Professional Documents
Culture Documents
أيها الحمقى 1
أيها الحمقى 1
باب واحد
كانت العاصمة محاطة من ثالث جهات باسوار تاريخية عالية.
وكانت الجهة الرّ ابعة مغلقة بالكامل بمساحة شاسعة تتجاوز طول المدينة من غابة
كثيفة ال تقل عن االسوار متانة وحماية .وكان السورين يمتدان إلى مكان عميق في
الغابة.
ّ
،وبشق االنفس ،آخر أيام حياته، كان يعيش الملك
وقد استلم مقاليد األمور عمليا وزيره عقاب الذي على مدى سنوات كان على اتصال
مباشر باالمور الملكية حيث أكسبته السنوات كلمة مسموعة ويدا نافذة القدرة.
لم يكن ينقص عُدي ابن الملك الوحيد ذو العشرين عاما شيئا من الذكاء ،اال انه لم
يكن مهتما-قبل اشتداد المرض على والده -باصدار األوامر رغم قدرته أيام عز أبيه
أن يكون ذا نفوذ وسلطة وأن يمهد لنفسه ملكه المؤكد ،لكن كل ذلك لم يستهويه وما
كان ليثير فيه اي حس باالنجاز .وكان عُدي حاذقا يكره الشكليات؛ لقد أحب منذ
صغره االختراعات الميكانيكية -كعجالت المياه واالقواص ذات الرمي األتوماتيكي
السريع -والطائرات الورقية.
كانت تأسره فكرة فهم األشخاص المحيطين به على قدر ما لم يكن هو شخصا
مفهوما ،ولعل اكثر من كان على تماس مع هوايته البستاني إيهاب والذي كان
متقاعدا من تدريب الحرس الملكي ،وقد عيّن الوزير منذ سنوات بديال له.
كانت المملكة حتى تلك االيام ال تزال في وضع محمول ،ولكن ليست مزدهرة كما
في السابق ،خاصة بعد توسّع نفوذ الوزير وقراراته التي بدأت تشمل مختلف
القطاعات .هذا التوسع في النفوذ كان حصيلة السوء التدريجي في حال الملك ،وقد
بدأ األمر يثير اهتمام عُدي الذي لم يكن يريد الدخول في صدام حالي مع الوزير ،إذ
أن الجوّ سيخلو له قريبا ليقوم باصالحاته .ويمكننا القول أن عّدي كان قد بدأ في
السنة األخيرة االنصراف عن هواياته واالهتمام بدراسة كيفية إدارة أمور المملكة،
وهذا كان إلى جانب تمريض والده الذي صار يشغل معظم أوقاته.وعندما علم الملك
بضعف حاله أخبر ابنه بمكان كنز مخبأ في الغابة ال ينبغي أن يعرف عنه سوى
الملك الشرعي ،وأن األسطورة تقول أن مل ًكا ساب ًقا خبأه بعدما أخبره عرّ اف بأن
يجمع ماال يخبأه ألحد أحفاده سيستخدمه العمار أقوى مملكة في التاريخ .ثم قال
له":انا ال أؤمن بوجود هكذا كنز وأقولها بعدما بحثت مطوال بحثا كامال دون
جدوى ،لكنني أخبرك ألنني وعدت أبي بتوارث هذا السر"
ومات الملكO...
ولم يتحدث أحد ألسبوع عن مآل األمور التي كانت قد بدأت تدخل صم ًتا مثيرا
للتساؤالت .تمت دعوة أعيان الناس إلى لقا ٍء داخل أسوار القلعة الملكية وقد خرج
الوزير ال الملك عُدي على ال ّناس ليقول:
" أعزيكم كما أعزي نفسي وسعادة الملك الشاب الحزين ".ووعد ال ّناس بمتابعة
األحوال بكل قوته والسّعي تحسين أمور المملكة.
ث ّم أخبرهم بأن الملك في حال حزن يديم الوحدة وأنه لم يرى نفسه في حال تسمح له
في الخروج على الناس والقيام برثاء أبيه وتحضير الناس للحقبة المقبلة بامرته.
والحقيقة أن الملك عُدي القابع في سجن القلعة أكثر من جاهز لتطبيق كل مخططاته
التي عمل عليها مدار السنة بعد متابعته الحثيثة لألوضاع.
أدخل الحرس الملك عُدي إلى السجن مع ذوي الحكم المؤبد في غرفة مزدوجة،
ولكن ما لفت عُدي أن الحرس صار مق ّن ًعا بقناع ذهبي ،حتى أنهم فيما بعد أصبحوا
معروفين بالحرس الذهبيّ .
اُدخل عُدي السجن بدفعة قوية ،واُغلق الباب خلفه .وقف وتوجّ ه نحو السرير المتاح
غير عابٍئ بذهول السجين على السرير األخر والذي بدا غير مقتنع بما يراه.
جلس وتقوقع مديرً ا وجهه ناحية الحائط دون أن يصدر أي صوت .وما كانت إال
دقائق مرّ ت حتى تجرّ أ السجين اآلخر وقال ":ابن الملك بذاته هنا؟ يا للروعة!
أي موقف تسببت فيه حتى قام الملك بسجن ابنه الوحيد؟ هل قمت بإحراجه في -
موقف رسميّ ؟ أو دعني أحزر ممممم"...
أي جزء من ظهري أخبرك برغبتي في الحديث معك؟ قال الملك هازءا -
اعذرني يا ابن الملك المعظم فكالنا سجين اآلن -
ّ
مؤخرً ا وأنا الملك لحظات صمت مرّ ت ثم أردف عُديّ قائال ":للعلم والدي توفيّ
اآلن".
" وأنا سيف ،هل هذه أولى رحالتك الملكية؟" قالها السجين اآلخر وقد ارتسمت
ابتسامة ساخرة على شفتيه
فُتح باب الغرفة بقوّ ة ،وها هو الوزير برفقة أربعة من حرّ اسه المق ّنعين بقناع ذهبي،
ّ
توزع اثنان بجانب عُدي فيما وقف اآلخران أحدهما قرب سيف واآلخر خلف
الوزير.
"ال تخف يا سعادة الملك ،سأنقلك إلى مكان يليق بك بعد االتفاقات التي سنبرمها"
وقد ترافق صوت الوزير بنعومة مصطنعة
"االتفاق الوحيد الذي سأعقده معك هو مكان قبرك" قالها الملك بدون تردد
عندها أشار الوزير عقاب للحارسين بحاجبيه فأمسكا عديّ ك ٌّل من ذراع .اقترب
الوزير ولف أصابع يده اليمنى حول رقبة الملك وهمس بصوت أجش في أذنه :
"لديّ عمل أقوم به ال ألعابًا صبيانيّة" ثم أفلته ورفع له يده مو ّدعًا
بدأت أحوال المملكة تسوء .والعاصمة التي كانت قلب المملكة النابض باتت في حال
يرثى لها! كان الوزير يخرج على الناس بين الحين واآلخر ليخبرهم عن انشغاالت
ملكهم ووقته الذي ال يتسع للقاء الناس .كما ويخبرهم عن اضطرار الملك لزيادة
الضرائب رغم محاولته هو -وزيره الذي يشعر بآالم الناس -اقناعه لكي يعود عن
قرار رفع الضرائب هذا..
يسخط الناس على الملك
يجمع الوزير العائدات ليقوم بما يجده مناسبا أو يبقيها لالستثمار بعد اإلطاحة بالملك
واألهم من ذلك :يفوز هو بمنصب المُلك!
بدأت البطالة تكثر وخاصة في العاصمة ،والناس تضطر لبيع ممتلكاتها أو رهنها
لصالح الخزينة .هم عليهم مجاراة الضرائب في ازديادها إضافة لتأمين لقمة العيش،
حال مقبول. ومع الوقت ،لم َ
يبق إال العاملين في المملكة تحت حكم الوزير في ٍ
مرّ شهر كامل كثرت فيه الجرائم والسرقات ،وبدأ نواة المظاهرات بالظهور.
وبالطبع كانت هذه التجمعات تفضها القوات الملكية باسم الملك تحت امرة الوزير.
ومع االرتفاع الرهيب لتيار المعارضين ،فكر الوزير أن يا لها من فرصة ذهبية
للمطالبة بإعدام الملك والبدء بخططه التي رسمها للوصول إلى مبتغاه.
وسط هذه الفوضى ظهرت سرقات هي األغرب من نوعها ،فعربات الجباية
توزع على الناس! ًّ
وأي كانت الجهة التي تدير هذه السرقات لكنها "المسروقة" كانت ّ
خلقت التفا ًفا حولها.
أما في السجن الملكيّ ،فقد بدأت عالقة الملك وسيف تأخذ طابعًا أخو ًّيا تشوبها بعض
المشاحنة من باب التسلية .ولم يكن شيء ليطفئ عزم الملك على الخروج من السجن
وصنع الحلم الذي أع ّد له الع ّدة أيام ّ
عزه.
عند منتصف الليل ،انشغل عُدي بحفّ مسمار باألرض ،واستخدم أيضا مناديال
ومياهًا مملّحة ألمر لم يعرفه سيف .لقد عرف شيئا واح ًدا :األصوات الخافتة التي
يصدرها الملك في عمله أكثر من مزعجة ومستفزة.
_ هل عليّ أن أوضّح أنّ ما تفعله يُع ّد تف ّننا باإلزعاج؟
_ هل عليّ أن أوضّح أني ال أكترث؟
ثم استدرك الملك وقال :ال عليك سأعوضها لك
وما كاد ينهي كالمه حتى فتح الباب حارسٌ مق ّنع ،وأشار للملك بالقدوم نحوه .رأى
ك وهو يضع المسمار الطويل الملفوف بالمنديل في جيب سترته الخلفي،
سيف المل َ
راقبه يقترب من الحارس وشهد بأ ّم عينيه كيف همس األخير في أذن الملك ما جعله
يدمع ،األمر الذي آثار دهشته! ليس فقط لكالم الحارس مع الملك بل لطريقة تأثر
الملك بهذا الكالم ،فهو لم يتوقع أبدا أن هذا الملك يملك مثل هذه العواطف تجاه أي
شخص أو حدث..
أما الملك ،فقد سمع من الحارس كلمات ثالث جعلته ينتفض "مرحبا أيها الشقي".
يعرف الملك هذا الصوت Oج ّي ًدا ،إنه البستاني أو قائد الحرس المتقاعد! ثم أعطا
الملك ورقة ّ
لخص فيها آخر األخبار ووعده بالعودة مج ّددا. َ الحارس
يومين مرّ ا والحراسة تشت ّد على عربات الجباية ما تسبب في شلل للمحاوالت
األخيرة .وبعد يومين عاد البستاني ايهاب بنفس الهيئة لياًل ،وبعد اطالع الملك على
األخبار ،طلب منه الملك أن
يتقصّى أخبار عن مجموعة السرقة والتوزيع ويحاول االلتحاق بهم
إيهاب وشاحً ا أبيض ليضعه حول عنقه ويغطي به لحيته البارزة
َ ك
.ثم أعطى المل ُ
من تحت القناع كل ما زاره .فالحراس لم يكونوا من أصحاب اللحى الطويلة ،أما
الوشاح فيمكن تفسيره بحجّ ة البرد لياًل .
كان إيهاب الرجل األشد حزمًا وقوّ ًة وذكا ًء في نظر عُديّ .لقد عرفه منذ الطفولة،
كان موضع ثقته الوحيد ،ومالذه في التسلية .وقد بدأت متانة هذه العالقة تشت ّد منذ
كان إيهاب ال يزال قائ ًدا في الحرس وحتى انصرافه الى عمله الهادىء كبستاني
القلعة.
أيام قليلة مرت وايهاب يستطلع ويترصد ويراقب تحركات الجباة ويالحظ نمط عمل
المجموعة الشعبية التي تقوم بالسرقات
ما قام إيهاب هو أن سرق بنفسه ع ّدة عربات ما جعل القيّمين على المجموعة
يبحثون عنه هم .وحصل أ ّنه سرق إحدى العربات الواقعة تحت استطالعات
المجموعات الشعبية السرية _ االمر الذي كان جزءًا_ من خطته .وفيما كان ايهاب
ّ
يوزع األموال التي سرقها على البيوت مرتديًا نفس وشاحه األبيض أحسّ بحركة.
اثنان من الحرس الذهبي كانا في جولة ضمن المدينة أسرعا خلفه وبينما هو يحاول
التخفي سقط الوشاح .لكن ما كانت إال لحظات حتى رُمي سهمان أصابا الحارسين
من على سطح أحد المنازل .حيّا إيهاب الرّ امي اذ قد رآه!
لحظات مرّ ت وفُتح باب المنزل المجاور ،فتراجع إيهاب عن فكرة استعادة الوشاح
و َفل الجري بعي ًدا .وكان هذا ما فعله الرّ امي.
ّ
ووزع في اليوم ال ّتالي ،بدأت تنتشر قصّة ذو الوشاح األبيض الذي قتل حارسين
أموال الجباية.
ث ّم ما لبث أن صار اسم المجموعة كلّها " ذوي الوشاح األبيض".
كانت قيادة المجموعة ال ّشبابية قد وجدت طريقها إليهاب الّذي انض ّم إليهم وصار
جز ًءا منهم لما له من اسم وما أظهر من قدرة .وعلى مدى األيام التالية ساعدهم في
سرقة ع ّدة عربات.
أوشحة بيضاء فعاًل
ً ثم ما لبثت أن القت البيضاء رواجً ا .وصارت المجموعة تترك
بشكل يُذكر.
ٍ مع األموال ،التي لم تكن كافية لتغيّر الحال
بعد أسبوعين ،زار إيهاب الملك بوشاح غير ذاك وكرر الزيارة في اليوم التالي.
وفي زيارته يتجنب ايهاب اكثار الحديث ويكتفي بتمرير كتاب للملك فيه آخر
المستجدات ويقتصر الحديث على أوامر الملك
كان الملك سعي ًدا بما يحققه إيهاب من إنجازات رغم ما أورده ايهاب من أن هدف
المجموعة اغتيال الملك .طلب الملك من إيهاب أن يحرر سيف (زميل السجن)،
وتناقشوا لدقيقتين قبل أن يعد إيهاب الملك بتنفيذ الخطة اذ عليه أن يذهب قبل أن
يثير الشكوك.
كان الملك يُطلع سيف على األوضاع باختصار فمن ناحية هو مجبر على ذلك ،ومن
ناحية سيف ذو فكر ال يستهان به وآراؤه بدت صائبة.وقد اراد الملك االستفادة من
سيف خارج السجن .لكن فكرة تهريبه كانت صادمة!
وبعد يومين عاد إيهاب وأورد للملك أن المجموعة قد عقدت العزم وبدأت بتخطيط
التسلل لقتل الملك.
"-سأكون سعي ًدا الستقبالهم في الغرفة الملكية هذه" قال الملك ساخرا
-كحل وحيد لتهريب سيف نحتاج مفتاح الباب الثالث وهو موجود مع الوزير
شخص ًّيا.
-هذا ما نحاول اخراج سيف ألجله ،فتح القفول.
-هل تثق بقدرته
-الى حد كبير نعم
-غ ًدا لدينا فرصة
ثم صدر صوت فانصرف إيهاب وتظاهر الملك وسيف بال ّنوم.
دخل الوزير وحرّ اسه على عديّ ،أيقظه بنكزة وقال ":كيف حال ملكنا ّ
الفذ".
نظر إليه عُديّ بازدراء
أظنّ أنك ال زلت تف ّكر في طريقة للهروب وإنقاذ نفسك. -
لقد تمكنت م ّني .قالها عديّ ساخرً ا ثم أدار ظهره للوزير وأكمل نومه. -
أخبرني عن مكان الكنز وسأحررك .عليك أن تعي موقفك قريبا سيعدمك -
ال ّناس أو سأعدمك باسمهم.
أبله -
فتلقى عديّ ضربة قوية على ظهره آلمته بش ّدة ،لكنه استطاع أال يظهر ذلك ،ثم
انصرف الوزيرO.
فهم الملك أخيرا سبب بقاءه على قيد الحياة .إ ّنه سرّ الكنز المزعوم
بحارس يُدخل
ٍ في الليلة التالية ،بدأ العمل .كان إيهاب يُخرج سيف عندما التقى
الرّ امي (الذي أنقذه) إلى السّجن .عرفه الرّ امي من لحيته البيضاء ،وفتح عينيه
مصدومًا .أكمل إيهاب بسيف الى الباب الثالث وفك وثاقه حيث استطاع سيف ،من
خالل بضع معادن فكها من سريره ،من فتح القفل ،وبعد أن اطمأنّ إيهاب من أن
سيف وصل برّ األمان ،عاد ليتف ّقد رامي السّهام "مالك" .عرض إيهاب على حارسه
أن يستلم السّجين عنه فلم يمانع ،فأخذ إيهاب الرّ امي موث ّقا ،ولم يسلم من نظراته
التي يعلوها التشاؤم.
كان الحارس اآلخر قد اتجه بعي ًدا ،فأدخل ايهابُ الرّ امي إلى غرفة الملك وأجلسه
على سرير سيف .أيقظ إيهاب الملك وقال ":هذا مالك من ذوي الوشاح األبيض"
نظر مالك إليه ال يدري ما يقول .توّ جه ايهاب بعدها بمالك إلى الزنزانة التي عليه
ان يمكث فيها ،وحاول أن يشرح له ما تيسّر.
بدأت سرقات كبرى في الخزينة ،ساهمت في تغيّر يُعد به في األحوال .فعمل .1
الناس المضاعف أفرغ طاقاتاهم ومأل خزينة ال ّدولة.
بدأ ذوي الوشاح األبيض بالتو ّغل في الغابة واستخدام األموال لشراء .2
المع ّدات والمواد الالزمة لتسهيل وزراعة األرض في عمق الغابة.
وكان هذا يجري مع إبقاء إيهاب وسيف على سريّة حال الملك .فح ّتى اآلن هدف
المجموعة األساسي اغتيال الملك ،وغير معلوم ما إذا كانوا سيصدقون الحقيقة.
على مدى شهر كان العمل دؤوبًا والمجموعة تتسع لتشمل أوسع شريحة من ال ّشعب.
لقد صنعوا في عمق الغابة ج ّنة مزروعة.
وقد بدأ الوزير يعي خطورة أطماع الدول المجاورة ،وحاجته لتمكين الوضع.
كما بدأ إيهاب يعي أن عليه تحرير الملك ومالك من األسر قبل أن يقوم الوزير
بإنهاء األمر.
تم التنسيق مع المجموعة القتحام السجن على أساس تحرير مالك ،بحضور إيهاب
وسيف .كان على المجموعة أن تدخل متنكرة بزي الحرس إلى القلعة بمساعدة
البستاني إيهاب ومن ثم بلوغ الطابق الثاني من شباك الدرج ،ألمر الوزير بتشديد
الطابق األول واألرضي بعد حادثة هروب سيف دون ال ّشك بتورّ طالحراسة على ّ
الملك.
كان على ايهاب مساعدتهم لبلوغ الطابق الثاني ومنه الى مكان خفي عن االنظار ُع ّد
مسبقا في الطابق الثالث يجهزون فيه الحبال للنزول السريع بدل التسلل البطيء
الخطر .
يبقى الجميع في حال ترقب وجهوزية للتدخل اذا ما ساءت األمور .ثم ينزل ايهاب
وأمجد (القائد المؤ ّسس لذوي الوشاح ) كحارسين لتحت االرض دون لفت االنتباه
لدى عبورهما درج الطابق االول ثم االرضي ومنه الى السجن ،يقنع ايهاب الحراس
بأخذ استراحة ويحل محلهم .وتكون هذه هي الفرصة ّ
الذهبية لتحرير الملك ومالك.
جرى كل شيء بدقة قل نظيرها .فتح امجد متنكرً ا باب زنزانة مالك وتعانقا ،فيما ّلثم
ايهاب الملك وحرره .بدت األمور سهلة في طريق الصعود ،أراد أمجد السؤال عن
االسير الملثم الذي حرره ايهاب واذ بحارس ينزل ال ّدرج .وما إن رآهما عرض
مرافقتهما ،كان الوضع حسّاسًا ،واألمور تؤول إلى مشكلة ،فقبل ايهاب واستحسن
ذلك كي يبدد شكوكه.
وصلوا إلى شباك الدرج ّ
الثالث وقبل أن يصلوا إلى ال ّشباك المنشود حيث باقي
المجموعة اطلق ايهاب صافرة بلحن مشهور .تلقى افراد المجموعة االشارة وهمّو
بالنزول عبر النافذة .سمع الحارس صوت حفيف الحبل المتكررفسلّم ايهابُ المل َ
ك
مقيدا لزميله أمجد ثم أكملو مع الحارس نحو مصدر الصوت ،وعند اقترابهما من
ال ّنافذة أمسك إيهاب الحبل بسرعة ول ّفه على عنق ذي القناع الذهبي .حاول مالك
بيديه المقيّدتين احكام فم الحارس فيما رماه إيهاب معلّ ًقا من ال ّنافذة ،وسط ذهول
األفراد المنتظرين في االسفل .أطل ايهاب ،اشار لهم بان األمور مستتبة ثم فك وثاق
األسيرين.
استغرب ذوي الوشاح االبيض -كما أمجد -تحرير شخصين ،لكن أحدا لم يسأل اذ
أن الوضع ال يزال صعبا وضيق الوقت يصرف انتباههم نحو العبور للخارج.
وصلو الى السور واجتازوه من سطح منزل ايهاب ،اكملو باتجاه الغابة.
وفي الطريق الى الجنة التي بنوها في الغابة،سأل أمجد عن ذو اللثام ،فكشف الملك
لثامه ،ش ّل هذا الموقف الجموع اال أمجد الذي ما لبث أن شد خناق الملك الى جذع
شجرة ولم يتكلم للحظات ،فصفعه الملك.
كان الموقف صادما للجميع حتى لمالك وايهاب فكيف بباقي الجموع!
أرخى أمجد يده فأنزلها الملك بقوة ونظر تباعا في العيون المح ّدقة وقال بنبرة فيها
من االزدراء والغضب ما فيها:
"أيها الحمقى ،أي ملك مخبول متعجرف يرفض رثاء والده أو الظهور على شعبه
لتمكين ملكه في أسوأ األحوال " ثم نظر مباشرة الى أمجد وأكمل " :وأي ملك أناني
ال يخرج في رحالت صيد أو تخييم "
تدارك ايهاب الموقف ":كان الملك في السجن طوال هذه المدة ،الوزير هو الحاكم
الفعلي ،وحتى العاملون في القلعة ال يعرفون باألمر ما عدا األشخاص الذين عينهم
الناس عن التساؤل
َ الوزير بنفسه أي الحرس الذهبي .وقد شغلت الضج ُة الشعبي ُة
بجدية وطلب أجوبة شافية على مثل هذه التساؤالت التي خطرت على بال الكثيرينO.
ثم قال مالك " :كان هذا مريعا! أيًا كان المشكك أو السائل ،سيبدو مدافعًا عن ظلم
الملك المزعوم".
أكملوا طريقهم ،وما ان وصلوأ حتى بدت عالمات االعجاب والدهشة على وجه
الملك ،ثم ابتسم ابتسامة ماكرة تخفي في طياتها خطة محكمة ضد الوزير.
لقد بنوا عالما جديدا بالغابة ،مجتمعا كامال ،بل عالما مستورا بأميال من األشجار
الكثيفة.
لم يكن باالمكان اطالع الناس على حقيقة الملك -صاحب الخطة المنقذة و ذو
الوشاح الحقيقي –اذ أن إفهام الناس سيحدث بلبلة خطرة ويكلّف وق ًتا ليس لصالحهم.
كما أن الوزير ما ان يكتشف األمر حتى سيستغل الوضع ويجهز على كل مشتبه به.
بدأت الفرقة بأخذ أوامرها من الملثم المجهول ،هذا ما عرف به الملك الحقا بين
عوام أفراد ذوي الوشاح .ثم بدأت أولى الخطوات لتصنيع أقواس األسهم ذات
المخازن والتي تسمح برمي سريع تعديالت تزيد دقتها ،اختراع كان الملك قد حصل
عليه وطوره أيام فضاوته .كان الجميع يعمل بنشاط وحيوية وشغف بهذا االختراع
الجديد في ظل زخم من االقبال ووفود كثيف للعاملين في كل قطاعات المجتمع مع
الحفاظ على سرية المركز في الغابة .في هذه الفتره كانت المدينه تشهد عمال
جنونيا للحرس ،حيث لم َ
يبق بيت في المدينه اال وفتشوه
أما في باقي أقطار المملكة ،فقد بدأت مجموعات نسبت نفسها لذوي الوشاح بالقيام
بأعمال مشابهة ثم عملت على ربط نشاطها بالمجموعة المركزية في العاصمة،
وصار التنسيق بين المناطق في عهدة أمجد.
مملكه ضعيفه تمثل الصيد المثالي للممالك المجاورة ،ولم يعد الكالم عن امكانيه
احتالل المملكه المتزعزعه O،بل عن تنازع الممالك المجاوره وتنافسها على أقسامها.
على اثر المستجدات ،تقرر اجتماع هام لمجلس قيادة ذوي الوشاح األبيض .أخذ
الحضور مواقعهم ،لكن وجود كرسي فارغ أثار قلق القادة ،في حين كان الملك
مستنفرا يرسل مجموعة تلو مجموعة .ثم جاء الخبر الذي جعل الحضور يذهبون
بأنفسهم الى حيث الجواب.
وقفوا ينظرون من بعيد الى الحشود أمام القلعة ،الى عيني الملك الدامعة والى جثة
ايهاب المعلّقة...وقد عرف الوزير ما عرف بعدما وجد زهرة الكاميليا أمام النافذة
التى حرروا منها الملك ،زهرة نادرة لم يزرع منها اال ايهاب كان قد أهداه اياها
الملك السابق يوما.
تدافعت الذكريات أمام عيني الملك ،كالم ايهاب ،هدوؤه ،ذكاؤه الحاد ،نصائحه التى
جعلت لكل شيء مع ًنا ،وردته التي يبقي زهر ًة منها في جيبه كتميمة حظO...
كان للملك صور ًة شفافة ،لح ًنا أنيسًا ،سندا متي ًنا من وحدة الطفولة الى ُغربة السجن.
لكن القساوة كانت نشر اعدامه بتهمة خيانة المملكة لصالح القحتريين بأمر الملك.
بدأ الوزير يعد الحرس للدفاع عن المدينة ،في حين بدأت الخطى الحثيثة لبناء جيش
ذوي الوشاح األبيض رما ًة ومحاربين وفرسان ،وصُب التركيز على توحيد صفوف ذوي
الوشاح األبيض المتقهقرين من كل أقطار المملكة.
ثالثة أيام وكانت الجيوش المحتلة قد طوقت المدينة ،أما الغريب فهو أن جيش المملكة
الهيكيدية يدخلون براياتهم الزرقاء بسالم وسط ذهول الناس بعدم تحرك الحراس ضدهم.
وسرعان ما اتضح من استقبال الوزير ،أن ذلك كان بعد مراسالت بين الوزير والمملكة
الزرقاء أفضت الى ضم المملكة كاملة للهيكيديين تحت والية الوزير بصالحيات شبه
كاملة .تال ذلك وصول القحتريين بجيش غفير ْ
وبدأهم العمل على تطويق المدينة.
كانت أسوار المدينة العالية موقعا ذهبيا للرماة[ ،األمر الذي كان متاحا عبر األدراج
الداخلية فقط ].ااّل أن الغابة التي احتضنت أطراف األسوار كانت معبًدة لعبور ذوي الوشاح
األبيض على امتداد السور خالل الغابة.
لم يكن أحد على اطالع بحكم الوزير وابرامه االتفاقات بداًل من الملك سوى كبار الحرس
الملكي ذوو القناع الذهبي .أمّا باقي قوى ال ّدولة فكانت حسب ظنها تأخذ أوامرها من الملك،
وقد انشقت في الفترة األخيرة مجموعات منها تحت وطأة الظلم وانضم أكثرهم لذوي
الوشاح األبيض.
فتح الحمر باب المدينة بالقوّ ة وأرسل الزرق رماتهم إلى االسوار .كان الوزير في مؤخرة
الجيش االزرق جهة الغابة ،والجيشين االزرق واالحمر مشغولين ببعضهما.
في هذه اللحظة ،خرج "ذو اللثام" الذي ذاع صيته آنذاك على المأل ،وجمع حوله الكثيرين
ممن لم يعلموا سوى أنه من ذوي الوشاح األبيض .ووسط الهتافات التي تدعوه للقيام
الستعادة المملكة واحكام سيطرته على الملك ،ظهر الوزير ومعه قيادات حرسه الخاص،
ظهر ليخمد الثورات ويقتل الملك كما يريد الشعب.
حاصر جنود الوزير الجماعة التي أحاطت بذي اللثام بمن فيهم بعض ذوي الوشاح
االبيض .هنا عرف الوزي ُر الملك ،فكشف الملك قناعه.
ُذهل الجميع من عموم ال ّناس ،ذوي الوشاح ،والحرّ اس من غير ذوي القناع ،حتى الذين لم
يكونوا قد رأوا الملك من قبل ،فهموا األمر من ال ّناس.
عال صوت الملك ":أيها الحمقى ،أرأى أحدكم مل ًكا ظالما ال يخرج لينافق على شعبه
فيستتب بذلك حكمه؟ أي ملكٍ أحمق ال يخرج في رحالت ويبقى داخل قصره؟
إال إذا كان سجي ًنا ...أليس كذلك يا وزير مملكتي الخائن؟"
صاح الوزير بالحراس للتق ّدم وأمرهم برمي الملك ،لكنّ الحراس من غير ذوي القناع رموا
أسلحتهم إذ ما عادوا يعرفون من يقاتلون .لقد أجاب ظهور الملك تساؤالت وأثار أخرى.
وحدهم ذوي الوشاح تقبّلوا االمر وقبلوا الملك كونهم عرفوه ّ
ملثمًا رائ ًعا في الفترة القليلة
السابقة ،أولئك الذين بدوا للناس بكامل عديدهم ال يقارنون بالحشد الموجود.
وبأعلى صوته صاح الملكO:
"مقاتِللل"
فصاح ذوي الوشاح ممن كانوا حوله بصوت واحد وصل كامل المدينة رغم ضجة الحرب:
" استعدد"
"مستعددد"
كان بقية ذوي الوشاح قد أحكموا السيطرة على الرّ ماة الزرق بعد تسللهم من أسوار الغابة.
وظهر كامل العديد محاصرً ا كال الجيشين في حالة تأهّب واستعداد .لمحوا قائدهم ّ
الملثم
دون لثامه ،لكنهم لم يعرفوه .تم ّنوا لو كانوا حاضرين .ثم ما لبثوا أن رأوا جيش الوزير
(فيما ال يزالون يرونه جيش الملك) يحاصر قائدهم فبدأوا الرّ مي على ذوي القناع الذهبي
في حين الذ الوزير مع مجموعة نحو الغابة .لحق به الملك مع عدد من ذوي الوشاح
المحيطين به بعد أن سلّم ألمجد رسائل وكلفه أن يوصلها إلى ح ّكام المملكتين Oالهيكيدية
والقحترية مفادها:
إذا أردتمكتائب جيوشكم أحياءا فأرسلوا إليهم بترك أسلحتهم وعتادهم كاماًل وليعودوا من
حيث أتوا.
في هذه األثناء استسلم أكثر الجنود من الجيشين والقلّة الباقية إمّا نالت حتفها أو ُأسرت .أما
الوزير فلم يكن يعلم أنه بتو ّغله نحو الغابة إنما هو يتوجه إلى مدينة إنتاجية مخبّأة
ومحروسة ،واألهم من ذلك :مركز قوّ ة ذوي الوشاح.
وصل الوزير وجنوده إلى السهل حيث الحقول المزروعة وقد أخذه الذهول بوجود كل هذا.
ثم أكملوا سيرهم إلى أن اصطدموا بتوغل ذوي الوشاح المكلفين بحراسة المكان أمامهم.
جُنّ جنون الوزير فغرس في قوسه سهمًا وقبل أن يباشر باإلطالق اتجهت ثالث سهام من
قوس الملك إلى كتفه ويده.
في غضون دقيقة كان الوزير مق ّي ًدا .ضرب الملك رأس الوزير بقبضته فأسقطه ثم أمسكه
ورفعه بثوبه
فيما بعدُ ،عيّن مالك رئي ًسا للحرس وأمجد قائ ًدا للجيش .أما سيف فكان صديق الملك
ووزيره ورفيق رحالته.
بعد أسبوع كانت األموال تتدفق إلى أسواق المملكة كلها ،وفرص العمل متوفرة بالجملة،
والج ّنة السّرية في الغابة صارت نموذجً ا مص ّغرً ا يتم العمل على مثله في ك ّل المملكة.
تمت