Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 35

‫ك يِف َزو ِجها وتَ ْشتَ ِكي ِإىَل اللّ ِه واللّه يسمع حَت اور ُكمآ ِإ ّن اللّه مَسِ

ِ‬ ‫ِ‬
‫** قَ ْد مَسِ َع اللّهُ َق ْو َل الّيِت جُتَادلُ َ‬
‫يع بَصريٌ‬
‫َ ٌ‬ ‫َ ُ َ ْ َ ُ َ َُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا أبو معاوية‪ ,‬حدثنا األعمش عن متيم بن سلمة عن عروة عن عائشة قالت احلمد هلل الذي وسع مسعه األصوات‪ ,‬لقد جاءت اجملادلة إىل النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم تكلمه وأنا يف ناحية البيت ما أمسع ما تقوله‪ ,‬فأنزل اهلل عز وجل { قد مسع اهلل قول اليت جتادلك يف زوجه } إىل آخر االَية‪ ,‬وهكذا رواه البخاري‬
‫يف كتاب التوحيد تعليقاً فقال‪ ,‬وقال األعمش عن متيم بن سلمة عن عروة عن عائشة فذكره وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن أيب حامت وابن جرير من غري وجه عن‬
‫األعمش به‪ .‬ويف رواية البن أيب حامت عن األعمش عن متيم بن سلمة عن عروة عن عائشة أهنا قالت‪ :‬تبارك الذي أوعى مسعه كل شيء‪ ,‬إين ألمسع كالم خولة بنت‬
‫ثعلبة وخيفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬وهي تقول يا رسول اهلل أكل مايل وأفىن شبايب ونثرت له بطين حىت إذا كرب سين‬
‫وانقطع ولدي ظاهر مين‪ ,‬اللهم إين أشكو إليك‪ ,‬قالت فما برحت حىت نزل جربيل هبذه االَية { قد مسع اهلل قول اليت جتادلك يف زوجه }‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وزوجها أوس بن الصامت‪ ,‬وقال ابن هليعة عن أيب األسود عن عروة هو أوس بن الصامت‪ :‬وكان أوس امرءاً به ملم‪ ,‬فكان إذا أخذه ملمه واشتد به يظاهر من‬
‫امرأته‪ ,‬وإذا ذهب مل يقل شيئاً فأتت‪ -‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تستفتيه يف ذلك وتشتكي إىل اهلل‪ ,‬فأنزل اهلل { قد مسع اهلل قول اليت جتادلك يف زوجها وتشتكي‬
‫إىل اهلل } االَية‪ .‬وهكذا روى هشام بن عروة عن أبيه أن رجالً كان به ملم فذكر مثله‪ ,‬وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أيب‪ :‬حدثنا موسى بن إمساعيل أبو سلمة‪ ,‬حدثنا‬
‫جرير يعين ابن حازم قال‪ :‬مسعت أبا يزيد حيدث قال‪ :‬لقيت امرأة عمر يقال هلا‪ :‬خولة بنت ثعلبة‪ ,‬وهو يسري مع الناس فاستوقفته فوقف هلا ودنا منها وأصغى إليها‬
‫رأسه ووضع يديه على منكبيها حىت قضت حاجتها‬

‫وانصرفت‪ ,‬فقال له رجل‪ :‬ياأمري املؤمنني حبست رجاالت قريش على هذه العجوز‪ ,‬قال وحيك وتدري من هذه ؟ قال‪ :‬ال‪ .‬قال هذه امرأة مسع اهلل شكواها من فوق‬
‫سبع مسوات‪ ,‬هذه خولة بنت ثعلبة‪ ,‬واهلل لو مل تنصرف عين إىل الليل ما انصرفت عنها حىت تقضي حاجتها إال أن حتضر صالة فأصليها مث أرجع إليها حىت تقضي‬
‫حاجتها‪ .‬هذا منقطع بني أيب يزيد وعمر بن اخلطاب وقد روي من غري هذا الوجه‪ .‬وقال ابن أيب حامت أيضاً‪ :‬حدثنا املنذر بن شاذان‪ ,‬حدثنا يعلى‪ ,‬حدثنا زكريا عن‬
‫عامر قال‪ :‬املرأة اليت جادلت يف زوجها خولة بنت الصامت وأمها معاذة اليت أنزل اهلل فيها { وال تكرهوا فتياتكم على البغاء ِإن أردن حتصن } صوابه خولة امرأة‬
‫أوس بن الصامت‪.‬‬

‫اهرو َن ِمن ُكم من نّسآِئ ِهم ما هن ُأمهاهِتِم ِإ ْن ُأمهاتُهم ِإالّ الالِّئي ولَ ْدنَهم وِإنّهم لَي ُقولُو َن من َكراً من الْ َقو ِل وزوراً وِإ ّن اللّه لَع ُفو َغ ُفور * والّ ِذين يظَ ِ‬
‫اه ُرو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ ٌ َ َُ‬ ‫ُ َّ ْ َُ َ‬ ‫َ ُْ َ ُْ َ‬ ‫ْ ّ َ ْ ّ ُ ّ َّ ْ َّ ُ ْ‬ ‫ين يُظَ ُ‬ ‫** الّذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫مِب‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬
‫وعظُو َن بِه َواللّهُ َا َت ْع َملُو َن َخبِريٌ * فَ َمن مّلْ جَي ْد فَصيَ ُام َش ْهَريْ ِن ُمتَتَابِ َعنْي ِ من َقْب ِل َأن يَتَ َم ّ‬
‫آسا‬ ‫من نّ َسآ ِه ْم مُثّ يَعُ ُ‬
‫ودو َن ل َما قَالُواْ َفتَ ْح ِر ُير َر َقبَة ّمن َقْب ِل َأن يَتَ َم ّ‬
‫آسا ذَل ُك ْم تُ َ‬
‫يم‬ ‫فَمن مّل يست ِطع فَِإطْعام ِستني ِمس ِكيناً َذلِك لِت ِمنواْ بِاللّ ِه ورسولِِه وتِْلك ح ُدود اللّ ِه ولِْل َكافِ ِرين ع َذ ِ‬
‫اب َأل ٌ‬
‫َ َ ٌ‬ ‫ََ ُ َ َ ُ ُ َ‬ ‫َ ُْؤ ُ‬ ‫َ ْ َ َْ ْ َ ُ ّ َ ْ‬
‫قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قاال‪ :‬حدثنا أيب‪ ,‬حدثنا حممد بن إسحاق‪ ,‬حدثين معمر بن عبد اهلل بن حنظلة عن يوسف بن عبد اهلل بن سالم‪ ,‬عن‬
‫يف واهلل ويف أوس بن الصامت أنزل اهلل صدر سورة اجملادلة‪ ,‬قالت‪ :‬كنت عنده وكان شيخاً كبرياً قد ساء خلقه‪ ,‬قالت‪ :‬فدخل علي يوماً‬
‫خويلة بنت ثعلبة قالت‪ّ :‬‬
‫علي كظهر أمي‪ .‬قالت‪ :‬مث خرج فجلس يف نادي قومه ساعة‪ ,‬مث دخل علي فإذا هو يريدين عن نفسي قالت‪ :‬قلت كال‪ ,‬والذي‬
‫فراجعته بشيء‪ ,‬فغضب فقال‪ :‬أنت ّ‬
‫نفس خويلة بيده ال ختلص ِإيل‪ ,‬وقد قلت ما قلت‪ ,‬حىت حيكم اهلل ورسوله فينا حبكمه‪ ,‬قالت‪ :‬فواثبين‪ ,‬فامتنعت منه فغلبته مبا تغلب به املرأة الشيخ الضعيف فألقيته‬
‫عين‪ ,‬قالت‪ :‬مث خرجت إىل بعض جارايت فاستعرت منها ثياباً‪ ,‬مث خرجت حىت جئت إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فجلست بني يديه‪ ,‬فذكرت له مالقيت منه‬
‫وجعلت أشكو إليه ماألقى من سوء خلقه‪ ,‬قالت‪ :‬فجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬ياخويلة ابن عمك شيخ كبري فاتقي اهلل فيه»‪.‬‬
‫) قالت‪ :‬فو اهلل ما برحت حىت نزل يف قرآن‪ ,‬فتغشى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما كان يتغشاه مث سري عنه فقال يل‪« :‬يا خويلة قد أنزل اهلل فيك ويف صاحبك‬
‫قرآناً ـ مث قرأ علي { قد مسع اهلل قول اليت جتادلك يف زوجها وتشتكي إىل اهلل واهلل يسمع حتاوركما إن اهلل مسيع بصري ـ إىل قوله تعاىل ـ وللكافرين عذاب أليم } قالت‪:‬‬
‫فقال يل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «مريه فليعتق رقبة» قالت‪ :‬فقلت يا رسول اهلل ما عنده ما يعتق‪ ,‬قال «فليصم شهرين متتابعني» قالت‪ :‬فقلت واهلل إنه لشيخ‬
‫كبري ما به من صيام قال «فليطعم ستني مسكيناً وسقاً من متر» قالت‪ :‬فقلت واهلل يا رسول اهلل ما ذاك عنده‪ ,‬قالت‪ :‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «فإنا سنعينه‬
‫َبعَر ٍق من متر» قالت‪ :‬فقلت يا رسول اهلل وأنا سأعينه َبعَر ٍق آخر قال «قد أصبت‪ -‬وأحسنت فاذهيب فتصدقي به عنه مث استوصي بابن عمك خرياً» قالت‪ :‬ففعلت‪.‬‬
‫ورواه أبو داود يف كتاب الطالق من سننه من طريقني عن حممد بن إسحاق بن يسار به‪ ,‬وعنده خولة بنت ثعلبة ويقال فيها خولة بنت مالك بن ثعلبة‪ ,‬وقد تصغر‬
‫فيقال خويلة‪ ,‬وال منافاة بني هذه األقوال فاألمر فيها قريب واهلل أعلم‪ .‬هذا هو الصحيح يف سبب نزول هذه السورة‪ ,‬فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كانت‬
‫سبب النزول ولكن أمر مبا أنزل اهلل يف هذه السورة‪ ,‬من العتق أو الصيام أو اإلطعام‪ ,‬كما قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا يزيد بن هارون‪ ,‬أخربنا حممد بن إسحاق عن حممد‬
‫بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر األنصاري قال‪ :‬كنت امرًأ قد أوتيت من مجاع النساء ما مل يؤت غريي‪ ,‬فلما دخل رمضان ظاهرت من‬
‫امرأيت حىت ينسلخ رمضان فرقاً من أن أصيب‪ -‬يف ليليت شيئاً فأتتابع يف ذلك إىل أن يدركين النهار وأنا ال أقدر أن أنزع‪ ,‬فبينما هي ختدمين من الليل إذ تكشف يل منها‬
‫شيء فوثبت عليها‪ ,‬فلما أصبحت‪ -‬غدوت على قومي فأخربهتم خربي وقلت‪ :‬انطلقوا معي إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم فأخربه بأمري‪ ,‬فقالوا‪ :‬ال واهلل ال نفعل‬
‫نتخوف أن ينزل فينا‪ ,‬أو يقول فينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها‪ ,‬ولكن اذهب أنت‪ ,‬فاصنع ما بدا لك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فخرجت حىت أتيت‪ -‬النيب صلى اهلل عليه وسلم فأخربته خربي فقال يل «أنت بذاك» فقلت‪ :‬أنا بذاك فقال «أنت بذاك» فقلت أنا بذاك قال «أنت بذاك» قلت‬
‫نعم‪ ,‬ها أنا ذا فأمض يف حكم اهلل عز وجل فإين صابر له قال «أعتق رقبة» قال‪ :‬فضربت صفحة رقبيت بيدي وقلت‪ :‬ال والذي بعثك باحلق ما أصبحت‪ -‬أملك غريها‪,‬‬
‫وحشى ما لنا‬
‫قال «فصم شهرين متتابعني» قلت‪ :‬يا رسول اهلل وهل أصابين ما أصابين إال يف الصيام قال «فتصدق» فقلت‪ :‬والذي بعثك باحلق لقد بتنا ليلتنا هذه َ‬
‫عشاء‪ ,‬قال «اذهب إىل صاحب صدقة بين رزيق فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقاً من متر ستني مسكيناً مث استعن بسائره عليك وعلى عيالك» قال‪:‬‬
‫إيل‬
‫فرجعت إىل قومي فقلت‪ :‬وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي‪ ,‬ووجدت عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم السعة والربكة قد أمر يل بصدقتكم فادفعوها ّ‬
‫إيل ‪ ,‬وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه واختصره الرتمذي وحسنه‪ ,‬وظاهر السياق أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت‬
‫فدفعوها ّ‬
‫ثعلبة‪ ,‬كما دل عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل‪.‬‬
‫قال خصيف عن جماهد عن ابن عباس‪ :‬أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت‪ ,‬وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها خشيت‬
‫أن يكون ذلك طالقاً‪ ,‬فأتت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالت‪ :‬يا رسول اهلل ‪ ,‬إن أوساً ظاهر مين‪ ,‬وإنا إن افرتقنا هلكنا وقد نثرت بطين منه وقدمت صحبته‪,‬‬
‫وهي تشكو ذلك وتبكي ومل يكن جاء يف ذلك شيء‪ ,‬فأنزل اهلل تعاىل‪ { :‬قد مسع اهلل قول اليت جتادلك يف زوجها وتشتكي إىل اهلل ـ إىل قوله تعاىل ـ وللكافرين عذاب‬
‫أليم } فدعاه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬أتقدر على رقبة تعتقها» قال‪ :‬ال واهلل يا رسول اهلل ما أقدر عليها‪ .‬قال‪ :‬فجمع له رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم حىت أعتق عنه مث راجع أهله‪ ,‬رواه ابن جرير وهلذا ذهب ابن عباس واألكثرون إىل ما قلناه واهلل أعلم‪ .‬فقوله تعاىل‪ { :‬الذين يظاهرون منكم من نسائهم } أصل‬
‫الظهار مشتق من الظهر‪ ,‬وذلك أن اجلاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال هلا‪ :‬أنت علي كظهر أمي مث يف الشرع كان الظهار يف سائر األعضاء قياساً على‬
‫الظهر‪ ,‬وكان الظهار عند اجلاهلية طالقاً فأرخص اهلل هلذه األمة وجعل فيه كفارة ومل جيعله طالقاً كما كانوا يعتمدونه يف جاهليتهم‪ ,‬هكذا قال غري واحد من‬
‫السلف‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ :‬حدثنا أبو كريب‪ ,‬حدثنا عبيد اهلل بن موسى عن أيب محزة عن عكرمة عن ابن عباس قال‪ :‬كان الرجل إذا قال المرأته يف اجلاهلية أنت علي كظهر‬
‫أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر يف اإلسالم أوس‪ ,‬وكان حتته ابنة عم له يقال هلا خويلة بنت ثعلبة‪ ,‬فظاهر منها فأسقط يف يديه‪ ,‬وقال ما أراك إال قد حرمت‬
‫علي وقالت له مثل ذلك‪ ,‬قال‪ :‬فانطلقي إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأتت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فوجدت عنده ماشطة متشط رأسه فقال‪« :‬يا‬
‫خويلة» ما أمرنا يف أمرك بشيء‪ ,‬فأنزل اهلل على رسوله فقال‪« :‬يا خويلة أبشري» قالت‪ :‬خرياً ـ فقرأ عليها { قد مسع اهلل قول اليت جتادلك يف زوجها وتشتكي إىل اهلل‬
‫واهلل يسمع حتاوركما ـ إىل قوله تعاىل ـ والذين يظاهرون من نسائهم مث يعودون ملا قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماس } قالت‪ :‬وأي رقبة لنا واهلل ما جيد رقبة غريي‬
‫قال { فمن مل جيد فصيام شهرين متتابعني } قالت‪ :‬واهلل لوال أنه يشرب يف اليوم ثالث مرات لذهب بصره قال‪ { :‬فمن مل يستطع فإطعام ستني مسكني } قالت‪:‬‬
‫من أين ما هي إال أكلة إيل مثلها‪ ,‬قال‪ :‬فدعا بشطر وسق ثالثني صاعاً والوسق ستون صاعاً فقال‪ :‬ليطعم ستني مسكيناً ولرياجعك وهذا إسناد قوي وسياق غريب‪,‬‬
‫وقد روي عن أيب العالية حنو هذا‪.‬‬
‫وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا حممد بن عبد الرمحن اهلروي‪ ,‬حدثنا علي بن العاصم عن داود بن أيب هند عن أيب العالية قال‪ :‬كانت خولة بنت دليج حتت رجل من‬
‫األنصار‪ ,‬وكان ضرير البصر فقرياً سيء اخللق‪ ,‬وكان طالق أهل اجلاهلية إذا أراد رجل أن يطلق امرأته قال‪ :‬أنت علي كظهر أمي‪ ,‬وكان هلا منه عيل أو عيالن‬
‫فنازعته يوماً يف شيء فقال‪ :‬أنت علي كظهر أمي‪ ,‬فاحتملت عليها ثياهبا حىت دخلت على النيب صلى اهلل عليه وسلم وهو يف بيت عائشة‪ ,‬وعائشة تغسل شق رأسه‬
‫فقدمت عليه ومعها عيلها‪ ,‬فقالت‪ :‬يا رسول اهلل إن زوجي ضرير البصر فقري ال شيء له سيء اخللق‪ ,‬وإين نازعته يف شيء‪ ,‬فغضب فقال‪ :‬أنت علي كظهر أمي ومل‬
‫يرد به الطالق‪ ,‬ويل منه عيل أو عيالن فقال‪« :‬ما أعلمك إال قد حرمت عليه»‪.‬‬
‫فقالت‪ :‬أشكو إىل اهلل ما نزل يب أنا وصبييت‪ ,‬قالت‪ :‬ودارت عائشة فغسلت شق رأسه االَخر‪ ,‬فدارت معها فقالت‪ :‬يا رسول اهلل زوجي ضرير البصر فقري سيء اخللق‬
‫وإن يل منه عيل أو عيالن وإين نازعته يف شيء فغضب وقال‪ :‬أنت علي كظهر أمي ومل يرد به الطالق‪ ,‬قالت‪ :‬فرفع إيل رأسه وقال‪« :‬ما أعلمك إال قد حرمت عليه»‬
‫فقالت‪ :‬أشكو إىل اهلل ما نزل يب أنا وصبييت قال‪ :‬ورأت عائشة وجه النيب صلى اهلل عليه وسلم تغري‪ ,‬فقالت هلا‪ :‬وراءك فتنحت‪ ,‬فمكث رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يف غشيانه ذلك ما شاء اهلل‪ ,‬فلما انقطع الوحي قال‪ :‬يا عائشة أين املرأة فدعتها‪ ,‬فقال هلا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اذهيب فأتيين بزوجك» فانطلقت‬
‫تسعى‪ ,‬فجاءت به فإذا هو كما قالت ضرير البصر فقري سيء اخللق‪.‬‬
‫فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أستعيذ باهلل السميع العليم { بسم اهلل الرمحن الرحيم * قد مسع اهلل قول اليت جتادلك يف زوجها ـ إىل قوله ـ والذين يظاهرون من‬
‫نسائهم مث يعودون ملا قالو } قال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أجتد رقبة تعتقها من قبل أن متسها» قال ال‪ ,‬قال‪« :‬أفال تستطيع أن تصوم شهرين متتابعني ؟» قال‪:‬‬
‫والذي بعثك باحلق إين إذا مل آكل املرتني والثالث يكاد يعشو بصري‪ .‬قال‪« :‬أفتستطيع أن تطعم ستني مسكيناً ؟» قال‪ :‬ال‪ ,‬إال أن تعينين‪ .‬قال‪ :‬فأعانه رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬أطعم ستني مسكيناً» قال‪ :‬وحول اهلل الطالق فجعله ظهاراً‪ ,‬ورواه ابن جرير عن ابن املثىن عن عبد األعلى عن داود مسعت أبا العالية‬
‫فذكر حنوه بأخصر من هذا السياق‪ ,‬وقال سعيد بن جبري‪ :‬كان اإليالء والظهار من طالق اجلاهلية‪ ,‬فوقت اهلل اإليالء أربعة أشهر وجعل يف الظهار الكفارة‪ ,‬رواه ابن‬
‫أيب حامت بنحوه‪ ,‬وقد استدل اإلمام مالك على أن الكافر ال يدخل يف هذه االَية بقوله منكم فاخلطاب للمؤمنني‪ ,‬وأجاب اجلمهور بأن هذا خرج خمرج الغالب فال‬
‫مفهوم له‪ ,‬واستدل اجلمهور عليه بقوله‪ { :‬من نسائهم } على أن األمة ال ظهار منها وال تدخل يف هذا اخلطاب‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ما هن أمهاهتم إن أمهاهتم إال الالئي ولدهنم } أي ال تصري املرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو كظهر أمي وما أشبه ذلك‪ ,‬ال تصري أمه‬
‫بذلك إمنا أمه اليت ولدته‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬وإهنم ليقولون منكراً من القول وزور } أي كالماً فاحشاً باطالً { وإن اهلل لعفو غفور } أي عما كان منكم يف حال‬
‫اجلاهلية‪ ,‬وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان‪ ,‬ومل يقصد إليه املتكلم‪ ,‬كما رواه أبو داود أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مسع رجالً يقول المرأته يا أخيت‪,‬‬
‫فقال‪« :‬أختك هي ؟» فهذا إنكار‪ ,‬ولكن مل حيرمها عليه مبجرد ذلك ألنه مل يقصده ولو قصده حلرمت عليه ألنه ال فرق على الصحيح بني األم وبني غريها من سائر‬
‫احملارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك‪.‬‬

‫وقوله تعاىل‪ { :‬والذين يظاهرون من نسائهم مث يعودون ملا قالو } اختلف السلف واألئمة يف املراد بقوله تعاىل‪ { :‬مث يعودون ملا قالو } فقال بعض الناس‪ :‬العود هو‬
‫أن يعود إىل لفظ الظهار فيكرره‪ ,‬وهذا القول باطل وهو اختيار ابن حزم وقول داود وحكاه أبو عمر بن عبد الرب عن بكري بن األشج والفراء وفرقة من أهل الكالم‪,‬‬
‫وقال الشافعي‪ :‬هو أن ميسكها بعد املظاهرة زماناً ميكنه أن يطلق فيه فال يطلق‪ ,‬وقال أمحد بن حنبل‪ :‬هو أن يعود إىل اجلماع أو يعزم عليه فال حتل له حىت يكفر هبذه‬
‫الكفارة‪ ,‬وقد حكي عن مالك أنه العزم على اجلماع واإلمساك‪ ,‬وعنه أنه اجلماع‪ ,‬وقال أبو حنيفة‪ :‬هو أن يعود إىل الظهار بعد حترميه ورفع ما كان عليه أمر اجلاهلية‪,‬‬
‫فمىت ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها حترمياً ال يرفعه إال الكفارة‪ ,‬وإليه ذهب أصحابه والليث بن سعد وقال ابن هليعة‪ :‬حدثين عطاء عن سعيد بن جبري { مث‬
‫يعودون ملا قالو } يعين يريدون أن يعودوا يف اجلماع الذي حرموه على أنفسهم‪.‬‬
‫وقال احلسن البصري‪ :‬يعين الغشيان يف الفرج وكان ال يرى بأساً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر‪ ,‬وقال علي بن أيب طلحة عن ابن عباس‪ { :‬من قبل أن‬
‫يتماس } واملس النكاح‪ ,‬وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن حيان‪ ,‬وقال الزهري‪ :‬ليس له أن يقبلها وال ميسها حىت يكفر‪ .‬وقد روى أهل السنن من حديث‬
‫عكرمة عن ابن عباس أن رجالً قال‪ :‬يا رسول اهلل‪ ,‬إين ظاهرت من امرأيت فوقعت عليها قبل أن أكفر‪ .‬فقال‪« :‬ما محلك على ذلك يرمحك اهلل» قال‪ :‬رأيت خلخاهلا‬
‫يف ضوء القمر‪ .‬قال‪« :‬فال تقرهبا حىت تفعل ما أمرك اهلل عز وجل»‪ ,‬وقال الرتمذي‪ :‬حسن غريب صحيح‪ ,‬ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسالً‪ ,‬قال‬
‫النسائي‪ :‬وهو أوىل بالصواب‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬فتحرير رقبة } أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا‪ ,‬فههنا الرقبة مطلقة غري مقيدة باإلميان ويف كفارة القتل مقيدة باإلميان‪ ,‬فحمل الشافعي‬
‫رمحه اهلل ما أطلق ههنا على ما قيد هناك الحتاد املوجب وهو عتق الرقبة‪ ,‬واعتضد يف ذلك مبا رواه عن مالك بسنده عن معاوية بن احلكم السلمي يف قصة اجلارية‬
‫السوداء‪ ,‬وأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬أعتقها فإهنا مؤمنة» وقد رواه أمحد يف مسنده ومسلم يف صحيحه‪ .‬وقال احلافظ أبو بكر البزار‪ :‬حدثنا يوسف بن‬
‫موسى‪ ,‬حدثنا عبد اهلل بن منري عن إمساعيل بن يسار عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس‪ ,‬قال‪ :‬أتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رجل فقال إين ظاهرت‬
‫من امرأيت مث وقعت عليها قبل أن أكفر‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أمل يقل اهلل تعاىل من قبل أن يتماسا» قال‪ :‬أعجبتين‪ ,‬قال‪« :‬أمسك حىت تكفر» مث‬
‫قال البزار‪ :‬ال يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا‪ ,‬وإمساعيل بن مسلم تكلم فيه وروى عنه مجاعة كثرية من أهل العلم‪ ,‬وفيه من الفقه أنه مل يأمره إال بكفارة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫�تفسير سورة المجادلة ابن كثير‬ ‫وقوله تعاىل‪ { :‬ذلكم توعظون به } أي تزجرون به‬

‫القرآن الكريم‪  ‬تفسير ابن كثير ‪    ‬تفسير سورة المجادلة ابن كثير‬
‫سورة المجادلة‪ |  ‬للقراءة من المصحف بخط كبير واضح‬
‫است الج تفسي‬
‫ماع اللي ر‬
‫‪ mp‬ن& الش‬
‫‪ 3‬المي وكان‬
‫سر ي‬

‫إعر تفسي تفسي‬


‫اب ر ر‬
‫الص ابن القر‬
‫فحة كثي طب‬
‫ر ي‬

‫التف تفسي تفسي‬


‫سير ر ر‬
‫الم الطب الس‬
‫خت ري عد‬
‫ي‬ ‫ص‬
‫ر‬

‫‪  ‬الصفحة السابقة‬

‫الصفحة ‪542‬‬

‫الصفحة التالية ‪ ‬‬

‫تفسير ابن كثير تفسير الصفحة ‪ 542‬من المصحف تفسير ابن كثير ‪ -‬صفحة القرآن رقم ‪ : 542 542‬تفسير الصفحة رقم ‪ 542‬من القرآن‬
‫الكريم‬

‫سورة المجادلة‬
‫بِس ِْم هّللا ِ الرّحْ مـ َ ِن ال ّر ِح ِيم‬

‫ك فِي زَ وْ ِجهَا َوتَ ْشتَ ِك َي ِإلَى هّللا ِ َوهّللا ُ يَ ْس َم ُع تَ َحا ُو َر ُكمآ ِإ ّن هّللا َ َس ِمي ٌع بَ ِ‬
‫صي ٌر‬ ‫** قَ ْد َس ِم َع هّللا ُ قَوْ َل الّتِي تُ َجا ِدلُ َ‬
‫قال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا أبو معاوية‪ ,‬حدثنا األعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة قالت الحمد هلل الذي وسع سمعهـ األصوات‪ ,‬لقد‬
‫جاءت المجادلة إلى النبي صلى هللا عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقوله‪ ,‬فأنزل هللا عز وجل { قد سمع هللا قول التي‬
‫تجادلك في زوجه } إلى آخر االَية‪ ,‬وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقا ً فقال‪ ,‬وقال األعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن‬
‫عائشة فذكره وأخرجه النسائي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير من غير وجه عن األعمش به‪ .‬وفي رواية البن أبي حاتم عن األعمش‬
‫عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة أنها قالت‪ :‬تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء‪ ,‬إني ألسمع كالم خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه‬
‫وهي تشتكي زوجها إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ,‬وهي تقول يا رسول هللا أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني‬
‫وانقطع ولدي ظاهر مني‪ ,‬اللهم إني أشكو إليك‪ ,‬قالت فما برحت حتى نزل جبريل بهذه االَية { قد سمع هللا قول التي تجادلك في زوجه }‪.‬‬
‫قالت‪ :‬وزوجها أوس بن الصامت‪ ,‬وقال ابن لهيعة عن أبي األسود عن عروة هو أوس بن الصامت‪ :‬وكان أوس امرءاً به لمم‪ ,‬فكان إذا أخذه‬
‫لممه واشتد به يظاهر من امرأته‪ ,‬وإذا ذهب لم يقل شيئا ً فأتت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم تستفتيه في ذلك وتشتكي إلى هللا‪ ,‬فأنزل هللا‬
‫{ قد سمع هللا قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى هللا } االَية‪ .‬وهكذا روى هشام بن عروة عن أبيه أن رجالً كان به لمم فذكر مثله‪,‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا أبي‪ :‬حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة‪ ,‬حدثنا جرير يعني ابن حازم قال‪ :‬سمعتـ أبا يزيد يحدث قال‪ :‬لقيت امرأة‬
‫عمر يقال لها‪ :‬خولة بنت ثعلبة‪ ,‬وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها حتى‬
‫قضت حاجتها وانصرفت‪ ,‬فقال له رجل‪ :‬ياأمير المؤمنين حبست رجاالت قريش على هذه العجوز‪ ,‬قال ويحك وتدري من هذه ؟ قال‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال هذه امرأة سمع هللا شكواها من فوق سبع سموات‪ ,‬هذه خولة بنت ثعلبة‪ ,‬وهللا لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى‬
‫تقضي حاجتها إال أن تحضر صالة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها‪ .‬هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب وقد روي من‬
‫غير هذا الوجه‪ .‬وقال ابن أبي حاتم أيضا ً‪ :‬حدثنا المنذر بن شاذان‪ ,‬حدثنا يعلى‪ ,‬حدثنا زكريا عن عامر قال‪ :‬المرأة التي جادلت في زوجها‬
‫خولة بنت الصامت وأمها معاذة التي أنزل هللا فيها { وال تكرهوا فتياتكم على البغاء ِإن أردن تحصن } صوابه خولة امرأة أوس بن‬
‫الصامت‪.‬‬

‫** الّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِمن ُك ْم ّمن نّ َسآِئ ِه ْم ّما ه ُّن ُأ ّمهَاتِ ِه ْم ِإ ْن ُأ ّمهَاتُهُ ْم ِإالّ الالِّئي َولَ ْدنَهُ ْم َوِإنّهُ ْم لَيَقُولُونَ ُمنكَراً ّمنَ ْالقَوْ ِل َو ُزوراً َوِإ ّن هّللا َ لَ َعفُ ّو َغفُو ٌر‬
‫وا فَتَحْ ِري ُر َرقَبَ ٍة ّمن قَب ِْل َأن يَتَ َمآسّا َذلِ ُك ْم تُو َعظُونَ بِ ِه َوهّللا ُ بِ َما تَ ْع َملُونَ َخبِي ٌر * فَ َمن لّ ْم يَ ِج ْد‬
‫* َوالّ ِذينَ يُظَا ِهرُونَ ِمن نّ َسآِئ ِه ْم ثُ ّم يَعُو ُدونَ لِ َما قَالُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫هّللا‬
‫ك ُحدُو ُد ِ َولِلكَافِ ِرينَ َعذابٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫صيَا ُم َشه َْري ِْن ُمتَتَابِ َعي ِْن ِمن قَب ِْل َأن يَتَ َمآسّا فَ َمن لّ ْم يَ ْست َِط ْع فِإط َعا ُـم ِستينَ ِم ْس ِكينا ذلِكَ لِتُْؤ ِمنوا بِا ِ َو َرسُولِ ِه َوتِل َ‬
‫ْ‬ ‫هّلل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫فَ ِ‬
‫َألِي ٌم‬
‫قال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قاال‪ :‬حدثنا أبي‪ ,‬حدثنا محمد بن إسحاق‪ ,‬حدثني معمر بن عبد هللا بن حنظلة عن يوسف بن‬
‫عبد هللا بن سالم‪ ,‬عن خويلة بنت ثعلبة قالت‪ :‬ف ّي وهللا وفي أوس بن الصامت أنزل هللا صدر سورة المجادلة‪ ,‬قالت‪ :‬كنت عنده وكان شيخا ً‬
‫كبيراً قد ساء خلقه‪ ,‬قالت‪ :‬فدخل علي يوما ً فراجعته بشيء‪ ,‬فغضبـ فقال‪ :‬أنت عل ّي كظهر أمي‪ .‬قالت‪ :‬ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة‪,‬‬
‫ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قالت‪ :‬قلت كال‪ ,‬والذي نفس خويلة بيده ال تخلص ِإلي‪ ,‬وقد قلت ما قلت‪ ,‬حتى يحكم هللا ورسوله فينا‬
‫بحكمه‪ ,‬قالت‪ :‬فواثبني‪ ,‬فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني‪ ,‬قالت‪ :‬ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرتـ‬
‫منها ثياباً‪ ,‬ثم خرجت حتى جئت إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فجلست بين يديه‪ ,‬فذكرت له مالقيت منه وجعلت أشكو إليه ماألقى من‬
‫سوء خلقه‪ ,‬قالت‪ :‬فجعل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪« :‬ياخويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي هللا فيه»‪.‬‬
‫) قالت‪ :‬فو هللا ما برحت حتى نزل في قرآن‪ ,‬فتغشى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي‪« :‬يا خويلة قد‬
‫أنزل هللا فيك وفي صاحبك قرآنا ً ـ ثم قرأ علي { قد سمع هللا قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى هللا وهللا يسمع تحاوركما إن هللا سميع‬
‫بصير ـ إلى قوله تعالى ـ وللكافرين عذاب أليم } قالت‪ :‬فقال لي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم «مريه فليعتق رقبة» قالت‪ :‬فقلت يا رسول‬
‫هللا ما عنده ما يعتق‪ ,‬قال «فليصم شهرين متتابعين» قالت‪ :‬فقلت وهللا إنه لشيخ كبير ما به من صيام قال «فليطعم ستين مسكينا ً وسقا ً من‬
‫ق من تمر» قالت‪ :‬فقلت يا‬ ‫تمر» قالت‪ :‬فقلت وهللا يا رسول هللا ما ذاك عنده‪ ,‬قالت‪ :‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم «فإنا سنعينه ب َع َر ٍ‬
‫ق آخر قال «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيراً» قالت‪ :‬ففعلت‪.‬‬ ‫رسول هللا وأنا سأعينه ب َع َر ٍ‬
‫ورواه أبو داود في كتاب الطالق من سننه من طريقين عن محمد بن إسحاق بن يسار به‪ ,‬وعنده خولة بنت ثعلبة ويقال فيها خولة بنت مالك‬
‫بن ثعلبة‪ ,‬وقد تصغر فيقال خويلة‪ ,‬وال منافاة بين هذه األقوال فاألمر فيها قريب وهللا أعلم‪ .‬هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة‪ ,‬فأماـ‬
‫حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كانت سبب النزول ولكن أمر بما أنزل هللا في هذه السورة‪ ,‬من العتق أو الصيام أو اإلطعام‪ ,‬كما قال‬
‫اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا يزيد بن هارون‪ ,‬أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر‬
‫األنصاري قال‪ :‬كنت امرًأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري‪ ,‬فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا ً‬
‫من أن أصيب في ليلتي شيئا ً فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا ال أقدر أن أنزع‪ ,‬فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء‬
‫فوثبت عليها‪ ,‬فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت‪ :‬انطلقوا معي إلى النبي صلى هللا عليه وسلم فأخبره بأمري‪ ,‬فقالوا‪ :‬ال‬
‫وهللا ال نفعل نتخوف أن ينزل فينا‪ ,‬أو يقول فينا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مقالة يبقى علينا عارها‪ ,‬ولكن اذهب أنت‪ ,‬فاصنع ما بدا لك‪.‬‬
‫قال‪ :‬فخرجت حتى أتيت النبي صلى هللا عليه وسلم فأخبرته خبري فقال لي «أنت بذاك» فقلت‪ :‬أنا بذاك فقال «أنت بذاك» فقلت أنا بذاك‬
‫قال «أنت بذاك» قلت نعم‪ ,‬ها أنا ذا فأمض في حكم هللا عز وجل فإني صابر له قال «أعتق رقبة» قال‪ :‬فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت‪:‬‬
‫ال والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها‪ ,‬قال «فصم شهرين متتابعين» قلت‪ :‬يا رسول هللا وهل أصابني ما أصابني إال في الصيام قال‬
‫«فتصدق» فقلت‪ :‬والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشَى ما لنا عشاء‪ ,‬قال «اذهب إلى صاحب صدقة بني رزيق فقل له فليدفعها إليك‬
‫فأطعم عنك منها وسقا ً من تمر ستين مسكينا ً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك» قال‪ :‬فرجعتـ إلى قومي فقلت‪ :‬وجدت عندكم الضيق‬
‫وسوء الرأي‪ ,‬ووجدت عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم السعة والبركة قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إل ّي فدفعوها إل ّي‪ ,‬وهكذا رواه أبو‬
‫داود وابن ماجه واختصره الترمذي وحسنه‪ ,‬وظاهر السياق أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت ثعلبة‪ ,‬كما‬
‫دل عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل‪.‬‬
‫قال خصيف عن مجاهد عن ابن عباس‪ :‬أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت‪ ,‬وامرأته خولة بنت ثعلبة بن‬
‫مالك فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طالقاً‪ ,‬فأتت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقالت‪ :‬يا رسول هللا ‪ ,‬إن أوسا ً ظاهر مني‪ ,‬وإنا إن‬
‫افترقنا هلكنا وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته‪ ,‬وهي تشكو ذلك وتبكي ولم يكن جاء في ذلك شيء‪ ,‬فأنزل هللا تعالى‪ { :‬قد سمع هللا قول‬
‫التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى هللا ـ إلى قوله تعالى ـ وللكافرين عذاب أليم } فدعاه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪« :‬أتقدر على‬
‫رقبة تعتقها» قال‪ :‬ال وهللا يا رسول هللا ما أقدر عليها‪ .‬قال‪ :‬فجمع له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حتى أعتق عنه ثم راجع أهله‪ ,‬رواه ابن‬
‫جرير ولهذا ذهب ابن عباس واألكثرون إلى ما قلناه وهللا أعلم‪ .‬فقوله تعالى‪ { :‬الذين يظاهرون منكم من نسائهم } أصل الظهار مشتق من‬
‫الظهر‪ ,‬وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها‪ :‬أنت علي كظهر أمي ثم في الشرع كان الظهار في سائر األعضاء قياسا ً‬
‫على الظهر‪ ,‬وكان الظهار عند الجاهلية طالقا ً فأرخص هللا لهذه األمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طالقا ً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم‪,‬‬
‫هكذا قال غير واحد من السلف‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ :‬حدثنا أبو كريب‪ ,‬حدثنا عبيد هللا بن موسى عن أبي حمزة عن عكرمة عن ابن عباس قال‪ :‬كان الرجل إذا قال المرأته في‬
‫الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في اإلسالم أوس‪ ,‬وكان تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة‪ ,‬فظاهر‬
‫منها فأسقط في يديه‪ ,‬وقال ما أراك إال قد حرمت علي وقالت له مثل ذلك‪ ,‬قال‪ :‬فانطلقي إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأتت رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فقال‪« :‬يا خويلة» ما أمرنا في أمرك بشيء‪ ,‬فأنزل هللا على رسوله فقال‪« :‬يا خويلة‬
‫أبشري» قالت‪ :‬خيراً ـ فقرأ عليها { قد سمع هللا قول �لتي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى هللا وهللا يسمع تحاوركما ـ إلى قوله تعالى ـ‬
‫والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماس } قالت‪ :‬وأي رقبة لنا وهللا ما يجد رقبة غيري قال { فمن‬
‫لم يجد فصيام شهرين متتابعين } قالت‪ :‬وهللا لوال أنه يشرب في اليوم ثالث مرات لذهب بصره قال‪ { :‬فمن لم يستطع فإطعام ستين‬
‫مسكين } قالت‪ :‬من أين ما هي إال أكلة إلي مثلها‪ ,‬قال‪ :‬فدعا بشطر وسق ثالثين صاعا ً والوسق ستون صاعا ً فقال‪ :‬ليطعم ستين مسكينا ً‬
‫وليراجعك وهذا إسناد قوي وسياق غريب‪ ,‬وقد روي عن أبي العالية نحو هذا‪.‬‬
‫وقال ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي‪ ,‬حدثنا علي بن العاصم عن داود بن أبي هند عن أبي العالية قال‪ :‬كانت خولة بنت‬
‫دليج تحت رجل من األنصار‪ ,‬وكان ضرير البصر فقيراً سيء الخلق‪ ,‬وكان طالق أهل الجاهلية إذا أراد رجل أن يطلق امرأته قال‪ :‬أنت‬
‫علي كظهر أمي‪ ,‬وكان لها منه عيل أو عيالن فنازعته يوما ً في شيء فقال‪ :‬أنت علي كظهر أمي‪ ,‬فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم وهو في بيت عائشة‪ ,‬وعائشة تغسل شق رأسه فقدمتـ عليه ومعها عيلها‪ ,‬فقالت‪ :‬يا رسول هللا إن زوجي ضرير‬
‫البصر فقير ال شيء له سيء الخلق‪ ,‬وإني نازعته في شيء‪ ,‬فغضبـ فقال‪ :‬أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطالق‪ ,‬ولي منه عيل أو عيالن‬
‫فقال‪« :‬ما أعلمك إال قد حرمت عليه»‪.‬‬
‫َ‬
‫فقالت‪ :‬أشكو إلى هللا ما نزل بي أنا وصبيتي‪ ,‬قالت‪ :‬ودارت عائشة فغسلتـ شق رأسه االخر‪ ,‬فدارت معها فقالت‪ :‬يا رسول هللا زوجي‬
‫ضرير البصر فقير سيء الخلق وإن لي منه عيل أو عيالن وإني نازعته في شيء فغضبـ وقال‪ :‬أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطالق‪,‬‬
‫قالت‪ :‬فرفع إلي رأسه وقال‪« :‬ما أعلمك إال قد حرمت عليه» فقالت‪ :‬أشكو إلى هللا ما نزل بي أنا وصبيتي قال‪ :‬ورأت عائشة وجه النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم تغير‪ ,‬فقالت لها‪ :‬وراءك فتنحت‪ ,‬فمكث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم في غشيانه ذلك ما شاء هللا‪ ,‬فلما انقطع الوحي‬
‫قال‪ :‬يا عائشة أين المرأة فدعتها‪ ,‬فقال لها رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬اذهبي فأتيني بزوجك» فانطلقت تسعى‪ ,‬فجاءتـ به فإذا هو كما‬
‫قالت ضرير البصر فقير سيء الخلق‪.‬‬
‫فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬أستعيذ باهلل السميع العليم { بسم هللا الرحمن الرحيم * قد سمع هللا قول التي تجادلك في زوجها ـ إلى قوله‬
‫ـ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالو } قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪« :‬أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها» قال ال‪ ,‬قال‪« :‬أفال‬
‫تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟» قال‪ :‬والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرتين والثالث يكاد يعشو بصري‪ .‬قال‪« :‬أفتستطيع أن‬
‫تطعم ستين مسكينا ً ؟» قال‪ :‬ال‪ ,‬إال أن تعينني‪ .‬قال‪ :‬فأعانه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪« :‬أطعم ستين مسكيناً» قال‪ :‬وحول هللا‬
‫الطالق فجعله ظهاراً‪ ,‬ورواه ابن جرير عن ابن المثنى عن عبد األعلى عن داود سمعتـ أبا العالية فذكر نحوه بأخصر من هذا السياق‪ ,‬وقال‬
‫سعيد بن جبير‪ :‬كان اإليالء والظهار من طالق الجاهلية‪ ,‬فوقت هللا اإليالء أربعة أشهر وجعل في الظهار الكفارة‪ ,‬رواه ابن أبي حاتم بنحوه‪,‬‬
‫وقد استدل اإلمام مالك على أن الكافر ال يدخل في هذه االَية بقوله منكم فالخطاب للمؤمنين‪ ,‬وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب‬
‫فال مفهوم له‪ ,‬واستدل الجمهور عليه بقوله‪ { :‬من نسائهم } على أن األمة ال ظهار منها وال تدخل في هذا الخطاب‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إال الالئي ولدنهم } أي ال تصير المرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو كظهر أمي‬
‫وما أشبه ذلك‪ ,‬ال تصير أمه بذلك إنما أمه التي ولدته‪ ,‬ولهذا قال تعالى‪ { :‬وإنهم ليقولون منكراً من القول وزور } أي كالما ً فاحشاًـ باطالً‬
‫{ وإن هللا لعفو غفور } أي عما كان منكم في حال الجاهلية‪ ,‬وهكذا أيضا ً عما خرج من سبق اللسان‪ ,‬ولم يقصد إليه المتكلم‪ ,‬كما رواه أبو‬
‫داود أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم سمع رجالً يقول المرأته يا أختي‪ ,‬فقال‪« :‬أختك هي ؟» فهذا إنكار‪ ,‬ولكن لم يحرمها عليه بمجرد‬
‫ذلك ألنه لم يقصده ولو قصده لحرمت عليه ألنه ال فرق على الصحيح بين األم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما‬
‫أشبه ذلك‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالو } اختلف السلف واألئمة في المراد بقوله تعالى‪ { :‬ثم يعودون لما قالو }‬
‫فقال بعض الناس‪ :‬العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره‪ ,‬وهذا القول باطل وهو اختيار ابن حزم وقول داود وحكاه أبو عمر بن عبد‬
‫البر عن بكير بن األشج والفراء وفرقة من أهل الكالم‪ ,‬وقال الشافعي‪ :‬هو أن يمسكهاـ بعد المظاهرة زمانا ً يمكنه أن يطلق فيه فال يطلق‪,‬‬
‫وقال أحمد بن حنبل‪ :‬هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فال تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة‪ ,‬وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع‬
‫واإلمساك‪ ,‬وعنه أنه الجماع‪ ,‬وقال أبو حنيفة‪ :‬هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية‪ ,‬فمتى ظاهر الرجل من‬
‫امرأته فقد حرمها تحريما ً ال يرفعه إال الكفارة‪ ,‬وإليه ذهب أصحابه والليث بن سعد وقال ابن لهيعة‪ :‬حدثني عطاء عن سعيد بن جبير { ثم‬
‫يعودون لما قالو } يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم‪.‬‬
‫وقال الحسن البصري‪ :‬يعني الغشيان في الفرج وكان ال يرى بأسا ً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر‪ ,‬وقال علي بن أبي طلحة عن ابن‬
‫عباس‪ { :‬من قبل أن يتماس } والمس النكاح‪ ,‬وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن حيان‪ ,‬وقال الزهري‪ :‬ليس له أن يقبلها وال يمسها‬
‫حتى يكفر‪ .‬وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجالً قال‪ :‬يا رسول هللا‪ ,‬إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل‬
‫أن أكفر‪ .‬فقال‪« :‬ما حملك على ذلك يرحمك هللا» قال‪ :‬رأيت خلخالها في ضوء القمر‪ .‬قال‪« :‬فال تقربها حتى تفعل ما أمرك هللا عز وجل»‪,‬‬
‫وقال الترمذي‪ :‬حسن غريب صحيح‪ ,‬ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسالً‪ ,‬قال النسائي‪ :‬وهو أولى بالصواب‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فتحرير رقبة } أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا‪ ,‬فههنا الرقبة مطلقة غير مقيدة باإليمان وفي كفارة القتل مقيدة‬
‫باإليمان‪ ,‬فحمل الشافعي رحمه هللا ما أطلق ههنا على ما قيد هناك التحاد الموجب وهو عتق الرقبة‪ ,‬واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك‬
‫بسنده عن معاوية بن الحكم السلمي في قصة الجارية السوداء‪ ,‬وأن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪« :‬أعتقها فإنها مؤمنة» وقد رواه‬
‫أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه‪ .‬وقال الحافظ أبو بكر البزار‪ :‬حدثنا يوسف بن موسى‪ ,‬حدثنا عبد هللا بن نمير عن إسماعيل بن يسار عن‬
‫عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس‪ ,‬قال‪ :‬أتى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم رجل فقال إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل‬
‫أن أكفر‪ ,‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪« :‬ألم يقل هللا تعالى من قبل أن يتماسا» قال‪ :‬أعجبتني‪ ,‬قال‪« :‬أمسك حتى تكفر» ثم قال البزار‪:‬‬
‫ال يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا‪ ,‬وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم‪ ,‬وفيه من الفقه أنه لم يأمره إال‬
‫بكفارة واحدة‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ذلكم توعظون به } أي تزجرون به { وهللا بما تعملون خبير } أي خبير بما يصلحكم عليم بأحوالكم‪ ,‬وقوله تعالى‪ { :‬فمن‬
‫لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكين } قد تقدمت األحاديث االَمرة بهذا على الترتيب كما‬
‫ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان { ذلك لتؤمنوا باهلل ورسوله } أي شرعنا هذا لهذا‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬وتلك حدود‬
‫هللا } أي محارمه فال تنتهكوها‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬وللكافرين عذاب أليم } أي الذين لم يؤمنوا وال التزموا بأحكام هذه الشريعة‪ ,‬ال تعتقدوا أنهم‬
‫ناجون من البالء كال ليس األمر كما زعموا بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا واالَخرة‪ .‬‬

‫مِب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫* ِإ ّن الّ ِذين حُي آدو َن اللّه ورسولَه ُكبِتواْ َكما ُكبِت الّ ِذ ِ ِ‬
‫صاهُ‬‫َأح َ‬ ‫اب ّم ِه ٌ‬
‫ني * َي ْو َم َيْب َع ُث ُه ُم اللّهُ مَج يعاً َفُينَبُّئ ُه ْم َا َعملَُواْ ْ‬ ‫ين َع َذ ٌ‬ ‫ين من َقْبل ِه ْم َوقَ ْد َ‬
‫َأنزلْنَآ آيَات َبّينَات َولْل َكاف ِر َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ََ ُ ُ ُ َ‬ ‫َ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِإ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِإ‬
‫ى ثَالَثَة الّ ُه َو َراب ُع ُه ْم َوالَ مَخْ َسة الّ ُه َو َساد ُس ُه ْم َوالَ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يِف‬ ‫ِ‬ ‫يِف‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫اللّهُ َونَ ُسوهُ َواللّهُ َعلَ َى ُك ّل َش ْيء َشهي ٌد * َأمَلْ َتَر َأ ّن اللّهَ َي ْعلَ ُم َما‬
‫األرض َما يَ ُكو ُن من جّنْ َو َ‬ ‫ْ‬ ‫الس َم َاوات َو َما‬
‫ّ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ ِ ِإ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫مِب ِ‬ ‫ِإ‬ ‫َأدْىَنَ ِمن َذل َ‬
‫ك َوالَ َأ ْكَثَر الّ ُه َو َم َع ُه ْم َأيْ َن َما َكانُواْ مُثّ يُنَبُّئ ُهم َا َعملُواْ َي ْو َم الْقيَ َامة ّن اللّهَ ب ُك ّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫يم‬
‫خيرب تعاىل عمن شاقوا اهلل ورسوله وعاندوا شرعه { كبتوا كما كبت الذين من قبلهم } أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل مبن أشبههم ممن قبلهم { وقد أنزلنا آيات‬
‫بينات } أي واضحات ال يعاندها وال خيالفها إال كافر فاجر مكابر { وللكافرين عذاب مهني } أي يف مقابلة ما استكربوا عن اتباع شرع اهلل واالنقياد له واخلضوع‬
‫لديه‪.‬‬
‫مث قال تعاىل‪ { :‬يوم يبعثهم اهلل مجيع } وذلك يوم القيامة جيمع اهلل األولني واالَخرين يف صعيد واحد { فينبئهم مبا عملو } أي فيخربهم بالذي صنعوا من خري وشر‬
‫{ أحصاه اهلل ونسوه } أي ضبطه اهلل وحفظه عليهم وهم قد نسوا ما كانوا عملوا { واهلل على كل شيء شهيد } أي ال يغيب عنه شيء وال خيفى وال ينسى شيئاً‪,‬‬
‫مث قال تعاىل خمرباً عن إحاطة علمه خبلقه واطالعه عليهم ومساعه كالمهم‪ ,‬ورؤيته مكاهنم حيث كانوا وأين كانوا فقال تعاىل‪ { :‬أمل تر أن اهلل يعلم ما يف السموات‬
‫وما يف األرض ما يكون من جنوى ثالثة } أي من سر ثالثة { إال هو رابعهم وال مخسة إال هو سادسهم‪ ,‬وال أدىن من ذلك وال أكثر إال هو معهم أينما كانو } أي‬
‫مطلع عليهم يسمع كالمهم وسرهم وجنواهم ورسله أيضاً مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم اهلل به ومسعه له‪ ,‬كما قال تعاىل‪ { :‬أمل يعلموا أن اهلل يعلم سرهم‬
‫وجنواهم وأن اهلل عالم الغيوب } وقال تعاىل‪ { :‬أم حيسبون أنا ال نسمع سرهم وجنواهم ؟ بلى ورسلنا لديهم يكتبون } وهلذا حكى غري واحد اإلمجاع على أن املراد‬
‫هبذه االَية معية علمه تعاىل وال شك يف إرادة ذلك‪ ,‬ولكن مسعه أيضاً مع علمه هبم حميط هبم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه وتعاىل مطلع على خلقه ال يغيب عنه من‬
‫أمورهم شيء‪ ,‬مث قال تعاىل { مث ينبئهم مبا عملوا يوم القيامة إن اهلل بكل شيء عليم } وقال اإلمام أمحد‪ :‬افتتح االَية بالعلم واختتمها بالعلم‪.‬‬
‫ك بِِه اللّهُ َوَي ُقولُو َن يِف َ َأن ُف ِس ِه ْم‬ ‫صي ِة الرس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإ ِ‬
‫وك َحّي ْو َك مِبَا مَلْ حُيَيّ َ‬ ‫ول َوِإذَا َجآءُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج ْو َن باِإل مْثِ َوال ُْع ْد َوان َو َم ْع َ ّ ُ‬ ‫ودو َن ل َما نُ ُهواْ َعْنهُ َوَيَتنَ َ‬‫ى مُثّ َي ُع ُ‬ ‫ين نُ ُهواْ َع ِن النّ ْج َو َ‬
‫* َأمَلْ َتَر ىَل الّذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لَ ْوالَ يُ َع ّذبُنَا اللّهُ مِب َا نَ ُق ُ‬
‫ى‬ ‫اج ْواْ بِالْرِب ّ َو ّ‬
‫الت ْق َو َ‬ ‫الر ُسول َوَتنَ َ‬ ‫اجْيتُ ْم فَالَ َتَتنَ َ ِ ِ‬
‫اج ْواْ باِإل مْث َوالْعُ ْد َوان َو َم ْعصيَة ّ‬ ‫ين َآمُن َواْ ِإذَا َتنَ َ‬
‫س ال َْمصريُ * يََأيّ َها الّذ َ‬
‫ِ‬
‫صلَ ْونَ َها فَبْئ َ‬
‫ول َح ْسُب ُه ْم َج َهنّ ُم يَ ْ‬
‫آر ِه ْم َشْيئاً ِإالّ بِِإ ْذ ِن اللّ ِه َو َعلَى اللّ ِه َفْليََت َو ّك ِل ال ُْمْؤ ِمنُو َن‬
‫ضّ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ين َآمنُواْ َولَْي َ‬
‫ِ‬ ‫واّت ُقواْ اللّه الّ ِذي ِإلَي ِه حُت شرو َن * ِإمّنَا النّجوى ِمن ّ ِ ِ‬
‫الشْيطَان ليَ ْح ُز َن الّذ َ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫َ َ ْ ْ َُ‬ ‫َ‬
‫قال ابن أيب جنيح عن جماهد { أمل تر إىل الذين هنوا عن النجوى مث يعودون ملا هنوا عنه } قال اليهود‪ ,‬وكذا قال مقاتل بن حيان وزاد‪ :‬كان بني النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وبني اليهود موادعة‪ ,‬وكانوا إذا مر هبم الرجل من أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم حىت يظن املؤمن أهنم يتناجون بقتله أو مبا يكره‬
‫املؤمن‪ ,‬فإذا رأى املؤمن ذلك خشيهم فرتك طريقه عليهم‪ ,‬فنهاهم النيب صلى اهلل عليه وسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إىل النجوى‪ ,‬فأنزل اهلل تعاىل‪ { :‬أمل تر إىل‬
‫الذين هنوا عن النجوى مث يعودون ملا هنوا عنه } وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أيب‪ ,‬حدثنا إبراهيم بن املنذر احلزامي حدثين سفيان بن محزة عن كثري بن زيد عن ربيح بن‬
‫عبد الرمحن بن أيب سعيد اخلدري‪ ,‬عن أبيه عن جده قال‪ :‬كنا نتناوب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نبيت عنده يطرقه من الليل أمر وتبدو له حاجة فلما كانت ذات‬
‫ليلة كثر أهل النوب واحملتسبون حىت كنا أندية نتحدث‪ ,‬فخرج علينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬ما هذه النجوى ؟ أمل تنهوا عن النجوى ؟» قلنا‪ :‬تبنا إىل‬
‫اهلل يا رسول اهلل‪ ,‬إنا كنا يف ذكر املسيح فرقاً منه‪ .‬فقال‪« :‬أال أخربكم مبا هو أخوف عليكم عندي منه ؟» قلنا‪ :‬بلى يا رسول اهلل! قال‪« :‬الشرك اخلفي أن يقوم‬
‫الرجل يعمل ملكان رجل» هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ويتناجون باإلمث والعدوان ومعصية الرسول } أي يتحدثون فيما بينهم { باإلمث } وهو ما خيتص هبم { والعدوان } وهو ما يتعلق بغريهم‪ ,‬ومنه‬
‫معصية الرسول وخمالفته يصرون عليها ويتواصون هبا وقوله تعاىل‪ { :‬وإذا جاءوك حيوك مبا مل حييك به اهلل } قال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أبو سعيد األشج‪ ,‬حدثنا ابن‬
‫منري عن األعمش عن مسروق عن عائشة قالت‪ :‬دخل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة‪ :‬وعليكم السام قالت‪:‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬يا عائشة إن اهلل ال حيب الفحش وال التفحش» قلت‪ :‬أال تسمعهم يقولون السام عليك ؟ فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫«أو ما مسعت أقول وعليكم» فأنزل اهلل تعاىل‪ { :‬وإذا جاءوك حيوك مبا مل حييك به اهلل } ويف رواية يف الصحيح أهنا قالت هلم‪ :‬عليكم السام والذام واللعنة‪ ,‬وأن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال «إنه يستجاب لنا فيهم وال يستجاب هلم فينا»‪.‬‬

‫وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا بشر‪ ,‬حدثنا يزيد‪ ,‬حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم‬
‫يهودي‪ ,‬فسلم عليهم فردوا عليه فقال نيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم «هل تدرون ما قال ؟» قالوا سلم يا رسول اهلل قال «بل قال سام عليكم» أي تسامون دينكم‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «ردوه» فردوه عليه فقال نيب اهلل «أقلت‪ -‬سام عليكم ؟» قال‪ :‬نعم فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «إذا سلم عليكم أحد من‬
‫أهل الكتاب فقولوا عليك» أي عليك ما قلت‪ ,‬وأصل حديث أنس خمرج يف الصحيح وهذا احلديث يف الصحيح عن عائشة بنحوه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ويقولون يف أنفسهم لوال يعذبنا اهلل مبا نقول } أي يفعلون هذا ويقولون ما حيرفون من الكالم وإيهام السالم وإمنا هو شتم يف الباطن‪ ,‬ومع هذا‬
‫يقولون يف أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا اهلل مبا نقول له يف الباطن ألن اهلل يعلم ما نسره‪ ,‬فلو كان هذا نبياً حقاً ألوشك أن يعاجلنا اهلل بالعقوبة يف الدنيا فقال اهلل‬
‫تعاىل‪ { :‬حسبهم جهنم } أي جهنم كفايتهم يف الدار االَخرة { يصلوهنا فبئس املصري }‪ ,‬وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عبد الصمد‪ ,‬حدثنا محاد عن عطاء بن السائب‬
‫عن أبيه عن عبد اهلل بن عمر‪ ,‬أن اليهود كانوا يقولون لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سام عليكم‪ ,‬مث يقولون يف أنفسهم لوال يعذبنا اهلل مبا نقول ؟ فنزلت هذه االَية‬
‫{ وإذا جاءوك حيوك مبا مل حييك به اهلل ويقولون يف أنفسهم لوال يعذبنا اهلل مبا نقول حسبهم جهنم يصلوهنا فبئس املصري } إسناد حسن ومل خيرجوه‪.‬‬
‫وقال العويف عن ابن عباس { وإذا جاءوك حيوك مبا مل حييك به اهلل } قال‪ :‬كان املنافقون يقولون لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا حيوه سام عليك‪ ,‬قال اهلل‬
‫تعاىل‪ { :‬حسبهم جهنم يصلوهنا فبئس املصري } مث قال اهلل تعاىل مؤدباً عباده املؤمنني أن ال يكونوا مثل الكفرة واملنافقني { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فال تتناجوا‬
‫باإلمث والعدوان ومعصية الرسول } أي كما يتناجى به اجلهلة من كفرة أهل الكتاب ومن ماألهم على ضالهلم من املنافقني { وتناجوا بالرب والتقوى واتقوا اهلل الذي‬
‫إليه حتشرون } أي فيخربكم جبميع أعمالكم وأقوالكم اليت قد أحصاها عليكم وسيجزيكم هبا‪ ,‬قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا هبز وعفان قاال‪ :‬أخربنا مهام عن قتادة عن‬
‫صفوان بن حمرز قال‪ :‬كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال كيف مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول يف النجوى يوم القيامة ؟ قال مسعت رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬إن اهلل يدين املؤمن فيضع عليه كنفه ويسرته من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب‬
‫كذا ؟ حىت إذا قرره بذنوبه ورأى يف نفسه أنه قد هلك قال فإين قد سرتهتا عليك يف الدنيا‪ ,‬وأنا أغفرها لك اليوم مث يعطى كتاب حسناته‪ ,‬وأما الكفار واملنافقون‬
‫فيقول األشهاد هؤالء الذين كذبوا على رهبم أال لعنة اهلل على الظاملني» أخرجاه يف الصحيحني من حديث قتادة‪.‬‬

‫مث قال تعاىل‪ { :‬إمنا النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إال بإذن اهلل وعلى اهلل فليتوكل املؤمنون } أي إمنا النجوى وهي املسارة حيث يتوهم‬
‫مؤمن هبا سوءاً { من الشيطان ليحزن الذين آمنو } يعين إمنا يصدر هذا من املتناجني عن تسويل الشيطان وتزيينه { ليحزن الذين آمنو } أي ليسوءهم وليس ذلك‬
‫أحس من ذلك شيئاً فليستعذ باهلل وليتوكل على اهلل فإنه ال يضره شيء بإذن اهلل‪.‬‬
‫بضارهم شيئاً إال بإذن اهلل ومن ّ‬
‫وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون يف ذلك تأذ على مؤمن‪ ,‬كما قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا وكيع وأبو معاوية قاال‪ :‬حدثنا األعمش عن أيب وائل عن‬
‫عبد اهلل بن مسعود قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «إذا كنتم ثالثة فال يتناجى اثنان دون الثالث إال بإذنه فإن ذلك حيزنه» انفرد بإخراجه مسلم عن أيب‬
‫الربيع وأيب كامل‪ ,‬كالمها عن محاد بن زيد عن أيوب به‪.‬‬

‫انشزواْ يرفَ ِع اللّه الّ ِذين آمنُواْ ِمن ُكم والّ ِذين ُأوتُواْ الْعِْلم درج ٍ‬
‫ات‬ ‫ِإ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫يِف‬ ‫ِإ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ََ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫انش ُزواْ فَ ُ ُ َ ْ‬
‫يل ُ‬‫يل لَ ُك ْم َت َف ّس ُحواْ ال َْم َجالس فَافْ َس ُحواْ َي ْف َس ِح اللّهُ لَ ُك ْم َو ذَا ق َ‬
‫ين َآمنُواْ ذَا ق َ‬
‫** يََأيّ َها الّذ َ‬
‫مِب‬
‫َواللّهُ َا َت ْع َملُو َن َخبِريٌ‬
‫يقول تعاىل مؤدباً عباده املؤمنني وآمراً هلم أن حيسن بعضهم إىل بعض يف اجملالس { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا يف اجملالس } وقرىء { يف اجمللس }‬
‫{ فافسحوا يفسح اهلل لكم } وذلك أن اجلزاء من جنس العمل كما جاء يف احلديث الصحيح‪« :‬من بىن هلل مسجداً بىن اهلل له بيتاً يف اجلنة» ويف احلديث االَخر‪:‬‬
‫«ومن يسر على معسر يسر اهلل عليه يف الدنيا واالَخرة واهلل يف عون العبد ما كان العبد يف عون أخيه» وهلذا أشباه كثرية‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬فافسحوا يفسح اهلل لكم‬
‫} قال قتادة‪ :‬نزلت هذه االَية يف جمالس الذكر‪ ,‬وذلك أهنم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبالً ضنوا مبجالسهم عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأمرهم اهلل تعاىل أن‬
‫يفسح بعضهم لبعض‪.‬‬
‫وقال مقاتل بن حيان‪ :‬أنزلت هذه االَية يوم اجلمعة‪ ,‬وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يومئذ يف الصفة ويف املكان ضيق‪ ,‬وكان يكرم أهل بدر من املهاجرين‬
‫واألنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوه إىل اجملالس‪ ,‬فقاموا حيال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقالوا السالم عليك أيها النيب ورمحة اهلل وبركاته‪ ,‬فرد النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم عليهم‪ ,‬مث سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم‪ ,‬فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع هلم‪ ,‬فعرف النيب صلى اهلل عليه وسلم ما حيملهم على‬
‫القيام فلم يفسح هلم‪ ,‬فشق ذلك على النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال ملن حوله من املهاجرين واألنصار من غري أهل بدر‪« :‬قم يا فالن وأنت يا فالن» فلم يزل‬
‫يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بني يديه من املهاجرين واألنصار أهل بدر‪ ,‬فشق ذلك على من أقيم من جملسه وعرف النيب صلى اهلل عليه وسلم الكراهة يف‬
‫وجوههم‪ ,‬فقال املنافقون ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بني الناس ؟ واهلل ما رأيناه‬

‫قد عدل على هؤالء إن قوماً أخذوا جمالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه‪ ,‬فبلغنا أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬رحم اهلل رجالً‬
‫يفسح ألخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً فيفسح القوم إلخواهنم ونزلت هذه االَية يوم اجلمعة‪ .‬رواه ابن أيب حامت‪.‬‬
‫وقد قال اإلمام أمحد والشافعي حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال يقيم الرجل الرجل من جملسه فيجلس‪ -‬فيه‬
‫ولكن تفسحوا وتوسعوا» وأخرجاه يف الصحيحني من حديث نافع به‪ .‬وقال الشافعي‪ :‬أخربنا عبد اجمليد عن ابن جريج قال‪ :‬قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد‬
‫اهلل أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال يقيمن أحدكم أخاه يوم اجلمعة ولكن ليقل افسحوا» على شرط السنن ومل خيرجوه وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عبد‬
‫امللك بن عمرو‪ ,‬حدثنا فليح عن أيوب عن عبد الرمحن بن أيب صعصعة عن يعقوب بن أيب يعقوب عن أيب هريرة عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال يقيم الرجل‬
‫الرجل من جملسه مث جيلس فيه ولكن افسحوا يفسح اهلل لكم» ورواه أيضاً عن سريج بن يونس ويونس بن حممد املؤدب عن فليح به ولفظه‪« :‬ال يقوم الرجل للرجل‬
‫من جملسه ولكن افسحوا يفسح اهلل لكم» تفرد به أمحد‪.‬‬
‫وقد اختلف الفقهاء يف جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال‪ :‬فمنهم من رخص يف ذلك حمتجاً حبديث «قوموا إىل سيدكم» ومنهم من منع من ذلك حمتجاً حبديث‬
‫«من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار» ومنهم من فصل فقال جيوز عند القدوم من سفر وللحاكم يف حمل واليته‪ ,‬كما دل عليه قصة سعد بن‬
‫معاذ‪ ,‬فإنه ملا استقدمه النيب حاكماً يف بين قريظة فرآه مقبالً قال للمسلمني «قوموا إىل سيدكم» وما ذاك إال ليكون أنفذ حلكمه واهلل أعلم‪ .‬فأما اختاذه ديدناً فإنه من‬
‫شعار العجم‪ ,‬وقد جاء يف السنن أنه مل يكن شخص أحب إليهم من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وكان إذا جاء ال يقومون له ملا يعلمون من كراهته لذلك‪.‬‬
‫ويف احلديث املروي يف السنن أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان جيلس حيث انتهى به اجمللس‪ ,‬ولكن حيث جيلس يكون صدر ذلك اجمللس فكان الصحابة‬
‫رضي اهلل عنهم جيلسون منه على مراتبهم‪ ,‬فالصديق رضي اهلل عنه جيلسه عن ميينه وعمر عن يساره‪ ,‬وبني يديه غالباً عثمان وعلي ألهنما كانا ممن يكتب الوحي‪,‬‬
‫وكان يأمرمها بذلك كما رواه مسلم من حديث األعمش عن عمارة بن عمري عن أيب معمر عن أيب مسعود أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يقول‪« :‬ليليين‬
‫منكم أولو األحالم والنهى مث الذين يلوهنم‪ ,‬مث الذي يلوهنم» وما ذاك إال ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات اهلل وسالمه عليه‪ ,‬وهلذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين‬
‫وردوا من أهل بدر‪ ,‬إما لتقصري أولئك يف حق البدريني أو ليأخذ البدريون من العلم نصيبهم‪ ,‬كما أخذ أولئك قبلهم أو تعليماً بتقدمي األفاضل إىل األمام‪ .‬وقال اإلمام‬
‫أمحد‪ :‬حدثنا وكيع عن األعمش عن عمارة بن عمري التيمي عن أيب معمر عن أيب مسعود قال‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ميسح مناكبنا يف الصالة ويقول‪:‬‬

‫«استووا وال ختتلفوا فتختلف قلوبكم‪ ,‬ليليين منكم أولو األحالم والنهى مث الذين يلوهنم‪ ,‬مث الذين يلوهنم» قال أبو مسعود‪ :‬فأنتم اليوم أشد اختالفاً‪ ,‬وكذا رواه مسلم‬
‫وأهل السنن إال الرتمذي من طرق عن األعمش به‪ ,‬وإذا كان هذا أمره هلم يف الصالة أن يليه العقالء منهم والعلماء فبطريق األوىل أن يكون ذلك يف غري الصالة‪.‬‬
‫وروى أبو داود من حديث معاوية بن صاحل عن أيب الزاهرية عن كثري بن مرة عن عبد اهلل بن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬أقيموا الصفوف وحاذوا‬
‫بني املناكب وسدوا اخللل ولينوا بأيدي إخوانكم وال تذروا فرجات للشياطني ومن وصل صفاً وصله اهلل‪ ,‬ومن قطع صفاً قطعه اهلل» وهلذا كان أيب بن كعب سيد‬
‫القراء إذا انتهى إىل الصف األول انتزع منه رجالً يكون من أفناد الناس‪ ,‬ويدخل هو يف الصف املتقدم وحيتج هبذا احلديث‪« :‬ليليين منكم أولو األحالم والنهى» وأما‬
‫عبد اهلل بن عمر فكان ال جيلس يف املكان الذي يقوم له صاحبه عنه عمالً مبقتضى ما تقدم من روايته احلديث الذي أوردناه‪ ,‬ولنقتصر على هذا املقدار من األمنوذج‬
‫املتعلق هبذه االَية‪ ,‬وإال فبسطه حيتاج إىل غري هذا املوضع‪ .‬ويف احلديث الصحيح‪ :‬بينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جالس إذ أقبل ثالثة نفر‪ ,‬فأما أحدهم فوجد‬
‫فرجة يف احللقة فدخل فيها‪ ,‬وأما االَخر فجلس وراء الناس‪ ,‬وأدبر الثالث ذاهباً فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أال أنبئكم خبرب الثالثة‪ ,‬أما األول فآوى إىل اهلل‬
‫فآواه اهلل‪ ,‬وأما الثاين فاستحيا فاستحيا اهلل منه‪ ,‬وأما الثالث فأعرض فأعرض اهلل عنه»‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عتاب بن زياد أخربنا عبد اهلل‪ ,‬أخربنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد اهلل بن عمرو أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪« :‬ال حيل لرجل أن يفرق بني اثنني إال بإذهنما» ورواه أبو داود والرتمذي من حديث أسامة بن زيد الليثي به وحسنه الرتمذي وقد روي عن ابن عباس واحلسن‬
‫البصري وغريمها أهنم قالوا يف قوله تعاىل‪ { :‬إذا قيل لكم تفسحوا يف اجملالس فافسحوا يفسح اهلل لكم } يعين يف جمالس احلرب قالوا‪ :‬ومعىن قوله‪ { :‬وإذا قيل انشزوا‬
‫فانشزو } أي اهنضوا للقتال‪ .‬وقال قتادة { وإذا قيل انشزوا فانشزو }أي إذا دعيتم إىل خري فأجيبوا وقال مقاتل إذا دعيتم إىل الصالة فارتفعوا إليها‪ .‬وقال عبد الرمحن‬
‫بن زيد بن أسلم كانوا إذا كانوا عند النيب صلى اهلل عليه وسلم يف بيته فأرادوا االنصراف‪ ,‬أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجاً من عنده‪ ,‬فرمبا يشق ذلك‬
‫عليه‪ ,‬عليه السالم وقد تكون له احلاجة فأمروا أهنم إذا أمروا باالنصراف أن ينصرفوا كقوله تعاىل‪ { :‬وإن قيل لكم ارجعوا فارجعو }‪.‬‬

‫وقوله تعاىل‪ { :‬يرفع اهلل الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات واهلل مبا تعملون خبري } أي ال تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم ألخيه إذا أقبل أو إذا أمر‬
‫باخلروج فخرج‪ ,‬أن يكون ذلك نقصاً يف حقه بل هو رفعة ورتبة عند اهلل‪ ,‬واهلل تعاىل ال يضيع ذلك له‪ ,‬بل جيزيه هبا يف الدنيا واالَخرة فإن من تواضع ألمر اهلل رفع اهلل‬
‫قدره ونشر ذكره‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬يرفع اهلل الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات واهلل مبا تعملون خبري } أي خبري مبن يستحق ذلك ومبن ال يستحقه‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن أيب الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد احلارث لقي عمر بن اخلطاب بعسفان‪ ,‬وكان عمر‬
‫استعمله على مكة‪ ,‬فقال له عمر‪ :‬من استخلفت على أهل الوادي ؟ قال‪ :‬استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا‪ ,‬فقال عمر‪ :‬استخلفت عليهم موىل ؟ فقال‪ :‬يا‬
‫أمري املؤمنني إنه قارىء لكتاب اهلل عامل بالفرائض ٍ‬
‫قاض‪ ,‬فقال عمر رضي اهلل عنه‪ :‬أما إن نبيكم صلى اهلل عليه وسلم قد قال‪« :‬إن اهلل يرفع هبذا الكتاب قوماً ويضع به‬
‫آخرين» وهكذا رواه مسلم من غري وجه عن الزهري به‪ ,‬وروي من غري وجه عن عمر بنحوه‪ ,‬وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد يف ذلك من األحاديث‬
‫مستقصاة يف شرح كتاب العلم من صحيح البخاري‪ ,‬وهلل احلمد واملنة‪ .‬‬

‫ك خير لّ ُكم وَأطْهر فَِإن مّل جَتِ ُدواْ فَِإ ّن اللّه َغ ُف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم * َأَأ ْش َف ْقتُ ْم َأن ُت َق ّد ُمواْ َبنْي َ يَ َد ْي‬
‫ور ّرح ٌ‬
‫َ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ص َدقَةً َذل َ َ ْ ٌ ْ َ َ ُ‬ ‫ول َف َق ّد ُمواْ َبنْي َ يَ َد ْي جَنْ َوا ُك ْم َ‬
‫الر ُس َ‬ ‫ين َآمنُواْ ِإ َذا نَ َ‬
‫اجْيتُ ُم ّ‬ ‫* يََأيّ َها الّذ َ‬
‫ات فَِإ ْذ مَل َت ْفعلُواْ وتَاب اللّه علَي ُكم فََأقِيمواْ الصالََة وآتُواْ الّز َكا َة و ِ‬
‫َأط ُيعواْ اللّهَ َو َر ُسولَهُ َواللّهُ َخبِريٌ مِبَا َت ْع َملُو َن‬ ‫جَنْوا ُكم ص َدقَ ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ َ ُ َْ ْ ُ ّ َ‬ ‫َ ْ َ‬
‫يساره فيما بينه وبينه‪ ,‬أن يقدم بني يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه‬
‫يقول تعاىل آمراً عباده املؤمنني إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أي ّ‬
‫وتؤهله ألن يصلح هلذا املقام‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬ذلك خري لكم وأطهر } مث قال تعاىل‪ { :‬فإن مل جتدو } أي إال من عجزعن ذلك لفقره { فإن اهلل غفور رحيم }‬
‫فما أمر هبا إال من قدر عليها‪ .‬مث قال تعاىل‪ { :‬أأشفقتم أن تقدموا بني يدي جنواكم صدقات } أي أخفتم من استمرار هذا احلكم عليكم من وجوب الصدقة قبل‬
‫مناجاة الرسول { فإذ مل تفعلوا وتاب اهلل عليكم فأقيموا الصالة وآتوا الزكاة وأطيعوا اهلل ورسوله واهلل خبري مبا تعملون } فنسخ وجوب ذلك عنهم‪ ,‬وقد قيل إنه مل‬
‫يعمل هبذه االَية قبل نسخها سوى علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫قال ابن أيب جنيح عن جماهد قال‪ :‬هنوا عن مناجاة النيب صلى اهلل عليه وسلم حىت يتصدقوا فلم يناجه إال علي بن أيب طالب قدم ديناراً صدقة تصدق به‪ ,‬مث ناجى النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬فسأله عن عشر خصال مث أنزلت الرخصة‪ ,‬وقال ليث بن أيب سليم عن جماهد قال علي رضي اهلل عنه‪ :‬آية يف كتاب اهلل عز وجل مل يعمل‬
‫هباأحد قبلي وال يعمل هبا أحد)بعدي‪ ,‬كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم‪ ,‬فكنت إذا ناجيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تصدقت بدرهم‪ ,‬فنسخت ومل‬
‫يعمل هبا أحد قبلي وال يعمل هبا أحد بعدي‪ ,‬مث تال هذه االَية‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بني يدي جنواكم صدقة } االَية‪ .‬وقال ابن جرير‪:‬‬
‫حدثنا ابن محيد‪ ,‬حدثنا مهران عن سفيان عن عثمان بن املغرية عن سامل بن أيب اجلعد عن علي بن علقمة األمناري عن علي رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪« :‬ما ترى‪ ,‬دينار ؟» قال‪ :‬ال يطيقون‪ .‬قال «نصف دينار» قال‪ :‬ال يطيقون‪ .‬قال «ما ترى» ؟ قال‪ :‬شعرية‪ .‬فقال له النيب صلى اهلل عليه وسلم «إنك لزهيد»‬
‫قال‪ :‬فنزلت { أأشفقتم أن تقدموا بني يدي جنواكم صدقات } قال علي‪ :‬فيب خفف اهلل عن هذه األمة‪.‬‬

‫ورواه الرتمذي عن سفيان بن وكيع عن حيىي بن آدم عن عبيد اهلل األشجعي‪ ,‬عن سفيان الثوري عن عثمان بن املغرية الثقفي عن سامل بن أيب اجلعد عن علي بن‬
‫علقمة األمناري عن علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه قال‪ :‬ملا نزلت { يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بني يدي جنواكم صدقة } إىل آخرها قال يل النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما ترى‪ ,‬دينار» قلت‪ :‬ال يطيقونه وذكره بتمامه مثله‪ ,‬مث قال‪ :‬هذا حديث حسن غريب إمنا نعرفه من هذا الوجه‪,‬مث قال‪ :‬ومعىن قوله شعرية‬
‫يعين وزن شعرية من ذهب‪ ,‬ورواه أبو يعلى عن أيب بكر بن أيب شيبة عن حيىي بن آدم به‪ .‬وقال العويف عن ابن عباس يف قوله تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم‬
‫الرسول فقدموا بني يدي جنواكم صدقة ـ إىل ـ فإن اهلل غفور رحيم }‪ .‬كان املسلمون يقدمون بني يدي النجوى صدقة فلما نزلت الزكاة نسخ هذا وقال علي بن أيب‬
‫طلحة عن ابن عباس قوله‪ { :‬فقدموا بني يدي جنواكم صدقة } وذلك أن املسلمني أكثروا املسائل على رسول اللهصلى اهلل عليه وسلم حىت شقوا عليه‪ ,‬فأراد اهلل أن‬
‫خيفف عن نبيه عليه السالم‪ ,‬فلما قال ذلك جنب كثري من املسلمني وكفوا عن املسألة‪ ,‬فأنزل اهلل بعد هذا { أأشفقتم أن تقدموا بني يدي جنواكم صدقات فإذ مل‬
‫تفعلوا وتاب اهلل عليكم فأقيموا الصالة وآتوا الزكاة } فوسع اهلل عليهم ومل يضيق‪.‬‬
‫وقال عكرمة واحلسن البصري يف قوله تعاىل‪ { :‬فقدموا بني يدي جنواكم صدقة } نسختها االَية اليت بعدها { أأشفقتم أن تقدموا بني يدي جنواكم صدقات } إىل‬
‫آخرها‪ .‬وقال سعيد بن أيب عروبة عن قتادة ومقاتل بن حيان‪ :‬سأل الناس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت أحفوه باملسألة ففطمهم اهلل هبذه االَية‪ ,‬فكان الرجل‬
‫منهم إذا كانت له احلاجة إىل نيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم فال يستطيع أن يقضيها حىت يقدم بني يديه صدقة‪,‬فاشتد ذلك عليهم‪ ,‬فأنزل اهلل الرخصة بعد ذلك { فإن مل‬
‫جتدوا فإن اهلل غفور رحيم }‪.‬‬
‫وقال معمر عن قتادة { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بني يدي جنواكم صدقة } إهنا منسوخة ما كانت إال ساعة من هنار‪ .‬وهكذا روى عبد الرزاق‪ :‬أخربنا معمر عن‬
‫أيوب عن جماهد قال علي ‪ :‬ما عمل هبا أحد غريي حىت نسخت‪ ,‬وأحسبه قال‪ :‬وما كانت إال ساعة‪.‬‬

‫َأع ّد اللّهُ هَلُ ْم َع َذاباً َش ِديداً ِإنّ ُه ْم َسآءَ َما َكانُواْ َي ْع َملُو َن‬
‫ب َو ُه ْم َي ْعلَ ُمو َن * َ‬ ‫ضب اللّهُ َعلَْي ِهم ما ُهم من ُكم والَ ِمْنهم وحَيْلِ ُفو َن َعلَى الْ َك ِذ ِ‬
‫ّ ْ َ ُْ َ‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫ين َت َولّْواْ َق ْوماً َغ َ‬
‫ِإ ِ‬
‫** َأمَلْ َتَر ىَل الّذ َ‬
‫اب النّا ِر ُه ْم فِ َيها َخالِ ُدو َن * َي ْو َم َيْب َع ُث ُه ُم‬
‫َأص َح ُ‬
‫ك ْ‬ ‫ني * لّن ُت ْغيِن َ َعْن ُه ْم َْأم َواهُلُ ْم َوالَ َْأوالَ ُد ُه ْم ّم َن اللّ ِه َشْيئاً ُْأولَـَِئ َ‬
‫اب ّم ِه ٌ‬
‫ِ‬
‫ص ّدواْ َعن َسبِ ِيل اللّه َفلَ ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫* اخّتَ ْذ َواْ َأمْيَا َن ُه ْم ُجنّةً فَ َ‬
‫ان َأالَ ِإ ّن‬ ‫الشيطَ ِ‬ ‫الشيطَا ُن فََأنساهم ِذ ْكر اللّ ِه ُأولَـِئ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب ّْ‬ ‫ك حْز ُ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُْ َ‬ ‫استَ ْح َوذَ َعلَْي ِه ُم ّ ْ‬ ‫اللّه مَج يعاً َفيَ ْحل ُفو َن لَهُ َك َما حَيْل ُفو َن لَ ُك ْم َوحَيْ َسبُو َن َأنّ ُه ْم َعلَ َى َش ْيء َأالَ ِإنّ ُه ْم ُه ُم الْ َكاذبُو َن * ْ‬
‫اسُرو َن‬‫ان هم اخلَ ِ‬ ‫ِحزب ّ ِ‬
‫الشْيطَ ُ ُ‬ ‫ْ َ‬

‫يقول اهلل تعاىل منكراً على املنافقني يف مواالهتم الكفار يف الباطن‪ .‬وهم يف نفس األمر ال معهم وال مع املؤمنني كما قال تعاىل‪ { :‬مذبذبني بني ذلك ال إىل هؤالء وال‬
‫إىل هؤالء ومن يضلل اهلل فلن جتد له سبيل } وقال ههنا‪ { :‬أمل تر إىل الذين تولوا قوماً غضب اهلل عليهم } يعين اليهود الذين كان املنافقون ميالئوهنم ويوالوهنم يف‬
‫الباطن مث قال تعاىل‪ { :‬ما هم منكم وال منهم } أي هؤالء املنافقون ليسوا يف احلقيقة منكم أيها املؤمنون‪ ,‬وال من الذين يوالوهنم وهم اليهود‪ ,‬مث قال تعاىل‪:‬‬
‫{ وحيلفون على الكذب وهم يعلمون } يعين املنافقني حيلفون على الكذب‪ ,‬وهم عاملون بأهنم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمني الغموس‪ ,‬وال سيما يف مثل حاهلم‬
‫اللعني عياذاً باهلل منه‪ ,‬فإهنم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا‪ ,‬وإذا جاؤوا الرسول حلفوا له باهلل إهنم مؤمنون‪ ,‬وهم يف ذلك يعلمون أهنم يكذبون فيما حلفوا به‪,‬‬
‫ألهنم ال يعتقدون صدق ما قالوه وإن كان يف نفس األمر مطابقاً‪ ,‬وهلذا شهد اهلل بكذهبم يف أمياهنم وشهادهتم لذلك‪.‬‬
‫مث قال تعاىل‪ { :‬أعد اهلل هلم عذاباً شديداً إهنم ساء ما كانوا يعملون } أي أرصد اهلل هلم على هذا الصنيع العذاب األليم على أعماهلم السيئة وهي مواالة الكافرين‬
‫ونصحهم ومعاداة املؤمنني‪ ,‬وغشهم‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬اختذوا أمياهنم جنة فصدوا عن سبيل اهلل } أي أظهروا اإلميان وأبطنوا الكفر واتقوا باألميان الكاذبة‪ ,‬فظن‬
‫كثري ممن ال يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغرت هبم‪ ,‬فحصل هبذا صد عن سبيل اهلل لبعض الناس { فلهم عذاب مهني } أي يف مقابلة ما امتهنوا من احللف باسم اهلل‬
‫العظيم يف األميان الكاذبة اخلانثة‪ ,‬مث قال تعاىل‪ { :‬لن تغين عنهم أمواهلم وال أوالدهم من اهلل شيئ } أي لن يدفع ذلك عنهم بأساً إذا جاءهم { أولئك أصحاب النار‬
‫هم فيها خالدون } مث قال تعاىل‪ { :‬يوم يبعثهم اهلل مجيع } أي حيشرهم يوم القيامة عن آخرهم فال يغادر منهم أحداً { فيحلفون له كما حيلفون لكم وحيسبون أهنم‬
‫على شيء } أي حيلفون بااهلل عز وجل أهنم كانوا على اهلدى واالستقامة كما كانوا حيلفون للناس يف الدنيا ألن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه‪,‬‬
‫ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند اهلل كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم األحكام الظاهرة وهلذا قال‪ { :‬وحيسبون أهنم على شيء } أي حلفهم بذلك لرهبم عز‬
‫وجل‪.‬‬
‫مث قال تعاىل‪ :‬منكراً عليهم حسباهنم { أال إهنم هم الكاذبون } فأكد اخلرب عنهم بالكذب‪ .‬وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أيب‪ ,‬حدثنا ابن نفيل‪ ,‬حدثنا زهري عن مساك بن‬
‫حرب‪ ,‬حدثين سعيد بن جبري‪ ,‬أن ابن عباس حدثه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم كان يف ظل حجرة من حجره وعنده نفر من املسلمني قد كاد يقلص عنهم الظل‬
‫قال‪« :‬إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيين شيطان فإذا أتاكم فال تكلموه» فجاء رجل أزرق فدعاه رسول اهلل فكلمه فقال‪« :‬عالم تشتمين أنت وفالن وفالن» نفر دعاهم‬
‫بأمسائهم‪ ,‬قال فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه‪ ,‬قال فأنزل اهلل عز وجل { فيحلفون له كما حيلفون لكم وحيسبون أهنم على شيء أال إهنم هم‬
‫الكاذبون }‪.‬‬

‫وهكذا رواه اإلمام أمحد من طريقني عن مساك به‪ ,‬ورواه ابن جرير عن حممد بن املثىن عن غندر عن شعبة عن مساك به حنوه‪ ,‬وأخرجه أيضاً من حديث سفيان الثوري‬
‫عن مساك بنحوه إسناد جيد ومل خيرجوه‪ ,‬وحال هؤالء كما أخرب اهلل تعاىل عن املشركني حيث يقول‪ { :‬مث مل تكن فتنتهم إال أن قالوا واهلل ربنا ما كنا مشركني انظر‬
‫كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفرتون } مث قال تعاىل‪ { :‬استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اهلل } أي استحوذ على قلوهبم الشيطان حىت‬
‫أنساهم أن يذكروا اهلل عز وجل‪ ,‬وكذلك يصنع مبن استحوذ عليه‪ ,‬وهلذا قال أبو داود‪ :‬حدثنا أمحد بن يونس‪ ,‬حدثنا زائدة‪ ,‬حدثنا السائب بن حبيش عن معدان بن‬
‫أيب طلحة اليعمري‪ ,‬عن أيب الدرداء قال‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬ما من ثالثة يف قرية وال بدو ال تقام فيهم الصالة إال قد استحوذ عليهم‬
‫الشيطان فعليك باجلماعة فإمنا يأكل الذئب القاصية» قال زائدة‪ :‬قال السائب‪ :‬يعين الصالة يف اجلماعة‪ .‬مث قال تعاىل‪ { :‬أولئك حزب الشيطان } يعين الذين استحوذ‬
‫عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اهلل مث قال تعاىل‪ { :‬أال إن حزب الشيطان هم اخلاسرون }‪ .‬‬

‫تفسير ابن كثير ‪ -‬صفحة القرآن رقم ‪ : 545545‬تفسري الصفحة رقم ‪ 545‬من القرآن الكرمي‬

‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِإ‬ ‫ِ‬


‫آدو َن اللّهَ َو َر ُسولَهُ ُْأولَـَِئ َ‬
‫ِإ ِ‬
‫آد اللّهَ‬
‫آدو َن َم ْن َح ّ‬ ‫ي َع ِز ٌيز * الّ جَت ُد َق ْوماً يُْؤ منُو َن بِاللّه َوالَْي ْوم االَخ ِر يُ َو ّ‬ ‫ب اللّهُ أل ْغلنَبّ َأنَاْ َو ُر ُسل َي ّن اللّهَ قَ ِو ّ‬ ‫ني * َكتَ َ‬ ‫ك يِف األ َذلّ َ‬ ‫ين حُيَ ّ‬
‫** ّن الّذ َ‬
‫ين فِ َيها‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫وح ّمْنهُ َويُ ْدخلُ ُه ْم َجنّات جَتْ ِري من حَتْت َها األ ْن َه ُار َخالد َ‬ ‫ب يِف ُقلُوهِبِ ُم اِإل ميَا َن َوَأيّ َد ُه ْم بُِر ٍ‬
‫ك َكتَ َ‬ ‫َو َر ُسولَهُ َولَ ْو َكانَُواْ آبَآءَ ُه ْم َْأو َْأبنَآءَ ُه ْم َْأو ِإ ْخ َوانَ ُه ْم َْأو َع ِش َريَت ُه ْم ُْأولَـَِئ َ‬
‫ب اللّ ِه ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب اللّه َأالَ ِإ ّن ح ْز َ‬ ‫ك حْز ُ‬
‫ر ِضي اللّه عْنهم ورضواْ عْنه ُأولَـِئ َ ِ‬
‫َ َ ُ َ ُ ْ ََ ُ َ ُ ْ َ‬
‫يقول تعاىل خمرباً عن الكفار املعاندين احملادينلله ورسوله‪ ,‬يعين الذين هم يف حد والشرع يف حد‪ ,‬أي جمانبون للحق مشاقون له هم يف ناحية واهلدى يف ناحية‬
‫{ أولئك يف األذلني } أي يف األشقياء املبعدين املطرودين عن الصواب األذلني يف الدنيا واالَخرة‪ { .‬كتب هلل ألغلنب أنا ورسلي } أي قد حكم وكتب يف كتابه‬
‫األول وقدره الذي ال خيالف وال ميانع وال يبدل‪ ,‬بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده املؤمنني يف الدنيا واالَخرة { وأن العاقبة للمتقني } كما قال تعاىل‪ { :‬إنا لننصر‬
‫رسلنا والذين آمنوا يف احلياة الدنيا ويوم يقوم األشهاد * يوم ال ينفع الظاملني معذرهتم وهلم اللعنة وهلم سوء الدار } وقال ههنا‪ { :‬كتب اهلل ألغلنب أنا ورسلي إن اهلل‬
‫قوي عزيز } أي كتب القوي العزيز أنه الغالب ألعدائه‪ ,‬وهذا قدر حمكم وأمر مربم أن العاقبة والنصرة للمؤمنني يف الدنيا واالَخرة مث قال تعاىل‪ { :‬ال جتد قوماًيؤمنون‬
‫احملادين ولو كانوا من األقربني كما قال تعاىل‪{ :‬‬
‫يوادون ّ‬
‫حاد اهلل ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخواهنم أو عشريهتم } أي ال ّ‬
‫يوادون من ّ‬
‫باهلل واليوم االَخر ّ‬
‫ال يتخذ املؤمنون الكافرين أولياء من دون املؤمنني ومن يفعل ذلك فليس من اهلل يف شيء إال أن تتقوا منهم تقاة وحيذركم اهلل نفسه } االَية‪.‬‬
‫وقال اهلل تعاىل‪ { :‬قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشريتكم وأموال اقرتفتموها وجتارة ختشون كسادها ومساكن ترضوهنا أحب إليكم من اهلل‬
‫ورسوله وجهاد يف سبيله فرتبصوا حىت يأيت اهلل بأمره واهلل ال يهدي القوم الفاسقني } وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغريه‪ :‬أنزلت هذه االَية { ال جتد قوماً يؤمنون‬
‫باهلل واليوم االَخر } إىل آخرها يف أيب عبيدة عامر بن عبد اهلل بن اجلراح حني قتل أباه يوم بدر‪ ,‬وهلذا قال عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه حني جعل األمر شورى‬
‫بعده يف أولئك الستة رضي اهلل عنهم‪ :‬ولو كان أبو عبيدة حياً الستخلفته‪ .‬وقيل يف قوله تعاىل‪ { :‬ولو كانوا آباءهم } نزلت يف أيب عبيدة قتل أباه يوم بدر { أو‬
‫أبناءهم } يف الصديق هم يومئذ بقتل ابنه عبد الرمحن { أو إخواهنم } يف مصعب بن عمري‪ ,‬قتل أخاه عبيد بن عمري يومئذ { أو عشريهتم } يف عمر قتل قريباً له‬
‫يومئذ أيضاً‪ ,‬ويف محزة وعلي وعبيدة بن احلارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ‪ ,‬فاهلل أعلم‪.‬‬

‫قلت‪ :‬ومن هذا القبيل حني استشار رسول اهلل املسلمني يف أسارى بدر‪ ,‬فأشار الصديق بأن يفادوا فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمني‪ ,‬وهم بنو العم والعشرية‪,‬‬
‫ولعل اهلل تعاىل أن يهديهم‪ ,‬وقال عمر‪ :‬ال رأى ما أرى‪ ,‬يا رسول اهلل هل متكنين من فالن قريب لعمر فأقتله‪ ,‬ومتكن علياً من عقيل ومتكن فالناً من فالن ليعلم اهلل أنه‬
‫ليست يف قلوبنا موادة للمشركني القصة بكماهلا‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬أولئك كتب يف قلوهبم اإلميان وأيدهم بروح منه } أي من اتصف بأنه ال يواد من حاد اهلل ورسوله‬
‫ولو كان أباه أو أخاه‪ ,‬فهذا ممن كتب اهلل يف قلبه اإلميان أي كتب له السعادة وقررها يف قلبه وزين اإلميان يف بصريته‪ .‬قال السدي‪ { :‬كتب يف قلوهبم اإلميان } جعل‬
‫يف قلوهبم اإلميان‪ .‬وقال ابن عباس { وأيدهم بروح منه } أي قواهم‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ويدخلهم جنات جتري من حتتها األهنار خالدين فيها رضي اهلل عنهم ورضوا عنه } كل هذا تقدم تفسريه غري مرة‪ ,‬ويف قوله تعاىل‪   { :‬رضي اهلل‬
‫عنهم ورضوا عنه } سر بديع وهو أنه ملا سخطوا على القرائب والعشائر يف اهلل تعاىل عوضهم اهلل بالرضا عنهم وأرضاهم عنه مبا أعطاهم من النعيم املقيم والفوز‬
‫العظيم والفضل العميم‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬أولئك حزب اهلل أال إن حزب اهلل هم املفلحون } أي هؤالء حزب اهلل أي عباد اهلل وأهل كرامته‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬أالإن‬
‫حزب اهلل هم املفلحون } تنويه بفالحهم وسعادهتم ونصرهتم يف الدنيا واالَخرة يف مقابلة ما ذكر عن أولئك بأهنم حزب الشيطان مث قال‪ { :‬أال إن حزب الشيطان‬
‫هم اخلاسرون }‪.‬‬
‫وقد قال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا هارون بن محيد الواسطي‪ ,‬حدثنا الفضل بن عنبسة عن رجل قد مساه فقال‪ :‬هو عبد احلميد بن سليمان ـ انقطع من كتايب ـ عن الذيال‬
‫بن عباد قال‪ :‬كتب أبو حازم األعرج إىل الزهري‪ :‬اعلم أن اجلاه جاهان جاه جيريه اهلل تعاىل على أيدي أوليائه ألوليائه‪ ,‬وأهنم اخلامل ذكرهم اخلفية شخوصهم‪ ,‬ولقد‬
‫جاءت صفتهم على لسان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «إن اهلل حيب األخفياء األتقياء األبرياء الذين إذا غابوا مل يفتقدوا‪ ,‬وإذا حضروا مل يدعوا‪ ,‬قلوهبم مصابيح‬
‫اهلدى خيرجون من كل فتنة سوداء مظلمة» فهؤالءأولياء اهلل تعاىل الذين قال اهلل‪ { :‬أولئك حزب اهلل أال إن حزب اهلل هم املفلحون } وقال نعيم بن محاد‪ :‬حدثنا‬
‫حممد بن ثور عن يونس عن احلسن قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬اللهم ال جتعل لفاجر وال لفاسق عندي يداً وال نعمة فإين وجدت فيما أوحيته إيل { ال‬
‫حاد اهلل ورسوله } قال سفيان‪ :‬يرون أهنا نزلت فيمن خيالط السلطان رواه أبو أمحد العسكري‪ .‬آخر تفسري سورة‬
‫يوادون من ّ‬
‫جتد قوماً يؤمنون باهلل واليوم االَخر ّ‬
‫اجملادلة وهلل احلمد واملنة‪.‬‬

‫سورة احلشر‬

‫سورة احلشر‬
‫وكان ابن عباس يقول‪ :‬سورة بين النضري‬
‫قال سعيد بن املنصور‪ :‬حدثنا هشيم عن أيب بشر عن سعيد بن جبري قال‪ :‬قلت البن عباس سورة احلشر‪ ,‬قال‪ :‬أنزلت يف بين النضري‪ ,‬ورواه البخاري ومسلم من وجه‬
‫آخر عن هشيم به‪ ,‬ورواه البخاري من حديث أيب عوانة عن أيب بشر عن سعيد بن جبري‪ :‬قال قلت البن عباس سورة احلشر ؟ قال سورة بين النضري‪.‬‬

‫الر ِحي ِم‬


‫الرمْح ـَ ِن ّ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫ب ْسم اللّه ّ‬

‫ألو ِل احْلَ ْش ِر َما ظَنَنتُ ْم َأن خَيُْر ُجواْ َوظَّن َواْ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫** َسبّ َح لِلّ ِه َما يِف‬
‫ين َك َف ُرواْ م ْن َْأه ِل الْكتَاب من ديَا ِره ْم ّ‬ ‫َأخَر َج الّذ َ‬
‫ي ْ‬ ‫يم * ُه َو الّذ َ‬ ‫ِ‬
‫ض َو ُه َو ال َْعز ُيز احْلَك ُ‬ ‫الس َم َاوات َو َما يِف ْ‬
‫األر ِ‬ ‫ّ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ث مَل حَي تَ ِسبواْ وقَ َذ َ يِف هِبِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صا ِر * َولَ ْوالَ َأن‬ ‫اعتَرِب ُواْ يَ ُْأويِل األبْ َ‬ ‫ب خُيْ ِربُو َن بُيُوَت ُه ْم بَِأيْدي ِه ْم َوَأيْدي ال ُْمْؤ من َ‬
‫ني فَ ْ‬ ‫الر ْع َ‬
‫ف ُقلُو ُم ّ‬ ‫اه ُم اللّهُ م ْن َحْي ُ ْ ْ ُ َ‬ ‫صونُ ُهم ّم َن اللّه فََأتَ ُ‬ ‫َأنّ ُه ْم ّمان َعُت ُه ْم ُح ُ‬
‫آق اللّهَ فَِإ ّن اللّهَ َش ِد ُ‬
‫اب * َما قَطَ ْعتُ ْم ّمن لّينَ ٍة َْأو‬ ‫يد الْعِ َق ِ‬ ‫ك بَِأنّ ُه ْم َشآقّواْ اللّهَ َو َر ُسولَهُ َو َمن يُ َش ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب اللّهُ َعلَْي ِه ُم اجْلَالَءَ لَ َع ّذ َب ُه ْم يِف ال ّد ْنيَا َوهَلُ ْم يِف االَخَر ِة َع َذ ُ‬
‫اب النّا ِر * ذَل َ‬ ‫َكتَ َ‬
‫ِِ‬ ‫َتر ْكتموها قَآِئمةً علَى هِل ِِإ ِ ِ ِ‬
‫ني‬
‫ي الْ َفاسق َ‬ ‫ُأصو َا فَب ْذن اللّه َوليُ ْخ ِز َ‬ ‫َ ُُ َ َ َ َ ُ‬
‫خيرب تعاىل أن مجيع ما يف السموات وما يف األرض من شيء يسبح له وميجده ويقدسه ويصلي له ويوحده كقوله تعاىل‪ { :‬تسبح له السموات السبع واألرض ومن‬
‫فيهن وإن من شيء إال يسبح حبمده ولكن ال تفقهون تسبيحهم } وقوله تعاىل‪ { :‬وهو العزيز } أي منيع اجلناب { احلكيم } يف قدره وشرعه‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬هو‬
‫الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعين يهود بين النضري‪ .‬قاله ابن عباس وجماهد والزهري وغري واحد‪ :‬كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا قدم املدينة‬
‫هادهنم وأعطاهم عهداً وذمة على أن ال يقاتلهم وال يقاتلوه‪ ,‬فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه فأحل اهلل هبم بأسه الذي ال مرد له‪ ,‬وأنزل عليهم قضاءه الذي ال‬
‫يصد‪ ,‬فأجالهم النيب صلى اهلل عليه وسلم وأخرجهم من حصوهنم احلصينة اليت ما طمع فيها املسلمون وظنوا هم أهنا ما نعتهم من بأس اهلل‪ ,‬فما أغىن عنهم من اهلل‬
‫شيئاً وجاءهم من اهلل ما مل يكن بباهلم‪ ,‬وسريهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأجالهم من املدينة‪ ,‬فكان منهم طائفة ذهبوا إىل أذرعات من أعايل الشام‪ ,‬وهي‬
‫أرض احملشر واملنشر‪ ,‬ومنهم طائفة ذهبوا إىل خيرب‪ ,‬وكان قد أنزهلم منها على أن هلم ما محلت إبلهم‪ ,‬فكانوا خيربون ما يف بيوهتم من املنقوالت اليت ال ميكن أن حتمل‬
‫معهم‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬خيربون بيوهتم بأيديهم وأيدي املؤمنني فاعتربوا يا أويل األبصار } أي تفكروا يف عاقبة من خالف أمر اهلل وخالف رسوله وكذب كتابه‬
‫كيف حيل به من بأسه املخزي له يف الدنيا مع ما يدخره له يف االَخرة من العذاب األليم‪.‬‬
‫قال أبو داود‪ :‬حدثنا حممد بن داود سفيان‪ ,‬حدثنا عبد الرزاق‪ ,‬أخربنا معمر عن الزهري عن عبد الرمحن بن كعب بن مالك‪ ,‬عن رجل من أصحاب النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم أن كفار قريش كتبوا إىل ابن أيب ومن كان معه يعبد األوثان من األوس‪ ,‬واخلزرج‪,‬‬

‫ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يومئذ باملدينة قبل وقعة بدر‪ :‬إنكم آويتم صاحبنا وإنا نقسم باهلل لنقاتلنه أو لنخرجنكم أو لنسرين إليكم بأمجعنا حىت نقتل مقاتلتكم‬
‫ونسيب نساءكم‪ ,‬فلما بلغ ذلك عبد اهلل بن أيب ومن كان معه من عبدة األوثان أمجعوا لقتال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬فلما بلغ ذلك النيب صلى اهلل عليه وسلم لقيهم‬
‫فقال‪« :‬لقد بلغ وعيد قريش منكم املبالغ ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم» فلما مسعوا ذلك من النيب‬
‫تفرقوا‪ ,‬فبلغ ذلك كفار قريش فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إىل اليهود‪ :‬إنكم أهل احللقة واحلصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا‪ ,‬وال حيول‬
‫بيننا وبني خدم نسائكم شيء وهو اخلالخل‪ ,‬فلما بلغ كتاهبم النيب صلى اهلل عليه وسلم أيقنت بنو النضري بالغدر‪ ,‬فأرسلوا إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اخرج إلينا‬
‫يف ثالثني رجالً من أصحابك وليخرج منا ثالثون حرباً حىت نلتقي مبكان النصف‪ ,‬وليسمعوا منك فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك‪.‬‬
‫فلما كان الغد غدا عليهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال هلم‪« :‬إنكم واهلل ال تؤمنون عندي إال بعهد تعاهدونين عليه فأبوا أن يعطوه عهداً‬
‫فقاتلهم يومهم ذلك‪ ,‬مث غدا من الغد على بين قريظة بالكتائب وترك بين النضري ودعاهم إىل أن يعاهدوه فعاهدوه‪ ,‬فانصرف عنهم وغدا إىل بين النضري بالكتائب‬
‫فقاتلهم حىت نزلوا على اجلالء‪ ,‬فجلت بنو النضري واحتملوا ما أقلت اإلبل من أمتعتهم وأبواب بيوهتم وخشبها‪ ,‬وكان خنل بين النضري لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫خاصة أعطاه اهلل إياها وخصه هبا فقال تعاىل‪ { :‬وما أفاء اهلل على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل وال ركاب } يقول بغري قتال‪ ,‬فأعطى النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم وقسم منها لرجلني من األنصار‪ ,‬وكانا ذوي حاجة ومل يقسم من األنصار غريمها‪ ,‬وبقي منها صدقة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم اليت يف أيدي بين فاطمة‪ ,‬ولنذكر ملخص غزوة بين النضري على وجه االختصار وباهلل املستعان‪.‬‬
‫وكان سبب ذلك فيما ذكره أصحاب املغازي والسري أنه ملا قتل أصحاب بئر معونة من أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وكانوا سبعني وأفلت منهم عمرو‬
‫بن أمية الضمري‪ ,‬فلما كان يف أثناء الطريق راجعاً إىل املدينة قتل رجلني من بين عامر‪ ,‬وكان معهما عهد من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأمان مل يعلم به عمرو‪,‬‬
‫فلما رجع أخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لقد قتلت رجلني ألدينهما» وكان بني بين النضري وبين عامر حلف وعهد‪,‬‬
‫فخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل بين النضري ليستعينهم يف دية ذينك الرجلني‪ ,‬وكانت منازل بين النضري ظاهر املدينة على أميال منها شرقيها‪.‬‬
‫وقال حممد بن إسحاق بن يسار يف كتابه السرية‪ :‬مث خرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل بين النضري يستعينهم يف دية ذينك القتيلني من بين عامر الذين قتلهما‬
‫عمرو بن أمية الضمري للجوار الذي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عقد هلما فيما حدثين يزيد بن رومان‪ ,‬وكان بني بين النضري وبين عامر عقد وحلف‪ ,‬فلما‬
‫أتاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يستعينهم يف دية ذينك القتيلني قالوا‪ :‬نعم يا أبا القاسم نعينك على ما أحببت‪ -‬مما استعنت بنا عليه‪ ,‬مث خال بعضهم ببعض فقالوا‪:‬‬
‫إنكم لن جتدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول اهلل صلى اهلل تعاىل عليه وعلى آله وسلم إىل جنب جدار من بيوهتم ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه‬
‫صخرة فريحينا منه ؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحش بن كعب أحدهم فقال أنا لذلك فصعد ليلقي عليه صخرة كما قال ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف نفر من‬
‫أصحابه فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي اهلل عنهم فأتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اخلرب من السماء مبا أراد القوم فقام وخرج راجعاً إىل املدينة‪.‬‬
‫فلما استلبث النيب صلى اهلل عليه وسلم أصحابه قاموا يف طلبه فلقوا رجالً مقبالً من املدينة‪ ,‬فسألوه عنه‪ ,‬فقال رأيته داخالً املدينة‪ ,‬فأقبل أصحاب رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم حىت انتهوا إليه‪ ,‬فأخربهم اخلرب مبا كانت يهود أرادت من الغدر به‪ ,‬وأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالتهيؤ حلرهبم واملسري إليهم‪ ,‬مث سار حىت نزل هبم‬
‫فتحصنوا منه يف احلصون‪ ,‬فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها‪ ,‬فنادوه أن يا حممد قد كنت تنهى عن الفساد يف األرض وتعيبه على من‬
‫يصنعه‪ ,‬فما بال قطع النخل وحتريقها ؟ وقد كان رهط من بين عوف بن اخلزرج منهم عبد اهلل بن أيب ابن سلول ووديعة ومالك بن أيب قوقل وسويد وداعس قد بعثوا‬
‫إىل بين النضري أن اثبتوا ومتنعوا‪ ,‬فإنا لن نسلمكم إن قوتلتم قاتلنا معكم‪ ,‬وإن خرجتم خرجنا معكم‪ ,‬فرتبصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا فقذف اهلل يف قلوهبم‬
‫الرعب‪ ,‬فسألوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن جيليهم ويكف عن دمائهم على أن هلم ما محلت اإلبل من أمواهلم إال احللقة ففعل‪ ,‬فاحتملوا من أمواهلم ما استقلت‬
‫به اإلبل‪ ,‬فكان الرجل منهم يهدم بيته عن إجياف بابه فيضعه على ظهر بعريه فينطلق به‪ ,‬فخرجوا إىل خيرب ومنهم من سار إىل الشام وخلوا األموال لرسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ,‬فكانت لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خاصة يضعها حيث يشاء‪ ,‬فقسمها على املهاجرين األولني دون األنصار إال سهل بن حنيف وأبا دجانة ـ‬
‫مساك بن خرشة ـ ذكرا فقراً فأعطامها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬قال‪ :‬ومل يسلم من بين النضري إال رجالن‪ :‬يامني بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش وأبو‬
‫سعد بن وهب أسلما على أمواهلما فأحرزاها‪.‬‬
‫قال ابن إسحاق‪ :‬وقد حدثين بعض آل يامني أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ليامني‪« :‬أمل َتر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأين» فجعل يامني بن‬
‫عمرو لرجل جعالً على أن يقتل عمرو بن جحاش فقتله فيما يزعمون‪ .‬قال ابن إسحاق‪ :‬ونزل يف بين النضري سورة احلشر بأسرها وهكذا روى يونس بن بكري عن ابن‬
‫إسحاق بنحو ما تقدم‪ ,‬فقوله تعاىل‪ { :‬هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعين بين النضري { من ديارهم ألول احلشر }‪ .‬قال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أيب‪,‬‬
‫حدثنا ابن أيب عمر‪ ,‬حدثنا سفيان عن أيب سعد عن عكرمة عن ابن عباس قال‪ :‬من شك يف أن أرض احملشر ههنا يعين الشام فليقرأ هذه االَية { هو الذي أخرج الذين‬
‫كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ألول احلشر } قال هلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «اخرجوا» قالوا‪ :‬إىل أين ؟ قال‪« :‬إىل أرض احملشر» وحدثنا أبو سعيد‬
‫األشج‪ ,‬حدثنا أبو أسامة عن عوف عن احلسن قال‪ :‬ملا أجلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بين النضري قال‪« :‬هذا أول احلشر وأنا على األثر» ورواه ابن جرير عن‬
‫بندار عن ابن أيب عدي عن عوف عن احلسن به‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ما ظننتم أن خيرجو } أي يف مدة حصاركم هلم وقصرها وكانت ستة أيام مع شدة حصوهنم ومنعتها‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬وظنوا أهنم مانعتهم‬
‫حصوهنم من اهلل فأتاهم اهلل من حيث مل حيتسبو } أي جاءهم من أمر اهلل ما مل يكن هلم يف بال كما قال تعاىل يف االَية األخرى‪ { :‬قد مكر الذين من قبلهم فأتى اهلل‬
‫بنياهنم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث ال يشعرون }‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬وقذف يف قلوهبم الرعب } أي اخلوف واهللع واجلزع وكيف ال حيصل هلم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسرية شهر صلوات اهلل وسالمه‬
‫عليه‪ .‬وقوله‪ { :‬خيربون بيوهتم بأيديهم وأيدي املؤمنني } قد تقدم تفسري ابن إسحاق لذلك‪ ,‬وهو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبواهبم وحتملها على اإلبل‪,‬‬
‫وكذلك قال عروة بن الزبري وعبد الرمحن بن زيد بن أسلم وغري واحد‪ ,‬وقال مقاتل بن حيان كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقاتلهم فإذا ظهر على درب أو دار‬
‫هدم حيطاهنا ليتسع املكان للقتال‪ ,‬وكان اليهود إذا علوا مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها مث حصنوها ودربوها‪ ,‬يقول اهلل تعاىل‪ { :‬فاعتربوا يا أويل‬
‫األبصار }‪ .‬وقوله‪ { :‬ولوال أن كتب اهلل عليهم اجلالء لعذهبم يف الدين } أي لوال أن كتب اهلل عليهم هذا اجلالء وهو النفي من ديارهم وأمواهلم لكان هلم عند اهلل‬
‫عذاب آخر من القتل والسيب وحنو ذلك‪ ,‬قاله الزهري عن عروة والسدي وابن زيد ألن اهلل قد كتب عليهم أنه سيعذهبم يف الدار الدنيا مع ما أعد هلم يف الدار االَخرة‬
‫من العذاب يف نار جهنم‪.‬‬
‫قال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أيب‪ ,‬حدثنا عبد اهلل بن صاحل كاتب الليث‪ ,‬حدثين الليث‪ -‬عن عقيل عن ابن شهاب قال‪ :‬أخربين عروة بن الزبري قال‪ :‬مث كانت وقعة بين‬
‫النضري‪ ,‬وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر‪ ,‬وكان منزهلم بناحية من املدينة فحاصرهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت نزلوا على اجلالء‪,‬‬
‫وأن هلم ما أقلت‪ -‬اإلبل من األموال واألمتعة إال احللقة وهي السالح‪ ,‬فأجالهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل الشام‪ ,‬قال‪ :‬واجلالء كتب عليهم يف آي من التوراة‬
‫وكانوا من سبط مل يصبهم اجلالء قبل ما سلط عليهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأنزل اهلل فيهم { سبح هلل ما يف السموات وما يف األرض ـ إىل قوله ـ وليخزي‬
‫الفاسقني } وقال عكرمة‪ :‬اجلالء القتل‪ ,‬ويف رواية عنه الفناء‪ ,‬وقال قتادة‪ :‬اجلالء خروج الناس من البلد إىل البلد‪ .‬وقال الضحاك‪ :‬أجالهم إىل الشام وأعطى كل ثالثة‬
‫بعرياً وسقاء‪ ,‬فهذا اجلالء‪.‬‬
‫وقد قال احلافظ أبو بكر البيهقي‪ :‬أخربنا أبو عبد اهلل احلافظ‪ ,‬أخربنا أمحد بن كامل القاضي‪ ,‬حدثنا حممد بن سعيد العويف حدثين أيب عن عمي‪ ,‬حدثنا أيب عن جدي‬
‫عن ابن عباس‪ ,‬قال‪ :‬كان النيب صلى اهلل عليه وسلم قد حاصرهم حىت بلغ منهم كل مبلغ‪ ,‬فأعطوه ما أراد منهم فصاحلهم على أن حيقن هلم دماءهم وأن خيرجهم من‬
‫أرضهم ومن ديارهم وأوطاهنم‪ ,‬وأن يسريهم إىل أذرعات الشام‪ ,‬وجعل لكل ثالثة منهم بعرياً وسقاء‪ ,‬واجلالء إخراجهم من أرضهم إىل أرض أخرى‪ .‬وروي أيضاً من‬
‫حديث يعقوب بن حممد الزهري عن إبراهيم بن جعفر عن حممود بن حممد بن مسلمة عن أبيه عن جده‪ ,‬عن حممد بن مسلمة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعثه‬
‫إىل بين النضري وأمره أن يؤجلهم يف اجلالء ثالثة أيام‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬وهلم يف االَخرة عذاب النار } أي حتم الزم ال بد هلم منه‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬ذلك بأهنم شاقوا اهلل ورسوله } أي إمنا فعل اهلل هبم ذلك وسلط عليهم‬
‫رسوله وعباده املؤمنني‪ ,‬ألهنم خالفوا اهلل ورسوله وكذبوا مبا أنزل اهلل على رسله املتقدمني يف البشارة مبحمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬وهم يعرفون ذلك كما يعرفون‬
‫أبناءهم‪ .‬مث قال‪ { :‬ومن يشاق اهلل فإن اهلل شديد العقاب }‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصوهلا فبإذن اهلل وليخزي الفاسقني } اللني‬
‫نوع من التمر وهو جيد قال أبو عبيدة‪ :‬وهو ما خالف العجوة والربين من التمر‪ ,‬وقال كثريون من املفسرين‪ :‬اللينة ألوان التمر سوى العجوة‪ .‬قال ابن جرير‪ :‬هو مجيع‬
‫النخل ونقله عن جماهد وهو البويرة أيضاً‪ ,‬وذلك أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا حاصرهم أمر بقطع خنيلهم إهانة هلم وإرهاباً وإرعاباً لقلوهبم‪ ,‬فروى حممد بن‬
‫إسحاق عن يزيد بن رومان وقتادة ومقاتل بن حيان أهنم قالوا‪ :‬فبعث بنو النضري يقولون لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إنك تنهى عن الفساد فما بالك تأمر بقطع‬
‫األشجار ؟ فأنزل اهلل هذه االَية الكرمية أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من األشجار فاجلميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه وفيه نكاية بالعدو وخزي هلم‪ ,‬وإرغام‬
‫ألنوفهم‪.‬‬
‫وقال جماهد‪ :‬هنى بعض املهاجرين بعضاً عن قطع النخل‪ ,‬وقالوا‪ :‬إمنا هي مغامن املسلمني‪ ,‬فنزل القرآن بتصديق من هنى عن قطعه وحتليل من قطعه من اإلمث‪ ,‬وإمنا قطعه‬
‫وتركه بإذنه‪ ,‬وقد روي حنو هذا مرفوعاً‪ ,‬فقال النسائي‪ :‬أخربنا احلسن بن حممد عن عفان‪ ,‬حدثنا حفص بن غياث‪ ,‬حدثنا حبيب بن أيب عمرة عن سعيد بن جبري عن‬
‫ابن عباس يف قوله‪ { :‬ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصوهلا فبإذن اهلل وليخزي الفاسقني } قال‪ :‬يستنزلوهنم من حصوهنم وأمروا بقطع النخل فحاك يف‬
‫صدورهم‪ ,‬فقال املسلمون‪ :‬قطعنا بعضاً وتركنا بعضاً فلنسألن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هل لنا فيما قطعنا من أجر ؟ وهل علينا فيما تركنا من وزر ؟ فأنزل اهلل‬
‫{ ما قطعتم من لينة } وقال احلافظ أبو يعلى يف مسنده‪ :‬حدثنا سفيان بن وكيع‪ ,‬حدثنا حفص عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر وعن أيب الزبري عن‬
‫جابر‪ ,‬قال‪ :‬رخص هلم يف قطع النخل مث شدد عليهم‪ ,‬فأتوا النيب صلى اهلل عليه وسلم فقالوا يا رسول اهلل علينا إمث فيما قطعنا أو علينا وزر فيما تركنا‪ ,‬فأنزل اهلل عز‬
‫وجل { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصوهلا فبإذن اهلل }‪.‬وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عبد الرمحن‪ ,‬حدثنا سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر‪,‬‬
‫أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قطع خنل بين النضري وحرق‪ ,‬وأخرجه صاحبا الصحيح من رواية موسى بن عقبة بنحوه‪ ,‬ولفظ البخاري من طريق عبد الرزاق عن‬
‫ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر‪ ,‬قال‪ :‬حاربت النضري وقريظة فأجلى بين النضري وأقر قريظة ومن عليهم حىت حارب قريظة‪ ,‬فقتل من رجاهلم‬
‫وسىب وقسم نساءهم وأوالدهم وأمواهلم بني املسلمني إال بعضهم حلقوا بالنيب صلى اهلل عليه وسلم فأمنهم وأسلموا وأجلى يهود املدينة كلهم بين قينقاع‪ ,‬وهم رهط‬
‫عبد اهلل بن سالم ويهود بين حارثة وكل يهود باملدينة‪ ,‬وهلما أيضاً عن قتيبة عن الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حرق خنل‬
‫بين النضري‪ ,‬وقطع وهي البويرة‪ ,‬فأنزل اهلل عز وجل فيه { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصوهلا فبإذن اهلل وليخزي الفاسقني }‪.‬‬
‫وللبخاري رمحه اهلل من رواية جويرية بن أمساء عن نافع عن ابن عمر رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حرق خنل بين النضري‪ ,‬وهلا يقول حسان بن‬
‫ثابت رضي اهلل عنه‪:‬‬
‫وهان على سراة بين لؤحيريق بالبويرة مستطري‬

‫فأجابه أبو سفيان بن احلارث يقول‪:‬‬


‫أدام اهلل ذلك من صنيعوحرق يف نواحيها السعريستعلم أينا منها بنزهوتعلم أي أرضينا نضري‬
‫وكذا رواه البخاري ومل يذكره ابن إسحاق‪ ,‬وقال حممد بن إسحاق وقال كعب بن مالك يذكر إجالء بين النضري وقتل ابن األشرف‪:‬‬
‫لقد خزيت بغدرهتا احلبوركذاك الدهر ذو صرف يدوروذلك أهنم كفروا بربعظيم أمره أمر كبريوقد أوتوا معاً فهماً وعلماًوجاءمهو من اهلل النذيرنذير صادق أدى‬
‫كتاباًوآيات مبينة تنريفقالوا ما أتيت بأمر صدقوأنت مبنكر منا جديرفقال بلى لقد أديت حقاًيصدقين به الفهم اخلبريفمن يتبعه يهد لكل رشدومن يكفر به جيز‬
‫الكفورفلما أشربوا غدراً وكفراًوجد هبم عن احلق النفورأرى اهلل النيب برأي صدقوكان اهلل حيكم ال جيورفأيده وسلطه عليهموكان نصريه نعم النصريفغودر منهمو‬
‫كعب صريعاًفذلت بعد مصرعه النضريعلى الكفني مث وقد علتهبأيدينا مشهرة ذكوربأمر حممد إذ دس ليالًإىل كعب أخا كعب يسريفما كره فأنزله مبكروحممود أخو‬
‫ثقة جسورفتلك بنو النضري بدار سوءأبادمهو مبا اجرتموا املبري غداة أتامهو يف الزحف رهواً رسول اهلل وهو هبم بصري‬
‫وغسان احلماة موازروهعلى األعداء وهو هلم وزير‬
‫فقال السلم وحيكمو فصدواوخالف أمرهم كذب وزور‬
‫فذاقوا غب أمرمهو وباالًلكل ثالثة منهم بعري‬
‫وأجلوا عامدين لقينقاعوغودر منهمو خنل ودور‬
‫قال‪ :‬وكان مما قيل من األشعار يف بين النضري قول ابن القيم العبسي‪ ,‬ويقال‪ :‬قاهلا قيس بن حبر بن طريف‪ ,‬قال ابن هشام األشجعي‪ :‬أهلي فداء المرى غري هالكأجلى‬
‫اليهود باحلسى املزمنيقيلون يف مجر العضاه وبدلواأهيضب عوداً بالودي املكممفإن يك ظين صادقاً مبحمديروا خيله بني الصال ويرمرميؤم هبا عمرو بن هبثة إهنمعدو وما‬
‫حي صديق كمجرمعليهن أبطال مساعري يف الوغىيهزون أطراف الوشيج املقوموكل رقيق الشفرتني مهندتورث من أزمان عاد وجرمهفمن مبلغ عين قريشاً رسالةفهل‬
‫بعدهم يف اجملد من متكرمبأن أخاكم فاعلمن حممداتليد الندى بني احلجون وزمزمفدينوا له باحلق حتسم أموركموتسموا من الدنيا إىل كل معظمنيب تالقته من اهلل‬
‫رمحةوال تسألوه أمر غيب مرمجفقد كان يف بدر لعمري عربةلكم يا قريش والقليب امللممغداة أتى يف اخلزرجية عامداًإليكم مطيعاً للعظيم املكرممعاناً بروح القدس‬
‫ينكي عدوهرسوالً من الرمحن حقاً مبعلمرسوالً من الرمحن يتلو كتاهبفلما أنار احلق مل يتلعثمأرى أمره يزداد يف كل موطنعلواً ألمر محه اهلل حمكم‬
‫وقد أورد ابن إسحاق رمحه اهلل ههنا أشعاراً كثرية فيها آداب ومواعظ وحكم وتفاصيل للقصة‪ ,‬تركنا باقيها اختصاراً واكتفاء مبا ذكرناه‪ ,‬وهلل احلمد واملنة‪ .‬قال ابن‬
‫إسحاق‪ :‬كانت وقعة بين النضري بعد وقعة أحد وبعد بئر معونة‪ ,‬وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال‪ :‬كانت وقعة بين النضري بعد بدر بستة أشهر‪.‬‬

‫ط ُر ُسلَهُ َعلَ َى َمن يَ َشآءُ َواللّهُ َعلَ َى ُك ّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير * ّمآ َأفَآءَ اللّهُ َعلَ َى َر ُسولِِه‬ ‫‪ ** ‬ومآ َأفَآء اللّهُ َعلَى رسولِِه ِمْنهم فَمآ َأوج ْفتُم َعلَْي ِه ِمن َخْي ٍل والَ ِر َك ٍ‬
‫اب َولَـَ ِك ّن اللّهَ يُ َسلّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُْ َ ْ َ ْ‬ ‫ََُ‬ ‫ََ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ني وابْ ِن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫انت ُهواْ‬
‫ول فَ ُخ ُذوهُ َو َما َن َها ُك ْم َعْنهُ فَ َ‬
‫الر ُس ُ‬‫السب ِيل َك ْي الَ يَ ُكو َن ُدولَةً َبنْي َ األ ْغنيَآء من ُك ْم َو َمآ آتَا ُك ُم ّ‬ ‫ّ‬ ‫ى فَللّه َول ّلر ُسول َولذي الْ ُق ْرىَبَ َوالْيَتَ َام َى َوال َْم َساك َ‬ ‫م ْن َْأه ِل الْ ُقَر َ‬
‫اب‬ ‫َواّت ُقواْ اللّهَ ِإ ّن اللّهَ َش ِد ُ‬
‫يد الْعِ َق ِ‬
‫يقول تعاىل مبيناً ما الفيء وما صفته وما حكمه‪ ,‬فالفيء كل مال أخذ من الكفار من غري قتال وال إجياف خيل وال ركاب‪ ,‬كأموال بين النضري هذه فإهنا مما مل‬
‫يوجف املسلمون عليه خبيل وال ركاب‪ ,‬أي مل يقاتلوا األعداء فيها باملبارزة واملصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى اهلل يف قلوهبم من هيبة رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ,‬فأفاءه على رسوله‪ ,‬وهلذا تصرف فيه كما يشاء فرده على املسلمني يف وجوه الرب واملصاحل اليت ذكرها اهلل عز وجل يف هذه االَيات فقال تعاىل‪ { :‬وما‬
‫أفاء اهلل على رسوله منهم } أي من بين النضري { فما أوجفتم عليه من خيل وال ركاب } يعين اإلبل { ولكن اهلل يسلط رسله على من يشاء واهلل على كل شيء‬
‫قدير } أي هو قدير ال يغالب وال ميانع بل هو القاهر لكل شيء‪.‬‬
‫مث قال تعاىل‪ { :‬ما أفاء اهلل على رسوله من أهل القرى } أي مجيع البلدان اليت تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بين النضري وهلذا قال تعاىل‪ { :‬فلله وللرسول ولذي‬
‫القرىب واليتامى واملساكني وابن السبيل } إىل آخرها واليت بعدها فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه‪ .‬قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا سفيان عن عمرو ومعمر عن الزهري‬
‫عن مالك بن أوس بن احلدثان عن عمر رضي اهلل عنه قال‪ :‬كانت أموال بين النضري مما أفاء اهلل على رسوله مما لو يوجف املسلمون عليه خبيل وال ركاب‪ ,‬فكانت‬
‫لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خالصة‪ ,‬فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته‪ ,‬وقال مرة قوت سنته وما بقي جعله يف الكراع والسالح يف سبيل اهلل عز وجل‪ ,‬هكذا‬
‫أخرجه أمحد ههنا خمتصراً‪ ,‬وقد أخرجه اجلماعة يف كتبهم إال ابن ماجه من حديث سفيان عن عمرو بن دينار عن الزهري به‪ ,‬وقد رويناه مطوالً‪.‬‬
‫وقال أبو داود رمحه اهلل‪ :‬حدثنا احلسن بن علي وحممد بن حيىي بن فارس املعىن واحد قاال‪ :‬حدثنا بشر بن عمر الزهراين حدثين مالك بن أنس عن ابن شهاب عن‬
‫إيل عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه حني تعاىل النهار فجئته فوجدته جالساً على سرير مفضياً إىل رماله فقال حني دخلت عليه‪ :‬يا مالك إنه‬
‫مالك بن أوس قال‪ :‬أرسل ّ‬
‫قد دف أهل أبيات من قومك وقد أمرت فيهم بشيء فاقسم فيهم‪ ,‬قلت لو أمرت غريي بذلك فقال خذه‪ ,‬فجاءه يرفا فقال يا أمري املؤمنني هل لك يف عثمان بن‬
‫عفان وعبد الرمحن بن عوف والزبري بن العوام وسعد بن أيب وقاص ؟ قال‪ :‬نعم‪.‬‬

‫فأذن هلم فدخلوا مث جاءه يرفا فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني هل لك يف العباس وعلي ؟ قال‪ :‬نعم‪ ,‬فأذن هلما فدخال فقال العباس‪ :‬يا أمري املؤمنني اقض بيين وبني هذا يعين‬
‫علياً‪ ,‬فقال بعضهم‪ :‬أجل يا أمري املؤمنني اقض بينهما وأرحهما‪ ,‬قال مالك بن أوس‪ :‬خيل إيل أهنما قدما أولئك النفر لذلك‪ ,‬فقال عمر رضي اهلل عنه اتئدا مث أقبل على‬
‫أولئك الرهط فقال‪ :‬أنشدكم باهلل الذي بإذنه تقوم السماء واألرض هل تعلمون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال نورث ما تركنا صدقة» قالوا‪ :‬نعم‪ .‬مث‬
‫أقبل على علي والعباس فقال‪ :‬أنشدكما باهلل الذي بإذنه تقوم السماء واألرض هل تعلمان أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ال نورث ما تركنا صدقة» فقاال‪:‬‬
‫نعم‪ .‬فقال‪ :‬إن اهلل خص رسوله خباصة مل خيص هبا أحداً من الناس فقال تعاىل‪ { :‬وما أفاء اهلل على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل وال ركاب ولكن اهلل‬
‫يسلط رسله على من يشاء واهلل على كل شيء قدير } فكان اهلل تعاىل أفاء على رسوله أموال بين النضري فواهلل ما استأثر هبا عليكم وال أحرزها دونكم‪ ,‬فكان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأخذ منها نفقة سنة أو نفقته ونفقة أهله سنة‪ ,‬وجيعل ما بقي أسوة املال‪.‬‬
‫مث أقبل على أولئك الرهط فقال‪ :‬أنشدكم باهلل الذي بإذنه تقوم السماء واألرض هل تعلمون ذلك ؟ قالوا‪ :‬نعم‪ .‬مث أقبل على علي والعباس فقال‪ :‬أنشدكم باهلل الذي‬
‫بإذنه تقوم السماء واألرض هل تعلمان ذلك ؟ قاال‪ :‬نعم‪ .‬فلما تويف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال أبو بكر‪ :‬أنا ويل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬فجئت أنت‬
‫وهذا إىل أيب بكر تطلب أنت مرياثك من ابن أخيك ويطلب هذا مرياث امرأته من أبيها‪ ,‬فقال أبو بكر رضي اهلل عنه‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ال نورث‬
‫ما تركنا صدقة» واهلل يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق فوليها أبو بكر‪ ,‬فلما تويف قلت أنا ويل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وويل أيب بكر فوليتها ما شاء اهلل‬
‫أن أليها‪ ,‬فجئت أنت‪ -‬وهذا وأنتما مجيع وأمركما واحد فسألتمانيها‪ ,‬فقلت إن شئتما فأنا أدفعها إليكما على أن عليكما عهد اهلل أن تلياها بالذي كان رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يليها‪ ,‬فأخذمتاها مين على ذلك مث جئتماين ألقضي بينكما بغري ذلك واهلل ال أقضي بينكما بغري ذلك حىت تقوم الساعة فإن عجزمتا عنها فرداها‬
‫إيل‪ ,‬أخرجوه من حديث الزهري به‪.‬‬
‫قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عارم وعفان قاال‪ :‬أخربنا معمر مسعت أيب يقول‪ :‬حدثنا أنس بن مالك عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬إن الرجل كان جيعل له من‬
‫ماله النخالت أو كما شاء اهلل حىت فتحت عليه قريظة والنضري قال فجعل يرد بعد ذلك‪ ,‬قال وإن أهلي أمروين أن آيت النيب صلى اهلل عليه وسلم فأسأله الذي كان‬
‫أهله أعطوه أو بعضه‪ ,‬وكان نيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم قد أعطاه أم أمين أو كما شاء اهلل قال‪ ,‬فسألت النيب صلى اهلل عليه وسلم فأعطانيهن‪ ,‬فجاءت أم أمين‬
‫فجعلت الثوب يف عنقي وجعلت تقول كال واهلل الذي ال إله إال هو ال يعطيكهن وقد أعطانيهن‪ ,‬أو كما قالت فقال نيب اهلل‪« :‬لك كذا وكذا» قال وتقول كال واهلل‬
‫قال ويقول «لك كذا وكذا» قال وتقول كال واهلل‪ ,‬قال‪« :‬ويقول لك كذا وكذا» قال حىت أعطاها حسبت أنه قال عشرة أمثاله أو قال قريباً من عشرة أمثاله‪ ,‬أو‬
‫كما قال رواه البخاري ومسلم من طرق عن معتمر به‪ ,‬وهذه املصارف املذكورة يف هذه االَية هي املصارف املذكورة يف مخس الغنيمة‪ ,‬وقد قدمنا الكالم عليها يف‬
‫سورة األنفال مبا أغىن عن إعادته ههنا وهلل احلمد‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬كيال يكون دولة بني األغنياء منكم } أي جعلنا هذه املصارف ملال الفيء كيال يبقى مأكلة يتغلب عليها األغنياء ويتصرفون فيها مبحض الشهوات‬
‫واالَراء‪ ,‬وال يصرفون منه شيئاً إىل الفقراء‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬وما آتاكم الرسول فخذوه وما هناكم عنه فانتهو } أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما هناكم عنه فاجتنبوه‪,‬‬
‫فإنه إمنا يأمر خبري وإمنا ينهى عن شر‪ .‬قال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا حيىي بن أيب طالب‪ ,‬حدثنا عبد الوهاب‪ ,‬حدثنا سعيد عن قتادة عن احلسن العويف عن حيىي بن اجلزار عن‬
‫مسروق قال‪ :‬جاءت امرأة إىل ابن مسعود قالت‪ :‬بلغين أنك تنهى عن الوامشة والواصلة‪ ,‬أشيء وجدته يف كتاب اهلل تعاىل أو عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ؟‬
‫قال‪ :‬بلى شيء وجدته يف كتاب اهلل وعن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬قالت‪ :‬واهلل لقد تصفحت ما بني دفيت املصحف فما وجدت فيه الذي تقول‪ .‬قال‪ :‬فما‬
‫وجدت فيه { وما آتاكم الرسول فخذوه وما هناكم عنه فانتهو } ؟ قالت‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ينهى عن الواصلة والوامشة‬
‫والنامصة‪ ,‬قالت‪ :‬فلعله يف بعض أهلك‪ ,‬قال فادخلي فانظري‪ ,‬فدخلت فنظرت مث خرجت قالت‪ :‬ما رأيت بأساً‪ ,‬فقال هلا‪ :‬أما حفظت وصية العبد الصاحل { وما أريد‬
‫أن أخالفكم إىل ما أهناكم عنه }‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عبد الرمحن‪ ,‬حدثنا سفيان عن منصور عن علقمة عن عبد اهلل هو ابن مسعود قال‪ :‬لعن اهلل الوامشات واملستومشات واملتنمصات واملتفلجات‬
‫للحسن‪ ,‬املغريات خلق اهلل عز وجل‪ ,‬قال فبلغ امرأة من بين أسد يف البيت‪ -‬يقال هلا أم يعقوب‪ ,‬فجاءت إليه فقالت بلغين أنك قلت كيت وكيت‪ ,‬قال ما يل ال ألعن‬
‫من لعن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويف كتاب اهلل تعاىل‪ ,‬فقالت إين ألقرأ ما بني لوحيه فما وجدته‪,‬فقال إن كنت قرأتِِه فقد وجدتِِه أما قرأت { وما آتاكم‬
‫الرسول فخذوه وما هناكم عنه فانتهو } قالت‪ :‬بلى‪ .‬قال‪ :‬فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هنى عنه‪ .‬قالت‪ :‬إين ألظن أهلك يفعلونه‪ ,‬قال‪ :‬اذهيب فانظري فذهبت‬
‫فلم تر من حاجتها شيئاً‪ ,‬فجاءت فقالت‪ :‬ما رأيت شيئاً‪ ,‬قال‪ :‬لو كان كذا ملا جتامعنا‪ .‬أخرجاه يف الصحيحني من حديث سفيان الثوري‪ ,‬وقد ثبت يف الصحيحني‬
‫أيضاً عن أيب هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم‪ ,‬وما هنيتكم عنه فاجتنبوه» وقال النسائي‪ :‬أخربنا أمحد بن سعيد‪,‬‬
‫حدثنا يزيد‪ ,‬حدثنا منصور بن حيان عن سعيد بن جبري»‪ ,‬عن ابن عمرو ابن عباس أهنما شهدا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه هنى عن الدباء واحلنتم والنقري‬
‫واملزفت‪ ,‬مث تال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم { وما آتاكم الرسول فخذوه وما هناكم عنه فانتهو } وقوله تعاىل‪ { :‬واتقوا اهلل إن هللا شديد العقاب} أي اتقوه يف‬
‫امتثال أوامره وترك زواجره فإنه شديد العقاب ملن عصاه وخالف أمره وأباه وارتكب ما عنه زجره وهناه‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ُأخ ِر ُجواْ ِمن ِديَا ِر ِه ْم َو َْأم َواهِلِ ْم يَْبَتغُو َن فَ ْ‬
‫ين َتَب ّوءُوا ال ّد َار َواِإل ميَا َن‬ ‫ضواناً وينصرو َن اللّه ورسولَه ُأولَـِئك هم ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫اج ِر ِ‬ ‫ِ‬
‫الصادقُو َن * َوالّذ َ‬ ‫َ ََ ُ ُ ْ َ َ ُ ُ ّ‬ ‫ضالً ّم َن اللّه َور ْ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ين ْ‬‫ين الّذ َ‬‫** لْل ُف َقَرآء ال ُْم َه َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن *‬ ‫وق ُش ّح َن ْف ِس ِه فَ ُْأولَـَِئ َ‬
‫اصةٌ َو َمن يُ َ‬
‫ص َ‬
‫هِبِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اجةً مّمّآ ُأوتُواْ َويُْؤ ث ُرو َن َعلَ َى َأن ُفس ِه ْم َولَ ْو َكا َن ْم َخ َ‬
‫ِ‬
‫ص ُدو ِره ْم َح َ‬
‫ِ‬
‫اجَر ِإلَْي ِه ْم َوالَ جَي ُدو َن يِف ُ‬
‫ِ ِ ِ‬
‫من َقْبل ِه ْم حُي بّو َن َم ْن َه َ‬
‫ك رء ٌ ِ‬ ‫ِإ‬ ‫ِ ِ‬ ‫يِف‬ ‫ِ ِ‬ ‫والّ ِذين جآءوا ِمن بع ِد ِهم ي ُقولُو َن ربنا ا ْغ ِفر لَنا و ِ ِ‬
‫يم‬
‫وف ّرح ٌ‬ ‫ين َسَب ُقونَا باِإل ميَان َوالَ جَتْ َع ْل ُقلُوبِنَا غالّ لّلّذ َ‬
‫ين َآمنُواْ َربّنَآ نّ َ َ ُ‬ ‫ِإلخ َواننَا الّذ َ‬ ‫َ َّ ْ َ َ ْ‬ ‫َْ ْ َ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫يقول تعاىل مبيناً حال الفقراء املستحقني ملال الفيء أهنم { الذين أخرجوا من ديارهم وأمواهلم يبتغون فضالً من اهلل ورضوان } أي خرجوا من ديارهم وخالفوا‬
‫قومهم ابتغاء مرضاة اهلل ورضوانه { وينصرون اهلل ورسوله أولئك هم الصادقون } أي هؤالء الذين صدقوا قوهلم بفعلهم وهؤالء هم سادات املهاجرين‪ .‬مث قال تعاىل‬
‫مادحاً لألنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم‪ ,‬وعدم حسدهم وإيثارهم مع احلاجة فقال تعاىل‪ { :‬والذين تبوءوا الدار واإلميان من قبلهم } أي سكنوا دار اهلجرة‬
‫من قبل املهاجرين وآمنوا قبل كثري منهم‪ .‬قال عمر‪ :‬وأوصي اخلليفة بعدي باملهاجرين األولني أن يعرف هلم حقهم وحيفظ هلم كرامتهم‪ ,‬وأوصيه باألنصار خرياً الذين‬
‫تبوءوا الدار واإلميان من قبل‪ ,‬أن يقبل من حمسنهم وأن يعفو عن مسيئهم رواه البخاري ههنا أيضاً‪.‬‬
‫قوله تعاىل‪ { :‬حيبون من هاجر إليهم } أي من كرمهم وشرف أنفسهم حيبون املهاجرين ويواسوهنم بأمواهلم قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا يزيد حدثنا محيد عن أنس قال‪:‬‬
‫قال املهاجرون يا رسول اهلل ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة يف قليل وال أحسن بذالً يف كثري‪ ,‬لقد كفونا املؤنة وأشركونا يف املهنأ حىت لقد خشينا أن‬
‫يذهبوا باألجر كله‪ .‬قال «ال ما أثنيتم عليهم ودعومت اهلل هلم» مل أره يف الكتب من هذا الوجه‪.‬‬
‫وقال البخاري‪ :‬حدثنا عبد اهلل بن حممد حدثنا سفيان عن حيىي بن سعيد مسع أنس بن مالك حني خرج معه إىل الوليد قال دعا النيب صلى اهلل عليه وسلم األنصار أن‬
‫يقطع هلم البحرين‪ .‬قالوا ال إال أن تقطع إلخواننا من املهاجرين مثلها قال «إما ال فاصربوا حىت تلقوين فإنه سيصيبكم أثرة» تفرد به البخاري من هذا الوجه‪ .‬وقال‬
‫البخاري‪ :‬حدثنا احلكم بن نافع أخربنا شعيب حدثنا أبو الزناد عن األعرج عن أيب هريرة قال‪ :‬قالت األنصار اقسم بيننا وبني إخواننا النخيل‪ ,‬قال‪ :‬ال‪ .‬فقالوا‪:‬‬
‫أتكفوننا املؤنة ونشرككم يف الثمرة‪ .‬قالوا‪ :‬مسعنا وأطعنا‪ .‬تفرد به دون مسلم { وال جيدون يف صدورهم حاجة مما أوتو } أي وال جيدون يف أنفسهم حسداً‬
‫للمهاجرين فيما فضلهم اهلل به من املنزلة والشرف والتقدمي يف الذكر والرتبة‪.‬‬

‫قال احلسن البصري { وال جيدون يف صدورهم حاجة } يعين احلسد { مما أوتو } قال قتادة يعين فيما أعطى إخواهنم‪ .‬وكذا قال ابن زيد ومما يستدل به على هذا‬
‫املعىن ما رواه اإلمام أمحد حيث قال‪ :‬حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أنس قال‪ :‬كنا جلوساً مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬يطلع عليكم‬
‫االَ ن رجل من أهل اجلنة» فطلع رجل من األنصار تنطف حليته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال‪ ,‬فلما كان الغد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مثل ذلك‪,‬‬
‫فطلع ذلك الرجل مثل املرة األوىل‪ ,‬فلما كان يف اليوم الثالث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مثل مقالته أيضاً‪ ,‬فطلع ذلك الرجل على مثل حاله األوىل‪ ,‬فلما قام‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تبعه عبد اهلل بن عمرو بن العاص فقال‪ :‬إين ال حيت أيب فأقسمت أين ال أدخل عليه ثالثاً‪ ,‬فإن رأيت أن تؤويين إليك‪ -‬حىت متضي‬
‫فعلت قال «نعم»‪.‬‬
‫قال أنس‪ :‬فكان عبد اهلل حيدث أنه بات معه تلك الليايل الثالث فلم يره يقوم من الليل شيئاً غري أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر اهلل وكرب حىت يقوم لصالة الفجر‬
‫قال عبد اهلل‪ :‬غري أين مل أمسعه يقول إال خرياً‪ ,‬فلما مضت الليايل الثالث وكدت أن أحتقر عمله‪ ,‬قلت يا عبد اهلل مل يكن بيين وبني أيب غضب وال هجرة‪ ,‬ولكن‬
‫مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول لك ثالث مرات «يطلع عليكم االَن رجل من أهل اجلنة» فطلعت أنت الثالث املرات‪ ,‬فأردت أن آوي إليك‪ -‬ألنظر ما‬
‫عملك فأقتدي به‪ ,‬فلم أرك تعمل كبري عمل‪ ,‬فما الذي بلغ بك ما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪ :‬ماهو إال ما رأيت‪ ,‬فلما وليت دعاين فقال‪ :‬ما هو إال ما‬
‫رأيت غري أين ال أجد يف نفسي ألحد من املسلمني غشاً وال أحسد أحداً على خري أعطاه اهلل إياه‪ .‬قال عبد اهلل‪ :‬فهذه اليت بلغت بك وهي اليت ال تطاق‪ ,‬ورواه‬
‫النسائي يف اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن املبارك عن معمر به‪ ,‬وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحني لكن رواه عقيل وغريه عن الزهري عن رجل عن‬
‫أنس‪ ,‬فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وقال عبد الرمحن بن زيد بن أسلم يف قوله تعاىل‪ { :‬وال جيدون يف صدورهم حاجة مما أوتو } يعين مما أوتوا املهاجرين‪ ,‬قال وتكلم يف أموال بين النضري بعض من‬
‫تكلم يف األنصار فعاتبهم اهلل يف ذلك فقال تعاىل‪ { :‬وما أفاء اهلل على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل وال ركاب ولكن اهلل يسلط رسله على من يشاء واهلل‬
‫على كل شيء قدير } قال‪ :‬وقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن إخوانكم قد تركوا األموال واألوالد وخرجوا إليكم» فقالوا أموالنا بيننا قطائع‪ ,‬فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أو غري ذلك» قالوا‪ :‬وما ذاك يا رسول اهلل ؟ قال‪« :‬هم قوم ال يعرفون العمل فتكفوهنم وتقامسوهنم الثمر» فقالوا‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪ .‬وقوله‬
‫تعاىل‪ { :‬ويؤثرون على أنفسهم ولو كان هبم خصاصة } يعين حاجة أي يقدمون احملاويج على حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم يف حال احتياجهم إىل ذلك‪.‬‬
‫وقد ثبت يف الصحيح عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه قال‪« :‬أفضل الصدقة جهد املقل» وهذا املقام أعلى من حال الذين وصف اهلل تعاىل‪ { :‬ويطعمون‬
‫الطعام على حبه } وقوله { وآتى املال على حبه } فإن هؤالء تصدقوا وهم حيبون ما تصدقوا به‪ ,‬وقد ال يكون هلم حاجة إليه وال ضرورة به‪ ,‬وهؤالء آثروا على‬
‫أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إىل ما أنفقوه‪ ,‬ومن هذا املقام تصدق الصديق رضي اهلل عنه جبميع ماله‪ ,‬فقال له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما أبقيت‬
‫ألهلك ؟» فقال رضي اهلل عنه‪ :‬أبقيت هلم اهلل ورسوله‪ ,‬وهكذا املاء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم الريموك فكل منهم يأمر بدفعه إىل صاحبه‪ ,‬وهو جريح‬
‫مثقل أحوج ما يكون إىل املاء‪ ,‬فرده االَخر إىل الثالث فما وصل إىل الثالث حىت ماتوا عن آخرهم ومل يشربه أحد منهم رضي اهلل عنهم وأرضاهم‪.‬‬
‫وقال البخاري‪ :‬حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن كثري حدثنا أبو أسامة حدثنا فضيل بن غزوان حدثنا أبو حازم األشجعي عن أيب هريرة قال‪ :‬أتى رجل لرسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم فقال يا رسول اهلل أصابين اجلهد‪ ,‬فأرسل إىل نسائه فلم جيد عندهن شيئاً‪ ,‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أال رجل يضيف هذه الليلة‪ -‬رمحه اهلل» فقام‬
‫رجل من األنصار فقال‪ :‬أنا يا رسول اهلل‪ ,‬فذهب إىل أهله فقال المرأته‪ :‬هذا ضيف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال تدخريه شيئاً‪ ,‬فقالت‪ :‬واهلل ما عندي إال قوت‬
‫الصبية‪ .‬قال‪ :‬فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم‪ ,‬وتعايل فأطفيء السراج ونطوي بطوننا الليلة‪ ,‬ففعلت مث غدا الرجل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬لقد‬
‫عجب اهلل عز وجل ـ أو ضحك ـ من فالن وفالنة» وأنزل اهلل تعاىل‪ { :‬ويؤثرون على أنفسهم ولو كان هبم خصاصة } وكذا رواه البخاري يف موضع آخر ومسلم‬
‫والرتمذي والنسائي من طرق عن فضيل بن غزوان ويف رواية ملسلم تسمية هذا األنصاري بأيب طلحة رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ومن يوق شح نفسه فأولئك هم املفلحون } أي من سلم من الشح فقد أفلح وأجنح‪.‬‬
‫قال أمحد‪ :‬حدثنا عبد الرزاق أخربنا داود بن قيس الفراء عن عبيد اهلل بن مقسم‪ ,‬عن جابر بن عبد اهلل أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إياكم والظلم فإن‬
‫الظلم ظلمات يوم القيامة‪ ,‬واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم محلهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا حمارمهم» انفرد بإخراجه مسلم فرواه عن القعنيب‬
‫عن داود بن قيس به‪.‬‬
‫وقال األعمش وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد اهلل بن احلارث عن زهري بن األقمر عن عبد اهلل بن عمرو قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «اتقوا الظلم فإن‬
‫الظلم ظلمات يوم القيامة‪ ,‬واتقوا الفحش فإن اهلل ال حيب الفحش وال التفحش‪ ,‬وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم‪ ,‬أمرهم بالظلم فظلموا‪ ,‬وأمرهم بالفجور‬
‫ففجروا‪ ,‬وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» ورواه أمحد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق األعمش‪ ,‬كالمها عن عمرو بن مرة به‪ ,‬وقال الليث عن يزيد بن اهلاد‬
‫عن سهيل بن أيب صاحل عن صفوان بن أيب يزيد عن القعقاع بن اجلالح عن أيب هريرة أنه مسع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬ال جيتمع غبار يف سبيل اهلل‬
‫ودخان جهنم يف جوف عبد أبداً‪ ,‬وال جيتمع الشح واإلميان يف قلب عبد أبداً» وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أيب‪ ,‬حدثنا عبدة بن سليمان‪ ,‬أخربنا ابن املبارك‪ ,‬حدثنا‬
‫املسعودي عن جامع بن شداد عن األسود بن هالل قال‪ :‬جاء رجل إىل عبد اهلل فقال‪ :‬يا أبا عبد الرمحن إين أخاف أن أكون قد هلكت‪ ,‬فقال له عبد اهلل‪ :‬وما ذاك ؟‬
‫قال‪ :‬مسعت اهلل يقول { ومن يوق شح نفسه فأولئك هم املفلحون } وأنا رجل شحيح ال أكاد أن أخرج من يدي شيئاً‪ ,‬فقال عبد اهلل‪ :‬ليس ذلك بالشح الذي ذكره‬
‫اهلل يف القرآن‪ ,‬إمنا الشح الذي ذكر اهلل يف القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً‪ ,‬ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل‪.‬‬
‫وقال سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرمحن عن سعيد بن جبري عن أيب اهلياج األسدي قال‪ :‬كنت أطوف بالبيت‪ -‬فرأيت رجالً يقول‪ :‬اللهم قين شح نفسي ال يزيد‬
‫على ذلك‪ ,‬فقلت له‪ ,‬فقال‪ :‬إين إذا وقيت شح نفسي مل أسرق ومل أزن ومل أفعل‪ ,‬وإذا الرجل عبد الرمحن بن عوف رضي اهلل عنه‪ .‬رواه ابن جرير‪ .‬وقال ابن جرير‪:‬‬
‫حدثين حممد بن إسحاق‪ ,‬حدثنا سليمان بن عبد الرمحن الدمشقي‪ ,‬حدثنا إمساعيل بن عياش‪ ,‬حدثنا جممع بن جارية األنصاري عن عمه يزيد بن جارية عن أنس بن‬
‫مالك عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى يف النائبة»‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬والذين جاءوا من بعدهم يقولون‪ :‬ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإلميان وال جتعل يف قلوبنا غالً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } هؤالء‬
‫هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم املهاجرون مث األنصار مث التابعون هلم بإحسان كما قال يف آية براءة { والسابقون األولون من املهاجرين‬
‫واألنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اهلل عنهم ورضوا عنه } فالتابعون هلم بإحسان هم املتبعون الَثارهم احلسنة وأوصافهم اجلميلة الداعون هلم يف السر والعالنية‪,‬‬
‫وهلذا قال تعاىل‪ :‬يف هذه االَية الكرمية { والذين جاءوا من بعدهم يقولون } أي قائلني { ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذي سبقونا باإلميان وال جتعل يف قلوبنا غل } أي‬
‫بغضاً وحسداً { للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم } وما أحسن ما استنبط اإلمام مالك رمحه اهلل من هذه االَية الكرمية أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له يف‬
‫مال الفيء نصيب‪ ,‬لعدم اتصافه مبا مدح اهلل به هؤالء يف قوهلم { ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإلميان وال جتعل يف قلوبنا غالً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف‬
‫رحيم }‪.‬‬
‫وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا موسى بن عبد الرمحن املسروقي‪ ,‬حدثنا حممد بن بشر‪ ,‬حدثنا إمساعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أهنا قالت‪ :‬أمروا أن‬
‫يستغفروا هلم فسبوهم مث قرأت هذه االَية { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإلميان } االَية‪ .‬وقال إمساعيل بن علية عن عبد‬
‫امللك بن عمري عن مسروق عن عائشة قالت‪ :‬أمرمت باالستغفار ألصحاب حممد صلى اهلل عليه وسلم فسببتموهم‪ .‬مسعت نبيكم صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬ال تذهب‬
‫هذه األمة حىت يلعن آخرها أوهلا» رواه البغوي‪ ,‬وقال أبو داود‪ :‬حدثنا مسدد حدثنا إمساعيل بن إبراهيم‪ ,‬حدثنا أيوب عن الزهري قال‪ :‬قال عمر رضي اهلل عنه‬
‫{ وما أفاء اهلل على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل وال ركاب } قال الزهري‪ :‬قال عمر رضي اهلل عنه‪ :‬هذه لرسول هلل صلى اهلل عليه وسلم خاصة وقرى‬
‫عربية فدك وكذا مما أفاء اهلل على رسوله من أهل القرى‪ ,‬فلله وللرسول ولذي القرىب واليتامى واملساكني وابن السبيل ـ وللفقراء املهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم‬
‫وأمواهلم ـ والذين تبوءوا الدار واإلميان من قبلهم ـ والذين جاؤوا من بعدهم فاستوعبت هذه االَية الناس فلم يبق أحد من املسلمني إال له فيها حق‪ .‬قال أيوب ـ أو قال‬
‫ظ ـ إال بعض من متلكون من أرقائكم‪ .‬كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع‪.‬‬
‫حّ‬
‫وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا ابن عبد األعلى‪ ,‬حدثنا أبو ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن احلدثان قال‪ :‬قرأ عمر بن اخلطاب { إمنا‬
‫الصدقات للفقراء واملساكني ـ حىت بلغ ـ عليم حكيم } مث قال‪ :‬هذه هلؤالء‪ ,‬مث قرأ { واعلموا أمنا غنمتم من شيء فأن هلل مخسه وللرسول ولذي القرىب } االَية‪ .‬مث‬
‫قال‪ :‬هذه هلؤالء‪ ,‬مث قرأ { ما أفاء اهلل على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القرىب ـ حىت بلغ ـ للفقراء ـ والذين تبؤوا الدار واإلميان من قبلهم ـ والذين جاءوا‬
‫من بعدهم } مث قال‪ :‬استوعبت هذه املسلمني عامة وليس أحد إال له فيها حق مث قال‪ :‬لئن عشت ليأتني الراعي وهو بسرو محري نصيبه فيها مل يعرق فيها جبينه‪ .‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْكتَ ِ ِئ‬‫* َأمَل َتر ِإىَل الّ ِذين نَا َف ُقواْ ي ُقولُو َن ِإل خواهِنِم الّ ِذين َك َفرواْ ِمن َأه ِل ال ِ‬
‫َأحداً َأبَداً َوِإن قُوتْلتُ ْم لَنَ ُ‬
‫نصَرنّ ُك ْم َواللّهُ يَ ْش َه ُد‬ ‫يع في ُك ْم َ‬ ‫ُأخ ِر ْجتُ ْم لَنَ ْخ ُر َج ّن َم َع ُك ْم َوالَ نُط ُ‬
‫اب لَ ْن ْ‬ ‫َْ ُ َ ُ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬
‫ك‬‫ص ُدوره ْم ّم َن اللّه ذَل َ‬‫ِ‬ ‫يِف‬
‫َأش ّد َر ْهبَةً ُ‬ ‫نص ُرو َن * ألنتُ ْم َ‬ ‫األدبَ َار مُثّ الَ يُ َ‬
‫وه ْم لَُي َولّ ّن ْ‬‫ص ُر ُ‬ ‫نص ُرونَ ُه ْم َولَ ن نّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِإنّ ُه ْم لَ َكاذبُو َن * لَ ْن ْ‬
‫ُأخر ُجواْ الَ خَيُْر ُجو َن َم َع ُه ْم َولَ ن قُوتلُواْ الَ يَ ُ‬
‫ك بَِأنّ ُه ْم َق ْو ٌم الّ َي ْع ِقلُو َن * َك َمثَ ِل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بَِأنّهم َقوم الّ ي ْف َقهو َن * الَ ي َقاتِلُونَ ُكم مَجِ يعاً ِإالّ يِف ُقرى حّم ٍ ِ‬
‫ْأس ُه ْم َبْيَن ُه ْم َشدي ٌد حَتْ َسُب ُه ْم مَجِ يعاً َو ُقلُوبُ ُه ْم َشىّتَ َذل َ‬
‫صنَة َْأو من َو َرآء ُج ُد ٍر بَ ُ‬ ‫ً َّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ ٌْ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين ِمن َقْبلِ ِه ْم قَ ِريباً َذاقُواْ َوبَ َ‬ ‫ِ‬
‫ني * فَ َكا َن‬ ‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫اف اللّهَ َر ّ‬ ‫َأخ ُ‬ ‫نك ِإيّنَ َ‬‫يءٌ ّم َ‬ ‫ال لِإل نسان ا ْك ُفر َفلَما َك َفر قَ َ ِإ‬
‫ال يّن بَِر َ‬ ‫ْ ّ َ‬ ‫َ‬ ‫الشْيطَان ِإ ْذ قَ َ‬
‫يم * َك َمثَ ِل ّ‬ ‫ال َْأم ِره ْم َوهَلُ ْم َع َذ ٌ‬
‫اب َأل ٌ‬ ‫الّذ َ‬
‫ني‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫عاقِبتهمآ َأنّهما يِف النّا ِر خالِ ِد ِ‬
‫ك َجَزآءُ الظّالم َ‬ ‫ين ف َيها َوذَل َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ََ ُ َ ُ َ‬
‫خيرب تعاىل عن املنافقني كعبد اهلل بن أيب وأضرابه حني بعثوا إىل يهود بين النضري يعدوهنم النصر من أنفسهم فقال تعاىل‪ { :‬أمل تر إىل الذين نافقوا يقولون إلخواهنم‬
‫الذين كفروا من أهل الكتاب‪ :‬لئن أخرجتم لنخرجن معكم وال نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصركم } قال اهلل تعاىل‪ { :‬واهلل يشهد إهنم لكاذبون } أي‬
‫لكاذبون فيما وعدوهم به إما ألهنم قالوا هلم قوالً‪ ,‬ومن نيتهم أن ال يفوا هلم به‪ ,‬وإما ألهنم ال يقع منهم الذي قالوه‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬ولئن قوتلوا ال ينصروهنم }‬
‫أي ال يقاتلون معهم { ولئن نصروهم } أي قاتلوا معهم { ليولن األدبار مث ال ينصرون } وهذه بشارة مستقلة بنفسها‪ ,‬كقوله تعاىل‪ { :‬ألنتم أشد رهبة يف صدورهم‬
‫من اهلل } أي خيافون منكم أكثر من خوفهم من اهلل { إذا فريق منهم خيشون الناس كخشية اهلل أو أشد خشية } وهلذا قال تعاىل { ذلك بأهنم قوم ال يفقهون } مث‬
‫قال تعاىل‪ { :‬ال يقاتلونكم مجيعاً إال يف قرى حمصنة أو من وراء جدر } يعين أهنم من جبنهم وهلعهم ال يقدرون على مواجهة جيش اإلسالم باملبارزة واملقاتلة بل إما‬
‫يف حصون أو من وراء جدر حماصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة‪.‬‬
‫مث قال تعاىل‪ { :‬بأسهم بينهم شديد } أي عداوهتم فيما بينهم شديدة‪ ,‬كما قال تعاىل‪ { :‬ويذيق بعضكم بأس بعض } وهلذا قال تعاىل‪ { :‬حتسبهم مجيعاً وقلوهبم‬
‫شىت } أي تراهم جمتمعني فتحسبهم مؤتلفني وهم خمتلفون غاية االختالف‪ ,‬قال إبراهيم النخعي‪ :‬يعين أهل الكتاب واملنافقني { ذلك بأهنم قوم ال يعقلون } مث قال‬
‫تعاىل‪ { :‬كمثل الذين من قبلهم قريباً ذاقوا وبال أمرهم وهلم عذاب أليم } قال جماهد والسدي ومقاتل بن حيان‪ :‬يعين كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر‪,‬وقال‬
‫ابن عباس‪ :‬كمثل الذين من قبلهم يعين يهود بين قينقاع‪ ,‬وكذا قال قتادة وحممد بن إسحاق‪ ,‬وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بين قينقاع كان رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم قد أجالهم قبل هذا‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬كمثل الشيطان إذ قال لإلنسان اكفر فلما كفر قال إين بريء منك } يعين مثل هؤالء اليهود يف اغرتارهم بالذين وعدوهم النصر من املنافقني وقول‬
‫املنافقني هلم لئن قوتلتم لننصرنكم‪ ,‬مث ملا حقت احلقائق وجد هبم احلصار والقتال‪ ,‬ختلوا عنهم وأسلموهم للهلكة‪ ,‬مثاهلم يف هذا كمثل الشيطان إذ سول لإلنسان ـ‬
‫والعياذ باهلل ـ الكفر‪ ,‬فإذا دخل فيما سول له تربأ منه وتنصل وقال { إين أخاف اهلل رب العاملني }‪ .‬وقد ذكر بعضهم ههنا قصة لبعض عباد بين إسرائيل هي كاملثال‬
‫هلذا املثل‪ ,‬ال أهنا املرادة وحدها باملثل‪ ,‬بل هي منه مع غريها من الوقائع املشاكلة هلا‪ ,‬فقال ابن جرير‪ :‬حدثنا خالد بن أسلم أخربنا النضر بن مشيل أخربنا شعبة عن أيب‬
‫إسحاق مسعت عبد اهلل بن هنيك قال‪ :‬مسعت علياً رضي اهلل عنه يقول إن راهباً تعبد ستني سنة‪ ,‬وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إىل امرأة فأجنها‪ ,‬وهلا إخوة فقال‬
‫إلخوهتا عليكم هبذا القس فيداويها‪ ,‬قال فجاؤوا هبا إليه فداواها وكانت عنده‪ ,‬فبينما هو يوماً عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت‪ ,‬فعمد إليها فقتلها فجاء إخوهتا‪ ,‬فقال‬
‫الشيطان للراهب‪ :‬أنا صاحبك إنك أعييتين أنا صنعت هذا بك فأطعين أجنك مما صنعت بك‪ ,‬فاسجد يل سجدة‪ ,‬فسجد له فلما سجد له قال إين بريء منك إين‬
‫أخاف اهلل رب العاملني‪ ,‬فذلك قوله‪ { :‬كمثل الشيطان إذ قال لإلنسان اكفر فلما كفر قال إين بريء منك إين إخاف اهلل رب العاملني }‪.‬‬
‫وقال ابن جرير‪ :‬حدثين حيىي بن إبراهيم املسعودي حدثنا أيب عن أبيه عن جده عن األعمش عن عمارة عن عبد الرمحن بن يزيد عن عبد اهلل بن مسعود يف هذه االَية‬
‫{ كمثل الشيطان إذ قال لإلنسان اكفر فلما كفر قال إين بريء منك إين أخاف اهلل رب العاملني } قال‪ :‬كانت امرأة ترعى الغنم وكان هلا أربعة إخوة‪ ,‬وكانت تأوي‬
‫بالليل إىل صومعة راهب‪ ,‬قال فنزل الراهب ففجر هبا فحملت‪ ,‬فأتاه الشيطان فقال له اقتلها مث ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك‪ ,‬فقتلها مث دفنها قال فأتى‬
‫الشيطان إخوهتا يف املنام‪ ,‬فقال هلم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم‪ ,‬فلما أحبلها قتلها مث دفنها يف مكان كذا وكذا‪ ,‬فلما أصبحوا قال رجل منهم‪ :‬واهلل لقد‬
‫رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك ؟ قالوا‪ :‬البل قصها علينا‪ .‬قال فقصها فقال االَخر‪ :‬وأنا واهلل لقد رأيت ذلك‪ ,‬فقال االَخر‪ :‬وأنا واهلل لقد رأيت‬
‫ذلك‪ ,‬قالوا‪ :‬فواهلل ما هذا إال لشيء قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب‪ ,‬فأتوه فأنزلوه مث انطلقوا به فلقيه الشيطان‪ ,‬فقال إين أنا الذي أوقعتك يف هذا‬
‫ولن ينجيك منه غريي‪ ,‬فاسجد يل سجدة واحدة وأجنيك مما أوقعتك فيه‪ ,‬قال فسجد له‪ ,‬فلما أتوا به ملكهم تربأ منه وأخذ فقتل‪ .‬وكذا روي عن ابن عباس وطاوس‬
‫ومقاتل بن حيان حنو ذلك‪ ,‬واشتهر عند كثري من الناس أن هذا العابد هو برضيضا فاهلل أعلم‪.‬‬
‫وهذه القصة خمالفة لقصة جريج العابد فإن جرجياً اهتمته امرأة بغي بنفسها‪ ,‬وادعت أن محلها منه ورفعت أمرها إىل ويل األمر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت‬
‫صومعته وهو يقول ما لكم ما لكم ؟ قالوا يا عدو اهلل فعلت هبذه املرأة كذا وكذا‪ ,‬فقال جريج اصربوا مث أخذ ابنها وهو صغري جداً‪ ,‬مث قال يا غالم من أبوك‪ .‬قال أيب‬
‫الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه‪ ,‬فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيماً بليغاً وقالوا نعيد صومعتك من ذهب‪ ,‬قال البل أعيدوها من طني‬
‫كما كانت‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬فكان عاقبتهما أهنما يف النار خالدين فيه } أي فكان عاقبة االَمر بالكفر والفاعل له ومصريمها إىل نار جهنم خالدين فيها { وذلك جزاء‬
‫الظاملني } أي جزاء كل ظامل‪ .‬‬

‫ك هم الْ َف ِ‬
‫اس ُقو َن *‬ ‫ِئ‬ ‫ِ‬ ‫ِ مِب‬ ‫ِإ‬ ‫** يَأيها الّ ِذين آمنواْ اّت ُقواْ اللّه ولْتنظُر َن ْفس ما قَ ّدم ِ ٍ‬
‫اه ْم َأن ُف َس ُه ْم ُأولَـَ َ ُ ُ‬
‫َأنس ُ‬
‫ين نَ ُسواْ اللّهَ فَ َ‬
‫ت لغَد َواّت ُقواْ اللّهَ ّن اللّهَ َخبريٌ َا َت ْع َملُو َن * َوالَ تَ ُكونُواْ َكالّذ َ‬ ‫َََ ْ ٌ ّ َ ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫َ َّ‬
‫ِئ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب اجْلَنّة ُه ُم الْ َفآ ُزو َن‬
‫َأص َح ُ‬
‫اب اجْلَنّة ْ‬ ‫اب النّا ِر َو ْ‬
‫َأص َح ُ‬ ‫َأص َح ُ‬
‫ي ْ‬ ‫الَ يَ ْستَ ِو َ‬
‫قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا حممد بن جعفر‪ ,‬حدثنا شعبة عن عون بن أيب جحيفة عن املنذر بن جرير عن أبيه قال‪ :‬كنا عند رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف صدر‬
‫النهار‪ ,‬قال‪ :‬فجاءه قوم حفاة عراة حمتايب النمار أو العباء متقلدي السيوف‪ ,‬عامتهم من مضر بلكلهم من مضر‪ ,‬فتغري وجه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا رأى هبم‬
‫من الفاقة‪ ,‬قال‪ :‬فدخل مث خرج‪ ,‬فأمر بالالً فأذن وأقام الصالة فصلى مث خطب فقال‪« :‬يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ـ إىل آخر االَية وقرأ‬
‫االَية اليت يف احلشر { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } تصدق رجل من ديناره من درمهه من ثوبه من صاع بره من صاع متره ـ حىت قال ـ ولو بشق مترة» قال‪ :‬فجاء‬
‫رجل من األنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها‪ ,‬بل قد عجزت‪,‬مث تتابع الناس حىت رأيت كومني من طعام وثياب‪ ,‬حىت رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يتهلل‬
‫وجهه كأنه مذهبة‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من سن يف اإلسالم سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل هبا بعده من غري أن ينقص من أجورهم شيء‪,‬‬
‫ومن سن يف اإلسالم سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل هبا من غري أن ينقص من أوزارهم شيء» انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة بإسناده مثله‪ ,‬فقوله‬
‫تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهلل } أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر وترك ما عنه زجر‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ولتنظر نفس ما قدمت لغد } أي حاسبوا أنفسكم قبل أن حتاسبوا‪ ,‬وانظروا ماذا ادخرمت ألنفسكم من األعمال الصاحلة ليوم معادكم وعرضكم على‬
‫ربكم { واتقوا اهلل } تأكيد ثان { إن اهلل خبري مبا تعملون } أي اعلموا أنه عامل جبميع أعمالكم وأحوالكم‪ ,‬ال ختفى عليه منكم خافية وال يغيب من أموركم جليل‬
‫وال حقري وقوله تعاىل‪ { :‬وال تكونوا كالذين نسوا اهلل فأنساهم أنفسهم } أي ال تنسوا ذكر اهلل تعاىل‪ :‬فينسيكم العمل ملصاحل أنفسكم اليت تنفعكم يف معادكم‪ ,‬فإن‬
‫اجلزاء من جنس العمل‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬أولئك هم الفاسقون } أي اخلارجون عن طاعة اهلل اهلالكون يوم القيامة اخلاسرون يوم معادهم‪ ,‬كما قال تعاىل‪ { :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا ال تلهكم أموالكم وال أوالدكم عن ذكر اهلل ومن يفعل ذلك فأولئك هم اخلاسرون }‪.‬‬
‫وقال احلافظ أبو القاسم الطرباين‪ :‬حدثنا أمحد بن عبد الوهاب بن جندة احلوطي‪ ,‬حدثنا املغرية‪ ,‬حدثنا جرير بن عثمان عن نعيم بن منحة قال‪ :‬كان يف خطبة أيب بكر‬
‫الصديق رضي اهلل عنه‪ :‬أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون ألجل معلوم‪ ,‬فمن استطاع أن يقضي األجل وهو يف عمل اهلل عز وجل فليفعل‪ ,‬ولن تنالوا ذلك إال باهلل‬
‫عز وجل‪ ,‬إن قوماً جعلوا آجاهلم لغريهم فنهاكم اهلل عز وجل أن تكونوا أمثاهلم { وال تكونوا كالذين نسوا اهلل فأنساهم أنفسهم } أين من تعرفون من إخوانكم ؟‬
‫قدموا على ما قدموا يف أيام سلفهم وخلوا بالشقوة والسعادة‪ ,‬وأين اجلبارون األولون الذي بنوا املدائن وحصنوها باحلوائط ؟ قد صاروا حتت الصخر واالَبار‪ ,‬هذا‬
‫كتاب اهلل ال تفىن عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة‪ ,‬واستضيئوا بسنائه وبيانه‪ ,‬إن اهلل تعاىل أثىن على زكريا وأهل بيته فقال تعاىل‪ { :‬إهنم كانوا يسارعون يف اخلريات‬
‫ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعني } ال خري يف قول ال يراد به وجه اهلل وال خري يف مال ال ينفق يف سبيل اهلل‪ ,‬وال خري فيمن يغلب جهله حلمه‪ ,‬وال خري فيمن‬
‫خياف يف اهلل لومة الئم‪ .‬هذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات‪ ,‬وشيخ جريز بن عثمان وهو نعيم بن منحة ال أعرفه بنفي وال إثبات‪ ,‬غري أن أبا داود السجستاين قد‬
‫حكم بأن شيوخ حرير كلهم ثقات‪ ,‬وقد روي هلذه اخلطبة شواهد من وجوه أخر واهلل أعلم‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ال يستوي أصحاب النار وأصحاب اجلنة } أي ال يستوي هؤالء وهؤالء يف حكم اهلل تعاىل يوم القيامة‪ ,‬كما قال تعاىل‪ { :‬أم حسب الذين اجرتحوا‬
‫السيئات أن جنعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصاحلات سواءً حمياهم ومماهتم ساء ما حيكمون } وقال تعاىل‪ { :‬وما يستوي األعمى والبصري والذين آمنوا وعملوا‬
‫الصاحلات وال املسيء قليالً ما تتذكرون } وقال تعاىل‪ { :‬أم جنعل الذين آمنوا وعملوا الصاحلات كاملفسدين يف األرض ؟ أم جنعل املتقني كالفجار }‪ .‬يف آيات أخر‬
‫داالت على أن اهلل تعاىل يكرم األبرار ويهني الفجار‪ ,‬وهلذا قال تعاىل ههنا‪ { :‬أصحاب اجلنة هم الفائزون } أي الناجون املسلمون من عذاب اهلل عز وجل‪.‬‬

‫ب‬ ‫اس لَ َعلّ ُهم َيَت َفكّرو َن * ُهو اللّهُ الّ ِذي الَ ِإلَـَهَ ِإالّ ُهو َعامِلُ الْغَْي ِ‬ ‫ض ِربُ َها لِلنّ ِ‬ ‫ال نَ ْ‬‫األمثَ ُ‬
‫ك ْ‬ ‫ص ّدعاً ّم ْن َخ ْشيَ ِة اللّ ِه َوتِْل َ‬ ‫ِ‬
‫َأنزلْنَا َهـََذا الْ ُقْرآ َن َعلَ َى َجبَ ٍل لَّر َْأيتَهُ َخاشعاً ّمتَ َ‬
‫** لَ ْو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫السالَ ُم ال ُْمْؤ ِم ُن ال ُْم َهْي ِم ُن ال َْع ِز ُيز اجْلَبّ ُار ال ُْمتَ َكّب ُر ُسْب َحا َن اللّ ِه َع ّما يُ ْش ِر ُكو َن * ُه َو اللّهُ اخْلَالِ ُق‬
‫وس ّ‬ ‫ك الْ ُق ّد ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم * ُه َو اللّهُ الّذي الَ ِإلَـَهَ ِإالّ ُه َو ال َْمل ُ‬ ‫الشهاد ِة هو الرمْح ـن ِ‬
‫الرح ُ‬
‫َو ّ َ َ ُ َ ّ ََ ُ ّ‬
‫يم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األر ِ‬ ‫ِ‬ ‫صو ُر لَهُ األمْسَآء احْلُسْىَن يُسبّ ُح لَهُ َما يِف‬ ‫ِ‬
‫ض َو ُه َو ال َْعز ُيز احْلَك ُ‬ ‫الس َم َاوات َو ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫الْبَارىءُ ال ُْم َ ّ‬
‫يقول تعاىل معظماً ألمر القرآن ومبيناً علو قدره‪ ,‬وأنه ينبغي أن ختشع له القلوب وتتصدع عند مساعه‪ ,‬ملا فيه من الوعد احلق والوعيد األكيد { لو أنزلنا هذا القرآن‬
‫على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية اهلل } أي فإذا كان اجلبل يف غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه خلشع وتصدع من خوف اهلل عز وجل‪,‬‬
‫فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن ال تلني قلوبكم وختشع وتتصدع من خشية اهلل‪ ,‬وقد فهمتم عن اهلل أمره وتدبرمت كتابه‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬وتلك األمثال نضرهبا‬
‫للناس لعلهم يتفكرون } قال العويف عن ابن عباس يف قوله تعاىل‪ { :‬لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدع } إىل آخرها يقول لو أين أنزلت هذا القرآن‬
‫على جبل محلته إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية اهلل‪ ,‬فأمر اهلل الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه باخلشية الشديدة والتخشع‪ ,‬مث قال تعاىل‪ { :‬وتلك‬
‫األمثال نضرهبا للناس لعلهم يتفكرون } وكذا قال قتادة وابن جرير‪.‬‬

‫وقد ثبت يف احلديث املتواتر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا عمل له املنرب‪ ,‬وقد كان يوم اخلطبة يقف إىل جانب جذع من جذوع املسجد‪ ,‬فلما وضع املنرب أول‬
‫ما وضع وجاء النيب صلى اهلل عليه وسلم ليخطب فجاوز اجلذع إىل حنو املنرب‪ ,‬فعند ذلك حن اجلذع وجعل يئن كما يئن الصيب الذي يسكت ملا كان يسمع من‬
‫الذكر والوحي عنده‪ ,‬ففي بعض روايات هذا احلديث قال احلسن البصري بعد إيراده‪ :‬فأنتم أحق أن تشتاقوا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من اجلذع وهكذا‬
‫هذه االَية الكرمية إذا كانت اجلبال الصم لو مسعت كالم اهلل وفهمته خلشعت وتصدعت من خشيته‪ ,‬فكيف بكم وقد مسعتم وفهمتم ؟ وقد قال تعاىل‪ { :‬ولو أن قرآنا‬
‫سريت به اجلبال أو قطعت به األرض أو كلم به املوتى } االَية‪ .‬وقد تقدم أن معىن ذلك أي لكان هذا القرآن‪ ,‬وقد قال تعاىل‪ { :‬وإن من احلجارة ملا يتفجر منه‬
‫األهنار وإن منها ملا يشقق فيخرج منه املاء وإن منها ملا يهبط من خشية اهلل }‪.‬‬
‫مث قال تعاىل‪ { :‬هو اهلل الذي ال إله إال هو عامل الغيب والشهادة هو الرمحن الرحيم } أخرب تعاىل أنه الذي ال إله إال هو فال رب غريه وال إله للوجود سواه‪ ,‬وكل ما‬
‫يعبد من دونه فباطل‪ ,‬وأنه عامل الغيب والشهادة أي يعلم مجيع الكائنات املشاهدات لنا والغائبات عنا‪ ,‬فال خيفى عليه شيء يف األرض وال يف السماء من جليل وحقري‬
‫وصغري وكبري حىت الذر يف الظلمات‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬هو الرمحن الرحيم } قد تقدم الكالم على ذلك يف أول التفسري مبا أغىن عن إعادته ههنا‪ ,‬واملراد أنه ذو الرمحة‬
‫الواسعة الشاملة جلميع املخلوقات‪ ,‬فهو رمحن الدنيا واالَخرة ورحيمهما‪ ,‬وقد قال تعاىل‪ { :‬ورمحيت وسعت كل شيء } وقال تعاىل‪ { :‬كتب ربكم على نفسه الرمحة‬
‫} وقال تعاىل‪ { :‬قل بفضل اهلل وبرمحته فبذلك فليفرحوا هو خري مما جيمعون } مث قال تعاىل‪ { :‬هو اهلل الذي ال إله إال هو امللك } أي املالك جلميع األشياء‬
‫املتصرف فيها بال ممانعة وال مدافعة‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬القدوس } قال وهب بن منبه أي الطاهر‪ .‬وقال جماهد وقتادة أي املبارك وقال ابن جريج تقدسه املالئكة الكرام‬
‫{ السالم } أي من مجيع العيوب والنقائص لكماله يف ذاته وصفاته وأفعاله‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬املؤمن } قال الضحاك عن ابن عباس‪ :‬أي أمن خلقه من أن يظلمهم‪ .‬وقال قتادة‪ :‬أمن بقوله أنه حق‪ .‬وقال ابن زيد‪ :‬صدق عباده املؤمنني يف إمياهنم‬
‫به‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬املهيمن } قال ابن عباس وغري واحد‪ :‬أي الشاهد على خلقه بأعماهلم مبعىن هو رقيب عليهم كقوله { واهلل على كل شيء شهيد } وقوله { مث‬
‫اهلل شهيد على ما يفعلون } وقوله { أفمن هو قائم على كل نفس مبا كسبت } االَية‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬العزيز } أي الذي قد عز كل شيء فقهره وغلب األشياء فال‬
‫ينال جنابه لعزته وعظمته وجربوته وكربيائه‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬اجلبار املتكرب } أي الذي ال تليق اجلربية إال له وال التكرب إال لعظمته‪ ,‬كما تقدم يف الصحيح «العظمة‬
‫إزاري والكربياء رادئي فمن نازعين واحداً منهما عذبته» وقال قتادة‪ :‬اجلبار الذي جرب خلقه على ما يشاء‪ .‬وقال ابن جرير‪ :‬اجلبار املصلح أمور خلقه املتصرف فيهم‬
‫مبا فيه صالحهم‪ .‬وقال قتادة‪ :‬املتكرب يعين عن كل سوء مث قال تعاىل‪ { :‬سبحان اهلل عما يشركون } وقوله تعاىل‪ { :‬هو اهلل اخلالق البارىء املصور } اخللق التقدير‬
‫والربء هو الفري‪ ,‬وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إىل الوجود وليس كل من قدر شيئاً ورتبه يقدر على تنفيذه وإجياده سوى اهلل عز وجل‪ .‬قال الشاعر ميدح آخر‪:‬‬
‫وألنت تفري ما خلقت وبعــض القوم خيلق مث ال يفري‬
‫أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت‪ ,‬خبالف غريك فإنه ال يستطيع ما يريد‪ ,‬فاخللق التقدير والفري التنفيذ‪ ,‬ومنه يقال قدر اجلالد مث فرى أي قطع على ما قدره حبسب‬
‫ما يريده‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬اخلالق البارىء املصور } أي الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون على الصفة اليت يريد‪ ,‬والصورة اليت خيتار كقوله تعاىل‪ { :‬يف أي صورة‬
‫ما شاء ركبك } وهلذا قال املصور أي الذي ينفذ ما يريد إجياده على الصفة اليت يريدها‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬له األمساء احلسىن } قد تقدم الكالم على ذلك يف سورة األعراف‪ .‬ونذكر احلديث املروي يف الصحيحني عن أيب هريرة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم «إن هلل تعاىل تسعة وتسعني امساً‪ ,‬مائة إال واحداً‪ ,‬من أحصاها دخل اجلنة وهو وتر حيب الوتر» وتقدم سياق الرتمذي وابن ماجه له عن أيب هريرة أيضاً وزاد‬
‫بعد قوله‪« :‬وهو وتر حيب الوتر»‪ .‬واللفظ للرتمذي‪« :‬هو اهلل الذي ال إله إال هو الرمحن‪ ,‬الرحيم‪ ,‬امللك‪ ,‬القدوس‪ ,‬السالم‪ ,‬املؤمن‪ ,‬املهيمن‪ ,‬العزيز‪ ,‬اجلبار‪ ,‬املتكرب‪,‬‬
‫اخلالق‪ ,‬البارىء‪ ,‬املصور‪ ,‬الغفار‪ ,‬القهار‪ ,‬الوهاب‪ ,‬الرزاق‪ ,‬الفتاح‪ ,‬العليم‪ ,‬القابض الباسط‪ ,‬اخلافض‪ ,‬الرافع‪ ,‬املعز‪ ,‬املذل‪ ,‬السميع‪ ,‬البصري‪ ,‬احلكم‪ ,‬العدل‪ ,‬اللطيف‪,‬‬
‫اخلبري‪ ,‬احلليم‪ ,‬العظيم‪ ,‬الغفور‪ ,‬الشكور‪ ,‬العلي‪ ,‬الكبري‪ ,‬احلفيظ‪ ,‬املقيت‪ ,‬احلسيب‪ ,‬اجلليل‪ ,‬الكرمي‪ ,‬الرقيب‪ ,‬اجمليب‪ ,‬الواسع‪ ,‬احلكيم‪ ,‬الودود‪ ,‬اجمليد‪ ,‬الباعث‪ ,‬الشهيد‪,‬‬
‫احلق‪ ,‬الوكيل‪ ,‬القوي‪ ,‬املتني‪ ,‬الويل‪ ,‬احلميد‪ ,‬احملصي‪ ,‬املبدىء‪ ,‬املعيد‪ ,‬احمليي‪ ,‬املميت‪ ,‬احلي‪ ,‬القيوم‪ ,‬الواجد‪ ,‬املاجد‪ ,‬الواحد‪ ,‬الصمد‪ ,‬القادر‪ ,‬املقتدر‪ ,‬املقدم‪ ,‬املؤخر‪,‬‬
‫األول‪ ,‬االَ خر‪ ,‬الظاهر‪ ,‬الباطن‪ ,‬الوايل‪ ,‬املتعايل‪ ,‬الرب‪ ,‬التواب‪ ,‬املنتقم‪ ,‬العفو‪ ,‬الرؤوف‪ ,‬مالك امللك‪ ,‬ذو اجلالل واإلكرام‪ ,‬املقسط اجلامع‪ ,‬الغين‪ ,‬املغين‪ ,‬املعطي‪ ,‬املانع‪,‬‬
‫الضار‪ ,‬النافع‪ ,‬النور‪ ,‬اهلادي‪ ,‬البديع‪ ,‬الباقي‪ ,‬الوارث‪ ,‬الرشيد‪ ,‬الصبور»‪ .‬وسياق ابن ماجه بزيادة ونقصان وتقدمي وتأخري وقد قدمنا ذلك مبسوطاً مطوالً بطرقه‬
‫وألفاظه مبا أغىن عن إعادته ههنا‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬يسبح له ما يف السموات واألرض } كقوله تعاىل‪ { :‬تسبح له السموات السبع واألرض ومن فيهن وإن من شيء إال يسبح حبمده ولكن ال تفقهون‬
‫تسبيحهم إنه كان حليماً غفور } وقوله تعاىل‪ { :‬وهو العزيز } أي فال يرام جنابه { احلكيم } يف شرعه وقدره‪ ,‬وقد قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا أبو أمحد الزبريي حدثنا‬
‫خالد يعين ابن طهمان أبو العالء اخلفاف حدثنا نافع بن أيب نافع‪ ,‬عن معقل بن يسار عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬من قال حني يصبح ثالث مرات أعوذ باهلل‬
‫السميع العليم من الشيطان الرجيم‪ ,‬مث قرأ ثالث آيات من آخر سورة احلشر وكل اهلل به سبعني ألف ملك يصلون عليه حىت ميسي‪ ,‬وإن مات يف ذلك اليوم مات‬
‫شهيداً‪ ,‬ومن قاهلا حني ميسي كان بتلك املنزلة» ورواه الرتمذي عن حممود بن غيالن عن أيب أمحد الزبريي به‪ .‬وقال غريب ال نعرفه إال من هذا الوجه‪ .‬آخر تفسري‬
‫سورة احلشر‪ ,‬وهلل احلمد واملنة‪ .‬‬

‫ول َوِإيّا ُك ْم َأن تُْؤ ِمنُواْ بِاللّ ِه َربّ ُك ْم ِإن ُكنتُ ْم‬ ‫مِب‬ ‫ِإ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َآمنُواْ الَ َتتّخ ُذواْ َع ُد ّوي َو َع ُد ّو ُك ْم َْأوليَآءَ تُْل ُقو َن لَْيه ْم بال َْم َو ّدة َوقَ ْد َك َف ُرواْ َا َجآءَ ُك ْم ّم َن احْلَ ّق خُيْ ِر ُجو َن ّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫* يََأيّ َها الّذ َ‬
‫السبِ ِيل * ِإن َي ْث َق ُفو ُك ْم يَ ُكونُواْ لَ ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫ضايِت تُ ِسرو َن ِإلَي ِهم بِالْمو ّد ِة وَأنَاْ ْ مِب‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ّل َس َوآءَ ّ‬ ‫َأعلَنتُ ْم َو َمن َي ْف َعْلهُ من ُك ْم َف َق ْد َ‬
‫َأخ َفْيتُ ْم َو َمآ ْ‬
‫َأعلَ ُم َآ ْ‬ ‫ّ ْ ْ ََ َ‬ ‫َخَر ْجتُ ْم ج َهاداً يِف َسبِيلي َوابْتغَآءَ َمْر َ‬
‫ِ‬ ‫مِب‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ْسنتهم بِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإ‬
‫َأع َدآءً َو َيْب ُسطَُواْ لَْي ُك ْم َأيْد َي ُه ْم َوَأل ََ ُ ْ ّ‬
‫الس َوء َو َو ّدواْ لَ ْو تَ ْك ُف ُرو َن * لَن تَن َف َع ُك ْم َْأر َح ُام ُك ْم َوالَ َْأوالَ ُد ُك ْم َي ْو َم الْقيَ َامة َي ْفص ُل َبْينَ ُك ْم َواللّهُ َا َت ْع َملُو َن بَصريٌ‬ ‫ْ‬
‫كان سبب نزول صدر هذه السورة الكرمية قصة حاطب بن أيب بلتعة‪ ,‬وذلك أن حاطباً هذا كان رجالً من املهاجرين‪ ,‬وكان من أهل بدر أيضاً‪ ,‬وكان له مبكة أوالد‬
‫ومال ومل يكن من قريش أنفسهم‪ ,‬بل كان حليفاً لعثمان‪ ,‬فلما عزم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على فتح مكة ملا نقض أهلها العهد‪ ,‬فأمر النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم املسلمني بالتجهيز لغزوهم وقال «اللهم عم عليهم خربنا» فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً وبعثه مع قريش إىل أهل مكة‪ ,‬يعلمهم مبا عزم عليه رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم من غزوهم‪ ,‬ليتخذ بذلك عندهم يداً فأطلع اهلل تعاىل على ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم استجابة لدعائه‪ ,‬فبعث يف أثر املرأة فأخذ الكتاب منها‪,‬‬
‫وهذا بني يف هذا احلديث املتفق على صحته‪.‬‬
‫قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا سفيان عن عمه‪ ,‬أخربين حسن بن حممد بن علي‪ ,‬أخربين عبد اهلل بن أيب رافع وقال مرة إن عبيد اهلل بن أيب رافع أخربه أنه مسع علياً رضي اهلل‬
‫عنه يقول‪ :‬بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنا والزبري واملقداد فقال «انطلقوا حىت تأتوا روضة خاخ فإن هبا ظعينة معها كتاب فخذوه منها‪ ,‬فانطلقنا تعادي بنا‬
‫خيلنا حىت أتينا الروضة‪ ,‬فإذا حنن بالظعينة قلنا أخرجي الكتاب‪ ,‬قالت‪ :‬ما معي كتاب‪ ,‬قلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقني الثياب‪ ,‬قال‪ :‬فأخرجت الكتاب من عقاصها‪,‬‬
‫فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أيب بلتعة إىل أناس من املشركني مبكة‪ ,‬خيربهم ببعض أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم «يا حاطب ما هذا ؟» قال‪ :‬ال تعجل علي إين كنت امرًأ ملصقاً يف قريش ومل أكن من أنفسهم‪ ,‬وكان من معك من‬
‫املهاجرين هلم قرابات حيمون أهليهم مبكة‪ ,‬فأحببت إذ فاتين ذلك من النسب فيهم‪ ,‬أن أختذ فيهم يداً حيمون هبا قرابيت‪ ,‬وما فعلت ذلك كفراً وال ارتداداً عن ديين وال‬
‫رضاً بالكفر بعد اإلسالم‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنه صدقكم»‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬دعين أضرب عنق هذا املنافق‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل اهلل اطلع إىل أهل بدر‪ ,‬فقال‪« :‬اعملوا ما شئتم‬
‫فقد غفرت لكم» وهكذا أخرجه اجلماعة إال ابن ماجه من غري وجه عن سفيان بن عيينة به‪ ,‬وزاد البخاري يف كتاب املغازي‪ :‬فأنزل اهلل السورة { يا أيها الذين آمنوا‬
‫ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وقال يف كتاب التفسري‪ :‬قال عمرو ونزلت فيه { يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } وقال ال أدري االَية يف‬
‫احلديث أو قال عمرو‪ .‬قال البخاري قال علي يعين ابن املديين قيل لسفيان يف هذا نزلت { ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } فقال سفيان‪ :‬هذا يف حديث الناس‬
‫حفظته من عمرو‪ ,‬ما تركت منه حرفاً وال أدري أحداً حفظه غريي‪.‬‬
‫وقد أخرجاه يف الصحيحني من حديث حصني بن عبد الرمحن عن سعد بن عبيدة‪ ,‬عن أيب عبد الرمحن السلمي عن علي قال‪ :‬بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وأبا مرثد والزبري بن العوام وكلنا فارس‪ ,‬وقال انطلقوا حىت تأتوا روضة خاخ فإن هبا امرأة من املشركني معها كتاب من حاطب بن أيب بلتعة إىل املشركني‪ ,‬فأدركناها‬
‫تسري على بعري هلا حيث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقلنا‪ :‬الكتاب ؟ فقالت‪ :‬ما معي كتاب‪ ,‬فأخنناها فالتمسنا فلم نر كتاباً‪ ,‬فقلنا ما كذب رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت اجلد أهوت إىل حجزهتا وهي حمتجزة بكساء فأخرجته‪ ,‬فانطلقنا هبا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‬
‫عمر‪ :‬يا رسول اهلل قد خان اهلل ورسوله واملؤمنني فدعين فألضرب عنقه فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما محلك على ما صنعت ؟» قال حاطب‪ :‬واهلل ما يب إال أن‬
‫أكون مؤمناً باهلل ورسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬أردت أن تكون يل عند القوم يد يدفع اهلل هبا عن أهلي ومايل وليس أحد من أصحابك إال له هناك من عشريته من‬
‫يدفع اهلل به عن أهله وماله‪ ,‬فقال‪« :‬صدق ال تقولوا له إال خرياً»‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬إنه قد خان اهلل ورسوله واملؤمنني فدعين فألضرب عنقه‪ ,‬فقال‪« :‬أليس‪ -‬من أهل بدر ؟ ـ فقال ـ لعل اهلل قد اطلع إىل أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد‬
‫وجبت لكم اجلنة ـ أو قد غفرت لكم ـ» فدمعت عينا عمر وقال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم‪ ,‬هذا لفظ البخاري يف املغازي يف غزوة بدر‪ ,‬وقد روي من وجه آخر عن علي قال‬
‫ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا علي بن احلسن اهلسنجاين‪ ,‬حدثنا عبيد بن يعيش‪ ,‬حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن أيب سنان هو سعيد بن سنان عن عمرو بن مرة اجلملي‬
‫عن أيب البحرتي الطائي‪ ,‬عن احلارث عن علي قال‪ :‬ملا أراد النيب صلى اهلل عليه وسلم أن يأيت مكة أسر إىل أناس من أصحابه أنه يريد مكة منهم حاطب بن أيب بلتعة‪,‬‬
‫وأفشى يف الناس أنه يريد خيرب‪ ,‬قال‪ :‬فكتب حاطب بن أيب بلتعة إىل أهل مكة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يريدكم‪ ,‬فأخرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪,‬‬
‫قال فبعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إال وعنده فرس فقال‪« :‬ائتوا روضة خاخ فإنكم ستلقون هبا امرأة معها كتاب فخذوه منها»‪.‬‬
‫فانطلقنا حىت رأيناها باملكان الذي ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقلنا هلا هات الكتاب فقالت ما معي كتاب‪ ,‬فوضعنا متاعها وفتشناها فلم جنده يف متاعها‪,‬‬
‫فقال أبو مرثد لعله أن ال يكون معها‪ ,‬فقلت ما كذب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال كذبنا فقلنا هلا لتخرجنه أو لنعرينك‪ .‬فقالت أما تتقون اهلل! ألستم مسلمني!‬
‫فقلنا لتخرجنه أو لنعرينك‪ .‬قال عمرو بن مرة‪ .‬فأخرجته من حجزهتا‪ .‬وقال حبيب بن أيب ثابت‪ :‬أخرجته من قبلها‪ ,‬فأتينا به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فإذا‬
‫الكتاب من حاطب بن أيب بلتعة‪ ,‬فقام عمر فقال يا رسول اهلل خان اهلل ورسوله فائذن يل فألضرب عنقه‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أليس‪ -‬قد شهد بدراً‬
‫؟ قالوا‪ :‬بلى‪ ,‬وقال عمر‪ :‬بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬فلعل اهلل اطلع إىل أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إين مبا‬
‫تعملون بصري» ففاضت عينا عمر وقال‪ :‬اهلل ورسوله أعلم فأرسل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل حاطب فقال‪« :‬يا حاطب ما محلك على ما صنعت ؟» فقال‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل إين كنت امرًأ ملصقاً يف قريش‪ ,‬وكان يل هبا مال وأهل ومل يكن من أصحابك أحد إال وله مبكة من مينع أهله وماله‪ ,‬فكتبت بذلك إليهم واهلل يا رسول اهلل‬
‫إين ملؤمن باهلل ورسوله‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬صدق حاطب فال تقولوا حلاطب إال خرياً» قال حبيب بن أيب ثابت‪ :‬فأنزل اهلل تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم باملودة } االَية‪ .‬وهكذا رواه ابن جرير عن ابن محيد عن مهران‪ ,‬عن أيب سنان سعيد بن سنان بإسناده مثله‪.‬‬
‫وقد ذكر ذلك أصحاب املغاري والسري فقال حممد بن إسحاق بن يسار يف السرية‪ :‬حدثين حممد بن جعفر بن الزبري عن عروة بن الزبري وغريه من علمائنا قال‪ :‬ملا‬
‫أمجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املسري إىل مكة‪ ,‬كتب حاطب بن أيب بلتعة كتاباً إىل قريش خيربهم بالذي أمجع عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من األمر يف‬
‫السري إليهم مث أعطاه امرأة‪ ,‬زعم حممد بن جعفر أهنا من مزينة‪ ,‬وزعم غريه أهنا سارة موالة لبين عبد املطلب وجعل هلا جعالً على أن تبلغه لقريش‪ ,‬فجعلته يف رأسها‬
‫مث فتلت‪ -‬عليه قروهنا‪ ,‬مث خرجت به‪ ,‬وأتى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اخلرب من السماء مبا صنع حاطب‪ ,‬فبعث علي بن أيب طالب والزبري بن العوام فقال‪« :‬أدركا‬
‫امرأة قد كتب معها حاطب كتاباً إىل قريش حيذرهم ما قد أمجعنا له من أمرهم»‪.‬‬
‫فخرجا حىت أدركاها باحلليفة‪ ,‬حليفة بين أيب أمحد‪ ,‬فاستنزالها باحلليفة فالتمسا يف رحلها فلم جيدا شيئاً‪ ,‬فقال هلا علي بن أيب طالب‪ :‬إين أحلف باهلل ما كذب رسول‬
‫اهلل وما كذبنا‪ ,‬ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك‪ .‬فلما رأت اجلد منه قالت‪ :‬أعرض‪ ,‬فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه‪ ,‬فأتى‬
‫به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬فدعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حاطباً فقال‪« :‬يا حاطب ما محلك على هذا ؟ فقال‪ :‬يا رسول اهلل أما واهلل إين ملؤمن باهلل‬
‫وبرسوله ما غريت وال بدلت ولكين كنت امرًأ ليس يل يف القوم من أهل وال عشرية‪ ,‬وكان يل بني أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم‪ ,‬فقال عمر بن اخلطاب‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل دعين فألضرب عنقه فإن الرجل قد نافق‪ ,‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬وما يدريك يا عمر ؟ لعل اهلل قد اطلع إىل أصحاب بدر يوم بدر فقال‬
‫«اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»‪.‬‬
‫فأنزل اهلل عز وجل يف حاطب { ياأيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم باملودة ـ إىل قوله ـ قد كانت لكم أسوة حسنة يف إبراهيم والذين‬
‫معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون اهلل كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حىت تؤمنوا باهلل وحده } إىل آخر القصة‪ ,‬وروى‬
‫معمر عن الزهري عن عروة حنو ذلك‪ ,‬وهكذا ذكر مقاتل بن حيان أن هذه االَيات نزلت يف حاطب بن أيب بلتعة أنه بعث سارة موالة بين هاشم‪ ,‬وأنه أعطاها عشرة‬
‫دراهم‪ ,‬وأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث يف أثرها عمر بن اخلطاب وعلي بن أيب طالب رضي اهلل عنهما فأدركاها باجلحفة وذكر متام القصة كنحو ما تقدم‪,‬‬
‫وعن السدي قريباً منه‪ ,‬وهكذا قال العويف عن ابن عباس وجماهد وقتادة وغري واحد أن هذه االَيات نزلت يف حاطب بن أيب بلتعة‪.‬‬
‫فقوله تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم باملودة وقد كفروا مبا جاءكم من احلق } يعين املشركني والكفار الذين هم حماربون‬
‫هلل ولرسوله وللمؤمنني الذين شرع اهلل عداوهتم ومصارمتهم وهنى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخالء كما قال تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا اليهود‬
‫والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتوهلم منكم فإنه منهم } وهذا هتديد شديد ووعيد أكيد وقال تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا الذين اختذوا دينكم‬
‫هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا اهلل إن كنتم مؤمنني } وقال تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا الكافرين أولياء من دون‬
‫املؤمنني أتريدون أن جتعلوا هلل عليكم سلطاناً مبيناً ؟ } وقال تعاىل‪ { :‬ال يتخذ املؤمنون الكافرين أولياء من دون املؤمنني ومن يفعل ذلك فليس‪ -‬من اهلل يف شيء إال أن‬
‫تتقوا منهم تقاة وحيذركم اهلل نفسه } وهلذا قبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عذر حاطب‪ ,‬ملا ذكر أنه إمنا فعل ذلك مصانعة لقريش ألجل ما كان له عندهم من‬
‫األموال واألوالد‪.‬‬
‫ويذكر ههنا احلديث الذي رواه اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا مصعب بن سالم‪ ,‬حدثنا األجلح عن قيس بن أيب مسلم عن ربعي بن حراش مسعت حذيفة يقول‪ :‬ضرب لنا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمثاالً واحداً وثالثة ومخسة وسبعة وتسعة وأحد عشر‪ ,‬قال فضرب لنا منها مثالً وترك سائرها قال‪« :‬إن قوماً كانوا أهل ضعف‬
‫ومسكنة قاتلهم أهل جترب وعداء فأظهر اهلل أهل الضعف عليهم فعمدوا إىل عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم‪ ,‬فأسخطوا اهلل عليهم إىل يوم يلقونه» وقوله تعاىل‪:‬‬
‫{ خيرجون الرسول وإياكم } هذا مع ما قبله من التهييج على عداوهتم وعدم مواالهتم ألهنم أخرجوا الرسول وأصحابه من بني أظهرهم كراهة ملا هم عليه من‬
‫التوحيد وإخالص العبادة هلل وحده‪ ,‬وهلذا قال تعاىل‪ { :‬أن تؤمنوا باهلل ربكم } أي مل يكن لكم عندهم ذنب إال إميانكم باهلل رب العاملني كقوله تعاىل‪ { :‬وما نقموا‬
‫منهم إال أن يؤمنوا باهلل العزيز احلميد } وكقوله تعاىل‪ { :‬الذين أخرجوا من ديارهم بغري حق إال أن يقولوا ربنا اهلل }‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬إن كنتم خرجتم جهاداً يف سبيلي وابتغاء مرضايت } أي إن كنتم كذلك فال تتخذوهم أولياء‪ ,‬إن كنتم خرجتم جماهدين يف سبيلي باغني ملرضايت‬
‫عنكم‪ ,‬فال توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬تسرون إليهم باملودة وأنا أعلم مبا أخفيتم وما‬
‫أعلنتم } أي تفعلون ذلك وأنا العامل بالسرائر والضمائر والظواهر { ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل * إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم‬
‫وألسنتهم بالسوء } أي لو قدروا عليكم ملا اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به باملقال والفعال { وودوا لو تكفرون } أي وحيرصون على أن ال تنالوا خرياً فهم عداوهتم‬
‫لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤالء ؟ وهذا هتييج على عداوهتم أيضاً‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬لن تنفعكم أرحامكم وال أوالدكم يوم القيامة يفصل بينكم واهلل مبا تعملون بصري } أي قراباتكم ال تنفعكم عند اهلل إذا أراد اهلل بكم سوءاً‪ ,‬ونفعهم‬
‫ال يصل إليكم إذا أرضيتموهم مبا يسخط اهلل‪ ,‬ومن وافق أهله على الكفر لريضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله وال ينفعه عند اهلل قرابته من أحد‪ ,‬ولو كان قريباً إىل‬
‫نيب من األنبياء‪ .‬قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عفان‪ ,‬حدثنا محاد عن ثابت عن أنس أن رجالً قال‪ :‬يا رسول اهلل أين أيب ؟ قال «يف النار» فلما قفى دعاه فقال «إن أيب‬
‫وأباك يف النار» ورواه مسلم وأبو داود من حديث محاد بن سلمة به‪.‬‬

‫** قَ ْد َكانَت لَ ُكم ُأسوةٌ حسنَةٌ يِف ِإبر ِاهيم والّ ِذين معه ِإ ْذ قَالُواْ لَِقو ِم ِهم ِإنّا برءآؤاْ مْن ُكم ومِم ّا َتعب ُدو َن ِمن د ِ ِ‬
‫ون اللّه َك َفْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا َبْيَننَا َوَبْينَ ُك ُم ال َْع َد َاوةُ َوالَْب ْغ َ‬
‫ضآءُ َأبَداً‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ َُ ّ ْ َ ْ ُ‬ ‫ْ ْ ْ َ َ َ َ َْ َ َ َ َ َ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِإ ِ‬
‫ين‬ ‫ك َأَنبنَا وِإلَي َ‪ِ -‬‬
‫ك ال َْمصريُ * َربّنَا الَ جَتْ َعْلنَا فْتنَةً لّلّذ َ‬ ‫ك َت َو ّكْلنَا َوِإلَْي َ ْ َ ْ‬ ‫ك ِم َن اللّ ِه ِمن َش ْيء ّربّنَا َعلَْي َ‬‫ك لَ َ‬ ‫ك َو َمآ َْأمل ُ‬
‫ألسَت ْغفَر ّن لَ َ‬ ‫ِ‬
‫يم ألبِيه ْ‬ ‫ِإ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫حَىّتَ تُْؤ منُواْ باللّه َو ْح َدهُ الّ َق ْو َل ْبَراه َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُأس َوةٌ َح َسنَةٌ لّ َمن َكا َن َيْر ُجو اللّهَ َوالَْي ْو َم االَ ِخَر َو َمن َيَت َو ّل فَِإ ّن اللّهَ ُه َو الْغَيِن ّ احْلَ ِم ُ‬
‫يد‬ ‫يم * لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم في ِه ْم ْ‬
‫ِ‬ ‫ك َ ِ‬
‫َأنت ال َْعز ُيز احْلَك ُ‬ ‫َك َف ُرواْ َوا ْغف ْر لَنَا َربّنَآ ِإنّ َ‬

‫يقول تعاىل لعباده املؤمنني الذين أمرهم مبصارمة الكافرين وعداوهتم وجمانبتهم والتربي منهم‪ { :‬قد كانت لكم أسوة حسنة يف إبراهيم والذين معه } أي وأتباعه الذين‬
‫آمنوا معه { إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم } أي تربأنا منكم { ومما تعبدون من دون اهلل كفرنا بكم } أي بدينكم وطريقكم { وبدا بيننا وبينكم‪ ,‬العداوة والبغضاء‬
‫أبد } يعين وقد شرعت العداوة والبغضاء من االَن بيننا وبينكم‪ ,‬مادمتم على كفركم فنحن أبداً نتربأ منكم ونبغضكم { حىت تؤمنوا باهلل وحده } أي إىل أن توحدوا‬
‫اهلل فتعبدوه وحده ال شريك له وختلعوا ما تعبدون معه من األوثان واألنداد‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬إال قول إبراهيم ألبيه ألستغفرن لك } أي لكم يف إبراهيم وقومه أسوة‬
‫حسنة تتأسون هبا إال يف استغفار إبراهيم ألبيه‪ ,‬فإنه إمنا كان عن موعدة وعدها إياه‪ ,‬فلما تبني له أنه عدو هلل تربأ منه‪ ,‬وذلك أن بعض املؤمنني كانوا يدعون الَبائهم‬
‫الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون هلم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر ألبيه‪ ,‬فأنزل اهلل عز وجل { ما كان للنيب والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركني ولو كانوا‬
‫أويل قرىب من بعد ما تبني هلم أهنم أصحاب اجلحيم * وما كان استغفار إبراهيم ألبيه إال عن موعدة وعدها إياه‪ ,‬فلما تبني له أنه عدو هلل تربأ منه إن إبراهيم ألواه‬
‫حليم }‪.‬‬
‫وقال تعاىل يف هذه االَية‪ { :‬قد كانت لكم أسوة حسنة يف إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم‪ :‬إنا برآء منكم ـ إىل قوله ـ إال قول إبراهيم ألبيه ألستغفرن لك وما‬
‫أملك لك من اهلل من شيء } أي ليس لكم يف ذلك أسوة أي يف االستغفار للمشركني هكذا قال ابن عباس وجماهد وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وغري واحد‪.‬‬
‫مث قال تعاىل خمرباً عن قول إبراهيم والذين معه حني فارقوا قومهم وتربءوا منهم‪ ,‬فلجأوا إىل اهلل وتضرعوا إليه فقالوا { ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك املصري }‬
‫أي توكلنا عليك يف مجيع األمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك وإليك املصري أي املعاد يف الدار االَخرة { ربنا ال جتعلنا فتنة للذين كفرو } قال جماهد‪ :‬معناه ال‬
‫تعذبنا بأيديهم وال بعذاب من عندك فيقولوا‪ :‬لو كان هؤالء على حق ما أصاهبم هذا‪ ,‬وكذا قال الضحاك‪ ,‬وقال قتادة‪ :‬ال تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أهنم إمنا‬
‫ظهروا علينا حلق هم عليه‪ ,‬واختاره ابن جرير‪ ,‬وقال علي بن أيب طلحة عن ابن عباس‪ :‬ال تسلطهم علينا فيفتنونا‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز احلكيم } أي واسرت ذنوبنا عن غريك واعف عنها فيما بيننا وبينك { إنك أنت العزيز } أي الذي ال يضام من الذ‬
‫جبنابك { احلكيم } يف أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك مث قال تعاىل‪ { :‬لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة ملن كان يرجو اهلل واليوم االَخر } وهذا تأكيد ملا تقدم‬
‫ومستثىن منه ما تقدم أيضاً ألن هذه األسوة املثبتة ههنا هي األوىل بعينها‪ ,‬وقوله تعاىل‪ { :‬ملن كان يرجو اهلل واليوم االَخر } هتييج إىل ذلك لكل مؤمن باهلل واملعاد‪,‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ومن يتول } أي عما أمر اهلل به { فإن اهلل هو الغين احلميد } كقوله تعاىل‪ { :‬إن تكفروا أنتم ومن يف األرض مجيعاً فإن اهلل لغين محيد } وقال علي‬
‫بن أيب طلحة عن ابن عباس‪ :‬الغين الذي قد كمل يف غناه وهو اهلل‪ ,‬هذه صفته ال تنبغي إال له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان اهلل الواحد القهار احلميد‬
‫املستحمد إىل خلقه أي هو احملمود يف مجيع أقواله وأفعاله ال إله غريه وال رب سواه‪ .‬‬

‫ين مَلْ يُ َقاتِلُو ُك ْم يِف ال ّدي ِن َومَلْ خُيْ ِر ُجو ُك ْم ّمن ِديَا ِر ُك ْم‬ ‫ِ‬ ‫* عسى اللّه َأن جَي عل بينَ ُكم وب الّ ِذين عاديتُم مْنهم مود ًة واللّه قَ ِدير واللّه َغ ُف ِ‬
‫يم * الّ َيْن َها ُك ُم اللّهُ َع ِن الّذ َ‬
‫ور ّرح ٌ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ َْ ْ َ َنْي َ َ َ َ ْ ّ ُ ّ َ ّ َ ُ ٌ َ ُ ٌ‬
‫ِ‬
‫اهُرواْ َعلَ َى ِإ ْخَراج ُك ْم َأن َت َولّْو ُه ْم َو َمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهم و ُت ْق ِسطُواْ ِإلَْي ِهم ِإ ّن اللّهَ حُيِ ب الْم ْق ِس ِط َ ِإ‬
‫َأخَر ُجو ُكم ّمن ديَا ِر ُك ْم َوظَ َ‬ ‫ين قَاَتلُو ُك ْم يِف ال ّدي ِن َو ْ‬
‫ني * مّنَا َيْن َها ُك ُم اللّهُ َع ِن الّذ َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َأن َتَبّر ُ ْ َ‬
‫ك ُه ُم الظّالِ ُمو َن‬ ‫َيَت َوهّلُ ْم فَ ُْأولَـَِئ َ‬
‫يقول تعاىل لعباده املؤمنني بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين { عسى اهلل أن جيعل بينكم وبني الذين عاديتم منهم مودة } أي حمبة بعد البغضة ومودة بعد النفرة وألفة‬
‫بعد الفرقة { واهلل قدير } أي على ما يشاء من اجلمع بني األشياء املتنافرة واملتباينة واملختلفة فيؤلف بني القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح جمتمعة متفقة‪ ,‬كما قال‬
‫تعاىل ممتناً على األنصار { واذكروا نعمة اهلل عليكم إذ كنتم أعداء فألف بني قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منه } االَية‪.‬‬
‫وكذا قال هلم النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أمل أجدكم ضالالً فهداكم اهلل يب وكنتم متفرقني فألفكم اهلل يب ؟» وقال اهلل تعاىل‪ { :‬هو الذي أيدك بنصره وباملؤمنني‬
‫وألف بني قلوهبم لو أنفقت ما يف األرض مجيعاً ما ألفت بني قلوهبم ولكن اهلل ألف بينهم إنه عزيز حكيم } ويف احلديث «أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون‬
‫بغيضك يوماً ما‪ ,‬وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما» وقال الشاعر‪:‬‬
‫وقد جيمع اهلل الشتيتني بعدمايظنان كل الظن أن ال تالقيا‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬واهلل غفور رحيم } أي يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إىل رهبم وأسلموا له‪ ,‬وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان‪.‬‬
‫وقد قال مقاتل بن حيان‪ :‬إن هذه االَية نزلت يف أيب سفيان صخر بن حرب‪ ,‬فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تزوج ابنته‪ ,‬فكانت هذه مودة ما بينه وبينه‪ ,‬ويف‬
‫هذا الذي قاله مقاتل نظر‪ ,‬فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم تزوج بأم حبيبة بنت أيب سفيان قبل الفتح‪ ,‬وأبو سفيان إمنا أسلم ليلة الفتح بال خالف‪ ,‬وأحسن من‬
‫هذا ما رواه ابن أيب حامت حيث)قال‪ :‬قرى على حممد بن عزيز‪ ,‬حدثين سالمة‪ ,‬حدثين عقيل‪ ,‬حدثين ابن شهاب أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم استعمل أبا سفيان‬
‫صخر بن حرب على بعض اليمن‪ ,‬فلما قبض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أقبل فلقي ذا اخلمار مرتداً فقاتله‪ ,‬فكان أول من قاتل يف الردة وجاهد عن الدين‪ ,‬قال‬
‫ابن شهاب‪ :‬وهو ممن أنزل اهلل فيه { عسى اهلل أن جيعل بينكم وبني الذين عاديتم منهم مودة } االَية‪ .‬ويف صحيح مسلم عن ابن عباس أن أبا سفيان قال‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل ثالث أعطنيهن قال‪« :‬نعم» قال‪ :‬تأمرين أقاتل الكفار كما كنت أقاتل املسلمني‪ ,‬قال‪« :‬نعم» قال‪ :‬ومعاوية جتعله كاتباً بني يديك‪ ,‬قال‪« :‬نعم» قال‪ :‬وعندي‬
‫أحسن العرب وأمجله أم حبيبة بنت أيب سفيان أزوجكها ـ احلديث ـ وقد تقدم الكالم عليه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬الينهاكم اهلل عن الذين مل يقاتلوكم يف الدين ومل خيرجوكم من دياركم } أي يعاونوا على إخراجكم أي ال ينهاكم عن اإلحسان إىل الكفرة الذين‬
‫ال يقاتلونكم يف الدين كالنساء والضعفة منهم { أن تربوهم } أي حتسنوا إليهم { وتقسطوا إليهم } أي تعدلوا { إن اهلل حيب املقسطني } قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا‬
‫أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت املنذر عن أمساء بنت أيب بكر رضي اهلل عنهما قالت‪ :‬قدمت أمي وهي مشركة يف عهد قريش إذ عاهدوا‪ ,‬فأتيت‪-‬‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم فقلت يا رسول اهلل إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال‪« :‬نعم صلي أمك» أخرجاه‪ .‬وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عارم‪ ,‬حدثنا عبد اهلل‬
‫بن املبارك‪ ,‬حدثنا مصعب بن ثابت‪ ,‬حدثنا عامر بن عبد اهلل بن الزبري عن أبيه قال‪ :‬قدمت قتيلة على ابنتها أمساء بنت أيب بكر هبدايا صناب وأقط ومسن وهي‬
‫مشركة‪ ,‬فأبت أمساء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها‪ .‬فسألت عائشة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ,‬فأنزل اهلل تعاىل‪ { :‬ال ينهاكم اهلل عن الذين مل يقاتلوكم يف‬
‫الدين } إىل آخر االَية‪ .‬فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها‪.‬‬
‫وهكذا رواه ابن جرير وابن أيب حامت من حديث مصعب بن ثابت به‪ ,‬ويف رواية ألمحد والبن جرير قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد من بين مالك بن حسل‪,‬‬
‫وزاد ابن أيب حامت يف املدة اليت كانت بني قريش ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وقال ضأبو بكر أمحد بن عمرو بن عبد اخلالق البزار‪ :‬حدثنا عبد اهلل بن شبيب‬
‫حدثنا أبو بكر بن أيب شيبة حدثناأبو قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة وأمساء أهنما قالتا‪ :‬قدمت علينا أمنا املدينة وهي مشركة يف‬
‫اهلدنة اليت كانت بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني قريش فقلنا يا رسول اهلل إن أمنا قدمت علينا املدينة وهي راغبة أفنصلها ؟ قال‪« :‬نعم فصالها ؟» مث قال‪:‬‬
‫وهذا احلديث ال نعلمه يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة إال من هذا الوجه‪.‬‬
‫(قلت)‪ :‬وهو منكر هبذا السياق ألن أم عائشة هي أم رومان وكانت مسلمة مهاجرة وأم أمساء غريها كما هو مصرح بامسها يف هذه األحاديث املتقدمة واهلل أعلم‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬إن اهلل حيب املقسطني } قد تقدم تفسري ذلك يف سورة احلجرات وأورد احلديث الصحيح «املقسطون على منابر من نور عن ميني العرش‪ ,‬الذين‬
‫يعدلون يف حكمهم وأهاليهم وما ولوا»‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬إمنا ينهاكم اهلل عن الذين قاتلوكم يف الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم } أي إمنا ينهاكم عن مواالة هؤالء الذين‬
‫ناصبوكم بالعداوة فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم ينهاكم اهلل عز وجل عن مواالهتم ويأمركم مبعاداهتم‪ ,‬مث أكد الوعيد على مواالهتم فقال‪ { :‬ومن‬
‫يتوهلم فأولئك هم الظاملون } كقوله تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتوهلم منكم فإنه منهم إن اهلل ال يهدي‬
‫القوم الظاملني }‪.‬‬

‫وه ّن ِإىَل الْ ُك ّفا ِر الَ ُه ّن ِح ّل هّلُ ْم َوالَ ُه ْم حَيِ لّو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫هِنِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وه ّن ُمْؤ منَات فَالَ َت ْرج ُع ُ‬ ‫َأعلَ ُم بِِإميَا ّن فَِإ ْن َعل ْمتُ ُم ُ‬
‫وه ّن اللّهُ ْ‬ ‫ات ُم َهاجَرات فَ ْامتَحنُ ُ‬ ‫ين َآمنُواْ ِإذَا َجآءَ ُك ُم ال ُْمْؤ منَ ُ‬
‫** يََأيّ َها الّذ َ‬
‫ْم اللّ ِه حَيْ ُك ُم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ور ُه ّن َوالَ مُتْس ُكواْ ‪ ‬بِع َ‬
‫ص ِم الْ َك َواف ِر َو ْ‬
‫اسَألُواْ َمآ َأن َف ْقتُ ْم َولْيَ ْسَألُواْ َمآ َأن َف ُقواْ َذل ُك ْم ُحك ُ‬ ‫ُأج َ‬
‫وه ّن ُ‬ ‫وه ّن ِإذَآ آَتْيتُ ُم ُ‬
‫اح َعلَْي ُك ْم َأن تَنك ُح ُ‬ ‫وهم ّمآ َأن َف ُقواْ َوالَ ُجنَ َ‬‫هَلُ ّن َوآتُ ُ‬
‫ي َأنتُ ْم بِِه ُمْؤ ِمنُو َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِإ‬ ‫ِإ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج ُه ْم ّمثْ َل َمآ َأن َف ُقواْ َواّت ُقواْ اللّهَ الّذ َ‬
‫ت َْأز َو ُ‬‫ين َذ َهبَ ْ‬
‫يم * َو ن فَاتَ ُك ْم َش ْيءٌ ّم ْن َْأز َواج ُك ْم ىَل الْ ُك ّفار َف َعا َقْبتُ ْم فَآتُواْ الّذ َ‬ ‫يم َحك ٌ‬ ‫َبْينَ ُك ْم َواللّهُ َعل ٌ‬
‫تقدم يف سورة الفتح يف ذكر صلح احلديبية الذي وقع بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني كفار قريش فكان فيه‪ :‬على أن ال يأتيك منا رجل وإن كان على‬
‫دينك إال رددته إلينا‪ ,‬ويف رواية‪ :‬على أنه ال يأتيك‪ -‬منا أحد وإن كان على دينك إال رددته إلينا‪ ,‬وهذا قول عروة والضحاك وعبد الرمحن بن زيد والزهري ومقاتل بن‬
‫حيان والسدي‪ ,‬فعلى هذه الرواية تكون هذه االَية خمصصة للسنة‪ ,‬وهذا من أحسن أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة‪ ,‬فإن اهلل عز وجل أمر عباده املؤمنني‬
‫إذا جاءهم النساء مهاجرات أن ميتحنوهن‪ ,‬فإن علموهن مؤمنات فال يرجعوهن إىل الكفار ال هن حل هلم وال هم حيلون هلن‪ ,‬وقد ذكرنا يف ترمجة عبد اهلل بن أيب‬
‫أمحد بن جحش من املسند الكبري من طريق أيب بكر بن أيب عاصم عن حممد بن حيىي الذهلي عن يعقوب بن حممد عن عبد العزيز بن عمران عن جممع بن يعقوب عن‬
‫حنني بن أيب لبانة عن عبد اهلل بن أيب أمحد قال‪ :‬هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أيب معيط يف اهلجرة فخرج أخواها عمارة والوليد حىت قدما على رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ,‬فكلماه فيها أن يردها إليهما فنقض اهلل العهد بينه وبني املشركني يف النساء خاصة‪ ,‬فمنعهم أن يردوهن إىل املشركني وأنزل اهلل آيات االمتحان‪.‬‬
‫قال ابن جرير‪ :‬حدثنا أبو كريب‪ ,‬حدثنا يونس بن بكري عن قيس بن الربيع عن األغر بن الصباح عن خليفة بن حصني عن أيب نصر األسدي قال سئل ابن عباس‬
‫كيف كان امتحان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم النساء‪ ,‬قال‪ :‬كان ميتحنهن باهلل ما خرجت من بغض زوج وباهلل ما خرجت رغبة عن أرض إىل أرض‪ ,‬وباهلل ما‬
‫خرجت التماس دنيا‪ ,‬وباهلل ما خرجت إال حباً هلل ولرسوله‪ ,‬مث رواه من وجه آخر عن األغر بن الصباح به‪ ,‬وكذا رواه البزار من طريقه وذكر فيه أن الذي كان‬
‫حيلفهن عن أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم له عمر بن اخلطاب‪ ,‬وقال العويف عن ابن عباس يف قوله تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم املؤمنات مهاجرات‬
‫فامتحنوهن } وكان امتحاهنن أن يشهدن أن ال إله إال اهلل وأن حممداً عبد اهلل ورسوله‪ ,‬وقال جماهد‪ { :‬فامتحنوهن } فاسألوهن عما جاء هبن‪ ,‬فإذا كان جاء هبن‬
‫غضب على أزواجهن أو سخطة أو غريه ومل يؤمن فارجعوهن إىل أزواجهن‪ ,‬وقال عكرمة‪ :‬يقال هلا ما جاء بك إال حب اهلل ورسوله‪ ,‬وما جاء بك عشق رجل منا‬
‫وال فرار من زوجك فذلك قوله‪ { :‬فامتحنوهن } وقال قتادة‪ :‬كانت حمنتهن أن يستحلفن باهلل ما أخرجكن النشوز وما أخرجكن إال حب اإلسالم وأهله وحرص‬
‫عليه‪ ,‬فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬فإن علمتموهن مؤمنات فال ترجعوهن إىل الكفار } فيه داللة على أن اإلميان ميكن االطالع عليه يقيناً‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬ال هن حل هلم وال هم حيلون‬
‫هلن } هذه االَية هي اليت حرمت املسلمات على املشركني وقد كان جائزاً يف ابتداء اإلسالم أن يتزوج املشرك املؤمنة‪ ,‬وهلذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم زينب رضي اهلل عنها‪ ,‬قد كانت مسلمة وهو على دين قومه‪ ,‬فلما وقع يف األسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب يف فدائه بقالدة هلا كانت ألمها‬
‫خدجية فلما رآها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رق هلا رقة شديدة وقال للمسلمني‪« :‬إن رأيتم أن تطلقوا هلا أسريها فافعلوا» ففعلوا فأطلقه رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم على أن يبعث ابنته إليه‪ ,‬فوىف له بذلك وصدقه فيما وعده وبعثها إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي اهلل عنه‪ ,‬فأقامت باملدينة من بعد‬
‫وقعة بدر‪ .‬وكانت سنة اثنتني إىل أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة مثان فردها عليه بالنكاح األول ومل حيدث هلا صداقاً‪.‬‬
‫كما قال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا يعقوب‪ ,‬حدثنا أيب‪ ,‬حدثنا ابن إسحاق حدثنا داود بن احلصني عن ابن عباس أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رد ابنته زينب على أيب‬
‫العاص‪ ,‬وكانت هجرهتا قبل إسالمه بست سنني على النكاح األول ومل حيدث شهادة وال صداقاً‪ ,‬ورواه أبو داود والرتمذي وابن ماجه ومنهم من يقول بعد سنتني‪,‬‬
‫وهو صحيح‪ ,‬ألن إسالمه كان بعد حترمي املسلمات على املشركني بسنتني وقال الرتمذي‪ :‬ليس بإسناده بأس وال نعرف وجه هذا احلديث ولعله جاء من حفظ داود‬
‫بن احلصني‪ ,‬ومسعت عبد بن محيد يقول‪ :‬مسعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا احلديث وحديث ابن احلجاج يعين ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه‬
‫عن جده أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم رد ابنته على أيب العاص بن الربيع مبهر جديد ونكاح جديد‪ ,‬فقال يزيد‪ :‬حديث ابن عباس أجود إسناداً والعمل على‬
‫حديث عمرو بن شعيب‪ ,‬مث قلت وقد روى حديث احلجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب اإلمام أمحد والرتمذي وابن ماجه وضعفه اإلمام أمحد وغري واحد‪ ,‬واهلل‬
‫أعلم‪.‬‬
‫وأجاب اجلمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عني‪ ,‬حيتمل أنه مل تنقض عدهتا منه ألن الذي عليه األكثرون أهنا مىت انقضت العدة ومل يسلم انفسخ‬
‫نكاحها منه‪ .‬وقال آخرون بل إذا انقضت العدة هي باخليار‪ ,‬إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت‪ ,‬وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ومحلوا عليه حديث ابن‬
‫عباس‪ ,‬واهلل أعلم‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬وآتوهم ما أنفقو } يعين أزواج املهاجرات من املشركني ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من األصدقة‪ ,‬قاله ابن عباس وجماهد‬
‫وقتادة والزهري وغري واحد‪ ,‬وقوله تعاىل‪ { :‬وال جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } يعين إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن أي تزوجوهن‬
‫بشرطه من انقضاء العدة والويل وغري ذلك‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬وال متسكوا بعصم الكوافر } حترمي من اهلل عز وجل على عباده املؤمنني نكاح املشركات واالستمرار‬
‫معهن‪.‬‬
‫ويف الصحيح عن الزهري عن عروة عن املسور ومروان بن احلكم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا عاهد كفار قريش يوم احلديبية‪ ,‬جاءه نساء من املؤمنات‬
‫فأنزل اهلل عز وجل { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم املؤمنات مهاجرات ـ إىل قوله ـ وال متسكوا بعصم الكوافر } فطلق عمر بن اخلطاب يومئذ امرأتني تزوج إحدامها‬
‫معاوية بن أيب سفيان واألخرى صفوان بن أمية‪ .‬وقال ابن ثور عن معمر عن الزهري‪ :‬أنزلت هذه االَية على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وهو بأسفل احلديبية حني‬
‫صاحلهم‪ ,‬على أنه من أتاه منهم رده ِإليهم‪ ,‬فلما جاء النساء نزلت هذه االَية وأمره أن يرد الصداق إىل أزواجهن‪ ,‬وحكم على املشركني مثل ذلك إذا جاءهتم امرأة من‬
‫املسلمني أن يردوا الصداق إىل أزواجهن وقال { وال متسكوا بعصم الكوافر }‪.‬‬
‫وهكذا قال عبد الرمحن بن زيد بن أسلم وقال‪ :‬وإمنا حكم اهلل بينهم بذلك ألجل ما كان بينهم وبينهم من العهد‪ .‬وقال حممد بن إسحاق عن الزهري‪ :‬طلق عمر‬
‫يومئذ قريبة بنت أيب أمية بن املغرية‪ .‬فتزوجها معاوية وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول اخلزاعية‪ ,‬وهي أم عبيد اهلل فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غامن رجل من قومه‬
‫ومها على شركهما‪ ,‬وطلق طلحة بن عبيد اهلل أروى بنت ربيعة بن احلارث بن عبد املطلب فتزوجها بعده خالد بن سعد بن العاص‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬واسألوا ما أنفقتم‬
‫وليسألوا ما أنفقو } أي وطالبوا مبا أنفقتم على أزواجكم الاليت يذهنب إىل الكفار إن ذهنب وليطالبوا مبا أنفقوا على أزواجهم الاليت هاجرن إىل املسلمني‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬ذلكم حكم اهلل حيكم بينكم } أي يف الصلح واستثناء النساء منه واألمر هبذا كله هو حكم اهلل حيكم به بني خلقه { واهلل عليم حكيم } أي عليم مبا‬
‫يصلح عباده حكيم يف ذلك‪ ,‬مث قال تعاىل‪ { :‬وإن فاتكم شيء من أزواجكم إىل الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقو } قال جماهد وقتادة‪ :‬هذا‬
‫يف الكفار الذين ليس هلم عهد إذا فرت إليهم امرأة ومل يدفعوا إىل زوجها شيئاً‪ ,‬فإذا جاءت منهم امرأة ال يدفع إىل زوجها شيء حىت يدفع إىل زوج الذاهبة إليهم مثل‬
‫نفقته عليها‪ ,‬وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا يونس‪ ,‬حدثنا ابن وهب أخربين يونس عن الزهري قال‪ :‬أقر املؤمنون حبكم اهلل فأدوا ما أمروا به من نفقات املشركني اليت أنفقوا‬
‫على نسائهم‪ ,‬وأىب املشركون أن يقروا حبكم اهلل فيما فرض عليهم من أداء نفقات املسلمني‪ ,‬فقال اهلل تعاىل للمؤمنني به { وإن فاتكم شيء من أزواجكم إىل الكفار‬
‫فعاقبتم‪ ,‬فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا‪ ,‬واتقوا اهلل الذي أنتم به مؤمنون }‪.‬‬
‫فلو أهنا ذهبت بعد هذه االَية امرأة من أزواج املؤمنني إىل املشركني‪ ,‬رد املؤمنون إىل زوجها النفقة اليت أنفق عليهامن العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على‬
‫املشركني من نفقاهتم‪ ,‬اليت أنفقوا على أزواجهم الاليت آمن وهاجرن‪ ,‬مث ردوا إىل املشركني فضالً إن كان بقي هلم‪ ,‬والعقب ما كان بقي من صداق نساء الكفار حني‬
‫آمن وهاجرن‪ ,‬وقال العويف عن ابن عباس يف هذه االَية‪ ,‬يعين إن حلقت امرأة رجل من املهاجرين بالكفار أمر له رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق‬
‫من الغنيمة‪ ,‬وهكذا قال جماهد { فعاقبتم } أصبتم غنيمة من قريش أو غريهم { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقو } يعين مهر مثلها‪ .‬وهكذا قال مسروق‬
‫وإبراهيم وقتادة ومقاتل والضحاك وسفيان بن حسني والزهري أيضاً‪ .‬وهذا ال ينايف األول ألنه إن أمكن األول فهو األوىل وإال فمن الغنائم الاليت تؤخذ من أيدي‬
‫الكفار‪ ,‬وهذا أوسع وهو اختيار ابن جرير‪ ,‬وهلل احلمد واملنة‪ .‬‬

‫ان َي ْفرَتِ ينَهُ َبنْي َ َأيْ ِدي ِه ّن َو َْأر ُجلِ ِه ّن َوالَ‬


‫ك علَى َأن الّ ي ْش ِر ْكن بِاللّ ِه َشيئاً والَ يس ِرقْن والَ يزنِني والَ ي ْقُتْلن َأوالَدهن والَ يْأتِني بِبهتَ ٍ‬
‫ْ َ َ ْ َ َ َْ َ َ َ َ ْ َ ُ ّ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫* يَأيّها النّيِب ِإذَا جآء َك الْمْؤ ِمنَ ُ ِ‬
‫ات يُبَاي ْعنَ َ َ َ‬ ‫َ َ ّ َ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫يع ِ‬
‫يم‬
‫ور ّرح ٌ‬
‫ِإ‬ ‫ك يِف َم ْعُروف َفبَايِ ْع ُه ّن َو ْ‬
‫اسَت ْغف ْر هَلُ ّن اللّهَ ّن اللّهَ َغ ُف ٌ‬ ‫صينَ َ‬ ‫َْ‬
‫قال البخاري‪ :‬حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن إبراهيم‪ ,‬حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال‪ :‬أخربين عروة أن عائشة زوج النيب صلى اهلل عليه وسلم أخربته أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان ميتحن من هاجر إليه من املؤمنات هبذه االَية { يا أيها النيب إذا جاءك املؤمنات يبايعنك ـ إىل قوله ـ غفور رحيم }‬
‫قال عروة‪ :‬قالت عائشة فمن أقر هبذا الشرط من املؤمنات قال هلا رسول اهلل‪« :‬قد بايعتك» كالماً‪ ,‬وال واهلل ما مست يده يد امرأة يف املبايعة قط‪ ,‬وما يبايعهن إال‬
‫بقوله‪« :‬قد بايعتك على ذلك» هذا لفظ البخاري‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عبد الرمحن بن مهدي‪ ,‬حدثنا سفيان عن حممد بن املنكدر عن أميمة بنت رقيقة قالت‪ :‬أتيت‪ -‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف نساء‬
‫لنبايعه‪ ,‬فأخذ علينا ما يف القرآن أن ال نشرك باهلل شيئاً االَية وقال «فيما استطعنت وأطقنت» قلنا اهلل ورسوله أرحم بنا من أنفسنا‪ ,‬قلنا‪ :‬يا رسول اهلل أال تصافحنا ؟‬
‫قال «إين ال أصافح النساء إمنا قويل المرأة واحدة كقويل ملائة امرأة» هذا إسناد صحيح وقد رواه الرتمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة والنسائي‬
‫أيضاً من حديث الثوري ومالك بن أنس‪ ,‬كلهم عن حممد بن املنكدر عن أميمة به‪ ,‬وقال الرتمذي‪ :‬حسن صحيح ال نعرفه إال من حديث حممد بن املنكدر‪ ,‬وقد رواه‬
‫أمحد أيضاً من حديث حممد بن إسحاق عن حممد بن املنكدر عن أميمة به وزاد‪ :‬ومل يصافح منا امرأة‪ ,‬وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن حممد بن‬
‫املنكدر به‪.‬‬
‫يف فذكره‪ ,‬وقال‬
‫ورواه ابن أيب حامت من حديث أيب جعفر الرازي عن حممد بن املنكدر‪ ,‬حدثتين أميمة بنت رقيقة وكانت أخت خدجية خالة فاطمة من فيها إىل ّ‬
‫اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا يعقوب حدثنا أيب عن ابن إسحاق حدثين سليط بن أيوب بن احلكم بن سليم عن أمه سلمى بنت قيس‪ ,‬وكانت إحدى خاالت رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وقد صلت معه القبلتني‪ ,‬وكانت إحدى نساء بين عدي بن النجار قالت‪ :‬جئت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نبايعه يف نسوة من األنصار‪ ,‬فلما شرط‬
‫علينا أال نشرك باهلل شيئاً وال نسرق وال نزين وال نقتل أوالدنا وال نأيت ببهتان نفرتيه بني أيدينا وأرجلنا وال نعصيه يف معروف قال‪« :‬وال تغششن أزواجكن» قالت‪:‬‬
‫فبايعناه مث انصرفنا فقلت المرأة منهن ارجعي فسلي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما غش أزواجنا ؟ قالت‪ :‬فسألته فقال «تأخذ ماله فتحايب به غريه»‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا إبراهيم بن أيب العباس‪ ,‬حدثنا عبد الرمحن بن عثمان بن إبراهيم بن حممد‬

‫ان َي ْفرَتِ ينَهُ َبنْي َ َأيْ ِدي ِه ّن َو َْأر ُجلِ ِه ّن َوالَ‬


‫ك علَى َأن الّ ي ْش ِر ْكن بِاللّ ِه َشيئاً والَ يس ِرقْن والَ يزنِني والَ ي ْقُتْلن َأوالَدهن والَ يْأتِني بِبهتَ ٍ‬
‫ْ َ َ ْ َ َ َْ َ َ َ َ ْ َ ُ ّ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫* يَأيّها النّيِب ِإذَا جآء َك الْمْؤ ِمنَ ُ ِ‬
‫ات يُبَاي ْعنَ َ َ َ‬ ‫َ َ ّ َ َ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫يع ِ‬
‫يم‬
‫ور ّرح ٌ‬
‫ِإ‬ ‫ك يِف َم ْعُروف َفبَايِ ْع ُه ّن َو ْ‬
‫اسَت ْغف ْر هَلُ ّن اللّهَ ّن اللّهَ َغ ُف ٌ‬ ‫صينَ َ‬ ‫َْ‬
‫قال البخاري‪ :‬حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن إبراهيم‪ ,‬حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال‪ :‬أخربين عروة أن عائشة زوج النيب صلى اهلل عليه وسلم أخربته أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان ميتحن من هاجر إليه من املؤمنات هبذه االَية { يا أيها النيب إذا جاءك املؤمنات يبايعنك ـ إىل قوله ـ غفور رحيم }‬
‫قال عروة‪ :‬قالت عائشة فمن أقر هبذا الشرط من املؤمنات قال هلا رسول اهلل‪« :‬قد بايعتك» كالماً‪ ,‬وال واهلل ما مست يده يد امرأة يف املبايعة قط‪ ,‬وما يبايعهن إال‬
‫بقوله‪« :‬قد بايعتك على ذلك» هذا لفظ البخاري‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عبد الرمحن بن مهدي‪ ,‬حدثنا سفيان عن حممد بن املنكدر عن أميمة بنت رقيقة قالت‪ :‬أتيت‪ -‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف نساء‬
‫لنبايعه‪ ,‬فأخذ علينا ما يف القرآن أن ال نشرك باهلل شيئاً االَية وقال «فيما استطعنت وأطقنت» قلنا اهلل ورسوله أرحم بنا من أنفسنا‪ ,‬قلنا‪ :‬يا رسول اهلل أال تصافحنا ؟‬
‫قال «إين ال أصافح النساء إمنا قويل المرأة واحدة كقويل ملائة امرأة» هذا إسناد صحيح وقد رواه الرتمذي والنسائي وابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة والنسائي‬
‫أيضاً من حديث الثوري ومالك بن أنس‪ ,‬كلهم عن حممد بن املنكدر عن أميمة به‪ ,‬وقال الرتمذي‪ :‬حسن صحيح ال نعرفه إال من حديث حممد بن املنكدر‪ ,‬وقد رواه‬
‫أمحد أيضاً من حديث حممد بن إسحاق عن حممد بن املنكدر عن أميمة به وزاد‪ :‬ومل يصافح منا امرأة‪ ,‬وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن حممد بن‬
‫املنكدر به‪.‬‬
‫يف فذكره‪ ,‬وقال‬
‫ورواه ابن أيب حامت من حديث أيب جعفر الرازي عن حممد بن املنكدر‪ ,‬حدثتين أميمة بنت رقيقة وكانت أخت خدجية خالة فاطمة من فيها إىل ّ‬
‫اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا يعقوب حدثنا أيب عن ابن إسحاق حدثين سليط بن أيوب بن احلكم بن سليم عن أمه سلمى بنت قيس‪ ,‬وكانت إحدى خاالت رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وقد صلت معه القبلتني‪ ,‬وكانت إحدى نساء بين عدي بن النجار قالت‪ :‬جئت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نبايعه يف نسوة من األنصار‪ ,‬فلما شرط‬
‫علينا أال نشرك باهلل شيئاً وال نسرق وال نزين وال نقتل أوالدنا وال نأيت ببهتان نفرتيه بني أيدينا وأرجلنا وال نعصيه يف معروف قال‪« :‬وال تغششن أزواجكن» قالت‪:‬‬
‫فبايعناه مث انصرفنا فقلت المرأة منهن ارجعي فسلي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما غش أزواجنا ؟ قالت‪ :‬فسألته فقال «تأخذ ماله فتحايب به غريه»‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا إبراهيم بن أيب العباس‪ ,‬حدثنا عبد الرمحن بن عثمان بن إبراهيم بن حممد بن حاطب‪ ,‬حدثين أيب عن أمه عائشة بنت قدامة يعين ابن مظعون‬
‫قالت أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان اخلزاعية والنيب صلى اهلل عليه وسلم يبايع النسوة ويقول‪« :‬أبايعكن على أن ال تشركن باهلل شيئاً وال تسرقن وال تزنني وال تقتلن‬
‫أوالدكن وال تأتني ببهتان تفرتينه بني أيديكن وأرجلكن وال تعصينين يف معروف ـ قلن نعم ـ فيما استطعنت» فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول يل أي بنية نعم‪,‬‬
‫فكنت أقول كما يقلن‪ .‬وقال البخاري‪ :‬حدثنا أبو معمر‪ ,‬حدثنا عبد الوارث‪ ,‬حدثنا أيوب عن حفصة بنت سريين عن أم عطية قالت‪ :‬بايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فقرأ علينا { وال تشركن باهلل شيئ } وهنانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها قالت‪ :‬أسعدتين فالنة فأريد أن أجزيها‪ ,‬فما قال هلا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫شيئاً‪ ,‬فانطلقت ورجعت فبايعها‪ ,‬ورواه مسلم‪.‬‬
‫ويف رواية‪ :‬فما وىف منهن امرأة غريها وغري أم سليم ابنة ملحان‪ ,‬وللبخاري عن أم عطية قالت‪ :‬أخذ علينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند البيعة أن ال ننوح‪ ,‬فما‬
‫وفت منا امرأة غري مخسة نسوة‪ .‬أم سليم وأم العالء وابنة أيب سربة امرأة معاذ وامرأتان أو ابنة أيب سربة وامرأة معاذ وامرأة أخرى‪ ,‬وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يتعاهد النساء هبذه البيعة يوم العيد‪ ,‬كما قال البخاري‪ :‬حدثنا حممد بن عبد الرحيم‪ ,‬حدثنا هارون بن معروف‪ ,‬حدثنا عبد اهلل بن وهب‪ ,‬أخربين ابن جريج أن‬
‫احلسن بن مسلم أخربه عن طاوس عن ابن عباس قال‪ :‬شهدت الصالة يوم الفطر مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأيب بكر وعمر وعثمان‪ ,‬فكلهم يصليها قبل‬
‫اخلطبة مث خيطب بعد‪ ,‬فنزل نيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم فكأين أنظر إليه حني جيلس الرجال بيده‪ ,‬مث أقبل يشقهم حىت أتى النساء مع بالل فقال‪ { :‬يا أيها النيب إذا‬
‫جاءك املؤمنات يبايعنك على أن ال يشركن باهلل شيئاً وال يسرقن وال يزنني وال يقتلن أوالدهن وال يأتني ببهتان يفرتينه بني أيديهن‪ ,‬وأرجلهن وال يعصينك يف معروف‬
‫} حىت فرغ من االَية كلها مث قال حني فرغ «أننت على ذلك ؟» فقالت امرأة واحدة ومل جيبه غريها‪ :‬نعم يا رسول اهلل‪ ,‬ال يدري احلسن من هي‪ ,‬قال‪ :‬فتصدقن‪,‬‬
‫قال‪ :‬وبسط بالل ثوبه فجعلن يلقني الفتح واخلواتيم يف ثوب بالل‪.‬‬
‫وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا خلف بن الوليد‪ ,‬حدثنا ابن عياش عن سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال‪ :‬جاءت أميمة بنت رقيقة إىل رسول اهلل‬
‫تبايعه على اإلسالم فقال‪« :‬أبايعك على أن ال تشركي باهلل شيئاً وال تسرقي وال تزين وال تقتلي ولدك وال تأيت ببهتان تفرتينه بني يديك ورجليك وال تنوحي وال‬
‫تربجي تربج اجلاهلية األوىل» وقال اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا سفيان عن الزهري عن أيب إدريس اخلوالين عن عبادة بن الصامت قال‪ :‬كنا عند رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يف جملس فقال‪ :‬تبايعوين على أن ال تشركوا باهلل شيئاً وال تسرقوا وال تزنوا وال تقتلوا أوالدكم ـ قرأ االَية اليت أخذت على النساء‪« :‬إذا جاءك املؤمنات» ـ فمن‬
‫وىف منكم فأجره على اهلل‪ ,‬ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له‪ ,‬ومن أصاب من ذلك شيئاً فسرته اهلل عليه فهو إىل اهلل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه»‬
‫أخرجاه يف الصحيحني‪.‬‬
‫وقال حممد بن إسحاق عن يزيد بن أيب حبيب عن مرثد بن عبد اهلل اليزين‪ ,‬عن أيب عبد اهلل عبد الرمحن بن عسيلة الصناحبي عن عبادة بن الصامت قال‪ :‬كنت فيمن‬
‫حضر العقبة األوىل‪ ,‬وكنا اثين عشر رجالً فبايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على بيعة النساء‪ ,‬وذلك قبل أن يفرض احلرب على أن ال نشرك باهلل شيئاً وال نسرق‬
‫وال نزين‪ ,‬وال نقتل أوالدنا وال نأيت ببهتان نفرتيه بني أيدينا وأرجلنا والنعصيه يف معروف‪ ,‬وقال «فإن وفيتم فلكم اجلنة» رواه ابن أيب حامت‪ ,‬وقد روى ابن جرير من‬
‫طريق العويف عن ابن عباس أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر عمر بن اخلطاب فقال‪« :‬قل هلن إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبايعكن على أن ال تشركن‬
‫باهلل شيئاً» وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة اليت شقت بطن محزة متنكرة يف النساء فقالت‪ :‬إين إن أتكلم يعرفين وإن عرفين قتلين‪ ,‬وإمنا تنكرت فرقاً من رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فسكت النسوة الاليت مع هند وأبني أن يتكلمن فقالت هند وهي متنكرة‪ :‬كيف تقبل من النساء شيئاً مل تقبله من الرجال ؟‪.‬‬
‫ففطن إليها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقال لعمر «قل هلن وال يسرقن» قالت هند‪ :‬واهلل إين ألصيب‪ -‬من أيب سفيان اهلنات ما أدري أحيلهن يل أم ال ؟ قال أبو‬
‫سفيان‪ :‬ما أصبت‪ -‬من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حالل‪ ,‬فضحك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعرفها فدعاها فأخذت بيده فعاذت به فقال‪« :‬أنت هند ؟»‬
‫قالت‪ :‬عفا اهلل عما سلف‪ ,‬فصرف عنها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال‪« :‬وال يزنني» فقالت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ,‬وهل تزين امرأة حرة ؟ قال «ال واهلل ما تزين احلرة ـ‬
‫قال ـ وال يقتلن أوالدهن» قالت هند‪ :‬أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر‪ ,‬قال‪ { :‬وال يأتني ببهتان يفرتينه بني أيديهن وأرجلهن } قال { وال يعصينك يف معروف‬
‫} قال‪ :‬منعهن أن ينحن‪ ,‬وكان أهل اجلاهلية ميزقن الثياب وخيدشن الوجوه ويقطعن الشعور‪ ,‬ويدعون بالويل والثبور‪ .‬وهذا أثر غريب ويف بعضه نكارة واهلل أعلم‪,‬‬
‫فإن أبا سفيان وامرأته ملا أسلما مل يكن رسول اهلل خييفهما بل أظهر الصفاء والود هلما‪ ,‬وكذلك كان األمر من جانبه عليه السالم هلما‪.‬‬
‫وقال مقاتل بن حيان‪ :‬أنزلت هذه االَية يوم الفتح‪ ,‬بايع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الرجال على الصفا‪ ,‬وعمر بايع النساء حتتها عن رسول هلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فذكر بقيته كما تقدم وزاد‪ :‬فلما قال‪ :‬وال تقتلن أوالدكن‪ .‬قالت هند‪ :‬ربيناهم صغاراً فقتلتموهم كباراً‪ ,‬فضحك عمر بن اخلطاب حىت استلقى‪ .‬رواه ابن أيب‬
‫حامت‪ .‬وقال ابن أيب حامت حدثنا أيب حدثنا نصر بن علي حدثتين أم غبطة بنت سليمان‪ ,‬حدثتين عميت عن جدهتا عن عائشة قالت‪ :‬جاءت هند بنت عتبة إىل رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لتبايعه فنظر إىل يدها فقال «اذهيب فغريي يدك» فذهبت فغريهتا حبناء مث جاءت فقال «أبايعك على أن ال تشركي باهلل شيئاً» فبايعته ويف يدها‬
‫سواران من ذهب‪ ,‬فقالت‪ :‬ما تقول يف هذين السوارين ؟ فقال «مجرتان من نار جهنم»‪.‬‬
‫وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أبو سعيد األشج‪ ,‬حدثنا ابن فضيل عن حصني عن عامر هو الشعيب قال‪ :‬بايع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم النساء ويف يده ثوب قد‬
‫وضعه على كفه مث قال «وال تقتلن أوالدكن» فقالت امرأة‪ :‬تقتل آباءهم وتوصينا بأوالدهم ؟ قال‪ ,‬وكان بعد ذلك إذا جاء النساء يبايعنه مجعهن فعرض عليهن‪ ,‬فإذا‬
‫أقررن رجعن‪ ,‬فقوله تعاىل‪ { :‬يا أيها النيب إذا جاءك املؤمنات يبايعنك } أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها { على أن ال يشركن باهلل شيئاً وال‬
‫يسرقن } أموال الناس األجانب‪ ,‬فأما إذا كان الزوج مقصراً يف نفقتها فلها أن تأكل من ماله باملعروف ما جرت به عادة أمثاهلا وإن كان من غري علمه عمالً حبديث‬
‫علي جناح إن أخذت من ماله بغري علمه ؟ فقال‬
‫هند بنت عتبة أهنا قالت‪ :‬يا رسول اهلل‪ ,‬إن أبا سفيان رجل شحيح ال يعطيين من النفقة ما يكفيين ويكفي بين‪ ,‬فهل ّ‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬خذي من ماله باملعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» أخرجاه يف الصحيحني‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬وال يزنني } كقوله تعاىل‪ { :‬وال تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيل } ويف حديث مسرة‪ :‬ذكر عقوبة الزناة بالعذاب األليم يف نار اجلحيم‪ .‬وقال‬
‫اإلمام أمحد‪ :‬حدثنا عبد الرزاق‪ ,‬أخربنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت‪ :‬جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأخذ عليها { أن‬
‫ال يشركن باهلل شيئاً وال يسرقن وال يزنني } االَية‪ ,‬قال‪ :‬فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها‪ ,‬فقالت عائشة‪ :‬أقري أيتها املرأة فواهلل ما بايعنا إال على‬
‫هذا‪ ,‬قالت‪ :‬فنعم إذاً‪ ,‬فبايعها باالَ ية‪ .‬وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أبو سعيد األشج‪ ,‬حدثنا ابن فضيل عن حصني عن عامر هو الشعيب قال‪ :‬بايع رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم النساء وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه مث قال «وال تقتلن أوالدكن» فقالت امرأة‪ :‬تقتل آباءهم وتوصي بأوالدهم ؟ قال‪ :‬وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء‬
‫يبايعنه مجعهن فعرض عليهن فإذا أقررن رجعن‪ .‬وقوله تعاىل‪ { :‬وال يقتلن أوالدهن } وهذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل اجلاهلية يقتلون أوالدهم خشية‬
‫اإلمالق ويعم قتله وهو جنني‪ ,‬كما قد يفعله بعض اجلهلة من النساء تطرح نفسها لئال حتبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬وال يأتني ببهتان يفرتينه بني أيديهن وأرجلهن } قال ابن عباس‪ :‬يعين ال يلحقن بأزواجهن غري أوالدهم وكذا قال مقاتل‪ .‬ويؤيد هذا احلديث الذي‬
‫رواه أبو داود‪ :‬حدثنا أمحد بن صاحل‪ ,‬حدثنا ابن وهب‪ .‬حدثنا عمرو يعين ابن احلارث عن ابن اهلاد عن عبد اهلل بن يونس عن سعيد املقربي عن أيب هريرة أنه مسع‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول حني نزلت آية املالعنة «أميا امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من اهلل يف شيء ولن يدخلها اهلل اجلنة‪ ,‬وأميا رجل‬
‫جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب اهلل منه وفضحه على رؤوس األولني واالَخرين» وقوله تعاىل‪ { :‬وال يعصينك يف معروف } يعين فيما أمرهتن به من معروف‬
‫وهنيتهن عنه من منكر‪ .‬قال البخاري‪ :‬حدثنا عبد اهلل بن حممد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أيب قال‪ :‬مسعت الزبري عن عكرمة عن ابن عباس يف قوله تعاىل‪ { :‬وال‬
‫يعصينك يف معروف } قال‪ :‬إمنا هو شرط شرطه اهلل للنساء‪ .‬وقال ميمون بن مهران‪ :‬مل جيعل اهلل طاعة لنبيه إال يف املعروف واملعروف طاعة‪ ,‬وقال ابن زيد‪ :‬أمر اهلل‬
‫بطاعة رسوله وهو خرية اهلل من خلقه يف املعروف‪ .‬وقد قال غريه عن ابن عباس وأنس بن مالك وسامل بن أيب اجلعد وأيب صاحل وغري واحد‪ :‬هناهن يومئذ عن النوح‪,‬‬
‫وقد تقدم حديث أم عطية يف ذلك أيضاً‪.‬‬
‫وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة يف هذه االَية ذكر لناأن النيب صلى اهلل عليه وسلم أخذ عليهن النياحة وال حتدثن الرجال إال رجالً‬
‫منكن حمرماً‪ ,‬فقال عبد الرمحن بن عوف‪ :‬يا رسول اهلل إن لنا أضيافاً وإنا نغيب عن نسائنا فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ليس أولئك عنيت‪ ,‬ليس أولئك‬
‫عنيت» وقال ابن أيب حامت‪ :‬حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أخربنا ابن أيب زائدة حدثين مبارك عن احلسن قال‪ :‬كان فيما أخذ النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أال حتدثن الرجال إال أن تكون ذات حمرم‪ ,‬فإن الرجل ال يزال حيدث املرأة حىت ميذي بني فخذيه وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا ابن محيد حدثنا هارون عن عمرو عن‬
‫عاصم عن ابن سريين عن أم عطية األنصارية قالت‪ :‬كان فيما اشرتط علينا رسول اهلل من املعروف حني بايعناه أن ال ننوح فقالت امرأة من بين فالن إن بين فالن‬
‫أسعدوين فال حىت أجزيهم‪ ,‬فانطلقت فأسعدهتم مث جاءت فبايعت‪ ,‬قالت فما وىف منهن غريها وغري أم سليم ابنة ملحان أم أنس بن مالك‪.‬‬
‫وقد روى البخاري هذا احلديث من طريق حفصة بنت سريين عن أم عطية نسيبة األنصارية رضي اهلل عنها‪ .‬وقد روي حنوه من وجه آخر أيضاً قال‪ :‬حدثنا ابن جرير‬
‫حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن فروخ القتاب حدثين مصعب بن نوح األنصاري قال‪ :‬أدركت عجوزاً لنا كانت فيمن بايع رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ,‬قالت فأتيته ألبايعه فأخذ علينا فيما أخذ أن ال تنحن‪ ,‬فقالت عجوز يا رسول اهلل إن أناساً قد كانوا أسعدوين على مصائب أصابتين وإهنم قد أصابتهم مصيبة‬
‫فأنا أريد أسعدهم قال‪« :‬فانطلقي فكافئيهم» فانطلقت فكافأهتم مث إهنا أتته فبايعته وقال هو املعروف الذي قال اهلل عز وجل‪ { :‬وال يعصينك يف معروف } وقال ابن‬
‫أيب حامت‪ :‬حدثنا أمحد بن منصور الرمادي حدثنا القعنيب حدثنا احلجاج بن صفوان عن أسيد بن أيب أسيد الرباد عن امرأة من املبايعات قالت كان فيما أخذ علينا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ال نعصيه يف معروف أن ال خنمش وجهاً وال ننشر شعراً وال نشق جيباً وال ندعوا ويالً‪.‬‬
‫وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا حممد بن سنان القزاز حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب‪ ,‬حدثين إمساعيل بن عبد الرمحن بن عطية عن جدته أم‬
‫عطية قالت‪ :‬ملا قدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مجع نساء األنصار يف بيت مث أرسل إلينا عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ ,‬فقام على الباب وسلم علينا فرددن أو‬
‫فرددنا عليه السالم‪ ,‬مث قال أنا رسول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إليكن قالت فقلنا‪ :‬مرحباً برسول اهلل وبرسول رسول اهلل‪ ,‬فقال‪ :‬تبايعن على أن ال تشركن باهلل‬
‫شيئاً وال تسرقن وال تزنني‪ ,‬قالت‪ :‬فقلنا نعم‪ ,‬قالت فمد يده من خارج الباب أو البيت‪ -‬ومددنا أيدينا من داخل البيت‪ -‬مث قال‪ :‬اللهم اشهد‪ ,‬قالت‪ ,‬وأمرنا يف العيدين‬
‫أن خنرج فيه احليض والعواتق وال مجعة علينا‪ ,‬وهنانا عن اتباع اجلنائز قال إمساعيل فسألت جديت عن قوله تعاىل‪ { :‬وال يعصينك يف معروف } قالت‪ :‬النياحة‪.‬‬
‫ويف الصحيحني من طريق األعمش عن عبد اهلل بن مرة عن مسروق عن عبد اهلل بن مسعود قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ليس منا من ضرب اخلدود‬
‫وشق اجليوب ودعا بدعوى اجلاهلية» ويف الصحيحني أيضاً عن أيب موسى أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم برىء من الصالقة واحلالقة والشاقة‪ .‬وقال احلافظ أيو‬
‫يعلى‪ :‬حدثنا هدبة بن خالد حدثنا أبان بن يزيد حدثنا حيىي بن أيب كثري أن زيداً حدثه أن أبا سالم حدثه أن أبا مالك األشعري حدثه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬أربع يف أميت من أمر اجلاهلية ال يرتكوهنن‪ :‬الفخر يف األحساب والطعن يف األنساب واالستسقاء بالنجوم والنياحة على امليت ـ وقال ـ النائحة إذا مل تتب‬
‫قبل موهتا تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب»‪ ).‬ورواه مسلم يف صحيحه منفرداً به من حديث أبان بن يزيد العطار به وعن أيب سعيد أن‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لعن النائحة واملستمعة رواه أبو داود‪ .‬وقال ابن جرير‪ :‬حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن يزيد موىل الصهباء عن شهر بن حوشب عن‬
‫أم سلمة عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف قول اهلل تعاىل‪ { :‬وال يعصينك يف معروف } قال النوح‪ ,‬ورواه الرتمذي يف التفسري عن عبد بن محيد عن أيب نعيم‬
‫وابن ماجه عن أيب بكر بن أيب شيبة عن وكيع كالمها عن يزيد بن عبد اهلل الشيباين موىل الصهباء به وقال الرتمذي حسن غريب‪.‬‬

‫َأصح ِ‬
‫اب الْ ُقبُو ِر‬ ‫ِ‬ ‫ِئ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِئ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س الْ ُك ّف ُار م ْن ْ َ‬
‫ب اللّهُ َعلَْيه ْم قَ ْد يَ ُسواْ م َن االَخَرة َك َما يَ َ‬
‫ين َآمنُواْ الَ َتَت َولّْواْ ْقوماً َغض َ‬
‫** يََأيّ َها الّذ َ‬
‫ينهى تبارك وتعاىل عن مواالة الكافرين يف آخر هذه السورة كما هنى عنها يف أوهلا فقال تعاىل‪ { :‬يا أيها الذين آمنوا ال تتولوا قوماً غضب اهلل عليهم } يعين اليهود‬
‫والنصارى وسائر الكفار ممن غضب اهلل عليه ولعنه واستحق من اهلل الطرد واإلبعاد‪ ,‬فكيف توالوهنم وتتخذوهنم أصدقاء وأخالء وقد يئسوا من االَخرة أي من ثواب‬
‫االَخرة ونعيمها يف حكم اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وقوله تعاىل‪ { :‬كما يئس الكفار من أصحاب القبور } فيه قوالن‪ :‬أحدمها كما يئس الكفار األحياءمن قراباهتم الذين يف القبور أن جيتمعوا هبم بعد ذلك ألهنم‬
‫اليعتقدون بعثاً والنشوراً‪ ,‬فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه‪ .‬قال العويف عن ابن عباس { ‪  ‬يا أيها الذين آمنوا ال تتولوا قوماً غضب اهلل عليهم } إىل آخر‬
‫السورة يعين من مات من الذين كفروا فقد يئس األحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم اللهعز وجل‪,‬وقال احلسن البصري { كما يئس الكفار من‬
‫أصحاب القبور } قال‪ :‬الكفار األحياء قد يئسوا من األموات‪ ,‬وقال قتادة‪ :‬كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا وكذا قال الضحاك‪ ,‬رواهن‬
‫ابن جرير‪ ,‬والقول الثاين معناه كما يئس الكفار الذين هم يف القبور من كل خري‪ ,‬قال األعمش عن أيب الضحى عن مسروق عن ابن مسعود { كما يئس الكفار من‬
‫أصحاب القبور } قال كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه‪ ,‬وهذا قول جماهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد والكليب ومنصور‪ ,‬وهو اختيار ابن جرير‬
‫رمحه اهلل‪ .‬آخر تفسري سورة املمتحنة‪ ,‬وهلل احلمد واملنة‪ .‬‬

You might also like