قمر أبو غريب كان حزيناً

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 89

1

‫أجزاء من كتاب‬
‫قمر أبو غريب ‪ ...‬كان حزينا‬
‫وقائع سجن أبو غريب‪ .‬قسم األحكام اخلاصة‬

‫‪ 1987‬ـ ‪2002‬‬

‫الدكتور ضرغام عبداهلل الدباغ‬

‫‪2‬‬
‫قمنا يف موقع مذكرات كتاب قرأته جبمع مواد هذا الكتاب من‬

‫احللقات التي نشرها الدكتور ضرغام عبداهلل الدباغ يف األنرتنت؛ ألننا‬

‫مل نعثر على نسخ من هذا الكتاب سواء أكانت أكرتونية أو مطبوعة‪،‬‬

‫ويبدو أن النسخ التي طبعتها دار "ضفاف" منه كانت من القلة‬

‫واالنتشار حبيث مل يبق منها شيء يف منافذ بيع الكتب على‬

‫األنرتنت فضل عن املكتبات‪ ،‬ونظرا لقيمة هذا الكتاب وعدم توفر‬

‫نسخه؛ قمنا بإعادة مجع األجزاء املوجودة منه يف كتاب اكرتوني‬

‫وإتاحته للتحميل يف موقعنا‪ ،‬علما أن ما نشرناه ال ميثل إال جزءا ال‬

‫نعرف حجمه من الكتاب املطبوع الذي مل نعثر عليه! وقد قمنا يف آخر‬

‫الكتاب بتذييل قصة "فراس" التي وجدناها يف أحد املواقع مسندة إىل‬

‫الكتاب املنشور‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ابتسم‪..‬ابتسم‪..‬بعد شوية‪..‬ابتسم هكذا كان المصور يصدر تعليماته لي‬
‫كمصور محترف ومشهور في بغداد بكونه مصور اللقطات الجميلة‬
‫والسعيدة‪ .‬وكان‬

‫ذلك بعد أيام قليلة من خروجي من السجن‪ ،‬صورة تصلح لجواز سفر‪،‬‬
‫للذكرى‪ ،‬أو تلبية لرغبة العائلة بوصفها الصورة األولى في الحرية‪ .‬ولكن‬
‫هذا المصور الماهر كان يجهل بالطبع مالذي يعانيه إنسان مثلي‪ ،‬يتعرض‬
‫للتهشيم دون هوادة منذ عشرين عاماً! ومن عذابات ال يمكن حتى تخيلها‪،‬‬
‫منها‪ :‬أنه لم يشاهد زوجته وأوالده طيلة هذه المدة‪ ،‬منها ستة عشر عاما ً‬
‫يرزح في سجن أبو غريب‪ ،‬لم يستلم فيها سوى رسائل معدودة ال يتجاوز‬
‫عددها أصابع اليد الواحدة‪.‬‬

‫ستة عشر عاما ً تقريباً‪ ،‬هي بالتحديد‪:‬‬

‫‪ 189‬شهرا ً‬

‫‪ 813‬أسبوعا ً‬

‫‪ 5960‬يوما ً‬

‫‪ 13560‬ساعة‬

‫‪ 8193600‬دقيقة‬

‫‪4‬‬
‫أفقت من أفكاري على صوت المصور … ابتسم …ابتسم‪ ،‬وتذكرت فورا ً‬
‫الجملة األخيرة التي بها أنهى كونستانتان جورجيو روايته الشهيرة " الساعة‬
‫الخامسة والعشرين‪ ،‬عندما طالب المصور بطل الرواية يوهان مورتيز‬
‫باالبتسام لكي تكون الصورة جميلة‪ ،‬كأن ما ينقصه هو فقط أن يبتسم‬
‫ولتصبح الصورة جميلة‪ ، Smile …. Just smile‬تلك الجملة كانت‬
‫الخاتمة في رواية جورجيو‪ ،‬وها أنا أضعها كجملة أولى في هذا العمل الذي‬
‫أقدمه إلى القراء في بالدنا بدرجة رئيسية … ولكن لماذا هذا الكتاب ؟‬

‫بادئ ذي بدء‪ ،‬أقول إنني لم أكن أريد أن أدون يوميات أو مذكرات عن‬
‫تجربة سجن أبو غريب العميقة‪ ،‬وهي مؤلمة قبل أي وصف آخر‪ ،‬مرحلة‬
‫وتجربة طالت واستطالت حتى بلغت ستة عشر سنة‪ ،‬هي من أكثر مراحل‬
‫سجن أبو غريب ظالما ً وقهراً‪ .‬لم أكن أشأ أن أكتب عن تلك السنين إذ ال شك‬
‫أن ذاكرتي تحتفظ بذكريات مريرة … والمسيرة كانت تنطوي على صور‬
‫مؤسفة إلى جانب الصور المشرقة‪ ،‬ولكننا نريد هنا تجاوز الصور المؤسفة‬
‫لنركز على الصور المشرقة‪ ،‬على الطيبين من أبناء شعبنا وهي الصورة‬
‫العامة الغالبة‪.‬‬

‫أنني لم أشأ أن يكون هذا العمل من أدب السجون‪ ،‬فأنا لم أتناول الموضوعة‬
‫على شكل يوميات أو مذكرات‪ ،‬بل جوهر التجربة إنسانيا ً وسياسيا ً وثقافياً‪.‬‬
‫لقد توخيت الدقة في المعلومات التي أوردتها‪ ،‬فما أؤكده فهو أكيد‪ ،‬أما تلك‬
‫‪5‬‬
‫المعلومات المسموعة والمنقولة التي تدور في إطار الشائعات‪ ،‬والتي تسيء‬
‫(برأيي ) إلى التاريخ أو تقلص من الحقيقة أو تعمد إلى المبالغة في الوقائع‬
‫والمعطيات التي ال تفيد بالدنا وال قضية الحقوق األساسية لإلنسان العراقي‪.‬‬

‫إن الرفاق واألصدقاء واألخوة والزمالء الذين عاشوا تجربة سـجن أبو‬
‫غريـب‪ ،‬في الحقبة بين ‪ ،2002-1987‬وأقدر أعدادهم بحوالي ‪– 13000‬‬
‫‪ ،13500‬واحتماالت الزيادة والنقصان قليلة‪ .‬وهناك نزالء حصلوا على‬
‫مراسيم عفو خاصة وعددهم بسيط‪ ،‬و من توفي في السجن ألسباب صحية‪،‬‬
‫وهم بين عشرون وخمسة وعشرون نزيالً‪ ،‬كانت وفاة البعض منهم مفاجأة‬
‫كبيرة مثل الرفيق العزيز سالم حسن‪ ،‬واألخ عبد اللطيف والمرحوم نجم عبد‬
‫هللا السعدون‪ ،‬واستشهاد الرفيق معن وهيب‪ ،‬الذي أعدم لمواصلته النضال‬
‫داخل السجن‪ ،‬وإعدام الشاب عوده ديوان والي‪ ،‬وانتحار المرحوم أحمد‬
‫الغزي‪ ،‬وسوف لن يفارقني إلى األبد منظر شقيقته التي جاءت إلى السجن‬
‫للمواجهة ففوجئت بوفاة شقيقها‪ ،‬وال يمكنني مطلقا ً أن أصف منظرها‪،‬‬
‫وتغالبني الدموع كلما تذكرتها‪ .‬وهناك حادثة إعدام سبعة عشر من النزالء‬
‫عام ‪ 1991‬كما أن عددا ً محدودا ً من النزالء تمكن من الفرار من السجن …‪.‬‬
‫إلى الجميع تحية وفاء‪.‬‬

‫هناك حشد كبير جدا ً من الرفاق واألصدقاء واألخوة الذين يستحقون التحية‪،‬‬
‫وعددهم كبير جداً‪ ،‬وأخشى أن تخونني الذاكرة في بعضهم‪ ،‬لذلك وتجاوزا ً‬
‫لهذه الحالة …‪ .‬تحية محبة لهم جميعاَ‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫كل تضحية هي رخيصة من أجل بالدنا وشعبنا‬

‫(األحد ـ ‪ / 5‬كانون الثاني ‪1987 /‬‬

‫عندما فتحت عيني‪ ،‬حيث كان أخي وسام يبذل جهده بإيقاظي بطريقة يخفف‬
‫فيها الصدمة إلى أقصى قدر ممكن‪ ،‬ولكن أنى له ذلك‪ ،‬فقد فتحت عيناي على‬
‫جندي يرتدي الثياب المرقطة يصوب بندقيته اآللية صوبي وال تبعد فوهتها‬
‫بأكثر من متر واحد عني‪ ،‬وكأنني عصفور نادر يخشى أن يفلت من يديه‪ ،‬بل‬
‫من مرمى بندقيته‪.‬‬

‫والغرفة التي ال يمكن اعتبارها فسيحة‪ ،‬كانت مليئة بالجند المدججين‬


‫بالسالح‪ ،‬وهناك شاب‪ ،‬ربما في الثالثينات من عمره يصدر األوامر بصوت‬
‫رزين‪ ،‬مما ال يدع مجاالً للشك بأنه قائد هذه المجموعة أو لنقل المأمورية‪.‬‬

‫لم نكن بحاجة لبرهة طويلة لمعرفة كيف حدث هذا األمر‪ ،‬فهناك خرق ما في‬
‫مكان ما من عملية لم تكن منسقة كما ينبغي‪ ،‬رغم أن أطرافها جميعا كانوا‬
‫على درجة من الوعي والتجربة السياسية‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫كانت السلطات قد منعتني من السفر للعودة إلى ألمانيا حيث تقيم عائلتي‪،‬‬
‫وكنت قبل ذلك قد قدمت استقالتي من وزارة الخارجية احتجاجا ً على سوء‬
‫المعاملة‪ ،‬وبذلك قطعت كل صلة لي بأي دائرة من دوائر الدولة‪ ،‬كما حرمت‬
‫أيضا ً من راتبي التقاعدي وباءت كافة الجهود للخروج من البالد بصورة‬
‫شرعية بالفشل بما في ذلك محاوالت بذلها أصدقاء لي‪ ،‬وحصولي على عقد‬
‫عمل ممتاز وفي إحدى دول الخليج‪ .‬وكانت السلطات تصر على إبقائي في‬
‫بغداد وتعمل على كل ما يضايقني ويؤدي إلى هذا الهدف‪ :‬البقاء في العراق‬
‫والعمل في دائرة حكومية تعينها هي‪ ،‬بما يؤدي إلى وضعي تحت أنظارها‬
‫وسيطرتها‪ ،‬وكان أفضل ما توصلت إليه بهذا الصدد هو العمل في الجامعات‬
‫العراقية‪ ،‬فيما كانت عائلتي (زوجتي وطفالن) ما يزالون يقيمون في ألمانيا‬
‫في ظروف صحية ومعيشية ونفسية يصعب فيها االنتقال إلى العراق‪ ،‬ثم‬
‫تحول األمر برمته إلى موقف مهين يصعب احتماله‪.‬‬

‫أما بالنسبة لي‪ ،‬فقد اتضح بصورة مؤكدة‪ ،‬أن اإلقامة والعمل في بغداد هو‬
‫ضرب من ضروب المغامرة ومجازفة ال حدود لها‪ ،‬فقد كانت الثقة في أوطأ‬
‫درجاتها‪ .‬وإذ لم تكن السلطات تمتلك معلومات مؤكدة عن نشاطي السياسي‪،‬‬
‫ولكن تلك السلطات كانت واثقة بأنها قد تعاملت معي بقسوة وفظاظة بما‬
‫يكفي ليضعني في صفوف المعارضة الناشطة في الخارج‪ ،‬وتلك السلطات لم‬
‫تكن تريد أن تهديها شخصا ً مثلي‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫والواقع فإن السلطات كانت قد تعاملت معي طيلة سنوات بريبة‪ ،‬فبالنسبة لها‪،‬‬
‫للسلطات‪ ،‬ليس سوى العمل الحزبي والتعاون‪ ،‬وعدا ذلك يضع المرء في‬
‫دائرة الريبة والشك‪ ،‬وكنت أساسا ً شخصية غير مرغوب بها‪ ،‬حيث كنت من‬
‫القلة القليلة من موظفي وزارة الخارجية‪ ،‬خارج إطار عمل الحزب الحاكم‪،‬‬
‫فيما كانت مواقفي وآرائي تبدو مزعجة‪ ،‬كما أنني لم أكن من هؤالء الذين‬
‫يحرقون البخور ويطلقون المدائح والتزلف للقيادات‪ .‬فقد كنت أريد العمل‬
‫وفق مقاييس العمل والكفاءة العلمية والوظيفية‪ ،‬ال أكثر وال أقل … ولكن‬
‫ذلك كان صعبا ً … بل يكاد أن يكون مستحيالً‪.‬‬

‫بعد مضي ثالث سنوات ونصف‪ ،‬كانت جهودي لمغادرة العراق بصورة‬
‫نظامية قد ذهبت أدراج الرياح‪ .‬وكانت عائلتي ما تزال في برلين (ألمانيا)‬
‫وأظهرت السلطات إصرارا ً متزايدا ً على إبقائي في العراق خالفا ً إلرادتي‬
‫فقامت بتعييني مدرسا ً في جامعة المستنصرية(معهد دراسات آسيا وشمال‬
‫أفريقيا) وكنت قد فقدت األمل نهائيا ً في نيل معاملة عادية‪ ،‬بل أنني كنت‬
‫أتوقع المزيد من تدهور موقفي حيال السلطات‪ ،‬وحتى العمل الجامعي‬
‫األكاديمي لم يكن ليخلو من احتماالت سلبية‪ ،‬ذلك أن العمل الجامعي كان‬
‫مشحونا ً بالفعاليات الدعائية والتحريض‪ ،‬وزج الكادر التدريسي في أنشطة ال‬
‫عالقة لها بالتقاليد الجامعية الرزينة‪ ،‬بل وتتعارض معها في معظم األحيان‪.‬‬

‫ومن نافلة الكالم القول بأنني لست معاديا ً لالتجاه القومي االشتراكي‪ ،‬ولكن‬
‫تباعدا ً في مواقعنا الفكرية والسياسية ضمن هذا التيار في مفردات وتفاصيل‬
‫‪9‬‬
‫عديدة ابتدأت منذ عام ‪ ،1963‬واستمرت في التفاعل حتى عام ‪ 1968‬فغدا‬
‫تناقضا ً وتنافراً‪ ،‬ثم تطور إلى مالحقات وتصفيات‪ ،‬حتى طغت المفردات‬
‫والتفاصيل لتصبح أولويات وشعارات رئيسية‪ ،‬ثم تعاظم دور الفرد في‬
‫مصير الشعارات الرئيسية‪.‬‬

‫واالستطراد بعيدا ً في عرض هذا الموضوع‪ ،‬يقتضي سرد تاريخ االنشقاق‬


‫الذي جرى في الحزب منذ الستينات وكان لي فيها موقف واضح بتفاصيل ال‬
‫مجال لذكرها هنا‪ ،‬ولم أكن أشأ أن أوظف تلك المواقف ‪ 1971 – 1964‬في‬
‫المراحل الالحقة‪ ،‬وعلى هذا األساس‪ ،‬وكانت السلطة ال تقبل إال بالعمل‬
‫الحزبي والتعاون وهو ما كان يتعذر علي القبول به‪ ،‬غدت الحياة في بالدنا‬
‫والعمل في مؤسساتها أشبه بالسير في حقل مليء باأللغام شديدة االنفجار‪ ،‬أو‬
‫كالتعايش مع نمر كاسر في قفص واحد ال تدري متى ينقض عليك فيلتهمك‪،‬‬
‫وباختصار فإن األمن واألمان والثقة كانت شيئا ً مفقوداً‪ ،‬هذا باإلضافة إلى‬
‫المتراكم التاريخي وموروث الذكريات المؤلمة‪ ،‬وفقداني شخصيا ً ونضاليا ً‬
‫لعدد من الرفاق واألصدقاء أمرا ً يبعدني عن مواقع حزب السلطة‪ ،‬فعدا ذلك‬
‫كله فأن تراكما ً جديدا ً قد تحقق بفعل وشايات وتقارير عناصر تافهة كانت‬
‫تناصب العداء كل شخصية تظهر االستقالل في آرائها واحتراما لذاتها‪ .‬وفي‬
‫نهاية األمر فإني لم أكن مستعدا ً للتراجع عن مواقفي الفكرية والسياسية‬
‫والقبول بالتحول إلى مردد هتافات‪ .‬فإن ذلك أمر يفوق قدرتي ذاتيا ً‬
‫وموضوعياً‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫إذن البد من مغادرة البالد‪ ،‬نعم‪ ،‬وبأي ثمن‪ .‬وحسبي قول أحد ملوك إيطاليا‬
‫في القرون الوسطي‪" :‬إنني أفضل الحرية مع الخطر على السلم مع‬
‫العبودية"‪ ،‬لذلك قمت عن طريق صديق موثوق‪ ،‬هو صديق طفولتي‬
‫وصباي‪ ،‬األخ بيرود الطالباني باالتصال بشخصية قيادية كردية معروفة‪،‬‬
‫لتسهيل انتقالي إلى شمال الوطن‪ ،‬حيث هناك مناطق هي خارجة نسبيا ً أو‬
‫كليا ً عن سيطرة السلطة ومنها السفر إلى ألمانيا سواء عن طريق تركيا أو‬
‫االتحاد السوفيتي‪.‬‬

‫أما اآلن‪ ،‬وقد اتضحت خيوط المسألة فيما بعد‪ ،‬وكان الشخص الذي كلفته‬
‫الشخصية القيادية الكردية‪ ،‬كان لألسف عميالً لألجهزة األمنية‪ ،‬وقد كشف‬
‫اعتقالنا أمر خيانته‪ ،‬وقد كشفت األجهزة (االستخبارات العسكرية) عمالته‪،‬‬
‫إال أنها اعتقدت أن الصيد كان ثمينا ً يستحق معه كشف شخصية هذا العميل‬
‫وافتضاح أمره‪ .‬وهكذا كشفت خيانة عمر علي جرمكه‪ ،‬وذلك اسمه الحقيقي‪،‬‬
‫ولكن ثمن تلك الخيانة كان باهظاً‪ ،‬بل باهظا ً للغاية‪.‬‬

‫أركبونا جميعا ً في سيارة واحدة‪ ،‬كل الرجال الموجودين في دار صديقنا‪،‬‬


‫الشخصية الكردية المعروفة األستاذ كمال الشالي‪ ،‬المدرس في كلية الزراعة‬
‫‪ /‬جامعة السليمانية‪ ،‬حيث كنا نبيت في داره استعدادا ً للسفر صباح يوم ‪/ 5‬‬
‫كانون الثاني‪ ،‬ألقي القبض علينا‪ .‬أقول علينا‪ ،‬نحن الثالثة المتوجهين للخارج‪،‬‬
‫أنا وأخي وسام وصديقنا سالم مدلول‪ ،‬باإلضافة إلى الصديق بيرود الطالباني‬
‫وصاحب الدار األخ كمال الشالي‪ .‬ثم إننا حاولنا على الفور رغم أن عيوننا‬
‫‪11‬‬
‫كانت معصوبة وأيدينا مقيدة إلى الخلف باإلضافة إلى تأثير الصدمة‪ ،‬حاولنا‬
‫أن ننسق بيننا موقفا ً نواجه به التحقيق‪.‬‬

‫وفي غرف توقيف مكثنا فيها ربما لساعة أو أقل في مركز استخبارات‬
‫السليمانية‪ ،‬تخلصت من بعض األشياء كانت في جيبي‪ ،‬مادية ومعنوية‪ ،‬جرى‬
‫تسفيرنا بحراسة مشددة إلى كركوك حيث أودعنا موقف استخبارات الفيلق‬
‫في معسكر كركوك‪ .‬والتحقيق الذي كان ابتدائياً‪ ،‬لم يكن القائم به يحرص‬
‫على سماع تفاصيل‪ ،‬فقد اكتفوا بمعرفة هوياتنا معرفة دقيقة‪ ،‬وبعد التأكد منها‬
‫جرى تسفيرنا بعد مبيت ليلة واحدة فقط إلى بغداد‪ ،‬مديرية االستخبارات‬
‫العسكرية في الكاظمية‪ .‬وقد تمكنت من معرفة الطرق والشوارع التي نمضي‬
‫فيها‪ ،‬رغم أن عيوننا كانت معصوبة‪ ،‬فبغداد هي روحنا وكيف ال يعرف‬
‫المرء شرايين روحه‪.‬‬

‫الوقت كان ليالً … فقد استغرقت الرحلة من كركوك إلى بغداد ردحا ً من‬
‫الزمن‪ ،‬وتمت عملية استالمنا في ظروف ال يمكن وصفها اعتيادية‪ ،‬ال تخلو‬
‫من ضربات عشوائية ال معنى لها‪ ،‬مع شالل من السباب والشتائم التي تفتقر‬
‫بصورة تامة إلى األدب واألخالق العامة‪ ،‬ناهيك عن القانون الغائب ذكره‬
‫وتطبيقه والحقيقة أنني لم أكن أفهم مغزى ذلك فقد نكون مذنبين من وجهة‬
‫نظر السلطات (بهذا القدر أو ذاك)‪ ،‬وقد نستحق المحاكمة والعقاب‪ ،‬ولكني ال‬
‫أفهم معنى الشتائم والضرب الذي ال ينطوي إال على معنى واحد‪ ،‬هو أن‬
‫هؤالء الحراس قد اعتادوا اإلهانة‪ ،‬أخذا ً وعطاء‪ ،‬وفقدوا حتما الكثير من‬
‫‪12‬‬
‫صفات البشر المحترمين‪ ،‬ولكن من يهتم …؟ فألمر ال يدور عن احترام هنا‪،‬‬
‫بل أنني كنت في كثير من الحاالت أتطلع بعمق إلى وجوه المضطلعين‬
‫بعمليات الضرب والتعذيب وحفالت الشتائم واإلهانات‪ ،‬ترى هل كنا نسير‬
‫وإياهم في شوارع هذه المدينة‪ ،‬هل يضمنا جميعا ً هذا الوطن الحبيب ‪..‬؟ أم‬
‫ترى ويا للفزع ربما قد دخلنا مطاعم ومقاهي مشتركة‪ .‬األمر بحاجة حقا ً إلى‬
‫علماء في الهندسة الوراثية‪.‬‬

‫وإن شئت أن تطلق العنان ألفكارك وتتذكر روايات ومسرحيات وأفالم‬


‫سينمائية‪ ،‬عن بشر تتقمصهم إلى حد غريب وخيالي‪ ،‬شخصيات وأخالقيات‬
‫حيوانات كاسرة‪ ،‬ذئاب‪ ،‬كالب متوحشة‪ ،‬أو جرذان كبيرة الحجم مميتة في‬
‫القرض‪ ،‬وتصيب من تقرضه بعدوى حيوانية … ولطالما تذكرت مسرحية‬
‫"الرجل الذي تحول إلى كلب" وهي باختصار شديد‪ ،‬تراجيديا إنسان عاطل‬
‫عن العمل تضطره الفاقة إلى العمل ككلب حراسه بدل الكلب الذي نفق في‬
‫مخزن يملكه صناعي بورجوازي‪ ،‬ويدفع له ما كان يكلف الكلب من نفقات‪،‬‬
‫وأندمج الرجل بدور الكلب فصار ينبح بمناسبة وبدون مناسبة‪ ،‬ويستخدم‬
‫أطرافه ‪ ،‬وتفاصيل هي مؤلمة أكثر مما هي ممتعة‪ ،‬كنت أتذكر أشعار جميلة‬
‫وموسيقى وأعمال فنية تحلق بنا بعيدا ً عن الواقع السخيف ولنهرب من‬
‫الصورة البشعة‪ ،‬ولكن سرعان ما نستيقظ على وقع ضربة أو صراخ تعذيب‬
‫وشتائم‪ ،‬وإياك أن تضحك أو تبدو عليك مالمح السخرية‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وموقف مديرية االستخبارات العسكرية(السياسي) والذي يطلق عليه الشعبة‬
‫الخامسة‪ ،‬هو أسوأ موقف شاهدته في حياتي‪ ،‬وأنا أمتلك تجربة طويلة‬
‫بالمواقف والمعتقالت‪ ،‬فهو أسوؤها لجهة المكان واإلدارة وتضيف الصرامة‬
‫العسكرية مزيدا ً من الظالل القاتمة حتى ليغدو حالكا ً وقاسياً‪ .‬فالزنزانات‬
‫الصغيرة التي ال تتسع منطقيا ً (وأي منطق!)‪ ،‬إال لثالثة أشخاص‪ ،‬كانت تضم‬
‫ما ال يقل عن ‪12‬شخصاً‪ .‬وال يمكننا الحديث عن الراحة أو نظافة طعام‬
‫مشبع‪ ،‬فتلك مصطلحات على المرء أن ينساها نهائياً‪.‬‬

‫ابتدأ التحقيق بعد يوم أو يومين‪ ،‬واستغرق وقتا ً طويالً معي بالذات‪ ،‬لسبع‬
‫مرات وعلى يد ثالثة محققين‪ .‬وقد ابتدأ المحقق في مستهل الجلسة األولى‬
‫قائالً‪ ،‬بأنه يعرفني بصورة جيدة جيدا ويمتلك كافة المعلومات عن تاريخي‬
‫السياسي … وأضاف بأنه متأكد بأنني أمين سر القيادة القطرية للحزب …‬
‫حزب البعث العربي االشتراكي (الجناح اليساري للحزب ومقر قيادته في‬
‫دمشق) ‪ ،‬وهم يطلقون على هذا التنظيم (المنشقين) فيما نطلق نحن عليهم‬
‫…اليمين‪.‬‬

‫ومن هنا فقد تأكد لي بأنهم سيواصلون اإللحاح على هذه النقطة بالذات‪ ،‬فتلك‬
‫تهمة خطيرة‪ ،‬وليس المهم مآل هذه التهمة بقدر ما هو الضغط البدني‬
‫والنفسي الذي سوف يسلط علي‪ ،‬كما سوف يطلب مني اإلجابة على أسئلة ال‬
‫أعرف أجوبتها‪ ،‬ألنني كنت قد قطعت الصلة التنظيمية مع الحزب منذ عام‬
‫‪ 1974‬بل وإني منذ عام‪ 1970‬كنت أمارس واجبات حزبية ال عالقة لها‬
‫‪14‬‬
‫بتنظيمات الحزب في العراق‪ ،‬وتنحصر مهماتي الحزبية‪ ،‬على متابعة‬
‫العراقيين القادمين والمقيمين في سوريا‪ ،‬إضافة إلى واجبات قومية‪ .‬ولكن من‬
‫البديهي أن يبقى والء المرء وإخالصه لحزب تفانى في خدمته‪ ،‬وهو حي في‬
‫قلب وعقل اإلنسان‪ .‬وقد يختلف المرء مع أفراد وليس مع أهداف وشعارات‬
‫األمة‪.‬‬

‫فقلت للمحقق بكل برود‪ ،‬إن تصوره غير صحيح‪ ،‬وإني منصرف بصفة تامة‬
‫للبحث العلمي والكتابة والترجمة‪ ،‬وإن مؤلفاتي وأعمالي تشير بوضوح كاف‬
‫لهذه الفعاليات‪ ،‬وإن قدرة اإلنسان ووقته ال يسمح له بأكثر من ذلك‪ .‬فحدث‬
‫انفراج بسيط عندما قال‪ ،‬نعم إنه ال يملك دليالً ماديا ً واضحا ً على ذلك‪ ،‬ولكنه‬
‫وبناء على األدلة الحسية (كانت هناك تقارير كثيرة قد كتبت ضدي في ألمانيا‬
‫وبغداد) فإنه سيظل على قناعته إلى أن بتوصل إلى إثباتها‪.‬‬

‫ثم أن التحقيق استغرق وقتا ً طويالً بسبب ضيق أفق أو سخافة المحققين‪،‬‬
‫فأكثر من مرة يشتد حنق المحقق فينتفض قائالً‪ :‬بأنه هو مثقف أيضا ً ولست‬
‫أنت فقط‪ .‬ولعل المحقق شعر بشيء من الهزل والسخرية في أقوالي‪ ،‬وأنا ال‬
‫أنكر أنني كنت أحاول أن أحافظ على الفارق في المستوى‪ :‬سياسياً‪ ،‬بين‬
‫مناضل ومحقق‪ ،‬أو بين دبلوماسي وأستاذ جامعي وكاتب ( كنت في ذلك‬
‫الوقت عضوا ً في اتحاد األدباء والكتاب‪ ،‬وقد نشر لي حتى ذلك الوقت خمسة‬
‫كتب وثالثة تحت الطبع‪ ،‬وعضوا ً في الجمعية العراقية للعلوم السياسية)‪،‬‬
‫وبين ضابط غاوي ثقافة مهنته الرئيسية الحرب والضرب ولكن ضرب‬
‫‪15‬‬
‫أعداء البالد‪ ،‬وليس إخضاع الناس إلى تحقيقات سياسية مهينة‪ ،‬نعم كان‬
‫يحاول إهانتي ولكنه لم يبلغ ذلك قط‪ ،‬وكنت أبين له أنه أقل من يقدر على‬
‫ذلك …أقل بكثير… فأنا ممتلئ كبرياء واعتزاز بنفسي وبما فعلت‪ ،‬وهذه‬
‫ليست سوى خربشات على جدار عال‪ ،‬وأنا حريص على إبقائه عالياً‪.‬‬

‫وعندما حاول أن يجرحني بشتم التنظيم الذي انتميت إليه وسب أبرز‬
‫شخصياته‪ :‬األمين العام للحزب‪ ،‬أو الرفيق أحمد العزاوي والرفيق باقر‬
‫ياسين‪ ،‬كنت أتعمد تحويل الموضوع وأجيب على أسئلة كان قد طرحها علي‪،‬‬
‫فقد سألني عندما وجد بين أوراقي مخطوطة لعمل مسرحي بعنوان (الناس‬
‫واألمل والمستقبل) وجوهر أحداث والعقدة الدرامية للعمل كانت تدور في‬
‫مرحلة حرب حزيران ‪ ، 1967/‬وإن كانت تنطوي على رموز كثيرة‪ .‬وبدا‬
‫أن المحقق بالغ العصبية والضيق‪ ،‬ولم أكن أفهم معنى ذلك‪ .‬فهو يسأل مثالً‬
‫بجدية تامة‪ :‬لماذا أكتب مسرحيات‪ ،‬وكانت أي إجابة يمكن أن تؤدي إلى‬
‫أسئلة أخرى‪ ،‬فأجيبه مثالً‪ :‬قتالً للضجر والملل‪ .‬ولكن األمر لم يكن لينتهي‬
‫بهذا الجواب‪ ،‬فيسأل مجددا ً ‪ :‬هل تعتقد أنك كاتب مسرحيات جيد ‪..‬؟ فأقول‬
‫له‪ ،‬ال أعلم فذلك أمر يقرره القراء والمشاهدون‪ .‬فينتفض قائالً ‪ :‬وهل كنت‬
‫تنوي نشرها أو عرضها على خشبه المسرح ‪..‬؟ فأجيبه بكل برود ‪ :‬ال أعلم‪،‬‬
‫فاألمر سيتعلق أوالً وأخيرا ً بنشر العمل وتسويقه تجارياً‪.‬‬

‫كما أنهم عثروا بين أوراقي على مشاريع أعمال ذات طابع استراتيجي مثل‪:‬‬
‫أخطاء استراتيجية فادحة‪ ،‬والبحث يدور عن أخطاء القيادات المتصارعة‬
‫‪16‬‬
‫خالل الحرب العالمية الثانية‪ .‬ولم يكن يسرهم وجود مثل هذه األعمال‪،‬‬
‫ولكني كنت أواصل اللعب معهم‪ ،‬معصوب العينين‪.‬‬

‫ذات ليلة طلبني المحقق‪ ،‬وكانوا يفعلون ذلك بطريقة مهينة(لمن يشعر‬
‫باإلهانة) بتوثيق األيادي إلى الخلف وتعصيت العيون والسير حافيا ً مرتديا ً‬
‫دشداشة آية في القذارة‪ .‬وفور وقوفي أمامه‪ ،‬سألني بلهجة جادة تماما ً ‪ :‬من‬
‫يكون العقيد هشام ؟‪ .‬ولبرهة وجيزة جداً‪ ،‬أذهلني هذا السؤال‪ ،‬ولكن أذني‬
‫التقطت صوت تقليب أوراق‪ ،‬فأدركت على الفور أنهم يعبثون بمحتويات‬
‫حقيبة األوراق التي كانت معي‪ .‬وأن هناك ظرفا ً كبيرا ً كتب عليه العنوان‬
‫باللغة اإلنكليزية هكذا ‪ ، Col. Hesham :‬وهكذا فأن السيد المحقق أعتقد‬
‫(خطأ ً بالطبع) أن ‪ .Coll‬هي مختصر كلمة عقيد‪ ،‬ولم يكن يعلم …‪ ..‬وما‬
‫أكثر األشياء التي ال يعلمها‪ ،‬أن مختصر كلمة العقيد هو ‪ . .Col‬ووجدتها‬
‫فرصتي للعب بأعصابه‪ .‬فقلت له متسائالً ‪ :‬عقيد ؟‪ .‬قال نعم عقيد‪ .‬فقلت بعد‬
‫برهة تفكير ‪ ،‬كان فيها محققي يحرق فيها أعصابه‪ ،‬فقد اعتقد أنه وضع يده‬
‫على سر خطير‪ ،‬قد يقوده إلى تنظيم عسكري ‪ .‬فقال بنفاد صبر‪ :‬عقيد أو غير‬
‫عقيد‪ ،‬من هو‪ ،‬اعترف حاالً ‪.‬فقلت له هناك مقدم اسمه هشام‪ .‬فطار شوقا ً‬
‫وقال ‪ :‬ومن يكون‪ .‬قلت له شقيقي هشام وهو مقدم في الجيش‪ .‬فأصيب بخيبة‬
‫أمل شديدة‪ ،‬ولكنه مع ذلك أعاد الكرة بغباء‪ :‬ال‪ ،‬أنه عقيد فمن هو ؟ ‪.‬‬
‫فأدركت أن البد من وضع نهاية لهذه المهزلة‪ ،‬و إال فإن إثارة أعصاب‬
‫المحققين بشدة‪ ،‬عملية غير محمودة العواقب‪ ،‬فقلت له بصوت تعمدت أن‬
‫‪17‬‬
‫يكون هادئا ً جدا ً ‪… :‬أنت تقلب أوراق حقيبتي أليس كذلك ؟ وهناك ظرف‬
‫كبير الحجم باللغة اإلنكليزية ؟ فقال بضيق نفس‪ ،‬نعم‪ ،‬وهل تتصور إننا‬
‫نجهل اإلنكليزية ؟ ‪ .‬فقلت له ‪ :‬بالتأكيد ال‪ ،‬ولكن مختصر عقيد هو ‪ .col‬وما‬
‫مكتوب على الظرف هو ‪ .Coll‬وهو مختصر كلمة زميل وهشام هو أستاذ‬
‫في كلية التربية البدنية‪ ،‬والرسالة هي لي تتضمن الموسم القادم للدراسات‬
‫العليا في جامعة بيتسبيرج في الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬وفرصة المشاركة‬
‫في كورسات الدراسات العليا‪.‬‬

‫ومن أهم ما عثروا عليه بين أوراقي‪ ،‬مشروع مقال بعنوان " النداء األخير‬
‫قبل غرق السفينة"وهو لما يكتمل بعد‪ ،‬أشير فيه إلى أزمة النظام العربي‬
‫بصفة عامة والمشكالت التي تواجهها‪ ،‬وضرورة إتاحة سقف أعلى للحريات‬
‫الفردية والثقافية‪ .‬ورغم رصانة المقال وعدم تحديده لجهة معينة أو نظام‬
‫معين‪ ،‬إال أن المحقق(وفيما بعد الحاكم) اعتبر أن المقال يقصد القيادة في‬
‫العراق‪ ،‬وعلى هذا األساس بنى قناعاته الالحقة وبموجبها أحلت وفق المادة‬
‫‪ 208‬المتعلقة بالمطبوعات أو الكتابات إلى محكمة الثورة وحكم علي‬
‫بموجبها‪.‬‬

‫مناقشات طويلة ومجادالت‪ ،‬ربما لم يكن لبعضها عالقة بالتحقيق‪ ،‬فقد كنت‬
‫أشعر وكأنني حيوان جميل‪ ،‬نادر أو ثمين بين أيديهم‪ .‬لسبع جلسات طويلة‬
‫أشترك فيها عدد من المحققين‪ ،‬بينهم ضباط كبار من االستخبارات‬
‫العسكرية‪ ،‬وكان الحديث فيها يدور عن أشياء سخيفة أحياناً‪ ،‬أو في محاوالت‬
‫‪18‬‬
‫بائسة الستعراض (ثقافتهم) ‪ .‬أما أنا‪ ،‬فقد كنت أدرك بأن نهاية مهزلة التحقيق‬
‫هذه ليست هنا‪ ،‬على األقل بالنسبة لي‪ ،‬وأن مصيري سوف يحسم في مكان‬
‫آخر‪ ،‬وال قيمة البتة ألراء هؤالء المحققين‪ ،‬وعلى األرجح فإن مصيري‬
‫سوف سيكون اإلعدام‪ ،‬إذ هي فرصة للتخلص مني‪ ،‬وإن كانت األسباب‬
‫الداعية لذلك ال تستحق ذلك‪ ،‬بل بناء على فواتير قديمة بعضها يعود إلى‬
‫مرحلة ‪ 1964‬وما بعد‪ ،‬ثم مرحلة السبعينات في سورية‪ ،‬وأخيرا ً مرحلة‬
‫‪ 1974‬إذن المستحقات قديمة وجديدة‪ ،‬وال عالقة لها (تقريباً) بموضوع‬
‫مغادرة البالد وما يدور من تحقيق أو ما سيسفر عنه من نتائج‪.‬‬

‫وفي ختام جوالت التحقيق السبعة‪ ،‬أرغمني المحقق على توقيع إفادة كنت‬
‫معصوب العينين خاللها بما ال يسمح لي باالطالع على مضمونها وما يمكن‬
‫أن يكون مدون فيها‪ ،‬وكانت هذه آية في العدالة واألصول القانونية ! وال‬
‫أستطيع أن أفهم إلى اآلن‪ ،‬لماذا كانت هذه األساليب معقدة وسخيفة إلى هذا‬
‫القدر ؟ على كل حال وقعت تحت التهديد‪ ،‬إال إني قلت له‪ ،‬إنني أعلم أن هذا‬
‫التوقيع يعني اإلعدام وهو ما ال يهمني مطلقاً‪ .‬فاعتقد المحقق إنني أبالغ في‬
‫قولي مبالغة ال داعي لها ‪ ،‬فسخر من كالمي‪ .‬فقلت له ‪ :‬إن هذا ليس مهماً‪،‬‬
‫المقابر مليئة بقبور البشر‪ ،‬ومن المؤكد أن اإلنسان يموت ألسباب مختلفة‬
‫معظمها ال دخل لكم بها‪.‬‬

‫كان موقف الشعبة الخامسة في مديرية االستخبارات العسكرية محطة‪ ،‬تسفر‬


‫الموقوفين بعد انتهاء التحقيق معهم إلى جهة أخرى‪ .‬وعلى هذا األساس فقد‬
‫‪19‬‬
‫كانت الزنزانات تشهد تبدالً سريعا ً في الوجوه‪ ،‬ولكن هناك وجوه لن تنسى‪،‬‬
‫منها الشاب مصدق الذي كان مثاالً للنبل واألخالق ومع األسف فقد حكم على‬
‫هذا الشاب الطيب باإلعدام ‪.‬‬

‫كانت ليلة ‪ ،2 – 2 – 1987‬وبعد انقضاء التحقيق بيوم واحد‪ ،‬جرت فيه‬


‫عملية نقلنا‪ .‬وعملية التسفير كانت زاخرة بالشتائم والضرب العشوائي الذي‬
‫ال معنى له‪ ،‬وكانت التسفيرات تعني أيضا ً سرقة واضحة لما يمكن أن يكون‬
‫في جيوب أو متاع الموقوف‪ ،‬فقد تم بهذا المعنى سرقتنا حتى من أبسط‬
‫حاجاتنا … وكم هذه األشياء مخجلة قبل أن تكون محزنة‪.‬‬

‫عندما وصلنا إلى بوابة السجن العسكري رقم واحد‪ ،‬ورغم أن عيوننا كانت‬
‫معصوبة‪ ،‬وأيدينا مقيدة إلى الخلف‪ ،‬كان نسيم الليل البارد منعش ويتسلل إلى‬
‫أعماق القلب‪ ،‬ولكن ما كان بانتظارنا‬

‫أمام بوابة السجن كان شيئا ً فضيعاً‪ ،‬فقد وضعونا وسط دائرة تحلق الجنود‬
‫حولنا وانهالوا علينا بالضرب بكل ما في أيديهم ‪ :‬عصي‪ ،‬أعمدة خيام‪،‬‬
‫توصيالت كهربائية(كيبالت) ‪ ،‬أنابيب مطاطية(صوندات)‪ ،‬بل كان الحماس‬
‫الوحشي ومتعة التعذيب قد أوصل بعضهم إلى خلع النطاق العسكري‬
‫واستخدامه في الضرب‪ .‬واآلن وبعد انقضاء كل ذلك‪ ،‬أليس في هذا مدعاة‬
‫للخجل … ترى أال يخجل اليوم الذين قاموا بهذه األعمال ؟ … لست مبالغا ً‬
‫على اإلطالق فيما أذكر من حقائق‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬فإنني أتجاهل الكثير من‬
‫التفنن في اإلهانة والسرقات … ترى هل يصعب علينا إلى هذه الدرجة أن‬
‫‪20‬‬
‫نخلق مؤسسات محترمة يقوم عليها رجال محترمون ؟ ال يأخذون األمر على‬
‫أنه أمر شخصي وعداوة بين المواطن والدولة ؟ وإذا كان هناك رجال غير‬
‫محترمين أو مجرمين‪ ،‬فلتكن الدولة ومؤسساتها محترمة‪ ،‬ال يلجؤون إلى‬
‫الشتائم واستخدام األطراف العليا والسفلي‪ .‬إنني أسجل هذه هنا للعبرة فقط‬
‫… ترى هل نستفيد ؟‬

‫كنت أعرف هذا السجن بدقة‪ ،‬فقد سبق وأن كنت هنا نزيالً عام ‪ ،1962‬أي‬
‫قبل خمسة وعشرين عاما ً بالضبط‪ .‬لذلك كنا نسير معصوبي العيون‪ ،‬إال أنني‬
‫كنت أعرف ممرات السجن وطرقه الداخلية‪ .‬وهكذا يعيد الزمن نفسه‪ ،‬فقد‬
‫أودعونا بالضبط في ذات القاطع الذي كنت فيه عام ‪ 1962‬ولكن في‬
‫الزنزانة المقابلة تماماً‪ .‬ورغم فضاضة الحالة‪ ،‬إال إنني كنت في يقظة ذهنية‬
‫تسمح لي تذكر تلك األيام والرفاق الذين قاسمونا تلك الزنزانات التي كنا فيها‬
‫بكل روح نضالية‪ ،‬رفاقية وأخوية صادقة‪ ،‬فتذكرت فؤاد عبد هللا عزيز‬
‫ورياض محمد يحي‪ ،‬وخضير عباس وعدنان الجبوري‪ ،‬وصباح عبد الغني‬
‫عرب‪ ،‬وطالب حمودي‪ ،‬وابراهيم سلمان القيسي وكثيرين غيرهم من الرفاق‬
‫‪.‬‬

‫وفي اليوم التالي تكررت مهزلة تعصيب العيون وشد الوثاق‪ ،‬لنقلنا إلى مكان‬
‫آخر تبين فيما بعد أنه معتقل خصص لالستخبارات العسكرية‪ ،‬وهو تابع‬
‫أصالً لقسم األحكام القصيرة في سجن أبو غريب العام‪ .‬وهو عبارة عن‬
‫قاعتين تضم كل منها عشرين زنزانة كل واحدة منها بحجم ‪ 5 × 4,5‬متر‪،‬‬
‫‪21‬‬
‫وهذا المعتقل كان مخصصا ً لمن انتهي التحقيق معه‪ ،‬وهو بانتظار المحاكمة‪،‬‬
‫فهو إذن محطة نهائية وبوابة إلى محكمة الثورة(السيئة الصيت) ومنها يتفرع‬
‫الموقوفون إلى ثالثة ترع‪ ،‬أو جداول ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬وهو األكبر‪ ،‬حيث كان يحكم بنسبة تتراوح بين ‪ % 70-80‬من‬
‫الموقوفين بالسجن ‪ ،‬وعلى األغلب بالحبس المؤبد(‪ 20‬سنه)‪ ،‬أو باإلعدام‬
‫وهو بنسبة‪% 10‬من الموقوفين‪ ،‬وأخيرا ً يذهب نسبة ‪ % 5 – 10‬إلى‬
‫السجون الجنائية ألن قضاياه ال تمت إلى السياسة بصلة ولكنها كانت تعرض‬
‫أمام محكمة الثورة مثل السرقات الليلية‪ ،‬التزوير‪ ،‬انتحال الصفة‪ ،‬إيذاء‬
‫النفس‪ ،‬الرشوة والعموالت …الخ‪.‬‬

‫وتنطوي أنظمة هذا المعتقل على قسوة شديدة تهدف إلى إبقاء المعتقل في‬
‫خوف ورعب دائميين‪ ،‬وعندما يمثل أمام المحكمة‪ ،‬فهو يكون في حالة يرثى‬
‫لها من اإلرهاق النفسي والمعنوي بعد تعرض طويل(ال يقل عن أربعة‬
‫شهور) لإلهانة والضرب والضغوط من كافة األصناف‪ ،‬بحيث يكون وقع‬
‫اإلعدام ليس مؤلما ً بدرجة فضيعة كما هو متوقع( وإن كان الصمود‬
‫والصالبة قضية نسبية ومتفاوتة بين الصالبة التامة واالنهيار)‪ ،‬أما الحكم‬
‫بالسجن‪ ،‬حتى المؤبد‪ 20‬سنة‪ ،‬فيعتبر هدية تستحق القبالت والتهاني‪ .‬ومن‬
‫بين آالف القضايا التي تعرفت عليها‪ ،‬لم تكن هناك أحكام تقل عن المؤبد‪ ،‬إال‬
‫نادراً‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫الوضع الغذائي في هذا الموقف كان أفضل من موقف الشعبة الخامسة‪،‬‬
‫وكذلك شروط النظافة(إلى حد ما )ولكنه ما يزال بعيدا ً عن الحد األدنى‪.‬‬
‫وبالطبع فإن مواجهة الموقوفين لذويهم كانت مستحيلة‪ ،‬وليس باإلمكان معرفة‬
‫ما يدور خارج هذا الموقف‪ ،‬في انقطاع تام عن الحياة الخارجية‪ .‬واألخبار‬
‫كانت محصورة بالقادمين الجدد وهي تدور غالبا ً عن أمر واحد رئيسي ‪:‬‬
‫أخبار الحرب مع إيران‪ ،‬وكذلك المؤشرات‪ ،‬إلى صدور عفو‪ ،‬حيث كان هذا‬
‫الهاجس الدائم للموقوفين‪ ،‬وكذلك للسجناء فيما بعد‪.‬‬

‫وصرامة الموقف وتشدد الحراس‪ ،‬لم يكن يحول دون قيام عالقات إنسانية‬
‫ومن غير الممكن نسيان الشاب سامي‪ .‬كان شيوعيا ً من العاملين في الوسط‬
‫المسرحي‪ ،‬ألقي القبض عليه خالل عملية عسكرية في الشمال‪ ،‬لذلك كان‬
‫الحكم باإلعدام أمرا ً متوقعاً‪ ،‬ولكنه مع ذلك كان محبا ً للحياة‪ ،‬متمسكا ً بها حتى‬
‫آخر لحظة‪ .‬وفي ظهيرة يوم كان قد ابتدأ فيه القيظ في العراق‪ ،‬كان أخي‬
‫وسام في الزنزانة المقابلة لزنزانتي تماما ً رقم‪ ،))4‬يشير لي باالقتراب من‬
‫القضبان‪ ،‬تناهى إلى سمعي أغنية كنت أحب سماعها‪ ،‬وكانت تلك متعة تفوق‬
‫التصور في تلك الصحراء البادية‪ ،‬وتصورت أن أحدا ً من الحراس قد رفع‬
‫صوت المذياع دون قصد منه‪ ،‬على أية حال‪ ،‬كانت هذه هدية رائعة‪ ،‬وما‬
‫لبثت أن علمت أن هذا الصوت الجميل ما هو إال غناء سامي‪ ،‬الذي ما أن‬
‫انتهي من الغناء حتى كلمني من وراء القضبان دون أن يراني‪ ،‬لقد فعل ذلك‬
‫ألجلي‪ .‬أين أنت يا سامي لكي أحتضنك اليوم …‬
‫‪23‬‬
‫سامي أعدم مع رفيقه حسين نهاية عام ‪ 1987‬فآه ثم آه‪.‬‬

‫وباستثناء يوم الجمعة‪ ،‬كان الموقف يشهد معظم أيام األسبوع احتفالية مؤلمة‪،‬‬
‫يأتي الحراس وبأيديهم القيود الحديدية‪ ،‬ثم يبدؤون بمناداة األسماء‪ ،‬أسماء من‬
‫جاء دوره للمحاكمة‪ ،‬وهنا فاالحتمال قائم بل مرجح‪ ،‬أن تنتهي المحاكمة في‬
‫جلسة واحدة‪ ،‬في محكمة الثورة‪ ،‬والذاهبون يودعون ما أمكنهم ذلك األصدقاء‬
‫والزمالء من الذين تعرفوا عليهم هنا غالبا ً في الموقف … والباقون‬
‫ينتظرون إلى ما بعد الظهر حوالي الساعة الرابعة عودة المأمورين من‬
‫الحراس ليستعلموا منهم مصير زمالئهم‪ .‬لقد كانت مذبحة عواطف رهيبة …‬

‫كان يوم ‪ 1987-4-6‬االثنين‪ ،‬وهو من أيام النحس‪ ،‬كذلك يوم الخميس ألنها‬
‫أيام القضايا الصعبة‪ ،‬والتي يحكم فيها (غالبا)ً باإلعدام‪ ،‬نودي علينا وكنا‬
‫أربعة‪ ،‬أنا وأخي وسام وصديقي بيروت الطالباني‪ ،‬وصديقنا سالم مدلول‪.‬‬
‫وفي محاكمة لم تستغرق ربما أكثر من ‪ 20‬دقيقة أمام محكمة الثورة‬
‫ورئيسها عواد البندر‪ ،‬عبارة عن إهانة للعدل والقانون وألي نظام سياسي‬
‫يقيم مثل هذه المحكمة المهزلة … وإنه ألمر غير مفهوم مطلقاً‪ ،‬لماذا يلجأ‬
‫أي نظام مهما كانت شعاراته‪ ،‬طبقية كانت أو دينية أو قومية إلى تصفية‬
‫(خصومه) ‪ ،‬وأضع كلمة خصومة بين قوسين‪ ،‬ألنها مسألة نسبية للغاية‪ ،‬وال‬
‫أستطيع أن أفهم لماذا يتحايل المحقق وحاكم التحقيق والحاكم على أحكام‬
‫قانون وضعته الدولة بنفسها‪ ،‬وتتجاهل المبادئ األولى للعدل والحق‪ ،‬وإن أي‬
‫محاولة للتذكير بالعدالة والحق والقانون سيكون بمثابة نكتة سخيفة‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫ال يمكن بلوغ الخير بوسائل الشر ‪ :‬هذه قاعدة ذهبية في السياسة والحياة‪.‬‬

‫لكن التطرف يدفع إلى التبرير ويستخدم مصطلحات براقة ‪ :‬محاربة الفساد ـ‬
‫أعداء الثورة ـ إقامة الحد ـ (في هذه علقها على شماعة الشريعة ) وبذلك فأنه‬
‫يطلق العنان لمنجله‪ ،‬مع االعتذار الشديد لهذه اآللة المقدسة التي تأكل العرق‬
‫وتطعم الخبز …! (أعتذر واألمثال تضرب وال تقاس)‪ ،‬لحصد رؤوس الناس‬
‫وإذا أهتاج لنظر الدماء وأعتاد عليها‪ ،‬يتحول األمر كله إلى مأساة‪ ،‬و(الثورة)‬
‫أي ثورة‪ ،‬إلى حفلة مجازر‪.‬‬

‫كانت محاكمة قصيرة كما أسلفنا‪ ،‬محاكمة فريدة من نوعها المتهم فيها مدان‬
‫قبل بدء المحكمة‪ .‬وأول حديث للحاكم مع المتهم بعد سماعه ألقوال المدعي‬
‫العام‪ ،‬التي هي في معظم األحوال افتراضات وخرافات وتخيالت‪ ،‬يطرح‬
‫الحاكم سؤاالً ‪ :‬هل أنت متهم أم بريء‪ .‬وإذا أجاب المتهم بأنه بريء‪ ،‬يرد‬
‫الحاكم عليه ‪ :‬أثبت لنا براءتك …؟ وهذا يتجاهل بصورة غريبة قاعدة‬
‫قانونية رئيسية ومتفق عليها في فقه القانون تنص ‪ :‬المتهم بريء حتى تثبت‬
‫إدانته‪ ,‬ولكن في محكمة عواد البندر كان األمر معكوساً…! وكانت محاكمتنا‬
‫تتم بدون شاهد …! محاكمة بدون شاهد ‪ ،‬أعدم في نهايتها أربعة رجال !!‬
‫ترى هل يمكن مسح هذه من الذاكرة والتاريخ ‪..‬؟‬

‫توصل الحاكم عواد البندر والمدعي العام إلى تفصيل مدهش لنظرية الشروع‬
‫البائسة‪ ،‬وقد فندت‪ ،‬ويستطيع غيري أن يفعل ذلك أيضا ً إذا كان على إطالع‬
‫على القانون بسهولة ويسر‪ ،‬ولم يكن باإلمكان مطلقا ً تطبيق نظرية الشروع ‪،‬‬
‫‪25‬‬
‫والمدخل العام لتفسيرها هو التعريف التالي ‪ :‬فعل خاب أثره بسبب خارج‬
‫عن إرادة الفاعل‪ .‬وهو وإن تحقق فيعاقب بالحبس لمدة ال تزيد على الخمسة‬
‫سنوات‪ ،‬هذا إذا كان شروعا ً بالقتل !! أما نحن فقد ألقي القبض علينا فجرا ً في‬
‫بيت أستاذ جامعي‪ ،‬فحكم علينا وفق المادة ‪ 157– 175‬ومادة إضافية‬
‫بالنسبة لي هي ‪ 208‬والمادة الرئيسية التي حكمنا بموجبها ‪ 157‬تنص " كل‬
‫من قاتل قوات الجمهورية العراقية مع قوات أجنبية خارج العراق” ‪ ،‬لن‬
‫أزيد‪ ،‬فالزيادة كالنقصان …!‬

‫بدا لي أن األحكام كانت جاهزة وليس لرئيس المحكمة( إن صح تسميتها‬


‫بذلك) إال شرف تالوتها !‪ ،‬وهذه الفكرة كانت شائعة بين المتهمين‪ ،‬تعززها‬
‫سرعة المحاكمة‪ ،‬وخفة يد الحاكم واتخاذ القرارات‪ ،‬فقد حكم علينا نحن‬
‫األربعة باإلعدام شنقا ً وعندما غادرنا قاعة (المحكمة)‪ ،‬كان هناك عدد من‬
‫الذين حكموا باإلعدام قبلنا‪ ،‬منهم على ما أذكر فائز‪ ،‬وهو رئيس عرفاء في‬
‫شرطة البصرة‪ ،‬والسيد فرج من القرنة‪ ،‬وشباب آخرين‪ ،‬فبلغ عددنا في ذلك‬
‫اليوم تسعة‪.‬‬

‫ومن المدهش أن الحراس والمأمورين يصابون برعب وهلع يعادل أو يفوق‬


‫ربما في بعض األحيان المحكومين أنفسهم‪ ،‬وكانت عملية تكبيل األيادي إلى‬
‫الخلف تتم في ظروف يعلو فيها الصراخ‪ ،‬والعصبية البالغة من الحراس‪،‬‬
‫ويدهشهم كثيرا ً من يخرج من قاعة (المحكمة)وقد حكم عليه باإلعدام وهو‬
‫هادئ األعصاب متزن الخطوات‪ .‬أما أنا‪ ،‬فقد كنت مستعدا ً أتم االستعداد لمثل‬
‫‪26‬‬
‫هذا اليوم الذي طالما تخيلته‪ ،‬وقد رضيت به دوماً‪ ،‬فأنت عندما تريد التغيير‪،‬‬
‫البد أن تضع في حسابك رد فعل اآلخرين ‪.‬‬

‫***‬

‫وصلنا إلى قسم األحكام الطويلة(أو ما يطلق عليه الثقيلة) في سجن أبو‬
‫غريب‪ ،‬حيث يكون قسم اإلعدام ( ويسمى أحيانا ً المغلق)‪ ،‬كما هناك دائرة‬
‫خاصة بالمحكومين باإلعدام يطلق عليها ( القلم السري ) تتولى استالم‬
‫المحكوم عليه باإلعدام‪ ،‬وتعد أضابير خاصة بهم حمراء اللون‪ ،‬وهناك‬
‫استمارات تمأل تضم تفاصيل عن هوية األفراد‪ ،‬تفاصيل غير عادية‪،‬‬
‫العالمات الفارقة‪ ،‬منعا ً ألي التباس متعمد أو عفوي‪ .‬وبعدها يتم استالم كل‬
‫شيء من المحكوم عليهم‪ ،‬وكل شيء يشمل أي شيء عدا منشفة صغيرة‪،‬‬
‫ودشداشة أو بيجامه‪ ،‬وبطانية واحدة‪ ،‬ومصحف ومسبحة‪.‬‬
‫وهناك ثالثة أقسام للمحكومين باإلعدام يكون إشغالها حسب االكتضاض‪،‬‬
‫والمحكومون باإلعدام في القضايا الجنائية ينتظرون زمنا ً أطول من‬
‫السياسيين بسبب إمكانية تميز األحكام‪ ،‬أما القضايا السياسية وأحكام محكمة‬
‫الثورة فقد كانت غير خاضعة للتميز‪ .‬وكل قسم هو عبارة عن قاعة واسعة‬
‫مؤلفة من طابقين يحتوي كل طابق على حوالي ‪ 15‬زنزانة في صفين‬
‫‪27‬‬
‫متقابلين يفصل بينهما ممر بعرض ‪ 10‬متر تقريبا ً والطابق األعلى يطل على‬
‫الطابق األسفل‪ ،‬وهناك ممر ضيق ربما بمتر واحد في الطابق العلوي أمام‬
‫زنزانات الطابق العلوي‪ ،‬أما المدخل إلى القسم فهو في وسط القسم تماما ً‬
‫بحيث يفصل صف الغرف إلى شطرين ليشكل مدخالً إلى القسم بعرض‬
‫وطول زنزانة له بوابتان‪ .‬لفتحهما وغلقهما وقع عجيب يصعب وصفه‪.‬‬
‫أما الزنزانات‪ ،‬فهي صغيرة جدا ً ‪x2,5 2‬متر مخصصة لفرد واحد‪ ،‬أو‬
‫اثنين‪ ،‬ولكنها كانت تزدحم بما ال يقل عن ‪ 10‬أفراد في كل زنزانة‪ ،‬إضافة‬
‫إلى وجود مرافق صحية وحنفية ماء في ركن الزنزانة مكشوفة ال يسترها‬
‫ساتر‪ ،‬ألجل المراقبة‪ ،‬ولكن النزالء كانوا يقيمون ساترا ً من البطانيات في‬
‫أوقات محددة من اليوم لقضاء الحاجة واالستحمام‪.‬‬
‫وزعنا على الغرف‪ ،‬وكنت في الزنزانة رقم ‪ ، 24‬وقصتي مع الرقم أربعة‪،‬‬
‫مفارقة عجيب‪ ،‬فجميع الغرف والزنزانات التي مكثت فيها كانت تحمل الرقم‬
‫أربعة أو أربعة عشر‪ ،‬وآخر زنزانة التي مكثت فيها سبعة سنوات متواصلة‬
‫خرجت بعدها للحرية‪ ،‬كانت تحمل رقم أربعة‪ ،‬ولكن بعد ‪ 16‬سنة‪.‬‬
‫أستقبلني األخوان في الزنزانة أفضل استقبال وكانوا ‪ :‬كريم ‪ /‬جندي في‬
‫القاعدة البحرية في أم قصر‪ ،‬وشقيق فائز الذي حكم عليه باإلعدام معي بنفس‬
‫اليوم‪ ،‬طراد نصر هللا ‪ /‬وهو من رفاقنا القدماء الرائعين من الناصرية‪،‬‬
‫والرفيق وداد ‪ /‬وهو من رفاقنا أيضا ً من سوق الشيوخ‪ ،‬كان لي بمثابة الولد‬
‫أو األخ الصغير‪ ،‬كريم ‪ /‬وهو من األخوان المسلمين‪ ،‬من أهالي الرمادي‪ ،‬أبو‬

‫‪28‬‬
‫مقداد‪/‬‬
‫معلم مدرسة‪ ،‬إنسان رائع األخالق والشهامة من أهالي المدينة قضاء القرنه‪-‬‬
‫بصره‪ ،‬ومعنا شاب كردي من أهالي السليمانية وأخوان آخرون‪ ،‬رحمهم هللا‬
‫جميعا ً‪.‬‬
‫لقد تعرضت مرات كثيرة جدا ً ألسئلة ملحة‪ ،‬عن أعداد وأوضاع المحكومين‬
‫باإلعدام‪ ،‬وها أنا أورد األرقام كما عايشتها بنفسي‪ ،‬لم تؤسس على أحكام‬
‫الهوى‪ ،‬بل هي مشاهدات ومعايشات شخصية‪ .‬فعندما دخلت قاطع‬
‫المحكومين باإلعدام في سجن أبو غريب يوم ‪( ،6 – 4 – 1987‬وأريد هنا‬
‫التأكيد‪ ،‬أنه كان المكان الوحيد الذي يتم فيه تنفيذ أحكام اإلعدام شنقا ً الصادرة‬
‫من المحاكم السياسية‪ ،‬محكمة الثورة ومحكمة األمن ومحكمة المخابرات و‬
‫األخيرة لم تكن تتعامل إال مع بعض القضايا وأغلب القضايا كانت تعرض‬
‫على محكمة األمن) كان الموقف فيه كما يلي‪ :‬ـ‬
‫كان تنفيذ أحكام اإلعدام متوقفا ً منذ ‪ 1– 10 – 1986‬ماعدا وجبات ثالث‬
‫صغيرة وواحدة كبيرة‪ ،‬وعدد المحكومين باإلعدام الذين ينتظرون التنفيذ‬
‫يناهز ال‪ 300‬وبدقة‪ ،‬حوالي ‪ 280‬شخص‪ .‬أما‬
‫الحاالت الثالثة الصغيرة‪ ،‬ثم الكبيرة‪ ،‬فهي كما يلي‪ :‬ـ‬
‫ـ تنفيذ اإلعدام بالفريق الركن عمر هزاع وولديه وثالثة آخرين بينهم امرأة‪،‬‬
‫بتهمه التهجم على رئيس الجمهورية‪.‬‬
‫ـ تنفيذ اإلعدام بالمهندس عبد الوهاب المفتي أمين العاصمة‬

‫‪29‬‬
‫ومجموعته(حوالي خمسة أفراد) بتهمة الفساد المالي( الرشوة واالختالس)‪.‬‬
‫ـ تنفيذ اإلعدام بشخص واحد من السماوة لمحاولته اغتيال محافظ السما وة‪.‬‬
‫ـ أما الحالة الكبيرة‪ ،‬فكانت كبيرة بكل المعاني‪ :‬ففي يوم ‪29 – 12 – 1986‬‬
‫نودي على مجموعة من شباب الكوفة‪ ،‬وكانوا قد شكلوا مجموعة سياسية ‪/‬‬
‫عسكرية لتنفيذ تفجيرات واغتياالت‪ ،‬وعند اقتيادهم إلى قاعة التنفيذ‪ ،‬وتوديع‬
‫زمالئهم‪ ،‬أخذ البعض يردد هتافات معادية ‪ ،‬قام المحكومون بترديدها من‬
‫بعدهم‪ ،‬وبعد أن اقتيد هؤالء الشباب‪ ،‬تصاعد الهتاف وفعاليات أخرى مثل سد‬
‫ثقوب أقفال الزنزانات بالصابون‪ ،‬وقذف الحراس ورجال األمن بقطع‬
‫الصابون ومسحوق الغسيل‪ ،‬وقذف بقايا الطعام والماء وما تيسر( وهو قليل‬
‫بالطبع)بأيدي النزالء على حراس السجن ورجال األمن‪ .‬ومع تصاعد حدة‬
‫الهتافات‪ ،‬لجأت السلطات إلى استخدام عناصر من قوات الطوارئ للتدخل‪،‬‬
‫كما حضرت لجنة من مديرية األمن العامة‪ ،‬وربما شخصيات حكومية أخرى‬
‫حاولوا تهدئة الموقف دون جدوى‪ .‬ثم تدخلت قوات الطوارئ فدخلت إلى‬
‫القسم وأطلقت النيران فقتلت حوالي ‪ 15‬فردا ً في زنزاناتهم‪ .‬ساد الهدوء على‬
‫أثرها‪ ،‬وتم تنظيف ممرات القسم‪ ،‬وابتدأ التحقيق مع كافة المحكومين فردا ً‬
‫فرداً‪ ،‬جرى بعدها تنفيذ اإلعدام بكل من يعتقد أنه ساهم في األحداث‪ ،‬السيما‬
‫اإلسالميين منهم وعناصر قليلة من كل تشكيلة‪ ،‬حتى بلغ عدد الذين نفذت‬
‫فيهم أحكام التنفيذ ‪ 156‬فرداً‪ ،‬وقد جرى تنفيذ اإلعدام بأعداد ال أعرفها من‬
‫السجناء االعتياديين(األحكام الجنائية) الذين سمعوا الهتافات في القسم‬

‫‪30‬‬
‫السياسي‪ ،‬وأراد بعضهم المشاركة‪ ،‬لذلك جرى تنفيذ اإلعدام بعدد منهم‪.‬‬
‫لم أكن موجودا ً في تلك الفترة في قسم اإلعدام‪ ،‬إال أن الرفيق الشهيد البطل‬
‫ثجيل عبد الحسين (أبو شاكر) والرفيق طراد نصر هللا والرفيق وداد‪،‬‬
‫حدثوني تفصيالً عن تلك األحداث بدقة تامة‪ ،‬وهنا البد أن أذكر بصفة خاصة‬
‫رفاقنا ومنهم الرفيق ريحان بلط (أبو لؤي) والرفاق خالد وسكران واآلخرين‬
‫كلهم كانوا قمة في الشجاعة والبطولة‪ ،‬بل أنهم كانوا يصافحون الموت بكل‬
‫رجولة ولم يفقد أي منهم اتزانه‪ ،‬وكانوا يتداولون األحداث بموضوعية …‬
‫أنني أقف تحية لهم ولذكراهم التي سوف لن تغيب عن البال … فلن أستطيع‬
‫أن أنسى لحظة دخولي إلى قسم اإلعدام‪ ،‬وكان البعض منهم يعرفني‪ ،‬فهب‬
‫هؤالء الرفاق األبطال الستقبالي‪ ،‬وكان الشهيد البطل وداد يأبى أن أقوم بأي‬
‫عمل فكان لي بمثابة الولد أو األخ الصغير والرفيق في ذلك المكان…‬
‫المجد والخلود لألبطال‪.‬‬
‫كان ورود المحكومين باإلعدام من محكمة الثورة مستمراً‪ ،‬وبمعدالت غير‬
‫بسيطة‪ 10 ،‬أفراد كمعدل أسبوعياً‪ ،‬وربما أقل من ذلك أو أكثر بقليل بحيث‬
‫يكون الموقف وفق المعطيات التالية‪:‬ـ‬
‫ـ كان تنفيذ حكم اإلعدام قد توقف ابتداء من ‪( 1 – 10 – 1986‬باستثناء‬
‫الحاالت التي ذكرناها) والقادمون الجدد المحكومين باإلعدام يشكلون تراكما ً‬
‫في األعداد‪.‬‬
‫ـ في الحاالت الثالث التي مر ذكرها نفذ اإلعدام بحوالي ‪ 11‬فردا ً‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ـ بعد التظاهرة التي حدثت بتاريخ ‪ 29 – 12 – 1986‬تم تنفيذ اإلعدام ب‬
‫‪ 156:‬فردا ً‪.‬‬
‫ـ عندما دخلت قاطع اإلعدام بتاريخ ‪ 6 – 4 – 1987‬كان الموجود يناهز‬
‫‪ 280‬فرد‪.‬‬
‫ـ عندما غادرت قسم اإلعدام بعد ثمانية وثالثين يوما ً بالتخفيض إلى السجن‬
‫المؤبد‪ ،‬كان الموجود الكلي هو ‪ 301‬فرداً‪ ،‬بما في ذلك نحن األربعة الذين‬
‫خفضنا إلى الحبس المؤبد‪.‬‬
‫ـ في شهر شباط ‪ 1988/‬تم تخفيض أحد األصدقاء من اإلعدام إلى المؤبد‪،‬‬
‫وهو شخص نزيه يعتمد على أقواله‪ ،‬أخبرني عن عمليات التنفيذ التي كانت‬
‫قد استؤنفت بتاريخ ‪ ، 2 – 6 – 1987‬شملت ربما ‪ 200 – 250‬فردا ً من‬
‫كافة االتجاهات السياسية أو ذات الطابع السياسي‪ ،‬فعلى سبيل المثال كان‬
‫معي في زنزانة اإلعدام مدير تربية إحدى المحافظات‪ ،‬بتهمة بيع أسئلة‬
‫االمتحانات وقبض رشوه‪ ،‬كما تم تنفيذ اإلعدام بالمرحوم العقيد الركن‬
‫المتقاعد رافع الحمامي‪ ،‬وقد عقدت أواصر صداقة بيني وبينه وكان إنسانا ً‬
‫رائعاً‪ ،‬حكم عليه بتهمة إقامة دعوة غداء في مطعم فاخر كلفت في حينها‬
‫‪ 500‬دينار ! وبعبارة أخرى فإن جناح المحكومين باإلعدام كان يضم كافة‬
‫القضايا التي تدخل ضمن باب األحكام الخاصة من قانون العقوبات العراقي‬
‫من المادة ‪ 156‬وحتى المادة ‪ ، 198‬كما كان يضم المحكومين باإلعدام وفق‬
‫مواد كثيرة المادة الشهيرة ‪ 225‬وهي مادة التهجم على رئيس الجمهورية‪،‬‬

‫‪32‬‬
‫وتصل عقوبتها القصوى إلى اإلعدام‪ ،‬وقد حكم فعالً على العديد من‬
‫المواطنين وفق هذه المادة وأشهر تلك الحاالت ‪ :‬الفريق الركن عمر هزاع‬
‫وولديه وكذلك اللواء الركن فالح أكرم فهمي وهو قائد عسكري ورياضي‬
‫المع‪ ،‬أعدم لألسف ومثله آخرون ألسباب تافهة ال تستحق اإلعدام مطلقاً‪،‬‬
‫ومنهم أيضا ً العميد عبد الرسول‪ ،‬وهو ضابط مهندس وهو صانع مدفع‬
‫الهاون العراقي الفائق الجودة‪ ،‬أعدم لسبب تافه‪ ،‬كلمة قيلت دون قصد‪.‬‬
‫وقد دققت كثيرا ً عن اتجاهات المحكومين باإلعدام‪ ،‬والحقيقة أنها كانت‬
‫موزعة على كافة الفئات السياسية و الدينية والعرقية من الشعب العراقي‬
‫دون تميز‪ .‬وكانت على األغلب كما يلي‪:‬ـ‬
‫‪35%‬أكراد من مختلف االتجاهات والقضايا‪.‬‬
‫‪35%‬حركات إسالمية وحسب التسلسل ( حزب الدعوة‪ ،‬وحزب العمل‪،‬‬
‫واألخوان المسلمون)‬
‫‪10%‬شيوعيون وبعث يساري‪.‬‬
‫‪10%‬تهجم‪ ،‬تجاوز حدود‪ ،‬قضايا متفرقه‪.‬‬
‫‪10%‬تجسس‪ ،‬فساد أداري‪ ،‬قبض عموالت‪.‬‬
‫أما لجهة توزيع األفراد حسب المستوى الدراسي‪ ،‬لم يكن هناك من حملة‬
‫الشهادات العليا‪ ،‬ولكن كان هناك أعداد من خريجي الكليات‪ ،‬ولكن بعدد‬
‫بسيط‪ ،‬بما في ذلك الضباط‪ ،‬والسواد األعظم من المحكومين كانوا من أفراد‬
‫الشعب البسطاء وباستثناء المنتمين إلى األحزاب السياسية المعروفة مثل‬

‫‪33‬‬
‫البعث اليساري والشيوعي‪ ،‬فإن المستوى الثقافي لألفراد كان بسيطاً‪ ،‬وأحيانا ً‬
‫بسيط جدا ً ولكن مقابل عاطفة دينية متأججة‪.‬‬
‫على أن موجود قاطع اإلعدام الذي كان في ذروته عام ‪ 1985‬بدأ يتراجع‬
‫تدريجيا ً ثم انخفض بشدة بعد نهاية الحرب العراقية اإليرانية‪ ،‬ولكنه ما لبث‬
‫أن بدأ يتصاعد مرة أخرى‪ ،‬مع أحداث الكويت ولكنه لم يصل قط إلى‬
‫معدالت الثمانينات‪ ،‬وقد علمت من مصادر موثوقة أن معدل اإلعدام كان‬
‫‪ 100‬فرد سنويا ً حتى‪ ،1995‬ربما تصاعد في ‪ 1997‬ولكنه انخفض مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وبقي كذلك طيلة التسعينات‪.‬‬
‫كانت مواجهة المحكوم عليهم باإلعدام من السياسيين مع ذويهم محظورة‬
‫تماما ً‪ ،‬وكميات الطعام التي كانت تقدم بائسة‪ ،‬بالطبع كانت زنزانات مقفلة‬
‫بصورة مستمرة وكانت حالقة الذقن غير ممكنة‪ ،‬بل أن أدوات الحالقة لم‬
‫تكن متوفرة وكذلك فرشاة ومعجون األسنان‪ ،‬وبداهة األقالم واألوراق‬
‫وأدوات الطعام‪ ،‬وحتى قالمة األظافر‪ .‬وفي الواقع فإن الزنزانات لم تحتو إال‬
‫على عدد معين من البطانيات‪ ،‬ولكل نزيل صحن وقدح من البالستك‪ ،‬ولكن‬
‫كمية وافرة من الصابون ومسحوق الغسيل الذي يوضع في كيس نايلون‪ ،‬كان‬
‫هذا هو كل شيء‪ ،‬الذي هو في الواقع ال شيء … ال شيء البتة قي انتظار‬
‫الموت‪.‬‬
‫كيف يأتي الموت …؟ كان تنفيذ أحكام اإلعدام للسياسيين يتم يومي األحد‬
‫واألربعاء‪ ،‬وكان النزالء يتحايلون لمعرفة فيما إذا كان هناك في ذلك اليوم‬

‫‪34‬‬
‫تنفيذ أو ال‪ ،‬بدفع مبالغ (ال أهمية للنقود إطالقا ً في زنزانات اإلعدام‪ ،‬وهي‬
‫مجرد ورق ال يمكن الحصول بها على أي شيء‪ ..‬ألنه ال يوجد أي شيء)‬
‫للعامل الذي كان يجلب الطعام ويوزعه على الزنزانات‪ ،‬وهو نزيل من قسم‬
‫األحكام الطويلة( األحكام الجنائية) الذي كان يقوم بتهيئة قاعة التنفيذ وهي‬
‫تشتمل على ثمانية زنزانات وستة مشانق يفصل بين كل واحد منها جدار من‬
‫السلك المشبك ‪ ، B R C‬ويتم تحضير القاعة والحبال منذ الصباح الباكر‪،‬‬
‫وفي حوالي الساعة الثانية ظهرا ً يحضر المأمورون وبأيديهم القيود الحديدية‪،‬‬
‫ويبدؤون بالمناداة على األسماء التي ورد التصديق على أحكامها الصادرة‬
‫من المحكمة‪.‬‬
‫يودع المغادرون زمالءهم وترتفع األصوات بالدعاء وكلمات الوداع‪ ،‬وتقيد‬
‫أياديهم ويغادرون القسم في موكب مؤلم‪ ،‬وإذا أقام المحكوم فترة طويلة هنا‪،‬‬
‫فإن المنظر قد يصبح مألوفا ً بعض الشيء‪ ،‬ويتناقل الناس أخبار رجال اقتيدوا‬
‫من هنا إلى الموت‪ ،‬وكانوا في صورة رائعة من البطولة‪ .‬فقد روى لي األخ‬
‫محمد الجبوري الذي أمضى خمس سنوات في قسم اإلعدام ثم خفض إلى‬
‫المؤبد‪ ،‬وكان قد شهد تنفيذ اإلعدام بحوالي ‪ 500‬فرد تقريبا ً‪ ،‬أي بمعدل ‪100‬‬
‫سنويا ً بين األعوام ‪ ، 1991 – 1995‬وكان األخ محمد قد تقاسم الزنزانة مع‬
‫الرفيق البطل الشهيد محمد عبد الطائي‪ ،‬إلى لحظة المناداة للتنفيذ‪ .‬وقال لي‬
‫أنه لم يشهد رباطة جأش وشجاعة واستخفاف بالموت وبعبارات بليغة‪ ،‬كنت‬
‫أطلب من األخ محمد الجبوري أن يعيدها لي مرارا ً وتكراراً‪ ،‬ربما لعشرات‬

‫‪35‬‬
‫المرات‪ ،‬وكم اشعر بالفخر واالعتزاز بهذا الرفيق واألخ والصديق‪ ،‬شعور‬
‫بالفخر يغطي على مشاعر الحزن العميق‪ ،‬وكان صديقا ً لي منذ ‪ 1960‬وقد‬
‫عملنا معا ً في منظمات حزبية مرات عديدة‪ ،‬وقد بعث لي الشهيد محمد‬
‫بتحياته من موقف المخابرات‪ ،‬الحاكمية) مع األخ عبد العزيز الكبيسي الذي‬
‫كان معه في زنزانة واحدة‪ ،‬وحكم عليه بالسجن لمدة ‪ 40‬سنة‪ .‬كما روى لي‬
‫أحد الضباط الذين حضروا تنفيذ اإلعدام بالمناضل علي عليان‪ ،‬بأنه كان قمة‬
‫من قمم البطولة والرجولة الفذة عندما واجه حبل المشنقة‪ ،‬رافضا ً تعصيب‬
‫عينيه‪ ،‬وقال مخاطبا ً الحاضرين من مكانه المرتفع(منصة اإلعدام)‪ ،‬بأنه غير‬
‫مكترث أبدا ً لما يحصل له‪ ،‬بل هو يأسف ألجلهم إذ ينفذون بوعي أو بال‬
‫وعي أحكاما ً بحق عراقيين مخلصين للوطن‪ ،‬وال بد من القول أيضا ً أن‬
‫البعض(قلة قليلة)كان يصاب بانهيار يتخذ أشكاالً مختلفة‪ ،‬فإما أن يفقد القدرة‬
‫على الكالم أو السير‪ .‬كما من المؤسف القول أني شاهدت ثالث أو أربع‬
‫حاالت من الجنون في زنزانات اإلعدام‪ ،‬وربما هناك من مارس تمثيل‬
‫الجنون‪ ،‬العتقاده أن ذلك قد ينجيه من الموت‪ ،‬كما حصلت حاالت محدودة‬
‫من الوفيات داخل قسم اإلعدام‪ ،‬والمتوفون كانوا شبانا ً وأسباب الوفاة هي‬
‫على األرجح سكتة قلبية أو دماغية‪.‬‬
‫وقسم اإلعدام تجربة رهيبة‪ ،‬ليس فقط بسبب الموت المرتقب مع كل طرقة‬
‫على الباب‪ ،‬ال سيما يومي األحد واألربعاء( وتلك أيام التنفيذ للسياسيين‪،‬‬
‫بصفة عامة‪ ،‬ولكنا لم تكن قاعدة نهائية)بل بسبب صرامة النظام واإلغالق‬

‫‪36‬‬
‫المستمر ألبواب الزنزانات‪ ،‬وكانت النوافذ قد أغلقت بصفائح‪ ،‬مثبتة باللحام‬
‫على الشباك وكان عسيرا ً معرفة حتى الوقت‪ ،‬ناهيك عما يدور خارج القسم‬
‫الذي كان يبدو لنا وكأنه في كوكب آخر‪ .‬وكانت هناك إشاعة تقول أن ثقبا ً في‬
‫إحدى نوافذ زنزانات الطابق األسفل‪ ،‬ومنها كان نزالء تلك الزنزانة يطلعون‬
‫على لمحات مما يدور قرب قاعة التنفيذ‪ ،‬ولكن الرؤية والتمييز كانا‬
‫ضعيفين‪ ،‬لذلك لم يكن باإلمكان الحصول على معلومات دقيقة عن األحداث‬
‫التي تدور خارج قسم اإلعدام‪ ،‬أو في قاعة التنفيذ‪.‬‬
‫والنزالء المحكومون باإلعدام‪ ،‬ينطبق عليهم القول (في معظم الحاالت)‬
‫متفائلون إلى أقصى حدود التفاؤل‪ ،‬ويصل هذا إلى حدود محزنة‪ .‬فوقوف‬
‫عصفور‪ ،‬وأكثر من ذلك إذا كان بلبالً على الشباك العلوي لقسم اإلعدام قد‬
‫يعني للكثيرين أنه إشارة الفرج ! أما إذا ابتسم أحد الحراس أو المأمورين‪،‬‬
‫فإن اإلشارة أكثر قوة‪ ،‬أما رؤية صالحة في المنام‪ ،‬فإنها إشارة قوية للفرج‪.‬‬
‫ولكن ما هو الفرج ‪..‬؟‬
‫المحكوم باإلعدام كالغريق في بحر متالطم األمواج‪ ،‬ال قعر له وال ضفاف‪،‬‬
‫فهو إذن على استعداد نفسي أولي لتقبل كل إشاعة أو إشارة مهما كانت‬
‫ضعيفة‪ ،‬والفرج قد يكون صدور قرار عفو ألي سبب من األسباب‪ ،‬وهو‬
‫األكثر رجحاناً‪ ،‬أو تخفيض من حكم اإلعدام إلى الحبس المؤبد (السيما إذا‬
‫كانت القضية غير مهمة)‪ ،‬ويذهب البعض أن تغير النظام السياسي في البالد‬
‫يؤدي بهم إلى الخروج من هذا المكان‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫وقد يبدو حكم اإلعدام شيئا ً رهيباً‪ ،‬وربما هو كذلك فعالً‪ ،‬بيد أن المحكوم‬
‫باإلعدام يعتاد على ذلك‪ ،‬أي أنه يألف فكرة أن حياته قد انتهت ( مع فسحة‬
‫قليلة أو كثيرة من األمل كما أسلفنا)‪ ،‬ولكن التفاوت هنا هو في سرعة تقبل‬
‫فكرة نهاية رحلة العمر على هذه الصورة ( مع أن أي صورة أخرى هي‬
‫غير مفرحة أيضا ً !) فالبعض كان يتقبل الفكرة بسرعة كبيرة‪ ،‬دقائق أو‬
‫ساعات بعد صدور الحكم‪ ،‬وربما عند آخرين تستغرق أكثر من ذلك‪ ،‬وقد‬
‫تبقى الفكرة تتصارع في وعي اإلنسان حتى اللحظات األخيرة‪ ،‬والعوامل‬
‫المهمة التي تؤدي إلى تماسك الفرد هي ‪ :‬شدة إيمانه بالقضية النضالية‪،‬‬
‫والتأهيل الثقافي والنضالي‪ ،‬واإليمان الديني‪.‬‬
‫وقد سمعت أن الكثيرين من المحكومين باإلعدام الذين يبقون متماسكين حتى‬
‫اللحظات األخيرة‪ ،‬ينهار بعضهم لدى رؤيته لحبل المشنقة‪ ،‬وقد ينتاب آخرين‬
‫ضرب من هستيريا الصياح والهتاف (يسقط ويعيش) أو إطالق الشتائم أو‬
‫التوسل‪ ،‬والهتاف بحياة فالن من الناس‪ ،‬وقد يعمد البعض إلى إيهام لجنة‬
‫التنفيذ (مدير السجن‪ ،‬ضابط األمن‪ ،‬المدعي العام‪ ،‬المأمورين‪ ،‬الطبيب) بأن‬
‫لديهم معلومات مهمة أو خطيرة يودون اإلدالء بها‪ ،‬من أجل اإلبقاء على‬
‫حياتهم ولو لبضعة أيام‪ ،‬ولكن مذكرة اإلعدام إذا وردت تحمل ختم وإشارة‬
‫التصديق والتنفيذ‪ ،‬فإن ذلك على األرجح لم يكن يحتمل التأجيل‪ ،‬فقد سبق‬
‫السيف العذل‪.‬‬
‫أما أنا فقد كنت قد استعددت لهذا اليوم أتم االستعداد‪ ،‬ومنذ زمن بعيد جداً‪،‬‬

‫‪38‬‬
‫منذ انتمائي لحزب البعث العربي االشتراكي عام ‪ . 1958‬ومن مصادفات‬
‫القدر‪ ،‬أنني كنت قد قرأت بتأثر شديد وعميق مذكرات العقيد الركن صالح‬
‫الدين الصباغ‪ ،‬أحد قادة حركة مايس ‪ ، 1941 /‬وقد نفذ به حكم اإلعدام‬
‫ولكن بعد سنوات من الهروب واالختفاء في إيران وتركيا‪ ،‬حتى وقع بأيدي‬
‫السلطات البريطانية التي سلمته إلى الحكومة العراقية‪ ،‬فحكمت عليه‬
‫باإلعدام‪ ،‬فكتب في وصيته مخاطبا ً أوالده ‪ :‬إنه يعز عليه مفارقتهم دون أن‬
‫يراهم‪ ،‬وال بد أن أشكال وجوههم قد تغيرت‪ ،‬وكنت أشعر بالضبط بنفس‬
‫المشاعر‪ ،‬حيث مضت مدة تقارب تلك المدة التي أمضاها صالح الدين‬
‫الصباغ دون رؤيته ألوالده‪ ،‬دون رؤية ولدي فراس وفواز‪ ،‬ولكنني كنت‬
‫على استعداد لتقبل تلك التضحية‪ ،‬فقد تنازلت عن حياتي منذ زمن بعيد‪،‬‬
‫وكنت مقتنعا ً بأني سألقى وجه ربي اغتياالً أو إعداما ً أو شهيدا ً في معركة‬
‫وطنية أو قومية‪ ،‬ورغم أني لم أكن قد فعلت شيئا ً يستحق هذا الحكم األخير‪،‬‬
‫إال أنني أدركت أنني أدفع فواتير ومستحقات قديمة‪ ،‬وقد وجدت السلطات أنها‬
‫فرصة سانحة للتخلص مني (قبل صدور التخفيض إلى الحبس المؤبد)‪ ،‬وقد‬
‫علمت فيما بعد من مصادر ال يرقى إليها الشك‪ ،‬أن السلطات كانت تعتقد‬
‫بأنني غير منتم حاليا ً إلى تنظيم‪ ،‬مع قناعة بعض الجهات‪ ،‬أنني ما زلت‬
‫منضما ً مع البعث اليساري‪ ،‬وإنني سأنضم عند أول سانحة إلى أي فعالية‬
‫معادية‪ ،‬ثورة أو انقالب‪ ،‬أو حركة داخل حزب السلطة كما حدث عام ‪1979‬‬
‫)‪ ،‬لذلك كنت قد أعددت كلمة قصيرة مرتجلة بالطبع‪ ،‬ولكنها بليغة ساعة‬

‫‪39‬‬
‫التنفيذ‪.‬‬
‫كان شهر رمضان قد حل علينا‪ ،‬وتنفيذ أحكام اإلعدام تتوقف عادة خالل هذا‬
‫الشهر‪ ،‬إلى ما بعد العيد‪ ،‬وبعد مرور مناسبة الثامن من شباط‪ ،‬وعيد تأسيس‬
‫الجيش‪ ،‬و‪ 28‬نيسان‪ ،‬مولد الرئيس صدام‪ ،‬مرور هذه المناسبات دون صدور‬
‫العفو المنشود‪ ،‬أيقن النزالء السيما العقالء منهم‪ ،‬أن تنفيذ أحكام اإلعدام‬
‫سوف تتواصل حال انقضاء أيام عيد الفطر‪.‬‬
‫ومع إيقاف التنفيذ في شهر رمضان إال أنها لم تكن قاعدة نهائية‪ ،‬وكل شيء‬
‫ممكن‪ .‬وفي قسم اإلعدام يطلق على من يمضي على قدومه‪ 21‬يوما ً فأكثر‪،‬‬
‫مرشحا ً للتنفيذ في الوجبة القادمة‪ ،‬وباللهجة البغدادية ( طابك على السرة)‪،‬‬
‫أي أنه في الدور‪.‬‬
‫كانت الساعة قد قاربت الثانية من يوم ‪ 13‬أيار ‪ ، 1987‬األربعاء‪ ،‬أي أن‬
‫كافة المؤشرات المشؤومة متوفرة ‪ :‬األربعاء (وهو يوم مشؤوم في عائلتنا)‬
‫اليوم ‪ 13‬الساعة الثانية‪ ،‬عندما سمع صوت المفتاح يدور في باب قسم‬
‫اإلعدام‪ ،‬الباب األول‪ ،‬يترك النزالء كل شيء‪ ،‬وآذانهم تستعد اللتقاط أي‬
‫شيء حتى همس الذباب‪ ،‬وبعد فتح الباب الثاني‪ ،‬كان يسود الصمت المطبق‪،‬‬
‫وآذان وأنظار المحكومين باإلعدام تتطلع إلى المأمور الذي يتوسط ممر‬
‫القاعة في الطابق األسفل‪ ،‬بيده ورقة بيضاء‪ ،‬رفعها وشرع بقراءة األسماء‪.‬‬
‫كانت األسماء أربعة‪ :‬هي اسمي و من معي في القضية‪ .‬وبعد أن أتم قراءة‬
‫األسماء استدرك قائالً وبسرعة ‪ :‬إنها … إنها مرسوم تخفيض‪ .‬وبالطبع يحق‬

‫‪40‬‬
‫للكثيرين عدم تصديق قصة التخفيض‪ ،‬إال إنني كنت ال أفكر بشيء‪ ،‬ولم‬
‫يصدق ذلك الكثير من النزالء‪ ،‬بما فيهم أخي وسام المشمول بالتخفيض طبعا ً‪.‬‬
‫وقفنا في الردهة بين البابين‪ ،‬وقرأ علينا أحدهم مرسوم التخفيض من اإلعدام‬
‫إلى الحبس المؤبد … ومن لم يصدق منا نحن األربعة (ألن نزالء القسم ال‬
‫يسمعون وال يشاهدون شيئاً)‪ ،‬أيقن اآلن أن شبح الموت ابتعد … نعم أن‬
‫سيف الموت الحاد قد ابتعد ولكن دون أن يختفي نهائياً‪ .‬فبيننا وبين الموت‬
‫ورقه!!‬
‫والغريب أن الكثير من حراس قاطع اإلعدام كانوا متعاطفين معنا‪ ،‬بل إن‬
‫أحدهم انخرط في نوبة بكاء‪ ،‬وكاد أن ينهار على األرض‪ ،‬فجلس متكئا ً إلى‬
‫الجدار‪ ،‬وطفق يبكي كاألطفال!!‬
‫نقلنا إلى قسم األحكام الخاصة‪ ،‬وقد أخذتنا إلى هناك سيارة الند كروزر‪ ،‬وها‬
‫نحن أمام قلم التسجيل في قسم األحكام الخاصة (السجن السياسي) بلحى‬
‫طويلة‪ ،‬حفاة‪ ،‬مرضى‪ ،‬وقد اصفرت وجوهنا من جراء سوء تغذية طويلة‬
‫األمد‪ ،‬وعدم التعرض ألشعة الشمس‪ ،‬وبالنسبة لي كانت األورام تمأل كافة‬
‫أجزاء الجسم من قمة الرأس وحتى أخمص القدمين‪ .‬ولكننا نستعيد أنفاسنا‬
‫وأنفسنا بعد حلولنا فيما يسمى بزنزانات قسم االستقبال‪ ،‬التي يودع فيها‬
‫النزالء ريثما يتم توزيعهم على قاعات وأقسام السجن الكثيرة الغاصة‬
‫بالسجناء‪ ،‬الذين يطلق عليهم رسمياً‪ ،‬بالنزالء‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫***‬
‫قسم األحكام الخاصة‬
‫يجهل الكثير من العراقيين وغيرهم أكثر ما تنطوي عليه كلمة سجن أبو‬
‫غريب‪ ،‬وهي تسمية غير رسمية ولكنها شائعة جدا َ‪.‬‬
‫يتألف هذا السجن واسمه الرسمي ‪ :‬المديرية العامة إلصالح الكبار‪ ،‬يتألف‬
‫من مستطيل ضخم له واجهة أمامية مطلة على الطريق القديم بغداد ـ الفلوجة‬
‫ـ الرمادي ‪( ،‬الطريق الزراعي) طولها ‪ 600– 700‬متراً‪ ،‬وعمق يمثل‬
‫الضلع الطويل لهذا المستطيل يمتد إلى الداخل بحوالي ‪ 1500 – 2000‬مترا‬
‫هذه األرقام‪ ،‬ليست دقيقة ولكنها أقرب إلى الواقع‪ ،‬وهكذا ينشأ مستطيل هائل‬
‫فسيح بسور شاهق‪ ،‬يرتفع إلى ثمانية أمتار من األسمنت البلوك الشديد‬
‫المتانة‪ .‬والسور والمتانة‪ ،‬ال يدع مجاالً للتفكير بمحاولة اجتيازه‪ ،‬وداخل هذا‬
‫المستطيل الهائل يقع مجمع أبو غريب لإلصالح االجتماعي‪ ،‬وهو مكون من‬
‫‪:‬ـ‬
‫ـ خمسة أقسام (سجون) موزعة بانتظام وبأحجام متفاوتة داخل هذه المساحة‪.‬‬
‫ـ دائرة أمن أبو غريب‪.‬‬
‫ـ مخازن األرزاق‪.‬‬
‫ـ دائرة المدعي العام ( وقد أنشأت مؤخرا ً )‪.‬‬
‫ـ المديرية العامة لإلصالح االجتماعي‪.‬‬
‫يتوزع القسمان الرئيسيان ‪:‬األحكام القصيرة (الخفيفة)‪ ،‬واألحكام‬

‫‪42‬‬
‫الطويلة(الثقيلة)في أقصى زوايا المستطيل العليا والقصيرة إلى الزاوية‬
‫اليمنى‪ ،‬والطويلة إلى الزاوية اليسرى‪.‬‬
‫•قسم األحكام القصيرة يعني أنه يختص بالمحكومين بين أكثر من سنة حتى‬
‫خمس سنوات‪ ،‬وهي أحكام الجنح في القانون‪ ،‬وهذا القسم هو أكبر‬
‫أقسام(سجون) أبو غريب‪.‬‬
‫•قسم األحكام الطويلة‪ ،‬ويعني أنه يختص بالمحكومين بين أكثر من خمس‬
‫سنوات حتى اإلعدام‪ ،‬وهي أحكام الجنايات في القانون ‪ ،‬وهو يلي قسم‬
‫األحكام القصيرة في الحجم‪.‬‬
‫•قسم اإلفراج‪ ،‬وهو يختص بالمحكومين بالمخالفات في القانون‪ ،‬للمحكومين‬
‫سنة واحدة‪ ،‬وهو قسم صغير ال يتسع إال لبضعة عشرات من النزالء‪ ،‬ربما‬
‫‪ 100 – 120‬فرد‪ .‬وبناية هذا القسم تقع بين األحكام القصيرة والطويلة‪.‬‬
‫•المديرية العامة لإلصالح االجتماعي‪ ،‬وهذه تقع في الزاوية السفلى اليمنى‬
‫للمستطيل وهي بناية ليست كبيرة الحجم ولكن يليها مباشرة جدار فاصل عن‬
‫سائر أقسام المجتمع‪ ،‬ولكنه ال يضاهي في ارتفاعه وسماكته جدار السجن‬
‫الخارجي‪.‬‬
‫•ومقابل قسم األحكام القصيرة‪ ،‬كان األجانب ويطلق عليه (قسم غير‬
‫العراقيين) متوسط الحجم إال أنه األكثر بين األقسام نظافة وترتيبا ً (هكذا كنا‬
‫نسمع) وهناك تسهيالت في اإلدارة‪ .‬وهذا السجن كان يضم كل محكوم غير‬
‫عراقي بصرف النظر عن جريمته والمدة التي حكم بها وإدارة هذا القسم‬

‫‪43‬‬
‫خاضعة إلى رئاسة المخابرات‪.‬‬
‫•ومقابل سجن األحكام الطويلة‪ ،‬هناك هذا القسم الشهير‪ ،‬قسم األحكام‬
‫الخاصة‪ ،‬وهو السجن المخصص للمحكومين بمواد األحكام الخاصة‪.‬‬
‫•مخازن األرزاق‪ ،‬كانت بالقرب من األحكام الطويلة‪ ،‬وليس بعيدا ً عن ذات‬
‫المكان‪ ،‬كانت دائرة المدعي العام‪.‬‬

‫اآلن لنعد إلى قسم األحكام الخاصة‪ ،‬ماذا تعني تلك اللفظة‪:‬‬
‫القانون العراقي يعتبر‪ ،‬أن ليست هناك جريمة سياسية‪ ،‬حتى لو كان الباعث‬
‫عليها سياسي ولكنها ليست جرائم سياسية‪ ،‬لذلك أطلق عليها المشرع لفظة‬
‫خاصة‪ .‬وقد وردت في نص أحكام القانون العراقي هكذا‪ :‬األحكام الخاصة‪.‬‬
‫وهي تبدأ من المادة‪ 156‬حتى المادة ‪ ،198‬وبعدها تبدأ مواد األمن الداخلي‬
‫وهي حوالي ‪40‬مادة‪ ،‬منها أحكام اغتيال رئيس الجمهورية والتهجم‬
‫والمنشورات والكتب الممنوعة وتوزيعها وما شابه ذلك‪ .‬ونزالء هذا القسم هم‬
‫الذين حكموا في محكمة الثورة‪ ،‬أو ما تالها من المحاكم الخاصة بعد إنهاء‬
‫أعمال تلك المحكمة السيئة الصيت‪ ،‬والمحكومون بمواد األمن الخارجي‬
‫محرومون من اإلفراج الشرطي(‪ %25‬من مدة الحكم) أما المحكومين بمواد‬
‫األمن الداخلي‪ ،‬فيتمتعون بهذا الحق‪ ،‬ولكن بعد أخذ موافقة جهات اإلحالة‪،‬‬
‫األمن‪ ،‬المخابرات‪ ،‬االستخبارات!!‬
‫وكان قسم األحكام الخاصة قد صمم باألساس ألن يكون موقفا ً للمتهمين‬

‫‪44‬‬
‫المحالين إلى المحاكم‪ ،‬وربما استخدم لفترة وجيزة كسجن للنساء قبل أن‬
‫يرحلن بصفة نهائية إلى سجن خاص بهن في الرصافة‪ ،‬وفي النصف األول‬
‫من السبعينات تحول إلى سجن سياسي‪ ،‬على أن سجن أبو غريب نفسه وضع‬
‫قيد االستخدام في مطلع السبعينات ‪ ،1971‬بعد أن استغرق بناؤه أكثر من‬
‫ست سنوات‪ ،‬أي منذ أن كان سكان العراق ستة ماليين نسمة وقد اعتمدت‬
‫خرائط متقدمة في تشييده‪ .‬ويضم كافة المرافق الخدمية الممتازة‪ ،‬بما في ذلك‬
‫التدفئة والمياه الساخنة‪ .‬ولكن تباطؤ الصيانة واالكتظاظ واالستخدام الكثيف‬
‫وسوء اإلدارة والفساد‪ ،‬أوصله إلى حالة مزرية‪.‬‬
‫الجزء األساسي في القسم هو جزء اإلدارة‪ ،‬ثم ممر طويل‪ ،‬تقع الردهات‬
‫واألقسام على جانبيه‪ ،‬وربما يبلغ طول الممر حوالي ‪ 250‬متراً‪ ،‬واألقسام‬
‫على شكلين‪ ،‬إما أن تسمى (ق)‪ ،‬والقاف الواحد هو عبارة عن قاعة طويلة‬
‫تضم ‪ 20‬غرفة ‪ 10 ،‬غرف في كل طابق‪ ،‬وكل غرفة (زنزانة) هي بحجم‬
‫‪ 5 × 4,5‬وهناك مرافق صحية يمكن استخدامها كحمام لالغتسال أيضا ً وهو‬
‫ما كان غالبا ً يستخدم لهذا الغرض حصراً‪ ،‬ويضم القسم أيضا ً حمام عمومي‬
‫ومرافق صحية عامة ومخازن تحولت إلى غرف‪ ،‬وغدت امتيازا ً يمنح لمن‬
‫تريد السلطات أن تعطيه وضعا ً مميزاً‪ ،‬وهكذا كان على األغلب‪.‬‬
‫والصنف الثاني من األقسام يدعى (م) وهو عبارة عن بناء ذو طابقين ال‬
‫يطل فيه األعلى على األسفل‪ ،‬بل هو عبارة عن ردهتين مستقلتين ال يحتوي‬
‫على غرف‪ ،‬بل ردهة مفتوحة يشاهد من كان في آخرها من هو في أولها‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫ثم أن هناك عددا ً من المرافق تحولت أقسام مثل ‪ :‬المطعم والمسرح‬
‫والمدرسة‪ ،‬كما حاولت إدارة اإلصالحية(حسب تسميتها الرسمية) تدارك‬
‫االكتظاظ ببناء قسمين ضخمين سميت بالجملون األول والثاني‪ ،‬ذو سقف من‬
‫األلمنيوم وسقف ثانوي من الفلين الصناعي(ستايربور)‪ ،‬وفي فصل الصيف‬
‫كانت الحياة فيه تتحول إلى فرن بشري أو ربما أسوأ‪ ،‬وكان هناك مستشفى‬
‫ال بأس بحجمه وقدراته‪ ،‬كانت خدماته تفوق إمكاناته‪ ،‬بسبب تفاني األطباء‪،‬‬
‫سواء الموظفين منهم أو النزالء‪ ،‬في خدمة المرضى‪ .‬كما أن هناك مكتبة‬
‫كانت تضم قدرا ً ال بأس به من الكتب كما ً ونوعاً‪ ،‬إال أنها تعرضت لموجات‬
‫من السرقة على يد النزالء والموظفين‪ ،‬وهناك مطبخ ومخازن لألرزاق‪،‬‬
‫كانت مرتعا ً للجرذان البشرية وبنسبة أقل للجرذان الحقيقية‪ ،‬وهناك حقائق‬
‫مذهلة عن السرقات وقد مارسها حشد من الشخصيات الرسمية‪ ،‬بل كذلك‬
‫عدد من النزالء سواء بسواء‪.‬‬
‫وكان السجن يدار رسميا ً من قبل المأمورين التابعين إلى المديرية العامة‬
‫لإلصالح االجتماعي‪ ،‬التابعة إلى وزارة الشؤون االجتماعية‪ ،‬وهناك‬
‫مأمورون يرتدون بدله رسمية‪ ،‬ويضعون رتب وعالمات على أكتافهم‪ ،‬إال‬
‫أنها ليست عسكرية‪ ،‬كما يحظر عليهم ارتداؤها خارج السجن‪ ،‬واألقل منهم‬
‫يسمى حارس إصالحية‪ ،‬ومنهم من يسمى حرس مفاتيح‪ ،‬وهؤالء يتولون فتح‬
‫وغلق أبواب األقسام‪ .‬أو حرس برج‪ ،‬كناية إلى واجبه في األبراج التي‬
‫تراقب أسوار السجن‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫وقسم األحكام الخاصة‪ ،‬وكذلك سائر األقسام‪ ،‬محاط بسياج شاهق قد يصل‬
‫إلى ارتفاع ثمانية أمتار بما يجعله في عزلة تامة عن سائر األقسام‪ ،‬وهو‬
‫بمثابة الجزر في مساحة مجمع أبو غريب إن جاز التعبير … ولكن أي جزر‬
‫!‪..‬‬
‫كان مجمع سجن أبو غريب قد ورث سجن بغداد المركزي ( وكان موقعه في‬
‫باب المعظم )‪ ،‬وقد بوشر بتشييد سجن أبو غريب الحديث والذي يقع في‬
‫منطقة أبو غريب‪ ،‬غربي بغداد باتجاه الفلوجة‪ ،‬ومن هنا اكتسب اسمه‬
‫الشهير‪ ،‬بوشر بتشييده‪ ،‬ربما في ‪ ، 1964‬وقد جلبت أحدث الخرائط لتشييد‬
‫سجن حديث‪ ،‬حيث كان السجن القديم بغداد المركزي‪ ،‬قد تقادم به الزمن‪،‬‬
‫وأبنيته متهالكة وال يلبي المتطلبات الحديثة‪ .‬وهكذا فقد تعاقدت الحكومة مع‬
‫شركات أجنبية بالتعاون مع مقاولين عراقيين لتشييد السجن‪ ،‬كما تبدل اسم‬
‫مديرية السجون العامة إلى مديرية اإلصالح االجتماعي‪ .‬وقد استغرق إنشاؤه‬
‫سنوات طويلة‪ ،‬ويشاع أن عدة مقاولين تتابعوا عليه‪ ،‬ودارت عمليات رشاوى‬
‫وعموالت‪ ،‬رغم أن الشائعات ال يعول عليها في العراق مطلقاً‪ .‬وكان سكان‬
‫العراق آنذاك ‪ 6 – 7‬مليون نسمه‪.‬‬
‫وقد تم إلغاء السجن القديم في مطلع السبعينات‪(،‬ثم هدم وشيد بدالً عنه وزارة‬
‫الصحة‪ ،‬ومنشآت صحية تابعة لمدينة الطب وجامعة بغداد) وأغلب الظن أن‬
‫االنتقال إلى السجن الجديد قد جرى على عجل وحتى قبيل إكمال اللمسات‬
‫األخيرة فيه‪(،‬والعجلة والفوضى وكثرة المتدخلين هي عادة سائدة لألسف) ‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫ولكن البد من ذكر أن البناء كان ممتازا ً والمواد المستخدمة فيه كانت من‬
‫الدرجة األولى‪ ،‬ومن أحدث الطرز (في وقته)‪ ،‬ولكن لألسف كانت نظم‬
‫مجاري المياه الثقيلة غير منجزة بعد ( ولم تنجز إلى حد اآلن)‪ ،‬ومثلت‬
‫مصدر إزعاج للنزالء واإلدارة على حد السواء‪ ،‬وكذلك تمديدات المياه النقية‬
‫والكهرباء كانت ممتازة‪ ،‬ولكنها غير مصممة الستيعاب األعداد الكبيرة من‬
‫النزالء‪ ،‬باإلضافة إلى سوء استخدام المعدات‪ ،‬أدى إلى استهالك متسارع‬
‫الوتيرة‪ ،‬مقابل تباطؤ في الصيانة‪ ،‬لذلك كان مجمع أبو غريب في حالته‬
‫النهائية بوضع يرثى له‪ ،‬وقد جرت عمليات صيانة في أواخر التسعينات‬
‫أعادت إليه شيئا ً من الجاهزية‪.‬‬
‫وفي ظروف الضخ المستمر للنزالء إلى السجن (وسوف أتناول هنا قسم‬
‫األحكام الخاصة بصفة رئيسية) ‪ ،‬تعرض السجن ومرافقه إلى التآكل‬
‫المستمر والتدهور في مستوى مرافقه الخدمية‪ ،‬وفي المراحل الالحقة بعد‬
‫الحصار الشامل على البالد‪ ،‬وقلة الموارد المخصصة للسجن‪ ،‬حدث تسارع‬
‫في تدهور الموقف‪ ،‬لوال جهود كبيرة‪ ،‬كان المصدر الرئيسي فيها عمل‬
‫النزالء وتبرعاتهم ومواردهم‪ ،‬أمكن إيقاف التدهور السريع‪.‬‬
‫وكان الموقف الغذائي والصحي وأوضاع السجن بصفة عامة معقولة وتحت‬
‫السيطرة حتى وقوع الحصار الذي قلص إلى درجة كبيرة من مستوى‬
‫اإلمكانات الغذائية بدرجة رئيسية‪ ،‬وال أريد أن أذكر أرقاما ً وإحصائيات لست‬
‫متأكدا ً من دقتها‪ ،‬ولكن على سبيل المثال االعتماد على ما يقدم من غذاء ‪،‬‬

‫‪48‬‬
‫والكمية كانت جيدة جدا ً والنوعية جيدة‪ ،‬وفي بعض األحيان جيدة جداَ‪ ،‬ولكن‬
‫في مرحلة بعد الحصار‪ ،‬انحسر هذا المستوى إلى درجة لم يعد فيها باإلمكان‬
‫االعتماد على الطعام الذي تقدمه اإلدارة لذلك فقد تم مضاعفة عدد مواجهات‬
‫النزالء إلى أسبوعية‪ ،‬بدالً من مرتين في الشهر‪ ،‬وذلك من أجل تغطية حاجة‬
‫النزالء من الطعام والمواد المعيشية‪.‬‬
‫والطعام الذي قلت كميته وتراجعت جودته‪ ،‬واآلن دخلت عناصر جديدة على‬
‫الخط‪ ،‬فحراس السجن صاروا بعد الحصار يتناولون وجباتهم من كمية طعام‬
‫النزالء‪ ،‬هذا ناهيك عن طول يد مأموري السجن الذين صاروا ربما يمونون‬
‫بيوتهم من طعام النزالء‪ ،‬وهكذا فإن القليل المتبقي‪ ،‬لم يكن سوى نزر يسير‬
‫ال يسمن وال يغني عن جوع‪ .‬لذلك كان هناك اتفاق غير مبرم‪( ،‬كالعرف‬
‫الدستوري …!) بل لم يجر حتى اتفاق عليه‪ ،‬أن النزيل الذي يتمتع بأوضاع‬
‫مالية جيدة يترك طعام الدولة لغيره من النزالء‪ ،‬بل وأن النزالء الذين كانت‬
‫أحوال ذويهم تسمح لهم بجلب أطعمة ألبنائهم‪ ،‬كانوا يشركون معهم زمالء‬
‫آخرين‪ ،‬وهكذا يمكن القول أن تكافالً وتضامنا ً على مستوى طيب بين النزالء‬
‫على اختالف قدراتهم االقتصادية والمالية أمكن معه تجاوز محنة قلة الطعام‬
‫‪.‬‬
‫على أن مستوى الخدمات الطبية‪ ،‬بقي على درجة جيدة‪ ،‬بل جيدة جداً‪ ،‬رغم‬
‫أن هناك أعدادا ً من النزالء ومعظمهم من غير السياسيين‪ (،‬وكانت إدارة‬
‫السجن قد وضعت في أعوام التسعينات مئات من العاديين في قسم األحكام‬

‫‪49‬‬
‫الخاصة تداركا ً للزحام الشديد في قسمي األحكام الطويلة والقصيرة)‪ ،‬وكان‬
‫من جملة المتاعب التي أوجدوها‪ ،‬المراجعات الكثيفة للمستشفى التي كانت‬
‫تصيب الكادر الطبي باإلرهاق‪ ،‬وربما باالنهيار بسبب شيوع ظاهرة‬
‫التمارض والمشاجرات التي كانت تنتهي دموية في معظم الحاالت‪ ،‬وكذلك‬
‫استخدام أصناف عديدة من األدوية كمهدئات‪ ،‬أو باألحرى كوسائل مخدرة أو‬
‫منومة بما يؤدي إلى اإلدمان‪ ،‬باإلضافة إلى عمليات التهريب المنظمة بدقة‬
‫شديدة‪ ،‬التي كان يشارك في معظمها إن لم أقل جلها‪ ،‬موظفو الدائرة‪ ،‬السيما‬
‫من حراس (اإلصالحية)‪ ،‬فاألمر ينطوي على أرباح طائلة‪.‬‬
‫وهناك أصناف من الحبوب شاع ذكرها مثل ‪ :‬آرتين‪ ،‬وأعتقد أنه يستخدم‬
‫كعالج للحاالت العقلية والعصبية أو الكآبة أو االنفصام في الشخصية‬
‫(الشيزوفينيا)‪ ،‬ولست متأكدا ً بالضبط من هذه المعطيات‪ ،‬إال أنني أعلم أنها‬
‫كانت توصف كعالج لمرضى الحاالت النفسية‪ ،‬وغيرها من األصناف‬
‫الممنوعة أو تلك المقيد استخدامها إال بمعرفة الطبيب المختص‪ ،‬كانت تهرب‬
‫إلى السجن ويتناولها النزالء إلى درجة اإلدمان الذي يستنزف صحتهم‬
‫وقواهم العقلية باإلضافة إلى إمكاناتهم المادية‪ .‬وكان من المؤسف أن تشيع‬
‫مثل هذه الظواهر في السجن السياسي‪ ،‬وهي لم تكن موجودة في الستينات‬
‫حيث كانت السجون مدارس للمناضلين‪.‬‬
‫وكانت السلطات قد درجت على إصدار قرارات عفو في مناسبات مختلفة‪،‬‬
‫وبذلك كان من المعروف أن النزيل لن يمكث في السجن لفترات طويلة‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫وليس مألوفا ً أن يمضي النزيل أكثر من خمس سنوات‪ ،‬ونادرا ً ما تطول‬
‫ألكثر من ثالث سنوات‪ ،‬وندر أن أمضى نزيل مدة أكثر من عشر سنوات‪،‬‬
‫وسوف آتي على ذكر ذلك تفصيالً‪ ،‬أما العدد القليل الذي كان يستثنى من‬
‫قرارات العفو فكان حصرا ً ‪ :‬ـ‬
‫ـ المحكومين بقضايا التجسس ‪ :‬وهذه قضية معقدة اختلط فيها الحابل بالنابل‪،‬‬
‫بحيث لم يعد ممكنا ً معرفة (بدقة تامة) المتهمين بقضايا تجسس حقيقية من‬
‫الذين اتهموا بهذه التهمة دون دالئل واضحة تكفي إللحاق هذه التهمة‬
‫الخطيرة‪ ،‬وعدد هذه الفئة لم يكن يتجاوز العشرات‪.‬‬
‫ـ المخفضين من عقوبة اإلعدام‪ :‬وهذه بدورها قضية ال تخلو من التعقيد‪،‬‬
‫فالمخفض من اإلعدام إلى السجن المؤبد قد أصبح سجينا ً عادياً‪ ،‬ولكن‬
‫المشرع يريد من ذلك إبقاء من يريد إبقاءه في السجن وإخراج من يرتأؤن‬
‫بقرار… ولم يكن نزالء هذه الفئة يزيد عن ‪ 30 – 40‬فردا ً‪.‬‬

‫هذا بالنسبة للسجن السياسي‪ ،‬أما بالنسبة لنزالء األقسام األخرى‪ ،‬فقد كانت‬
‫قوائم االستثناء من العفو متباينة‪ ،‬ولكن وفق أحكام القانون‪ ،‬كانت الجرائم‬
‫الثابتة في االستثناء هي‪:‬‬
‫‪-1‬جرائم المخدرات‪.‬‬
‫‪-2‬جرائم اللواطة واالغتصاب‪.‬‬
‫‪-3‬جرائم الزنا بالمحارم‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫كانت هذه الجرائم الثالثة ثابتة في قوائم االستثناء‪ ،‬ولكن كان يمكن أن‬
‫يضاف إليها جرائم أخرى مثل ‪:‬ـ‬
‫‪-1‬القتل العمد (الذي لم يتنازل فيه ذوي المجني عليه)‬
‫‪-2‬اختالس أموال الدولة‪.‬‬
‫‪-3‬التزوير‪.‬‬
‫وال أستطيع أن أتبين بدقة ما هي الحكمة من جلب أعداد كبيرة من الناس إلى‬
‫السجن وإطالق سراحهم بعد فترة يذوقون فيها األمرين‪ ،‬لربما أن فلسفة‬
‫الدولة‪ ،‬وربما دول أخرى على هذه الشاكلة تعتقد‪ ،‬أن المرارة التي كابدها‬
‫السجين سوف تردع الكثيرين منهم عن مسارات العمل المعادي للنظام‪ ،‬ولكن‬
‫بالمقابل فإن أعدادا ً أخرى سيتضاعف حقدها على النظام‪.‬‬
‫ووفق هذه النظرية ( التي أفترضها)‪ ،‬فأن مكوث النزالء في السجن كان‬
‫يتوقف على درجة أو فداحة ‪0‬الذنب) المقترف‪ ،‬لذلك كانت الفئة المحرومة‬
‫دائما من المراحم والعفو‪ ،‬هم المحكومون بجرائم التجسس‪ ،‬وحتى عناصر‬
‫هذه الفئة غير ثابتة تقريباً‪ ،‬فقد اعتبر لسنوات طويلة‪ ،‬أكثر من عشرة أو‬
‫خمسة عشر مادة من مواد األمن الخارجي من مواد التجسس‪ ،‬واألمر ال‬
‫يتعدى االجتهاد‪ ،‬وربما حتى المزاج ‪..‬وقد يتدخل في تعزيز هذا األمر‬
‫بدرجات متفاوتة في الحسم‪ ،‬موقف ورأي رئيس اللجنة وأعضاؤها‪ ،‬ولكم من‬
‫المؤكد‪ ،‬أن كانت هناك مواد شهيرة مستثناة من المراحم والعفو‪ ،‬المواد ‪:‬‬
‫‪ A164 – 159 -158‬وهي مواد تنص صراحة على التعاون مع مخابرات‬

‫‪52‬‬
‫دولة أجنبية‪.‬‬
‫وال أريد بذلك القول أن كل من وجهت له هذه المادة وحكم بموجبها كان‬
‫يستحقها فعالً فقد ‪:‬أن هناك أبرياء بصورة تامة‪ .‬بمعنى لم تكن لديهم أي شكل‬
‫من أشكال االتصال بجهات أجنبية‪ .‬وكان هناك من كانت لديهم اتصاالت‬
‫حزبية مع منظماتهم المهاجرة إلى خارج الوطن‪ ،‬أو تلك األحزاب المتعاونة‬
‫مع دول وأنظمة أجنبية‪ ،‬عربية أوغيرعربية‪ ،‬وكان هناك من أجرى دون‬
‫قصد‪ ،‬أو علم دقيق منها اتصاالً بجهات أجنبية استغلت بساطتها أو سذاجتها‪،‬‬
‫أو اندفاعها‪ ،‬فوظفت هذا الحماس أو السخط ألغراضها‪ ،‬وال تستحق هذه‬
‫العقوبة القاسية(الحبس المؤبد)‪.‬‬
‫كانت مراسيم العفو تصدر في مناسبات غير ثابتة‪ ،‬وفترات غير محسوبة‪،‬‬
‫ولكن أقصى مدة مضت دون إصدار عفو‪ ،‬كان قي تموز ‪ ،1995 /‬حتى‬
‫تموز‪ 2002 /‬ولكن في المرحلة بين ‪ 1986‬ـ ‪( 2002‬وكان قد صدر في‬
‫عام‪ 1986‬عفو كبير)‪ ،‬كانت قد صدرت مراسيم العفو التالية‪ :‬ـ‬
‫•نيسان ‪ : 1988 /‬عفو عجيب حافل باالستثناءات‪ ،‬بحيث لم يشمل من‬
‫السجن السياسي سوى نزيل واحد فقط اسمه سعد عليوي شيبان‪ ،‬فسمي العفو‬
‫باسمه‪.‬‬
‫•آب ‪ : 1988 /‬بعد نهاية الحرب‪ ،‬صدر عفو عام وشامل لألكراد فقط‪،‬‬
‫شمل حوالي ‪ 1500‬نزيل كردي‪.‬‬
‫•آب ‪ : 1988/‬بعد يوم واحد‪ ،‬صدر عفو عام عن العراقيين مع استثناء‬

‫‪53‬‬
‫التجسس والمخفضين من اإلعدام‪ ،‬وبعض المحكومين من المادة ‪ 175‬خرج‬
‫بموجبه أكثر من ‪ 1000‬نزيل‪ ،‬وبقي ‪ 601‬نزيل في السجن‪.‬‬
‫•أيلول‪ :1990/‬عفو خاص شمل حوالي ‪ 550‬نزيالً من القضايا السياسية‬
‫البسيطة‪.‬‬
‫•تموز‪: 1991/‬عفو شامل كبير شمل حوالي‪ 6000‬نزيل ولم يستثن من‬
‫السجن السياسي سوى مواد التجسس وبعض المخفضين من اإلعدام‪ ،‬وبقي‬
‫في السجن حوالي ‪ 120‬فرداً‪.‬‬
‫•نيسان‪ :1995/‬عفو خاص يخفض محكومية بعض القضايا البسيطة‪ ،‬أطلق‬
‫بموجبه عدد بسيط من النزالء‪.‬‬
‫•تموز‪: 1995/‬عفو خاص يشمل حوالي ‪ %75‬من مدة المحكومية‪ ،‬عدا‬
‫التجسس والمخفضين من اإلعدام‪.‬‬
‫•تموز‪ :1995/‬عفو عام أطلق بموجبه سراح جميع السجناء السياسيين عدا‬
‫قضايا التجسس والمخفضين من اإلعدام‪ ،‬أبقى على ‪ 98‬نزيل فقط‪.‬‬
‫•تموز‪: 2002/‬عفو‪ ،‬هو عبارة عن مرحمة شملت أكثر من ‪ %50‬من مدة‬
‫المحكومية‪ ،‬أطلق سراح حوالي ‪ 800– 1000‬نزيل فيما أبقى على حوالي‬
‫‪ 1200‬منهم‪.‬‬
‫•تشرين األول‪ :2002/‬عفو عام شامل أطلق سراح كافة السجناء‬
‫والموقوفين في العراق دون أي استثناء‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫إذن فهناك عشرة مراسيم عفو‪ ،‬منها من أطلقت سراح نزيل واحد فقط‬
‫(‪ ،)1988‬ومنها من لم يبقي نزيل واحد ! وحتى المحكومين باإلعدام أطلق‬
‫سراحهم إلى الشارع!‬
‫كنت على الصعيد الشخصي ال أعلق آماالً كبيرة على الخروج من السجن‪،‬‬
‫وكانت تجربة عفو ‪ ، 1991‬حيث أطلق سراح مئات المخفضين من اإلعدام‬
‫(حوالي ‪ ،)450‬ثم علمت بصورة مؤكدة تماما‪ ،‬أن اسمي قد شطب من قوائم‬
‫العفو‪ .‬أما في عفو عام ‪ 1995‬فقد كان أعضاء اللجنة المكلفة بتنفيذ قرار‬
‫العفو من أصدقاء ومعارف‪ ،‬كانوا يؤكدون لي يوميا ً بأن إطالق سراحي‬
‫مؤكد ضمن قرار العفو‪ ،‬إال أن ذلك تغير فجأة‪ ،‬وأنهت اللجنة أعمالها‪ ،‬ولم‬
‫تبق في السجن سوى ‪ 98‬نزيالً‪ ،‬من أصل حوالي ‪ 2500‬نزيل قبل العفو‪.‬‬
‫بل وإني أدركت بعد محاوالت عديدة بذلها أصدقاء ومعارف من أجل إطالق‬
‫سراحي لم تسفر عن نتيجة‪ ،‬أدركت أن األمر سيطول‪ ،‬وسيطول جداً‪ ،‬السيما‬
‫بعد إطالق سراح أخي وسام‪ ،‬وكانت دوائر األمن والمخابرات قد أجرت‬
‫مرات عديدة‪ ،‬ربما أكثر من عشر مرات‪ ،‬في زيارات ومقابالت معي في‬
‫السجن‪ ،‬وإجراء استطالعات‪ ،‬تحقيقات عن أوضاعي داخل السجن‪ ،‬باإلضافة‬
‫إلى أني كنت أعلم بدقة أنني تحت المراقبة الدقيقة جدا َ طيلة فترة سجني‪ .‬وال‬
‫أدري ماهية التقارير التي رفعت عني‪ ،‬هل هي إيجابية أم سلبية‪ ،‬وكان بعض‬
‫المكلفين بإجراء تلك المقابالت والتحقيقات كانوا يظهرون التعاطف معي‪،‬‬
‫واالحترام في كل األحوال‪ ،‬لكن دون أن تسفر تلك المقابالت عن شيء‪ .‬وإذا‬

‫‪55‬‬
‫كان لي أن أتحدث عن تلك المقابالت‪ ،‬فأقول‪ :‬أنها كانت تتركز بصفة رئيسية‬
‫على الموضوعات التالية‪:‬‬
‫ـ ما هي أخبار عائلتك في ألمانيا ؟ وفي الواقع فإن السلطات كان يؤرقها‬
‫وجود عائلتي في الخارج كثيراً‪ ،‬لمعرفتهم أنهم يشكلون قاعدة ثابتة لي في‬
‫الخارج‪ ،‬كما يطرح وجودهم هناك مبررا ً لاللتحاق بهم وهو ما لم تكن‬
‫السلطات تريده بصفة مطلقة لجهتين‪:‬‬
‫آ‪/‬أن وجودي في الخارج يطرح احتماالً شبه مؤكد‪ ،‬أن أنضم إلى قوى‬
‫المعارضة‪ ،‬وهذا ما لم تكن السلطة تريده‪.‬‬
‫ب‪/‬السلطة بصفة عامة ‪ ،‬لم تكن ترحب بأن تعتمد أي شخصية سياسية على‬
‫نفسها‪ ،‬مستقلة‪ ،‬بعيدا ً عن مؤثراتها‪ ،‬وكنت قد أظهرت بصورة مؤكدة رفض‬
‫امتثالي لطلب السلطة بالعمل في الدوائر العراقية‪ ،‬لذلك حجب عني راتبي‬
‫التقاعدي مع رفض الموافقة على السفر من أجل إرغامي على الرضوخ‪,‬‬
‫ولكني كنت أعتقد أن ذلك شكل من أعمال السخرة‪ ،‬يغدو فضيعا ً إذا كان في‬
‫مجال العمل الفكري والثقافي أو السياسي‪.‬‬
‫ـ يقال أنك تكتب كثيراً‪ ،‬فماذا تكتب ؟ وكنت قد أبقيت في السجن على بعض‬
‫األعمال‪ ،‬أو باألحرى مسودات لها‪ ،‬من تلك التي ال تشكل هاجساً‪ ،‬مثل‬
‫تراجم لروايات وكتب لتعليم اللغة األلمانية‪.‬‬
‫ـ ماذا تفعل لو أطلق سراحك؟ وكان هذا السؤال ينطوي على احتماالت‬
‫عديدة‪ ،‬وكانت إجابتي عنها حيادية‪ :‬كنت مريضا ً والعالج بالنسبة لي هو‬

‫‪56‬‬
‫الموضوع األكثر أهمية‪ ،‬وإجابات عامة ال يفهم منها شيء‪.‬‬
‫بين هذه األسئلة الجدية المهمة‪ ،‬عشرات األسئلة غير المهمة‪ ،‬بل كانت‬
‫لالستدراج‪ ،‬وتدور حول موضوعات كثيرة‪ ،‬منها سياسية ومنها ثقافية‪.‬‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫كانت أوضاع السجن من ناحية االكتضاض‪ ،‬قضية قابلة للتفاوت بصورة‬


‫مذهلة‪ ،‬فبعد كل عفو يتقلص أعداد النزالء‪ ،‬بل ويكاد أن يفرغ السجن بعد ما‬
‫كان يضج حتى األمس القريب بضجيج أعداد هائلة من الرجال‪ .‬فعلى سبيل‬
‫المثال‪ ،‬فإن عفو عام ‪ 1988‬الذي شمل حوالي ‪ 2600‬منهم ‪ 1500‬من‬
‫األكراد‪ ،‬لم يبق إال على ‪ 601‬سجين‪ ،‬باإلضافة إلى حوالي ‪ 1400‬نزيل في‬
‫األقسام المغلقة‪ ،‬وهؤالء كانوا جلهم من التيارات الدينية‪ ،‬حزب الدعوة في‬
‫الغالب‪ ،‬كانوا يعيشون في ظروف بائسة‪ ،‬ومعزولين عن سائر السجن حتى‬
‫عام ‪.1991‬‬
‫ومرة أخرى حدث مثل هذا األمر في عفو ‪ 1991‬حيث أطلق سراح حوالي‬
‫‪ 6000‬نزيل‪ ،‬ولم يبق في قسم األحكام الخاصة بالذات إال حوالي ‪120‬‬
‫نزيالً‪ ،‬واألكثر من ذلك كان في عام‪ ،1995‬فبعد أن كانت األقسام تضيق‬
‫بالنزالء‪ ،‬لم يبقى سوى ‪ 98‬منهم‪ ،‬ترى أي وحشة وكآبة تفرض نفسها على‬
‫من استثناهم العفو‪ ،‬تلك مشاعر رهيبة ال يمكن وصفها بسهولة‪ ،‬كما ال يمكن‬
‫التعبير عنها‪ ،‬وفيما كانت األقسام تضيق بالنزالء‪ ،‬وإذا بعد ساعات تصبح‬

‫‪57‬‬
‫فارغة إال من بعض الرجال الذين يتعين عليهم تحمل مثل هذه التجربة‬
‫النادرة‪ .‬فقد حدث عام ‪ 1988‬أن أفرغت القاعة التي كنت فيها ولم يبقَ فيها‬
‫سوى ثالثة أفراد‪ ،‬وتكرر األمر عام ‪ 1991‬وعام ‪ 1995‬حيث أفرغ السجن‬
‫تقريباً‪ ،‬وبينما كانت القاعات والساحات ال توفر حتى إمكانية المشي فيها‪ ،‬قد‬
‫أصبحت فارغة وقد غادرها الجميع ولم يبقَ إال القليل من الرجال الذين يتحتم‬
‫عليهم مواجهة هذا الثقل النفسي الهائل‪ ،‬وبعضهم لعدة مرات!‬
‫ترى ما الذي يعين الرجل على احتمال ثقل تجربة كهذه‪ ،‬أو عدة تجارب‬
‫منها؟‬
‫ابتدا ًء‪ ،‬فإن ذلك يحدث لدى الكثيرين ضربا ً من االهتزاز‪ ،‬وآلخرين استسالما ً‬
‫هادئا ً للقدر‪ ،‬وهناك من تنهض فيه‪ ،‬في تلك الساعات العصيبة الصعبة‪،‬‬
‫مقومات الرجولة‪ ،‬وإظهار أقصى قدر من ضبط النفس في احتمال ذلك األلم‪،‬‬
‫والبد من االعتراف أن القلة القليلة كانت على هذا المستوى‪ ،‬بسبب ارتفاع‬
‫في مستوى الوعي السياسي‪ ،‬أو اإليمان التام بالدور الذي يقوم به مكرها ً أو‬
‫مختارا ً‪.‬‬
‫كنت أحدث الكثير من الشباب ممن ال انتماء حزبيا ً له‪ ،‬وليست هناك قضية‬
‫واضحة يناضل من أجلها‪ ،‬وهو في الحقيقة يدفع ثمن باهضا ً لخطأ ال يستحق‬
‫هذه العقوبة‪ ،‬كنت أقول لهم‪ ،‬إنها تضحية للوطن … قد تبدو هذه الكلمة‬
‫مثالية جداً‪ ،‬في ظروف واقعية جداً‪ ،‬وقاسية جداً‪ .‬نعم إنها تضحية غالية لكننا‬
‫بوجودنا في هذا المكان والبد من إيقاف اعتبار أن المواطن وسلطات الدولة‪،‬‬

‫‪58‬‬
‫يناصب كل منهما اآلخر العداء والكراهية والشكوك‪ .‬والبد من اإلصالح‬
‫السياسي‪ .‬واألمر يتعدى السلطة التي زالت في ‪ 9‬نيسان ‪ 2003/‬وإنما أساسا ً‬
‫في تعاطي الدولة في الشرق‪ ،‬كل الشرق مع مواطنيها!‬
‫نعم‪ ،‬أنا أدرك أيما أدراك‪ ،‬أن هذه الدرجة من الوعي القانوني ‪ /‬الدستوري‪،‬‬
‫والسياسي ‪ /‬الثقافي لدى المواطن‪ ،‬أمر ليس من السهولة إدراكه‪ ،‬وبالمقابل‬
‫فإن تطور أنظمة الحكم باتجاه الرقي والتسامي هو اآلخر أمر معقد‪ ،‬وال‬
‫يصار اختياره أو الوصول إليه أمرا ً مزاجياً‪ ،‬وإن وقتا ً طويالً سوف يمضي‬
‫قبل الوصول إلى آمالنا المنشودة في أنظمة ومواطنين‪ ،‬ليس في العراق‬
‫فحسب‪ ،‬بل في عموم الشرق‪.‬‬
‫فالقمع والقهر واالستبداد واالستعباد والظلم‪ ،‬شأن يعيش معنا ونحن نمارسه‬
‫بوعي أو بدون وعي‪ ،‬ألم يقل شاعرنا الكبير أبو الطيب المتنبي‪:‬‬
‫الظلم من شيم النفوس وإن تجد ذا عفة فلعلة ال يظلم‬
‫والظلم والظالمون وحكم الطغيان واالستبداد قضية لها جذورها االجتماعية‬
‫واالقتصادية والثقافية‪ ،‬وفي دواخل كل شرقي (بهذه النسبة أو تلك) ترقد‬
‫كوامن االستبداد‪ ،‬لن تجد حدودا ً لها حتى يحدها سلطان أعلى … فالشرقي‬
‫يولد وعليه أن يقدم آيات ‪ :‬االحترام ـ الطاعة ـ الوالء ـ الخوف واالستسالم‪،‬‬
‫من الوالد‪ ،‬من العم‪ ،‬من األخ األكبر‪،‬من شيخ العشيرة‪ ،‬من اختيارية المحلة‪،‬‬
‫أو المنطقة‪ ،‬من الشرطة واألمن والمخابرات والدولة ورئيس الدولة‪،‬‬
‫وأقارب رئيس الدولة‪ ،‬من القوانين المكتوبة وغير المكتوبة ومن تلك‬

‫‪59‬‬
‫الخاضعة للتأويل‪ ،‬وبعبارة أخيرة عليه أن يخاف وأن يخاف كثيرا ً و إال فإنه‬
‫سيكون من الضائعين‪.‬‬

‫***‬

‫وتوزيع النزالء على الفئات العمرية كان أكثر وضوحاً‪ .‬ومع أن السجن قد‬
‫شهد حاالت نادرة لنزالء تقل أعمارهم عن ‪ 18‬سنة‪( .‬أطلعت شخصيا ً على‬
‫ثالث أو أربع حاالت)‪ ،‬لكني علمت أن محكمة الثورة كانت تحكم على‬
‫أحداث (في قضايا سياسية) ويودعون في قسم إصالحية األحداث‪ ،‬وكذلك‬
‫على نسوة يودعن في سجن النساء‪ ،‬كما أطلعت على وجود أحداث في قسم‬
‫اإلعدام(حالتان أو ثالثة‪ ،‬قدر الطب العدلي أعمارهم على أنهم بالغين)‪ ،‬كما‬
‫تأكدت من تنفيذ أحكام اإلعدام بنساء (في قضايا سياسية)‪ ،‬بتهمة االنتماء إلى‬
‫حزب البعث العربي االشتراكي والحزب الشيوعي ومن التيار الديني‪.‬‬
‫مثلت الفئات العمرية بين ‪ 20 – 40‬عاما ً األكثر شيوعا ً بين النزالء‪ ،‬وما بعد‬
‫هذا الحد‪ ،‬يبدأ الخط البياني بالهبوط حتى يصل إلى حد ‪ 60‬عاماً‪ ،‬لتصبح‬
‫النسبة أقل فيما هو بعد ‪ 60‬عاماَ‪ .‬وكان هناك شيوخ ومسنين‪ ،‬ولكن أعدادهم‬
‫ضئيلة قياسا ً إلى أعمار الشباب‪.‬‬

‫***‬

‫‪60‬‬
‫أما لجهة توزيع النزالء على المهن ‪ :‬مثل الكسبة والفالحون‪ ،‬الفئة األكثر‬
‫شيوعا ً بين النزالء‪ ،‬يليهم الطلبة والموظفون والعسكريون‪ ،‬أما جرد‬
‫المستويات الدراسية‪ ،‬فقد كنت على إطالع شخصي بهذا الموضوع‪ ،‬حيث‬
‫كنت ضمن المساعي التي يبذلها مجموعة من النزالء في تحسين ظروف‬
‫السجن‪ ،‬كنا نركز على موضوع إتاحة المجال للنزالء بمتابعة دراستهم‪،‬‬
‫االبتدائية والمتوسطة والثانوية على األقل‪ ،‬وقد بذلنا جهدا ً كبيرا ً بإقناع اإلدارة‬
‫بإتاحة هذه الفرصة‪ ،‬إلى جانب فتح دورات محو األمية‪ .‬ومن الغرابة‪ ،‬أن‬
‫يتواجد عدد ال بأس به من األميين بين النزالء‪ .‬بيد أن العدد األكبر كان من‬
‫ف ئة الدراسة االبتدائية‪ ،‬والقليل في المتوسطة‪ ،‬ثم األقل في الثانوية‪ ،‬أما على‬
‫مستوى التعليم الجامعي‪ ،‬فقد كان العدد ضئيالً‪ .‬وبهذا المعنى كانت نسبة‬
‫خريجي الجامعات والمعاهد بسيطة جداً‪ ،‬وإذا أضيف إليهم خريجي الكليات‬
‫العسكرية ( العسكرية ـ الطيران ـ الشرطة ـ البحرية)‪ ،‬فربما يصبح العدد‬
‫بنسبة ‪ ،% 6 - 8‬أما خريجي الدراسات العليا‪ ،‬سجلت أسماء ‪ 20‬ممن‬
‫يحملون شهادة الدكتوراه خالل مدة ‪ 16‬عاما ً بما في ذلك من مكث لفترة‬
‫قصيرة جدا ً ( حوالي السنة الواحدة ) ولربما نفس العدد من خريجي‬
‫الماجستير‪ ،‬بما في ذلك حملة شهادة األركان العسكرية التي تمت معادلتها‬
‫رسميا ً بالماجستير‪ ،‬وال يتجاوز عددهم العشرة ضباط‪.‬‬
‫من الطريف وما يشيع المرح‪ ،‬اإلشارة إليه في بحر المرارة هذه‪ ،‬ذلك أن‬

‫‪61‬‬
‫السجن قد شهد العديد من الحاالت ‪ ،‬يدعي فيها بعض النزالء حصولهم على‬
‫شهادات جامعية أو حتى على درجة الماجستير‪ ،‬وقد شهدت بنفسي نزيالً‬
‫يدعي أنه خريج كلية الطب في جامعة اإلسكندرية ! ثم تبين انه سائق سيارة‬
‫إسعاف ليس إال ! وقد يتحول المرح إلى ترح عندما تعلم أن الرجل كان‬
‫يحفظ أسماء الكثير من األدوية واألمراض باللغة اإلنكليزية ويجهد نفسه في‬
‫تلفظها بإنكليزية صحيحة!‬
‫ثم تعرفت على شخص‪ ،‬لعب دور األستاذ ببراعة‪ ،‬وأعترف بأسف أنه‬
‫استطاع أن يغشني لفترة‪ ،‬ربما ألشهر‪ ،‬مع أني كنت أشك في األمر‪ ،‬فقد‬
‫ادعى أنه قد أنهى الماجستير في االقتصاد‪ ،‬ولكن لعبته لم تستغرق وقتا ً‬
‫طويالً(معي على األقل)فاكتشفت أنه يجهل بصورة تامة تقنيات العمل‬
‫األكاديمي العلمي والبحثي‪ ،‬وأخيرا ً هتك سره أحد أصدقائه المقربين‪،‬‬
‫والمدهش حقا ً أنني شاهدته مرة على شاشة إحدى الفضائيات يقدم نفسه على‬
‫مدرس في كلية الزراعة بشهادة الماجستير‪،‬‬
‫ً‬ ‫أنه دكتور ! وآخر يدعي بأنه‬
‫ويتقن دور األستاذ ويتحدث برفع الكلفة عن زمالئه األساتذة ! حتى اكتشفنا‬
‫أنه سائق لوري في كلية الزراعة وآخر يدعي حصوله على الماجستير في‬
‫القانون‪ ،‬ولكن معارفه يؤكدون أن ليس أكثر من طالب في كلية القانون في‬
‫أفضل الحاالت‪.‬‬
‫بالطبع كان السجن يضم أصنافا ً عديدة من الرجال‪ ،‬كما كان هناك أصناف‬
‫يمكن أن توضع على قائمة المحتالين‪ ،‬ولكن كان هناك بالمقابل شخصيات‬

‫‪62‬‬
‫رائعة‪ ،‬وليس مهما ً على اإلطالق المستوى الدراسي والثقافي‪ ،‬وبعضهم صار‬
‫لنا كاألخ والصديق الصدوق‪ ،‬رغم ظروف السجن القاهرة التي كانت تهشم‬
‫شخصية الفرد وتستصغره‪ ،‬فكان البد أن تكون هناك شخصيات تتهشم‪،‬‬
‫وتنساق في االنحطاط بصفة عامة‪ ،‬ولكن وبكل أسف البد من اإلقرار أن‬
‫الرجال الذين كانوا يتجاوزون أوضاعهم‪ ،‬ويواصلون بناء أنفسهم ويساعدون‬
‫غيرهم‪ ،‬كان ضئيالً‪.‬‬

‫***‬

‫كانت الغالبية العظمى من السجناء من المسلمين‪ ،‬ولكن مع وجود عناصر من‬


‫الديانات األخرى‪ ،‬في المقدمة منهم أبناء الطائفة اليزيدية حيث كان متوسط‬
‫تواجدهم في السجن ‪ 25– 50‬نزيل‪ ،‬ثم أبناء الديانة المسيحية‪ ،‬ولم يكن‬
‫يتجاوز عددهم ‪ 5– 10‬نزيل‪ ،‬وربما في أقصى الحاالت أكثر من ذلك بقليل‪،‬‬
‫والصابئة ‪ 1-2‬نزيل‪.‬‬

‫***‬

‫أما توزيع النزالء بحسب القوميات‪ ،‬العربية بأغلـبية تبلغ ربـما نسـبة ‪– 75‬‬
‫‪ %65‬واألكـراد ‪ %20– 25‬والتركمان بنسبة قد تصل إلى ‪ ،%5‬أما توزيع‬

‫‪63‬‬
‫النزالء على المحافظات‪ ،‬فقد كان السجن يضم نزالء من كافة المحافظات‪،‬‬
‫ولكن كثافة التواجد من كل محتفظة كان يخضع لعدة عوامل منها‪:‬‬
‫ـ سعة المحافظة سكانيا ً‪.‬‬
‫ـ طابع الموقف السياسي في تلك المحافظة‪.‬‬
‫ومن الضروري هنا اإلشارة ‪ ،‬إلى أن الموقف السياسي في المحافظات‬
‫الشمالية الكردية كان يؤدي إلى تواجد مستمر من النزالء‪ ،‬وكذلك المحافظات‬
‫األخرى سواء في الشمال أو الوسط أو الجنوب بمستويات متفاوتة‪ ،‬البصرة‪،‬‬
‫ثم الناصرية في المقدمة وكذلك محافظات‪ ،‬الموصل وكركوك وصالح‬
‫الدين‪ ،‬وبعقوبة والرمادي‪.‬‬

‫***‬

‫كنت قد مررت بظروف توقيف واعتقال وسجن لمرات عديدة‪ ،‬منها حالتان‬
‫استغرق فيها االعتقال حوالي السنة‪ :‬األولى‪ ،‬عام ‪ ،1962‬وذلك بتهمة إقامة‬
‫تنظيم سري تابع لحزب البعث العربي االشتراكي‪ ،‬كنت خاللها طالبا ً في كلية‬
‫الشرطة‪ ،‬أحلنا على أثرها إلى المحكمة العسكرية العرفية الثانية‪ .‬والمرة‬
‫الثانية كانت عام ‪ 1964‬وكنت ضابطا ً في قوات الحدود برتبة مالزم‪ ،‬وذلك‬
‫بتهمة مقاومة السلطات‪ ،‬وحكمت علي المحكمة العسكرية العرفية األولى‬
‫بالحبس لمدة عامين‪ ،‬ثم عدل الحكم إلى اإلفراج‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫وكنت قد أحلت غيابيا ً إلى محكمة الشرطة الدائمية التي حكمت علي غيابيا ً‬
‫بالحبس لمدة سنتين لهروبي من الخدمة‪ ،‬وأحلت كذلك إلى محكمة الثورة عام‬
‫‪ 1972‬التي حكمت علي باإلعدام غيابيا ً بتهمة االشتراك بإقامة تنظيمات‬
‫مسلحة‪ ،‬مع أني في الواقع لم أكن على صلة بهذه التنظيمات أو عناصرها‪.‬‬
‫أنني آسف للقول‪ ،‬إن مستوى السجين السياسي قد شهد تراجعا ً ملحوظا ً في‬
‫مستوى الوعي السياسي‪ .‬وكان يؤدي إلى خروق أمنية مستمرة للتنظيمات‪،‬‬
‫ولحياتنا في السجن‪ ،‬بسبب الكسب السهل لسلطات األمن لعناصر تعمل‬
‫لصالحها‪ .‬بينما كانت السجون في الستينات عبارة عن مدرسة للمناضلين‪،‬‬
‫حيث كان السجين أو المعتقل السياسي يتمتع بمستوى عال من الوعي‬
‫السياسي والثقافة العامة‪ .‬وقد تشكل الوعي السياسي والثقافة الحزبية لدى‬
‫العشرات من المناضلين في السجون‪ .‬بل إن بعض مشاهير القيادات الحزبية‬
‫العراقية‪ ،‬كانوا من خريجي السجون‪ ،‬في حين يؤسفني القول أن السجون في‬
‫العراق خالل الثمانينات والتسعينات قد شهدت تراجعا ً في هذا المجال‪.‬‬
‫ولربما هناك بضعة مالحظات عيانية‪ ،‬أو تلك التي اطلعنا بحكم مكوثنا زمنا ً‬
‫طويالً في السجن‪ ،‬وفي مختلف الوظائف التي اضطلعنا بها‪ ،‬والنشاطات‬
‫الوظيفية والسياسية‪ ،‬الحزبية والمهنية‪ ،‬تجعلني على إطالع بتلكم المالحظات‬
‫‪:‬‬
‫شاع الكثير في العراق‪ ،‬عن تعدد السجون‪ ،‬وفي الواقع فإن أعداد تلك‬
‫السجون معروفة للرأي العام‪ ،‬فهناك ما يطلق عليه"المديرية العامة لإلصالح‬

‫‪65‬‬
‫االجتماعي" ‪ ،‬وهي مديرية السجون العامة سابقاً‪ ،‬ويتبع هذه المؤسسة التي‬
‫تتخذ من بغداد ـ أبو غريب مقرا ً لها‪ ،‬عددا ً من السجون في بغداد ‪ ،‬وفي‬
‫بعض المحافظات‪:‬‬
‫سجن بغداد المركزي‪ ،‬الذي أنتقل إلى أبو غريب فصار يعرف باسم سجن‬
‫أبو غريب الذي هو مجموعة من األقسام (السجون) كما نوهنا في مطلع‬
‫الكتاب‪ ،‬وعدا هذا المجمع‪ ،‬هناك‪:‬‬
‫*سجن النساء ‪ /‬بغداد ‪ ،‬منطقة الرشاد‪.‬‬
‫*سجن األحداث (للمحكومين أعمارهم أقل من ‪ 18‬سنه)‪ ،‬بغداد ‪ /‬منطقة‬
‫الرشاد‪.‬‬
‫*مديرية سجن الموصل‪ ،‬وهو ثاني أكبر سجن في العراق‪ ،‬وهو السجن‬
‫الوحيد الذي يماثل سجن أبو غريب بأقسامه المتنوعة‪.‬‬
‫*سجن بعقوبة‪،‬في محافظة ديالى‪ ،‬وهو سجن قديم وصغير وال يتسع إال‬
‫إلعداد بسيطة من القضايا الجنائية‪.‬‬
‫*سجن الحله‪ ،‬وهو سجن صغير للقضايا الجنائية‪.‬‬
‫*سجن البصرة‪ ،‬وهو سجن قديم للقضايا الجنائية‪.‬‬
‫*سجن كركوك‪ ،‬سجن قديم ألغي مؤخرا ً لتقادمه ورداءة أوضاعه وصغر‬
‫حجمه‪.‬‬
‫لم يطرق سمعي وجود سجون رسمية غير هذه السجون‪ ،‬وحتى قسم األحكام‬
‫الخاصة في الموصل‪ ،‬لم يودع فيه سجناء سياسيين إال لفترة وجيزة(سنة‬

‫‪66‬‬
‫ونصف) بين ‪ 1990 – 1992‬وبالتالي فأن السجناء السياسيين كانوا حصرا ً‬
‫في سجن أبو غريب (قسم األحكام الخاصة)‪.‬‬
‫هناك من النزالء من يتداول األخبار والشائعات‪ ،‬وال يفرقون بين الموقف‬
‫والمعتقل أو السجن‪.‬ولكن من يعرف القانون‪ ،‬يعرف طبعا ً الفرق بين هذه‬
‫المسميات‪ .‬فالموقف هو مكان إيداع المتهمين خالل التحقيق وحتى المحاكمة‪،‬‬
‫والسجين هو من يصدر بحقه قرار بالحبس من محكمة‪ ،‬سواء كانت مدنية أو‬
‫عسكرية أو جنائية‪ ،‬أو محكمة خاصة‪ .‬أما المعتقل‪ ،‬فهو مكان إيداع من‬
‫يعتقل بموجب أوامر اعتقال آلجال محددة أو غير محددة دون اإلحالة إلى‬
‫المحاكم‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬فإن كافة الذين صدرت بحقهم أحكام إعدام‪ ،‬نفذت شنقا ً‬
‫في سجن أبو غريب(قسم األحكام الطويلة)‪ ،‬عدا ثالث حاالت تحديدا ً‪:‬‬
‫ـ مجموعة من ضباط الحرس الجمهوري ومن قطعات الجيش‪ ،‬وعددهم ‪15‬‬
‫ضابطا ً يقودهم الرائد سطم الجبوري‪ ،‬أعدموا رميا بالرصاص في إحدى‬
‫أرجاء سجن أبو غريب‪.‬‬
‫ـ الشاب عودة ديوان والي‪ ،‬من محافظة العمارة‪ ،‬وكان هذا الشاب رحمه هللا‪،‬‬
‫قد تناول أقطاب النظام بالشتائم‪ ،‬وقد تم تنفيذ اإلعدام رميا ً بالرصاص بعد‬
‫محكمة صورية في ساحة قسم األحكام الخاصة أمام أنظار الكثير من‬
‫النزالء‪.‬‬
‫ـ إعدام الفريق الركن كامل ساجت‪ ،‬وهو من خيرة ضباط الجيش العراقي‬

‫‪67‬‬
‫وأبطاله‪ .‬والغريب في إعدام هذا الضابط‪ ،‬أنه جاء إلى السجن يحمل مظروفا ً‬
‫إلى مدير سجن أبو غريب‪ ،‬وكان ما يزال بإمرة العقيد حسن العامري‪ ،‬الذي‬
‫فوجئ عندما فتح المظروف أنه يحتم على مدير سجن أبو غريب إعدام هذا‬
‫الضابط شنقا ً وعلى الفور‪ ،‬فحاول المدير وهو ربما يعلم أن ال جدوى من‬
‫محاولته‪ ،‬االتصال بالجهات العليا‪ ،‬بأن الوقت متأخر (حوالي السادسة) وأن‬
‫الموظف المكلف باإلعدام غير موجود‪ ،‬فقيل له أال يحمل أحدكم مسدساً؟ فلما‬
‫رد باإليجاب طبعا‪ ،‬فقالوا له ‪ :‬إذن أطلق رصاصة على رأس هذا الضابط‬
‫وأغلقوا الهاتف بوجهه‪.‬‬
‫وفيما عدا ذلك‪ ،‬فإن المحاكم العسكرية كانت تصدر أحكاما ً بالسجن ويودع‬
‫المحكومون في السجون اآلنفة الذكر‪ ،‬جنائية منها على وجه الدقة أو في‬
‫قضايا الهروب أو اإلعدام رميا ً بالرصاص‪ ،‬فكانوا يودعون في سجن‬
‫عسكري ثم ينفذ فيهم الحكم في ميادين الرمي‪ .‬وكان هناك ميدان الرمي‬
‫الشهير بسمايه (جنوب بغداد باتجاه الكوت) وأحيانا ً كان يتم التنفيذ أمام‬
‫الجماهير للحد من ظاهرة الهروب‪ ،‬وكذلك في المحافظات‪ ،‬جرت مثل هذه‬
‫العروض المؤسفة‪.‬‬
‫وقد تم تنفيذ أحكام اإلعدام شنقا ً في سجن أبو غريب‪ ،‬بحق الكثير وفق‬
‫االتجاهات التي نوهت عنها‪ ،‬وأركز في اآلن على قسم األحكام الخاصة‪،‬‬
‫وكان المحكومون ال يقابلون عوائلهم مطلقا ً بما في ذلك يوم التنفيذ‪ ،‬على‬
‫عكس ما كان يجري مع المحكومين باإلعدام في القضايا الجنائية الذين‬

‫‪68‬‬
‫يقابلون ذويهم أسبوعياً‪ ،‬وكذلك يوم تنفيذ حكم اإلعدام‪.‬‬
‫وقد شهدت قاعة اإلعدام‪ ،‬تنفيذ الحكم في شخصيات سياسية من التيارات‬
‫المختلفة‪ ،‬ومنهم مناضلين وقادة عسكريين وقادة إداريين‪ ،‬فهنا أعدم عشرات‬
‫من مناضلي حزب البعث العربي االشتراكي(اليساري) وشيوعيين وأكراد‬
‫وتيارات دينية من الطائفتين‪ ،‬ومن أدين بقضايا التجسس ظلما وعدالً‪ .‬ومن‬
‫هؤالء الجاسوس البريطاني الشهير بازوفت‪ .‬وكان فرزاد بازوفت وهذا اسمه‬
‫الكامل على ما أذكر‪ ،‬إيرانيا ً هجر وطنه حالما ً باألمان والسعادة والمال‬
‫الوفير‪ ،‬لكنه تورط في قضية سرقة أو احتيال‪ ،‬فألقت الشرطة البريطانية‬
‫القبض عليه‪ .‬وهنا‪ ،‬وكما يعتقد‪ ،‬تورط في الدخول في عالم األسرار‪ ،‬وربما‬
‫أراد إنقاذ نفسه‪ ،‬فحق عليه القول ‪ :‬احتمى من الرمضاء بالنار‪ ،‬ثم عمل‬
‫لصالح الموساد الصهيوني‪ ،‬وتحول بين ليلة وضحاها إلى صحفي يجوب‬
‫أقطار عديدة يبحث عن طرائد‪ ،‬يكتب عنها أو يعمل على اصطيادها‪ ،‬وبهذا‬
‫ذهب إلى تونس وحام حول مقرات القيادات الفلسطينية‪ ،‬أثار شكوك األمن‬
‫التونسي‪ ،‬فأبعدوه‪ .‬وقال له أحد ضباط األمن التونسيين ‪ :‬ال أملك دليالً‬
‫ضدك‪ ،‬ولكنك تلعب بالنار‪.‬‬
‫وحقا وقع بازوفت في الحفرة‪ ،‬وتفاصيل قضيته معروفة‪ ،‬وكان في قاطع‬
‫اإلعدام هادئا ً وعلى ثقة أكيدة أن بريطانيا ستعمل على إنقاذه‪ ،‬حتى بعد أن‬
‫صدر حكم اإلعدام‪ ،‬ثم قيض لهذا الرجل وهو المقدم الطيار "دزءي" أن‬
‫يخفض إلى المؤبد‪ ،‬حدثني قائالً‪ :‬أن بازوفت كان واثقا ً من نجاته‪ ،‬وعندما‬

‫‪69‬‬
‫شاهد من ثقب صغير في الشباك(كانت الشبابيك في قسم اإلعدام مغطاة‬
‫بألواح من الصفيح)‪ ،‬شاهد سيارة القنصل البريطاني تقترب من قسم اإلعدام‪،‬‬
‫ابتسم ابتسامة عريضة‪ ،‬وتفوه ببعض العبارات التي تدل على معنى ‪ :‬ها هم‬
‫أخيرا ً جاؤوا‪ ،‬وعندما حضر المأمور القتياده للتنفيذ خرج ضاحكاً‪ ،‬ولكنه علم‬
‫بعد لحظات أنه ذاهب للموت‪ ،‬بدت عليه عالمات االنهيار‪.‬‬
‫وهنا أيضا ً استشهد البطل القائد محمد عبد الطائي‪ ،‬الذي حدثني من كان معه‬
‫في زنزانة اإلعدام‪ ،‬وقيض له البقاء حتى عفو ‪ ،1995‬وخفض إلى الحبس‬
‫المؤبد‪ ،‬أن الشهيد البطل مضى إلى الشهادة بشجاعة ليست غريبة عنه‪،‬‬
‫متحديا ً المشنقة والجالد‪ ،‬وهنا أيضا ً استشهد رفيقي وأخي الرائد الطيار عبد‬
‫الحسين عبد األمير‪ ،‬وأخوان وأصدقاء وقادة بواسل وعراقيون شرفاء …‪ .‬يا‬
‫لألسف … يا لألسف!‬
‫واليوم …وبعد كل ما حدث وجرى‪ ،‬وما تحملناه من الخسائر في األرواح‬
‫والممتلكات واألصدقاء والرفاق‪ ،‬ومثل ما جرى لبالدنا من تخريب سواء‬
‫على أيدينا أو على أيدي أعدائنا‪ ،‬نريد أن يكف مسلسل الرعب‪ ،‬كل ربح هو‬
‫مزعوم وكل خسارة ال تعوض‪ ،‬وكل ذلك مؤلم‪ ،‬مؤلم حتى العظم‪ ،‬وليس‬
‫بوسعي صياغة جملة تصف هذا األلم … لست في وارد أن أتهجم على‬
‫جهة‪ ،‬ولست غاضبا ً إلى درجة الجنون … إني أحاول أن ألملم الجراح !…‬
‫أداويها فحسب‪ ،‬أقبل ببعض الربح عوضا ً عن الخسارة التامة‪.‬‬
‫وعندما أستعرض اليوم وجوه العشرات بل المئات من الذين أعدموا‪ ،‬أو‬

‫‪70‬‬
‫اغتيلوا‪ ،‬أو الذين أمضوا زهرة شبابهم في السجون وخسروا أعمارهم ‪،‬‬
‫ومنهم أنا … ترى ألم تكن هناك وسيلة نقيم فيها تفاهما ً عوضا ً عن الصراع‬
‫الدامي الوحشي؟ ترى لماذا نحن قادرون على التفاهم حتى مع األعداء ؟‬
‫ولكننا غير قادرين على التفاهم فيما بيننا ؟ لماذا نضع خطوطا ً دموية سوداء‬
‫بين بعضنا في حين ال نقيم إال خطوطا ً وردية أو فستقية‪ ،‬أو ربما وهمية‪،‬‬
‫وأحيانا ً ليست هناك خطوط البتة مع أجانب نعلم علم اليقين‪ ،‬أنهم ال يريدون‬
‫الخير لنا كعراقيين ‪..‬؟‬

‫***‬

‫لعبة الكريات الحديدية‬

‫تتألف السنة من ‪ 12‬شهراَ‪ ،‬والشهر الواحد من ‪30‬ـ‪ 31‬يوما َ عدا شهر شباط‬
‫الذي يتألف من ‪ 28‬يوما ً عادة إال إذا كان حظك رائعا ً مثل حظي‪ ،‬فتزيد يوما ً‬
‫واحدا ً‬

‫لتصبح ‪ 29‬يوما ً ولتصبح السنة آنذاك سنة كبيسة ‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫ثم أن الشهر الواحد يتألف‪ ،‬أكثر من أربعة أسابيع واألسبوع يتألف حتما ً من‬
‫سبعة أيام واليوم الواحد من ‪ 24‬ساعة‪ ،‬والساعة من ‪ 60‬دقيقة والدقيقة من‬
‫‪ 60‬ثانية‪ ،‬وبذلك تصبح أنت بلحمك الغض أمام آلة الزمن المعقدة التي تتألف‬
‫من سنوات وأشهر وأسابيع وأيام وساعات‪ ،‬ودقائق وثواني‪ ،‬ريشة في مهب‬
‫الريح‪.‬‬

‫وللزمن سطوته وسلطته‪ ،‬فال تستطيع استعادة الزمن الضائع‪ ،‬أو تجميده‪ ،‬أو‬
‫تأخيره‪ ،‬ولذلك عليك أن تكون دائما ً في أتم اللياقة البدنية والفكرية‪ ،‬لكي ال‬
‫تتأخر حضورا ً أو فكراً‪.‬‬

‫ولكن من أنت…؟ أنت ذلك المخلوق الذي ليس بوسعه أن يعطل قدوم أي‬
‫لحظة وال استعجالها‬

‫وبعبارة أخرى‪ ،‬ليس عليك سوى االنتظار والقبول بمعادالت األمر الواقع‬
‫سواء كانت قاسية أم ال‪ .‬ولكن لماذا ال …؟ أنها دائما ً قاسية بدليل أنها ال‬
‫تستأذنك‪ ،‬بل أن األحداث والوقائع تحصل في كثير من الحاالت دون تدخل‬
‫مباشر منك‪ ،‬وقد يكون في حاالت نادرة أو بالصدفة لصالحك أو أنك قد‬
‫تدخلت بهذه الدرجة أو تلك في صنع األحداث‪ ،‬أو فيما يؤدي إليها‪ .‬ولكن في‬
‫معظم الحاالت فإن الرياح تأتي بما التشتهي السفن‪ .‬فما عليك سوى االنتظار‬
‫وإبداء حسن وأدب االستسالم ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫أما إذا كان حظك رائعاً‪ ( ،‬وأنا سأفترض ذلك لكي نمضي في القصة قدما ً )‬
‫وتحتم عليك أن‬

‫تصارع الفوالذ والزمن لمدة ‪ 20‬عاماً‪ ،‬فإنك بعد تأمل ستجد نفسك أمام آلة‬
‫رهيبة من األرقام المخيفة‪ ،‬وهي عبارة عن معطيات مجردة ال جدال في‬
‫دقتها وواقعيتها‪ ،‬عليك أن تتحملها بأي وسيلة كانت‪ ،‬بل إن مقدرتك‬
‫وشجاعتك تعتمدان على تحمل معطيات هذه اآللة‪ ،‬فأنت أمام عشرين عاما ً‬
‫من السجن‪ ،‬قضت فيها السلطات بمصادرتك ألنك مصاب بعمى األلوان‪ ،‬أو‬
‫ألنك دسست أنفك فيما ال يعنيك‪ ،‬أو ربما ألنك لست بمستوى الذكاء المطلوب‬
‫…تصور المطلوب …!‬

‫والعشرون عاما ً هذه تمثل ثلث عمر اإلنسان‪ ،‬وإذا اعتبرنا أن الثلث األول‬
‫من عمره‪ 20‬ـ‪1‬‬

‫هي سنوات تحضيرية ليس إال‪ ،‬وأنت لست مؤهالً فيها بعد على خوض‬
‫المعارك واتخاذ القرارات‪ ،‬بين طفولة ومراهقة أما العمر الحقيقي فإنه يبدأ‬
‫من سن العشرين فصاعداً‪ ،‬وهكذا فإن مدة الحكم ‪ 20‬سنة تمثل نصف العمر‬
‫على أساس أن اإلنسان يعتزل العمل ويحال على التقاعد بعد سن ‪ 60‬سنة‬
‫ويرتكز نشاطه الحقيقي على مراجعة األطباء والمستشفيات‪.‬‬

‫وإليك هذه التفاصيل المزعجة (أذكرها لك فقط لكي ال تؤخذ على حين غره)‬
‫‪ 20 :‬سنه=‪240‬‬

‫‪73‬‬
‫شهراً‪ ،‬وهي أيضا ً = ‪ 1020‬أسبوع‪ ،‬وتساوي‪ 7200 ،‬يوما ً ( تصور سبعة‬
‫أضعاف ألف ليله وليله )‪ ،‬و= ‪ 172,000‬ساعة و= ‪ 7,320,000‬دقيقه‪ ،‬و‬
‫‪ = 199,260,000‬ثانيه‪ ،‬ترى ما هي القيمة العملية الواقعية لهذه المعطيات‬
‫الفلكية…؟ ولماذا هذا الحساب الدقيق للسنوات واألشهر واألسابيع واأليام‬
‫…؟‬

‫سنوات…؟ عندما استولت عليك السلطات وصادرتك باسم القانون‪ ،‬قالوا لك‬
‫‪ :‬تفضل رجاء ‪،‬‬

‫مجرد خمس دقائق …! ولكن الحظ كم استغرقت هذه الدقائق الخمسة‪،‬‬


‫والمسألة هي في النسبية…!‬

‫كانت زوجة العالم الرياضي آينشتاين‪ ،‬تجهل ويا للغرابة مفهوم النظرية‬
‫النسبية‪ .‬وفي لحظة صفاء وهناء مع زوجها‪ ،‬قالت له ‪ :‬أليس من الغرابة أن‬
‫تكون هي زوجته‪ ،‬وأن ال تعرف النظرية النسبية‪ .‬التي وضع زوجها أسسها‬
‫‪..‬؟ ‪ ،‬وهنا احتار العالم الكبير‪ ،‬كيف له أن يوضح نظرية ال تخلو من التعقيد‪،‬‬
‫وبعد هنيهة من التفكير‪ ،‬قال لها وهو يحاول بالطبع أن يقرب األمر إلى‬
‫أقصى درجة من مستوى تفكيرها ومصالحها أيضاً…!‬

‫قال لها متسائالً إن كانت تذكر فترة خطوبتهما وكم كانت رائعة بالنسبة له‬
‫قائالً ‪ :‬كانت كل ساعة أقضيها معك تمضي بسرعة وكأنها دقيقة أو ثانية‬
‫واحدة‪ .‬ابتهجت زوجة العالم وأجابت مبتسمة‪ ،‬أن نعم‪ .‬فاستطرد آينشتاين‬

‫‪74‬‬
‫قائالً ‪ :‬ولكن بعد مرور سنوات طويلة على زواجنا أصبحت كل دقيقة‬
‫أقضيها معك‪ ،‬تعادل ساعة من الزمن‪ .‬ومع أن مالمح الفرح واالبتهاج‬
‫غادرت مالمح الزوجة‪ ،‬إال أنها استوعبت بدقة النظرية النسبية التي أجاد‬
‫زوجها العبقري في شرحها لها‪ .‬فزواجه منها قد ال يبدو لي من نتائجه‬
‫المنطقية كارثياً‪ ،‬لكنه قد تحول إلى ساعة زيتية ثقيلة‪ .‬إذن بماذا يمكننا أن‬
‫نشبه حياة السجن…؟‬

‫سأقول لك‪ ،‬قولة المجرب العارف الذي لم يفقد عقله‪ ،‬إذ أن هناك من يرى‬
‫الوهج الفتان‪ ،‬ولكنه يخسر عقله فال يقدر بعد ذلك على وصفه‪ .‬وهناك من‬
‫يقابل الوحش الخرافي‪ ،‬ولكنه سوف لن يقدر على وصفه‪ ،‬ألن الوحش‪،‬‬
‫ببساطه سوف يلتهمه ولن يبقي منه شيئاً‪ .‬ولكنني مازلت صافي الذهن متقد‬
‫الذاكرة‪ ،‬واضح البصر والبصيرة‪ ،‬رغم أنني أنهيت ثالثة أرباع المباراة (‪16‬‬
‫جولة ) ‪.‬‬

‫دعني أشرحها لك ‪ :‬السجن عبارة عن مطرقة هائلة يحملها وحش خرافي‪،‬‬


‫هل الحظت يوما ً في األخبار التلفازية صورة الكرة الحديدية الهائلة التي‬
‫تستخدم في هدم العمارات واألبنية‪ ،‬فتنهال هذه الكرة المطرقة على من‬
‫تصيبهم تهشيما ً وتحطيما ً وسحقاً‪ .‬وبقدر الصالبة (ذاتياً) في من تصيبهم‬
‫المطرقة لمدة معلومة من السنوات (أتحدث هنا عن عشرين عاماً) وهناك من‬
‫يتمكن من مقاومة المطرقة أو يتفاداها‪ ،‬ولكنه قد ال ينجح كليا ً في مساعيه‬

‫‪75‬‬
‫تلك‪ ،‬فيبدأ بالتداعي و التهشم بعد خمسة سنوات أو عشرة أو خمسة عشر‪،‬‬
‫فيخسر قدرا ً من تكوينه‪ ،‬كليا ً أو جزئيا ً وينتهي األمر به محطماً‪ ،‬كسيحا ً ‪.‬‬

‫موضوعياً‪ ،‬يعتمد األمر أين تقع ضربة المطرقة‪ ،‬فإن أصابت الضربة‬
‫األولى الرأس كان مستوى الضرر الذي لحق بالمصاب كبيرا ً (وبالطبع أني‬
‫أقصد بالرأس هنا ما أقصد …!!) أو‬

‫أن ال تصيب الضربات منك إال األطراف‪ ،‬األيدي واألرجل‪ ،‬فيكون مستوى‬
‫الضرر أقل‪ ،‬أو عندما ينجح الفرد بتغطية رأسه وأطرافه‪ ،‬فلن تكون تأثير‬
‫الضربات خطيرة‪ ،‬فتنتهي المباراة (وبحسب عدد الجوالت)‪ ،‬بأقل قدر من‬
‫األضرار‪.‬‬

‫لنفترض أن هناك لوحة سريالية من فكر سيغموند فرويد وريشة‬


‫سلفادوردالي‪ ( ،‬كان دالي متأثر فعالً بفرويد)‪ ،‬لنفترض أن الكرة الحديدية‬
‫تروح وتعود في حركة بندولية رتيبة‪ ،‬ولكنها قاتلة‪ ،‬تزيل فيها دائما ً الصف‬
‫األعلى من الجدار (طابوق أو حجارة أومن البلوك) ولكنك إذا كنت ذكبا ً أو‬
‫خبيثا ً (لسنا بصدد هذا الموضوع أالن)‪ ،‬عليك أن تدرس بدقة متناهية آلية‬
‫عمل وحركة الكرة الحديدية الهائلة‪ ،‬ثم تسجل حركتها بالثواني‪ ،‬أو ربما‬
‫بأجزاء الثواني وقد تبدو لك العملية ألول وهلة معقدة وصعبة‪ ،‬وقد ال تخلو‬
‫من الملل أيضاً‪ ،‬ولكن مالعمل…؟أنك مرغم على ذلك في إطار الحفاظ على‬
‫النفس والنوع أيضاً…! فهناك مخاطر االنقراض للحيوانات النادرة‪ ،‬أو تلك‬
‫التي لم يعد وجودها شائعاً…!‬
‫‪76‬‬
‫بعد أن تسجل بدقة‪ ،‬ومتناهية كما قلنا‪ ،‬ستجد الحقا ً وبعد أن تعتاد على هذه‬
‫العملية المعقدة حتى دون االعتماد على الحاسوب‪ ،‬إنك قادر على االنتصار‬
‫على هذه الكرة الحديدية الهائلة بسهولة ويا للعجب ‪ !..‬ولكن ليس قبل أن‬
‫تصبح في قمة لياقتك البدنية والفكرية‪ ،‬بحيث أنك ستجد أن من المشين‪ ،‬أو‬
‫المثير للسخرية أن تدع هذا الوحش ينتصر عليك‪ ،‬آلة حديدية تنتصر على‬
‫إنسان …؟‬

‫لنعد إلى الموضوع…ها أنت قد أعددت تصورا ً واضحاً‪ ،‬وجدول توقيتات‬


‫مفصلة عن الحركة البندولية القاتلة للكرة الحديدية‪ ،‬ووضوح الهدف ودقة‬
‫الخطة‪ .‬أمران في غاية األهمية لنجاح خطة اإلفالت من الوحش الحديدي‪،‬‬
‫وهدفك يتناقض مع هدف الكرة الحديدية‪ ،‬أنت تريد أن تمضي قدما ً في بناء‬
‫الجدار‪ ،‬فيما أن هدف الكرة هو تقويض الجدار حتى األساس‪ ،‬مبتدءا ً من‬
‫الصفوف العليا للجدار ( من رأس الجدار‪،‬حسب أرقى نظريات التقويض )‪،‬‬
‫وبأجراء عمليـة‬

‫حسابية (ربما تستغرق بعض الوقت) تحسب فيها الزمن الذي تقطعه الكرة‬
‫الحديدية من أعلى ذروة لها شماالً إلى أعلى ذروة لها جنوباً‪ ،‬وال بد أن يكون‬
‫حاصل قسمة الزمن على أثنين هو أقصى مدى تصله الكرة في حركتها إلى‬
‫األسفل‪ ،‬وهي نقطة مالمسة الكرة ألعلى صف من الطابوق في الجدار‪ .‬وهنا‬
‫عليك أن تقيم سباقا ً مع الزمن ‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫سباق مع الزمن…؟ هذا مصطلح لم يخطر على بالي قط حتى عند شروعي‬
‫بشرح آليات العمل المقاوم للكرة الحديدية‪ .‬إن قدرات اإلنسان تتضاعف‬
‫بشكل مثير وتفوق التصور‪ ،‬والمهم هو إرادة العمل‪ .‬إني ألرجو من القارئ‬
‫الكريم أن ينتبه لمصطلح سباق مع الزمن‪ ،‬ألنني سوف أعود إليه بمزيد من‬
‫التركيز والتفصيل ‪.‬‬

‫في السباق مع الزمن‪ ،‬وأنت أالن تتنافس في ذلك مع الكرة الحديدية الهائلة‬
‫عليك أن تناضل من أجل تشيد صفين اثنين يوميا ً ليرتفع الجدار‪ ،‬فالكرة تزيل‬
‫صفا ً في صعودها وصفا ً عند نزولها‪ ،‬وإذا نجحت في بناء صف واحد فقط‪،‬‬
‫فهذا يعني أنك سوف تخسر المباراة بعد مدة معينة بحسب ارتفاع جدارك‬
‫أصالً ‪.‬‬

‫إلى هنا يبدو األمر محتمالً‪ ،‬صحيح أنك‪ ،‬تخسر ما تشيده إال أنك بالمقابل لم‬
‫تسمح لآللة أن تحطمك نهائياً‪ .‬ولكن البد من االعتراف أنها أوقفت عملية‬
‫النمو في جدارك‪ .‬أما إذا شيدت صفين فأنك متعادل مع الكرة الحديدية‪ ،‬أما‬
‫إذا نجحت بتشييد ثالثة صفوف‪ ،‬ستزيل منها الكرة اثنين‪ ،‬فسيبقى لك دائما ً‬
‫صف جديد‪ ،‬أي أنك تسجل انتصارا ً ولو بسيطا ً في المباراة ‪.‬‬

‫ولكن هناك احتماالت أخرى للوضوح‪ ،‬أقصد أيقاظ الوعي‪ ،‬هو أنك لو كنت‬
‫عارفا ً بقواعد االقتصاد السياسي فأنك ستعلم أن هناك مصطلحا ً يسمى‬
‫باإلنتاجية‪ ،‬إنتاجية العمل‪ ،‬أي أن قدراتك اإلنجازية يمكن أن تتصاعد تلقائياً‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫أو بالحث‪ ،‬مع إتقانك العمل‪ .‬في حين اليحتمل أن تغير الكرة الحديدية‬
‫(أخالقها) آليات وإيقاع عملها ألن في ذلك فساد نوعها…!‬

‫وبناء على ذلك‪ ،‬فأن ارتفاع معدالت التشييد أو الحذاقة في توزيع الجهد‪ ،‬فأن‬
‫بناء ثالثة خطوط أو أكثر خالل حركة البندول صعودا ً أو هبوطاً‪ ،‬يكون‬
‫معدل البناء أعلى من معدل التقويض‪ ،‬أي أن الكرة ال تكف في الواقع عن‬
‫التقويض‪ ،‬ولكنك ال تكف أيضا ً عن التقدم وإحراز االنتصارات ‪.‬‬

‫أحقا ً ذلك ممكن…؟ نعم بالتأكيد ‪ ،‬أقولها لك بلهجة الواثق المجرب‪.‬‬

‫ولكنني أريد أن أقول لك أمرا ً آخر‪ ،‬دعنا أن نشبه التجربة بشيء آخر‪ .‬لنقل‬
‫انك قد حشرت في زاوية أمام رماة ذوو وجوه حجرية‪ .‬وأنني إذ أسر لك نبأ‬
‫الرجال ذوو الوجوه الحجرية‪ ،‬كي ال تضع أي قدر من االحتمال بمناشدة‬
‫ضمير أو رحمة الرماة‪ .‬قلت لك أن وجوههم حجرية وذلك ما يمكنك رؤيته‬
‫والتبين منه بوضوح‪ ،‬وما ال تراه ببصرك‪ ،‬هو أن قلوبهم هي حجرية أيضا ً‬
‫وذلك مؤكد بدرجة مماثلة ‪ ،‬لذلك وكما يفعل رياضيو اليوغا‪ ،‬ال تحاول‬
‫التركيز على وجوههم وضمائرهم‪ ،‬بل ركز على نفسك وضميرك‪ ،‬عليك أن‬
‫تنسى‪ ،‬أو تحاول أن نسيان أن هناك شعيرات حساسة وشرايين ناقله عبر‬
‫الدماغ تجعل المرء يشعر باأللم‪ ،‬عليك أن تغير الكثير من المفاهيم‪ .‬ليس‬
‫هناك ما يدعو لأللم بفعل عوامل خارجية‪ .‬أن األلم باعتقادي يحدث فقط‬
‫عندما يشعر اإلنسان بتأنيب الضمير‪ ،‬هذا هو األلم فحسب‪ ،‬وليس هناك شيء‬
‫آخر‪ ،‬أم الوخـز واأللم الخارجي‪ ،‬فهو محض هراء ‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫أذن‪ ،‬فأنت أمام رماة ذوو الوجوه الحجرية‪ ،‬أو باألحرى القلوب الحجرية‪،‬‬
‫وبأيديهم بنادق صيد رائعة‪ ،‬وكالب صيد مذهلة وكمية هائلة من الخرطوش‪.‬‬
‫وكما تعلم ربما‪ ،‬أن الخرطوش يتألف من عبوة تحتوي على كرات حديدية ‪/‬‬
‫رصاصية‪ ،‬صغيرة أو كبيرة‪ ،‬حسب عيار الخرطوش فقد تضم الخرطوشة‬
‫‪ 12‬كرة رصاصية أو أكثر‪ 24 ،‬أو ‪ 50‬أو ربما ثالثة أو أربعة كرات فقط‬
‫إذا كانت مخصصة لصيد حيوانات قوية مثل الفيلة أو األسود والنمور ‪.‬‬

‫والخرطوش له أسماء وأرقام كثيرة ومعرفتها‪ ،‬ومعرفة آليات انطالقها مهمة‬


‫جدا ً لكي تخفف من وقعها عليك‪ .‬فهناك سنة بسيطة وسنة كبيسة وأسماء أثنا‬
‫عشر شهرا ً وسبعة أيام وأربعة فصول وأزمنة‪ ،‬ساعة ودقيقة وثانية‪ ،‬هل تعلم‬
‫ما وقعها عليك‪...‬؟‬

‫سوف لن أغضب أن كنت تجهلها‪ ،‬فأنا نفسي الذي أجلس في قدر الضغط‬
‫العالي سنوات طويلة‪ ،‬لم أكن أدرك حركتها المحورية الدقيقة‪ .‬وإليك مثال‬
‫على ذلك ‪ :‬قالوا لك يوم القي القبض عليك ( يوم مصادرتك)‪ ،‬إن األمر‬
‫سوف لن يستغرق أكثر من خمسة دقائق‪ ،‬وها هم يعتصرونك‪ ,‬ويتعاملون‬
‫معك وكأنك رقما ً ال قيمة له وال معنى هنا لأللم النفسي وتوجه لك اإلهانات‬
‫في مسرحية هزلية ال نهاية قريبة لها‪ ،‬وأنت تنتظر نهاية هذه المهزلة‪ ،‬مهزلة‬
‫تعرضك إلى ألم خارجي تافه (هم يعتقدون أنهم يلحقونها بك) ‪.‬‬

‫وقد ينهال عليك أحد األوغاد مستخدما ً كالقرود المتطورة‪ ،‬مستخدما ً أطرافه‬
‫العليا والسفلي‪ ،‬هو إنسان في هيئته الخارجية‪ ،‬ولكنه تحول إلى حيوان‬
‫‪80‬‬
‫متوحش ضار‪ ،‬بسبب المهنة والتربية والجو المحيط به‪ ،‬ربما بسبب إعجاب‬
‫دفين بالمهنة وعداء كامن للجنس البشري‪ ،‬أو ربما بسبب خطأ عابر من‬
‫الوالدة ‪ !!..‬وهللا أعلم ‪!..‬‬

‫ها أنت تقف اآلن أمام سد من سدود وميادين الرمي‪ ،‬أمام دريئة ( إن كنت‬
‫عسكرياً‪ ،‬فسوف تفهم معنى هذا المصطلحات )‪ ،‬ويبدأ الرماة بالتصويب‬
‫عليك‪ ،‬وينهال عليك الخرطوش من كل العيارات‪ ،‬سنوات‪ ،‬فصول ‪،‬تمر‬
‫عليك‪ ،‬أشهر‪ ،‬أسابيع وأيام وساعات في أوضاع ومواقف كثيرة‪ ،‬ودقائق‬
‫طويلة طويلة‪ ،‬وليس نادرا ً ثواني يكون فعلها كالثواني التي مرت على‬
‫آينشتاين…!‬

‫ما العمل…؟ كيف تنجو من خراطيش مليئة بكريات حديدية أو رصاصية‬


‫كثيرة من كافة األحجام‪ ،‬ورجال حجريون‪ ،‬وبنادق ممتازة…؟‬

‫هل سترتدي سترة واقية من الرصاص …؟ كال بالطبع ألنك ال تمتلك واحدة‬
‫منها‪ ،‬بل ألنهم قاموا بتفتيشك‪ ،‬وجرد مقتنياتك البسيطة ليتأكدوا أنك ال تمتلك‬
‫شيئا ً يجعلك قادرا ً على صنع طائرة مروحية …!‬

‫قلت لك قبل قليل‪ ،‬أن األلم الخارجي هو شيء تافه ووهم كبير‪ .‬أن من يسلط‬
‫عليك هذا األلم يريد أن يوهمك بأنه العنصر األهم في العملية‪ ،‬في حين ينبغي‬
‫عليك أن تستوعب أن ذلك ما هو إال فخ لك ولبصيرتك‪ ،‬وهنا تكمن عناصر‬
‫قوتك أن تتجاهل األلم الخارجي تماماً‪ ،‬وقدرتهم على توجيه اإلهانة لك‪ ،‬وأن‬

‫‪81‬‬
‫تصرفها عن ذهنك نهائيا ً وأن تفصل نفسك ومشاعرك وأخالقياتك بصفة‬
‫نهائية عن هذا الوسط المنحط الذي يراد منه دفعك إليه‪ ،‬تجاهله تماماً‪ ،‬أنني‬
‫سأجعلك تنظر إلى المسألة برمتها بصفتها لعبه‪ ،‬وكلما أتقنت ممارستها‬
‫سيتوقف عليها انتصارك أو اندحارك وهزيمتك ‪.‬‬

‫الحظ…إن معظم التقاويم الجدارية تتألف من ورقة واحدة‪ ،‬األشهر فيها‬


‫مرتبة على أساس رباعي وتكون بذلك ثالث صفوف أو على شكل ثالثي‪،‬‬
‫وبذلك تصبح ألربعة صفوف‪ ،‬ليس ذلك مهماً‪ ،‬فأي كان الحال علينا أن نقطع‬
‫هذا البحر سباحة اعتمادا على قوة الذراعين فحسب ‪.‬‬

‫عندما ينتهي الشهر األول (كانون الثاني)‪ ،‬يبدأ الشهر الثاني (شباط)‪ ،‬آنذاك‬
‫سيكون عليك قطع الشهر الثالث فقط ألنك تسبح في الشهر الثاني ومع نهاية‬
‫الشهر الثالث تكون قد أنهيت ربع السنة‪ ،‬وأنت تقوم بهذه العملية ( واقعيا ً أنت‬
‫في الشهر الرابع )‪ ،‬وبمرور أيام معدودة فقط تكون قد أنهيت الشهر الرابع‬
‫وهو ما يمثل ثلث السنة حينئذ لك أن تقرع على صدرك العامر‪ ،‬وتقول ‪ :‬ها‬
‫أنت قد أنهيت ثلث السنة‪ ،‬فيما تكون أنت في الشهر الخامس الذي بمجرد‬
‫انقضائه تكون في الشهر السادس آنذاك لك أن تصرخ بجذل ‪ :‬ها أني قد‬
‫أنهيت نصف السنة‪ ،‬وبانقضاء نصف السنة فأنك تكون قد نحرت السنة في‬
‫الواقع‪ ،‬تدغدغ مشاعرك في شهر تموز الذى مع نهايته تكون في الشهر‬
‫الثامن الذي يمثل ثلثي السنة‪ ،‬ولم يتبق منها سوى ثلث واحد فقط ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫وفي غمرة هذه المشاعر اللذيذة‪ ،‬تكون قد أنهيت الشهر الثامن‪ ،‬ومع بداية‬
‫الشهر التاسع تكون قد أنهيت ثالثة أرباع السنة‪ ،‬أي أنك قد وضعت السنة‬
‫خلف ظهرك‪ ،‬وأنهيت بكل اقتدار جولة جديدة من المالكمة أو المصارعة‬
‫انتصرت فيها لتقول ‪ :‬أن ما بقي لي هو أقل بكثير مما قد مضى‪ ،‬أو ‪ :‬األمر‬
‫كان في غاية البساطة وإذا كانت الجوالت القادمة كلها على هذه الشاكلة‬
‫فاألمر بسيط حقا ً ‪.‬‬

‫نعم بسيط حقاً‪ ،‬ألنك ال تملك خيارا ً آخر…هذا إن أردنا أن نكون واضحين‬
‫ونتوخى الدقة في أحكامنا‪ ،‬وغير ميالين إلى التلفيق كما يفعل بعض الذين ال‬
‫تحمر وجوههم خجالً‪ ،‬ولكن دعنا ال نركز على هذه النقطة أفترض أنك كنت‬
‫مبحرا ً على ظهر باخرة‪ ،‬ثم سقطت فجأة من سياجها‪ ،‬وها أنت وسط المحيط‬
‫األطلسي‪ ،‬فالسباحة حتى البر المقابل هو خيار مجنون طبعا ً ولكن‬
‫مالعمل…؟ فالخيار األخر هو أكثر جنوناً‪ ،‬فأنت ال تستطيع ببساطة أن‬
‫ترخي يديك وتسدل ذراعيك وتدع نفسك تغطس كصخرة إلى قعر المحيط‪ ،‬ال‬
‫سيما أنك تجيد السباحة ‪ .‬تخيل األمر‪ ،‬أنت في وسط المحيط تسبح على سطح‬
‫الماء وتخيل كم هو عمق المياه تحتك والوحوش التي يزخر بها المحيط‪،‬‬
‫تخيل وحشة الليل وأنت تضرب بيدك على صفحة الماْء‪ ،‬تخيل كم سفينة‬
‫مرت بالقرب منك أو بعيدا ً عنك ولم تلتقطك ألنك ال تمتلك ثمن التذكرة‪ ،‬أو‬
‫ألنك نسيت جدول ضرب ( ‪ ،) 9‬أو أحد األناشيد المهمة هذه األيام …ال‬
‫فائدة من الحديث كثيراً‪ ،‬فذلك يضيع طاقة أنت بأمس الحاجة لها …‪.‬واصل‬
‫‪83‬‬
‫السباحة ثم ضع عيونك تجاه عيون الرجال الحجريين وإن ال فائدة ترجى من‬
‫ذلك ولكن لتعرف نفسك على األقل بأنك لم تهزم ألنك لم تصبح حجريا ً ولكي‬
‫تعرف من االن بأنك المنتصر في المباراة وكل الجوالت…! كيف…؟ نعم‬
‫أنك أنت المنتصر‪ ،‬ألنك ‪ :‬لم تصبح حجرياَ‪ ،‬أوالً‪ ،‬وألنك لم تشايعهم ثانياً‪،‬‬
‫وألنك لم تؤيدهم ثالثاً‪ ،‬بل ألنك عملت ضد الحجر …!!! فطب نفسا ً وواصل‬
‫السباحة في المحيط األسود ‪.‬‬

‫أالن وبعد أن تمتعت بوجبة عامرة منحتك شحنة معنويات‪ ،‬أستعد اللتقاط‬
‫الكرات الحديدية أو الرصاصية المصوبة نحوك وكلما تقدمت في إتقان اللعبة‬
‫سوف يستخدم الرجال الحجريين ضدك خراطيش من عيارات ثقيلة‪ ،‬على‬
‫أساس معرفة بدائية أكتسبها الحجريون‪ ،‬أن الخراطيش ذو الكريات الناعمة‬
‫ال تنفذ في جلدك ‪.‬‬

‫ومثل أبطال األساطير‪ ،‬عليك أن ترقب وأن تقدر الوقت بين إمالء بندقية‬
‫الصيد والتصويب ثم أن تقدر بدقة جهة التسديد‪ ،‬تمد يدك وتلتقط بكف يدك‬
‫الكرة الرصاصية قبل أن تالمس جسدك ثم تضعها في جيبك‪ ،‬أو أن تضعها‬
‫في أي مكان ولكن إياك أن تبتسم بشماتة‪ ،‬فذلك يغيظ الرجال الحجريين‬
‫ويزيد في عدوانيتهم وشراستهم ‪.‬‬

‫ال تتصور األمر معقداً‪ ،‬هكذا هي األحوال‪ ،‬في البدء نتصورها أشياء صعبة‬
‫ولكنك سوف تعتاد عليها بحيث أنها تصبح بمرور الوقت السلوى الوحيدة لك‬
‫في هذا المحيط األسود أو هذه الصحاري القاحلة‪ ،‬وأنها الوسيلة الوحيدة‬
‫‪84‬‬
‫ألثبات نفسك وذاتك‪ ،‬وهذه الكرات الحديدية ‪ ،‬صغيرها وكبيرها هي بمثابة‬
‫صخور ضخمة تحملها كل يوم إلى قمة الجبل‪ ،‬حيث تسقط من جديد إلى‬
‫السفح‪ .‬ليس هناك هدف محدد‪ ،‬الهدف هو مواصلة اللعبة فحسب‪ .‬هذا هو‬
‫قدر سيزيف في األلفية الثالثة وليس لهذه العملية من نهاية وليس لك أن تلوم‬
‫أحد حتى ذلك الوغد الذي خانك وقبض ثمن خيانته منصب مدير عام ماسحي‬
‫األحذية ‪.‬‬

‫واصل البناء‪ ،‬واصل السباحة‪ ،‬واصل التقاط الكريات الحديدية‪ ،‬واصل‬


‫إظهار احتقارك وأدانتك للقتلة والخونة والمرتشين والقوادين وممتهني دعارة‬
‫السياسة والسماسرة والجواسيس‪ .‬ليس لهذه العملية من نهاية‪ ،‬ليس لك أن‬
‫تلوم أحداً‪ ،‬فأنت طرحت نفسك هكذا رقما ً غير قابل للصرف‪ ،‬منتوج ال سعر‬
‫له‪ ،‬ورأس ينبت مثل ذنب األفعى كلما تعرض إلى البتر‪ .‬عمرك ماليين من‬
‫السنوات‪ ،‬أنك لست لحما ً ليشوى ويؤكل‪ ،‬أو كومة عظام لتسحق وتطحن‬
‫…لست عشبا ً يابسا ً لتحرق وتذروك الرياح …‪.‬فكن على قدر هذه القضية‬
‫وقدرك…‪.‬‬

‫فكر …!‬

‫أرجوك …‬

‫‪85‬‬
‫تحياتي‬

‫ضرغام عبد هللا الدباغ‬

‫سجن األحكام الخاصة ‪ /‬سجن أبو غريب‬

‫بغداد المنصورة‬

‫‪1987 / 1 / 5 --- 2002 / 10 / 20‬‬

‫(قصة مؤثرة رواها الدكتور ضرغام الدباغ في كتابه وعثرنا عليها في أحد‬
‫المواقع)‬

‫"كان هناك شاب في العشرينات من عمره من أهالي البصرة‪ ،‬يدعى فراس !‬


‫كان رائعا ً نقيا ً صافيا كماء العين… وحينما أتذكره اآلن أجد نفسي أكتب هذه‬
‫السطور بصعوبة بالغة‪ ،‬فقد أحببته كثيراً‪ ،‬وكان يستحق هذه المحبة‪ .‬ثم أن‬
‫اسم فراس يداعب أوتار قلبي‪ ،‬وهو اسم ابني الكبير الذي يماثله سناً‪ ،‬كنت‬
‫أحب أن أراه‪ ،‬وكأنني بذلك أسد نقص الحاجة إلى ابني… وال يمكن أن‬
‫يمضي اليوم من دون أن أراه مرة أو مرتين أو ثالثة‪ ،‬أحييه وأناديه باسمه‬
‫المحبب ‪ :‬فروسي‪ ،‬تماما ً كما كنت أنادي ابني فراس‪ ،‬وقد أدرك فراس‬
‫‪86‬‬
‫محبتي له‪ ،‬وكان يجيبني‪ ،‬بلهجته الحبيبة ‪“ :‬ها يابه” ‪ .‬فأقول له ‪ :‬فراس هل‬
‫تعرف أني أحبك‪ ،‬فيقول‪ ” :‬نعم يابه “‪ ،‬يقولها بأدب وخجل‪ ،‬فأقول له ‪ :‬هل‬
‫تعرف لماذا ؟‪ .‬فيرد بخجل طفولي ‪“ :‬نعم يابه “ألن ابنك اسمه فراس‪ ،‬فأقول‬
‫له ‪ :‬ال ليس من أجل ذلك فقط‪ ،‬فأنت أيضا ً ابني!‬
‫يا إلهي …‪ ..‬كان علي أن أشاهد فراس يأخذونه إلى اإلعدام‪ ،‬ففي يوم من‬
‫األيام‪ ،‬ربما بعد سنة من الحكم عليه ووجوده معنا في قسم األحكام الخاصة‪،‬‬
‫نودي عليه ‪ :‬إعادة محاكمة ‪ ،‬وحكم عليه باإلعدام‪ ،‬وجيء به إلى السجن‬
‫ليأخذ فراشه وليمضي إلى قسم اإلعدام‪ ،‬وهذا المنظر أقسى من أن يتحمله‬
‫أب يفقد ابنه‪ .‬أخذوا “فروسي” ‪ ،‬وكان علي أن أشاهد هذا المنظر‪ ،‬لم أشأ‬
‫الخروج من الغرفة‪ ،‬فقد سمعت اللغط‪ ،‬وعلمت أنه قد عاد من المحكمة وقد‬
‫حكم عليه باإلعدام‪ ،‬وهو اآلن يأخذ فراشه ويودع أصدقائه الذين تجمهروا‬
‫حوله‪ ،‬كنت أدرك أن هذا المنظر المؤلم إلى أقصى درجة سوف لن يفارق‬
‫مخيلتي إلى األبد‪ ،‬كنت أعلم أن هذا جرح مؤلم ال يشفى مطلقاً‪ ،‬وتجربة ال‬
‫أقوى عليها‪ .‬لكني بعد دقائق تخيلت فيها فراس الحبيب خارجا ً وإنني سوف‬
‫لن أراه بعد اآلن‪ ،‬خرجت من غرفتي أسحب قدمي سحبا ً ‪ ،‬ورأيت فراس‬
‫الحبيب في الطابق العلوي يودع أصدقاءه‪ ،‬وانهارت قواي‪ ،‬فأخذني أحد‬
‫األخوة (السيد عقيل) إلى غرفة مجاورة وأخذ يهون عني‪ ،‬وعندما خرجت‬
‫من الغرفة كان فراس قد غادر القسم‪ ،‬خرجت إلى الممر‪ ،‬فشاهدته وقد‬
‫وضعوا القيود في يديه‪ ،‬وهو يدخن سيكارة ‪ ،‬هتفت له‪ ،‬وأنا أحاول أن أتمالك‬

‫‪87‬‬
‫نفسي ‪ :‬فروسي… أمانة عند هللا ‪ .‬فنظر إلي مبتسما ً وقال‪ :‬ال أقدر أن آتي‬
‫إليك يابه (وهو يشير إلى قيوده)… في أمان هللا!‪……………..‬‬
‫وبطريقة نادرة ال يمكن أن تتكرر في السجن‪ ،‬أرسل لي وريقة رسالة‪ ،‬هي‬
‫آخر اتصال وإياه‪ ..‬وها أنا أرفقها مصورة في ملحق هذا الكتاب… وال أريد‬
‫أن أثير أحزاني وأحزان أصدقائه… ولكنها وقفة محبة لفراس الذي ال ينسى‪،‬‬
‫هو وكل أصدقائنا وإخواننا وأحبائنا… لن ننساكم أبداً!)‬

‫رسالة العزيز فراس أو “فروسي” قبيل إعدامه‪:‬‬

‫ويتحدث المؤلف عن يوم صدور العفو العام عن كل المساجين بمختلف التهم‬


‫الموجهة إليهم فيقول ‪ :‬يوم ‪ 2002/10/20‬كنت دعوت أحد األخوة ( عصام‬
‫من الحلة ) إلى طعام الغداء فجاء من يطلبني إلى باب القسم وإذا بأحد‬
‫المقربين لإلدارة يخبرني أن العفو قد وصل السجن وسوف يذاع قريبا ً‬
‫‪88‬‬
‫‪،‬فاستعد وإال فإنك سوف لن تجد الوقت لرزم حقيبتك ‪ .‬وسوف يطلق سراح‬
‫‪ 500‬فرد حاال واسمك من بين أوائل األسماء والبقية غدا‪.‬‬

‫وعندما أصبحت خارج السجن هذه المنطقة المحرمة حرا ً للمرة االولى منذ‬
‫ستة عشر عاما ً بال حراس وبال قيود في اليدين ‪ ..‬الكل يزحف إلى الخارج‬
‫كأرتال ن عبر البوابة الكبيرة عرضها ‪ 5-4‬متر وآالف الخارجين وهذه‬
‫االالف ليس أقل من عشرة االالف من البشر وعدت إلى البيت وأمضيت‪26‬‬
‫يوما ببغداد ومن ساحة القاضي ببغداد إلى عمان ‪/‬األردن‪ .‬وفي طريق الجو‬
‫بالطائرة المتجهة الى المانيا وهي تقترب من مطار ( تيغل) ببرلين تذكرت‬
‫أحداث ‪15‬ايار ‪ 1983‬في ذلك اليوم غادرت بيتي ببرلين دون أن أوقظ‬
‫أطفالي من النوم ‪ .‬وعندما حطت الطائرة في مطار برلين كان ابني األكبر‬
‫فراس أول من رأيت ثم أخوه فواز وأمهما وأنا فارقتهم منذ ‪ 20‬عاما ً‪ .‬وعندما‬
‫دخلت بيتي بعد عشرين عاما ً من الغياب كنت أشعر بالفوز أخيرا ً وأنا سعيد‪.‬‬

‫‪89‬‬

You might also like