والمخابرات قد أجرت
مرات عديدة ،ربما أكثر من عشر مرات ،في زيارات ومقابالت معي في
السجن ،وإجراء استطالعات ،تحقيقات عن أوضاعي داخل السجن ،باإلضافة
إلى أني كنت أعلم بدقة أنني تحت المراقبة الدقيقة جدا َ طيلة فترة سجني .وال
أدري ماهية التقارير التي رفعت عني ،هل هي إيجابية أم سلبية ،وكان بعض
المكلفين بإجراء تلك المقابالت والتحقيقات كانوا يظهرون التعاطف معي،
واالحترام في كل األحوال ،لكن دون أن تسفر تلك المقابالت عن شيء .وإذا
55
كان لي أن أتحدث عن تلك المقابالت ،فأقول :أنها كانت تتركز بصفة رئيسية
على الموضوعات التالية:
ـ ما هي أخبار عائلتك في ألمانيا ؟ وفي الواقع فإن السلطات كان يؤرقها
وجود عائلتي في الخارج كثيراً ،لمعرفتهم أنهم يشكلون قاعدة ثابتة لي في
الخارج ،كما يطرح وجودهم هناك مبررا ً لاللتحاق بهم وهو ما لم تكن
السلطات تريده بصفة مطلقة لجهتين:
آ/أن وجودي في الخارج يطرح احتماالً شبه مؤكد ،أن أنضم إلى قوى
المعارضة ،وهذا ما لم تكن السلطة تريده.
ب/السلطة بصفة عامة ،لم تكن ترحب بأن تعتمد أي شخصية سياسية على
نفسها ،مستقلة ،بعيدا ً عن مؤثراتها ،وكنت قد أظهرت بصورة مؤكدة رفض
امتثالي لطلب السلطة بالعمل في الدوائر العراقية ،لذلك حجب عني راتبي
التقاعدي مع رفض الموافقة على السفر من أجل إرغامي على الرضوخ,
ولكني كنت أعتقد أن ذلك شكل من أعمال السخرة ،يغدو فضيعا ً إذا كان في
مجال العمل الفكري والثقافي أو السياسي.
ـ يقال أنك تكتب كثيراً ،فماذا تكتب ؟ وكنت قد أبقيت في السجن على بعض
األعمال ،أو باألحرى مسودات لها ،من تلك التي ال تشكل هاجساً ،مثل
تراجم لروايات وكتب لتعليم اللغة األلمانية.
ـ ماذا تفعل لو أطلق سراحك؟ وكان هذا السؤال ينطوي على احتماالت
عديدة ،وكانت إجابتي عنها حيادية :كنت مريضا ً والعالج بالنسبة لي هو
56
الموضوع األكثر أهمية ،وإجابات عامة ال يفهم منها شيء.
بين هذه األسئلة الجدية المهمة ،عشرات األسئلة غير المهمة ،بل كانت
لالستدراج ،وتدور حول موضوعات كثيرة ،منها سياسية ومنها ثقافية.
وغيرها.
57
فارغة إال من بعض الرجال الذين يتعين عليهم تحمل مثل هذه التجربة
النادرة .فقد حدث عام 1988أن أفرغت القاعة التي كنت فيها ولم يبقَ فيها
سوى ثالثة أفراد ،وتكرر األمر عام 1991وعام 1995حيث أفرغ السجن
تقريباً ،وبينما كانت القاعات والساحات ال توفر حتى إمكانية المشي فيها ،قد
أصبحت فارغة وقد غادرها الجميع ولم يبقَ إال القليل من الرجال الذين يتحتم
عليهم مواجهة هذا الثقل النفسي الهائل ،وبعضهم لعدة مرات!
ترى ما الذي يعين الرجل على احتمال ثقل تجربة كهذه ،أو عدة تجارب
منها؟
ابتدا ًء ،فإن ذلك يحدث لدى الكثيرين ضربا ً من االهتزاز ،وآلخرين استسالما ً
هادئا ً للقدر ،وهناك من تنهض فيه ،في تلك الساعات العصيبة الصعبة،
مقومات الرجولة ،وإظهار أقصى قدر من ضبط النفس في احتمال ذلك األلم،
والبد من االعتراف أن القلة القليلة كانت على هذا المستوى ،بسبب ارتفاع
في مستوى الوعي السياسي ،أو اإليمان التام بالدور الذي يقوم به مكرها ً أو
مختارا ً.
كنت أحدث الكثير من الشباب ممن ال انتماء حزبيا ً له ،وليست هناك قضية
واضحة يناضل من أجلها ،وهو في الحقيقة يدفع ثمن باهضا ً لخطأ ال يستحق
هذه العقوبة ،كنت أقول لهم ،إنها تضحية للوطن … قد تبدو هذه الكلمة
مثالية جداً ،في ظروف واقعية جداً ،وقاسية جداً .نعم إنها تضحية غالية لكننا
بوجودنا في هذا المكان والبد من إيقاف اعتبار أن المواطن وسلطات الدولة،
58
يناصب كل منهما اآلخر العداء والكراهية والشكوك .والبد من اإلصالح
السياسي .واألمر يتعدى السلطة التي زالت في 9نيسان 2003/وإنما أساسا ً
في تعاطي الدولة في الشرق ،كل الشرق مع مواطنيها!
نعم ،أنا أدرك أيما أدراك ،أن هذه الدرجة من الوعي القانوني /الدستوري،
والسياسي /الثقافي لدى المواطن ،أمر ليس من السهولة إدراكه ،وبالمقابل
فإن تطور أنظمة الحكم باتجاه الرقي والتسامي هو اآلخر أمر معقد ،وال
يصار اختياره أو الوصول إليه أمرا ً مزاجياً ،وإن وقتا ً طويالً سوف يمضي
قبل الوصول إلى آمالنا المنشودة في أنظمة ومواطنين ،ليس في العراق
فحسب ،بل في عموم الشرق.
فالقمع والقهر واالستبداد واالستعباد والظلم ،شأن يعيش معنا ونحن نمارسه
بوعي أو بدون وعي ،ألم يقل شاعرنا الكبير أبو الطيب المتنبي:
الظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعلة ال يظلم
والظلم والظالمون وحكم الطغيان واالستبداد قضية لها جذورها االجتماعية
واالقتصادية والثقافية ،وفي دواخل كل شرقي (بهذه النسبة أو تلك) ترقد
كوامن االستبداد ،لن تجد حدودا ً لها حتى يحدها سلطان أعلى … فالشرقي
يولد وعليه أن يقدم آيات :االحترام ـ الطاعة ـ الوالء ـ الخوف واالستسالم،
من الوالد ،من العم ،من األخ األكبر،من شيخ العشيرة ،من اختيارية المحلة،
أو المنطقة ،من الشرطة واألمن والمخابرات والدولة ورئيس الدولة،
وأقارب رئيس الدولة ،من القوانين المكتوبة وغير المكتوبة ومن تلك
59
الخاضعة للتأويل ،وبعبارة أخيرة عليه أن يخاف وأن يخاف كثيرا ً و إال فإنه
سيكون من الضائعين.
***
وتوزيع النزالء على الفئات العمرية كان أكثر وضوحاً .ومع أن السجن قد
شهد حاالت نادرة لنزالء تقل أعمارهم عن 18سنة( .أطلعت شخصيا ً على
ثالث أو أربع حاالت) ،لكني علمت أن محكمة الثورة كانت تحكم على
أحداث (في قضايا سياسية) ويودعون في قسم إصالحية األحداث ،وكذلك
على نسوة يودعن في سجن النساء ،كما أطلعت على وجود أحداث في قسم
اإلعدام(حالتان أو ثالثة ،قدر الطب العدلي أعمارهم على أنهم بالغين) ،كما
تأكدت من تنفيذ أحكام اإلعدام بنساء (في قضايا سياسية) ،بتهمة االنتماء إلى
حزب البعث العربي االشتراكي والحزب الشيوعي ومن التيار الديني.
مثلت الفئات العمرية بين 20 – 40عاما ً األكثر شيوعا ً بين النزالء ،وما بعد
هذا الحد ،يبدأ الخط البياني بالهبوط حتى يصل إلى حد 60عاماً ،لتصبح
النسبة أقل فيما هو بعد 60عاماَ .وكان هناك شيوخ ومسنين ،ولكن أعدادهم
ضئيلة قياسا ً إلى أعمار الشباب.
***
60
أما لجهة توزيع النزالء على المهن :مثل الكسبة والفالحون ،الفئة األكثر
شيوعا ً بين النزالء ،يليهم الطلبة والموظفون والعسكريون ،أما جرد
المستويات الدراسية ،فقد كنت على إطالع شخصي بهذا الموضوع ،حيث
كنت ضمن المساعي التي يبذلها مجموعة من النزالء في تحسين ظروف
السجن ،كنا نركز على موضوع إتاحة المجال للنزالء بمتابعة دراستهم،
االبتدائية والمتوسطة والثانوية على األقل ،وقد بذلنا جهدا ً كبيرا ً بإقناع اإلدارة
بإتاحة هذه الفرصة ،إلى جانب فتح دورات محو األمية .ومن الغرابة ،أن
يتواجد عدد ال بأس به من األميين بين النزالء .بيد أن العدد األكبر كان من
ف ئة الدراسة االبتدائية ،والقليل في المتوسطة ،ثم األقل في الثانوية ،أما على
مستوى التعليم الجامعي ،فقد كان العدد ضئيالً .وبهذا المعنى كانت نسبة
خريجي الجامعات والمعاهد بسيطة جداً ،وإذا أضيف إليهم خريجي الكليات
العسكرية ( العسكرية ـ الطيران ـ الشرطة ـ البحرية) ،فربما يصبح العدد
بنسبة ،% 6 - 8أما خريجي الدراسات العليا ،سجلت أسماء 20ممن
يحملون شهادة الدكتوراه خالل مدة 16عاما ً بما في ذلك من مكث لفترة
قصيرة جدا ً ( حوالي السنة الواحدة ) ولربما نفس العدد من خريجي
الماجستير ،بما في ذلك حملة شهادة األركان العسكرية التي تمت معادلتها
رسميا ً بالماجستير ،وال يتجاوز عددهم العشرة ضباط.
من الطريف وما يشيع المرح ،اإلشارة إليه في بحر المرارة هذه ،ذلك أن
61
السجن قد شهد العديد من الحاالت ،يدعي فيها بعض النزالء حصولهم على
شهادات جامعية أو حتى على درجة الماجستير ،وقد شهدت بنفسي نزيالً
يدعي أنه خريج كلية الطب في جامعة اإلسكندرية ! ثم تبين انه سائق سيارة
إسعاف ليس إال ! وقد يتحول المرح إلى ترح عندما تعلم أن الرجل كان
يحفظ أسماء الكثير من األدوية واألمراض باللغة اإلنكليزية ويجهد نفسه في
تلفظها بإنكليزية صحيحة!
ثم تعرفت على شخص ،لعب دور األستاذ ببراعة ،وأعترف بأسف أنه
استطاع أن يغشني لفترة ،ربما ألشهر ،مع أني كنت أشك في األمر ،فقد
ادعى أنه قد أنهى الماجستير في االقتصاد ،ولكن لعبته لم تستغرق وقتا ً
طويالً(معي على األقل)فاكتشفت أنه يجهل بصورة تامة تقنيات العمل
األكاديمي العلمي والبحثي ،وأخيرا ً هتك سره أحد أصدقائه المقربين،
والمدهش حقا ً أنني شاهدته مرة على شاشة إحدى الفضائيات يقدم نفسه على
مدرس في كلية الزراعة بشهادة الماجستير،
ً أنه دكتور ! وآخر يدعي بأنه
ويتقن دور األستاذ ويتحدث برفع الكلفة عن زمالئه األساتذة ! حتى اكتشفنا
أنه سائق لوري في كلية الزراعة وآخر يدعي حصوله على الماجستير في
القانون ،ولكن معارفه يؤكدون أن ليس أكثر من طالب في كلية القانون في
أفضل الحاالت.
بالطبع كان السجن يضم أصنافا ً عديدة من الرجال ،كما كان هناك أصناف
يمكن أن توضع على قائمة المحتالين ،ولكن كان هناك بالمقابل شخصيات
62
رائعة ،وليس مهما ً على اإلطالق المستوى الدراسي والثقافي ،وبعضهم صار
لنا كاألخ والصديق الصدوق ،رغم ظروف السجن القاهرة التي كانت تهشم
شخصية الفرد وتستصغره ،فكان البد أن تكون هناك شخصيات تتهشم،
وتنساق في االنحطاط بصفة عامة ،ولكن وبكل أسف البد من اإلقرار أن
الرجال الذين كانوا يتجاوزون أوضاعهم ،ويواصلون بناء أنفسهم ويساعدون
غيرهم ،كان ضئيالً.
***
***
أما توزيع النزالء بحسب القوميات ،العربية بأغلـبية تبلغ ربـما نسـبة – 75
%65واألكـراد %20– 25والتركمان بنسبة قد تصل إلى ،%5أما توزيع
63
النزالء على المحافظات ،فقد كان السجن يضم نزالء من كافة المحافظات،
ولكن كثافة التواجد من كل محتفظة كان يخضع لعدة عوامل منها:
ـ سعة المحافظة سكانيا ً.
ـ طابع الموقف السياسي في تلك المحافظة.
ومن الضروري هنا اإلشارة ،إلى أن الموقف السياسي في المحافظات
الشمالية الكردية كان يؤدي إلى تواجد مستمر من النزالء ،وكذلك المحافظات
األخرى سواء في الشمال أو الوسط أو الجنوب بمستويات متفاوتة ،البصرة،
ثم الناصرية في المقدمة وكذلك محافظات ،الموصل وكركوك وصالح
الدين ،وبعقوبة والرمادي.
***
كنت قد مررت بظروف توقيف واعتقال وسجن لمرات عديدة ،منها حالتان
استغرق فيها االعتقال حوالي السنة :األولى ،عام ،1962وذلك بتهمة إقامة
تنظيم سري تابع لحزب البعث العربي االشتراكي ،كنت خاللها طالبا ً في كلية
الشرطة ،أحلنا على أثرها إلى المحكمة العسكرية العرفية الثانية .والمرة
الثانية كانت عام 1964وكنت ضابطا ً في قوات الحدود برتبة مالزم ،وذلك
بتهمة مقاومة السلطات ،وحكمت علي المحكمة العسكرية العرفية األولى
بالحبس لمدة عامين ،ثم عدل الحكم إلى اإلفراج.
64
وكنت قد أحلت غيابيا ً إلى محكمة الشرطة الدائمية التي حكمت علي غيابيا ً
بالحبس لمدة سنتين لهروبي من الخدمة ،وأحلت كذلك إلى محكمة الثورة عام
1972التي حكمت علي باإلعدام غيابيا ً بتهمة االشتراك بإقامة تنظيمات
مسلحة ،مع أني في الواقع لم أكن على صلة بهذه التنظيمات أو عناصرها.
أنني آسف للقول ،إن مستوى السجين السياسي قد شهد تراجعا ً ملحوظا ً في
مستوى الوعي السياسي .وكان يؤدي إلى خروق أمنية مستمرة للتنظيمات،
ولحياتنا في السجن ،بسبب الكسب السهل لسلطات األمن لعناصر تعمل
لصالحها .بينما كانت السجون في الستينات عبارة عن مدرسة للمناضلين،
حيث كان السجين أو المعتقل السياسي يتمتع بمستوى عال من الوعي
السياسي والثقافة العامة .وقد تشكل الوعي السياسي والثقافة الحزبية لدى
العشرات من المناضلين في السجون .بل إن بعض مشاهير القيادات الحزبية
العراقية ،كانوا من خريجي السجون ،في حين يؤسفني القول أن السجون في
العراق خالل الثمانينات والتسعينات قد شهدت تراجعا ً في هذا المجال.
ولربما هناك بضعة مالحظات عيانية ،أو تلك التي اطلعنا بحكم مكوثنا زمنا ً
طويالً في السجن ،وفي مختلف الوظائف التي اضطلعنا بها ،والنشاطات
الوظيفية والسياسية ،الحزبية والمهنية ،تجعلني على إطالع بتلكم المالحظات
:
شاع الكثير في العراق ،عن تعدد السجون ،وفي الواقع فإن أعداد تلك
السجون معروفة للرأي العام ،فهناك ما يطلق عليه"المديرية العامة لإلصالح
65
االجتماعي" ،وهي مديرية السجون العامة سابقاً ،ويتبع هذه المؤسسة التي
تتخذ من بغداد ـ أبو غريب مقرا ً لها ،عددا ً من السجون في بغداد ،وفي
بعض المحافظات:
سجن بغداد المركزي ،الذي أنتقل إلى أبو غريب فصار يعرف باسم سجن
أبو غريب الذي هو مجموعة من األقسام (السجون) كما نوهنا في مطلع
الكتاب ،وعدا هذا المجمع ،هناك:
*سجن النساء /بغداد ،منطقة الرشاد.
*سجن األحداث (للمحكومين أعمارهم أقل من 18سنه) ،بغداد /منطقة
الرشاد.
*مديرية سجن الموصل ،وهو ثاني أكبر سجن في العراق ،وهو السجن
الوحيد الذي يماثل سجن أبو غريب بأقسامه المتنوعة.
*سجن بعقوبة،في محافظة ديالى ،وهو سجن قديم وصغير وال يتسع إال
إلعداد بسيطة من القضايا الجنائية.
*سجن الحله ،وهو سجن صغير للقضايا الجنائية.
*سجن البصرة ،وهو سجن قديم للقضايا الجنائية.
*سجن كركوك ،سجن قديم ألغي مؤخرا ً لتقادمه ورداءة أوضاعه وصغر
حجمه.
لم يطرق سمعي وجود سجون رسمية غير هذه السجون ،وحتى قسم األحكام
الخاصة في الموصل ،لم يودع فيه سجناء سياسيين إال لفترة وجيزة(سنة
66
ونصف) بين 1990 – 1992وبالتالي فأن السجناء السياسيين كانوا حصرا ً
في سجن أبو غريب (قسم األحكام الخاصة).
هناك من النزالء من يتداول األخبار والشائعات ،وال يفرقون بين الموقف
والمعتقل أو السجن.ولكن من يعرف القانون ،يعرف طبعا ً الفرق بين هذه
المسميات .فالموقف هو مكان إيداع المتهمين خالل التحقيق وحتى المحاكمة،
والسجين هو من يصدر بحقه قرار بالحبس من محكمة ،سواء كانت مدنية أو
عسكرية أو جنائية ،أو محكمة خاصة .أما المعتقل ،فهو مكان إيداع من
يعتقل بموجب أوامر اعتقال آلجال محددة أو غير محددة دون اإلحالة إلى
المحاكم.
وعلى هذا األساس ،فإن كافة الذين صدرت بحقهم أحكام إعدام ،نفذت شنقا ً
في سجن أبو غريب(قسم األحكام الطويلة) ،عدا ثالث حاالت تحديدا ً:
ـ مجموعة من ضباط الحرس الجمهوري ومن قطعات الجيش ،وعددهم 15
ضابطا ً يقودهم الرائد سطم الجبوري ،أعدموا رميا بالرصاص في إحدى
أرجاء سجن أبو غريب.
ـ الشاب عودة ديوان والي ،من محافظة العمارة ،وكان هذا الشاب رحمه هللا،
قد تناول أقطاب النظام بالشتائم ،وقد تم تنفيذ اإلعدام رميا ً بالرصاص بعد
محكمة صورية في ساحة قسم األحكام الخاصة أمام أنظار الكثير من
النزالء.
ـ إعدام الفريق الركن كامل ساجت ،وهو من خيرة ضباط الجيش العراقي
67
وأبطاله .والغريب في إعدام هذا الضابط ،أنه جاء إلى السجن يحمل مظروفا ً
إلى مدير سجن أبو غريب ،وكان ما يزال بإمرة العقيد حسن العامري ،الذي
فوجئ عندما فتح المظروف أنه يحتم على مدير سجن أبو غريب إعدام هذا
الضابط شنقا ً وعلى الفور ،فحاول المدير وهو ربما يعلم أن ال جدوى من
محاولته ،االتصال بالجهات العليا ،بأن الوقت متأخر (حوالي السادسة) وأن
الموظف المكلف باإلعدام غير موجود ،فقيل له أال يحمل أحدكم مسدساً؟ فلما
رد باإليجاب طبعا ،فقالوا له :إذن أطلق رصاصة على رأس هذا الضابط
وأغلقوا الهاتف بوجهه.
وفيما عدا ذلك ،فإن المحاكم العسكرية كانت تصدر أحكاما ً بالسجن ويودع
المحكومون في السجون اآلنفة الذكر ،جنائية منها على وجه الدقة أو في
قضايا الهروب أو اإلعدام رميا ً بالرصاص ،فكانوا يودعون في سجن
عسكري ثم ينفذ فيهم الحكم في ميادين الرمي .وكان هناك ميدان الرمي
الشهير بسمايه (جنوب بغداد باتجاه الكوت) وأحيانا ً كان يتم التنفيذ أمام
الجماهير للحد من ظاهرة الهروب ،وكذلك في المحافظات ،جرت مثل هذه
العروض المؤسفة.
وقد تم تنفيذ أحكام اإلعدام شنقا ً في سجن أبو غريب ،بحق الكثير وفق
االتجاهات التي نوهت عنها ،وأركز في اآلن على قسم األحكام الخاصة،
وكان المحكومون ال يقابلون عوائلهم مطلقا ً بما في ذلك يوم التنفيذ ،على
عكس ما كان يجري مع المحكومين باإلعدام في القضايا الجنائية الذين
68
يقابلون ذويهم أسبوعياً ،وكذلك يوم تنفيذ حكم اإلعدام.
وقد شهدت قاعة اإلعدام ،تنفيذ الحكم في شخصيات سياسية من التيارات
المختلفة ،ومنهم مناضلين وقادة عسكريين وقادة إداريين ،فهنا أعدم عشرات
من مناضلي حزب البعث العربي االشتراكي(اليساري) وشيوعيين وأكراد
وتيارات دينية من الطائفتين ،ومن أدين بقضايا التجسس ظلما وعدالً .ومن
هؤالء الجاسوس البريطاني الشهير بازوفت .وكان فرزاد بازوفت وهذا اسمه
الكامل على ما أذكر ،إيرانيا ً هجر وطنه حالما ً باألمان والسعادة والمال
الوفير ،لكنه تورط في قضية سرقة أو احتيال ،فألقت الشرطة البريطانية
القبض عليه .وهنا ،وكما يعتقد ،تورط في الدخول في عالم األسرار ،وربما
أراد إنقاذ نفسه ،فحق عليه القول :احتمى من الرمضاء بالنار ،ثم عمل
لصالح الموساد الصهيوني ،وتحول بين ليلة وضحاها إلى صحفي يجوب
أقطار عديدة يبحث عن طرائد ،يكتب عنها أو يعمل على اصطيادها ،وبهذا
ذهب إلى تونس وحام حول مقرات القيادات الفلسطينية ،أثار شكوك األمن
التونسي ،فأبعدوه .وقال له أحد ضباط األمن التونسيين :ال أملك دليالً
ضدك ،ولكنك تلعب بالنار.
وحقا وقع بازوفت في الحفرة ،وتفاصيل قضيته معروفة ،وكان في قاطع
اإلعدام هادئا ً وعلى ثقة أكيدة أن بريطانيا ستعمل على إنقاذه ،حتى بعد أن
صدر حكم اإلعدام ،ثم قيض لهذا الرجل وهو المقدم الطيار "دزءي" أن
يخفض إلى المؤبد ،حدثني قائالً :أن بازوفت كان واثقا ً من نجاته ،وعندما
69
شاهد من ثقب صغير في الشباك(كانت الشبابيك في قسم اإلعدام مغطاة
بألواح من الصفيح) ،شاهد سيارة القنصل البريطاني تقترب من قسم اإلعدام،
ابتسم ابتسامة عريضة ،وتفوه ببعض العبارات التي تدل على معنى :ها هم
أخيرا ً جاؤوا ،وعندما حضر المأمور القتياده للتنفيذ خرج ضاحكاً ،ولكنه علم
بعد لحظات أنه ذاهب للموت ،بدت عليه عالمات االنهيار.
وهنا أيضا ً استشهد البطل القائد محمد عبد الطائي ،الذي حدثني من كان معه
في زنزانة اإلعدام ،وقيض له البقاء حتى عفو ،1995وخفض إلى الحبس
المؤبد ،أن الشهيد البطل مضى إلى الشهادة بشجاعة ليست غريبة عنه،
متحديا ً المشنقة والجالد ،وهنا أيضا ً استشهد رفيقي وأخي الرائد الطيار عبد
الحسين عبد األمير ،وأخوان وأصدقاء وقادة بواسل وعراقيون شرفاء … .يا
لألسف … يا لألسف!
واليوم …وبعد كل ما حدث وجرى ،وما تحملناه من الخسائر في األرواح
والممتلكات واألصدقاء والرفاق ،ومثل ما جرى لبالدنا من تخريب سواء
على أيدينا أو على أيدي أعدائنا ،نريد أن يكف مسلسل الرعب ،كل ربح هو
مزعوم وكل خسارة ال تعوض ،وكل ذلك مؤلم ،مؤلم حتى العظم ،وليس
بوسعي صياغة جملة تصف هذا األلم … لست في وارد أن أتهجم على
جهة ،ولست غاضبا ً إلى درجة الجنون … إني أحاول أن ألملم الجراح !…
أداويها فحسب ،أقبل ببعض الربح عوضا ً عن الخسارة التامة.
وعندما أستعرض اليوم وجوه العشرات بل المئات من الذين أعدموا ،أو
70
اغتيلوا ،أو الذين أمضوا زهرة شبابهم في السجون وخسروا أعمارهم ،
ومنهم أنا … ترى ألم تكن هناك وسيلة نقيم فيها تفاهما ً عوضا ً عن الصراع
الدامي الوحشي؟ ترى لماذا نحن قادرون على التفاهم حتى مع األعداء ؟
ولكننا غير قادرين على التفاهم فيما بيننا ؟ لماذا نضع خطوطا ً دموية سوداء
بين بعضنا في حين ال نقيم إال خطوطا ً وردية أو فستقية ،أو ربما وهمية،
وأحيانا ً ليست هناك خطوط البتة مع أجانب نعلم علم اليقين ،أنهم ال يريدون
الخير لنا كعراقيين ..؟
***
تتألف السنة من 12شهراَ ،والشهر الواحد من 30ـ 31يوما َ عدا شهر شباط
الذي يتألف من 28يوما ً عادة إال إذا كان حظك رائعا ً مثل حظي ،فتزيد يوما ً
واحدا ً
71
ثم أن الشهر الواحد يتألف ،أكثر من أربعة أسابيع واألسبوع يتألف حتما ً من
سبعة أيام واليوم الواحد من 24ساعة ،والساعة من 60دقيقة والدقيقة من
60ثانية ،وبذلك تصبح أنت بلحمك الغض أمام آلة الزمن المعقدة التي تتألف
من سنوات وأشهر وأسابيع وأيام وساعات ،ودقائق وثواني ،ريشة في مهب
الريح.
وللزمن سطوته وسلطته ،فال تستطيع استعادة الزمن الضائع ،أو تجميده ،أو
تأخيره ،ولذلك عليك أن تكون دائما ً في أتم اللياقة البدنية والفكرية ،لكي ال
تتأخر حضورا ً أو فكراً.
ولكن من أنت…؟ أنت ذلك المخلوق الذي ليس بوسعه أن يعطل قدوم أي
لحظة وال استعجالها
وبعبارة أخرى ،ليس عليك سوى االنتظار والقبول بمعادالت األمر الواقع
سواء كانت قاسية أم ال .ولكن لماذا ال …؟ أنها دائما ً قاسية بدليل أنها ال
تستأذنك ،بل أن األحداث والوقائع تحصل في كثير من الحاالت دون تدخل
مباشر منك ،وقد يكون في حاالت نادرة أو بالصدفة لصالحك أو أنك قد
تدخلت بهذه الدرجة أو تلك في صنع األحداث ،أو فيما يؤدي إليها .ولكن في
معظم الحاالت فإن الرياح تأتي بما التشتهي السفن .فما عليك سوى االنتظار
وإبداء حسن وأدب االستسالم .
72
أما إذا كان حظك رائعاً ( ،وأنا سأفترض ذلك لكي نمضي في القصة قدما ً )
وتحتم عليك أن
تصارع الفوالذ والزمن لمدة 20عاماً ،فإنك بعد تأمل ستجد نفسك أمام آلة
رهيبة من األرقام المخيفة ،وهي عبارة عن معطيات مجردة ال جدال في
دقتها وواقعيتها ،عليك أن تتحملها بأي وسيلة كانت ،بل إن مقدرتك
وشجاعتك تعتمدان على تحمل معطيات هذه اآللة ،فأنت أمام عشرين عاما ً
من السجن ،قضت فيها السلطات بمصادرتك ألنك مصاب بعمى األلوان ،أو
ألنك دسست أنفك فيما ال يعنيك ،أو ربما ألنك لست بمستوى الذكاء المطلوب
…تصور المطلوب …!
والعشرون عاما ً هذه تمثل ثلث عمر اإلنسان ،وإذا اعتبرنا أن الثلث األول
من عمره 20ـ1
هي سنوات تحضيرية ليس إال ،وأنت لست مؤهالً فيها بعد على خوض
المعارك واتخاذ القرارات ،بين طفولة ومراهقة أما العمر الحقيقي فإنه يبدأ
من سن العشرين فصاعداً ،وهكذا فإن مدة الحكم 20سنة تمثل نصف العمر
على أساس أن اإلنسان يعتزل العمل ويحال على التقاعد بعد سن 60سنة
ويرتكز نشاطه الحقيقي على مراجعة األطباء والمستشفيات.
وإليك هذه التفاصيل المزعجة (أذكرها لك فقط لكي ال تؤخذ على حين غره)
20 :سنه=240
73
شهراً ،وهي أيضا ً = 1020أسبوع ،وتساوي 7200 ،يوما ً ( تصور سبعة
أضعاف ألف ليله وليله ) ،و= 172,000ساعة و= 7,320,000دقيقه ،و
= 199,260,000ثانيه ،ترى ما هي القيمة العملية الواقعية لهذه المعطيات
الفلكية…؟ ولماذا هذا الحساب الدقيق للسنوات واألشهر واألسابيع واأليام
…؟
سنوات…؟ عندما استولت عليك السلطات وصادرتك باسم القانون ،قالوا لك
:تفضل رجاء ،
كانت زوجة العالم الرياضي آينشتاين ،تجهل ويا للغرابة مفهوم النظرية
النسبية .وفي لحظة صفاء وهناء مع زوجها ،قالت له :أليس من الغرابة أن
تكون هي زوجته ،وأن ال تعرف النظرية النسبية .التي وضع زوجها أسسها
..؟ ،وهنا احتار العالم الكبير ،كيف له أن يوضح نظرية ال تخلو من التعقيد،
وبعد هنيهة من التفكير ،قال لها وهو يحاول بالطبع أن يقرب األمر إلى
أقصى درجة من مستوى تفكيرها ومصالحها أيضاً…!
قال لها متسائالً إن كانت تذكر فترة خطوبتهما وكم كانت رائعة بالنسبة له
قائالً :كانت كل ساعة أقضيها معك تمضي بسرعة وكأنها دقيقة أو ثانية
واحدة .ابتهجت زوجة العالم وأجابت مبتسمة ،أن نعم .فاستطرد آينشتاين
74
قائالً :ولكن بعد مرور سنوات طويلة على زواجنا أصبحت كل دقيقة
أقضيها معك ،تعادل ساعة من الزمن .ومع أن مالمح الفرح واالبتهاج
غادرت مالمح الزوجة ،إال أنها استوعبت بدقة النظرية النسبية التي أجاد
زوجها العبقري في شرحها لها .فزواجه منها قد ال يبدو لي من نتائجه
المنطقية كارثياً ،لكنه قد تحول إلى ساعة زيتية ثقيلة .إذن بماذا يمكننا أن
نشبه حياة السجن…؟
سأقول لك ،قولة المجرب العارف الذي لم يفقد عقله ،إذ أن هناك من يرى
الوهج الفتان ،ولكنه يخسر عقله فال يقدر بعد ذلك على وصفه .وهناك من
يقابل الوحش الخرافي ،ولكنه سوف لن يقدر على وصفه ،ألن الوحش،
ببساطه سوف يلتهمه ولن يبقي منه شيئاً .ولكنني مازلت صافي الذهن متقد
الذاكرة ،واضح البصر والبصيرة ،رغم أنني أنهيت ثالثة أرباع المباراة (16
جولة ) .
75
تلك ،فيبدأ بالتداعي و التهشم بعد خمسة سنوات أو عشرة أو خمسة عشر،
فيخسر قدرا ً من تكوينه ،كليا ً أو جزئيا ً وينتهي األمر به محطماً ،كسيحا ً .
موضوعياً ،يعتمد األمر أين تقع ضربة المطرقة ،فإن أصابت الضربة
األولى الرأس كان مستوى الضرر الذي لحق بالمصاب كبيرا ً (وبالطبع أني
أقصد بالرأس هنا ما أقصد …!!) أو
أن ال تصيب الضربات منك إال األطراف ،األيدي واألرجل ،فيكون مستوى
الضرر أقل ،أو عندما ينجح الفرد بتغطية رأسه وأطرافه ،فلن تكون تأثير
الضربات خطيرة ،فتنتهي المباراة (وبحسب عدد الجوالت) ،بأقل قدر من
األضرار.
حسابية (ربما تستغرق بعض الوقت) تحسب فيها الزمن الذي تقطعه الكرة
الحديدية من أعلى ذروة لها شماالً إلى أعلى ذروة لها جنوباً ،وال بد أن يكون
حاصل قسمة الزمن على أثنين هو أقصى مدى تصله الكرة في حركتها إلى
األسفل ،وهي نقطة مالمسة الكرة ألعلى صف من الطابوق في الجدار .وهنا
عليك أن تقيم سباقا ً مع الزمن .
77
سباق مع الزمن…؟ هذا مصطلح لم يخطر على بالي قط حتى عند شروعي
بشرح آليات العمل المقاوم للكرة الحديدية .إن قدرات اإلنسان تتضاعف
بشكل مثير وتفوق التصور ،والمهم هو إرادة العمل .إني ألرجو من القارئ
الكريم أن ينتبه لمصطلح سباق مع الزمن ،ألنني سوف أعود إليه بمزيد من
التركيز والتفصيل .
في السباق مع الزمن ،وأنت أالن تتنافس في ذلك مع الكرة الحديدية الهائلة
عليك أن تناضل من أجل تشيد صفين اثنين يوميا ً ليرتفع الجدار ،فالكرة تزيل
صفا ً في صعودها وصفا ً عند نزولها ،وإذا نجحت في بناء صف واحد فقط،
فهذا يعني أنك سوف تخسر المباراة بعد مدة معينة بحسب ارتفاع جدارك
أصالً .
إلى هنا يبدو األمر محتمالً ،صحيح أنك ،تخسر ما تشيده إال أنك بالمقابل لم
تسمح لآللة أن تحطمك نهائياً .ولكن البد من االعتراف أنها أوقفت عملية
النمو في جدارك .أما إذا شيدت صفين فأنك متعادل مع الكرة الحديدية ،أما
إذا نجحت بتشييد ثالثة صفوف ،ستزيل منها الكرة اثنين ،فسيبقى لك دائما ً
صف جديد ،أي أنك تسجل انتصارا ً ولو بسيطا ً في المباراة .
ولكن هناك احتماالت أخرى للوضوح ،أقصد أيقاظ الوعي ،هو أنك لو كنت
عارفا ً بقواعد االقتصاد السياسي فأنك ستعلم أن هناك مصطلحا ً يسمى
باإلنتاجية ،إنتاجية العمل ،أي أن قدراتك اإلنجازية يمكن أن تتصاعد تلقائياً،
78
أو بالحث ،مع إتقانك العمل .في حين اليحتمل أن تغير الكرة الحديدية
(أخالقها) آليات وإيقاع عملها ألن في ذلك فساد نوعها…!
وبناء على ذلك ،فأن ارتفاع معدالت التشييد أو الحذاقة في توزيع الجهد ،فأن
بناء ثالثة خطوط أو أكثر خالل حركة البندول صعودا ً أو هبوطاً ،يكون
معدل البناء أعلى من معدل التقويض ،أي أن الكرة ال تكف في الواقع عن
التقويض ،ولكنك ال تكف أيضا ً عن التقدم وإحراز االنتصارات .
ولكنني أريد أن أقول لك أمرا ً آخر ،دعنا أن نشبه التجربة بشيء آخر .لنقل
انك قد حشرت في زاوية أمام رماة ذوو وجوه حجرية .وأنني إذ أسر لك نبأ
الرجال ذوو الوجوه الحجرية ،كي ال تضع أي قدر من االحتمال بمناشدة
ضمير أو رحمة الرماة .قلت لك أن وجوههم حجرية وذلك ما يمكنك رؤيته
والتبين منه بوضوح ،وما ال تراه ببصرك ،هو أن قلوبهم هي حجرية أيضا ً
وذلك مؤكد بدرجة مماثلة ،لذلك وكما يفعل رياضيو اليوغا ،ال تحاول
التركيز على وجوههم وضمائرهم ،بل ركز على نفسك وضميرك ،عليك أن
تنسى ،أو تحاول أن نسيان أن هناك شعيرات حساسة وشرايين ناقله عبر
الدماغ تجعل المرء يشعر باأللم ،عليك أن تغير الكثير من المفاهيم .ليس
هناك ما يدعو لأللم بفعل عوامل خارجية .أن األلم باعتقادي يحدث فقط
عندما يشعر اإلنسان بتأنيب الضمير ،هذا هو األلم فحسب ،وليس هناك شيء
آخر ،أم الوخـز واأللم الخارجي ،فهو محض هراء .
79
أذن ،فأنت أمام رماة ذوو الوجوه الحجرية ،أو باألحرى القلوب الحجرية،
وبأيديهم بنادق صيد رائعة ،وكالب صيد مذهلة وكمية هائلة من الخرطوش.
وكما تعلم ربما ،أن الخرطوش يتألف من عبوة تحتوي على كرات حديدية /
رصاصية ،صغيرة أو كبيرة ،حسب عيار الخرطوش فقد تضم الخرطوشة
12كرة رصاصية أو أكثر 24 ،أو 50أو ربما ثالثة أو أربعة كرات فقط
إذا كانت مخصصة لصيد حيوانات قوية مثل الفيلة أو األسود والنمور .
سوف لن أغضب أن كنت تجهلها ،فأنا نفسي الذي أجلس في قدر الضغط
العالي سنوات طويلة ،لم أكن أدرك حركتها المحورية الدقيقة .وإليك مثال
على ذلك :قالوا لك يوم القي القبض عليك ( يوم مصادرتك) ،إن األمر
سوف لن يستغرق أكثر من خمسة دقائق ،وها هم يعتصرونك ,ويتعاملون
معك وكأنك رقما ً ال قيمة له وال معنى هنا لأللم النفسي وتوجه لك اإلهانات
في مسرحية هزلية ال نهاية قريبة لها ،وأنت تنتظر نهاية هذه المهزلة ،مهزلة
تعرضك إلى ألم خارجي تافه (هم يعتقدون أنهم يلحقونها بك) .
وقد ينهال عليك أحد األوغاد مستخدما ً كالقرود المتطورة ،مستخدما ً أطرافه
العليا والسفلي ،هو إنسان في هيئته الخارجية ،ولكنه تحول إلى حيوان
80
متوحش ضار ،بسبب المهنة والتربية والجو المحيط به ،ربما بسبب إعجاب
دفين بالمهنة وعداء كامن للجنس البشري ،أو ربما بسبب خطأ عابر من
الوالدة !!..وهللا أعلم !..
ها أنت تقف اآلن أمام سد من سدود وميادين الرمي ،أمام دريئة ( إن كنت
عسكرياً ،فسوف تفهم معنى هذا المصطلحات ) ،ويبدأ الرماة بالتصويب
عليك ،وينهال عليك الخرطوش من كل العيارات ،سنوات ،فصول ،تمر
عليك ،أشهر ،أسابيع وأيام وساعات في أوضاع ومواقف كثيرة ،ودقائق
طويلة طويلة ،وليس نادرا ً ثواني يكون فعلها كالثواني التي مرت على
آينشتاين…!
هل سترتدي سترة واقية من الرصاص …؟ كال بالطبع ألنك ال تمتلك واحدة
منها ،بل ألنهم قاموا بتفتيشك ،وجرد مقتنياتك البسيطة ليتأكدوا أنك ال تمتلك
شيئا ً يجعلك قادرا ً على صنع طائرة مروحية …!
قلت لك قبل قليل ،أن األلم الخارجي هو شيء تافه ووهم كبير .أن من يسلط
عليك هذا األلم يريد أن يوهمك بأنه العنصر األهم في العملية ،في حين ينبغي
عليك أن تستوعب أن ذلك ما هو إال فخ لك ولبصيرتك ،وهنا تكمن عناصر
قوتك أن تتجاهل األلم الخارجي تماماً ،وقدرتهم على توجيه اإلهانة لك ،وأن
81
تصرفها عن ذهنك نهائيا ً وأن تفصل نفسك ومشاعرك وأخالقياتك بصفة
نهائية عن هذا الوسط المنحط الذي يراد منه دفعك إليه ،تجاهله تماماً ،أنني
سأجعلك تنظر إلى المسألة برمتها بصفتها لعبه ،وكلما أتقنت ممارستها
سيتوقف عليها انتصارك أو اندحارك وهزيمتك .
عندما ينتهي الشهر األول (كانون الثاني) ،يبدأ الشهر الثاني (شباط) ،آنذاك
سيكون عليك قطع الشهر الثالث فقط ألنك تسبح في الشهر الثاني ومع نهاية
الشهر الثالث تكون قد أنهيت ربع السنة ،وأنت تقوم بهذه العملية ( واقعيا ً أنت
في الشهر الرابع ) ،وبمرور أيام معدودة فقط تكون قد أنهيت الشهر الرابع
وهو ما يمثل ثلث السنة حينئذ لك أن تقرع على صدرك العامر ،وتقول :ها
أنت قد أنهيت ثلث السنة ،فيما تكون أنت في الشهر الخامس الذي بمجرد
انقضائه تكون في الشهر السادس آنذاك لك أن تصرخ بجذل :ها أني قد
أنهيت نصف السنة ،وبانقضاء نصف السنة فأنك تكون قد نحرت السنة في
الواقع ،تدغدغ مشاعرك في شهر تموز الذى مع نهايته تكون في الشهر
الثامن الذي يمثل ثلثي السنة ،ولم يتبق منها سوى ثلث واحد فقط .
82
وفي غمرة هذه المشاعر اللذيذة ،تكون قد أنهيت الشهر الثامن ،ومع بداية
الشهر التاسع تكون قد أنهيت ثالثة أرباع السنة ،أي أنك قد وضعت السنة
خلف ظهرك ،وأنهيت بكل اقتدار جولة جديدة من المالكمة أو المصارعة
انتصرت فيها لتقول :أن ما بقي لي هو أقل بكثير مما قد مضى ،أو :األمر
كان في غاية البساطة وإذا كانت الجوالت القادمة كلها على هذه الشاكلة
فاألمر بسيط حقا ً .
نعم بسيط حقاً ،ألنك ال تملك خيارا ً آخر…هذا إن أردنا أن نكون واضحين
ونتوخى الدقة في أحكامنا ،وغير ميالين إلى التلفيق كما يفعل بعض الذين ال
تحمر وجوههم خجالً ،ولكن دعنا ال نركز على هذه النقطة أفترض أنك كنت
مبحرا ً على ظهر باخرة ،ثم سقطت فجأة من سياجها ،وها أنت وسط المحيط
األطلسي ،فالسباحة حتى البر المقابل هو خيار مجنون طبعا ً ولكن
مالعمل…؟ فالخيار األخر هو أكثر جنوناً ،فأنت ال تستطيع ببساطة أن
ترخي يديك وتسدل ذراعيك وتدع نفسك تغطس كصخرة إلى قعر المحيط ،ال
سيما أنك تجيد السباحة .تخيل األمر ،أنت في وسط المحيط تسبح على سطح
الماء وتخيل كم هو عمق المياه تحتك والوحوش التي يزخر بها المحيط،
تخيل وحشة الليل وأنت تضرب بيدك على صفحة الماْء ،تخيل كم سفينة
مرت بالقرب منك أو بعيدا ً عنك ولم تلتقطك ألنك ال تمتلك ثمن التذكرة ،أو
ألنك نسيت جدول ضرب ( ،) 9أو أحد األناشيد المهمة هذه األيام …ال
فائدة من الحديث كثيراً ،فذلك يضيع طاقة أنت بأمس الحاجة لها ….واصل
83
السباحة ثم ضع عيونك تجاه عيون الرجال الحجريين وإن ال فائدة ترجى من
ذلك ولكن لتعرف نفسك على األقل بأنك لم تهزم ألنك لم تصبح حجريا ً ولكي
تعرف من االن بأنك المنتصر في المباراة وكل الجوالت…! كيف…؟ نعم
أنك أنت المنتصر ،ألنك :لم تصبح حجرياَ ،أوالً ،وألنك لم تشايعهم ثانياً،
وألنك لم تؤيدهم ثالثاً ،بل ألنك عملت ضد الحجر …!!! فطب نفسا ً وواصل
السباحة في المحيط األسود .
أالن وبعد أن تمتعت بوجبة عامرة منحتك شحنة معنويات ،أستعد اللتقاط
الكرات الحديدية أو الرصاصية المصوبة نحوك وكلما تقدمت في إتقان اللعبة
سوف يستخدم الرجال الحجريين ضدك خراطيش من عيارات ثقيلة ،على
أساس معرفة بدائية أكتسبها الحجريون ،أن الخراطيش ذو الكريات الناعمة
ال تنفذ في جلدك .
ومثل أبطال األساطير ،عليك أن ترقب وأن تقدر الوقت بين إمالء بندقية
الصيد والتصويب ثم أن تقدر بدقة جهة التسديد ،تمد يدك وتلتقط بكف يدك
الكرة الرصاصية قبل أن تالمس جسدك ثم تضعها في جيبك ،أو أن تضعها
في أي مكان ولكن إياك أن تبتسم بشماتة ،فذلك يغيظ الرجال الحجريين
ويزيد في عدوانيتهم وشراستهم .
ال تتصور األمر معقداً ،هكذا هي األحوال ،في البدء نتصورها أشياء صعبة
ولكنك سوف تعتاد عليها بحيث أنها تصبح بمرور الوقت السلوى الوحيدة لك
في هذا المحيط األسود أو هذه الصحاري القاحلة ،وأنها الوسيلة الوحيدة
84
ألثبات نفسك وذاتك ،وهذه الكرات الحديدية ،صغيرها وكبيرها هي بمثابة
صخور ضخمة تحملها كل يوم إلى قمة الجبل ،حيث تسقط من جديد إلى
السفح .ليس هناك هدف محدد ،الهدف هو مواصلة اللعبة فحسب .هذا هو
قدر سيزيف في األلفية الثالثة وليس لهذه العملية من نهاية وليس لك أن تلوم
أحد حتى ذلك الوغد الذي خانك وقبض ثمن خيانته منصب مدير عام ماسحي
األحذية .
فكر …!
أرجوك …
85
تحياتي
بغداد المنصورة
(قصة مؤثرة رواها الدكتور ضرغام الدباغ في كتابه وعثرنا عليها في أحد
المواقع)
87
نفسي :فروسي… أمانة عند هللا .فنظر إلي مبتسما ً وقال :ال أقدر أن آتي
إليك يابه (وهو يشير إلى قيوده)… في أمان هللا!……………..
وبطريقة نادرة ال يمكن أن تتكرر في السجن ،أرسل لي وريقة رسالة ،هي
آخر اتصال وإياه ..وها أنا أرفقها مصورة في ملحق هذا الكتاب… وال أريد
أن أثير أحزاني وأحزان أصدقائه… ولكنها وقفة محبة لفراس الذي ال ينسى،
هو وكل أصدقائنا وإخواننا وأحبائنا… لن ننساكم أبداً!)
وعندما أصبحت خارج السجن هذه المنطقة المحرمة حرا ً للمرة االولى منذ
ستة عشر عاما ً بال حراس وبال قيود في اليدين ..الكل يزحف إلى الخارج
كأرتال ن عبر البوابة الكبيرة عرضها 5-4متر وآالف الخارجين وهذه
االالف ليس أقل من عشرة االالف من البشر وعدت إلى البيت وأمضيت26
يوما ببغداد ومن ساحة القاضي ببغداد إلى عمان /األردن .وفي طريق الجو
بالطائرة المتجهة الى المانيا وهي تقترب من مطار ( تيغل) ببرلين تذكرت
أحداث 15ايار 1983في ذلك اليوم غادرت بيتي ببرلين دون أن أوقظ
أطفالي من النوم .وعندما حطت الطائرة في مطار برلين كان ابني األكبر
فراس أول من رأيت ثم أخوه فواز وأمهما وأنا فارقتهم منذ 20عاما ً .وعندما
دخلت بيتي بعد عشرين عاما ً من الغياب كنت أشعر بالفوز أخيرا ً وأنا سعيد.
89