(الاستشراق في الجزائر بين الأطروحات والوسائل) -دراسة نقدية لبعض الأعمال الاستشراقية الفرنسية

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 12

‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫(االستشراق في الجزائربين األطروحات والوسائل)‬

‫‪-‬دراسة نقدية لبعض األعمال االستشر اقية الفرنسية‪-‬‬

‫د‪ /‬جغلولي يوسف‪ ،‬جامعة املسيلة‬

‫د‪ /‬تالي جمال‪ ،‬جامعة جيجل‬

‫ملخص‪:‬‬

‫تضمنت الحملة الفرنسية‬‫لقد ارتبط االستشراق وخاصة األعمال الفرنسية منه في الجزائر بدعم الجهود االستعمارية‪ ،‬حيث ّ‬
‫ّ‬
‫على الجزائر عددا من املترجمين والكتاب والفنانين املهتمين بحياة الشرق‪ ،‬كما مثل انعقاد مؤتمر املستشرقين الرابع عشر في الجزائر‬
‫عام ‪ 1905‬االنطالقة الحقيقية لالستشراق في الجزائر‪.‬‬

‫وعملت اإلدارة الفرنسية بخبرائها وفنانيها ومترجميها إلى معرفة الحياة العربية اإلسالمية بمختلف نواحيها في املجتمع الجزائري‪ ،‬وقام‬
‫املستشرقون بأعمال كثيرة في املجال الديني واللغوي واآلثار والعادات والتاريخ‪ ،‬وترجمة النصوص الدينية‪ ،‬ودراسة العربية والبربرية‬
‫بمختلف لهجاتها‪ ،‬وتاريخ الجزائر واملغرب العربي عموما‪ ،‬والفلكلور‪ ،‬واهتموا باإلسالم كدين وعقيدة وكتصوف وطقوس ومرابطين‪،‬‬
‫كما كانت اهتماماتهم في الغالب ّ‬
‫موجهة حسب توجيهات اإلدارة االستعمارية وحاجة الدولة الفرنسية‪.‬‬

‫ويمكن القول أن االستشراق في الجزائر أثناء بداياته كان يهدف إلى التعرف على الحياة العامة في املجتمع الجزائري العربي املسلم‪،‬‬
‫حيث كان استكشافيا‪ ،‬لكن سرعان ما أصبح االستشراق أكثر تنظيما وتخطيطا وأنتج أعمال ضخمة في كل املوضوعات واملجاالت‬
‫تقريبا‪.‬‬
‫ونحاول من خالل هذه الورقة البحثية أن ّ‬
‫نتبين العالقة بين االستعمار الفرنس ي وحركة االستشراق في الجزائر‪ ،‬واألطروحات التي‬
‫حاول أن ّ‬
‫يروج لها املستشرقون في الجزائر‪ ،‬والوسائل التي اعتمدوها في ذلك‪.‬‬

‫كلمات مفتاحية‪ :‬االستشراق‪ ،‬األطروحات ‪ ،‬الوسائل‪ ،‬الجزائر‪.‬‬

‫‪Abstract:‬‬

‫‪The orientalism was associated especially The French one in Algeria with the support of the colonial efforts‬‬
‫‪against Algeria, including a number of translators, writers and artists interested in the life of the East. The 14th‬‬
‫‪Orientalists Conference in Algeria in 1905 also marked the true beginning of Orientalism in Algeria.‬‬

‫‪512‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫‪The French administration worked with its experts, artists and translators, to learn about the Arab-Islamic life in all‬‬
‫‪its aspects in the Algerian society. Orientalists performed many works in the religious, linguistic, archaeology,‬‬
‫‪customs and history fields, the translation of religious texts, the study of Arabic and Berber languages with their‬‬
‫‪various dialects, the history of Algeria and the Arab Maghreb in general and the folklore. They were interested in‬‬
‫‪Islam as a religion, doctrine, Sufism and rituals, and Almoravids, their interests were often directed according to the‬‬
‫‪direction of the colonial administration and the need of the French state.‬‬

‫‪It can be said that Orientalism in Algeria in its early days aimed to identify public life in the Algerian Arab Muslim‬‬
‫‪society, where it was exploratory, but quickly it became more organized, planned and produced large works in‬‬
‫‪almost all subjects and fields.‬‬

‫‪In this paper, we attempt to distinguish the relationship between French colonialism and the Orientalism‬‬
‫‪movement in Algeria, and the thesis that the orientalists in Algeria tried to promote, and the means adopted by‬‬
‫‪them.‬‬

‫‪Keywords: orientalism, Literature, Method, Algeria.‬‬

‫أوال‪.‬مدرسة الجزائرأو بداية االستشراق في الجزائر‪:‬‬

‫يعد االستشراق الفرنس ي في الجزائر أهم مظاهر الغزو الثقافي والذي شكل جزءا مهما من االستعمار بمختلف أشكاله‪ ،‬نظرا‬
‫ّ‬
‫لالهتمام الفرنس ي باملجتمع الجزائري وخصائصه ومكونات الهوية لديه والتي شكلت مبعث الثورات واملقاومات الشعبية‪ ،‬وتبلور هذا‬
‫االهتمام من طرف اإلدارة االستعمارية في الدراسات العربية واإلسالمية مع أعمال املستشرقين‪.‬‬

‫وكانت مدرسة الجزائر محطة بارزة في مسيرة االستشراق بالجزائر‪ ،‬وعبارة (مدرسة الجزائر) حسب أبو القاسم سعد هللا أطلقت‬
‫عند البعض على تأثير الجزائر في األدب الفرنس ي وتلوينه بلون بيئتها ونكهتها‪ ،‬ولكن هنا تستعمل العبارة للداللة على انطالق‬
‫االستشراق الفرنس ي والدراسات العلمية خاصة بعد عام ‪ 1879‬أين تم إنشاء مدرسة اآلداب العليا والتي أصبحت كلية اآلداب‬
‫بجامعة الجزائر سنة ‪1 .1909‬‬

‫فهي مدرسة فكرية أثرت في الفن واألدب واللغة والتاريخ والعالقات بين الجزائريين والفرنسيين‪ ،‬وفوق ذلك كله أطلقت االستشراق‬
‫الفرنس ي من عقاله‪ ،‬فانطلق يدعم الجهود االستعمارية في الجزائر وفي باقي دول املغرب العربي‪.‬‬

‫لقد بدأ اهتمام املستشرقين بالجزائر قبل الحملة الفرنسية سواء من الفرنسيين أو األمريكيين أو باقي الدول األوروبية‪ ،‬غير أن تأزم‬
‫العالقة بين الجزائر وفرنسا عام ‪ 1827‬وتحضيرها لحملة على الداي حسين‪ ،‬جعل املستشرقين الفرنسيين يركزون اهتمامهم‬
‫ويترجمون بعض األعمال عن الجزائر ملستشرقين أمريكيين وأنجليز‪.‬‬

‫‪513‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫وتضمنت الحملة الفرنسية على الجزائر عام ‪ 1830‬عددا من املترجمين والكتاب والفنانين ورجال الدين واملهتمين بحياة الشرق‬
‫عموما‪ ،‬ولعل نجاح الحملة الفرنسية على الجزائر جعلت كال منهم يتفرغ لعمله حسب تخصصه‪ .‬خاصة في ظل حاجة اإلدارة‬
‫االستعمارية ملترجمين يعملون معها‪ ،‬لتسهيل التواصل مع السكان وفهم املجتمع الجزائري‪.‬‬

‫وشكلت مدرسة اللغات الشرقية في فرنسا املنبع الذي يمد اإلدارة االستعمارية باملترجمين واملختصين في مختلف املجاالت خاصة مع‬
‫ظهور تلك الحركة التي اهتمت بجمع املخطوطات والكتب النادرة التي تخص العهد العثماني في الجزائر وما قبله‪ ،‬ورافقتها حفريات‬
‫لآلثار الرومانية وغيرها‪.‬‬
‫ثانيا‪.‬االستشراق ومراحله‪:‬‬

‫إن التأريخ لالستشراق في الجزائر ال يمكن حصره في الفترة التي تلت االستعمار الفرنس ي‪ ،‬بل يمكن القول أن هناك اهتماما كبيرا‬
‫للمستشرقين بالجزائر قبل ذاك األملان منهم واالنجليز والبرتغاليين واألسبان‪ ،‬وإذا ما عدنا إلى عام ‪ 1827‬لوجدنا أن الفرنسيين قاموا‬
‫بترجمة أعمال املستشرقين األوروبيين واألمريكيين عن الجزائر إلى اللغة الفرنسية‪ ،‬وهنا لعبت مدرسة اللغات الشرقية دورا مهما‪.‬‬

‫واعتبر سيلفستر دي ساس ي ‪ Silvestre di Saci‬زعيم االستشراق الفرنس ي في تلك الفترة‪ ،‬وقد تخرج على يديه جيل من املستشرقين في‬
‫ّ‬
‫فرنسا وأوروبا‪ ،‬وبدخول فرنسا أرض الجزائر ومحاولة تأسيسها إلدارة مدنية تتحكم في الجزائريين وظفت املترجمين من يهود الجزائر‪،‬‬
‫والذين كانت تلك وظيفتهم حتى قبل دخول الفرنسيين وأيضا من األوروبيين الذين تخرجوا من مدرسة اللغات الشرقية وتوسع‬
‫توظيفهم بتوسع اإلدارة االستعمارية في الجزائر‪ ،‬كما أنهم قاموا بجمع املخطوطات واالستيالء على املكتبات‪.2‬‬

‫لذلك يمكن القول أن االنطالقة الحقيقية لالستشراق الفرنس ي بدأت بحركة االستعمار وتوسعه في الجزائر‪ ،‬ولعل ما يميز‬
‫االستشراق الفرنس ي في الجزائر استعمال اللهجة الجزائرية وليس العربية الفصحى العتبارات استعمارية توسعية بحتة‪ ،‬وقد مر‬
‫االستشراق في الجزائر بثالث مراحل هي‪:‬‬

‫املرحلة األولى‪ :‬من بداية االحتالل ‪ 1830‬إلى إنشاء املدارس العليا سنة ‪:1879‬‬

‫تميز هذه املرحلة بجهاز ترجمة قوي على يد العسكريين الفرنسيين في معظم األحيان‪ ،‬وهناك مترجمون وإداريون وآخرون قضائيون‪،‬‬
‫وقد نتج عن أعمال هؤالء الكثير من النصوص والعرائض والوثائق التاريخية‪ ،‬واشتغل املستشرقون في اللجان العلمية والجمعيات‬
‫املتخصصة‪ ،‬ونشروا أبحاثهم للتعريف بالشعب الجزائري املحتل في مختلف عصوره ومظاهره‪.‬‬

‫وأثناء هذه املرحلة زار الجزائر عدد من األدباء واملفكرين والفنانين الفرنسيين املهتمين بحياة الشرق‪ ،‬وكانت زياراتهم بدعم وتشجيع‬
‫ي وتوجهاته االستعمارية‪3.‬‬ ‫من الحكومة الفرنسية نفسها‪ ،‬حيث ارتبط االستشراق منذ البداية بإدارة االحتالل الفرنس‬

‫املرحلة الثانية‪ :‬من ‪ 1879‬إلى ‪:1930‬‬

‫في هذه املرحلة أدخلت العديد من اإلصالحات في فرنسا على التعليم العالي‪ ،‬وأعيد تنظيم جامعة السوربون‪ ،‬كما ظهرت‬
‫مدرسة دوركايم ‪ Durkheim‬في علم االجتماع واالستشراق‪ ،‬وأنش ئ كرس ي لتعليم اللغة العامية الجزائرية في باريس وكرس ي لتعليم‬

‫‪514‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫اللغة االمازيغية‪ ،‬وظهرت كلية اآلداب عند تأسيس جامعة الجزائر في ‪ ،1909‬كما تم انعقاد املؤتمر الدولي الرابع عشر للمستشرقين‬
‫تحت إشراف رينيه باصيه ‪ Renie Bassi‬عميد كلية اآلداب وعميد املستشرقين في الجزائر حينذاك‪.‬‬

‫وفي ‪ 1906‬ظهرت مجلة العالم اإلسالمي برئاسة ألفريد لوشاتليه ‪ Alfred Le Châtelet‬الذي سبق له العمل في الجزائر كرئيس‬
‫للمكتب العربي العسكري في الجنوب‪ ،‬كما انتعشت حركة االستشراق الفرنس ي في جميع املستعمرات وغذته تلك الكراس ي التي‬
‫فتحت بمختلف اللغات واللهجات في كلية اآلداب بجامعة الجزائر‪.‬‬

‫املرحلة الثالثة‪ :‬من ‪ 1930‬إلى االستقالل ‪:1962‬‬

‫ابتدأت هذه املرحلة باالحتفاالت الضخمة التي أقامها االستعمار الفرنس ي بمناسبة مرور مائة سنة على دخوله الجزائر‪ ،‬وهي‬
‫مرحلة امتازت بالتوسع في إنشاء املعاهد املتخصصة في االستشراق كمعهد الدراسات الشرقية‪ ،‬ومعهد الدراسات الصحراوية‪،‬‬
‫ومعهد الدراسات العربية‪ ،‬وتحويل املدارس الشرعية الثالث إلى ثانويات مزدوجة‪ ،‬وبقاء الصلة الوثيقة بين االستشراق والسلطة‬
‫االستعمارية خاصة في ظل ظهور نخب جديدة ظهرت في القيادات السياسية في املستعمرات‪.‬‬

‫ويبدوا أن االستشراق الفرنس ي في الجزائر قد عرف هزة عنيفة مع الحرب العاملية الثانية‪ ،‬وثورة الجزائر‪ ،‬والحرب الباردة‪ ،‬ومن أبرز‬
‫املستشرقين في هذه املرحلة هنري بيريز‪ ،‬وليفي بروفنصال وكانتينو‪ ،‬وروبير برونشفيك‪4.‬‬

‫ثالثا‪.‬أطروحات املستشرقين في الجزائر‪:‬‬

‫الفرنسيون لم يكتشفوا الجزائر باحتاللها سنة ‪ ، 1830‬فقد كتبوا عنها في عدة مناسبات وكانت بينها وبينهم معاهدات‪،‬‬
‫ومبادالت تجارية‪ ،‬وتبادل لألسرى‪ ،‬وجوسسة وتقارير وقناصل‪ ،‬ورحالت‪ ،..‬ولم يكن خفيا أطماع الفرنسيين أو غيرهم من األوربيين‬
‫في الجزائر‪ ،‬فحاولوا التعرف عليها من خالل الكتابة عن السكان وأنماط حياتهم ومالبسهم وعاداتهم وأخالقهم‪ ،‬الدين والثقافة‪،‬‬
‫والتاريخ‪ ،‬والتربية والتعليم واملؤسسات التي تحتضنها‪ ،‬وقد راجت في بدايات االستعمار الفرنس ي للجزائر كتب تشرح للسياح كيفية‬
‫الحياة في الجزائر ونمط عيش سكانها تشجيعا لسياسات االستيطان األوروبي فيها‪.‬‬

‫لكن ارتباط هؤالء املثقفين واملستشرقين باإلدارة االستعمارية كموظفين فيها أو كحاملين لتلك اإليديولوجية التوسعية‪ ،‬استطاعوا‬
‫أن يروجوا ألطروحات من شأنها التمكين لالستعمار الفرنس ي في الجزائر‪ ،‬أطروحات استهدفت ّ‬
‫املقومات األساسية التي تكون املجتمع‬
‫الجزائري‪ ،‬كالدين واللغة‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬واملوقف من التحضر والتمدن‪ ،‬وقضايا املرأة‪.‬‬

‫لقد جاء الفرنسيون إلى الجزائر بمجموعة من العقد التي كانت متراكمة لدى األوربيين من العصور الوسطى حول العرب واملسلمين‬
‫والشرق والشرقيين بصفة عامة‪ ،‬وكانت عقائد الحروب الصليبية ما تزال حية في أذهانهم وكتبهم‪ ،‬من التواجد اإلسالمي في األندلس‬
‫إلى سطوة العثمانيين على أوروبا الشرقية والجزائر‪.‬‬

‫‪515‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫لقد كان احتالل الفرنسيين للجزائر أكثر من انتصار بعد فشل الحملة على مصر وتحجيم الخريطة الفرنسية بعد مؤتمر وترلو‬
‫‪ ، Waterlo‬فتصرفات الفرنسيين في الجزائر مدنيين وعسكريين تدل على شذوذ غريب‪ ،‬وعلى رغبة عميقة في االنتقام من املاض ي كله‪،‬‬
‫ملا حمله من انتصارات للعرب واملسلمين في بالدهم وانكسارات لحروبهم الصليبية‪.‬‬

‫فرنسا كانت تزعم أنها حاملة لرسالة حضارية جاءت لتنشرها في املجتمع الجزائري الذي تخلف عن الركب بسبب التواجد العثماني‪،‬‬
‫وأعلنت الجزائر مملكة عربية تابعة للمملكة الفرنسية وحتى بعد سقوط النظام امللكي في فرنسا بقي ساستها يرددون مقولة الجزائر‬
‫ّ‬
‫فرنسية‪ ،‬فما هي يا ترى هذه األطروحات التي صاغها املستشرقون؟ وهل ساعدتهم في رسم سياسات تمكن لهم من تحقيق الغايات‬
‫االستعمارية؟‬

‫‪.1‬ال ــلغــة‪:‬‬

‫هدفت فرنسا من خالل أطروحاتها االستعمارية إلى إلحاق املجتمع الجزائري باملجتمع الفرنس ي وجعله امتداد له‪ ،‬وعلمت من‬
‫خالل مستشرقيها أنه لن يتأتى لها هذا إال بإحالل الفرنسية محل العربية واملسيحية محل اإلسالم‪ ،‬كي يتناسق كال املجتمعين‬
‫املقومات والخصائص‪.‬‬‫الجزائري والفرنس ي في ّ‬

‫فعملت منذ الوهلة األولى على محاربة اللغة العربية تارة من خالل التضييق على التعليم القرآني‪ ،‬ومنع األهالي من تدريس أبنائهم‬
‫وهدم املساجد والزوايا وتحويلها إلى كنائس ومستودعات وثكنات‪ ،‬وتارة أخرى من خالل فتح املدارس الفرنسية أمام الجزائريين من‬
‫أجل تعليمهم اللغة الفرنسية‪ ،‬وجعلها لغة اإلدارة والتواصل في املجتمع الجزائري‪ ،‬وكانت الوظائف املتاحة أمام الجزائريين يشغلها‬
‫من يتقنون التواصل بها‪.‬‬

‫لقد ادعى املستشرقون الفرنسيون ومن وراءهم اإلدارة االستعمارية أن اللغة العربية هي لغة تخلف وال تصلح الن تكون لغة الحضارة‬
‫والصناعة كما الحال مع الفرنسية‪ ،‬ولكي تؤدي فرنسا رسالتها الحضارية ال بد من جعل الفرنسية لغة األهالي‪ .‬ويقول أحد‬
‫املستشرقين"‪..‬لقد كان على السادة أن يستعملوا اللغة العربية في اإلدارة لفهم السكان املحليين‪ ،‬وال يمكن مطالبة املنهزمين‬
‫(الجزائريين) بتعلم لغة الغزاة فورا"‪ 5.‬لقد كانت اللغة العربية ونشرها بين الضباط والعسكريين الفرنسيين وسيلة قوية للتقارب بين‬
‫األعراق التي يبعدها عن بعضها البعض األصل والدين والعادات‪.‬‬

‫كما نجد أن االستعمار الفرنس ي حاول استمالة البربر من سكان الجزائر‪ ،‬وراح يروج ألطروحات تلغي تاريخ البربر من املشرق‬
‫في نشر الحضارة اإلسالمية في األندلس ووسط فرنسا نفسها‪ ،‬فتارة تجعلهم الدراسات التاريخية وعلماء اآلثار مسيحيي الديانة‬
‫واإلسالم غريب عنهم‪ ،‬وأنهم في عاداتهم وتقاليدهم اقرب إلى املسيحية منه إلى اإلسالم بحكم اتصالهم بالحضارة الرومانية‪ ،‬وتارة‬
‫ّ‬ ‫أخرى تنسب أصولهم إلى الساميين‪ ،‬وكلها محاوالت استعمارية لصياغة أطروحات ّ‬
‫تفرق بين مكونات الشعب الجزائري‪ ،‬لتمكن‬
‫لسياسة االستعمار الفرنس ي‪.‬‬

‫""‪....‬البربر كانوا ومازالوا مسيحين‪ ،‬وإن دعاة املسيحية الذين بثتهم فرنسا بين القبائل البربرية‪ّ ،‬إنما هم وعاظ يذكرون إخوانهم البربر‬
‫بدينهم القديم‪ ،‬ال دعاة لدين جديد أو معتقدات غربية‪6"..‬‬

‫‪516‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫ومن الناحية االجتماعية حاول املبشرون العزف على وتر العرف القبلي‪ ،‬حيث اعتبروا أن أعراف سكان منطقة القبائل مستوحاة‬
‫من القانون املسيحي‪ ،‬وبعيدة عن اإلسالم‪ ،‬وقوانينهم االجتماعية هي اقرب للقوانين السائدة في فرنسا‪ ،‬لكي يقبلوا بالقوانين‬
‫الفرنسية على حساب الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ويقول أحد املستشرقين"‪ ..‬سكان فرنسا اإلفريقية ـ ـ الجزائر ـ على أنواع مختلفة‪ ،‬فمنهم‬
‫البربر وهم اقرب الناس إلى فرنسا‪ ،‬ومنهم العرب وهم اقل استعدادا للتقدم والتطور‪7".‬‬

‫‪.2‬الدين‪:‬‬

‫تناول املستشرقون من علماء أوروبا اإلسالم واملسلمين بالدراسة والتحليل من نواحي مختلفة‪ ،‬وارتبط هدفهم في ذلك أول‬
‫األمر بالدافع الديني من طرف الكنيسة ورجالها قصد التثقيف‪ ،‬وتصوير املسلمين واإلسالم على أنهم أعداء للمسحية‪ ،‬غير أن هذا‬
‫الدافع سرعان ما تحول إلى سياس ي استعماري تعكسه تلك الحروب الصليبية ضد اإلسالم وبالد املسلمين‪.‬‬

‫واالستشراق نفسه لم يزدهر إال بتوسع الحركات االستعمارية في أوروبا وتناميها‪،‬ولعل ما يالحظ من اهتمام املستشرقين بالجانب‬
‫الديني هو اهتمامهم بالتصوف في اإلسالم وتطوره ومؤسساته‪.‬‬

‫وهو اهتمام ليس بريئا باملرة‪ ،‬ألنهم بعد أن بسطوا سيطرتهم العسكرية على الدول اإلسالمية أخذوا يوجهون بعض الزوايا والطرق‬
‫الصوفية ويتحكمون فيها من أجل التمكين للسياسات االستعمارية‪ ،‬مثلما حدث مع االستعمار الفرنس ي في الجزائر‪.‬‬

‫ونجد أن فرنسا قد تعهدت عند إمضاء معاهدة التسليم في ‪ 05‬جويلية ‪ 1830‬أن تحترم الدين اإلسالمي‪ ،‬وتعمل على صيانة حرية‬
‫ّ‬
‫ممارسة الشعائر الدينية للجزائريين‪ ،‬لكن سرعان ما ضربت هذه املعاهدة عرض الحائط وتنكر لها املسئولون الفرنسيون‪ ،‬فهم من‬
‫جهة حاربوا الدين وهدموا املؤسسات الدينية وصادروا أموال الوقف وجففوا منابع تمويلها‪ ،‬ومن جهة أخرى اضعفوا اللغة العربية‬
‫وضيقوا عليه واستمالوا بعض الزوايا ّ‬
‫وشجعوا على الدجل فيها والسحر والشعوذة‪ ،‬وأصبح الدين ما هو إال االعتقاد‬ ‫والتعليم الديني ّ‬
‫في بركة األولياء‪.‬‬

‫‪.3‬الحضارة‪:‬‬

‫يقول دي طوكفيل ‪ De Tocqueville‬أن املجتمع الجزائري كان نصف متحضر‪ ،‬وأن له حضارة متخلفة وغير متقنة‪ ،‬والدليل‬
‫على ذلك أنه كان يتمتع بمؤسسات كثيرة خيرية وتعليمية‪ ،‬كان هدفها سد حاجات اجتماعية وتوفير خدمة التعليم‪ ،‬غير أنها كانت‬
‫خدمات رديئة وجعلت من املجتمع الجزائري مجتمعا متخلفا كونها نشأت تحت اإلدارة العثمانية املتخلفة بدورها‪ ،‬وأن اإلدارة‬
‫الفرنسية أكثر تمدنا وتستطيع بعث روح حضارتها في املجتمع الجزائري‪8.‬‬

‫وذهب غوتيه ‪ Goutie‬إلى أنه ال يمكن لنا أن نتصور استقالل الجزائر عن فرنسا‪ ،‬ألن تاريخ الجزائر منذ ألفي سنة يشهد على تبعيتها‬
‫لدولة خارجية‪ ،‬ومن جهة أخرى اعتماد الجزائر على الزراعة يجعلها في حاجة لألسواق الفرنسية‪ ،‬كما أن قرب الجزائر من مرسيليا‬
‫دليل على هذا الرابط القوي بين الطرفين‪ ،‬فاالندماج والتكامل االقتصادي قضية حتمية في نظره‪.‬‬

‫‪517‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫وقد تحدث جاك بيرك ‪ J.Burque‬قائال‪ :‬إن عهد االحتالل الفرنس ي بالنسبة للجزائر هو عهد التحرر الحضاري من وصاية الشرق‬
‫ودخولها بفضل فرنسا وصرخة فارسها املجهول تحت وصاية الغرب وبالخصوص تحت مظلة سكان بالد الغال‪ .‬حيث تفقد الجزائر‬
‫هويتها وتندمج اندماجا كليا في شعب آخر فرض نفسه عليها بمختلف الوسائل‪9.‬‬

‫والذي دعانا لتعلم العربية ليس فقط لحكم الجزائر‪ ،‬ولكن إلدخالهم بالتدرج إلى عالم أفكارنا وحضارتنا وبذلك يتعرف الفرنسيون‬
‫على حاجات الجزائريين ورغباتهم وأحالمهم لكي‪ ":‬نجعلهم يتذوقون تحسيناتنا ويتعودون على اعتبارنا كحماة لهم ّ‬
‫وممدنين لبالدهم‪،‬‬
‫وليس كغزاة تساندهم األسلحة‪10".‬‬

‫ويضيف املستشرق الفرنس ي ماشويل ‪ L. Machuel‬أستاذ كرس ي اللغة العربية في جامعة الجزائر سنة ‪": 1875‬أن دراسة أدب‬
‫الجزائر سيؤدي إلى معرفة عبقريتهم وأصالة فكرهم وشعرهم املؤثر‪ ،‬ومعرفة كتبهم في العلوم والتاريخ والفقه والدين‪ ،‬ومن ثمة‬
‫معرفة أصولهم وأفكارهم وتقاليدهم‪11.‬‬

‫إذن هي مقوالت تعكس نظرة فرنسا االستعمارية للمجتمع الجزائري من خالل مستشرقيها‪ ،‬مدعية أن املاض ي العربي اإلسالمي كان‬
‫مقسمة مكونات املجتمع الجزائري بين عرب متخلفين غير قابلين للتحضر وبربر يمكن لهم أن يكونوا‬‫سببا في تخلف الجزائريين‪ّ ،‬‬
‫متمدنين إذا ما اخذوا بأسباب الحضارة الفرنسية‪.‬‬

‫‪.4‬املرأة‪:‬‬

‫ركز املستشرقون الفرنسيون االهتمام باملرأة الجزائرية املسلمة وحاولوا إبعادها عن اإلسالم بداعي الحضارة‪ ،‬ونظر إليها بعض‬
‫املستشرقين إلى أنها محرومة نتيجة تطبيق العرف عليها‪ ،‬ورآها بعضهم أنها قابلة لالندماج الذي ينشده الفرنسيون‪ ،‬واشتهرت ماري‬
‫بوجيجا ‪ M.Bogiga‬في كتاباتها بدعوة املرأة الجزائرية بعبارة أخواتي املسلمات‪ ،‬إلى التخلص من التقاليد البائدة‪ ،‬تلك التقاليد التي‬
‫تركتها في الحضيض‪12.‬‬

‫ومعظم كتبات املستشرقين تطعن في تعاليم اإلسالم من خالل تصوير وضع املرأة الجزائرية‪ ،‬على أنها قدرية غارقة في الخرافات‪،‬‬
‫ومستسلمة راضية بحكم القضاء عليها‪ ،‬وهي ضحية التخلف واألمية التي يعيشها املجتمع الجزائري‪ ،‬فهي لعبة الرجل التي كان‬
‫يشتريها بنقوده كما يشتري البهائم والبضائع‪ ،‬فهي ضحية اإلسالم القاس ي الذي جعل الرجل ّ‬
‫قواما على املرأة وأباح تعدد الزوجات‬
‫وجعل الطالق بيد الرجل وحده‪ ،‬وفرض قيودا غطائها الحجاب والعفاف‪.‬‬

‫فاملرأة الجزائرية في كتاباتهم نمط واحد في املدينة والريف‪ ،‬هي آلة نسل وخادمة بيت وجالبة حطب وماء‪ ،‬محرومة من كل امللذات‪،‬‬
‫فال أفراح وال مالهي وال مراقص‪ ،‬إن شباب املرأة يذوي بسرعة ويداهمها الهرم وهي في األربعين فتترهل وتموت قبل األوان‪13.‬‬

‫وانطالقا من هذه الصورة ظهر تيار فكري وأدبي يدعوا ملحاولة إنقاذ املرأة الجزائرية‪ ،‬والحقيقية أن تغيير أي مجتمع إنما ّيمر عبر‬
‫تغير املرأة فيه‪ ،‬ولم يقف الوضع عند حد الكتابات فقط بل تعداه إلى إرسال النساء األوربيات التي حولت دروس الطرز والخياطة إلى‬
‫دروس للتنصير والترقية الحضارية واإلدماج االجتماعي‪.‬‬

‫‪518‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫‪.5‬قانون األلقاب‪:‬‬

‫كانت األلقاب في املجتمع الجزائري قبل االحتال ل الفرنس ي ثالثية التركيب (االبن األب والجد) وفي بعض األحيان خماسية تضم‬
‫املهنة واملنطقة السكنية‪ ،‬كما أن اغلبها حمل دالالت دينية‪ ،‬تشير إلى االنتماء العربي اإلسالمي للمجتمع الجزائري‪ ،‬أو ذات دالالت‬
‫تاريخية تشير إلى الفترات التاريخية التي مر بها املجتمع الجزائري والى الشعوب التي تواصل معها أو كان معها في عداء‪.‬‬

‫وبصدور قانون الحالة املدنية لألهالي الجزائريين في ‪ 1882‬والذي يقض ي باستبدال األلقاب الثالثية للجزائريين بألقاب مشينة ومذلة‪،‬‬
‫كان الهدف منها االستيالء على ملكية األراض ي‪ ،‬وتفكيك نظام القبيلة في املجتمع الجزائري‪ ،‬وقطع الصلة بين الشعب الجزائري‬
‫وماضيه الحضاري العربي اإلسالمي‪ ،‬بإبرازه كفرد معزول عن الجماعة‪ ،‬وتغيير أساس نظام امللكية‪ ،‬وتعويضه بالقانون الفرنس ي‪،‬‬
‫والذي يخاطب الشخص بلقبه وليس باسمه‪.‬‬

‫وهذا القانون لم يأتي من فراغ وليس صنيع السياسيين بقدرما هو وليد الدراسات التي قام بها املستشرقون والباحثون الفرنسيون في‬
‫مختلف املجاالت على املجتمع الجزائري آنذاك‪ ،‬خاصة بعد سنوات املقاومات الشعبية التي لم تنقطع طيلة أربعة عقود في كافة ربوع‬
‫الوطن‪.‬‬

‫فتوصل املستشرقون أن قوة املجتمع الجزائري في تمسكه بدينه ولغته وانتماءاته القبلية وأن األرض هي ما تؤكد أواصر االنتماء‬
‫للفرد‪ ،‬وعليه جاء هذا القانون والذي كان هدفه الرئيس ي طمس هوية الشخصية الوطنية‪ ،‬ومحاولة تحقير وإذالل الجزائريين بألقاب‬
‫مذلة ومهينة ومشينة تحمل أسماء للحيوانات وصفات لها‪ ،‬وأخرى للمهن وأطراف اإلنسان وأعضاءه‪ ،‬وأسماء لألماكن واألشجار‬
‫وغيرها‪.‬‬

‫فتغيير األلقاب كان جزءا من مخطط استعماري استهدف النيل من الهوية الوطنية وتغيير الطابع االجتماعي للمجتمع الجزائري‬
‫باعتباره مجتمعا قبليا‪ ،‬مرتبط بالعائلة واألرض واملاض ي الحضاري العربي اإلسالمي‪ ،‬لقد استهدف تفكيك العائلة ومن ثم القبيلة‬
‫ومن ثم نزع ملكية األراض ي بكل سهولة‪.‬‬

‫خامسا‪.‬وسائل املستشرقين في الجزائر‪:‬‬

‫‪.1‬اللجان العلمية‪:‬‬

‫بدأ عمل اللجان العلمية للمستشرقين في الجزائر منذ بداية االحتالل الفرنس ي للجزائر والى غاية استقاللها‪ ،‬فقد عملت في كل‬
‫مجاالت البحث في العلوم اإلنسانية واالجتماعية‪ ،‬في شكل جماعي مما ساعد على إنتاج وتأليف وإخراج موسوعات تاريخية ‪ ،‬وتشمل‬
‫هذه األعمال الجماعية مشروع (اكتشاف الجزائر العلمي) ومشروع االحتفال املئوي باالحتالل الفرنس ي للجزائر‪ ،‬وبحوث جامعة‬
‫الجزائر بمختلف كلياتها ومعاهدها‪ ،‬ولجنة دراسة األوضاع اإلسالمية‪ ،‬ولجنة ترجمة الكتب من العربية إلى الفرنسية‪.‬‬

‫‪519‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫‪.2‬الجمعيات املتخصصة‪:‬‬

‫رغم انتمائها لإلدارة الفرنسية وعملها تحت إشرافها إال أن الجمعيات املتخصصة في البحث العلمي وحقوله قدمت إضافة‬
‫كبيرة في الكشف عن تاريخ املجتمع الجزائري وخصائصه‪ ،‬غير أنها كانت ضيقة األفق جانبتها املوضوعية في كثير من األحيان كونها‬
‫تعكس وجهة نظر عنصرية ‪ ،‬إذ كانت تكرس التفوق الحضاري الفرنس ي وتقوم على النظريات االنثروبولوجية والدراسات العرقية‪.‬‬

‫هي جمعيات درست املجتمع الجزائري في تنوعه الثقافي‪ ،‬البربر من منطقة القبائل والشاوية إلى الطوارق في الصحراء وبني ميزاب‬
‫وعادات وتقاليد كل منطقة‪ ،‬والنسيج االجتماعي للمجتمع الجزائري‪ ،‬والدين والتصوف ومكانة الشيوخ واألولياء الصالحين‪ ،‬واألدب‬
‫الشعبي والشعر امللحون‪ ،‬ونمط العيش واللباس واألكل واألفراح وإحياء املناسبات الدينية‪.‬‬

‫كما ظهرت جمعيات متخصصة في دراسة اآلثار وركزت بالخصوص على إبراز االمتداد الحضاري للجزائر إلى الحضارة الرومانية‪،‬‬
‫جميلة وتيمقاد وشرشال سيرتا والكثير من املواقع التاريخية‪ ،‬التي تكشف عن التواجد الروماني‪ ،‬وحاولت التقريب بين شعوب‬
‫املتوسط‪ ،‬الختزال املاض ي العربي اإلسالمي‪ ،‬والتأكيد على أن األمازيغ هم مسيحيون قبل اإلسالم وأنهم قابلون للتحضر ليسوا‬
‫كالعرب‪.‬‬

‫‪.3‬املعاهد الجامعية‪:‬‬

‫لقد ساهمت جامعة الجزائر في تلك األعمال العلمية الجماعية التي قامت بها البعثات العلمية أو اللجان أو الجمعيات‬
‫املتخصصة‪ ،‬حيث قام أساتذتها ببحوث تخدم اإلدارة االستعمارية في الجزائر واملغرب العربي وإفريقيا‪ ،‬بل وفي املشرق العربي‬
‫واإلسالمي أيضا‪.‬‬

‫كانت جامعة الجزائر والتي ترجع نواة تأسيسها إلى املدارس العليا سنة ‪ ،1880‬قد ظهرت إلى الوجود سنة ‪ ،1909‬وتطورت حتى أصبح‬
‫الفرنسيون يسمونها السوربون اإلفريقية‪ ،‬وكانوا يعتبرونها الجامعة الفرنسية الثالثة الرتفاع مستواها التعليمي‪ ،‬ألن فيها من‬
‫األساتذة من هم كبار املستشرقين في مختلف املجاالت من أمثال ماسكري وباصيه وموران وفانيان‪14‬‬

‫وظهر معهد الدراسات الصحراوية عندما اهتمت اإلدارة االستعمارية بدراسة الصحراء وقد ضم أطباء ومستشرقين وضباط‬
‫ومستكشفين وعلماء في الجيولوجيا كل في مجال تخصصه‪ ،‬ومعهد الدراسات الشرقية الذي يعنى بالعالم العربي واإلسالمي‪ ،‬وهناك‬
‫العديد من املعاهد التي كانت تحت إشراف الحكومة الفرنسية وتسعى لخدمة األغراض االستعمارية‪.‬‬

‫‪.4‬البعثات العلمية ومشاركة املثقفين الجزائريين فيها‪:‬‬

‫لقد انطلقت الكثير من البعثات العلمية في الجزائر باتجاه الصحراء وإفريقيا‪ ،‬قادها فرنسيون مدنيين وعسكريين مسلحين‬
‫بحب العلم واملعرفة وروح املغامرة والتطلع إلى االكتشاف‪ ،‬وساعدهم في ذلك جزائريون من مثقفين وشيوخ زوايا وطرق صوفية‪،‬‬
‫حيث كانت الطريقة القادرية مثال تنافس الطريقة التيجانية في التقرب إلى فرنسا بمساعدة البعثات العلمية وتسهيل املهام لها‪ .‬كما‬
‫كانت هذه البعثات تقبل في عضويتها جزائريين من مزدوجي اللغة والثقافة‪.‬‬

‫‪520‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫ولعل ابرز ما قدمته هذه البعثات في املجال العلمي تلك الدراسات التي تناولت الطرق الصوفية والقبائل واللهجات الشعبية‬
‫واألمازيغية والتربية والعادات والتقاليد‪ ،‬لالستفادة منها في التقدم نحو إفريقيا والسيطرة على الصحراء وثرواتها‪.‬‬

‫‪.5‬الكنيسة والتنصير‪:‬‬

‫اعتبر الفرنسيون سقوط الجزائر تحت االحتالل سقوطا ألبرز قالع اإلسالم‪ ،‬كما أن الحملة الفرنسية على الجزائر كانت امتدادا‬
‫للحروب الصليبية‪ ،‬وتشير التقارير إلى انه من بين العسكريين الفرنسيين كان هناك رجال دين وقساوسة جاؤوا ملباركة الحملة‬
‫واعتبروا القتلى الفرنسيين شهداء للمسيحية‪.‬‬

‫وعندما تم توقيع معاهدة التسليم بين الداي حسين ودي بورمون ‪ Di Bourmo‬القائد العسكري للحملة مخاطبا القساوسة‪ّ ":‬إنكم‬
‫أعدتم معنا فتح الباب للمسيحية في إفريقيا‪ ،‬ولنأمل أن تينع قريبا الحضارة التي انطفأت في هذه الربوع‪15"....‬‬

‫وبذلك بدأت االنطالقة الحقيقية للسياسة االستعمارية التبشيرية التي قادتها الكنيسة في الجزائر اتجاه املسلمين ودينهم‪ ،‬وكان‬
‫املستشرقون هم املوجه للكنيسة يرسمون لهم الطرق لتحقيق األهداف‪ ،‬فبعد مصادرة األوقاف وتجفيف منابع التمويل للمؤسسات‬
‫الدينية وتهديم املساجد وتحويلها إلى مستودعات وثكنات وكنائس‪ ،‬كتب أحد القادة العسكريين وهو فرنسيس مورال ‪ Morelle‬في‬
‫كتابه (الجزائر أو افريقيا الفرنسية) قائال‪ ":‬منذ االحتالل الفرنس ي الحظ الفرنسيون في املدن‪ ،‬وال سيما العاصمة أن عدد املساجد‬
‫حولوا عددا منها الى مستشفيات ومستودعات‪ ،‬وحتى كنائس كاثوليكية‪16".‬‬ ‫فوق الحاجة‪ ،‬ولذلك ّ‬

‫وكانت هناك سياسة أخرى ّترغب الجزائريين في املسيحية كتقديم املساعدات واإلعانات والطب مقابل اإليمان باملسيح‪ ،‬وكتبت‬
‫ايفون توران ‪ Ivon Turan‬كتابا في هذا الصدد عنونته باملواجهات الثقافية في الجزائر املستعمرة ّ‬
‫وبينت كيف كان رجال الدين واآلباء‬
‫البيض يقدمون التعليم والطب والعالج للشعب الجزائري‪17 .‬‬

‫ولعل ما قام به الكاردينال الفيجري كان غاية في الذكاء والدهاء حيث استغل أوضاع املجتمع الجزائري نهاية القرن التاسع‬
‫عشر وما ساد فيه من مجاعة وأمراض وأوبئة فتكت به‪ ،‬فصار يقدم املساعدات والطب ويعالج الناس باسم املسيح‪ ،‬كما حاول‬
‫التأسيس لنواة مجتمع مسيحي جزائري مكون من فتيان وفتيات جزائريين توفيت أسرهم بسبب املجاعة‪ ،‬فجمعه بمخيمات بمدينة‬
‫الشلف وقام بتوفير كل ما يلزمهم من رعاية وتعليمهم الديانة املسيحية‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬

‫إن اهتمام املستشرقين الفرنسيين بمكونات الهوية في املجتمع الجزائري بالدراسة والتحليل كان لخدمة الغايات االستعمارية‪،‬‬
‫يحل مجتمعا محل آخر وهوية محل أخرى‪ ،‬إنها محاولة إلغاء للعربية مقابل‬ ‫وهو اهتمام يكاد فريدا من نوعه‪ ،‬كونه حاول أن ّ‬

‫الفرنسية وإلغاء لإلسالم في مقابل املسيحية‪ ،‬وللتاريخ الحضاري للمجتمع الجزائري‪.‬‬

‫وكان لعزم االستعمار الفرنس ي على البقاء في الجزائر وجعلها امتداد جغرافيا وجزءا ال يتجزأ منها‪ ،‬ترتب عليه االهتمام باملجتمع‬
‫الجزائري بكل مكوناته الثقافية وامتداداته التاريخية والحضارية دراسة وتأليفا‪.‬‬

‫‪521‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫ومن الصعب أن نعدد أعمال املستشرقين في الجزائر ومجاالت اهتماماتهم‪ ،‬فقد درسوا املجتمع الجزائري في كل املجاالت املمكنة‬
‫والتخصصات املتاحة‪ ،‬فقد اهتموا باملعاجم واللسانيات والخطوط والنقوش‪ ،‬والتاريخ الديني وتحقيق النصوص والترجمة في‬
‫ميادين األدب والتاريخ والعلوم والجغرافيا والفقه‪ ،‬باإلضافة إلى األعمال االنثروبولوجية ودراسة الفلكلور واألدب الشعبي‪ ،‬وما قاموا‬
‫به من دراسات سوسيولوجية‪.‬‬

‫وأصبحت الجزائر منذ بدء االستعمار منطلق االستشراق الفرنس ي‪ ،‬فقد وقعت وثائقها ومخطوطاتها وآثارها بين أيدي‬
‫املستشرقين‪ ،‬فتصرفوا فيها تصرف املالك في ملكه‪ ،‬واستولوا عليها إلى يومنا هذا‪ .‬كما أصبحت الجزائر محور األعمال االستشراقية‬
‫الفرنسية في إفريقيا ومنطلقها بما يسمى باملهمات العلمية في كل من تونس واملغرب والسنغال‪.‬‬

‫خرج االستعمار الفرنس ي من الجزائر وبقيت آثاره التي ال ّتمحي‪ ،‬في الثقافة العربية اإلسالمية واللهجة املستعملة في الجزائر‪،‬وإن زالت‬
‫صورة االستشراق التقليدية إال أنه جدد أساليبه وحافظ على أطروحاته‪ ،‬وظل الفرنسيون يعتبرون الجزائر امتدادا تاريخيا لهم‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــ ـ ــ ــ ــ ــ ــ ـ ــ ــ ــ ــ ــ ـ ـ‬

‫اإلحاالت‪:‬‬

‫‪ -1‬أبو القاسم عد هللا‪ :‬تاريخ الجزائر الثقافي‪ ،‬الجزء السادس‪،‬عالم املعرفة‪ ،‬الجزائر‪،2011،‬ص‪.7‬‬

‫‪-2‬املرجع السابق‪،‬ص ‪.11‬‬

‫‪ -3‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪13‬‬

‫‪ -4‬املرجع السابق ص‪.14‬‬

‫‪-5‬أبو القاسم سعد هللا‪ :‬أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر‪ ،‬الجزائر‪ ،1996،‬ص‪.24‬‬

‫‪ -6‬حلوش عبد القادر‪ :‬سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر‪،‬ط‪،1‬دار االمة‪ ،‬الجزائر‪،1999،‬ص ‪.211‬‬

‫‪-7‬بقطاش خديجة‪ :‬أوقاف مدينة الجزائر بعد االحتالل الفرنس ي ‪ ،1830‬العدد ‪ ،62‬الجزائر ‪ ،1981‬ص ‪136‬‬

‫‪-8‬أبوالقاسم سعد هللا‪ :‬تاريخ الجزائر الثقافي‪ ،‬الجزء السادس‪،‬ص‪.284‬‬

‫‪-9‬نفس املرجع ص ‪.294‬‬

‫‪-10‬أبو القاسم سعد هللا‪ :‬أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر‪ ،‬ص‪25‬‬

‫‪ -11‬املرجع نفسه‪.‬‬

‫‪-12‬ابو القاسم سعد هللا‪ :‬تاريخ الجزائر الثقافي‪،‬ج ‪ ،6‬ص ‪.355‬‬

‫‪522‬‬
‫العدد السادس‬ ‫مجلة حق ائق للدراسات النفسية واالجتماعية‬

‫‪ -13‬أبو القاسم سعد هللا‪ :‬تاريخ الجزائر الثقافي‪ ،‬ج ‪ 3‬ص‪337‬‬

‫‪.-14‬أبو القاسم سعد هللا‪ ،‬تاريخ الجزائر الثقافي‪ ،‬الجزء السادس‪ ،‬ص ‪102‬‬

‫‪-15‬عبد الجليل التميمي‪:‬التفكير الديني والتبشيري لدى عدد من املسئولين الفرنسيين في الجزائر في القرن التاسع عشر‪ ،‬املجلة‬
‫التاريخية املغربية‪ ،‬العدد األول‪،‬تونس‪ ،1974،‬ص‪.14‬‬

‫‪ -16‬املرجع نفسه‪.‬‬

‫‪-17‬ايفون توران‪:‬املواجهات الثقافية في الجزائر املستعمرة‪ ،‬املدرسة املمارسات الطبية والدين‪ ،1830.1880 ،‬الجزائر‪.‬‬

‫قائمة املراجع‪:‬‬

‫‪ .1‬أبو القاسم عد هللا‪ :‬تاريخ الجزائر الثقافي‪ ،‬الجزء السادس‪،‬عالم املعرفة‪ ،‬مجموعة أعمال الدكتور أبو القاسم سعد هللا‪،‬‬
‫وزارة الثقافة‪،‬الجزائر‪.2011،‬‬

‫‪ .2‬أبو القاسم سعد هللا‪ :‬أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر‪،‬الجزء الرابع‪ ،‬الطبعة ‪ ،1‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بيروت‪،‬لبنان‪.1996،‬‬

‫‪ .3‬حلوش عبد القادر‪ :‬سياسة فرنسا التعليمية في الجزائر‪،‬ط‪،1‬دار االمة‪ ،‬الجزائر‪.1999،‬‬

‫‪ .4‬بقطاش خديجة‪ :‬أوقاف مدينة الجزائر بعد االحتالل الفرنس ي ‪ ،1830‬العدد ‪ ،62‬الجزائر ‪.1981‬‬

‫‪ .5‬عبد الجليل التميمي‪:‬التفكير الديني والتبشيري لدى عدد من املسئولين الفرنسيين في الجزائر في القرن التاسع عشر‪ ،‬املجلة‬
‫التاريخية املغربية‪ ،‬العدد األول‪،‬تونس‪.1974،‬‬

‫‪ .6‬ايفون توران‪:‬املواجهات الثقافية في الجزائر املستعمرة‪ ،‬املدرسة املمارسات الطبية والدين‪ ،1880.1830 ،‬الجزائر‪.‬‬

‫‪523‬‬

You might also like