Professional Documents
Culture Documents
الرواية للكاتبة مريم شعبان
الرواية للكاتبة مريم شعبان
الرواية للكاتبة مريم شعبان
لكل منا حكايته الخاصة .حكاية ينسجها هو يعيشها بكل تفاصيلها بألمها
وسعادتها ..بوجعها ..بضحكاتها ..لكل منا تلك الحكاية أحيانا تكون
سرية ال يعلم بها أحدا وأحيانا أخرى نتشاركها مع شخص أخر شخص
ربما يكون هو البطل الرئيسي لتلك الحكاية ..بالنهاية كلنا أبطال بإحدى
الروايات وحياتنا من تحدد نوع البطولة التي قد نعيشها ..ربما تكون
بطولة قاسية مغلفة باأللم والهجران وربما كانت بطولة شيقة ممتعة رغم
كل مطباتها خرجنا منها منتصرين ..
حكاياتنا تلك التي ال بد أن تغلف بالحب ..الحب الذي هو أساس كل شيء
في الحياة ...ال يمكنك أن تقوم بأي فعل دون الحب ..ربما بعضنا يأخذ
تلك الكلمة ويختزلها فقط بين شخصين ومشاعرهما الجياشة ولكن الحب ال
يقتصر على عالقاتنا الغرامية ..أن فكرنا قليال بهذه الكلمة سنرى أنها
تشمل كل شيء ..العمل ..األبوة ..البنوة ..الدين ..األحالم ..المستقبل
..الماضي ..الوطن ..االستمرارية ..حتى الكسل يحتاج إلى حب ...ال
يمكنك أن تقوم بأي شيء دون الحب ..فما يميزنا عن الحيوانات هو
امتالكنا للحب والمشاعر ..الحب هو ما يختبر إنسانيتنا ومن هنا تبدأ
انطالقتنا في الحياة ..نبحث عن المشاعر فينا ..أي نوع ال يهم فكل ما
يهم هو الشيء الذي يبقينا أحياء ..حتى لو كانت تلك المشاعر ألم ومعاناة
..فنحن البشر نتعشق الشعور باأللم ونجد فيه مرفأ يبقينا موجودين وكأن
لذة األلم تعجبنا أكثر من لذة السعادة ..نتفنن بالعيش معها لوقت طويل
بينما السعادة تكون لحظية ..ومع كل هذا ال يمكننا أن ننكر أننا من داخلنا
نسعى دوما للوصول للسعادة المطلقة ونحارب كثيرا للحصول ولو على
جزء منها وهنا يكمن التناقض ..لماذا نتفنن العيش باأللم ونتجاوز السعادة
فورا ثم نعود منتفضين من جديد للبحث عن تلك السعادة التي لن تبقى
داخلنا سوى لفترة قليلة .؟
هي طبيعة البشر ..ألسنا أكثر الكائنات خطرا ووحشية في هذا الكوكب ..
فاإلنسان باختصار منبع الشرور وها هنا اآلن أضيف لكل تلك المعلومات
أننا نحن البشر مركز اآلالم واألوجاع ..نحن صناع الحزن ..نحن بناة
القهر والفقدان ..الهجران واألشواق ..نحن المسبب والمتألم ..نحن من
نصنع السم ونتجرعه ...
حكايتي هذه عن الحب بأنواع ليست معتادة ..حب للماضي وتاريخه ..
حب للوطن ..تعشق برائحة أرض كانت وما زالت تستمر بالحب
واألشواق ..حكاية تمزج األلم باألمل ..الماضي بالحاضر ..حين يمتزج
ما هو عتيق بالتقدم والتكنولوجيا ..حكاية حب لكل ما هو أصيل ..وما
هو فطري فينا ..ففطرتنا السليمة ال يمكنها أن تتناقض مع التقدم المزعوم
والحريات الكاذبة ...
...................................................................................
الفصل األول
بابتسامة منتصر رفع السماعة على أذنه ..فهذه المكالمة كان ينتظرها منذ
أكثر من شهر ..لم يكن يعلم أن البحث عن أصحاب الحرف التقليدية
أصعب من البحث عن إبرة في كومة قش ولكن ال بأس أال يقولون كلما
تعبت في الوصول لشيء كانت حالوة الوصول أجمل وأحلى وها هو على
موعد مع تلك الحالوة .
أخرجه الصوت على الطرف األخر وهو يرحب به ويعتذر عن طول فترة
رده على المكالمة ليقبل اعتذاره بلباقة لطالما عرف بها ليقول للشخص
على الطرف األخر :سيدي الكريم لقد كنت ابحث عنك منذ مدة وألكون
صريح فأنا أرغب بشراء سيف من عندك فكما عرفت أنك أفضل شخص
يصنع السيوف الدمشقية
همهم الشخص على الهاتف ليجيبه بأسلوب عملي :لقد وصلت للمكان
الصحيح ..فصنع السيوف الدمشقية هي مهنتي عن أجدادي ..عليك أن
تعطيني المواصفات التي تطلبها ألصنع لك سيف وخالل أقل من ثالثة
أشهر سيكون جاهز للشحن عندك في ألمانيا
اعتدل يوسف في جلسته على الكرسي وشعور داخله يخبره أن هذه
المكالمة لن تعطي الثمار التي يسعى لقطافها ليجيب الرجل :نعم أنا أرغب
في شراء سيف وال يهمني الثمن الذي قد تطلبه ولكنني ال أريد سيف
مصنوع حديثا ..أنا ببساطة أريد شراء أقدم سيف تمتلكه وال أكترث
بشيء أخر ..
صمت ..لدقيقة ثم عدة دقائق ويوسف يشعر بالتوتر وكأنه مقدم على
امتحان فاصل في حياته ليسمع همهمة الرجل فيترك قلمه الذي كان ينقر به
على الدفتر الجلدي أمامه ليجيبه :أنا أسف سيد يوسف لن أستطيع أن
أخدمك بهذا الشأن ..فعائلتي تمتلك سيف قديم واحد يعود تاريخه لثالث
مئة عام وهذا يعتبر أرث خاص ال يمكننا بيعه أو حتى إخراجه من العائلة
ولكن يمكنني أن اصنع لك واحد بنفس المواصفات فال يمكن ألحد التفريق
بينهما .
عض على شفتيه بإحباط ليسأله :وأين يمكنني أن أجد واحد قديم ويمكنني
شرائه ؟
أجابه الرجل :العائالت الشامية التي تقتني هذا النوع من السيوف يصعب
عليها بيعه ولكن مع ظروف الحرب اعتقد أنك يمكن أن تجد احد يبيعه لك
.
أغمض عينيه بألم لكلماته فهو أكثر ما يكره أن يستغل ظروف الناس
والحرب في سوريا شرعت للناس التخلي عن كل شيء ..أبنائهم وبيوتهم
ووطنهم واآلن تاريخهم ..ما أكره الحرب وأقساه فهي تجور على البشر
والحجر ..تقتل الحاضر وتشوه الماضي ليصبح الماضي على شفا النار
غير معروف هل هو أسوء من قبل أو ربما فيه شعاع من نور يمكنه أن
يضمد تلك الجروح التي تركها بهؤالء الناس ..
تنهد ليقول أخيرا :هل يمكنك أن تساعدني بهذا األمر ..وفي نفس الوقت
سأطلب منك أن تصنع لي واحد أيضا ؟
قاطعه الرجل متسائال :أن كنت ستبحث عن سيف قديم لماذا تريد من
صنع واحد ؟
ابتسم يوسف وكان الشخص أمامه ويراه لينقل الهاتف إلى أذنه األخرى
مجيبا :أريد أن أهديه لصديق ألماني ..كم سيكون ثمنه ؟
رد عليه الرجل :على حسب طلبك ولكن لن يتجاوز العشرين ألف دوالر
..أن كنت تريد أن أنقش على نصله بيت شعر أو آية قرآنية ولكن بما أنه
لصديق ألماني أعتقد أن الشعر سيكون أفضل ..وهل ترغب أن يكون
الغمد مغطى بنقوش من فضة أو ذهب ؟
تنهد من جديد ليجيبه :أريد األفضل واألجمل وسأترك األمر لك ..ولكن
أرجوك ال تنسى موضوع السيف القديم ..
أغلق المكالمة وهو يستمع لوعد الرجل له بالبحث عن سيف قديم يعود
لمئات السنين ووعده بأن ينهي له صنع السيف ليرسله له ..
لقد شعر منذ البداية انه لن يصل لمراده ..لم يكن يتوقع أن الموضوع معقد
لهذه الدرجة ..لقد مرت سنوات عمره وهو يقتني التحف الفنية القديمة وال
سيما العربية ..كبر في هذا البلد األوربي وحمل جنسيته ولكن عشق كل
ما هو شرقي كان يفوق كل تلك العواطف الباردة التي تغلفه بها هذه
المدينة ليجد أنه شغوف بتلك األثريات واألنتيكا كما يطلق عليها ..كان
دوما يحاول شراء كل شيء له عالقة بالشرق أحيانا تكون القطعة أصلية
ونادرة وأحيانا تكون مقلدة ولكن هذا لم يكفه أبدا عن هذه الهواية ..فبرأيه
ال يهم وحتى أن كانت التحفة مزورة فمن صنعها مؤكد أنه كان متيم
بالقطعة األصلية لتخرج معه بكل تلك الدقة والجمال حتى وصل إلى رغبة
قوية باقتناء سيف دمشقي ولكنه هذه المرة يصر أن يكون قطعة نادرة
وقديمة جدا ..هو يعلم أن صناع السيوف الدمشقية سوف يبدعون بصنع
واحد له ولكن رغبته بأن يمسك قطعة كهذه مرت عليها مئات السنين ال
تعادلها رغبة ..كيف يمكن أن يتساوى شعور بحمل سيف صنع منذ أشهر
بسيف مرت عليه مئات السنين وما زال متحفظ بهيبته ووقاره ..ذلك
الوقار الذي جال العالم كله ..وسمعته سبقته إلى كل الممالك القديمة ..تلك
التحفة الفنية التي زلزلت قلوب الصليبيون ذلك الوقت وسببت لهم الرعب
لتحاك حوله الحكايا الكثيرة واألساطير المثيرة ..نعم لم يكن يمانع
بالحصول على قطع مقلدة ومزورة لشغفه بجمالها ولكن بالنسبة للسيف
فهو يريده قديم قدم تلك الحرفة ..محمل بتلك األسرار التي لم تكشف بعد
وبقيت محصورة بتلك األسر الشامية التي خبأتها بحذر ومنعت خروجها
ألحد ليصطفي أهل دمشق بتلك الميزة الفريدة التي تضاف لميزات كثيرة
ال يمكن أن تكون إال لدمشق وأهلها وعراقتها .
سمع صوت صديقه والذي يعمل لديه وهو أيضا يحمل جذوره العربية
نفسها :لماذا هذا العبوس يوسف ؟
رمى الهاتف بال مباالة مجيبا :لقد قال لي الرجل أن لديه سيف وال يمكنه
بيعه لي ألنه أرث عائلي خاص ..ولكنه سيبحث لي
قاطعه حسام :وهل هذا سبب للعبوس ..أنت تعلم أن أصحاب هذه المهن
يعرفون أين يبحثون
أومأ له يوسف قائال :أنا أعلم ولكنني لم أشعر بثقته ليجد لي السيف ..ال
يهم سوف انتظر فال أملك سبيل سوى االنتظار .
قال له مقترحا :أنت تعلم أن هناك عدد كبير من الالجئين السوريين هنا ..
وكما علمت أن الحكومة األلمانية ترتب لهم مهرجانات يكون فيها عرض
ألعمالهم اليدوية ..لماذا ال نجرب ؟
رفع يوسف رأسه نحو صديقه مفسرا كلماته :أنت تقصد أن يكون أحد من
هذه العائالت هنا ؟
وافق حسام على ما قاله لينفي يوسف تلك الفكرة فورا :ال أعتقد ..أن
هؤالء الناس مرتبطين بدمشق كالعروة الوثقى ال يغادروها مهما حدث ..
أشعر أن هذه الفكرة غير سليمة
قاطعه صديقه من جديد :ليس بالضرورة أن يكون صاحب السيف نفسه
هنا ..ربما أحد أبنائه أو أقاربه ..نحن نحاول ولن نخسر شيء من هذه
المحاولة ..ثم ال تنسى أن الحرب تهدم أي ارتباط فحتى نحن خرجنا من
بالدنا رغم تعلقنا بها ..حين نكون بين خيار الوطن أو الحياة جميعنا
نختار الحياة رغم تغلغل الوطن فينا .
هز يوسف رأسه وفكرة صديقه بدأت تقنعه ليومئ له أخيرا بالموافقة
واألخر يعده بالبحث عن ذلك الشخص الذين ال يعرفون من هو أو هل هو
موجود فعال أم أنها مجرد تخمينات .
أغلق باب سيارته وهو يتأمل المباني العالية من حوله لتأتي إليه فكرة
كانت غائبة تماما عن باله ليمشي بثقة اكتسبها منذ أن غادر بالده وأصبح
يعيش هنا ..وكأن بالدنا العربية تحكم علينا أن نبقى مطأطئين الرأس
طالما نحن تحت سقف الوطن وحين نغادره نصبح على مقدرة لرفع رأسنا
عاليا كما هي أفكارنا التي تتجاوز ذلك السقف الذي اختزلنا تحته ..ابتسم
مبعدا تلك األفكار عن رأسه ليرحب بالرجل العجوز الذي كان قاصدا
الذهاب له ..جاره في البناء المقابل الحج أبو محمد رجل سوري لجئ هو
وأسرته إلى هنا منذ سنة تقريبا ولكنه لم يتعرف عليه إال منذ أشهر قليلة ..
لقد عرف أنه استطاع الوصول مع ابنتيه وزوجته عن طريق األمم المتحدة
التي اختارته كالجئ من األردن وبقي ابنه هناك مع زوجته ..نعم هي
القوانين تعطي فرصة لبعضهم وتترك البعض األخر ويبدو أن الحج أبو
محمد قرر أن يستغل هذه الفرصة التي تعتبر بالنسبة للسوريين طبق من
ذهب فالخروج من أي بلد عربي هو مكسب ..ارتفعت ابتسامة سخرية
على شفتيه فهذا هو حال العربي نتشدق باألبطال والسمات العربية ولكن
حين الخطر نجد أننا مشتتين ال أحد منا مستعد أن يتقبل األخر هذا ليس
لوما على أحد فأن فكرنا قليال سنجد أن كل شخص يحمل لقب عربي على
أرض عربية فيه من اآلالم والقيود ما يكفيه ..حتى أن أردنا أن ننصر
بعضنا كشعوب تنتمي لنفس الجذور ال نقدر فكلنا محكومين ..كلنا مكبلين
وهذا هو السبب األساسي الذي جعل أوروبا هي حلم كل شخص سوري
هرب من هول الحرب والرعب في بالده ..فال يمكن للمجروح ان يداوي
جروح مجروح أخر ..كلنا نحمل نفس الوجع مع اختالف درجاته .
رحب به أبو محمد حين فتح الباب ووجده واقفا بعيدا عن فتحة الباب كما
هي العادات العربية ..وهذا شيء مميز عند العرب احترام حرمة البيوت
وخصوصيتها ..أن تقف بعيدا عن شق الباب وعيونك في األرض منتظرا
سماع صوت من يفتح الباب فأن كان صوت رجولي فهذه أذن لك لترفع
رأسك مبتسما تسأل عن حاجتك ..بعد تبادل السالمات واألسئلة الروتينية
عن الصحة والعائلة والوضع العام ..
طلب منه الحاج أبو محمد الدخول ليرفض بلباقة فهو لم يعتد بعد على
االختالط بالناس ليسأله :كنت أرغب بسؤالك عن شيء ما بما أنك سوري
هز الرجل رأسه بسماحة وهو ينتظر سؤاله ليتابع حسام كالمه :لقد قلت
لي أن لك ابنتين هنا تدرسان هل لك أن تسألهما إن كان هناك أي مهرجان
أو مناسبة تطوعية لألعمال اليدوية للسوريين في مدينتنا
صمت الرجل ويبدو أنه يفكر بكلماته لترتفع ابتسامته مجيبا :اعتقد أن
ابنتي سالم من تفيدك بهذا األمر فهي تشترك في بعض األحيان بأعمالها
الصوفية
ابتلع حسام ريقه بخجل شديد :هل لك بسؤالها فاألمر يخص مديري في
العمل لذك ...
قاطعه جاره بابتسامة متفهمة وهو يربت على كتفه ولكن صوت األقدام
التي كانت تتجه إليهم أوقفتهما عن الكالم ..لقد كانت صبية يبدو عليها
التعب بسبب الدرج الذي كانت تصعده ليستمع لصوت أبو محمد خلفه
يقول مرحبا :هذه صاحبة العالقة قد وصلت يمكنها أن تجيب أفضل مني
..
ليشير إليها فتقترب منهما :تعالي يا سالم األستاذ حسام جارنا يريد أن
يعرف عن مهرجان الصناعات اليدوية التي تشاركين به
اقتربت منه لتبدو مالمحها أوضح له ..كانت تبتسم بارتباك في وجهه ..
لم يكن يتوقع أن ابنه أبو محمد صبية بمثل هذا العمر لطالما سمع والدها
يتحدث عنها فاعتقد أنها صغيرة أو بعمر المراهقة ولكن من تقف أمامه
فتاة ناضجة خجلة تتنهد بصعوبة تحاول أن تخفي لهاثها ترسم ابتسامة
خجول على شفتيها ..كانت كما سمع طوال حياته عن الشاميات ...
ناصعة البياض أو ربما حجابها األبيض من أعطاها ذلك النور الذي يشع
منها ..ضئيلة الحجم ولكن مع هذا كان النضج واضحا على مالمحها ربما
تكون في منتصف العشرين أو أكبر قليال ..
شعر بأنه أطال النظر لها وهذا بعرف الشوام والعرب عموما يعتبر وقاحة
ليغض بصره بسرعة لكن حين سمع صوتها عادت نظراته بشكل ال إرادي
نحوها ..لكنتها الشامية ال تشبه لكنة أبوها لوهلة شعر أنه يستمع إلحدى
نساء باب الحارة لترتفع ابتسامة خفيفة إلى شفتيه قتلها فورا خجال من
والدها ليحاول أن يفهم ما تقوله بسبب اختالف اللهجات بينهما ولكن كل
ما استطاع فهمه هو أن هذا المهرجان سيكون األسبوع القادم
سعل بحرج ليسألها :أريد أن أعرف هل هناك أشخاص يعرضون أعمال
يدوية وال اقصد هنا الصوف أو النسيج ..أي شيء له عالقة بالحرف
اليدوية الحفر على الخشب أو حتى صناعة الخناجر والسيوف ..تلك
الحرف الشامية القديمة
أومأت الفتاة له وكـأنها تخبره أنها فهمت ما يقصد لتجيبه :هناك صديقة
لي تعمل بالموزاييك وبصراحة ال أعرف غيرها أعتقد انها من تبحث عنه
نظر لها هذه المرة بشكل واضح حتى تالقت أعينهما ألول مرة كانت
تمتلك عيون خضراء مما زادها جماال ليخاطب نفسه " من قال أن
الشاميات مختلفات عن كل نساء األرض كان محقا " ليتدارك نفسه بسرعة
واضعا نظراته باألرض قائال :هل هناك أي مشكلة إن قدمت مع مديري
في العمل و قدمتينا لهذه الفتاة ؟
أجابته بسرعة :أبدا ال يوجد هناك أي مشكلة ثم أنها دائما تجيب عن أي
سؤال يخص تلك الحرف اليدوية ستكون أكثر من سعيدة بالتحدث ألحد
عنها .
أومأ لها باتفاق بعد أن أخذ عنوان ذلك المهرجان واتفق معها على ساعة
محددة وبعد شكر عميق لوالدها ووعد بزيارة اخرى تكون لمنزلهم وليس
فقط بابهم غادر المكان وسالم بقيت تراقبه ..
لطالما سمعت والدها وهو يحكي عن جارهم العراقي حسام ...تعرف عليه
في الجامع ..شاب في مقتبل العمر دائما يراه في صالة المغرب والعشاء
وذلك بسبب ظروف عمله فال يستطيع إال أن يصلي إال بهذين الوقتين
جماعة ..تحدث عنه والدها أكثر من مرة كيف لشاب مثله وحيد يحافظ
على إسالمه صحيح ..لم ينقطع عن الصالة حتى حديثه كان عذب
ومحترم ..ولكن أن تراه اآلن كان مفاجئ لها ..كان كما قال والدها
خجول جدا ولبق أيضا ..راقبته حتى اختفى من أمام ناظريه بطوله الفارع
كنخلة عراقية شامخة ..و سمار سومري يحمل سحر تلك األرض وعبقها
..كأنه يحمل عراقة العراق وشموخه حتى صوته كان يحمل حزن بلده
وشجنها ..
شعرت بحركة والدها نحو الباب ليتجه إلى الداخل لتتبعه بصمت وصورة
ذلك الجار تنطبع في عقلها .
............................................................
سار مع صديقه بين تلك األكشاك المنتشرة في كل مكان ..كان اإلبداع هو
عنوان كل ما يروه ..أن كان عمل بالصوف والتطريز أو حتى بالرسم
وتلك النقوش التي كانت على قطع الزجاج وذلك الشاب الذي يعمل
بالرسم على الخشب وحرقه ..كان كل شيء جميل ارتفعت ابتسامة تلقائية
على شفتيه ليقول :أن الشعوب العربية والدة ..رغم كل األسى والقهر
هناك دائما طريقة لإلبداع ..أنظر حولك لكل هذا الجمال والروعة كيف
لمثل هذا الشعب أن يدمر ويهجر ..شعب خلق ليبدع .
وافق حسام على كلمات يوسف وهو يبحث عنها بعينيه ..ال يمكنه أن
ينكر أن جارته لفتت نظره وها هي اآلن عيونه تبحث عنها لترتفع ابتسامته
حين وجدها ..تجلس بصمت تراقب كل من حولها وبعض من أعمالها
متناثرة أمامها على الطاولة ..نكز يوسف مشيرا لها ليسأله يوسف :أهذه
هي جارتك
أومئ له ليسيرا نحوها ونظرة ماكرة من يوسف لصديقه ولكن دون أي
تعليق منه لتبتسم لهما سالم حين رأتهما يقفان أمامها لترحب :أهال أستاذ
حسام
ابتسم لها حسام وهو يعرفها على صديقه :يوسف الكسواني وهذه اآلنسة
سالم
أومأ لها يوسف بترحاب ليسألها مباشرة :هل يمكنك أن تعرفينا على الفتاة
صاحبة حرفة الدمشقية
ابتسمت له سالم لتشير على أحد الفتيات القريبات منها لينظر االثنان
ناحيتها ..كانت تبدو صغيرة بالسن ,ترتب بعض الصناديق الصغيرة
أمامها دون اكتراث لما حولها ..سارت سالم وقربها يوسف وحسام لتقف
قرب الفتاة وهي تشير إليهما :كرمل انظر السيد يوسف والسيد حسام من
يبحثان عن عملك
رفع يوسف حاجبه وخيبة من األمل تغزو خاليا جسمه لينطق بصوت
يائس :أنت فلسطينية ؟
نظرت نحوه لتجيبه باستغراب :ال شامية ولكن لما تسأل ؟
انتشرت الراحة بنفسه وغادره اإلحباط فورا لكنه أجاب :أن أسمك هو اسم
مدينة فلسطينية لذلك شعرت بقليل من االستغراب
ابتسمت له متسائلة :إذن أنت فلسطيني
أومأ لها بفخر وكأن صفة فلسطيني التي نادرا ما يسمعها تجعل في قلبه
شعور من االعتزاز فاالنتماء لتلك األرض هو فخر ال يشابهه فخر ..هل
هناك أجمل من االنتماء ألرض كلها أنبياء أن تتشابك أصولك من حيث
عرج الرسول حيث كانت أولى القبلتين ليجيبها :أنا فلسطيني وصديقي
حسام عراقي
ضحكت بخفة مجيبة :ونحن سوريات وكلنا اجتمعنا في أرض أوربية
قاطعها حسام ضاحكا :كان يجب أن يأتي معنا بديع فهو لبناني الجنسية
علت ضحكة الجميع لتعلق سالم :لتكون جامعة للدول العربية ولكن
جامعة فعالة ليست مثل تلك التي تدعي أنها تمثلنا .
قاطعت كلماتها كرمل تسأل :بماذا يمكنني أن أخدمك سيد يوسف ؟
تحولت مالمحه فورا من الضحك والمزاح إلى الجدية والتوتر ليسألها :لقد
الحظت أنك تعملين بالخشب
قاطعته مصححة :أنه الموزاييك الدمشقي
رد عليها يوسف بخجل :أسف لقد فقدت اسمه من على لساني
ليقاطعه حسام يسألها :هل لي أن أسلك عنه فأنا ليس لي معرفة كبيرة
بالحرف الشامية وقد اثارت فضولي هذه القطع أمامك
أمسكت علبة صغيرة مزينة بنقوش جميلة تخطف األنظار لتناوله إياها
مجيبة :هو فن تطعيم الخشب بالخشب حيث أن قطعة واحدة تجمع عدة
أنواع من الخشب مع اختالف ألوانها وميزاتها فتطعم مع بعضها لنشكل
هذه القطع التي أمامك وفي بعض األحيان بالصدف وهذا النوع نسميه
بالتصديف وفيه نطعم الخشب باألصداف أما هذه القطعة بين يديك فهي
مطعمة بالخشب فقط
راقب العلبة بين يديه متقنة الصنع مبهرة يندمج فيها عدة ألوان غامقة
وفاتحة ولون أصفر وأخر قريب من األبيض لترسم نموذج مميز بأشكال
هندسية دقيقة ..ألوانها جميلة تحمل أصالة دمشق وتاريخها ..كان
مبهور جدا وكرمل مبتسمة بسعادة فكيف لها أال تكون سعيدة وهي تراقب
نظرات االنبهار في وجوه من يحمل قطعها ..لقد عشقت هذه الفنون منذ
الصغر ..من المسلسالت الشامية القديمة حيث كان كل شيء فيها قديم و
اصيل لتكبر وتقرر احتراف العمل بها وبالفعل استطاعت ان تنجح بهذا
العمل رغم كل الصعوبات التي واجهتها لتشاء االقدار وتأتي الحرب وتقتل
األحالم لتقرر أن تحمل هذه الحرفة وعشقها وتغادر بلدها إلى هنا ..حيث
التقدم والتكنولوجيا حيث تخلو هذه البالد من اإلبداع التاريخي المستمر
وعواطف الماضي .
اقترب حسام من الطاولة أمامها ليختر بعض األعمال يحدثها :أرغب
بشراء البعض منها ..
لم تجبه لتتركه يختار براحته ويوسف يسألها :بصراحة أنا هنا السألك عن
حرفة دمشقية أخرى ال أعلم أن كان لديك أي معلومات عنها ؟
رفعت حاجبها نحوه تنتظره أن يكمل ليتابع :أريد أن أعرف عن السيف
الدمشقي
ابتسمت بثقة لتقول :طبعا فمن لم يسمع بعبارة سيف العرب حرا ال يهان
اقترب منها خطوة وعالمات السعادة ترتسم على محياه أخيرا قائال :إذن
لديك القدر الكافي من المعلومات عنه
قاطعته سالم متسائلة :هل هذه العبارة قيلت في حق السيف الدمشقي ؟
لطالما استمعت لها ولكن لم أكن أعرف أنها تقصد سيوف دمشق
أومأت لها كرمل مجيبة :أنها عبارة صالح الدين األيوبي وكان معروف
استخدامه للسيف الدمشقي كسالح له حتى أنه قالها وهو يقطع قضيبين من
حديد بسيفه
توقف حسام عن البحث بين القطع وقد شده الحديث الدائر بينهم ليسألها :
يقطع قضيب من حديد ؟
أجابته بثقة :لقد قيل أيضا انه كان يقطع الشعرة لنصفين أن سقطت على
حده
ارتسمت الدهشة على وجوه الجميع لتتابع كالمها :لطالما عرف السيف
الدمشقي بقوته وأصالته ولكن أكثر ما كان يميزه هو السر الخفي في
صنعه فقد كان شيء غريب على الناس في ذلك الوقت وال سيما خصائصه
الفريدة والمميزة التي جعلت منه أقوى األسلحة وأشدها قوة حتى أنه كان
يمثل رعبا للصليبين ونسجوا كثيرا من األساطير حوله وقد كان سببا من
أسباب خسارة الحمالت الصليبية في ذلك الوقت
تأملها يوسف المصدوم من كم المعلومات التي تمتلكها لقد كان يعرف
شهرة السيف ولكنه اعتقد أن شهرته أتت من شكله وقوته ولم يكن يعرف
أن له حكايات وخبايا كثيرة ..لطالما سمع أبوه يتغنى بصالح الدين فاتح
القدس وأنه كان يحمل سيف دمشقي متعلال ذلك بعشقه ألمه السورية فقد
كان يقول لها سيوفكم كانت سبب رئيسي النتصار المسلمين وفتح بيت
المقدس على يد صالح الدين ..ومن هنا جاء عشقه ورغبته باقتناء سيف
دمشقي من أجل أحياء حب أبيه لهذا السيف وتغزله بأمه وهو يحكي تلك
القصة ..لذلك قرر البحث عن أقدم سيف واقتنائه وكأنه بذلك يوشم عشق
أبويه بذكرى خالدة لطالما كانت تتردد في بيتهم .
قاطعت كرمل أفكاره متسائلة :ولكن ماذا يريد السيد يوسف أن يعرف عنه
؟
ابتلع ريقه يحاول أن يمحو تلك الذكريات من مخيلته حاليا ليجيبها :أريد
شراء واحد فهل تعرفين أحد من أصحاب تلك السيوف بما أن تعملين بنفس
الدائرة تقريبا ؟
عضت شفتها بتفكير لتجيبه :أنا أعلم أنه في دمشق القديمة هناك عدة
ورش ما زالت تصنع تلك السيوف
قاطعها فورا :ال أريد صنع واحد أرغب بواحد قديم مرت عليه مئات
السنين
رفعت حاجبها له باستغراب لم يدم لثوان لتجيبه بلباقة :أنا ال أعرف ولكن
أعتقد أن أمي ممكن أن تساعدك فهي تعلم أصحاب تلك الحرف وعائالتهم
أكثر مني
مد يده ليخرج بطاقة يعطيها لها :سأكون اكثر من شاكرا لك أن ساعديني
بهذا األمر ..هذه بطاقة عملي وفيها رقم هاتفي يمكنك التواصل معي فور
حصولك على أي معلومة
أمسكت البطاقة من بين أصابعه لتخفيها بحقيبتها بوعد منها بالمساعدة
قريبا
انتقلت نظراته إلى صديقه حسام الذي عادت نظراته إلى أعمال كرمل
فيختار عدة قطعة منها نالت استحسانه ليبتاعها منها بسعادة غامرة ..
كانت تراقب هي وسالم ذهاب الرجالن لتعلق سالم فور ابتعادهما :هل
حقا ستساعديه ؟
رفعت كرمل رأسها لصديقتها :بالطبع ..ليس من عادتي خذالن أحد
فكرت رفيقتها لثوان لتقول أخيرا :ال أعتقد أن أحد سيقبل بيعه سيف قديم
..فهذا يعتبر أرث حضاري وأنت أكثر من يعلم أن الشوام لديهم تمسك
غريب بمثل تلك األمور فهم يعتقدون أنها رمز لعائالتهم ..من يفقدها فقد
ما يميز أسرته
همهمت كرمل توافق على ما تقوله صديقتها ..فأهل الشام أكثر الناس
ارتباطا بكل ما هو قديم وتمسكا به ولكن مع الحرب كل شيء تغير ..
نفوس الناس ومعتقداتهم حتى مبادئهم اختلفت ..لتجيبها :كل ما علي هو
أن أعرف له أصحاب تلك السيوف واألمر متروك له وألصحابها ربما
بعضهم فقد شغفه بالعائلة وارتباطها وال سيما أن سعر السيف الواحد يمكن
أن ينتشل عائلة كاملة ويغير وضعها من حال لحال .
تنهدت سالم بوجع معلقة :تبا للحرب التي تقودنا لبيع تاريخنا وحضارتنا
..تبا للحرب التي أيقظت أسوء ما فينا وهو تخلينا على أخر شيء قد
يربطنا بعراقة الشام وجذورها .
....................................................................
الفصل الثاني
أن تكون إنسان مهجر عن بلدك بيتك أرضك .كان بالنسبة لها مجرد
قصائد تستمع لها طوال فترتها الدراسية ..قصائد أشواق وحنين لكل
مغترب حتى أتى الوقت وأصبحت هي المغتربة ولكنها ال تقدر أن تنظم
قصيدة تعبر عما يدور داخلها ..بل داخل الماليين من أبناء شعبها ..لقد
أمضت أربع سنوات في ألمانيا ترثي حالها وحال أبناء جنسيتها ولكن
البارحة حين رأت يوسف وحسام شعرت أن هذا الوجع لم يكن اختصار
على السوريين بل على العرب عموما مع فارق بسيط أنهم اقدم منها في
هذا المجال ..فكرت كثيرا هل ينظر الناس إلى وجعهم كما كانت هي
وزميلتها يفعلن ..مجرد خبر على الشاشة أو قصيدة حنين في فرض
دراسي ينتهي تأثيرها مع انتهاء وقت عرضها ..لماذا تلوم العرب وهم
من تعاملوا بنفس الطريقة مع األلم الفلسطيني والعراقي ..كانوا
متضامنين بشكل كبير ..يدعون لهم ..يتعاطفون معهم ولكن لم يكن بيدهم
فعل شي ء ..فهم في النهاية شعب عربي والشعوب العربية ليس لها
السلطة لفعل ما تريد ..وهذا ما يحدث اآلن الحكومات من تجور على
الناس والشعوب تحاول أن تعيش بأي طريقة ممكنة .
تنهدت وكل هذه األفكار تؤلمها ..ال تريد أن تفكر كثيرا ..فل تنظر
للنصف المشرق من الصورة ..استطاعت أن تستقر أخيرا مع والدتها هنا
..تعلمت اللغة األلمانية وها هي اآلن تعمل بشيء تحبه ..رغم أنها كانت
تحبذ أن تنقل شغفها بحرفة الموزاييك ألشخاص من بلدها ولكن ال بأس
فعملها في مركز االحتياجات الخاصة سهل جدا ..والناس هنا لطيفة ..
مجرد ساعات قليلة في اليوم تدرس هؤالء المتألمين األلمان الحرفة
الشامية العريقة ..تتغنى بالشام وتحكي لهم عنها ..تصورها لهم كقطعة
من الجنة وهي كذلك فعال فهناك حيث تجتمع األضداد ..أقدم عاصمة
مأهولة بالتاريخ ..تضج باألصالة والجمال مع تقدم البشر وامتزاج
حاضرهم مع ذلك الماضي العريق ..ومنها تلك الحرف الدمشقية التي
بقيت محافظة على أسرارها وعملها اليدوي ..فكانت مزيج غريب جدا ..
تبقي ماضيك شامخ كالجبل وتعيش الحاضر بتقدمه لتبني المستقبل ..
مستقبل لآلن مجهول ..ربما يكون مدمر ولكنها دوما تحاول أن تبتعد عن
هذه النقطة وهذا التشاؤم ..الدمار ما هي إال مرحلة يجب أن نقطع بها ..
فكل الحضارات القديمة بنيت وازدهرت بعد دمار وحروب طويلة ولكنها
في النهاية تركت أثر بقي ليومنا هذا ..لذلك قررت أن تتجاوز أمر الحرب
ولتجعل حديثها دوما عن جمال دمشق ..دمشق بعيون نزار قباني فقط
وعيونها هي أيضا ..فلتجعل األلمان يشتاقون لزيارتها ..فمديتنا تختلف
عن مدنهم التي ال تحمل تاريخ دمشق وسنين عمرها الطويلة ..مدننا
العربية رغم كل أوجاعها اآلن ولكنها تحمل الكثير من المفاخر بين طيات
حاراتها ..مدن تعبق بالتاريخ والجمال ..تركت لنا اإلبداع ..والحضارة
..أشياء ال تعتقد أن األوربيين قد عاشوها من قبل ...وهذا ما تراه في
عيونهم حين تتكلم عن دمشق القديمة التي تعانق دمشق الجديدة بأبنيتها
وأسواقها ..لذلك قررت أن توسع عباراتها لتشمل البالد العربية كلها ..ألم
يصدع األوربيين رؤوسنا بتقدمهم والنهضة التي حدثت في بالدهم وال
سيما األلمان الذين يحيكون األساطير عن قوتهم بعد الحرب العالمية وأنهم
أصحاب فكر وعمل ..وهي اآلن تحاربهم برصاصها الناعم ..هي ال
تنكر أنها تعيش بينهم في أمان ولكن عربيتها تنتصر على أمانها ..إن
كانت بالدكم أمنة اليوم فنحن بناة الحضارة ونحن من صنع التاريخ وربما
كنا السبب األساسي لما وصلت إليه اليوم .حكت لهم عن بغداد الجميلة
أرض الحضارات وعن فلسطين أرض الرسل أما مصر فكان حديثها طول
وهي أرض الكنوز ..الفراعنة وإنجازاتهم ..هناك حيث تعيش بين إرث
الفراعنة وأهرامهم ومعابدهم لتكون لديك متحف طبيعي من صنع البشر ..
ترى فيه اإلعجاز والجمال ..
في كل بلد من بالدنا حكاية خاصة ..لكل منها خاصة مختلفة عن غيرها
..وكلهم يجتمعون في أرضنا ..من أكاد لسومر حتى األشوريين
والمصريين القدماء ..هناك حيث كل شبر من أرضنا له حكاية خاصة
وأسرار ما زالت مدفونة ..
كانت تحول عملها من تعليمهم حرفة يدوية ولملئ فراغهم لدرس عن
التاريخ ..تاريخ خصت به العرب فقط وتحاول دائما أن تبتعد عن بالدهم
وتاريخها ..حتى متاحفهم مليئة بما خبئت أرضنا ..فمسلة حمورابي أول
من وضع الشريعة في األرض تزين متحف فرنسا ..ورأس نفرتيتي من
أكثر القطع الحجرية إتقان شامخ في ألمانيا ..وبوابة عشتار بألوانها
الجذابة التي تأسر اللب نقلت أللمانيا ..وهذا حجر الرشيد الذي اختارته
بريطانيا ليعطي هيبة ووقار لتلك البلد والعديد من أثارانا التي تشتت في
متاحف الدول األوربية تماما كما يحدث معهم اآلن ..وكأن هذه الدول لم
تكتفي بخطف ماضينا بل تحاول أن تخطف حاضرنا لتضمنا لها فتصبح
المتحكم في مستقبلنا .
شعرت بخطوات أحدهم يقترب منها ..لترفع رأسها لتتعرف عن من قطع
استراحتها ..ابتسمت تلقائيا بوجه سالم ..تلك البنت الرقيقة كبتالت
الوردة ..لطالما شعرت أن اسمها يليق بها ..فهي لم تخلق للحرب واأللم
بل للسالم والهدوء ..تمتلك طبعا هادئ خجول ..يمتاز بالرقة عكسها
فلطالما عرفت بقوتها ودفاعها عن قناعاتها بوجه من كان ..
جلست سالم قربها متسائلة :لماذا تبقين وحدك دائما ؟
ابتسمت لها كرمل وبهدوء أصبح صفتها مؤخرا :أنها فترة استراحة لذلك
أفضل االبتعاد عن الجميع ..ثم تعلمين ليس لي صديق هنا سواك
ارتفعت ابتسامة سالم لتقترب منها بمكر لتتابع كرمل حديثها :أعرف هذه
النظرة جيدا ..هيا قولي ماذا تريدين مني ؟
علت ضحكة صديقتها فها هي أصبحت تعرفها رغم أن فترة صداقتهم لم
تتجاوز العام ولكنهما أصبحتا مقربتان سريعا وال سيما أنهما تسكنان في
نفس التجمع السكني لتجيبها :لقد سمعت أن هناك ندوة ليوتيوبر في فندق
قريب من هنا ..وأريد ان أحضر وكما تعلمين أبي سيرفض إال أذا كنت
معي
اعترضت كرمل بسرعة :بالطبع أرفض ..أنت تعلمين أنني أكره هؤالء
الناس وأبغض وجودهم في المجتمع وأنت تريدين أن اذهب لحضور تجمع
لهم ..أأنت مجنونة صديقتي ؟
اعترضت سالم وهي تسألها :ال أعلم سبب رفضك لهم
قاطعتها مجيبة :أنهم يصدرون صورة خاطئة عن مجتمعنا ..وكأننا شعب
غير مثقف ..شعب السخف يسيطر عليه إضافة إلى كل ذلك هم يروجون
ألشياء مرفوضة دينيا ومجتمعيا ..لذلك أعتبر أن ظاهرة اليوتيوبر أخطر
من الحرب علينا .
أمسكت سالم يديها بترجي :أرجوك كرمل ..ثم أن هذا اليوتيوبر الذي
سأذهب من أجله ينتقد هذه العادات وهو فقط ناقد بسخرية ..لذلك اطمئني
لن يكون شخص فارغ العقل والمنطق .
صمتت لعدة ثوان وكأنها تفكر بكلمات صديقتها لتنظر لها ونظرة الرجاء
ما زالت تسكن عينيها ..لتتنهد بقلة حيلة :حسنا موافقة ..لن تكون أكثر
من ساعة بكل األحوال وبعد تضحيتي هذه سيكون الغداء على حسابك ؟
أومأت لها سالم بسعادة وكأنها اكتسبت كنز بموافقتها .
........................
ال تعلم لما هي هنا وكأنها ترافق فتاة صغيرة لحفل مدرسي ..الشيء
الوحيد الذي ال يعجبها بسالم وهو هوسها بظاهرة اليوتيوبر التي ظهرت
في السنوات األخيرة ..ال تنكر أنها شاهدت عدة مقاطع لهم معها ولكن ما
هذا ؟ شباب وبنات في سنواتهم األولى من الحياة ..تلك السنين التي
تعتبر أهم وقت لتضع أساس لشخصيتك ولكن أساسهم ماذا كان ..مجرد
مقاطع سخيفة وأحيانا غبية ..ال تنم إال عن فراغ عاطفي وفراغ نفسي
وحسي يعيشه هؤالء الشباب ..وكأن الحرب وألمها النفسي ال يكفينا ليأتي
هؤالء ويشوهوا حياتنا بتلك المقاطع التي يطلقون عليها الترند ..مقالب
وتحديات تتذكر أنها كانت تلعبها مع أطفال الحارة في صغرها ولكنها اآلن
أصبحت محتوى مهم ويجعل الشخص من المشاهير والشخصيات العامة ..
وما أقبح المجتمع التي تحكمه شخصيات عامة ال تمتاز إال بالغباء
والضحك على الذقون ..
تنهدت بنفاذ صبر وهي تراقب صالة الفندق التي تم حجزه من قبل هؤالء
الشباب تحت شعار دعونا نجتمع في المهجر ..ضحكت باستخفاف وهي
تراقب كل هذه الفخامة والمبالغة بكل شيء ..لتردد جملة والدتها في عقلها
..كنا نعيب البذخ ونعتبره حرام لنذكر أنفسنا وأطفالنا ال تبالغوا هناك
أطفال تموت من الجوع ..هناك أناس تتمنى اللقمة التي تتكبرون عليها
ولكن اآلن أصبحت هذه المبالغة هي سمة المجتمع والبذخ هو صفة الناس
الطبيعية .
شعرت بيد سالم تشدها لتمشي معها تجلس قربها في المكان الذي حجزته
سالم منذ قليل ..لتبدأ فعاليتهم بدخول عدد من الشباب والفتيات ..وجوه
بعضهم مألوفة والبعض األخر لم تتعرف عليهم ..راقبت سالم التي كانت
تستمع لكالم أحد الشبان عن أهمية الشبكة العنكبوتية ووسائل التواصل
التي اصبحت هي لغة العصر ..هي ال تنكر ما قاله ولكن هذا ال يعجبها
حقيقة ..كيف لنا ان نبرر استخدامنا الخاطئ بأنه لغة العصر ووسيلة
للتسلية وملئ الفراغ .نقلت بصرها للفتاة التي يبدو أنها من ستتحدث قريبا
ليشدها لباسها وشكلها وال سيما شعرها المبعثر بفوضوية وبنطالها الممزق
بمبالغة حتى أنها تضع حلقة في أنفها ..اقتربت قليال من سالم تسألها
بهمس :من هذه الفتاة ؟
الحظت امتعاض صديقتها وهي تنظر مكان ما أشارت لها كرمل لتجيبها :
هذه ندى وهي أيضا لديها قناة على اليوتيوب ولكن شهرتها أتت من خلعها
للحجاب ..فقط قررت التخلي عنه بمقطع قامت بتحميله على حسابها
ليصبح عدد المشاهدات لديها بالماليين ويحدث ضجة كبيرة بين مؤيد
ومعارض ..أنا ال أطيقها أفكارها غريبة واألغرب هو عدد المتأثرين بها
فهم يزيدون ال ينقصون
زمت شفتيها بتفهم وهي تتأمل الفتاة التي مشت أمام الشاب الذي كان
يتحدث منذ قليل بدالل ال يتناسب أبدا مع شكلها لتقف خلف مكبر الصوت
وهي ترحب بالجميع لتبدأ كالمها عن الحجاب وعن مساوئه وأننا مكبلون
به ..وأنها شعرت بأنها إنسانة عندما خلعته ..وكل فتاة سورية وعربية
تطالب بحريتها ومساواتها مع الرجل يجب أن تتحرر من قطعة القماش
هذه ..فالحجاب ال شيء سوى حاجز يقف أمام أنوثتنا وحقوقنا المسلوبة
..أمر ليس له عالقة بالدين فالدين في القلب طالما قلوبنا صافية وال تؤذي
احد فهذا يكفي قطعة لباس لن تحدد قوة أيمانكم أو تقواه ..ثم أنه رمز
تخلف المرأة العربية فالمجتمع األوربي ينظر إلينا كمتخلفات وغير
منفتحات ..كل هذه وغيرها من السلبيات له لذلك علينا أن نتخذ الخطوة
الصحيحة نحو حريتنا وخالصنا من مجتمع عفن يرسخ رجعيتنا ..كانت
تتكلم وكأنها تتشاجر مع أحدهم ..اندفاعية جدا وهي بدأت تضجر من
كالمها وسمومها التي ترميها بكل بساطة ..
نظرت حولها لترى جموع الفتيات يبدون بسن المراهقة أو بداية العشرين
من عمرهم معظمهن محجبات والبعض منهن يومئ بالموافقة على
هجومها لتصل ألقسى مراحل غضبها وشيء ما داخلها يخبرها أنها يجب
أن تتكلم ..ألم تتشدق بالحرية منذ قليل لتتخذ قرارها أخيرا وهي ترفع
يدها والفتاة التي تدعى ندى تبتسم بانتصار ظنا منها أن كرمل ستكون
مؤيدة لها لتسمح لها بالكالم بكل ترحاب وهنا كانت ابتسامة كرمل قد علت
لتقول لها :أنا أسفة على المقاطعة ولكن كالمك عن الحريات شدني كثيرا
وقد علمت من صديقتي أنك كنت محجبة وخلعت حجابك أليس كذلك ؟
أومأت لها الفتاة بنعم لتسألها :أال تعرفين من أنا ؟
قاطعتها كرمل بثقة :مطلقا فأنا ال اهتم بالمحتوى الذي تقدمونه جميعا مع
احترامي للبعض منكم ولكن جئت لهنا مضطرة وبما أني هنا وسمعت
حديثك فأنا أرغب بحوار ودي معك واعتقد أنك لن تمانعي بما أنك تطالبي
بالحرية والمساواة ؟
سمحت لها الفتاة بالتحدث لتتابع كرمل كالمها :لقد قلت أن خلعك لحجابك
أمر كنت بأمس الحاجة له وأنك لم تشعري بأنك إنسانة حتى تخليت عنه ..
ولكن أريد أعرف لماذا لبسته من األصل إذن أن لم تكوني مقتنعة أنه
فرض على كل مسلمة ؟
ابتسمت الفتاة بمكر مجيبة لها :من قال أن الحجاب فرض ..دعينا نكون
واضحين الحجاب ليس له أي عالقة بالدين وهو فقط سلطة مجتمع شرقي
فرضت علينا تحت غطاء الدين .
همهمت كرمل وهي تستمع لكلماتها بتفهم لتجيبها :اعتقد أنك لم تدرسي
الفقه وأنا أيضا لم أدرسه ..واعتقد أيضا أنه ال يحق ألمثالك أن يفتي بمثل
هذا الوضع
قاطعتها ندى بسرعة :الدين في القلب وليس له عالقة بأشكالنا ولباسنا ثم
الدين بالنسبة لي معاملة ال أكثر وال أقل
ابتسمت لها كرمل بخبث لتجيبها :حسنا ..لن أناقشك بشيء أنت مقتنعة به
أو بفروضه أو حتى بأركانه ..سوف أسألك بشيء منذ بدأت الكالم وأنت
تتغني به وهو الحرية ..ألست من يدعم حرية الرأي والفكر والتعبير ؟
هزت الفتاة رأسها بثقة لتجيبها :أنا مع الحرية حتى لو كانت ال تتناسب
مع الدين ..من يرغب بترك ديانته ألنه يرى نفسه مكبل بها فهذا حق له
قاطعتها مرة أخرى :لقد اتفقنا أننا لن نخوض بالدين ..دعينا نتناقش
بالحرية ..أليس لباسي هو حريتي كما هو حريتك ..لقد قلت أنك تحررت
عندما خلعت الحجاب وأن من ترتديه متخلفة مقموعة ..أال تناقضين نفسك
بنفسك أنستي ..حسنا لك الحق بخلعه ولكن ليس لديك الحق بالهجوم على
من ترتديه فهذا حق لنا وحرية لنا كما تملكين الحق والتعبير .
صمتت الفتاة وكرمل تنتظر إجابتها ولكن صمتها لم يطل لتقول لها باندفاع
:بسبب هذه القطعة التي تضعينها على رأسك اتهمنا أننا رجعيون
وإرهابيون ..بسبب حجابك وحجاب أمثالك المجتمعات المتقدمة تنظر لنا
بنظرة تخلف وازدراء
قاطعتها مرة أخرى بصوت ثابت وحاسم :إن كان الغرب المتحضر ذو
القيم واألخالق وثقافة تقبل األخر يراني متخلفة ورجعية بسبب قطعة
القماش هذه فهنا آسفة أن أقول لك أنهم المتخلفين ولست أنا ..هم
مجتمعات تطالب بالحرية .الحرية باختيار ما أريد ..طريقة عيشي ..
ديني ..لباسي ..لذلك أنا حرة في ما أرتدي أو أخلع وهم عليهم تقبلي كما
أنا طالما أنني ال أؤذي أحد ال أن أتنازل عن شيء تربيت عليه وديني
يأمرني به ألبدو متحضرة ذات عقل بينهم .
صرخت الفتاة معترضة :أن لباسكم هذا يجعلهم يكرهوننا
اعتدلت كرمل في جلستها لتضع قدم فوق أخرى بكل ثقة مجيبة بهدوء :
أمثالك من يجعلهم يكرهوننا ..هل تعتقدين أنك حين خلعتي حجابك
وأصبحت متحررة بلباسك ودافعت عن أفكارهم ومبادئ حياتهم ضد أبناء
بلدك وأناس من نفس دينك ومجتمعك سوف يصفقون لك ..أبدا عزيزتي
أنهم يضحكون عليك ..يرون كم أنت متلونة وسخيفة ..أنهم أكثر الناس
تحررا نعم ولكنهم أكثر الناس تمسكا بنظراتهم وأرائهم ودعيني أخبرك هم
ال ينظرون لنا على أساس حجابنا فراهبات الكنائس لديهم كلهن يرتدين
الحجاب ولباس فضفاض ..نظرتهم لنا تأتي بسبب أناس أمثالك متعطشة
النتزاع قشرتها بسهولة ..تستهزئ بدينها وتشتم من يخالفها ..تقدس كل ما
يفعله الغرب دون تفكير أو حتى تكوين شخصية ورأي خاص بها .
كان جميع من في القاعة صامت وكأن ال أحد يجرأ أن يتدخل بالحرب
الدائرة بين الفتاتان وتلك المدعوة ندى أصبح وجهها محمر من الغضب
لتصرخ بها قائلة :انظر لشكلك هذا ..هل يعتبر لباسك بهذا الشكل الئق
لمجتمع كالمجتمع األلماني ..
نظرت كرمل لنفسها لثوان ثم للفتاة الغاضبة أمامها لتجيبها :أنا حرة
أرتدي ما أريد وإن كان األمر كهذا فأنا أعتقد أن لباسك عبارة عن كارثة
بشرية حقيقة مع شعرك الذي يبدو انه تعرض لصعقة كهربائية ..لذلك
عزيزتي تعلمي أن تتقبلي الناس كما هم ..وطريقة لباس أحدهم ليس لها
عالقة بعقل هذا الشخص ..
صرخت بها الفتاة :اخرج قبل أن أطلب من األمن طردك أو أن أصل
لمرحلة رفع دعوة ضدك فأنت ال تعلمين ان هناك العديد من المنظمات
النسوية تدعمني وال يحق ألحد مهاجمتي
ابتسمت لها كرمل بشماتة لتقف متجهة نحو الباب وسالم ترافقها تحاول
كتم ضحكاتها لكن كرمل وقفت عند باب الصالة لتقول بصوت مسموع
للجميع :ال تدعي الحرية قبل أن تفهمي معناها
لتسمع ضحك ات الجميع تتردد من خلفها وهي تتابع سيرها بعيدا عن باب
الصالة نحو ردهة الفندق لتتعالى ضحكات سالم من خلفها :نصر محقق
التفت لها بغضب :لتوقفي تفكيرك بمثل هؤالء الناس ..أنهم كالقطيع حقا
همهم في الحياة التغني بحياة األوربيين وحريتهم ولكنهم في الحقيقة ال
يملكون واحد بالمئة من أفكار هؤالء الناس ..ويتشدقون بالقول لماذا نحن
دول عالم ثالث وهم السبب االساسي بكوننا مجتمع ثالث وأحيانا عاشر .
ما كادت أن تنهي جملتها لتسمع تصفيق يعلو من خلفها لتنظر لمصدر
الصوت والسيد يوسف يقف مبتسما وهو يتأملها قائال :لقد كنت منبهرا من
كلماتك للفتاة بالداخل
عضت شفتها بحرج لتخفض نظراتها ويوسف يقترب منهما :من الجيد
مقابلتكما مرة أخرى
ابتسمت له سالم وكرمل التي أجابته :فرصة سعيدة لنا أيضا ..لم كن
أعلم أنك تهتم بمثل هذه الندوات
ارتفعت ضحكة يوسف مجيبا :أنا صاحب الفندق وبالصدقة كنت قريب
من الصالة وسمعت نقاشك معها في الواقع أنا أرى هذه الفئة من الناس هم
الشباب المغتر بنفسه وأنه يقوم بإنجاز مهم لحياته والناس وكنت أعتقد أنني
الوحيد الذي يملك هذه الفكرة عنهم لكن ها أنا أجد من يناصرني .
أومأت له بموافقة ليتابع :بما أنكما في فندقي هل يمكنني دعوتكما لفنجان
قهوة في المقهى هنا ؟
حاولت أن تعترض ليقاطعها قبل أن تتكلم :ونتابع حديثنا عن السيف فأنا
لم أتلقى منك أي رد
عضت خدها من الداخل وعينيها تلتقي بعيني سالم التي أومأت لها
بالموافقة لتوافق على طلبه تتجهان معه نحو المقهى .
سألها بعد أن قدم النادل لها ولصديقتها القهوة :لماذا لم تثبت لها ان
الحجاب فرض إسالمي ؟
ابتسمت له كرمل لتسأله بثقة :برأيك لو أنها تهتم بتعاليم الدين وفروضه
هل كانت ستخلعه من األساس ؟
تنهدت قائلة :أكثر شيء يوجع القلب هو أن تجادل المسلم في دينه وتحاول
أن تقنعه أن ما يعتنقه هو الصحيح ..في حين أنه من المفروض أن نناقش
الغير مسلمين في ديننا ونقربهم منه .
صمت يتأملها بحجابها الخمري وسترتها الشتوية التي تصل لركبتها مع
حذائها العالي الرقبة قائال :رغم أن طريقة لبسك ال تبدو أنك متشددة
ولكنك كنت تدافعين عن ارتداء الحجاب بضراوة
ابتسمت رغم أنه كان يعتقد أنها ستغضب بسبب كلماته لكنها قالت ببساطة
:هناك مبادئ ثابتة في الدين وفي العقل ..ربما ال يكون لباسي ملتزم
ولكنه في نفس الوقت ليس كاشف أو حتى ملفت لجسدي ..وربما يكون
لدي هفوات كثيرة أيضا ولكن المبدأ لدي ثابت والفرض ال يمكن اللعب به
كما أشاء ..األشخاص مثل هذه المدعوة ندى يشوهون الدين ومعتقداته وال
سيما الحجاب ..صدقني ليس لدي أي مشكلة بأي إنسانة تخلع الحجاب في
النهاية أنا لن أتحاسب عنها ولكن مشكلتي بهؤالء الذين يبررون فعلتهم
ويفسرون الدين ويضعونه تحت اسم العادة والمجتمع ..هي اآلن ولالسف
تعتبر شخصية عامة ورميها لمثل هذا السم مشكلة كبيرة ..كنت أراقب
الفتيات في الداخل معظمهن صغيرات في السن واألغلب بدا متأثر بقولها
أنه سلطة مجتمع وعادات بالية ليس لها عالقة بالدين ..منظره مقرف
علينا أن نتخلى عنه ..
قاطعها متسائال :لكنك لم تثبتي أنه شيء ديني بحت ..اثبتي لها ثقافة تقبل
األخر هل تعتقدين ان كلماتك ستترك أثر بهؤالء الفتيات ؟
أومأت له بثقة :بالطبع ..حين تخاطب عقل المراهق تخاطبه بأكثر شيء
يعتنقه ومراهقين هذه األيام ال يتأثرون بالدين في كثير من األحيان والتغني
بالحرية والفكر هو السائد ..لذلك أعالج السم بالسم نفسه ..معظمهن ال
يجرأن على خلعه بسبب أهاليهم .المجتمع الذي ما زال يتحكم بنا ..الناس
..ولكن عندما تزرع داخلهم فكرة أنه حتى ارتدائه نوع من أنواع الحرية
والناس لن تأخذ فكرك بسبب قطعة قماش ومن يدعي الحرية يجب ان
يتقبل الجميع سوف يقتنعون أنه ليس شيء مكروه النظر به أوال وبعدها
ربما يصلون لقناعة أنه فرض ال يمكن التخلي عنه وليس إجبار وعادات
وتقاليد .
رفع فنجان القهوة واالقتناع بدا واضحا عليه فمنطقها صحيح نوعا ما ..
ال يمكنك أن تناقش الملحد باإلثبات الديني فهو يحتاج إلى النقاش بالحجة
والبرهان العقلي الذي ال يؤمن بسواه وهؤالء نفس المبدأ ..ال يمكنك أن
تناقشه بشيء يعتقد أنه يكبلنا ..
الجيل الجديد الذي اصبح على احتكاك في الغرب يريد ان يقتنع بالدين
وتعاليمه وأن ديننا اإلسالمي ال ينفي الحرية بل هو الدين الذي يعزز العقل
وحرية الفكر ..هو من يحافظ على األخالق والقيم ..ومن هنا عليك ان
تناقشه بما هو متأثر به وبعدها تنتقل إلى مرحلة ترسيخ الدين فيه ..كم
الوضع أصبح كارثي ..وكأنه ال تكفينا الحروب والدماء بل وصل األمر
بهم على زعزعة الدين في النفوس ومحاولة لجعلهم يهجرونها ..
اعتذرت سالم منهما لتجيب على مكالمة أتتها ليبقى هو معها فيقول :هل
تسمحين لي بسؤال ؟
أومأت له بنعم ليسألها :لماذا تحملين اسم فلسطيني بحت وأنت شامية
األصل ؟
ارتفعت ابتساماتها والتي بالمناسبة لفتت نظره فقد كانت محملة بالثقة
والقوة لتجيبه :أنني شامية األصل من جهة أمي وأبي ولكن أبي كان مغرم
بالشاعر محمود درويش لدرجة الهوس بكل كلماته وأشعاره وعندما ولدت
أراد أن يطلق علي اسم ريتا تيمنا باسم حبيبته ولكن امي اعترضت بشدة
وهي تقول له لن تسمي ابنتي على اسم امرأة صهيونية وهكذا نشب
خالف بينهما لينهيه والدي باسم كرمل وقد كان اسم المجلة التي أسسها
محمود درويش وعندما كادت أمي أن تعترض اخبرها أن معناه هو جنة
هللا فأعجبها وهكذا تم األمر
تأملها بابتسامة هادئة ليهمس بصوت وصل مسامعها :كرمل شامة الحسن
الفلسطيني
لم ترد عليه لتلتزم الصمت لثواني ثم تعيد كسره قائلة :بالنسبة لموضوع
السيف لقد سألت أمي عن األمر واخبرتني أن معظم العائالت ما زالت في
دمشق ومن الصعب الوصول إليها تحت ظروف الحرب وإيضا ليس هناك
أمل لبيع مثل هكذا أرث ولكن هناك عائلتين قد هاجروا ربما يكون
التواص معهم أسهل ويمكنك المحاولة معهم وهي ال تعرف أين هم لكنها
أخبرتني باالسماء فقط ..عائلة الشامي وعائلة مارديني ..
قاطعها متسائال :وكيف سأصل لهما مع تشتت الشعب السوري الكبير هذا
؟
هزت رأسها بعدم معرفة لتقول وكأن فكرة خطرت على بالها :لقد قلت
أنك تواصلت مع أحد صناع السيوف الدمشقية ..فلماذا ال تجرب سؤاله
عن هذه العوائل ربما يعرف أحدهم
أومأ لها بالموافقة على اقتراحها ليسألها مرة أخرى :هل تعرفين شيء عن
تلك السيوف أقصد قصص عنها وعن صناعتها ..فحسب ما عرفته عنك
أن لديك مخزون كبير من المعلومات عن كل ما هو دمشقي عريق ؟
صمتت لعدة دقائق وكأنها تحاول تجميع معلوماتها لتقول له أخيرا :أعلم
القليل فقط ..فالسيف الدمشقي مازال يحتفظ بسره لليوم فبعض الخبراء
قاموا ببعض األبحاث عنه واستغربوا وجود ذلك المعدن المستخدم
بصناعته في ذلك الوقت ..لقد كان معدن مختلف عما عرفه القدماء
بصناعة السيوف من الحديد أو النحاس ليأتي السيف الدمشقي بوزن خفيف
ومرونة عجيبة ..حتى أن بعضهم كان يقول يمكن طيه بسهولة ..لدرجة
أنهم اطلقوا مصطلح الدمشقة على هذا األسلوب الخاص من الصناعة ..
قاطعها متسائال :ولكن ما هذا المعدن الذي جعل السيف مرن لهذه الدرجة
؟
أجابته :ليس معدن واحد بل معدنين ..حيث يتحد معدن أسود يحوي نسبة
عالية من الكربون وأخر أبيض نسبة الكربون فيه منخفضة ..والمميز أن
هذين المعدنين يحافظان على خصائصهما لذلك يظهر السيف الدمشقي
مرن وخفيف الوزن ..حاد شديد القطع ومقاوم لالهتراء حيث أن المقاتل
ال يتعب من وزنه في المعارك عكس ما كان متعارف عليه قديما ..إضافة
لشيء مميز جدا أن السيوف الدمشقية منحنية الشكل أو مموجة
عاد يسألها :هل هناك عالمة مميزة للهذه السيوف ؟
صمتت تفكر لتجيبه :بصراحة ال أعرف ..كل معلوماتي أن أشهرها
يسمى الجوهر الدمشقي .
لم يجبها وكأنه يفكر بكلماتها لتقول بعد أن فطنت لشيء :تذكرت وأن
أشهر من صنع تلك السيف هو أسد هللا الدمشقي فقد كانت سيوفه تشبه
حراشف السمك غير أنه يملك نقش خاص يختم به سيوفه على شكل زهرة
بالجانب االيمن لنصل السيف مع جملة "عمل أسد الدين الدمشقي"
ارتفع الفضول على مالمحه وهو يحدث نفسه بصوت مسموع :هل سأجد
واحد من أعماله يا ترى ؟
ليأتي له الجواب منها فورا :ال أعتقد ألنه ال يوجد سوى سيفين بنقشه
واسمه واحد في متحف في روسيا واألخر في متحف دمشق ألنه أصبح
يستخدم ختم على شكل رأس أسد بدل من اسمه على السيوف التي يصنعها
.
ه ّم بسؤالها عن شيء لكن الصوت الذي كان موجها نحوهما جعله يتوقف
فقد كانت نفسها الفتاة التي تجادلت معها منذ قليل وهي تقول :أنت أيتها
الوقحة
رفعت كرمل نظرات عدم اكتراث نحوها لتتابع الفتاة :كيف سمحت لنفسك
بمقاطعتي منذ قليل ..أال تعرفين كم منظمة هنا تدعمني ومستعدة لطردك
من هذه األراضي كلها
أجابتها بهدوء قاتل :إذن ؟
كتم ضحكته بصعوبة وهو يراقب الفتاة تكاد تنفجر من الغيظ وكرمل ترفع
فنجانها بهدوء وكأن ال أحد أمامها وتلك تهدد :سوف تندمين على طريقتك
هذا ..سوف اجعلك زائرة دائمة في المحاكم هنا ..
قاطعت كرمل تهديداتها وهي تضع فنجانها بصرامة على الطاولة وعينيها
تركزان على الفتاة لتقول بشراسة :إن كنت تقدرين على جعلي أندم لماذا
ترمين تهديداتك هنا ..أال تعلمين أن من يتحدث كثيرا ال يملك شيئا ؟
الضعفاء فقط من يملكون الكثير من الكالم ..لذلك وبما أنك تملكين كثيرا
من الكالم والتهديدات أنصحك بعمل فيديو ونشره على قناتك وصب
غضبك فيه ..صدقيني سيجلب لك كثيرا من المشاهدات وبهذا تكسبين
نقود ومعجبين وأنا أريح رأسي من صوتك المزعج
حاولت أن تتكلم الفتاة لكن وكأن شيء أمسك لسانها أو أن الكلمات ضاعت
منها لترفع أصابعها نحوها بوعيد تغادر مسرعة المكان كله ..وضحكات
يوسف تعلو على إثرها ليعلق :لم أكن أعتقد أنك مبدعة باالستفزاز
تنهدت بقلة حيلة :ال أبدا ولكنها غير قادرة على الرد أو حتى المناقشة ..
ربما لديها الكثير من المتابعين والناس التي تدعم تحررها كما تسميه
ولكنها ال تجرؤ على المواجهة ..لذلك تصرخ وتهدد فقط .
هز رأسه بتفهم لتلتفت حولها تبحث عن سالم التي اختفت لمدة طويلة وهي
تسأل :لكن أين اختفت سالم لقد تأخرنا كثيرا .
..........................................
الفصل الثالث
ابتعدت عن الطاولة حيث كان يجلس يوسف وكرمل لتجيب على مكالمة
والدها ..فهذا طبعه القلق الدائم ..والخوف الزائد عليها منذ ما حدث معها
في سوريا وهي تشعر به يبالغ بحرصه ولكنها تتقبل هذا برحابة صدر ..
فهو أن كان يتصرف ذلك فهو تعبير عن الخوف والقلق حتى عندما أتوا
إلى هناك لم يتغير الحال معها ..بقي يتفقدها أكثر من مرة طالما هي
خارج المنزل وها هو يبدأ سلسة األسئلة المعتادة ..هل أزعجك أحدهم ..
انتبه جيدا في طريق العودة ..كوني حذرة من إشارات المرور ..ال تترك
كرمل حتى تصل إلى باب المنزل ..كانت تبتسم وهي تردد أسئلته من
دون صوت لتجيبه أخيرا :أبي أنا بخير ..وما زالنا في الفندق لقد انتهت
الندوة منذ قليل فقط ...وكرمل معي ولن تتركني حتى تضع يدي في يدك
أغلقت السماعة بعد سماعها لدعوات والدها بالحفظ والصون وبعد
أشخاص السوء عنها وعن صديقتها لتلتفت تنوي التوجه نحو المقهى ولكن
اقتراب حسام منها سمرها في مكانها ..كان يسير بثقة قاصدا إياها يرسم
على شفتيه ابتسامة واثقة تتناسب مع حضوره القوي ليقول :لم أكن أتوقع
أن أراك في فندقنا ؟
أنزلت رأسها حرجا بسبب نظراته المركزة عليها بشكل خاص لتجيبه
بصوت منخفض :كنت أنا وكرمل هنا وقابلنا السيد يوسف ليصر علينا
الحتساء القهوة معه
نظر نحوها وكأنه مستغرب من وقوفها هنا لتخبره مبررة سبب تواجدها
وهي تحرك يدها الممسكة بالهاتف :تركتهما ألنني كنت بحاجة لإلجابة
على والدي .
اومأ لها بتفهم يسألها :هل كل شيء بخير لقد سمعت عن مشكلة حصلت
لدى إحدى األناس اللذين استأجروا صالة الفندق للندوة التي قلت أنكم جئتم
لحضورها .
ضحكت بصوت مسموع لتأسره ضحكاتها وهي تجيبه :أنها كرمل كانت
تتجادل مع إحداهن ..
لترسم مالمح حزن مصطنع وهي تكمل :حتى تم طردنا
شاركها الضحكات ليفطن على مكان وقوفهما ليشير قائال :دعينا نذهب
إليهما ..
هزت رأسها موافقة لتسير بجانبه وما زال محتفظا بابتسامته التي بدأت
تجذبها منذ رأته أول مرة عند باب منزلها ..
اقترب حسام وسالم من طاولة يوسف ليالحظا وجود فتاة تصرخ بوجه
كرمل التي كانت غير مبالية فتهمس سالم قربه :إنها نفس الفتاة من الندوة
.
تابع سيره لتغادر الفتاة قبل أن يصال وكرمل تسأل عن سالم التي اقتربت
مجيبة :أنا هنا ..كنت أتحدث مع والدي وكان يعطيني التعليمات كعادته .
لم تجبها كرمل ليسأل يوسف بفضول :هل هناك أي مشكلة ؟
فتتبرع كرمل باإلجابة :ال شيء مهم أنه والد سالم حريص جدا ويظل
طوال الوقت فكره منشغال بها لذلك األنسة ال تخرج إال بمرافقة وكنت
ضحيتها اليوم .
كان دور حسام بالسؤال من بعد إلقاء التحية عليها وعلى صديقه :ضحية
ماذا ..ثم لماذا كانت تصرخ هذه الفتاة ..
التفت ليوسف ليخبره :لقد أخبرونا عن وجود مشكلة في الندوة وإحداهن
طلبت محاسبة من تسبب بدخول فتاة غير مرحب بها في الداخل .
ابتسم يوسف وهو ينقل نظراته نحو كرمل ثم سالم ثم حسام ليجيبه :هذه
هي الفتاة ..حاسبها
نظر حسام نحوها بصدمة ال يفهم ما يحدث لتجيبه سالم بنبرة ضاحكة :
لقد تشاجرت كرمل مع تلك الفتاة بسبب موضوع الحجاب فتلك تصر على
أنه شيء غير راق واألنسة هنا لم تترك األمر يمر هكذا فتم طردنا باحترام
قاطعتها صديقتها ممتعضة :ألست أنت السبب ..باهلل عليك سالم كيف
لشخص مثلك أن يتعلق بمثل هؤالء الناس ..وتضيعين وقتك على
مقاطعهم التافهة
أجابتها سالم بدفاع بريء :قلت لك أنني أكرهها ولكن صدقيني ليس جميع
اليوتيوبر أشخاص تافهين بعضهم يقدم محتوى جيد ..أنت منحازة جدا
وتنظرين بالعموم
تأملتها كرمل لتقول :حسنا هناك شخص أو أثنان جيد ولكن األغلبية مثل
تلك الفتاة ..يلعبون بعقول الناس ويفرضون فكرهم الهادم للمجتمع والدين
حتى العقل .
نظرت نحو حسام ويوسف المراقبان بصمت لتقول بإقرار :باهلل عليكم
هؤالء أصبحوا الناس المؤثرة والقيادية في مجتمعنا
قاطعها حسام قائال :في الحقيقة اللوم ال يقوم عليهم فقط ..هم مجرد
أشخاص يعرضون محتوى والفعل األساسي يعود للمتلقي ..المجتمع كله
تغير ومعاييره اختلفت ..ما كنا نبغضه أمس أصبحنا نتقبله اليوم برحابة
صدر
أكملت عنه كرمل قائلة :بالضبط وهذا أكثر ما يزعج في األمر ..خذ
مثاال سالم أنا متأكدة أنها ال تتبع أفكارهم بل أيضا تبغض الكثير منهم
لكنها تعرف الكل على األقل تتابع بعضهم ..لماذا ؟؟ لتضيع بعض الوقت
ولكنها ال تعلم أن حركتها البسيطة هذه تعتبر مساهمة في انتشارهم ..نعم
هي لن تهتم بهرائهم ولكن غيرها يهتم ويأخذ به
تأفأفت سالم باعتراض لترتفع ابتسامة حسام المتسلية بمنظرها ونظرات
يوسف التي تراقب صديقه بفضول واستغراب ليجيب عنها :صدقيني
األمر ال يهمهم كثيرا أن كانوا مؤثرين أو ال ..الموضوع كله بالنسبة لهم
مجرد ربح
قاطعته سالم متسائلة :ربح ؟
أومأ لها ليتابع :ربح باإلضافة إلى الشهرة طبعا ..الموضوع أسهل بكثير
مما نتخيل فأن تحصل على أالف الدوالرات من دون مجهود أو حتى
محصل علمي هو أمر خيالي بالنسبة للجميع ..كل ما تحتاجه هو ضغطة
زر فقط وفي ثواني تنتشر على مستوى العالم ويمكنك أن تدخل إلى بيوت
أناس لم تكن تتخيلهم في حياتك ..وبذلك حققت عدة أمور بسهولة ..دخل
ممتاز وشهرة ضاربة إضافة إال أنك قد تصل لمرحلة التأثير بالناس ..
ونحن نتلقى كل ما يفعلون ببساطة أن أعجبنا أو حتى أن كرهنا في
الحالتين نحن نتلقى ما يقدمون وهم يقبضون على كل هذا وردود فعلنا هو
اخر همهم ..أو حتى نوع ما يقدمون ليس مهم ..طالما وجوههم موجودة
في كل مكان وكل برنامج فال بأس
صمتت قليال وهي تفكر في كلماته ..نعم هي تحب التنقل بين مقاطع
هؤالء المشاهير على مواقع التواصل ولكنها لم تفكر من قبل بهذا المنظور
..األمر بالنسبة لها مجرد تسلية فقط ..مقطع تراه ثم تتجاوزه بسهولة ..
ولكن األمر يبدو أعقد مما تتخيل لتقول :بصراحة لم أفكر بهذا من قبل
كنت أخذ األمور بأبسط من هذا
قاطعها يوسف :ليس فقط أنت سالم جميعنا ينجذب لهم احيانا ..أنا من
األشخاص رغم وصول سني ألواخر الثالثين وأرى هذه األمور سخيفة
لكنها تجذبني احيانا ..انظر لها على أنها شيء ال يستحق الوجود ..لماذا
نقدم هكذا مواضيع بل لماذا تحتوى على هذا الكم الهائل من المشاهدات ..
ولكن اآلن مع كالم حسام أصبحت أفكر كم شخص مثلي ؟ فيبدو أن أكثر
من نصف تلك المشاهدات تأتيهم من أناس مثلنا ..يرفضون نهجهم ولكنه
يتابعه ليرفضه ..وفي خضم رفضنا هذا هو يتوسع ويتمدد وحسابه البنكي
يكبر ..لذلك نحن نغذيهم دون أن نشعر
تابع حسام كالم صديقه :كما نغذي األمراض الخبيثة داخلنا وال نشعر بها
..الكثير من األورام في جسد اإلنسان تكبر وتتغذى على أجسادنا ولكن ال
نعلم بها لنصدم باأللم بطريقة مفاجأة لنسعى بسرعة للتخلص من هذه
األورام حتى لو تأملنا أو خسرنا شيء من أنفسنا وهكذا هم يتغذون بنا دون
الشعور وحين يتضخمون يصبح اقتالعهم من حياتنا كاقتالع أي ورم
خبيث ..ربما يسبب ألم أو ربما يفقدنا عضو من جسدنا مقابل له ..
تنهدت كرمل :وال أعلم ماذا سنخسر مقابل استئصالهم من حياتنا .
ليصمت الجميع وكأن الجواب مخيف ..واألمر بالفعل مخيف كيف يمكننا
التخلص من هذا الجيل الذي يسوده الضياع ويعيش على عقدة الغرب ..
تلك العقدة التي يأخذون منها قشورها ويتركون جوهرها دون حتى
المساس بها ...عقدة رمت أنيابها علينا نحن ..أصبحنا محكومين بوسائل
التواصل والناس عليها ..حيث هؤالء األشخاص من يفتون بالدين
وبالعادات والصح والخطأ في حياتنا ..وهنا تكمن الطامة الكبرى ..حين
يتحكم السفيه بأسس الحياة يصبح الميزان مختل وكل المعايير تكون خاطئة
.
أخرجته سالم من تفكيرها قائلة :بمناسبة المجتمع لقد تأخرنا سيدتي
الكريمة ..
لتنظر نحو الرجلين المراقبين دون أي تعليق :أنا أشكرك سيد يوسف على
القهوة
أومأ لها مجيبا :بل أنا أشكرك بفضلك حصلت على بعض المعلومات من
األنسة كرمل .
لتبتسم له بخجل وكرمل تجيب :أنا مستعدة ألي سؤال ..بالمناسبة أنا
اعمل قريبا من هنا في مركز عالج ذوي االحتياجات الخاصة إن كنت
تحتاج ألي إجابة تجدني هناك .
لتغادرا المكان ونظراتهما تراقبان كل واحد منه عقله يبدو مشوش بشيء
..ليقر يوسف :يبدو أن جارتك أثرت بك
نظر نحوه حسام دون فهم لترتفع ابتسامة يوسف وهو يتابع :بالمناسبة أنها
مناسبة جدا لك ...هادئة وخجولة وبسيطة واعتقد هذا ما أثار إعجابك لها
تنهد حسام فها هو صديقه صاحب النظرة الثاقبة والتحليل المخيف لن
يخفى عنه شيء ليجيبه :ال أنكر أنها لفتت انتباهي ولكن هذا ال يعني شيء
.
أوقفه يوسف بصدمة متسائال :كيف ال يعني شيء ..حسام ألن تتجاوز
ذلك األمر بعد ؟
تنهد حسام بتعب فهذا الموضوع ال يريد أن يتذكره أبدا وال سيما مع
يوسف الذي يعرف كل تفصيلة من تفاصيله .
لكن يوسف لم يحترم صمته وعدم رغبته بالكالم ليتابع :أنت تقول دائما
أنك تريد تجاوز تلك الذكريات ولكن ما أراه أنك من يدفن نفسه بتلك
القوقعة وكأن الكون توقف مع تلك األيام ..يا صديقي أن الحياة تعطينا
فرص قليلة ونحن إما أن نتمسك بتلك الفرصة أو نرفضها دون وعي
وعندما تبتعد نجلس ونتحسر على ضياعها ..وها أنا أخبرك اآلن أن
ظهور سالم وهو فرصة لك
نظر له بعدم فهم مرددا :فرصة ؟
أومأ له متابعا :نعم فرصة وفرصة تستحق ان تستغلها ..ربما كنت أبالغ
قليال ولكن الفتاة تبدو معجبة بك ونظراتها كانت واضحة فعند حديث كرمل
عنها كانت تنظر لك لتعرف ردة فعلك على كالم صديقتها
قاطعه :هذا أمر عادي من البديهي أن تراقب ردة فعلنا .
صحح يوسف كالم صديقه :ردة فعلك أنت فقط ..فرغم أنني كنت جالسا
أيضا ولكنها لم تنظر لي أبدا لم تفكر أن تعرف ردة فعلي وتركيزها كان
منصب عليك فقط .
أجابه ببساطة :ربما ألنني جارهم وهناك عالقة تربطني مع والدها .
لم يجبه يوسف لدقائق وهو يراقب مالمح وجهه ..كان نفس األسى
الماضي يلمع في عينيه ..من قال أن الحب والفرح من يجعل العين تبرق
وتلمع فهو مخطأ الحزن واأللم يظهر جلي في نظراتنا ايضا ..لمعة غريبة
مميزة مختلفة عن كل المشاعر التي قد تمر في حياة اإلنسان وخاصة أن
كان ما يمر به هو نفسه الذي عاشه حسام ..هو ال يلومه على تعنته هذا
ورفضه القاطع بخوض أي عالقة في حياته ..بل رفضه أيضا زيارة
العراق ولو لمرة واحدة ..كان يعطيه كثيرا من الفرص ليعود لوطنه ولو
أليام قليلة ولكن حسام في كل مرة يبقى في بيته ويعتكف العالم كله ..حتى
وصل األمر أن يعرض عليه فكرة زيارة بغداد سويا لكنه أيضا رفضها
بصرامة وأخبره أن كان يحب القيام بأي سياحة فليفعل ذلك بنفسه ..
هي عقدة البلد ..تلك العقدة التي أصبح على يقين أنها في قلب كل مواطن
عربي وال سيما المغتربين منهم ..نعم نكبر على أمجاد بالدنا وإنجابها
ألبطال خاضوا وقاموا ببطوالت جبارة ولكن حين نحاول أن نعيش
نتصادم مع واقعنا ..أحيانا نعاقب وأحيانا نخضع والمحظوظ فينا يهرب
ويعيش خارج بالده ..ال ليس خارجها بل يحمل بالده داخله إلى بالد
أخرى ال ينتمي لها ولكنه يحاول أن يتعايش معها ..لقد فهم هذه الحقيقة
بعد تعرفه على حسام وكالمه على ما عاشه ..حتى تعاطف والده رحمه
هللا مع حسام كان نقطة فارقة بتعلقه ببلده هو أيضا ..لقد كان اجتماع
سوري فلسطيني عراقي على الحزن واأللم ..فأمه السورية كانت تحمل
وجع بالدها الذي ولألسف عاشته عن بعد ووالده الذي ذاق مرارة التغربة
مرورا بحسام الذي قرر بنفسه أن يتغرب عن بالده ألن الموت شوقا
أفضل بكثير من الموت ذال .
............................................................
"لماذا أعتقد أنك معجبة بجارك ؟"
قالتها كرمل لصديقتها التي تسير قربها وتبدو سارحة البال بشكل واضح ..
توقفت سالم عن السير وهي تتأمل رفيقتها لتجيبها :ربما ولكن هذا لن
يغير شيء
عضت كرمل شفتها بندم لفتحها هكذا حديث حساس بالنسبة لسالم لتقترب
منها قائلة :سالم وجود بعض التشوهات فينا ليس نهاية الكون
ابتسمت لها والدموع تجتمع في عينيها :بالنسبة لي ولك نعم ولكن بالنسبة
لكل هذا العالم حولنا
قاطعتها كرمل من جديد :سالم هذا العالم نحن من نصنع قوانينه ..إن
بقيت تفكرين بحكم البعض عنك لن تتقدمي وال خطوة إلى األمام .
أجابتها :موضوعنا ليس حكم الناس عني ..وال كالمهم أيضا ...ولكن
هو تعامل هؤالء الناس معي وكأنني شخص ناقص ..ال يستحق الحياة
اعترضت كرمل :كلنا نستحق الحياة .
أومأت لها صديقتها تغلق الموضوع ألنها تعلم أن كرمل لن تقتنع بكالمها
..نعم رغم حب كرمل الكبير لها وتعاطفها معها ولكن لن يشعر أحدهم
بألمك رغم ما يحمله لك من مشاعر وتعاطف ..الناس يحكمون عليك من
الخارج فقط ..أنت لست سوى أداة تخضع ألحكامهم الجيدة والسيئة منها
..
...........................................................
أغلق الباب خلفه فحاله تغير جدا بعد حديث يوسف معه اليوم حتى والد
سالم الذي كان مرحبا به كما اعتاد لم يستطع أن يتفاعل معه وعلل ذلك
أنه متعب قليال ..يوسف اليوم أمسك ألمه من منبته ..قال أفكاره بصوت
عال ..هو يحاول أن ينسى ..ال يريد أن يعود لتلك الذكريات ولكن هذه
الذكريات لم تفارقه ابدا ..نعم لقد تجاوز األمر قليال بعد أن استقر هنا في
المانيا ولكن هذا لم ينسيه تلك الليالي التي عاشها في تلك الزنزانة ..
أغمض عينيه وتلك الذكرى تعود من جديد ..الحرب على العراق ..
اجتياح الجنود األمريكان لمنبع الحضارة والعراقة ...لقد دنسوا وطنه
بأحذيتهم القذرة ..لطخوا قداسة تلك البالد بوجودهم فيها ..حتى هواء
بغداد النقي تحول ألخر مسموم ..أسود قاتم كقلوبهم ...زرعوا الفتنة
والموت في كل حي من أحياء بغداد ..استبدلوا هارون الرشيد وعدله ..
ازدهاره وعلمه ..النور الذي نبت في سماء بغداد لسنين طويلة على يده
بالظالم والحزن ..الجهل والتخلف ..باعوا الموت ألهل بلده وهم اشتروا
بسهولة وبأبخس األسعار ...هم جلبوا الموت لبالده و أهل بلده تفننوا به ..
وتركوا في عقول شباب العراق الكثير من الذكريات التي من المستحيل
أن تنسى ..الكثير من الذل والحزن الذي يحتاج لمعجزة ربانية حتى
يتجاوزوه ..وال سيما ألشخاص مثله ..في بداية االحتالل األمريكي
للعراق كان شاهد فقط ..يرى الدمار والموت ويخزنه في قلبه وعقله ..
حتى شاءت األقدار وأصبح هو إحدى الضحايا لتلك األيدي ..كان هناك
فرق كبير بين أن تكون شاهد وأن تكون ضحية ...الشاهد تغلب عليه
مشاعر الحزن بينما الضحية يغرق ما بين أمواج الحزن واأللم على نفسه
..الضحية تشعر بالقهر ألنها ضحية وفي نفس الوقت الخجل ألنها ترى
الحزن في عيون الشاهد عليها ..
وهو كان االثنين سويا في البداية شاهد ثم ارتقى للضحية ..وكأن المحتل
يخبره أننا لن نحرمك من شيء ..سوف نجعلك تعيش كل شعور غير جيد
في هذا العالم ..كان يعيش داخل هذه الدوامة لسنوات طويلة ..حتى بعد
تعرفه على يوسف رغم أن هذه المعرفة ساعدته كثيرا ..كان يوسف هو
المرسى الذي أمسكه وحماه من تلك األمواج التي بقيت تلطمه لسنوات
عديدة ..نعم ربما تجاوز أمر الكوابيس والنظرة المتشائمة للعالم ..أصبح
قادر على الضحك من قلبه ولكنه لم يتخلص من الغصة ..غصة الوطن ..
وجع البلد التي تولد وتعيش وتكبر فيها ثم تكون وذمة في روحك ال تذكرك
إال بالعذاب والصراخ ..
تنهد بتعب وهو يمسح وجهه بيديه محاوال إخراج هذه األفكار من رأسه
ليتذكرها بسماحها وبرائتها ..تبدو مختلفة تماما عن كرمل القوية صاحبة
الرأي والشخصية التي تفرض نفسها ببساطة ..سالم كانت كما اسمها ..
ناعمة هادئة تبعث في النفس شعور بالسكينة ..
اتسعت ابتسامته فهي تشبه والدها كثيرا رجل هادئ رغم أنه فقد ابنه وابنه
الثاني بقي في األردن بعيدا عنه لكنه لم يسمعه مرة يشتكي ..لم يكن يائس
من قبل ..كان كثير الحمد والشكر هلل ..مقتنعا بقدره .هو ال ينكر تعلقه
بهذه العائلة وكأنه تكمل فراغاته التي تبدو كثيرة ..وهي كانت تجذبه
بطريقة غريبة وكأنه مركز الجاذبية ..خجلها كان شيء جديد عليه ...
عينيها ذات اللون األخضر الغامق وكأنها غابات تبعث في الروح الطمأنينة
والتأمل في إبداع الخالق ..كان اسمها يليق بها جدا ..سالم وفيها الكثير
من السالم .
...............................................
سأله يوسف بخبث :هل فكرت باألمر ؟
جالت نظراته إلى صديقه والذي فهم ما يرمي له ولكنه ادعى عدم الفهم
ليجيبه بسؤال :فكرت بماذا ؟
ارتفعت ابتسامة يوسف وهو يتابع :وأي أمر مهم اآلن غير أمر سالم ؟
لم يجبه ليتابع :انظر لي حسام أن الفتاة جيدة جدا لك وأنت تعرف عائلتها
وقلت أن والدها رجل تقي ومتفهم جدا .
تنهد حسام ليقول :يوسف أنهم عائالت شامية وأنت تعلم كما معظم الناس
تعلم أن هذه العائالت ال تزوج بناتها إال من نفس مدينتهم وهم كثيرون
الحرص على تلك األمور .
قاطعه يوسف بخبث :إذن وصل األمر بك للتفكير بالزواج .
أجابه حسام :كفاك مكر يوسف ..ونعم إن وافقت على فكرتك فلن
يجمعني بها سوى عالقة علنية فأنا أعرف أهمية تلك األمور بالنسبة لهم
وإيضا أنا لن أخوض معها أي عالقة سرية وال سيما بعد معرفتي بوالدها
فأنا ببساطة لن أخون ذلك الرجل الذي يرحب بي كأنني أحد أبنائه ويدعي
لي في كل يوم يراني به ..هذا ليس من شيمي .
ابتسم يوسف لتفكير صديقه قائال :هذه هي الشهامة العراقية التي عرفناها
عنكم طوال عمرنا ..
قاطعه من جديد :األمر ال يتعلق بجنسية معينة ..األمر يعود للشخص
نفسه في كل بلد هناك الجيد والسيء فيها وأنا لن أكون ذلك السيء أبدا .
تحرك يوسف من مكانه ليربت على كتف حسام مقترحا :في رأي أن
تفاتح والدها في األمر وليكن الموضوع خطوبة ومنها تتعرف عليها وهي
تعرفك جيدا وبذلك ال تكون تسرعت وال ظلمت نفسك وفي الوقت نفسه لن
تخون أمانة معرفتك بهذا الرجل الطيب .
نظر له حسام وكأنه تائه يحتاج أي دعم مهما كان بسيط ليخبره يوسف بثقة
:ال تتردد صديقي وخذ األمور ببساطة ..ثم ال تخف تلك العادات اختلفت
مع كل هذه األهوال التي مرت في حياة السوريين وإن رفضوك رغم أنني
استبعد هذا االحتمال عندها تكون قد حاولت اغتنام الفرصة وبهذا تبتعد عن
الندم في المستقبل ..لذلك تشجع وال تفكر كثيرا .وال تنسى أن أمي سورية
وتزوجت أبي الفلسطيني فقد تكون ما تصدره لنا المسلسالت كاذب وغير
واقعي .
أومأ له حسام وهو يفكر بطريقة مناسبة يفاتح بها العم محمد بهذا األمر .
........................................
كان يفكر بأمر صديقه ويتمنى من كل قلبه أن تنجح خطوة ارتباطه بسالم
فكل ما يحتاجه حسام هو امرأة مثلها في حياته ..فشخصية حسام ال تحتاج
إال فتاة كسالم تحمل لحياته الهدوء وأقل شعور باألمان ..
رفع صوت مكبر الصوت بالسيارة وكلمات محمود درويش تجتاحه مع
صوت عود مارسيل خليفة وهو يغني لريتا ..هذه عادة مكتسبة أيضا ..
والده كان يحب هذه األغنية كثيرا برأيه أن محمود درويش بطل ليس له
مثيل فهو قد تخلى عن قلبه وعشقه من أجل الوطن فال حب يعلو فوق حب
الوطن وال كرامة تسمو فوق كرامة البلد ..ومع ذلك خطت أنامله أروع
األشعار في الحب والفراق والوطن أيضا ..ارتفعت ابتسامته وهو يتذكر
تلك الصديقة لسالم كرمل ..ذلك االسم الفلسطيني الخالص الذي يعبر عن
كل جمال بلده وحسنه ..جنة هللا على األرض كما يسميها أهلها .وكالمها
عن عشق والدها لمحمود درويش وأشعاره حتى انتهى األمر بأن يحملها
اسم من اختيار درويش نفسه ..كانت غريبة تحمل عبق الشام ورائحة
فلسطين ..دماء شامية خالصة معجونة باسم فلسطيني مميز ..
ارتفعت نظرته باستغراب وهو يراها واقفة عند إشارة المرور وفي يديها
العديد من األكياس ..هي الصدفة مرة أخرى وكأن هذه الصدف تتفنن
باختيار أوقات لتجمعه معها ..أوقف سيارته لينزل نحوها وهي غير
مدركة لوجوده لكنها انتبهت أخيرا وارتفعت ابتسامتها تدريجا حين اقترب
منها قائال :أنسة كرمل صدفة أخرى جميلة
أجابته بهزة بسيطة من رأسها ليتابع :هل تحتاجين توصيلة ؟
رفعت عينيها إليه لترفض بسرعة لكنه اعترض على رفضها بأدب قائال :
في الواقع عرضي هذا ورائه أمر مهم فإن لم يكن لديك أي حرج أنا
أرغب بالحديث معك بأمر مهم
تأملته لثوان وكأنها تناقش األمر مع عقلها بالرفض أو القبول لتجيبه أخيرا
:حسنا ال بأس بذلك .
مد يده إليها ليحمل عنها أكياسها وهو يشير لها باتجاه سيارته ..
نظر لألكياس ثم لها ليسأل :كأنني أرى أعواد خشبية عدة هل تصنعين
منها الموزاييك ؟
ابتسمت له :نعم ..يوجد هنا محل موزاييك ألشخاص شوام وهم أيضا
يملكون ورشة يصنعون بها أعمالهم ..وأنا أخذ من عندهم هذه األعواد
وحين أجمعها بالشكل الذي أريده يساعدونني بقصها أيضا .
أومأ بتفهم :كنت مستغربا المرة الماضية حين قلت أنه مجموعة من
األعواد تجمعونها في قطعة هندسية .
ابتسمت لتتابع :في الماضي كان كل هذا يصنع يدويا ولكن اآلن تقدمت
األلة وأصبح األمر أسهل ومبدأ صناعة الموزاييك يقوم على ثبات اليد
والنظرة الثاقبة بتشكيل الشكل النهائي للقطعة المراد تصنيعها ..والشكر
ألصحاب هذه الورشة لم يعترضوا على طلباتي منهم بل ساعدوني بقص
القطعة النهائية .
وصل عند سيارته ليضع أغراضها في المقعد الخلفي ثم يفتح لها باب
المقعد األمامي ليسألها من جديد بعد أن أغلق بابه :هل هذه الحرفة قديمة
جدا كقدم صناعة السيوف ؟
أومأت له :هي قديمة أيضا اعتقد أنها تعود للقرن التاسع عشر ..
وصاحب الفضل الكبير على هذه الحرفة يدعى جرجي بيطار هو من
طورها وكان المساهم األول على انتشارها .
أتذكر هذا الفن بشكل كبير فالسفارة السورية في بون كانت عبارة عن
تحفة فنية ال مثيل لها ..
ابتسمت مجيبة :نعم اتذكر صورها السفارة السورية في العاصمة األلمانية
القديمة من أعرق األبنية في هذه المدينة ..قد بنيت على الطراز األموي
وقطع الموزاييك منتشرة فيها .
تابع طريقه دون أن يعلق عليها لتكمل هي :ولكن تلك السفارة لم تكن أول
بناء أوربي يضم أعمال هذه الحرفة
نظر لها يحثها على المتابعة لتتابع :فجرجي بيطار قدم خزانة خشبية
مصنوعة من الموزاييك لبابا الفاتيكان والذي أعجب بها بشكل كبير وبدقة
صنعها حتى أنه أعطى البيطار وساما ذهبيا ليشكره على هذا العمل .
فغر فمه بصدمة ليردد :حقا ؟
أومأت وهي تكمل وقبلها صنع خمسين قطعة للسلطان عبد الحميد الثاني
بعد أن طلب منه والي دمشق أن يصنع هدية تناسب السلطان وبالفعل عبد
الحميد أعجب بعمله جدا وأعطاه وسام المجيدي الخامس وميدالية افتخار .
نظر لها يتأملها بعد أن توقف عند إشارة المرور وهي تتحدث عن تاريخ
الحرف في بالدها تبدو شغوفة جدا ..وتندمج بسرعة وكأن جل همها هو
أن تزرع عشق بالدها في قلب من تحادثه ..كانت تحمل لواء بالدها في
قلبها وعينيها التي تشع فخرا عندما تتحدث عن الماضي ..الماضي فقط
وكأننا كعرب ال يحق لنا إال أن نفتخر بماضينا .
قاطعت تأمله لها وكأن الحرج أصابها لتسأله :ولكن ما األمر الذي كنت
تريد أن تحادثني به ؟
.....................................................................
الفصل الرابع
شكر النادل على القهوة التي طلبها لهما فبعد أن سألته عن األمر المهم
طلب منها الجلوس بإحدى المقاهي وهي وافقت باستغراب واألمر يزيدها
فضول لتنظر له تحثه على الكالم والقلق بدأ يتأكلها ليقول أخيرا :حسنا
األمر له عالقة بصديقتك سالم
رفعت نظراتها نحوه بعدم فهم ليتابع :أن حسام يبدو معجبا بها ولديه النية
بالتقدم لخطبتها ولكنه يخشى الرفض
قاطعته متسائلة :ولماذا يخشاه ؟
شرب من كأس الماء أمامه مجيبا :كلنا نعرف أهمية الزواج لدى العائالت
الشامية وكيف أنهم يكونون متمهلون جدا بهذا األمر وخاصة أن هناك أمر
معروف عنهم أنهم ال يتزوجون إال من عائالت شامية عريقة مثلهم ..
بينما حسام كما تعرفين عراقي وهذا سبب توقعه للرفض .
ارتفعت ابتسامتها :إن كان األمر هكذا أخبره أن ال يقلق ..الناس قد
تجاوزت هذا األمر في السنوات األخيرة وال سيما بعد العدد الكبير لالجئين
وتشتت السوريين على خارطة العالم أصبح األمر أبسط من قبل وال سيما
لدى العم محمد فهو يرى أن الشخص بنفسه وليس بعائلته وأصله وفصله
..فكل إنسان يكون ذاته واحترامه بين الناس ودائما يردد إذا دين هللا يقول
ال فرق بين عربي وأعجمي إال بالتقوى فمن أنا حتى أتجاوز شريعة هللا
بهذا ابن فالن وذلك من تلك العائلة متناسيا شخصه وصفاته
ابتسم براحة :كالمه يستحق أن ترفع له القبعة .
أومأت قائلة :رغم أن كلماتها ما هي إال شريعتنا التي يجب أن نقتدي بها
ولكن في هذا الزمن أصبح من يتبع الطريق السليم وتعاليم ديننا حالة نادرة
تدعو إلى االستغراب
أجابها :أعتقد أن األمر يعود بسبب الفهم الخاطئ للدين وانتشار العادة
التي لألسف الشديد غطت على الدين بل تجاوزته إيضا .
نظرت له لعدة ثوان لتسأله :هل يمكن أن أسألك سؤال ؟
أومأ لها يحثها على األمر لتقول :كيف لك أن تتحدث العربي بطالقة رغم
أنني فهمت أنك مولود هنا وتحمل الجنسية األلمانية أيضا
ابتسم وهو يرتشف قهوته :يعود الفضل ألمي ..فهي كانت مصرة أن
تتحدث معي بالعربية دائما وحين أجيبها باأللمانية أو أسألها تتصرف
وكأنها لم تسمع ..وهكذا كبرت وأنا أتحدث األلمانية في المدرسة والبيت
العربية ما بين اللهجة السورية من أمي والفلسطينية من أبي
أكلمت تسأله :وسبب اهتمامك بالسيوف الدمشقية .؟
هذه المرة اعتدل في جلسته ليجيبها :لقد كبرت على حديث أبي عن أمجاد
صالح الدين وفتحه لبيت المقدس وانتصاراته التي أعادت القدس ألحضان
العرب حيث تنتمي حقا ..كان دائما مصر على أننا البالد العربية واحدة
مهما تقسمنا وكل هذه التقسيمات غريبة عننا ..
نظر إلى الطريق عبر الحائط الزجاجي بالمقهى وكأنه يحاول أن يتذكر
وهي تراقبه ليكمل :كان يقول هذا صالح الدين األيوبي بطل على مر
العصور كان عراقي األصل وكبر وتربى في ربوع الشام ليحرر األقصى
بسيفه الشامي األصيل ..أال يعبر هذا عن وحدتنا مهما حاولوا أن يقسموننا
..وذلك سليمان الحلبي ابن حلب الذي اغتال قائد الحملة الفرنسية على
مصر ..كبر وتربى في سوريا لينتصر ألهله وأشقائه في مصر ..وأيضا
البطل عز الدين القسام كان سوري األصل ولكنه قتل على يد البريطانيين
في األراضي الفلسطينية ..حتى القارئ عبد الباسط عبد الصمد صاحب
الجنسية المصرية نفتخر به كونه قارئ عربي وأغلب الناس ال تعرف
جنسيته ..كان صوته يجمعنا ويدفع في نفوسنا الخشوع لكلمات هللا التي
تخرج من شفتيه ..نعم نحن شعوب واحدة إن تركونا لوحدنا دون أن
يزرعوا فينا العنصرية والبغضة لبعضنا البعض
قاطعته :معك حق إن عدنا للتاريخ سنجد أننا كنا ننصر بعضنا ونقف إلى
جانب بعضنا في الوجع والحزن وحتى الفرح ولكن كل شيء تغير اآلن .
أومأ لها ليتابع حديثه :وهذا سبب تمسكي لكل ما هو قديم وعربي . .كنت
أرى أوطاننا بعيون أبي فقط ومن بين كلماته ..حتى أنه كان يغازل أمي
قائال أن سيوفكم حررت بلدنا مرة فأنا مدين لك بالعشق ألف مرة
ابتسمت لكلماته لتقول :لذلك أعطاك اسم يوسف ؟
هز رأسه باإليجاب :نعم كان يعشق صالح الدين األيوبي لذلك أعطاني
اسمه ..وبما أنني كبرت على حبه له وتعلقه بالسيوف الدمشقية قررت أن
اقتني واحد منهم ليكون بمثابة ذكرى لشيء كان له مساحة كبيرة في قلب
أبي .
ابتسمت له بطريقة غريبة :ستجده بإذن هللا ..اليوم سوف أسأل لك
شخص ربما سوف يساعدنا في األمر
قاطعها بلهفة :حقا
أومأت له لتنظر إلى ساعتها :وبالنسبة للسيد حسام أخبره أال يقلق وليتقدم
للعم محمد وإن تم األمر سيكون أكثر من سعيد مع سالم فهي فتاة ال
تعوض حقا .
تأملها وهو يخاطب نفسه :وأنت أيضا فتاة ال تعوضي .
لتقاطع تفكيره :واآلن سوف استأذن منك لقد تأخرت حقا ..
ودعها وهو يراقبها تبتعد عن المقهى تحمل أغراضها وشيء ما يشعره أنه
بحاجة ليلتقي بها مرة أخرى ..هناك شيء فيها يجذبه نحوها ..كانت
مميزة جدا كالشام والقدس وبغداد تماما ..
كانت تجمع جمال الشام وعراقة بغداد وسحر القدس ..وما أجمل أن تجد
هؤالء المدن في امرأة واحدة .
رفع سماعة الهاتف يطلب رقم صديقه الذي أجابه بسرعة ليقول له يوسف
:ال يوجد أي مشكلة لدى والد سالم فهو ال يعترض على جنسية أحد ويرى
أن هذه األمور مخالفة للدين .
قاطعه حسام :من أين عرفت هذه المعلومة ؟
ابتسم له مجيبا :رأيت كرمل اليوم صدفة وسألتها
همهم :صدفة ؟
كاد أن يجيبه يوسف لكن حسام أكمل :لماذا أشعر أنك متحمس لفكرة
ارتباطي بها أكثر مني شخصيا ؟
علت ضحكته قائال :ألنك تستحق الحياة يا صديقي .
........................................................................
كما هي العادة دوما قابل والدها في المسجد فهو لم يغب وال يوم عن أداء
فريضته هنا ..ابتسم له العم محمد وهو يسأله عن حاله فقد كان يبدو متعبا
قبل يومين .
رد عليه حسام بخجل نافيا ذلك وعقله يحاول أن يجلب الكلمات المناسبة
ليفاتحه بالموضوع لينهي العم محمد حيرته قائال :أشعر أن هناك كالم في
قلبك .
أومأ له بتوتر ليتابع العم :قله يا بني فأن تحبس الكالم داخلك يسبب تعب
نفسي لك واأللم النفسي يترجم على أجسادنا فتخور قوتنا ونفقد الشغف في
الحياة .
تنفس حسام بقوة وكأنه يجمع الهواء من حوله ليقف أمام الحديقة التي يطل
عليها المجمع السكني الذي يجمعهم :تعال نجلس هناك عماه .
أومأ له الرجل ليسير معه وما أن جلسا حتى قال حسام :لقد تربيت أن
الفتاة جوهرة نادرة يخبأها والدها بين أحضانه حتى تكبر وتصبح المعة
كما الماس ليهديها لرجل يحلم طوال عمره أن يحافظ على تحفته وهديته
في هذه الدنيا ..لقد كبرت وفكرة أن البنت يجب الحفاظ عليها وعدم مسها
بسوء فهي غالية لدى والدها وأنا في يوم من األيام سأكون أب البنة
سأرفض مسها بجرح وردة ..وألن أبي وأمي زرعوا هذا المبدأ في
حياتي وليس من شيمي أن أكسر أمانة رجل وثق فيني واعتبرني بيوم من
االيام كابن له ويدعو لي في كل مناسبة قررت أن أدخل البيت من أوسع
أبوابه وأطلب يد ابنتك سالم ..أنا أعلم أنك ستقول أنني ال أعرفها ربما
وهذا صحيح ولهذا أطلب التقدم بخطبتها وبهذا نتعرف على بعضنا بطريقة
سليمة فال أكون خنت أمانتك وال مسستها بسوء وال أخرج عن العرف
الذي تربيت وكبرت عليه .
قاطعه العم محمد مبتسما :بعد كل هذه المقدمة أنت ال تترك لي مجال بأي
رفض أبدا
هدأ حسام قليال بعد ابتسامة العم المريحة و مشاكسته له ليتابع :أنا أبلغ من
العمر سبع وثالثين عام بغدادي األصل من عشيرة العبيدي يمكنك أن
تسأل أي شخص عن عشيرتي ..مقيم هنا منذ خمسة عشر عام وأعمل مع
صديق فلسطيني يملك فندق ضخم وكما تعلم أملك بيت وسيارة ..
قاطعه العم بيده ليوقف كالمه :ال تكمل يا ولدي فأخر همي هو ما تملك
ماديا ..لقد قلتها منذ قليل أن األب يبحث البنته عن رجل يحميها ..يكون
ظل وحماية لها ال يظلمها وال يؤذيها ..
وكالمك ومعرفتي بك كفيلة لتثبت لي أنك نعم الرجل ولكن هناك أمر
صغير يجب أن تعرفه وواجبي أن أخبرك به .وبعد كالمي هذا لك كامل
الحق أن تبقى على طلبك أو تنسحب وصدقني أن انسحبت أنا لن أغضب
منك أو أحمل بقلبي أي شيء ضدك بل سأتفهمك وستبقى كابن لي .
نظر له حسام والرعب دب في قلبه من كلمات العم ليحثه على الحديث
الذي قد يغير رأيه وينسحب كما وصفها العم .
............................................................................
" أنا أخبرك أن حسام طلب يدي من والدي وأنت تضحكين ؟ "
نظرت لها كرمل بمكر وهي تتأمل توترها وخوفها الذي يبدو واضحا على
تحركاتها وطريقة حديثها لتقول :وما المشكلة في طلبه هذا سالم ؟
توقفت سالم عن الحركة العشوائية التي كانت تفتعلها :المشكلة أنني ال
أريد الزواج فقط هكذا
وقفت مقابل لها كرمل :ولماذا ترفضين الزواج أن حسام شخص مناسب
جدا وأنت معجبة به أيضا .
قاطعتها سالم بغضب :من قال أني معجبة ؟
ابتسمت صديقتها بخبث :هذا أمر واضح صديقتي وإن كان بسبب وضعك
ال أعتقد أنه شخص مثله يملك أفكار رجعية مثل تلك ثم أعود وأقول أن
حالتك لها عالج ..نعم ربما كان مكلف قليال ولكنها ليس ميئوس منها لذلك
ال تدفني نفسك في الحياة من أجل أوهام أنت من تصنعيها بنفسك .
قاطعتها سالم مرة أخرى قائلة بتصميم :ال أنا أرفض ..ال أريد هذه
العالقة ..ال أريد رجل يشفق علي أو يقبل بي ألنه على معرفة بأبي
أوقفتها كرمل عن الكالم :أنت مجنونة سالم ..ال يوجد شخص في هذه
الحياة يتزوج شفقة .
لم ترد عليها لدقائق وهي تفكر لتقول أخيرا :أال تملكين رقم صديقه
يوسف ؟
أومأت لها بنعم لتتابع :اتصلي به واخبريه أنني أريد أن أقابل حسام
وحدي ألمر مهم .
حاولت كرمل الرفض ولكنها لم تنجح فيبدو أن صديقتها مصرة على
موقفها ورفضها االرتباط مهما حاولت أن تقنعها لذلك وافقت على طلبها
لتتصل بيوسف الذي أخبر حسام عن موعد اللقاء الذي وافق بسرعة على
طلبها .
جلست أمامه والتوتر يتملكها ..ال تعلم ماذا حدث لها لقد كانت واثقة منذ
قليل حين طلبت لقاء معه ولكن ما أن دخل من باب المقهى حتى ثقتها
خارت وبدأت تتراجع ..هناك شيء داخلها يخبرها أن تعدل عن فكرتها ..
ربما هيمنة وجوده أو ابتسامته الواثقة أو نظراته التي ما عادت تخفي
إعجابه بها ..
ابتلعت ريقها وحسام يقول بلكنة مميزة فيها قليل من اللهجة العراقية
والبعض من السورية وكأنه يحاول أن يجد لكنة تفهمها وتجمعه بها ولسوء
حظها وقعت في حبها :لقد طلبت رؤيتي
أومأت له بخجل لثوان أخرى وهي تتنفس لتغمض عينها وقد استجمعت
قوتها قائلة :لقد أخبرني أبي بطلبك سيد حسام وأعطاني الوقت ألفكر .
قاطعها :وأنت فكرتي ؟
عضت شفتها :نعم فكرت وأنا غير موافقة .
نظر لها وكأنه يتوقع جوابها وهذا ما صدمها جدا ..كان هادئا غير ما
توقعت ..لم تتحرك عضلة في وجهه حتى نظراته لم تتغير ليقول :لي
الحق بمعرفة سبب الرفض .
تنفست بعمق :ال ليس لك أي حق .
ارتفعت ابتسامته ليبعد فنجان قهوته ويشبك أصابعه أمامها على الطاولة
قائال :عندما دخلت القوات األمريكية إلى العراق كنت في التاسعة عشر
من عمري ..كنت شابا طموحا لم يتبقى لي سوى أشهر وأتخرج من
معهدي وأبدأ حياتي المهنية كما كنت اتوقع ولكن كالعادة المحتل له كالم
أخر ..
فاالحتالل ال يسرق وطنك فقط بل كل سبيل للحياة منك ..المحتل يكره
الحياة والحب والسعادة ..يأتي ليزرع فيك الذل والقهر يحطم شموخك
وهذا ما حدث معنا ومعي أنا بالذات ..لم أمسك ورقة تخرجي وأبدا عملي
باألرقام التي كنت أحبها فاخترت دراسة المحاسبة ..بل فجأة أصبحت
مجرد رقم .
رفعت نظراتها نحوه ال تفهم ليفسر لها :المعتقل في بالدنا ما هو إال مجرد
رقم ..ال يحق له إي شيء فالرقم جماد وكذلك كنا نحن بالنسبة لهم .
وأكثر ما يتعطشون له هو مسح كياننا وهويتنا لذلك نصبح أرقام .
عضت على شفتيها تحاول منع شهقتها يكمل بشرود :أبو غريب ..ذلك
المكان الذي أصبح صفة لأللم والوجع ..هل تعرفين سالم ما هو أبشع
شيء في الحياة أن تتحول اسم مدينة في بالدك لرمز للموت والقهر ..
والمضحك في األمر أن تحمل بلدي اسم محافظة صالح الدين التي تحمل
اسم بطل لم يسبق لها مثيل على مر التاريخ وتحمل أيضا اسم مدينة أبو
غريب التي كانت بالنسبة لنا العراقيين كابوس ..هناك حيث كنا نرى
الموت أمامنا ..لم أكن أتخيل في حياتي كلها أن الموت ممكن أن يرى
وأنت حية حتى دخلت المعتقل ..اسم أبو غريب لليوم يترك في قلبي
الرعب والخوف ..دخلت ذلك المعتقل ومعي أالف العراقيين ..أطفال
وشباب وشيوخ ..تعرضت لكل نوع من أنواع التعذيب التي قد يتخيلها
عقلك ..صرخات الشباب ما زالت في أذني لليوم ..صوت كابالت
الكهرباء يترك في قلبي الرعب ..بقيد أشهر عاري ليس علي سوى بطانية
وعيني معظم الوقت مغمضة ..هل تعلمين مدى قساوة الفكرة أن تنبهي
حواسك للحركة والصوت والرائحة لتعرفي ما يحدث ..حافي وعاري
ألشهر ..عداك عن الضرب والتعذيب والذل ..
نظر لها بأسى يسألها :ولكن هل تعلمين ما هو أكثر شيء مؤلم مررت به
؟
نظرت له دون كالم وجسدها ينتفض من هول ما يقول ليجيبها :أن
أتعرض للتعذيب من قبل امرأة .
فتحت عينيها دون وعي وهو يكمل :مجندة أمريكية ال يصل طولها
لنصفي ك نت اسمع شتائمها دائما ..كانت تتفنن بالتعذيب فينا ..أنثى تذل
رجولتي ..أنت تعلمين أن العراق كلها عشائر وفي عرفنا النساء
مصانات يجب حمايتهن هن الطرف األضعف ..هن القوارير ..ولكن
هناك لم تكن األضعف بل كانت األكثر ظلما وجبروتا ..فرعون على
هيئة أنثى ..بصراحة ال أعلم كيف يمكن لشخص مثال أن يحمل صفة
األنوثة اصال ..ألكون دقيقا أكثر ال أعرف كيف لهؤالء الناس أن يكونا
بشر مثلنا ..كنت أفكر دوما كيف يمكن إلنسان أن يفكر ويتصرف مثلهم
ال هم جردوا من إنسانيتهم ..هم وحوش على هيئة بشر فقط وهي كانت
جبارة ظالمة حاقدة ..تضحك على صرخاتنا ..تجد أالف الطرق لتذلنا
..وكنت أحد ضحاياها ..
صمت وكأنه يحاول أن يجد الكلمات المناسبة ليقولها أمامها ليزفر بقوة
متابع :كان أصعب شيء تعرضت له هو اإليهام بالغرق .
سألته أخيرا بصوت مشوش :إيهام بالغرق ؟
أومأ لها متابع :أنها طريقة تعذيب مبتكرة ..نكون مربوطين األيدي
واألرجل وعينيا مغطاة بقطعة قماش ليضعوننا في حوض استحمام مليء
بالماء وصوت المياه يكون قريب من إذنك ثم يبدء بالتقطع ..لتشعر وكأنك
تغرق ..كل شيء يصبح لونه أسود صوت الماء الذي كان عال منذ
لحظات أصبح متقطع وبطيء عندها تقول أن النهاية اقتربت ولكن المفاجأة
ال لم يكن سوى وهم ..وهم أنك غرقت ..كانت أصعب األشياء التي
مررت بها طوال حياتي ..هذا عدا الصلب والصعق بالكهرباء ..ولكن
هذا كله لم يترك في روحي أثر بقدر أصوات األطفال التي كنت أسمعها
يوميا ..صوت صراخهم وإذاللهم الجسدي والجنسي ..تعذيبهم وكسر
اإلرادة فيهم ..محاولة قتل كل نبتة حياة قد توجد داخلنا .
سألته مقاطعة :وكيف خرجت ؟
ارتفعت ابتسامته مجيبا :بعد ان سرب الصحفي األمريكي صور التعذيب
التي حدثت في السجن وتسبب األمر بضجة كبيرة تم اإلفراج عن عدد من
المعتقلين وكنت أنا من بينهم .
سألت مرة أخرى :ولماذا تم اعتقالك ؟
هذه المرة ضحك بصوت عال ولكنها لم تكن ضحكة بالنسبة لها كانت
صرخة ألم ..صوت الوجع الذي في داخله ليجيبها :في العراق لم تكن
بحاجة لسبب لتكون معتقل .
هنا كان الصمت سيد الموقف ..نعم ليس في العراق فقط بل في الوطن
العربي ..منذ متى ونحن بحاجة لسبب منطقي لتكون معتقل في بالد
العرب ..لكنهم اخترعوا مصطلح مناسب لهؤالء معتقل رأي ..فحتى
الرأي في بالدنا تعتقل عليه ..وربما تموت تحت أيديهم فقط ألجل الرأي
وكأن الفكر والعقل هو ما يخافه هؤالء الناس .
قاطع أفكارها قائال :جسدي يحوي على عالمات كثيرة إلطفاء سجائرهم
عليه ..وهذا كان فعل اعتيادي لهم هناك ..أنا أخشى صوت الكالب جدا
بل أحيانا أخاف كطفل صغير من نباح الكالب وهذا أيضا بسبب المعتقل
فقد كانت هذه أيضا أحدى أنواع تعذيبهم ..حتى أنني تلقيت عضة في
قدمي من كلب هناك ..
سألته بفضول :لم أفهم ؟
أجابها :يتم وضعنا في غرفة مربوطين األيدي جاثين على األرض مع
قماشة على عيوننا ويتركون بعض الكالب الشرسة تستمع فينا كوجبة لهم
.
وضعت يدها على فمها تنطق بذهول :يا ألهي .
ليتنهد من جديد وهذه المرة نظراته تحاوط نظراتها :أنا أيضا فيني
تشوهات سالم ..ربما تشوهات روحي أكبر من جسدي ولكنني لست خال
منها ..قلت لك هناك عالمات في أنحاء جسدي وصدقيني أنا أكرها أكثر
من أي شيء فهي عالمات على القهر والذل ..ولكن هذا لم يمنعني من
المخاطرة وطلب يدك ..وبالنسبة للتشوه في جسدك هو ليس شيء يدعو
للخجل والرفض بالعكس تماما ما هو إال دليل على دناءة تجار الحرب
وأعداء اإلنسانية ..
قاطعته تسأل :أنت تعرف ؟
هز رأسه بهدوء يكمل :عندما تحدثت مع والدك في األمر أخبرني وقال
لي أنني أملك الحق في الرفض أو متابعة هذا األمر
أخبرته بتشوش وكأنها تثبت كالم والدها :لك الحق في الرفض طبعا
ابتسم وهو يتأمل مالمح وجهها فالصدمة ما زالت تسيطر على نظراتها
وبعض من الخجل زحف إلى وجنتيها :ولماذا أرفض ؟ هذا شيء ال ينقص
منك شيء بالعكس تماما ..لن أتراجع عن طلبي من أجل شيء سطحي
كهذا
تنهدت قائلة :أنني أتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله ...كنت مع أخي األكبر
في السوق يومها أخبره عن فكرتي الجديدة في الحياكة ..ولألسف ألننا
نعيش في أطراف دمشق كنا معرضون للقصف في أي لحظة ولسوء
حظي كانت هذه اللحظة من نصيبنا ..فجاة ومن دون سابق انذار بدأ
القصف بطريقة همجية ..كان أخي أحمد ممسكا بيدي بقوة يشدني أين ما
مشى والخوف بادي على نظراته ..كان يخبرني أال أخاف ما هي إال
نصف ساعة ويتوقف القصف ويعود كل شيء كما هو ..ال أنسى ابدا تلك
اللحظة وهو يقول لي اقرأي ما تحفظي من القرآن حتى ال تشعري
بالخوف ..حتى سقطت قذيفة قربنا وكانت صرخاتي عالية لكن هذه القذيفة
لم تصبنا حتى ابتسم أخي بعد أن زال الغبار :يا مدللة ال تخاف بعد أن
سقطت القذيفة هنا سوف يختارون مكان أخر للقصف نحن أصبحنا في
أمان اآلن ..
وما كاد أن يكمل جملته حتى كانت القذيفة الثانية فوقنا ..وكل ما فعله هو
ركلي حتى ابتعد ويكون هو الهدف ..لم أشعر بنفس حينها كنت أراقب
جسده الذي تحول إال أشالء ..لم أشعر بالشظايا التي اخترقت جسدي
ونزفت بسببها ...كل همي كان وجه أخي الذي مات مبتسما ..كان ممدا
أمامي والدماء حوله ..فقدت أخي منذ لحظات ..خسرت سندي في هذه
الحياة ..الذهول سيطر علي حتى انتهى القصف بعد ساعة ..
نظرت له والدموع في عينها ..بقيت ساعة كاملة أنزف دون شعور مني
..بقيت ساعة كاملة وأخي ميت أمامي ال أعرف ماذا أفعل سوى البكاء ..
حتى أتى بعض شبان الحي وقاموا بإسعافي وإبالغ أبي بموت أخي ..مات
أخي وبقيت أنا ..بالطبع مع حالة البالد وحالة أهلي لم أفطن على الشظايا
التي سببت عالمات واضحة في جسدي وتشوهات واضحة حتى قرر أبي
السفر لألردن وبعد أن غادرنا فطنت لنفسي أنا أصبحت مشوهة ..وكأن
الموت والقصف ال يكفينا لتأتي ألسنة الناس وتجلدنا ..ال يفقهون أنك من
بلد الموت هو عنوانها وفي كل بيت هناك وجع وأسى بل يحاسبوك على
شيء خارج إرادتك ..لذلك تعرضت لكثير من التعليقات ونظرات الشفقة
واالشمئزاز من بعضهم ..وتعايشت مع الوضع .
سألها وكأنه إقرار أكثر من سؤال :وهذا سبب خوف والدك الزائد عليك؟
أومأت له :نعم ..هو يشعر بالخطر في كل مرة يراني خارجة فيها من
البيت فهذه القذيفة لم تصبني أنا فقط ..تركت أثر على كل فرد من عائلتي
وأكثرنا تأثرا كان أبي
قال لها :حتى أنا فقدت أمي بسبب الحرب
رفعت نظراتها له وهو يقول :بعد أن سربت القنوات األمريكية صور أبو
غريب أمي تعرضت ألزمة قلبية حادة من خوفها علي وتوفت ..حين
خرجت من السجن لم أجدها تنتظرني كما كنت أحلم ..لقد وجدت مكانها
خاليا لترك في روحي وذمة ال يمكن أن تمحى .
مسحت دموعها بظاهر يدها فيبدو أن اإلعجاب ليس الشيء الوحيد الذي
يجمعها بحسام بل عقدة الوطن أيضا ..كالهما ترك الوطن فيهما وشم
يصعب نسيانه ..كالهما يعاني بطريقة خاصة ..هو يعاني من الذنب
لوفاة أمه وذكرياته في المعتقل وهي تعاني من وفاة أخيها أمام أعينها ومن
ذكرى طبعت على جسدها ..رغم اختالف األوطان ولكن األلم يبقى واحد
..ربما كان كل واحد منهما ناقص بطريقة ما ولكن حديثهما عن هذا
النقص اآلن أشعرها انه يمكن أن يكمل كل شخص نقص األخر .
أخبرها :بعد حديثي هذا اتمنى أن تفكري جيدا في عرضي سالم ..أنا
وأنت يمكن أن نكمل بعضنا ..ربما كل واحد مننا ينقصه شيء وفي كثير
من األحيان النقص يعوض بالنقص ..وربما يمكنني تعويض ما فقدتيه
في بالدك وأنت أيضا فتكوني لي موطن ألجأ له وأشعر بأمان به .
هزت رأسها مغيبة وكل تفكيرها مشغول بكالمه لما حدث معه هناك ..
استأذنت منه لتعود لبيتها حتى أنها نسيت االتصال بكرمل وإخبارها عما
جرى بينهما ..
دخلت الغرفة لتطلق العنان لدموعها التي حبستها بصعوبة ..كيف له أن
يتحمل كل هذا العذاب ..هي رأت أخوها ميت ولكنها واثقة أنه في مكان
أرقى وأفضل من هنا بينما حسام كان يتعذب ويخزن كل ما يتعرض له.
سألت نفسها كم شخص مات أمام عينيه تحت التعذيب .كيف تمكن من
النوم في مكان مثل أبو غريب ..لقد رأت الصور التي تم تسريبها في تلك
الفترة وتذكرها جيدا .كيف استطاع أن يتخطى كل تلك العذابات التي
تركت في روحه بعدما خرج من السجن ..كيف شعر حين علم بوفاة أمه
بسبب خوفها عليه ..ماذا كانت ردة فعله حين وجد حياته فارغة تماما ..
بماذا أحس في الدقائق األولى إلطالق صراحه وهروبه من ذلك الجحيم ..
وكيف يتعايش مع تلك العالمات التي بقيت أثاراها على جسده ..
اقتربت من المرأة أمامها لترفع سترتها وأثر الشظية على بطنها واضح
جدا لتقول :يبدو أنك أحن بكثير من بعض العالمات على أجساد أناس
غيري .
هي تتذكر ساعة القصف حين تنظر لجسدها ولكن حسام ماذا يتذكر حين
ينظر لعالماته ..هل يسمع صراخ المعذبين .أم يتخيل نفسه يغرق ..أو
ربما يشعر بالكهرباء في أنحاء جسده ..هل يكره رائحة السجائر يا ترى
..كيف استطاع العيش مع كل هذا الوجع ..أغمضت عينيها تحاول
السيطرة على دموعها لتمسح خديها لتخرج نحو والدها الذي كان يشاهد
األخبار في الصالة لتقول :أبي أنا موافقة على الزواج من حسام .
...................................................................
..
الفصل الخامس
أغلق سماعة الهاتف واالبتسامة تزين ثغره لينظر إلى صديقه الجالس
بفضول أمامه فيزف له الخبر السعيد :لقد وافقت
ارتفعت ضحكة يوسف براحة فأخيرا حصل حسام على شيء قد يساعده
في تجاوز ماضيه :مبارك له صديقي
رد عليه حسام :العقبى لك رغم أنني أشعر أن هناك أمر ما يدور في
عقلك .
لم يجبه يوسف فكالم صديقه صحيح عقله مشغول بكرمل ..ال ينكر أن
هناك شيء فيها يعجبه ..يجذبه ..ربما معرفتها بالحرف الدمشقية القديمة
وطريقة حديثها عنها بكل شغف يجذبه إليها وربما هو اسمها الذي يحمل
شيء من عبق بالده ..أو شخصيتها القوية وتصالحها مع ذاتها ..وممكن
أن كل هذه األمور مجتمعة فيها كانت تجعلها امرأة خاصة جدا ..
أخرجه حسام من تفكيره قائال :لقد قال العم محمد أنه يمكننا عقد الخطوبة
هذا الخميس وبعدها نستطيع أن نتعارف إلى بعضنا .
ربت على قدم صديقه :دع هذا األمر لي ..
أومأ له حسام بالموافقة ليسأله يوسف :ولكن كيف اقنعتها بالموافقة ؟
ابتسم حسام بألم :أخبرتها بكل شيء ..
علت الصدمة مالمح وجهه فهذا شيء غريب ..حسام كان يرفض رفض
قاطع التحدث عن فترة اعتقاله ..رغم صداقته القوية معه هو لم يتحدث
من قبل عن فترة وجوده في أبو غريب وما حدث معه هناك ..وبحسب
معرفة كل من يعرف قصة هذا السجن استطاع يوسف أن يتخيل ما عاشه
ولكن أن يتحدث إلى شخص عن ما جرى وهذه كانت خطوة كبيرة وغير
مسبوقة .
قال حسام :أتفهم سبب نظراتك هذه ..حتى أنا لم أكن أخطط لقول شيء
ولكن حين رأيتها شعرت أنه من حقها أن تعرف الشخص الذي سترتبط به
لحياتها كلها ..ربما لم ترتق مشاعرنا للحب والهيام بعد ولكن خطوات
الزواج برأي يجب أن يكون أساسها الصدق واإلخالص ..وأنا أردت أن
أبدء حياتي معها بالصدق وهذا ما كان .
قاطعه يوسف بمكر :أخبرتها بكل شيء من أجل الصدق فقط أو أردت
أعالمها أن تعرضها لقذيفة في سوريا ليس شيء تخجل منه وكل إنسان في
حياتنا يملك شيء يخاف أن يكشفه للعلن ؟
تنهد حسام بقلة حيلة قائال :أن تملك صديقا يمكنه كشفك ببساطة ومعرفة
ما يدور في عقلك سالح ذو حدين ولكن في أغلب الوقت يكون مزعج .
ارتفعت ضحكات يوسف دون أن يعلق على كلمات صديقه ..
....................................................
وأخيرا اليوم سوف يبدأ حسام حياة جديدة ..بداية جديدة أساسها السالم
والمحبة ..
فالحياة دائما هكذا تأخذ منك شيء لترده إليك بطريقة أخرى ..وربما هذه
الخطوة في حياة حسام ما هي إال تعويض من الحياة له ..تعويض له
ولسالم أيضا ..ففاقد الشيء يعطيه لمن يحب بسخاء ..وهما كانا بحاجة
لألمان ..افتقدا الشعور به لذلك سيكون العطاء أكبر وأسمى .
كانت كرمل حاضرة أيضا مبتسمة طوال الوقت تساعد سالم وكأنها
شقيقتها بحق ..وكأن هذه الخطوة حلم لها قبل أن تكون حلما لسالم ..
فحين ترى من تحب سعيد سوف تنتقل هذه العدوى لك مؤكد وما أجمل
العدوى بالسعادة واالستقرار ..
تم االتفاق بين الرجال بسرعة وتقبل من الجميع حتى حان موعد دخول
العريس ليبارك لعروسه ويلبسها خاتمه يحبسها داخل قلبه وحياته ..كان
خجول جدا كما توقعت أن تراه كرمل وكذلك صديقتها التي كان الخجل
مسيطر على حركاتها وابتسامتها .
قرب حسام رأسه منها هامسا :مبارك لي .
لم تجبه ليمد لها بقطعة قماش بيضاء يبدو أنها تحمل شيء ما بداخلها
لترفع نظراتها له أخيرا تسأل :ما هذا ؟
ابتسم لها بحنان وعينيها الخضراء الغامقة تأسره ليجيبها :لو كنت أعلم
أنها ستريني أجمل لون عيون كنت أعطيتها لك منذ دهر .
أنزلت رأسها بسرعة ليتابع كالمه :بما أنك أصبحت كنة العراق كان البد
من عادة عراقية تتمم خطوتنا هذه .
نظرت لقطعة القماش الملفوفة بشكل جميل ذات لون أبيض مطرزة بورود
بيضاء أيضا لتهمس له :هل يمكنني فتحها ؟
أومأ لها بنعم ..لتبدأ فتحها بأصابع متوترة وحسام يراقبها حتى تبينت ما
بداخلها ..كانت لفة من األوراق النقدية مرصوصة بإحكام لم تتبين عددها
لتعيد نظراتها له بعدم فهم ليجيب على استفسارها :هذه عادة عراقية حيث
يقدم العريس هدية لعروسه في خطوبتهما .
حاولت أن تعترض ليجيبها :بالطبع ال تفكرين برفض عادات بالدي ؟
أفلتت منها ضحكة خافتة تجيبه :بالطبع ال ..شكرا لك .
أومأ لها وهو يراقبها مبتسما هانئا .
كانت تقف قريب من الباب تراقب حسام وسالم واالبتسامة تعلو على
شفتيها لتشعر به يقترب منها ومعه كأس من العصير يمد يده به نحوها
فتأخذه منه شاكرة إياه ليقف قربها يستند على الحائط مثلما تفعل قائال :
أنهما مناسبان جدا
أومأت له وعينيها تركز عليهما قائلة :وكأن بغداد تبتسم لدمشق لتبعث
فيها األمل والحياة .
ابتسم مكمال :لطالما كانت دمشق كالفتاة المدللة لكل العواصم العربية
وكذلك أهلها كلهم سحر يجذبنا نحوها دون أن ندرك لنرى أنفسنا قد وقعنا
في السحر الشامي وتغلغل فينا الياسمين الدمشقي .
عضت شفتيها وكأنها فهمت ما يرمي إليه ليتابع :هي دمشق من كانت
تعلمنا الحب وفنونه لنبحر به ونذوب به ..فليست بغداد فقط من تبتسم لها
هياما حتى القدس أيضا
نظرت نحوه بعدم فهم ليفسر :أال تعلمين أن محمود درويش وقع في حب
شامي من قبل
قاطعته :ولكن درويش ليس مقدسيا ..ألم تعلم أنه من عكا
ابتسم بثقة :من البروة تحديدا ..بال أعلم وحين قلت أن القدس وقعت في
سحر الشام كنت أقصد بالدي كلها ولكنني أحب ذكر اسم القدس ألنني منها
.
لم تجبه واكتفت بتأمله وهو يكمل :وبعد أن وقع درويش بالسحر الدمشقي
تزوج منها لتكون ابن شقيق نزار قباني هي من سلبت ابن فلسطين قلبه
وللصدفة كان عمها الشامي األصيل المحمل بعبق الشام قد وقع أسير في
غرام ابنة بغداد بلقيس ..وكأنهم يتركون لنا رسالة أن تلك البالد ستكون
واحدة في الحب والحرب معا ..
كانت كل كلمة يقولها تترك أثر كبير في قلبها ..وكأنها تمسها شخصيا ..
رغم اختياره لهذه القصة وقصة صالح الدين من قبل تصر على ربط
العراق وسوريا وفلسطين برباط واحد ..تاريخ واحد وقلب واحد ..وهي
مؤمنة بهذا الشيء ولطالما تبنت هذه الفكرة أيضا ...فمؤكد ليس صدفة أن
تجتمع هذه البالد على الوجع واألنين ..واآلن على الحب .
قاطع أفكارها يسأل :هل تعلمين ما الرابط األخر بين قصة نزار ومحمود
؟
نظرت له باستفهام ليجيبها :أنهما وقعا في الحب من النظرة األولى ..
فنزار وقع في حب بلقيس وهو يلقي قصيدته ..ومحمود أيضا وقع في
غرام رنا في إحدى الندوات التي أقيمت ليلقي الشعر فيها .
ابتسمت كرمل تلقائيا وهي تتذكر قصص هؤالء ..فهي كانت تعشق قصة
حب نزار قباني وحتى قصة زواج درويش التي ال تخلو من الجنون ..
تابع كلماته :وأيضا .
نظرت له وهي تردد في عقلها :هل هناك أيضا ..ألم تنتهي الحكاية هنا ؟
ويوسف تابع :واالثنان طلبا الزواج بعد لقاء واحد فقط فنزار ظل يسأل
عن بلقيس الرواي حتى عرف أين تسكن ليطلب زواجها رغم أنه قوبل
بالرفض في البداية ومحمود الذي رفضت رنا القباني دعوته إلى العشاء
فما كان منه إال أن يدعوها للزواج في نفس اللحظة .
علت ضحكتها هذه المرة لتقول وكأنه إقرار :أال تعتقد أن حياة الشعراء
هي األكثر جنونا وجموحا .
اقترب برأسه منها هامسا :ربما هي الروح الشامية من ترفع نسبة الجنون
في الحب .
رفعت حاجبها معترضا لترتفع ابتسامته وهو يعود برأسه وكأنه يراقب
العروسين ليهمس :إذن ما رأيك ؟
نظرت له :رأي بماذا ؟
انتقلت نظراته نحوها :ببعض الجنون
سألت :لم أفهم ؟
ابتسم :هل تتزوجين بي ؟
فتحت عينيها من الصدمة تحاول استيعاب سؤاله ..هل عرض عليها
الزواج حقا ..هل يقصد ما قصد أم أنه تأثر بالقصة التي كان يسردها
لكن نظرته كانت واثقة جدا من طلبه لتتنهد بصوت مسموع ترسم على
شفتيها ابتسامة جذابة تجيبه :لقد نسيت جزء مهما بقصتك تلك .
حثها على المتابعة بنظراته لتقول :نسيت أن تقول أن قصة حب رنا
ومحمود لم تكتمل ووقع الطالق بينهما .
ابتسم بمكر مجيبا :أن يقع الطالق هذا ال يعني أن الحب انتهى ..
والمعروف أن درويش كان غير مناسبا ليكون زوج ..محمود درويش
مناضل طالب للحرية عاشقا محبا ولكنه لم يقدر أن يكون زوج ..فهذه
حجة غير مناسبة .
ضحكت هذه المرة بصوت عال ..فهي لن تستطيع أن تهزمه أبدا ..
فالتبرير جاهز ولألسف منطقي أيضا ..
لتقول أخيرا :حتى لو كان كالمك صحيح لكنني بالفعل متزوجة
عند تصريحها هذا اعتدل في وقفته ..كانت الصدمة تسيطر عليه ..كيف
متزوجة لم يسمع من قبل ..لم يرى أي خاتم في يديها ..بل قالت أنها
تعيش مع والدتها فقط بل هو تعرف على أمها منذ قليل أيضا ..حتى سالم
لم تأت على ذكرى زواج صديقتها من قبل ..كانت تتصرف كفتاة عزباء
..كيف لها أن أن تكون متزوجة .
كان ينظر لها بصدمة وعدم فهم وابتسامة غريبة ترتسم على شفتيها ونظرة
حزينة سكنت عينيها ليسألها بهمس :وأين زوجك اآلن فأنا لم أره معك هنا
؟
ابتلعت ريقها بصعوبة والحزن بدأ يزحف لعينيها لتجيبه :لقد ابتلعه البحر
.
وتبتعد عنه بهدوء دون حتى أن تلفت له ..ويوسف واقفا جامد في مكانه
وصدمة أخرى حطت على رأسه ..لم يتوقع أن كرمل أيضا من من عاش
هكذا تجربة ..كانت تبدو طبيعية ..قوية ..غير حزينة ..حتى أنها كانت
تساند سالم في محنتها ..تعطيها القوة والدفع ..ليكتشف أنها أيضا ضحية
..مع اختالف الطرق ولكنها ضحية ..ضحية للوجع والموت والفقدان ..
..
...................................................................................
....
اقترب من الجمع الذي بقي بعد أن غادر الضيوف وأصر والد سالم على
بقائهم على العشاء فوافق بشكر ..كانت االبتسامات هي عنوان الجميع ما
عدا كرمل التي تبدلت مالمحها وهو التي ما زال الخبر يدور في رأسه
غير مصدق لما قالته ..جلس قرب حسام الذي سأله بهمس :ماذا حدث ؟
نظر له يوسف :فيما بعد .
أومأ له صديقه ليقاطعهم والد سالم :العقبى لك ولدي لقد علمت أنك غير
متزوج .
ابتسم له يوسف شاكرا له وعينيه تحط عليها لتتصرف بعدم اكتراث
وحسام يقول :السيف الدمشقي يشغل عقل يوسف هذه األيام أكثر من أي
شيء أخر ..حتى من العمل الذي كان يركز عليه كثيرا .
ابتسم حموه :لقد حكت لي الفتيات رغبتك في الحصول على سيف دمشقي
..هل وفقت بهذا ؟
تنهد يوسف ليبعدها عن رأسه حاليا :ال أبدا ..فاألسماء التي أعطتني أياها
كرمل وجدت واحد فقط وقال أنه خرج من سوريا وبقي السيف هناك ومن
الصعب بيعه حتى لو وجد طريقة ليخرجه من دمشق أمن .
أومأ العم محمدا ليقول :معه حق ..فهذه السيوف هي مهمة جدا لهذه
العائالت ..حتى أنها أصبحت رمزا مشرفا لتلك العائلة ..لذلك من شبه
المستحيل أن تجد عائلة تقبل بيعه .
أجابه يوسف :بالضبط هذا ما قاله لي صانع السيوف ولكنه قال أيضا
يمكن أن تبيعه إحدى العائالت فأنت تعلم أن جيل الشباب ال يهتم كثيرا
بمثل هذه التحف وبعضهم يراها خردة ال فائدة منها .
تابع حسام كالم صديقه :معك حق لألسف أن هذا الجيل غير مبال لماضيه
وتاريخه وكل ما يشغل فكره هو التقلد بالغرب .
قاطع كالمه العم محمد :ليس كل الجيل دائما هناك استثناء ولكن أكثر ما
يؤلم قلبي أن يكون االستثناء هو الشيء الصحيح والمنطقي لقد كثر الفساد
و الالمبالة فأصبحت سمة العصر ..لكنني مؤمن بأن هناك نور في أخر
النفق ..
انظروا مثال لكم ألستم من هذا الشباب ..ما زلتم تحتفظون بخيركم ..فهذه
كرمل التي لم تتخل عن ماضيها وعراقتها بل نقلت حرفة الموزييك
لأللمان ..
ليضحك وهو يتابع :رغم أنهم لم يتعلموا منها شيء ولكنها على األقل
حاولت ولم تستلم وتابعت في عملها وصنع القطع منها .
كما أنها تحفظ كثيرا عن تاريخ دمشق وحرفها وأسرار تلك الحرف ..
وهذه سالم رغم أنها ال تعلم الكثير عن الحرف مثل كرمل وشغفها األقمشة
لكنها برعت في فن الصوف وصنع األغباني ..
وأنت أيضا يا يوسف رغم أنك ولدت هنا وتربيت بين أحضان الغرب ما
زلت محتفظ بعشقك لجذورك الفلسطينية بل تبحث عن سيف دمشقي في
كل مكان .
ابتسم الجميع ماعدا حسام الذي علق قائال :يبدو أنني الوحيد هنا الذي لم
يحفظ تاريخه بشيء .
علت الضحكات على كلمات حسام ليعلق عمه :بالطبع ال ..يكفي أنك
محافظ على جذورك العراقية وأصالة بالدك .
ابتسم له حسام ليلتفت نحو خطيبته سائال :ولكن ما هو األغباني ؟
ابتسمت له سالم لتجيبه :هو قماش أبيض مطرز باللون األبيض أو
األصفر ..كان من قبل يستخدم من الحرير وأحيانا تستخدم خيوط الذهب
والفضة للتطريز عليه أما اآلن فيستخدم قماش الكتان وخيوط الحرير .
نظر لها حسام ليقر أخيرا :لطالما سمعت عن جمال دمشق الذي يسرق
العيون ولكن بعد أن عرفتكم وسمعت كالم كرمل عن السيوف ثم الموزييك
واآلن عن األغباني صرت أعرف سر السحر في دمشق ..فهي تحمل
الكثير من الخبايا التي تجعلك متعمق فيها وترغب بمعرفة المزيد عنها ..
فكل حرفة دمشقية تحمل الكثير من الجمال والفن ممزوج باإلبداع ..حتى
أسماء هذه الحرف هي فن بحد ذاته ..
قاطعته كرمل :معك حق أسماء هذه الحرف لوحدها حكاية ..موزييك ..
التصديف ..األغباني ..البروكار ..الدمشقة ..القيشاني ..العجمي
وغيرها الكثير
سألها يوسف :لحظة ..أنا أعرف معظم ما ذكرتيه سابقا وقد تحدثنا عنه
أيضا ولكن ما هو القيشاني والعجمي فأنا ال أعرفهما .
أجابته :هذه المرة يجب على العم محمد أن يجيب .
ابتسم لها العم محمد قائال بعد أن تأكد أن الجميع انتهوا من طعامهم :
بالطبع سأجيب ولكن ليس قبل أن نشرب الشاي
أومأ له الجميع وسالم تسأل حسام :لقد سمعت أن الشاي العراقي مختلف
عن الشاي الذي نشربه ؟
ابتسم لها مجيبا :الشاي العراقي بحبهان ويكون مخدرا .
نظرت له من دون فهم ليضحك قائال :حب الهال كما تسموه في سوريا .
أجابته :لقد فهمت هذه ولكنني لم أفهم كلمة مخدر
نظر لها يحاول كتم ضحكته يجيب :عندما نصنع الشاي وبعد أن يغلي
نتركه في اإلبريق حتى يتخدر ويصبح أثقل وبعدها نقدمه .
قاطعته قائلة :أال يصبح طعمه مرا هكذا؟
أجابها هامسا :تذوقيه أوال ثم أحكمي ..ثم أال تعرفين قول نزار بالشاي
العراقي ؟
هزت رأسها له :هذا موعد الشاي العراقي المعطر ..والمعتق كالسالفة .
اقترب من مكان جلوسها بجسده الضخم :أليس هذا اعتراف صريح
وواضح وال يقبل الطعن أن شاينا مميز وله نكهة فريدة من نوعه .
نظرت نحو الطاولة التي فرغت من الجميع عداهما لتبتعد بجسدها عنه
وهي تجيبه بارتباك :لقد اقتنعت .
لتنتفض واقفة مبتعدة عن مرمى عينيه نحو المطبخ وهو يلحق بالجمع الذي
غادر دون أن يشعر بأحد منهم ..
أمسك منها فنجان الشاي مبتسما وهي خجلة مرتبكة لتبتعد عنه تجلس قرب
كرمل التي كانت تراقب ما يحدث بينهما بسعادة كبيرة ..
قطع نظراتها كالم العم محمد حين بدء بالكالم قائال :أن العجمي هو فن
رسم دمشقي ..رغم أنه يعرف بالدهان الدمشقي بين صناع الحرفة ولكن
اسم العجمي هو ما اشتهر وعرف به ..
سأله يوسف :وما المميز بهذا الرسم ؟
ابتسم له العم محمد :المميز به أنه رسم نباتي على الخشب .
نظر للوجوه وقد بان عدم الفهم على معظمهم ليشرح أكثر :أنتم تعلمون
أن رسم الحيوانات والبشر محرم دينيا ..لذلك في العصر األموي انتشرت
فكرة الرسوم النباتية والهندسية والخطية .
قاطعه حسام هذه المرة متسائال :الخطية تقصد بها الخط العربي
المزخرف أليس كذلك .
أوما له :بالضبط وكان يركز على اآليات القرآنية فكانت تلك الرسومات
تزين جدران كثير من البيوت الشامية ..وحين قرر الخليفة األموي عبد
الملك بن مروان بناء المسجد األقصى بعث عدد من هؤالء الحرفيين إلى
القدس وهناك بدأت أول األعمال الزخرفية لهذا الفن اإلسالمي على جدران
المساجد ..وكانت النتيجة مبهرة جدا ..
أوقفه يوسف بحماس :أتقصد أن الزخارف والفسيفساء التي تزين قبة
الصخرة هي من صنع حرفيين دمشق .
ابتسم له العم :نعم بني وبالطبع كان هناك صناع من أهل فلسطين وحتى
من العراق أيضا
نظر يوسف نحو صديقه ثم كرمل التي كانت تراقب الحديث بصمت ليتابع
العم محمد كالمه :لقد استخدم الفنيون ثالث ألوان رئيسية لهذا العمل
األخضر واألزرق والذهبي ..إضافة للخط الكوفي في كتابة اآليات القرآنية
..وعندما رأى الخليفة النتيجة النهائية كان منبهرا جدا وأمرهم ببناء
المسجد األموي بدمشق الذي تزينه تلك الرسومات أيضا وبالفعل كان تحفة
فنية ال يمكن ألحد إال أن يذوب جماال بها .
سألته سالم :ولكن أليس ما يميز هذا الفن أن رسوماته نافرة أبي ؟
نظر لها ثم للجميع قائال :معك حق فالرسم العجمي أساسه الرسم على لوح
خشبي حيث رسومات نباتية نافرة تتميز بألوانها التي تبقى محافظة على
رونقها لمئات السنين ..هذه الحرفة ليومنا هذا يدوية فليس هناك أي ألة
تستخدم بالعمل بها ..بداية من خط الرسمة على الورق باإلبرة ..ثم خلط
العجينة إلى الحف والتلوين فكل شيء بهذه الحرف يصنع باليد من أوله
ألخره ..
سأل يوسف من جديد ولكن هذه العجينة التي تجعل اللوحات نافرة مما هي
مصنوعة ؟
أجابه :من الجبس والغراء األحمر والسيبداج الذي هو مادة تستخدم في
أعمال الطالء .
علق حسام ضاحكا :كنت سوف أسألك عنه فأجبت فورا .
ارتفعت ضحكات الجميع على تعليق حسام ليتابع العم محمد :وبهذا أصبح
هذا الفن من أشهر فنون الرسم اإلسالمي وأجملها على اإلطالق فجذب
الكثير من األنظار حتى بنيت الكثير من القصور وجلب الحرفيين
الدمشقيين ليزينوها بفنهم هذا ..مثل قصر يلدز بتركيا وقصر محمد علي
في مصر ..حتى أن هناك بعض قاعات في كثير من المتاحف مزينة بهذه
الرسوم كاللوفر في باريس والمتحف اإلسالمي في ماليزيا .
علقت كرمل على كالمه :أن فنوننا تزين مختلف دول العالم لتثبت لهم أننا
أهل عراقة وفن ولكنهم ال يعترفون بهذا أبدا ..بل دائما ينظرون لنا كبالد
أقل منهم .
ليتابع حسام عنها :معك حق فمثال تماثيل الثيران المجنحة التي تعتبر من
أروع االكتشافات في العراق هي مشتتة في معظم متاحف العالم ..في
اللوفر والمتحف البريطاني ومتحف اسطنبول حتى في مومباي ..حتى
المسالت المصرية تزين معظم ساحاتهم ..وكأن بالدهم خلت من األثار
ليأتوا إلى أثارنا .
قاطعه العم :أبدا هذا يدل أنهم مهما تفاخروا بتقدمهم وحتى تاريخهم يبقى
تاريخنا أقوى وأشد فخرا مما يملكون ..أنهم ينفون معتقداتهم التي
ينشرونها بيننا ..إن كنت ترى نفسك األقوى وصاحب الفضل بالعلوم
والتقدم والتاريخ إذا لماذا تحتفظ بدالئل حضاراتنا لديك وتعطيها التبجيل
واالهتمام .
أومأ له الجميع ليلتفت حسام لصديقه الصامت :ولكن لماذا تلتزم الصمت
يوسف فأنا أعلم حبك للخوض بمثل هذه النقاشات .
تنهد يوسف واضعا فنجانه على الطاولة ليقول :أفكر في كالم العم ..هل
تعلم صديقي كنت أعتقد أن العراق وسوريا وفلسطين يجتمعون بالحرب
واأللم فقط وبصالح الدين األيوبي وفتحه للقدس ولكنني بدأت أكتشف أنه
هذه البالد شبت على العطاء المتبادل والثراء بالفن واإلبداع ..لقد كنا
نجتمع بالجمال والحب قبل أن يضمنا الحزن والموت والدمار والهجرة ..
نظر نحو العم محمد وكأنه يسأله :هل يمكن أن قوتنا وتكاتفنا على مر
األزمان ..اجتماعنا بالجمال واألبهة هي سبب وصولنا لهذا الحزن واأللم
سويا ؟
ابتسم له العم بحنان ليجيبه :لطالما كنا يدا واحدة األقرب لبعضنا ..فليس
فقط صالح الدين والحرب ما يجمعنا ..هل تعلم ان سليمان الحلبي حين
قتل كليبر قتله بخنجر غزاوي ..اشتراه من غزة ليكتب التاريخ به ..
هز يوسف رأسه نافيا :ال لم اسمع بهذا األمر من قبل .
تابع العم حديثه :لم تفرق بيننا الحدود من قبل ..لطالما جمعنا تاريخ
عريق حضارات سادت األرض قوة وعلم ..وال دين فرق بيننا أيضا ..
لطالما تعايش المسلمين والمسيحيين ببالدنا فتجد بيت مسلم وجاره مسيحي
والحب والوفاق بينهما ..فهناك الكثير من األشوريين في العراق وتربطهم
عالقات وثيقة مع مسلمي العراق وحتى القدس حين دخلها سيدنا عمر أمر
ببناء مسجد قرب كنيسة القيامة التي تعتبر من أهم الكنائس في الدين
المسيحي ولها مكانة كبيرة في قلبوهم وتعظيم كبير كان يريد أن يوضح
أهمية التعايش بين األديان ..حتى حين دخلها صالح الدين األيوبي فاتحا
أعطى مفاتيح الكنيسة لعائلة مسلمة ..وليومنا هذه العائلة المسلمة ما زالت
محتفظة بمفاتيح الكنيسة وتهتم بها ..
نحن شعوب خلقت للسالم ..بعيدا عن اختالف األديان والجنسيات والحدود
التي ابتدعوها بيينا ..
قاطعته كرمل :ولكن هذا لم يعد موجود اآلن .
أوقفها بيده :ال بنيتي طالما هناك إنسان عربي على قيد الحياة يجب أن
نبقى متفائلين أن كل شيء سيعود كما كان وما هذه الفرقة والطائفية التي
يزرعونها في عقول البعض ما هي إال أدوات حرب خبيثة سيأتي يوم
ونستفيق منها ..ال يمكن للنبتة أن تموت نهائيا .سيبقى هناك بذرة تنبت
من جديد وتزدهر .
تابع حسام كالم عمه :نحن شعوب ال تموت بل تمرض فقط ومهما طال
المرض سيأتي يوم وننهض من جديد .
صمت الجميع ليكسر هذا الصمت يوسف متسائال :وما هو القيشاني ؟
أجابه العم :لقد حولنا خطوبة صديقك لدرس تاريخي يا ولدي .
ارتفعت ضحكات الجميع وحسام يجيب :بالعكس عمي الحديث شيق جدا
وأنا مستمع جدا به ..أرجوك تابع كالمك .
ابتسم له عمه :أنا ال مانع لدي بالحديث عن الحرف الشامية حتى الصباح
ولكن خشيت أن تشعر بالملل مثل حماتك التي أخذت والدة كرمل واختفت
معها في المطبخ .
ابتسم له حسام نافيا ذلك ليجيب عمه :حسنا إذن القيشاني هو فن الخزف
الملون .خزف مغطاة بقشرة رقيقة بيضاء عليها رسومات بأربعة ألوان
ثابتة الفيروزي والكحلي واألخضر واألحمر الغامق .
قاطعه يوسف :نعم لقد تذكرت هذه القطع ..رأيتها في إحدى المعارض
وكان اللون األزرق مميز جدا ويجذب األنظار بشدة .
اجابه العم :لذلك سمي بالقيشاني فمعنى الكلمة باللغة العربية انظر ..
وكأن الحرفيين كانوا يقصدون أن أعمالهم يجب أن تلفت األنظار.
علق حسام :إن كان األمر هكذا يجب أن نطلق لقب قيشاني على كل
الحرف الدمشقية فما هي إال سحر للعيون وجذب لألفئدة .
تابع العم كالمه قائال :لكن ما كان يميز هذه الحرفة أو كما يقال عهنا طين
ينطق إبداعا .
نطق الجميع بصوت واحد :طين ؟
أومأ لهم العم مجيبا :نعم أنه يصنع من الطين ..تمزج بعض أنواع معينة
من األتربة لتشكل عجينة طينية وهي تكون األساس بصنع تلك القطع
ويدخلها الفرن وبعدها يعود ليرسم عليها ويلونها من جديد ثم يعيدها إلى
فرنه فيصبح لها تلك الطبقة الزجاجية ليشكلها بالشكل الذي يرغب به .
وهكذا يصنع من الالشيء شيء مبهر ..ومن هنا كانت ميزة القيشاني ..
أكملت عنه كرمل :يمكنك أن تبهر العالم بأشياء في نظرهم ال قيمة لها ..
كل ما تحتاجه هو يد ماهرة وعقل مبدع فقط .
وقف العم قائال :انتهت معلوماتي لليوم ..دعوني أرى ما تفعله زوجتي ..
فاجتماع النساء في المطبخ يولد الكوارث ..فهو مصنع الخطط والتي
يكون محورها الرجل .
علت ضحكات الجميع وهم يراقبون مغادرة العم محمد بعيدا عنهم ليتنهد
يوسف مقرا :أن والدك ما هو إال موسوعة علمية .
ابتسمت له سالم دون أن تعلق لينخرط الجميع بهدوء فحسام الذي يتهامس
مع سالم التي اقتربت تجلس قربه بعد أن غادر والدها ويوسف الذي يتبادل
أطراف الحديث مع شقيقتها وكرمل التي كانت ما تزال على حالتها تلك ..
بعيدة ومنطوية عنه ..رغم أن حديث العم يوسف أخرجه من صدمه
بكالمها ولكنه لم يمحيه من عقله أبدا ..كيف لم يخطر بباله من قبل أنها
ستكون متزوجة فقد كانت تبدو بأوائل الثالثين ..ماذا حدث معها يا ترى
..كيف غرق زوجها ..هل كانت معه أم أنها أتت بعده وربما قبله ..هل
هناك طريقة لجعلها تحكي ..اإلنسان يفضل أن يحتفظ بألمه لنفسه ..ولكن
هناك نقطة معينة تجعله يخلع ثوب الكتمان الذي ارتداه لسنوات طويلة ..
وشخص واحد فقط ال يخاف من عريه أمامه ..لقد كانت سالم هي
الشخص المناسب لحسام رغم ثقته أن صديقه لم يحكي لها كل شيء
بالتفصيل وكل ما عاشه بل اكتفى ببعض القصص العامة ..فهو كان همه
األول أن يندمج معها بالماضي ليكون لهما مستقبل مشرق ..أما كرمل
مختلفة جدا عن سالم ..هادئة ..قوية ..ثابتة ..راسخة ..تماما كالوطن
يمكنه أن يصبر على الحرب ويستقبل السالم في نفس الوقت ..كانت
كمدينة عانقت الحرب وزينت بطوق من األحزان لتخلق من األلم جمال ال
يمكن مقاومته ..
هل سيأتي يوما ويجعلها تحكي عن قصتها مع البحر أم قصته معه ستنتهي
حيث بدأت ..ويكون هو كالموج مس شواطئها بقليل من الماء وعاد
أدراجه إلى البحر الذي يخفي داخله أسرارها ومشاعرها .
...................................................................................
.
مر أسبوع على خطوبة حسام وسالم ولم يحدث أي شيء جديد فال كرمل
قابلت يوسف وال يوسف استطاع أن يراها أو حتى أن يتقدم خطوة ببحثه
عن السيف ..وكأن هذا األسبوع ما هو إال وقت ضائع ال يوجد أي تقدم
فيه ..عدا التقدم الذي كان في حياة سالم فحسام استطاع التغلغل في قلبها
وترك بصمته الخاصة دائما ..فكل ما يفعله مميز حتى كلماته لها كانت
مختلفة ...حديثه مميز ...وهي كانت سعيدة جدا كانت أنثى أخرى مضيئة
..فالرجال نوعان واحد يطفئ كل ذرة حياة فيك وأخر يضيء كل أقبية
روحك المعتمة .
كانت تبتسم وهي تتذكر رسالته األولى لها ..فبعد أن غادر مع يوسف
وصلتها رسالة منه قائال فيها :كنت اليوم كقصيدة نزارية وأنا ساهري
الهوى وقع في روعة تفاصيلك الدمشقية .
هل هذا الحب إذن ..هل هذا هو االختيار الصحيح حين كانوا يخبروننا
عليك باختيار الرجل المناسب لك ...حسام لم يكن الرجل المناسب فقط
بل الرجل الوحيد الصحيح لها ..طلته البغدادية ..نخيل قامته ..هيبته
السومرية ..بابلية ضحكته ..عباسي األخالق والمعرفة ..هل يمكن أن
يختصر تاريخ بلد كامل في رجل واحد ..كان هو هذا التاريخ والرجل ..
تغرق بين دجلة مقلتيه وفرات ابتسامته ..
هزتها كرمل من كتفها لتخرج من أفكارها :ما األمر ؟
نظرت لها كرمل بمكر :الذي أخذ عقلك
قاطعت سالم جملتها وهي تقترب منها :أال تشعرين بالندم ألنك رفضت
يوسف ؟
تنهدت صديقتها وهي تتذكر ذلك الحديث األخير الذي دار بينهما لتقول
أخيرا :لم يكن طلبا للزواج ..كان واضحا أن يمزح معي فقط ..ثم قلت
لك أنه يعيد أحياء حدث درويش مع زوجته أمامي ..لذلك خفت منه
وأنهيت الحديث فورا .
تأملتها سالم قائلة :ولكنك اخبرتيه عن زوجك رحمه هللا ..لماذا فعلت هذا
..كرمل أن زوجك توفي منذ أربع سنوات لم يكن هناك داع لذكر هذا
األمر في رفضك له ..حتى لو كان طلبه بين جد وهزل
لم ترد على كالم رفيقتها لتبتعد عنها متجهة نحو إحدى السيدات األلمانيات
بالمركز تفتح معها حديث عابر ..فهي ال تملك جواب على سؤال سالم ..
فكالمها صحيح ..ما كان عليها أن تأتي بسيرة وفاة زوجها وال سيما
لشخص كيوسف سوف يتلبسه الفضول ويحاول معرفة ما حدث معها ..
ال تعلم ماذا حدث في ذلك اليوم ولكن كل ما تعرفه أن طلبه كان صادم
وجعل كيانها في حالة فوضى ..هي ليست مستعدة لعالقة جديدة ..كان
يكفيها ما حدث من قبل ..تمنت وحاولت أن تعيش سعيدة ..خاطرت من
أجله ..تركت كل شيء خلفها ..بيتها ..ذكرياتها ..حتى أمها لتقبل
الهجرة معها وماذا كانت النتيجة أنه غادر هذه الحياة وبقيت وحدها ..
بقيت هنا في بلد غريب ال تعرف لغته وال أي أحد فيه ..حتى اقترحت
أمها فكرة أن تبقى هنا وهي من تأتي لها ..رغم أن هذا األمر استغرق
أكثر من عامين حتى تم ولكنها في الحقيقة عاشت هنا وحيدة لمدة عامين
تواجه مجتمع كامل وحياة جديدة ..تحمل ألم البعد عن والدتها وخسارة
زوجها بأبشع الطرق ..لذلك عليها أن تبقى بمنطقة األمان بعيدة عن أي
عالقة ال تضمن بدايتها وال نهايتها ..هي اكتفت بالعيش مع أمها وبالنسبة
لها هذه الحياة مستقرة أكثر من كافية لها ..لذلك ال بد أن ترفض يوسف
إن كان عرضه مزاح أو حقيقة .
....................................
الفصل السادس
حسم أمره اليوم وقرر زيارتها ..ال يملك حجة منطقية ولكنه لم يعد مهتما
جد باختراع حجة ليحكي معها أو يتقرب منها ..ربما كان عرضه لها في
خطبة حسام ضرب من الجنون ولكنه كان رغبة حقيقية منه ..كرمل لفتت
نظره بشكل ال يمكن أن يتخيله ..كانت أنثى برائحة الوطن ..ذلك الوطن
الذي لم يعرفه رغم أنه انتمى له حتى قبل أن يخلق ..
كانت تحمل بين ثناياها وجه تلك األرض التي سمع حكايتها من والده ..
وتعشق شوقها من حروفه وللصدفة أتت هي تحمل اسما من تلك األرض
معجونة بميزات منها رغم أنها لم تكن أبدا جزء منها ..كانت أنثى بوطن
وأرض وحضارة ..أنثى تجمع الماضي بفتنته والحاضر بوجعه .
كان ينظر حوله محاوال أن يتعرف على المركز الذي أخبرته مسبقا أنها
تعمل به حتى وجده أخيرا ..دخل المكان بهدوء يحاول أن يلتقط وجودها
..ارتفعت ابتسامته تدريجا وهو يلمحها ..مميزة بحجابها من بين كل
هؤالء األلمان ..كانت تجلس قرب رجل عجوز تتحدث معه بأمر ما
والرجل يبتسم لها ويناقشها مرة ويستمع لها مرة أخرى ..
جمع أنفاسه ليتخذ خطوة نحوها وعين الرجل ارتفعت منها إليه ..لتنتبه أن
هناك ما شغل نظرات العجوز فتلفت لتجده واقفا هناك يمسك نظراته
الشمسية بين أصابعه وعينيه مثبتة عليها وابتسامة غريبة على شفتيه ..
كانت تحسب الحسابات للقائه مرة أخرى ..في وضع أخر كانت قطعت
عالقتها معه عن طريق الهاتف فمنذ البداية لم يجمعهما شيء سوى طلبه
المساعدة منها ولكن ليس اآلن وقد أصبح من العائلة تقريبا ..فالعم محمد
وعائلته بالنسبة لها وألمها من أقرب الناس لهما ..فال تملكان غيرهم في
هذه البالد وليس من المنطقي أن تقطع كل شيء مع أناس تعتبرهم أقربائها
بسبب طلبه ..لذلك اختارت أن تنهي الموضوع معه وبشكل مباشر ولكن
إن عاد إليه هو ..ويبدو أن غيابه تلك األيام ما كان منه إال مراجعة لنفسه
التي تدعو هللا أن يكون قد توصل لنتيجة أن عرضه ما كان إال تهور
وبعض من الجنون ..
اعتدلت في وقفتها لترسم ابتسامة كاذبة على شفتيها :مرحبا بك .
أومأ لها :هل يمكننا الحديث قليال ؟
نظرت للعجوز األلماني الذي يتابع ما يدور بينهما دون فهم فقد كان
حديثهما بالعربية ..ليبتسم لها ثم عادت بنظراتها ليوسف المنتظر ..للتنهد
وهي تسير أمامه خطوة ليمشي معها وهو يتأمل المكان :المركز جميل
جدا ..وال سيما األزهار المنتشرة في كل مكان تبعث في النفس شعور
باالنتعاش .
قالت له :معك حق ..ما يميز هذه البالد عنا هو اهتمامهم بمثل هذه
مراكز .إن كان لإليتام أو للعجزة أو ذوي االحتياجات الخاصة .
قاطعها متسائال :ما هو عملك هنا بالضبط ؟
أجابت :كما ترى المركز هنا لذوي االحتياجات الخاصة حيث يتم تعليمهم
بعض األعمال اليدوية مثل الحياكة أو الرسم ..أي شيء قد يساعدهم على
تمضية وقت جميل قد ينفع بشيء ..بالنسبة لي أنا أعملهم بعض األعمال
الخشبية البسيطة ..حف الخشب أو الحرق عليه إن كان األمر يسمح لهم
طبعا ..وتلوين رسومات يقوم بها رسام يعمل هنا أيضا ..
سألها من جديد :وتعليمهم الموزييك أيضا ؟
ابتسمت حين وصال إال طاولة خشبية بين األشجار لتشير له أن يجلس
فتجلس مقابل له لتجيب :بالطبع ال األمر شبه مستحيل مع أوضاعهم
الصحية رغم أنني أتحدث لهم عنا وأعمل بها أمامهم ولكن وكأن هذه
المهنة ال تصلح إال للشرقيين ..فهم يجدون فيها صعوبة بالغة وأنها شبه
مستحيلة ..لذلك نكتفي ببعض األعمال البسيطة ..
نظر حوله من جديد :وهل سالم تعمل معك هنا أيضا ..لقد قلت أن
الصوف من ضمن خيارات التعليم ؟
ابتسمت :ال هي ال تتقن األلمانية بشكل جيد لذلك كان األمر صعب ولكنها
تأتي إلى هنا في كثير من األوقات وخاصة بعد عودتها من دروس اللغة
األلمانية ..تمض بعض الوقت أو تعمل بالصوف مع صف الصوف أو
تقضي الوقت بالتحدث معي ..
همهم لها ليصمت عدة دقائق وهي تصمت معه ..وعينيه ما زالت تدور
حول المكان لتكسر هذا الصمت قائلة :لماذا أتيت إلى هنا ..هل هناك أمر
مهم ؟
توقفت عينيه عن الدوران لتتركز عليها مجيبا :ال يوجد شيء رغبت بأن
أرى مكان عملك فقط .
مدت شفتيها باستغراب لتتدارك نفسها مجيبة :حسنا إذن أن كان األمر
هكذا .
سألها بنظرات ماكرة :هل كنت تتوقعين زيارتي لسبب ما ؟
حاولت كتم الكلمات التي تدور برأسها ...لتسيطر على ردة فعلها منه
لتقول ببساطة :أن تسأل إن وصلت ألي شيء جديد بالنسبة ألمر السيف ؟
رفع نظراته لها بعدم فهم لثوان ليقول بعدها :وهل وصلت لشيء جديد ؟
ابتسمت له وهي تومئ :بالطبع ..والفضل يعود للعم محمد هذه المرة
اعتدل في جلسته بحماس يشبك أصابعه أمامها على الطاولة لتتابع :لقد
قال أن له صديق في سوريا كان يحكي له عن بعض أقاربه في مصر
وكانوا يعملون بهذه المهنة قبل أن يستقروا هناك وعلى حسب كالم صديقه
كانوا يملكون عدد من السيوف القديمة .
ارتفع األمل فيه :وأخيرا ..ولكن إن كانوا قد استقروا بمصر فربما أنهم
لم يقدروا على نقل هذه السيوف معهم .
ابتسمت لتجيبه :أنهم في مصر قبل التغريبة السورية لذلك قال العم محمد
أن األمر سيحتاج لبعض الوقت حتى يستطيع الوصول لهم .
وأخيرا ابتسم بسعادة :ال يهم الوقت المهم أن أصل لنتيجة .
لينظر لها متابع :ال أعلم كيف أشكركم ..لقد أعدتم أحياء ذكرى أبي
ببحثكم هذا .
أومأت له :دعنا نحصل عليه ثم أشكرنا كما تحب .
علت ضحكته لتجذبها نحوه من غير وعي ليعود للصمت ولكن هذه المرة
كان يبدو أنه يفتش على كلمات معينة ليقولها وهي كانت منتظرة ليقول :
أتذكر في عام ألفين وأربعة عرض مسلسل سوري اسمه التغريبة
الفلسطينية ..
نظرت له بعدم فهم لكنها لم تعلق ليكمل :لقد كان لهذا المسلسل تأثير كبير
في حياتي أنا شخصيا ..بصراحة من قبل لم أكن متعلقا كثير بفلسطينيتي
جدا ..نعم كنت أفخر أنني منها ولكن لم أكن مهتم بالتفاصيل جدا ..أفضل
الحديث باأللمانية أكثر من العربية رغم أن عربيتي ممتازة ..أفضل العمل
والعمل فقط ..حتى كان هذا المسلسل الذي كان تعلق أبي به غريب جدا
وأثار فضولي ..في البداية لم أكن اركز كثيرا معه حتى بدأت أحاديث
والدي بعد كل حلقة عن ما حدث في الحلقة وتفاعله معها وتعليقه الدائم أن
كل كلمة في هذه الدراما هي حقيقة ..لقد كان واقعنا هكذا ..كانت
أراضينا هكذا ..نتعامل هكذا ..وعندما سألت أمي عن هذا المسلسل الذي
سيطر على أبي لتجيبني أبقى لموعد عرض الحلقة وتابعها معه وبعدها
أحكم ..وبالفعل قمت كما قالت ..
تنهد وهو يستند إلى الكرسي وعينيه عليها ليتابع :وبالفعل بقيت يومها
وللصدفة كانت الحلقة هي حلقة هجرتهم من البلدة ..طريقة هروب الناس
من بيوتهم ..وتلك المرأة التي تركت مصاغها في البيت وهربت ليقصف
البيت بعدها ..حتى سمعت والدي يصرخ في وقت اإلعالن ..هذا األمر
حدث مع زوجة عمي ..لقد جمعت ذهبها وذهب زوجات أوالدها في
قطعة قماش واحدة وهي تخبرهم أنها ستحملهم هي لتحافظ عليهم وكل
امرأة لتلفت ألطفالها وحين بدأ القصف كانت خائفة لتخرج راكضة
وتركت كل الذهب ملفوف على السرير ..حتى أنها لم تتذكر األمر إال بعد
وصولنا للمخيم وهنا كان انهيارها ..شقاء عمرها وعمر أوالدها ضاع ..
أصبح تحت الركام ..وبقيت عائلة عمي تعيش في تلك الخيمة وزوجة
عمي تضرب نفسها في كل مرة يشكوا أحدهم من قلة النقود ..
كنت جالسا أراقب أبي وهو يحكي لي وألمي القصة ..كان هناك دمعة
مخبأة في عينيه مع كل كلمة ..قد تبدو القصة للمستمع كرواية أو فيلم أو
ربما ذكرى ولكن بالنسبة ألبي كانت غصة ..مع كل كلمة كان صوت
الدمار وكالم الصهاينة يعود لرأسه ..األلم والخذالن ..وجع ..صوته
كان مغلف بالدموع ..ليصمت فجأة ويعود ليتابع الحلقة ..حتى أتت لقطة
أخرى لسيدة نسيت طفلها وحملت بدال عنه الوسادة وغادرت مسرعة .
صمت ليبلع غصته ثم تابع :كانت المرة األولى في حياتي التي أبكي فيها
على مشهد تمثيلي ..كان أبي يتحدث مع لقطات المشهد قائال وهذه السيدة
أيضا كانت معروفة للجميع في قريتنا ..كانت متزوجة منذ سنوات ولم
تنجب إال مؤخرا ..كانت تخاف على طفلها كثيرا لذلك تبقيه ملفوف بشكل
جيدا تحضنه دائما ..وعندما كانت تستعد لتغادر المكان وضعت أبنها بعد
أن نام على سريرها لتبدل ثيابها ولكن ما حدث بعدها كارثة ..وقعت قذيفة
قريبة جدا من بيتها حتى غطى الغبار كل مكان حولها ورؤيتها أصبحت
شبه معدومة لتحمل الوسادة التي ظنت أنه طفلها النائم وهربت وعند
خروجها سقطت قذيفة أخرى على بيتها ..وما أن صعدت السيارة حتى
تبين لها أن ما تحمله لم يكن سوى وسادة وابنها هناك تعرض لقذيفة ..
لتصرخ وتولول كالمجانين ..تترجى الناس في السيارة أن يوقفوها فتعود
..ولكن الجميع رفض فقط كان الجنود أصبحوا داخل بيوتنا ..وهي لم
تتوقف تبكي وتلطم وتشتم ..تترجى الناس أن يعيدوها إلى هناك ..كان
أبي يحكي ويبكي ..يتوقف كل دقيقة ليبتلع غصته وعينيه مثبتة على
الشاشة وأمي تمسح دموعها بيدها من كلماته وصوت صراخ المرأة القادم
من الشاشة يملئ الغرفة ..وأنا كنت استمع وأشعر أن هناك جدران تنهار
في قلبي ..ماذا حدث لهذا الشعب الذي تشرد في كل بقاع األرض ..أنهم
يبتسمون ..يعيشون ..يعملون ..ولكن في داخل كل واحد فيهم هناك
وجع ..شعور بالخذالن ..ألم ..رؤية أبي في ذلك الموقف وضعتني أمام
حقيقة جديدة ..أنه مهما حاولت أن تبتعد عن وطنك سيبقى هذا الوطن
مركز للجاذبية يسحبك واشما فيك ذكريات ال تمحو ..في أغلبها حزينة ..
قاتلة ..وأدركت أن جذوري ستبقى راسخة في تلك األرض حتى ولو لم
أزرها أبدا ولم أتنفس هوائها ..ولم أشم رائحة ترابها ..فترابها ممزوج في
دمي وهوائها مغروس في رئتي ..مهما ابتعدت سأبقى مرتبطا بها .
خرجت من المنزل يومها وصوت ابي المخنوق بالدموع والمشاهد تدور
في رأسي ..كنت كالمريض الذي أفاق فجأة ويحاول أن يتعرف على كل
ما حولهم ..ست وخمسين عام ياهلل ..ست وخمسين عام يا رب ..ست
وخمسين عام من الوجع والظلم ..ست وخمسين عام من الهجرة واأللم ..
ست وخمسين عام ولم تمحى أدق التفاصيل من رأس والدي الذي لم يكن
سوى مراهق وقتها ..دمغت مراهقته بكل أنواع الوجع واأللم والذل ..
كنت مشلول الفكر والمشاعر حتى عدت فلسطينيا خالصا ...أنبذ جنسيتي
األلمانية التي كنت اتفاخر بها ..اشتاق ألحمل جنسية بلد محتل منذ دهر ..
بلد لم يخلو تاريخه من الطمع واالحتالل والمقاومة ..أنا ابن تلك األرض
التي جمعت كل األنبياء ..أنا من تلك األرض التي صلى فيها أنبياء هللا
سويا وعرج فيها الرسول إلى ربه ..أنا من هناك حيث مهد السيد المسيح
وأرضه ..من ذلك المكان الذي جمع أنبيائه زكريا ويحيى وعيسى والسيدة
مريم البتول ..أنا من أرض تفوح بعطر األنبياء وأثرهم ..فهل هناك
فخر واعتزاز أكبر من هذا ..جذوري تنتمي لتلك الجذور التي بقيت
راسخة رغم كل التحديات والمصاعب التي مرت عليها ..أنا ابن فلسطين
وعلي حق االفتخار بهذا .
نظر لها ليجدها تمسح دموعها بسبب كلماته لترتسم ابتسامة على شفتيه
وهو يتابع :وهكذا عدت عربيا خالصا وتابعت مشاهدة ذلك المسلسل مع
أبي مستمعا بتعليقاته دائما حتى أتت النهاية مع قصيدة محمود درويش أيها
المارون ..والتي كان لها أثر أخر وكانت سبب في بحثي عنه ألصبح
مدمن لقصائده وحياته ..
ابتسمت معلقة :كلماته كالسحر لن تستطيع إال أن تقع في غرامها .
أومأ لها :معك حق ..فهو ينطق بما تخبأه جوارحنا ..يعبر عن ما نعجز
التعبير عنه ..وال سيما نحن شعوب الشتات والحزن .
رفعت نظراتها إليه وكأنه فهمت سبب قصته ليتابع :كنت أحكي لك تلك
القصة ليس ألجل شيء غير أنني أريد أن أخبرك أن هناك أشياء قد تجمع
بيننا حتى لو لم نكن في تجربة واحدة ..حسام وسالم جمعهما تجربة
مشابه ولكن أنا رغم أنني لم اعش ما عشته أنت وسالم وحسام ولكنني
عشت وجع أخر ..ألم الوطن دون أراه ..ألم الهجرة دون أن أكون طرفا
بها ..وجع أن أولد وأنا احمل صفة الجئ مشتت خسر بلده وأرضه .دون
أي ذنب أو سبب .
انزلت رأسها لألرض دون أن تجيب وهو يكمل :لم أحكي لك كل هذا
ألجبرك على الكالم أو الموافقة على عرضي ولكن ألعلمك أن كل منا له
مخاوفه الخاصة ومناطق حمراء في حياته ال يتجاوزها وال يفتح أبوابها
ابدا ..لقد اقتربت من سن األربعين ولم أتزوج ..كنت أخشى أن أنجب
طفال يحمل اسم الجئ حتى ولو كنت أحمل جنسية هذا البلد ولكن اسم
الجئ ليس له عالقة بالوثائق الرسمية ..هو شيء داخلنا ..أمر ينغرس
كالسكين في قلبك تتذكريه دائما حتى لو حملتي أكثر من جنسية واستقريتي
بأرقى مكان في العالم ..لهذا كنت رافض للفكرة .
ابتسمت معلقة :يبدو أنك حقا متعلقا بدرويش كثيرا ..حتى بدأت تتخذ
أرائه في حياتك .
ابتسم لتعليقها :ولكن حين تعرفت عليك تغيرت كل أفكاري ..ما المشكلة
أن أعيش وأنجب حتى لو حملت ألف صفة تؤذيني من الداخل ..هل
أخسر وطني وحياتي أيضا ..لقد كان أبي يردد دائما طالما هناك فلسطيني
في هذا العالم يتنفس ويهتف قلبه باسم بلده سيكون هناك أمل في أن تعود
إلينا ..ال أعرف لمن سيورث صالح الدين رايته ولكن من المؤكد أن راية
صالح الدين األيوبي لن تنكس أبدا وسيفه لن يبقى في غمده لوقت طويل
..فتلك السيوف تبقى حادة لمئات السنين ال تصدأ وال تموت .
بقيت صامتة لعدة دقائق لتتنهد أخيرا وهي ترفع رأسها نحوه ترسم ابتسامة
مشرقة على شفتيها قائلة :أشكرك على مشاركتك لتلك الذكريات معي ..
ربما كالمك صحيح ولكنني أحتاج لوقت حتى استطيع البوح به ..أنا اتفق
معك أن الوجع يصبح اخف حين نتشاركه ولكن اتخاذ القرار أصعب من
البوح نفسه .
ابتسم لها :وأنا سأبقى أنتظرك حتى تتخذين هذا القرار .
هزت له رأسها لتنظر لساعتها فتقف معتذرة :أنا أسفة ولكن يجب أن
أعود للعمل اآلن .
أومأ لها ليقف معها مغادرا المكان وهي تراقبه من الخلف حتى اختفى
تماما ...لم تعتقد أنه سيقص عليها ما فعل ..كانت تعتقد أن أسلوب حسام
ال يناسبه وهي التي كانت تظن أنه مجرد عاشق للفنون العربية بسبب
سحرها ..وحسام الذي استطاع أن يقنع صديقتها بسبب الماضي المشترك
بينهما أما هي كانت شبه متأكدة أنه ال يوجد هناك أي شيء يجمعها معه
سوى عشقهما للشرقيات ..ولكن يبدو أن هناك خيط غليظ يجمع كل إنسان
عربي حرم من وطنه ..خيط ال ينقطع مهما اختلفت األزمان واألسباب .
قاطع تأملها صوت العجوز الذي كانت تجلس معه قبل قدوم يوسف وهو
يقول لها باأللمانية :أنه معجب بك .
نظرت نحوه دون فهم ليتابع :أقصد الرجل الذي كنت معه منذ قليل ..هو
معجب بك جدا .
رسمت ابتسامة تلقائية على شفتيها بفعل كلمات الرجل دون أن تجيبه ليظل
مراقبا اياها بابتسامة وكأن الشهادة على قصة حب جائزة كبيرة أكثر من
الوقوع بالحب نفسه
.................................................................................
دخلت البيت مساء فبعد زيارة يوسف اليوم وكالمه معها ترك في قلبها اثر
لم تقدر على تفسيره أبدا ..هي ال تنكر تأثرها الشديد بكلماته ولكن كان
داخلها شيء أخر ..تعاطف ؟ ربما ولكن أليست مثله من بلد تعبت من
الموت والتهجير والقصص التي عاشتها وتعرفها ووقعت أمامها أكثر بؤسا
من التي حكى عنها يوسف ..أو ربما هو الشعور أن هناك شخص أخر
من بلد أخر عاش ما تعيشه ..أهل فلسطين كانوا السباقين ليلحق بركبهم
أهل العراق وتنتهي الرحلة في سوريا ..ال فرق بين المتسبب فمن يقتل
إنسان ألنه يطلب أن يكون حي ال أن يكون ميت وهو على قيد الحياة ..ال
يستحق أن يكون بشر ..مهما اختلفت األيدي يظل مالك تلك األيدي واحد
..مجرم دمر أجمل وأعرق البالد والشعوب ..دنسوا أطهر األراضي ..
بالد حملت في كل ذرة من ترابها حكاية حضارة قامت عليها وكل شجرة
غرست فيها شهدت ازدهار لم يسبق ألحد أن عاشه .
تنهدت تزيح عنها تلك األفكار لتبحث عن والدتها لتجدها كما اعتادت ..
تجلس في الصالة تشعل البخور وفنجان من القهوة التي تفضل أن تصنعه
بيدها بعيدا عن اآلالت الكثيرة التي أصبحت منتشرة ..فهي ال تقبل أن
تشرب القهوة إال بعد أن تصنعها على الموقد النحاسي الصغير الذي
جعلتها تبحث في نصف محالت برلين لتجده لها ..
ارتفعت ابتسامتها وهي تقترب من أمها :هل هناك فنجان لي ؟
أومأت لها والدتها لتصب لها الفنجان األخر والذي دائما ما تضعه في
صينيتها :بالطبع دائما هناك المزيد من القهوة .
أخذت منها الفنجان :طقوس القهوة لديك تستحق أن يقال فيها شعر ونثر .
علت ضحكة والدتها وهي ترتشف من فنجانها :أنها عشق قديم ..كبرت
مع والدك الذي يدمنها ألجد نفسي أدمن ما يدمن واعتاد ما يعتاد ..لذلك ال
يمكنني أن أستغني عنها فهي دائما تذكرني به .
قاطعتها متسائلة :هل كانت الحياة صعبة بعد أن غادر هذه الحياة ؟
تنهدت والدتها لتضع فنجانها وتمد يدها المجعدة نحو المبخرة لتعبث
بالبخار الخارج منها :بالطبع كانت صعبة جدا ..ال يوجد أصعب على
المرأة من أن تفقد سندها في هذه الحياة ..وال سيما أن كان يجمعها معه
حب كبير ..كبرت معه ..أنجبت منه أطفال ..عاشت معه تفاصيل كثيرة
..تشاجرت معه مرات وضحكت مرات ..غضبت منه وصالحها وربما
هي من تصالحه ..كل تلك التفاصيل تدفعك للشوق والشعور بالوحدة .
لم تجبها كرمل كانت تستمع فقط لتربت أمها على قدمها :لقد فقدت زوجك
صغيرتي ولكن هذا ال يعني أن تتوقف حياتك عنده .
قاطعتها ابنتها فورا :ها أنت ذا لم تتابعي حياتك بعد أبي .
ابتسمت أمها مجيبة :لقد عشت مع والدك ألكثر من ثالثين عام ..أنجبت
منه شقيقك وأنت التي كنت فرحة حياتنا وال سيما بعد أن هاجر أخوك إلى
أمريكيا واستقر بها ..ثالثين عام معه في بيت واحد أنام على صوته وأفيق
على صورته ..وأبناء من دمه يحملون اسمه ..عشت معه كل المشاعر
واألحاسيس ..لم يبق لي أي شيء ألعيشه مع غيره ..بينما أنت لم
تجربي الحياة الزوجية معه أبدا ..خسرت تلك الحياة قبل أن تبدأ صغيرتي
..لم تصلي بعد لسنك الثالثين ..ليس هناك أي أثر تركه لك في هذه الحياة
..كان نسمة هواء بعثرت أوراقك وتركتك وحيدة ..الحياة ال تستحق أن
تدفني نفسك بها ..
عضت كرمل شفتها لتفطن على شيء فتسأل أمها :ما سر حديثك هذا ..
هل هناك أمر ال أعلم به ؟
ابتسمت والدتها وهي تمد يدها للطاولة تمسك فنجانها تشرب منه لتنظر
البنتها بمكر :دائما هناك أسرار وأسباب لكل حديث يا فتاة .
اعترضت كرمل بفضول :أمي ..
ضحكت والدتها وهي تجيبها :أنه يوسف
نظرت ألمها بعدم فهم :يوسف من ؟
أعادت أمها نظرات المكر لها مجيبة :يوسف صديق حسام هل نعرف
يوسف غيره .؟
شعرت بالصدمة لثوان لتتدارك صدمتها متسائلة :ما به ؟
أجابتها بعد أن تنهدت :لقد طلب يدك من العم محمد ..
فتحت عينيها بصدمة ال تستوعب ما قالته أمها لتهمس :متى حدث هذا ؟
قالت لها :بعد خطبة حسام بيوم ..أخبره بأنه عرف أنك تعتبرين العم
محمد كعم لك وكان يريد أن يدخل البيوت من ابوابها ..
قاطعتها وهي تسأل وكأنها تسأل نفسها :ولماذا لم يخبرني عمي بهذا ؟
أجابت والدتها :أنا أخبرته أال يخبرك ..فأنا أعرف رايك جيدا بهذا األمر
وأخبر يوسف به ويوسف قال يعلم بوضعك وبأنك رفضتي عرضه من قبل
ولكنه مع ذلك مصر على فكرة الزواج منك حتى لو أنتظر ألي وقت .
صمتت كرمل لدقائق تحاول استيعاب ما يحدث ..إذن عرضه لها لم يكن
مزاح منذ البداية وحديثه كان مقصود ..واليوم حين أتى إليها كان بعد أن
جعل األمر شبه علني بأخباره أمي والعم محمد ..فالرفض أصبح أصعب
اآلن ..وال سيما مع وضع والدتها التي تشعر باألسى عليها في كل مرة
يفتح به موضوع الزواج .
أمسكت أمها يديها لتلفت انتباها هامسة :ما األمر ابنتي ؟ تحدثي بما
تفكرين به ال تخافي لن أجبرك على شيء رغم أنني اعتقد أن يوسف رجل
مناسب جدا لك .
نظرت إلى أمها ودمعة تجمعت في عينيها لتقول أخيرا :ال أعرف أمي ..
نعم هو رجل جيد ..مثقف ..وسيم ..ويحب عملي جدا ..ويبدو أنه
معجب بي ايضا ..لقد عرض علي الزواج بطريقة عجيبة جدا وهي من
أكثر الطرق التي تثير مشاعري ..صادق جدا معي ..ولكنني خائفة ..ال
أرغب بخسارة أخرى ..لست مستعدة لتجربة مصيرها الفشل من جديد ..
لقد رأيت زوجي يموت أمام عيني وال أرغب بأي شيء يفتح جروحي أبدا
..لقد رفضت يوسف في المرة األولى لكنه اليوم أتى إلى المركز وتحدث
معي .
سألتها :وبما تحدثتما ؟
أجابت :تحدث لي عن والديه ..تأثره بما يحدث بفلسطين حتى وإن لم
يولد فيها ويكبر بين حاراتها ..حدثني عن عقدة الالجئ التي يعيش فيها
وعدم رغبته بالزواج من قبل ..أمور تخصه هو فقط ولم يأت على ذكر
الزواج أو رفضي له أبدا .
قاطعتها والدتها مرة أخرى :وما رأيك أنت بكل ما قاله ..هل كان صادق
؟
أومأت لها بنعم لتتابع :إذن هو لم يخض التجربة ولكن يعيش نتائجها .
نظرت كرمل في عيني أمها بعدم فهم لتبتسم أمها بحنان قائلة :كرمل أنا
أعرف سبب رفضك المبدئي لشخص مثل يوسف ..ليس حفاظا على
ذكرى زوجك فأنا وأنت نعلم أن زواجك لم يكن مبني على الحب من
األساس وكان اتفاق عادي وزواج لم يكن طويل حتى يتولد حب من خاللها
..وليس خوفا من النتيجة ..أنت خائفة من االرتباط بشخص عاش في
الرخاء طوال حياته ..لم يعاني من قبل من جنسيته ..لم يواجه مشكلة
الوثائق الرسمية ..أوراق اللجوء ..الدخول إلى بلد أجنبي عن طريق
التهريب ..لم يسمع من قبل جملة تحتاج إلى فيزا لتدخل ذلك المكان ..
رجل لم تلطخ مالبسه من قبل بالدماء وخصالت شعره بغبار القصف ..
أنت خائفة من االرتباط برجل لم يهرب من قبل خوفا من االعتقال ..لم
يخرج من بيته تحت القصف ..لم يقعد في الحر لساعات دون كهرباء أو
يلف نفسه بالكثير من األغطية لعدم توفر التدفئة في الشتاء .
نظرت ألمها كالمصعوقة .كانت كلمات أمها تعريها بشكل ال يمكن وصفه
..كل كلمة كانت تحط في مكانها ..كل وجهة نظر ورأي أخذته عن
يوسف ترجمته كلمات أمها
لتتابع كلماتها :نعم ربما يوسف لم يعش كل هذا ولكنه عاش ما هو أصعب
وأكثر حزنا ..منذ صغره وهو ال يحمل أي صفة في هذه البالد ..يحمل
جنسيتها نعم ولكن هل يعامل كابن البلد الذي تنتمي جذوره لهذه األرض ؟
هو لم يشعر بالقصف والخوف والرعب ولكن هل شعرت في صغرك ان
طفلة منبوذة من أصدقائك ..في البيت تدعين باسم وفي الخارج اسم أخر .
قاطعتها :ولكن الالجئين في كل مكان أمي .
ابتسمت لها :والبالد التي تعرضت للحروب في كل مكان بنيتي ..إن كنت
ترغبين بأن يحترم الناس ألمك ال تقللي من أالمهم مهما كانت برأيك
بسيطة وال تستحق .
عضت على شفتيها بخجل ووالدتها تتابع الحديث قائلة :فكري بيوسف من
ظروف يوسف نفسها وليس من ظروف كرمل ..عندها ستجدينه يحتضن
ألم لم تتوقعيه من قبل .
غادرت الصالة نحو غرفتها وكلمات أمها تدور في عقلها ..ال تعرف هل
ظلمته حقا وسخرت من حياته ..تراه رجل ناجح ..غني ..يحمل جواز
سفر يدخل إلى الكثير من بالد العالم بسهولة ..ليس لديه أي مشكلة
بالتعامل مع أي أوراق رسمية ..لم يضطر في حياته إلى الهروب من بلد
لبلد ومن بحر لبحر ..ولكن أليس هذا إجحاف بحق العالم كله ..لماذا
تنظر للناس من ثقوب قوقعتها هي ..قد يعيش اإلنسان في بلده وبيته وبين
أهله وحياته مليئة بالمآسي والعثرات ..
وهكذا يوسف قد تكون حياته للناس سهلة وفيها مزايا كثيرة ولكن أال يمكن
أنه عاش أشياء صعبة وفترات من الحرمان إيضا .
تنهدت لترمي نفسها على السرير تحاول أن تقيم األمر من جديد وبعيون
أخرى غير عيون الحرب التي كانت تخيم على رؤيتها من قبل .
............................................................................
أغلق الملف أمامه ليقول وهو يفرك عينيه :هذا أخر ملف علينا دراسته
صحيح ؟
أومأ له حسام وهو يغلق قلمه ينظر لصديقه الذي كان يبدو متعب باآلونة
األخيرة ليقول :نعم أخر ملف ..ولكن ما بك اليوم ؟
تنهد يوسف وهو يدور في كرسيه :أشعر بالملل فقط .
لملم باقي األوراق ليضعها في ملفها البالستيكي :هل األمر متعلق بكرمل
؟
توقف يوسف عن الدوران لينظر في عيني صديقه :يا رجل وجودي هنا
دون أن أعرف ماذا يحدث معها مزعج جدا ..العم محمد ووالدتها
أخبراني أن أعطيها مساحتها الخاصة لتفكر وكانا متفائالن جدا .
تنهد :بماذا تفكر ؟ ولماذا كان العم محمد يركز على أن أبتعد وال أحادثها
من جديد ...
أجابه حسام :أن ما مرت به ليس سهال .
أومأ له قائال :أعلم ولهذا أقبل بكل ما يحدث ..فكرة أنها مرت بكل هذا
تؤلم قلبي ..لم أكن أتوقع أن أقع في حبها هكذا ..رفضها زاد عنادي
لقربها ..وابتعادها ما هو إال جاذبا لي نحوها أكثر .
ابتسم حسام :انتظر فقط ...
هز يوسف رأسه دون أن يدلي بأي كلمة جديدة ليقول حسام وكأنه فطن
ألمر مهم :بالمناسبة ماذا حدث في أمر السيف ؟
أجابه :لقد تواصل عمك مع الرجل في دمشق وأخبره أنه سيسأل عن
عنوان قريبه في مصر .
سأله حسام مندهشا :ولماذا تحتاج العنوان أال يكفي رقم الهاتف ؟
هز يوسف رأسه نافيا :ال هذه المرة أنا مصرا على الذهاب إلى السيف
بنفسي لن أجلس هنا وانتظر األمر .
قاطعه مرة أخرى متسائال :كنت قد أخبرتني أن صانع السيوف في دمشق
أخبرك انه سينصع لك سيف أليس كذلك ؟
أومأ له بنعم ليكمل :وقد أخبرتني أنه يمكنك طلب آية قرآنية أو جملة أو
بيت شعر لنقشها على السيف ؟
أومأ له مرة أخرى وهو ينتظر تفسيرا ألسئلة صديقه الكثيرة ليجيبه :جيد
..هل يمكنك أن تتصل به اآلن ؟
نظر له يوسف بعدم فهم :بالطبع ولكن لماذا ؟
ابتسم له حسام :أريد من أن يصنع لي سيف دمشقي وأنا سأعطيه العبارة
التي أرغب بنقشها عليه .
ارتفعت ابتسامة صديقه بعد أن فهم األمر ليمسك هاتفه يطلب الصانع
بسرعة يميله ما يرغب به صديقه .
أغلق الهاتف بعد أن أنهى االتفاق مع السيوفي واتفقا على موعد الشحن
والثمن ليقول يوسف :لم أكن أتوقع هذا منك يا ابن بغداد .
أجابه حسام :هذا بعض مما عندك يا صديقي .
كاد أن يجيبه لكن رنين هاتفه أوقفه لينظر لهوية المتصل والصدمة تعلو
وجهه وهو يهمس أمام رفيقه :أنها كرمل .
حثه حسام بسرعة :هيا أجب بسرعة لعله خبر سعيد .
فتح الخط لتقول له :أريد أن أقابلك ..هل يمكن ؟
أجابها :حاال
أخبرته :أنا في حديقة فندقك سوف انتظرك هناك .
تسمر واقفا من كلماته ليغلق الخط وهو يتجه نحو الباب وحسام يوقفه
متسائال عن األمر ليقول وهو خارج دون أن يلتفت له :أنها في الحديقة ..
أنا ذاهب لها .
راقبه حسام وهو يسرع في خطواته نحوها ليرفع هاتفه فورا يطلب
خطيبته :أخبريني عن قرار كرمل فأنا لن انتظر أن تفرغ حديثها مع
يوسف .
أجابته بعدم فهم :ال أعلم عن هذا شيء ..ثم ان كرمل ترفض التحدث
معي في األمر وتقول دعيني أتخذ القرار بنفسي .
تنهد بال أمل لتسأل سالم :ولكن هل ذهبت إليه ؟
أجابها :أجل وطلبت لقائه
علقت :اتمنى أن توافق وتخرج من الحزن الذي تلف نفسها به ..بالمناسبة
أنا أصبحت قريبة من الفندق ..دعها تنتظرني بكافة األحوال .
ارتفعت ابتسامة شوق لها فورا ليجيبها :أنا انتظرك
..........................................
في الحديقة .
كانت تجلس على إحدى المقاعد الخشبية التي صمتت من جذوع الشجرة
تراقب األوراق الخضراء من حولها حتى شعرت بوقع أقدامه يقترب منها
لترفع رأسها نحوه بابتسامة هادئة هامسا :مرحبا
أجابها :أهال بك .
ابتسم له لتعود لتجلس على جذع الشجرة وهو يجلس قربها صامتا وكأنه
ينتظر البيان الذي سوف تحرره أمامه رغم أن التوتر يسيطر عليه لكنه لم
يعلق أو يسأل شيء ..
ليسمع تنهداتها ثم صوتها قائلة :لقد تم عقد قراني في سوريا ..شاب من
إحدى العائالت الشامية ..لم أكن أعرف عنه شيء من قبل ولكن هي
العادة الزواج عن طريق العائالت وأنا كنت أخضع لتلك العادات وأتقبلها
أيضا ..تم خطبتنا وكان األمر يسير كما المعتاد حتى أتى يوم ألمي قائال
أنه يريد تعجيل الزواج ألنه قرر الخروج من البلد نحو ألمانيا ..بالطبع
فالحياة في بلد كسوريا أصبحت مشابه للحياة في الجحيم ..ال عمل ..ال
كهرباء ..ال ماء ..الموت في كل مكان ..غبار القصف يغطي الغيوم
والشمس ..فكانت الحياة شبه معدومة هناك ..لذلك وبالنسبة ألي شاب
فرصة اللجوء أفضل ألف مرة من البقاء تحت حزام الموت ..
في البداية كنت رافضة بشكل كبير لتلك الفكرة ..تعلقي بالشام وبأمي
أيضا ...كيف اتركها وحدها ..ابي مات وأخي مستقرا في أمريكا رغم
أنه حاول أن يأخذها لعنده لكنها رفضت من أجلي وأتي أنا ببساطة ألتركها
وحدها ..حتى وصل األمر معي لفسخ الخطوبة لكن أمي رفضت فكما
هي العادة أيضا تجربة خطوبة فاشلة هي نقطة حمرا في ملفي كفتاة شامية
..لتحاول أن تقنعني أن فكرته جيدة وله كل الحق بطلبه ..ولماذا ابقى ..
علي أن أرى حياتي ..أسس عائلتي وانجب أطفال في بيئة سليمة هادئة
وجيدة ..وهكذا بقيت شهر تقنعني بالفكرة حتى اقتنعت ووافقت ..وافقت
على طلبه وعقدنا القران لنغادر سوريا في نفس اليوم ليال ..من سوريا
إلى تركيا ومنها عن طريق البحر إلى ألمانيا ..الحلم كما يسميها زوجي
رحمه هللا .
رغم أن رحلة دخولنا إلى تركيا كانت ال تخلو من المخاطر وضرب
بالرصاص أيضا ولكننا استطعنا أن ندخل لنجد مجموعة من أصدقائه في
انتظارنا ..وغادرنا تركيا في أقل من خمسة عشر يوما قضينا معظمها مع
رفاقه وعائالتهم ..ثم خرجنا ..نحو البحر .
نظرت نحوه لتجده مستمعا بصمت فتكمل بصوت يشبه الهمس :ال بل
نحو الموت ..كنا جميعا نركب قارب مطاطي صغير دون أي ترتيبات
للسالمة والمهرب يخبرنا أن األمر بسيط ولن يستغرق وقت طويل ..هكذا
حتى بدأت الكارثة ..حركة موج عالية بدأت تقذف المركب في جميع
االتجاهات ليبدأ الخوف يدب في قلوب الجميع وصراخ األطفال يعلو ..
كان عددنا على القارب حوالي عشرين شخص ..وفجأة اصبح صفر ..
جميعنا رمينا في البحر والقارب صار فارغ يمشي في عرض البحر لوحده
..حاول الرجال معنا أن يصلوا إليه ولكن موج البحر العالي حال دون
ذلك ..في خضم كل هذا كنت أبحث عن زوجي بين الوجوه ..أريد أن
أمسك به فقد شعرت أن الموت قريب مني ال محالة ..لكنني لم اجده ..
بحثت وبحثت ولم أجد أحدا ..حتى سمعت إحدى الرجال يصرخ باسم ابنه
الذي اختفى أيضا ألخبره أن زوجي ايضا اختفى ..بقينا ساعات في الماء
دون فائدة ..بحث الرجال عن الطفل وزوجي ولكن لن يجدوا أحد ليقرر
أحدهم السباحة .لم يكن امامي إال أن أسير مع الجمع الذي بدأ يتفرق أيضا
..حاولت السباحة بصعوبة فأنا ال أجيدها ..حتى ساعدني الشبان الذين
كانوا معنا ..لنصل أخيرا وبطريقة عجيبة إلى الشاطئ وخفر السواحل
حولنا ..أخبرهم الرجل عن ابنه وعن زوجي ..وبعد أقل من نصف ساعة
عاد خفر السواحل ومعهم جثتين ..جثة لرجل وكان زوجي وجثة الطفل
الصغير الذي بدأت والدته تولول وتبكي عليه وأنا التي صدمت ..كان
يقول أرض الحلم أمامنا ولكنها اآلن لم تكن سوى مقبرة له ..سافر من
دمشق كل تلك المسافة ليدفن هنا ..لتضم جسده هذه التربة التي لم يألفها
من قبل ..تاركا خلفه زوجة لم يعيش معها وال يوم ..لم يفرح بزواجه
منها ..وكأنها نذير شؤم عليه فقد أفقدته حياته وبقيت هي غريبة في أرض
غريبة ..
وجدت نفسي وحيدة فحتى صديقه الذي دخل معي أخذ عائلته وأسس حياته
..كان يسأل عني في البداية ولكن مع االيام خف السؤال واختفى تدريجيا
من حياتي هو وأسرته ألبقى وحيدة ..ضائعة ..ال أعرف أحد وال أجيد
اللغة ..قررت العودة لسوريا ولكن كيف أعود وأنا ال أملك نقود وال
أوراق وال أي شيء فقد اتلفوا جميعا في البحر ..تحدثت مع أمي وأخي ..
وكان صعب جدا عليه أن يأتي ألي أو حتى يأخذني إليه فأنا بال أوراق
حاليا ..لتقترح امي أن تأتي إلي هنا ..لم أكن أعلم أن كالمها هذا لم يكن
سوى حبة مسكن لي ألستطيع أن أقف على قدمي ..فوافق أخي على
االقتراح وشجعتني أمي على القبول ..وهكذا مرت األيام ألجد نفسي
انخرطت في المدرسة أتعلم اللغة وأعيش مفردي انتظر أمي التي بدأت
معركة جديدة في تنظيم األوراق وإيجاد طريقة تأتي بها إلى هنا ..فسنها
ال يسمح لها بالخروج عن طريق التهريب ..ليخبرها أخي أن تسافر إلى
األردن وهناك تعرفت على عائلة العم محمد وبمساعدة أخي ومعرفته
لبعض األشخاص ذو النفوذ استطاع أن يحصل لها على طلب لجوء لتأتي
إلى هنا أخيرا بعد عامين من المحاوالت .
توقفت عن الكالم ونظراتها تركز عليه تحاول البحث عن أي ردة فعل قد
تظهر على مالمحه لكنها لم تجد شيء لتتنهد بصوت عال وكأنها تحاول
جذب الهواء من كل مكان حولها لتقول له أخيرا :عندما أخبرتني عن
طلبك لم أكن أعلم كيف أفسر لك رفضي ألنني نفسي لم أكن أقدر أن
أفسره ..عشت سنوات صعبة في سوريا ثم هنا ...فقدت زوجي قبل أن
أبدأ معه ..عشت بعيدة عن عائلتي وحيدة هنا ..وحين استقرت حياتي
ووجدت أسرة لي هنا دخلت أنت حياتي بحبك للشرقيات وشغفك في
ماضي مدينتي ..تعلقك بمحمود درويش الذي كبرت على أحاديث أبي
عنه يوميا ..حتى عرضك علي كان يتضمن األشياء التي أميل لها ..
ولكن هناك أشياء لم أقدر على تجاوزها فيك .
قاطعها يوسف للمرة األولى منذ بدأت حديثها :مثل أنني لم أجرب الحرب
ولم أواجه الصعوبات ؟
تجمدت حدقتيها بفعل سؤاله الذي لم يكن سوى جواب ال تجرأ على نطقه
..لتهز رأسها بنعم .
ليبتسم لها بثقة قائال :كما توقعت .
سألته هامسة :توقعت ؟
أومأ لها ليفسر :نعم كرمل ..فتاة تربت على كلمات درويش المفعمة
بالحرية والوطنية ..تعشقت تاريخ مدينتها وحفظت كل أسرارها ..
واجهت الموت وخاطرت بحياتها نحو بلد أخر من أجل واجبها الزوجي
فقط ..ثم مات رجلها أمام عينيها بطريقة ال يمكن وصفها بشيء ..هذا
كله كان يفسر لي رفضك ..وبصراحة أنا ال ألومك أبدا ..فمن ينظر
لحالي رجل غني مستقل في حياته وعمله أملك جنسية من أقوى الجنسيات
في العالم ..بينما أنت فتاة تحمل بعض األوراق وجواز سفر مؤقت ..
عانت ..رأت الموت أكثر من مرة ..كانت مفارقة واضحة جدا وأنا ال
ألومك عليها .
قاطعته هامسة :وهذا سبب حديثك معي في المركز ؟
أومأ :بالطبع ..كنت أرغب أن أوضح لك أن هناك كثيرين عاشوا وضع
صعب ..بكوا في صمت حتى لو كانوا شاهدين على هذا األلم ولكنه
يمسهم بطريقة أو أخرى ..وأنا كنت هذه الفئة ..كنت شاهد على الضحية
والتي هي أبي ..الضحية التي فقدتى سنوات مراهقتها بين نزوح وفقد
لوطنه ..شاهد على ذكرى حفرت في عقله وقلبه وكل ذرة حياة فيه .
صمتت لثوان لتنظر أمامها تحاول تجنب نظراته :أنا أسفة .
حرك جسده نحوها وهناك تفسيرا واحدا يدور في عقله العتذارها ..لتكمل
:أنا آسفة لنظرتي السيئة لك ..آسفة ألنني ظننت أن ألمنا لم يسبق على
بشر من قبلنا ..آسفة ألنني استهنت بهجرتك منذ ولدت وعيشك مع صفة
الجئ منذ أن كنت في بطن أمك .
ارتفعت ابتسامته تدريجيا :إن كان أسفك لن يصل لجملة آسفة أنا أرفض
االرتباط بك فسوف أقبل كل اعتذاراتك بصدر رحب .
ضحكت بخفة وهي تهز رأسها :ال لن أرفض طلبك .
تنهد براحة أخيرا فها هو قد حصل على موافقتها ليقول من جديد :لدي
شرط .
رفعت حاجبها نحوه بعدم فهم ليفسر :لقد أخبرني العم محمد أنه سيحصل
لي على عنوان الرجل في مصر ..وأنا أريد أن تكوني معي بهذه الرحلة
..
حاولت أن تعترض ليوقفها بيده :أنا لن أرى ذلك السيف ذو مئات السنين
وحدي ..ستكونين معي شاهدين على حب أبي ألمي .
ابتسمت هذه المرة ابتسامة نقية خالصة ومرتاحة تجيبه :موافقة .
ابتسم ليفطن على شيء أخر :هل تحملين ورقة ؟
أومأت له بعدم فهم وهي تخرج ورقة بيضاء من حقيبتها ويده تنسل إلى
جيب سترته يخرج قلمه منها ممسكا الورقة من يديها يمزقها قطعتين
لينظر في عينيها بعدم فهم وهو يقول :إن كان عرضي على الطريقة
الدرويشية فيجب أن نتابع كل الطقوس .
فهمت ما يرمي إليه لتبتسم وهي تمسك منه القلم والورقة لتكتب :أحب
دمشق القديمة ..ساعات الغروب ..المطر ..محمود درويش ..أغاني
فيروز ..الموزييك والسيوف الدمشقية
أعطته القلم ليكتب في ورقته :أحب السيوف الدمشقية .وأحبك أنت فأنت
الوطن الذي أبحث عنه .
ليعطيها ورقته ويأخذ منها ورقتها .
وضعت ورقته في حقيبتها وهو أعاد القلم مع ورقتها إلى سترته لتعلق :
من كان يعتقد أن أفعل ما فعله محمود درويش حين عرض الزواج على
رنا القباني ..
أبتسم :كنت دوما أتخيل ردة فعل زوجته حين مزق الورقة التي كانت معه
وطلب منها أن تكتب ما تحب وهو سيفعل المثل ولم أكن أتخيل أن أفعلها
مع إحداهن ...ولكن اللمعة التي رأيتها في عينيك وأنت تكتبين كانت
تستحق .
نظرت له تتأمل مالمحه وعينيه تراقب الورود حولهما لتبتسم فها هي
أخيرا اتخذت القرار الصحيح في حياتها وقررت الشخص الذي ستتابع
معها بقية حياتها .
قاطع نظراتهما صوت سالم التي اقتربت :أرجوكما أخبراني أنه خبر
سعيد.
ابتسم لها يوسف وهو يقف مرحبا بها :بالطبع سعيد
ضحكت بحماس وهي تركض نحو كرمل تحتضنها تبارك لها ثم ليوسف
لتقطع كرمل سيل المباركات وهي تنظر للحقيبة الورقية التي تحملها قائلة:
انتهيت من صنعه
أومأت لها سالم بنعم ويوسف يتسائل :صنع ماذا؟
ارتفع المكر على نظرات كرمل مجيبة :أين حسام هل هو هنا؟
هز رأسه :أنه في المكتب
أمسكت يد صديقتها :خذنا إليه لتعرف ما األمر .
مشى الثالثة وسالم خجلة كانت تخطط أن تعطيه الثوب لوحدها معه ولكن
مع إصرار كرمل وفضول حسام أصبح األمر صعب بالنسبة لها ..كانت
تعض شفتيها بتوتر وال سيما حين استقبلهم حسام وهو يسأل :أخبرني ماذا
حدث؟
أجابه يوسف :سوف اتزوج قبلك يا صديقي
ارتسمت السعادة على مالمح حسام الذي فعل كما فعلت خطيبته منذ دقائق
ليبدأ بالثرثرة والضحك والمباركات حتى قاطعه يوسف وهو ينظر للفتاتين:
هيا دعوني أرى
توقف حسام بعدم فهم :ترى ماذا؟
اقترب من صديقه بنظرات خبيثة :ال أعلم خطيبتك قد صنعت شيء ويبدو
شيء مهم ألن كرمل كانت متحمسة جدا لذلك أتينا إلى هنا .
نظر إلى سالم ليتقرب منها خطوة ثم إلى يدها التي مدتها نحوه تعطيه
الحقيبة والخجل بدأ يزحف إلى وجنتيها ليأخذ منها تلك الحقيبة يفتحها ليجد
قطعة قماش بيضاء اللون .فيرفع بصره نحوها بعدم فهم فتقول :أخرجه
وأنظر
فعل ما قالت ليضع الحقيبة بعيدة ليرى تلك القطعة فيجدها ثوب عربي ذو
لون أبيض كريمي فيها يلمع بلمعة خفيفة ليتبين له أنه من الحرير على
أكمامه وأطرافه تطريز بخيط أبيض وتلك التطريزات تبدو كرسمة
زخرفية رائعة تجذب األنظار
ليعلق يوسف باندهاش :هل هذا هو األغباني ؟
أومأت له سالم :نعم هذه هو لكنني وجدت قماش حريري أبيض لذلك
استخدمته ولحسن حظي وجدت خيوط حريرية بيضاء أيضا.
اقترب من صديقه ليلتمس القماش :أنها رائعة الجمال ..أنت مبدعة.
ابتسمت له بخجل دون أن تعلق لينظر إليها حسام بنظرات مليئة باالمتنان
والحب :ال أعلم بماذا أعلق؟
أنزلت رأسها بخجل :أتمنى أن يكون مقاسك ..لقد قدرت قياساتك تقدير
اقترب منها خطوة :حتى لو لم يكن مقاسي سوف احتفظ به .
قاطع كالمهما يوسف الذي وجهه كالمه لكرمل :هل تحتاجين لقياساتي
لتصنعي لي ثوبا مثله .
ضحكت كرمل تجيبه :أنا ال أجيد عمل اإلبرة ..ثم أن سالم طرزت تلك
الخيوط بيدها ..
بدت على مالمحه خيبة األمل لتكمل :يمكنني أن أصنع لك صينية من
الموزييك .
أومأ موافقا على اقتراحها :فكرة مغرية جدا.
الفصل السابع
لم تكن تتخيل أن تكون األمور بهذه السرعة فلم يكد مر شهر على حديثها
مع يوسف في حديقة فندقه وها هي اآلن زوجته رسميا ..تحمل اسمه وهو
يحمل قلبها ..لقد كان يتغلغل فيها بهدوء ودقة دون أي مقاومة منها ..
اكتشفت فيه خالل هذا الشهر كم هو رجل يستحق كل الحب والتقدير ..
حتى والدتها أعجبت به وبأفكارها ورقيه ..حياتها وحياة سالم تغيرت
كثيرا خالل األشهر الماضية ..من فتاتين يلفهما أثر الحرب في بالدهم
لتدخل رجلين ماسحين تلك الراء اللعينة ويصبح الحب هو من يحوطهم
ويغطي بظالله على كل بقعة ألم مرتا بها ..
كانت ترى سالم التي تبدلت من بنت ال تثق بنفسها أو أي عمل تقوم به إلى
أخرى متفائلة بكل شيء ..مبتسمة على الدوام ..بدأت تحب نفسها بعيون
حسام الذي أحبها دون قيد أو شرط ..حتى أنه رفض فكرتها حين اقترحت
أن تقوم بعملية تجميل ألثار الشظايا في جسدها ..رغب بها كما هي
بجروحها وابتساماتها ..فتلك األثار لن تغير من قيمتها بقلبه ونظرته لها
وهي اقتنعت بكلماته .كانت تتوقع أن سالم لم تقبل برأيه ولكنها ولصدمة
الجميع كانت مقتنعة جدا بما قال ...حتى أنها لم تعد تخجل من إظهار تلك
الندوب أمامها أو أما شقيقتها األصغر ..نعم لقد تبدلت الحياة واختلفت كليا
..فحين ننظر إلى نواقصنا بحب سنجد أن هللا أرسلها لنا بتعويض أكبر ..
هو الرضا ..وهي كانت راضية عن حياتها أخيرا ..تلك السنين العجاف
التي عاشتها حملت معها أمطار غزيرة وسنوات ستكون مزهرة بإذن هللا .
شعرت بيد يوسف الذي أمسك يدها لتبتسم له قائال :مبارك لك سيدة كرمل
الكسواني .
ابتسمت بفخر فما أجمل أن تحملي اسم الرجل الذي تحبين لتهمس :شكرا
لك .
نظر إلى ساعته ليعلق :هيا بنا لنلحق بالطائرة إلى القاهرة .
نظرت حولها ألمها وسالم وحسام حتى العم محمد وزوجته كانا حاضرين
لتقول :أليس الوقت مبكرا ؟
أجابها حسام :ال يجب أن تصال قبل فترة من إقالع الطائرة ..ثم أن
رحلتكما لن تطول أكثر من أسبوع .
علق يوسف :نعم نعم فهناك خائن حدد موعد زفافه ليضعنا في موقف
صعب .
ارتفعت الضحكات لتقترب من أمها تحتضنها بدموع واألخرى تدعو لها
بالسعادة والفرح وكرمل تهمس لوالدتها :أدعي لي أماه .
ابتسمت والدتها من بين دموعها :دائما بنيتي ..لتكن السعادة من نصيبك
..
ابتعدت تودع اآلخرين ويوسف يحتضن حماته مودعا إياها ليسمك بيد
كرمل بعد أن فرغ الجميع من الوداع نحو المطار .
مضت الرحلة بسالسة وها هما اآلن على األراضي المصرية ..همست
كرمل وهي تراقب القاهرة من السيارة التي اتخذاها نحو الفندق واألهرام
واضحة لعينيها :أنها أم الدنيا .
ابتسم لها يوسف وهو يراقب ما كانت تراقبه ليقر :مصر المحروسة التي
تضم جماال لم يسبق ألي بلد أن ضمه .
أومأت له بصمت حتى وصال إلى الفندق ويوسف يطلب أحد األرقام من
هاتف الفندق ليجيب عليه صوت رجولي :السيد خالد .
أجابه الرجل بنعم ليتابع يوسف كالمه :أنا أدعى يوسف وقد حصلت على
رقمك من قريبك أحمد في دمشق ..هل يمكنني زيارتك غدا لدي أمر ما
أرغب بالحديث معك به .
أجابه الرجل :أهال وسهال بك في أي وقت .
ابتسم يوسف لزوجته المنتظرة بفضول ليقول :حسنا إذن غدا الساعة
الواحدة ظهرا
قاطعه الرجل :أرسل لك العنوان ؟
أجابه :ال أنا أملكه ولكن العنوان الذي لدي هو عنوان محلك لذلك زيارتي
ستكون لمحلك ال بيتك .
وافق الرجل على طلبه ليغلق الخط بابتسامة منتصرة قائال :وأخيرا .
ابتسمت له كرمل بسعادة لتعلق :هيا نأكل إذن واريد أن أنام فغدا يوما
طويل
أومأ لها زوجها ممسكا يدها نحو طاولة الطعام في الغرفة .
في اليوم التالي كان يوسف وكرمل في حي الحسين في القاهرة ..تحديدا
في خان الخليلي ..نظرت نحو المكان بإعجاب كبير لتعلق :يشبه أسواق
دمشق القديمة .
ابتسم لها ليمسك الورقة بين يديه يقف قرب إحدى المحالت هناك ليسأله
عن المحل المقصود والرجل يساعده في الطريق ليشكره يوسف متجها
حيث أخبره الرجل ..ورغم بحثه عن مكان محل السيد خالد لم يفته مراقبة
المكان حوله والمحالت المنتشرة حوله بما تحمل من فضيات ونحاسيات
وعطور واألشياء التراثية لقول :إن لم نحصل على السيف سوف نحصل
على حملة تسوق ال تفوت .
اقتربت منه كرمل ممسكا يده :دعنا نكون متفائلين .
لم تكد تنهي جملتها حتى وقف يوسف أمام محل للنحاسيات لينظر لالسم ثم
الورقة التي بيده قائال :اعتقد أننا وصلنا .
ليجد فعال رجل يقف وكأنه ينتظر زائرا ما ليقترب منه :السيد خالد ؟
أومأ الرجل :وأنت السيد يوسف ..خشيت أن تضيع في الزحام أو ال
تعرف العنوان لذلك فضلت أن انتظرك هنا .
مد له يده مرحبا به ثم أومأ لكرمل برأسه لترد عليه بهزة خفيفة من رأسها
يدخلهما إلى دكانه وهي تراقب القطع المتناثرة حولها ..ما بين لون ذهبي
يخطف األبصار ولن فضي يسحر القلوب ..كانت مدهوشة جدا فمنذ أن
غادرت سوريا لم تزر سوقا شعبيا ومحالت القطع القديمة في ألمانيا كلها
على الطراز الحديث أما هنا شعرت وكأنها في دمشق للحظات ..ولهجة
الرجل الممزوجة بين الشامية والمصرية كانت مميزة جدا لتشعر براحة
كبيرة .
قاطع تأملها صوت الرجل لها :تفضلي .
رفعت رأسها لتجده يمد بيده بصينية عليها كؤوس من الشاي لتأخذ واحد
منه تشكره وهو يقول :لقد تحدث معي قريبي ليلة أمس وأخبرني بشكل
عابر عن سبب طلبك رؤيتي .
أجابه يوسف :السيف الدمشقي .
أومأ الرجل ليضع الصينية على الطاولة وعينيه تتجه نحو يوسف :نعم لقد
قال لي أنك تبحث عن سيف ترغب بشرائه ولكن أنت تعلم أن مثل هذه
السيوف ال تباع أبدا فهي أرث عائلي .
سيطر التشاؤم على يوسف ليقول :يمكنني دفع أي ثمن ..ال يهمني كم
سيكون .
صمت الرجل وكأنه يقلب األمر في رأسه ويوسف ينظر إلى زوجته بقلق
ليقول الرجل أخيرا :تعاليا معي .
وقفت يوسف متسائال :إلى أين ؟
أجابه :إلى بيتي ..أال ترغب برؤية السيف ؟
ابتسم يوسف بتفاؤل :بالطبع هيا بنا .
وما هي إال نصف ساعة حتى وصل الرجل ومع كرمل ويوسف أمام
أحدى البيوت ليفتح الباب يدعوهما إلى الدخول نحو صالة الضيوف ثم
يعتذر منهما قليال ليبقى الصمت مسيطر عليهما حتى تقطعه كرمل :ال
تعبس هكذا
ابتسم لها ليقطع ابتسامته دخول الرجل من جديد وهو يسند عجوز هرم
بصعوبة بالغة ...وقف اإلثنان والعجوز يرحب بهما ليقول بعد أن جلس
بصعوبة :أخبرني ولدي عن طلبكما .
أومأ له يوسف ليبتسم العجوز وهو ينظر لولده :اذهب وهات السيف من
غرفتي .
ليغادر الرجل من جديد تاركا العجوز معهما وهو يسأل :ولكن ما سر
تعلق شاب مثلك بمثل هذه القطع .
اجابه يوسف :كان تعلق ألبي فيه ولقصة صالح الدين األيوبي وفتحه
القدس .
علق الرجل :نعم فقد كان صالح الدين يقاتل الصليبين بالسيف الدمشقي
حتى وصفه ريتشارد بالمهلهل .ولكن ليس فقط صالح الدين من حمله فقد
عرفه على مر التاريخ أنه أشهر سيف تقلده الخلفاء واألمراء ..فعمر بن
عبد العزيز ..وهشام بن عبد الملك ..ونجم الدين األيوبي والد صالح
الدين حتى بعض السالطين المنصور قالوون و السلطان قانصوه الغوري
.فلماذا ذكرت صالح الدين فقط ؟
ابتسم يوسف بسعادة لثقافة هذا العجوز ووفرة معلوماته ليجيبه :أنا
فلسطيني األصل من جذور مقدسية ..وتعلقت بقصة السيف ودوره في فتح
القدس ..لذلك رغبت بالحصول على واحد من أشهر األسلحة التي
ساهمت بتحرير بالدي في يوما ما .
دمعت عين العجوز فجأة معلقا :السيف ليس وحده السبب يا ولدي ولكنها
الرجال ..هي من تساهم في النصر أو الخسارة ..فحين كان لنا رجال
أشداء تقاتل إلعالء كلمة هللا كانت هذه السيوف األداة الرابحة في الحرب
..أما اآلن فقد تحولت ألدوات زينة نعلقها على جدران منازلنا .
ابتلع يوسف ريقه وكرمل تقول :طالما هناك سيف باقي ال بد أن يظهر
رجال أشداء يعيدوا أمجادنا يا عم .
ابتسم لها العجوز :أنا سعيد أنني أرى بعض التفاؤل في عيون الشباب .
ليقاطع كالمه دخول ابنه وهو يحمل بين يديه سيف طويل يتميز بانحنائه
الواضح ليقف يوسف متجها نحو الرجل وعينيه تتأمل السيف بغمده
المغطى بصفائح من الفضة والمرصعة باألحجار الكريمة والنقوش الجميلة
.
سمع صوت العجوز من خلفه يخاطب أبنه :أعطه السيف .
مد الرجل يده بالسيف ليوسف ليمد يده بارتجاف واضح ولكن ما أن أمسكه
حتى عاد بنظراته للعجوز قائال :أنه خفيف جدا .
ابتسم له :بالطبع ,ألم تكن تعرف أن ميزة هذه السيوف هو خفتها ..وهذا
كان السر الذي أذهل العالم في ذلك الوقت ..فكيف استطاع الدمشقيين
صنع مثل هذه السيوف بانحناء واضح ووزن خفيف ال يتعب المقاتل أو
يسبب األالم بيده وهكذا كانوا يستطيعون أن يحاربوا أليام دون تعب .
كان يوسف يستمع فقط لكلمات العجوز وعينيه مركزة على النقوش التي
حملت أبيات شعرية ليقرأ بصوت مرتفع :الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
ليقول العجوز :هذا يدعو الغمد وهو ما يظهر للناس ويحتضن السيف
وله األهمية الكبرى بفن هذا الصنعة ..فهو المساحة المهمة للصانع ليظهر
إبداعه وفنه ..الغمد الذي معك مصنوع من الخشب وملبس بصفائح من
الفضة واألحجار الكريمة وذلك النقش الذي قرأته منذ لحظات ..
صمت قليال ليقول له :هي اسحب السيف من غمده .
تنهد يوسف وهو يسمي باهلل ليمسك السيف من قبضته يسحبه برهبة شديدة
ليظهر له نصل السيف كان يلمح بشدة وكأنه صنع منذ ساعات فقط .
نظر للعجوز وكأنه ينتظر تفسيره ليجيب :المكان الذي تمسك منه السيف
اسمه المقبض ومقبض سيفي هذا مصنوع من العظم ومغلف بجلد طبيعي
..بالطبع تغليفه بالجلد كان شيء أساسي فهكذا يحمي المقاتل ويجنبه األلم
.وتلك تسمى واقية اليد تسمى البلجق وبالطبع يجب أن تكون مقوسة
لتغطي يد المقاتل وتحميها من ضربات سيوف العدو ..
أما النصل .
ارتفعت أنظار يوسف إلى نصله الالمع ليسمع الرجل يقول :هذا هو األهم
وما يميز السيف الدمشقي فهو حاد جدا ..مقاوم لالهتراء ..وشديد القطع
وبالطبع هو مصنوع من الفوالذ الدمشقي العريق ..
نظر يوسف نحو كرمل الجالسة تتابع بصمت ثم نحو السيف الذي بين يديه
ليرفعه قريب إليه ليقرأ ما نقش على نصل السيف :نصر من هللا وفتح
قريب .
كان يشعر بكثير من المشاعر المتفاوتة ..رؤيته واقعيا للسيف كانت شيء
ال يقاوم ..سمع الكثير من كرمل عن صفات السيف وأسرار الحديد
المستخدم بصناعته ..سمع من والده عن بطوالت صالح الدين معه ولكن
أن يقف حامال السيف بيده كان شعور ال يقدر بثمن ..
همس متسائال :كم عمر هذا السيف ؟
أجابه الرجل :سبعمائة عام .
هنا كان مبهورا جدا ..يحمل قطعة أثرية نادرة تعود لمئات من األعوام ..
قطعة حافظت على أصالتها ورونقها ..لمعانها وكأنها جديدة ..لم تصدأ
أبدا ..لم تفقد هيبتها وال فتنتها ..وكأنه يقف أمام تاريخ أجداده وكأنه أمام
أرضه وماضيه وذكريات أبيه التي لطالما سمعها ..
قطعة قد تبدو لكثيرين أنها مجرد زينة قد توضع في بيوتهم وعلى جدرانهم
ولكنها ال ما هي إال شاهد على تاريخنا ..حين كنا عظماء ..نعم هذا
السيف شهد عظمة بالدنا وانحدارها أيضا وال يعلم أن كان سيشهد نهضتها
من جديد ..
حرك يديه بالسيف وكأنه يحفر ذكرياته معه ...ألن شيء ما داخله يخبره
أن هذا العجوز الهرم لن يتنازل عن هذه القطعة بسهولة .
أعاد السيف إلى غمده ليعيده للسيد خالد الذي وضعه على الطاولة ثم جلس
قرب والده لتسأله كرمل :ولكن كيف تمكنت من إدخال السيف إلى هنا إن
كان يحمل كل هذا العمر ..أال يحتاج إلى كثير من المعامالت ؟
أبتسم لها الرجل مجيبا :هذا السيف هنا منذ كنا بلد واحدة .
لم يفهم يوسف كلمات الرجل ليفسر فورا :حين حدثت الوحدة بين سوريا
ومصر كان ألبي صديق مصري قبل الوحدة أتى إلى سوريا ليعمل في
مجال التعليم وعندما حدثت الوحدة و أصبحت التعامالت واحدة قرر أبي
زيارة هذا الصديق ولما أتى إلى هنا أعجب بجمال القاهرة وعز عليه
فراق صديقه فقرر االستقرار هنا بما أنا بلد واحدة ...حتى حدث
االنفصال ولكن أبي كان قد أسسه حياته وبدأ عمله ونقل كل شيء يخصه
من دمشق إلى هنا وكان السيف من ضمنها ...فقرر البقاء هنا فحتى لو
حدث االنفصال نحن في النهاية عرب سنبقى شعوب واحدة ..وهكذا تابع
حياته هنا ونحن معه ليموت على هذه األراضي .أما بالنسبة للسيف فكان
وما زال إرث مهم في عائلتنا .
قاطعه يوسف بخجل :جملتك األخيرة وكأنها إعالم لي بأن ال أسألك ما
جئت من أجله .
ارتفعت ضحكات الرجل مجيبا :أنت ذكي جدا ..األمر ليس وكأنني أرد
طلبك يا بني ولكن هذا تاريخ أسرتي ورمزها فمن المستحيل أن أتخلى
عنه .
أخبره :حتى ولو كان ثمنه مبلغ خيالي يمكن أن يساعد عائلتك بطريقة
كبيرة .
أومأ له العجوز :دعني أسألك شيء ..هل يمكنك أن تتخلى عن أصلك
الذي كبرت وتربيت على تمجيده ؟
أجابه :بالطبع ال .
أكمل الرجل :واألمر هو كذلك ..أن هذا السيف هو الماضي الذي كبرت
وأنا أمجده وأتغنى به ..كان أبي يعتني به وكأنه طفله ..ال يدع أحد
يقترب منه يزرع حبه فيني وهو يحكي لي عن خباياه وأسراره ..
أتذكر لليوم وهو يقول لي قصته التي كان يفضلها
سألته كرمل :أي قصة ؟
أجابها هو يعتدل في جلوسه :كان يحكي لي عن االسكندر األكبر وقصته
مع عقدة غورديان حين أخبرته العرافة أن من يحل هذه العقدة سيكون
فاتحا آلسيا وحين قرر حلها لم يجد طرفا للحبل فما كان منه إال أن يقطعها
بضربة من سيفه وإنه لم يكن يستطيع أن يقطع عقدة غورديان لو لم يمتلك
سيفا دمشقيا .رغم أنها مجرد أسطورة انتشرت لكن كان لها أثر على قلبي
وتعلقي بهذا السيف وقوته
علق يوسف بانبهار :حديثك هذا يجعلني محبطا وأنا الذي سأعود خال
اليدين .
ابتسم له الرجل معلقا :ولم أخبرك بعد أن الشعرة ممكن أن تنشطر إلى
نصفين إن سقطت على حده ..ويمكنه قطع منديل حريري مرمي في
الهواء .
اعتدل يوسف في جلسته وهو يشبك أصابعه ببعضها متسائال :أال يوجد
طريقة إلقناعك ببيعه لي ؟
هز الرجل رأسه بالرفض وكله ثقة :بالطبع ال هذا شرف عائلتي وال يمكن
لرجل أن يتخلى عن شرفه مهما كانت الظروف .
.........................................
كانت زيارة بنتائج غير مرضية ..رغم سعادته الكبيرة برؤية السيف
واقعيا وحمله بين يديه حتى أن الرجل أخبره بأنه يمكنه التقاط ما يشاء من
صور له ولكن هذا لم يكن يرضيه ..كان يرغب بأن تكون هذه القطعة
ضمن مقتنياته الشخصية ..
تنهد بملل ليشعر بيدها على كتفه ليلتفت لها فيرى ابتسامتها نحوه لتنتقل له
تلقائيا وهي تسأله :أنت حزين ألن زيارتنا كانت دون نتائج ؟
نظر لألكياس الكثيرة حولهما فبعد انتهاء الزيارة طلبا العودة إلى خان
الخليلي مع السيد خالد وشراء الكثير من القطع النحاسية والفضية ليجيبها :
لم تكن بال فائدة تماما ..فأنت اشتريت نصف محل السيد خالد .
ضحكت على كلماته معلقة :بعضها لي والبعض األخر لسالم فهي أيضا
تحب النحاسيات واشتريت ألمي موقد نحاسي لصنع القهوة وأخر لوالدة
سالم .
ابتسم معلقا :ها أنا أصبحت مسئول عن أغراض منزل السيد حسام أيضا
.
ضحكت معه لتبتلع ضحكتها وهي تمسك يده بيدها :ال تحزن فأنت منذ
البداية كنت تعلم أن مثل هذا األمر شبه مستحيل .فالسيف بالنسبة لهؤالء
قطعة أثار نادرة التخلي عنها ضرب من الخيال .
ابتسم معلقا :األمر الغريب أنني لست مستاء ..فكالم الرجل عن تعلقه
بالسيف زاد إعجابي وتعلقي به ..قطعة مصنوعة من الحديد تترك في
النفس كل تلك المشاعر والتعلق الغريب ..أمر هذه السيوف عجيب فحتى
ولو كان استخدامها للزينة فقط فهي تمد بخيط غليظ يمسك قلب الشخص
لها فيصبح التخلي عنها أمر شبه مستحيل
وافقت على كلماته مضيفة :أنه كتذكير بالعزة
نظر نحوها بعدم فهم لتتابع :وجود هذه السيوف بالبيوت الدمشقية ما كان
إال دليل على عزتنا يوما ما ..قوتنا .فخرنا ..أننا في يوما ما سدنا
األرض شرفا وعزة ..كان لنا مكانة مهمة ..محط أنظار القادة والجيوش
لمعرفة سرنا الذي حفظه الصناع لسنوات طويلة وبقي أمر مجهول
للكثيرين ..أن تصنع شيء بطريقة غير معروفة ويحمل كل هذه الميزات
كان شيء جديد بالنسبة للجيوش القديمة ...واالحتفاظ بهذه الذكرى بتلك
البيوت الشامية العتيقة ما كان إال إضافة لتاريخنا ومهارتنا في كل
المجاالت ..كما كان العجمي فن إلظهار العبقرية اإلسالمية بالتزيين
والرسم والموزييك بدمج أنواع الخشب معا في قالب واحد والقيشاني في
صنع شيء من الشيء ..كان السيف الدمشقي إثبات على القوة فدمشق لم
تنتج الجمال و الرفاهيات فقط بل كانت بارعة في القتال أيضا كما
أسوارها العالية والحصينة ..
كان يستمع لها باستمتاع وكلماته تهدأ من خيبته بعدم حصوله عما يريد
ليقول أخيرا :اعتقد أن السيف الدمشقي ما هو إال اختصارا لنا
نظرت له بعدم فهم ليشرح :نحن نحمل عراقة مثله تماما ..جذورنا
مغروسة بهذه األرض ال يمكننا أبدا أن ننخلع منها مهما حاولنا وهكذا كان
هو يملك سر تلك البالد القديمة وفكرة التخلي عنه ما هي إال عار ..ونحن
أيضا تحولنا من أسياد الحرب إال شواهد فقط ...تدهور حالنا تأثرنا
بالغرب ..عدنا للوراء ..دفنت مواهبنا وتلك صناعة السيوف تحولت من
صناعة حربية إلى صناعة جمالية ..من يعمل بها يمكن عدهم على اصابع
اليد ..ولكن مع هذا يبقى السيف محافظ على أصالته ورونقه ..ونحن
أيضا سيبقى هنا شيء داخلنا مصقول ..لن يصدأ أبدا ..مهما طالت
غفوتنا سيأتي يوما نستيقظ به ..سيخرج من داخلنا ذلك الفارس العربي
على صهوة جواده األصيل يستل السيف من غمده فيعيد التاريخ وأمجاده ..
نظرت نحوها تراقب نهر النيل من نافذة المطعم حيث يجلسون إلى الناس
التي تسير حولهما لتقول :رغم أن هذا صعب جدا ولكن اتمنى .
أمسك يدها :يكفي أنه ليس مستحيل حتى لو كان صعب سوف أبقي هذا
اإليمان بداخلي ..سوف ابقى على أمل أن ينفض التاريخ غباره عنا يحيي
فينا خالد بن الوليد وصالح الدين األيوبي ..لقد مرت بالدنا بكثير من األلم
والمآسي فتحت القدس بعد ثمان وثمانين عام من االحتالل الصليبي لها ..
عادت لحضن أهلها حي تنتمي ..حتى بغداد لم تستلم لدمار المغول
وعادت من جديد لتنجب العلماء والعباقرة ودمشق التي عانت طوال
تاريخها من الدمار لم تختف وبقيت أقدم عاصمة مأهولة على مر التاريخ
..نحن بالد خلقت للحياة ومهما حاولوا قتلها لن ينجحوا ...
ابتسمت له قائلة :سننفض الغبار عن نفسنا وننهض من جديد ليعود النخيل
عراقيا والياسمين دمشقيا والزيتون فلسطينيا.
أومأ قائال :ربما لم أحصل على سيف قديم ولكن أال يكفي أنني حصلت
على أنثى تحمل صفات ذلك السيف ..كان والدي محقا فالمرأة ممكن أن
تكون وطنا وممكن أن تكون سيفا يحميك ألخر العمر .
لم تجبه خجلة ليمسك يدها الحرة يضمها ليديه :أنت وطني وسيفي كرمل .
أبعدت يدها عنه بخجل وهي تنظر حولها فأخر ما ترغب به هو جذب
األنظار لهما لتقول :وها قد انتهينا من زيارتنا األهم هنا ..أال يتبرع السيد
يوسف ويأخذني برحلة فزيارة القاهرة ال تعوض وأنا لن أكتفي بخان
الخليلي .
وضع يده على رأسه خاضعا ألوامرها :أنت تأمري ويوسف عليه الطاعة
......................................... .
ربما تكون النهايات ليست كما نرغب أو قد ال تكون مثالية جدا ..أحيانا
نبحث عن شيء ولكن خالل رحلة بحثنا هذه قد نصادف أمر أهم وأكثر
إغراء من بحثنا ..قد نخسر الكثير ونفقد الكثير ..ربما نخسر الوطن ..
وربما يكون هذا الوطن هو سبب جرحنا الذي ال يندمل ..نتهجر ..نهرب
..نترك بلدنا كندبة مرافقة لنا أينما ذهبنا ومهما طال الزمن بنا ..ولكن أال
يمكن أن تكون تلك الندوب حامية لنا ..تقدم لنا العوض ..
رغم أن يوسف لم يحصل على سيفه الدمشقي ولم يزر األرض التي يحمل
اسمها في قلبه ولكنه حصل على امرأة بوطن وحسام الذي ترك وطنه
داخله ندوب من الصعب نسيانها ..وذمة ال تحمى أبدا ..لتأتي سالم تحمل
معها كل السالم والدفء أليامه الباردة وروحه الخاوية ..وكذلك سالم
التي خرجت من بالدها تحمل تشوها في روحها قبل جسدها ..فالتشوهات
داخلنا أصعب ألف مرة من تشوهات أجسامنا ولألسف في كثير من
األحيان نحصل على هذا التشوه من الناس ..نظراتهم أرائهم وتدخلهم في
حياتنا وهي كانت الضحية لهذا النوع ..حتى أتى من يفتح عينيها على
األخر من البشر ..الجزء الذي من المفروض أن يكون األكثرية ..
فشخصيتك هي من تحدد جمالك وليس شكلك الخارجي أو أي حادث قد
تتعرض له خارج إرادتك ..وليس الناس فقط ولكن نحن في كثير من
األحيان من ندمر أنفسنا بسبب أرائنا المسبقة ونظراتنا المحدودة ..أن
تعتقد أنك الشخص الوحيد الذي يعاني ..أن تنظر أللمك كشيء عظيم دون
أن تفكر بأوجاع غيرك ..بل تراها بسيطة ..هذا خطأ ال يمكنك أن تحكم
على أحد وأنت لم تعش مشاعره وظروفه .وفي النهاية جميعنا نستحق
الحياة
........................
نظرت له بعدم فهم عن سبب قدومه إلى هنا هامسة :يوسف لماذا أتيت بي
إلى هنا ,سالم لم تكف عن اتصاالتها .
امسك كتفيها لتصمت قائال :سوف نذهب بسرعة ..ولن يفتنا الزفاف
ولكن علينا القيام بشيء مهم أوال .
نظرت للمكان الذي وقف به لتسأله :لماذا أتيت إلى هنا ..هل تريد شراء
هدية لحسام مثال ؟
رفع حاجبيه ليدخل معها إلى المعرض ليستقبل الرجل بلهجته الشامية :
أهال سيد يوسف
نظرت نحو الرجل الذي تعرفه جيدا فهو صاحب المعرض والورشة التي
تعمل بالموزييك وتزودها باألخشاب وتساعدها بقصه دائما .
لتقول بنفاذ صبر :ألن يخبرني أحد ماذا يحدث ؟
تطوع الرجل بالشرح :أن السيد يوسف طلب مننا أن نصنع له طقم من
الموزييك وعندما علم أننا نملك عدة أطقم جاهزة فعال قال أنه سيأتي
بزوجته لتختار ولكنني لم أتوقع أن تكوني تلك الزوجة .
ابتسمت في وجه الرجل بخجل دون أن تعلق على كالمه لتشعر بيد يوسف
الذي أمسك بيدها والرجل يدلهم على الطريق إلى الداخل ..
وقفت تتأمل األرائك والكراسي والطاوالت حولها ..مصنوعة بإتقان وحب
..رغم أنها صنعت عن موطنها األصلي ولكنها ما زالت تحمل عراقة تلك
المدينة يكفي أنها صنعت بأيدي شامية تربت وكبرت على هذه المهنة .
كان يوسف ينتظر رأيها لترفع نظراتها إليه أخيرا بعد أن استقرت
واختارت ما ترغب به ليوافق فورا ثم يسير مع الرجل لينهي كل ما يتعلق
بالثمن والعنوان الذي يفترض إرسال األغراض إليه وهي تراقب فقط .
ليمد يده إليها أخيرا فتسير نحوه مسرعة ممسكا به يغادران المعرض سويا
..كانت صامتة تفكر كم هي محظوظة بهذا الرجل لتقف فجأة ويوسف
يقف معها ينظر نحوها باستغراب لترفع نظراتها نحوه قائلة :أنا احبك كما
أحب الناصر صالح الدين األيوبي القدس ورهن حياته كلها ليدخلها مبتسما
فاتحا .
دخل على صوت الزغاريد العالية والمباركات من الجميع ليرى عمه
ممسكا بيدها وهي ملتفة بحجابها األبيض والوشاح الذي يغطي وجهها
لترتفع ابتسامته وهو يقترب منها ليراقب عمه الذي أمسك يدها واضعها
أياها في يديه وهو يقول :تلك أمانتي في الحياة وأنا أنقلها لك ..حافظ
عليها .
أومأ له وهو يشير له بيده الحرة نحو عينيه ليقترب خطوة من سالم يرفع
عن وجهها الوشاح وسط تصفيق من الجميع مقبال جبينها متغزال بجمالها
ليبتعد قليال وهي تنظر له بعدم فهم ويوسف مقتربا منه وفي يديه سيف
مقوس طويل .
نظرت بعد فهم ليمسك السيف من يد صديقه يقدمه لها فتأخذه منه ليهمس :
اسحبيه من غمده .
ناولت كرمل الواقفة قربها باقة الورد لتحاول فتح السيف لكنها فشلت
بسبب حجمه الضخم فيقترب حسام منها يساعدها على سحبه ليبعد الغمد
عنها وهو يريها نصل السيف لتفتح عينيها بدهشة من النقش الذي كان
يزين نصله فيقول لها :اقرأي ما كتب عليه .
ابتسمت بسعادة والصمت خيم على الجميع ينتظرون أن تقرأ ما كتب عليه
..لتنظر نحو حسام بابتسامة عاشقة ثم إلى كرمل التي كانت تشجعها لتقرأ
أخيرا تلك الكلمات المزخرفة المنقوشة بالخط الكوفي المميز :هنا حيث
ه ََوى العباسي في الهوى األموي .
النهاية