Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 62

‫تفسير سورة الزمر‬

[Document subtitle]
‫‪.‬وهي مكية‬
‫قال النسائي‪ :‬حدثنا محمد بن النضر بن مساور‪ ،‬حدثنا حماد‪ ،‬عن مروان أبي لبابة (‬
‫‪ ، )1‬عن عائشة رضي هللا عنها قالت‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يصوم‬
‫حتى نقول‪ :‬ما يريد أن يفطر‪ .‬ويفطر حتى نقول‪ :‬ما يريد أن يصوم‪ .‬وكان يقرأ في‬
‫‪ .‬كل ليلة بني إسرائيل والزمر (‪)2‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫ق فَا ْعبُ ِد هَّللا َ {‬ ‫يم (‪ِ )1‬إنَّا َأنز ْلنَا ِإلَ ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫َاب بِا ْل َح ِّ‬ ‫ب ِم َن هَّللا ِ ا ْل َع ِزي ِز ا ْل َح ِك ِ‬‫تَنزي ُل ا ْل ِكتَا ِ‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا ِمنْ دُونِ ِه َأ ْولِيَا َء َما نَ ْعبُ ُد ُه ْم‬ ‫ص َوالَّ ِذ َ‬ ‫ِّين (‪َ )2‬أال هَّلِل ِ الدِّينُ ا ْل َخالِ ُ‬ ‫صا لَهُ الد َ‬ ‫ُم ْخلِ ً‬
‫ون ِإنَّ هَّللا َ ال يَ ْه ِدي‬ ‫ِإال لِيُقَ ِّربُونَا ِإلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى ِإنَّ هَّللا َ يَ ْح ُك ُم بَ ْينَ ُه ْم فِي َما ُه ْم فِي ِه يَ ْختَلِفُ َ‬
‫س ْب َحانَهُ‬ ‫ق َما يَشَا ُء ُ‬ ‫الصطَفَى ِم َّما يَ ْخلُ ُ‬ ‫ب َكفَّا ٌر (‪ )3‬لَ ْو َأ َرا َد هَّللا ُ َأنْ يَتَّ ِخ َذ َولَ ًدا ْ‬ ‫َمنْ ه َُو َكا ِذ ٌ‬
‫‪ُ } .‬ه َو هَّللا ُ ا ْل َوا ِح ُد ا ْلقَهَّا ُر (‪)4‬‬
‫يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب ‪-‬وهو القرآن العظيم‪-‬من عنده‪ ،‬تبارك وتعالى‪،‬‬
‫فهو الحق الذي ال مرية فيه وال شك‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وِإنَّهُ لَتَنزي ُل َر ِّب ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫ين ‪.‬‬
‫سا ٍن َع َربِ ٍّي ُمبِي ٍن }‬
‫ين ‪ .‬بِلِ َ‬ ‫وح األ ِمينُ ‪َ .‬علَى قَ ْلبِكَ لِتَ ُك َ‬
‫ون ِم َن ا ْل ُم ْن ِذ ِر َ‬ ‫الر ُ‬ ‫نز َل بِ ِه ُّ‬
‫‪[ .‬الشعراء‪]195-192:‬‬
‫يم‬ ‫َاب َع ِزي ٌز ال يَْأتِي ِه ا ْلبَ ِ‬
‫اط ُل ِمنْ بَ ْي ِن يَ َد ْي ِه َوال ِمنْ َخ ْلفِ ِه تَنزي ٌل ِمنْ َح ِك ٍ‬ ‫وقال‪َ { :‬وِإنَّهُ لَ ِكت ٌ‬
‫ب ِم َن هَّللا ِ ا ْل َع ِزي ِز } أي‪ :‬المنيع‬
‫َح ِمي ٍد } [فصلت‪ .]41 ،42:‬وقال هاهنا‪ { :‬تَنزي ُل ا ْل ِكتَا ِ‬
‫يم } أي‪ :‬في أقواله وأفعاله‪ ،‬وشرعه‪ ،‬وقدره‬ ‫‪ .‬الجناب‪ { ،‬ا ْل َح ِك ِ‬
‫ق فَا ْعبُ ِد هَّللا َ ُم ْخلِ ً‬
‫صا لَهُ الد َ‬
‫ِّين {‬ ‫أي‪ :‬فاعبد هللا وحده ال } ِإنَّا َأنز ْلنَا ِإلَ ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫َاب بِا ْل َح ِّ‬
‫شريك له‪ ،‬وادع الخلق إلى ذلك‪ ،‬وأعلمهم أنه ال تصلح العبادة إال له [وحده] (‪، )3‬‬
‫ص } أي‪:‬‬‫وأنه (‪ )4‬ليس له شريك وال عديل وال نديد؛ ولهذا قال‪َ { :‬أال هَّلِل ِ الدِّينُ ا ْل َخالِ ُ‬
‫‪ .‬ال يقبل من العمل إال ما أخلص فيه العامل هلل‪ ،‬وحده ال شريك له‬
‫‪1‬‬
‫ص } شهادة أن ال إله إال هللا‪ .‬ثم أخبر تعالى‬ ‫وقال قتادة في قوله‪َ { :‬أال هَّلِل ِ الدِّينُ ا ْل َخالِ ُ‬
‫عن ُعبّاد األصنام من المشركين أنهم يقولون‪َ { :‬ما نَ ْعبُ ُد ُه ْم ِإال لِيُقَ ِّربُونَا ِإلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى‬
‫} أي‪ :‬إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام اتخذوها على صور‬
‫المالئكة المقربين في زعمهم‪ ،‬فعبدوا (‪ )5‬تلك الصور تنزيال لذلك منزلة عبادتهم‬
‫المالئكة؛ ليشفعوا لهم عند هللا في نصرهم ورزقهم‪ ،‬وما ينوبهم من أمر (‪ )1‬الدنيا‪،‬‬
‫‪.‬فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به‬
‫__________‬

‫قال قتادة‪ ،‬والسدي‪ ،‬ومالك عن زيد بن أسلم‪ ،‬وابن زيد‪ِ { :‬إال لِيُقَ ِّربُونَا ِإلَى هَّللا ِ‬
‫‪ُ .‬ز ْلفَى } أي‪ :‬ليشفعوا لنا‪ ،‬ويقربونا عنده منزلة‬
‫ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم‪" :‬لبيك ال شريك لك (‪ ، )2‬إال‬
‫شريكا هو لك‪ ،‬تملكه وما ملك"‪ .‬وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم‬
‫الدهر وحديثه‪ ،‬وجاءتهم الرسل صلوات هللا وسالمه عليهم أجمعين‪ ،‬بردها والنهي‬
‫عنها‪ ،‬والدعوة إلى إفراد العبادة هلل وحده ال شريك له‪ ،‬وأن هذا شيء اخترعه‬
‫المشركون من عند أنفسهم‪ ،‬لم يأذن هللا فيه وال رضي به‪ ،‬بل أبغضه ونهى عنه‪{ :‬‬
‫َولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل ُأ َّم ٍة َر ُ‬
‫سوال َأ ِن اُ ْعبُدُوا هَّللا َ َو ْ‬
‫اجتَنِبُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪َ {]36:‬و َما‬
‫وحي ِإلَ ْي ِه َأنَّهُ ال ِإلَهَ ِإال َأنَا فَا ْعبُد ِ‬
‫ُون } [األنبياء‪:‬‬ ‫ول ِإال نُ ِ‬
‫س ٍ‬ ‫َأ ْر َ‬
‫س ْلنَا ِمنْ قَ ْبلِكَ ِمنْ َر ُ‬
‫‪]25 .‬‬
‫وأخبر أن المالئكة التي في السموات من المقربين وغيرهم‪ ،‬كلهم عبيد خاضعون‬
‫هلل‪ ،‬ال يشفعون عنده إال بإذنه لمن ارتضى‪ ،‬وليسوا عنده كاألمراء عند ملوكهم‪،‬‬
‫َض ِربُوا هَّلِل ِ األ ْمثَا َل }‬
‫يشفعون عندهم بغير إذنهم فيما أحبه الملوك وأبوه‪ { ،‬فَال ت ْ‬
‫‪[.‬النحل‪ ،]74:‬تعالى هللا عن ذلك‬

‫‪2‬‬
‫ون } أي‪:‬‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إنَّ هَّللا َ يَ ْح ُك ُم بَ ْينَ ُه ْم } أي‪ :‬يوم القيامة‪ { ،‬فِي َما ُه ْم فِي ِه يَ ْختَلِفُ َ‬
‫ش ُر ُه ْم َج ِمي ًعا‬
‫سيفصل بين الخالئق يوم معادهم‪ ،‬ويجزي كل عامل بعمله‪َ { ،‬ويَ ْو َم يَ ْح ُ‬
‫س ْب َحانَكَ َأ ْنتَ َولِيُّنَا ِمنْ دُونِ ِه ْم بَ ْل‬ ‫ثُ َّم يَقُو ُل لِ ْل َمالِئ َك ِة َأ َهُؤال ِء ِإيَّا ُك ْم َكانُوا يَ ْعبُد َ‬
‫ُون قَالُوا ُ‬
‫ُون ا ْل ِجنَّ َأ ْكثَ ُر ُه ْم بِ ِه ْم ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫ون } (‪[ )3‬سبأ‪]40 ،41:‬‬ ‫‪َ .‬كانُوا يَ ْعبُد َ‬
‫ب َكفَّا ٌر } أي‪ :‬ال يرشد إلى الهداية من قصده (‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إنَّ هَّللا َ ال يَ ْه ِدي َمنْ ه َُو َكا ِذ ٌ‬
‫‪ )4.‬الكذب واالفتراء على هللا‪ ،‬وقلبه كفار يجحد بآياته [وحججه] (‪ )5‬وبراهينه‬
‫ثم بين تعالى أنه ال ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في المالئكة‪ ،‬والمعاندون (‪)6‬‬
‫من اليهود والنصارى في العزير‪ ،‬وعيسى فقال‪ { :‬لَ ْو َأ َرا َد هَّللا ُ َأنْ يَتَّ ِخ َذ َولَ ًدا‬
‫الصطَفَى ِم َّما يَ ْخلُ ُ‬
‫ق َما يَشَا ُء } أي‪ :‬لكان األمر على خالف ما يزعمون (‪ . )7‬وهذا‬ ‫ْ‬
‫شرط ال يلزم وقوعه وال جوازه‪ ،‬بل هو محال‪ ،‬وإنما قصد تجهيلهم (‪ )8‬فيما ادعوه‬
‫وزعموه‪ ،‬كما قال‪ { :‬لَ ْو َأ َر ْدنَا َأنْ نَتَّ ِخ َذ لَ ْه ًوا التَّ َخ ْذنَاهُ ِمنْ لَ ُدنَّا ِإنْ ُكنَّا فَا ِعلِ َ‬
‫ين }‬
‫ان لِل َّر ْح َم ِن َولَ ٌد فََأنَا َأ َّو ُل ا ْل َعابِ ِد َ‬
‫ين } [الزخرف‪ ،]81:‬كل هذا‬ ‫[األنبياء‪ {]17:‬قُ ْل ِإنْ َك َ‬
‫‪.‬من باب الشرط‪ ،‬ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لقصد المتكلم‬
‫اح ُد ا ْلقَ َّها ُر } أي‪ :‬تعالى وتنزه وتقدس عن أن يكون له‬ ‫س ْب َحانَهُ ُه َو هَّللا ُ ا ْل َو ِ‬
‫وقوله‪ُ { :‬‬
‫ولد‪ ،‬فإنه الواحد األحد‪ ،‬الفرد الصمد‪ ،‬الذي كل شيء عبد لديه‪ ،‬فقير إليه‪ ،‬وهو‬
‫‪.‬الغني عما سواه الذي قد قهر األشياء فدانت له وذلت وخضعت‬

‫ت َواَأْل ْر َ‬
‫ض بِا ْل َح ِّ‬
‫ق يُ َك ِّو ُر اللَّ ْي َل َعلَى النَّ َها ِر َويُ َك ِّو ُر النَّ َها َر َعلَى اللَّ ْي ِل‬ ‫اوا ِ‬ ‫س َم َ‬ ‫َخلَ َ‬
‫ق ال َّ‬
‫س ّمًى َأاَل ه َُو ا ْل َع ِزي ُز ا ْل َغفَّا ُر (‪)5‬‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر ُك ٌّل يَ ْج ِري َأِل َج ٍل ُم َ‬ ‫س َّخ َر ال َّ‬
‫ش ْم َ‬ ‫َو َ‬

‫اح َد ٍة ثُ َّم َج َع َل ِم ْن َها َز ْو َج َها َوَأ ْن َز َل لَ ُك ْم ِم َن اَأْل ْن َع ِام ثَ َمانِيَةَ َأ ْز َو ٍ‬


‫اج‬ ‫س َو ِ‬‫َخلَقَ ُك ْم ِمنْ نَ ْف ٍ‬
‫ث َذلِ ُك ُم هَّللا ُ َر ُّب ُك ْم لَهُ ا ْل ُم ْل ُك‬
‫ت ثَاَل ٍ‬
‫ق فِي ظُلُ َما ٍ‬ ‫ون ُأ َّم َهاتِ ُك ْم َخ ْلقًا ِمنْ بَ ْع ِد َخ ْل ٍ‬
‫يَ ْخلُقُ ُك ْم فِي بُطُ ِ‬
‫ون (‪)6‬‬ ‫ص َرفُ َ‬ ‫اَل ِإلَهَ ِإاَّل ه َُو فََأنَّى تُ ْ‬
‫يخبر تعالى أنه الخالق لما في السموات واألرض‪ ،‬وما بين ذلك من األشياء‪ ،‬وأنه‬
‫‪3‬‬
‫مالك الملك المتصرف‪ ،‬فيه يقلب ليله ونهاره‪ { ،‬يُ َك ِّو ُر اللَّ ْي َل َعلَى النَّ َها ِر َويُ َك ِّو ُر‬
‫ار َعلَى اللَّ ْي ِل } أي‪ :‬سخرهما يجريان (‪ )1‬متعاقبين ال يقران (‪ ، )2‬كل منهما‬ ‫النَّ َه َ‬
‫ار يَ ْطلُبُهُ َحثِيثًا } [األعراف‪]54:‬‬ ‫شي اللَّ ْي َل النَّ َه َ‬
‫يطلب اآلخر طلبا حثيثا‪ ،‬كقوله‪ { :‬يُ ْغ ِ‬
‫هذا معنى ما روي عن ابن عباس‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والسدي‪ ،‬وغيرهم ‪.‬‬
‫س ّمًى } أي‪ :‬إلى مدة معلومة عند‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر ُك ٌّل يَ ْج ِري َ‬
‫ألج ٍل ُم َ‬ ‫س َّخ َر ال َّ‬
‫ش ْم َ‬ ‫وقوله‪َ { :‬و َ‬
‫هللا ثم تنقضي يوم القيامة‪َ { .‬أال ه َُو ا ْل َع ِزي ُز ا ْل َغفَّا ُر } أي‪ :‬مع عزته وعظمته‬
‫وكبريائه هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه‪.‬‬
‫س َوا ِح َد ٍة } أي‪ :‬خلقكم مع اختالف أجناسكم وأصنافكم‬ ‫وقوله‪َ { :‬خلَقَ ُك ْم ِمنْ نَ ْف ٍ‬
‫وألسنتكم وألوانكم من نفس واحدة‪ ،‬وهو آدم عليه السالم { ثُ َّم َج َع َل ِم ْن َها َز ْو َج َها } ‪،‬‬
‫وهي حواء‪ x،‬عليهما السالم‪ ،‬كقوله‪ { :‬يَا َأ ُّي َها النَّ ُ‬
‫اس اتَّقُوا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم ِمنْ نَ ْف ٍ‬
‫س‬
‫سا ًء } [النساء‪. ]1:‬‬ ‫ث ِم ْن ُه َما ِر َجاال َكثِي ًرا َونِ َ‬ ‫ق ِم ْن َها َز ْو َج َها َوبَ َّ‬ ‫َوا ِح َد ٍة َو َخلَ َ‬
‫اج } أي‪ :‬وخلق لكم من ظهور األنعام‬ ‫وقوله‪َ { :‬وَأنز َل لَ ُك ْم ِم َن األ ْن َع ِام ثَ َمانِيَةَ َأ ْز َو ٍ‬
‫ضْأ ِن ا ْثنَ ْي ِن‬ ‫ثمانية‪ ،‬أزواج وهي المذكورة في سورة األنعام‪ { :‬ثَ َمانِيَةَ َأ ْز َو ٍ‬
‫اج ِم َن ال َّ‬
‫َو ِم َن ا ْل َم ْع ِز ا ْثنَ ْي ِن } [األنعام‪َ { ، ]143:‬و ِم َن اإلبِ ِل ا ْثنَ ْي ِن َو ِم َن ا ْلبَقَ ِر ا ْثنَ ْي ِن } [األنعام‪:‬‬
‫‪. ]144‬‬
‫ق } أي‪ :‬قدركم (‪ )3‬في بطون‬ ‫وقوله‪ { :‬يَ ْخلُقُ ُك ْم فِي بُطُو ِن ُأ َّم َهاتِ ُك ْم َخ ْلقًا ِمنْ بَ ْع ِد َخ ْل ٍ‬
‫ق } أي‪ :‬يكون أحدكم أوال نطفة‪ ،‬ثم يكون علقة‪ ،‬ثم يكون‬ ‫أمهاتكم { َخ ْلقًا ِمنْ بَ ْع ِد َخ ْل ٍ‬
‫مضغة‪ ،‬ثم يخلق فيكون لحما وعظما وعصبا وعروقا‪ ،‬وينفخ فيه الروح فيصير‬
‫اركَ هَّللا ُ َأ ْح َ‬
‫سنُ ا ْل َخالِقِ َ‪x‬‬
‫ين } [المؤمنون‪. ]14:‬‬ ‫خلقا آخر‪ { ،‬فَتَبَ َ‬
‫ت ثَال ٍ‬
‫ث } يعني‪ :‬ظلمة الرحم‪ ،‬وظلمة المشيمة (‪- )4‬التي هي‬ ‫وقوله‪ { :‬فِي ظُلُ َما ٍ‬
‫كالغشاوة والوقاية على الولد ‪-‬وظلمة البطن‪ .‬كذا قال ابن عباس‪ ،‬ومجاهد‪،‬‬
‫وعكرمة‪ ،‬وأبو مالك‪ ،‬والضحاك‪ x،‬وقتادة‪ ،‬والسدي‪ ،‬وابن (‪ )5‬زيد [وغيرهم] (‪. )6‬‬
‫وقوله‪َ { :‬ذلِ ُك ُم هَّللا ُ َربُّ ُك ْم } أي‪ :‬هذا الذي خلق السموات واألرض وما بينهما وخلقكم‬

‫‪4‬‬
‫وخلق آباءكم (‪ ، )7‬هو الرب له الملك والتصرف (‪ )8‬في جميع ذلك‪ { ،‬ال ِإلَهَ ِإال‬
‫ُه َو } أي‪ :‬الذي ال تنبغي‬

‫ضهُ لَ ُك ْم َواَل‬
‫ش ُك ُروا يَ ْر َ‬ ‫ضى لِ ِعبَا ِد ِه ا ْل ُك ْف َر َوِإنْ تَ ْ‬ ‫ِإنْ تَ ْكفُ ُروا فَِإنَّ هَّللا َ َغنِ ٌّي َع ْن ُك ْم َواَل يَ ْر َ‬
‫ون ِإنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ‬
‫ت‬ ‫تَ ِز ُر َوا ِز َرةٌ ِو ْز َر ُأ ْخ َرى ثُ َّم ِإلَى َربِّ ُك ْم َم ْر ِج ُع ُك ْم فَيُنَبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫س َي‬ ‫ض ٌّر َد َعا َربَّهُ ُمنِيبًا ِإلَ ْي ِه ثُ َّم ِإ َذا َخ َّولَهُ نِ ْع َمةً ِم ْنهُ نَ ِ‬ ‫ان ُ‬ ‫س َ‬ ‫الصدُو ِر (‪َ )7‬وِإ َذا َم َّ‬
‫س اِإْل ْن َ‬ ‫ُّ‬
‫سبِيلِ ِه قُ ْل تَ َمتَّ ْع بِ ُك ْف ِركَ قَلِياًل ِإنَّ َك‬
‫ض َّل عَنْ َ‬ ‫ان يَ ْدعُو ِإلَ ْي ِه ِمنْ قَ ْب ُل َو َج َع َل هَّلِل ِ َأ ْن َدا ًدا لِيُ ِ‬
‫َما َك َ‬
‫ب النَّا ِر (‪)8‬‬ ‫ص َحا ِ‬ ‫ِمنْ َأ ْ‬

‫ب‬‫ون } أي‪ :‬فكيف تعبدون معه غيره؟ أين يُ ْذ َه ُ‬ ‫ص َرفُ َ‬ ‫العبادة إال له وحده‪ { ،‬فََأنَّى تُ ْ‬
‫بعقولكم؟! ‪.‬‬
‫ضهُ لَ ُك ْم َوال‬‫ش ُك ُروا يَ ْر َ‬ ‫ضى لِ ِعبَا ِد ِه ا ْل ُك ْف َر َوِإنْ تَ ْ‬ ‫{ ِإنْ تَ ْكفُ ُروا فَِإنَّ هَّللا َ َغنِ ٌّي َع ْن ُك ْم َوال يَ ْر َ‬
‫ون ِإنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ‬
‫ت‬ ‫تَ ِز ُر َوا ِز َرةٌ ِو ْز َر ُأ ْخ َرى ثُ َّم ِإلَى َربِّ ُك ْم َم ْر ِج ُع ُك ْم فَيُنَبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫س َي‬‫ض ٌّر َد َعا َربَّهُ ُمنِيبًا ِإلَ ْي ِه ثُ َّم ِإ َذا َخ َّولَهُ نِ ْع َمةً ِم ْنهُ نَ ِ‬ ‫ان ُ‬ ‫س َ‬ ‫س اإل ْن َ‬ ‫الصدُو ِر (‪َ )7‬وِإ َذا َم َّ‬ ‫ُّ‬
‫سبِيلِ ِه قُ ْل تَ َمتَّ ْع بِ ُك ْف ِركَ قَلِيال ِإنَّ َك‬
‫ض َّل عَنْ َ‬ ‫ان يَ ْدعُو ِإلَ ْي ِه ِمنْ قَ ْب ُل َو َج َع َل هَّلِل ِ َأ ْن َدا ًدا لِيُ ِ‬
‫َما َك َ‬
‫ب النَّا ِر (‪} )8‬‬ ‫ِمنْ َأ ْ‬
‫ص َحا ِ‬
‫يقول تعالى مخبرا عن نفسه تعالى‪ :‬أنه (‪ )1‬الغني عما سواه من المخلوقات‪ ،‬كما‬
‫ض َج ِمي ًعا فَِإنَّ هَّللا َ لَ َغنِ ٌّي َح ِمي ٌد } [إبراهيم‪:‬‬ ‫قال موسى‪ِ { :‬إنْ تَ ْكفُ ُروا َأ ْنتُ ْم َو َمنْ فِي ْ‬
‫األر ِ‬
‫‪. ]8‬‬
‫وفي صحيح مسلم‪" :‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‪ ،‬كانوا على أفجر‬
‫قلب رجل منكم‪ ،‬ما نقص ذلك من ملكي شيئا" (‪. )2‬‬
‫ضهُ‬ ‫ضى لِ ِعبَا ِد ِه ا ْل ُك ْف َر } أي‪ :‬ال يحبه وال يأمر به‪َ { ،‬وِإنْ تَ ْ‬
‫ش ُك ُروا يَ ْر َ‬ ‫وقوله { َوال يَ ْر َ‬
‫لَ ُك ْم } أي‪ :‬يحبه منكم ويزدكم (‪ )3‬من فضله‪.‬‬
‫{ َوال تَ ِز ُر َوا ِز َرةٌ ِو ْز َر ُأ ْخ َرى } أي‪ :‬ال تحمل نفس عن نفس شيئا‪ ،‬بل كل مطالب‬

‫‪5‬‬
‫ون ِإنَّهُ َعلِي ٌم بِ َذا ِ‬
‫ت‬ ‫بأمر نفسه‪ { ،‬ثُ َّم ِإلَى َربِّ ُك ْم َم ْر ِج ُع ُك ْم فَيُنَبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫الصدُو ِر } أي‪ :‬فال تخفى عليه خافية ‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫ض ٌّر َد َعا َربَّهُ ُمنِيبًا ِإلَ ْي ِه } أي‪ :‬عند الحاجة يضرع‬ ‫ان ُ‬ ‫س َ‬ ‫س اإل ْن َ‬‫وقوله‪َ { :‬وِإ َذا َم َّ‬
‫الض ُّر فِي ا ْلبَ ْح ِر َ‬
‫ض َّل‬ ‫ويستغيث باهلل وحده ال شريك له‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وِإ َذا َم َّ‬
‫س ُك ُم ُّ‬
‫سانُ َكفُو ًرا } [اإلسراء‪:‬‬ ‫ان اإل ْن َ‬ ‫ُون ِإال ِإيَّاهُ فَلَ َّما نَ َّجا ُك ْم ِإلَى ا ْلبَ ِّر َأع َْر ْ‬
‫ضتُ ْم َو َك َ‬ ‫َمنْ تَ ْدع َ‬
‫ان يَ ْدعُو ِإلَ ْي ِه ِمنْ قَ ْب ُل } أي‪ :‬في‬ ‫س َي َما َك َ‬ ‫‪ .]67‬ولهذا قال‪ { :‬ثُ َّم ِإ َذا َخ َّولَهُ نِ ْع َمةً ِم ْنهُ نَ ِ‬
‫الض ُّر‬
‫ان ُّ‬‫س َ‬ ‫حال الرفاهية ينسى ذلك الدعاء والتضرع‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬وِإ َذا َم َّ‬
‫س اإل ْن َ‬
‫ض ٍّر‬‫ض َّرهُ َم َّر َكَأنْ لَ ْم يَ ْد ُعنَا ِإلَى ُ‬ ‫اع ًدا َأ ْو قَاِئ ًما فَلَ َّما َك َ‬
‫ش ْفنَا َع ْنهُ ُ‬ ‫َد َعانَا لِ َج ْنبِ ِه َأ ْو قَ ِ‬
‫سهُ } [يونس‪. ]12:‬‬ ‫َم َّ‬
‫سبِيلِ ِه } أي‪ :‬في حال العافية يشرك باهلل‪ ،‬ويجعل له (‪)4‬‬ ‫ض َّل عَنْ َ‬ ‫{ َو َج َع َل هَّلِل ِ َأ ْن َدا ًدا لِيُ ِ‬
‫ب النَّا ِر } أي‪ :‬قل لمن هذه حاله‬ ‫ص َحا ِ‬ ‫أندادا‪ { .‬قُ ْل تَ َمتَّ ْع بِ ُك ْف ِر َك قَلِيال ِإنَّكَ ِمنْ َأ ْ‬
‫وطريقته ومسلكه‪ :‬تمتع بكفرك قليال‪ .‬وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد‪ ،‬كقوله‪ { :‬قُ ْل‬
‫صي َر ُك ْم ِإلَى النَّا ِر } [إبراهيم‪ ،]30:‬وقوله‪ { :‬نُ َمتِّ ُع ُه ْم قَلِيال ثُ َّم نَ ْ‬
‫ضطَ ُّر ُه ْم‬ ‫تَ َمتَّ ُعوا فَِإنَّ َم ِ‬
‫يظ } [لقمان‪. ]24:‬‬ ‫ب َغلِ ٍ‬ ‫ِإلَى َع َذا ٍ‬

‫اج ًدا َوقَاِئ ًما يَ ْح َذ ُر اَآْل ِخ َرةَ َويَ ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِّ ِه قُ ْل َه ْل‬ ‫س ِ‬ ‫َأ ْم َمنْ ه َُو قَانِتٌ َآنَا َء اللَّ ْي ِل َ‬
‫ب (‪)9‬‬ ‫ون ِإنَّ َما يَتَ َذ َّك ُر ُأولُو اَأْل ْلبَا ِ‬ ‫ون َوالَّ ِذ َ‬
‫ين اَل يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ستَ ِوي الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫يَ ْ‬

‫اج ًدا َوقَاِئ ًما يَ ْح َذ ُر ِ‬


‫اآلخ َرةَ َويَ ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِّ ِه قُ ْل َه ْل‬ ‫س ِ‬‫{ َأ ْم َمنْ ه َُو قَانِتٌ آنَا َء اللَّ ْي ِل َ‬
‫ب (‪} )9‬‬ ‫ون ِإنَّ َما يَتَ َذ َّك ُر ُأولُو ْا األ ْلبَا ِ‬ ‫ون َوالَّ ِذ َ‬
‫ين ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ستَ ِوي الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫يَ ْ‬
‫يقول تعالى‪ :‬أمن هذه صفته كمن أشرك باهلل وجعل له (‪ )1‬أندادا؟ ال يستوون عند‬
‫ت هَّللا ِ آنَا َء‬ ‫ب ُأ َّمةٌ قَاِئ َمةٌ يَ ْتلُ َ‬
‫ون آيَا ِ‬ ‫س َوا ًء ِمنْ َأه ِْل ا ْل ِكتَا ِ‬ ‫هللا‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬لَ ْي ُ‬
‫سوا َ‬
‫ُون } [آل عمران‪ ،]113:‬وقال هاهنا‪َ { :‬أ ْم َمنْ ه َُو قَانِتٌ آنَا َء اللَّ ْي ِل‬ ‫اللَّ ْي ِل َو ُه ْم يَ ْ‬
‫س ُجد َ‬
‫سا ِج ًدا َوقَاِئ ًما } أي‪ :‬في حال سجوده وفي حال قيامه؛ ولهذا استدل بهذه اآلية من‬
‫َ‬

‫‪6‬‬
‫ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصالة‪ ،‬ليس هو القيام وحده كما‪ ،‬ذهب إليه‬
‫آخرون‪.‬‬
‫قال الثوري‪ ،‬عن فراس‪ ،‬عن الشعبي‪ ،‬عن مسروق‪ ،‬عن ابن مسعود أنه قال‪ :‬القانت‬
‫المطيع هلل ولرسوله‪.‬‬
‫وقال ابن عباس‪ ،‬والحسن‪ ،‬والسدي‪ ،‬وابن زيد‪ { :‬آنَا َء اللَّ ْي ِل } ‪ :‬جوف الليل‪ .‬وقال‬
‫الثوري‪ ،‬عن منصور‪ :‬بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء‪.‬‬
‫وقال الحسن‪ ،‬وقتادة‪ { :‬آنَا َء اللَّ ْي ِل } ‪ :‬أوله وأوسطه وآخره‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬يَ ْح َذ ُر اآل ِخ َرةَ َويَ ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِّ ِه } أي‪ :‬في حال عبادته خائف راج (‪، )2‬‬
‫وال بد في العبادة من هذا وهذا‪ ،‬وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب؛ ولهذا‬
‫قال‪ { :‬يَ ْح َذ ُر ِ‬
‫اآلخ َرةَ َويَ ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِّ ِه } ‪ ،‬فإذا كان عند االحتضار فليكن الرجاء هو‬
‫الغالب عليه‪ ،‬كما قال (‪ )3‬اإلمام عبد بن حميد في مسنده‪.‬‬
‫حدثنا يحيى بن عبد الحميد‪ ،‬حدثنا جعفر بن سليمان‪ ،‬حدثنا ثابت عن أنس قال‪ :‬دخل‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على رجل وهو في الموت‪ ،‬فقال له‪" :‬كيف تجدك (‪)4‬‬
‫؟" قال‪ :‬أرجو وأخاف‪ .‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ال يجتمعان في قلب‬
‫عبد في مثل هذا الموطن إال أعطاه هللا عز وجل الذي يرجو‪ ،‬وأمنه الذي يخافه"‪.‬‬
‫سيَّار بن حاتم‪،‬‬
‫ورواه الترمذي والنسائي في "اليوم والليلة"‪ ،‬وابن ماجه‪ ،‬من حديث َ‬
‫عن جعفر بن سليمان‪ ،‬به (‪ . )5‬وقال الترمذي‪" :‬غريب‪ .‬وقد رواه بعضهم عن ثابت‪،‬‬
‫عن أنس‪ ،‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم مرسال"‪.‬‬
‫وقال (‪ )6‬ابن أبي حاتم‪ ،‬حدثنا عمر بن شبَّة (‪ ، )7‬عن عبيدة النميري‪ ،‬حدثنا أبو‬
‫الخ َّزاز‪ ،‬حدثنا (‪ )8‬يحيى البّ َّكاء‪ ،‬أنه سمع ابن عمر قرأ‪{ :‬‬ ‫َخلَف عبد هللا بن عيسى َ‬
‫اج ًدا َوقَاِئ ًما يَ ْح َذ ُر ِ‬
‫اآلخ َرةَ َويَ ْر ُجو َر ْح َمةَ َربِّ ِه } ؛ قال ابن‬ ‫س ِ‬‫َأ ْم َمنْ ه َُو قَانِتٌ آنَا َء اللَّ ْي ِل َ‬
‫عمر‪ :‬ذاك عثمان بن عفان‪ x،‬رضي هللا عنه‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫وإنما قال ابن عمر ذلك؛ لكثرة صالة أمير المؤمنين عثمان بالليل وقراءته‪ ،‬حتى إنه‬
‫ربما قرأ القرآن في ركعة‪ ،‬كما روى ذلك أبو عبيدة عنه‪ ،‬رضي هللا عنه‬

‫سنَةٌ َوَأ ْر ُ‬
‫ض هَّللا ِ‬ ‫ين َأ ْح َ‬
‫سنُوا فِي َه ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َح َ‬ ‫ين َآ َمنُوا اتَّقُوا َربَّ ُك ْم لِلَّ ِذ َ‬
‫قُ ْل يَا ِعبَا ِد الَّ ِذ َ‬
‫ب (‪)10‬‬‫سا ٍ‬‫ون َأ ْج َر ُه ْم بِ َغ ْي ِر ِح َ‬
‫صابِ ُر َ‬ ‫س َعةٌ ِإنَّ َما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫َوا ِ‬

‫س ُجو ِد بِ ِه ‪ ...‬يُقَطَّع اللي َل تَ ْ‬


‫سبيحا وقُرآنا ‪...‬‬ ‫ش َمطَ عُنوانُ ال ُّ‬
‫ض ُّحوا بأ ْ‬
‫َ‬
‫وقال (‪ )1‬اإلمام أحمد‪ :‬كتب إلي الربيع بن نافع‪ :‬حدثنا الهيثم بن حميد‪ ،‬عن زيد بن‬
‫واقد‪ ،‬عن سليمان بن موسى‪ ،‬عن كثير بن مرة (‪ ، )2‬عن تميم الداري قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قنوت ليلة"‪.‬‬
‫وكذا رواه النسائي في "اليوم والليلة" عن إبراهيم بن يعقوب‪ ،‬عن عبد هللا بن‬
‫يوسف والربيع بن نافع‪ ،‬كالهما عن الهيثم بن حميد‪ ،‬به (‪. )3‬‬
‫ون } أي‪ :‬هل يستوي هذا‬ ‫ون َوالَّ ِذ َ‬
‫ين ال يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ين يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫وقوله‪ { :‬قُ ْل َه ْل يَ ْ‬
‫ستَ ِوي الَّ ِذ َ‬
‫والذي قبله ممن جعل هلل أندادا ليضل عن سبيله؟! { ِإنَّ َما يَتَ َذ َّك ُر ُأولُو األ ْلبَا ِ‬
‫ب } أي‪:‬‬
‫إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا من له لب وهو العقل‪.‬‬
‫سنَةٌ َوَأ ْر ُ‬
‫ض هَّللا ِ‬ ‫ين َأ ْح َ‬
‫سنُوا فِي َه ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َح َ‬ ‫{ قُ ْل يَا ِعبَا ِد الَّ ِذ َ‬
‫ين آ َمنُوا اتَّقُوا َربَّ ُك ْم لِلَّ ِذ َ‬
‫ب (‪} )10‬‬ ‫سا ٍ‬‫ون َأ ْج َر ُه ْم بِ َغ ْي ِر ِح َ‬
‫صابِ ُر َ‬‫س َعةٌ ِإنَّ َما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫َوا ِ‬

‫ين (‬
‫سلِ ِم َ‬ ‫ِّين (‪َ )11‬وُأ ِم ْرتُ َأِلنْ َأ ُك َ‬
‫ون َأ َّو َل ا ْل ُم ْ‬ ‫قُ ْل ِإنِّي ُأ ِم ْرتُ َأنْ َأ ْعبُ َد هَّللا َ ُم ْخلِ ً‬
‫صا لَهُ الد َ‬
‫‪)12‬‬

‫ين (‬
‫سلِ ِم َ‬ ‫ِّين (‪َ )11‬وُأ ِم ْرتُ ألنْ َأ ُك َ‬
‫ون َأ َّو َل ا ْل ُم ْ‬ ‫{ قُ ْل ِإنِّي ُأ ِم ْرتُ َأنْ َأ ْعبُ َد هَّللا َ ُم ْخلِ ً‬
‫صا لَهُ الد َ‬
‫‪. } )12‬‬
‫‪8‬‬
‫يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين باالستمرار على طاعته وتقواه { قُ ْل يَا ِعبَا ِد الَّ ِذ َ‬
‫ين‬
‫سنَةٌ } أي‪ :‬لمن أحسن العمل في هذه‬ ‫ين َأ ْح َ‬
‫سنُوا فِي َه ِذ ِه ال ُّد ْنيَا َح َ‬ ‫آ َمنُوا اتَّقُوا َربَّ ُك ْم لِلَّ ِذ َ‬
‫الدنيا حسنة في دنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫س َعةٌ } قال مجاهد‪ :‬فهاجروا فيها‪ ،‬وجاهدوا‪ ،‬واعتزلوا‬ ‫وقوله‪َ { :‬وَأ ْر ُ‬
‫ض هَّللا ِ َوا ِ‬
‫األوثان‪.‬‬
‫اس َعةٌ } قال‪ :‬إذا‬ ‫وقال شريك‪ ،‬عن منصور‪ ،‬عن عطاء‪ x‬في قوله‪َ { :‬وَأ ْر ُ‬
‫ض هَّللا ِ َو ِ‬
‫اس َعةً فَتُ َه ِ‬
‫اج ُروا فِي َها }‬ ‫دعيتم إلى المعصية فاهربوا‪ ،‬ثم قرأ‪َ { :‬ألَ ْم تَ ُكنْ َأ ْر ُ‬
‫ض هَّللا ِ َو ِ‬
‫[النساء‪. ]97:‬‬
‫ب } قال األوزاعي‪ :‬ليس يوزن لهم‬ ‫ون َأ ْج َر ُه ْم بِ َغ ْي ِر ِح َ‬
‫سا ٍ‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إنَّ َما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫صابِ ُر َ‬
‫وال يكال (‪ ، )1‬إنما يغرف لهم غرفا‪.‬‬
‫وقال ابن جريج‪ :‬بلغني أنه ال يحسب عليهم ثواب عملهم قط‪ ،‬ولكن يزادون (‪ )2‬على‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ب } يعني‪ :‬في الجنة‪.‬‬ ‫ون َأ ْج َر ُه ْم بِ َغ ْي ِر ِح َ‬
‫سا ٍ‬ ‫صابِ ُر َ‬ ‫وقال السدي‪ِ { :‬إنَّ َما يُ َوفَّى ال َّ‬
‫صا لَهُ الد َ‬
‫ِّين } أي‪ :‬إنما أمرت بإخالص‬ ‫وقوله‪ { :‬قُ ْل ِإنِّي ُأ ِم ْرتُ َأنْ َأ ْعبُ َد هَّللا َ ُم ْخلِ ً‬
‫العبادة هلل وحده ال شريك له‪. ،‬‬
‫ين } قال السدي‪ :‬يعني من أمته صلى هللا عليه‬
‫سلِ ِم َ‬ ‫{ َوُأ ِم ْرتُ ألنْ َأ ُك َ‬
‫ون َأ َّو َل ا ْل ُم ْ‬
‫وسلم‪.‬‬

‫صا لَهُ ِدينِي (‬ ‫يم (‪ )13‬قُ ِل هَّللا َ َأ ْعبُ ُد ُم ْخلِ ً‬ ‫ص ْيتُ َربِّي َع َذ َ‬
‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍ‬ ‫قُ ْل ِإنِّي َأ َخافُ ِإنْ َع َ‬
‫س ُه ْم َوَأ ْهلِي ِه ْم يَ ْو َم‬
‫س ُروا َأ ْنفُ َ‬ ‫ين َخ ِ‬ ‫ين الَّ ِذ َ‬ ‫شْئتُ ْم ِمنْ دُونِ ِه قُ ْل ِإنَّ ا ْل َخ ِ‬
‫اس ِر َ‬ ‫‪ )14‬فَا ْعبُدُوا َما ِ‬
‫س َرانُ ا ْل ُمبِينُ (‪ )15‬لَ ُه ْم ِمنْ فَ ْوقِ ِه ْم ظُلَ ٌل ِم َن النَّا ِر َو ِمنْ ت َْحتِ ِه ْم‬ ‫ا ْلقِيَا َم ِة َأاَل َذلِكَ ُه َو ا ْل ُخ ْ‬
‫اجتَنَبُوا الطَّا ُغوتَ َأنْ‬ ‫ظُلَ ٌل َذلِكَ يُ َخ ِّوفُ هَّللا ُ بِ ِه ِعبَا َدهُ يَا ِعبَا ِد فَاتَّقُ ِ‬
‫ون (‪َ )16‬والَّ ِذ َ‬
‫ين ْ‬

‫‪9‬‬
‫ون ا ْلقَ ْو َل فَيَتَّبِ ُع َ‬
‫ون‬ ‫ستَ ِم ُع َ‬ ‫يَ ْعبُدُو َها َوَأنَابُوا ِإلَى هَّللا ِ لَ ُه ُم ا ْلبُش َْرى فَبَش ِّْر ِعبَا ِد (‪ )17‬الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ ْ‬
‫ب (‪)18‬‬ ‫ين َه َدا ُه ُم هَّللا ُ َوُأولَِئكَ ُه ْم ُأولُو اَأْل ْلبَا ِ‬
‫سنَهُ ُأولَِئكَ الَّ ِذ َ‬
‫َأ ْح َ‬

‫صا لَهُ ِدينِي‬ ‫يم (‪ )13‬قُ ِل هَّللا َ َأ ْعبُ ُد ُم ْخلِ ً‬ ‫اب يَ ْو ٍم َع ِظ ٍ‬‫ص ْيتُ َربِّي َع َذ َ‬ ‫{ قُ ْل ِإنِّي َأ َخافُ ِإنْ َع َ‬
‫س ُه ْم َوَأ ْهلِي ِه ْم يَ ْو َم‬
‫س ُروا َأ ْنفُ َ‬ ‫ين َخ ِ‬ ‫ين الَّ ِذ َ‬
‫اس ِر َ‬ ‫شْئتُ ْم ِمنْ دُونِ ِه قُ ْل ِإنَّ ا ْل َخ ِ‬‫(‪ )14‬فَا ْعبُدُوا َما ِ‬
‫س َرانُ ا ْل ُمبِينُ (‪ )15‬لَ ُه ْم ِمنْ فَ ْوقِ ِه ْم ظُلَ ٌل ِم َن النَّا ِر َو ِمنْ ت َْحتِ ِه ْم‬ ‫ا ْلقِيَا َم ِة َأال َذلِكَ ُه َو ا ْل ُخ ْ‬
‫ون (‪. } )16‬‬ ‫ظُلَ ٌل َذلِكَ يُ َخ ِّوفُ هَّللا ُ بِ ِه ِعبَا َدهُ يَا ِعبَا ِد فَاتَّقُ ِ‬
‫ص ْيتُ َربِّي َع َذ َ‬
‫اب يَ ْو ٍم‬ ‫يقول تعالى‪ :‬قل يا محمد وأنت رسول هللا‪ِ { :‬إنِّي َأ َخافُ ِإنْ َع َ‬
‫يم } ‪ ،‬وهو يوم القيامة‪ .‬وهذا ش َْرط‪ ،‬ومعناه التعريض بغيره بطريق األولى‬ ‫َع ِظ ٍ‬
‫صا لَهُ ِدينِي فَا ْعبُدُوا َما ِ‬
‫شْئتُ ْم ِمنْ دُونِ ِه } وهذا أيضا‬ ‫واألحرى‪ { ،‬قُ ِل هَّللا َ َأ ْعبُ ُد ُم ْخلِ ً‬
‫ين } أي‪ :‬إنما الخاسرون كل الخسران (‪{ )2‬‬ ‫تهديد وتَبَ ّر (‪ )1‬منهم‪ { ،‬قُ ْل ِإنَّ ا ْل َخا ِ‬
‫س ِر َ‬
‫س ُه ْم َوَأ ْهلِي ِه ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة } أي‪ :‬تفارقوا فال التقاء لهم أبدا‪ ،‬سواء‬ ‫س ُروا َأ ْنفُ َ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫ين َخ ِ‬
‫ذهب أهلوهم إلى الجنة وقد ذهبوا هم إلى النار‪ ،‬أو أن الجميع أسكنوا النار‪ ،‬ولكن ال‬
‫اجتماع لهم وال سرور‪َ { ،‬ذلِكَ ُه َو ا ْل ُخ ْ‬
‫س َرانُ ا ْل ُمبِينُ } أي‪ :‬هذا هو الخسار البين‬
‫الظاهر الواضح ‪.‬‬
‫ثم وصف حالهم في النار فقال‪ { :‬لَ ُه ْم ِمنْ فَ ْوقِ ِه ْم ظُلَ ٌل ِم َن النَّا ِر َو ِمنْ ت َْحتِ ِه ْم ظُلَ ٌل }‬
‫ين }‬ ‫ش َو َك َذلِ َك نَ ْج ِزي الظَّالِ ِم َ‬ ‫كما قال‪ { :‬لَ ُه ْم ِمنْ َج َهنَّ َم ِم َها ٌد َو ِمنْ فَ ْوقِ ِه ْم َغ َوا ٍ‬
‫ت َأ ْر ُجلِ ِه ْم َويَقُو ُل‬
‫اب ِمنْ فَ ْوقِ ِه ْم َو ِمنْ ت َْح ِ‬ ‫[األعراف‪ ،]41:‬وقال‪ { :‬يَ ْو َم يَ ْغشَا ُه ُم ا ْل َع َذ ُ‬
‫ون } [العنكبوت‪. ]55:‬‬ ‫ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْع َملُ َ‬
‫وقوله‪َ { :‬ذلِكَ يُ َخ ِّوفُ هَّللا ُ بِ ِه ِعبَا َدهُ } أي‪ :‬إنما يَقص خبر هذا الكائن ال محالة ليخوف‬
‫به عباده‪ ،‬لينزجروا عن المحارم والمآثم‪.‬‬
‫ون } أي‪ :‬اخشوا بأسي وسطوتي‪ ،‬وعذابي ونقمتي ‪.‬‬ ‫وقوله‪ { :‬يَا ِعبَا ِد فَاتَّقُ ِ‬
‫اجتَنَبُوا الطَّا ُغوتَ َأنْ يَ ْعبُدُو َها َوَأنَابُوا ِإلَى هَّللا ِ لَ ُه ُم ا ْلبُش َْرى فَبَش ِّْر ِعبَا ِد (‪)17‬‬
‫ين ْ‬ ‫{ َوالَّ ِذ َ‬

‫‪10‬‬
‫ين َه َدا ُه ُم هَّللا ُ َوُأولَِئكَ ُه ْم ُأولُو ْا‬ ‫سنَهُ ُأولَِئ َك الَّ ِذ َ‬
‫ون َأ ْح َ‬
‫ون ا ْلقَ ْو َل فَيَتَّبِ ُع َ‬
‫ستَ ِم ُع َ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ ْ‬
‫ب (‪} )18‬‬ ‫األ ْلبَا ِ‬
‫اجتَنَبُوا الطَّا ُغوتَ َأنْ‬ ‫ين ْ‬ ‫قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪ ،‬عن أبيه‪َ { :‬والَّ ِذ َ‬
‫يَ ْعبُدُو َها } نزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل‪ ،‬وأبي ذر‪ ،‬وسلمان الفارسي‪.‬‬
‫والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم‪ ،‬ممن اجتنب عبادة األوثان‪ ،‬وأناب إلى عبادة‬
‫الرحمن‪ .‬فهؤالء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي اآلخرة ‪.‬‬
‫سنَهُ } أي‪ :‬يفهمونه‬ ‫ون َأ ْح َ‬
‫ون ا ْلقَ ْو َل فَيَتَّبِ ُع َ‬
‫ستَ ِم ُع َ‬ ‫ثم قال‪ { :‬فَبَش ِّْر ِعبَا ِد الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ ْ‬
‫ويعملون بما فيه‪ ،‬كقوله تعالى لموسى حين آتاه التوراة‪ { :‬فَ ُخ ْذ َها بِقُ َّو ٍة َوْأ ُم ْر قَ ْو َم َك‬
‫سنِ َها } [األعراف‪. ]145:‬‬ ‫يَْأ ُخ ُذوا بَِأ ْح َ‬
‫ين َه َدا ُه ُم هَّللا ُ } أي‪ :‬المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم هللا في الدنيا‬ ‫{ ُأولَِئكَ الَّ ِذ َ‬
‫واآلخرة (‪ ، )3‬أي‪ :‬ذوو العقول الصحيحة‪ ،‬والفطَر المستقيمة ‪.‬‬

‫ب َأفََأ ْنتَ تُ ْنقِ ُذ َمنْ فِي النَّا ِر (‪ )19‬لَ ِك ِن الَّ ِذ َ‬


‫ين اتَّقَ ْوا َربَّ ُه ْم لَ ُه ْم‬ ‫َأفَ َمنْ َح َّ‬
‫ق َعلَ ْي ِه َكلِ َمةُ ا ْل َع َذا ِ‬
‫ُغ َرفٌ ِمنْ فَ ْوقِ َها ُغ َرفٌ َم ْبنِيَّةٌ ت َْج ِري ِمنْ ت َْحتِ َها اَأْل ْن َها ُر َو ْع َد هَّللا ِ اَل يُ ْخلِفُ هَّللا ُ ا ْل ِمي َعا َد (‬
‫‪)20‬‬

‫ب َأفََأ ْنتَ تُ ْنقِ ُذ َمنْ فِي النَّا ِر (‪ )19‬لَ ِك ِن الَّ ِذ َ‬


‫ين اتَّقَ ْوا َربَّ ُه ْم‬ ‫{ َأفَ َمنْ َح َّ‬
‫ق َعلَ ْي ِه َكلِ َمةُ ا ْل َع َذا ِ‬
‫لَ ُه ْم ُغ َرفٌ ِمنْ فَ ْوقِ َها ُغ َرفٌ َم ْبنِيَّةٌ ت َْج ِري ِمنْ ت َْحتِ َها األ ْن َها ُر َو ْع َد هَّللا ِ ال يُ ْخلِفُ هَّللا ُ‬
‫ا ْل ِمي َعا َد (‪. } )20‬‬
‫قذه مما هو فيه من الضالل والهالك؟‬ ‫شقِي تَ ْقدر تُ ْن ُ‬
‫يقول تعالى‪ :‬أفمن كتب هللا أنه َ‬
‫أي‪ :‬ال يهديه أحد من بعد هللا؛ ألنه من يضلل هللا فال هادي له‪ ،‬ومن يهده فال مضل‬
‫له ‪.‬‬
‫ثم أخبر عن عباده السعداء أنهم لهم غرف في الجنة‪ ،‬وهي القصور الشاهقة { ِمنْ‬
‫فَ ْوقِ َها ُغ َرفٌ َم ْبنِيَّةٌ } ‪ ،‬أي‪ :‬طباق فوق طباق‪َ ،‬م ْبنيات محكمات مزخرفات عاليات‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫قال عبد هللا بن اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا عباد بن يعقوب األسدي‪ ،‬حدثنا محمد بن فضيل‪،‬‬
‫عن عبد الرحمن بن إسحاق‪ ،‬عن النعمان بن سعد‪ ،‬عن علي‪ ،‬رضي هللا عنه قال‪:‬‬
‫قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن في الجنة لغرفًا يُ َرى بطونها من ظهورها‪،‬‬
‫وظهورها من بطونها" فقال أعرابي‪ :‬لمن هي يا رسول هللا؟ قال‪" :‬لمن أطاب الكالم‪،‬‬
‫وأطعم الطعام‪ ،‬وصلى هلل بالليل والناس نيام"‪.‬‬
‫ورواه الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق (‪ ، )1‬وقال‪" :‬حسن غريب‪ ،‬وقد‬
‫تكلم بعض أهل العلم فيه من قبَل حفظه"‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا عبد الرزاق‪ ،‬حدثنا َم ْع َمر‪ ،‬عن يحيى بن أبي كثير‪ ،‬عن ابن‬
‫ُمعانق ‪-‬أو‪ :‬أبي ُم َعانق ‪-‬عن أبي مالك األشعري قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪" :‬إن في الجنة لغرفة (‪ )2‬يرى ظاهرها‪ x‬من باطنها‪ ،‬وباطنها من ظاهرها‪،‬‬
‫أعدها هللا لمن أطعم الطعام‪ ،‬وأالن الكالم‪ ،‬وتابع الصيام‪ ،‬وصلى والناس نيام" ‪.‬‬
‫تفرد به أحمد من حديث عبد هللا بن ُم َعانق األشعري‪ ،‬عن أبي مالك‪ ،‬به‪.‬‬
‫وقال (‪ )3‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا قتيبة بن سعيد‪ ،‬حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن‪ ،‬عن أبي‬
‫حازم (‪ ، )4‬عن سهل بن سعد أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ " :‬إن أهل‬
‫الجنة ليتراءون‪ x‬الغرفة في الجنة كما تراءون‪ x‬الكوكب في السماء"‪ .‬قال‪ :‬فحدثتُ‬
‫بذلك النعمان بن أبي عياش‪ ،‬فقال‪ :‬سمعت أبا سعيد الخدري يقول‪" :‬كما تراءون‪x‬‬
‫الكوكب الدري (‪ )5‬في األفق الشرقي أو الغربي"‪.‬‬
‫ضا في الصحيحين‬
‫أخرجاه في الصحيحين‪ ،‬من حديث أبي حازم (‪ ، )6‬وأخرجاه أي ً‬
‫من حديث مالك‪ ،‬عن صفوان بن سليم‪ ،‬عن عطاء بن يسار‪ ،‬عن أبي سعيد‪ ،‬عن‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم (‪. )7‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا فَزارة‪ ،‬أخبرني فُلَيح‪ ،‬عن هالل بن علي‪ ،‬عن عطاء‪ x‬بن‬
‫يسار‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬رضي هللا عنه‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن‬
‫أهل الجنة ليتراءون في الجنة أهل الغرف‪ ،‬كما تراءون‪ x‬الكوكب الدري الغارب في‬

‫‪12‬‬
‫األفق الطالع‪ x،‬في تفاضل أهل الدرجات"‪ .‬فقالوا‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أولئك النبيون؟ فقال‪:‬‬
‫"بلى‪ ،‬والذي نفسي بيده‪ ،‬وأقوام آمنوا باهلل وصدقوا الرسل"‪.‬‬

‫سلَ َكهُ يَنَابِي َع فِي اَأْل ْر ِ‬


‫ض ثُ َّم يُ ْخ ِر ُج بِ ِه َز ْر ًعا‬ ‫َألَ ْم ت ََر َأنَّ هَّللا َ َأ ْن َز َل ِم َن ال َّ‬
‫س َما ِء َما ًء فَ َ‬
‫صفَ ًّرا ثُ َّم يَ ْج َعلُهُ ُحطَا ًما ِإنَّ فِي َذلِكَ لَ ِذ ْك َرى ُأِلولِي‬ ‫ُم ْختَلِفًا َأ ْل َوانُهُ ثُ َّم يَ ِه ُ‬
‫يج فَت ََراهُ ُم ْ‬
‫ب (‪)21‬‬ ‫اَأْل ْلبَا ِ‬

‫سويد (‪ ، )1‬عن ابن المبارك عن فُلَيح به (‪ )2‬وقال‪ :‬حسن‬


‫ورواه الترمذي عن ُ‬
‫صحيح‪.‬‬
‫وقال (‪ )3‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا أبو النضر وأبو كامل (‪ )4‬قاال حدثنا زهير‪ ،‬حدثنا سعد‬
‫الطائي‪ ،‬حدثنا أبو الم َدلَّة ‪-‬مولى أم المؤمنين‪-‬أنه سمع أبا هريرة يقول‪ :‬قلنا‪ :‬يا‬
‫رسول هللا‪ ،‬إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا‪ ،‬وكنا من أهل اآلخرة‪ ،‬فإذا فارقناك أعجبتنا‬
‫الدنيا وشَم ْمنَا النساء واألوالد‪ .‬قال‪" :‬لو أنكم تكونون على كل حال على الحال التي‬
‫أنتم عليها عندي‪ ،‬لصافحتكم المالئكة بأكفهم‪ ،‬ولزارتكم في بيوتكم‪ .‬ولو لم تُذنبوا‬
‫لجاء هللا بقوم يذنبون كي يغفر لهم" قلنا‪ :‬يا رسول هللا‪َ ،‬حدّثنا عن الجنة‪ ،‬ما بناؤها؟‬
‫صباؤها اللؤلؤ والياقوت‪،‬‬
‫وح ْ‬ ‫ضة‪ ،‬ومالطها المسك ْ‬
‫األذفَر‪َ ،‬‬ ‫قال‪" :‬لَبِنَةُ ذهب ولَبِنَةُ ف ّ‬
‫وترابها الزعفران‪ ،‬من يدخلها ينعم وال يَ ْبأس‪ ،‬ويخلد وال يموت‪ ،‬ال تبلى ثيابه‪ ،‬وال‬
‫يفنى شبابه‪ .‬ثالثة ال تُ َر َّد دعوتُهم‪ :‬اإلمام العادل‪ ،‬والصائم حتى يفطر‪ ،‬ودعوة‬
‫المظلوم تُح َمل على ال َغمام‪ ،‬وتفتح لها أبواب السموات‪ ،‬ويقول الرب‪ :‬وعزتي‬
‫ألنصرنك ولو بعد حين" (‪. )5‬‬
‫بعضه‪ ،‬من حديث سعد (‪ )6‬أبي مجاهد الطائي ‪-‬وكان‬
‫َ‬ ‫وروى الترمذي‪ ،‬وابنُ ماجه‬
‫ثقة‪-‬عن أبي ال ُم َدلِّه ‪-‬وكان ثقة‪-‬به (‪. )7‬‬
‫وقوله‪ { :‬ت َْج ِري ِمنْ ت َْحتِ َها األ ْن َها ُر } أي‪ :‬تسلك (‪ )8‬األنهار بين خالل ذلك‪ ،‬كما‬
‫يشاءوا (‪ )9‬وأين أرادوا‪َ { ،‬و َع َد هَّللا ُ } أي‪ :‬هذا الذي ذكرناه وعد وعده هللا عباده‬

‫‪13‬‬
‫المؤمنين { ِإنَّ هَّللا َ ال يُ ْخلِفُ ا ْل ِمي َعا َد }‬
‫ض ثُ َّم يُ ْخ ِر ُج بِ ِه َز ْر ًعا‬ ‫سلَ َكهُ يَنَابِي َع فِي ْ‬
‫األر ِ‬ ‫س َما ِء َما ًء فَ َ‬ ‫{ َألَ ْم ت ََر َأنَّ هَّللا َ َأنز َل ِم َن ال َّ‬
‫صفَ ًّرا ثُ َّم يَ ْج َعلُهُ ُحطَا ًما ِإنَّ فِي َذلِكَ لَ ِذ ْك َرى ألولِي‬
‫يج فَت ََراهُ ُم ْ‬ ‫ُم ْختَلِفًا َأ ْل َوانُهُ ثُ َّم يَ ِه ُ‬
‫ب (‪} )21‬‬ ‫األ ْلبَا ِ‬

‫ساَل ِم فَ ُه َو َعلَى نُو ٍر ِمنْ َربِّ ِه فَ َو ْي ٌل لِ ْلقَا ِ‬


‫سيَ ِة قُلُوبُ ُه ْم ِمنْ ِذ ْك ِر‬ ‫َأفَ َمنْ ش ََر َح هَّللا ُ َ‬
‫صد َْرهُ لِِإْل ْ‬
‫ين (‪)22‬‬ ‫ضاَل ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫هَّللا ِ ُأولَِئكَ فِي َ‬

‫الم فَ ُه َو َعلَى نُو ٍر ِمنْ َربِّ ِه فَ َو ْي ٌل لِ ْلقَا ِ‬


‫سيَ ِة قُلُوبُ ُه ْم ِمنْ ِذ ْك ِر‬ ‫س ِ‬ ‫{ َأفَ َمنْ ش ََر َح هَّللا ُ َ‬
‫صد َْرهُ لِإل ْ‬
‫ين (‪. } )22‬‬ ‫الل ُمبِ ٍ‬
‫ض ٍ‬‫هَّللا ِ ُأولَِئكَ فِي َ‬
‫يخبر تعالى‪ :‬أن أصل الماء في األرض من السماء كما قال تعالى‪َ { :‬وَأنز ْلنَا ِم َن‬
‫ط ُهو ًرا } [الفرقان‪ ،]48:‬فإذا أنزل الماء من السماء َك َمن في األرض‪،‬‬ ‫س َما ِء َما ًء َ‬ ‫ال َّ‬
‫ثم يصرفه تعالى في أجزاء األرض كما يشاء‪ ،‬ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار‪،‬‬
‫ض}‪.‬‬ ‫األر ِ‬ ‫بحسب الحاجة إليها؛ ولهذا قال‪ { :‬فَ َ‬
‫سلَ َكهُ يَنَابِي َع فِي ْ‬
‫قال (‪ )1‬ابن أبي حاتم ‪-‬رحمه هللا‪ :-‬حدثنا علي بن الحسين‪ ،‬حدثنا عمرو بن علي‪،‬‬
‫حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان‪ x،‬عن عكرمة (‪ ، )2‬عن ابن عباس في قوله تعالى‪{ :‬‬
‫ض } ‪ ،‬قال‪ :‬ليس في‬ ‫سلَ َكهُ يَنَابِي َع فِي ْ‬
‫األر ِ‬ ‫َألَ ْم ت ََر َأنَّ هَّللا َ َأنز َل ِم َن ال َّ‬
‫س َما ِء َما ًء فَ َ‬
‫األرض ماء إال نزل من السماء‪ ،‬ولكن عروق في األرض‬
‫__________‬

‫ين يَ ْخش َْو َن َربَّ ُه ْم ثُ َّم‬ ‫ث ِكتَابًا ُمتَشَابِ ًها َمثَانِ َي تَ ْق َ‬


‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ ُجلُو ُد الَّ ِذ َ‬ ‫هَّللا ُ نَ َّز َل َأ ْح َ‬
‫س َن ا ْل َح ِدي ِ‬
‫تَلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم ِإلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ َذلِكَ ُه َدى هَّللا ِ يَ ْه ِدي بِ ِه َمنْ يَشَا ُء َو َمنْ يُ ْ‬
‫ضلِ ِل هَّللا ُ‬
‫فَ َما لَهُ ِمنْ َها ٍد (‪)23‬‬

‫‪14‬‬
‫ض } ‪ ،‬فمن سره أن يعود الملح‬
‫األر ِ‬ ‫تغيره‪ ،‬فذلك قوله تعالى‪ { :‬فَ َ‬
‫سلَ َكهُ يَنَابِي َع فِي ْ‬
‫عذاب فليصعده‪.‬‬
‫وكذا قال سعيد بن جبير‪ ،‬وعامر الشعبي‪ :‬أن كل ماء في األرض فأصله من السماء‪.‬‬
‫وقال سعيد بن جبير‪ :‬أصله من الثلج يعني‪ :‬أن الثلج يتراكم على الجبال‪ ،‬فيسكن في‬
‫قرارها‪ ،‬فتنبع العيون من أسافلها‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬ثُ َّم يُ ْخ ِر ُج بِ ِه َز ْر ًعا ُم ْختَلِفًا َأ ْل َوانُهُ } أي‪ :‬ثم يخرج بالماء النازل من السماء‬
‫والنابع من األرض زرعا { ُم ْختَلِفًا َأ ْل َوانُهُ } أي‪ :‬أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه‪،‬‬
‫صفَ ًّرا } ‪ ،‬قد خالطه‬ ‫يج } أي‪ :‬بعد نضارته وشبابه يكتهل (‪ { )1‬فَتَ َراهُ ُم ْ‬ ‫{ ثُ َّم يَ ِه ُ‬
‫اليُ ْبس‪ { ،‬ثُ َّم يَ ْج َعلُهُ ُحطَا ًما } أي‪ :‬ثم يعود يابسا يتحطم‪ِ { ،‬إنَّ فِي َذلِ َك لَ ِذ ْك َرى ألولِي‬
‫ب } أي‪ :‬الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا‪ ،‬تكون َخضرةً نضرةً‬ ‫األ ْلبَا ِ‬
‫حسناء‪ ،‬ثم تعود َع ُجوزا شوهاء‪ ،‬والشاب يعود شيخا َه ِرما كبيرا ضعيفا [قد خالطه‬
‫اليبس] (‪ ، )2‬وبعد ذلك كله الموت‪ .‬فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير‪ ،‬وكثي ًرا ما‬
‫يضرب هللا تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل هللا من السماء من ماء‪ ،‬وينبت به‬
‫اض ِر ْب لَ ُه ْم َمثَ َل ا ْل َحيَا ِة‬
‫زروعا وثمارا‪ ،‬ثم يكون بعد ذلك ُحطاما‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و ْ‬
‫شي ًما ت َْذ ُروهُ ال ِّريَ ُ‬
‫اح‬ ‫ض فََأ ْ‬
‫صبَ َح َه ِ‬ ‫اختَلَطَ بِ ِه نَبَاتُ ْ‬
‫األر ِ‬ ‫ال ُّد ْنيَا َك َما ٍء َأنز ْلنَاهُ ِم َن ال َّ‬
‫س َما ِء فَ ْ‬
‫َي ٍء ُم ْقتَ ِد ًرا } [الكهف‪. ]45:‬‬ ‫ان هَّللا ُ َعلَى ُك ِّل ش ْ‬ ‫َو َك َ‬
‫الم فَ ُه َو َعلَى نُو ٍر ِمنْ َربِّ ِه } أي‪ :‬هل يستوي‬ ‫س ِ‬ ‫صد َْرهُ لِإل ْ‬ ‫وقوله‪َ { :‬أفَ َمنْ َ‬
‫ش َر َح هَّللا ُ َ‬
‫ان َم ْيتًا فََأ ْحيَ ْينَاهُ‬
‫هذا ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق؟! كقوله تعالى‪َ { :‬أ َو َمنْ َك َ‬
‫ج ِم ْن َها }‬ ‫س بِ َخا ِر ٍ‬‫ت لَ ْي َ‬ ‫س َك َمنْ َمثَلُهُ فِي ال ُّ‬
‫ظلُ َما ِ‬ ‫شي بِ ِه فِي النَّا ِ‬ ‫َو َج َع ْلنَا لَهُ نُو ًرا يَ ْم ِ‬
‫اسيَ ِة قُلُوبُ ُه ْم ِمنْ ِذ ْك ِر هَّللا ِ } أي‪ :‬فال تلين عند‬ ‫[األنعام‪]122:‬؛ ولهذا قال‪ { :‬فَ َو ْي ٌل لِ ْلقَ ِ‬
‫ين }‬‫الل ُمبِ ٍ‬
‫ض ٍ‬ ‫ذكره (‪ ، )3‬وال تخشع وال تعي وال تفهم‪ُ { ،‬أولَِئ َك فِي َ‬
‫ث ِكتَابًا ُمتَشَابِ ًها َمثَانِ َي تَ ْق َ‬
‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ ُجلُو ُد الَّ ِذ َ‬
‫ين يَ ْخش َْو َن َربَّ ُه ْم‬ ‫{ هَّللا ُ نز َل َأ ْح َ‬
‫س َن ا ْل َح ِدي ِ‬
‫ضلِ ِل‬‫ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم ِإلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ َذلِكَ ُه َدى هَّللا ِ يَ ْه ِدي بِ ِه َمنْ يَشَا ُء َو َمنْ يُ ْ‬

‫‪15‬‬
‫هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ َها ٍد (‪} )23‬‬
‫ْح من هللا ‪-‬عز وجل‪-‬لكتابه القرآن العظيم المنزل على رسوله الكريم‪ ،‬قال‬ ‫هذا َمد ٌ‬
‫ث ِكتَابًا ُمتَشَابِ ًها َمثَانِ َي } قال مجاهد‪ :‬يعني القرآن‬ ‫هللا تعالى‪ { :‬هَّللا ُ نز َل َأ ْح َ‬
‫س َن ا ْل َح ِدي ِ‬
‫كله متشابه مثاني‪.‬‬
‫وقال قتادة‪ :‬اآلية تشبه اآلية‪ ،‬والحرف يشبه الحرف‪.‬‬
‫وقال الضحاك‪َ { :‬مثَانِ َي } ترديد القول ليفهموا عن ربهم عز وجل‪.‬‬
‫وقال عكرمة‪ ،‬والحسن‪ :‬ثنَّى هللا فيه القضاء ‪-‬زاد الحسن‪ :‬تكون السورة فيها آية‪،‬‬
‫وفي السورة األخرى آية تشبهها‪.‬‬
‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪َ { :‬مثَانِ َي } ُم َردَّد‪ُ ،‬ردِّد موسى في القرآن‪ ،‬وصالح‬
‫وهود واألنبياء‪ ،‬عليهم السالم‪ ،‬في أمكنة كثيرة‪..‬‬

‫وقال سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عباس‪َ { :‬مثَانِ َي } قال‪ :‬القرآن يشبه بعضه بعضا‪،‬‬
‫ويُ َر ُّد (‪ )1‬بعضه على بعض‪.‬‬
‫يروى عن سفيان بن عيينة معنى قوله‪ُ { :‬متَشَابِ ًها َمثَانِ َي } أنّ‬
‫وقال بعض العلماء‪ُ :‬و ْ‬
‫سياقات القرآن تارةً تكونُ في معنى واحد‪ ،‬فهذا من المتشابه‪ ،‬وتارةً تكونُ بذكر‬
‫الشيء وضده‪ ،‬كذكر المؤمنين ثم الكافرين‪ ،‬وكصفة الجنة ثم صفة النار‪ ،‬وما أشبه‬
‫يم }‬ ‫يم َوِإنَّ ا ْلفُ َّج َ‬
‫ار لَفِي َج ِح ٍ‬ ‫ار لَفِي نَ ِع ٍ‬
‫هذا‪ ،‬فهذا من المثاني‪ ،‬كقوله تعالى‪ِ { :‬إنَّ األ ْب َر َ‬
‫ين } [المطففين‪،]7:‬‬ ‫س ِّج ٍ‬‫َاب ا ْلفُ َّجا ِر لَفِي ِ‬
‫[االنفطار‪ ،]13 ،14:‬وكقوله { َكال ِإنَّ ِكت َ‬
‫ين } [المطففين‪َ { ، ]18:‬ه َذا ِذ ْك ٌر َوِإنَّ‬ ‫َاب األ ْب َرا ِر لَفِي ِعلِّيِّ َ‬
‫إلى أن قال‪َ { :‬كال ِإنَّ ِكت َ‬
‫ب } [ص‪:‬‬ ‫ش َّر َمآ ٍ‬ ‫ين لَ َ‬ ‫ب } [ص‪ ،]49:‬إلى أن قال‪َ { :‬ه َذا َوِإنَّ لِلطَّ ِ‬
‫اغ َ‪x‬‬ ‫س َن َمآ ٍ‬ ‫لِ ْل ُمتَّقِ َ‬
‫ين لَ ُح ْ‬
‫‪ ،]55‬ونحو هذا من السياقات فهذا كله من (‪ )2‬المثاني‪ ،‬أي‪ :‬في معنيين اثنين‪ ،‬وأما‬
‫إذا كان السياق كله في معنى واحد يشبه بعضه بعضا‪ ،‬فهو المتشابه وليس هذا من‬
‫ب َوُأ َخ ُر ُمتَشَابِ َهاتٌ }‬
‫المتشابه المذكور في قوله‪ِ { :‬م ْنهُ آيَاتٌ ُم ْح َك َماتٌ هُنَّ ُأ ُّم ا ْل ِكتَا ِ‬
‫[آل عمران ‪ ،]7:‬ذاك معنى آخر‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫ين يَ ْخش َْو َن َربَّ ُه ْم ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم ِإلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ‬
‫وقوله‪ { :‬تَ ْقش َِع ُّر ِم ْنهُ ُجلُو ُد الَّ ِذ َ‬
‫} أي هذه صفة األبرار‪ ،‬عند سماع كالم الجبار‪ ،‬المهيمن العزيز الغفار‪ ،‬لما يفهمون‬
‫منه من الوعد والوعيد‪ .‬والتخويف والتهديد‪ ،‬تقشعر منه جلودهم من الخشية‬
‫والخوف‪ { x،‬ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم ِإلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ } لما يرجون ويُؤ ِّملون من رحمته‬
‫(‪ )3‬ولطفه‪ ،‬فهم مخالفون لغيرهم من الكفار (‪ )4‬من وجوه‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن سماع هؤالء هو تالوة اآليات‪ ،‬وسماع أولئك نَ َغمات ألبيات‪ ،‬من أصوات‬
‫القَ ْينات‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا‪ ،‬بأدب وخشية‪ ،‬ورجاء‬
‫ين ِإ َذا ُذ ِك َر هَّللا ُ َو ِجلَتْ قُلُوبُ ُه ْم َوِإ َذا‬ ‫ومحبة‪ ،‬وفهم وعلم‪ ،‬كما قال‪ِ { :‬إنَّ َما ا ْل ُمْؤ ِمنُ َ‬
‫ون الَّ ِذ َ‬
‫صالةَ َو ِم َّما‬ ‫ون ال َّ‬ ‫ين يُقِي ُم َ‬ ‫ون الَّ ِذ َ‬ ‫تُلِيَتْ َعلَ ْي ِه ْم آيَاتُهُ َزا َد ْت ُه ْم ِإي َمانًا َو َعلَى َربِّ ِه ْم يَت ََو َّكلُ َ‬
‫ق َك ِري ٌم‬ ‫ون َحقًّا لَ ُه ْم َد َر َجاتٌ ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َو َم ْغفِ َرةٌ َو ِر ْز ٌ‬ ‫ون ُأولَِئ َك ُه ُم ا ْل ُمْؤ ِمنُ َ‬‫َر َز ْقنَا ُه ْم يُ ْنفِقُ َ‪x‬‬
‫ت َربِّ ِه ْم لَ ْم يَ ِخ ُّروا َعلَ ْي َها ُ‬
‫ص ّمًا‬ ‫ين ِإ َذا ُذ ِّك ُروا بِآيَا ِ‬ ‫} [األنفال‪ ]4-2:‬وقال تعالى‪َ { :‬والَّ ِذ َ‬
‫َو ُع ْميَانًا } [الفرقان‪ ]73:‬أي‪ :‬لم يكونوا عند سماعها متشاغلين الهين عنها‪ ،‬بل‬
‫مصغين إليها‪ ،‬فاهمين بصيرين بمعانيها؛ فلهذا إنما يعملون بها‪ ،‬ويسجدون عندها‬
‫عن بصيرة ال عن جهل ومتابعة لغيرهم [أي يرون غيرهم قد سجد فيسجدون تبعا‬
‫له]‪. )5( .‬‬
‫الثالث‪ :‬أنهم يلزمون األدب عند سماعها‪ ،‬كما كان الصحابة‪ ،‬رضي هللا عنهم عند‬
‫سماعهم كالم هللا من تالوة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم تقشعر جلودهم‪ ،‬ثم تلين‬
‫يتصارخون وال يتكلّفون ما ليس فيهم‪ ،‬بل عندهم‬
‫ُ‬ ‫مع قلوبهم إلى ذكر هللا‪ .‬لم يكونوا‬
‫من الثبات والسكون واألدب والخشية ما ال يلحقهم أحد في ذلك؛ ولهذا فازوا بالقِدح‬
‫ال ُم َعلّى في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ش ِع ُّر ِم ْنهُ ُجلُو ُد الَّ ِذ َ‬
‫ين‬ ‫قال عبد الرزاق‪ :‬حدثنا َم ْع َمر قال‪ :‬تال قتادة‪ ،‬رحمه هللا‪ { :‬تَ ْق َ‬
‫يَ ْخش َْو َن َربَّ ُه ْم ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم ِإلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ }‬

‫‪17‬‬
‫ون (‬
‫سب ُ َ‬ ‫ين ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْك ِ‬
‫ب يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة َوقِي َل لِلظَّالِ ِم َ‬ ‫سو َء ا ْل َع َذا ِ‬ ‫َأفَ َمنْ يَتَّقِي بِ َو ْج ِه ِه ُ‬
‫ون (‪ )25‬فََأ َذاقَ ُه ُم هَّللا ُ‬
‫ش ُع ُر َ‬ ‫اب ِمنْ َح ْي ُ‬
‫ث اَل يَ ْ‬ ‫ين ِمنْ قَ ْبلِ ِه ْم فََأتَا ُه ُم ا ْل َع َذ ُ‬ ‫‪َ )24‬ك َّذ َ‬
‫ب الَّ ِذ َ‬
‫اب اَآْل ِخ َر ِة َأ ْكبَ ُر لَ ْو َكانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون (‪)26‬‬ ‫ي فِي ا ْل َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َولَ َع َذ ُ‬ ‫ا ْل ِخ ْز َ‬

‫قال‪ :‬هذا نعت أولياء هللا‪ ،‬نعتهم هللا بأن تقشعر جلودهم‪ ،‬وتبكي أعينهم‪ ،‬وتطمئن‬
‫قلوبهم إلى ذكر هللا‪ ،‬ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم‪ ،‬إنما هذا في أهل‬
‫البدع‪ ،‬وهذا من الشيطان‪.‬‬
‫سدِّي‪ { :‬ثُ َّم تَلِينُ ُجلُو ُد ُه ْم َوقُلُوبُ ُه ْم ِإلَى ِذ ْك ِر هَّللا ِ } أي‪ :‬إلى وعد هللا‪ .‬وقوله‪{ :‬‬
‫وقال ال ُّ‬
‫َذلِ َك ُه َدى هَّللا ِ يَ ْه ِدي بِ ِه َمنْ يَشَا ُء ِمنْ ِعبَا ِد ِه } أي‪ :‬هذه صفة من هداه هللا‪ ،‬ومن كان‬
‫ضلِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ َها ٍد } [الرعد‪]33:‬‬ ‫على خالف ذلك فهو ممن أضله هللا‪َ { ،‬و َمنْ يُ ْ‬
‫‪.‬‬
‫ون‬ ‫ين ُذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْك ِ‬
‫سب ُ َ‬ ‫ب يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة َوقِي َل لِلظَّالِ ِم َ‬ ‫{ َأفَ َمنْ يَتَّقِي بِ َو ْج ِه ِه ُ‬
‫سو َء ا ْل َع َذا ِ‬
‫ون (‪ )25‬فََأ َذاقَ ُه ُم هَّللا ُ‬ ‫ش ُع ُر َ‬‫ث ال يَ ْ‬ ‫اب ِمنْ َح ْي ُ‬ ‫ين ِمنْ قَ ْبلِ ِه ْم فََأتَا ُه ُم ا ْل َع َذ ُ‬‫ب الَّ ِذ َ‬‫(‪َ )24‬ك َّذ َ‬
‫ون (‪. } )26‬‬ ‫اب اآل ِخ َر ِة َأ ْكبَ ُر لَ ْو َكانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬ ‫ي فِي ا ْل َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َولَ َع َذ ُ‬ ‫ا ْل ِخ ْز َ‬
‫ع فيقال له‬ ‫ب يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة } ‪ ،‬ويُ ْق َر ُ‬‫سو َء ا ْل َع َذا ِ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬أفَ َمنْ يَتَّقِي بِ َو ْج ِه ِه ُ‬
‫ون } ‪ ،‬كمن يأتي آمنا يوم القيامة؟!‬ ‫سب ُ َ‬‫وألمثاله من الظالمين‪ُ { :‬ذوقُوا َما ُك ْنتُ ْم تَ ْك ِ‬
‫ص َرا ٍط‬ ‫س ِويًّا َعلَى ِ‬ ‫شي َ‬ ‫شي ُم ِكبًّا َعلَى َو ْج ِه ِه َأ ْه َدى َأ َّمنْ يَ ْم ِ‬ ‫كما قال تعالى‪َ { :‬أفَ َمنْ يَ ْم ِ‬
‫س‬‫ون فِي النَّا ِر َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْم ُذوقُوا َم َّ‬ ‫س َحبُ َ‬ ‫يم } [الملك‪ ،]22:‬وقال‪ { :‬يَ ْو َم يُ ْ‬ ‫ستَقِ ٍ‬
‫ُم ْ‬
‫سقَ َر } [القمر‪ ،]48:‬وقال [تعالى] (‪َ { )1‬أفَ َمنْ يُ ْلقَى فِي النَّا ِر َخ ْي ٌر َأ ْم َمنْ يَْأتِي آ ِمنًا‬ ‫َ‬
‫يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة } [فصلت‪ ،]40:‬واكتفى في هذه اآلية بأحد القسمين عن اآلخر‪ ،‬كقول‬
‫الشاعر (‪. )2‬‬
‫الخير‪ :‬أيّهما يَليني? ‪...‬‬
‫َ‬ ‫ضا ‪ ...‬أري ُد‬ ‫فَ َما أدْري إ َذا يَ َّم ْمتُ ْ‬
‫أر ً‬
‫يعني‪ :‬الخير أو الشر ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ون } يعني‪ :‬القرون‬
‫ش ُع ُر َ‬ ‫ين ِمنْ قَ ْبلِ ِه ْم فََأتَا ُه ُم ا ْل َع َذ ُ‬
‫اب ِمنْ َح ْي ُ‬
‫ث ال يَ ْ‬ ‫ب الَّ ِذ َ‬ ‫وقوله‪َ { :‬ك َّذ َ‬
‫الماضية المكذبة للرسل‪ ،‬أهلكهم هللا بذنوبهم‪ ،‬وما كان لهم من هللا من واق‪.‬‬
‫ي فِي ا ْل َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا } أي‪ :‬بما أنزل بهم من العذاب والنكال‬ ‫وقوله‪ { :‬فََأ َذاقَ ُه ُم هَّللا ُ ا ْل ِخ ْز َ‬
‫وتشفي (‪ )3‬المؤمنين بهم‪ ،‬فليحذر المخاطبون من ذلك‪ ،‬فإنهم قد كذبوا أشرف‬
‫الرسل‪ ،‬وخاتم األنبياء‪ ،‬والذي أعده هللا لهم في اآلخرة من العذاب الشديد أعظ ُم مما‬
‫اآلخ َر ِة َأ ْكبَ ُر لَ ْو َكانُوا يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون } ‪.‬‬ ‫اب ِ‬ ‫أصابهم في الدنيا؛ ولهذا قال‪َ { :‬ولَ َع َذ ُ‬

‫ون (‪ )27‬قُ ْرَآنًا َع َربِيًّا َغ ْي َر‬ ‫س فِي َه َذا ا ْلقُ ْرَآ ِن ِمنْ ُك ِّل َمثَ ٍل لَ َعلَّ ُه ْم يَتَ َذ َّك ُر َ‬ ‫ض َر ْبنَا لِلنَّا ِ‬‫َولَقَ ْد َ‬
‫ون َو َر ُجاًل‬
‫س َ‬ ‫ب هَّللا ُ َمثَاًل َر ُجاًل فِي ِه ُ‬
‫ش َر َكا ُء ُمتَشَا ِك ُ‬ ‫ض َر َ‬ ‫ون (‪َ )28‬‬ ‫ج لَ َعلَّ ُه ْم يَتَّقُ َ‬
‫ِذي ِع َو ٍ‬
‫ون (‪ِ )29‬إنَّ َك َميِّتٌ َوِإنَّ ُه ْم‬ ‫ان َمثَاًل ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ بَ ْل َأ ْكثَ ُر ُه ْم اَل يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ستَ ِويَ ِ‬ ‫سلَ ًما لِ َر ُج ٍل َه ْل يَ ْ‬
‫َ‬
‫ون (‪)31‬‬ ‫ص ُم َ‬ ‫ون (‪ )30‬ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة ِع ْن َد َربِّ ُك ْم ت َْختَ ِ‬ ‫َميِّتُ َ‬

‫ون (‪ )27‬قُ ْرآنًا َع َربِيًّا‬ ‫آن ِمنْ ُك ِّل َمثَ ٍل لَ َعلَّ ُه ْم يَتَ َذ َّك ُر َ‬ ‫س فِي َه َذا ا ْلقُ ْر ِ‬ ‫{ َولَقَ ْد َ‬
‫ض َر ْبنَا لِلنَّا ِ‬
‫ون‬
‫س َ‬‫ب هَّللا ُ َمثَال َر ُجال فِي ِه ش َُر َكا ُء ُمتَشَا ِك ُ‬ ‫ض َر َ‬‫ون (‪َ )28‬‬ ‫َغ ْي َر ِذي ِع َو ٍ‬
‫ج لَ َعلَّ ُه ْم يَتَّقُ َ‬
‫ون (‪ِ )29‬إنَّ َك َميِّتٌ‬ ‫ان َمثَال ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ بَ ْل َأ ْكثَ ُر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ستَ ِويَ ِ‬ ‫سلَ ًما لِ َر ُج ٍل َه ْل يَ ْ‬ ‫َو َر ُجال َ‬
‫ون (‪. } )31‬‬ ‫َص ُم َ‬ ‫ون (‪ )30‬ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة ِع ْن َد َربِّ ُك ْم ت َْخت ِ‬ ‫َوِإنَّ ُه ْم َميِّتُ َ‬
‫آن ِمنْ ُك ِّل َمثَ ٍل } أي‪ :‬بينا للناس فيه‬‫س فِي َه َذا ا ْلقُ ْر ِ‬ ‫ض َر ْبنَا لِلنَّا ِ‬ ‫يقول تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد َ‬
‫ون } ‪ ،‬فإن المثل يُقَ ّرب المعنى إلى األذهان‪ ،‬كما قال‬ ‫بضرب األمثال‪ { ،‬لَ َعلَّ ُه ْم يَتَ َذ َّك ُر َ‬
‫س ُك ْم } [الروم‪ ]28:‬أي‪ :‬تعلمونه من أنفسكم‪ ،‬وقال‪:‬‬ ‫ب لَ ُك ْم َمثَال ِمنْ َأ ْنفُ ِ‬ ‫ض َر َ‬‫تعالى‪َ { :‬‬
‫ون } [العنكبوت‪. ]43:‬‬ ‫س َو َما يَ ْعقِلُ َها ِإال ا ْل َعالِ ُم َ‬ ‫ض ِربُ َها لِلنَّا ِ‬ ‫{ َوتِ ْلكَ األ ْمثَا ُل نَ ْ‬
‫وقوله‪ { :‬قُ ْر َءانًا َع َربِيًّا َغ ْي َر ِذي ِع َو ٍ‬
‫ج } أي‪ :‬هو قرآن بلسان عربي مبين‪ ،‬ال‬
‫اعوجاج فيه وال انحراف وال لبس‪ ،‬بل هو بيان ووضوح وبرهان‪ ،‬وإنما جعله هللا‬
‫[عز وجل] (‪ )1‬كذلك‪ ،‬وأنزله بذلك { لَ َعلَّ ُه ْم يَتَّقُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬يحذرون ما فيه من‬
‫الوعيد‪ ،‬ويعملون بما (‪ )2‬فيه من الوعد (‪. )3‬‬

‫‪19‬‬
‫ون } أي‪ :‬يتنازعون في ذلك العبد‬ ‫س َ‬ ‫ب هَّللا ُ َمثَال َر ُجال فِي ِه ش َُر َكا ُء ُمتَشَا ِك ُ‬
‫ض َر َ‬
‫ثم قال‪َ { :‬‬
‫سلَ ًما لِ َر ُج ٍل } أي‪ :‬خالصا لرجل‪ ،‬ال يملكه أحد غيره‪َ { ،‬ه ْل‬ ‫المشترك بينهم‪َ { ،‬و َر ُجال َ‬
‫ان َمثَال } أي‪ :‬ال يستوي هذا وهذا‪ .‬كذلك ال يستوي المشرك الذي يعبد آلهة‬ ‫ستَ ِويَ ِ‬
‫يَ ْ‬
‫مع هللا‪ ،‬والمؤمن المخلص الذي ال يعبد إال هللا وحده ال شريك له‪ .‬فأين هذا من هذا؟‬
‫قال ابن عباس‪ ،‬ومجاهد‪ ،‬وغير واحد‪ :‬هذه اآلية ضربت مثال للمشرك والمخلص‪،‬‬
‫ولما كان هذا المث ُل ظاهرا بَيِّنا جليا‪ ،‬قال‪ { :‬ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ } أي‪ :‬على إقامة الحجة‬
‫ون } أي‪ :‬فلهذا يشركون باهلل‪.‬‬ ‫عليهم‪ { ،‬بَ ْل َأ ْكثَ ُر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون } هذه اآلية من اآليات التي استشهد بها الصديق‬ ‫وقوله‪ِ { :‬إنَّكَ َميِّتٌ َوِإنَّ ُه ْم َميِّتُ َ‬
‫[رضي هللا عنه] (‪ )4‬عند موت الرسول (‪ )5‬صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬حتى تحقق الناس‬
‫س ُل َأفَِإنْ َماتَ َأ ْو قُتِ َل‬
‫الر ُ‬ ‫سو ٌل قَ ْد َخلَتْ ِمنْ قَ ْبلِ ِه ُّ‬ ‫موته‪ ،‬مع قوله‪َ { :‬و َما ُم َح َّم ٌد ِإال َر ُ‬
‫سيَ ْج ِزي هَّللا ُ‬ ‫ا ْنقَلَ ْبتُ ْم َعلَى َأ ْعقَابِ ُك ْم َو َمنْ يَ ْنقَلِ ْب َعلَى َعقِبَ ْي ِه فَلَنْ يَ ُ‬
‫ض َّر هَّللا َ َ‬
‫ش ْيًئا َو َ‬
‫ين } [آل عمران ‪. ]144:‬‬
‫الشَّا ِك ِر َ‬
‫ومعنى هذه اآلية‪ :‬ستنقلون‪ x‬من هذه الدار ال محالة وستجتمعون عند هللا في الدار‬
‫اآلخرة‪ ،‬وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي هللا عز‬
‫وجل‪ ،‬فيفصل بينكم‪ ،‬ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم‪ ،‬فينجي المؤمنين المخلصين‬
‫الموحدين‪ ،‬ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين‪.‬‬
‫ثم إن هذه اآلية ‪-‬وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين‪ ،‬و ِذ ْكر الخصومة بينهم‬
‫في الدار اآلخرة‪-‬فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا‪ ،‬فإنه تعاد عليهم الخصومة‬
‫في الدار اآلخرة ‪.‬‬
‫قال (‪ )6‬ابن أبي حاتم‪ ،‬رحمه هللا‪ :‬حدثنا محمد بن عبد هللا بن يزيد المقرئ‪ ،‬حدثنا‬
‫سفيان‪ ،‬عن محمد بن عمرو‪ ،‬عن ابن حاطب ‪-‬يعني يحيى بن عبد الرحمن‪-‬عن ابن‬
‫ون } قال‬
‫َص ُم َ‬‫الزبير‪ ،‬عن الزبير قال‪ :‬لما نزلت‪ { :‬ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة ِع ْن َد َربِّ ُك ْم ت َْخت ِ‬
‫الزبير‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أتكرر علينا الخصومة؟ قال‪" :‬نعم"‪ .‬قال‪ :‬إن األمر إ ًذا لشديد‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫سَألُنَّ يَ ْو َمِئ ٍذ َع ِن‬
‫وكذا رواه اإلمام أحمد عن سفيان‪ ،‬وعنده زيادة‪ :‬ولما نزلت‪ { :‬ثُ َّم لَتُ ْ‬
‫يم } [التكاثر‪ ]8:‬قال الزبير‪ :‬أي رسول هللا‪ ،‬أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما‪-‬يعني‪:‬‬ ‫النَّ ِع ِ‬
‫هما (‪ )1‬األسودان‪ :‬التمر والماء‪-‬قال‪" :‬أما إن ذلك سيكون" وقد روى هذه الزيادة‬
‫الترمذي وابن ماجه‪ ،‬من حديث سفيان‬

‫وقال الترمذي‪ :‬حسن‪ .‬وقال اإلمام أحمد أيضا‪ :‬حدثنا ابن نمير حدثنا محمد ‪-‬يعني‬
‫ابن عمرو‪-‬عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب‪ ،‬عن عبد هللا بن الزبير‪ ،‬عن الزبير‬
‫بن العوام (‪ )3‬قال‪ :‬لما نزلت هذه السورة على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪{ :‬‬
‫ون } قال الزبير‪ :‬أي‬ ‫ون ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة ِع ْن َد َربِّ ُك ْم ت َْخت ِ‬
‫َص ُم َ‬ ‫ِإنَّ َك َميِّتٌ َوِإنَّ ُه ْم َميِّتُ َ‬
‫رسول هللا‪ ،‬أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال‪" :‬نعم ليكررن‬
‫عليكم‪ ،‬حتى يُؤدَّى إلى كل ذي حق حقه"‪ .‬قال الزبير‪ :‬وهللا إن األمر لشديد‪.‬‬
‫ورواه الترمذي من حديث محمد بن عمرو به (‪ )4‬وقال‪ :‬حسن صحيح‪.‬‬
‫وقال (‪ )5‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا قتيبة بن سعيد‪ ،‬حدثنا ابن لَ ِهيعة‪ ،‬عن أبي ُعشَّانة‪ ،‬عن‬
‫عقبة بن عامر قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أول الخصمين يوم القيامة‬
‫جاران"‪ .‬تفرد به أحمد (‪. )6‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا حسن بن موسى‪ ،‬حدثنا ابن لهيعة‪ ،‬حدثنا دراج عن أبي‬
‫الهيثم (‪ ، )7‬عن أبي سعيد قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬والذي نفسي‬
‫بيده‪ ،‬إنه ليختصم (‪ ، )8‬حتى الشاتان فيما انتطحتا" تفرد به أحمد (‪. )9‬‬
‫وفي المسند عن أبي ذر‪ ،‬رضي هللا عنه [أنه] (‪ )10‬قال‪ :‬رأى رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم شاتين ينتطحان‪ x،‬فقال‪" :‬أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر؟" قلت‪ :‬ال‪ .‬قال‪:‬‬
‫"لكن هللا يدري وسيحكم بينهما" (‪. )11‬‬
‫وقال الحافظ أبو بكر البزار‪ :‬حدثنا سهل بن بحر‪ ،‬حدثنا حيان بن أغلب‪ ،‬حدثنا أبي‪،‬‬
‫حدثنا ثابت عن أنس (‪[ )12‬رضي هللا عنه] (‪ ، )13‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬

‫‪21‬‬
‫عليه وسلم‪" :‬يجاء باإلمام الخائن (‪ )14‬يوم القيامة‪ ،‬فتخاصمه الرعية فيفلجون‬
‫عليه‪ ،‬فيقال له‪ :‬سد ركنا من أركان جهنم"‪ .‬ثم قال‪ :‬األغلب بن تميم ليس بالحافظ‬

‫وقال علي بن أبي طلحة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬رضي هللا عنهما (‪ { )1‬ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم‬
‫ون } يقول‪ :‬يخاصم الصادق الكاذب‪ ،‬والمظلوم الظالم‪،‬‬ ‫ا ْلقِيَا َم ِة ِع ْن َد َربِّ ُك ْم ت َْخت ِ‬
‫َص ُم َ‬
‫والمهدي الضال‪ ،‬والضعيف المستكبر‪. )2( .‬‬

‫وقد روى ابن منده في كتاب "الروح"‪ ،‬عن ابن عباس أنه قال‪ :‬يختصم الناس يوم‬
‫القيامة‪ ،‬حتى تختصم الروح مع الجسد‪ ،‬فتقول الروح للجسد‪ :‬أنت فعلت‪ .‬ويقول‬
‫الجسد للروح‪ :‬أنت أمرت‪ ،‬وأنت سولت‪ .‬فيبعث هللا ملكا يفصل بينهما‪ ،‬فيقول [لهما]‬
‫(‪ )3‬إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير واآلخر ضرير‪ ،‬دخال بستانا‪ ،‬فقال المقعد‬
‫للضرير‪ :‬إني أرى هاهنا ثمارا‪ ،‬ولكن ال أصل إليها‪ .‬فقال له الضرير‪ :‬اركبني‬
‫فتناولها‪ x،‬فركبه فتناولها‪ x،‬فأيهما المعتدي؟ فيقوالن‪ :‬كالهما‪ .‬فيقول لهما الملك‪.‬‬
‫فإنكما قد حكمتما على أنفسكما‪ .‬يعني‪ :‬أن الجسد للروح كالمطية‪ ،‬وهو راكبه‪.‬‬

‫سجة‪ ،‬حدثنا ضرار‪ ،‬حدثنا أبو سلمة‬


‫وقال ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا جعفر بن أحمد بن َع ْو َ‬
‫الخزاعي منصور بن سلمة‪ ،‬حدثنا القمي ‪-‬يعني يعقوب بن عبد هللا‪-‬عن جعفر بن‬
‫المغيرة‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عمر (‪[ )4‬رضي هللا عنهما] (‪ )5‬قال‪ :‬نزلت‬
‫هذه اآلية‪ ،‬وما نعلم في أي شيء نزلت‪ { :‬ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة ِع ْن َد َربِّ ُك ْم‬
‫ون } [قال] (‪ )6‬قلنا‪ :‬من نخاصم؟ ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة‪ ،‬فمن‬ ‫ت َْخت ِ‬
‫َص ُم َ‬
‫نخاصم؟ حتى وقعت الفتنة فقال ابن عمر‪ :‬هذا الذي وعدنا ربنا ‪-‬عز وجل‪-‬نختصم‬
‫فيه‪.‬‬

‫ورواه النسائي عن محمد بن عامر‪ ،‬عن منصور بن سلمة‪ ،‬به (‪. )7‬‬

‫‪22‬‬
‫ون } قال‪:‬‬ ‫وقال أبو العالية [في قوله] (‪ { )8‬ثُ َّم ِإنَّ ُك ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة ِع ْن َد َربِّ ُك ْم ت َْخت ِ‬
‫َص ُم َ‬
‫يعني أهل القبلة‪.‬‬

‫وقال ابن زيد‪ :‬يعني أهل اإلسالم وأهل الكفر‪.‬‬

‫وقد قدمنا أن الصحيح العموم‪ ،‬وهللا أعلم‬


‫س فِي َج َهنَّ َم َم ْث ًوى لِ ْل َكافِ ِر َ‬
‫ين‬ ‫ْق ِإ ْذ َجا َءهُ َألَ ْي َ‬ ‫الصد ِ‬
‫ب بِ ِّ‬ ‫ب َعلَى هَّللا ِ َو َك َّذ َ‬ ‫فَ َمنْ َأ ْظلَ ُم ِم َّمنْ َك َذ َ‬
‫ون (‪ )33‬لَ ُه ْم َما يَشَا ُء َ‬
‫ون ِع ْن َد‬ ‫ق بِ ِه ُأولَِئكَ ُه ُم ا ْل ُمتَّقُ َ‬ ‫ص َّد َ‬ ‫ْق َو َ‬ ‫صد ِ‬ ‫(‪َ )32‬والَّ ِذي َجا َء بِال ِّ‬
‫س َوَأ الَّ ِذي َع ِملُوا َويَ ْج ِزيَ ُه ْم َأ ْج َر ُه ْم‬
‫ين (‪ )34‬لِيُ َكفِّ َر هَّللا ُ َع ْن ُه ْم َأ ْ‬ ‫َربِّ ِه ْم َذلِكَ َج َزا ُء ا ْل ُم ْح ِ‬
‫سن ِ َ‬
‫ون (‪)35‬‬ ‫س ِن الَّ ِذي َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫بَِأ ْح َ‬

‫س فِي َج َهنَّ َم َم ْث ًوى‬ ‫ْق ِإ ْذ َجا َءهُ َألَ ْي َ‬ ‫الصد ِ‬


‫ب بِ ِّ‬ ‫ب َعلَى هَّللا ِ َو َك َّذ َ‬ ‫{ فَ َمنْ َأ ْظلَ ُم ِم َّمنْ َك َذ َ‬
‫ون (‪ )33‬لَ ُه ْم َما‬ ‫ق بِ ِه ُأولَِئ َك ُه ُم ا ْل ُمتَّقُ َ‬ ‫ص َّد َ‬‫ْق َو َ‬ ‫صد ِ‬ ‫ين (‪َ )32‬والَّ ِذي َجا َء بِال ِّ‬ ‫لِ ْل َكافِ ِر َ‬
‫س َوَأ الَّ ِذي َع ِملُوا‬ ‫ين (‪ )34‬لِيُ َكفِّ َر هَّللا ُ َع ْن ُه ْم َأ ْ‬ ‫سن ِ َ‬‫ون ِع ْن َد َربِّ ِه ْم َذلِكَ َج َزا ُء ا ْل ُم ْح ِ‬ ‫يَشَا ُء َ‬
‫ون (‪. } )35‬‬ ‫س ِن الَّ ِذي َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬ ‫َويَ ْج ِزيَ ُه ْم َأ ْج َر ُه ْم بَِأ ْح َ‬
‫يقول تعالى مخاطبا للمشركين الذين افتروا على هللا‪ ،‬وجعلوا معه آلهة أخرى‪،‬‬
‫وادعوا أن المالئكة بنات هللا‪ ،‬وجعلوا هلل ولدا ‪-‬تعالى هللا عن قولهم علوا كبيرا‪-‬‬
‫ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل هللا‪ ،‬صلوات هللا [وسالمه] (‪)1‬‬
‫ْق ِإ ْذ َجا َءهُ }‬
‫صد ِ‬ ‫عليهم أجمعين‪ ،‬ولهذا قال‪ { :‬فَ َمنْ َأ ْظلَ ُم ِم َّمنْ َك َذ َ‬
‫ب َعلَى هَّللا ِ َو َك َّذ َ‬
‫ب بِال ِّ‬
‫أي‪ :‬ال أحد أظلم من هذا؛ ألنه جمع بين طرفي الباطل‪،‬‬

‫كذب على هللا‪ ،‬و َك َّذب رسول هللا‪ ،‬قالوا الباطل وردوا الحق؛ ولهذا قال متوعدا لهم‪:‬‬
‫ين } وهم الجاحدون المكذبون ‪.‬‬ ‫{ َألَ ْي َ‬
‫س فِي َج َهنَّ َم َم ْث ًوى لِ ْل َكافِ ِر َ‬
‫ق بِ ِه } قال مجاهد‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والربيع بن أنس‪،‬‬
‫ص َّد َ‬‫ْق َو َ‬ ‫ثم قال‪َ { :‬والَّ ِذي َجا َء بِ ِّ‬
‫الصد ِ‬
‫ْق } هو الرسول‪ .‬وقال السدي‪ :‬هو جبريل عليه‬ ‫وابن (‪ )1‬زيد‪ { :‬الَّ ِذي َجا َء بِ ِّ‬
‫الصد ِ‬

‫‪23‬‬
‫ق بِ ِه } يعني‪ :‬محمدا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫ص َّد َ‬
‫السالم‪َ { ،‬و َ‬
‫ْق } قال‪ :‬من جاء بال‬ ‫وقال علي بن أبي طلحة‪ ،‬عن ابن عباس‪َ { :‬والَّ ِذي َجا َء بِ ِّ‬
‫الصد ِ‬
‫ق بِ ِه } يعني‪ :‬رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ص َّد َ‬
‫إله إال هللا‪َ { ،‬و َ‬
‫وقرأ الربيع بن أنس‪" :‬الذين جاءوا (‪ )2‬بالصدق" يعني‪ :‬األنبياء‪" ،‬وصدقوا به"‬
‫يعني‪ :‬األتباع‪.‬‬
‫ق بِ ِه } قال‪ :‬أصحاب‬
‫ص َّد َ‬
‫ْق َو َ‬ ‫وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد‪َ { :‬والَّ ِذي َجا َء بِال ِّ‬
‫صد ِ‬
‫القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة‪ ،‬فيقولون‪ :x‬هذا ما أعطيتمونا‪ ،‬فعملنا فيه بما‬
‫أمرتمونا‪.‬‬
‫وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين‪ ،‬فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به‪،‬‬
‫والرسول صلى هللا عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه اآلية على هذا التفسير‪،‬‬
‫فإنه جاء بالصدق (‪ ، )3‬وصدق المرسلين‪ ،‬وآمن بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون‪،‬‬
‫كل آمن باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‪.‬‬
‫ْق } هو رسول هللا صلى هللا‬ ‫وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‪َ { :‬والَّ ِذي َجا َء بِ ِّ‬
‫الصد ِ‬
‫ق بِ ِه } المسلمون (‪. )4‬‬ ‫ص َّد َ‬
‫عليه وسلم { َو َ‬
‫ون } قال ابن عباس‪ :‬اتقوا الشرك ‪.‬‬ ‫{ ُأولَِئكَ ُه ُم ا ْل ُمتَّقُ َ‬
‫ون ِع ْن َد َربِّ ِه ْم } يعني‪ :‬في الجنة‪ ،‬مهما طلبوا وجدوا‪َ { ،‬ذلِكَ َج َزا ُء‬ ‫{ لَ ُه ْم َما يَشَا ُء َ‬
‫س ِن الَّ ِذي َكانُوا‬‫س َوَأ الَّ ِذي َع ِملُوا َويَ ْج ِزيَ ُه ْم َأ ْج َر ُه ْم بَِأ ْح َ‬
‫ين لِيُ َكفِّ َر هَّللا ُ َع ْن ُه ْم َأ ْ‬
‫سن ِ َ‬ ‫ا ْل ُم ْح ِ‬
‫س َن َما َع ِملُوا‬ ‫ين نَتَقَبَّ ُل َع ْن ُه ْم َأ ْح َ‬ ‫ون } كما قال في اآلية األخرى‪ُ { :‬أولَِئ َك الَّ ِذ َ‬ ‫يَ ْع َملُ َ‬
‫ْق الَّ ِذي َكانُوا يُو َعد َ‬
‫ُون }‬ ‫الصد ِ‬ ‫ب ا ْل َجنَّ ِة َو ْع َد ِّ‬
‫ص َحا ِ‬‫سيَِّئاتِ ِه ْم فِي َأ ْ‬ ‫َجاو ُز عَنْ َ‬ ‫َونَت َ‬
‫[األحقاف‪. ]16:‬‬

‫ضلِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ َها ٍد (‬


‫ين ِمنْ دُونِ ِه َو َمنْ يُ ْ‬ ‫اف َع ْب َدهُ َويُ َخ ِّوفُونَكَ بِالَّ ِذ َ‬
‫س هَّللا ُ بِ َك ٍ‬‫َألَ ْي َ‬
‫سَأ ْلتَ ُه ْم َمنْ‬ ‫ض ٍّل َألَ ْي َ‬
‫س هَّللا ُ بِ َع ِزي ٍز ِذي ا ْنتِقَ ٍام (‪َ )37‬ولَِئنْ َ‬ ‫‪َ )36‬و َمنْ يَ ْه ِد هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ ُم ِ‬

‫‪24‬‬
‫ُون هَّللا ِ ِإنْ َأ َرا َدنِ َي هَّللا ُ‬
‫ُون ِمنْ د ِ‬ ‫ض لَيَقُولُنَّ هَّللا ُ قُ ْل َأفَ َرَأ ْيتُ ْم َما تَ ْدع َ‬‫ت َواَأْل ْر َ‬ ‫س َما َوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫َخلَ َ‬
‫سبِ َي هَّللا ُ‬‫س َكاتُ َر ْح َمتِ ِه قُ ْل َح ْ‬ ‫ض ِّر ِه َأ ْو َأ َرا َدنِي بِ َر ْح َم ٍة َه ْل هُنَّ ُم ْم ِ‬ ‫اشفَاتُ ُ‬ ‫ض ٍّر َه ْل هُنَّ َك ِ‬ ‫بِ ُ‬
‫ف‬
‫س ْو َ‬‫ون (‪ )38‬قُ ْل يَا قَ ْو ِم ا ْع َملُوا َعلَى َم َكانَتِ ُك ْم ِإنِّي َعا ِم ٌل فَ َ‬ ‫َعلَ ْي ِه يَتَ َو َّك ُل ا ْل ُمت ََو ِّكلُ َ‬
‫اب ُمقِي ٌم (‪)40‬‬ ‫اب يُ ْخ ِزي ِه َويَ ِح ُّل َعلَ ْي ِه َع َذ ٌ‬ ‫ون (‪َ )39‬منْ يَْأتِي ِه َع َذ ٌ‬ ‫تَ ْعلَ ُم َ‬

‫ضلِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ َها ٍد (‬ ‫ين ِمنْ دُونِ ِه َو َمنْ يُ ْ‬ ‫اف َع ْب َدهُ َويُ َخ ِّوفُونَكَ بِالَّ ِذ َ‬
‫س هَّللا ُ بِ َك ٍ‬ ‫{ َألَ ْي َ‬
‫سَأ ْلتَ ُه ْم َمنْ‬ ‫س هَّللا ُ بِ َع ِزي ٍز ِذي ا ْنتِقَ ٍام (‪َ )37‬ولَِئنْ َ‬ ‫ض ٍّل َألَ ْي َ‬
‫‪َ )36‬و َمنْ يَ ْه ِد هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ ُم ِ‬
‫ُون ِمنْ دُو ِن هَّللا ِ ِإنْ َأ َرا َدنِ َي هَّللا ُ‬‫ض لَيَقُولُنَّ هَّللا ُ قُ ْل َأفَ َرَأ ْيتُ ْم َما تَ ْدع َ‬‫األر َ‬ ‫ت َو ْ‬ ‫س َم َوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫َخلَ َ‬
‫سبِ َي هَّللا ُ‬ ‫س َكاتُ َر ْح َمتِ ِه قُ ْل َح ْ‬ ‫ض ِّر ِه َأ ْو َأ َرا َدنِي بِ َر ْح َم ٍة َه ْل هُنَّ ُم ْم ِ‬ ‫اشفَاتُ ُ‬ ‫ض ٍّر َه ْل هُنَّ َك ِ‬ ‫بِ ُ‬
‫ف‬
‫س ْو َ‬ ‫ون (‪ )38‬قُ ْل يَا قَ ْو ِم ا ْع َملُوا َعلَى َم َكانَتِ ُك ْم ِإنِّي َعا ِم ٌل فَ َ‬ ‫َعلَ ْي ِه يَتَ َو َّك ُل ا ْل ُمت ََو ِّكلُ َ‬
‫اب ُمقِي ٌم (‪. } )40‬‬ ‫اب يُ ْخ ِزي ِه َويَ ِح ُّل َعلَ ْي ِه َع َذ ٌ‬ ‫ون (‪َ )39‬منْ يَْأتِي ِه َع َذ ٌ‬ ‫تَ ْعلَ ُم َ‬
‫يقول تعالى‪َ { :‬ألَ ْي َ‬
‫س هَّللا ُ بِ َك ٍ‬
‫اف َع ْب َدهُ } ‪-‬وقرأ بعضهم‪" :‬عباده"‪-‬يعني أنه تعالى يكفي‬
‫من عبده وتوكل عليه‪.‬‬
‫وقال (‪ )1‬ابن أبي حاتم هاهنا‪ :‬حدثنا أبو عبيد هللا (‪ )2‬ابن أخي ابن‪ ،‬وهب حدثنا‬
‫عمي‪ ،‬حدثنا أبو هانئ‪ ،‬عن أبي علي عمرو بن مالك الجنبي (‪ ، )3‬عن فضالة بن‬
‫عبيد األنصاري؛ أنه سمع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬أفلح من هدي إلى‬
‫اإلسالم‪ ،‬وكان عيشه كفافا‪ ،‬وقَنَ َع به"‪.‬‬
‫ورواه الترمذي والنسائي من حديث حيوة بن شريح‪ ،‬عن أبي هانئ الخوالني‪ ،‬به (‬
‫‪ . )4‬وقال الترمذي‪ :‬صحيح‪.‬‬
‫{ َويُ َخ ِّوفُونَكَ بِالَّ ِذ َ‬
‫ين ِمنْ دُونِ ِه } يعني‪ :‬المشركين يخوفون الرسول ويتوعدونه‬
‫بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها (‪ )5‬من دونه؛ جهال منهم وضالال؛ ولهذا قال‬
‫ض ٍّل َألَ ْي َ‬
‫س هَّللا ُ‬ ‫ضلِ ِل هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ َها ٍد َو َمنْ يَ ْه ِد هَّللا ُ فَ َما لَهُ ِمنْ ُم ِ‬
‫تعالى‪َ { :‬و َمنْ يُ ْ‬
‫بِ َع ِزي ٍز ِذي ا ْنتِقَ ٍام } أي‪ :‬منيع الجناب ال يضام‪ ،‬من استند إلى جنابه ولجأ إلى بابه‪،‬‬

‫‪25‬‬
‫فإنه العزيز الذي ال أعز منه‪ ،‬وال أشد انتقاما منه‪ ،‬ممن كفر به وأشرك وعاند‬
‫رسوله صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ض لَيَقُولُنَّ هَّللا ُ } يعني‪[ :‬أن] (‪)6‬‬ ‫األر َ‬ ‫ت َو ْ‬
‫س َم َوا ِ‬ ‫سَأ ْلتَ ُه ْم َمنْ َخلَ َ‬
‫ق ال َّ‬ ‫وقوله‪َ { :‬ولَِئنْ َ‬
‫المشركين كانوا يعترفون بأن هللا هو الخالق لألشياء كلها‪ ،‬ومع هذا يعبدون معه‬
‫غيره‪ ،‬مما (‪ )7‬ال يملك لهم ضرا وال نفعا؛ ولهذا قال‪ { :‬قُ ْل َأفَ َرَأ ْيتُ ْم َما تَ ْدع َ‬
‫ُون ِمنْ‬
‫ض ِّر ِه َأ ْو َأ َرا َدنِي بِ َر ْح َم ٍة َه ْل هُنَّ‬
‫اشفَاتُ ُ‬ ‫دُو ِن هَّللا ِ ِإنْ َأ َرا َدنِ َي هَّللا ُ بِ ُ‬
‫ض ٍّر َه ْل هُنَّ َك ِ‬
‫س َكاتُ َر ْح َمتِ ِه } أي‪ :‬ال تستطيع شيئا من األمر (‪. )8‬‬
‫ُم ْم ِ‬
‫وذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديث قيس بن الحجاج‪ ،‬عن حنش الصنعاني‪ ،‬عن (‪)9‬‬
‫ابن عباس مرفوعا‪" :‬احفظ هللا يحفظك‪ x،‬احفظ هللا تجده تجاهك‪ ،‬تعرف إلى هللا في‬
‫الرخاء يعرفك في الشدة‪ ،‬إذا سألت فاسأل هللا‪ ،‬وإذا استعنت فاستعن باهلل‪ ،‬واعلم أن‬
‫األمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه هللا عليك لم يضروك‪ ،‬ولو‬
‫اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه هللا لك لم ينفعوك‪ x،‬جفت الصحف‪ ،‬ورفعت‬
‫األقالم‪ ،‬واعمل هلل بالشكر في اليقين‪ ،‬واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير‪ ،‬وأن‬
‫النصر مع الصبر‪ ،‬وأن الفرج مع الكرب‪ ،‬وأن مع العسر يسرا" (‪. )10‬‬
‫{ قُ ْل َح ْ‬
‫سبِ َي هَّللا ُ } أي‪ :‬هللا كاف ّي‪ ،‬عليه توكلت وعليه يتوكل المتوكلون‪ ،‬كما قال‬
‫سو ٍء قَا َل‬ ‫ض آلِ َهتِنَا بِ ُ‬ ‫هود‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬حين قال له قومه‪ِ { :‬إنْ نَقُو ُل ِإال ا ْعت ََرا َك بَ ْع ُ‬
‫ون ِمنْ دُونِ ِه فَ ِكيدُونِي َج ِمي ًعا ثُ َّم ال‬ ‫ش َهدُوا َأنِّي بَ ِري ٌء ِم َّما تُ ْ‬
‫ش ِر ُك َ‬ ‫ش ِه ُد هَّللا َ َوا ْ‬‫ِإنِّي ُأ ْ‬
‫صيَتِ َها ِإنَّ َربِّي‬ ‫تُ ْن ِظ ُرونِي ِإنِّي ت ََو َّك ْلتُ َعلَى هَّللا ِ َربِّي َو َربِّ ُك ْم َما ِمنْ َدابَّ ٍة ِإال ه َُو آ ِخ ٌذ بِنَا ِ‬
‫يم } [هود‪. ]56-54:‬‬ ‫ستَقِ ٍ‬ ‫اط ُم ْ‬
‫ص َر ٍ‬ ‫َعلَى ِ‬

‫قال ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا أحمد بن عصام األنصاري‪ ،‬حدثنا عبد هللا بن بكر (‪)1‬‬
‫السهمي‪ ،‬حدثنا محمد بن حاتم‪ ،‬عن أبي المقدام ‪-‬مولى آل عثمان‪-‬عن محمد بن‬
‫كعب القرظي‪ ،‬حدثنا ابن عباس (‪[ )2‬رضي هللا عنهما] (‪- )3‬رفع الحديث إلى‬

‫‪26‬‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على‬
‫هللا‪ ،‬ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد هللا أوثق [منه] (‪ )4‬بما في‬
‫يديه‪ ،‬ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق هللا" (‪. )5‬‬
‫وقوله‪ { :‬قُ ْل يَا قَ ْو ِم ا ْع َملُوا َعلَى َم َكانَتِ ُك ْم } أي‪ :‬على طريقتكم‪ ،‬وهذا تهديد ووعيد‪. .‬‬
‫ون } أي‪ :‬ستعلمون غب‬ ‫ف تَ ْعلَ ُم َ‬ ‫{ ِإنِّي َعا ِم ٌل } أي‪ :‬على طريقتي ومنهجي‪ { ،‬فَ َ‬
‫س ْو َ‬
‫ذلك ووباله { َمنْ يَْأتِي ِه َع َذ ٌ‬
‫اب يُ ْخ ِزي ِه } أي‪ :‬في الدنيا‪َ { ،‬ويَ ِح ُّل َعلَ ْي ِه َع َذ ٌ‬
‫اب ُمقِي ٌم }‬
‫أي‪ :‬دائم مستمر‪ ،‬ال محيد له عنه‪ .‬وذلك يوم القيامة‪.‬‬

‫ض َّل فَِإنَّ َما يَ ِ‬


‫ض ُّل َعلَ ْي َها‬ ‫ق فَ َم ِن ا ْهتَ َدى فَلِنَ ْف ِ‬
‫س ِه َو َمنْ َ‬ ‫س بِا ْل َح ِّ‬
‫َاب لِلنَّا ِ‬‫ِإنَّا َأ ْن َز ْلنَا َعلَ ْيكَ ا ْل ِكت َ‬
‫ين َم ْوتِ َها َوالَّتِي لَ ْم تَ ُمتْ فِي َمنَا ِم َها‬ ‫س ِح َ‬‫َو َما َأ ْنتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ َو ِكي ٍل (‪ )41‬هَّللا ُ يَت ََوفَّى اَأْل ْنفُ َ‬
‫س ّمًى ِإنَّ فِي َذلِ َك َآَليَا ٍ‬
‫ت‬ ‫س ُل اُأْل ْخ َرى ِإلَى َأ َج ٍل ُم َ‬ ‫ضى َعلَ ْي َها ا ْل َم ْوتَ َويُ ْر ِ‬ ‫س ُك الَّتِي قَ َ‬ ‫فَيُ ْم ِ‬
‫ون (‪)42‬‬ ‫لِقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُر َ‬

‫ض َّل فَِإنَّ َما يَ ِ‬


‫ض ُّل‬ ‫س ِه َو َمنْ َ‬ ‫ق فَ َم ِن ا ْهتَ َدى فَلِنَ ْف ِ‬
‫س بِا ْل َح ِّ‬‫َاب لِلنَّا ِ‬ ‫{ ِإنَّا َأنز ْلنَا َعلَ ْيكَ ا ْل ِكت َ‬
‫ين َم ْوتِ َها َوالَّتِي لَ ْم تَ ُمتْ فِي‬ ‫س ِح َ‬ ‫يل (‪ )41‬هَّللا ُ يَت ََوفَّى األ ْنفُ َ‬ ‫َعلَ ْي َها َو َما َأ ْنتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ َو ِك ٍ‬
‫س ّمًى ِإنَّ فِي َذلِ َك‬ ‫األخ َرى ِإلَى َأ َج ٍل ُم َ‬ ‫س ُل ْ‬ ‫ضى َعلَ ْي َها ا ْل َم ْوتَ َويُ ْر ِ‬ ‫س ُك الَّتِي قَ َ‬ ‫َمنَا ِم َها فَيُ ْم ِ‬
‫ون (‪. } )42‬‬ ‫ت لِقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُر َ‬
‫آليَا ٍ‬
‫َاب }‬ ‫يقول تعالى مخاطبا رسوله محمدا صلى هللا عليه وسلم‪ِ { :‬إنَّا َأنز ْلنَا َعلَ ْي َك ا ْل ِكت َ‬
‫ق } أي‪ :‬لجميع الخلق من اإلنس والجن لتنذرهم به‪{ ،‬‬ ‫س بِا ْل َح ِّ‬
‫يعني‪ :‬القرآن { لِلنَّا ِ‬
‫ض َّل فَِإنَّ َما يَ ِ‬
‫ض ُّل‬ ‫س ِه } أي‪ :‬فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه‪َ { ،‬و َمنْ َ‬ ‫فَ َم ِن ا ْهتَ َدى فَلِنَ ْف ِ‬
‫َعلَ ْي َها } أي‪ :‬إنما يرجع وبال ذلك على نفسه‪َ { ،‬و َما َأ ْنتَ َعلَ ْي ِه ْم بِ َو ِكي ٍل } أي‪ :‬بموكل‬
‫أن يهتدوا‪ِ { ،‬إنَّ َما َأ ْنتَ نَ ِذي ٌر َوهَّللا ُ َعلَى ُك ِّل ش ْ‬
‫َي ٍء َو ِكي ٌل } [هود‪ { ، ]12:‬فَِإنَّ َما َعلَ ْيكَ‬
‫اب } [الرعد‪. ]40:‬‬ ‫س ُ‬ ‫ا ْلبَال ُ‬
‫غ َو َعلَ ْينَا ا ْل ِح َ‬
‫ثم قال تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء‪ ،‬وأنه‬

‫‪27‬‬
‫يتوفى األنفس الوفاة الكبرى‪ ،‬بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من األبدان‪،‬‬
‫والوفاة الصغرى عند المنام‪ ،‬كما قال تعالى‪َ { :‬و ُه َو الَّ ِذي يَت ََوفَّا ُك ْم بِاللَّ ْي ِل َويَ ْعلَ ُم َما‬
‫ضى َأ َج ٌل ُم َ‬
‫س ّمًى ثُ َّم ِإلَ ْي ِه َم ْر ِج ُع ُك ْم ثُ َّم يُنَبُِّئ ُك ْم بِ َما ُك ْنتُ ْم‬ ‫َج َر ْحتُ ْم بِالنَّ َها ِر ثُ َّم يَ ْب َعثُ ُك ْم فِي ِه لِيُ ْق َ‬
‫س ُل َعلَ ْي ُك ْم َحفَظَةً َحتَّى ِإ َذا َجا َء َأ َح َد ُك ُم ا ْل َم ْوتُ‬ ‫ون َوه َُو ا ْلقَا ِه ُر فَ ْو َ‬
‫ق ِعبَا ِد ِه َويُ ْر ِ‬ ‫تَ ْع َملُ َ‬
‫ون } [األنعام‪ ،]60 ،61:‬فذكر الوفاتين‪ :‬الصغرى ثم‬ ‫سلُنَا َو ُه ْم ال يُفَ ِّرطُ َ‬‫تَ َوفَّ ْتهُ ُر ُ‬
‫الكبرى‪ .‬وفي هذه اآلية ذكر الكبرى ثم الصغرى؛ ولهذا قال‪ { :‬هَّللا ُ يَتَ َوفَّى األ ْنفُ َ‬
‫س‬
‫س ُل‬‫ضى َعلَ ْي َها ا ْل َم ْوتَ َويُ ْر ِ‬ ‫س ُك الَّتِي قَ َ‬ ‫ين َم ْوتِ َها َوالَّتِي لَ ْم تَ ُمتْ فِي َمنَا ِم َها فَيُ ْم ِ‬ ‫ِح َ‬
‫س ّمًى } فيه داللة على أنها تجتمع في المأل األعلى‪ ،‬كما ورد بذلك‬ ‫األخ َرى ِإلَى َأ َج ٍل ُم َ‬ ‫ْ‬
‫الحديث المرفوع الذي رواه ابن منده وغيره‪ .‬وفي صحيحي البخاري ومسلم من‬
‫حديث عبيد هللا (‪ )1‬بن عمر‪ ،‬عن سعيد بن أبي سعيد‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي هريرة‪،‬‬
‫رضي هللا عنه‪،‬‬

‫ون (‪ )43‬قُ ْل هَّلِل ِ‬ ‫ش ْيًئا َواَل يَ ْعقِلُ َ‬


‫ون َ‬‫شفَ َعا َء قُ ْل َأ َولَ ْو َكانُوا اَل يَ ْملِ ُك َ‬ ‫َأ ِم اتَّ َخ ُذوا ِمنْ د ِ‬
‫ُون هَّللا ِ ُ‬
‫ون (‪َ )44‬وِإ َذا ُذ ِك َر هَّللا ُ َو ْح َدهُ‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬
‫ض ثُ َّم ِإلَ ْي ِه تُ ْر َج ُع َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫شفَا َعةُ َج ِمي ًعا لَهُ ُم ْل ُك ال َّ‬
‫س َم َ‬ ‫ال َّ‬
‫ون‬
‫ش ُر َ‬ ‫ين ِمنْ دُونِ ِه ِإ َذا ُه ْم يَ ْ‬
‫ستَ ْب ِ‬ ‫ون بِاَآْل ِخ َر ِة َوِإ َذا ُذ ِك َر الَّ ِذ َ‬
‫ين اَل يُْؤ ِمنُ َ‬ ‫ش َمَأ َّزتْ قُلُ ُ‬
‫وب الَّ ِذ َ‬ ‫ا ْ‬
‫(‪)45‬‬

‫قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إذا أوى أحدكم إلى فراشه ف ْلي ْنفُ ْ‬
‫ضه‬
‫بداخلة إزاره‪ ،‬فإنه ال يدري ما خلفه عليه‪ ،‬ثم ليقل‪ :‬باسمك ربي وضعت جنبي‪ ،‬وبك‬
‫أرفعه‪ ،‬إن أمسكت نفسي فارحمها‪ ،‬وإن أرسلتها فاحفظها‪ x‬بما تحفظ به عبادك‬
‫الصالحين" (‪. )1‬‬
‫وقال بعض السلف [رحمهم هللا] (‪ )2‬يقبض أرواح األموات إذا ماتوا‪ ،‬وأرواح‬
‫ضى َعلَ ْي َها‬ ‫األحياء إذا ناموا‪ ،‬فتتعارف ما شاء هللا تعالى أن تتعارف { فَيُ ْم ِ‬
‫س ُك الَّتِي قَ َ‬
‫ا ْل َم ْوتَ } التي قد ماتت ويرسل األخرى إلى أجل مسمى‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫قال السدي‪ :‬إلى بقية أجلها‪ .‬وقال ابن عباس‪ :‬يمسك أنفس األموات‪ ،‬ويرسل أنفس‬
‫األحياء‪ ،‬وال يغلط‪ِ { .‬إنَّ فِي َذلِكَ آليَا ٍ‬
‫ت لِقَ ْو ٍم يَتَفَ َّك ُر َ‬
‫ون }‬
‫ون (‪ )43‬قُ ْل‬
‫ش ْيًئا َوال يَ ْعقِلُ َ‬ ‫شفَ َعا َء قُ ْل َأ َولَ ْو َكانُوا ال يَ ْملِ ُك َ‬
‫ون َ‬ ‫{ َأ ِم اتَّ َخ ُذوا ِمنْ د ِ‬
‫ُون هَّللا ِ ُ‬
‫ون (‪َ )44‬وِإ َذا ُذ ِك َر هَّللا ُ‬ ‫ض ثُ َّم ِإلَ ْي ِه تُ ْر َج ُع َ‬
‫األر ِ‬
‫ت َو ْ‬ ‫شفَا َعةُ َج ِمي ًعا لَهُ ُم ْل ُك ال َّ‬
‫س َم َوا ِ‬ ‫هَّلِل ِ ال َّ‬
‫اآلخ َر ِة َوِإ َذا ُذ ِك َر الَّ ِذ َ‬
‫ين ِمنْ دُونِ ِه ِإ َذا ُه ْم‬ ‫ون بِ ِ‬ ‫وب الَّ ِذ َ‬
‫ين ال يُْؤ ِمنُ َ‬ ‫ش َمَأ َّزتْ قُلُ ُ‬‫َو ْح َدهُ ا ْ‬
‫ون (‪. } )45‬‬ ‫ستَ ْب ِ‬
‫ش ُر َ‬ ‫يَ ْ‬
‫يقول تعالى ذاما للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون هللا‪ ،‬وهم األصنام واألنداد‪،‬‬
‫التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بال دليل وال برهان حداهم على ذلك‪ ،‬وهي ال تملك‬
‫شيئا من األمر‪ ،‬بل وليس لها عقل تعقل به‪ ،‬وال سمع تسمع به‪ ،‬وال بصر تبصر به‪،‬‬
‫بل هي جمادات أسوأ حاال من الحيوان بكثير (‪. )3‬‬
‫ثم قال‪ :‬قل‪ :‬أي يا محمد لهؤالء الزاعمين أن ما اتخذوه (‪ )4‬شفعاء لهم عند هللا‪،‬‬
‫أخبرهم أن الشفاعة ال تنفع عند هللا إال لمن ارتضاه وأذن له‪ ،‬فمرجعها كلها إليه‪{ ،‬‬
‫شفَ ُع ِع ْن َدهُ ِإال بِِإ ْذنِ ِه } [البقرة‪. ]255:‬‬
‫َمنْ َذا الَّ ِذي يَ ْ‬
‫ض } أي‪ :‬هو المتصرف في جميع ذلك‪ { .‬ثُ َّم ِإلَ ْي ِه‬ ‫األر ِ‬
‫ت َو ْ‬ ‫{ لَهُ ُم ْل ُك ال َّ‬
‫س َم َوا ِ‬
‫ون } أي‪ :‬يوم القيامة‪ ،‬فيحكم بينكم بعدله‪ ،‬ويجزي كال بعمله‪.‬‬ ‫تُ ْر َج ُع َ‬
‫ثم قال تعالى ذاما للمشركين أيضا‪َ { :‬وِإ َذا ُذ ِك َر هَّللا ُ َو ْح َدهُ } أي‪ :‬إذا قيل‪ :‬ال إله إال هللا‬
‫ش َمَأ َّزتْ } انقبضت‪.‬‬ ‫اآلخ َر ِة } قال مجاهد‪ { :‬ا ْ‬ ‫ون بِ ِ‬ ‫ين ال يُْؤ ِمنُ َ‬ ‫ش َمَأ َّزتْ قُلُ ُ‬
‫وب الَّ ِذ َ‬ ‫{ا ْ‬
‫وقال السدي‪ :‬نفرت‪ .‬وقال قتادة‪ :‬كفرت واستكبرت‪ .‬وقال مالك‪ ،‬عن زيد بن أسلم‪:‬‬
‫استكبرت‪ .‬كما قال تعالى‪ِ { :‬إنَّ ُه ْم َكانُوا ِإ َذا قِي َل لَ ُه ْم ال ِإلَهَ ِإال هَّللا ُ يَ ْ‬
‫ستَ ْكبِ ُر َ‬
‫ون }‬
‫[الصافات‪ ،]35:‬أي‪ :‬عن المتابعة واالنقياد لها‪ .‬فقلوبهم (‪ )5‬ال تقبل الخير‪ ،‬ومن لم‬
‫يقبل الخير يقبل الشر؛ ولهذا قال‪َ { :‬وِإ َذا ُذ ِك َر الَّ ِذ َ‬
‫ين ِمنْ دُونِ ِه } أي‪ :‬من األصنام‬
‫ون } أي‪ :‬يفرحون ويسرون ‪.‬‬ ‫ش ُر َ‬ ‫واألنداد‪ ،‬قاله مجاهد‪ِ { ،‬إ َذا ُه ْم يَ ْ‬
‫ستَ ْب ِ‬

‫‪29‬‬
‫ش َها َد ِة َأ ْنتَ ت َْح ُك ُم بَ ْي َن ِعبَا ِد َك فِي َما‬ ‫ض َعالِ َم ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ب َوال َّ‬ ‫ت َواَأْل ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫قُ ِل اللَّ ُه َّم فَا ِط َر ال َّ‬
‫س َم َ‬
‫ض َج ِمي ًعا َو ِم ْثلَهُ َم َعهُ‬ ‫ين ظَلَ ُموا َما فِي اَأْل ْر ِ‬ ‫ون (‪َ )46‬ولَ ْو َأنَّ لِلَّ ِذ َ‬ ‫َكانُوا فِي ِه يَ ْختَلِفُ َ‬
‫ون (‬
‫سب ُ َ‬ ‫ب يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة َوبَ َدا لَ ُه ْم ِم َن هَّللا ِ َما لَ ْم يَ ُكونُوا يَ ْحتَ ِ‬ ‫سو ِء ا ْل َع َذا ِ‬ ‫اَل ْفتَ َد ْوا بِ ِه ِمنْ ُ‬
‫ق بِ ِه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْ‬
‫ستَ ْه ِز َ‬
‫ُئون (‪)48‬‬ ‫سبُوا َو َحا َ‬ ‫‪َ )47‬وبَ َدا لَ ُه ْم َ‬
‫سيَِّئاتُ َما َك َ‬

‫يقول تعالى بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر من المذمة‪ ،‬لهم في حبهم الشرك‪،‬‬
‫ش َها َد ِة }‬ ‫ض َعالِ َم ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ب َوال َّ‬ ‫األر ِ‬
‫ت َو ْ‬
‫س َم َوا ِ‬ ‫ونفرتهم عن التوحيد { قُ ِل اللَّ ُه َّم فَ ِ‬
‫اط َر ال َّ‬
‫أي‪ :‬ادع أنت هللا وحده ال شريك له‪ ،‬الذي خلق السموات واألرض وفطرها‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ش َها َد ِة } أي‪ :‬السر والعالنية‪َ { ،‬أ ْنتَ‬
‫ب َوال َّ‬‫جعلها على غير مثال سبق‪َ { ،‬عالِ ُم ا ْل َغ ْي ِ‬
‫ون } أي‪ :‬في دنياهم (‪ ، )1‬ستفصل بينهم يوم‬ ‫ت َْح ُك ُم بَ ْي َن ِعبَا ِدكَ فِي َما َكانُوا فِي ِه يَ ْختَلِفُ َ‬
‫معادهم ونشورهم‪ ،‬وقيامهم من قبورهم‪.‬‬
‫وقال (‪ )2‬مسلم في صحيحه‪ :‬حدثنا عبد بن حميد‪ ،‬حدثنا عمر بن يونس‪ ،‬حدثنا‬
‫عكرمة بن عمار‪ ،‬حدثنا يحيى بن أبي كثير‪ ،‬حدثني أبو سلمة (‪ )3‬بن عبد الرحمن‬
‫قال‪ :‬سألت عائشة [رضي هللا عنها] (‪ )4‬بأي شيء كان رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم يفتتح صالته إذا قام من الليل؟ قالت‪ :‬كان إذا قام من الليل افتتح صالته‪" :‬اللهم‬
‫رب جبريل وميكائيل وإسرافيل‪ ،‬فاطر السموات واألرض‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪،‬‬
‫أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون‪ x،‬اهدني لما اختلف فيه من الحق‬
‫بإذنك‪ ،‬إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (‪ )5‬وقال (‪ )6‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا‬
‫عفان‪ x،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬وأخبرنا سهيل بن أبي صالح وعبد هللا بن عثمان بن‬
‫ُخثَيم‪ ،‬عن عون بن عبد هللا بن عتبة بن مسعود‪ ،‬عن عبد هللا بن مسعود (‪ )7‬أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬من قال‪ :‬اللهم فاطر السموات واألرض‪ ،‬عالم‬
‫الغيب والشهادة‪ ،‬إني أعهد إليك في هذه الدنيا (‪ )8‬أني أشهد أن ال إله إال أنت وحدك‬
‫ال شريك لك‪ ،‬وأن محمدا عبدك ورسولك‪ ،‬فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر‬
‫وتباعدني من الخير‪ ،‬وإني ال أثق إال برحمتك‪ ،‬فاجعل لي عندك عهدا تُ َوفِّينيه يوم‬

‫‪30‬‬
‫القيامة‪ ،‬إنك ال تخلف الميعاد‪ ،‬إال قال هللا‪ ،‬عز وجل‪ ،‬لمالئكته يوم القيامة‪ :‬إن عبدي‬
‫قد عهد إلي عهدا فأوفوه إياه‪ ،‬فيدخله هللا الجنة"‪.‬‬
‫قال سهيل‪ :‬فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عونا أخبر بكذا وكذا؟ فقال‪ :‬ما في‬
‫أهلنا جارية إال وهي تقول هذا في خدرها‪ .‬انفرد به اإلمام أحمد (‪. )9‬‬
‫وقال (‪ )10‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا حسن‪ ،‬حدثنا ابن لَ ِهيعة‪ ،‬حدثني ُحي ّي (‪ )11‬بن عبد‬
‫هللا؛ أن‬

‫أبا عبد الرحمن حدثه قال‪ :‬أخرج لنا عبد هللا بن عمرو قرطاسا وقال‪ :‬كان رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم يعلمنا يقول‪" :‬اللهم فاطر السموات واألرض‪ ،‬عالم الغيب‬
‫والشهادة‪ ،‬أنت رب كل شيء‪ ،‬وإله كل شيء‪ ،‬أشهد أن ال إله إال أنت‪ ،‬وحدك ال‬
‫شريك لك‪ ،‬وأن محمدا عبدك ورسولك‪ x،‬والمالئكة يشهدون‪ ،‬أعوذ بك من الشيطان‬
‫وشركه‪ ،‬وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما‪ ،‬أو أجره إلى (‪ )1‬مسلم"‪.‬‬
‫قال أبو عبد الرحمن‪ :‬كان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يعلمه (‪ )2‬عبد هللا بن‬
‫عمرو أن يقول ذلك حين يريد أن ينام‪ .‬تفرد به أحمد أيضا (‪. )3‬‬
‫وقال (‪[ )4‬اإلمام] (‪ )5‬أحمد أيضا‪ :‬حدثنا خلف بن الوليد‪ ،‬حدثنا ابن عياش (‪، )6‬‬
‫الح ْب َراني قال‪ :‬أتيت عبد هللا بن عمرو‬
‫عن محمد بن زياد األلهاني‪ ،‬عن أبي راشد ُ‬
‫فقلت له‪ :‬حدثنا ما سمعت من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فألقى بين يَ َدي‬
‫صحيفة فقال‪ :‬هذا ما كتب لي رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فنظرت فيها فإذا فيها‬
‫أن أبا بكر الصديق (‪ )7‬قال‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت‪.‬‬
‫فقال له رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يا أبا بكر‪ ،‬قل اللهم فاطر السموات‬
‫واألرض‪ ،‬عالم الغيب والشهادة‪ ،‬ال إله إال أنت‪ ،‬رب كل شي ومليكه‪ ،‬أعوذ بك من‬
‫شر نفسي‪ ،‬وشر الشيطان وشركه‪ ،‬أو (‪ )8‬أقترف على نفسي سوءا‪ ،‬أو أجره إلى‬
‫مسلم"‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ورواه الترمذي‪ ،‬عن الحسن بن عرفة‪ ،‬عن إسماعيل بن عياش (‪ ، )9‬به (‪، )10‬‬
‫وقال‪ :‬حسن غريب من هذا الوجه‪.‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا هاشم‪ ،‬حدثنا شيبان‪ ،‬عن ليث‪ ،‬عن مجاهد قال‪ :‬قال أبو بكر‬
‫الصديق‪ :‬أمرني رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت‪،‬‬
‫وإذا أخذت مضجعي من الليل‪" :‬اللهم فاطر السموات واألرض" إلى آخره (‪. )11‬‬
‫ض َج ِمي ًعا َو ِم ْثلَهُ َم َعهُ‬ ‫ين ظَلَ ُموا } وهم المشركون‪َ { ،‬ما فِي ْ‬
‫األر ِ‬ ‫وقوله‪َ { :‬ولَ ْو َأنَّ لِلَّ ِذ َ‬
‫ب } أي‪:‬‬ ‫} أي‪ :‬ولو أن جميع ملك األرض وضعفه معه { ال ْفتَ َد ْوا بِ ِه ِمنْ ُ‬
‫سو ِء ا ْل َع َذا ِ‬
‫الذي أوجبه هللا لهم يوم القيامة‪ ،‬ومع هذا ال يُتقبل منهم الفداء ولو كان ملء األرض‬
‫ذهبا‪ ،‬كما قال في اآلية األخرى‪َ { :‬وبَ َدا لَ ُه ْم ِم َن هَّللا ِ َما لَ ْم يَ ُكونُوا يَ ْحت َِسبُ َ‬
‫ون } أي‪:‬‬
‫وظهر لهم من هللا من العذاب والنكال بهم ما لم يكن في بالهم وال في حسابهم‪.،‬‬
‫{ َوبَ َدا لَ ُه ْم َ‬
‫سيَِّئاتُ َما َك َ‬
‫سبُوا } أي‪ :‬وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من‬
‫ُئون } أي‪ :‬وأحاط بهم من العذاب‬ ‫ق بِ ِه ْم َما َكانُوا بِ ِه يَ ْ‬
‫ستَ ْه ِز َ‬ ‫المحارم والمآثم‪َ { ،‬و َحا َ‬
‫والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا ‪.‬‬

‫ض ٌّر َد َعانَا ثُ َّم ِإ َذا َخ َّو ْلنَاهُ نِ ْع َمةً ِمنَّا قَا َل ِإنَّ َما ُأوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم بَ ْل ِه َي‬
‫ان ُ‬ ‫س َ‬ ‫س اِإْل ْن َ‬ ‫فَِإ َذا َم َّ‬
‫ين ِمنْ قَ ْبلِ ِه ْم فَ َما َأ ْغنَى َع ْن ُه ْم َما َكانُوا‬ ‫ون (‪ )49‬قَ ْد قَالَ َها الَّ ِذ َ‬ ‫فِ ْتنَةٌ َولَ ِكنَّ َأ ْكثَ َر ُه ْم اَل يَ ْعلَ ُم َ‬
‫سيَِّئاتُ‬ ‫صيبُ ُه ْم َ‬
‫سيُ ِ‬‫ين ظَلَ ُموا ِمنْ َهُؤ اَل ِء َ‬ ‫سبُوا َوالَّ ِذ َ‬ ‫سيَِّئاتُ َما َك َ‬ ‫صابَ ُه ْم َ‬ ‫ون (‪ )50‬فََأ َ‬ ‫سب ُ َ‬ ‫يَ ْك ِ‬
‫ق لِ َمنْ يَشَا ُء َويَ ْق ِد ُر‬ ‫سطُ ِّ‬
‫الر ْز َ‬ ‫ين (‪َ )51‬أ َولَ ْم يَ ْعلَ ُموا َأنَّ هَّللا َ يَ ْب ُ‬ ‫سبُوا َو َما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫َما َك َ‬
‫ون (‪)52‬‬ ‫ت لِقَ ْو ٍم يُْؤ ِمنُ َ‬ ‫ِإنَّ فِي َذلِ َك َآَليَا ٍ‬

‫ض ٌّر َد َعانَا ثُ َّم ِإ َذا َخ َّو ْلنَاهُ نِ ْع َمةً ِمنَّا قَا َل ِإنَّ َما ُأوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم بَ ْل‬
‫ان ُ‬ ‫س َ‬ ‫س اإل ْن َ‬ ‫{ فَِإ َذا َم َّ‬
‫ين ِمنْ قَ ْبلِ ِه ْم فَ َما َأ ْغنَى َع ْن ُه ْم َما‬ ‫ون (‪ )49‬قَ ْد قَالَ َها الَّ ِذ َ‬ ‫ِه َي فِ ْتنَةٌ َولَ ِكنَّ َأ ْكثَ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫صيبُ ُه ْم‬ ‫سيُ ِ‬ ‫ين ظَلَ ُموا ِمنْ َهُؤال ِء َ‬ ‫سبُوا َوالَّ ِذ َ‬ ‫سيَِّئاتُ َما َك َ‬ ‫صابَ ُه ْم َ‬‫ون (‪ )50‬فََأ َ‬ ‫سب ُ َ‬ ‫َكانُوا يَ ْك ِ‬
‫ق لِ َمنْ يَشَا ُء‬ ‫سطُ ِّ‬
‫الر ْز َ‬ ‫ين (‪َ )51‬أ َولَ ْم يَ ْعلَ ُموا َأنَّ هَّللا َ يَ ْب ُ‬ ‫سبُوا َو َما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫سيَِّئاتُ َما َك َ‬ ‫َ‬

‫‪32‬‬
‫َويَ ْق ِد ُر ِإنَّ فِي َذلِكَ آليَا ٍ‬
‫ت لِقَ ْو ٍم يُْؤ ِمنُ َ‬
‫ون (‪. } )52‬‬
‫ض َرع إلى هللا‪ ،‬عز وجل‪،‬‬ ‫يقول تعالى مخبرا عن (‪ )1‬اإلنسان أنه في حال الضراء يَ ْ‬
‫وينيب إليه ويدعوه‪ ،‬وإذا (‪ )2‬خوله منه نعمة بغى وطغى‪ ،‬وقال‪ِ { :‬إنَّ َما ُأوتِيتُهُ َعلَى‬
‫ِع ْل ٍم } أي‪ :‬لما يعلم هللا من استحقاقي له‪ ،‬ولوال أني عند هللا تعالى خصيص لما‬
‫َخ َّولني هذا!‬
‫قال قتادة‪َ { :‬علَى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي } على خي ٍر عندي‪.‬‬
‫قال هللا عز وجل‪ { :‬بَ ْل ِه َي فِ ْتنَةٌ } أي‪ :‬ليس األمر كما زعموا‪ ،‬بل [إنما] (‪ )3‬أنعمنا‬
‫عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه‪ ،‬أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم‬
‫بذلك‪ ،‬فهي فتنة أي‪ :‬اختبار‪َ { ،‬ولَ ِكنَّ َأ ْكثَ َر ُه ْم ال يَ ْعلَ ُم َ‬
‫ون } فلهذا يقولون ما يقولون‪x،‬‬
‫ويدعون ما يدعون‪.‬‬
‫ين ِمنْ قَ ْبلِ ِه ْم } أي‪ :‬قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه‬ ‫{ قَ ْد قَالَ َها الَّ ِذ َ‬
‫ون } أي‪ :‬فما‬ ‫الدعوى‪ ،‬كثير ممن سلف من األمم { فَ َما َأ ْغنَى َع ْن ُه ْم َما َكانُوا يَ ْك ِ‬
‫سب ُ َ‬
‫صح قولهم وال منعهم جمعهم وما كانوا يكسبون‪.‬‬
‫ين ظَلَ ُموا ِمنْ َهُؤال ِء } أي‪ :‬من المخاطبين (‪{ )4‬‬ ‫سبُوا َوالَّ ِذ َ‬
‫سيَِّئاتُ َما َك َ‬ ‫صابَ ُه ْم َ‬ ‫{ فََأ َ‬
‫ين } كما قال‬ ‫سبُوا } أي‪ :‬كما أصاب أولئك‪َ { ،‬و َما ُه ْم بِ ُم ْع ِج ِز َ‬ ‫سيَِّئاتُ َما َك َ‬ ‫صيبُ ُه ْم َ‬ ‫سيُ ِ‬‫َ‬
‫تعالى مخبرا عن قارون أنه قال له قومه‪ { :‬ال تَ ْف َر ْح ِإنَّ هَّللا َ ال يُ ِح ُّب ا ْلفَ ِر ِح َ‬
‫ين َوا ْبت َِغ‬
‫سنْ َك َما َأ ْح َ‬
‫س َن هَّللا ُ ِإلَ ْيكَ َوال‬ ‫صيبَكَ ِم َن ال ُّد ْنيَا َوَأ ْح ِ‬
‫س نَ ِ‬‫فِي َما آتَاكَ هَّللا ُ الدَّا َر اآل ِخ َرةَ َوال تَ ْن َ‬
‫ين قَا َل ِإنَّ َما ُأوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم ِع ْن ِدي َأ َولَ ْم‬ ‫س ِد َ‬‫ض ِإنَّ هَّللا َ ال يُ ِح ُّب ا ْل ُم ْف ِ‬ ‫األر ِ‬
‫سا َد فِي ْ‬ ‫تَ ْب ِغ ا ْلفَ َ‬
‫سَأ ُل‬
‫ش ُّد ِم ْنهُ قُ َّوةً َوَأ ْكثَ ُر َج ْم ًعا َوال يُ ْ‬
‫ون َمنْ ه َُو َأ َ‬ ‫يَ ْعلَ ْم َأنَّ هَّللا َ قَ ْد َأ ْهلَكَ ِمنْ قَ ْبلِ ِه ِم َن ا ْلقُ ُر ِ‬
‫ون } [القصص‪ ،]78-76:‬وقال تعالى‪َ { :‬وقَالُوا نَ ْحنُ َأ ْكثَ ُر‬ ‫عَنْ ُذنُوبِ ِه ُم ا ْل ُم ْج ِر ُم َ‬
‫ين } [سبأ‪. ]35:‬‬ ‫َأ ْم َواال َوَأ ْوال ًدا َو َما نَ ْحنُ بِ ُم َع َّذبِ َ‬
‫ق لِ َمنْ يَشَا ُء َويَ ْق ِد ُر } أي‪ :‬يوسعه على قوم‬ ‫سطُ ال ِّر ْز َ‬ ‫وقوله‪َ { :‬أ َولَ ْم يَ ْعلَ ُموا َأنَّ هَّللا َ يَ ْب ُ‬
‫ويضيقه على آخرين‪ِ { ،‬إنَّ فِي َذلِكَ آليَا ٍ‬
‫ت لِقَ ْو ٍم يُْؤ ِمنُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬لعبرا وحججا‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الذنُ َ‬
‫وب‬ ‫س ِه ْم اَل تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ ِإنَّ هَّللا َ يَ ْغفِ ُر ُّ‬ ‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬ ‫ين َأ ْ‬‫ي الَّ ِذ َ‬ ‫قُ ْل يَا ِعبَا ِد َ‬
‫سلِ ُموا لَهُ ِمنْ قَ ْب ِل َأنْ يَْأتِيَ ُك ُم‬ ‫َج ِمي ًعا ِإنَّهُ ه َُو ا ْل َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم (‪َ )53‬وَأنِيبُوا ِإلَى َربِّ ُك ْم َوَأ ْ‬
‫س َن َما ُأ ْن ِز َل ِإلَ ْي ُك ْم ِمنْ َربِّ ُك ْم ِمنْ قَ ْب ِل َأنْ يَْأتِيَ ُك ُم‬ ‫ون (‪َ )54‬واتَّبِ ُعوا َأ ْح َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫ا ْل َع َذ ُ‬
‫اب ثُ َّم اَل تُ ْن َ‬
‫س َرتَا َعلَى َما فَ َّر ْطتُ فِي َج ْن ِ‬
‫ب‬ ‫س يَا َح ْ‬ ‫ون (‪َ )55‬أنْ تَقُو َل نَ ْف ٌ‬ ‫ش ُع ُر َ‬ ‫اب بَ ْغتَةً َوَأ ْنتُ ْم اَل تَ ْ‬‫ا ْل َع َذ ُ‬
‫ين (‪)57‬‬ ‫ين (‪َ )56‬أ ْو تَقُو َل لَ ْو َأنَّ هَّللا َ َه َدانِي لَ ُك ْنتُ ِم َن ا ْل ُمتَّقِ َ‬ ‫سا ِخ ِر َ‬ ‫هَّللا ِ َوِإنْ ُك ْنتُ لَ ِم َن ال َّ‬
‫ين (‪ )58‬بَلَى قَ ْد َجا َء ْتكَ‬ ‫سن ِ َ‬ ‫ون ِم َن ا ْل ُم ْح ِ‬ ‫اب لَ ْو َأنَّ لِي َك َّرةً فََأ ُك َ‬ ‫ين تَ َرى ا ْل َع َذ َ‬ ‫َأ ْو تَقُو َل ِح َ‬
‫َآيَاتِي فَ َك َّذ ْبتَ بِ َها َوا ْ‬
‫ستَ ْكبَ ْرتَ َو ُك ْنتَ ِم َن ا ْل َكافِ ِر َ‬
‫ين (‪)59‬‬

‫هذه اآلية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة واإلنابة‪،‬‬
‫وإخبار بأن هللا يغفر الذنوب جميعا لمن تاب منها ورجع عنها‪ ،‬وإن كانت مهما كانت‬
‫وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر‪ .‬وال يصح حمل هذه [اآلية] (‪ )1‬على غير توبة (‬
‫‪ )2‬؛ ألن الشرك ال يغفر لمن لم يتب منه‪.‬‬
‫وقال البخاري‪ :‬حدثنا إبراهيم بن موسى‪ ،‬أخبرنا هشام بن يوسف؛ أن ابن جريج‬
‫أخبرهم‪ :‬قال يعلى‪ :‬إن سعيد بن جبير أخبره عن ابن عباس (‪[ )3‬رضي هللا عنهما]‬
‫(‪ )4‬؛ أن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا‪ ،‬وزنوا فأكثروا‪ .‬فأتوا محمدا‬
‫صلى هللا عليه وسلم فقالوا‪ :‬إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما‬
‫س الَّتِي َح َّر َم‬ ‫ون النَّ ْف َ‬ ‫ُون َم َع هَّللا ِ ِإلَ ًها َ‬
‫آخ َر َوال يَ ْقتُلُ َ‬ ‫عملنا كفارة‪ .‬فنزل‪َ { :‬والَّ ِذ َ‬
‫ين ال يَ ْدع َ‬
‫ين‬ ‫ون } [الفرقان‪ ،]68:‬ونزل [قوله] (‪ { : )5‬قُ ْل يَا ِعبَا ِد َ‬
‫ي الَّ ِذ َ‬ ‫ق َوال يَ ْزنُ َ‬ ‫هَّللا ُ ِإال بِا ْل َح ِّ‬
‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ } ‪.‬‬ ‫َأ ْ‬
‫وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي‪ ،‬من حديث ابن جريج‪ ،‬عن يعلى بن مسلم‬
‫المكي‪ ،‬عن سعيد بن جبير‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬به (‪. )6‬‬
‫صالِ ًحا } اآلية ‪[ .‬الفرقان‪:‬‬
‫َاب َوآ َم َن َو َع ِم َل َ‬
‫والمراد من اآلية األولى قوله‪ِ { :‬إال َمنْ ت َ‬
‫‪. ]70‬‬
‫وقال (‪ )7‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا حسن‪ ،‬حدثنا ابن لهيعة‪ ،‬حدثنا أبو قبيل قال‪ :‬سمعت أبا‬

‫‪34‬‬
‫عبد الرحمن المري (‪ )8‬يقول‪ :‬سمعت (‪ )9‬ثوبان ‪-‬مولى رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪-‬يقول‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬ما أحب أن لي الدنيا‬
‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم } إلى آخر اآلية‪ ،‬فقال‬ ‫ين َأ ْ‬
‫ي الَّ ِذ َ‬
‫وما فيها بهذه اآلية‪ { :‬يَا ِعبَا ِد َ‬
‫رجل‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬فمن أشرك؟ فسكت النبي (‪ )10‬صلى هللا عليه وسلم ثم قال‪" :‬أال‬
‫ومن أشرك" ثالث مرات‪ .‬تفرد به اإلمام أحمد (‪. )11‬‬
‫وقال اإلمام أحمد أيضا‪ :‬حدثنا سريج (‪ )12‬بن النعمان‪ ،‬حدثنا روح بن قيس‪ ،‬عن‬
‫أشعث بن جابر الحداني‪ ،‬عن مكحول‪ ،‬عن (‪ )13‬عمرو بن َعبَسة (‪ )14‬قال‪ :‬جاء‬
‫رجل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬شيخ كبير يدعم على عصا له‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول‬
‫هللا إن لي غدرات وفجرات‪ ،‬فهل يغفر لي؟ فقال‪" :‬ألست تشهد أن ال إله إال هللا؟"‬
‫قال‪ :‬بلى‪ ،‬وأشهد أنك رسول هللا‪ .‬فقال‪" :‬قد غفر لك غدراتك وفجراتك"‪ .‬تفرد به‬
‫أحمد (‪. )15‬‬

‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا يزيد بن هارون‪ x،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬عن شهر‬
‫بن حوشب (‪ ، )1‬عن أسماء بنت يزيد (‪ )2‬قالت‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫ي الَّ ِذ َ‬
‫ين‬ ‫ح } [هود‪ ]46:‬وسمعته يقول‪ { " :‬يَا ِعبَا ِد َ‬ ‫وسلم يقرأ‪ِ { :‬إنَّهُ َع َم ٌل َغ ْي ُر َ‬
‫صالِ ٍ‬
‫وب َج ِمي ًعا } وال يبالي‬ ‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ ِإنَّ هَّللا َ يَ ْغفِ ُر ُّ‬
‫الذنُ َ‬ ‫َأ ْ‬
‫{ ِإنَّهُ ُه َو ا ْل َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم }‬
‫ورواه أبو داود والترمذي‪ ،‬من حديث ثابت‪ ،‬به (‪. )3‬‬
‫فهذه األحاديث كلها دالة على أن المراد‪ :‬أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة‪ ،‬وال يقنطن (‬
‫‪ )4‬عبد من رحمة هللا‪ ،‬وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب التوبة والرحمة واسع‪،‬‬
‫قال هللا تعالى‪َ { :‬ألَ ْم يَ ْعلَ ُموا َأنَّ هَّللا َ ه َُو يَ ْقبَ ُل التَّ ْوبَةَ عَنْ ِعبَا ِد ِه } [التوبة‪ ،]104:‬وقال‬
‫ستَ ْغفِ ِر هَّللا َ يَ ِج ِد هَّللا َ َغفُو ًرا َر ِحي ًما }‬ ‫سو ًءا َأ ْو يَ ْظلِ ْم نَ ْف َ‬
‫سهُ ثُ َّم يَ ْ‬ ‫تعالى‪َ { :‬و َمنْ يَ ْع َم ْل ُ‬
‫سفَ ِل ِم َن‬ ‫[النساء‪ ،]110:‬وقال تعالى في حق المنافقين‪ِ { :‬إنَّ ا ْل ُمنَافِقِ َ‬
‫ين فِي الد َّْر ِك األ ْ‬

‫‪35‬‬
‫ين تَابُوا } [النساء‪ ،]145 ،146:‬وقال { لَقَ ْد َكفَ َر‬ ‫صي ًرا ِإال الَّ ِذ َ‬‫النَّا ِر َولَنْ ت َِج َد لَ ُه ْم نَ ِ‬
‫ث ثَالثَ ٍة َو َما ِمنْ ِإلَ ٍه ِإال ِإلَهٌ َو ِ‬
‫اح ٌد َوِإنْ لَ ْم يَ ْنتَ ُهوا َع َّما يَقُولُ َ‬
‫ون‬ ‫ين قَالُوا ِإنَّ هَّللا َ ثَالِ ُ‬ ‫الَّ ِذ َ‬
‫ون ِإلَى هَّللا ِ‬ ‫اب َألِي ٌم } [المائدة‪ ،]73:‬ثم قال { َأفَال يَتُوبُ َ‬ ‫ين َكفَ ُروا ِم ْن ُه ْم َع َذ ٌ‬ ‫سنَّ الَّ ِذ َ‬
‫لَيَ َم َّ‬
‫ين فَتَنُوا ا ْل ُمْؤ ِمنِ َ‬
‫ين‬ ‫ستَ ْغفِ ُرونَهُ َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم } [المائدة‪ ،]74:‬وقال { ِإنَّ الَّ ِذ َ‬ ‫َويَ ْ‬
‫ت ثُ َّم لَ ْم يَتُوبُوا } [البروج‪. ]10:‬‬ ‫َوا ْل ُمْؤ ِمنَا ِ‬
‫قال الحسن البصري‪ :‬انظر (‪ )5‬إلى هذا الكرم والجود‪ ،‬قتلوا أولياءه وهو يدعوهم‬
‫إلى التوبة والمغفرة!‪.‬‬
‫واآليات في هذا كثيرة جدا‪.‬‬
‫وفي الصحيحين عن أبي سعيد‪ ،‬عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬حديث الذي (‬
‫‪ )6‬قتل تسعا (‪ )7‬وتسعين نفسا‪ ،‬ثم ندم وسأل عابدا من ُعبَّاد بني إسرائيل‪ :‬هل له‬
‫من توبة؟ فقال‪ :‬ال‪ .‬فقتله وأكمل (‪ )8‬به مائة‪ .‬ثم سأل عالما من علمائهم‪ :‬هل له من‬
‫توبة؟ فقال‪ :‬ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد هللا فيها‪،‬‬
‫فقصدها فأتاه الموت في أثناء الطريق‪ ،‬فاختصمت فيه مالئكة الرحمة ومالئكة‬
‫العذاب‪ ،‬فأمر هللا أن يقيسوا ما بين األرضين‪ ،‬فإلى أيهما كان أقرب فهو منها‪.‬‬
‫فوجدوه أقرب إلى األرض التي هاجر إليها بشبر‪ ،‬فقبضته مالئكة الرحمة‪ .‬وذكر أنه‬
‫نأى بصدره عند الموت‪ ،‬وأن هللا أمر البلدة الخيرة أن تقترب‪ ،‬وأمر تلك البلدة أن‬
‫تتباعد (‪ )10( )9‬هذا معنى الحديث‪ ،‬وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه‪.‬‬

‫وقال علي بن أبي طلحة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬رضي هللا عنهما (‪[ )1‬في] (‪ )2‬قوله‪{ :‬‬
‫الذنُ َ‬
‫وب‬ ‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ ِإنَّ هَّللا َ يَ ْغفِ ُر ُّ‬ ‫ين َأ ْ‬ ‫قُ ْل يَا ِعبَا ِد َ‬
‫ي الَّ ِذ َ‬
‫َج ِمي ًعا } إلى آخر اآلية‪ ،‬قال‪ :‬قد دعا هللا إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو هللا‪،‬‬
‫ومن زعم أن المسيح هو ابن هللا‪ ،‬ومن زعم أن عزيرا (‪ )3‬ابن هللا‪ ،‬ومن زعم أن‬
‫هللا فقير‪ ،‬ومن زعم أن يد هللا مغلولة‪ ،‬ومن زعم أن هللا ثالث ثالثة‪ ،‬يقول هللا تعالى‬

‫‪36‬‬
‫ستَ ْغفِ ُرونَهُ َوهَّللا ُ َغفُو ٌر َر ِحي ٌم } [المائدة‪ ]74:‬ثم دعا‬ ‫لهؤالء‪َ { :‬أفَال يَتُوبُ َ‬
‫ون ِإلَى هَّللا ِ َويَ ْ‬
‫إلى توبته من هو أعظم قوال من هؤالء‪ ،‬من قال‪َ { :‬أنَا َربُّ ُك ُم األ ْعلَى } [النازعات‪:‬‬
‫‪ ،]24‬وقال { َما َعلِ ْمتُ لَ ُك ْم ِمنْ ِإلَ ٍه َغ ْي ِري } [القصص‪ .]38:‬قال ابن عباس [رضي‬
‫هللا عنهما] (‪ )4‬من آيس عباد هللا (‪ )5‬من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب هللا‪ ،‬ولكن ال‬
‫يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب هللا عليه‪.‬‬
‫ش َكل أنه قال‪ :‬سمعت ابن مسعود‬ ‫شتَير بن َ‬ ‫وروى الطبراني من طريق الشعبي‪ ،‬عن ُ‬
‫يقول إن أعظم آية في كتاب هللا‪ { :‬هَّللا ُ ال ِإلَهَ ِإال ه َُو ا ْل َح ُّي ا ْلقَيُّو ُم } [البقرة‪،]255:‬‬
‫سا ِن } [النحل‪:‬‬ ‫وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر‪ِ { :‬إنَّ هَّللا َ يَْأ ُم ُر بِا ْل َع ْد ِل َو ْ‬
‫اإلح َ‬
‫ين َأ ْ‬
‫س َرفُوا‬ ‫‪ ،]90‬وإن أكثر آية في القرآن فرجا في سورة الغرف‪ { :‬قُ ْل يَا ِعبَا ِد َ‬
‫ي الَّ ِذ َ‬
‫س ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ } ‪ ،‬وإن أشد آية في كتاب هللا تصريفا (‪{ )6‬‬ ‫َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫ب } [الطالق‪ .]2 ،3:‬فقال‬ ‫ق هَّللا َ يَ ْج َع ْل لَهُ َم ْخ َر ًجا َويَ ْر ُز ْقهُ ِمنْ َح ْي ُ‬
‫ث ال يَ ْحت َِس ُ‬ ‫َو َمنْ يَتَّ ِ‬
‫له مسروق‪ :‬صدقت‪.‬‬
‫وقال األعمش‪ ،‬عن أبي سعيد‪ ،‬عن أبي الكنود قال‪ :‬مر عبد هللا ‪-‬يعني ابن مسعود‪-‬‬
‫على قاص‪ ،‬وهو يذكر الناس‪ ،‬فقال‪ :‬يا مذكر لم تُقَنِّط (‪ )7‬الناس؟ ثم قرأ‪ { :‬قُ ْل يَا‬
‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ } رواه ابن أبي حاتم‪.‬‬ ‫ين َأ ْ‬
‫ي الَّ ِذ َ‬
‫ِعبَا ِد َ‬
‫ذكر أحاديث فيها نفي القنوط‪:‬‬
‫قال (‪ )8‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا سريج بن النعمان‪ ،‬حدثنا أبو عبيدة عبد المؤمن بن عبيد‬
‫هللا (‪ ، )9‬حدثني أخشن السدوسي قال‪ :‬دخلت على أنس بن مالك (‪ )10‬فقال (‪)11‬‬
‫سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو أخطأتم حتى‬
‫تمأل خطاياكم ما بين السماء واألرض‪ ،‬ثم استغفرتم هللا لغفر لكم‪ ،‬والذي نفس محمد‬
‫بيده‪ ،‬لو لم تخطئوا (‪ )12‬لجاء هللا بقوم يخطئون‪ x،‬ثم يستغفرون هللا فيغفر لهم" تفرد‬
‫به [اإلمام] (‪ )13‬أحمد (‪ . )14‬وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا إسحاق بن عيسى (‪)15‬‬
‫ص ْرمة‪ ،‬عن‬
‫حدثني ليث حدثني محمد بن قيس ‪-‬قاص عمر بن عبد العزيز‪-‬عن أبي ِ‬

‫‪37‬‬
‫أبي أيوب األنصاري‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬أنه قال حين حضرته الوفاة‪ :‬قد كنت كتمت‬
‫منكم شيئا سمعته من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪" :‬لوال أنكم تذنبون‪،‬‬
‫لخلق هللا قوما يذنبون فيغفر لهم"‪.‬‬

‫هكذا (‪ )1‬رواه اإلمام أحمد‪ ،‬وأخرجه مسلم في صحيحه‪ ،‬والترمذي جميعا‪ ،‬عن‬
‫قتيبة‪ ،‬عن الليث بن سعد به (‪ . )2‬ورواه مسلم من وجه آخر به‪ ،‬عن محمد بن كعب‬
‫القرظي‪ ،‬عن أبي صرمة ‪-‬وهو األنصاري صحابي‪-‬عن أبي أيوب به (‪. )3‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا أحمد بن عبد الملك الحراني‪ ،‬حدثنا يحيى بن عمرو بن‬
‫مالك النُّكري قال‪ :‬سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء‪ ،‬عن ابن عباس (‪ )4‬قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬كفارة الذنب (‪ )5‬الندامة"‪ ،‬وقال رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪" :‬لو لم تذنبوا لجاء هللا بقوم يذنبون‪ x،‬فيغفر لهم" تفرد به أحمد (‪. )6‬‬
‫وقال عبد هللا ابن اإلمام أحمد‪ :‬حدثني عبد األعلى بن حماد النَّ ِ‬
‫رسي‪ ،‬حدثنا داود بن‬
‫عبد الرحمن‪ ،‬حدثنا أبو عبد هللا مسلمة الرازي‪ ،‬عن أبي عمرو البجلي‪ ،‬عن عبد‬
‫الملك بن سفيان الثقفي‪ ،‬عن أبي جعفر محمد بن علي‪ ،‬عن محمد بن الحنفية‪ ،‬عن‬
‫أبيه‪ ،‬علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫"إن هللا يحب العبد المفتن التواب"‪ .‬لم يخرجوه من هذا الوجه (‪. )7‬‬
‫وقال (‪ )8‬ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا أبي‪ ،‬حدثنا موسى بن إسماعيل‪ x،‬حدثنا حماد‪ ،‬أخبرنا‬
‫ثابت وحميد‪ ،‬عن عبد هللا بن عبيد بن عمير قال‪ :‬إن إبليس ‪-‬عليه لعائن هللا‪-‬قال‪ :‬يا‬
‫رب‪ ،‬إنك أخرجتني من الجنة من أجل آدم‪ ،‬وإني ال أستطيعه إال بسلطانك‪ .‬قال‪ :‬فأنت‬
‫مسلط‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬زدني‪ .‬قال‪ :‬ال يولد له ولد إال ولد لك مثله‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬زدني‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجعل صدورهم مساكن لكم‪ ،‬وتجرون منهم مجرى الدم‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬زدني‪.‬‬
‫قال‪ :‬أجلب عليهم بخيلك ورجلك‪ ،‬وشاركهم في األموال واألوالد‪ ،‬وعدهم وما يعدهم‬
‫الشيطان إال غرورا‪ .‬فقال آدم [عليه السالم] (‪ )9‬يا رب‪ ،‬قد سلطته علي‪ ،‬وإني ال‬

‫‪38‬‬
‫أمتنع [منه] (‪ )10‬إال بك‪ .‬قال‪ :‬ال يولد لك ولد إال وكلت به من يحفظه من قرناء‬
‫السوء‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬زدني‪ .‬قال‪ :‬الحسنة عشر أو أزيد‪ ،‬والسيئة واحدة أو أمحوها‪.x‬‬
‫قال‪ :‬يا رب‪ ،‬زدني‪ .‬قال‪ :‬باب التوبة مفتوح ما كان الروح في الجسد‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪،‬‬
‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬
‫س ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ ِإنَّ هَّللا َ‬ ‫ين َأ ْ‬ ‫ي الَّ ِذ َ‬
‫زدني‪ .‬قال‪ { :‬يَا ِعبَا ِد َ‬
‫وب َج ِمي ًعا ِإنَّهُ ه َُو ا ْل َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم } ‪.‬‬ ‫يَ ْغفِ ُر ُّ‬
‫الذنُ َ‬
‫وقال محمد بن إسحاق‪ :‬قال نافع‪ :‬عن عبد هللا بن عمير‪ ،‬عن عمر‪ ،‬رضي هللا عنه‪،‬‬
‫في حديثه قال‪ :‬وكنا نقول ما هللا بقابل ممن افتتن صرفا وال عدال وال توبة‪ ،‬عرفوا‬
‫هللا ثم رجعوا إلى الكفر لبالء أصابهم‪ .‬قال‪ :‬وكانوا يقولون ذلك ألنفسهم‪ .‬قال‪ :‬فلما‬
‫قدم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم المدينة‪ ،‬أنزل هللا فيهم وفي قولنا وقولهم‬
‫س ِه ْم ال تَ ْقنَطُوا ِمنْ َر ْح َم ِة هَّللا ِ ِإنَّ هَّللا َ يَ ْغفِ ُر‬‫س َرفُوا َعلَى َأ ْنفُ ِ‬ ‫ين َأ ْ‬
‫ي الَّ ِذ َ‬
‫ألنفسهم‪ { :‬يَا ِعبَا ِد َ‬
‫سلِ ُموا لَهُ ِمنْ قَ ْب ِل َأنْ يَْأتِيَ ُك ُم‬ ‫وب َج ِمي ًعا ِإنَّهُ ه َُو ا ْل َغفُو ُر ال َّر ِحي ُم َوَأنِيبُوا ِإلَى َربِّ ُك ْم َوَأ ْ‬ ‫ُّ‬
‫الذنُ َ‬
‫س َن َما ُأنز َل ِإلَ ْي ُك ْم ِمنْ َربِّ ُك ْم ِمنْ قَ ْب ِل َأنْ يَْأتِيَ ُك ُم‬
‫ون َواتَّبِ ُعوا َأ ْح َ‬ ‫ص ُر َ‬ ‫اب ثُ َّم ال تُ ْن َ‬‫ا ْل َع َذ ُ‬
‫ون }‬‫ش ُع ُر َ‬ ‫اب بَ ْغتَةً َوَأ ْنتُ ْم ال تَ ْ‬
‫ا ْل َع َذ ُ‬

‫قال عمر‪ ،‬رضي هللا عنه‪ :‬فكتبتها بيدي في صحيفة‪ ،‬وبعثت بها إلى هشام بن‬
‫العاص قال‪ :‬فقال هشام‪ :‬لما أتتني جعلت أقرؤها بذي طُ ًوى أ َ‬
‫ص َّعد بها فيه وأصوت‬
‫وال أفهمها‪ ،‬حتى قلت‪ :‬اللهم أفهمنيها‪ .‬قال‪ :‬فألقى هللا في قلبي أنها إنما أنزلت فينا‪،‬‬
‫وفيما كنا نقول في أنفسنا‪ ،‬ويقال فينا‪ .‬فرجعت إلى بعيري فجلست عليه‪ ،‬فلحقت‬
‫برسول هللا صلى هللا عليه وسلم بالمدينة ‪.‬‬
‫ثم استحث [سبحانه] (‪ )1‬وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة‪ ،‬فقال‪َ { :‬وَأنِيبُوا‬
‫سلِ ُموا لَهُ } أي‪ :‬ارجعوا إلى هللا واستسلموا له‪ِ { ،‬منْ قَ ْب ِل َأنْ يَْأتِيَ ُك ُم‬ ‫ِإلَى َربِّ ُك ْم َوَأ ْ‬
‫ون } أي‪ :‬بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة‪.،‬‬ ‫ص ُر َ‬ ‫اب ثُ َّم ال تُ ْن َ‬ ‫ا ْل َع َذ ُ‬
‫س َن َما ُأنز َل ِإلَ ْي ُك ْم ِمنْ َربِّ ُك ْم } وهو القرآن العظيم‪ِ { ،‬منْ قَ ْب ِل َأنْ يَْأتِيَ ُك ُم‬
‫{ َواتَّبِ ُعوا َأ ْح َ‬

‫‪39‬‬
‫ون } أي‪ :‬من حيث ال تعلمون وال تشعرون‪.‬‬ ‫اب بَ ْغتَةً َوَأ ْنتُ ْم ال تَ ْ‬
‫ش ُع ُر َ‬ ‫ا ْل َع َذ ُ‬
‫س َرتَى َعلَى َما فَ َّر ْطتُ فِي َج ْن ِ‬
‫ب هَّللا ِ } أي‪ :‬يوم القيامة‬ ‫س يَا َح ْ‬ ‫ثم قال‪َ { :‬أنْ تَقُو َل نَ ْف ٌ‬
‫يتحسر المجرم المفرط في التوبة واإلنابة‪ ،‬ويود لو كان من المحسنين المخلصين‬
‫المطيعين هلل عز وجل‪.‬‬
‫ين } أي‪ :‬إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر‬ ‫وقوله‪َ { :‬وِإنْ ُك ْنتُ لَ ِم َن ال َّ‬
‫سا ِخ ِر َ‬
‫مستهزئ غير موقن مصدق ‪.‬‬
‫اب لَ ْو َأنَّ لِي‬ ‫ين َأ ْو تَقُو َل ِح َ‬
‫ين تَ َرى ا ْل َع َذ َ‬ ‫{ َأ ْو تَقُو َل لَ ْو َأنَّ هَّللا َ َه َدانِي لَ ُك ْنتُ ِم َن ا ْل ُمتَّقِ َ‬
‫ين } أي‪ :‬تود أن لو (‪ )2‬أعيدت إلى الدار فتحسن (‪ )3‬العمل‪.‬‬ ‫سن ِ َ‬ ‫ون ِم َن ا ْل ُم ْح ِ‬ ‫َك َّرةً فََأ ُك َ‬
‫قال علي بن أبي طلحة‪ :‬عن ابن عباس‪ :‬أخبر هللا سبحانه (‪ ، )4‬ما العباد قائلون قبل‬
‫أن يقولوه‪ ،‬وعملهم قبل أن يعملوه (‪ ، )5‬وقال‪َ { :‬وال يُنَبُِّئ َك ِم ْث ُل َخبِي ٍر } [فاطر‪:‬‬
‫س َرتَى َعلَى َما فَ َّر ْطتُ فِي َج ْن ِ‬
‫ب هَّللا ِ َوِإنْ ُك ْنتُ لَ ِم َن‬ ‫س يَا َح ْ‬ ‫‪َ { ، ،]14‬أنْ تَقُو َل نَ ْف ٌ‬
‫اب لَ ْو‬ ‫ين َأ ْو تَقُو َل ِح َ‬
‫ين تَ َرى ا ْل َع َذ َ‬ ‫ين َأ ْو تَقُو َل لَ ْو َأنَّ هَّللا َ َه َدانِي لَ ُك ْنتُ ِم َن ا ْل ُمتَّقِ َ‬
‫اخ ِر َ‬
‫س ِ‬‫ال َّ‬
‫ين } فأخبر هللا تعالى‪ :‬أن لو ُردوا لما قدروا على‬ ‫سن ِ َ‬ ‫َأنَّ لِي َك َّرةً فََأ ُك َ‬
‫ون ِم َن ا ْل ُم ْح ِ‬
‫الهدى‪ ،‬وقال تعالى‪َ { :‬ولَ ْو ُردُّوا لَ َعادُوا لِ َما نُ ُهوا َع ْنهُ َوِإنَّ ُه ْم لَ َكا ِذبُ َ‬
‫ون } [األنعام‪:‬‬
‫‪. ]28‬‬
‫وقد قال (‪ )6‬اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا أسود‪ ،‬حدثنا أبو بكر‪ ،‬عن األعمش‪ ،‬عن أبي صالح‪،‬‬
‫عن أبي هريرة‪ ،‬رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬كل أهل‬
‫النار يرى مقعده من الجنة فيقول‪ :‬لو أن هللا هداني؟! فتكون عليه حسرة"‪ .‬قال‪:‬‬
‫"وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول‪ :‬لوال أن هللا هداني!" قال‪" :‬فيكون له‬
‫الشكر"‪.‬‬
‫ورواه النسائي من حديث أبي بكر بن عياش‪ ،‬به (‪. )7‬‬

‫س فِي َج َهنَّ َم َم ْث ًوى‬ ‫س َو َّدةٌ َألَ ْي َ‬


‫ين َك َذبُوا َعلَى هَّللا ِ ُو ُجو ُه ُه ْ‪x‬م ُم ْ‬ ‫َويَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة تَ َرى الَّ ِذ َ‬
‫سو ُء َواَل ُه ْم يَ ْح َزنُ َ‬
‫ون (‬ ‫س ُه ُم ال ُّ‬ ‫ين اتَّقَ ْوا بِ َمفَا َزتِ ِه ْم اَل يَ َم ُّ‬
‫ين (‪َ )60‬ويُنَ ِّجي هَّللا ُ الَّ ِذ َ‬ ‫لِ ْل ُمتَ َكبِّ ِر َ‬
‫‪40‬‬
‫ت‬
‫اوا ِ‬ ‫س َم َ‬ ‫َي ٍء َو ِكي ٌل (‪ )62‬لَهُ َمقَالِي ُد ال َّ‬‫َي ٍء َوه َُو َعلَى ُك ِّل ش ْ‬ ‫ق ُك ِّل ش ْ‬‫‪ )61‬هَّللا ُ َخالِ ُ‬
‫ون (‪ )63‬قُ ْل َأفَ َغ ْي َر هَّللا ِ تَْأ ُم ُرونِّي‬ ‫ت هَّللا ِ ُأولَِئكَ ُه ُم ا ْل َخ ِ‬
‫اس ُر َ‬ ‫ين َكفَ ُروا بَِآيَا ِ‬ ‫َواَأْل ْر ِ‬
‫ض َوالَّ ِذ َ‬
‫ين ِمنْ قَ ْبلِكَ لَِئنْ َأش َْر ْكتَ لَيَ ْحبَطَنَّ‬
‫وح َي ِإلَ ْي َك َوِإلَى الَّ ِذ َ‬‫ون (‪َ )64‬ولَقَ ْد ُأ ِ‬ ‫َأ ْعبُ ُد َأيُّ َها ا ْل َجا ِهلُ َ‬
‫ين (‪)66‬‬ ‫ين (‪ )65‬بَ ِل هَّللا َ فَا ْعبُ ْد َو ُكنْ ِم َن الشَّا ِك ِر َ‬ ‫َع َملُكَ َولَتَ ُكونَنَّ ِم َن ا ْل َخ ِ‬
‫اس ِر َ‬

‫ولما تمنى أهل الجرائم ال َعو َد إلى الدنيا‪ ،‬وتحسروا على تصديق آيات هللا واتباع‬
‫رسله‪ ،‬قال [هللا سبحانه وتعالى] (‪ { )1‬بَلَى قَ ْد َجا َء ْت َك آيَاتِي فَ َك َّذ ْبتَ بِ َها َوا ْ‬
‫ستَ ْكبَ ْرتَ‬
‫ين } (‪ )2‬أي‪ :‬قد جاءتك أيها العبد النادم على ما كان منه (‪ )3‬آياتي‬ ‫َو ُك ْنتَ ِم َن ا ْل َكافِ ِر َ‬
‫في الدار الدنيا‪ ،‬وقامت حججي عليك‪ ،‬فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها‪ x،‬وكنت من‬
‫الكافرين بها‪ ،‬الجاحدين لها‪.‬‬
‫س َو َّدةٌ َألَ ْي َ‬
‫س فِي َج َهنَّ َم َم ْث ًوى‬ ‫ين َك َذبُوا َعلَى هَّللا ِ ُو ُجو ُه ُه ْ‪x‬م ُم ْ‬ ‫{ َويَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة تَ َرى الَّ ِذ َ‬
‫سو ُء َوال ُه ْم يَ ْح َزنُ َ‬
‫ون (‬ ‫س ُه ُم ال ُّ‬ ‫ين اتَّقَ ْوا بِ َمفَا َزتِ ِه ْم ال يَ َم ُّ‬
‫ين (‪َ )60‬ويُنَ ِّجي هَّللا ُ الَّ ِذ َ‬ ‫لِ ْل ُمتَ َكبِّ ِر َ‬
‫‪. } )61‬‬
‫يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه‪ ،‬وتبيض فيه وجوه‪ ،‬تسود وجوه‬
‫أهل الفرقة واالختالف‪ ،‬وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة‪ ،‬قال تعالى هاهنا‪{ :‬‬
‫ين َك َذبُوا َعلَى هَّللا ِ } أي‪ :‬في دعواهم له شريكا وولدا {‬
‫َويَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة تَ َرى الَّ ِذ َ‬
‫س َو َّدةٌ } أي‪ :‬بكذبهم وافترائهم‪.‬‬ ‫ُو ُجو ُه ُه ْم ُم ْ‬
‫وقوله‪َ { :‬ألَ ْي َ‬
‫س فِي َج َهنَّ َم َم ْث ًوى لِ ْل ُمتَ َكبِّ ِر َ‬
‫ين } أي‪ :‬أليست جهنم كافية لها (‪ )4‬سجنا‬
‫وموئال لهم فيها [دار] (‪ )5‬الخزي والهوان‪ ،‬بسبب تكبرهم وتجبرهم وإبائهم عن‬
‫االنقياد للحق‪.‬‬
‫قال ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا أبو عبيد هللا ابن أخي ابن وهب‪ ،‬حدثنا عمي‪ ،‬حدثنا عيسى‬
‫بن أبي عيسى الخياط‪ ،‬عن عمرو بن شعيب (‪ ، )6‬عن أبيه‪ ،‬عن جده أن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور‬
‫الناس‪ ،‬يعلوهم كل شيء من الصغار‪ ،‬حتى يدخلوا سجنا من النار في واد يقال له‬
‫‪41‬‬
‫بولس‪ ،‬من نار األنيار‪ ،‬ويسقون عصارة أهل النار‪ ،‬ومن طينة َ‬
‫الخبَال" (‪. )7‬‬
‫ين اتَّقَ ْوا بِ َمفَ َ‬
‫ازتِ ِه ْم } أي‪ :‬مما سبق لهم من السعادة والفوز‬ ‫وقوله‪َ { :‬ويُنَ ِّجي هَّللا ُ الَّ ِذ َ‬
‫سو ُء } أي‪ :‬يوم القيامة‪َ { ،‬وال ُه ْم يَ ْح َزنُ َ‬
‫ون } أي‪ :‬وال يحزنهم‬ ‫س ُه ُم ال ُّ‬
‫عند هللا‪ { ،‬ال يَ َم ُّ‬
‫(‪ )8‬الفزع األكبر‪ ،‬بل هم آمنون من كل فَ َزع‪ ،‬مزحزحون عن كل شر‪ُ ،‬مؤ َملون كل‬
‫خير ‪.‬‬
‫ض‬
‫األر ِ‬ ‫ت َو ْ‬ ‫س َم َوا ِ‬ ‫َي ٍء َو ِكي ٌل (‪ )62‬لَهُ َمقَالِي ُد ال َّ‬ ‫َي ٍء َوه َُو َعلَى ُك ِّل ش ْ‬ ‫ق ُك ِّل ش ْ‬‫{ هَّللا ُ َخالِ ُ‬
‫ون (‪ )63‬قُ ْل َأفَ َغ ْي َر هَّللا ِ تَْأ ُم ُرونِّي َأ ْعبُ ُد َأيُّ َها‬
‫اس ُر َ‬ ‫ت هَّللا ِ ُأولَِئكَ ُه ُم ا ْل َخ ِ‬
‫ين َكفَ ُروا بِآيَا ِ‬‫َوالَّ ِذ َ‬
‫ين ِمنْ قَ ْبلِكَ لَِئنْ َأش َْر ْكتَ لَيَ ْحبَطَنَّ َع َملُ َك‬ ‫ون (‪َ )64‬ولَقَ ْد ُأ ِ‬
‫وح َي ِإلَ ْيكَ َوِإلَى الَّ ِذ َ‬ ‫ا ْل َجا ِهلُ َ‪x‬‬
‫ين (‪. } )66‬‬ ‫ين (‪ )65‬بَ ِل هَّللا َ فَا ْعبُ ْد َو ُكنْ ِم َن الشَّا ِك ِر َ‬ ‫اس ِر َ‬ ‫َولَتَ ُكونَنَّ ِم َن ا ْل َخ ِ‬
‫يخبر تعالى أنه خالق (‪ )9‬األشياء كلها‪ ،‬وربها ومليكها والمتصرف فيها‪ ،‬وكل تحت‬
‫تدبيره وقهره وكالءته ‪.‬‬

‫ض } ‪ ،‬قال مجاهد‪ :‬المقاليد هي‪ :‬المفاتيح‬


‫األر ِ‬
‫ت َو ْ‬ ‫وقوله‪ { :‬لَهُ َمقَالِي ُد ال َّ‬
‫س َم َوا ِ‬
‫بالفارسية‪ .‬وكذا قال قتادة‪ ،‬وابن زيد‪ ،‬وسفيان ابن عيينة‪.‬‬
‫ض } أي‪ :‬خزائن السموات واألرض‪.‬‬‫األر ِ‬
‫ت َو ْ‬ ‫وقال السدي‪ { :‬لَهُ َمقَالِي ُد ال َّ‬
‫س َم َوا ِ‬
‫والمعنى على كال القولين‪ :‬أن أز َّمة األمور بيده‪ ،‬له الملك وله الحمد‪ ،‬وهو على كل‬
‫ت هَّللا ِ } أي‪ :‬حججه وبراهينه { ُأولَِئ َك ُه ُم‬
‫ين َكفَ ُروا بِآيَا ِ‬
‫شيء قدير؛ ولهذا قال‪َ { :‬والَّ ِذ َ‬
‫ون }‬ ‫ا ْل َخ ِ‬
‫اس ُر َ‬
‫وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا غريبا ج ًدا ‪-‬وفي صحته نظر‪-‬ولكن (‪ )1‬نذكره‬
‫كما ذكره‪ ،‬فإنه قال‪:‬‬
‫سنان البصري بمصر‪ ،‬حدثنا يحيى بن حماد‪ ،‬حدثنا األغلب بن‬
‫حدثنا يزيد (‪ )2‬بن ِ‬
‫تميم‪ ،‬عن مخلد بن هذيل العبدي‪ ،‬عن عبد الرحمن المدني‪ ،‬عن عبد هللا بن عمر‪،‬‬
‫عن عثمان بن عفان‪ x،‬رضي هللا عنه‪ ،‬أنه سأل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن‬

‫‪42‬‬
‫ض } فقال‪" :‬ما سألني عنها أحد قبلك يا عثمان"‪،‬‬
‫األر ِ‬
‫ت َو ْ‬ ‫تفسير‪ { :‬لَهُ َمقَالِي ُد ال َّ‬
‫س َم َوا ِ‬
‫قال‪" :‬تفسيرها‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬وهللا أكبر‪ ،‬وسبحان هللا وبحمده‪ ،‬أستغفر هللا‪ ،‬وال قوة‬
‫إال باهلل‪ ،‬األول واآلخر‪ ،‬والظاهر والباطن‪ x،‬بيده الخير‪ ،‬يحيي ويميت‪ ،‬وهو على كل‬
‫شيء قدير‪ ،‬من قالها يا عثمان إذا أصبح عشر مرار أعطي خصاال ستا‪ :‬أما أوالهن‪:‬‬
‫فيحرس من إبليس وجنوده‪ ،‬وأما الثانية‪ :‬فيعطى قنطارا من األجر‪ ،‬وأما الثالثة‪:‬‬
‫فترفع (‪ )3‬له درجة في الجنة‪ ،‬وأما الرابعة‪ :‬فيتزوج من الحور العين‪ ،‬وأما‬
‫الخامسة‪ :‬فيحضره (‪ )4‬اثنا عشر ملكا‪ ،‬وأما السادسة‪ :‬فيعطى من األجر كمن قرأ‬
‫القرآن والتوراة واإلنجيل والزبور‪ .‬وله مع هذا يا عثمان من األجر كمن حج وتقبلت‬
‫حجته‪ ،‬واعتمر فتقبلت عمرته‪ ،‬فإن مات من يومه طبع بطابع الشهداء"‪.‬‬
‫ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث يحيى بن حماد‪ ،‬به مثله (‪ . )5‬وهو غريب‪،‬‬
‫وفيه نكارة شديدة‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬قُ ْل َأفَ َغ ْي َر هَّللا ِ تَْأ ُم ُرونِّي َأ ْعبُ ُد َأيُّ َها ا ْل َجا ِهلُ َ‬
‫ون } ذكروا في سبب نزولها ما‬
‫رواه ابن أبي حاتم وغيره‪ ،‬عن ابن عباس [رضي هللا عنهما أنه قال] (‪ : )6‬إن‬
‫المشركين بجهلهم دعوا رسول هللا صلى هللا عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم‪ ،‬ويعبدوا‬
‫معه إلهه‪ ،‬فنزلت‪ { :‬قُ ْل َأفَ َغ ْي َر هَّللا ِ تَْأ ُم ُرونِّي َأ ْعبُ ُد َأيُّ َها ا ْل َجا ِهلُ َ‬
‫ون َولَقَ ْد ُأ ِ‬
‫وح َي ِإلَ ْي َك َوِإلَى‬
‫ين }‬ ‫س ِر َ‬‫ش َر ْكتَ لَيَ ْحبَطَنَّ َع َملُكَ َولَتَ ُكونَنَّ ِم َن ا ْل َخا ِ‬ ‫ين ِمنْ قَ ْبلِكَ لَِئنْ َأ ْ‬
‫الَّ ِذ َ‬
‫ون } [األنعام‪. ]88:‬‬ ‫وهذه كقوله‪َ { :‬ولَ ْو َأش َْر ُكوا لَ َحبِطَ َع ْن ُه ْم َما َكانُوا يَ ْع َملُ َ‬
‫وقوله‪ { :‬بَ ِل هَّللا َ فَا ْعبُ ْد َو ُكنْ ِم َن الشَّا ِك ِر َ‬
‫ين } أي‪ :‬أخلص العبادة هلل وحده‪ ،‬ال شريك‬
‫له‪ ،‬أنت ومن معك‪ ،‬أنت ومن اتبعك وصدقك‪.‬‬

‫ماواتُ َم ْط ِويَّاتٌ‬
‫س َ‬ ‫ض َج ِمي ًعا قَ ْب َ‬
‫ضتُهُ يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة َوال َّ‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه َواَأْل ْر ُ‬
‫َو َما قَ َد ُروا هَّللا َ َح َّ‬
‫ون (‪)67‬‬ ‫س ْب َحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْ‬
‫ش ِر ُك َ‬ ‫بِيَ ِمينِ ِه ُ‬

‫‪43‬‬
‫يقول تعالى‪ :‬وما قدر المشركون هللا حق قدره‪ ،‬حين عبدوا معه غيره‪ ،‬وهو العظيم‬
‫الذي ال أعظم منه‪ ،‬القادر على كل شيء‪ ،‬المالك لكل شيء‪ ،‬وكل شيء تحت قهره‬
‫وقدرته‪.‬‬
‫قال مجاهد‪ :‬نزلت في قريش‪ .‬وقال السدي‪ :‬ما عظموه حق عظمته‪.‬‬
‫وقال محمد بن كعب‪ :‬لو قدروه حق قدره ما كذبوه‪.‬‬
‫وقال علي بن أبي طلحة‪ ،‬عن ابن عباس [رضي هللا عنهما] (‪َ { : )1‬و َما قَ َد ُروا هَّللا َ‬
‫ق قَ ْد ِر ِه } هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة هللا [تعالى] (‪ )2‬عليهم‪ ،‬فمن آمن أن‬
‫َح َّ‬
‫هللا على كل شي قدير‪ ،‬فقد قدر هللا حق قدره‪ ،‬ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر هللا حق‬
‫قدره‪.‬‬
‫وقد وردت (‪ )3‬أحاديث كثيرة متعلقة بهذه اآلية الكريمة‪ ،‬والطريق فيها وفي أمثالها‬
‫مذهب السلف‪ ،‬وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف وال تحريف‪.‬‬
‫ق قَ ْد ِر ِه } حدثنا آدم‪ ،‬حدثنا شيبان‪ ،‬عن‬
‫قال البخاري‪ :‬قوله‪َ { :‬و َما قَ َد ُروا هَّللا َ َح َّ‬
‫منصور‪ ،‬عن إبراهيم‪ ،‬عن عبيدة‪ ،‬عن عبد هللا بن مسعود (‪ )4‬قال‪ :‬جاء حبر من‬
‫األحبار إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬يا محمد‪ :‬إنا نجد أن هللا عز وجل‬
‫يجعل السموات على إصبع‪ ،‬واألرضين على إصبع‪ ،‬والشجر على إصبع‪ ،‬والماء (‪)5‬‬
‫والثرى على إصبع‪ ،‬وسائر الخالئق على إصبع‪ .‬فيقول‪ :‬أنا الملك‪ .‬فضحك رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم حتى بدت نواجذه‪ ،‬تصديقا لقول الحبر‪ ،‬ثم قرأ رسول هللا صلى‬
‫ض َج ِمي ًعا قَ ْب َ‬
‫ضتُهُ يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة }‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه َو ْ‬
‫األر ُ‬ ‫هللا عليه وسلم‪َ { :‬و َما قَ َد ُروا هَّللا َ َح َّ‬
‫اآلية (‪. )6‬‬
‫و [قد] (‪ )7‬رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع من (‪ )8‬صحيحه‪ ،‬واإلمام‬
‫أحمد‪ ،‬ومسلم‪ ،‬والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما‪ ،‬كلهم من حديث‬
‫سليمان بن مهران األعمش‪ ،‬عن إبراهيم عن عبيدة‪ ،‬عن [عبد هللا] (‪ )9‬ابن‬
‫مسعود‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬بنحوه (‪. )10‬‬

‫‪44‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا أبو معاوية‪ ،‬حدثنا األعمش‪ ،‬عن إبراهيم عن علقمة‪ ،‬عن‬
‫عبد هللا‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬جاء رجل إلى النبي صلى هللا عليه وسلم من أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬فقال‪ :‬يا أبا القاسم‪ ،‬أبلغك أن هللا [تعالى] (‪ )11‬يحمل الخالئق على إصبع‪،‬‬
‫والسموات على إصبع‪ ،‬واألرضين على إصبع‪ ،‬والشجر على إصبع‪ ،‬والثرى على‬
‫إصبع؟ قال‪ :‬فضحك رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حتى بدت نواجذه‪ .‬قال‪ :‬وأنزل‬
‫ق قَ ْد ِر ِه } إلى آخر اآلية‪.‬‬
‫هللا عز وجل‪َ { :‬و َما قَ َد ُروا هَّللا َ َح َّ‬

‫وهكذا رواه البخاري‪ ،‬ومسلم‪ ،‬والنسائي ‪-‬من طرق‪-‬عن األعمش (‪ )1‬به (‪. )2‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا حسين بن حسن األشقر‪ ،‬حدثنا أبو كدينة‪ ،‬عن عطاء‪ x‬عن‬
‫أبي الضحى‪ ،‬عن ابن عباس (‪ )3‬قال‪ :‬مر يهودي برسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫وهو جالس فقال‪ :‬كيف تقول يا أبا القاسم‪ :‬يوم يجعل هللا السماء على ذه ‪-‬وأشار‬
‫بالسبابة‪-‬واألرض على ذه‪ ،‬والجبال على ذه وسائر الخلق (‪ )4‬على ذه ‪-‬كل ذلك‬
‫ق قَ ْد ِر ِه } اآلية‪.‬‬
‫يشير بإصبعه (‪- )5‬قال‪ :‬فأنزل هللا عز وجل‪َ { :‬و َما قَ َد ُروا هَّللا َ َح َّ‬
‫وكذا رواه الترمذي في التفسير عن عبد هللا بن عبد الرحمن الدارمي‪ ،‬عن محمد بن‬
‫ص ْلت‪ ،‬عن أبي جعفر‪ ،‬عن أبي كدينة يحيى بن المهلب‪ ،‬عن عطاء‪ x‬بن السائب‪،‬‬‫ال َّ‬
‫عن أبي الضحى مسلم بن صبيح‪ ،‬به (‪ ، )6‬وقال‪ :‬حسن صحيح غريب‪ ،‬ال نعرفه إال‬
‫من هذا الوجه‪.‬‬
‫ثم قال البخاري‪ :‬حدثنا سعيد بن عفير‪ ،‬حدثنا الليث‪ ،‬حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن‬
‫مسافر‪ ،‬عن ابن شهاب‪ ،‬عن أبي سلمة بن عبد الرحمن‪ :‬أن أبا هريرة (‪ ، )7‬رضي‬
‫هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪ :‬يقبض هللا األرض‪،‬‬
‫ويطوي السماء بيمينه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك‪ ،‬أين ملوك األرض"‪.‬‬
‫تفرد به من هذا الوجه (‪ ، )8‬ورواه مسلم من وجه آخر (‪. )9‬‬
‫وقال (‪ )10‬البخاري ‪-‬في موضع آخر‪ :-‬حدثنا ُمقَدَّم بن محمد‪ ،‬حدثنا عمي القاسم‬

‫‪45‬‬
‫بن يحيى‪ ،‬عن عبيد هللا‪ ،‬عن نافع‪ ،‬عن ابن عمر (‪ ، )11‬عن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬إن هللا يقبض يوم القيامة األرضين على إصبع‪ ،‬وتكون السموات‬
‫بيمينه‪ ،‬ثم يقول‪ :‬أنا الملك"‪.‬‬
‫تفرد به أيضا من هذا الوجه (‪ ، )12‬ورواه مسلم من وجه آخر (‪ . )13‬وقد رواه (‬
‫‪ )14‬اإلمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر أبسط من هذا السياق وأطول‪ x،‬فقال‪:‬‬
‫حدثنا عفان‪ x،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬أخبرنا إسحاق بن عبد هللا بن أبي طلحة‪ ،‬عن‬
‫عبيد هللا بن مقسم‪ ،‬عن ابن عمر (‪ )15‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قرأ هذه‬
‫ض َج ِمي ًعا قَ ْب َ‬
‫ضتُهُ يَ ْو َم‬ ‫األر ُ‬‫ق قَ ْد ِر ِه َو ْ‬‫اآلية ذات يوم على المنبر‪َ { :‬و َما قَ َد ُروا هَّللا َ َح َّ‬
‫ون } ورسول هللا‬ ‫ش ِر ُك َ‬ ‫مواتُ َم ْط ِويَّاتٌ بِيَ ِمينِ ِه ُ‬
‫س ْب َحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْ‬ ‫س َ‬‫ا ْلقِيَا َم ِة َوال َّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم يقول هكذا بيده‪ ،‬يحركها يقبل بها ويدبر‪" :‬يمجد الرب نفسه‪ :‬أنا‬
‫الجبار‪ ،‬أنا المتكبر‪ ،‬أنا الملك‪ ،‬أنا العزيز‪ ،‬أنا الكريم"‪ .‬فرجف برسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم المنبر حتى قلنا‪ :‬لَيَ ِخ َّرن به‪.‬‬
‫وقد رواه مسلم‪ ،‬والنسائي‪ ،‬وابن ماجه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم ‪-‬زاد‬
‫مسلم‪ :‬ويعقوب بن عبد الرحمن‪ ،‬كالهما عن أبي حازم‪ ،‬عن عبيد هللا بن مقسم‪ ،‬عن‬
‫ابن (‪ )1‬عمر‪ ،‬به‪ ،‬نحوه (‪. )2‬‬
‫ولفظ مسلم ‪-‬عن عبيد هللا بن مقسم (‪ )3‬في هذا الحديث‪ :-‬أنه نظر إلى عبد هللا بن‬
‫عمر كيف يحكي النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬يأخذ هللا سمواته وأرضيه بيده‬
‫ويقول‪ :‬أنا الملك‪ ،‬ويقبض أصابعه ويبسطها‪ :‬أنا الملك‪ ،‬حتى نظرت إلى المنبر‬
‫يتحرك من أسفل شيء منه‪ ،‬حتى إني ألقول‪ :‬أساقط هو برسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم؟‪.‬‬
‫وقال البزار‪ :‬حدثنا سليمان بن سيف (‪ ، )4‬حدثنا أبو علي الحنفي‪ ،‬حدثنا عباد‬
‫الم ْنق َري‪ ،‬حدثني محمد بن المنكدر قال‪ :‬حدثنا عبد هللا بن عمر [رضي هللا عنهما] (‬
‫‪ ، )5‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قرأ هذه اآلية على المنبر‪َ { :‬و َما قَ َد ُروا هَّللا َ‬

‫‪46‬‬
‫ش ِر ُك َ‬
‫ون } ‪ ،‬فقال المنبر هكذا‪ ،‬فجاء‬ ‫ق قَ ْد ِر ِه } حتى بلغ‪ُ { :‬‬
‫س ْب َحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْ‬ ‫َح َّ‬
‫وذهب ثالث مرات (‪. )6‬‬
‫ورواه اإلمام الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبيد بن عمير‪ ،‬عن عبد هللا بن‬
‫عمرو‪ ،‬وقال‪ :‬صحيح (‪. )7‬‬
‫وقال الطبراني في المعجم الكبير‪ :‬حدثنا عبد الرحمن بن معاوية ال ُع ْتبي‪ ،‬حدثنا حيان‬
‫بن نافع بن صخر بن جويرية‪ ،‬حدثنا سعيد بن سالم القداح‪ ،‬عن معمر بن الحسن‪،‬‬
‫عن بكر بن ُخنَ ْيس‪ ،‬عن أبي شيبة‪ ،‬عن عبد الملك بن عمير‪ ،‬عن جرير (‪ )8‬قال‪ :‬قال‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لنفر من أصحابه‪" :‬إني قارئ عليكم آيات من آخر‬
‫سورة الزمر‪ ،‬فمن بكى منكم وجبت له الجنة"؟ فقرأها من عند قوله‪َ { :‬و َما قَ َد ُروا‬
‫ق قَ ْد ِر ِه } ‪ ،‬إلى آخر السورة‪ ،‬فمنا من بكى‪ ،‬ومنا من لم يبك‪ ،‬فقال الذين لم‬
‫هَّللا َ َح َّ‬
‫يبكوا‪ :‬يا رسول هللا لقد جهدنا أن نبكي فلم نبك؟ فقال‪" :‬إني سأقرؤها عليكم فمن لم‬
‫يبك فليتباك"‪ .‬هذا حديث غريب جدا (‪. )9‬‬
‫وأغرب منه ما رواه في المعجم الكبير أيضا‪ :‬حدثنا هاشم بن ُم ْرثَد (‪ ، )10‬حدثنا‬
‫محمد بن إسماعيل بن عياش‪ ،‬حدثني أبي‪ ،‬حدثني ضمضم بن زرعة‪ ،‬عن شريح بن‬
‫عبيد‪ ،‬عن أبي مالك األشعري (‪ )1‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن هللا‬
‫تعالى يقول‪ :‬ثالث خالل َغيَّبتُ ُهنَّ عن عبادي‪ ،‬لو رآهن رجل ما عمل سو ًءا أبدا‪ :‬لو‬
‫كشفت غطائي فرآني حتى نستيقن ويعلم كيف أفعل بخلقي إذا أتيتهم‪ ،‬وقبضت‬
‫السموات بيدي‪ ،‬ثم قبضت األرض (‪ )2‬واألرضين‪ ،‬ثم قلت‪ :‬أنا الملك‪ ،‬من ذا الذي له‬
‫الملك دوني؟ ثم أريتهم (‪ )3‬الجنة وما أعددت لهم فيها من كل خير‪ ،‬فيستيقنوها‪.‬‬
‫وأريهم النار وما أعددت لهم فيها من كل شر فيستيقنوها‪ x،‬ولكن عمدا غيبت ذلك‬
‫عنهم ألعلم كيف يعملون‪ ،‬وقد بينته لهم" (‪. )4‬‬
‫وهذا إسناد متقارب‪ ،‬وهي نسخة تروى بها أحاديث جمة‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫ض ِإاَّل َمنْ شَا َء هَّللا ُ ثُ َّم نُفِ َخ‬ ‫ت َو َمنْ فِي اَأْل ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫س َم َ‬ ‫ق َمنْ فِي ال َّ‬ ‫ص ِع َ‬ ‫الصو ِر فَ َ‬
‫َونُفِ َخ فِي ُّ‬
‫ض َع ا ْل ِكت ُ‬
‫َاب‬ ‫ض بِنُو ِر َربِّ َها َو ُو ِ‬ ‫ت اَأْل ْر ُ‬ ‫ون (‪َ )68‬وَأش َْرقَ ِ‬ ‫فِي ِه ُأ ْخ َرى فَِإ َذا ُه ْم قِيَا ٌم يَ ْنظُ ُر َ‬
‫ون (‪َ )69‬و ُوفِّيَتْ ُك ُّل‬ ‫ق َو ُه ْم اَل يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫ش َه َدا ِء َوقُ ِ‬
‫ض َي بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل َح ِّ‬ ‫ين َوال ُّ‬‫َو ِجي َء بِالنَّبِيِّ َ‬
‫ون (‪)70‬‬ ‫س َما َع ِملَتْ َو ُه َو َأ ْعلَ ُم بِ َما يَ ْف َعلُ َ‬ ‫نَ ْف ٍ‬

‫ض ِإال َمنْ شَا َء هَّللا ُ ثُ َّم نُفِ َخ‬ ‫األر ِ‬ ‫ت َو َمنْ فِي ْ‬ ‫س َم َوا ِ‬ ‫ق َمنْ فِي ال َّ‬ ‫ص ِع َ‬ ‫الصو ِر فَ َ‬‫{ َونُفِ َخ فِي ُّ‬
‫ض َع ا ْل ِكت ُ‬
‫َاب‬ ‫ض بِنُو ِر َربِّ َها َو ُو ِ‬ ‫األر ُ‬‫ت ْ‬ ‫ون (‪َ )68‬وَأش َْرقَ ِ‬ ‫فِي ِه ُأ ْخ َرى فَِإ َذا ُه ْم قِيَا ٌم يَ ْنظُ ُر َ‬
‫ون (‪َ )69‬و ُوفِّيَتْ ُك ُّل‬ ‫ق َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫ش َه َدا ِء َوقُ ِ‬
‫ض َي بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل َح ِّ‬ ‫ين َوال ُّ‬ ‫َو ِجي َء بِالنَّبِيِّ َ‬
‫ون (‪. } )70‬‬ ‫س َما َع ِملَتْ َو ُه َو َأ ْعلَ ُم بِ َما يَ ْف َعلُ َ‬ ‫نَ ْف ٍ‬
‫يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة‪ ،‬وما يكون فيه من اآليات العظيمة والزالزل‬
‫ض ِإال َمنْ‬
‫األر ِ‬
‫ت َو َمنْ فِي ْ‬
‫س َم َوا ِ‬
‫ق َمنْ فِي ال َّ‬ ‫الصو ِر فَ َ‬
‫ص ِع َ‬ ‫الهائلة‪ ،‬فقوله‪َ { :‬ونُفِ َخ فِي ُّ‬
‫شَا َء هَّللا ُ } ‪ ،‬هذه النفخة هي الثانية‪ ،‬وهي نفخة الصعق‪ ،‬وهي التي يموت (‪ )1‬بها‬
‫األحياء من أهل السموات واألرض‪ ،‬إال من شاء هللا كما هو (‪ )2‬مصرح (‪ )3‬به‬
‫مفسرا في حديث الصور المشهور‪ .‬ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من‬
‫يموت ملك الموت‪ ،‬وينفرد الحي القيوم الذي كان أوال وهو الباقي آخرا بالديمومة (‬
‫‪ )4‬والبقاء‪ ،‬ويقول‪ { :‬لِ َم ِن ا ْل ُم ْل ُك ا ْليَ ْو َم } [غافر‪ ]16:‬ثالث مرات‪ .‬ثم يجيب نفسه‬
‫اح ِد ا ْلقَ َّها ِر } أي‪ :‬الذي هو واحد وقد قهر كل شيء‪ ،‬وحكم‬
‫بنفسه فيقول‪ { :‬هَّلِل ِ ا ْل َو ِ‬
‫بالفناء على كل شيء‪ .‬ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل‪ ،‬ويأمره أن ينفخ في الصور‬
‫أخرى‪ ،‬وهي النفخة الثالثة نفخة البعث‪ ،‬قال تعالى‪ { :‬ثُ َّم نُفِ َخ فِي ِه ُأ ْخ َرى فَِإ َذا ُه ْم قِيَا ٌم‬
‫ون } أي‪ :‬أحياء بعد ما كانوا عظاما ورفاتا‪ ،‬صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال‬ ‫يَ ْنظُ ُر َ‬
‫سا ِه َر ِة }‬ ‫اح َدةٌ فَِإ َذا ُه ْم بِال َّ‬
‫يوم القيامة‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬فَِإنَّ َما ِه َي َز ْج َرةٌ َو ِ‬
‫ون بِ َح ْم ِد ِه َوتَظُنُّ َ‬
‫ون ِإنْ‬ ‫ست َِجيبُ َ‬ ‫[النازعات‪ ،]13 ،14:‬وقال تعالى‪ { :‬يَ ْو َم يَ ْدعُو ُك ْم فَتَ ْ‬
‫ض‬
‫األر ُ‬
‫س َما ُء َو ْ‬ ‫لَبِ ْثتُ ْم ِإال قَلِيال } [اإلسراء‪ ،]52:‬وقال تعالى‪َ { :‬و ِمنْ آيَاتِ ِه َأنْ تَقُو َم ال َّ‬
‫ون } [الروم‪. ]25:‬‬ ‫ض ِإ َذا َأ ْنتُ ْم ت َْخ ُر ُج َ‬ ‫بَِأ ْم ِر ِه ثُ َّم ِإ َذا َد َعا ُك ْم َدع َْوةً ِم َن ْ‬
‫األر ِ‬
‫‪48‬‬
‫قال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا محمد بن جعفر‪ ،‬حدثنا شعبة‪ ،‬عن النعمان بن سالم قال‪:‬‬
‫سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود قال‪ :‬سمعت رجال قال لعبد هللا بن‬
‫عمرو (‪ : )1‬إنك تقول‪ :‬الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ قال‪ :‬لقد هممت أال أحدثكم شيئا‪،‬‬
‫إنما قلت‪ :‬سترون بعد قليل أمرا عظيما‪ .‬ثم قال عبد هللا بن عمرو‪ :‬قال رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬يخرج الدجال في أمتي‪ ،‬فيمكث فيهم أربعين‪-‬ال أدري أربعين‬
‫يوما أو أربعين عاما أو أربعين شهرا أو أربعين ليلة ‪-‬فيبعث هللا (‪ )2‬عيسى ابن‬
‫مريم (‪ ، )3‬كأنه عروة بن مسعود الثقفي‪ ،‬فيظهر فيهلكه هللا (‪ . )4‬ثم يلبث الناس‬
‫بعده سنين سبعا ليس بين اثنين عداوة‪ ،‬ثم يرسل هللا ريحا باردة من قبل الشام‪ ،‬فال‬
‫يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إال قبضته‪ ،‬حتى لو أن (‪ )5‬أحدهم كان في‬
‫كبد جبل لدخلت عليه"‪ .‬قال‪ :‬سمعتها من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬ويبقى‬
‫شرار الناس في خفة الطير‪ ،‬وأحالم السباع‪ ،‬ال يعرفون معروفا‪ ،‬وال ينكرون‬
‫منكرا"‪ .‬قال‪" :‬فيتمثل لهم الشيطان فيقول‪ :‬أال تستجيبون؟ فيأمرهم باألوثان‬
‫فيعبدونها‪ ،‬وهم في ذلك دارة أرزاقهم‪ ،‬حسن عيشهم‪ .‬ثم ينفخ في الصور فال يسمعه‬
‫أحد إال أصغى له‪ ،‬وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه‪ ،‬فيصعق‪ ،‬ثم ال يبقى أحد إال‬
‫صعق‪ .‬ثم يرسل هللا ‪-‬أو‪ :‬ينزل هللا مطرا كأنه الطل‪-‬أو الظل شك نعمان ‪-‬فتنبت منه‬
‫أجساد الناس‪ .‬ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‪ ،‬ثم يقال‪ :‬يا أيها الناس‪،‬‬
‫ون } [الصافات‪ ،]24:‬قال‪" :‬ثم يقال‪ :‬أخرجوا‬ ‫هلموا إلى ربكم‪َ { :‬وقِفُو ُه ْم ِإنَّ ُه ْم َم ْ‬
‫سُئولُ َ‬
‫بعث النار"‪ .‬قال‪" :‬فيقال‪ :‬كم؟ فيقال‪ :‬من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (‪)6‬‬
‫فيومئذ تبعث الولدان شيبا‪ ،‬ويومئذ يكشف عن ساق"‪.‬‬
‫انفرد بإخراجه مسلم في صحيحه (‪. )7‬‬
‫وقال البخاري‪ :‬حدثنا عمر بن حفص بن غياث‪ ،‬حدثنا أبي‪ ،‬حدثنا األعمش قال‪:‬‬
‫سمعت أبا صالح قال‪ :‬سمعت أبا هريرة [رضي هللا عنه] (‪ )8‬عن النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬بين النفختين أربعون" (‪ . )9‬قالوا‪ :‬يا أبا هريرة‪ ،‬أربعون يوما؟‬

‫‪49‬‬
‫قال‪ :‬أبيت‪ ،‬قالوا‪ :‬أربعون سنة؟ قال‪ :‬أبي‪ ،‬قالوا‪ :‬أربعون شهرا؟ قال‪ :‬أبيت‪ ،‬ويبلى‬
‫ب ذنبه فيه يركب الخلق (‪. )10‬‬
‫كل شيء من اإلنسان إال َع ْج ُ‬
‫وقال أبو يعلى‪ :‬حدثنا يحيى بن معين‪ ،‬حدثنا أبو اليمان‪ ،‬حدثنا إسماعيل بن عياش‪،‬‬
‫عن عمر بن محمد‪ ،‬عن زيد بن أسلم‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن أبي هريرة [رضي هللا عنه] (‬
‫‪ ، )11‬عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬سألت جبريل‪ ،‬عليه السالم‪ ،‬عن هذه‬
‫ض ِإال َمنْ شَا َء‬
‫األر ِ‬
‫ت َو َمنْ فِي ْ‬
‫س َم َوا ِ‬
‫ق َمنْ فِي ال َّ‬ ‫الصو ِر فَ َ‬
‫ص ِع َ‬ ‫اآلية‪َ { :‬ونُفِ َخ فِي ُّ‬
‫هَّللا ُ } من الذين لم يشأ هللا أن يصعقهم؟ قال‪ :‬هم الشهداء‪ ،‬مقلدون أسيافهم حول‬
‫عرشه‪ ،‬تتلقاهم مالئكة يوم القيامة إلى المحشر بنجائب من ياقوت نمارها ألين من‬
‫الحرير‪َ ،‬م ُّد (‪ )12‬خطاها مد أبصار الرجال‪ ،‬يسيرون في الجنة يقولون عند طول‬
‫النزهة‪ :‬انطلقوا بنا إلى ربنا‪ ،‬عز وجل‪ ،‬لننظر كيف يقضي بين خلقه‪ ،‬يضحك إليهم‬
‫إلهي‪ ،‬وإذا ضحك إلى عبد في موطن فال حساب عليه"‪.‬‬

‫ين َكفَ ُروا ِإلَى َج َهنَّ َم ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َجا ُءو َها‪ x‬فُتِ َحتْ َأ ْب َوابُ َها َوقَا َل لَ ُه ْم َخ َزنَتُ َها‬ ‫ق الَّ ِذ َ‬
‫سي َ‬ ‫َو ِ‬
‫ت َربِّ ُك ْم َويُ ْن ِذ ُرونَ ُك ْم لِقَا َء يَ ْو ِم ُك ْم َه َذا قَالُوا بَلَى‬
‫ون َعلَ ْي ُك ْم َآيَا ِ‬ ‫َألَ ْم يَْأتِ ُك ْم ُر ُ‬
‫س ٌل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلُ َ‬
‫ين فِي َها‬‫اب َج َهنَّ َم َخالِ ِد َ‬‫ين (‪ )71‬قِي َل اد ُْخلُوا َأ ْب َو َ‬ ‫ب َعلَى ا ْل َكافِ ِر َ‬‫َولَ ِكنْ َحقَّتْ َكلِ َمةُ ا ْل َع َذا ِ‬
‫ين (‪)72‬‬‫ْئس َم ْث َوى ا ْل ُمتَ َكبِّ ِر َ‬‫فَبِ َ‬

‫رجاله كلهم ثقات إال شيخ إسماعيل بن عياش‪ ،‬فإنه غير معروف وهللا أعلم (‪. )1‬‬
‫ض بِنُو ِر َربِّ َها } أي‪ :‬أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق‪،‬‬
‫األر ُ‬
‫ت ْ‬ ‫وقوله‪َ { :‬وَأ ْ‬
‫ش َرقَ ِ‬
‫ض َع ا ْل ِكت ُ‬
‫َاب } قال قتادة‪ :‬كتاب األعمال‪،‬‬ ‫تبارك وتعالى‪ ،‬للخالئق لفصل القضاء‪َ { ،‬و ُو ِ‬
‫ين } قال ابن عباس‪ :‬يشهدون على األمم بأنهم بلغوهم رساالت (‪)2‬‬ ‫{ َو ِجي َء بِالنَّبِيِّ َ‬
‫ش َه َدا ِء } أي‪ :‬الشهداء من المالئكة الحفظة على أعمال العباد من‬ ‫هللا إليهم‪َ { ،‬وال ُّ‬
‫ون } قال هللا [تعالى]‬ ‫ق } أي‪ :‬بالعدل { َو ُه ْم ال يُ ْظلَ ُم َ‬ ‫خير وشر‪َ { ،‬وقُ ِ‬
‫ض َي بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل َح ِّ‬
‫ان ِم ْثقَا َل َحبَّ ٍة‬
‫ش ْيًئا َوِإنْ َك َ‬
‫س َ‬ ‫سطَ لِيَ ْو ِم ا ْلقِيَا َم ِة فَال تُ ْظلَ ُم نَ ْف ٌ‬ ‫ين ا ْلقِ ْ‬‫ض ُع ا ْل َم َوا ِز َ‬
‫(‪َ { : )3‬ونَ َ‬

‫‪50‬‬
‫ين } [األنبياء‪ ،]47:‬وقال [هللا] (‪ )4‬تعالى‪َ { :‬وِإنْ‬ ‫ِمنْ َخ ْر َد ٍل َأتَ ْينَا بِ َها َو َكفَى بِنَا َح ِ‬
‫اسبِ َ‬
‫ت ِمنْ لَ ُد ْنهُ َأ ْج ًرا َع ِظي ًما } [النساء‪ ،]40:‬ولهذا قال‪{ :‬‬ ‫ضا ِع ْف َها‪َ x‬ويُْؤ ِ‬ ‫سنَةً يُ َ‬ ‫تَ ُك َح َ‬
‫ون }‬‫س َما َع ِملَتْ } أي‪ :‬من خير أو شر { َو ُه َو َأ ْعلَ ُم بِ َما يَ ْف َعلُ َ‬ ‫َو ُوفِّيَتْ ُك ُّل نَ ْف ٍ‬
‫ين َكفَ ُروا ِإلَى َج َهنَّ َم ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َجا ُءو َها‪ x‬فُتِ َحتْ َأ ْب َوابُ َها َوقَا َل لَ ُه ْم‬ ‫ق الَّ ِذ َ‬ ‫سي َ‬ ‫{ َو ِ‬
‫ت َربِّ ُك ْم َويُ ْن ِذ ُرونَ ُك ْم لِقَا َء يَ ْو ِم ُك ْم َه َذا قَالُوا‬ ‫َخ َزنَتُ َها َألَ ْم يَْأتِ ُك ْم ُر ُ‬
‫س ٌل ِم ْن ُك ْم يَ ْتلُ َ‬
‫ون َعلَ ْي ُك ْم آيَا ِ‬
‫ين (‪ )71‬قِي َل اد ُْخلُوا َأ ْب َو َ‬
‫اب َج َهنَّ َم َخالِ ِد َ‬
‫ين‬ ‫بَلَى َولَ ِكنْ َحقَّتْ َكلِ َمةُ ا ْل َع َذا ِ‬
‫ب َعلَى ا ْل َكافِ ِر َ‬
‫ين (‪. } )72‬‬ ‫ْئس َم ْث َوى ا ْل ُمتَ َكبِّ ِر َ‬
‫فِي َها فَبِ َ‬
‫يخبر تعالى عن حال األشقياء الكفار كيف يساقون إلى النار؟ وإنما يساقون سوقا‬
‫ُّون ِإلَى نَا ِر َج َهنَّ َم َد ًّعا }‬
‫عنيفا بزجر وتهديد ووعيد‪ ،‬كما قال تعالى‪ { :‬يَ ْو َم يُ َدع َ‬
‫[الطور‪ ]13:‬أي‪ :‬يدفعون إليها دفعا‪ .‬هذا وهم عطاش ظماء‪ ،‬كما قال في اآلية‬
‫ق ا ْل ُم ْج ِر ِم َ‬
‫ين ِإلَى َج َهنَّ َم ِو ْر ًدا }‬ ‫ين ِإلَى ال َّر ْح َم ِن َو ْف ًدا َونَ ُ‬
‫سو ُ‬ ‫ش ُر ا ْل ُمتَّقِ َ‬
‫األخرى‪ { :‬يَ ْو َم نَ ْح ُ‬
‫ص ُّم وبكم وعمي‪ ،‬منهم من يمشي على وجهه‪،‬‬ ‫[مريم‪ .]85 ،86:‬وهم في تلك الحال ُ‬
‫ص ّمًا َمْأ َوا ُه ْم َج َهنَّ ُم ُكلَّ َما َخبَتْ‬
‫ش ُر ُه ْم يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة َعلَى ُو ُجو ِه ِه ْ‪x‬م ُع ْميًا َوبُ ْك ًما َو ُ‬
‫{ َونَ ْح ُ‬
‫س ِعي ًرا } [اإلسراء‪. ]97:‬‬ ‫ِز ْدنَا ُه ْم َ‬
‫وقوله‪َ { :‬حتَّى ِإ َذا َجا ُءو َها‪ x‬فُتِ َحتْ َأ ْب َوابُ َها } أي‪ :‬بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم‬
‫أبوابها سريعا‪ ،‬لتعجل لهم العقوبة‪ ،‬ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية ‪-‬الذين هم‬
‫غالظ األخالق‪ x،‬شداد القوى على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل‪َ { :-‬ألَ ْم يَْأتِ ُك ْم ُر ُ‬
‫س ٌل‬
‫ون َعلَ ْي ُك ْم آيَا ِ‬
‫ت‬ ‫ِم ْن ُك ْم } أي‪ :‬من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم واألخذ عنهم‪ { ،‬يَ ْتلُ َ‬
‫َربِّ ُك ْم } أي‪ :‬يقيمون عليكم الحجج والبراهين (‪ )5‬على صحة ما دعوكم إليه‪{ ،‬‬
‫َويُ ْن ِذ ُرونَ ُك ْم لِقَا َء يَ ْو ِم ُك ْم َه َذا } أي‪ :‬ويحذرونكم من شر هذا اليوم؟ فيقول الكفار لهم‪:‬‬
‫{ بَلَى } أي‪ :‬قد جاءونا وأنذرونا‪ ،‬وأقاموا علينا الحجج والبراهين‪َ { ،‬ولَ ِكنْ َحقَّتْ‬
‫َكلِ َمةُ ا ْل َع َذا ِ‬
‫ب َعلَى ا ْل َكافِ ِر َ‬
‫ين }‬

‫‪51‬‬
‫ين اتَّقَ ْوا َربَّ ُه ْم ِإلَى ا ْل َجنَّ ِة ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َجا ُءو َها‪َ x‬وفُتِ َحتْ َأ ْب َوابُ َها َوقَا َل لَ ُه ْم‬ ‫ق الَّ ِذ َ‬‫سي َ‬ ‫َو ِ‬
‫ص َدقَنَا َو ْع َدهُ‬ ‫ين (‪َ )73‬وقَالُوا ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َ‬ ‫ساَل ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم فَاد ُْخلُو َها‪َ x‬خالِ ِد َ‬
‫َخ َزنَتُ َها َ‬
‫ين (‪)74‬‬ ‫ث نَشَا ُء فَنِ ْع َم َأ ْج ُر ا ْل َعا ِملِ َ‬ ‫ض نَتَبَ َّوُأ ِم َن ا ْل َجنَّ ِة َح ْي ُ‬‫َوَأ ْو َرثَنَا اَأْل ْر َ‬

‫ش ْقوة التي كنا نستحقها حيث‬ ‫أي‪ :‬ولكن كذبناهم وخالفناهم‪ x،‬لما سبق إلينا (‪ )1‬من ال َ‬
‫َع َد ْلنا عن الحق إلى الباطل‪ ،‬كما قال تعالى مخبرا عنهم في اآلية األخرى‪ُ { :‬كلَّ َما‬
‫سَألَ ُه ْم َخ َزنَتُ َها َألَ ْم يَْأتِ ُك ْم نَ ِذي ٌر قَالُوا بَلَى قَ ْد َجا َءنَا نَ ِذي ٌر فَ َك َّذ ْبنَا َوقُ ْلنَا َما‬
‫ُأ ْلقِ َي فِي َها فَ ْو ٌج َ‬
‫س َم ُع َأ ْو نَ ْعقِ ُل َما ُكنَّا فِي‬ ‫الل َكبِي ٍر َوقَالُوا لَ ْو ُكنَّا نَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫َي ٍء ِإنْ َأ ْنتُ ْم ِإال فِي َ‬ ‫نز َل هَّللا ُ ِمنْ ش ْ‬
‫س ِعي ِر } [الملك‪ ،]10-8:‬أي‪ :‬رجعوا على أنفسهم بالمالمة والندامة {‬ ‫ب ال َّ‬‫ص َحا ِ‬ ‫َأ ْ‬
‫س ِعي ِر } [الملك‪ ]11:‬أي‪ :‬بعدا لهم وخسارا ‪.‬‬ ‫ب ال َّ‬ ‫س ْحقًا ْ‬
‫ألص َحا ِ‬ ‫فَا ْعت ََرفُوا بِ َذ ْنبِ ِه ْم فَ ُ‬
‫اب َج َهنَّ َم َخالِ ِد َ‬
‫ين فِي َها } أي‪ :‬كل من رآهم وعلم حالهم‬ ‫وقوله هاهنا‪ { :‬قِي َل اد ُْخلُوا َأ ْب َو َ‬
‫يشهد (‪ )2‬عليهم بأنهم مستحقون للعذاب؛ ولهذا لم يسند هذا القول (‪ )3‬إلى قائل‬
‫معين‪ ،‬بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم مستحقون‪ x‬ما هم فيه بما‬
‫حكم العدل الخبير عليهم به؛ ولهذا قال جل وعال { قِي َل اد ُْخلُوا َأ ْب َو َ‬
‫اب َج َهنَّ َم َخالِ ِد َ‬
‫ين‬
‫ْئس َم ْث َوى‬ ‫فِي َها } أي‪ :‬ماكثين فيها ال خروج لكم منها‪ ،‬وال زوال لكم عنها‪ { ،‬فَبِ َ‬
‫ا ْل ُمتَ َكبِّ ِر َ‬
‫ين } أي‪ :‬فبئس المصير وبئس المقيل لكم‪ ،‬بسبب تكبركم في الدنيا‪ ،‬وإبائكم‬
‫عن اتباع الحق‪ ،‬فهو الذي صيركم إلى ما أنتم فيه‪ ،‬فبئس الحال وبئس المآل ‪.‬‬
‫ين اتَّقَ ْوا َربَّ ُه ْم ِإلَى ا ْل َجنَّ ِة ُز َم ًرا َحتَّى ِإ َذا َجا ُءو َها‪َ x‬وفُتِ َحتْ َأ ْب َوابُ َها َوقَا َل لَ ُه ْم‬ ‫ق الَّ ِذ َ‬
‫سي َ‬‫{ َو ِ‬
‫ص َدقَنَا َو ْع َدهُ‬
‫ين (‪َ )73‬وقَالُوا ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َ‬ ‫سال ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم فَاد ُْخلُو َها‪َ x‬خالِ ِد َ‬ ‫َخ َزنَتُ َها َ‬
‫ين (‪. } )74‬‬ ‫ث نَشَا ُء فَنِ ْع َم َأ ْج ُر ا ْل َعا ِملِ َ‬ ‫ض نَتَبَ َّوُأ ِم َن ا ْل َجنَّ ِة َح ْي ُ‬ ‫َوَأ ْو َرثَنَا ْ‬
‫األر َ‬
‫وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين حين يساقون على النجائب وفدا إلى الجنة {‬
‫ُز َم ًرا } أي‪ :‬جماعة بعد جماعة‪ :‬المقربون‪ ،‬ثم األبرار‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين‬
‫يلونهم كل طائفة مع من يناسبهم‪ :‬األنبياء مع األنبياء والصديقون مع أشكالهم‪،‬‬
‫والشهداء مع أضرابهم‪ ،‬والعلماء مع أقرانهم‪ ،‬وكل صنف مع صنف‪ ،‬كل زمرة‬
‫‪52‬‬
‫تناسب بعضها بعضا‪.‬‬
‫{ َحتَّى ِإ َذا َجا ُءو َها‪ } x‬أي‪ :‬وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط حبسوا على‬
‫قنطرة بين الجنة والنار‪ ،‬فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا‪ ،‬حتى إذا ه ُِّذبُوا‬
‫ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة‪ ،‬وقد ورد في حديث الصور أن المؤمنين إذا انتهوا‬
‫إلى أبواب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم بالدخول‪ ،‬فيقصدون‪ ،‬آدم‪ ،‬ثم نوحا‪ ،‬ثم‬
‫إبراهيم‪ ،‬ثم موسى‪ ،‬ثم عيسى‪ ،‬ثم محمدا‪ ،‬صلوات هللا وسالمه عليهم أجمعين‪ ،‬كما‬
‫فعلوا في العرصات (‪ )4‬عند استشفاعهم إلى هللا‪ ،‬عز وجل‪ ،‬أن يأتي لفصل القضاء‪،‬‬
‫ليظهر شرف محمد صلى هللا عليه وسلم على سائر البشر في المواطن كلها‪.‬‬
‫وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬أنا أول شفيع في الجنة" وفي لفظ لمسلم‪" :‬وأنا أول من يقرع باب‬
‫الجنة"‪. )5( .‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا هاشم‪ ،‬حدثنا سليمان‪ ،‬عن ثابت‪ ،‬عن أنس بن مالك‪ ،‬رضي‬
‫هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬آتي باب الجنة يوم القيامة‬
‫فأستفتح‪ ،‬فيقول الخازن‪ :‬من أنت؟ فأقول‪ :‬محمد‪ .‬قال‪ :‬يقول‪ :‬بك ُأ ِم ْرتُ أال أفتح ألحد‬
‫قبلك"‪.‬‬
‫ورواه مسلم عن عمرو (‪ )1‬الناقد وزهير بن حرب‪ ،‬كالهما عن أبي النضر هاشم بن‬
‫القاسم‪ ،‬عن سليمان ‪-‬وهو ابن المغيرة القيسي‪-‬عن ثابت‪ ،‬عن أنس‪ ،‬به (‪. )2‬‬
‫وقال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا عبد الرزاق حدثنا َم ْع َمر عن همام بن منبه‪ ،‬عن أبي هريرة‬
‫(‪ )3‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬أول زمرة تلج (‪ )4‬الجنة صورهم‬
‫على صورة القمر ليلة البدر‪ ،‬ال يبصقون فيها‪ ،‬وال يمتخطون فيها‪ ،‬وال يتغوطون‬
‫فيها‪ .‬آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة‪ ،‬ومجامرهم األلوة (‪ ، )5‬ورشحهم المسك‪،‬‬
‫ولكل واحد منهم زوجتان‪ ،‬يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن‪ .‬ال اختالف‬
‫بينهم وال تباغض‪ ،‬قلوبهم على قلب واحد (‪ )6‬يسبحون هللا بكرة وعشيا"‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫رواه البخاري عن محمد بن مقاتل‪ ،‬عن ابن المبارك‪ .‬ورواه مسلم‪ ،‬عن محمد بن‬
‫رافع‪ ،‬عن عبد الرزاق‪ ،‬كالهما عن معمر بإسناده نحوه (‪ . )7‬وكذا رواه أبو الزناد‪،‬‬
‫عن األعرج‪ ،‬عن أبي هريرة [رضي هللا عنه] (‪ ، )8‬عن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم (‪. )9‬‬
‫وقال الحافظ أبو يعلى‪ :‬حدثنا أبو َخ ْيثَمة‪ ،‬حدثنا جرير‪ ،‬عن عمارة بن القعقاع‪ x،‬عن‬
‫أبي ُز ْر َعة‪ ،‬عن أبي هريرة [رضي هللا عنه] (‪ )10‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬أول ُز ْم َرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر‪ ،‬والذين يلونهم‬
‫على ضوء أش ُّد كوكب د ُِّري في السماء إضاءة‪ ،‬ال يبولون وال يتغوطون وال ي ْتفلون‪x‬‬
‫وال يمتخطون‪ x،‬أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك‪ ،‬ومجامرهم األلوة‪ ،‬وأزواجهم‬
‫الحور العين‪ ،‬أخالقهم على خلق رجل واحد‪ ،‬على صورة أبيهم آدم‪ ،‬ستون ذراعا‬
‫في السماء" (‪. )11‬‬
‫وأخرجاه أيضا من حديث جرير (‪. )12‬‬
‫وقال الزهري‪ ،‬عن سعيد‪ ،‬عن أبي هريرة‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬عن رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم قال‪" :‬يدخل الجنة من أمتي ُز ْم َرة‪ ،‬هم سبعون ألفا‪ ،‬تضيء وجوههم‬
‫إضاءة القمر ليلة البدر"‪ .‬فقام ُع َّكاشة بن ِم ْح َ‬
‫صن فقال‪ :‬يا رسول هللا ادع هللا‪ ،‬أن‬
‫يجعلني منهم‪ :‬فقال‪" :‬اللهم اجعله منهم"‪ .‬ثم قام رجل من األنصار فقال‪ :‬يا رسول‬
‫هللا‪ ،‬ادع هللا أن يجعلني منهم‪ .‬فقال صلى هللا عليه وسلم‪" :‬سبقك بها ُع َّكاشة"‪.‬‬
‫أخرجاه (‪ )14( )13‬وقد روى هذا الحديث ‪-‬في السبعين ألفا يدخلون الجنة بغير‬
‫حساب‪-‬البخاري ومسلم‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬وجابر بن عبد هللا‪ ،‬وعمران بن حصين‪،‬‬
‫وابن مسعود‪ ،‬ورفاعة بن عرابة الجهني‪ ،‬وأم قيس بنت محصن‪.‬‬
‫ولهما عن أبي حازم‪ ،‬عن سهل بن سعد‪ ،‬أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪:‬‬
‫آخذ بعضهم ببعض‪ ،‬حتى‬ ‫"ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا ‪-‬أو‪ :‬سبعمائة ألف‪ٌ -‬‬
‫يدخل أولهم وآخرهم الجنة‪ ،‬وجوههم‪ x‬على صورة القمر ليلة البدر"‪. )1( .‬‬

‫‪54‬‬
‫وقال (‪ )2‬أبو بكر بن أبي شيبة‪ :‬حدثنا إسماعيل بن عياش‪ ،‬عن محمد بن زياد قال‪:‬‬
‫سمعت أبا أمامة (‪ )3‬الباهلي يقول‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول‪:‬‬
‫وعدني ربي‪ ،‬عز وجل‪ ،‬أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا‪ ،‬مع كل ألف سبعون‬
‫ألفا‪ ،‬وال حساب عليهم وال عذاب‪ ،‬وثالث َحثَيَات من حثيات ربي عز وجل" (‪. )4‬‬
‫وكذا رواه الوليد بن مسلم‪ ،‬عن صفوان بن عمرو‪ ،‬عن سليم بن عامر [و] (‪ )5‬أبي‬
‫لح ّي (‪ )6‬عن أبي أمامة [رضي هللا عنه] (‪. )8( )7‬‬
‫اليمان عامر بن عبد هللا بن ُ‬
‫سلمي‪" :‬ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفا" (‪. )9‬‬
‫ورواه الطبراني‪ ،‬عن عتبة بن َع ْب ٍد ال ُّ‬
‫وروى مثله‪ ،‬عن ثوبان وأبي سعيد األنماري‪ ،‬وله شواهد من وجوه كثيرة‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬حتَّى ِإ َذا َجا ُءو َها‪َ x‬وفُتِ َحتْ َأ ْب َوابُ َها َوقَا َل لَ ُه ْم َخ َزنَتُ َها َ‬
‫سال ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم‬
‫ين } لم يذكر الجواب هاهنا‪ ،‬وتقديره‪ :‬حتى إذا جاءوها‪ ،‬وكانت هذه‬ ‫فَاد ُْخلُو َها‪َ x‬خالِ ِد َ‬
‫األمور من فتح األبواب لهم إكراما وتعظيما‪ ،‬وتلقتهم المالئكة الخزنة بالبشارة‬
‫والسالم والثناء‪ ،‬ال كما تلقى الزبانية الكفرة بالتثريب (‪ )10‬والتأنيب‪ ،‬فتقديره‪ :‬إذا‬
‫س ّروا وفرحوا‪ ،‬بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم‪ .‬وإذا حذف‬
‫س ِعدوا وطابوا‪ ،‬و ُ‬
‫كان هذا َ‬
‫الجواب هاهنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء واألمل‪.‬‬
‫ومن زعم أن "الواو" في قوله‪َ { :‬وفُتِ َحتْ َأ ْب َوابُ َها } واو الثمانية‪ ،‬واستدل به على أن‬
‫أبواب الجنة ثمانية‪ ،‬فقد أبعد النّ ْج َعة وأغرق في النزع‪ .‬وإنما يستفاد كون أبواب‬
‫الجنة ثمانية من األحاديث الصحيحة‪.‬‬
‫قال اإلمام أحمد‪ :‬حدثنا عبد الرزاق‪ :‬أخبرنا معمر‪ ،‬عن الزهري عن حميد بن عبد‬
‫الرحمن (‪ ، )11‬عن أبي هريرة (‪ )12‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬من‬
‫أنفق زوجين من ماله في سبيل هللا‪ ،‬دعي من أبواب الجنة‪ ،‬وللجنة أبواب (‪، )13‬‬
‫فمن كان من أهل الصالة ُد ِعي من باب الصالة‪ ،‬ومن كان من أهل الصدقة دعي من‬
‫باب الصدقة‪ ،‬ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد‪ ،‬ومن كان من أهل‬
‫الصيام دعي من باب الريان" فقال أبو بكر‪ ،‬رضي هللا تعالى عنه‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬ما‬

‫‪55‬‬
‫على أحد من ضرورة دُعي‪ ،‬من أيها (‪ )1‬دعي‪ ،‬فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول‬
‫هللا؟ قال‪" :‬نعم‪ ،‬وأرجو أن تكون منهم"‪.‬‬
‫ورواه البخاري ومسلم‪ ،‬من حديث الزهري‪ ،‬بنحوه (‪. )2‬‬
‫وفيهما من حديث أبي حازم سلمة بن دينار (‪ ، )3‬عن سهل بن سعد أن رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن في الجنة ثمانية أبواب‪ ،‬باب منها يسمى الريان‪ ،‬ال‬
‫يدخله إال الصائمون" (‪. )4‬‬
‫وفي صحيح مسلم‪ ،‬عن عمر بن الخطاب‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪" :‬ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ ‪-‬أو‪ :‬فيسبغ الوضوء‪-‬ثم يقول‪ :‬أشهد‬
‫أن ال إله إال هللا‪ ،‬وأن محمدا عبده ورسوله‪ ،‬إال فتحت له أبواب الجنة الثمانية‪ ،‬يدخل‬
‫من أيها شاء"‪. )5( .‬‬
‫وقال (‪ )6‬الحسن بن عرفة‪ :‬حدثنا إسماعيل بن عياش‪ ،‬عن عبد هللا بن عبد الرحمن‬
‫ش ْهر بن َح ْوشَب‪ ،‬عن معاذ‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬قال رسول هللا‬
‫سين‪ ،‬عن َ‬
‫بن أبي ُح َ‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬مفتاح الجنة‪ :‬ال إله إال هللا" (‪. )7‬‬
‫ذكر سعة أبواب الجنة ‪-‬نسأل هللا العظيم من فضله أن يجعلنا من أهلها‪:-‬‬
‫في الصحيحين من حديث أبي ُز ْر َعة‪ ،‬عن أبي هريرة [رضي هللا عنه] (‪ )8‬في‬
‫حديث الشفاعة الطويل‪" :‬فيقول هللا (‪ )9‬يا محمد‪ ،‬أدخل من ال حساب عليه (‪. )10‬‬
‫من أمتك من الباب األيمن‪ ،‬وهم شركاء الناس في األبواب األخر‪ .‬والذي نفس محمد‬
‫بيده‪ ،‬إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ‪-‬ما بين عضادتي الباب‪-‬لكما بين‬
‫مكة وهجر‪-‬أو هجر ومكة"‪ .‬وفي رواية‪" :‬مكة وبصرى" (‪. )11‬‬
‫وفي صحيح مسلم‪ ،‬عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها‪" :‬ولقد ذكر لنا‬
‫أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة‪ ،‬مسيرة أربعين سنة‪ ،‬وليأتين عليه يوم‬
‫وهو كظيظ من الزحام" (‪. )12‬‬
‫وفي المسند عن حكيم بن معاوية‪ ،‬عن أبيه‪ ،‬عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫مثله (‪. )13‬‬
‫وقال عبد بن حميد‪ :‬حدثنا الحسن بن موسى‪ ،‬حدثنا ابن لهيعة‪ ،‬حدثنا َد َّراج‪ ،‬عن‬
‫أبي الهيثم‪ ،‬عن أبي سعيد‪ ،‬عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪" :‬إن ما بين‬
‫مصراعين في الجنة مسيرة أربعين سنة" (‪. )14‬‬
‫وقوله‪َ { :‬وقَا َل لَ ُه ْم َخ َزنَتُ َها َ‬
‫سال ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم } أي‪ :‬طابت أعمالكم وأقوالكم‪ ،‬وطاب‬
‫سعيكم فطاب جزاؤكم‪ ،‬كما أمر رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أن ينادى بين‬
‫المسلمين في بعض الغزوات‪" :‬إن الجنة ال يدخلها إال نفس مسلمة" وفي رواية‪:‬‬
‫"مؤمنة"‪. )15( .‬‬

‫ين } أي‪ :‬ماكثين فيها أبدا‪ ،‬ال يبغون عنها حوال‪.‬‬ ‫وقوله‪ { :‬فَاد ُْخلُو َها‪َ x‬خالِ ِد َ‬
‫ص َدقَنَا َو ْع َدهُ } أي‪ :‬يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك‬
‫{ َوقَالُوا ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َ‬
‫الثواب الوافر‪ ،‬والعطاء العظيم‪ ،‬والنعيم المقيم‪ ،‬والملك الكبير‪ ،‬يقولون عند ذلك‪{ :‬‬
‫ص َدقَنَا َو ْع َدهُ } أي‪ :‬الذي كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام‪ ،‬كما‬
‫ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َ‬
‫سلِكَ َوال تُ ْخ ِزنَا يَ ْو َم ا ْلقِيَا َم ِة ِإنَّ َك ال‬ ‫دعوا في الدنيا‪َ { :‬ربَّنَا َوآتِنَا َما َو َع ْدتَنَا َعلَى ُر ُ‬
‫تُ ْخلِفُ ا ْل ِمي َعا َد } [آل عمران‪َ { ،]194 :‬وقَالُوا ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َه َدانَا لِ َه َذا َو َما ُكنَّا‬
‫ق } [األعراف‪َ { ، ]43:‬وقَالُوا‬ ‫ي لَ ْوال َأنْ َه َدانَا هَّللا ُ لَقَ ْد َجا َءتْ ُر ُ‬
‫س ُل َربِّنَا بِا ْل َح ِّ‬ ‫لِنَ ْهتَ ِد َ‬
‫ش ُكو ٌر الَّ ِذي َأ َحلَّنَا َدا َر ا ْل ُمقَا َم ِة ِمنْ‬ ‫ب َعنَّا ا ْل َح َز َن ِإنَّ َربَّنَا لَ َغفُو ٌر َ‬ ‫ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َأ ْذ َه َ‬
‫وب } [فاطر‪. ]34 ،35:‬‬ ‫سنَا فِي َها لُ ُغ ٌ‬ ‫ب َوال يَ َم ُّ‬ ‫سنَا فِي َها نَ َ‬
‫ص ٌ‬ ‫فَ ْ‬
‫ضلِ ِه ال يَ َم ُّ‬
‫ين } قال أبو‬ ‫ض نَتَبَ َّوُأ ِم َن ا ْل َجنَّ ِة َح ْي ُ‬
‫ث نَشَا ُء فَنِ ْع َم َأ ْج ُر ا ْل َعا ِملِ َ‬ ‫وقولهم‪َ { :‬وَأ ْو َرثَنَا ْ‬
‫األر َ‬
‫العالية‪ ،‬وأبو صالح‪ ،‬وقتادة‪ ،‬والسدي‪ ،‬وابن زيد (‪ : )1‬أي أرض الجنة‪.‬‬
‫ض يَ ِرثُ َها ِعبَا ِد َ‬
‫ي‬ ‫األر َ‬‫الذ ْك ِر َأنَّ ْ‬ ‫وهذه اآلية كقوله‪َ { :‬ولَقَ ْد َكتَ ْبنَا فِي ال َّزبُو ِر ِمنْ بَ ْع ِد ِّ‬
‫ث نَشَا ُء } أي‪ :‬أين (‬ ‫ون } [األنبياء‪ ،]105:‬ولهذا قالوا‪ { :‬نَتَبَ َّوُأ ِم َن ا ْل َجنَّ ِة َح ْي ُ‬ ‫صالِ ُح َ‬
‫ال َّ‬
‫‪ )2‬شئنا حللنا‪ ،‬فنعم األجر أجرنا على عملنا‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫وفي الصحيحين من حديث الزهري‪ ،‬عن أنس في قصة المعراج قال النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪" :‬أدخلت الجنة‪ ،‬فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ‪ ،‬وإذا ترابها المسك" (‪. )3‬‬
‫وقال عبد بن حميد‪ :‬حدثنا روح بن عبادة‪ ،‬حدثنا حماد بن سلمة‪ ،‬حدثنا الجريري‪،‬‬
‫عن أبي نضرة‪ ،‬عن أبي سعيد [رضي هللا عنه] (‪ )4‬أن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫سك خالص‪ :‬فقال رسول‬
‫وسلم سأل ابن صائد عن تربة الجنة؟ فقال‪َ :‬د ْر َمكة بيضا ُء ِم ْ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬صدق"‪.‬‬
‫وكذا رواه مسلم‪ ،‬من حديث أبي مسلمة (‪ ، )5‬عن أبي نضرة‪ ،‬عن أبي سعيد‪ ،‬به (‬
‫‪. )6‬‬
‫الج َر ْي ِري‪،‬‬
‫ورواه مسلم [أيضا] (‪ )7‬عن أبي بكر بن أبي شيبة‪ ،‬عن أبي أسامة‪ ،‬عن ُ‬
‫عن أبي نضرة‪ ،‬عن أبي سعيد؛ أن ابن صائد (‪ )8‬سأل رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم عن تربة الجنة‪ ،‬فقال‪َ " :‬د ْرمكة بيضاء مسك خالص" (‪. )9‬‬
‫وقول ابن أبي حاتم‪ :‬حدثنا أبي‪ ،‬حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل‪ x،‬حدثنا إسرائيل‪،‬‬
‫عن أبي إسحاق‪ ،‬عن عاصم بن ضمرة (‪ ، )10‬عن علي بن أبي طالب‪ ،‬رضي هللا‬
‫ين اتَّقَ ْوا َربَّ ُه ْم ِإلَى ا ْل َجنَّ ِة ُز َم ًرا } ‪ ،‬قال‪ :‬سيقوا حتى‬
‫ق الَّ ِذ َ‬
‫سي َ‬
‫عنه‪ ،‬في قوله تعالى‪َ { :‬و ِ‬
‫انتهوا إلى باب من أبواب الجنة‪ ،‬فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها‬
‫عينان‪ ،‬فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها‪ ،‬فجرت عليهم نضرة النعيم‪ ،‬فلم تُ َغير‬
‫أبشارهم بعدها أبدا‪ ،‬ولم تُ ْ‬
‫ش َعث أشعارهم أبدا بعدها‪ ،‬كأنما دهنوا بالدهان‪ ،‬ثم عمدوا‬
‫إلى األخرى كأنما أمروا بها‪ ،‬فشربوا منها‪ ،‬فأذهبت ما كان في بطونهم من أذى أو‬
‫سال ٌم َعلَ ْي ُك ْم ِط ْبتُ ْم فَاد ُْخلُو َها‬
‫قذى‪ ،‬وتلقتهم المالئكة على أبواب (‪ )1‬الجنة‪َ { :‬‬
‫ين } ‪ .‬ويلقى كل غلمان صاحبهم يطيفُون به‪ ،‬فعل (‪ )2‬الولدان بالحميم جاء من‬ ‫َخالِ ِد َ‬
‫الغيبة‪َ :‬أ ْب ِ‬
‫شر‪ ،‬قد أ َعد هللا لك من الكرامة كذا وكذا‪ ،‬قد أعد هللا لك من الكرامة كذا‬
‫وكذا‪ .‬وقال‪ :‬وينطلق غالم من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين‪ ،‬فيقول‪ :‬هذا فالن‬
‫‪-‬باسمه في الدنيا‪-‬فيقلن‪ :‬أنت رأيته؟ فيقول‪ :‬نعم‪ .‬فيستخفهن‪ x‬الفرح حتى تخرج إلى‬

‫‪58‬‬
‫َأس ُكفَّة (‪ )3‬الباب‪ .‬قال‪ :‬فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة‪ ،‬وأكواب موضوعة‪،‬‬
‫وزرابي مبثوثة‪ .‬قال‪ :‬ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه (‪ ، )4‬فإذا هو قد أسس على جندل‬
‫اللؤلؤ‪ ،‬بين أحمر وأخضر وأصفر [وأبيض] (‪ ، )5‬ومن كل لون‪ .‬ثم يرفع طرفه إلى‬
‫سقفه‪ ،‬فلوال أن هللا قدره له‪ ،‬ألل َّم أن يذهب ببصره‪ ،‬إنه لمثل البرق‪ .‬ثم ينظر إلى‬
‫أزواجه من الحور العين‪ ،‬ثم يتكئ على أريكة من أرائكه‪ ،‬ثم يقول‪ { :‬ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي‬
‫ي لَ ْوال َأنْ َه َدانَا هَّللا ُ } [األعراف‪ ]43:‬اآلية‪.‬‬
‫َه َدانَا لِ َه َذا َو َما ُكنَّا لِنَ ْهتَ ِد َ‬
‫ثم قال‪ :‬حدثنا‪ ،‬أبي حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النّ ْه ِدي‪ ،‬حدثنا مسلمة (‪ )6‬بن‬
‫جعفر البجلي قال‪ :‬سمعت أبا معاذ البصري يقول‪ :‬إن عليا‪ ،‬رضي هللا عنه‪ ،‬كان ذات‬
‫يوم عند رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال النبي (‪ )7‬صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫ستَقبلون ‪-‬أو‪ :‬يُْؤ تون‪-‬بنوق لها‬
‫"والذي نفسي‪ ،‬بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يُ ْ‬
‫أجنحة‪ ،‬وعليها رحال الذهب‪ ،‬شراك نعالهم نور يتألأل كل خطوة منها مد البصر‪،‬‬
‫فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان‪ ،‬فيشربون من إحداهما فيُ ْغ َ‬
‫سل ما في‬
‫بطونهم من دنس‪ ،‬ويغتسلون من األخرى‪ ،‬فال تشعث أبشارهم وال أشعارهم بعدها‬
‫أبدا‪ ،‬وتجري عليهم نضرة النعيم‪ ،‬فينتهون ‪-‬أو‪ :‬فيأتون‪-‬باب الجنة‪ ،‬فإذا حلقة من‬
‫ياقوتة حمراء على صفائح الذهب‪ ،‬فيضربون بالحلقة على الصفيحة (‪ ، )8‬فيسمع (‬
‫‪ )9‬لها طنين يا علي‪ ،‬فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل‪ ،‬فتبعث قَيّمها فيفتح له‪،‬‬
‫فإذا رآه َخ ّر له ‪-‬قال مسلمة‪ :‬أراه قال‪ :‬ساج ًدا (‪- )10‬فيقول‪ :‬ارفع رأسك‪ ،‬فإنما أنا‬
‫قَيمك‪ُ ،‬و ِّك ْلتُ بأمرك‪ .‬فيتبعه ويقفو أثره‪ ،‬فتستخف الحوراء العجلة‪ ،‬فتخرج من خيام‬
‫الدر والياقوت حتى تعتنقه‪ ،‬ثم تقول‪ :‬أنت حبي‪ ،‬وأنا حبك‪ ،‬وأنا الخالدة التي ال‬
‫أموت‪ ،‬وأنا الناعمة التي ال أبأس‪ ،‬وأنا الراضية التي ال أسخط‪ ،‬وأنا المقيمة التي ال‬
‫سه إلى سقفه مائة ألف ذراع‪ ،‬بناؤه على جندل اللؤلؤ‪،‬‬
‫أظعن"‪ .‬فيدخل بيتًا من أ ّ‬
‫طرائق أصفر وأخضر وأحمر‪ ،‬ليس فيها (‪ )11‬طريقة تشاكل صاحبتها‪ ،‬في البيت‬
‫شيَة‪ ،‬على كل حشية سبعون زوجة‪ ،‬على‬
‫سبعون سريرا‪ ،‬على كل سرير سبعون َح ْ‬

‫‪59‬‬
‫الحلَل‪ ،‬يقضي جماعها في مقدار‬
‫كل زوجة سبعون حلة‪ ،‬يرى ُم ّخ ساقها من باطن ُ‬
‫ليلة من لياليكم هذه‪ .‬األنهار من تحتهم تَطّرد‪ ،‬أنهار من ماء غير آسن ‪-‬قال‪ :‬صاف‪،‬‬
‫ال كدر فيه‪-‬وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ‪-‬قال‪ :‬لم يخرج من ضروع الماشية‪-‬‬
‫وأنهار من خمر لذة للشاربين ‪-‬قال‪ :‬لم تعصرها الرجال بأقدامهم ‪-‬وأنهار من عسل‬
‫مصفى‪-‬قال‪ :‬لم يخرج من بطون النحل‪ .‬يستجني الثمار‪ ،‬فإن شاء قائما‪ ،‬وإن شاء‬
‫قاعدا‪ ،‬وإن شاء متكئا ‪-‬ثم تال { َو َدانِيَةً َعلَ ْي ِه ْم ِظاللُ َها َو ُذلِّلَتْ قُطُوفُ َها ت َْذلِيال }‬
‫[اإلنسان‪- ]14:‬فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض‪-‬قال‪ :‬وربما قال‪ :‬أخضر‪ .‬قال‪- :‬‬
‫فترفع أجنحتها‪ ،‬فيأكل من جنوبها‪ ،‬أي األلوان شاء‪ ،‬ثم يطير فيذهب (‪ ، )1‬فيدخل‬
‫الملك فيقول‪ :‬سالم عليكم‪ ،‬تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون‪ .‬ولو أن شعرة من‬
‫شعر (‪ )2‬الحوراء وقعت ألهل األرض‪ ،‬ألضاءت الشمس معها سوا ًدا في نور" ‪.‬‬
‫هذا حديث غريب‪ ،‬وكأنه مرسل‪ ،‬وهللا أعلم ‪.‬‬

‫ق‬ ‫ون بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوقُ ِ‬


‫ض َي بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل َح ِّ‬ ‫سبِّ ُح َ‬ ‫ين ِمنْ َح ْو ِل ا ْل َع ْر ِ‬
‫ش يُ َ‬ ‫َوت ََرى ا ْل َماَل ِئ َكةَ َحافِّ َ‬
‫ين (‪)75‬‬ ‫َوقِي َل ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ َر ِّب ا ْل َعالَ ِم َ‬

‫ق‬ ‫ون بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم َوقُ ِ‬


‫ض َي بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل َح ِّ‬ ‫سبِّ ُح َ‬ ‫ين ِمنْ َح ْو ِل ا ْل َع ْر ِ‬
‫ش يُ َ‬ ‫{ َوت ََرى ا ْل َمالِئ َكةَ َحافِّ َ‬
‫ين (‪} )75‬‬ ‫َوقِي َل ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ َر ِّب ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار‪ ،‬وأنه نزل ُكال في المحل الذي يليق به‬
‫ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي ال يجور ‪-‬أخبر عن مالئكته أنهم محدقون من‬
‫حول عرشه المجيد‪ ،‬يسبحون بحمد ربهم‪ ،‬ويمجدونه (‪ )1‬ويعظمونه ويقدسونه‬
‫وينزهونه عن النقائص والجور‪ ،‬وقد فصل القضية‪ ،‬وقضى األمر‪ ،‬وحكم بالعدل؛‬
‫ق}‬ ‫ولهذا قال‪َ { :‬وقُ ِ‬
‫ض َي بَ ْينَ ُه ْم } أي‪ :‬بين الخالئق { بِا ْل َح ِّ‬
‫ثم قال‪َ { :‬وقِي َل ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ َر ِّب ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫ين } أي‪ :‬ونطق الكون أجمعه (‪- )2‬ناطقه‬
‫وبهيمه‪-‬هلل رب العالمين‪ ،‬بالحمد في حكمه وعدله؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل‬

‫‪60‬‬
‫ش ِه َدت له بالحمد‪.‬‬ ‫أطلقه‪ ،‬فدل على أن جميع المخلوقات َ‬
‫ض}‬
‫األر َ‬
‫ت َو ْ‬ ‫س َم َوا ِ‬ ‫ق ال َّ‬ ‫قال قتادة‪ :‬افتتح الخلق بالحمد في قوله‪ { :‬ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ق َوقِي َل ا ْل َح ْم ُد هَّلِل ِ َر ِّب‬ ‫ض َي بَ ْينَ ُه ْم بِا ْل َح ِّ‬‫[األنعام‪ ]1:‬واختتم بالحمد في قوله‪َ { :‬وقُ ِ‬
‫ا ْل َعالَ ِم َ‬
‫ين }‬
‫آخر تفسير سورة الزمر وهلل الحمد (‪[ )3‬أوال وآخ ًرا ظاه ًرا وباطنًا] (‪.)4‬‬

‫‪61‬‬

You might also like