Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 3

‫لقد انه ّم االنسان باكرًا بالبحث و التح ّري عن كيفية تش ّكل الم دارك المعرفي ة لدي ه‪ ،‬و ق د نش أ عن ه ذا‬

‫التفكير مدارس عدة تباينت فيما بينها‪ ،‬فمنهم من رد ذلك إلى العقل باعتب اره مق ّو ًم ا و محلّاًل و ّ‬
‫مفس رًا‬
‫لك ل م ا يح دث من حولن ا (العقلي ون)‪ ،‬ومنهم من رأى ب أن الح واس وح دها هي المش ّكل األص يل‬
‫للمعرفة‪ ،‬على اعتبار أن اإلنسان لحظ ة والدت ه يك ون وعي ه كص فح ٍة بيض اء كم ا ع بر ج ان ل وك و‬
‫بالتالي فإن الوعي يتش ّكل من الخارج من خالل الحواس (التجري بيون)‪ ،‬و ق د تموض عت آراء أخ رى‬
‫في الوسط حيث أنها وافقت الرأي القائل بأن المعرفة تتأتّى من الخارج عبر الح واس و لكن ذل ك غ ير‬
‫كاف إذا لم يكن هناك قبليّات معرفيّة سابقة على الوعي وأنساق تركيبية ق ادرة على االس تفادة من تل ك‬ ‫ّ‬
‫المعرفة القادمة من الخ ارج (المدرس ة الكنطي ة)‪ .‬إن ه ذا التن وع في اآلراء لم يتوق ف على موض وع‬
‫بعينه انما تس ّرب إلى كافة الموضوعات والعل وم ال تي يمكن أن تواجهن ا‪ .‬فالرياض يات مثاًل أين يمكن‬
‫تصنيفه وأين يمكن أن يتموضع بين هذه المدارس واآلراء؟‪ .‬ال ب ّد من اإلش ارة إلى أن علم الرياض يات‬
‫ال ذي ينقس م ب دوره إلى الحس اب والج بر والهندس ة‪ ،‬ليس عل ًم ا ح ديثًا معاص ًرا‪ ،‬و لم يكن العقلي ون‬
‫والتجري بيون أول من أث ار البحث حول ه‪ .‬ب ل على العكس من ذل ك‪ ،‬فه و يعت بر من اق دم العل وم ال تي‬
‫تناولتها الفلسفة واعتنت بها جيدا على م ّر األزمنة على اعتبار بأنّه علم إثبات وصدق لما يش تمل علي ه‬
‫من أدلة منطقية مقبول ة بالبداه ة والعق ل‪ ،‬وال ت زال نظري ات الفيلس وف االغ ريقي فيث اغوروس ( (‬
‫‪ BC (Pythagóras) 490–570‬الرياضية قائمة ومستخدمة إلى يومنا هذا‪،‬عل ًما أنه لو تم ّعنّا قليال‬
‫في قراءة متنأنيّة سنجد أن فيث اغورس ق د وفّ ق في أح ايين كث يرة بين النظري ة والتج ريب‪ .‬ولكن قب ل‬
‫الخوض في غمار البحث ال بد من طرح االشكالية التالية‪ :‬ما مص در المف اهيم الرياض ية؟ وه ل يمكن‬
‫كعلم عقل ّي أن يستقل بذاته عن الواقع أم أن التجربة هي الكفيلة لتكريسه عل ًما محقّقًا؟‬
‫للرياضيات ٍ‬
‫يعتبر الفالسفة العقلي ون‪ ،‬أن كل مب ادئ المعرف ة فطري ة و موج ودة في العق ل من ذ ال والدة وم ا على‬
‫الباحث سوى سبر أغوارعقله للتنقيب عن أسس المعرفة واكتشاف كل ما يحتاج إليه بش كل ع ام‪ .‬ومن‬
‫هؤالء الفالسفة‪ ،‬الفيلسوف اليوناني المثالي أفالطون ‪ BC))(Plátōn) 347–427‬ال ذي يعت بر ب ّ‬
‫إن‬
‫الكائنات الرياضية موجودة في عالم المثل أي عالم األفك ار‪ .‬وق د كتب في أح دى محاورات ه (مح اورة‬
‫مينون)(‪ )Meno‬أن العبد الجاهل مينون اس تطاع أن يكتش ف بنفس ه كي ف يمكن إنش اء مرب ع‪ .‬وه ذا‬
‫إثبات على أن العلم موجود بالفطرة‪ .‬وأن التعلم مجرد ت ذكر ل ه وليس اكتس ابًا متأتي ا من التجرب ة‪ .‬أم ا‬
‫ديكارت(‪ )1596-1650()René Descartes‬فيرى بأن العقل هو أع دل األش ياء قس مة بين الن اس‬
‫وبأن المعاني الفطرية ليست واضحة بذاتها ب ل هي حاص لة‬ ‫ّ‬ ‫األمر الذي يجعله جوهرًا معياريًّا أصياًل ‪،‬‬
‫في النفس باالستعداد والقابلية‪ .‬ويع ّد ديكارت من الرياضيين الذين انفتحت لهم آفاق واسعة حلّقت بعي دا‬
‫في ع الم التجري د وراحت تش يّد أبرا ًج ا ذهنيّ ةً ت زداد بع دًا عن الواق ع المحس وس‪ ،‬فالص فر ومفه وم‬
‫الالنهائي واألعداد الكسرية والدائرة ليس لها ما يقابلها في عالم الواقع‪ ،‬وقد أوغل في ذلك حتى تحولت‬
‫معه الرياضيات إلى عمليات جبرية ال تخضع إال لقواعد المنطق حتى كادت أن تُرد إليه‪ .‬ك ذلك يعت بر‬
‫الفيلس وف اإللم اني إيمانوي ل كانط)‪ ، Immanuel Kant (1724–1804‬أن مفه ومي الزم ان‬
‫والمكان من ضمن األحكام القبلية‪ ،‬وبنا ًء على ذلك فإن الرياضيات تتأسس على هذه المفاهيم القبلية وال‬
‫عالقة مباشرة لها بالواقع من حيث الموضوعات والطريقة‪ .‬وق د اف ترض وج ود أحك ام تركيبي ة قبلي ة‬
‫عند جميع الذوات العارفة تشكل شروط الخبرة المنظمة أي المعرفة كما ندركها‪ ،‬بحيث أن كل االش ياء‬
‫التي تنتقل الى العقل عبر الحواس ال تعني شيئا من دون تلك الشروط‪.‬‬
‫ويعتقد العقالنيون أنّه لمن البداهة أن تكون المفاهيم الرياضية موجودة في العقل قبليًّا‪ ،‬وبالتأكيد قبل أي‬
‫تجربة حسيّة‪ .‬ويستدلون على ذلك بأن اإلنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف ويدرك ما يعرفه كما أن ه‬
‫توصل من خالل العقل الذي يميزه إلى إنشاء علوم في شتّى المج االت م ّم ا يع ني أن العق ل ه و أص ل‬
‫المعرفة وأساسها الوحيد‪ .‬و قد لجأ العقليّون الى حجج و براهين كثيرة الثبات نظريتهم‪ .‬مثاًل ‪ ،‬ال وجود‬
‫ي عنص ر من عناص ر الرياض يات في الطبيع ة ال تي تعتبرالمص در األوح د و األساس ي لخبراتن ا‬ ‫أل ّ‬
‫الحس ية‪ ،‬فال وج ود لألع داد واألش كال الهندس ية‪ ،‬انم ا هي مف اهيم أب دعها العق ل‪ .‬و أن مص داقية‬
‫الرياضيات تعتمد كليًّا على الترابط المنطقي فقط بين المقدمات التي تتطلق منها والنتائج ال تي تتوص ل‬
‫إليها‪ ،‬وال تعتمد ال على القياس ات التجريبي ة وال على الق درة على تطبيقه ا في الواق ع كم ا يحص ل في‬
‫العلوم الفيزيائية‪.‬‬
‫على ال رغم من متان ة ه ذه الرؤي ة وه ذه النظري ة وأساس ها الص لب وال تي ن الت مقبولي ة الكث ير من‬
‫الفالسفة والعلماء إال أنها لم تسلم من االنتقاد والمساءلة‪ ،‬ومن أبرز تلك اإلنتق ادات م ا يلي ‪ :‬إن مج رد‬
‫ظهور أنظمة رياضية ال إقليدية‪ ،‬وجّه ض ربة قاض ية للم ذهب العقالني فل و ك ان العق ل مبرمج ا على‬
‫المبادئ الرياضية‪ ،‬فكيف يمكن للعقل أن يتص ّور مسلّمات ومصادرات متناقضة ؟ فهل يمكن للعق ل أن‬
‫يناقض نفسه؟ وكيف له أن يتص ّور في الهندسة مكانا مس تويًا ومكان ا مق ّو ًس ا س لبًا أو إيجابً ا‪ ،‬ويؤس س‬
‫على كل منها نظاما رياضيا متماسكا وصادقًا؟‪ ،‬ولو كانت مبادئ الرياضيات فطرية في العق ل‪ ،‬فلم اذا‬
‫تأخر اإلنسان في اكتشافها آالف السنين ؟ ولماذا لم يتمكن من اكتشافها من قبل طالما أنه ا موج ودة في‬
‫عقله قبل فالسفة اليونان وعلمائه ا؟ وإذا ك انت الرياض يات محض عقلي ة فكي ف ن برر اس تخدامها في‬
‫تفسير الظواهر المادية في الطبيعة؟‬
‫أما التجريبيون‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬فهم يذهبون إلى القطع بعدم وج ود لمف اهيم رياض ية ب الفطرة‬
‫في عقولنا معتبرين أنها مكتسبة بشكل مباشر أو غير مباشر مما نلتقط ه بحواس نا‪ .‬ول ذلك ان برى ج ان‬
‫ل وك(‪ )1632-1704()John Locke‬وه و فيلس وف تجري بي انكل يزي إلى ال رد على ديك ارت‬
‫معارضًا له بشدة ومعتب ًرا أنه ال وجود لمع ان فطري ة في النفس ول و ك ان ك ذلك فلم اذا إذن ال يعرفه ا‬
‫األطفال والبسطاء والمتوحشين‪ .‬ويؤكد الفيلسوف الفرنسي التجريبي كون دياك(‪1714-()Condillac‬‬
‫‪ )1780‬على أن االحساس هو المنبع الذي تنبجس منه جميع قوى النفس وبالتالي المعرفة ‪ .‬مما يدفعنا‬
‫إلى القول بأن بداية الرياضيات كانت حسّية انطالقًا من تعامل اإلنسان مع األشياء التي تحيط به كالع د‬
‫على األصابع أو الحصى وترتيب األشكال‪ ،‬ثم تدرج هذا األمر ش يًئا فش يًئا من خالل تجري د األش كال‪.‬‬
‫كتجريد الدائرة الهندس ية من الش مس او من ش كل بؤب ؤ العين أو من ال دوائر ال تي تح دث على المي اه‬
‫الراكدة عندما يسقط فيها حجر‪ ،‬وجرد الخط المستقيم من رؤيته لخط األفق ومن سقوط قطرات المطر‪.‬‬
‫فاكتسبت هذه المفاهيم الرياضية صورتها المج رّدة‪ ،‬واس تخرج اإلنس ان قوانينه ا نظريًّ ا‪ .‬وعلي ه‪ ،‬ف إن‬
‫الفكر البشري قد اهتدى بصورة عملية إلى معرف ة خص ائص األش كال واألع داد قب ل أن يتوص ل إلى‬
‫برهنتها‪ .‬وهذا ما أكد عليه أيضًا جون ستيوارت ميل(‪ ،)1806-1873( )John Stuart Mill‬وهو‬
‫والحجج على‬‫ِ‬ ‫من أقطاب المذهب الحسي التجري بي في انكل ترا‪ .‬و يس تند التجري بيون في س وق األدل ة‬
‫صحة نظريتهم بأن الرياضات ب دأت من الواق ع قب ل أن تنتق ل إلى الج انب النظ ري بحيث أن ش عوب‬
‫الحضارات الشرقية القديمة قاموا بمسح األراضي وتقسيمها واش تغلوا بالحس اب الرياض ي قب ل أن يتم‬
‫التقعي د والتنظ ير الرياض ي‪ .‬وه ذا م ا أق رّه ك ل من الفليلس وفين اليون انيين ط اليس(‪)Thales‬‬
‫وفيثاغورس(‪ )Pythagoras‬بأنهم تعلموا الرياضيات من المصريين القدماء‪ ،‬والمصريون الق دماء‬
‫لم يعرفوا أية قوانين نظرية بل اعتمدوا على الممارسة العملي ة‪ .‬فاإلنس ان الق ديم ب دأ الع د على أص ابع‬
‫والحصى ولم يكن بعد ثمة نظرية أو قاعدة تعلمه ذلك قبل أن تتح ّول فيم ا بع د إلى مف اهيم عقلي ة‪ .‬إذن‬
‫أساس ا من الخ برات المس تقاة‬
‫ً‬ ‫فالتجربة سابقة على النظرية‪ ،‬والرياضيات هو نتاج تجربة حسية انتقلت‬
‫من الواقع الحسي والملموس‪ .‬وبالتالي فإن مصداقية الرياضيات تبقى دون قيمة حقيقة ومجرد متاه ات‬
‫فكرية إذا لم يكن لها مسوغها الواقعي ‪.‬‬
‫خالصةً‪ ،‬رغم الجدل القائم بين أنصارالنّزعة العقلية المثالية و النّزعة الحسية حول أصل الرياض يات‬
‫إال أنه يمكن تهذيب التناقض الموجود بينهما من خالل القول ان الرياض يات أص لها عقلي تجري بي في‬
‫آن واح د‪ .‬فالمع اني الرياض ية ناتج ة عن التفاع ل بين العق ل و التجرب ة الن الرياض يات نش أت نش أة‬
‫ٍ‬
‫تدريجية حيث بدأت حسية تجريببية ثم صارت مفاهيم عقلي ة مج ردة‪ .‬و في ه ذا الص دد ق ال الفرنس ي‬
‫بوان كاري( ‪" :)Henri Poincaré‬لوال وجود االجس ام الص لبة في الطبيع ة لم ا ك ان هن اك هندس ة‬
‫ولوال وجود العقل لما كان لهذه االشكال معنى فالطبيعة تؤثر على العقل و العقل يؤثر فيها‪".‬‬

You might also like