Professional Documents
Culture Documents
الرواية والتاريخ
الرواية والتاريخ
الرواية والتاريخ
بحث في مستويات الخطاب في الرواية التاريخية العربية
الرواية والتاريخ
بحث في مستويات الخطاب في الرواية التاريخية العربية
املـقــدمـ ــة
جل اهتمامهم ويشغل مازال اخلطاب ( )Discourseيستلهم قرحية الن ّقاد ،فيستميل ّ
عظيم تفكريهم .وهذا الكتاب من الدراسات اليت تشتغل على اخلطاب وتنشغل فيه ،فتستطلعه
وتبحث فيه ضمن سياقاته اليت يتكاثر فيها.
واخلطاب " "Discourseمسمى قدمي استعري الصطالح حديث ،اكتسب دالالت
عديدة تتناسب مع احلقل الثقايف الذي ينشأ فيه ،ومع أ ّن لفظة خطاب لفظة متأصلة يف ثقافتنا
العربية إال أهنا ال حتيط آنذاك -حبكم معجميتها -بالظروف االستثنائية إلطالق "مسمى
اخلطاب" جتسيداً لكثري من املعاين القارة يف الذهن ،فاكتسبت اللفظة عاملها اخلاص الذي يستحق
أن يستلهم ويستميل.
وبدءاً يستثري عنوان الدراسة "مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية" ثالثة
مصطلحات تستلزم ثالث وقفات مستقصية :اخلطاب ، Discourseمستويات اخلطاب
،Levels of Discourseالرواية التارخيية .Historical Novelوقد استغرقت كل
وقفة من هذه الوقفات فصال الستجالء املصطلح وبيان حيثياته من منطلق نظري ،متهيداً للوصول
إىل املنتهى التطبيقي .فهذا كتاب يف حتليل اخلطاب ،Discourse Analysisيقوم على
فكرة أن للخطاب مستويات levelsأو طبقات Layersميكن استقطاهبا من خالل التحليل،
وهذه املستويات -يف ظن الدراسة -هي اليت ميكن أن تقود إىل سيطرة أفضل على حمدثات
اخلطاب وجمرياته وسينه وجيمه.
وينبين فعل الدراسة -بناء على ما سبق -يف بابني اثنني ،حوى كل باب منهما ثالثة
فصول متآزرة ،تنهض بفكرة مستويات اخلطاب " "Levels of Discourseيف حماولة
لتأطريها مث تطبيقها؛ لذا انشغل الباب األول "املنطق النظري" يف استدراك املصطلحات الثالثة اليت
أحدثها عنوان الكتاب :اخلطاب ،مستويات اخلطاب ،الرواية التارخيية .إذ عوجل كل مصطلح ضمن
فصل ٍ
خاص به ،وعلى النحو التايل:
الفصل األول :مفاهيم الخطاب -رؤية استقصائية ،حيث ينشغل هذه الفصل
بتحديد وفرز واستقصاء مفاهيم اخلطاب املتكاثفة يف ساحات العلوم اإلنسانية واليت أخذت
1
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يسخر جل اهتمام الدراسة -هنا -يف استيضاح مفهوم اخلطاب ضمن أكثر من لون وهيئة؛ إذ ّ
البيئة املنشِّئة له .فكانت البداية مع األصول العربية ونظرهتا للفظة اخلطاب من ناحية معجميّة،
وتوظيفية وكيف تساوت لفظة اخلطاب مع لفظة الكالم واآلثار املرتتبة على ذلك يف االستخدام،
وكيف وظّف النص القرآين هذه اللفظة.
منحى اصطالحياً أم ال .مث
وما إذا كان استخدام اللفظة لدى العلماء والكتّاب قد أخذ ً
تتبعت الدراسة تعامل الدرس اللساين واألنظمة اجملاورة مع اخلطاب بوصفه مصطلحاً حمدد املعامل
بدءا من "دي سوسري" مروراً بـ "هاريس" وصوالً إىل "بنفنست" مث استعراض تعريفات اخلطاب يف
بعض املفاهيم األلسنية الغربية ،بعد ذلك رصدت الدراسة تعامل الثقافة الغربية وفلسفاهتا مع
اخلطاب ،متنالة بشيء من التفصيل مشروع الفرنسي (ميشال فوكو) الذي تعامل مع اخلطاب
بوصفه عملية إنتاج ذهين ،وهو منظومة تتضمن جمموعة العبارات اليت أنتجت يف فرتة حمددة زمنياً،
فاخلطاب الذي يتم إنتاجه يف مرحلة ما البد أن يكون حامالً خلاصيات جتعله خيتلف عن باقي
الفرتات الزمنية اليت أنتجت فيها خطابات مغايرة هلا نظامها تفكريها وطبيعة تفكريها وحتليلها .بعد
ذلك انتقلت الدراسة للحديث عن أثر كل ما سبق يف الثقافة العربية املعاصرة ،فاستجلت تعامل
كبار الن ّقاد واللغويني العرب مع مصطلح اخلطاب وكيف أهنم مل خيرجوا يف نظرهتم للخطاب عن
أحد اإلطارين أكان ألسنياً بنيوياً أم ثقافياً فلسفياً .وال تغفل الدراسة قبل أن تنهي هذا الفصل أن
تفرق بني مصطلحي النص واخلطاب مشرية إىل نقاط التداخل والتخارج.
ويف الفصل الثاني :مستويات الخطاب تظهر فكرة الدراسة مبجملها ،إذ تعتنق
الدراسة سلوكاً مغايراً يف حماولة لتحليل اخلطاب من خالل مستويات مرتاتبة تقودنا إىل حتليل
للخطاب ،فللخطاب ثالثة مستويات -يف نظر الدراسة -هي ِّ
املشكلة للخطاب أفقياً ورأسياً،
فكان املستوى الرتكييب الذي يستثمر اجلهود السردية يف حتليل النص الروائي ،وخاصة جهود العامل
قسم هذا املستوى إىل مستويات أصغر منه تشكله ،وهي الزمن الفرنسي جريار جنيت الذي ّ
اجلادة " حتليل اخلطاب
والصيغة وزاوية الرواية .وهي املستويات اليت طبقها سعيد يقطني يف دراسته ّ
الروائي" ،واليت يرى أن هذه العناصر الثالثة هي املش ّكلة للخطاب ،إذ اخلطاب لديه هو الطريقة
اليت تنفذ هبا الرواية .أما املستوى الثاين :املستوى التارخيي فيختص بالعالقة الوثيقة بينها،
واملستوى الثالث :املستوى النسقي ،ضمن املنظور
2
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
موسع حملاوالت بعض الباحثني الثقايف .وقد استقرت الدراسة على هذه املستويات بعد استعراض َّ
والنقاد يف حتليل اخلطاب وتوزيعه إىل عناصر أو مستويات.
أما الفصل الثالث :الرواية التاريخية -المساحة والحد فنخصصه للحديث عن هذا
اللون الزاهي من الروايات العربية ،والذي يعيش أزمة حتديد املصطلح وأبعاده ،فاالختالف على
حتديد مفهوم واحد للرواية التارخيية واضح من خالل التعريفات شديدة التباين يف بعض األحيان.
فسعت الدراسة إىل حماولة تقريب وجهات النظر بوضع تعريف حيدد الرواية التارخيية ومساحتها اليت
تتحرك عليها تقريبياً.
تبحث الدراسة بعد ذلك اخلطر مسرعة حنو املنتهى التطبيقي يف الباب الثاين :الذي
جيسد فكرة مستويات اخلطاب ،فتحاول ان تطبق املستويات اليت ارتضتها يف الفصل الثاين من
الباب األول .وقد اعتمدت الرواية لغايات التطبيق أربع روايات تفرتض أهنا تارخيية ،حرصت
الدراسة أن تكون متباينة يف زمن اإلصدار والتأليف واملوضوع الذي تطرحه ،فوقع االختيار على
رواية "احلجاج بن يوسف" جلرجي زيدان ( )1091وهي يف التاريخ اإلسالمي األموي ،رواية
"رادوبيس" لنجيب حمفوظ ( )1091يف التاريخ الفرعوين ،رواية "ثالثية غرناطة" لرضوى عاشور
1009عن هنايات العرب يف األندلس ،وأخرياً رواية "أرض السواد" لعبد الرمحن منيف ()1000
يف تاريخ العراق احلديث فرتة داود باشا.
وقد جاء الفصل األول يف هذا الباب للتفصيل يف املستوى األول :التركيبي السردي ،إذ
طبقت الدراسة -كما ذكرت آنفاً -النظرية السردية يف حتليل النص الروائي على الروايات عينة
الدراسة الستجالء طرق تنفيذ اخلطاب سردياً بدءاً بعنصر الزمن ( )Timeاملبين على فكرة التمايز
بني زمن القصة (املدلول) وزمن اخلطاب (الدال) من خالل ثالث عالقات هي الرتتيب
( ،)Orderالدميومة ( ،)Durationوالتواتر ( .)Frequencyمث عنصر الصيغة ( ،)Moodوفيه
تستوضح الدراسة ثالثة أمناط من الصيغ تتوزع لغة الرواية هي :اخلطاب املسرود ،واخلطاب غري
املباشر ،واخلطاب املنقول (املباشر) .أما يف العنصر الثالث زاوية الرؤية ( ،)Perspectiveفيختص
مبوقع الرؤية وحتركها حنو احلدث ،إذ هناك أكثر من طريقة للرؤية من خالل كيفية سرده ،وموقع
الراوي .أما الفصل الثاين فيختص باملستوى الثاين :المستوى التاريخي وفيه توازن بني اخلطاب
التارخيي واخلطاب الروائي يف الرواية التارخيية وأين يتالقيان؟ وأين يفرتقان؟ بعد ذلك خيصص
3
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفصل حديثه عن ظروف تواجد الشخصية التارخيية يف الرواية التارخيية ومدى فاعليتها يف احلدث.
وأخرياً حتاول الدراسة استعراض وحتليل أسباب ومسوغات اللجوء إىل التاريخ لكتابة الرواية ،وهي
عديدة وتأخذ أكثر من ٍ
جتل وشكل.
أما الفصل الثالث واألخري فقد اختص باملستوى الثالث :المستوى النسقي وهو فصل
يوظف النقد الثقايف ،الذب يستخدم السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة من دون أن يتخلى عن
مناهج التحليل األديب والنقدي ،وحياول هذا الفصل التعريف بالنسق الثقايف وخاصة النسق املضمر
الذي يتحرك على نقيض املعلن والواعي ،وجييز حىت خطابات املعارضة الفكرية والثقافية .وهذا
النسق البد له من مجلة ثقافية تكشف عنه بلسانه هو وهي حتماً ختتلف عن اجلملة النحوية ذات
القيمة التداولية .وتتعرض الدراسة يف تطبيقها إىل نسقني ميثالن على املستوى النسقي مها :نسق
الضد
(أسطورة الرجل األبيض) ،ونسق (تشييء املرأة وهتميشها) وهي أنساق ثقافية سارت على ّ
من النسق العام الذي حيملها ال يروجها ولكن ألن الثقافة وضعتها يف ال وعيه.
ويظهر مما سبق أن الدراسة وظفت غري منهج يف استقصاء غايتها ،فهجنت منهجها ال
لقصور يف أدوات البحث بل بغية ،حتقيق كمال أدواته وقدرته على العطاء ،فاستثمرت الرواية
جهود املنهج البنيوي يف السرديات ،وجهود املنهج الوصفي وجهود املنهج الثقايف؛ إذ إن إمتام
املشهد يقتضي حضور األطراف املشاركة ،ولعل هذا حيسب من الصعوبات اليت واجهت الدراسة،
فكان لزاماً على الباحث أن يهضم هذه املناهج يف حماولة لتطبيقها على النصوص الروائية ،أضف
إىل ذلك العودة احلتمية يف كل رواية إىل مرجعيتها التارخيية لدراسة املادة احلكائية يف صورهتا
األوىل ،مث متابعة التطور الفين الذي طرأ عليها.
وأخرياً ،فإن هذا الكتاب ما هو إال حماولة تشتهي الوصول إىل طرف حقيقة ،فإن مل
يكن فالتجربة يف ح ّد ذاهتا حقيقة ،إذ "علينا أن نغزو احلقيقة بالظن( ،وإن مل نفعل) فلن تكون
هناك حقيقة*.
*
هذا القول لساندرس برس (.)1114
4
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الباب األول
المنـطـلـ ــق النـظ ــري
5
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
6
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفصل األول
مفاهيـم الخطـاب :رؤيــة استقصائيــة
ال نروم يف هذا الفصل من دراستنا املستقصية الوصول إىل حتديد انفعايل ملفهوم
اخلطاب بقدر ما نرنو إىل تقصي األصول املنشِّئة ملدلوالته املرافقة ألقالم كتبة اخلطاب
ومستهلكيه ،وما يكسب اخلطاب بعداً غري منطي يف طرحه هو االستقرار على توثني
اللفظة دون اصطالحها.
إن عبوراً عاجالً فوق مدارس األصول واللغة والفكر والفلسفة ليكشف لنا
انتشاراً واسعاً للفظة اخلطاب على صفحاهتا دون اتفاق على مفهوم هلا ،وعلى ما يبدو
ورث اتفاقاً عفوياً على استخدام اللفظة
أن التباين احلاصل يف فهم مدلول اخلطاب قد ّ
دون مدلول ٍ
موحد هلا ،فتعددت ظالل اللفظة لكن مصدر الظل واحد .إن احتكار كل
اجتاه ملدلول خاص للفظة -حمط النزاع -أدى إىل ارتفاع درجة التوظيف ،مما خلف
انقسامات يف مدلول اخلطاب أظهرت فوضى مسلكية يف توظيفه وأخرى يف التعامل
معه.
عبد القاهر الجرجاني :دالئل اإلعجاز (في علم المعاني) ،تحقيق محمد عبده ومحمد الشنقيطي، *
تصحيح وتعليق محمد رشيد رضا ،بيروت ،دار المعرفة للطباعة ،1171 ،ص .44
7
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إن هذه الدراسة تتجاوز -وأحياناً تضرب -عن البحث عن تعريف توفيقي
للفظة يرضي مجيع األطراف بل تسعى فيما تسعى إليه إىل حصر أمالك مدلوالت
اخلطاب يف املصارف األصولية واللغوية والفلسفية والفكرية إبرازاً لعمق سطوة اللفظة على
الذهنيات املصدِّرة هلا ،والتعريف هو من يفسد نشوة هذا التوسع يف فهم لفظة اخلطاب،
وإن كان يف بعض استخداماته مبنياً على ممارسة جمانية للفظة دون اصطالح مسبق
يوضحها من قبل مستخدمها .إن آلية البحث النسقية لتلجأ إىل التعريف حىت تضرب
حدوداً له متيزه عن غريه ،فرتوضه للعمل جمدداً على أسطح أوراق البحث البيضاء ،وأرى
فعاالً يف مجع املدلول ومنعه ينبغي أن خيفف من احتفائه
أن التعريف حىت يكون ّ
بالعموميات ويكثّف جهده على اخلصوصيات ،وهذه األخرية هي مثار اجلدل يف
استطالع هذه الدراسة.
لقد باتت املسافة بعيدة من حيث داللتها على التطور بني التحديد األول
للفظة اخلطاب ومجلة التحديدات األخرية املرتاكمة حبق لفظة اخلطاب ،فتكرار حماوالت
التحديد أدى إىل تعومي مدلول اللفظة حىت باتت يف بعض األحيان إناء فارغاً متعدد
االستعماالت ،فمنذ أن كانت لفظة اخلطاب تعين عرض موضوع أو معاجلة قضية من
القضايا على حنو ما كتب ديكارت ( )1569-1650من "خطاب عن املنهج" أو
ليبنتز ( )1115-1595من "خطاب عن امليتافيزيقا" أو روس ( )1111-1111من
"خطاب عن الالمساواة" أو إمييه سيزر فيما كتبه من "خطاب عن الكولونيالية" مروراً
بدي سوسري ( )1011-1161الذي ّفرق بني اللغة Langugeوالكالم Parole
هم عام
واللسان Langueوالعامل األمريكي زيللج هاريس ( )1011-1090الذي ّ
( )1061بوصف منهج يبحث عن بنية شاملة متيز اخلطاب يف أية مادة مكتوبة ،أو
شبه لغة ،تتكون
1
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
من وحدات أصغرها اجلملة وانتهاء بالتحديد األخري مليشال فوكو ()1019-1015
الذي ربط اخلطاب بأركيولوجيا املعرفة وقرنه باملمارسات األبستيمية -مل يزل اخلطاب
عصيّاً على التحديد والثبات ،فهل نع ّد هذا فوضى منهجية نابعة من توجهات انطباعية
مل تستقر على منهج واضح املعامل؟ وإال ملاذا جند أنفسنا نصطدم بظاهرة اجتزاء
املفاهيم وابتسارها من سياقاهتا دون إخضاعها إىل ترتيب منهجي متكامل؟ ما دور
االجتاهات املنشِّئة للفظة اخلطاب يف تعدد خياالته ومدلوالته؟ ملاذا هذا اإلصرار
الواضح من خمتلف الدارسني على توظيف لفظة اخلطاب؟ هل غفلت الثقافة العربية
(األصول) عن لفظة اخلطاب كمصطلح أم أهنا بقيت مفردة لغوية ال اصطالحية؟ كيف
تعاملت الثقافة الغربية بشقيها األلسين والفلسفي مع لفظة اخلطاب؟ إىل أي اجتاه
سارت الثقافة العربية (املعاصرة) يف تعاملها مع هذه اللفظة؟ كيف لعبت املمارسات
اجملانية دوراً يف متييع مدلول اخلطاب وتداخله مع مصطلحات أخرى كالنص واألثر
واملبىن واملنت..؟
1
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
طلبهم لالصطالح من املعجم ،فهل املعجم اللغوي املباشر مبثابته بؤرة داللية -مهما
اختلفت لغته -يستطيع القيام ولو جتاوزاً مبهمة اصطالحية.
تستهل إحدى الدراسات يف تعريف اخلطاب يف معرض احلديث عن معىن
اللفظة يف املعاجم العربية األصول بقوهلا" :إن اخلطاب حيثما ورد يف تضاعيف املعجم
العريب إمنا هو الكالم ومراجعته" (.)1
وترد العبارة التالية يف معرض آخر" :مل خيرج ابن منظور يف حتديد مفهوم
اخلطاب عن داللة الكالم" ( ،)1فهل كنا نتوقع أن اصطالح اخلطاب ماثل يف ذهن ابن
منظور أو الفريوزبادي أو الزبيدي وغريهم ،فاحنصر معىن اخلطاب املعجمي يف الكالم
فقط؟ أم أن املعاجم األوروبية واألمريكية اصطلحت مبكراً على مفهوم اخلطاب قبل أن
تستقر أركانه يف الثقافة الغربية؟
إن ارحتال بعض الدارسني وهم حمملون قبالً باالصطالح الغريب للفظة اخلطاب
إىل املعاجم العربية طالبني منها قرائن داللية يوصلوهنا بقرائنهم االصطالحية وتنفيذ مبدأ
النص املعجمي مبا ينوء حبمله.
حيمل ّ املقايسة يعد خطأ منهجياً ميكن أن ّ
وقد ورد اخلطاب بداللته املعجمية يف قاموس Webstersمبعىن "اجلدل،
احلوار ،فن املناورة الكالمية ،تبادل األفكار شفاهة ،امللكة العقلية ،التعبري عن األفكار،
احلديث ،مقطوعة ،القدرة احلوارية" (.)1
عبد هللا ابراهيم :المصطلح وظاهرة االنزياح الداللي )(on- line ()1
http://www.abdullah-ibrahum.com/page2-2-7-1.htm.
نور الدين السد :مفارقة الخطاب األدبي للمرجع ،المؤتمر العلمي الثالث ،تحليل الخطاب ()2
العربي ،1117 ،مراجعة أ.د .صالح أبو أصبع ،تحرير د .غسان عبد الخالق ،جامعة فيالدلفيا،
ص .215 -214
)(3) Webster’s Third New International Dictionary: Vol. 1 (A to G
1971. USA: Encyclopedia Britannica, Inc.
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ابن منظور :لسان العرب ،الفيروزبادي :المحيط ،الزمخشري :أساس البالغة ،الجوهري: ()6
الصحاح في اللغة والعلوم ،مادة (خ ط ب).
مدلفاف سليمة :تحليل الخطاب القصصي في القرآن الكريم ،أطروحة جامعية (غير منشورة)، ()7
،1117جامعة الجزائر ،ص.1
سورة ص ،آية .21 ()1
12
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
13
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
اخلطاب اصطالحاً -ضمن املفهوم األلسين العريب -فكان االتفاق على اصطالح الكالم
بوصفه مساوياً ملفهوم اخلطاب حديثاً .فنقبّت عن تعريف الكالم يف االصطالح العريب
متهيداً خلطبنته فالكالم عند ابن جين(" )16كل لفظ مستقل بنفسه ،مفيد ملعناه ..إهنا
اجلمل املستقاة بأنفسها الغانية عن غريها ..وهو واقع على اجلمل دون اآلحاد" .والكالم
()15
دل على معىن حيسن عند ابن هشام هو "القول املفيد بالقصد ،واملراد باملفيد ما ّ
السكوت عليه" .أما الزخمشري( )11فالكالم عنده ذلك "املركب من كلمتني أسندت
إحدامها إىل األخرى ..وذلك ال يتأتى إال يف امسني كقولك زيد أخوك ،وبشر صاحبك
ويعرف الشريف
أو يف فعل واسم حنو قولك ضرب زيد وانطلق بكر ويسمى مجلة"ّ .
اجلرجاين الكالم( )11بأنه "املعىن املركب الذي فيه اإلسناد التام" ويستثمر هذا التعريف
عبد اهلل إبراهيم فيعقب عليه تعقيباً يزيد الكالم قرباً من اخلطاب؛ إذ يقول" :وداللة
ضم شيء هبدف اإلفادة ،مبا حيسن السكوت على األمر ،دون اإلسناد هنا ،إمنا هي ّ
حاجة للبحث عن غريه ،وبه يتم جلمل اللغة االكتمال ،واالتصال نظماً وداللة"( )10وال
يرى عبد اهلل إبراهيم بداً من اإلقرار بوجود تالزم داليل بني مفهوم اخلطاب والكالم يف
الثقافة العربية ،وحقيقة أن الكالم حظي بتعريفات
ابن جني :الخصائص ،تحقيق محمد علي النجار ،بغداد ،دار الشؤون الثقافية العامة،1111 ، ()15
ط ،4ج ،1ص .11
األنصاري :مغني اللبيب عن كتب األعاريب ،تحقيق :محمد محي الدين عبد الحميد ،بيروت، ()16
،1117ج ،2ص . 431
أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش :شرح المفصل للزمخشري ،قدمه :إميل بديع يعقوب، ()17
بيروت ،منشورات محمد علي بيضون ،دار الكتب العلمية ،ط ، 2111 ،1ج ،1ص .71
الشريف الجرجاني :التعريفات ،بيروت ،مكتبة لبنان ،1171 ،ص .114 ()11
عبد هللا ابراهيم ،المصطلح وظاهرة االنزياح الداللي ،مرجع سابق.(on-line) ، ()11
14
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
اصطالحية توضحه ومل حيظ اخلطاب بذلك الحنصاره أصالً يف دائرة األداء الشفوي الذي
مسوغ لوضع مصطلحني يف دائرة واحدة حىت ينهض هو شكل من أشكال الكالم ،وال ّ
أحدمها باآلخر.
ويبدو أن العربية مل تقدم نصوصاً مبكرة وظفت لفظة اخلطاب مبستوى أعلى
من مستواه املعجمي ،فقد رصد عبد اهلل إبراهيم مجلة من التوظيفات للفظة "خطاب"
حتسب للمستوى االصطالحي املبكر فاعتمد على توظيف ابن حزم( )19لعبارة "دليل
اخلطاب" الذي يعرفه ابن حزم بأنه ضد القياس ،وهو أن حيكم للمسكوت خبالف حكم
املنصوص عليه .واعتمد على سيف الدين اآلمدي( )11الذي استخدم عباريت "فحوى
اخلطاب" و "حلن اخلطاب" اللذين حييالن على مدلول اللفظ يف املسكوت عنه ،موافقاً
للحكم يف حمل النطق" وهي من التوسعات املبكرة يف مدلول اخلطاب .ومن التوظيفات
املبكرة للخطاب ما وردنا عن عبد العزيز البخاري (119هـ)( )11الذي أشار إىل أن
اخلطاب يشمل اللفظ والفحوى( )11ليشري بذلك إىل ظاهر األداء اللغوي وباطنه ،وقد
كان هذا التدخل احلسن من عبد العزيز البخاري إجيابياً خيتصر املسافة حنو اصطالح
()19
للخطاب ،وقد آزر ما سبق أحد علماء القرن الثاين عشر اهلجري وهو التهانوي
الذي
ابن حزم :رسائل ابن حزم ،تحقيق إحسان عباس ،بيروت ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ()21
،1111ج ،4ص .411
سيف الدين اآلمدي :منتهى السؤل في علم األصول ،القاهرة ،مطبعة صبيح ،ج ،1ص -61 ()21
.61
عبد العزيز البخاري :كشف األسرار ،مكتبة الضائع 1317هـ ،ج ،3ص .175 ()22
وممن انتصروا لهذا الفصل بين شكل الخطاب وفحواه في الدراسات الفقهية عند أبي اسحاق ()23
الشيرازي (ق11هـ) في "كتابه اللمع في أصول الفقه ) (on-lineعندما قال" :اعلم أن مفهوم
الخطاب على أوجه :أحدها فحوي الخطاب وهو ما د ّل عليه اللفظ من جهة التنبيه"
www.al-eman.com/Islamlib/viewchp. asp?BID=267&CID=3#549
التهانوي :كشاف اصطالحات الفنون ،تحقيق لطفي عبد البديع ،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة ()24
للكتاب /1172 ،ج /2ص . 175
15
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
قال إن اخلطاب " هو اللفظ املتواضع عليه املقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه،
فاحرتز باللفظ عليه من األقوال املهملة" وختم تعريفه للخطاب بقوله "إن اخلطاب إما
الكالم اللفظي أو الكالم النفسي املوجه حنو الغري لإلفهام".
وقد اعتمد عبد اهلل إبراهيم على هذا التعريف يف دراسته املثبتة أدناه ألنه
حسب تعبريه "توغل يف صلب املعضلة االصطالحية هلذا املفهوم ،وأنشأ حدوداً واضحة
للمصطلح"( )16مث يضيف أنه "تعريف شامل ،يتسع لداللة املصطلح ،كما تشكل يف
الثقافة الغربية" وخيتم القول بعد استعراضه السابق جملموعة من تعاريف اخلطاب والكالم
"إن اخلطاب مصطلح واضح الداللة يف األصول" .ويبدو أن الباحث كان ميتلك طموحاً
مسبقاً للتوصل إىل مثل هذه املطابقة املثالية بني داللة معجمية حتاول النهوض على
خجل ،ومصطلح م كتمل ماثل يف ذهنه عن اخلطاب ،لقد أقنعنا الباحث يف بعض
حتليالته الستخدامات القدماء للفظة اخلطاب كما يف حتليله لتعريف التهانوي الذي أبرز
فيه عناصر اخلطاب من ِ
خماطب وخماطَب ورسالة ونية مسبقة للتأثري يف السامع ،لكنها
تبقى حماولة اقرتاب من املفهوم االصطالحي للخطاب يف معناه املنتهى إليه حديثاً.
نقر بأن الدراسات العربية قد بذلت جهداً موفقاً يف تتبع لفظة
ولكن جيب أن ّ
"خطاب" سواء أكان ذلك يف بؤرها املعجمية أم السياقية ممثلة بنصوص قرآنية أو يف
نصوص القدماء ،وقد بذل أصحاب هذه الدراسات جهداً واضحاً يف تأويل اللفظة
ضمن سياقاهتا يف حماولة إلثبات بذورها االصطالحية اليت افرتضوا أهنا موجودة يف أذهان
موظفيها األوائل مما أوقع بعضهم يف دائرة التحديد االنفعايل املبكر للخطاب يف األصول
العربية .إن توظيف لفظة خطاب
16
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يف ثقافتنا العربية القدمية بقي يف جلّه ضمن البؤرة املعجمية للكلمة ومل يرق إىل البؤرة
االصطالحية الناضجة لكلمة . Discourse
17
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
العون لكثري من املعارف اإلنسانية على مستوى التقنني ومستوى التحليل ،حىت أصبح
حتليل اخلطاب بؤرة جتاذب وتفاعل بني جماالت حبثية ع ّدة ،فأفادت منه جماالت متزامنة
أو متعاقبة منذ النحاة اجلدد والشكالنيني الروس وحلقة براغ ومدارس اللسانيات؛
النص ،واللغويات الوظيفية (النسقية) واللغويات التوزيعية والتداولية ،واللغويات
كلغويات ّ
املعرفية والنقدية ،وإثنوجرافيا االتصال ،والسيميوطيقيا ،وما بعد البنيوية ،والتفكيكية،
والنِسوية ،إضافة إىل خطاب ما بعد الكولونيالية.
ظهرت أوىل أعراض مصطلح "اخلطاب" بظهور كتاب فرديناند دي سوسري
(" )1011-1161حماضرات يف اللسانيات العامة"( )11الذي يع ّد مؤسساً لعصر
بأكمله من الدرس اللساين ،وقد تضمن أهم املبادئ األساسية للسانيات؛ كنظامية اللغة،
الدال واملدلول ،اللغة والكالم ،التزامنية والتعاقبية ،العالقات اخلطية (األفقية) واجلدولية
(الرأسية) .فاللغة ) (Languageلدى سوسري هي ملكة التخاطب اليت ميلكها كل
البشر طبقاً لقوانني الوراثة ،فهي ظاهرة إنسانية عامة ،وهي نظام حنوي له وجود كامن يف
كل عقل ،وبتحديد أدق ،يف عقل اجلماعة ،ألن اللغة ليست كاملة عند أي متكلم :أهنا
توجد وجوداً كامالً يف عقل اجلماعة فقط( .)11أما الكالم ) (Paroleفهو ما نسمعه
يف احلياة االنسانية من عبارات ينطقها األفراد هلا وجود مادي( .)10إن هذا التمييز بني
اللغة والكالم على هذا النحو اللماح مينح الكالم باإلضافة إىل وظيفته اللغوية وظيفة
أدائية،
( )27وهي محاضرات ألقاها دي سوسير على طلبته في جامعة جنيف في السنوات ()1111-1116
وضع فيها مالمح نظريته في اللسانيات ،وقد جمعت هذه المحاضرات بعد وفاته من مذكرات
تالميذه عام ،1116وقد ع ّد هذا الكتاب بمثابة الرسالة التبشيرية في اللسانيات.
( )21محمد فتيح :في الفكر اللغوي ،ط ،1دار الفكر العربي ،القاهرة ،1111 ،ص .53-52
( )21محمود حجازي :البحث اللغوي ،مكتبة غريب ،القاهرة ،1113 ،ص.33
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فالكالم لغة مؤداة يف سياق فردي ،من هنا كان لزاماً على الباحثني إلباس الكالم ثوباً
اصطالحياً جيمع اللغة باألداء فكان اخلطاب ) (Diseourseفاخلطاب -حسب
الدارسني -مرادف للكالم عند سوسري يتوافر على عناصر فيزيائية من موجات صوتية
وعناصر فيزيولوجية كالتصويت وعناصر نفسية تتمثل املتصور الذهين والصورة
السمعية(.)19
إن تلك املقدمة يف اللسانيات احلديثة كانت مبعث االنطالق يف ختصيب
مفهوم اخلطاب لدى كثري من اللسانيني من العامل األمريكي -روسي األصلي -زيللج
هاريس ( .)1011-1090الذي اضطلع عام ( )1061بتوصيف منهج يؤطر لبنية
شاملة جتعل من اخلطاب شيئاً مستقالً عن أية مادة مكتوبة ،ففي حبثه املعنون بـ" :حتليل
اخلطاب" قال إن اخلطاب "ملفوظ طويل ،أو هو متتالية من اجلمل تتكون من جمموعة
منغلقة ميكن من خالهلا معاينة بنية سلسلة من العناصر بواسطة املنهجية التوزيعية
وبشكل جيعلنا نظل يف جمال لساين حمض" (.)11
( )31انظر:
سعيد يقطين ،تحليل الخطاب الروائي ،ص.22 –
محمد بلوحي :سيميائية الخطاب السردي ،كتابات معاصرة ،تموز ،2112عدد –
،47ص.13
( )31انظر:
-سعيد يقطين ،تحليل الخطاب الروائي ،ص .17
-عبد هللا إبراهيم ،المتخيل السردي ،المركز الثقافي العربي ،1111 ،ط ،1بيروت ،ص.15
-نور الدين السد ،األسلوبية في النقد العربي الحديث ،ص .215
( )32سعيد يقطين :تحليل الخطاب الروائي ،ص .17
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
نور الدين السد :األسلوبية في النقد العربي الحديث ،ص .215 ()33
عبد هللا إبراهيم :المتخيل السردي ،ص.153 ()34
جابر عصفور :خطاب الخطاب ،ص .11-11 ()35
سعيد بحيري :علم لغة النص ،1117 ،مكتبة لبنان ،بيروت ،ص.11 ()36
نور الدين السد :االسلوبية في النقد الحديث ،ص.215 ()37
21
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ومن هنا حتولت اجلملة إىل أصغر وحدة للخطاب عند اللسانني ،وبذلك اتسع
أفق البحث وخفت القيود اللسانية املفروضة على اجلملة ،فانطلق اللسانيون
خارج حدود اجلملة ليقننوا اخلطاب ويؤصلوه .وكان على رأسهم العامل الفرنسي
أميل ينفنست ) 1055 (Emile- Benvenisteالذي بدأ ارحتاله حنو
اخلطاب مبقارنته مع نظام اللغة عندما وضح بأن" :اجلملة اليت هي صنع غري حمدد
من التنوع الالحمدود -هي جوهر حياة الكالم اآلدمي أثناء الفعل ونتستنج من
هذا بأننا مع اجلملة نغادر ميدان اللغة بوصفها نظاماً من العالقات وندخل إىل
عامل آخر ،ذلك هو عامل اللغة بوصفها أداة للتواصل حيث يكون تعبريها هو
اخلطاب"(.)11
وبذا يكون اخلطاب هو ميدان التواصل ،وإذا كان هاريس قد قنّن اخلطاب مبتتالية
مجلية تقدم بنية امللفوظ ،فإن بنفستت سيعرض لنا تعريفه للخطاب من منظور
خمتلف يستفيد من الدعائم اللسانية لكنه يتجاوزها ،وهو تعريف واسع للخطاب
حيتم علينا أن نفهمه على أنه "كل ملفوظ يفرتض متحدثاً ومستمعاً على أن
تتوفر يف املتحدث قصدية التأثري على اآلخر بطريقة ما"(.)10
إن هذا التعريف خيضع اجلملة جملموعة من احلدود ،إذ هي أصغر وحدة يف -
اخلطاب ،ومع اجلملة سنغادر جمال اللسانيات بوصفه نظاماً للعالقات ،فاجلملة
تتضمن عالمات وليس عالمة واحدة ،وندخل يف جمال آخر يَ ُّ
عد
21
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
اللسان أداة للتواصل نعرب عنه بواسطة اخلطاب ،وهذا التمييز يضعنا أمام جمالني(.)99
خيتلفان وإن كانا يتعانقان ،ويقدمان تبعاً لذلك لسانيتني خمتلفتني :فمن جهة
اللسان هناك جمموعة عالمات مستخلصة بواسطة إجراءات صارمة ،ومن جهة
أخرى هناك جتلي اللسان يف عملية التواصل ،من هنا تربز اجلملة مبثابة وحدة
للخطاب.
يقيم بنفست من خالل هذا التعريف -مع العديد من اللسانيني مفهوم (التلفظ) -
Enuncieوالتلفظ هو الفعل الذايت يف استعمال اللغة أو املمارسة األدائية،
فاخلطاب ممارسة وهو فعل حيوي يف إنتاج مادة نصية مقابل التلفظ ،وبذا يتيح
(التلفظ) دراسة (الكالم) ضمن مركز نظرية التواصل ووظائف اللغة (.)91
إن اخلطاب ضمن التعريف السابق هو ممارسة عملية للتلفظ يفضي إىل تعدد -
اخلطابات وتنوعها وتباين مهامها ابتداءً باملشافهات اليومية وصوالً إىل أعقد
اخلطابات صنع ًة وعنايةً بالشكل واألسلوب.
من خالل التعريف السابق سيتجاوز اخلطاب حدوده املعجمية املألوفة جتاوزاً -
احتوائياً ال تنصلياً فهو التواصل الشفهي واحلديث واحلوار واملعاجلة الرمسية ملوضوع
ما يف الكتاب أو الكالم وهو القدرة على االستفسار والسؤال والتفكري وهو
إجراء مناقشة أو إصدار موسيقى وأخرياً حسب بنفنست هو وحدة تتضمن
أكثر من مجلة تشكل نصاً يستخدمه اللسانيون(.)91
22
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ويف معجم لساين آخر يعرف اخلطاب بأنه "مصطلح يستخدم يف اللغويات
لإلشارة إىل التوسع املتصل باللغة (وال سيما املنطوقة) توسعاً أبعد من مستوى اجلملة،
وباملعىن العام فإن اخلطاب هو وحدة سلوك هلا حاالت نظرية مسبقة يف جمال اللغة"(.)99
ويف مكان آخر ،يعرف اخلطاب بأنه اللغة اليت مت إنتاجها نتيجة لعملية االتصال(.)96
)(1 Dectionary of Language and Lingusitcs, Hadu mod Bussmann, Trans. By
Gregory P. Trauth and Kevstin Kazzazi, London, 1996, (p.131).
)(2 A first dictionary of linguistics and phonetics, david crystal, Andre
Devtsch (p.114).
)(3 Jack Rchards, longman Dictionary of Applied Linguistics, 1985,
p. 83- 84.
23
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
24
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
موضوعها الذي كانت حدوده تقف عند مستوى اجلملة ،وقد أمثر ذلك يف النظرية
البنيوية وما بعدها ،إذ أثار استخدام مصطلح اخلطاب اختالفاً كبرياً يف وجهات النظر
السابقة للغة والتمثيل؛ حني رأى املنظرون البنيويون وما بعد البنيويني -كما سيظهر ذلك
يف املبحث القادم -اللغة بوصفها نظاماً بقواعده اخلاصة وضوابطه وبتأثريه احملدد على
الطريقة اليت يفكر فيها األفراد ويعربون عن أنفسهم وليس بوصفها تفسريية أو شفافة
فقط ،بل بوصفها وسيلة للتواصل أو شكالً من أشكال التمثيل(.)61
أما تودوروف فقد كان شغوفاً بنقل حصيلة االنتاجات األلسنية حبق اخلطاب
إىل دائرة العمل األديب ،فقال إن اخلطاب هو "جمموع البنيات اللفظية اليت تعمل يف كل
عمل أديب"( .)61أما الدراسات األسلوبية فقد اهتمت بتحري اخلصائص اللغوية اليت
يتحول هبا اخلطاب عن سياقة اإلخباري إىل وظيفته التأثريية واجلمالية(.)61
ويبدو أن املشرتك يف كل ما سبق ميكن أن ندرجه ضمن النقاط التالية:
-1إن اخلطاب يف كل اجتاهات فهمه العامة هو اللغة يف حالة فعل مصدرها فاعل
منتج(.)69
-1اخلطاب منظومة مجلية وحدهتا الصغرى اجلملة ،حمكومة بنظام من امللفوظات.
25
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-1للخطاب عناصر هي املرسل واملرسل إليه والرسالة يتوجهم هدف التأثري واإلفهام.
-9إن اكتمال دائرة التأثري الداللية يف اخلطاب تنبين على تفاعل املرسل إليه مع
املرسل من خالل الرسالة املندرجة ضمن سياق .واحململة جبملة من الشيفرات.
-6يظهر علم اللسانيات احلديث ويوسع مفهوم اخلطاب وال جيعله قاصراً فقط على
الكالم ،بل اخلطاب مدونة كالمية موضوعة ضمن إطار تواصلي يستثمر
االشارات واالمياء والنرب والتنغيم.
-5إن هناك دالالت يف الكالم غري ملفوظة يدركها السامع أو املتحدث دون عالقة
معلنة أو واضحة جيب االلتفات إليها.
26
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يكون اخلطاب
خمتلفة للخربة وأن مصدر هذه التمثيالت هو السياق التواصلي الذي ّ
"(.)65
وهذا التعريف خيصب دالالت اخلطاب االصطالحية ويرفع من مستوى انفتاحه
على الدالالت الثقافية .ويرفع من درجة توظيفه ،ويلغي إصرار حناة اجلملة الذي يرتكز
اهتمامهم على دراسة اجلملة ويرون أن اجلملة هي اليت جيب أن تكون حمور الدرس
اللغوي باعتبارها الوحدة األساسية للكالم ومن هؤالء تشومسكي(. )61
الثاين :جون أوسنت( .)1059-1011( )61الذي أملح يف حديثه عن اخلطاب
على العالقة اليت ال تنفصل بني اللغة والفعل واحلقل وإىل ضرورة فهم املمارسة اخلطابية
بوصفها ممارسة اجتماعية ال تنفصل فيها اللغة عن املوقف ،أو املنظومات عن الفعل
الذي يؤكد نوعا من املعرفة(.)60
27
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وهذا سيتجلى الحقاً عند (فوكو) يف قوله إن اجملتمع مجْع اخلطابات املوجودة
فيه ،وأن أية نظرية عن القوة والشرعية والسلطة متالزمة مع املعرفة ،ذلك التالزم الذي
حدده فوكو يف عباراته الشهرية اليت تؤكد أنه ال توجد عالقات قوة ال تقوم بتأسيس ما
يلزم عنها من خطاب معريف ،بل ال توجد معرفة ال تفرتض عالقات قوة تتأسس هبا(.)59
21
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
( )61مقدمة إلى تحليل الحديث ،ترجمة قاسم المقداد ،مجلة المعرفة ،دمشق ،عدد ،1111 ،221
ص.21
( )62صالح فضل :علم الخطاب وبالغة النص ،ص.16 -15
21
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
على دراسة خواص اخلطاب الفنية النوعية( )51وعن املفاهيم اخلطابية اليت ارتقت بأفق
املصطلح املفهوم الذي طرحه مارك اجنينو عن داللة اخلطاب عندما ردها إىل كل ما يقال
أو يثبت يف جمتمع من اجملتمعات من حيث االنساق املولدة وخمزونات املوضوعات،
وقواعد التلفظ اليت تقوم بتنظيم ما يقال وما ال يقال داخل اجملتمع ،يف الوقت الذي
تعمل على صيانة تقسيم العمل اخلطايب(.)59
ومارك اجنينو يف هذا التعريف خيصص اخلطاب العام املتلفظ به يف اجملتمع؛ أي
مينح كل جمتمع خطاباً خيتص به جمتمع أنساقه وخمزوناته .أما يورجان هامربس*(.)56
فاخلطاب لديه ذلك الشكل اللغوي الذي توجد فيه دعاوي السالمة()55؛ أي ذلك
اخلطاب الذي يسمح بقول ومينع قوالً آخر ،وهو القول امللتزم باألصول السليمة.
ويستخدم باختني ( )1016 -1106اخلطاب ليشري إما إىل الصوت أو إىل
طريقة استخدام الكلمات اليت تفرتض سلطة (وهذا االستخدام متأثر مبعىن الكلمة
الروسية للخطاب .)51()Slovoأما حتليل اخلطاب فيعين لديه دراسة عمليات التلفظ
اللغوي يف سياقات أدائها االجتماعي ،على أساس أن السياق االجتماعي جزء ال
ينفصل عن أي فعل لغوي وأن معىن كل تلفظ يتضمن وضع املتكلم بوصفه ذاتاً
اجتماعية تنعكس على غريها ،وأفق االستقبال الذي يعين القيم السابقة للمستمع،
والتجسد التارخيي للغة بوصفها فضاءً أيديولوجياً تؤسسه ،وتتفاعل فيه -متقاربة أو
متصارعة -كل اخلطابات املوجودة بوصفها
31
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ظواهر اجتماعية ،وبوصفها عالقات (وعالمات) قوة يف الوقت نفسه .ويعين ذلك أن
اخلطابات تقوم بتنظيمات بعينها إلنتاج املعرفة وتوزيع القوة ،وتعمل بوصفها أنساقاً
من وذجية لتحديد املعاين وتوصيلها ،خالل تشكالهتا املختلفة اليت ال تكف عن التالقي
والتصادم والتنافس ،مؤسسة بذلك العملية احلوارية الكربى للمجتمع كله ،فكل خطاب
مبثابة فضاء (أو عملية) تتأسس فيه العالقات بني األفراد (العالقة الذاتية) ،ويتم إنتاج
موضوعات املعرفة ،وتتولد مواصفات القيم ،وذلك على حنو مييز كل خطاب عن غريه،
ويواجه كل خطاب غريه يف عالقات املعرفة اليت هي عالقات القوة يف اجملتمع(.)51
من هنا تتقاطع اخلطابات وتتداخل ورمبا تتشارط أو تتصارع أو تتنابذ فاخلطاب
يوازي احلضارة كونه الناطق الرمسي هبا ،وإذا اختلفت احلضارات اختلفت اخلطابات
وتصارعت.
يوسع أفق املشهد
إن تعبئة وحدات اخلطاب بالقوة املعرفية ألي حضارة ّ
االصطالحي للكلمة ( )Discourseحىت تصبح نقطة تفاعل ومد وجزر بني عدد
وجيز من اجملاالت يف كل أحناء العامل املتقدم ،فنبتت كثري من دراسات حتليل اخلطاب
خارج تربة علم اللغة وخاصة تلك املتعلقة باحلضارة.
إ ّن اخلطاب يف الفلسفة الغربية نشاط فكري نوعي ازداد اإلقبال عليه بتصاعد
الثورة الكونية يف تكنولوجيا االتصاالت والتجليات احلداثية ،وما بعد احلداثية للهيمنة،
والتقدم النوعي يف وسائل إنتاج املعرفة وتوزيعها والوسائل املوازية يف غرضها ،مبا يؤكد
عالقات القوة والعالقات املضادة هلا على السواء .وذلك نشاط يتميز بتضافر
االختصاصات املتباينة ،وتفاعل املطامح
31
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
32
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
داللة وصف على عدد معني من العبارات وتشري إليها؛ أمل أجعل لفظ اخلطاب الذي
كان من املفروض أن يقوم بدور احلد أو الغطاء للفظ العبارة ،يتغري حبسب تغيريي لوجه
التحليل وملواطن تطبيقه ،ومبقدار ما كانت تغيب عن بايل .العبارة ذاهتا "(.)11
وبنظرة معمقة يف التعريفات الثالثة السابقة جند ما يلي:
التعريف األول :يظهر أن مجيع امللفوظات أو النصوص اليت هلا معىن واليت هلا
بعض التأثري على العامل الواقعي تع ّد خطاباً( ،اخلطاب يف مستواه العام).
ِ
ىن معينة ضمن اخلطاب ،وبذلك فهو مهتم بأن التعريف الثاني :يناقش فيه ب ً
يكون قادراً على حتديد اخلطابات ،أي جمموعة امللفوظات اليت يبدو أهنا تنظّم بطريقة
معينة يبدو أهنا متتلك اتساقاً وقوة مشرتكة بينها؛ لذا سيظهر خطاب نسوي وآخر
امربيايل وثالث استشراقي وهكذا ،فاخلطابات اليت نفكر هبا هلا ختصيص واضح إىل
مناطق مميزة :فهي رمبا تكون جزءاً من الدين ،وجزءاً من املعرفة وجزءاً من الثقافة(،)11
فاخلطابات ال تولد مقسمة بل حنن حنددها وقد خنطئ يف هذا التحديد.
التعريف الثالث :وهو أكثر التعريفات صدى ،إذ يهتم مبلفوظات النصوص
املنتجة أقل من اهتمامه بالقواعد والبىن اليت تنتج ملفوظات معينة ،إن طبيعة اخلطاب
هذه اليت حتكمها القوانني هي اليت تتمتع باألمهية الكربى
( )71ميشال فوكو :حفريات المعرفة ،ترجمة :سالم يفوت ،المركز الثقافي العربي ،بيروت،
،1117ص .76
)(2 Dian Macdonell: Theories of Discourse, Oxford: Basil Blackwell
Ltd., 1986, p. 95.
33
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ضمن هذا التعريف ،ففي عمل معظم منظري اخلطاب تستخدم هذه التعريفات بشكل
متبادل وميكن ألحدها أن ينبين فوق اآلخر(( .)11مستوى اجلنس الكتايب) الذي قد
يكون مقاالً أو رواية أو مسرحية وهكذا.
لقد ق ّدم " فوكو" مفهومه عن اخلطاب على أنه منظومة من القواعد اليت تنتظم
داخل املمارسة اخلطابية ،وهو منظومة تسمح بتكوين مواضيع البحث ،وتوزيعها ،وحتدد
أمناط القول أو لعبة املفاهيم واالحتماالت النظرية(.)19
وهذه املنظومة شبكة معقدة من العالقات االجتماعية والسياسية والثقافية اليت
حتدد كيفية إنتاج اخلطاب ،وهنا يتدخل الدور الواعي للخطاب "املتمثل باهليمنة اليت
ميارسها يف حقل معريف أو مهين أصحاب ذلك احلقل على صحة خطاب املتحدث
ومشروعيته ،وما إىل ذلك من مالبسات تشري بوضوح إىل أن إنتاج اخلطاب وتوزيعه ليس
حراً كما قد يبدو ظاهره"( )16وعندها قد يتحول اخلطاب إىل أداة مباشرة لإلخضاع
األيديولوجي( ،)15فجميع أنواع اخلطاب تتموضع أيديولوجياً وليس منها ما هو حمايد(.)11
إن اخلطاب ضمن مستواه النصي ميتلك سلطة على متلقيه مستمعاً أو قارئاً:
سلطة تظهر يف استغراقه يف اخلطاب وتأثره مبا فيه من طاقة بيانية فينتاب املتلقي ضرب
من الوهم فال يرى الكمال إال فيه ،وال يرى إال مجاله وتلك أشد أحكام السلطة
()11
اخلطابية ،فترتسخ حىت تشكل قناعة عند املتلقي فال جيد فكاكاً
34
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
منها ومن تأثريها ،واملتعة أقل حتكماً من السلطة ،فأنساق اخلطاب ومكوناته وانسجامها
متارس السلطة على املتلقي توجهه أىن شاء فيما تنتقض هذه السلطة إذا ما حضر وعي
القارئ أو السامع بالنظر النقدي إىل مجيع خصائص اخلطاب التكوينية وبتسلح الناقد
مبنظومة حتليلية متكاملة بعدهتا املصطلحية واملفاهيمية واإلجرائية ،فالنظرة النقدية
للخطاب تقلص من تأثريه على املتلقي املتخصص.
وبوسعنا اآلن أن نقرر بأن اخلطاب حسب فوكو يسعى إىل إقرار ثنائينت
متداخليتني متنافستني يف اخلطاب مها :الكلمة والشيء .الكلمة صاحبة الوجود املادي
والشيء الذي جتتمع الكلمات لتأخريه .فاملادية ال تكفي حلصر اخلطاب؛ يقول فوكو:
"أما لفظ اخلطاب الذي أكثرنا وبالغنا يف استخدامه ٍ
مبعان خمتلفة ،فإننا نفهم اآلن سبب
اهبامه ،فقد استعمل بكيفية أكثر عمومية وأكثر التباساً للداللة على جمموع اإلجنازات
اللفظية ،وكنا نفهم عندئذ لفظ خطاب ما مت إنتاجه (أو كل ما مت إنتاجه عند االقتضاء)
بواسطة األدلة .كنا نفهم منه كذلك جمموعة من أفعال الصياغة ،أو اجلمل والقضايا.
وأخريا :وهذا هو املعىن الذي كنا نفضله (إضافة إىل األول الذي يشكل بالنسبة له أفقاً)
اعتربنا أن اخلطاب يتكون من جمموعة من األدلة من حيث هي عبارات وبوصفنا قادرين
على أن نعني أمناط وجودها اخلاصة"(.)10
يوسع ما قدمه اللسانيون عن اخلطاب ،فاخلطاب -حسبما يفضل- ففوكو ّ
جمموعة عبارية نابعة من سجل نظام التكون ويتجاوز كونه وحدة بالغية ميكن أن تتكرر
إىل ما ال هناية.
35
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
( )11انظر -ميشال جاريتي :المذاهب الشكالنية ،مجلة كتابات معاصرة ،تموز ،2112عدد ،47
ص .12
كما يظهر في دراسته "حفريات المعرفة" 1161وهي مجموعة من الدراسات أنجزها في
الستينيات طوّ ر فوكو فيها آركيولوجيا (علما ا للحفريات) استجوب بعض التحوالت في الفكر
الغربي على امتداد األربعمائة سنة األخيرة ،فاقتصر الكتاب على التحليل العام ألنواع الخطاب
(التاريخ الطبيعي ،واالقتصادي والسياسي مثال) في وحداتها الكبرى وقواعد تشكلها وأنماط
عملها.
( )11راجع .D. Macdonell: Theories of discourse, p. 82 :
ولم يحظ هذا الميدان بكبير اهتمام عند فوكو ،فقد تعاملت اركيولوجيا فوكو مع الميادين
اإلنسانية بشكل خاص ،وليس مع العلوم المادية.
( )12راجع :عبد هللا ابراهيم :المصطلح ظاهرة االنزياح الداللي (.)on-line
36
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إن منهج فوكو يف كتابه "حفريات املعرفة" ال يتضمن أي حماولة للجري أو
اللهث وراء البدايات كما ال يقرن التحليل بأي تنقيب أو سرب جيولوجي ،بل يدل على
الفكرة األساسية واحملورية العامة لوصف هدفه؛ استنطاق املاقيل يف مستوى وجوده ،ويف
مستوى الوظيفة العبارية اليت متارس عليه والتشكيلة اخلطابية اليت ينتسب إليها ،واملنظومة
العامة الحتفاظه وظهوره .فاحلفريات تصف اخلطاب كممارسات حمددة يف عنصر نظام
االحتفاظ والظهور"(.)11
إن اخلطاب يتلخص عند فوكو يف اقرتانه باملمارسات األبستيمية اليت تقع يف
مرحلة الوسط بني معايري النسق اللغوي من جهة واالستخدام الفردي للغة من جهة
أخرى ،فاخلطاب عند فوكو يأىب أن يكون مللم ًة توفيقية للكلمات ،فال حيضر معناه يف
قواعد قوة ضابطة للنسق اللغوي فحسب ،إنه ينطوي على العالقة البينية بني
الذوات( ،)19ويكشف عن اجملال املعريف الذي ينتج وعي األفراد بعاملهم ،ويوزع عليهم
املعرفة املبينة يف منطوقات خطابية سابقة التجهيز.
37
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
والتوجه الفلسفي بتنوعاته الفكرية ،فاخلطاب إما تسلسل ُمجلى أو توجه يكشف فلسفة
(ما) .مع إملاح إىل تفرع اخلطاب حنو الداللة وانفتاحه على العلوم اإلنسانية املتعددة .ولنا
أن نستعرض أبرز تعريفات اخلطاب يف الدراسات العربية.
يوحد "حممد خطايب" تعامله مع مصطلحي النص واخلطاب ،فهما مسميان ّ -
لشيء واحد .وبناء عليه يصبح النص /اخلطاب -حسب مزجه" -كل متتالية من
اجلمل -كما يذهب إىل ذلك هاليداى وحسن -نصاً ،شريطة أن تكون بني هذه
اجلمل عالقات ،أو على األصح بني بعض عناصر هذه اجلمل عالقات ،تتم هذه
العالقات بني عنصر وآخر وارد يف مجلة سابقة أو مجلة الحقة ،أو بني عنصر
برمتها سابقة أو الحقة"( )16فاخلطاب عند حممد خطايب ال خيرج عن
وبني متتالية ّ
الدائرة العامة اليت خطتها األلسنية عام 1061كما هي عند هاريس.
أما "مازن الوعر" فريى يف علم اخلطاب مثرة تتوج شجرة املناهج املتشابكة ،فعلم -
اخلطاب لديه أو علم النص هو " نظرية قامت على أنقاض األسلوبيات
ومناهجها املتعددة؛ ذلك ألن هذا العلم هو أكثر تطوراً وأشد حساسية جتاه
النص األديب الذي مل تستطع البالغة واألسلوبيات أن تتعامال معه على حنو
تواصلي (اثنوغرايف) عميق .فقد استطاع هذا العلم التعامل مع الشبكات الداللية
والثقافية واالجتماعية والدينية
( )15محمد خطابي :لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب ،المركز الثقافي العربي ،بيروت،
،1111ط ،1ص .13
31
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
والسيميولوجية للنص األديب بدقة وعمق" ( )15فمازن الوعر ميتدح -وهو ألسين –
جماوزة اخلطاب لبنيته الظاهرة إىل بنيته العميقة ،ويف سياق آخر يقول يف الصدد
ذاته " :ما نريد قوله إن من املفيد أال نتطلع إىل اخلطاب يف شكله الظاهري فيما
إذا كان حمادثة أم كتابة ،بل جيب أن ننظر بعمق إىل أبعاده وأهدافه(.)11
ويف األسلوبية العربية يعرف " سعد مصلوح" اخلطاب بأنه " رسالة موجهة من -
املنشئ إىل املتلقي تستخدم فيها نفس الشفرة اللغوية املشرتكة بينهما ،ويقتضي
ذلك أن يكون كالمها على علم مبجموع األمناط والعالقات الصوتية والصرفية
تكون نظام اللغة ،أي الشيفرة املشرتكة"( )11وما ذهب إليه
والنحوية والداللية اليت ّ
سعد مصلوح قد ال ينطبق على مجيع اخلطابات ،فقد ينطبق قوله على اخلطاب
الدارج -كالماً أو كتابة -الذي يهدف إىل التوصيل ،فقد تتجاوز وظائف
اخلطاب هذه الوظيفة ،فضالً عن اشرتاطه فهم املتلقي للغة املرسل ،وهذا رأي قد
ينطبق على خطابات ُكتبت بنفس اللغة لكنها عصيّة على الفهم.
أما "عبد السالم املسدي" فيقدم تعريفه مباشرة عن اخلطاب األديب ،إذ ع ّده " -
كياناً أفرزته عالقات معينة مبوجبها التأمت أجزاؤه ،فقد تولّد عن ذلك تيار
يعرف امللفوظ األديب بكونه جهازاً خاصاً من القيم طاملا أنه حميط
ّ
( )16مازن الوعر :علم تحليل الخطاب وموقع الجنس األدبي ،مجلة آفاق التراث والحداثة ،اإلمارات،
عدد .1116-14
( )17مازن الوعر :تقنيات الخطاب المقنع والخطاب العادي ،مجلة الموقف األدبي ،دمشق ،تموز،
،2112عدد .375
( )11سعد مصلوح ،األسلوب ،1111 ،الكويت ،دار البحوث العلمية ،ص .23
31
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ألسين مستق ل بذاته وهو ما أفضى إىل القول بأن األثر األديب بنية ألسنية تتجاوز مع
السياق املضموين جتاوزاً خاصاً"(.)10
إن اخلطاب األديب يف حمصلته األوىل معطى تفرزه العالقات حيث يتفاعل
بعضها مع بعض؛ إذ تشكل كياهنا اخلاص .كما يالحظ أن املسدي أضفى على
مصطلح اخلطاب صفة عدم االستقرار فهو مرة خطاب ومرة أخرى كيان ُمفرز ومرة ثالثة
جهاز خاص ،وهو كذلك حميط الشيء ،ومن مث أثر أديب أو بنية ألسنية فهل هلذه
املفاهيم من موحد؟ وهل اخلطاب يستطيع أن يستوعبها؟
أما "نور الدين السد" وهو أحد الباحثني الناشطني يف جمال اخلطاب فيعرف
ِ
املخاطب اخلطاب بأنّه" :إجناز يف الزمان واملكان" .ويقتضي لقيامه شروطاً أمهها
واملخاطَب .وحتدد كيان اخلطاب مكونات تعلن عن حدوثه وهي :األصوات واملفردات
(الكلمات) والرتاكيب والداللة والتداول .وإذا كان ذلك فإن اخلطاب وجود فيزيائي ،ألن
اللغة ظاهرة فيزيائية إىل جانب كوهنا اجتماعية وتعبريية وتوصيلية ،وهي بنية حتكمها
عالقات تعلن عن انتمائها إىل كيان لغوي متماسك عرب نسيج من الكلمات مرتابطة
فيما بينها ،وهبذا يكون اخلطاب نظاماً من العالقات الدالة ظاهراً وباطناً"(.)09
ونور الدين السد فيما سبق ينهج هنجاً توصيفياً لتحديد اخلطاب زماناً وشكالً
وصوتاً وبىن فال يغلّب جانباً على جانب آخر ،فاخلطاب قبل كل شيء
( )11عبد السالم المسدي :األسلوبية واألسلوب ،ط ،2الدار العربية للكتاب ،1112 ،تونس ،ص
.111
( )11نوارة بوعياد :دراسات في اللغة واألدب
)http://www.aljahidhiya.ass.dz/Revues/tabyin17/mathoumelkhitab.htm (on-line
41
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إجناز .ويف تعريفه السابق يقارب نور الدين السد مفهوم الفعل الكالمي أداة
أساسية يف التواصل حتكمها قوانني وقواعد اجتماعية ولغوية(.)01
وتعريف "حممد مفتاح" ال يبتعد كثرياً عن هذا التوجه فاخلطاب لدى حممد
مفتاح يندرج ضمن ما يلي:
-1مدونة كالمية.
-1حدث ،كل خطاب هو حدث يقع يف زمان ومكان وال يعيد نفسه إعادة مطلقة.
تواصلي :لتوصيل املعلومات واملعارف. -1
تفاعلي :بوصفه وظيفة معززة للتواصل. -9
مغلق :أي انغالق مسته الكتابية األيقونية اليت هلا بداية وهناية. -6
تداويل :فاحلدث اللغوي ليس منبثقاً من عدم ،بل متولد من أحداث تارخيية -5
ونفسانية واجتماعية ولغوية ..وتتناسل منه أحداث لغوية أخرى الحقة.
"فاخلطاب إذن مدونة ،حدث كالمي ذو وظائف متعددة"(.)01
وهنا حياول حممد مفتاح مللملة مفردات اخلطاب من خالل حصر وظائفه،
فالوظائف تكشف ماهية املصطلح الذي هو بدوره يكشف مدى عمل املفهوم ونشاطه.
41
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
أما بنيوياً فتعد دراسة سعيد يقطني (حتليل اخلطاب الروائي) من الدراسات -
املستقصية لنشأة اخلطاب ،فبعد أن يسرد وحيلل يف مقدمة كتابه أهم منظري
اخلطاب ،ويعلق عليهم يقدم لنا تصوره عن اخلطاب الروائي ،فاخلطاب الروائي
()01
عنده هو الطريقة اليت تقدم هبا املادة احلكائية يف الرواية .وهو يطرح مفهوماً
ُجمتزأً للخطاب عندما ّ
خصصه بالرواية .لكنه يُبقى الطريقة اليت تعرض هبا املادة
اخلطابية؛ إضافة إىل رغبته يف توسيع آلية اخلطاب وتنويع ممارساته يف نقل املادة
بأكثر من صيغة.
ومن الدارسني اجلادين يف موضوع اخلطاب نثبت تعريف "إبراهيم صحراوي" -
للخطاب ،فاخلطاب لديه" :كل جمموع له معىن لغوي (شفوياً كان أم كتابياً)،
تعليمي ،سينمائي ،رمسي"(.)09
ختتلف أبعاد هذا اجملموع من حالة إىل أخرى .فقد يكون مجلة واحدة أو فقرة
أو نصاً يتكون من فقرات متعددة .كما ختتلف أشكاله ومضامينه وجماالته الداللية .وهو
يف كل حالة خيضع لقواعد وقوانني خاصة تنظمه .على أنه جيب إدراج هذا اجملموع أو
البناء ذي الداللة يف سياق تبليغي يفرتض وجود قطبني جتري بينهما العملية سواء أكانت
مباشرة أم غري مباشرة ،واخلطاب هبذا املعىن رسالة تندرج يف العامل الثقايف الذي ينتمي
إليه مرسلها ،وحتمل كل القيم مجاليةً كانت أم اقتصادية أو سياسية ...وما إىل ذلك مما
يدخل يف تركيبة عامل ثقايف
42
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
معني"( .)06وإبراهيم صحرواي ينهج هنجاً مشولياً يف مللمة ما قرأه عن اخلطاب ووضعه يف
تعريف واحد واسع أكثر منه ُحمدِّداً.
وصالح فضل يؤازر مثل هذا التوجه ،فريى أن اخلطاب بات يتجه اليوم ليصبح
"طريقة يف التناول التقين ومنهجاً للتحليل العلمي دون االعتماد على مصادرات مسبقة
ومعايري دائمة ،تستمد صالبتها من البنية األيديولوجية املغلقة"( )05وهذه الرؤية تظهر
حماولة استيعاب للخطاب وجعله طريقة لنقل األفكار وتصوراً للتفاعل اإلنساين .وقد
نلمس يف رؤيته أيضاً تأثراً بطرح تودوروف الذي ع ّد اخلطاب متنوعاً ضمن املادة اليت
يعمل عليها.
-ومن الدراسني العرب الذين حاولوا طرح اصطالح للخطاب منذر عياشي،
فاخلطاب كما يعرفه" :جمموعة منظمة من اجلمل وهدفه احلصول على
اإلقناع"( .)01وعلى ما يبدو أن منذر عياشي يتعامل مع اخلطاب على أنه عمل
فكري يظهر يف آلية اجلمل املنظمة .إن املزج بني املذهب اللساين واملذهب
الفلسفي يف تعريف اخلطاب لدى الدارسني العرب خيّم على مشهدهم البحثي.
ابراهيم صحراوي :الخطاب األدبي لدى جرجي زيدان ،ص .5 ()15
صالح فضل :بالغة الخطاب ،وعلم النص ،ص .1 ، 1 ()16
منذر عياشي :مقاالت في األسلوبية ،1111 ،اتحاد الكتاب العرب ،دمشق ،ص .112 ()17
مصطفى ناصف :اللغة والتفسير والتواصل ،سلسلة عالم المعرفة ،الكويت ،1115 ،عدد ،113ص ()11
.332
43
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فهذه دعوة صرحية لتتبع أنواع اخلطاب واخلروج على منطية اخلطاب الواحد وما
يقصده الباحث وينتصر إليه البحث عن آليات أخرى للخطاب غري اللغة ،يقول" :إن
العالقات االجتماعية ال يستوعبها خطاب واحد وال ميكن أن يعترب اخلطاب األديب
خالصة واقعية لنشاط اللغة الكثيف املتقاطع"( .)00إن مصطفى ناصف من خالل تعقيبه
هذا حياول صقل نظرية الستيعاب اخلطاب يف الفكر العريب احلديث ،ومن مث ظهور
خطابات متخصصة .كما ظهر لدى "حممد عابد اجلابري" الذي يرى يف اخلطاب
خالصة فكرية أو توجهاً إديولوجياً حني يقول" :عندما نتحدث عن الفكر العريب أو أي
فكر ،وحنن نعي منتجات هذا الفكر فإننا نقصد أساساً جمموعة من النصوص ،والنص
رسالة من الكاتب إىل القارئ فهو خطاب"(.)199
لذلك ظهرت لدينا خطابات كثرية اكتسبت مسمياهتا من الفحوى الفكرية أو
الوظيفة اليت حتملها .فهناك اخلطاب االستشراقي وهناك خطاب اهليمنة وهناك خطاب
القوة وخطاب الفلسفة وكذلك خطاب اخلطاب.
ومن األدباء العرب الذين استثمروا لفظة اخلطاب على النحو األخري"أدونيس"
الذي وظّف يف إحدى كتاباته لفظة "اخلطاب الرتاثي" عندما يقول" :غري أ ّن اخلطاب
الرتاثي السائد يقوم يف منطلقاته ومنظورته على إرادة توحيد الرتاث ووحدته يف هوية
متميزة متواصلة هي هوية الواحد )191( "...فأدونيس يستخدم لفظة اخلطاب قاصداَ ًً هبا
فحوى التوجه الثقايف الفكري للرتاث ،إنه
44
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفكر املوجه الذي حيمل رؤية حمددة ،وبذلك فهو التعبري عن الرؤية اإلنسانية
يف مرحلة معينة(.)191
وخالصة ما سبق أن الدراسات العربية كانت وفية الصطالحات اخلطاب اليت
ق ّرت يف الثقافة الغربية فلم خترج عنها بل دعمتها باالستخدام والرتويج ومل تتميز أية
حماولة يف اخلروج عن البعد األلسين أو البعد الفلسفي للخطاب ،باستثناء بعض
الدراسات العابرة اليت خرجت عفو اخلاطر عن هذين التوجهني جلهل أسبق مبكنوهنما.
( )112ومن الذين آزروا هذا التوجه في توظيف مصطلح الخطاب -:علي حرب :نقد النص ،المركز
الثقافي العربي ،بيروت - ،1113 ،فادي اسماعيل :الخطاب العربي المعاصر ،المؤسسة
الجامعية ،ط.1113 ،2
45
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
سعيد يقطين :المصطلح السردي العربي قضايا واقتراحات ،مجلة نزوي ()113
)(www.nizwa.com/volume21/p61-68.htm) (on- line
نور الدين السد ،األسلوبية في النقد العربي الحديث Kص .111 ()114
سعيد يقطين :انفتاح النص الروائي ،المركز الثقافي العربي ،ط ،1،1111ص .11 ()115
نور الدين السد :األسلوبية في النقد العربي الحديث ،ص .211 -211 ()116
46
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
معرض حديثه عن ترادفهما يغيّب لفظة "اخلطاب" معتمداً على لفظة "النص" للقيام
باملهمة عن اللفظة األخرى :فيصبح معىن النص ذلك الذي يستخدم للإلشارة إىل
أي فقرة ملفوظة أو مكتوبة ،كما حييل النص على كل بناء نظري جمرد ،فداللته
وداللة اخلطاب واحدة .وإىل ذلك يذهب "فان دايك" أيضاً .كما أن النص هو
سلسلة من العالمات اللفظية"(.)191
ومن الدراسني العرب الذين مزجوا بني املصطلحني يف مرادف واحد "حممد -
مفتاح" الذي حيلل اخلطاب الشعري حتت نظرية "اسرتاتيجية التناص" .فيستخدم
اخلطاب مبفهوم النص إذ يقول ":إن هذه النظرية الكلية اجلامعة بني اللسانيات
الوضعية والذاتية املستغلة لكل معطيات النص قربتنا خطوات يف سيبل إدراك
خصوصيات النص األديب ،ومع ذلك فإننا نظن أن تشاكل اإليقاع ودورية املعىن
وكثافته ،وخرق الواقع هي من قوانني اخلطاب الشعري ال ختتلف"(.)191
47
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
النص هو السند املادي -يف شكله الكتايب املقروء أو شكله الصويت أولا:
املسموع( -)190للخطاب الذي هو بدوره فلسفة تفهم وأفكار تؤطّر يكلف
النص بتأديتها(.)119
فالنص هنا يساوي املنت ) (Cropusويطلق يلمسليف Hjelmslevكلمة
نص على القول الشفوي أو اخلطي ،إنه ذلك املتمثل يف بنية القول املادي
تتناوله مناهج التحليل الصويت والداليل والبنوي املهتمة أساساً بالقول دون
املنتج أو املتلقي(.)111
يرى جيفري لييش ومايكل شورت أن اخلطاب تواصل لغوي يرى أنه اتفاق ثانيا:
(معاملة) بني املتحدث واملستمع بوصفه نشاطاً تواصلياً حيدد شكله بغرضه
االجتماعي .أما النص فهو تواصل لغوي إما حمكي أو مكتوب يرى ببساطة
على أنه رسالة مش ّفرة يف وسيطها السمعي أو املرئي(.)111
متلق مباشر ،بينما النص يتم إعداه ٍ
ملتلق غائب يتلقاه ثالثا :يفرتض اخلطاب وجود ٍ
الحقاً ،فاخلطاب نشاط تواصلي بينما النص مدونة( )111او تسجيل
41
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
متعددة ( )116أو كالمي حلدث تواصلي( )119أو مدونة حدث كالمي ذي وظائف
آلة بصرية يقدمها املؤلف للقارئ (.)115
رابعا :اخلطاب ممارسة نظرية أي (آلية عمل) .أما النص -حسب جوليا
كريستيفا( )111فجهاز عرب لساين ،كما أنه جسم كتايب مكتمل -حسب دريدا
()111
حي ينتج عن هذه املمارسة.
ّ كائن إنه -
ٍ
مستكف بذاته "منغلق عليها" .أما اخلطاب فهو نشاط تواصلي النص جسدخامساّ :
ضمن سياق اجتماعي ما يتطلب االنفتاح على غريه ليكتمل فتتخصب
دالالته(.)110
سادسا :النص هو صياغة املعىن يف إطار تكون مادي .أما اخلطاب فهو عملية حتويل
املعىن إىل أفكار تقبل احملاورة واالنطالق جمدداً( .)119فالنص هو فن يصوغ
املعاين أما اخلطاب فهو الذي ينشِّئها.
سابع ا :النص حسب -فان دايك -بناء نظري حتيت جمرد ملا يسمى عادة خطاباً(.)111
فالنص يف حمصلته النهائية خطاب موثّق ،أو حسب بول ريكور بأن النص
خطاب مت تثبيته بواسطة الكتابة(.)111
41
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ثامنا :ميكن جملموعة من النصوص ذات مسة معينة أن تشكل خطاباً ،فاخلطاب ال
حتده حدود النص .أما النص كمادة فينتهي عند انتهاء النص وال يندمج بغريه،
ألن االكتمال من خواصه( )111واالكتفاء بالذات من طبائعه.
يكون خطاباً ،بل إن مهمته األساسيةتاسعا :النص يشرتط الرتابط حىت يستطيع أن ّ
أن مينحنا الرتابط الرصفي .الذي يؤدي إىل اكتمال النص حىت تتحقق ممارسة
()119
اخلطاب.
عاشرا :الن ص طموحه ينتهي بانتهاء النص ،أما اخلطاب فيبدأ عندما ينتهي النص
ليعيش منظومته مع اخلطابات األخرى اليت يتسامل معها أو يتصارع أو يتنابذ.
أحد عشر :إن النص حيتوي على داللة غري قابلة للتجزئة( )116كأن يكون "قصة" ،أو
"وثيقة" أو أن يكون "قصيدة" مبا يعين أنه حيقق وظيفة ثقافية حمددة ،وينقل
داللتها الكاملة .أما اخلطاب فداللته تقبل التجزئة والتقسيم والتوزيع واجلمع.
ثاني عشر :إن اخلطاب يراد به -جتاوزاً -أن يكون نصاً مفتوحاً على وضعيات التواصل
أو على سياقات التعامل بالقول .أما النص فهو مندرج يف نسق (جنسوي)
أكرب منه خصوصاً إذا تعلق األمر بالنص األديب( .)115إن اخلطاب يستعري
النص لتنفيذ مراده مث يغادره إىل نص آخر أىن شاء.
51
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ولكن النتيجة اليت جيب أن خنلص إليها ورغم ما ورد يف االستعراض السابق أن
تقر بأن اخلطاب أوسع من النص بالتحديد املعريف اإلبستيمي؛ اذ هو منظومة معرفية
ّ
تتمثل يف مجلة من النصوص وامللفوظات واإلجراءات اليت يستدخلها األفراد وتسهم يف
تشكيل وعيهم وصورة العامل والعالقات فيه ،ومتارس عليهم ومن مث إكراهاهتا السلطوية،
كما أن حتليل اخلطاب عند فوكو يشمل النظر إىل آليات إنتاج اخلطاب وتنظيمه
الداخلي وتوزيعه واملؤسسات اليت ترسم حدوده ومعايريه الشرعية واملشاركني فيه.
أما من وجهة نظر سرديه فاألمر خمتلف متاماً فاخلطاب هو القول الشفهي أو
اخلطي الذي خيرب عن حدث أو سلسلة أحداث ،وهذا التعريف يقربه متاماً من النص يف
صورته آنفة الذكر ويقربه من السرد( .)111فيما يتحول النص إىل جمموعة من البنيات
العميقة أو البنيات النسقية تتضمن اخلطاب وتستوعبه ،فهو مظهر داليل أما اخلطاب
فمظهر حنوي( .)111وهذا اجتهاد مغاير من يقطني ويتناقض متاماً مع مفهوم اخلطاب
املعريف األوسع الذي عرض سابقاً.
وكان منطلق هذا التمييز مرهون بأن التحليل ال ميكنه أن يتوقف عند حدود
الوصف (اخلطاب) ،وأن عليه أن يتعداه إىل التفسري (النص) ولقد سهل هذا التمييز
عملية التفريق بينهما إجرائياً ونظرياً .فضمن هذا التمييز يغدو النص أمشل من اخلطاب
ألنه ميتلك األداء والداللة معاً .يقول سعيد يقطني" :جلأت يف حتليل اخلطاب وانفتاح
النص إىل ربط "اخلطاب" باملظهر النحوي و "النص" باملظهر الداليل .وكان منطلق هذا
التمييز يرهتن بإمياين بأن التحليل ال ميكنه أن يتوقف
51
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
عند حدود الوصف (اخلطاب) ،وأن عليه أن يتعداه إىل التفسري (النص) ولقد سهل هذا
التمييز علمية التفريق بينهما إجرائياً ونظرياً ،وذلك أين كنت أرى ضرورة االهتمام بالنص
باعتباره موئالً للداللة ،وأساساً لالنطالق إىل االهتمام جبوانب أخرى تتجاوز الراوي إىل
الكاتب ،واملروي له إىل القارئ والبنيات السردية إىل الداللية ،وصيغ اخلطاب إىل
بنيات النص .وكان انفتاح النص أساس ذلك التميز الذي مسح يل باحلديث عن التفاعل
النصي (التناص) من خالل التمييز بني البنيات النصية عرب تعريف أوسع للنص ،ألنه
أمشل من اخلطاب"(.)110
أما عن التمييز املعريف بني النص واخلطاب فال نراه يروق لدعاة تطوير النص
الذين مايزوا -مؤخراً -بني نص ظاهر ) (Pheno-Textونص نوعي (Geno
) Textعندما أوكلوا للنص النوعي كثرياً من مهام اخلطاب ،يف حني أن النص الظاهر
نص ذو بنية مادية حيلل صوتياً وتركيبياً وداللياً وبنيوياً .أما النص النوعي -حسب
كريستيفا -فيتجاوز املنت اللغوي املسطح ،بل هو كالم تتطلب قراءته استعادة مراحل
تكوينه لغة وداللة وصوالً إىل كشف موقع منتجه .والنص النوعي جزء من املنطق العام،
املتعدد الوجوه ،غري املقتصر على ما هو متعارف عليه وهو ال خيضع للبنيوية (ألنه فعال
بناء ال بنية) وال للتحليل النفسي (ألنه خارج الالوعي ولو تكون مما يلفظه الالوعي)
والنص ال يتمثل يف البنية العميقة بل هو ينتمي إىل املستوى اجملرد من عمل اللغة ،وال
يعكس بنية اجلملة بل يسبقها ويلحق هبا(.)119
( )121سعيد يقطين :من النص إلى النص المترابط ،مجلة عالم الفكر ،عدد ،2مجلد ،32اكتوبر-
ديسمبر ،2113 ،ص .76
( )131لطيف زيتوني ،معجم مصطلحات نقد الرواية ،ص .161
52
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
( )131عبد هللا ابراهيم :المصطلح وظاهرة االنزياح الداللي (on line) ،مرجع سابق.
53
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
استخدام اللغة ،ميكن أن يعرف بواسطة املؤسسات اليت يتصل هبا ومن املوقع الذي يأيت
منه " (.)111
واملهم فعالً هو أن نكون قادرين على أن نقرر يف أي سياق يستخدم املصطلح
اآلن ،وأي املعاين نسبت إليه.
أما التشتت احلاصل يف فهم اخلطاب فيعود إىل مجلة من األسباب اليت ميكن أن
تضاف إىل احلتمية السابقة ،وهي:
إن كل حقل ثقايف ينظر إىل اخلطاب من زاوية حاجته له ،فاللسانيون يرون فيه
اللغة يف حالة فعل (كالم) ،واملفكرون والفالسفة يرونه ايديولوجيا والنقاد يرونه ممارسة أو
شكالً أدبياً.
انقسام النقاد واملفكرين يف التعامل مع اخلطاب بوصفه عمالً أو بوصفه
ايديولوجيا ،مما أكثر من ختصيصات املفهوم(.)111
توسع مفهوم اخلطاب إىل احلد الذي يسوغ لبعضهم أن جيعل كل ما يدل على
شيء أو كل ما له معىن أن يعد جزءاً من اخلطاب( .)119مما جعل نظريات اخلطاب
احلديث ليست متناسقة( .)116وهذا ما أوقع بعض الدارسني يف ممارسات جمانية
للمصطلح(.)115
54
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ولكن إذا عدنا أدراجنا إىل رصد اخلطاب ضمن تياريه األساسيني األلسين
والثقايف فإننا جند ما يلي:
أ -إن اخلطاب ألسنياً وحدة لغوية أمشل من اجلملة ،فهو نظام من ملفوظات نشأ من
اشتغال اللسانيني على الكالم بوضعه مظهرا خيص كل فرد على حدة ،فاخلطاب
يفعل دور املتلقي.
فردي املصدر بنيّة التوصل والتأثري ،مما ّ
ب -واخلطاب ثقافياً طريقة خاصة يف التعبري عن مفردات معينة يف املعرفة االجتماعية،
جتوزه هذه احلدود.
على حنو يلزم وضع حدود خاصة لكل خطاب بالقدر الذي ّ
كما أن اخلطاب ليس وحدة لغوية مفارقة ،بل وحدة من وحدات الفعل اإلنساين
والتفاعل واالتصال واملعرفة ،وأنه ليس كياناً ثابتاً جامداً من الكلمات والدوال.
فعال من املشاغل واالهتمامات والتوترات والصراعات والتناقضات اليت وإمنا حقل ّ
تكشف عن تنظيم اجملتمع ومؤسساته وأبنية القوى وأدوارها مضمنة ،لذا فتحليل
اخلطاب جيب أن يكون مرتبطا باخلطابات الفعلية وليس باألمثلة املوجزة املعزولة
أو املصطنعة(.)111
وجدير بالذكر التنويه إىل أن ما سبق يعد عامالً رئيسا يف نقض البنيوية اليت مل
حتفل كثرياً بالعامل االجتماعي الذي يصنع املعىن ويعيد إنتاجه.
ومل خترج الدراسات العربية عن أحد هذين التوجهني ،وكأن تلك االجتاهات
فرضت سلطتها يف إقناعنا مبا روجوه مع قناعتنا بكفاءة ما قالوه ،وأنبتت فيه مصطلحاهتا
املتكاثرة عشوائياً؛ مما ح ّد من مقدرتنا االصطالحية على
55
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
استنبات مصطلحاتنا اخلاصة يف ظل غياب حمفزات النمو اليت تفرزها ثقافتنا املغيّبة عن
املشهد(.)111
قاراً على مرجعيته املعجمية أما يف األصول العربية فقد ظل اخلطاب يف جلّه ّ
النصباب االهتمام على مصطلح الكالم املشابه له يف االصطالح احلديث للفظة
خطاب.
إن نوع اخلطاب واخنصاصه ضمن صفة معينة يتبع تلك القيم املهيمنة فيه ألهنا
بؤرة التحكم يف نوع اخلطاب ،فانشغال اخلطاب ضمن وظائفه األدبية جيعله أدبياً
وانشغاله ضمن وظائفه العلمية جيعله علمياً ،واالقتصادية جيعله اقتصادياً وهكذا ،وال جند
ضرورة يف تتبع خصائص كل خطاب على حدة ،فقيم كل خطاب تكتنز فيه وال متانع
من كشف هويتها وهوية خطاهبا املندرجة فيه(.)110
ومبا أن دراستنا هي عن األدب وخطاباته فالبد من عرض تعريف للخطاب
األديب ،فاخلطاب االديب لدى "تودوروف" هو خطاب انقطعت الشفافية عنه معتربا أن
احلدث اللساين العادي خطاب ش ّفاف نرى من خالله معناه"( )199ويعرفه "فاغنز" بأنه
" صياغة مقصودة لذاهتا ،ولغته تتميز عن لغة اخلطاب العادي أو النفعي ،فهو صوغ للغة
عن وعي وإدراك"(.)191
( )131حتى ال يفقدنا التعميم المصداقية نلفت األنظار إلى اجتهاد التهانوي اآلنف الذكر عندما استعرضنا فهمه
المبكر للخطاب في ( ق 11م) والذي كان قد تنبه إليه عبد هللا ابراهيم في دراسته عن المصطلح وظاهرة
االنزياح الداللي.
( )131هناك كثير من الدارسين انشغلوا في البحث عن خصائص كل خطاب كدراسة نور الدين السد :مفارقة
الخطاب األدبي للمرجع ،ص .211-211ودراسة فلاير القضاة :الخطاب الروائي عند أمين معلوف،
أطروحة ماجستير ،الجامعة األردنية ،2112 ،ص .7وهذه األخيرة جهدت في تصنيف الخطابات إلى
قانونية ،سياسية ،اجتماعية.
( )141عن دراسة :نور الدين السد ،األسلوبية في النقد العربي الحديث ،ص .2113
( )141عبد السالم المسدي :األسلوبية واألسلوب ،ص .117
56
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ويعرفه عبد اهلل الغذامي بأنه "فعالية لغوية احنرفت عن مواصفات العادة
خيصها
والتقليد ،وتلبت بروح متمردة رفعتها عن سياقها االصطالحي إىل سياق جديد ّ
ومييزها"(.)191
فاخلطاب األديب هو انزياح عن اللغة التعاملية اليومية يتخلق بأخالق اجلمال
واألسلوب والبنية ،وميتلك وظائف متنوعة جيعل منه أدبياً .وحتليل هذا اخلطاب يكون
منصباً على هذه الوظائف اليت جتعل منه أدبياً كما أملح إىل ذلك جاكبسون( )191يف
معرض حديثة عن العمل األديب.
ومن مجلة الوظائف الشكلية اليت يتخلق هبا اخلطاب األديب ميكننا أن خنصصه
(جنسويا) أهو روائي أم قصصي أم شعري أم مسرحي .وهكذا فاخلطاب الروائي هو
الطريقة اليت تقدم هبا املادة احلكائية يف الرواية وقد تكون املادة احلكائية واحدة ،لكن
الذي يتغري هو اخلطاب الروائي( ،)199ويكون الفارق بني خطاب روائي وآخر هو كيفية
توظيف املادة احلكائية وعناصر اخلطاب الروائي توزيعاً يكشف عن املعاين الواقرة يف
()196
النفس فـ "العلم مبواقع املعاين يف النفس ،علم مبواقع األلفاظ الدالة عليها يف النطق"
أي علم مبنطق النطق الدال على املنطوق.
( )142عبد هللا الغذامي :الخطيئة والتكفير ،إصدارات نادي جده األدبي الثقافي ،ط ،111 ،2ص .6
( )143الشكالنيون الروس :نظرية المنهج الشكلي ،ترجمة إبراهيم الخطيب ،مؤسسة األبحاث
العربية ،بيروت ،ط ،1112 ،1ص .35
( )144سعيد يقطين ،تحليل الخطاب الروائي ،ص .7
( )145عبد القاهر الجرجاني :دالئل االعجاز ،ص . 44
57
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
51
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفصل الثاني
مستويات الخطـاب
( )146استخد ُم مصطل َح النص للمرة الثانية في هذا الفصل استخداما ا واعيا ا حسب التمييز الوارد بينه
مواز للخطاب
ٍ وبين الخطاب في الفصل األول من هذه الدراسة ،فالنص في حالة من حاالته
ضمن إطاره األلسني .أما ضمن إطاره المعرفي (األبستيمي) فالنص جزء من الخطاب
والخطاب أرحب ويمتد للسيطرة على نصوص أكثر فيشكل اتجاه.
51
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
دراسة جيولوجيا النص تتجاوز املفاهيم الشكالنية السردية -بعد أن توظفها -إىل مفاهيم
يف ظنها أهنا مستوى أعمق فرضها اخلطاب ،مث إىل مفاهيم أكثر إيغاالً فُرضت على
اخلطاب أو وئدت فيه .ولكن هل للخطاب مستويات؟ وإذا افرتضنا ذلك جدالً ،فما
حمفزات هذه الفكرة؟ وهل هناك حماوالت سابقة؟ مث ما هي مستويات اخلطاب؟
( )147بيرسي لوبوك :صنعة الرواية ،ترجمة عبد الستار جواد ،بغداد ،دار الرشيد ،ط،1111 ،1
ص .31
61
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
مناذج روائية عدة ،وليس من القواعد الروائية حبد ذاهتا( )191فاخلطاب الروائي جتميعي
النهج توفيقي اللهجة؛ ألنه يبحث يف احلياة بعموميتها ال يف مناذج خاصة ،فهي خطاب
عام .فكان البد من االتفاق على أن كل نص يرتكب من أمور خمتلفة" ،فقد يالحظ من
يتأمله رتالً من األصوات أو الصيغ اليت يتلو بعضها بعضاً يف الزمن احلقيقي للكالم ،أو
حركة من الشمال إىل اليمني على الصفحة"( .)190كما الحظت جوليا كريستيفا "أن كل
تشرب وحتويل
نص هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من االقتباسات وكل نص هو ّ
()169
املكونة للنص.
ّ املادة إلثبات التناص بفكرة يستيفا
ر ك لياجو وتسعى لنصوص أخرى"
ومن ملحوظ منهجي يلفت عبد امللك مرتاض إىل أن "النص شبكة من املعطيات
األلسنية والبنيوية وااليديولوجية" (.)161
إن هذا النص التجميعي يُنتج يف تآلفه نصاً جديداً هو ما نبحث عنه يف حتليل
اخلطاب .يقول عبد القاهر اجلرجاين" :ال يُتصور إشراك بني شيئني حىت يكون هناك
معىن يقع ذلك اإلشراك فيه" (.)161
إن قدرة النص على اإلهبار ناجتة من مهارته يف التأليف بني عناصره اليت استعان
أقرها
هبا إلغناء البعد العالمايت الوظيفي للغة النص كما ّ
( )141ميخائيل باختين :الملحمة والرواية ،ترجمة جمال شحيّد ،معهد اإلنماء العربي ،بيروت،
،1112ط ،1ص.21
( )141روبرت دي بوجراند :النص والخطاب واإلجراء ،ص .11
( )151مارك انجينو :مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد ،ترجمة أحمد المديني ضمن كتاب
"في أصول النقد الجديد" ط ،1عيون المقاالت ،الدار البيضاء ،ص .113
( )151عبد الملك مرتاض( ،في نظرية النص األدبي) ،مجلة المجاهد األسبوعية ،عدد ،1441
مارس ،1111 ،الجزائر ،ص ،57نقالا عن أطروحة نور الدين السد ،األسلوبية في النقد
العربي الحديث ،ص 276
( )152عبد القاهر الجرجاني :دالئل اإلعجاز ،ص .172
61
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فدرس النص على أنه جمموعة من العالمات تؤدي وظائف خمتلفة :سياقية جاكبسونُ ،
إحالية ،تعبريية ،ندائية خطابية ،صالتية ،شكلية ،ميتالغوية ،اجتماعية( ،)161فكان البد
من العودة إىل مكونات اخلطاب األساسية ،وهي مكونات كثرية متداخلة حتتاج إىل منهج
يف حتليل اخلطاب يفك تداخلها ويعيد تركيبها؛ ألن قراءة اخلطاب هي "إعادة إلنتاجه أو
كتابته ،وهي تقوم على ممارسة ثقافية هلا تأثري يف احلقل االجتماعي"( .)169وحتليل
اخلطاب ) (Discourse analysisمصطلح شامل يغطي التحليالت املختلفة
للخطاب ويستخدم بشكل مرتادف مع حتليل النص ،وقد ح ّفزه أهله لذلك
املصطلح( )166وحتليل اخلطاب هو دراسة لغة التواصل سواء أكانت حمكية أم مكتوبة؟
والنظام الذي تنبثق منه املعطيات يوضح أن التواصل هو مؤسسة لغوية وعقلية واجتماعية
متداخلة(.)165
ففي الوقت الذي كثر فيه احلديث عن نظام يف توصيفاتنا اللغوية لعلم النظام
الصويت وعلم الرتاكيب وعلم الداللة ،فإن البحث عن نظام يف مستوى اخلطاب ما زال
قيد التطور .وليس هناك جمموعة من اإلجراءات التحليلية متفق عليها لتوصيف اخلطاب
املعرفة للخطاب جيب أن تعتمد قبالً على
فأي حتديد لوحدات اخلطاب وللعمليات ّ
جمموعة أهداف الدراسة.
( )153بهاء الدين محمد فريد :أجناس خطابية معاصرة (مقاربة عالماتية) ،مجلة أفق ،المغرب ،سنة
( ،)1عدد ( ،)7سنة ( ،2111 ، )1مارس )(on-line
www. Ofouq.com/archiv01/mar01/aqwas7-1a.htm.
( )154أنور المرتجي ،سيميائية النص األدبي ،افريقيا الشرق ،الدار البيضاء ،ط ،1ص .36
(3) Dictionary of Language & Lingustics: P. 131 .
(4) Evelyn Hatch: Discourse and Languge Education, Cambridge
(5 Published), 2000, P. 1 .
62
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
كما يشمل حتليل اخلطاب عموماً "دراسة القواعد الكامنة وراء إنتاج ملفوظ
ما ،والكيفية اليت يعمل هبا ملفوظ يتكون من سلسلة من اجلمل أو من الفقرات املتصلة
مع بعضها"( )161وحتليل اخلطاب يقتضي اإلفادة من منجزات العلوم اإلنسانية والتجريبية
وخاصة دروس األلسنية ليقنن آلية دراسته ويزحيها عن االنطباعية .إن حتليل اخلطاب
يقتضي الرتكيز على قصدية الكاتب وعلى األشكال املكونة وعلى األفكار األكثر جتريداً
للكيفية اليت ميكن هبا أن يتشكل اخلطاب()161؛ مما يقتضي بداية العودة إىل الوحدات
اللغوية األساسية لتحليل اخلطاب اليت قد تكون يف اخلطاب العام هي الصوت مث املعجم
مث الصرف مث الرتكيب (اجلملة) مث القصد ،وما سبق يوحي بأن اخلطاب يتكون من
مستويات تشكله ،وعلى احمللل أن يبدأ من السطح حىت يستطيع أن يكتشف املستوى
العميق ،فاملستوى األعمق وهكذا .كل ذلك من أجل أن نعيد بناء رصيد االفرتاضات
املسبقة اليت رمبا كانت لدى األطراف قبل حتليل مقطع من اخلطاب( .)160إن اصطالح
"مستويات اخلطاب" Levels of Discourseاصطالح مسحي (أفقي)– عمقي
(رأسي) يسعى إىل توظيف السطح ليبني بؤر العمق فيه تلك اليت ميكن أن يصل احمللل
من خالهلا إىل مقاصد النص العظمى.
إن حمفزات فكرة مستويات اخلطاب نابعة من أن الكلمة يف اخلطاب كلمة
مكتظة بدالالت متعددة املشارب :دينية ،ثقافية ،اجتماعية ،حضارية ،وليس فقط كلمة
عاديّة تؤسس عالقة مباشرة تعيينية مع مرجعها( .)159فالكلمة
( )157قاسم المقداد ،في تحليل الحديث والحديث السياسي ،مجلة المعرفة ،دمشق ،عدد
،1116 ،212ص.15
)(2 E. hatch: Discourse and Language Education , P. 291 .
( )151براون ويول :تحليل الخطاب ،ص .11
( )161محمد خطابي :لسانيات النص ،ص .254
63
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
تكتسب معناها من اتصاهلا مبواقف وحوادث سابقة ،فهي عالمة حتيل بداهة على
مواقف حمذوفة ،فكلمة "السالم" مثالً ختتلف داللتها من سياق إىل آخر ،ومن مث فإن
املستوى املباشر ال يعول عليه دائما لكشف طاقات هذه الكلمة دون تدخل يف إبراز
سياقها وتارخيها الذي نشأت فيه ،يرافق ذلك النسق الذهين حمللل اخلطاب الذي مينح
هذا األخري طريقة معينة ملعاجلة ما حيصل أثناء إصدار اخلطاب وتأويله(.)151
متلق لن يواجه اخلطاب خايل الوفاض ،وإمنا سيستعني بتجاربه السابقة، إ ّن أي ٍ
ضمن مستوى حمدد من الذهنية ،فمعارفه املرتاكمة جتمعت لديه بوصفه قارئاً متمرساً
قادراً على االحتفاظ باخلطوط العريضة للنصوص اليت سبق له معاجلتها(.)151
ومن جهة املؤلف فإنه يعمد إىل مادة مبذولة يف احلياة ،مستهلكة ومستخدمة
لوظائف االتصال اليومي ليقيم يف داخلها نظاماً فنياً جديداً ،يعتمد شفرة موضوعية
ومجالية وتقنية خمالفة لشفرة اللغة والثقافة املألوفة ومرتاكبة فوقها يف الوقت نفسه .فأصبح
متاسه وختالفه
جهد احملللني منصباً على استكناه قواعد هذا التشفري األديب ومعرفة كيفية ّ
مع اللغة العادية ،وما هي األدوات اليومية اليت تتحول بفعل التنظيم اللغوي األديب إىل
أعمال فنية متماسكة ذات أبنية متعددة املستويات من مجالية ،وغري مجالية ،حبيث متتلك
فعالية متثيلية جديدة(.)151
64
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
65
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
عبارة منضوية يف جمموع ،تلعب دورها وسط عبارات أخرى تستند إليها ،وتتميز عنها:
فهي تندمج دوماً يف شبكة من العبارات ،تنال حصتها ،مهما كانت ضئيلة وتافهة
داخلها"(.)156
ومن حمفزات فكرة اخلطاب ما أحدثه الشكالنيون الروس من فصل بني احلكاية
Fablaاليت هي املادة القصصية األساسية ،واليت هي جمموع األحداث املروية يف السرد،
وبني احلبكة Sujetواليت هي القصة كما حتكى بالفعل عن طريق ربط األحداث معاً
ربطاً ِعللياً ،فاحلكاية هي ماذا حدث بالفعل .أما احلبكة فهي كيف أصبح القارئ واعياً
مبا حدث ،أي نظام ظهور األحداث يف العمل األديب نفسه ،سواء على النحو التقليدي
من حيث الرتتيب الزمين أو على حنو اسرتجاعي ،وهكذا.)155(..
وعلى مستوى اخلطاب الروائي يتم حبث آلية تنفيذ الوقائع الروائية ،وهذه اآللية
هي اليت تسمى خطاباً الرتباطها بتحويل النحوي إىل جنس أديب ،ولوال حتقق شروط
معينة يف هذه اآللية ملا مسيت رواية .وهذا ما دفع سعيد يقطني إىل إصدار كتابني
متالزمني متتابعني يف حتليل الرواية ومل جيعلهما يف كتاب واحد ،األول :حتليل اخلطاب
الروائي ( كتاب يعاجل التقنيات اليت جتعل من أي مادة قصصية رواية ،وهذه مهمة
اخلطاب .والثاين :انفتاح النص الروائي (وهو كتاب يعاجل دالالت املادة القصصية دون
الكيفية اليت عرضت هبا) .إن مثل هذا التمييز يذكرنا بقوة مبسألة الشكل واملضمون
ولكن لن يعين ما سبق بأي حال من األحوال العودة إىل الفصل بني الشكل واملضمون
فاألمر هنا
66
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
خمتلف؛ "إذ إن البحث عن الشكل املناسب حلمل املضمون ،يعين أن للشكل قيمة ال
تقل عن املضمون ،ولكن حني يتحدان يف صورة النص ،فإن النص يكون املنطلق ويكون
حتليل النص -وإن اجته إىل املضمون -فإنه جيمع يف كل مراحل الوصف والتحليل بينه
وبني ذلك الشكل اخلاص الذي يكشف -بقدر ال يقل عن املضمون -عن مكونات
النسيج الكلي املوحد"( .)151فالنص حسب بعض التوجهات شامل للخطاب والقصة
معاً وعند التحليل جيب أن منيز بينهما وال خنلط بينهما إال لغايات تكاملية اختتامية.
ومن حمفزات فكرة مستويات اخلطاب شيوع التناص يف األعمال األدبية؛ إذ إن
طبيعة الكتابة تقتضي االستناد إىل املخزون اللغوي الذي يقدمه املبدع وهو نتاج تفاعل
خمزنة يف ذهن املبدع ،ويتمخض عن عملية التفاعل والتداخل هلذا
نصوص ال حصر هلا ّ
النص الذي ينتجه املبدع .وهذا التفاعل هو الذي يدعى بـ "تداخل النصوص" أو
"تداخل اخلطابات" ..وهو مفهوم متطور يف فهم العملية اإلبداعية اليت يعد مرجعها
األساس كتابات أخرى سابقة ،وليس الواقع املادي كما هو خارج النصوص أو
نص جامع تقوم يف أحنائه نصوص أخرى يف مستويات نصٌ ، اخلطابات(" .)151إن كل ٍ
متغرية ،وبأشكال قد نتعرفها إن قليالً أو كثرياً :هي نصوص الثقافة الراهنة .فكل نص
نسيج طارف من شواهد تالدة" ( .)150وقد يصل التناص حد استدعاء مادة حكائية
كاملة جيتهد يف عرضها من خالل تقنيات اخلطاب كما سنالحظ ذلك يف الرواية
التارخيية اليت تشكل
67
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
تناصاً كبرياً مع التاريخ فتتحقق احلوارية بني النصوص مبخزوناهتا الالمتناهية ،وقد تأخذ
مسمى تداخل اخلطابات" ،فاخلطاب الروائي
تقنية التناص شكالً آخر ميكن إدراجه حتت ّ
يستوعب بنيات خطابية متعددة :املسرحي -الشعري -الديين -احلكائي -الشفوي-
الصحايف -السياسي -التارخيي ..ويأيت تداخل اخلطابات هنا وتعددها يف إطار انفتاح
اخلطاب الروائي عليها ،لتقوم بوظائفها يف جمرى اخلطاب ،وبتضافر مع الطرائق املوظفة يف
بنائه" (. )119
وبعد ،فإن للخطاب الروائي خصوصيته عندما نتعامل مع مستوياته ،فهناك ُ
مستويات هتمل مؤقتاً إلبراز مستويات فاعلة أخرى تتكئ على املهمل إلبراز ذاهتا،
واألصل أننا عندما حنتكم إىل العمل األديب أن نتعامل معه كله "ابتداء من الكلمة ،إىل
اجلملة مث إىل الفقرات للوصول إىل معايري بنائية ثابتة ،تتضافر عناصر القصة مجيعها على
إبرازها"( .)111وخصوصية اخلطاب الروائي تظهر يف تعامله مع البىن الكربى الواضحة يف
الرواية ،فالوقوف عند املستوى الصويت قد يعيق الوصول إىل املقاصد الكربى يف النص
الروائي .إن اخلطاب الروائي يبدأ فعلياً من وحدته الصغرى وهي اجلملة اليت تتآلف مع
مجل أخرى على حنو معني ،فتنتج فكرة ضمن أسلوب ما قابل للتأويل ،واملستوى الصويت
قد يكون فاعالً يف حتليل اخلطاب الشعري أكثر منه يف النثر العتماد اخلطاب الشعري
معان خاصة ال تناسب إال مقام الشعر ،وليس القصد من على هذه األصوات إليصال ٍ
هذه الدعوة إىل نبذ الصوت ،فللصوت أمهيته املتجذرة يف حتقيق الكالم .يقول اجلاحظ:
"وتأيت الداللة (الصوتية) بوصفها آلة للفظ ،فهي
سعيد يقطين :القراءة والتجريب ،دار الثقافة ،الدار البيضاء ،ط ،1115 ،1ص ()171
.215
)(2 D. Lodge: The Language of Fiction, London, 1966, P. 34 .
61
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
اجلوهر الذي يقوم به التقطيع .وبه يوجد التأليف"( ،)111أي ال ميكن أن يتحقق كالم
يف أي شكل من األشكال ،أو مستوى من املستويات يف النثر أو الشعر ،إال بظهور
الصوت وحنن ال نردد كالم اجلاحظ ،فمن ناحية َمْبدئية ،فإن الصوت هو مادة اخلطاب
احملمول عليها ،ولكن ما قيمة الصوت يف حتليل املقاطع الداللية الصغرى والكربى يف
الرواية؟ يبدو أن قيمته يف الرواية ال توازي أمهيته يف الشعر ،ألن الشعر ميتلك كثافة
تعرب عنه األبيات.
تعزز اإلحياء باملوقف الشعري اليت ّ
استثنائية لسمات صوتية معينة ّ
إن للخطاب مناهج وطرقاً عديد ًة يف حتليله أبرزها(:)111
- 1منهج حتليل املضمون يف العلوم االجتماعية لتحليل اخلطاب الديين أو اخلطاب
السياسي ،النبوءات أو الزعامات.
-1منهج التحليل اللغوي النفسي كما هو احلال يف علم اللسانيات النفسي
Psycho-linguisticsمن أجل معرفة داللة األلفاظ على نفسية قائلها.
-1منهج التحليل اللغوي االجتماعي من أجل معرفة الدالالت العرفية وآليات
االستعمال االجتماعي للغة كما هو احلال يف علم اللسانيات االجتماعي
).(Socio Linguistics
-9منهج التحليل اللغوي اخلالص كما هو احلال يف علم اللسانيات
العام ) (General Linguisticsمن حيث علوم األصوات والقراءات
والرتاكيب.
( )172الجاحظ :البيان والتبيين ،تحقيق عبد السالم هارون ،القاهرة ،لجنة التأليف والترجمة والنشر،
،1141ج ،1ص.71
( )173حسن حنفي :تحليل الخطاب ،ص .21
61
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
71
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
71
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
املستويات تنتهي بانتهاء اجلملة ،فهي الوحدة األخرية يف اللغة؛ لذا كان لزاماً
على البنيوية أن تنظر يف ألسنية أخرى متتلك صالحيات أبعد من اجلملة تتناسب
وطاقة السرد املكتنزة.
لقد وفرت اللسانيات حملللي السرد بنيوياً مفهوماً حامساً ،ويكمن هذا املفهوم
خاصة يف تنظيمه الذايت ،ألهنا تلفت إىل ما هو جوهري يف كل نسق معين،
وتسمح يف اآلن ذاته ،بإعالن كيفية أال يكون السرد جمرد تالحق عبارات(.)115
إن املستويات اليت سبق تعدادها مستويات تراتبيه ينبين بعضها على بعض وال
جيوز الفصل بينها إال جمازاً ،ولو أمكن الفصل بينها بتوصيف كل مستوى مستقل
عن اآلخر ،لعجز كل مستوى عن إظهار املقاصد املتوخاة .فكل وحدة تنتمي إىل
أي من هذه املستويات ال حتوز معىن إال إذا أمكنها االنتماء إىل مستوى أرقى.
()111
مييز بارت بني نوعني من الوحدات الوظيفية:
-وحدات توزيعية تتطابق مع الوظائف اليت حتدث عنها فالدميري بروب يف
كتابه "مورفولوجيا اخلرافة" ،وهي نفسها وظائف التحفيز اليت أشار إليها
توماتشفسكي؛ إذ إهنا تتطلب بالضرورة عالقات بينها .
وحدات إدماجية ،وهي وظائف ختتلف عن السابقة ،ولذلك ال حيتفظ هلا -
"بارت" هبذا االسم ،ألهنا ال تتطلب بالضرورة عالقات فيما بينها ،فكل
ومكمل ،ولكن
وظيفة تقوم بدور العالمة ،إذ إهنا ال حتيل على فعل الحق ّ
حتيل فقط على مفهوم ضروري بالنسبة
( )176روالن بارت :النقد البنيوي للحكاية ،ترجمة أنطون أبو زيد ،منشورات عويدات ،بيروت ،ص
.17
( )177المرجع نفسه ،ص .11
72
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
للقصة احملكية ،فكل ما يعلق بوصف الشخصيات واألخبار املتعلقة هبوياهتا أو
وصف اإلطار العام الذي جتري فيه األحداث كلها تتم بواسطة الوحدات
اإلدماجية(.)111
من هنا يقرتح "بارت" مستويات لتحليل العمل السردي يصفها باجلانبية املؤقتة،
فائدهتا تعليمية حمضة :ألن هذه املستويات تسمح بتحديد املسائل ومجعها ،دون
أن تكون يف تعارض مع بعض التحليالت اليت أجريت على هذا الصعيد ،يقول
"بارت"" :مث إننا لنقرتح متييزاً يف العمل السردي* بني مستويات ثالثة :مستوى
"الوظائف" (باملعىن الذي تأخذه الكلمة عند بروب وبرميون) ،ومستوى
"األفعال" (باملعىن الذي تأخذه هذه الكلمة عند غرمياس عندما يتكلم عن
األشخاص كما لو أهنم فواعل) ،ومستوى "السرد" (والذي هو باملعىن االمجايل
يتمثل مبستوى "اخلطاب" كما هو عند تودوروف) ونريد أن نتذكر أن هذه
املستويات الثالثة ترتبط ببعضها برباط ذي صيغة اندماجية تتابعية :فالوظيفة ال
معىن هلا إال إذا أخذت مكاناً يف الفعل العام للفاعل .ويتلقى الفعل نفسه معناه
األخري من كونه حدثاً مسروداً ،أسند إىل خطاب له قانونه اخلاص"( .)110واملهم
فيما سبق عرضه يف منهج بارت أنه يوزع النص القصصي إىل وحدات متفاوتة؛
ألن الوحدة القصصية املعينة تتطلب عالقة متينة بني عناصر القصة ،وحىت ُحتدد
الوحدات السردية األوىل ،فمن الضروري أال تغيب عن نظرنا
( )171حميد لحمداني :بنية النص السردي ،بيروت ،المركز الثقافي العربي ،ط ،1113 ،1ص .21
يترجم أنطوان أبو زيد لفظة (السردي) في ترجمته لكتاب النقد البنيوي للحكاية (باالنشائي). *
( )171روالن بارت :المدخل إلى التحليل البنيوي للقصص ،ترجمة منذر عياشي ،مركز اإلنماء
الحضاري ،بيروت ،ص .31
73
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
السمة الوظيفية للمقاطع اليت نفحصها ،فمرة ستمثل الوظائف وحدات أعلى من
اجلملة ،ومرة وحدات أدىن منها ستأخذ دورها يف التحليل؛ ألن مغزى العمل
القصصي ال يكمن يف بداية أو هناية فحسب ،بل إنه ينشأ تدرجيياً مع تدرج
العمل القصصي ،فأي وحدة مثبتة يف مستوى ما لن حتظى بفاعلية ما مل تنتسب
إىل إطار يقابلها يف مستوى آخر هو أعلى منها ،إن الوظيفة حسب ما سبق لن
يكتب هلا الظهور ما مل تندمج يف السياق العام للحركات واألفعال اليت تقوم هبا
شخصية ما ،فضالً عن ذلك فإن هذه األفعال لن تأخذ معناها هي األخرى ما مل
تكن مروية ضمن اإلطار األعم(.)119
إن "روالن بارت" يف توليفته السابقة يوفق بني ثالث رؤى نقدية سبقه إليها كل
من فالدميري بروب ) ،(Proppوغرمياس ) (Greimasوتودوروف
).(Todorov.
-2منهج فالديمير بروب ) :(Proppوقد برز يف كتابه "مورفولوجيا
()111
عام ،1011ومصطلح "مورفولوجيا" يعىن عنده دراسة األشكال اخلرافة"
وأن أشكال احلكايات تتطلب دراسة القوانني اليت تنظّمها ،على غرار مورفولوجيا
التشكيالت العضوية للنبات( ،)111أي اعتماداً على بنائها الداخلي ،ودالئلها
اخلاصة ،بعيداً عن أي حتديد تارخيي أو تقسيم
( )111أكد بارت تخليه عن هذا المدخل البنيوي لتحليل السرد ( )1166في معالجته لمقارنته الجديدة
S/Zوهي خالصة ندوة ،1161-1161ألنه يرى أنه ينبغى ألي نص أن يشرح ضمن ما
يميزه ،وهذا ما فعله بارت بالنسبة إلى سارازين :انطالقا ا من الشيفرات التي حددها في المقدمة
(اإليحائية ،والتأويلية ،والرمزية ..الخ) انظر :ميشال جاريتي :المذاهب الشكالنية ،مجلة كتابات
معاصرة ،تموز ،2112 ،عدد ،47ص .11
( )111ترجمة ابراهيم الخطيب ،الشركة المغربية للناشرين المتحدين ،الدار البيضاء.1116 ،
( )112المرجع نفسه ،ص .17
74
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
75
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
عن برامج القصة ومساراهتا ،ينتقل احلديث إىل البنية العميقة وهي اليت تتحكم يف معاين
النص من خالل شبكة عالقات تربط بني قيم النص وهي األقطاب الداللية،
ونظام عمليات يقوم بتنظيم االنتقال من معىن إىل معىن.
-4منهج تودوروف ) :(Todorovويبدأ من أعمال الشكالنيني الروس ّ
مطوراً
إياها ،وبالتحديد من خانة الفصل بني املنت واملبىن( ،)115مؤكداً أن لكل حكي
أديب مظهرين متكاملني ،إنه يف آن واحد قصة وخطاب .فالقصة "هي تلك
األحداث يف ترابطها وتسلسلها ويف عالقتها بالشخصيات يف فعلها
وتفاعلها"( .)111أما اخلطاب )" (Discourseفيظهر لنا من خالل وجود
الراوي الذي يقوم بتقدمي القصة"( )111من خالل هذا التمييز يقدم لنا تودوروف
تصوراً متكامالً لدراسة احلكي بني قطريه آنفي الذكر ،مث يقدم لنا بعد ذلك
مكونات كل من املظهرين مرّكزاً بشكل رئيسي على ما ينبغي أن يهتم به التحليل
األديب حبثاً وتقصياً" ،فاحلكي كقصة يتم التمييز فيه بني مستويني مها :منطق
األحداث من جهة والشخصيات وعالقاهتا بعضها ببعض من جهة ثانية .أما
احلكي كخطاب فريكز على حتليله من خالل ثالثة جوانب :زمن احلكي،
وجهاته ،وصيغه"( )110مث يعود تودوروف يف كتابه "الشعرية" عام 1011
قسّم الشكالنيون الروس العمل القصصي إلى مستويين :األول هو المتن Fableوهو المستوى الذي ()116
يتعامل مع األحداث كما يفترض أنها وقعت ،والثاني هو المبنى ) (Sujetالذي يتعهد تلك األحداث بالبناء
والتنظيم ضمن قواعد تحويلية تخص صاحب العمل تجري على أحداث المستوى األول .أنظر :نصوص
الشكالنيين الروس :نظرية المنهج الشكلي ،ص .111
سعيد يقطين :تحليل الخطاب الروائي ،ص .31 ()117
سعيد يقطين :تحليل الخطاب الروائي ،ص .31 ()111
المرجع نفسه ،ص . 31 ()111
76
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ليطور املنطلقات اليت عيّنها فيما سبق مستفيداً من العديد من اإلجنازات ،وباألخص
ذلك التطوير الذي أضفاه جنيت على حتليل اخلطاب الروائي عام ،1011يطرح
تودوروف تصوراً متكامالً حول حتليل النص األديب" .يبدأ أوالً بتسجيل كون
النص األديب يتحدد من خالل ثالثة جوانب مركزية .هذه اجلوانب هي :الداليل
والرتكييب والفعلي"( ،)109ويربز تودوروف أن اجلانب الفعلي (اللفظي) هو املركزي
بالنسبة للبويطيقا اليت يشتغل فيها ،وهو اجلانب الذي نال اهتماماً لدى العديد
وجهات السرد ،األحباث املورفولوجية
من التيارات النقدية اجلديدة :األسلوبيةْ ،
األملانية ،وجهات النظر يف النقد األجنلو-أمريكي" .إن هذه اجلوانب الثالثة مع
املقوالت اليت تتضمنها على مستوى التحليل تبدو لنا على الشكل التايل:
-1اجلانب الداليل :جنيب منه عن سؤالني :كيف يدل النص على شيء؛
وعلى ماذا يدل؟ ونطرح فيه قضايا سجالت الكالم.
-1اجلانب اللفظي :يتضمن املقوالت التالية :الصيغة )(Mood
والزمن) (Tempsوالرؤيات ) (Visionsوالصوت ).(Voix
-1اجلانب الرتكييب :ويتضمن بنيات النص -النظام الفضائي (وهو خاص
بالشعر) -الرتكيب السردي -ختصيصات وارتدادات (وهنا يتحدث عن
احملموالت السردية)( .)101وهذه املستويات الثالثة هي يف نظر سعيد يقطني
مكملة للنص األديب ومستوفية له ،وما اخلطاب إال ذلك اجلانب اللفظي
املتشكل من زمن السرد ومظاهره وأمناطه
77
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الذي يعرض لنا كيفية حكي القصة من خالل را ٍو يقدمها دون التدخل يف
الفحوى الداللية ،وخيرج من مقولة اخلطاب ما خال ذلك.
قسمت جوليا كريستيفا العمل النصي إىل -5جوليا كرستيفا وعلم النصّ :
مستويني:)101(:
-نص ظاهر ) (Pheno-Textوهو ذاك الذي يتمثل يف بنية القول
املادي ،والذي تتناوله إمجاالً مناهج التحليل الصويت والداليل والبنيوي اليت
ال هتتم للمتكلم (منتج القول) بل للقول.
نص مولّد (نوعي )Geno-Text -وهذا املستوى ليس متنا لغوياً -
مسطّحاً ،بل هو كالم تتطلب قراءته استعادة مراحل تكوينه لغة وداللة
وصوالً إىل كشف موقع منتجه .والنص النوعي جزء من املنطق العام،
املتعدد الوجوه ،غري املقتصر على ما هو متعارف عليه ،وهو ال خيضع
للبنيوية (ألنه فعل بناء ال بنية) وال للتحليل النفسي (ألنه خارج الالوعي
النص النوعي عن البنية العميقة يف
تكون مما يلفظه الالوعي) وخيتلف ّ ولو ّ
القواعد التوليدية ،ألن غاية البنية العميقة (اجملردة اخلطيّة ،غري النحوية وغري
املعجمية) هي فقط توليد اجلملة اليت متثلّها على مستوى البنية السطحية
من دون أن ترتقي مراحل البناء السابقة ،فهي انعكاس لبنية اجلملة
السطحية .أما النص النوعي فينتمي إىل املستوى اجملرد من عمل اللغة ،وال
يعكس بنية اجلملة بل يسبقها ويلحق هبا.
لطيف زيتوني :معجم مصطلحات نقد الرواية ،ص ،161ص .21 ()112
71
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
71
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
.1التحليل احلواري.
.1الضوابط الطقسية.
.1املكون التقييمي.
.9مسات االشرتاك.
.6حتليل احلدث الكالمي.
تسوق مستويات اخلطاب
و (هاتش) حتاول بنظرهتا املاركسية لألشياء أن ّ
على أهنا طبقات ) (Layersتستجمع اإلرث التحليلي للخطاب فتصبه يف
توليفة واحدة مكتظّة.
( )114صالح فضل :نظرية البنائية في النقد ،دار الشؤون الثقافية العامة ،بغداد ،1117 ،ص،321
.322
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
جـ -املستوى املعجمي وتدرس فيه الكلمات ملعرفة خصائصها احلسيّة والتجريدية
واحليوية واملستوى األسلويب هلا.
د -املستوى النحوي لدراسة تأليف اجلمل وتركيبها وطرق تكوينها وخصائصها
الداللية واجلمالية.
هـ -مستوى القول لتحليل تراكيب اجلمل الكربى ملعرفة خصائصها األساسية
والثانوية.
و -املستوى الداليل الذي يشغل بتحليل املعاين املباشرة وغري املباشرة والصور
املتصلة باألنظمة اخلارجة عن حدود اللغة واليت ترتبط بعلوم النفس
واالجتماع ومتارس وظيفتها على درجات يف األدب والشعر.
ز -املستوى الرمزي الذي تقوم فيه املستويات السابقة بدور الدال اجلديد الذي
يسمى باللغة
ينتج مدلوالً أدبياً جديداً يقود بدوره إىل املعىن الثاين أو ما ّ
داخل اللغة.
ويع ّقب صالح فضل على تقسيمه املقرتح بقوله" :ويالحظ على هذا الرتتيب
اعتماده على التنظيم اللغوي املسبق بطريقة مباشرة توشك أن تكون تبسيطاً منهجياً
خطرياً يغري بالسذاجة املدرسية ويوحي للباحثني بوضع فراغات تقليدية وحماولة ملئها
بتعسف مما جيعلهم جيافون روح املنهج البنائي الذي يرفض االنتقال من التحليل الشكلي
إىل الداللة املوضوعية" (.)106
وبالرغم من أن احملورين األفقي واالستبدايل ظاهرين يف هذا التقسيم ،فإن صفته
العامة قد اتسعت لتغطي أي عمل أديب ميكن أن يدرس فيعيش هذا
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
والنموذج السابق باق على لغويته ومهيّأ لشغل خواص بنيوية ،وهذه التقسيمات
مصممة يف األساس لتحليل النصوص الشعرية من خالل لغويتها الصرفة ،ولكن صالح
فضل يستأنف ابتكار تقسيمات تسهم يف حتليل اخلطابات األدبية بشكل عام والسردية
(القصصية) بشكل خاص ،ويسمى تقسيماته اخلاصة بالقصص والسرديات مبظاهر السرد
وهو مييز عند حتليل القصة بني ثالثة مستويات أو أمناط للسرد ( )101هي:
-1احلكاية ) (Histoireوتطلق على املضمون السردي؛ أي على املدلول.
-1القصة ) (Recitويطلق على النص السردي ،وهو الدال.
12
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
13
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
14
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-3المستوى الدللي:
مبدأ االشرتاك (اجلامع العقلي والومهي) أ-
ب -العالقات :اإلمجال /التفصيل ،العموم /اخلصوص.
جـ -موضوع اخلطاب
د -البنية الكلية
هـ -التغريض
-4المستوى التداولي:
السياق وخصائصه أ-
ب -املعرفة اخللفية (األطر ..اجلامع اخليايل ،التضام النفسي)
وهذه املستويات األربعة ختص أنواع اخلطاب بشكل عام ،مث خيص
املستوى الشعري مبستوى خامس هو:
-5المستوى البالغي:
الستعارة (التعالق الستعاري) -
ويطبق حممد خطايب هذه التوليفة على قصيدة "فارس الكلمات
الغريبة" للشاعر أدونيس من ديوان أغاين مهيار الدمشقي ،وخيترب
مفاهيمه السابقة على هذه القصيدة ،لكن اخلطاب السردي
القصصي يبقى عاجزاً عن اإلفادة من هذه املستويات اللغوية اجلافة
اليت قد تقطّع أوصاله دون جدوى تذكر.
15
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
( )211محمد مفتاح :المفاهيم معالم (نحو تأويل واقعي) ،المركز الثقافي العربي ،بيروت،
ص.151-151 ط،1،1111
( )211صالح فضل :بالغة الخطاب وعلم النص ،ص .51
( )212ميشال فوكو :حفريات المعرفة ،ص .112
16
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
17
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
أ -مستوى عالم اللغة( :األلفاظ املستقلة عن املعاين أو املرتبطة هبا) وهو ما
يعادل مباحث األلفاظ يف علوم اللغة ،تقسيم اجلملة إىل اسم وفعل
وحرف ..،وتفكيك االسم والفعل .ومهمة التفكيك هنا القضاء على قوة
العقل ) (Logomachosحبيث يتم اكتشاف أن وراء عامل اللغة ال
عوامل أخرى ،ال معاين وال أشياء وال أفعال .الكتابة يف نقطة الصفر كما
يقول روالن بارت .وإجيابيات هذا املستوى هو جتاوز لغة الدين ولغة
امليتافيزيقا من أجل إخضاع اللغة -باعتبارها لغة -إىل منطق حمكم
لأللفاظ ،ومن سلبياته الوقوع يف الصورية اخلاصة ،وكأن عامل اللغة ال شأن
له بباقي املستويات.
ب -مستوى عالم المعاني المستقل عن األلفاظ :وميتاز هذا املستوى بأنه
يركز على املعىن ورؤية املاهيات وحديث النفس وجتاوز الوسيلة إىل الغاية
وعيبه اإليغال يف النزعة الباطنية دون حاجة إىل أدوات اتصال مثل اللغة
واستبدال الرؤيا بالصوت املسموع.
ج -مستوى عالم األشياء( :مستقل عن األلفاظ واملعاين) وهو عامل التحقق
من صدق القضايا اليت تصدر أحكاماً على الواقع حىت تصبح أحكاماً
علمية .األشياء ليست لغة إمنّا توجد يف العامل اخلارجي الذي مييل إىل
اللغة من املفهوم إىل املصدق.
د -مستوى عالم األفعال ،األوامر والنواهي :وهو البعد اإلنساين للخطاب
الذي يبني أن اخلطاب ليس جمرد صياغة لغوية (املستوى األول) ،وليس
التعبري عن ٍ
معان (املستوى الثاين) ،وليس التحقق من صدقه يف الواقع
(املستوى الثالث) ،بل هو اقتضاء فعل ،نداء لسلوك ،توجه حنو املمارسة
ودافع للحركة والتغري االجتماعي.
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وهذا املشروع الذي يقره ويسعى إليه حسن حنفي حيث اخلطى يف إقرار أن
الشكل واملضمون األويل مها وسيلتا اخلطاب إلظهار مكنوناته ،فال هتُّم املفكرين
لغةُ اخلطاب أو معانيه األوىل بقدر ما هتمهم فحوى هذا اخلطاب فحسن حنفي
مدفوع برغبته يف توظيف املفاهيم الفكرية او املعرفية لتغيري الواقع .وهذا مغاير متاماً
ملراد السرديني حمللي اخلطاب القصصي الذين يرون يف اخلطاب كيفية ال فحوى.
-5سعيد يقطين :يع ّد مشروع سعيد يقطني ( )1010يف حتليل اخلطاب من أبرز
املشاريع العربية قاطبة اليت احتوت احملاوالت البنيوية واملعرفية اليت سبقته مث هضمها
ووالف بينها ،وقد تلخص مشروعه يف كتابني صدرا متالزمني مها:
-1حتليل اخلطاب الروائي :الزمن– السرد– التبئري.
-1انفتاح النص الروائي :النص– السياق.
ويظهر هذا املشروع التزاماً مباشراً بتحليل اخلطاب الروائي خاصة دون غريه ،علماً
ورواده .وقد
أن مقدمته للكتاب األول كانت شاملة ألبرز تعريفات اخلطاب ّ
اختص الكتاب األول باملستوى الرتكييب للخطاب الروائي ،فيما تعهد الكتاب
الثاين باملستوى الداليل للخطاب الروائي واملستويان يتحدان لتقدمي تصور فاعل يف
حتليل النص الذي يضم اخلطاب ،ألنه أمشل منه حسب يقطني.
والرؤية النقدية اليت يسعى يقطني إىل خط معاملها تقوم على مبدأ السرديات
احلديثة اليت هتتم باخلطاب السردي ألسنياً وسيميولوجيا؛ ألسنياً باهتمامه بالبناء
والعالئق اليت تربط الراوي باملنت احلكائي ،كما
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ظهر ذلك لدى بارت وتودوروف وجنيت .وسيمولوجياً باهتمامه بدالالته وبناه
العميقة اليت تتحكم به متجاوزاً املستوى األلسين املباشر وصوالً إىل إقرار وظائف
للسرد.
كما هو لدى بروب وبرميون وغرمياس .وهذان املستويان يبذالن اجلهد من أجل
توضيح مقاربة معرفية للخطاب يف مستوياته الرتكيبية والداللية .أما التأويل فمرتوك
للقراءة الذاتية للنص .ويصف عبد اهلل إبراهيم مشروع يقطني بقوله" :على هذا
املوروث اخلصب للسرديات ،جبهودها الروسية والفرنسية واألجنلو -ساكسونية،
ينهض اجلذر النظري لكتايب سعيد يقطني األخريين"(.)195
وبعد ،فالتقسيمات عديدة ومتباينة وقد تكون متضاربة ،فكل خطاب يطرح
معطيات تسمح بتحليلها ولكل خطاب إمكانياته ،ومن غري العملي أن نطرح
توليفة اعتباطية لتحليل أصناف اخلطابات شىت؛ إذ ال مناص من التخصيص؛ ألن
التخصيص جينبنا الوقوع يف شرك العموميات الباقية على السطح ،كما أن إقحام
توليفة يف نص ال يتحملها يعين تفتيت النص دون غاية توصلنا إىل مغزاه الداليل
أو الفين ،ألن انتزاع األعمال عن طريق الوصف التفصيلي من سياقها (اجلنسوي)
يوجه ضربة قاسية لالستجابات املخزونة يف جوف هذه األعمال ،مما يدفعنا إىل
مالحقة املستوى املباشر املقروء وإمهال املراد املعريف املكنوز ،وكالمها صنوان يف
القراءة التأويلية .إن احملاوالت كثرية ،لكن كشف مكنوز اخلطاب األديب
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
()191
وللدراسة يف هذا اإلطار يبقى مرهوناً ،أخرياً ،بقدرة الدارس على التناول
حماولة.
( )217تجاوزت هذه الدراسة عن بعض المحاوالت التي اجتهدت في رسم تصور جاد لتحليل العمل
األدبي ،نظراا لتالقيها مع بعض الدراسات التي عرضنا لها ،نذكر منهم :عبد الملك مرتاض،
وسعيد بحيري ،وموريس أبو ناضر وبشير ابرير.
( )211عبد القاهر الجرجاني :أسرار البالغة في علم البيان ،صححها وعلق عليها :محمد رشيد
رضا ،ط ،6القاهرة ،مكتبة محمد علي صبيح ،1151 ،ص .2
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فدراسة اخلطاب وحتليله يقتضي الوقوف عند اللغة مث جتاوزها ،مع ضرورة أال
يفرتض احمللل سياقاً أكرب مما هو ضروري لضمان الفهم الصحيح للخطاب .ومن اجلدير
بالذكر أن مقولة اجلرجاين السابقة تتسق إىل حد بعيد مع تعريف (اخلطاب = النص)
على األقل من إطار لساين حديث .
إن الفكرة الرئيسية اليت تقود هذه الدراسة يف حتليل اخلطاب هي افرتاض
مستويات يتكون منها اخلطاب ،فتتشكل معانيه ،وتظهر طاقاته فتتجاوز املعاين األُول إىل
معان ثو ٍان وثوالث(.)190
ٍ
إن تقسيم اخلطاب إىل مستويات خاضع -قبالً -إىل اعتبارات مخسة هي:
أننا أمام منط سردي خاص امسه الرواية التارخيية يتقاطع فيه *
خطابان؛ األول تارخيي (جانب احلكاية) والثاين :فين (جانب اخلطاب)،
فالدالالت تبدأ من القدمي وتنتهي يف احلاضر.
إن اخلطاب عملية حركية استعملت فيها اللغة بوصفها أداة توصيلية يف سياق *
ٍ
ومقاصد كامنة ،مما يقتضي االلتفات سوياً إىل الدال معني للتعبري عن ٍ
معان
(اللغة) واملدلول (املقصد).
إن مبدأ (تلوين اخلطاب)( )119الذي يقوم عليه اخلطاب الروائي يدفع بالدراسة إىل *
هتجني منهج حيقق نضج األداة حيثّها على العطاء.
( )211من أبرز المستخدمين لفكرة المعاني األول والثواني ..حازم القرطاجني في كتابه :منهاج
البلغاء وسراج األدباء ،تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخوجة ،بيروت ،دار الغرب اإلسالمي،
،1111ص.23
( )211عبارة (تلوين الخطاب) مقتبسة عن ابن قيم الجوزية (751هـ) وقد وردت في كتابه :الفوائد
المشوّ ق إلى علوم القرآن ،بيروت ،منشورات دار ومكتبة الهالل ،1117 ،ص .22
12
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
( )211سينشغل الفصل القادم برسم حدود مائزة للرواية التاريخية عن غيرها من الروايات.
13
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وهذا املستوى مرهون بالدعامة الثانية؛ أي بشكل العمل الروائي الذي هو
" الطريقة اليت تقدم هبا القصة احملكية يف الرواية ،إنه جمموع ما خيتاره الروائي من وسائل
وحيل لكي يقدم القصة للمروي له" (.)111
إن اخلطاب الروائي يف هذا املستوى هو الطريقة اليت تطرح هبا مادة احلكاية يف
الرواية ،من هنا ستغدو الدراسة يف املستوى األول غري مكرتثة باملنت احلكائي؛ ألن ذلك
سيكون من اختصاص املستويني الالحقني بل ستصب اهتمامها يف هذا املستوى على
مكونات اخلطاب اليت اقرتحها ترفيتان تودوروف عام ،1055وأثبتها جريار جنيت(:)111
أ -الزمن( :كشف العالقة بني زمن القصة وزمن اخلطاب) .Time
ب -الصيغة( :منط اخلطاب الذي يستعمله السارد) .Mood
القصة) .Aspect
جـ -اجلهة( :الكيفية اليت يدرك هبا السارد ّ
14
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
15
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وليس املنت .ومن الرواد يف جمال حتليل الزمن سردياً ذلك التوزيع الذي أثبته جريار جينت
()115
يف كتاب (خطاب احلكاية) املطبق على رواية "حبثاً عن الزمن الضائع" لربوست
وستنهج الدراسة النهج ذاته يف حتليل الزمن.
16
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-2المدة ):(Duration
ونعين هبا الفرتة الزمنية اليت يستغرقها الراوي يف رواية ما يروي للمروي له ،ومدة
الرواية اخلطية مرتبطة بسرعة احلكاية ،وقد قيل إن سرعة احلكاية تقاس بقيمة
حجم النص املكتوب على الزمن الذي استغرقه احلدث ،فعلى سبيل املثال قد
خيصص را ٍو ما عشر صفحات للحديث عن سنة خلت ،لكنه قد يعطي العدد
نفسه من الصفحات أو أكثر
17
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
لوصف مشهد ال يتجاوز ساعة ،وتفسري هذا األمر مرهون بقياس املدة
) :(Durationاملدة احلقيقية للمشهد املروي.
وتسمح لنا هذه التقنية بدرس سرعة كل مقطع من مقاطع الرواية مث مقارنة هذه
السرعات لكشف إيقاع الكتابة يف الرواية .وهناك -نظرياً -تدرج يف سرعة
احلكاية من احلد األدىن الذي يسجله الوقف ) (Pauseإىل احلد األقصى الذي
يسجله احلذف ) (Ellipsisوالدراسة السردية حتصر هذه السرعات اليت تقيس
املدة يف أربع حركات:
أ -الخالصة /ملخص ):)21 ((Summary
وهي إحدى سرعات السرد ،وهو متغري احلركة ،بينما السرعات األخرى
حمددة مبدئياً ،هلذا يستخدمه السرد بكثري من املرونة لكل سرعة ترتاوح بني
املشهد واحلذف .بقي امللخص إىل أواخر القرن التاسع عشر جسر العبور
الطبيعي من مشهد إىل آخر ،واللوحة اخللفية اليت تتحرك أمامها املشاهد،
واللحمة اليت جتمع أجزاء السرد إىل أن أصبح تقنية زمنية تتجاوز ذلك.
ب -الستراحة :الوقف ):)22 ((Pause
وهو أبطأ سرعات السرد ويتمثل بوجود خطاب ال يشغل أي جزء من زمن
احلكاية .والوقف ال يصور حدثاً ،ألن احلديث يرتبط دائماً بالزمن ،بل
يرافق التعليقات اليت يقحمها املؤلف يف السرد .وينطبق هذا املوقف على
املقاطع الوصفية إذا تناولت منظراً ال يلفت أحداً من شخصيات احلكاية.
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
11
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
()224
ب -الصيغة )(Mood
وهي ضبط املعلومة السردية ،أي التحكم بأشكاهلا ودرجاهتا ،فاملسافة
) (Distanceواملنظور ) (Perspectiveمها الوجهان األساسيان للصيغة؛ إذ ميكن
للراوي أن يقدم احلدث الواحد بصيغ خمتلفة .ميكنه أن ينقل كالم الشخصيات حرفياً.
يصور املشهد كأنه يقع أمامنا (صيغة العرض) وميكنه أن يتناول احلدث على أنه
وأن ّ
آت ،وأن ينقل كالم الشخصيات بأسلوب مباشر أو غري مباشر .أماماض أو ٍ
حدث ٍ
الصيغ اليت ميكن أن يقدمها الراوي للمروي له حسب جينت( ،)116فهي كما يلي:
( )224لطيف زيتوني :معجم مصطلحات نقد الرواية ،ص .111 ،111
( )225جيرار جنيت :خطاب الحكاية ،ص .117-115
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
112
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
113
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فهل يندرج هذا التسخري ضمن إعادة صياغة التاريخ فنياً ،ومن مث كشف املسكوت عنه؟
أم أن هذا التسخري يندرج ضمن استشراف املستقبل بقراءة املاضي؟ أم يندرج حتت
املقارنة بني ما كان يف املاضي وما يكون اآلن؟
( )231عبد هللا الغذامي :النقد الثقافي ،قراءة في األنساق العربية الثقافية ،المركز الثقافي العربي،
بيروت،ط ،2111 ،1ص .13
( )231المرجع نفسه ،ص .52
114
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وتبعاً هلذا ،فإن كل ظاهرة أو شيء ما يعترب نسقاً دينامياً ،والنسق الدينامي له دينامية
داخل ية ودينامية خارجية حتصل بتفاعله مع حميطه؛ والدينامية إما خطية أو غري خطية،
وغري اخلطية إما انعكاسية وإما غري انعكاسية؛ على أن نظرية التكرار تؤكد رجوع كل
نسق إىل حالة أولية يف هناية أمد طويل"( )111واألنساق الثقافية اليت سيخصها هذا
املستوى بالتنقيب عليها هلا وظائف دالة عليها ومواصفات حتددها وهي(:)111
أ -نسقان حيدثان معاً ويف آن ،يف نص واحد أو يف ما هو حبكم النص
الواحد.
ب -يكون املضمر منهما نقيضاً ومضاداً للعلين ،فإن مل يكن هناك نسق
مضمر من حتت العلين فحينئذ ال يدخل النص يف جمال النقد الثقايف.
جـ -البد أن يكون النص مجيالً ويستهلك بوصفه مجيالً ،بوصف اجلمالية
هي أخطر حيل الثقافة لتمرير أنساقها وإدامتها.
د -وال بد أن يكون النص مجاهرياً وحيظى مبقروئية عريضة ،وذلك لكي نرى
ما لألنساق من فعل عمومي ضارب يف الذهن االجتماعي والثقايف.
مما سبق تكون التوليفة التحليلية للخطاب شاملة لثالث مستويات رصدت يف
اخلطاب الروائي للرواية التارخيية .األول :الرتكييب السردي ويشمل كل اخلطابات الروائية.
الثاين :التارخيي وخيتص بالروايات التارخيية فقط.
115
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الثالث :النسقي وهو معجم على النصوص اجلماهريية اجلمالية على اتساع
قطاعاهتا.
وسنخصص الباب الثاين– إن شاء اهلل– من هذه الدراسة لتطبيق املستويات
املقرتحة على مناذج من الرواية التارخيية .أما الفصل القادم فسينهض برسم حدود للرواية
التارخيية تفصلها عن أمناط الروايات األخرى املتداخلة يف بعض مهامها مع الرواية التارخيية
.Historical Novel
116
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفصل الثالث
الــروايـ ــة التـاري ـخـي ــة
(المساحة والح ّد)
مسوغ
موجه؟ وهل مثة ّ هل ختون الرواية التارخيية املوتى؟ أم أهنا تاريخ زائف ّ
لتمازج سرديتني إحدامها وثائقية واألخرى مجالية؟ أم أن الرواية تغبط التاريخ ثراءه املعريف،
فتحول املعرفة املاضوية إىل ترنيمة معادة التشكيل؟ وملاذا هي الدراسات اليوم َك ِلفةٌ بنسبة
املولود إىل والده؟
إذ درجت كثري من الدراسات يف هذا الصدد على عقد املقارنة النمطية بني
آخر من
التاريخ والرواية التارخيية للتفريق بني شيئني قُضي األمر بينهما باكراً .وحاول نـَ َفٌر ُ
الدارسني التقريب بني الرواية التارخيية والرواية الواقعية وكأن الروايتني مل تنبتا يف تربة
واحدة!
يف البدء جيب أن ندرك أن "الرواية التارخيية" تنبين حكائياً على التاريخ وتقتات
عليه وتتشكل منه وتضيف عليه وختتزل منه وتتصرف فيه ،ولكنها ليست تارخياً،
يسر له ،إىل مهامه املتفق عليها أصالً.
النصراف كل لون ،مبا ّ
117
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
كما أن الرواية التارخيية ليست إعادة كتابة للتاريخ ،بل إعادة تدوين املاضي
على حنو مجايل ال حيادي يركن إىل نص تارخيي حتسبه غري مكتمل ،فالتاريخ (دال)
واملاضي (مدلول) والتاريخ هو رؤية املؤرخ .أما املاضي فهو ما اسرتعى انتباه املؤرخ فكتبه
وقر يف أذهان الناس ،مث سارع هذالب الروائي فكتبه رواية بعد أن ثبت ّ
تارخيا ،وخلب ّ
األخري إىل استيضاح معامله أو حماكمته أو تلخيصه أو تصويبه أو إمتامه أو استحضاره إنه
االستشراف ال ريب ،سواء أكان حنو األمام أم للخلف ؟ إن الرواية هي استثمار للتاريخ
(بتصرف).
إن االنصراف إىل القول بأن الرواية التارخيية جسد منفصل عن التاريخ قول
أمر بات
مقضي ال جيب الوقوف عنده؛ فالتفريق أو املقارنة بني التاريخ والرواية التارخيية ٌ
ّ
ال يق ّدم كثرياً يف أي قناعة منهجية فاعلة ،أما كيف تلهج الرواية بالتاريخ؟ وما موقف
الرواية من التاريخ؟ وكيف يتسردق التاريخ يف الرواية؟ فهذه تساؤالت باتت يف عداد
املفقودين ،ال تُعقد النية يف البحث عنها إال فيما ندر ،وستحاول الدراسة اإلجابة عنها
الحقا.
إن الرواية أمست سيدة األلوان واألجناس ،وهذه السيادة ال تنبع من حلوهلا يف
نفوس املتلقني فحسب ،وال تنبع من تفوقها على الشعر يف زماننا أيضاً ،بل إن الرواية
لون ما عاد يوقف هنمه لون آخر ،ففي مواقف كثرية سلبت الرواية الشعر أدواته
ورواده على حد سواء ،والرواية هنلت من التاريخ وتسلحت بسالحه وسرقت متلقيه ّ
نتائجه ،وحق ّقت يف مسلماته ،وأكملت ما سكت عنه التاريخ وصححت ما زيّفه .وقد
استفادت الرواية من نظريات علم االجتماع وعلم النفس واالنثربولوجيا وحللت وقيّمت
كثرياً من األحداث والشخصيات .كما أ ّن الرواية رمست للناس مستقبلهم وقربت البعيد
وقومت
وأفادت من قفزات اإلعالم املتسارعة فأخربت واستشرفت وتنبأت وانتقدت ّ
وحللت
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إن مصطلح "الرواية التارخيية" مصطلح شكلي قبل أن يعطي داللته املضمونية
البارزة فيه ،يسيطر فيه اخلطاب الروائي سيطرة احتوائية -إنائية* وينشغل فيه اخلطاب
التارخيي انشغاالً مضمونياً ينصاع فيه إىل تش ّكل اخلطاب الروائي أكثر من انصياعه إىل
قانون التاريخ وأصوله .من هنا ال ختون الرواية التارخيية املوتى وتقدم تارخياً زائفاً بل
توضيحاً جملرياته وحتليالً ملعطياته واختزاالً ملفرداته ومتادياً خلوافيه وانتقاء حلقبه هلدف أو
آلخر .بل تستحضر ما كان يف (املا قبل) لتعيد بناء (املا بعد) ،إن "الرواية التارخيية" نتاج
تفاعل خطابني مكتملني ق ّدم كل منهما خربته ما استطاع .فما احلدود اليت متيّز الرواية
التارخيية عن غريها من الروايات؟ مىت نطلق على رواية لفظة تارخيية ومىت حنجب اللفظة
عنها؟ وهل إسناد كلمة تارخيية إىل رواية من الروايات هو تشريف هلا أم تكليف؟
قبل اإلجابة عن هذه التماديات يروقنا أن نقرتب أكثر من "الرواية التارخيية"
حىت ندرك مالحمها املائزة عن غريها:
-الرواية التارخيية هي سرد ألحداث تارخيية مثبتة ،بقصد إعادة استيعاهبا وجتديد
طريقة عرضها.
عصي على
ّ والرواية التارخيية آليتها األولية التاريخ ،أما أهدافها فمتعدد األبعاد، -
احلصر.
الرواية التارخيية مستوى و ٍاع من األداء ،يف أحيان كثرية تعيد صياغة مادة ماثلة -
أصالً يف ذهن املتلقي ،هلدف أو آخر ،فقارئ الرواية التارخيية يفرتض أنه يقرأها
وهو مستعد معرفياً خلوضها.
نسبة إلى اإلناء الذي يص ّنف المادة حسب شكله . *
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الرواية التارخيية تعتمد فرتة تارخيية حم ّددة تسلّط الضوء عليها ،فمن منطلق تارخيي -
ليس ملادة الرواية التارخيية بداية وال هناية (ألن التاريخ هو زمنها) ،ومن منطلق
منتهى عندها.
روائي البداية هي أقدم نقطة مبدوء هبا والنهاية هي آخر نقطة ً
الرواية التارخيية باختيارها حقبة حمددة مثبتة تعد (تبئرياً) كبرياً واسع األبعاد وختلص -
إىل أهداف حمددة يصنعها املتلقي مع املرسل.
"الرواية التارخيية" عودة إىل املاضي برؤية آنية ،فاملاضي هو (زمن احلكاية) -
واحلاضر هو (زمن الكتابة).
كتابة "الرواية التارخيية" هي تعبري عن مواقف ورؤى للعامل بشكل خمتلف ال ميت -
بصلة إىل الكتابة بطريقة يفهمها القارئ مباشرة(.)119
( )234مريم جمعة فرج :قراءة في الرواية التاريخية المعاصرة ،صحيفة البيان االماراتية ،بيان
الثقافة ،ع.2111/11/26 ،46
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يصف جورج لوكاش "الرواية التارخيية" بأهنا" :رواية تثري احلاضر ،ويعيشها
املعاصرون بوصفها تارخيهم السابق بالذات"( )116وجورج لوكاش يقدم هذا التوصيف
للرواية التارخيية يف معرض حديثه عن رواية الكاتب االيطايل مانزوين "املخطوبات" مقارناً
إياها بأعمال ولرت سكوت ،وهذا التوصيف يعكس هدفاً من أهداف اللجوء إىل املاضي
أال وهو إثارة احلاضر من خالل املاضي ،ويف سياق آخر يؤكد لوكاش "أن ما يهم يف
الرواية التارخيية ليس إعادة سرد األحداث التارخيية الكبرية ،بل اإليقاظ الشعري للناس
الذين برزوا يف تلك األحداث ،وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع االجتماعية
واإلنسانية اليت أدت هبم اىل أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك متاماً يف الواقع
التارخيي"( .)115إن الرواية التارخيية يف حمصلتها اخلتامية لدى لوكاش هي تفاعل بني الروح
التارخيية واألنواع األدبية ،تفاعالً يعكس ما خفي سابقاً وما غمض الحقاً.
ويعرف ألفرد شيبارد Alfred Sheppardالرواية التارخيية بقوله" :تتناول ّ
القصة التارخيية املاضي بصورة خيالية .يتمتع الروائي بقدرات واسعة يستطيع معها جتاوز
حدود التاريخ ،لكن على شرط أن ال يستقر هناك لفرتة طويلة إال إذا كان اخليال ميثل
جزءاً من البناء الذي سيستقر فيه التاريخ" ( ،)111وهذا التعريف يؤكد أن الرواية التارخيية
عودة للماضي بغية إعادة إنتاجه جمدداً إنتاجاً يتجاوز حدود التاريخ جتاوزاً حمدوداً تربز
فيه أهداف اللجوء إىل هذا
( )235جورج لوكاش :الرواية التاريخية ،ترجمة :صالح جواد كاظم ،دار الطليعة ،بيروت،1171،
ص.11
( )236المرجع نفسه :ص .46
( )237نقالا عن:محمد نجيب لفتة :ولتر سكوت والرواية التاريخية ،المجلة الثقافية ،الجامعة األردنية،
ع ،41آذار ،1117 ،ص . 115
112
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
اللون من األدب .أما جوناثان فيلد J. Fieldفريى أن الرواية التارخيية "تعترب تارخيية
عندما تقدم تواريخ وأشخاصاً وأحداثاً ميكن التعرض إليهم" ( )111و "فيلد" عندما
يشرتط إلحداث لون امسه "الرواية التارخيية" تواريخ وأشخاصاً وأحداثاً فإمنا يعرض املواد
املش ّكلة للرواية التارخيية دون طرح شروط هلذا التش ّكل.
ويقدم ستودارد Stoddardتعريفاً مغايراً ملا قدمه فيلد Fieldمفاده أن
الرواية التارخيية "متثل سجالً حلياة األشخاص أو لعواطفهم حتت بعض الظروف التارخيية"
( )110ستودارد يركز على فنيّة العمل أكثر من تارخييته ،فالرواية سجل حلياة األشخاص
حتفها احلوادث التارخيية من هنا أو هناك ،ومن هذا التعريف تصبح كثري من الروايات
تارخيية ألهنا حبكم عودهتا إىل املاضي سواء أكان قريباً أم بعيداً فحتماً ستذكر الظروف
التارخيية املؤثرة يف حياة الشخص واملوجهة لألحداث.
ويرى ويسرت Wisterأن الرواية التارخيية "متثل أي شكل سردي يقدم وصفاً
دقيقاً حلياة بعض األجيال"( )199وبناء على ما سبق سيغدو الفصل بني الرواية والسرية
الشعبية القائمة على السرد أمراً ليس باليسري ،فالتعميم (يف أي شكل سردي) هو تعمية
للمراد ،فضالً عن أن هذا التعريف ينزح إىل التسجيل أكثر منه إىل التشكيل.
أما بيوكن Buchanفإن الرواية التارخيية لديه هي كل رواية "حتاول إعادة
تركيب احلياة يف فرتة من فرتات التاريخ "( )191وهذا حتديد جيد من بيوكن
113
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يربز ف يه أن الرواية التارخيية البد من أن ختتص بفرتة تارخيية حمددة يعمل فيها الكاتب
أدواته الفنية إلعادة إظهار هذه الفرتة إظهاراً فنياً موحياً بعيداً عن سطوة الوثائقية.
يف حني أن بيكر Bakerيرى أن الرواية التارخيية هي تلك الرواية اليت
"تتناول عادات بعض الناس مكتوبة بلغة حديثة"( )191وهذا التعريف رغم اختصاره إال
أنه يغلّب فنية الرواية التارخيية على تارخييتها ،فالتاريخ مادة يشكلها الروائي بلغته الفنية
احلديثة مركزاً على ما سكت عنه التاريخ ،فهذا التعريف يق ّدم هدفاً من أهداف كتابة
الرواية التارخيية ال يكفل هلا التميّز عن كثري من الروايات اليت تشرتك معها فيما طرح.
()191
تعريفه للرواية التارخيية تعريفاً ومن خالل التعريفات السابقة جيمل حممد جنيب لفتة
مستخلصاً بقوله" :هي إعادة بناء خيالية للماضي تتناول أساساً حياة مجع من الناس
وعاداهتم وتقاليدهم" وهذا التعريف يطرح ثالثة حتديدات للرواية التارخيية؛ أوهلا أن وجهة
الرواية التارخيية لدى التعريف السابق وجهة ماضوية؛ إذ املاضي هو صاحب احلكاية،
وثانيها أن آليتها إعادة بناء التصور عن املاضي ،أما ثالثها فهو أن مادهتا حياة جمموعة
من الناس ضمن فرتة زمنية معينة ينمازون جبملة من العادات والتقاليد ،وما يفتقر إليه
هذا التعريف هو تأكيد على ضرورة عدم العبث مبجريات املاضي األساسية بل يكون
عمل الروائي على ما هو خيايل ال يتعارض مع الوقائعي ،إضافة إىل أن هذا التعريف
ينطبق على كثري من الروايات غري التارخيية اليت تتوجه إىل املاضي القريب لعرض أحداثه
فلماذا ال نسمى رواية "يوم قتل الزعيم" لنجيب حمفوظ رواية تارخيية مع أهنا تعيد بناء
114
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
املاضي من خالل اجملتمع وأفراده ،وملاذا ال نتعامل مع "أبناء القلعة" لزياد قاسم أو "سرية
عمان
مدنية" لعبد الرمحن منيف على أهنما روايتان تارخييتان ومها تعيدان بناء ماضي ّ
وتشكالهنا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ،ال بد أن من وراء ذلك سبباً! إنه يكمن يف أن
هذه الروايات وأخرى غريها ال تنطلق من التاريخ إلعادة بنائه بل إن التارخيي أو الوقائعي
مصاحب طبيعي النعكاس احلياة يف الرواية وليس العمود الفقري للعمل.
ومن التعريفات اليت حاولت توصيف الرواية التارخيية تعريف "معجم
املصطلحات األدبية"( )199الذي يرى أنه "ليس معناها العميق احلدوث يف الزمن املاضي
فهي رواية تستحضر ميالد األوضاع اجلديدة .وتصور بداية ومساراً وقوة دافعة يف مصري
مل يتشكل بعد .وهي عمل يقوم على توترات داخلية يف جتارب الشخصيات متثيالً لنوع
من السلوك والشعور اإلنساين يف ارتباطهما املتبادل باحلياة االجتماعية والفردية ،وهي
متثل بالضرورة تعقيداً وتنوعاً يف اخلربة والتجربة" ،وهذا التعريف توصيف ملهمة الرواية
وحتديد لغايتها ،فالتاريخ أداهتا وغطاؤها ،ولكن أهدافاً بعيدة هي مبتغاها ،إهنا إمتام ملا مل
يكمله التاريخ.
املعرفة ،فتستثمر
إن الرواية التارخيية "تعتمد الزمان املوثّق ،واملكان احملدد واحلادثة ّ
جهد املؤلف الذي حقق الواقعة ،وتتقاطع معه يف الوقت ذاته"( )196وهذا شرط مييز
الرواية التارخيية عن أي رواية أخرى قد تستثمر التاريخ دون توثيق أو دون أن يكون
التاريخ هو العمود الفقري للرواية .كما أن الرواية التارخيية "اشتمال ملا حيكى يف يوم
متجدد عن مشاهد صورة املاضي ووقائعه وأحداثه
115
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وحركة شخوصه ،ومسات معاينة ،يف داخل إطار من الزمن ،وعلى أرضية معينة من
()195
وهذا شرط آخر يربز أن مهمة الرواية التارخيية إحداث النظرة اآلنية املكان"
واملتجددة على جمريات املاضي ووقائعه إحداثاً يعيد إنتاج هذا اخلطاب املثبت ،انطالقاً
من أن كل عمل قصصي "إمنا حيكى عن حدث ٍ
ماض .ولكن هذا املاضي ال بد أن
شكل على حنو جيعله حاضراً يف ذهن قارئ القصة .ذلك أن حضور العمل شرط يُ َّ
أساسي لنجاح العمل القصصي"( .)191والرواية التارخيية حىت تكتسب صفتها األدبية
البد هلا من إعادة تشكيل املادة احلكائية (التاريخ) تشكيالً تواصلياً مع احلاضر املعاش.
وأخرياً البد من أن تظهر رؤية الفنان يف هذا التشكيل حىت تكتمل أبعاد هذا
العمل .يقول عبد القادر القط" :فالرواية التارخيية ،هي ذلك اجلنس األديب الذي يستلهم
من التاريخ مادة له ،تُصاغ يف شكل فين يكشف عن رؤية الفنان ،لذلك التُفت إليه من
التاريخ ،ويصور توظيفه لتلك الرؤية للتعبري عن جتربة من جتاربه ،أو ملعاجلة قضية من
()191
من هنا تتضح قضايا جمتمعه متخذاً من التاريخ ذريعة للتعبري عن موقفه منها"
اخلطوط العريضة املائزة للرواية التارخيية عن أي عمل آخر يشبه الرواية التارخيية ،فالرواية
املسمى البد هلا من أن تتكئ على شروط أبرزها:
التارخيية حىت تكتسب هذا ّ
( )246سيار الجميل :الرواية التاريخية ،مجلة البيان ،جامعة آل البيت ،م ، 2ع ،1111 ، 2ص 31
.
( )247نبيلة ابراهيم :نقد الرواية ،مكتبة غريب ، 1112 ،ص .32
( )241عن أميمة شندي :مصر في قصص نجيب محفوظ (ر .ج) جامعة عين شمس ،1111 ،ص
.32
116
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وبناء على ما سبق فإن الرواية التارخيية -من منطلق هذه الدراسة -هي:
"خطاب أدبي ينشغل على خطاب تاريخي مثبت سابق عليه انشغالا أفقيا ،يحاول
إعادة إنتاجه روائي ا ،ضمن معطيات آنية ،ل تتعارض مع المعطيات األساسية
للخطاب التاريخي .وانشغالا رأسيا عندما تحاول إتمام المشهد التاريخي من وجهة
نظر المؤلف إتماما تفسيريا أو تعليليا أو تصحيحيا ،لغايات إسقاطية أو استذكارية
أو استشرافية".
إذن البد أن تكون املادة التارخيية هي العمود الفقري الذي تنبين عليه األحداث
الروائية التكميلية اليت جتعل من هيئة العمل عمالً أدبياً خالصاً .أما األعمال الروائية
األخرى فإهنا تنشأ على انعكاس األحداث التارخيية وال يكون التاريخ مهها بل ساعة
زمنية من هذا التاريخ مل يشر إليها ألهنا مغيبة.
117
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الزمن
الزمن
المبنى
الروائي
السرد
السرد المبنى
الروائي
زاوية
الرؤية
زاوية
الرؤية
والشكل السابق يظهر أن الرواية التارخيية حممولة على منت متسلسل تارخيياً
فتمر أحداثها مبوازاة
تسلسالً مثبتاً حاضراً يف العمل .أما الرواية اليت تستفيد من التاريخ ّ
التاريخ الذي يضيء األحداث ،وقد يوجهها ويؤثر يف مسارها.
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
اعتبار األعمال القصصية القدمية املعتمدة على التاريخ جذوراً للرواية التارخيية ،فالرغبة
يف سرد املاضي املوثّق رغبة تالزم البشرية منذ األزل طرأت عليها رغبة سرد ٍ
ماض
مفرتض ُمسي بالرواية األدبية ،وحقيقة أننا ال ميكننا بأي حال من األحوال تسمية بعض
األعمال السردية الرتاثية كالسري الشعبية واملقامات وغريها( )190نقطة انطالق للرواية
التارخيية ،فالرواية التارخيية جنس ٍ
تال للرواية األدبية وتابع هلا؛ ألهنا تستفيد من معطياهتا
وتطورها على حنو آخر.
تنسب الرواية التارخيية احلديثة يف الغالب للكاتب األمريكي ستيفن كرين
) (Stephen Craneصاحب رواية "شارة الشجاعة احلمراء" ،إال أن ظهورها
بشكلها املتكامل بدأ لدى بعض النقاد الغربيني على يد كتّاب من أمثال ولرت سكوت
()161
( )169()1111-1111يف روايته "ويفريل" ،1119وهو ما يرفضه كتاب آخرون
يرون أن الرواية التارخيية الغربية بدأت على يد الكاتب الروسي "ليو تولستوي"
( )1019-1111ومل يعرفها العامل قبل كتابته لروايته الشهرية "احلرب والسالم"
( ،)1150-1156فقد جاءت هذه الرواية لتفصح
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
عن معرفة واسعة يتمتع هبا الروائي عن تاريخ األسرتني اللتني تناولت الرواية تارخيهما،
وعن غزو نابليون لروسيا ،وعن ما ميتلكه من جتارب ،وقوة خيال ،فتمكن من خالل
()161
ذلك أن ينتج رواية فنية تارخيية عظيمة .واآلن تعيش الرواية التارخيية عصراً ذهبياً
عند الغرب كما يظهر ذلك على أيدي كتاب معاصرين من أمثال :خوسيه ساراماجو
وماركيز وماريو فاراجاس لوسا ومارجريت اتوود.
أما على الصعيد العريب فللحديث مساره اخلاص ،إذ نشأت الرواية العربية عند
انطالقتها األوىل يف مهد التاريخ ،ونرصد ذلك عند كتّاب مثل سليم البستاين يف روايته
"زنوبيا" ( ،)1111وجورجي زيدان ( )1019-1151الذي غ ّذى هذا اللون األديب
بسلسلة من احلكايات التارخيية اإلسالمية حىت أن بعضهم يصفه برائد هذا الفن النثري
يف أدبنا العريب( ،)161وتابعه يف ذلك علي اجلارم ( ،)1090-1111وحممد فريد أبو
حديد ( )1055-1101الذي ق ّدم (امللك الضليل) و(املهلهل سيد ربيعة) و(زنوبيا
ملكة تدمر) .وحممد سعيد العريان ( )1059-1096الذي اقتصر على تاريخ مصر
اإلسالمي ،وخاصة عهد األيوبيني واملماليك يف روايته (قطر الندى) و (شجرة الدر) و
(على باب زويلة) .وعلي أمحد باكثري ( )1056-1019الذي اجته إىل التاريخ
اإلسالمي يف أوطانه املتعددة فألف (وإسالماه) و(الثائر األمحر) و (سرية شجاع) وانطلق
من املواقف اليت حتتوي على صراعات ليدير حركتها مبهارة فائقة تعكس هذه
( )252هنري توماس :أعالم الفن القصصي ،تر :عثمان مويه ،المؤسسة العربية المصرية للتأليف
والنشر( ،د.ت) ،ص .214-213
( )253محمد غنيمي هالل :األدب المقارن ،ط ، 5دار العودة ،بيروت( ،د.ت) ،ص . 245
121
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
احلركة ،وقد ع ّده النقاد االمتداد املتطور لفن أديب جديد( .)169وبعد ذلك ظهرت روايات
جسدت حملات من التاريخ الفرعوين يف ثالثة من أعماله هي
جنيب حمفوظ التارخيية اليت ّ
(،)1099 "عبث األقدار" ( )1010و "رادوبيس" ( )1091و "كفاح طيبة"
وقد شكلت هذه الروايات الثالث تقدماً ملحوظاً يف هنضة الرواية التارخيية ،فبعد أن
كانت الرواية التارخيية عند كتاب اجليل األول إعادة كتابة للتاريخ بصورة شائقة هتدف
إىل تثبيت أحداثه من خالل متحورها حول قصة مبتدعة تبث التشويق يف أرجاء الرواية-
ومنثل هلم جبرجي زيدان الذي كان يتحسس يف أعماله شقوق التاريخ يف حقبة ما
فيمألها حبكاية غرامية تكون حموراً لألحداث حىت يتجمع حوهلا وال متضي إىل أبعد مما
يطفو على السطوح( -)166أصبحت الرواية عند كتاب اجليل الثاين أقل تبعية للتاريخ فما
مسمى العصرعاد احلرص يف كتابة الرواية التارخيية يقتصر على إبداع نص تارخيي حيمل ّ
التارخيي وأداءه وصوره وعبقه فقط ،بل جتاوز هذا األمر إىل توظيف املادة التارخيية
توظيفاً فنياً بالدرجة األوىل ،وخري من ميثل هذا اجليل الروائي املصري جنيب حمفوظ الذي
يعد أبرز كتّاب الرواية التارخيية العربية يف طبعتها الثانية.
وميكننا أن نقرتح بعض التفسريات لربوز الرواية التارخيية وطغياهنا يف مطلع ظهور
الرواية العربية ،فمثالً:
-انبعاث الروح القومية وتأكيد اهلوية يف سياق االحتكاك مع الغرب الطاغي من جهة
وتنامي الوعي والشعور باملظامل العثمانية من جهة أخرى؟
( )254محمد أبو بكر حميد :هل انتهت مرحلة الرواية التاريخية العربية؟
www.lahaonline.com/Literature/Critique/455.doc_ctr.htm
( )255عبد الرحمن ياغي :الدخول الروائي في عباءة التاريخ ،مجلة البيان ،م ، 2ع ،2ص 55-54
.
121
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-وعند جنيب حمفوظ نلمس التأكيد على الشخصية الوطنية املصرية وجذورها التارخيية
استجابة حلركة االستقالل.
ويف اجليل الثالث حتولت الرواية التارخيية حتوالً جاداً حنو إقرار مزيد من األدبية
لبث وجهة نظر تلجأ إىل
للرواية التارخيية ،ضمن أجواء ناقدة للتاريخ يتدخل فيها املؤلف ّ
املاضي برؤية آنية إسقاطية استثمارية؛ إذ غدت الرواية التارخيية عند أصحاب هذا اجليل
املتأخر أدبية خالصة ،يُستثمر التاريخ فيها لغايات إبداعية صرفة تسهم يف نقد الذات
وتوجه حنو املستقبل حىت نفيد من أخطاء املاضي.
ّ
تزعم هذا اللون من الرواية
ومن أشهر رواد هذا اجليل "مجال الغيطاين" الذي ّ
فكتب "الزيين بركات" رواية تارخيية المعة ضمن تقنيات فنية متطورة ،يتكئ فيها على
نص تارخيي مثبت هو نص ابن إياس "بدائع الزهور" .ومن مبدعي هذا اجليل "رضوى
خلصت هزمية العرب يف األندلس يف روايتها "ثالثية غرناطة" فأرخت للهزمية
عاشور" اليت ّ
بواقعها املرير فكان اإلسقاط فيما كتبت حاصالً .ومن رواد هذا اجليل أيضاً عبد الرمحن
منيف الذي كتب روايته التارخيية "أرض السواد" وفيها يعيد تشكيل جمريات تاريخ العراق
يف الثلث األول من القرن التاسع عشر.
لقد مرت الرواية التارخيية يف أدبنا العريب بثالث مراحل واضحة املعامل هي:
المرحلة األولى :مرحلة إعادة تسجيل التاريخ سردياً مع حماولة للتقيد ولو من
بعيد مبجرياته لغايات تعليمية إخبارية ،كما ظهر ذلك يف أعمال جرجي
122
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
زيدان .فجرجي زيدان يُتهم بانه مل يكن أميناً على أحداث التاريخ بل كان تركيزه على
قصص خيالية مبتدعة هبدف التسلية يف املقام األول ال هلدف إعادة تسجيل التاريخ مع
تقيد تام ،لغايات تعليمية إخبارية .ولكن ميكن القول ان احلكائي تقدم عند ذلك على
السردي الفين وأنه مل يعنت بتوظيف التاريخ ملخاطبة أسئلة الواقع وحنو ذلك.
المرحلة الثانية :مرحلة املوازنة بني ما هو تارخيي وما هو فين ،فالتاريخ يُسكب
يف قالب روائي واضح املعامل .وحيقق أهدافه ويستعرض وجهة نظره ،كما ظهر يف روايات
جنيب حمفوظ األوىل.
المرحلة الثالثة :مرحلة استثمار التاريخ استثماراً إسقاطياً واعياً يرهتن التاريخ فيه
إىل ما هو فين بالدرجة األوىل ،وفيه يتهيّأ التاريخ قناعاً .والروايات اليت سارت على هذا
النهج تسعى جاهدة إىل تفسري الواقع املعيش من خالل املاضي املنقضي الذي ميكن أن
يسمى بـ
يعيد نفسه ،لكنها هترب إىل فرتات مشاهبة للحظتها احلاضرة فتقوم مبا ّ
"اإلسقاط التارخيي" ،كما ملسنا ذلك لدى مجال العيظاين يف "الزيين بركات" ورضوى
عاشور يف "ثالثية غرناطة" وعبد الرمحن منيف يف "أرض السواد".
إن هذا اإلصرار على العودة إىل املاضي أو االندفاع حنوه له ما يربره دائماً ،لكن
جيب أن تتم هذه العودة أو هذه االندفاعة ضمن موازنة دقيقة تكفل للخطابني الروائي
والتارخيي أن يتناسقا دون أن يتعارضا .فكيف للروائي أن يوازن بني هذين الضربني من
اخلطاب؟
123
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
( )256عبد الفتاح الحجمري :هل لدينا رواية تاريخية؟ فصول ،مج ،1117 /34/16ص .63
( )257محمد القاضي :الرواية والتاريخ ،عالمات ،ج ،1م ،7ص .113
( )251محمد نجيب التالوي :وجهة النظر في األصوات العربية ،منشورات اتحاد الكتاب العرب،
دمشق .2111 ،القسم األول (البعد التنظيري) .www.awn-dam.org
124
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يكون ،فإنه خيرج عن دائرة الرواية التارخيية كلياً فال يعود خطابه الروائي املوثّق صنو
اخلطاب الروائي املبتدع.
فعلى سبيل املثال جتاوز جنيب حمفوظ الوقوع يف براثن التاريخ فيما كتب من
الروايات اليت تناول فيها حقباً مثبتة من التاريخ الفرعوين ،فوازن بني ما هو وثائقي وما
هو مجايل ومل يغلب الفن على التاريخ ،وال التاريخ على الفن ،كان خط التاريخ عنده
متسلساً رقراقاً ساعده على الظهور مبظهر الفت بتقنياته الفنية اليت جييدها متاماً .أما
عندما دخل مرحلة كتابة الرواية الواقعية واستثمر فيها التاريخ استثماراً مسانداً ال فقرياً
كانت رواياته واقعية وليست تارخيية ،وهذا مسار آخر .لقد شكل جنيب حمفوظ نقله
نوعية يف كتابة الرواية التارخيية جتاوز فيها كل انقياد للتاريخ على حساب ما هو فين،
فمادة التاريخ مادة مغرية للروائي ألهنا تقوم على السرد والرواية تقوم على السرد كذلك،
مما ييسر انقياد الروائي إىل سرد مصنوع فيه طواعية ظاهرة .يقول جورج لوكاش "إن
مطواعية املادة التارخيية هي يف احلقيقة فخ للكاتب العصري ،والسبب هو أن عظمته
بوصفه كاتباً سوف تعتمد على الصراع بني نواياه الذاتية والصدق والقدرة اللذين يرسم
هبما الواقع املوضوعي ،وكلما سارت نواياه على حنو سهل كان عمله أضعف وأفقر
وأكثر هزاالً"( :)160ألنه بذلك يستسلم منقاداً إىل مغريات السرد التارخيي الذي ال
ينضب .جيب يف عملية استثمار التاريخ أن تتحكم وجهة نظر الروائي يف ترتيب البيت
الداخلي للرواية وتأثيثه مبجريات وقائعية وأخرى متخيّلة ال تقف بالضد مع اجملريات
احلقيقية بل تآزرها ،إن حتكم الروائي يف عمله نابع من جعل نظرته سيدة العمل،
فتضخيم حدث أو إمهال
125
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ختصه،
آخر أمر خيص الروائي وحده ،بل إن جمرد اختياره ملوضوع روايته يع ّد وجهة نظر ّ
يدافع عنها ويكسوها ضمن طاقاته الرؤيوية ،يقول جنيب حمفوظ يف املمايزة بني طرق
املوازنة بني التارخيي والروائي :إن للرواية التارخيية نوعني" :األول منهما تعيدك فيه الرواية
التارخيية إىل التاريخ بكل تفاصيله وطقوسه وكأهنا تردك إىل احلياة فيه ،أو تبعث احلركة يف
أوصاله اهلامدة .أما النوع الثاين فإنه يستعيد املناخ التارخيي فقط ،مث يرتك لنفسه قدراً من
احلرية النسبية داخل إطاره وأنا من النوع الثاين"(.)159
إن هذه الدعوة إىل إحداث التوازن بني فلسفة الروائي وعلمه بالشيء من جهة
وبني فنيته يف متثيل العمل هي دعوة إىل حتقيق الصدق ،فالرواية التارخيية حتقق مبدأ
الصدق إذا أعادت تكوين التاريخ بصورة ذاتية ،وليس بصورة موضوعية .إهنا ال هتتم
باألرقام والتواريخ .إمنا تركز على الظروف الطبيعية والثقافية والروحية املتغرية ألمة من
األمم( .)151إن الرواية التارخيية متتاز عن غريها من األعمال القصصية بارتباطها بصدقية
العمل ،تنافسها يف ذلك السرية الذاتية أو الغريية ،والتزام األديب مبصداقية املادة التارخيية
التزاماً دقيقاً يفقد العمل مصداقيته الفنية .وقد طالب إحسان عباس يف هذا الصدد بأال
يناقض األديب بني فلسفته وفنه ألن ذلك التناقض "قد يؤدي إىل عجز األديب عن
تقدمي صورة أو رؤية فنية أو موقف أديب يؤمن به الفنان ،ومن مثَّ ،رمبا ينتج أبطاالً أو
شخوصاً غري مقنعة وغري قادرة على تقدمي نفسها بقوة ،هذا من جهة .ومن جهة أخرى
فإنه يضيّع علينا فرصة اإلفادة من رؤيته الفكرية
( )261انظر جمانة السالم :غرناطة في الرواية( ،رسالة جامعية غير منشورة) ،الجامعة األردنية،
ص .23 ،1111
( )261محمد نجيب لفتة :ولتر سكوب والرواية التاريخية ،ص .116
126
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
( )262انظر :عباس عبد الحليم عباس :إحسان عباس بن التراث والنقد األدبي ،منشورات وزارة
الثقافة ،األردن ، 2112 ،ص ، 351في معرض حديثه عن مقدمة إحسان عباس لكتاب د.
محمود السمرة (متمردون) ص . 1
( )263فيصل دراج :التاريخ وصعود الرواية ،مجلة الكرمل ،عدد ،2112 ، 71-71ص . 141
( )264أدوين موير :بناء الرواية ،تر :ابراهيم الصيرفي ،الدار المصرية للتأليف والطباعة (د.ت)،
ص.121
( )265محمد جمال باروت وشمس الدين الكيالني :التاريخ والسرد (تجليات القدس في تاريخ مقدس)،
مجلة الكرمل ،عدد ،2113 ، 75-74ص .26
( )266عبد الرحمن منيف :رحلة ضوء ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت ،ط،2111 ،1
ص.11-1
127
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وما هو روائي ليس مستغرباً بل مطلوباً وأكثر ،فإذا كان عمل املؤرخ اليوم يتجاوز تدوين
التاريخ بأمانة وصدق إىل مطالبته بالتفسري والتعليل واملقارنة واملوازنة والربط والتعليق،
فكيف احلال -إذن -بالروائي التارخيي الذي تص ّدى للحديث عن املاضي ،سعياً وراء
حتقيق التواصل اإلنساين ،معتمداً على حدسه وبصريته يف التنبؤ مبا ميكن أن يقع يف
الغد ،وذلك وفقاً لروايته اخلاصة ومبا يتالءم مع أحوال جمتمعه وواقعه الذي يعيش
فيه( .)151وهذا حيرر الروائي من القيود اليت افرتضها مؤلفو كتاب (نظرية الرواية /عالقة
التعبري بالواقع)( )151عندما يقولون" :إن الروايات التارخيية وروايات األفكار واملواقف هي
جنس أقل شاناً ،حبكم عدم إتاحتها الفرصة لنا للهرب إىل عاملنا ،فالفن ال يقوم مبزيته
لتخطي النتائج واملرتتبات أو حبكم دقته التارخيية ،بل إنه يقوم مبوجب مواصفاته
اجلمالية"( ، )150إذ إن الروائي بقدرته على سد الثغور وتسليط الضوء على املفاصل
احلرجة يستطيع أن يوسع من دائرة حتركاته على مساحة الرواية احملددة سلفاً.
وللرواية التارخيية غري طريقة يف استحضار التاريخ أبرزها:
-1استدعاء الوقائع والشخصيات التارخيية :ويف هذه الطريقة تتوسل الرواية بالتاريخ
الستكناه احلاضر فيه ،كما حدث يف رواية مجال الغيطاين "الزيين بركات" فالوقائع
يف هذه الرواية عكست احلاضر املعيش.
-1إجياد مناخ تارخيي تضطلع فيه شخصيات غري تارخيية مل خيصصها التاريخ بالدقة
اليت خصص هبا الشخصيات التارخيية املثبتة نصاً بأعمال متخيّلة:
( )267قاسم عبده وأحمد الهواري :الرواية التاريخية في األدب العربي الحديث ،المقدمة ،ص .1
( )261تأليف :مورس شرودر وجون هولبرن وجورج هنري ،ترجمة محسن الموسوي ،مكتبة
التحرير ،بغداد. 1116 ،
( )261المرجع السابق ،ص . 73
121
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ويف هذه الطريقة يكون اهلدف هو مناقشة فرتة زمنية حمددة الستخالص العرب
والغايات .كما نلمس ذلك يف رواية رضوى عاشور "ثالثية غرناطة" ورواية
"الزوبعة" لزياد قاسم.
-1استحضار نوع سردي قدمي بوصفه شكالً ،واعتماده منطلقاً إلجناز مادة روائية،
وتتدخل بعض قواعد النوع القدمي يف اخلطاب ،فتربز من خالل أشكال السرد أو
أمناطه أو لغاته أو طرائقه .كما يظهر ذلك يف رواية "رسالة يف الصبابة والوجد"
جلمال العيظاين(.)119
ومن أبرز الطرق اليت يلجأ إليها الروائيون للتغلب على منطية السرد التارخيي قراءة
األحداث من خالل انعكاسها على الناس الذين عاشوا يف تلك الفرتة .كيف كانت
أفعاهلم وردود أفعاهلم جتاه ما حصل؟ ما هي الدوافع اإلنسانية واالجتماعية اليت جعلتهم
يفكرون ويتصرفون هبذا الشكل؟ ومن هنا نالحظ أن معظم الروايات التارخيية تعتين
عناية خاصة باحلياة الشعبية واألشخاص العاديني ،ألن الرتكيز على أمثال هؤالء يزيد من
منسوب الصدق الفين يف العمل( .)111ومنهم من يفضل عدم امليل إىل التاريخ الرمسي،
ألن هذا التاريخ كتبه احلكام واألقوياء ،يف الوقت الذي غيّبت وجهات النظر األخرى أو
ُش ّوهت ،وعليه فهو تاريخ من طرف واحد( .)111وبعض الروائيني يهدفون من إعادة قراءة
األحداث والوقائع هبدف الوصول إىل فهم أفضل لـ :كيف كانت احلياة؟ وكيف كانت
أحوال الناس الذين عاشوا خالهلا؟ فتنطق الرواية مبا أمهله التاريخ(.)111
( )271سعيد يقطين :الرواية والتراث السردي ،المركز الثقافي العربي ،بيروت ،1112 ،ص .6
( )271عبد الرحمن منيف :رحلة ضوء ،ص . 63
( )272المرجع نفسه ،ص . 132
( )273المرجع نفسه ،ص .132
121
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
أما على مستوى الشخصيات الروائية فإن الرواية التارخيية توظف نوعني من
الشخصيات؛ األول :شخصيات تارخيية صرفة عاشت حقاً وأثبتها التاريخ على حنو
معني .والثاين :شخصيات تارخيية متخيّلة يفرتض الروائي أهنا كانت موجودة .والنوع
األول يشكل عبئاً كبرياً على الروائي .أما الثاين فهو متعة الروائي وإنقاذ له من التبعية
اليت تفرضها شخصيات النوع األول.
إن النوع األول :الشخصيات التارخيية الصرفة (احلقيقية) اليت يُفرض فيها على
ط معينة أثبتها التاريخ ،فال يستطيع الروائي أن يقف الروائي الراغب باالنطالق شرو ٌ
أمامها إال مطيعاً ،فأي خمالفة حبق الشخصيات التارخيية تفقد العمل مصداقيته على
مستوى احلكاية ،فالرواية التارخيية تفرض صرامتها الوثائقية دائماً؛ لذا فإن الروائي مطالب
يويف الشخصيات احلقيقية حقها التارخيي ،وهذا ما يوقعه كثرياً يف التسجيل والرتديد، بأن ّ
فيقلص من أدبية هذا العمل .يقول فورسرت" :وملا كانت الشخصية التارخيية جزءاً ال
يتجزأ من املادة التارخيية ،فإهنا تقلل من حرية الفنان الروائي ،إذ البد هلذه الشخصية من
أن حتتفظ بالقدر املميز هلا بوصفها شخصية عاشت يف حقبة زمنية معينة ،وذلك حىت
ال يكون مثة تصادم وتنافر بني الشخصيتني ،التارخيية عموماً ،والروائية املأخوذة
عنها"( .)119م ن هنا جند أن الروائيني ابتكروا غري طريقة يف التعامل مع هذا اللون من
الشخصيات .فنجدهم مرة حيولوهنا إىل شخصية ثانوية قلما تسهم يف احلدث املباشر،
بل يظهر دورها مبثابة انعكاس على تصرفات الشخصيات املتخيلة" ،فمن كان بطالً يف
التاريخ ،قد يغدو شخصاً ثانوياً يف الرواية ،والعكس يصدق يف ذلك"( .)116وهذه
الطريقة تأمن طريق العودة للروائي ،ولكنها إذا
131
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
مارست هذا االبتعاد عن عموم الشخصيات التارخيية الواردة يف الرواية ،فإن ذلك قد
يبعدها عن تسميتها "رواية تارخيية" ألهنا تكون بعدت أصالً عن وصاية التاريخ اليت ال
تتحقق إال بشخصيات من التاريخ.
ومن الروائيني من يكسر القفل التارخيي املؤدي إىل الشخصيات التارخيية
احلقيقية ،فيغفل دورها (فال يعطيها جماالً حراً للتحرك ويتجاهل كثرياً من تصرفاهتا) بإذن
مسبق من التاريخ نفسه شرط أال يغري من حقائقه اليت أثبتها ،فيدخل الروائي إىل الشق
املفرتض واملتخيل هلذه الشخصيات عندما حياول كشف سرائرها آنذاك ،وكيف كانت
هذه الشخصيات تتعامل مع املقربني؟ وما احلوار الذي نشأ وينشأ بينه وبني ذويه أو
املقربني منه؟ كل ذلك بعيداً عن أي تعارض معلومايت قد ميس هذه الشخصيات ،عندها
سيحقق الروائي مكسبني؛ األول :التخلص من األسر التسجيلي الوثائقي الذي يطارد
كتاب الرواية التارخيية ،والثاين" :إزاحة النقاب عن ذلك اجلانب املسترت يف حياة تلك
الشخصيات ،حبيث مي ّكن القارئ من فهم الناس يف الرواية .إذا ما أظهر حياهتم الداخلية
واخلارجية لتبدو شخصيات الرواية أكثر وضوحاً من شخصيات التاريخ ،أو حىت من
أصدقائنا ،فقد قيل عنهم كل ما ميكن قوله ،حىت لو كانوا غري كاملني"( .)115كما ظهر
ذلك يف أعمال فوليرت وديدرو وفيلدنج ،وعندها ينقل الروائي الشخصية احلقيقية من
صفتها التارخيية إىل صفتها الروائية.
أما النوع الثاني :وهو الشخصيات التارخيية املتخيّلة ،فتع ّد مالذ الروائي وهدفه
األمسى ،إذ ال قيود حتد من نشاطها ،نرنو إليها حرة تتصرف على
131
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
سجيتها يشكلها الروائي كيفما أراد ،فهم من "حيكمون احلياة بكل ما حتمله من غىن
وتعدد ،ومن خالل هؤالء تغادر القصور إىل الشوارع اخللفية .ويف مثل هذه األمكنة
نكتشف ونتعرف إىل احلياة اليت كانت قائمة دون تزييف ودون فرض .وإذا كان
يدون كل ما يتعلق هبم ،فإن الصنّاع لألحداث الكربى واألشخاص الكبار من ّ
احلقيقيني للتاريخ غائبون يف أغلب األحيان ،وهذا ما حتاول الرواية التارخيية أن تتصدى
له ،أن تتواله ،لكي نرى من خالل ذلك صراعات التاريخ وعدواته"( .)111وهذه
الشخصيات ال تشكل خطورة يف استعماهلا ،تلك اليت تشكلها الشخصية التارخيية اليت
يفضل كثري من الروائيني إبقاءها يف الظل ،أو استخدام أسلويب التلميح واإلشارة من
بعد إىل معاملها دون اسرتسال يف وصفها ،لذلك برزت الشخصيات املتخيلة يف واجهة
العمل يف حني تقبع الشخصيات التارخيية يف املؤخرة .يقول ولرت سكوت "أنا أمنح
التاريخ ما يستحقه ،لكن الشخصيات التارخيية احلقيقية تقبع يف املؤخرة من أعمايل .إن
دراسة الفرتة التارخيية تصبح عدمية الفائدة دون مبادئ تصلح جلميع البشر ويف كل
األزمنة"(.)111
أما عن اللغة اليت يوظفها الروائي يف الرواية التارخيية فال يفرتض أن تبتعد كثرياً
عن اللغة املعاصرة حىت لو كانت تعاجل فرتة زمنية ضاربة يف القدم ،وهذا لن يؤثر على
املصداقية الفنية اليت يرجوها الروائي .ألن استلهام لغة احلكاية من زمنها قد يقطع الوصل
بني املتلقي (اجلاهل هبا) واملرسل (املتعامل هبا) .وهذا يفقد اللغة وظيفتها التواصلية
والتفاعلية؛ لذا جند بعض الروائيني ينهجون غري هنج يف تقريب الرواية التارخيية من زمنها
احلقيقي ،فبعضهم يلجأ
132
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إىل سبك روايته ضمن شكل تراثي قدمي يوحي لنا بأننا نتعامل مع مادة تراثية صرفه ،كما
يظهر ذلك لدى مجال الغيطاين يف روايته "رسالة يف الصبابة والوجد" ومنهم من يغذي
روايته جبملة من التعابري الرتاثية اليت ال تزيد على اللغة املعاصرة الشائعة فيومهنا أننا أمام
عمل ن ّفذ يف زمانه ،وهذا شائع لدى رضوى عاشور يف "ثالثية غرناطة" ومع امتداد
الرواية التارخيية يف أدبنا العريب وازدهارها تطورت تقنية اإلحياء اللغوي إىل احلد الذي حدا
ببعضهم أن يلجأ إىل العامية يف احلوار .ألن العامية يف احلوار (عامية املرحلة التارخيية)
تعيدنا إىل زمن احلكاية ،فنعيشها حبقيقتها من خالل حمموهلا الثقايف واالجتماعي الذي
تؤديه ،وقد برز ذلك لدى عبد الرمحن منيف يف "أرض السواد" ولدى مسيحة خريس يف
"القرمية"( )110ولدى زياد قاسم يف "الزوبعة"( )119إذ فرض هؤالء حواراً عامياً على
أعماهلم أضفى واقعية تارخيية أعادت املتلقي إىل زمن احلدث احلقيقي ،لكن على كل
كاتب يف الرواية التارخيية أن يستغل اللغة بوصفها تقنية فاعلة ختدم العمل الروائي بأكثر
من طريقة ،وال يكتفي بسالمتها الرتكيبية بل جيب أن يدرك أن هلا سالمة إحيائية البد
من حتقيقها.
( )271ينظر مقالنا :القرمية لسميحة خريس الحوار في أبهى حلله ،جريدة العرب اليوم .
( )211تنظر دراستنا :تجربة زياد قاسم الروائية ،دار وائل ،ط ،2112 ،1ص . 272
133
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إن كل نص مهما بعد عن حاضره مرهتن بطريقة أو بأخرى إىل بند من بنود احلاضر
والرواية التارخيية نص يبتعد يف ظاهره عن نقطة احلاضر (نقطة االنطالق) ويتوغل يف
املاضي لكنه يبقى وليد (اآلن) وإن ابتعاده يف املاضي ما هو إال طريقة لفهم احلاضر،
فهي يف كثري من مناذجها استعارة عصر غابر لتمثيل روح العصر احلاضر ،فاملرسل ال
يرمي من وراء ذلك إىل أن يقول لنا" :هكذا عاش آباؤنا يف التاريخ ،وهكذا نعيش
حالياً ،إنه وهو يُرهن الواقعي واالجتماعي يكتب نصاً ،وينتج عاملاً نصيّا له استقالله
وهويته اليت ال ميكننا معاينة نصيتها أو إنتاجيتها إال بوضعها يف إطار بنية سوسيو-
نصيّة"(.)111
إن الرواية يف بعض مناذجها متثل خطاباً بديالً عن التوجيه واإلرشاد املباشرين
إىل االتعاظ حبوادث التاريخ ومساره واستعادة مناذج بطوالته ومفاخره ،فاحلاضر حلُّه يف
املاضي( ، )111بل إن احلاضر هو نتاج ما مضى ،ويرى جورج لوكاش يف هذه الثنائية
(احلاضر -املاضي) أن "تصوير التاريخ أمر مستحيل على املرء ما مل حيدد صلته
فن تارخيي عظيم حقاً ،ال تكمن باحلاضر ،إال أن هذه العالقة التارخيية ،يف حالة وجود ّ
يف اإلملاع إىل الوقائع الراهنة بل يف جعلنا نعيش التاريخ جمدداً باعتباره ما قبل التاريخ
احلاضر ،ويف إضفاء شعرية على القوى التارخيية واالجتماعية واالنسانية اليت جعلت من
خالل مسار طويل حياتنا الراهنة على ما هي عليه"( .)111من هنا البد للرواية التارخيية
حىت تكتسب هذا الوصف أن حتمل من قضايا العصر مشاغله ومهومه فتعلق عليها
وتبحث هلا عن تفسري .أما أسباب اللجوء إىل الرواية التارخيية من هذا املنطلق فمتعددة،
أبرزها:
134
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إن اللجوء إىل املاضي إلجناز رواية قد ينطلق بادئ ذي بدء من قيمة تعليمية -1
حمددة تكشف لنا التاريخ بطريقة قصصية شائقة ختلق لدينا وعياً سياسياً
واجتماعياً مباضينا ،إذ ميكن للرواية التارخيية أن تعمد إىل تربية األجيال القادمة
"بإعادة إنتاج املعرفة التارخيية فنياً عند تلك األجيال ،ليس هذا فحسب ،بل
ميكن توظيف ذلك كله يف بناء اجملتمع العريب ،بإغناء ثقافته ،وتقومي سلوكياته،
وتصحيح اعوجاجاته ،وتعزيز ملكاته ،وتقوية أدبياته ولغته وأساليب كتابات
أبنائه ..كما ميكننا أيضاً تقدمي شيء للعامل الذي يسمع مبا كان للعرب يف
املاضي من أدوار وتاريخ مأثور"( )119ومن أهم األمثلة املراعية هلذا املنطلق
جرجي زيدان صاحب أول وأضخم حماولة يف إلباس التاريخ ثوباً روائياً ،وجرجي
زيدان حياول أن يظهر مبظهر املؤرخ عندما يكتب الرواية وليس العكس ،إذ
انتماؤه للتاريخ سابق على والئه للرواية ،فأثر التاريخ يف أعماله مقدم على الفن،
صب التاريخ يف قوالب روائية متالحقة" ،فلم يستطع السيطرة على حيث أنه ّ
ميله الشديد لتعليم التاريخ وتعميم معرفته .فجعل له سيطرة كبرية على طريقته
الفنية ..ولذا نرى أنه كثرياً ما يستطرد إىل التعليم والنصح والوعظ فيقطع سياق
القصة ،وخيضع العمل الفين للغاية الثقافية اليت كان يتوخى بلوغها يف كل ما
كتب"( ،)116وقد أدى هذا إىل إحداث ضعف عام ساد يف أعماله القصصية،
تغلب فيه اخلطاب التارخيي التعليمي على اخلطاب الروائي الفين.
135
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-1بعث جمد املاضي وإحياؤه جمدداً يف األذهان ،وهذا منطلق يبدأ من املاضي لريفد
احلاضر ،ومنطلق يسمو على األول يف هدفه ،وعندما خيتار الكاتب لُمعاً من
تاريخ أمته ويعرضها روائياً ،فإمنا يزيد الصلة بني املاضي واحلاضر وثوقاً( ،)115فليس
صحيحاً أن الروائي يعمد إىل التاريخ بدافع فين هو سهولة العثور على مادة أو
موضوع يصلح نواة لعمل روائي( ،)111فالرواية أوالً هي شكل وجنس أديب يتطلب
شروطاً ملزمة للكاتب ،وإذا مل يأخذ الكاتب موضوعه من التاريخ فحتماً سيأخذه
من ماضيه القريب .فمساءلة الروائي تنحصر يف أدائه قبل أن تكون فيما اختاره
من حكايات.
-1استعادة الذات الضائعة باكتشاف معىن االستمرار يف شيء ما أو االنتماء إىل
شيء ما يبدو قد ضاع إىل األبد( .)111إن اهتزاز وجدان أي أمة وإحساسها بأن
شخصيتها االجتماعية بدأت تضمحل بسبب أو آخر يدفعها إىل فتح سجالت
حل ملأزقها ورفع ملعنوياهتا والبحث عن خمرج هلا .وعلى صعيد املاضي ،إلجياد ّ
الرواية التارخيية العربية فإن مكانة العرب الدولية املتواضعة وهدرهم إلمكاناهتم يف
املآزق الطائفية واإلقليمية والقطرية وسواها واإلحساس باخليبة القومية إثر اهلزائم
املتكررة يف مواجهة االستعمار العريب واالستيطان الصهيوين مث تفاقم اإلحساس
هبذه اخليبة إثر احلروب العربية واالنشقاقات الداخلية( ،)110أدى
( )216انظر للتطبيق دراسة :نبيل حداد ،شجرة الفهود صورة المجتمع االردني في نصف قرن،
أبحاث اليرموك ،م ،15ع ،3ص .45حيث اسقطت الدراسة الماضي على الحاضر.
( )217كما نص على ذلك محمد حسن عبد هللا :الواقعية في الرواية العربية ،ص . 114
( )211ابراهيم فتحي :تطور أدوات الصياغة الروائية من الواقعية إلى الحداثة ،مجلة الفصول ،شتاء
،2113ع ،61ص . 31
( )211عبد هللا أبو أهيف :رؤى التاريخ في الرواية العربية ،مجلة الموقف األدبي ،دمشق ،حزيران،
،2112عدد ،374ص
136
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إىل االلتفات جبد إىل املاضي بل واالندفاع حنوه للتذكري فيه والدعوة إليه ،فتعلقنا
بالذكريات وحبثنا عن القيم االعتبارية فيه واستعرنا أبطال( )109من زمن أفل إىل
زمن مهزوم ،كل ذلك من أجل البحث عن الذات جمدداً ،فعمد بعض الكتاب
" إىل أن تكون أعماهلم مصابيح هداية يف مساء أمتهم العربية ،متخذين من التاريخ
ستاراً تنعكس عليه أحداث األمة وواقعها املرير ،وكل ذلك دعوة النتشال اإلنسان
العريب من وحل الكوارث العاملية واهلزات واحمللية اليت زعزعت كيانه وه ّدته،
فالتاريخ إذاً كان وسيلة يتخذها الفنان للتعبري عن رؤية معاصرة" ( ،)101ال ينفصل
عنها بل هو تابع هلا يتوسلها.
-9إعادة قراءة التاريخ هبدف التقصي أو اإلمتام أو التصحيح أو االختزال .فالتاريخ
موجه أصالً من قبل من يكتبه،
ال ينقل كل ما حدث بل أبرز ما حدث والتاريخ ّ
ألنه يكتبه بطريقة ختدم وجهة نظره وتربهن على صحة آرائه ،فهو غري حمايد ،مما
أوقع التاريخ يف مثالب مجّة تنقص منه قدراً ال يعاجل إال بإعادة القراءة كأن يعاد
تناوله روائياً ،فالكتابة الروائية هي مبثابة قوة إضافية للتعلم الراصد املتابع ،قوة
تسمح له بأن يتجاوز كثرياً من اخلطوط اليت وقف أمامها املؤرخ مقيداً.
إن االعتماد على احلدث التارخيي ضمن هذا املنطلق يتجاوز فكرة االتكاء على
التاريخ بوصفه موضوعاً روائياً سيُتم ما غفل عنه التاريخ" ،إن الرواية العربية وهي تعيد
استثمار التاريخ يف إنتاجها للداللة الروائية ،تقدم
( )211شكري الماضي :الرواية والتاريخ وفن الرواية العربية ،ص . 63
( )211محمد أبو بكر حميد :هل انتهت مرحلة الرواية التاريخية؟
www.lahonline.com/literature/critique/455.doc-ctv.htm.
137
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
توظيفات خمتلفة يف الفهم والقصد ،ألهنا ختتار كيفية حمددة يف القول والرتكيب وإنتاج
التخييل ،وألهنا تعرب أيضاً عن احلاجة إىل الرواية ،واحلاجة ألن تكون تارخيية
كذلك"( .)101فاخليال هو القادر على إمتام ما مل يذكره التاريخ بناء على معطيات
التاريخ نفسه ،يقول عبد الرمحن منيف منبهاً إىل تطور نظرة الرواية للتاريخ" :وإذا كانت
بطولة الفرد يف مراحل معينة ،مراحل االقطاع واالرستقراطية هي حمور روايات املغامرات
والروايات التارخيية ،فإن ظهور األقل ثروة واألقل قوة بدأت بالظهور ،تلتها بطولة الناس
العاديني ،وبعض األحيان بطولة الكتل واجلموع ،إذ أخذت هذه حتظى باهتمام متزايد
وتليب حاجات فعلية ،األمر الذي جعل روايات كثرية هتجر املوضوعات القدمية ،لتلتفت
إىل ناس القاع واجملهولني والذين يعيشون يف العتمة أو العزلة ،وأصبحت األماكن
واحليوانات واألشياء ،مادة للبطولة الروائية"( )101وهنا تكون إعادة القراءة بلفت األنظار
إىل أشياء يف الظل ،فالتاريخ يهتم بالنتائج واخلالصات أكثر ،أما الرواية التارخيية فهمها
الكيفيات املؤدية ،مهها أسباب اهلزمية مهها ملاذا عدنا إىل الوراء ،إذ "عليها أن حتدد يف
املاضي األسباب اليت كانت وراء ما حدث بعد ذلك ،وأيضاً رسم السريورة اليت تطورت
بشكل بطيء من خالهلا وأحدثت هذا الواقع"( .)109فما عاد املهم أن نعيد سرد
أحداث كبرية ،بل تعزيز جانب اخليال عند الناس الذي عاشوا تلك األحداث وأن
نتقصى دوافعهم وحاجاهتم ورغباهتم لنقرتب منهم أكثر ،تلك اليت أدت هبم أن يتصرفوا
على ذلك النحو اجل ّذاب .ومن الروايات التارخيية اليت انطلقت من هذا املنطلق "ثالثية
غرناطة" لرضوى عاشور و "الزوبعة" لزياد قاسم.
( )212عبد الفتاح الحجمري :هل لدينا رواية تاريخية؟ ،ص . 63
( )213عبد الرحمن منيف :رحلة ضوء ،ص . 12-11
( )214امبيرتو ايكو :حاشية على "اسم الوردة" آليات الكتابة ،تر :سعيد بنكراد ). (on-line
131
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وبعد فإن دوافع اللجوء إىل املاضي كثرية ومتباينة ،ولكنها يف كل أحواهلا ليست
جمرد مرحلة كانت الرواية فيها غري واثقة من نفسها وال موقنة من مجاهلا الغين ،وسلطاهنا
األديب" كما حاول عبد امللك مرتاض إقرارها( ،)106ولكنها أثرى من ذلك وأبعد ،وهي
أعمق يف رؤاها وأمشل يف امتداداهتا وأكثر تأثرياً يف نتائجها ،إهنا مزج الواقع باملاضي على
غرينا موقع رؤيتنا منها ،إهنا تشبه آلة املطياف أو
حنو مسؤول ،ختتلف نظرتنا إليها كلما ّ
()105
تغري من
تلك اآللة اليت حتتوي على قطع من الزجاج امللون ما إن ّ الكاليد سكوب
أوضاعها حىت تعكس جمموعة من األشكال اهلندسية خمتلفة األلوان ال هناية هلا.
( )215عبد الملك مرتاض :في نظرية الرواية ،سلسلة عالم المعرفة ،عدد ،1111 ،241الكويت،
ص.31
( )216تيري ايغلتون :مفهوم التاريخ في الفكر ما بعد الحداثي ،تر :ثائر ديب ،مجلة الكرمل،614 ،
صيف ،2111ص .46
( )217دار صادر ،بيروت ،ط. 1111 ،1
( )211دار مصر للطباعة ،ط . 1111 ، 11
( )211المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،ط. 1111 ، 2
( )311المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،المركز الثقافي العربي ،بيروت ،ط. 1111 ،1
131
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
141
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
عنها الشمس وبسلطة تنصب الوالة مث ختلعهم دون أن يدركوا .ويف هذا اخلضم بني
إرادة تريد االستقالل (داود باشا) وأخرى حتطم اإلرادة واالستقالل (ريتش) كانت أحالم
كل طرف كوابيس لآلخر.
ويشق الصراع طريقة بني إرادتني متنافرتني يف زمنني تارخييني ال متكافئني،
والرواية تنهج هنجاً واقعياً ميزج بني األحداث التارخيية احلقيقية واألحداث املتخيلة،
وهتمش بداية أوالد سليمان الكبري الثالثة وأصهاره األربعة مستبقية "داود" هذا الفىت
اجلورجي األصل الذي عطف عليه سليمان وربّاه يف قصره ،وهذا ميثل العنصر احلقيقي
يف الرواية ،أما العنصر املتخيل فيتمثل يف نسق الشخصيات الشعبية املفتوح الذي يظهر
على شكل حكايات متوالدة ،فكل إنسان حكاية يشارك اآلخرين هبا وال يتنازل عنها،
وبذلك تبين الرواية فضاء شعبياً متعدد الوجوه هو فضاء بغداد يف مطلع القرن التاسع
عشر ،الذي حيتضن التاجر والعسكري واملومس واجلاسوس واجلندي العاشق واحملاسب
والسقاء وصاحب املقهى واليهودي واملرتجم واملتدين واآلغا واألخرق والطفلة املشلولة..
هي شخصيات تبين احلس الشعيب واحلس الشعيب بينها.
أما لغة احلوار فهي (العامية) اللهجة العراقية النابعة من عمق شعبيتهم ،إهنا لغة
األلفة واإليقاع ،والعامية يف ترابطها مع الشخصيات تش ّكل شخصية تكشف الوجه
احلقيقي هلم.
تتعامل "أرض السواد" منطقياً ،مع حدث تارخيي معلن البداية والنهاية ،ميلي
مساراً خطياً متصاعداً ،ال حيد من صرامته إال تلك التفاصيل البشرية للصورة الشعبية
اليومية ،فاحلدث الواحد يروى أكثر من مرة على ألسنة العامة وكل واحد يعرب عن رأيه
فتأخذ الشخصيات استقالهلا الكامل من حيث
141
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
التصرف والكالم ،إن الرواية تستثمر طاقة التاريخ فتعيد كتابة املكتوب،
والشخصيات التارخيية الفعلية تشاطر الشخصيات املتخيلة ومنها الذي تعيشه ،فيتآزر
التارخيي والروائي ليقدمان خطاباً روائياً عن التاريخ ،يبدأ من زمن معلوم وينتهي عند زمن
معلوم أيضاً.
142
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وتبدأ أحداث الرواية من ذلك اليوم الذي شهد اجتماع احلمراء الشهري الذي
تأكد فيه اخلضوع واالستسالم للقشتاليني ،فتتجاوب الرواية مع املد التارخيي لرتوي مقولة
أيب عبد اهلل الصغري الذي ينتحب لضياع البالد على دوره.
وتتعامل الرواية تعامالً حذراً مع الشخصيات التارخيية ،إذ ال تشركها إشراكاً
مباشراً باحلدث بل تفتعل تصرفات هذا النوع من الشخصيات .أما الشخصيات املتخيلة
يف هذه الرواية فهي من تلعب الدور األساسي يف هذه األحداث وتبقى الشخصيات
التارخيية إطاراً تنفذ األحداث من خالله ،مثل موسى بن أيب الغسان ،أيب عبد اهلل
الصغري ،فرديناند ،ازابيال.
وتنقسم الرواية إىل ثالثة أجزاء متتالية؛ األول( :غرناطة) ويستمر مخساً وثالثني
سنة بدءاً من 1901م وانتهاء بـ 1611م وهو العام الذي أعدمت فيه ُسليمة واليت
خلص إعدامها مأساة جيل بأكمله فكان حدث إعدامها خامتة ناجحة يف هناية اجلزء
األول .الثاين( :مرمية) وميتد أربعاً ومخسني سنة وتلخص حقبة مضاعفة من الظلم
والتهجري ،وقد أسند هذا اجلزء يف عنوانه إىل تلك السيدة املقاومة (مرمية) واليت تعادل يف
بعض نواحيها السيدة مرمي العذراء .أما اجلزء الثالث (الرحيل) فامتد حوايل مثان وعشرين
سنة ،وحيمل هذا اجلزء الداللة الكربى على انقطاع األمل بالعودة وكان ذلك بصدور
قرار اإلسبان بطرد العرب من إسبانيا عام 1590م.
143
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
السادسة من فراعنة مصر .و"رادوبيس" اسم غانية رائعة احلسن ،كانت تسكن يف
قصرها البديع يف جزيرة "بيجة" يف عرض النيل ،أمام مدينة "أون" عاصمة امللك ،وكان
امللك "مرنرع الثاين" حديث عهد بالعرش ،تقوده شهواته وطيشه إىل حيث احلسن إينما
وجد.
وتبدأ الرواية يف يوم عيد النيل ،حيث يتجمع الناس من كل حدب وصوب
ملشاهدة ملكهم امل قدس ،ولكن حادثة خطرية حتدث يف ذلك اليوم عندما يرتفع هتاف
ميجد وزير امللك (رئيس الكهنة) خنوم حتب .والسبب يف هذا النداء العلين -الذي ميثل
ضرباً من ضروب العصيان ،-قرار امللك بتجريد املعابد من أكثر ممتلكاهتا من األراضي
الزراعية ،وإعادهتا إىل ملكيته اخلاصة ،كما كانت قبل أن يهبها أجداده للمعابد والكهنة،
وقد عارض الوزير خنوم حيث هذا القرار وأوعز إىل كهنة األقاليم بتأليب الشعب ضد
فرعون الغاضب؛ ألن هذه األراضي ملكية مجاعية يستفيد منها كل الناس ،أما فرعون
فكان يرى أن الكهنة تستفيد من ريع هذه األراضي ألنفسهم وليس للمعابد ،لذا فهو
أوىل هبا ليبىن قصوراً وقبوراً.
ولكن هذا امللك يف غمرة اشتعال مجرة املعارضة يقع بسهولة يف حب الغانية
"رادوبيس" معشوقة كبار الدولة ،وهنا تقرر الغانية أن ترتكهم وتنفرد مبعشوقها امللك
فتخلص نفسها وفكرها لفرعون الشاب ،وتدافع عن حبها له ،حىت تتحدى زوجته امللكة
فتعم قصة فرعون ورادوبيس اآلفاق ويربط الشعب بني بذخه يف قصر الغانية"نيتوقريس" ّ
وحرمان املعابد حقوقها ،فيثور الناس بعد أن طفح هبم الكيل ،فتزحف اجلموع على
القصر ويأىب فرعون أن خيتبئ وراء حرسه فيربز وحيداً ليتلقى سهماً قاتالً نفذ إىل قلبه ،مث
هتف الناس باسم امللكة اليت صربت طويالً على جرحها ،ووقفت إىل جانب الكهنة
والشعب.
144
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وقد طلب امللك وهو يف رمقه األخري أن ميوت بني يدي رادوبيس ،فكان له ما
متىن ،وعند ذلك مل يكن أمام "رادوبيس" إال أن تتجرع السم فال تسقط بني يدي
غرميتها ،ووفاء ملعشوقها القتيل.
145
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
146
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الباب الثاني
الـجـانـب التطـبـيـقي
147
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
141
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفصل األول
المـس ـتــوى الـتـركـيـ ـبـي
-الزمن
-الصيغة
-وجهة النظر
"الروائي يستطيع أن يعبر أجيالا أو قرونا
بحركة من يده دون أن يحطم الخيال"
*
برنار دي فوتو
تـمهـيـد:
قص منجز إىل داعمني أساسيني يروجانه ويتعهدانه؛ األول هو يرهتن أي ِّ
احلكاية أو املادة القصصية كما يفرتض أهنا حدثت ،والثاين هو الطريقة اخلاصة يف
تشكيل هذه املادة وعرضها وتركيبها على حنو خاص جيعل من هذه املادة جنساً أدبياً
مألوفاً ذا مقومات إبداعية خاصة متنحه صفة السردية ،اليت هي أصالً فرع من أصل كبري
هو الشعرية ) (Poeticsذلك األصل املختص بنظرية األدب وما جيعل من العمل
األديب أدبياً.
واخلطاب يف إحدى مراحله هو ذلك الناشئ عن اجتماع الكالم وتآلفه على
حنو خمصوص و" هو ما ينتخب من مكونات الكالم ،على هيئة مجل تتعالق فيما بينها
وصوالً لتأسيس وجودها العضوي الذي هو اخلطاب ،وهكذا تنتظم دائرة اخلطابات،
ويصبح البحث عن نظام حيدد نظمها الداخلية ضرورة منهجية،
*
عالم القصة ،تر :محمد هدارة ،عالم الكتب ،القاهرة ،1161 ،ص .115
141
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
هلذه الغاية ،أو بسببها ظهرت الشعرية"( )191وما املستوى الرتكييب إال ذلك الباحث يف
منهجية ذلك اخلطاب وآلية تش ّكله وتواصله مع املتلقي ،إنه حتليل لتلك الطريقة اليت
تُعرض هبا املادة القصصية.
وستتكئ هذه الدراسة يف مستواها األول (الرتكييب) على النموذج الذي ارتضاه
"جنيت" يف كتابه "خطاب احلكاية"؛ إذ ع ّده الدارسون من أيسر النماذج وأنضجها يف
تتبع املظهر الفعلي أو اللفظي أو النحوي لدراسة أدبية العمل السردي من خالل دراسة
العالقة احلاصلة بني املادة القصصية (املضمون) والطريقة اليت ُشكلت هبا املادة
(الشكل) ،من هنا ستكون مكونات هذا املستوى مقصورة على ثالثة عناصر ش ّكلت
وتش ّكل املستوى الرتكييب للعمل السردي:
املبحث األول :الزمن ).(Time
املبحث الثاين :الصيغة ).(Mode
املبحث الثالث :زاوية الرؤية ).(Perspective
وهذه املكونات هي اليت "يرّكز عليها السرديون بصفة عامة ،وإن كنا جند
اختالفات بينهم يف ترتيبها وربطها بعضا ببعض"(.)191
151
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المبحث األول
الــزمـ ـ ــن
تنطلق الدراسة يف هذا املبحث من فكرة التمايز املثبت بني زمن القصة (املدلول)
وزمن اخلطاب (الدال) "فاحلكاية مقطوعة زمنية مرتني ..فهناك زمن الشيء املروي وزمن
احلكاية (زمن املدلول وزمن الدال) .وهذه الثنائية ال جتعل االلتواءات الزمنية -اليت من
املبتذل بياهنا يف احلكايات -ممكنة فحسب (ثالث سنوات من حياة البطل ملخصة يف
مجلتني من رواية )..بل األهم أهنا تدعونا إىل مالحظة أن إحدى وظائف احلكاية هي
إدغان زمن يف زمن آخر"( .)191وهذا املبحث خيتص مبتابعة الرتتيب الزمين خلطاب ما من
خالل إحداث مقارنة بني الزمن احلقيقي املفرتض للمادة القصصية املستغّلة والزمن
احملدث بعد إعادة تشكيل هذه املادة ،أي املقارنة بني زمن القصة وزمن اخلطاب ،وما
يتخلل ذلك من استباقات أو اسرتجاعات أو تسريع أو تبطيء أو تكرار ،وما هذا التباين
يف توازي الزمنني إال طريقة من طرق تشكيل املادة األولية للقصة ،فزمن اخلطاب "يتصف
بالنسبية الذاتية والتوزيع غري املتساوي لألمهية وعدم االنتظام وعدم االطِّراد ،على النقيض
من الزمان املوضوعي"(.)199
إن مقولة الزمن مقولة متعددة املظاهر خمتلفة الوظائف استنزفت كثرياً من اجلهود
يف سبيل التعرف إىل ماهيته وإدراكه ،بدءاً من الشكالنيني الروس الذي درسوا مقولة
الزمن ضمن نظرية األدب ممارسني بعض حتديداته على العمل السردي ،فكانت
العالقات اجلامعة لألحداث هي األساس وليس طبيعة
151
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
األحداث نفسها( .)196تالهم لوبوك وموير اللذان أكدا على أمهية الزمن يف السرد
والتشديد على خطورة الدور املنوط به(.)195
ويستقي "جورج لوكاش" مفهومه للزمن يف الرواية من هيجل وبريجسون ،ولكنه
يعطيه صياغة خمالفة إلشكالية الزمن يف الفكر الفلسفي للقرن التاسع عشر ،حيث يرى
بأن الزمن "هو عملية احنطاط متواصلة ،وشاشة تقف بني اإلنسان واملطلق .ومثل مجيع
مكونات البنية الروائية لديه فإن الزمنية هي أيضاً ذات طبيعة دياليكتيكية ،فهي سلبية
وإجيابية معاً"( )191ويشرتك معه يف هذا املفهوم إىل حد ما "ميخائيل باختني"(.)191
بعد ذلك ويف إطار قريب من هذا اإلطار دعا "جان بويون" إىل احرتام الزمن يف
دراسة العمل الروائي بل إنه ذهب إىل ح ِّد أن جعل منهم أي عمل أديب متوقفاً على فهم
وجوده يف الزمن( ،)190انطالقاً من نظرة هيدجر وسارتر اليت ترى أن الزمنية يف أصلها
ليس هلا وجود ،بل إهنا ميزة ما ميكن تزمينه.
أما على الصعيد البنيوي فقد أثار "روالن بارت" قضية الزمن السردي يف مؤلفه
"درجة الصفر يف الكتابة" ،إذ أعلن أن أزمنة األفعال يف شكلها الوجودي والتجرييب ال
تؤدي معىن الزمن املعرب عنه يف النص وإمنا غايتها تكثيف الواقع وجتميعه بواسطة الربط
املنطقي(.)119
152
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وجدير بالذكر أن بارت بقي متمسكاً يف طرحه هذا حىت عندما كتب مؤلفه
"التحليل البنيوي للسرد" الذي يعد خالصة ما أنتج بارت يف التحليل السردي .ومن
أعالم هذا التوجه نذكر ميشال بوتور صاحب كتاب "حبوث يف الرواية اجلديدة" وفيه
يعلن صراحة عن صعوبة عرض حمتوى الرواية وفق تسلسل زمين مسرتسل ،ففي رأيه أننا،
حىت يف السرد األكثر التزاماً بالتسلسل الزمين ال نعيش الزمن باعتباره استمراراً إال يف
بعض األحيان ..وأن العادة وحدها هي اليت متنعنا من االنتباه أثناء القراءة إىل التقطعات
والوقفات وأحياناً القفزات اليت تتناوب على السرد ،وقد وصف "بوتور" التسلسل الزمين
الرتيب باخلشونة إذا طبقناه حميالً إيانا إىل قراءة "األوديسة" وإلثبات ذلك ميثل بوتور مبا
يلي " :وعندما يكون هناك شخصان مهمان وينفصل أحدمها عن اآلخر ،فنحن
مضطرون إىل ترك مغامرات أحدمها لبعض الوقت لنعلم ما فعله اآلخر حىت الوقت
نفسه"( ،)111وهذا يشعرنا باستحالة املوازاة بني ما حدث أصالً وكيف كتب بعد ذلك،
وقد شاركه يف توجهه هذا "اآلن روب غريبة" يف كتابه "حنو رواية جديدة".
قسم الزمن إىل
وينقلنا "تودوروف" نقله نوعية يف التعامل مع مقولة الزمن؛ إذ ّ
ثالثة أصناف هي(:)111
-1زمن القصة :ذلك الزمن اخلاص بالعمل التخييلي.
-1زمن السرد :ذلك الزمن املرتبط بعملية التلفظ.
-1زمن القراءة :ذلك الزمن املطلوب إلجناز النقص قراءة.
( )311ميشال بوتور :بحوث في الرواية الجديدة ،تر :فريد أنطونيوس ،منشورات عويدات ،بيروت،
ط ،1116 ،3ص .17
( )312انظر :حسن بحراوي :بنية الشكل الروائي ،ص .114
153
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
()111
زمنا آخر هو مث أضاف "جان ريكاردو" يف كتابه "قضايا الرواية احلديثة"
زمن التخيّل الذي يقابل زمن احلكي فيربز الفرق جلياً ولكل من هذين الزمنيني وظائف
يضطلع هبا.
وبعد ،فإن مقولة الزمن مقولة حظيت باهتمام كثري من النقاد والفالسفة
أسهموا يف استجالئها وإيضاح معاملها ،وقد استطاع "جريار جنيت" عام ( )1011من
خالل كتابه "خطاب احلكاية" أن يرتجم هذه اجلهود املشتغلة على قضية الزمن إىل فهم
أكثر فاعلية يف التعامل مع زمن الرواية فبدأ بتسويق نظرته القائلة بأن زمن الرواية زمن
مزيف ال يعكس الزمن احلقيقي للمادة القصصية الفعلية .ومع هذه احملاولة ميكننا احلديث
عن مرحلة متقدمة يف حتليل اخلطاب الروائي ،فالزمن يشغل ثلثي كتابه املذكور آنفاً،
ويرسم يف األذهان احملددات التالية للزمن يف الرواية(:)119
-1عالقات الرتتيب ) (Orderالزمين بني تتابع األحداث يف املادة احلكائية وبني
ترتيب الزمن الزائف وتنظيماهتا يف احلكي.
( )313تر :صياح الجهيم ،دمشق ،وزارة الثقافة واإلرشاد القومي ،1117 ،ص .........
( )314سعيد يقطين :تحليل الخطاب الروائي ،ص .76
154
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
مع األخذ بعني االعتبار أن الزمن يف الرواية التارخيية له خصوصية ،فاملادة األولية
أي تسريع أو تبطيء أو استباق أو
للرواية هي أصالً تاريخ مثبت ومألوف وحمصور ،وإن ّ
اسرتجاع أو تكرار البد له ما يربره ،ألن األصل مدرك قبالً.
155
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
156
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
* االسرتجاع ).(Analepsis
* االستباق ).(Prolepsis
-1السترجاع ):(Analepsis
وهو خمالفة صرحية لسري السرد يكون بعودة راوي السرد وحمركه إىل حدث (يف
عُرف املضمون) سابق ،يهدف إىل استعادة أحداث ماضية أمهل السرد ذكرها لسبب أو
آلخر ،وحبسب املادة املعاد إليها تنكشف أنواع االسرتجاع أكانت داخلية أم خارجية
"إن كل عودة للماضي تشكل بالنسبة للسرد استذكاراً يقوم به ملاضيه اخلاص ،وحييلنا من
خالله إىل أحداث سابقة عن النقطة اليت وصلتها القصة"( ،)111فاالسرتجاع هو ذاكرة
النص أو مفكرة السرد.
والتساؤل الذي يطرح نفسه ،ملاذا يعود السارد إىل حدث قصد إمهاله أصالً؟
أليس من املنطقي أن يعيد السرد ذاكراً احلدث يف مكانه الصحيح؟ من هنا تربز قضية
اخلطاب فاخلطاب األديب ال شك أن بتصرفه املقصود مبثل هذه القضايا يكسب العمل
خصوصية تقيه شر التسجيل ،فيتجاوز الصدق احلقائقي الصدق الفين للعمل ،إن قضية
العودة إىل حدث ما يف الرواية ال يكون بالضرورة نسيانا له مث تذكراً ،بل إن الوعي الفين
أثناء السرد هو الذي حيتم على السارد جتاهل أحداث يف أوقاهتا مث العودة إليها يف الوقت
الذي يراه مناسباً ،فمثالً قد يكون التواصل احلدثي لسرد قضية ما يتطلب من الكاتب
جتاهل بعض األحداث األخرى اليت ميكن أن تعيق إمتام هذا احلدث ومن مث استذكاره
جمدداً.
157
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
كما أن تزامن األحداث يتطلب منا ذكر حدث قبل آخر ومن مث العودة إىل
هذا اآلخر يف موعد الحق الستحالة سرد احلدثني معاً .وقد تعكس تقنية االسرتجاع
هوى ما يف نفس السارد يعيد فيه ترتيب األحداث اليت يظن أن األفضل أن تكون عليه
هكذا ،وميكننا أن نتعامل معه ضمن التصنيف التايل:
أ -السترجاع الداخلي ) :(Internal Analepsisو"هو الذي يستعيد
أحداثاً وقعت ضمن زمن احلكاية أي بعد بدايتها وهو الصيغة املضادة لالسرتجاع
اخلارجي"( )110ومن أبرز وسائله التذكر (التداعي) ،وهذا مثال من رواية "أرض
السواد" يوضح ذلك:
"في اليوم األول استراح سيد عليوي ،وخالل هذه الستراحة
استعاد الماضي كلَّه ّ
تذوق ،من جديد طعم اإلهانات التي تلقاها
من سعيد :العتقال ثم إصدار حكم اإلعدام ،والتهديد بالتنفيذ
كل يوم ثم تدخل الباليوز لتخفيف حكم اإلعداد ،وكيف رفض
سعيد أول مرة ،ورفض في المرة الثانية ،وأخيرا حين وافق
مضطرا.)32 ("..
فاآلغا سيد عليوي يتذكر ما حدث معه ومسرتجعاً أحداثاً تعود إىل ما بعد نقطة
البداية يف الرواية ،وهنا متنحنا هذه التقنية الزمنية حلظة تنوير يف حياة هذه
يتسن للسارد إيضاحها يف وقتها حىت ال يقطع وترية السرد آنذاك.الشخصية مل ّ
وقد يلجأ السارد إىل االسرتجاع اخلارجي بنية التفسري وإثراء املعرفة يف جانب ما
يقول السارد يف رواية "أرض السواد" بعد مقتل سعيد باشا حاكم بغداد بقصد
التوضيح:
151
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
" فحين انصرف سعيد باشا للعناية بحمادي ،أخذ أكثر جنود القلعة
يفكرون ويخططون للنجاة بأرواحهم ،بدأ األمر بشكل فردي
()321
وسري ،ثم اتسع "..
فالسارد هنا مهتم بتفسري وتأويل أسباب اهلزمية اليت فين هبا سعيد باشا حاكم
بغداد ومن مث خلعه من احلكم.
ويف ثالثية غرناطة تكثر حاالت االسرتجاع الداخلي ،رمبا ألن الذاكرة ما زالت
متعلقة باملاضي (األرض املسلوبة) ،ورمبا ألن املكان بدأ يتغري تباعاً فما وجدت
الذاكرة مناصاً من االستعانة باملاضي:
"في شهور لحقة كان سعد يستحضر تلك اللحظات كثيرا ،ل
يستحضر الركض المحموم ول خطواته الحائرة في طرق جبلية
يجهلها ويتوغل فيها خائف ا وجائع ا ،ول القبض عليه بعد ذلك بأربعة
أيام ،بل كان يستحضر ذلك النهر البشري المتدفق بحذاء سور
القلعة الحجري يصعد ثم يهبط" (.)322
ويف رواية رادوبيس يستمر التداعي ماثالً كأسلوب من أساليب االسرتجاع:
"يا ما أجمل الذكريات! ذكرت العيد الماضي (رادوبيس) ،يوم اعتلت هودجها
الفاخر وشقت به الحشد الكبير لترى فرعون الشاب ،ولما وقعت عيناها عليه
خفق قلبها وهي ل تدري ،وأحست بدبيب الحب غريبا لطول عهدها
بالجفاء ،فحسبته قلقا غاضب ا أو نفثة ساحر ،ذاك اليوم الخالد حين خطف
النسر صندلها! ولم يكد يبدأ اليوم الثاني حتى زارها فرعون ،ومن ثم زار قبلها
الحب وتغيرت حياتها وتغيرت الدنيا جميعها"(.)323
151
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وهذا االسرتجاع الداخلي احلاصل على لسان رادوبيس مل يظهر يف وقته احلقيقي
إذ مل يفرج عنه الراوي إال يف الصفحات األخرية من الرواية علماً أن موضعه
املفرتض سيكون يف الصفحة الثانية عشرة عندما جتمهر الناس ملشاهدة موكب
فرعون ،وقد كان حجب هذه املعلومة اليت وردت الحقاً يف الصفحة اخلامسة بعد
املئة الثانية يف حمله ،ألن تسارع احلدث يف بداية الرواية كان تسارعاً تأسيسياً ال
جمال لذكر املعلومة اخلاصة قبل أن يضع هلا الراوي إطاراً تتفاعل من خالله ،ولو
أن الراوي أفصح عن هذه املشاعر باكراً خلسرت رادوبيس من شخصيتها اجلبارة
اآلسرة الشيء الكثري ورمبا ألظهرت مظهراً منطياً ال تقصده إرادة الكاتب البتة.
إن فائدة الكشف باالسرتجاع عن مثل هذا األمر يعطينا عمقاً يف تطور احلدث،
وحتوالً يف الشخصية بني املاضي واحلاضر.
161
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
شخصياته حمورية وأساسية"( )115كاستحضار صورة األم املتوفاة قبل البدء الفعلي
للقصة ،ومن رواية "احلجاج بن يوسف الثقفي" نرصد االسرتجاع اخلارجي التايل:
"كان عبد اهلل بن الزبير بن العوام من كبار الصحابة ،وكان قد رفض
مبايعة ليزيد بن معاوية كما رفضها الحسين بن علي ،وخرجا من
المدينة إلى مكة ،ودعا كل منهما إلى بيعته هو."..،
فهذا االسرتجاع خارجي ،ألنه يقدم معلومة سبقت البداية احلقيقية للرواية
واهلدف منه رسم صورة مكتملة عن شخصية عبد اهلل بن الزبري الرئيسية يف هذه
الرواية ،وقد اسرتجع جرجي زيدان هذه املعلومة بأسلوب إخباري تارخيي مباشر
بعيداً عن أي اعتبارات فنية هلذه الرواية.
وقد يأخذ االستحضار اخلارجي منط املونولوج فالشخصية تستدعي أمراً يؤرقها،
كما خطر هذا اخلاطر يف نفس أيب جعفر يف رواية ثالثية غرناطة:
"ولما ذهب المنادي وانفرط الحشد ،وجد أبو جعفر نفسه يسير وحيدا في
برد الشارع ل يقصد مكانا بعينه بل تحمله قدماه اللتان تألفان الطرقات يقول
لنفسه هذا المنحوس ليس أولهم ول آخرهم يقول سيذهب عبد اهلل ولن
يخلفه -منحوس أو غير منحوس -سوى ملوك الروم ..ألم يعقد السلطان
ط وأسوأ مع القشتاليين وجاء السلطان األيسر وألغى يوسف المول معاهدة أح ّ
المعاهدة وحاربهم"(.)327
فأبو جعفر يستحضر من تاريح األندلسيني حوادث ميكن أن تنطبق على واقعهم
املر بعد أن َوقَّ َع ملك غرناطة العريب وثيقة اخلضوع ،فأسعف أبو جعفر نفسه
ّ
بالتذكر واستدعى املاضي البعيد علّه يكون قريباً.
( )326مها قصراوي :الزمن في الرواية ،رسالة جامعية غير منشورة ،الجامعة األردنية ،2112 ،ص
.113
( )327الرواية :ص .13
161
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
162
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
163
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
(مواصلة) حني دخل ناهي ،ورأى روجينا غارقة بدموعها ،قال هلا بطريقة تقريرية
باردة :ترى اجلماعة يعرفون كل شيء."..
وإقحام املعلومة املخطوط حتتها يظهر قسريتها ،فاملشهد قد يكتمل دون هذه
املعلومة اليت كان املمكن إيرادها الحقاً أو سابقاً ولكن السارد أوردها قسراً عندما
سر تعاون روجينا (حليفة اآلغا) مع قوات شعر أنه حان وقتها فتفسر للقارئ ّ
الباشا حاكم بغداد بطريقة مفاجئة.
164
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
املكتملة يف أذهاننا ،بل إن احلديث بعد هذا املوضع عن هذه الشاعرة سينتهي من
الرواية كلياً بعد إمتام هذا االسرتجاع غري املربر.
واالسرتجاع -فيما سبق ذكره -مينح العمل السردي قيماً ووظائف متنحه
استقاللية تقنية ،فهو يس ّد الثغرات اليت خيلفها السرد ويوضح ويفسر إذا ما لزم
األمر ،ويتوىل التعريف بشخصية سبق احلديث عنها دون توضيح لسماهتا أو
معاملها ،كما أن االسرتجاع ينّور اللحظة احلاضرة يف حياة الشخصية وفعلها من
خالل استعادة املاضي ،كما خيلصنا من الرقابة ويكشف عمق التطور يف احلدث،
والتحول يف الشخصية بني ماضيها وحاضرهاُّ .
ويعد االسرتجاع أكثر شيوعاً من
االستباق ،ألنه يتوغل يف املاضي يف أكثر من جهة فيكمل الصورة الشخصية
وأحداثها ،كما أن فعل رواية األحداث فعل خيتص فيما مضى أكثر من
اختصاصه فيما سيحدث ،فالرواية سرد للماضي أوالً.
الستباق ) :(Prolepsisوهو "خمالفة لسري زمن السرد تقوم على جتاوز -1
حاضر احلكاية وذكر حدث مل حين وقته بعد"( )111وهو مفارقة زمنية تتجه إىل
االمام تصور حدثاً مستقبلياً سيأيت فيما بعد( ،)111وهو على الض ّد من
االسرتجاع ) ،(Anaiepsisواالستباق هو "القفز على فرتة زمنية معينة من
زمن القصة ،وجتاوز النقطة اليت وصلها اخلطاب الستشراف مستقبل األحداث
والتطلع إىل ما سيحصل من مستجدات الرواية"( )111واالستباق يف نظر جريار
جنيت "هو احلكاية التكهنية ،بصيغة املستقبل عموماً ،ولكن
165
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ال شيء مينع من إجنازها بصيغة احلاضر"( )119ويتمتع بانتشار أديب أقل من -1
األمناط األخرى .ومن خصائص هذه التقنية "هو كون املعلومات اليت يقدمها ال
تتصف باليقينية ،فما مل يتم قيام احلدث بالفعل ،فليس هناك ما يؤكد
حصوله"( )116فاالستباق حالة من االنتظار ،والتوقع تسيطر على املتلقي أثناء
القراءة .أما أنواعه حسب الوظيفة اليت يؤديها فهي نوعان :متهيدي وإعالين.
مث عرض عليه حامد االلتحاق معهم للتمرد على داود باشا فلم يستجب بدري
وأراد أن يكون حيادياً فقتل يوم زفافه قبل أن يرى عروسه ،وقد كان الراوي
حريصاً على إيالء اللحظات واأليام اليت سبقت وصول
166
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
عروسه مبنتهى الدقة حىت شعرنا بعظم اخلطر الذي ينتظره( ،)111فكان ذلك
مبثابة توطئة ملا سيأيت من أحداث رئيسية وهامة فخلَّفت هذه األحداث حالة من
التوقع واالنتظار يف نفوس املتلقني.
وقد يكون االستباق التجريدي على شكل حلم متر به إحدى الشخصيات
ليكون تفسريه ماثالً يف أحداث ستقع ،وقد استخدمت رضوى عاشور هذه
التقنية غري مرة يف ثالثيتها ،وكان ذلك يف بداية الرواية عندما حلم أبو جعفر
بامرأة عارية تنحدر يف اجتاهه من أعلى الشارع كأهنا تقصده ،اقرتبت فتأكد أهنا
ليس ت ماجنة أو خممورة بل صبية بالغة احلسن ،سرتها مبلفه الصويف ولكنها
()111
واصلت املسري ،مث شاهد طيفها وهي ميتة طافية اجلثة على مياة هنر شنيل
وقد كانت هذه الرؤية متهيداً يبشر بسقوط غرناطة ،وبدء عصر جديد من احملن
والقهر.
ويف موضع آخر يف الرواية نفسها( )110كان موت ظبية سليمة اليت أهداها زوجها
سعد هلا ،إيذانا حبدث حزين وهو موت طفلها الذي ستنجبه بعد أيام:
" ..ولكن الطفل الذي وضعته سليمة أسلم الروح بعد أسبوعين من
ولدته فعرفت أم جعفر أن موت الظبية كان عالمة أو إشارة وأن اهلل
في سمائه له حكمة تجل عن الفهم"( .)34
فهذا التطور املؤمل سبقته إشارة موحية منحت املتلقي إحساساً بأن شيئاً ما
سيحدث.
167
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
161
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فاالستباق تقنية مت ّهد وتوطئ ملا سيأيت ،أو قد يكون إعالناً عن إشارة صرحية ،أو
أنه يوجه القارئ إىل متابعة تطور شخصية ما ،أو مينح أمهية حلدث ما قصد
السبق إليه.
وبذلك تكون تقنيتا الرتتيب (االسرتجاع ،االستباق) تقنيتني فاعلتني تثريان املظهر
اللفظي للرواية بدالالت ومعان جديدة ،حتفزها اللحظة احلاضرة مبا تشتمل عليه
من شخوص وأحداث وأمكنة ،أو حتفزه احلواس كالرائحة أو الصورة ورمبا اللون
فتطلب بذلك االستباق أو االسرتجاع وقد تلعب اللغة يف بعض األحيان دور
احملضر للتعامل مع إحدى هاتني التقنيتني ،فلفظة ما نسمعها بطريقة ما حتيلنا إىل
ما مضى.
أما آليات االسرتجاع واالستباق فتتمثل بالتذكر أو املونولوج أو احلوار أو املذكرات
واالعرتافات ورمبا األحالم.
161
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
171
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
القصة هي بالتأكيد "أال حنتفظ سوى باملهم ،أي ما كان ذا داللة ،وما ميكنه أن حيل
طي الكتمان ،فيظل حمل الباقي ألنه يدل عليه ،وبالتايل نستطيع ترك الباقي ّ
الكالم عن األساسي ،ومنر مرور الكرام على الثانوي"( ،)196وتسريع السرد تقنيتان
تتوليان مهمة هذا التقدم املتجاوز للكثري من األحداث مها :احلذف أو القطع
) (Ellipsisواخلالصة أو امللخص ).(Summary
171
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وتقنية احلذف أو القطع تقنية برزت جراء استحالة سرد األيام واحلوادث بشكل
اف ودقيق ،فال بد من احلذف بالقفز على فرتات زمنية معينة ميكن متسلسل و ٍ
العودة إىل بعضها باالسرتجاع ) (Analepsisوللحذف أو القطع ثالثة أنواع؛
املعلن ،والضمين ،واالفرتاضي.
)Iالحذف المعلن :ويكون "بإعالن الفرتة الزمنية احملذوفة على حنو صريح،
سواء أجاء ذلك يف بداية احلذف كما هو شائع يف االستعماالت العادية،
أو تأجلت تلك املدة إىل حني استئناف السرد ملساره"( )191ومثال ذلك ما
علي حفيد ورد يف رواية "ثالثية غرناطة" بعد أن انقطع السرد نتيجة تعرض ّ
العائلة للحبس مدة معلنة:
"غادر على بوابة السجن وقد انقضى "بعض الوقت" الذي قرره
لها ،وكان قد أمضى في الحبس ثالث سنوات وخمسة شهور
( )34
وأربعة أيام"
فهذا االنقطاع دام فرتة ليست بالقصرية من زمن القصة الذي يربو على املئة
عام ،وإمجاالً فإن الروايات التارخيية جمربة على حتديد الفرتة الزمنية احملذوفة؛
ألهنا تعرض زمنا مثبت البداية والنهاية .ونستحضر من "أرض السواد املثال
التايل عن القنصل الربيطاين "ريتش":
" في النصف الثاني من حزيران عاد ريتش إلى بغداد ،بعد أن قضى
ثالثة أشهر وبضعة أيام في رحلته إلى الشمال .توقف بشكل متعمد
في خان بني سعد وقت ا إضافي ا ،ريثما تستكمل كافة الترتيبات التي
تليق بعودته ودخوله ،بعد هذا الغياب الطويل بالنسبة له ،وأيض ا
( )34
آلخرين كانوا ينتظرون هذه العودة"
172
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وما سبق قطع معلن مدته ثالثة أشهر وبضعة أيام وهي املدة اليت تغيب
فيها القنصل الربيطاين "ريتش" عن بغداد ،صرف خالهلا الراوي نظره عن
متابعته مكتفياً بإعالمنا سبب هذا االنصراف ،الذي قد يعود إىل
توضيحه -الراوي -فيما بعد.
)IIالحذف الضمني :وهو ذلك احلذف األكثر شيوعاً يف األعمال الروائية
ويقابل احلذف املعلن" ،ويعترب هذا النوع من صميم التقاليد السردية
املعمول هبا يف الكتابة الروائية حيث ال يظهر احلذف يف النص ،بالرغم من
حدوثه .وال تنوب عنه أية إشارة زمنية أو مضمونية ،وإمنا يكون على
القارئ أن يهتدي إىل معرفة موضعه باقتفاء أثر الثغرات واالنقطاعات
احلاصلة يف التسلسل الزمين الذي ينتظم القصة"( .)169من هنا تربز
صعوبة إعطاء أمثلة ملموسة للحذف الضمين يف الرواية وسنحاول يف
املقطع التايل من رواية "رادوبيس" استجالء احلذف الضمين غري املعلن:
"وضاق الملك ذرعا برأي سوفخاتب ،وأحس بوحشة في
جناحه الخاص ،فهرع إلى قصر بيجة الذي ل تالحقه الوحشة
إليه قط .وكانت رادوبيس تجهل ما دار في الجتماع األخير،
فكانت أدنى إلى الطمأنينة منه ،ولكنها لم تلق صعوبة في قراءة
()351
الحساس"..
صفحة وجهه ّ
هذا املقطع يبدو ألول وهلة متماسكاً رقراقاً ال حذف فيه ولكنه يف حقيقة
األمر قد ذكر أبرز األحداث اليت أخذت وقتا ال يقل عن
173
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
نصف يوم يف أربعة أسطر ،فال شك أن بني ضيق امللك ووحشته جبناحه اخلاص
يف بيجة أحداثاً ُحذفت ،ومل يعلن عنها بل جاءت ضمنية ،وبني ذهابه إىل
قصر بيجة ولقائه برادوبيس أحداثاً صغرى ال تستحق الذكر بل حذفت
ضمنياً دون إعالن .إن تقنية احلذف الضمين شائعة يف أصناف العمل
السردي؛ ألهنا تتطلبه لشد أوصال احلدث.
وقد يأخذ احلذف الضمين شكالً آخر" ،مثل السكوت عن فرتة ما من
حياة شخصية ووضعها يف الظل ريثما جيري تقدمي شخصية أو استعراض
حدث طارئ ..اخل ،وطبيعي أن حتدث بسبب ذلك فجوة زمنية كبرية هبذا
القدر أو ذاك ،وجمموعة مبا يكفي ليجعل القارئ ال يتفطن إىل وجودها إال
بعد حتميص ومراجعة"(.)161
)IIIالحذف الفتراضي" :ويأيت يف الدرجة األخرية بعد احلذف الضمين
ويشرتك معه يف عدم وجود قرائن واضحة تسعف على تعيني مكانه أو
الزمن الذي يستغرقه ،وكما يفهم من التسمية اليت يطلقها عليه جنيت،
فليس هناك من طريقة مؤكدة ملعرفته سوى افرتاض حصوله باالستناد إىل ما
قد نالحظه من انقطاع يف االستمرار الزمين للقصة مثل السكوت عن
أحداث فرتة من املفرتض أن الرواية تشملها ..أو إغفال احلديث عن
جانب من حياة شخصية ما"( ،)161ولكن البد من التنبه إىل أن هذه
الدالئل اليت تقودنا إىل افرتاض بوجود احلذف فإهنا ال تقربنا من صورته أو
تظهر لنا فحواه.
174
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وأكثر ما يصادفنا هذا النمط عند انتهاء مقطع ذي رقم أو عنوان مستقل
مث نبدأ مبقطع آخر ،فهنا يستقر احلذف املفرتض ،ولكنه ال يستدعي
الذهن إىل ضرورة إدراكه واستحضار معامله ،فهو ال يشكل للقارئ قطعاً
خمالً لعدم افرتاض القارئ حدوثه فعالً.
-2الخالصة )" :(Summaryوتعتمد اخلالصة يف احلكي على سرد أحداث
ووقائع يفرتض أهنا جرت يف سنوات أو أشهر أو ساعات ،واختزاهلا يف صفحات
أو أسطر أو كلمات قليلة دون التعرض للتفاصيل"( )169وهو ثاين أمناط التسريع
يف السرد ،إذ ميكن مع هذه التقنية أن يقطع السارد مسافات شاسعة بأسطر قليلة
تلخص فحوى هذه السنوات فيتحقق امللخص .واخلالصة سرد منفذ بإجياز خيتزل
فيه زمن اخلطاب ليصبح أصغر من زمن القصة ،والتلخيص أو اخلالصة هو جتاوز
املطلوب لكثري من املعلومات غري الضرورية اليت تقدم للسرد فائدة ،ونضرب املثال
التايل من رواية "احلجاج بن يوسف الثقفي" على حالة التلخيص املنتقيه
لألحداث من اجملموع العام:
"قضت سمية أكثر النهار في قلق واضطراب تارة تمشي في
الدار ،وآونة تخرج إلى البستان ،وهي تتوقع أن ترى عبد اهلل آتيا
وتسمع خبرا .ثم سمعت أذان العصر فالتفتت إلى مصدره جهة
باب البيت فرأت أباها داخالا فخفق قلبها ولبثت تنتظر ما يبدو
()355
منها"
وهذه األسطر القليلة تلخص فرتة زمنية ليست بالقصرية ،فعملية التلخيص عملية
تعتمد على االختيار واإلبعاد؛ أي اختيار ما هو مطلوب وخيدم مصلحة السرد
وإبعاد ما هو غري ذلك ،وقد رأى بعض النقاد أن
175
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
تقنية التلخيص "أقرب إىل األسلوب التسجيلي منه إىل األسلوب األديب .هذا
فوق أنه يتميز بالتجريد ،والتجريد ال يناسب التعبريية اليت ينشدها الروائي احلديث
لوصف املشاعر وخلجات النفس ،وهو ما حاول كتّاب تيار الوعي أن يصلوا
إليه"( ، )165ولكن هذا ال يقلل من أمهية هذه التقنية وعظم شأهنا يف كبح مجاع
السرد وتطويعه ،فما هو غري ضروري جيب أن يقصى وما هو مطلوب هو ما
يشغل البال والقلم.
وتكثر احلاجة إىل توظيف تقنية التلخيص يف الروايات اليت تعاجل فرتات زمنية
طويلة فمن عدد حمدود من الصفحات ،ففي املثال التايل من "رادوبيس" تلخيص
ألحداث متسارعة ومهم يف بلورة الرواية ،فقد كثرت األفعال الدالة على تسارع
السرد:
"ولكن اشتد الحرج ،فتعددت زيارات خنوم حتب للمقاطعات ،واستقبل
في المظاهرات في كل مكان ،وتعالى الهتاف باسمه في البلدان .وضاق
بذلك كثير من الحكام ،ورأوا فيه معنى لم يرتح إليه إخالصهم لفرعون،
فاجتمع حكام أمبوس ،وفرمونتس ولتولس ،وطيبة ،وتشاوروا فيما بينهم،
وقر رأيهم على مقابلة الملك .وقصدوا إلى آبوا وطلبوا المقابلة، ّ
()357
فاستقبلهم فرعون استقبالا رسميا سوفخاتب"
واملثال السابق تتكاثف الرغبة إىل حشد أكرب كم من األحداث املهمة على
صعيد الرواية ،يف خالصة وافية بإيصال الفكرة ،فالتلخيص أسبغ غري فائدة على
مر مروراً سريعاً على فرتة زمنية قد تكون طويلة
تسارع أحداث الرواية؛ حيث إنه ّ
إذا ما نبست مع زمن القصة ،كما أنه ربط بني
( )356سيزا قاسم :بناء الرواية -دراسة مقارنة لثالثية نجيب محفوظ ،القاهرة ،الهيئة المصرية العامة
للكتاب ،1114 ،ص.221
( )357الرواية :ص .171
176
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
مشهدين مهمني يف الرواية مشهد وضع البالد قبل "خنوم حبت" الكاهن
ووضعها بعد أن تصاعدت شعبته ،ومن مث ضرورة اختاذ إجراء ،،هذا ما سيفرض
يف املشهد الالحق ،فضالً عن جتاوز األحداث الثانوية اليت ختللت هذا املشهد،
وسكت عنها السارد ،لتحقيق الرتابط النصي بني الفرتات الزمنية املتباعدة.
177
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
171
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وتقنية املشهد فيما سبق قدمت للمتحاورين جماالً للتعبري عن رؤيتهم خالل
احلديث املباشر الذي دار فيما سبق بني املتحاورين ،فظهرت وجهات النظر
ناصعة دون تدخل من الراوي أو اختصار منه جملريات النقاش ،بل ترك الراوي
الزمام هلايتني الشخصيتني ،فكسر رتابة السرد ونقلتنا أمام عرض ممسرح واضح
املعامل دقيق الكيفيات.
)IIالحوار الداخلي (المونولوج)" :وهو خطاب غري مسموع وغري منطوق تعرب فيه
شخصية ما عن أفكارها احلميمة القريبة من الالوعي :إنه خطاب مل خيضع لعمل
ومجلة مباشرة ،قليلة التقيّد بقواعد النحو كأهنا أفكار
املنطق ،فهو يف حالة بدائيةُ :
مل تتم صياغتها بعد"( ،)159ومتثل عليه هبذا احلوار الداخلي (املونولوج) الذي
خطر يف بال رادوبيس وهي تتأمل (بنامون) هذا الرسام احملرتف الذي يُ ِك ُّن هلا
حبّا نقياً:
"فعطفت أفكارها (رادوبيس) إلى هنا وإلى هناك حتى عثرت في
شرودها بالعاشق الجاثي في معبده ..في الحجرة الصيفية ،بنامون
أخف ظله ،كانت تساءلت مرة حيرى كيف بن بسار ،ما أرقّه وما ّ
تجزيه على ما أدى لها من خدمة جليلة ،وقد طار على جناحي
حماية إلى أقصى الجنوب ،وعاد بأسرع مما ذهب يجمله الشوق
فيعبر به مشاق الطريق ..بل همست مرة في ارتباك كيف تستطيع
()361
أن تتخلص منه ؟ "
وهذا احلوار الداخلي يعد تقنية إقناعية تربز ما يف داخل هذه
الشخصية من خلجات ستسهم يف تطوير احلدث ،كما أن هذه
التقنية تكشف عن
171
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
)IIIالمشهد الحواري الموصوف :وهو تقنية أكثر بطئاً من املشهد احلواري احلر،
وأسرع من الوقفة الوصفية ،واملشهد احلواري املوصوف هو حوار يدور بني أكثر
مدعماً بوصف مساعد يتواله الراوي ليكمل املشهد فيغدو واضحاً بيّناً من طرف ّ
ومثاله ،هذا احلوار الدائر بني شخصية "بدري" و"سيفو" يف أرض السواد":
"تطلَّع بدري ٍ
بتحد إىل عيين سيفو ،قال ،وخرج صوته دافئاً وراجياً - :إذا
قلت لك فد سر ،يا أبو فالح :يظل بينّا؟ وما يطلع؟
رد سيفو ،وشاب صوته األلم:
بي؟
على بختك بدري شنو مالك ثقة ّ
وبعد قليل ،وكأنه يلومه:
-لول إني أعرفك ،وأعرف الحليب اللي رضعك ،كانت أخذت
على خاطري..
وتغيرت اللهجة أكثر ،أصبحت تقريع ا:
-شنو نسيت األوادم؟ ما عاد أكو أمان بالدنيا ؟
والرجال يتربطون بزنجيل أو بكلمة يقولونها ..؟
وعاد إلى لهجة مصالحة - :ل ...على بختك يا بدري ،ما كنت
()362
أريد منك هذا الكالم"
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وهذا احلوار الذي دار بني هاتني الشخصيتني جرى بوساطة الراوي ما كان
ليسمح للشخصية بأن تتحدث قبل أن يعززها بوصف آينّ هو الذي يزيد من
املشهد بطئا ،إذ إن الوصف والكالم حيدثان يف وقت واحد ،أي يتزامنان يف زمن
القصة احلقيقي ،لكن يستحيل حدوث ذلك يف زمن السرد ،ألن هذا الزمن ال
ميتلك إال قناة واحدة لإلبالغ عكس الزمن احلقيقي الذي ميتلك كل القنوات
اإلرسالية.
ونرى احلوار فيما سبق قد ّقوى إيهام املتلقي باحلاضر الروائي فغدا احلوار بلهجته
احمللية الصادقة سيداً يف كسر رتابة السرد قارب بني املتلقي والشخصيات ورفع
حواجز النقل اليت ينصبها الراوي على تقاطعات الرواية فيسمح مث مينع وهكذا،
وللحوار يف أرض السواد خصوصيته ،إذ عُرض باللهجة احمللية احلقيقية( )151اليت
أكسبت العمل مصداقية فنية آتت أكلها ومل تفسد أناقة اللغة الفصحى اليت
يتسلح هبا الراوي إذا ما نطق ،وقد وضع عبد الرمحن منيف يف مطلع روايته وقبل
نص فيها املؤلف على أن "هلجة بغداد مليئة بالكثافة والظالل،
البدء إشارة قبلية ّ
وقد استعملتها يف احلوار للضرورة ،دون حماولة إلظهار براعة لغوية :أمتىن من
القارئ أن يبذل جهداً من أجل التمتع جبمال هذه اللهجة"( )159وهذه النية
املسبّقة يف توظيف اللهجة العامية لتزيد من أسهم مسرحة العمل فريقى يف مهمته
على مهمة اإلخبار فقط ،اليت يتسيدها الراوي ،يقول مندالو" :إن وهم
( )363تثير قضية المزاوجة بين الفصحى والعامية في الرواية جدالا واسعا ا لم ينت ِه بعد ،يتقاسمه المؤيد
والمعارض(للمزيد انظر :وقائع المؤتمر العامية في الرواية ،مجلة األديب ،ج ،11سنة ،13
،1154ص.)75-72
( )364الرواية.1 /1 :
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
احلضور يتقوى كثرياً باإلكثار من احلوار الذي ينتج أثراً شبيهاً مبا حيدث يف املسرح
حيث يكون املشاهد حاضراً بالفعل"(.)156
-2الوقفة الوصفية ):(Pause
يعول عليها يف إبطاء وترية السرد أو حىت تعطيله
يعد الوصف تقنية زمنية فاعلة ّ
كلياً ،فورود الوصف يف النص يكون على حساب التتابع الزمين يف سرد
األحداث ،فيعطل السرد ،ويعلق جمرى القصة لفرتة قد تطول أو تقصر .إن
الوصف أشبه بعملية استطراد واسعة يضطلع هبا اخلطاب الروائي ويتوسع على
القص على زمن احلكاية ،وعندها
حساب الزمن احلقيقي للحكاية .فيتفوق زمن ّ
يكون التعطيل خمتصاً بالزمن القصصي احلقيقي خلدمة النص املكتوب لغايات
البناء الفين ،وميكن للمبدع أن يهيئ الوصف مسؤوالً مباشراً يشرف على بناء
الفضاء الروائي( )155الذي يشمل أعضاء املوقف من شخوص وأشياء تتقاطع مع
السرد .ويف املقطع التايل من "ثالثية غرناطة" نقف عند الوصف التايل لصيف
الرباق:
غرناطة ّ
"التالل في الصيف تقيم أعراسها ،تنشر على المهد أخضرها العميم
تدغدغة زهور البر بعطورها ،ألوانها وبينها شقائق النعمان تفوقها بهاء
وفجرا بأحمرها الكيّاد .صيف غرناطة عروق زيتون تحمل ،ومشمش
يجمع حالوته على
مغناج يلوح ويخفى بين خضرة األوراق ،ورمان كتوم ّ
مهل قبل أن ينفرط بين يدي آكليه ،وتعريشات دوال ،وأشجار جوز
ولوز وكستناء تظلل الطرقات ،وماء دافق ينحدر من قمم الجبال مقبالا
()367
على الوديان ضاخ ا ومكركرا"
112
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
والنص السابق وقفة وصفية تبدأ جبملة أوىل تصف ما هو عام ،كلي ،كبري
وظاهر ،فيما تنتقل اجلملة الثانية تفسرياً لفحوى اجلملة األوىل ،وبعد ذلك تتوىل
اجلمل األ خرى وصف ما هو جزئي يتمم اجلملة األوىل ويثبت مصدقيتها ،وهذا
الوصف الدقيق الذي جيمد الزمن مأخوذاً مبا رأى يتمسك باملكان املسلوب
ويفرض رابطة خاصة بني الشخصيات وبينه ،إنه كما يصف روالن بارت مثل
()151
هذه الوقفات الوصفية إحكام لغوي مهووس ال خيلو من جنون يف الوصف
فيستخدم أفعاالً وأمساء ونعوتاً لتكوينه ،حيث وضعت يف خدمة الفكرة الوصفية
املكلّفة ببناء فضاء للحدث واحلدث هنا هجرة قسرية من هذا املكان املسلوب.
ويف مثال آخر جند أن الوصف يتجاوز أمر االرتباط باملكان إىل وظيفة إيضاحية
مكملة لعناصر الشخصية الروائية ،وفيما يأيت مقطع وصفي الحدى الساحرات
يف رواية "رادوبيس":
"وشقت الصفوف المتراصة بغتة امرأة غريبة ،كانت منحنية الظهر
كالقوس ،تتوكأ على عصا غليظة ،منفوشة الشعر بيضاءه ،طويلة
مقوسة األنف ،حادة البصر ،يشع من عينيها
األنياب صفراءها ّ ،
نور مخيف يرسل من تحت حاجبين كثيفين أشيبين ،وكانت ترتدي
جلباب ا واسع ا طويالا ،يضيق عند وسطه بمنطقة من
الكتّان.)36 ("..
وال شك أن مثل هذا الوصف يكمل صورة الشخصية يف ذهن القارئ ولو مل
يتدخل السارد مبثل هذه التقنية فستظل الشخصيات بالنسبة لنا
( )361روالن بارت :لذة النص ،تر :منذر عياش ،مركز اإلنماء الحضاري ،حلب ،1112 ،ص.54
( )361الرواية :ص .15
113
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
صوراً غري مكتملة بل إن كثرياً منها سيغدو متشاهباً .ومن املهم -واحلديث جار
عن تقنية الوصف -أن نذكر أن الوصف ال يقتصر دوره على الفاعلية الزمنية بل
له أبعاد أخرى ووظائف ينمو من خالهلا ويتفاعل معها( ،)119فالوصف يعطل
السرد ويهدئ من وتريته ،إضافة إىل أنه ميتلك طاقة بالغية تزيينية وطاقة تفسريية
إميائية وطاقة إيهامية تقربنا من الرواية وجتعلها أكثر واقعية لنا ،فضالً عن أنه رابط
وثيق جيمع بني الشخوص واألمكنة اليت كثرياً ما تكون لب الصراع .كما أنه طاقة
تأملية رحبة تتجاوز مبدأ الزمن والتوقف يف كثري من األحيان(.)111
نضال الشمالي :تقنية الوصف في الرواية األردنية ،بحث منشور في كتاب الرواية في األردن ()371
(مجموعة أبحاث) ،ملتقى الرواية في األردن ،تحرير شكري الماضي وهند أبو الشعر،
منشورات جامعة آل البيت ،2111 ،ص .141
جيرار جنيت :عودة إلى خطاب الحكاية ،تر :محمد معتصم ،المركز الثقافي العربي ،بيروت، ()371
،2111ط ،1ص .43-42
جيرار جنيت :خطاب الحكاية ،ص .121 ()372
لطيف زيتوني :معجم مصطلحات نقد الرواية ،ص .52 ()373
114
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الساعة السابعة والقطار ينطلق يف موعده اليومي ،والتكرار أو الرتدد حسب جنيت هو
"بناء ذهين ،يقصي من كل حدوث كل ما ينتمي إليه خصيصاً ،لئال حيافظ منه
إال على ما يشرتك فيها مع كل احلدوثات األخرى اليت من الفئة نفسها ،والذي
يقوم على التجريد"(.)119
وجنيت يف حماولته خوض غمار الرتدد أو التواتر يرى أن أي حدث ال تقتصر
الفائدة منه على إنتاجه فحسب وإخراجه سردياً ،بل أيضاً مينحنا حق إعادة
إخراجه بالتكرار .وبناء على ذلك تتحدد أمناط التكرار أو الرتدد وهي:
-السرد اإلفرادي.
-تكرار احلدث (التكراري).
-تكرار السرد (التكراري املتشابه).
115
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
أن حتصى ألنه احلدث املعتاد سردياً ،ونذكر على سبيل املثال احلدث اخلتامي يف "أرض
السواد" والذي يسرد فيه الراوي حدث رحيل القنصل االجنليزي من بغداد بعد أن
ُمين هبزمية سياسية من وايل بغداد داود باشا:
"ظُ ْه َر الخميس غادرت سفينة الباليوز .وقف الكثيرون على ضفتي
النهر كي يلقوا نظرة على هؤلء الذين يغادرون ،لم يكن على ظهر
السفينة إل مجموعة من الحراس الهنود ،أما اآلخرون فقد اختفوا
()377
داخلها"
وهذا السرد اإلفرادي الذي ختتتم فيه الرواية أحداثها والذي لن يكرر حكيه يف
التزمن ،بل يتآزر معه لتأكيد تفرد احلدث (ظهر وقت الحق ال خيلو من ّ
اخلميس) كما يستعني بالوصف إلمتام مفردات القضاء احملتضن للحدث
(الكثريون على ضفيت النهر)( ،جمموعة من احلراس اهلنود)( ،اآلخرون فقد
يتوخى االختصار يف عرض ما حدث باختصار. اختفوا) ،فهذا سرد ّ
116
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
هذا النمط بقوله" :فال يبدو أنه أثار اهتماماً حىت اآلن ،ومع ذلك فهي شكل
تقليدي متاماً"( )110وحىت ندل على أمثلته املتفاقمة يف األعمال الروائية موضوع
الدراسة حنشد األمثلة التالية:
سر لنعيم حببه.
" -مل ينم سعد الليل بطوله ..وكلما أراد أن يُ ّ
تلجم لسانه ،وكلما حاول أن يغالب ما في قلبه ازداد ما في قبله
اتقاد ا"( .)3
" -طوال أسبوع شهدت حارة الوراقين نشاطأا لم تعهده أبد ا.
تغلق الحوانيت في النهار أو تظل مفتوحة ذرا للرماد في العيون"(.)3 1
" -وكانت تأتي عليها أحايين يثب الجنون في دمائها وتشع عيناها نورا خاطفا"..
(.)3 2
" -وكان الرجل من أهل الوجاهة إذا أراد التزوج بفتاة ل يعرفها استشار
عزة ووسطها في خطبتها أو استطالع مدى جمالها وصحتها"(.)3 3
" -لكن حسون ،مثل عادته كل مرة ،ل يعرف العتدال ول يقوى على
تجنّب اآلخرين ،إذ لبد أن يخلق جنحة أينما ذهب وأن يولد الخالف
()3 4
حيثما يكون"
واألمثلة السابقة تظهر الزمتني يف كل مرة عندما تشعرنا بتكرار احلدث ،األوىل:
الزمة التكرار (كلما ،طوال ،كل مرة) ،والثانية :الزمة الزمن (أسبوع ،أحايني،
إذا) ،وهاتني الالزمتني تدخالن على الفعل اجملرد فتحدثان التكرار وزمنه املوثّق له.
وهذه الوظيفة التقليدية لتكرار احلدث
117
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
تقرتب إىل حد ما -حسب جنيت -إىل ح ّد ما من وظيفة الوصف ،اليت تعقد
معها من جهة أخرى عالقات وطيدة جداً تتوثق فيها صورة من ّفذ التكرار أو من
صنع التكرار له.
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
" .1وقيل إن محادي مل يقتل بالرصاص ،أو يف تلك الليلة ،إذ تركه عليوي
بضعة أيام ورجع إليه يف إحدى الليايل ،وأخذ يتفنن يف تعذيبه"(.)111
" .1قيل إنه استعمل سكيناً صغرية كان يقلّم هبا أظافره عادة ،إذ أخذ يقطع
أجزاءً من جسد محادي ..كان يلعب بالقطع املقصوصة ،يرميها يف اهلواء
حياول أن يدخلها يف فوهات اجلسد ،يدوس عليها ..حني بلغ محادي
مرحلة قاربت النهاية هوى على رأسه بالبلطة ذاهتا فشق الرأس إىل
نصفني"(.)111
" .9وقيل إن سيد عليوي مل يقتله بيده .صحيح أنه كان موجوداً أثناء قتله،
()110
لكنه مل يشارك يف القتل"
" .6وقيل إن مائدة أعدت لسيد عليوي يف صدر الغرفة وكان يشرب
ويتابع التعذيب ..ويبدو أنه كان متفقاً مع رجاله ،فما أن وضع
الكأس حىت توالت ضربات قضبان حديدة على رأس محادي وهكذا
انتهى"(.)109
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الناس بتتبع مثل هذه األخبار والزيادة عليها واالنسياق حنو نسق اإلشاعة والتأليف
والرتويج .ومن ناحية ثانية تكشف لنا هذه التكرارات نظرة الناس احلقيقية حنو الوالة
واحلكام والقائمني على النظام يف تعاملهم مع قضاياهم .ومن جهة ثالثة فإن الراوي
يعرض صفات اآلغا كما هي يف أذهان الناس ،ومن جهة رابعة فإن تقنية تكرار السرد
تقنية تتميز هبا الرواية التارخيية اليت تضيق بصرامة التاريخ فال تستطيع أن تغري حوادثه
مهما كانت طفيفة ،فتسعى إىل عرض غري سرد للحادثة نفسها جمموعة من أفواه عامة
الناس فيتخلص املؤلف من وثائقية التاريخ ،ومن الوقوع يف خطأ تدويين قد يفقد العمل
مصداقيته ال تارخيية ،إن توظيف هذه التقنية التواترية مينح العمل مصداقية فنية خترجه من
دائرة الرصد والتسجيل إىل دائرة التشكيل.
وجدير بالذكر أن تقنية تكرار السرد قد شاعت بشكل َجلِ ِّي يف "أرض السواد"؛
ألهنا رواية قصدت استلهام ضمري الشعب الصامت املراقب حلركات التهافت على الوالية
وحكم الناس ،فما كان منها إال أن تتوىل عرض احلادثة الواحدة يف غري هيئة نطقت هبا
ألسنة أناس "القاع" اليت تنربي الرواية يف كثري من مقاطعها إىل إنصافهم بإعالء أصواهتم
فوق صوت صراع الوالة.
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المبحث الثاني
الصيغة )(MOOD
يرى ثودوروف بأن "مقولة الصيغة من الطبيعي جداً ،أن تكون أكثر املقوالت
تعقيداً"( ،)101ألهنا مقولة تتوزعها اختصاصات عديدة كاملنطق واللسان والربيطقيا وكل
اختصاص بدوره حياول أسرها بإساره اخلاص ،إضافة إىل أن إسهامات الباحثني فيها
كانت حمدودة" ،إن صيغ اخلطاب تتعلق بالطريقة اليت يقدم لنا هبا الراوي القصة أو
يعرضها"( .)101بداية جيب أن نفيد من تفريق "بريسي لوبوك" لصيغتني أساسيتني يف
الرواية مها:
-1العرض ).(Showing
-1اإلخبار ).(Telling
ويرتبط األول "بالرؤية من اخللف" والثاين يرتبط "بالرؤية مع" ،وإن كان هذا
االرتباط مقرتحاً( )101وليس ضرورياً .فالعرض هو مسرحة احلدث ورفع القيود عن
الشخصيات لتقدم نفسها وفعلها أي تعرض نفسها كما هي ،أما اإلخبار أو السرد
فاألحداث والشخصيات خاضعة حتت وصاية السارد وتأمتر بإمرته ،لكن األمر مل يقتصر
على هذا التمييز بل تطور وأخذ منحى آخر حتت مفهوم الصيغة ،فالصيغة هي "ضبط
املعلومة السردية ،أي التحكم بأشكاهلا ودرجاهتا"( )109وحىت نضبط املعلومة السردية البد
من االنطالق من إحدى
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
112
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
" -ولما وجد نعيم أن سعد ا ليس لديه ما يحكيه انطلق يحكي له
عن نفسه .فإنه ل يعرف ،ل يذكر ،ل أمه ول أباه ،كل ما يذكره هو
تلك العجوز التي كانت ترعاه ،ولما ماتت لم يجد سوى الطرقات
()3 7
ثم التقى بأبي جعفر"
فهذا اخلطاب خطاب مسرود يتسيّده الراوي العليم املتعايل على الشخصيات يف
هذا املشهد املفرتض أنه حوار من طول متوسط يتجاذب فيه طريف احلديث الفتيان
الغرناطيان "نعيم" و"سعد" ومها العامالن عند أيب جعفر الوراق ،فقد قرر الراوي سرداً
"أن سعداً ليس لديه ما حيكيه" وكان هذا التقرير نابعاً من إحساس نعيم به ،رمبا فربع
الراوي باستخراجه من سريره "نعيم" .بعدها انطلق الراوي يف سرد خالصة ما أفضى به
"نعيم" إىل "سعد" ،وحتماً فإن املسافة غدت يف هذا اللون من الصيغ القولية شائعة بيننا
( ّقراء) وبني الشخصيات املتحدثة ،وقد بُعدت املسافة عندما اختزل الراوي خالصة ما
أفضى به "نعيم" إىل سعد ،واجلدير بالذكر أن حكاية األقوال؛ أي سردها من الراوي،
غدت الفتة يف ثالثية غرناطية"؛ إذ هنج الراوي هنج املتسيّد يف رواية األحداث ،نظراً
لطول زمن القصة احلقيقية الذي يربو على مئة وسبع عشرة سنة.
ومن األمثلة الدالة على صيغة اخلطاب املسرود ما رصدناه يف "أرض السواد":
"عزرا الذي فهم الرسالة جيدا ،أبلغ ريتش أنه ل يستطيع أن يقف في وجه
الباشا ،وأن التجار يمكن أن يضغطوا ،لكنهم ل يستطيعون أن يحاربوا،
لذلك سيتذرعون بعدم وصول البضائع لرفع األسعار ،وهذا أقصى ما
يستطيعونه اآلن ،وعلى بريطانيا أن تتدبر األمر ،وأن تستعين بقوى أخرى،
فإذا وصلت الجيوش لحصار بغداد ،فيمكن عندئذ أن يثور الناس ،ويؤازرهم
( )3
التجار كما حصل لسعيد ،وينتهي كل شيء"
113
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ويف هذا املثال على اخلطاب املسرود خيتصر الراوي حواراً مطوالً بني متحاورين
طال النقاش بينهما ،وعلى ما يبدو يف هذا املثال أن االختزال مل يكن الغاية الوحيدة
إلجناز هذا املشهد احلواري املسرود .بل طبيعة املوقف تتطلب ذلك ،فالراوي يقف من
بعيد لرصد رمبا مؤامرة خفية حصلت يف بغداد على واليها داود باشا هتدف إىل إسقاطه
دون أن تطلق بريطانيا رصاصة واحدة ،ويشعرنا الراوي من خالل إقصائنا إقصاء نفسه
عن حضور احلوار احلي املتبادل بني القنصل الربيطاين "ريتش" وكبري الصرافني "عزرا" أنه
يرصد ما حدث مبعزل عن خلفية تارخيية مثبتة تؤكد ما حصل بدقة ،والرصد بدقة يف مثل
خيل باملصداقية التارخيية ،من هنا يشعرنا الراوي بأنه حيلل ما كان قدهذا املوضع قد ّ
حدث بالفعل ويتوقعه بعمومية ال تنفذ إىل صغائر ما حدث.
114
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
والفعل (قالت) فيما سبق يكشف أن حديثاً قد أعلنت عنه رادوبيس بعد أن
غادرت خادمتها املخدع ،فهذا خطاب غري مباشر ،إن كان مييل إىل املونولوج الداخلي
للشخصية .ويف هذا النوع من صيغ اخلطاب يقصد الراوي املسافة بيننا وبني الشخصية
فنقرتب أكثر منها وال يبقى احلديث معلقاً على ذمة راوية مل يعني فعالً إذا ما كان قد
فعل احلديث حبرفيته أم مبعناه ،وهذا خيلص الراوي من مسؤولية املصداقية ولو مؤقتاً.
ومن األمثلة الدالة على اخلطاب غري املباشر نذكر هذا املثال من "أرض
السواد":
"ولئال تصل المفاوضات مع درويش آغا إلى ما يشبه هذه النتيجة،
أُرسل إليه مشهور أبو لهيل ،جاء مشهور كصديق للزيارة والطمئنان
عليه ،وقد أبلغه أثناء الحديث إذا كان يوافق ،إن باإلمكان أن
يفتدي حياته وحريته بمبلغ من المال ،وزين هذا الحل ،رغم صعوبة
أن يوافق عليه ،لكن سيبذل أقصى ما يستطيع من أجل ذلك.
ودرويش آغا ،الذي لم يرفض هذا القتراح تساءل عن الوقت الذي
يمكن أن يقضيه في هذا المطاف ،الذي ما أن تخيم الظلمة حتى
يمتلئ بالعفاريت تتراكض حوله".
وهذا املثال يتمازج فيه منطان من الصيغ ،النمط األول هو املسرود والنمط الثاين
هو غري املباشر وهو ما وضع حتته خط ،وما يدل على أنه غري مباشر األفعال الدالة على
()991
القول فيه مثل (أبلغه) و(تساءل) ،فما ورد بعد هذين الفعلني ش ّكل قوالً مفرتضاً
يفرتض أن الشخصيات املتحاورة قد أفضت به ،وقد ق ّدمه الراوي باملعىن وليس باللفظ،
وما يؤكد ذلك أن الراوي ق ّدم
( )411إذا لم يسبق الكالم المفترض روايته فعالا من أفعال القول فإن هذا الخطاب يسمى (خطابا ا غير
مباشر).
115
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
حديثهم باللغة الفصحى اليت يعتمدها يف سرده ومل يذكرها باللهجة احمللية املعتمدة يف
الرواية للحوار .أما عن النتيجة املتوخاة من توظيف هذا اللون من صيغ اخلطاب ،فهو
"احملافظة على وحدة النرب يف السرد"( ،)991ألن املتكلم مل يتبدل بل هو واحد (الراوي)،
إضافة إىل السيطرة على املشهد إذا كان طويالً وذكره قد يشتت االنتباه ،فيعتمد
الكاتب على هذه الصيغة امليّالة إىل التلخيص أكثر من التفصيل؛ لذا نلمس غياب ذكر
االنفعاالت املصاحبة للقول أو لفحواه ،وهذا الذكر نلمسه أكثر يف اللون الثالث من
صيغ اخلطاب ،أي اخلطاب املباشر.
116
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ألهنا تقط ع فرتة زمنية شائعة والبد لالختصار من أن يتدخل للملمة خيوط الرواية
واالختصار والسرد املباشر ال جيتمعان .ومثال هذا اللون من صيغ اخلطاب نذكر هذا
املشهد من رواية "احلجاج بن يوسف":
"وفيما هم على تلك الحال ،دخل الحاجب وقال" :لقد عاد
الفرسان وعما قليل يصلون"
فقال الحجاج" :وهل األسير معهم؟ "
قال :لم أر بينهم أحد ا ماشي ا" .
قال" :لعله جاء على جواد" .
()4 4
قال" :إن بينهم رجالا بلباس غريب فلعله هو األسير"
وهذه صيغ متالحقة من اخلطاب املباشر حصر كل قول بعالميت تنصيص وسبق
بفعل القول للداللة على أن الكالم للشخصية دون غريها وكان دور الراوي دوراً رقابياً
موصالً دون تدخل بالفحوى بزيادة أو نقصان .ولعل هذه الصرامة يف حصر القول
وإحالته على صاحبه بدقة من أفعال قول ونقطتني وعالميت تنصيص ال يلتزم هبا اجلميع
ولكنهم يظهرون وسائل أخرى تصلح القتناعنا هبذا التحديد ،كما ذكرنا آنفا ،من وضع
خط قصري قبل القول أو طباعة األقوال طباعة موحية بأن هناك أقواالً مباشرة ستنسب
إىل قائليها ،ومنثل على ذلك هبذا املشهد من رواية "أرض السواد":
"أما حين أخذت تتوارد إلى السراي أخبار امتناع بعض القبائل عن
أداء ما يترتب عليها من ضرائب ورسوم ،فقد قال داود باشا لآلغا،
وكانا يجلسان في الشرفة الجنوبية المطلة على النهر:
117
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المبحث الثالث
زاوية الرؤية )(Perspective
مقـدمـة
ال ميكن أن يُقام أود السرد دون احلديث عن الراوي وعن وجهات النظر
(الرؤى) يف الرواية ،الرتباط هذا األمر ارتباطاً وثيقاً بالطريقة اليت يعرض فيها الراوي
أحداث مرويته .حىت أن بعض النقاد اعتقدوا بأن القيمة األساسية ألي رواية قارة يف
مقولة (زاوية الرؤية) يقول بريسي لوبوك" :إن جممل السؤال املعقد عن األسلوب يف صنعة
الرواية حمكوم بالسؤال عن وجهة النظر ،السؤال عن عالقة القصة هبا"( )991وهذا هو
األساس الذي يثين عليه ثودوروف أيضاً ،فيقول" :ففي األدب ال نواجه أحداثاً أو أموراً
يف شكلها اخلام ،وإمنا نواجه أحداثاً معروضة بطريقة ما وتتحدد مجيع مظاهر أي شيء
بالرؤية اليت تقدم لنا عنه"(.)990
وتعد دراسة جان بويون "الزمن والرواية" من أميز اإلسهامات البنيوية املهمة يف
عامل السرد ،فزاوية الرؤية لديه ميكن أن تكون من خالل ثالثة أوضاع:
-1الرؤية من الخلف :وتشيع هذه الرؤية يف الروايات الكالسيكية ،حيث يقف
ويسري
الراوي خلف الشخصيات فيشاهد األمور على حقيقتها ،ولكنه يتحكم هبا ّ
القصة مبشيئته ،وهو مطلع على خفايا شخصياته ،ويعرفها معرفة تامة ،ويسمى
هذا الراوي إذا مارس هذه السلطة بالراوي العليم أو كلي العلم (سارد >
شخصية).
111
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-2الرؤية مع :أو الرؤية اجملاورة ،ويف هذا النمط نلمس تساوياً بني معرفة الراوي
ومعرفة الشخصية عن نفسها ،وهذه الرؤية كثرية التوظيف ،خصوصاً يف املوجة
اجلديدة للكتابة الروائية ،حيث يُعرض العامل التخييلي من منظور ذايت داخلي
لشخصية روائية بعينها ،دون أن يكون له وجود موضوعي حمايد خارج وعيها،
وميثل تودوروف هلذه الرؤية باملعادلة (السارد = الشخصية).
-3الرؤية من الخارج :ويف هذا النمط من الرؤي تقتصر معرفة الراوي فيها على
وصف أفعال الشخصية ،ولكنه جيهل أفكارها ،وال حياول أن يتنبأ هبا ،وهي رؤية
نادرة االستعمال إذا ما قورنت بالرؤيتني السابقتني ،وفيها يكون السارد أقل معرفة
من الشخصية (سارد < شخصية) وهو بذلك ميكنه أن يصف ما يرى وما يسمع
دون أن يتجاوز ذلك ملا هو أبعد ،كاحلديث عن وعي الشخصيات مثالً.
ومل يتوقف األمر عند هذا الزوايا الثالث بل أضاف عليها ثودوروف( )919رؤية
اجملسمة" اليت يتتابع فيها
رابعة ،ميكن أن تكون متفرعة عن الرؤية الثانية ،يسميها "الرؤية ّ
احلدث الواحد مرورياً من الشخصيات عدة مرات ،فرتتسم جراء ذلك صورة شاملة
متكاملة عن احلدث ،وخري رواية متثل هذه الرؤية يف أدبنا العريب احلديث "مريامار"
لنجيب حمفوظ ،حيث التكافؤ السردي هو عنوان العمل.
ولعل نورمان فريدمان ( )1066هو أول من قدم رؤية منهجية يف هذا الصدد
تغطي كل حماوالت سابقيه ،ويرسم منوذجاً مطوالً يشمل مثاين حاالت للراوي والرؤية هي
على النحو التايل:
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ميكن التعرف فيه إىل دواخل الشخصية( ،)911وقد أدت هذه النظرة إىل أربعة أمناط
أساسية تكشف وضع السارد( ،)919هي:
-1خارج القصة -غيري القصة :وهو را ٍو خارج احلكاية وال ينتمي إليها وهو راوي
احلكاية بضمري الغائب ،وميثل عليه جنيت هبومريوس ،ويصفه بأنه سارد من
ا لدرجة األوىل يروي قصة هو غائب عنها ،ومن األمثلة املفضية إىل هذا النوع يف
أدبنا العريب نذكر ثالثية جنيب حمفوظ أو الروايات الواقعية والتارخيية إمجاالً.
مثلي القصة :وهو را ٍو خارج احلكاية وينتمي إليها ،وهو راوي -2خارج القصةّ -
احلكاية الرئيسية بضمري املتكلم ،ومن أمثلة هذا النمط نذكر "اجلبل الصغري"
إللياس خوري و"ذاكرة اجلسد" ألحالم مستغامني ،حيث الرواة منتمون للقصة
ولكنهم يروهنا من اخلارج ،فاالنتماء حاصل لكن الوقوف والنظر يكون من
اخلارج.
-3داخل القصة -غيري القصة :وهو را ٍو داخل احلكاية وال ينتمي إليها ،وهو
شخصية داخل الرواية ،تروي حكاية ثانوية هي غائبة عنها ،وميثل جنيت على
هذا النمط من الرواة بشهرزاد يف ألف ليلة وليلة ،فشهرزاد هي شخصية ورقية يف
حمصلتها النهائية ولكنها تقف من األحداث اليت ترويها موقف احملايد غري
املشارك ،إهنا ساردة ولكن من الدرجة الثانية وتروي أقاصيص هي غائبة عنها.
-9داخل القصة -مثلي القصة :وهو را ٍو داخل احلكاية وينتمي إليها ،إنه
شخصية داخل الرواية تروي حكاية ثانوية مشاركة يف حوادثها ،وميثل
212
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
عليه جنيت بـ "عوليس" ويصفه بأنه سارد من الدرجة الثانية يروي قصته
اخلاصة به ،ومن أدبنا العريب القدمي منثل عليه بشخصية السندباد يف ألف ليلة
وليلة ،الذي يروي أحداثاً هو مشارك فيها فعلياً.
وقد استثمر سعيد يقطني رؤية جنيت السابقة يف دراسته "حتليل اخلطاب
الروائي"( )916فعرض أربع رؤى سردية خلص فيها ما سبق:
-1رؤية برانية خارجية
الرؤية اخلارجية
-1رؤية برانية داخلية
-1رؤية جوانية داخلية
الرؤية داخلية
-9رؤية جوانية خارجية
مث ينطلق من هذه النظرة فيستقصيها يف رواية "الزيين بركات" وغين عن الذكر أن
هذه النظرة يف توزيع الرؤى تذكرنا بتصنيف الشكالين الروسي توماشفسكي الذي يهيمن
على تصنيفه منطان من السرد ( )915مها :السرد املوضوعي والسرد الذايت(.)911
تـطـبيـق:
أما إذا سلطنا االهتمام على الرواية التارخيية موضوع الدراسة وخاصة الروايات
األربع مادة الدراسة ،فإننا جند دون استثناء أن الراوي العليم (العارف بكل شيء) هو
املسيطر على بوابة السرد سيطرة واضحة.
213
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
"لثالث ليال لم تنم غرناطة البيازين ،تحدث الناس بال انقطاع ليس
عن المعاهدة بل عن اختفاء موسى ابن أبي الغسان استغرقهم الخبر
الذي انتشر
214
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
من نهر شنيل إلى عين الدمع ،ومن باب نجد إلى مقابر سهل بن
مالك .سرى في الشوارع والحواري والجنّات حملة ماء شنيل من
أطراف ثم دخلها مع نهر َح َد ُوهُ وانتقل إلى ضفته الغربية"( .)41
والراوي العليم قبل السماح ألقوال الناس بالظهور ميتعنا باملقدمة السابقة اليت
تكشف عن وقع عظيم خلرب موسى ابن أيب الغسان يف النفوس ،مث يستأنف:
" قال البعض إن ابن أبي الغسان خرج من اجتماع الحمراء وقد قدر
أن يقاتل القشتاليين ،وقاتل جموعهم وحده ،ولما أصابوه وكادوا
يظفرون به ألقى بنفسه في النهر.
وقال البعض اآلخر بل قتله محمد الصغير لينفذ ما يريد..
وقال فريق ثالث ل أغرق نفسه ول قتلوه بل صعد إلى الجبال
ليدرب الرجال ويستعد.
ّ
وقال فريق رابع ،غرق أم لم يغرق ل فرق ،ليس هذا زمانه ول زماننا
( )42
فنحمل ما نقدر عليه من متاع ونرحل"..
وهذا االستطالع يكشف -من زاوية -أن للراوي مقدرة على التواجد يف آن
واحد يف أماكن متعددة وأزمنة خمتلفة "وهذا التنويع يف زوايا النظر يؤتى به لتأكيد هذه
القدرة على العلم اليت تكمن وراء القدرة على اإلعالم"( )911ونرى أن مهمة الراوي قد
جتاوزت هذا الرصد السطحي ألقاويل الناس إىل إحداث غاية رمزية كمنت يف فعل كل
مئة تقولت قوالً فيما سبق ،فالراوي من خالل هذا
215
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الرصد املباشر ينقلنا بطريقة غري مباشرة الستحضار مآل الناس بعد إعالن اهلزمية يف
غرناطة وموسى ابن أيب الغسان كان ميثل وميض اجلمر قبل انطفائه ،فالفئة اليت أكربت
فيه تصرفه ومن مث إلقاء نفسه بالنهر فئة اختارت البقاء رغم كل الظروف ،وفئة عارضت
فتعرضت للقتل ،وفئة قاومت فنزحت إىل اجلبال لتقاتل األعداء ،وفئة آثرت االنسحاب
طوعاً .وقد جلأ الراوي إىل هذا االستعراض املموه حلكم الناس على موسى ابن أيب
الغسان ،من قبيل رصد اخليارات املتبقية بعد إعالن اخلضوع.
ويف رواية "أرض السواد" مل يكن أمام املؤلف إال أن يوظف راوياً عليماً حلمل
األعباء اهلائلة اليت أوكلها املؤلف ملن سريوي األحداث فالرواية هتدف إىل استعراض حياة
الناس والسلطة يف آن واحد على اختالف طبقاهتا ومراتبها ،وهذا لن يتأتى إال من خالل
را ٍو مرن ميتلك تصريح الدخول على "السراي" و "الباليوز" و "قهوة الشط" ،وميتلك
تذاكر السفر إىل كركوك والسليمانية وشرق الفرات واجلنوب ،ومع ذلك فقد مسح الراوي
لكثري من الشخصيات يف أن تتحدث بطالقة مرتني ،يف املرة األوىل عندما مسح
للشخصيات أن تلهج بلغتها اخلاصة دون قيد ،فربز احلوار باللهجة العامية العراقية ،وهذا
ما أشعرنا غري مرة بغياب الراوي عن احلدث ،ويف املرة الثانية عندما كان يستضيء بآراء
الناس إذا وقعت حادثة غري مألوفة ،فيستمد من حتليل الناس هلذه احلادثة مصداقية فنية
تربز مرونته يف إدارة أحداث الرواية ،وقد برز هذا غري مرة يف الرواية(.)911
أما يف رواية "رادوبيس" فقد كان الراوي العليم مرتبعاً خلف الشخصيات مراقباً
حلركاهتا وسكناهتا ،فما مسح للشخصية بأن تتحدث إال ضمن املسار
216
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
املرسوم والدقيق ،إذ بقي احلدث مرهوناً ذكره بإرادة الراوي ،عن طريق املشاهد الروائية
املتالحقة اليت يأذن الراوي هبا فلم تتوزع املشاهد إال على القصر الفرعوين وقصر بيجة
حيث تسكن رادوبيس وبعض الطقوس الفرعونية والكهونتية ،فالراوي ميتلك مهمة يسعى
إىل إجنازها سريعاً ،وقد كان له ما أراد ،ومل يسمح ألحدى الشخصيات أن تتدخل يف
السرد إال ضمن نافذة احلوار وباللغة اليت يرتضيها الراوي ،فكل الشخصيات متتلك
املستوى نفسه من الرباعة اللغوية.
ويف رواية "احلجاج بن يوسف" كان الراوي العليم صاحب رسالة تعليمية
إخبارية واضحة ،لقد اهتم بنقل االحداث وإدارة احلوار وسرد اللمع التارخيية على حد
سواء ،فالراوي يف رواية جرجي زيدان متأثر بسيطرة املؤلف على حيثيات املوضوع
(التاريخ املراد سرده) فهو ال يرتدد يف اخلروج عن جادة الرواية إىل جادة التاريخ حىت دون
مربر ،وهذا ما منحه مهمة إخبارية تزيد من املصداقية التارخيية على حساب املصداقية
الفنية:
"انتهينا من رواية غادة كربالء" إلى مقتل الحسين بن علي وأهله في
كربالء بجوار الكوفة ،وما تال ذلك من وفاة يزيد بن معاوية سنة
64هـ"
ويف موضع آخر:
"كان عبد اهلل بن الزبير بن العوام من كبار الصحابة ،وكان قد رفض
المبايعة ليزيد بن معاوية كما رفضها الحسين بن علي ،وخرجا من
المدينة إلى مكة ،ودعا كل منهما إلى بيعته هو"...
وهذا سرد تعليمي يفرضه الراوي على القارئ فيفرتض أن القارئ جيهل متاماً
السياق التارخيي هلذه األحداث فيتربع بأن يوضحها له دون افرتاض
217
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
نسبة ولو قليلة من املعلومات التارخيية يف ذهن املتلقي ،وهذا شكل من أشكال سيطرة
الراوي سيطرة كاملة على إدارة الرواية قلصت من أسهم (العرض) Showingإىل
صاحل أسهم (اإلخبار) .telling
وبعد ،فإن الرواية التارخيية تعتمد بشكل واضح – على األقل يف روايات
الدراسة -على را ٍو عليم ال ينوء مبا يطلب إليه ،قد يكون تسلل إليها من املالحم القدمية
والنصوص التارخيية ،إذ قد كانت الروايات التارخيية وخاصة املبكرة منها قد منحت
صالحيات كبرية للراوي فسيطر على مالمح األحداث وحتكم يف منابعها .أما يف
األجيال املتأخرة من الروايات التارخيية فقد طور الراوي العليم أساليبه فقلص من وصايته
املباشرة على الشخصيات فنطقت حبرية أكرب فزاد ذلك من مسرحة العمل الروائي وعمق
من مصداقيته الفنية.
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفصل الثاني
المــستـوى الـتـاريـخـي
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
صورة من صورها تلبية للحاضر تنطلق منه حنو املاضي مث ترتد إليه عبقة بالدالالت
والتصورات واإلسقاطات ،ولكن كيف حيدث هذا التوالف بني الرواية والتاريخ؟ ما هي
القوانني اليت حتكم عالقات االتصال واالنفصال بينهما؟ ما الطرق املثلى الستحضار
التاريخ وصبّه يف قوالب روائية مفتعلة؟ ومىت خيسر الروائي رهانه على التاريخ؟ مث كيف
للروائي أن يتعامل مع شخصيات تارخيية حقيقية مكتملة البناء حاضرة يف الذهن؟ أال
حي ّد ذلك من صالحياته اإلبداعية؟ وهل الشخصية التارخيية احلقيقية تع ّد ضيفاً غري
مرحب به دائماً ،ألهنا تأيت بثياب جاهزة؟ أم أن مهمة الروائي هي الكشف عن تفاصيل
هذه الثياب وليس إلباسه ثياباً أخرى .مث ما الدواعي احلقيقية للجوء الرواية للتاريخ؟ ملاذا
يستعري الروائي فصوالً من التاريخ دون فصول أخرى؟ أم أن التاريخ يف نظر الروائيني ميثل
نواة عمل طيّعة القياد يسهل العثور عليها.
وتنظيما ملا سبق من تساؤالت ،سينتظم هذا الفصل ضمن ثالثة مباحث هي:
املبحث األول :املوازنة بني الروائي والتارخيي.
املبحث الثاين :التعامل مع الشخصية التارخيية.
املبحث الثالث :مسوغات جلوء الرواية إىل التاريخ.
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المبحث األول
الموازنة بين الروائي والتاريخي
إن مما يكسب الرواية التارخيية خصوصية ال متيّزها عن باقي بنات جنسها
فحسب بل عن األلوان األدبية األخرى أهنا تنطلق حنو ٍ
متلق و ٍاع مبجرياهتا العامة (أو
يفرتض ذلك) مدرك حليثياهتا التارخيية ،ولن تكون سلطة األحداث ومجاليات الكتابة
(أحياناً) آسرة للمتلقي كما هي احلال يف الرواية عامة ،بل سيكون متحرراً منها مقبالً
على مراقبة آلية تنفيذ احلدث التارخيي وبلورته وسيكون متابعاً إلضافات الروائي اليت جيب
أال تكون على حساب امل ّد التارخيي ومصداقيته ،أو على حساب نفسها ،ومن مث
ستغيب املصداقية الفنية ،ألن الرواية ليست إعادة كتابة للتاريخ وإال أصبحت تارخياً ،إهنا
طريقة أخرى الستيعابه وإعادة عرضه متهيداً الستثماره ممزوجاً بتوضيحات واستكماالت
يفرتض أهنا غُيبت عنه" ،إن الرواية التارخيية تقدم لنا صورة فنية كلية تضيف البعد
العاطفي الوجداين بعداً ثالثاً تدخل من خالله عناصر اإلبداع الفين"( )911اليت قد تكون
مرغوبة يف مثل هذا السياق مجالياً ،لكسر حدة الصرامة املنهجية التارخيية.
لقد جرى االتفاق آنفاً* على أن الرواية تتنازعها مرجعيتان؛ األوىل حقيقية
متصلة باحلدث التارخيي ،والثانية مرجعية ختييلية مقرتنة باحلدث الروائي ،وتلبية املرجعية
األوىل يعين حتقيق املصداقية الوثائقية وتنفيذ متطلبات
( )423قاسمم عبممده :الروايممة التاريخيمة عنممد محمممد فريمد أبممو حديممد ،مجلمة أدب ونقممد ،ع ،144أغسممطس
،1117ص.43-42
*
الباب األول -الفصل الثالث (الرواية التاريخية المساحة والح ّد).
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
املرجعية الثانية يعين حتقيق املصداقية الفنية ،ولعل اجتماع املصداقيتني هو مطلب الرواية
التارخيية األول ،وحىت يكون ذلك فال ب ّد للمعلومة التارخيية من طريق آمن تعرب منه إىل
عمق الرواية ،فكيف يستثمر الكتاب األحداث التارخيية؟ أي ما هي الطرق املتبعة يف
عرض املعلومة التارخيية املستعارة لغايات إبداعية تأويلية؟
الطريقة األولى :وهي سرد جمموعة من األخبار التارخيية املتتابعة يف مطلع
العمل الروائي بقلم املؤرخ هي مبثابة متهيد جملريات تارخيية ستشتغل عليها الرواية ،ومثال
ذلك رواية "احلجاج بن يوسف" جلرجي زيدان ،إذ عرض يف مطلع روايته مقطعاً سردياً
نص فيه على أحداث تارخيية غلّفت أجواء تلك الفرتة موضوع اهتمام الرواية ،وقد كامالً ّ
مسّى جرجي زيدان هذا املقطع بـ "فذلكة تارخيية":
"انتهينا في رواية "غادة كربالء" إلى مقتل الحسين بن علي وأهله في
كربالء بجوار الكوفة ،وم ا تال ذلك من وفاة يزيد بن معاوية سنة
64هـ .وكان عبد اهلل بن الزبير ما زال في مكة يدعو إلى بيعته وقد
الجو بعد موت الحسين .وكان يزيد قد بعث لقتاله جند ا
خال له ّ
بقيادة الحصين بن نمير ،فحاصروه بمكة ،ثم جاء الخبر بوفاة يزيد
وهم في الحصار..
أما أهل الشام فبايعوا بعد موت يزيد ابنه معاوية (الثاني) ..وأما أهل
الكوفة فإنهم بعد مقتل الحسين ندموا على تخليهم عنه ..وفي سنة
66هـ ظهر في الكوفة رجل اسمه المختار بن أبي عبيد ،قام يطالب
()424
بدم الحسين ويدعو الناس إلى بيعة ابن الزبير" ..
212
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وبعد ،فإن االقتطاع السابق اقتطاع مباشر جداً كتب بلغة إخبارية مباشرة ميكن
أن نسميها "سردية تارخيية" مهّها األول إيصال الفكرة ضمن أقصر السبل املتاحة .ويف
املثال السابق يرهتن السرد يف بُعد تسجيلي واضح املعامل يقدم املعلومة التارخيية دون
تدخل يف حتليل أو إيضاح أو مداخلة .والكاتب يقع رهينة مطواعية املادة التارخيية اليت
ح ّذر منها "لوكاش" واصفاً إياها بأهنا "فخ للكاتب العصري"( ،)916ألن "عظمته بوصفه
روائياً سوف تعتمد على الصراع بني نواياه الذاتية ،والصدق والقدرة اللذين يرسم هبما
الواقع املوضوعي .وكلما سارت نواياه على حنو سهل كان عمله أضعف وأفقر وأكثر
هزاالً"( ،)915فالصدق التارخيي حاصل يف الشاهد السابق من رواية "احلجاج بن يوسف"
ولكن على حساب الصدق الفين ،خاصة وأن هذه املقدمة التارخيية اليت عرضها يف بداية
روايته وهي جزء من الرواية مل حيتج الكاتب أن يبين عليها أحداثاً تالية إال يف النصف
اآلخر من الرواية .علماً بأن الراوي كان بإمكانه أن يوزع هذا احلشد املتتايل من األخبار
التارخيية على جمريات األحداث عن طريق تقنية االسرتجاع أو املونولوج أو تيار الوعي
إلحدى الشخصيات ،ولكن على ما يبدو أن سيطرة البعد الفكري التعليمي يف هذه
الرواية قد أثّرت بشكل واضح على األداء الفين ،فاملرجعية التارخيية تتفوق بشكل واضح
على املرجعية الفنية .وتكاد تكون مسة الروايات التارخيية يف مرحلتها األوىل انشغاهلا
باملرجعية التارخيية لغايات تعليمية ظاهرياً ،وهذا ينطبق على روايات جرجي زيدان وحممد
فريد أبو حديد وعلي اجلارم وغريهم من كتاب املرحلة األوىل يف الرواية التارخيية.
213
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ومن األمثلة كذلك على عرض األحداث التارخيية يف مطلع الرواية ما جاء يف
بداية "أرض السواد" حتت عنوان فرعي "حديث بعض ما جرى":
ظل واليا لبغداد اثنتين
"لما حضرت سليمان الكبير الوفاة ،بعد أن ّ
وعشرين سنة ،جمع أولده الثالثة :سعيد وصالح وصادق ،وجمع
معهم أصهاره األربعة..
لم يكد سليمان باشا يلفظ أنفاسه – وقيل إن ذلك تم قبل ساعة
من الوفاة -حتى جمع رئيس اإلنكشارية ،أحمد آغا ،من استطاع
جمعهم من الرعاع والسوقة واستولى على القلعة..
وفي اليوم الذي تال وفاة سليمان الكبير نودي في بغداد باسم علي
()427
باشا واليا ،فأعطى الباشا الجديد األمان "..
وعبد الرمحن منيف حيشد يف بداية روايته عشر صفحات الستقصاء أبرز
األحداث التارخيية اليت جرت قبيل البداية الفعلية للرواية ،لكنه ال يعرضها بالصرامة والدقة
اللتني سلكهما جرجي زيدان فيما سبق ،فالتواريخ مغيّبة عن السرد ،وهذه خطوة أوىل
حنو تطويع املادة التارخيية ،فضالً عن ذلك فإن الراوي حياول استعراض أكثر من رأي يف
القضية نفسها ليشعرنا بفنية العمل ،وشاهده" :مل يكد سليمان باشا يلفظ أنفاسه-
وقيل إن ذلك مت قبل ساعة من الوفاة -حىت مجع رئيس اإلنكشارية ،أمحد آغا "..فهذه
اإلضافة وغريها تسبغ على العمل الروائي التارخيي مصداقية فنية تنقذه من املرجعية
التارخيية ،إضافة إىل أن الراوي كان يضيف بني سطر وآخر عبارات توحي بقصصية
احلدث ال سردية التاريخ ،مثل:
214
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
"ما كادت هذه الغمة تنقضي ،وقبل أن يستمر الوضع لعلي باشا
( )42
حتى بدأ الغزو"
"وأشيع خالل تلك الفترة أن محمد بك الشاوي وأخاه عبد العزيز،
( )42
يميالن إلى العقيدة الوهابية"
إن مثل هذه التدخالت تكسب العمل مصداقية فنية تتجاوز االلتفات حنو
التارخيي فقط .وقد أظهر عبد الرمحن منيف حرصاً يف مطلع روايته على أن يسرد ماضيا
ميتد سنوات خلت هو مبثابة توطئة جملريات األحداث الالحقة من جهة ،ومن جهة أخرى
منح الرواية التارخيية طابعاً تارخيياً منذ البداية.
الطريقة الثانية :مزج السردي بالتارخيي؛ وهي طريقة متطورة إلضفاء معامل
خطابني متضامني يف صورة واحدة .وهذا يساعده على تقدمي التفسري والتحليل ورمبا
التأويل فيما يقرتح ،واملثال التايل من "رادوبيس" يوضح ذلك:
"ووقفت الجنود صفين على جانبي الطريق العظيم شاهري الرماح ،وقد نصبت
على مسافات متباعدة تماثيل بالحجم الطبيعي لملوك األسرة السادسة ،آباء
فرعون وأجداده ،فرأى األقربون تماثيل الفراعين ،أسر كرى ،وتيتي األول،
وبيبي األول ،ومحتمساوف األول ،وبيبي الثاني"( .)43
واملثال السابق يروج من خالل السرد املنشغل بوصف أحد أيام العيد وما يرافق
ذلك من استعانة لبعض املعلومات التارخيية عن العائلة اليت ينتمي إليها فرعون ،فهو من
ملوك األسرة السادسة ومن خالل التماثيل املعروضة عرفنا أمساء ملوكهم بدقة ،وقد جاء
هذا األمر عفوياً دون قصد واضح ،ويف
215
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
هذه الطريقة يظهر التوازن بني املرجعية التارخيية واملرجعية الفنية ،فمن خالل االنشغال
بتتبع األحداث املتعاقبة تأيت املعلومة التارخيية لتكمل املشهد دون تكلف أو قصد.
الطريقة الثالثة :عرض املعلومة التارخيية من خالل انعكاسها على تصرفات
الناس وسلوكياهتم وظهورها يف حوارهم .وتع ّد هذه الطريقة من أكثر الطرق انسيابية يف
عرض املعلومة حيث الشخصيات هي اليت تتأثر وحتكم وتعاين وتفرح دون تدخل سارد
يوقف احلديث عند موضع ليسرد تارخيياً حان دوره مث يستأنف .ولكن هذه الطريقة
متتلك القدرة على تفعيل هذين اخلطابني :الروائي والفين جنباً إىل جنب فتتحقق املوازنة
بينهما ،واملثال التايل من "ثالثية غرناطة" يكشف عن بعض جرائم القشتاليني يف حماكم
التفتيش يف األندلس:
"احت ّد صوت حسن.
-هل تتهمنى بالتخاذل؟
لم يجبه سعد ولكنه تطلع إليه فزادت نظرته توترا كانت النظرة تتهم.
عال صوت حسن:
-لن أدافع عن نفسي ليست خطيئة أن تحمي أهل بيتك ولو
بالتحايل ،تواصل الحياة لكي تضمن لهم لقمة العيش والستر بين
جدران بيت يضمهم القشتاليون ل يرحمون وأنت تعرف وترى بأم
عينيك كل يوم إذ تساورهم الشكوك في شخص ،مجرد شكوك،
يأخذونه ويحققون معه ويعذبونه حتى ينتزعوا منه اعترافات قد ل
تكون إل اختالقا يختلقه عقله للخالص من العذاب ،وقد يحكمون
عليه بالموت أو يموت من عذابهم قبل أن يحكموا فيصبح عياله
بال عائل وتخرج زوجته إلى الشارع لتعيل صغارها ،والحرة ل تأكل
من حليب ثدييها ،ولكنها تأكل حين يجوع الصغار!
216
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
217
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
واملشهد احلواري السابق بأسلوبه التباديل الفعال يكشف لنا معلومة تارخيية
سوقت من خالل احلوار فنطقت الشخصيات غاية يف األمهية مل يذكرها السرد مباشرة بل ّ
بلسان حاهلا ،إذ إن اآلثار يف العراق حتولت إىل مطمع الطامعني ،واإلجنليز هم أعداء
األ رض واآلثار على حد سواء ويفكرون بطريقة خيالية تدعو إىل سرقة هذه اآلثار ونقلها
حتسه
إىل وطنهم األم ،ويبدو أن االقرتاب أكثر من الشخصيات حىت تفضي لنا مبا ّ
وتشعر به فتنهال احلوادث التارخيية املنعكسة على حواراهتم.
الطريقة الرابعة :ويف هذه الطريقة يروى احلدث التارخيي أكثر من مرة ،ولكن
يف كل مرة تتوىل أمره جمموعة من الشخصيات يعاجلونه بطريقتهم اخلاصة ،فتظهر للخرب
أكثر من زاوية للرؤية ،مما يساعد على تبلور احلدث التارخيي واتضاح معامله أكثر ،فضالً
عن أن هذا اللون من تقدمي التارخيي يف ثوب السردي خيفف من ح ّدة املسؤولية التارخيية
املناطة بالرواي ،ونذكر املثال التايل من رواية "أرض السواد" اليت شاعت فيها مثل هذه
الظاهرة ظاهرة "تكرار السرد" خاصة إذا كان جمال احلديث خرباً تارخيياً .واخلرب التايل
سيرتدد ذكره على ألسنة الناس فريويه كل واحد بطريقته مضيفاً أو مضخماً أو منتقصاً،
إنه خرب مقتل سعيد باشا وايل بغداد املخلوع الذي قتل عام 1111م وحيثيات هذا
القتل:
" في الكرخ ،في قهوة أبو الخيل يتجمع عدد من رجال سليمان
الغنّام ،فإن كل واحد من هؤلء الرجال ،حين يسأل عما حصل في
القلعة (مكان مقتل سعيد باشا) تكون إجابته مطابقة أو مقاربة
إلجابة اآلخرين! يقول هؤلء الرجال إنهم تركوا القلعة في وقت
مبكر ،تركوها قبل أن يدخل داود باشا بغداد بأيام ،ربما تكون
ألنهم لم يعودوا يعرفون من هو الوالي ،ومن له
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
حق إصدار األوامر ،ليس ذلك فقط ،كانت األوامر تتغير بين لحظة
وأخرى..
ويتبرع واحد من الجالسين لكي يقول إن الرواتب لم تدفع لهم منذ
شهور ..وهكذا تركوا القلعة دون أسف..
ويؤمن آخرون على صحة ما يقال ،كي ل يظن أن لهم عالقة أو
()433
يتحملون أية مسؤولية"
واملقطع السابق هو متهيد لرواية حدث مقتل سعيد باشا ضمن أكثر من تصور،
والراوي هنا يظهر براعة يف االسراع يف نقل احلدث من مكان إىل مكان:
"يقول رجال الغنّام بانفعال إن ل أحد يستطيع أن يدافع وأن يحمي
مثلهم ،كانوا ل يسمحون حتى للطير أن يعبر فوق القلعة حين كانوا
فيها ..أما أن يكون الحراس نياما أو متساهلين ،وأن تقع مثل هذه
األحداث الخطيرة ،ول يستطيعون منعها أو مقاومتها .فهذا يؤكد
()434
صحة الموقف الذي اتخذوه بالنسحاب في وقت مبكر"
وما سبق يقدم رؤية من جانب احلراس الغاضبني الذين انسحبوا من مكان
احلدث قبل وقوعه لعدم رضاهم عن جمريات األمور ،ويف رواية ثانية:
"وفي المحالت األخرى بصوب الكرخ تتردد القصة ذاتها ،أو ما يشابهها
باختالف بسيط في بعض التفاصيل .تقول القصة إن حراس القلعة كانوا
نياما لما تسلل عدد من رجاله داود ،واستطاعوا الوصول إلى الجناح الذي
يقيم فيه سعيد باشا ودون صوت ،دون أن يحس بهم أحد ،اقتحموا
غرفته ،وهناك حدث الشتباك ،ول يعرف ما إذا قتلوا سعيد أو أسروه..
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
حين تروى القصة بهذا الشكل ،تترك احتمالا أن سعيد لم يقتل ،ول
()435
يعرف إذا سيسلم نفسه ،أم سيقاوم"..
ويف مكان آخر يف حملة امليدان هناك إضافات جديدة:
"سكان محلة الميدان يؤكدون أنهم دفنوا رأسين كانا بالقرب من
القلعة ،لكن ليس أي منهما لسعيد باشا ،وهذا ما أقسم على صحته
منعم األسود أحد الذين عملوا في السراي في فترة سابقة ،وقد رأى
بنفسه ،ومن قرب سعيد باشا ،وبالتالي له القدرة على التمييز بين
()436
هذين الرأسين ورأس الباشا! "
وال تنتهي اإلخباريات عند هذا احلد بل يكثّف الراوي جهوده جلمع املزيد منها:
"أما سكان األطراف من ،القريبين من السوء ،فيرددون قصص ا من
نوع آخر ،وكلها تؤكد أن سعيد باشا ل يزال حي ا ،وقد نجا من
الحصار الذي فرضه داود ،وغادر بغداد ،مع عدد من رجاله نحو
()437
الجنوب"..
أما القاطنون عند الباب الشرقي فلهم روايتهم كذلك:
"سمعوا طلقات نارية في ليلتين متواليتين ،وقيل إن عددا من الفرسان
حاولوا اختراق الطوق ومغادرة المدينة ،من هذه الناحية ،لكن ر ّدوا .أكد
ذلك أحد الحراس الليليين ،وقد توارى في الوقت الذي م ّد فيه الفرسان،
لكنه سمع صيحات تحذير ترددت عدة مرات ،وقد ميز بوضوح كلمة
بالذات "يا باشا ..يا باشا" ثم عاد الفرسان من حيث أتوا! "( .)43
221
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
مث تتواىل الروايات إىل أن تنتهي يف "قهوة الشط" حيث عامة الناس وبسطاؤهم
الذين ال ميلون من جتاذب األحاديث وافرتاض احليثيات إىل أن يقرر أكثر من واحد:
"أن سعيد باشا قتل ،وأنه مات وشبع موتا ،كان كل من يتكلم يقول
( )43
ذلك بثقة راسخة ،خالفا لألماكن األخرى"
إن ما سبق من جتاذب وتناقل حلادثة جيهل الناس جمرياهتا ضمن أكثر من
احتمال ليخفف على املؤلف /الراوي من ثقل املسؤولية التارخيية يف تقرير قصة دون
أخرى ،فيوظف املؤلف /الراوي غري قصة فيحقق أكثر من غاية:
إذ ختلص أوالً من املسؤولية التارخيية اليت قد تشكك يف مصداقيته التارخيية ،إذا ما -
أرخت اخلرب مل تتفق على حيثيات مقتل سعيد علمنا أن املصادر التارخيية اليت ّ
باشا وقد استفاد املؤلف من هذه احليثيات فنثرها على ألسنة البغداديني (.)999
إثبات قدرة الراوي العليم على التنقل حبرية وخفة بني أهل بغداد لرصد ما يتقوالنه -
عن هذا األمر ،وإثبات هذه القدرة يؤكد مرونة الراوي يف السماح لغريه بأن يتكلم
ويبدي وجهة نظره.
تأكيد أن هذه الرواية جاءت إلظهار أناس القاع وإبراز آرائهم والتغلغل بينهم -
وكشف وجهات نظرهم ،وهذا ما حاول مؤلف الرواية تأكيده يف أكثر من مرة
"كان من الضروري يف أرض السواد أن تربز بوضوح املالمح
221
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
()991
وقد استطاعت الرواية أن تنطلق من الشعيب الدقيقة لألماكن واملناخات والبشر"
إلقرار احلدث العام.
الطريقة الخامسة :أن تدار األحداث بطريقة متصاعدة جتعل املتلقي حمتاجاً إىل
خامتة تارخيية حتسم املوقف وتكشف النهاية ،ويف مثل هذه احلال يبلغ الصدق الفين يف
متازجه بالصدق التارخيي مرحلة متقدمة .فعلى سبيل املثال كانت وترية األحداث يف
"ثالثية غرناطة" تتصاعد وتتأزم حنو نتيجة واحدة وأكيدة بتنا نطلبها كلما توغلنا يف
( )916صفحة من املعاناة ختلص القراءة هي قرار الرحيل أو الرتحيل وفعالً وبعد
الرواية إىل النتيجة احلتمية يكون الرتحيل القسري بعد مئة سنة من املعاناة والصرب
والكفاح بارداً قاسياً ،فجاء القرار متوقعاً بل منتظراً من املتلقي:
" المقدمة المعتادة عن خيانة عرب البالد بناء عليه تقرر ترحيلهم في
غضون ثالثة أيام إلى الثغور المحددة والموت عقوبة المخالفين .
"للراحلين أن يأخذوا من المتاع ما يستطيعون حمله على ظهورهم،
وتتكفل السلطات بإطعامهم أثناء السفر ،وعلى كل أن يلزم مكانه
انتظارا لنقله إلى الشواطئ ومن يبرح مكانه يتعرض للنهب والمحاكمة،
ومن يقاوم يعاقب بالموت.
أمالك المرحلين صارت بحكم المرسوم الملكي ملكا لإلقطاعيين ،فمن
يعمد إلى إخفاء أمالكه أو حرقها يعاقب هو وكل سكان الناحية
()442
بالموت"..
لقد وصلت الرواية إىل هناية حمتومة كان البد للتاريخ من أن حيسمها وبطريقته
املباشرة ،فكانت هناية األحداث متوقعة بل مطلوبة الستكمال املشهد.
222
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ويف هنايات "أرض السواد" كنا ننتظر النتيجة احلتمية نفسها للقنصل الربيطاين
(ريتش) إذ إن وترية األحداث تتصاعد بني داود باشا يف السراي و(ريتش) يف (الباليوز)
أو مقر القنصلية الربيطانية ويصل التحدي ذروته فتنحبس األنفاس بتعاظم النفس من
التاريخ هناية مؤكدة تؤكد االنتصار ولو كان مؤقتاً ،وقد متثل ذلك باللقاء التارخيي بني
(ريتش) وداود أعلن فيه األول انسحابه من بغداد فكانت تلك سابقة نادرة يف ذلك
العصر املزدحم باملآسي واهلزائم ،وكانت النهاية التارخيية ضرورية لتأكيد هذا النصر فدار
مطول بني (ريتش) وداود على آخر قضية تسببت يف فصم ما تبقى من عرى حوار ّ
التفاهم بني الطرفني وتقرر أن يغادر (ريتش) بغداد بناء على طلبه شرط أن يبعث
(ريتش) برسالة رمسية إىل السراي تؤكد رغبته يف ترك بغداد والتوجه جنوباً ،ومل يكن له أن
يغادر لو مل يبعث هذه الرسالة :و"بعد يومين من هذا اللقاء ،أرسل ريتش إلى
السراي الخطاب الذي طلبه الباشا"(.)443
الطريقة السادسة :أن تكون املعلومة التارخيية عالة على السياق الروائي ،أي أن
حضورها ال يسهم كثرياً يف بناء الرواية بل هو تربع من املؤلف /الراوي يف غري حمله
الستكمال هدف قصد إليه املؤلف؛ كأن يكون هدفه تعليمياً مثالً أو عواطفه قد سبقت
خمططه يف الكتابة ،فوقع أسرياً يف شرك التاريخ وتغلب اخلطاب التارخيي على اخلطاب
الروائي .وقد مارس جرجي زيدان هذه الطريقة غري مرة خالل سرده لرواية "احلجاج بن
يوسف" نذكر منها مشهداً حوارياً دار بني عبد اهلل بن الزبري وبني حسن الشخصية
الرئيسية يف الرواية ،إذ يفتعل املؤلف /الراوي حواراً يدور بينهما ليسرد على لسان حسن
223
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
بطل الرواية حوادث تارخيية ال حيتاج إليها السياق بل هي تقدم إضاءة خارجية على
بعض األحداث اليت حصلت ولكنها كتبت بقلم املؤرخ:
"فأسرع عبد اهلل في قطع الكالم ألنه ل يحب أن يتذكر الخطأ الذي
ارتكبه في ذلك ولوله لكان بنو العوام خلفاء اإلسالم بدل بني أمية
لشدة اضطراب حال بني أمية في ذلك الحين .وقال لحسن" :ثم
ماذا؟ أوصلْنا إلى حديث خالد"
قال" :لما مات يزيد بايع أهل الشام ابنه معاوية (الثاني كما تعلمون وهذا لم
يكن يرى لبني أمية حق ا في الخالفة كما صرح جهارا في خطابه بعد أن
تولها بأربعين يوم ا ،فإنه أمر فنودي" (الصالة جامعة) فلما اجتمع الناس
وقف فحمد اهلل وأثنى عليه ثم قال( :أما بعد ،فإني ضعفت عن أمركم،
فابتغيت لكم مثل عمر ابن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده،
فابتغين ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم ،فأنتم أولى بأمركم فاختاروا ما
كنت ألتزودها ميتا وما استمتعت بها حيا) ثم دخل داره وتغيب حتى مات،
فلما مات معاوية هذا اختلف الناس فيمن يولونه واضطربت األحوال حتى
()444
آل األمر إلى مبايعة مروان بن الحكم ألنه" ..
ويستأنف السرد إسناد اإلخبار التارخيي هلذه الشخصية حىت يروى لعبد اهلل بن
الزبري ما جرى بعد وفاة يزيد ،ويف احلقيقة أن الراوي هو من يقحم مثل هذا السرد
التارخيي على لسان الشخصية وكأن عبد اهلل بن الزبري يستمع هلذه االستذكارات التارخيية
ألول مرة .يف مثل هذا السياق تتبدل مهمة الرواية من أدبية خالصة إىل تارخيية خالصة
وهنا ال يتحقق التوازن بني التارخيي والروائي .بل جيب على املؤلف دوماً من خالل راوية
أن يبحث عن الطريقة األنسب لعرض املعلومة التارخيية املسامهة يف بناء الرواية التارخيية
224
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
مسامهة فاعلة ،ولكن ضمن مسارها اخلاص الذي ال يفسد أدبية العمل وال تارخيية
الغاية ،فليس املهم يف الرواية التارخيية "إعادة سرد األحداث التارخيية الكبرية ،بل اإليقاظ
التخييلي للناس الذين برزوا يف تلك األحداث ،وما يسهم هو أن نعيش مرة أخرى
الدوافع االجتماعية واإلنسانية اليت أدت إىل أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك
متاماً يف الواقع التارخيي"( )996كما أن على الرواية التارخيية أن "حتدد يف املاضي األسباب
اليت كانت وراء ما حدث بعد ذلك ،وأيضاً رسم السريورة اليت تطورت بشكل بطيء من
خالهلا وأحدثت هذا الواقع"(.)995
وبعد ،فالرواية التارخيية لون يتنازعه هاجسان؛ األول :القضية املعاجلة (املادة
التارخيية) والثاين :اإلخراج (األداء الفين) ولعل تغليب أحدمها على اآلخر هو تغليب
للعمل على نفسه.
225
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المبحث الثاني
التعامل مع الشخصية التاريخية
إن كل مضمون البد وأن يفرض شكالً خاصاً به ،والشخصية مهما اختلفت
وتنوعت فإهنا مضمون يفرض شكله اخلاص ،وهذا األمر ستتضاعف مسؤوليته إن كان
املضمون منجزاً يف التاريخ ،وعلى األديب أن يتعامل معه ضمن هذا املعطى .ويف احلقيقة
إن الشخصية التارخيية شخصية مرهقة لكتاب الرواية بشكل عام ،وكاتب الرواية التارخيية
بشكل خاص ،ألهنا تدخل إىل عمل حبقيبة مالبس جاهزة ال ميكن إبعادها عنها أو
اقرتاح مالبس جديدة ال عالقة هلا بالصورة املرسومة عنها ،إن الشخصية التارخيية تفرض
حبضورها يف العمل طوقاً حي ّد من حرية الكاتب ال ختففه إال الشخصيات املتخيلة،
فالشخصية التارخيية من املتانة والثقة بالنفس حبيث تقود الكاتب إىل مصريها هي كما
ُحسم قبل مئات أو عشرات السنني ،وهذا ما جيعل الرواية التارخيية مهددة خبطر استحواذ
التاريخ عليها من هنا يربز التساؤل التايل :كيف تعاملت الرواية التارخيية مع الشخصيات
التارخيية؟ وما مدى النجاح أو اإلخفاق الذي حققته الرواية التارخيية يف تعاملها مع هذا
النمط من الشخصيات؟
إن التعامل مع الشخصية التارخيية يف الرواية التارخيية أخذ أكثر من شكل يف
التعامل معها ،هي على التوايل:
املفعلَة يف احلدث.
-1الشخصية التارخيية ّ
-1الشخصية التارخيية املقصاة عن احلدث.
-1الشخصية التارخيية املفرتضة يف احلدث.
226
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المفعلة
-1الشخصية التاريخية ّ
املفعلة يف احلدث من املعضالت اليت ترهق الروائي بل
تعد الشخصية التارخيية ّ
وتأسره ضمن قانوهنا التارخيي اخلاص ،وتوظيف الشخصية التارخيية يف العمل حيتاج إىل
دراية كاملة باألحداث اليت اشرتكت فيها الشخصية وتلك اليت مل تشرتك فيها ،هذا من
جهة ،ومن جهة أخرى ما هي اللغة اليت سوف تتحدث هبا هذه الشخصية ،هل كفلت
لنا املراجع التارخيية مناذج خاصة متنحنا قدرة على توظيف لغة هذه الشخصية .إن قدرة
الروائي على التخييل وربط األحداث واستنتاجها كفيلة بأن تقدم للروائي تصوراً جيداً
عنها حىت يعمد إىل توظيفها يف روايته.
وال تقف الصعوبات ع ند املرجعية التارخيية فحسب ،بل يتعدى ذلك إىل
املرجعية التخييلية عندما تتورط الشخصيات التارخيية يف حوار أو موقف مع شخصيات
متخيّلة ،إذ ال تكفل لنا النصوص التارخيية دائماً الوثائق اليت حنتاجها ،فنعود مرة أخرى
إىل تأكيد مبدأ املزاوجة بني ما كان وأُثبت ،وما كان ومل يُثبت (املسكوت عنه) ،إذ إن
أي خطأ يف هذه املزاوجة قد يفسد بناء الشخصية التارخيية ومن مث املصداقية الوثائقية يف
برمته .فما كان ومل يُثبت (املسكوت عنه) جيب أن يتناسب مع ما كان العمل الروائي ّ
وأُثبت ،فيغدو مقبوالً؛ فمساحة (املسكوت عنه) يف الرواية التارخيية هي املساحة اليت
ميكن لكاتب الرواية التارخيية أن يتحول فيها رغم ضيقها ،ولكنه خبياله اخلالّق قادر على
توسيعها يف ذهنه واستغالل كل شرب فيها ،وهذا ما يرفع كاتبا وحيط آخر ،إذ ليس
موضوع الرواية التارخيية -بالدرجة األوىل -هو من يعلي من شأن العمل أو حيط منه ،بل
حسن األداء هو سيد احلكم دائماً.
227
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ومن أمثلة الشخصيات التارخيية اليت أخذت حيزاً حقيقياً يف العمل شخصية
(داود) باشا يف "أرض السواد" ،إذ الرواية معقودة بالدرجة الثانية* على إظهار صورة
مفتقدة ألحد الوالة الذين حنتاج إليهم اليوم وهي صورة داود باشا هذا الوايل (الصح) يف
الزمن (اخلطأ) إذ مل يتوان مؤلف الرواية من أن يكشف شخصية داود باشا بلسان داود
باشا نفسه ،فأقحمه يف مشاهد حوارية كثرية مع شخصيات تارخيية حقيقية وأخرى
متخيلة ،دون مساس باملرجعية التارخيية هلا ،وقد بدا حذر املؤلف يف التعامل مع هذه
الشخصية عندما تظهر؛ ألهنا متتلك حصانة تارخيية تقيها فن االختالق والتقول ،واملشهد
التايل يكشف مدى اقرتاب عدسة الراوي من شخصية داود اقرتاب املتأمل املغامر أحياناً:
قدمه وجمّده:
وقد كان أول ظهور لشخصية داود على لسان الراوي الذي ّ
"وغرق سعيد بعشقه وفسقه ،فأهمل أمر الرعية وشؤون الحكم،
فتدهورت األحوال وضاق الناس وارتفعته الشكوى ،ولم يتأخر داود
()447
لكي يلتفظ اإلشارة ،ويدرك أن زمنه قد حان"
"لم يكن مضى يومان على التخلص من سعيد ،حتى نقل حمادي
إلى ثكنة الفرسان.
*
حيث إن هدفها األول كما ورد على لسان مؤلفها العراق وأناس العراق في بداية ق .11
( )447أرض السواد.23/1 :
221
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
221
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فالشخصية التارخيية لداود باشا تبقى حمافظة على اتزاهنا التارخيي رغم
اشرتاكها يف األحداث وظهورها يف احلوار واملونولوج ،إهنا تعيش حياهتا كاملة
داخل الرواية.
ومن الشخصيات التارخيية اليت أفلحت" أرض السواد" يف رسم صورهتا وتفعيلها
داخل الرواية شخصية القنصل الربيطاين (ريتش) يف بغداد ،إضافة إىل شخصية (اآلغا)
سيد عليوي اليت كان لشخصه اليد الطويل يف تفعيل كثري من األحداث وتغيري مسارها
دون أن تفقد مصادقيتها .مع املالحظة أن مثل هذه الشخصياته ال تظهر كثرياً إال من
أجل االشرتاك يف مشاهد قد تؤدي إىل اثر تارخيي مثبت .ونضيف إىل هذه الشخصيات
املفعلة يف احلدث شخصية امللك يف (رادوبيس) الذي نرافقه منذ توليه العرشالتارخيية ّ
وحىت مقتله بسهم من أحد الثائرين استقر يف فؤاده.
231
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يف ذلك"( ،)969ألن قانون الغين هو احلاضر وقانون التارخيي هو املاضي ،فضالً عن أن
إعطاء الشخصية التارخيية تصاريح املشاركة باألحداث قد يقلل من حرية الكاتب.
لقد شاع استخدام هذا النوع من الشخصيات التارخيية ،وخاصة يف رواية "ثالثية غرناطة"
إذ الشخصيات التارخيية احلقيقية هي إطار عام تنبعث الرواية وأحداثها من خالهلا ،لقد
كانت الشخصيات التارخيية يف هذه الرواية ثانوية حسب األمهية ،مل تشارك يف الفعاليات
احلقيقية للرواية بل ظل صداها ظاهراً من على بعد ،ولكنها مل تصل ح ّد البطولة يف
الرواية ،نذكر من هذه الشخصيات "أبو عبد اهلل حممد الصغري" الذي ورد ذكره يف بداية
الرواية ليعلن استسالمه وخضوعه ،مث خيتفي دون رجعة:
" بكى أبو عبد اهلل محمد الصغير ،وقال إن اهلل كتب عليه أن يكون
()451
شقيا وأن يتم ضياع البالد على يديه"..
ويف املقابل هلذه الشخصية املأساوية تظهر كذلك شخصية موسى ابن أيب
الغسان رمز املقاومة ورفض التسليم ،أما حضوره فكان طيفاً سريعاً رمزياً مث انتهى:
مث ينشغل الراوي اختتاماً هلذه الشخصية يف رصد أقاويل الناس حول اختفائه أو
استشهاده.
231
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وهناك أيضاً شخصية امللك فردنياند وامللكة إيزابيال ومها شخصيتان هامشيتان
يف احلدث ذكرمها الراوي مرة واحدة يف بداية الرواية(.)961
أما يف رواية "احلجاج نفسه* الذي مل تكن يف الواقع تتحدث الرواية عن
شخصه بل إهنا تتحدث يف هناياهتا عن حصاره ملكة قاصداً قتل عبد اهلل بن الزبري بن
العوام الذي ظهر كذلك مبظهر ثانوي ،لكن السمة البارزة لدى جرجي زيدان هي
توظيف الشخصيات التارخيية توظيفاً افرتاضياً قد يقلص كثرياً من مصداقية العمل
التارخيي ،فيجمع شخصيات تارخيية مل يثبت التاريخ اجتماعها على هذا النحو ،عندما
مجع الشاعر العذري (مجيل) مبحبوبته (بثينة) يف لقاء مؤثر وآسر( )969قد ينايف الصدق
التارخيي.
فضالً عن تلك اجللسات املفرتضة بني (حسن) بطل الرواية املتخيّل وعبد اهلل
مطول اهلدف منه الكشف عن املعلومات التارخيية املتممة للحدث بن الزبري يف حوار ّ
بطريقة إخبارية مباشرة:
"فقال عبد اهلل وهو يبتسم ابتسامة الستخفاف :وكيف يكون ذلك وهو ابن
يزيد الذي أمر بحصار هذا البيت وقاتلنا حتى هدم الكعبة بمنجنيقاته ثم
احترقت وأعدنا بناءها فقال حسن" :صدقت يا مولي إنه ابن يزيد بن معاوية،
ولكن ل يخفى عليك أنه لما مات يزيد كان الحصين بن نمير ل يزال محاصرا
البيت الحرام وأنتم فيه ،وهو ل يعلم بموت خليفته يزيد ،وقيل إنكم عرفتم
بموته قبله ،وإذا صح ما سمعته عما دار بينكم وبينه في شأن الخالفة" فقطع
()455
علي البيعة بعد موت يزيد؟"..
عبد اهلل كالمه وقال" :أظنك تعني أنه عرض ّ
232
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
واملشهد السابق يوضح مدى االبتذال الذي وقعت فيه شخصية عبد اهلل بن
الزبري بن العوام حىت يعقد حماورة من هذا النوع التحليلي مع شخصية متخيلة أصالً.
وبعد ،فليس املهم أن تكون الشخصية التارخيية فاعلة أو مقصاة عن العمل بل
املهم كيف توظف يف العمل الروائي وما هي املهام اليت ميكن أن توكل إليها.
233
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وقد ضربت لنا هذه الشخصيات اليت غزت ثالثية غرناطة مقدرة الشخصيات
املتخيّلة على إجناز رواية متكاملة وهذا ما صنعته عائلة أيب جعفر الوراق (أم جعفر ،أم
حسن ،حسن ،سليمة ،نعيم ،سعد ،مرمية ،عائشة ،علي) سلسلة من الشخصيات رمبا:
نفذت كل واحدة منها مهامها مبنتهى اإلتقان ،هذه العائلة الراسخة يف األرض اليت
نشأت فيها ،أكثر منه مئة سنة عاشتها وهي تكابد آالم البقاء .واملشهد التايل هو خامتة
متسكه باألرض وبقاؤه فيها ألن رحيله الرواية مع (علي) حفيد حفيد أيب جعفر يظهر ّ
يعين انتهاءه ،ولكن كيف سيكون له ذلك والقرارات بشأن البقاء واضحة:
"قد يكون الموت في الرحيل وليس في البقاء ،لبد أن يعرف معنى
الحكاية وتفاصيلها وأيضا ما فعله األجداد ..سيبقى .قد يقبضون
عليه ويحكمون بموته لمخالفة القرار .سيرحل ،يُح ّدق في ماء
البحر ،تشرد عيناه ثم ينتبه على ص ّفارة عالية تؤذن بالرحيل.
علي ،أدار ظهره للبحر ،وأسرع الخطو ثم هرول ثم ركض قام ّ
مبتعد ا عن الشاطئ والصخب والزحام .التفت وراءه فأيقن أن أحد ا
لم يتبعه ،فعاد يمشي بثبات وهدوء ،يتوغل في األرض ،يتمتم :ل
()457
وحشة في قبر مريمة !"
إن بناء الشخصية التارخيية املتخيّلة على هذا اجلانب من املهارة واالتقان
واملعطيات نابع بشكل أساسي من حرية الراوي الذي يشكلها دون قيود مسبقة.
ومن الشخصيات املبتكرة يف "أرض السواد" شخصية (بدري) وهو شخصية
من صنع اخليال أسهمت يف ربط كثري من األحداث على حنو معني ،فبدري يعمل ضمن
قوات اآلغا (سيد عليوى) يف الشمال يف كركوك .والرواية
234
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
تعول على مثل هذه الشخصيات للتحرك هبا دون قيد أو شرط ،فهي شخصيات تكمل ّ
املشهد وتصنعه أحياناً كثرية ،إهنا شخصيات تولد أىن شاءت ومتوت أىن تشاء ،وال
شروط مسبقة تتحكم هبا ،لقد استطاع كاتب "أرض السواد" ومن خالل جمموعة من
الشخصيات التارخيية املتخيّلة أن يقيم أود العمل ،أهنم -أي الشخصيات املتخيلة-
باعرتاف املؤلف "حيكون احلياة بكل ما حتمله من غىن وتعدد ،ومن خالل هؤالء نغادر
القصور إىل الشوارع اخللفية ،ويف مثل هذه األمكنة نكتشف ونتعرف إىل احلياة اليت
كانت قائمة دون تزييف ودون فرض ..إن الصنّاع احلقيقيني غائبون يف أغلب األحيان،
وهذا ما حتاول الرواية التارخيية أن تتصدى له ،أن تتواله.)961("..
235
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المبحث الثالث
مسوغات اللجوء إلى التاريخ
*
راجع :الفصل الثالث من الباب األول.
236
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ويبدو أن تسمية هذه الرواية باسم احلجاج له ما يربره ،إذا ما علمنا أن حماصرة
احلجاج بن يوسف لعبد اهلل بن الزبري يف مكة ،مث رمي الكعبة باملنجنيق ش ّكل سابقة
عظيمة يف حق التاريخ اإلسالمي ،فأراد جرجي زيدان أن يثبتها ويتوقع حيثياهتا فدوهنا
روائياً ونسبها إىل حمدثها.
وإذا ما حاولنا استجالء أسباب العودة إىل التاريخ يف هذه الرواية ،فإننا البد
لنا من أن نستحضر السياق الثقايف الذي كانت تعيشه املنطقة العربية يف زمن كتابة
الرواية أي مطلع القرن العشرين ،ففي هنايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين
بث التاريخ جمدداً يف أذهان الناس من خالل كان جهد الروائيني منصباً على إعادة ّ
استمالته حنو الرواية هذا الفن الغريب الوافد غري املقبول من قبل الناس حىت تلك الساعة،
فكان البد من التمويه من خالل التاريخ هذا السرد املتنامي يف الذهن دون انقطاع.
لقد كان اللجوء إىل التاريخ لدى جرجي زيدان يف رواياته عامة ضرباً من تسويق -
التاريخ روائياً والرواية تارخيياً من خالل بلورة املعلومة التارخيية وإعادة بنائها ضمن
املوحد.
قصة خيالية مفتعلة ال متس تلك املرحلة إال من خالل الزي ّ
كما أن لدافع التسلية نصيب يف كتابة "احلجاج بن يوسف" ،من خالل تلك -
القصة العاطفية املدرجة بني ثنايا الرواية ،وتكون هذه القصة حمالة على السياق
التارخيي احلقيقي لتشد أركانه وتثبت زواياه.
وهناك هدف تعليمي غري خاف يف الرواية ،فاملؤلف حريص على وضعنا يف -
السياق التارخيي دائماً ومبنتهى الدقة أحياناً ،إال أن جرجي زيدان مل ير ِاع أحياناً يف
هدفه هذا التسجيل األمني ألحداث التاريخ عندما ميزج
237
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
بني اخليايل واحلقيقي دون مراعاة للمعلومة التارخيية احلقيقية كما وردت ،كلقاء حسن
بابن الزبري ( )960ولقاءات حسن ( )959باحلجاج نفسه.
231
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
املصري ،وعمق إدراكه من قدمي ،ملسؤوليات احلاكم وواجباته ،وتصديه له بالقوة إذا
احنرف عن اجلادة ،ومل تفلح معه وسائل اإلقناع السلمية من توسالت وتضرعات"(.)951
ومن امللحوظات اليت ميكن إمجاهلا يف هذا الصدد أن من أهم األسباب الداعية
إىل العودة إىل التاريخ يف هذه الرواية هو من منطلق إسقاطي على احلاضر املعيش لغايات
وعظية إرشادية ،كما أن إظهار الشعب املصري القدمي هبذا املظهر اخلالّب من الوعي
والقدرة على اختاذ القرار ليكشف عن دافع االعتزاز بالشخصية الوطنية ومتجيدها وإظهار
قدراهتا كما حنب.
( )462شفيع السيد :اتجاهات الرواية المصرية ،القاهرة ،مكتبة الشباب ،1176 ،ص .31-21
231
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
االنطالق من االجتماعي للسيطرة على التارخيي ،إن انطالق الرواية من أسرة -
غرناطية واالستمرار يف تتبع مفاصل حياهتا ،يف هذه احلياة اليت تصعب يوماً بعد
آخر ،ليكشف عن هدف إكمال ما مل يقله التاريخ ،وانعطاف حنو بؤرة األمل
اليت خلفها خروج العرب من األندلس.
ومن منطلق فين كان اللجوء إىل التاريخ يف هذه الرواية "مبثابة الديكور الذي يؤطر -
األحداث املتخيلة .إال أنه أحيانا ديكور مصطنع متليه حاجة العامل املتخيل
أساساً .وما هذا التعميم واإلفراط إال أداة حتقق هبا الرواية غايتها املتمثلة يف
()951
من هنا كان لزاماً املغايرة أي يف إخراج عامل روائي خمتلف عن العامل املعيش"
على املؤلفة أن تكتب ما تتوقع أن التاريخ مل يكتبه.
241
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
احلديث"( ،)959إذن من أوىل مسوغات العودة إىل التاريخ يف رواية أرض السواد هي:
-استحضار فرتة حمددة من تاريخ العراق لغايات استقصاء وحبث واستظهار
مق ّدرات وطن ،فطافت الرواية يف أرجائه ووصفت أماكنه واستجلت املناخات
والبشر.
كما أن العودة إىل تاريخ العراق وهلذه املرحلة بالذات يكشف لنا عن بعد -
إسقاطي " ،فهذه املرحلة من تاريخ العراق احلديث مرحلة داود فإهنا متاثل ،من
بعض اجلوانب ،املرحلة الراهنة ،من حيث الصراع الدويل والتنافس للسيطرة
واالستحواذ على املفاتيح األساسية يف املنطقة ،وبالتايل إخضاعها وإحلاقها ،وهذا
ما نراه بأعيننا اآلن"(.)956
-استجالء العظة والعربة مما حدث يف تلك الفرتة ،ووضع ذلك حاضراً أمام
القارئ ،يسهم يف استيضاحه ،ومن مث احلكم عليه فاملاضي عندها سيتشكل
حاضراً يف ذهن قارئ القصة" ،ذلك أن حضور العمل شرط أساسي لنجاح
العمل القصصي"( )955وما العودة إىل التاريخ يف حمصلته النهائية إال لنقله إىل
احلاضر يف صورة من صوره.
( )464فيصممل دراج :مقابلممة مممع عبممد الممرحمن منيممف بعنمموان "التمماريخ ذاكممرة إضممافية ل نسممان ،مجلممة
الكرمل ،ع ،6ربيع ،2111ص .14
( )465عبد الرحمن منيف :رحلة ضوء ،ص .141
( )466نبيلة إبراهيم :نقد الرواية ،ص .32
241
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
242
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الفصل الثالث
املـستــوى الـنـسـقـي
(الـمـوءود)
تمهيد -
النسق ( )1أسطورة الرجل األبيض -
النسق ( )2تشييء المرأة أو تهميشها -
*
Childers, J. and G. Hentzi: Columbia Dictionary of Modern Literary and
Cultural Criticism, Columbia University Press, NewYork, 1995, P. 131.
( )467حسن حنفي :تحليل الخطاب ،ص .27
243
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
أما اخلطاب فغدا علماً خالصاً من علوم اللسان بصرف النظر عن مفردات
املعىن واملغزى واملسبب؛ لذا كانت النظرة إىل النصوص نظرة يشوهبا بعض النقص .فكان
ويوسع نظره يف األفق ،وهذا ما حتقق يف الدراسات
البد من إجياد البديل الذي حيتضن ّ
الثقافية ).(Studies Culture
244
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
السيمولوجي الذي يشكل ذهنياً احملددات احلقيقية والفاعلة ألنساق اإلبداع وكيفيات
التداول ومجاليات التلقي.
أما عن نظرة املنهج الثقايف إىل النص األديب "فالنص األديب جزء من سياق
تارخيي يتفاعل مع مكونات الثقافة األخرى من مؤسسات ومعتقدات وتوازنات قوى وما
إىل ذلك"( ، )911لذا سيدرس النص األديب إىل جانب الوضع التارخيي الذي سينتج عنه،
لكون النص األديب والسياقات التارخيية اليت أنضجته من العناصر التكوينية فهما
فعال فيها ،وهذه النظرة متكامالن والسياق التارخيي حمتضن للنصوص األدبية وعامل ّ
حتقق مبدأ التارخيانية اجلديدة ) (New Historicismأو النزعة التارخيية
فعال يف تفسري كثري من الظواهر املرتبطة باإلنسان،
) (Historicismeفالتاريخ مبدأ ّ
كل ذلك من أجل "إحداث نقلة نوعية يف الوعي النقدي بأرخنة النصوص وتنصيص
التاريخ ،وال شيء خارج النص -كما هو املبدأ النقدي النصوصي رمبا التشريعي"(،)911
والتارخييانية اجلديدة مبدأ أفرز عرب تفاعله مع النصوص مصطلح (اجلماليات الثقافية
) Cultural Poeticsعلى يد ستيفن قرين بالت ،الذي كان قد أطلق عام
1011مصطلح التارخيانية اجلديدة "ليصف به مشروعه رمبا يف خطاب النهضة ،خاصة
االجنليزي أو الشكسبريي حتديداً كما هو عنده ،ولقد القى املصطلح قبوالً عريضاً لدى
مجاعات النقد املابعد بنيوي ،ونظريات اخلطاب ،إذ عرب الدارسون احلدود فيما بني
التاريخ واألنثروبولوجيا والفن والسياسة واألدب واالقتصاد .ومتت اإلحاطة بقاعدة
الالتداخل اليت كانت حترم على دارسي اإلنسانيات التعامل مع أسئلة السياسة والسلطة،
ومع ما هو يف صلب حياة الناس"(.)911
245
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
أما االفرتاضات اليت جتمع بني التارخييني اجلدد ،مع كل ما بينهم من تباينات
واختالفات ،خبمسة افرتاضات( )919هي:
أ -هناك شبكة من املمارسات املادية تغلّف كل فعل تعبريي.
ب -كل أفعال نزع األ قنعة أو االنتقاد أو املعارضة مهددة بأن تقع ضحية ملا تعرتض
عليه أو تسعى إىل فقده.
جـ -ليس هناك حدود فاصلة يف حركة تداول ما هو أديب وما هو غري أديب،
د -ال ميكن ألي خطاب مهما كان أدبياً أو غري أديب أن يعطي حقيقة غري قابلة
للتغري ،وال أن يعرب عن طبيعة بشرية ال تقبل التبدل.
هـ -أخرياً يقرر (فيسر )916()Veeser.H.Aأن اخلطاب الواصف واملنهج النقدي
للثقافة اخلاضعة للرأمسالية سيكون بالضرورة مشاركاً يف اقتصادياهتا .وعلى ما سبق
فإن التارخيانية اجلديدة سعت إىل تطوير منهج يف قراءة الثقافة كفعل حي ،وهذه
بدايات املنهج الثقايف.
أما التساؤل األبرز الذي يقوم عليه النقد الثقايف ،فقد خلصه الغذامي يف كتابه
"النقد الثقايف"( )915وجاء على النحو التايل:
-هل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غري إنساين
وغري دميقراطي؟ ويضرب مثاالً على ذلك بفكرة (الفحل) هذه الفكرة اليت كان
للنسق الشعري دور كبري يف ترسيخها ،ومن مث كانت الثقافة -مبا أن أهم ما فيها
هو الشعر -وراء شعرنة الذات وشعرنة القيم؟
246
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
لقد آن األوان ألن نبحث يف العيوب النسقية للشخصية العربية املتشعرنة ،واليت -
حيملها ديوان العرب وتتجلى يف سلوكنا االجتماعي والثقايف بعامة.
لقد أدى الدور األديب دوراً مهماً يف الوقوف على (مجاليات) النصوص ،ويف تدريبنا -
على تذوق اجلمايل ..وعلى الرغم من هذا ..أوقع نفسه يف حالة من العمى الثقايف
التام عن العيوب النسقية املختبئة من حتت عباءة اجلمايل ،وظلت العيوب النسقية
تتنامى متوسلة باجلمايل ،الشعري والبالغي ،حىت صارت منوذجاً سلوكياً يتحكم فنياً
وذهنياً وعملياً ،وحىت صارت مناذجنا الراقية -بالغياً -هي مصادر اخللل النسقي.
إن ما يرتاءى لنا مجالياً وحداثياً يف مقياس الدرس األديب هو رجعي ونسقي يف -
مقياس النقد الثقايف ..وكل دعاوى أدونيس يف احلداثة سيتضح أهنا اخلطاب لفظي
ال يؤدي إال إىل مزيد من النسقية الرجعية.
وليس القصد هو إلغاء املنجز النقدي األديب -ألن الثقايف يتعاون مع النقدي -
األديب -وإمنا متويل األداة النقدية من أداة يف قراءة اجلمايل اخلالص وتربيره
(وتسويقه) بغض النظر عن عيوبه النسقية إىل أداة يف نقد اخلطاب وكشف أنساقه.
بناء على ما سبق فإن املنهج الثقايف منهج يبحث مرحلة ما بعد األدبية
ليكشف أشياء قابعة وراء األدب أو حتته .فبعد أن كان القول األديب يف نظر (ريتشاردز)
عمالً ،فقد حتول يف نظر (روالن بارت) إىل نص ،مث حسم (فوكو) األمر عندما نقل
النظر من (النص) إىل (اخلطاب) فأسس بذلك وعياً نظرياً يف نقد اخلطابات الثقافية
واألنساق الذهنية ،فكانت أوىل ممارسات النقد الثقايف عندما "جرى الوقوف على (فعل)
اخلطاب وعلى حتوالته النسقية ،بدالً من
247
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
241
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
اليت ميكن أن يكتب هلا االستقرار عليها ألنه خرج من مظلة املؤسسة النقدية األدبية
والبد له من صنع مؤسسته اخلاصة اليت تقيه شر الضياع وعوامل التعرية.
إن أمهية الثقافة يف نظر الدراسات الثقافية تربز من حقيقة أن الثقافة تعني على
تشكيل وتنميط التاريخ ،وأفضل ما تفعله الدراسات الثقافية هو وقوفها على عمليات
إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهالكها ،وهذا يستحضر نظرية اهليمنة اليت طرحها قرامشي من
قبل واليت يؤكد فيها أن السيطرة ال تتم بسبب قوة املسيطر فحسب ،ولكنها أيضاً تتمكن
وسعت الدراسات منا بسبب قدرهتا على جعلنا نقبل هبا ونسلّم بوجاهتها ،لذلك فقد ّ
الثقافة اجملال ليشمل العرق واجلنس واجلنوسة والداللة واإلمتاع(.)910
تتساءل الدراسات الثقافية اليوم عن مدى هيمنة األمناط علينا وعما إذا كنا
قادرين على تعديل وجهة هذا الفعل املهيمن إىل وجهات أخرى؟ وما مدى مسؤوليتنا
عن هذا الذي نفعله ،لقد اكتفت نظريات التلقي باالحتفاء مبتعة اجلمهور املستقبل دون
التمعن أو نقد وظيفة املتعة حىت لقد جرت تسمية العنف الذي يتخذ املتعة وسيلة له
على أنه رفض ومتعة مجاهريية ،وذلك يف بعض الدراسات على أفالم "هوليوود"(.)919
ومن امللحوظات اليت أثارها النقد الثقايف أن هناك أمناطاً من األنساق الثقافية
احلس النقدي من حيث أنه جرى تثبيتها جملرد أهنا مجاهريية وإمتاعية .وهذا فعل ينقصه ّ
ال يلحظ دور لعبة اإلمتاع يف ترويض اجلمهور ودفعهم إىل
241
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
قبول األنساق املهيمنة والرضى بالتمايزات اجلنسية (اجلنوسة) ،وميثل الغذامي على ذلك
مبا حدث يف فيلم (رامبو) و(تريمينيتور) عندما ُس ّخرت املتعة من أجل العنف الذكوري
والطبقي(.)911
يطرح (فنسنت ليتش )V. Leitchيف كتابه (Cultural Criticism,
) 1992مصطلح النقد الثقايف مسمياً مشروعه النقدي هبذا االسم حتديداً ،وقد جعله
رديفاً ملصطلحي ما بعد احلداثة وما بعد البنيوية "حيث نشأ االهتمام باخلطاب مبا أنه
خطاب ،وهذا ليس تغيرياً يف مادة البحث فحسب ،ولكنه أيضاً تغري يف منهج التحليل
يستخدم املعطيات النظرية واملنهجية يف السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة واملؤسساتية ،من
دون أن يتخلى عن مناهج التحليل األديب والنقدي.
وقد خلص الغذامي( )911اخلصائص اليت يقوم عليها النقد الثقايف على النحو
التايل:
أ -ال يؤطر النقد الثقايف فعله حتت إطار التصنيف املؤسسايت للنص اجلمايل ،بل
ينفتح على جمال عريض من االهتمامات إىل ما هو غري حمسوب يف حساب
املؤسسة ،وإىل ما هو غري مجايل يف عرف املؤسسة ،سواء أكان خطاباً أم ظاهرة.
ب -يستفيد النقد الثقايف من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة
اخللفية التارخيية ،إضافة إىل إفادته من املوقف الثقايف النقدي والتحليل املؤسسايت.
251
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
جـ -إن الذي مييّز النقد الثقايف املابعد بنيوي هو تركيزه اجلوهري على أنظمة اخلطاب
وأنظمة اإلفصاح النصوصي ،كما هي لدى بارت وديريدا وفوكو ،خاصة يف مقولة
ديريدا أن ل شيء خارج النص.
إن هذا النقد حياول من خالل مبادئه أن "ينجو ..من مثالب املنهج البنيوي
املتطرف الذي اجته إىل عزل النص عن سياقه ومراجع إحاالته اخلارجية .إن املنهج
الثقايف ..يقدم صيغة منهجية متوازية تفيد من النتائج اليت توصلت إليها اجتاهات النقد
اجلديد ،لكنها ال تتجاهل سياق اخلطاب وال الوظائف اإليصالية للرسالة األدبية ،على
أهنا تتناول مضامني اخلطاب ورسالته من خالل القيم الفنية والبنائية واألسلوبية اليت
يستظهر هبا ،باعتبار هذه القيم هي الرسالة ذاهتا"(.)911
( )413رزان إبراهيم :خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة (ر .ج) إشراف الدكتور
سمير قطامي ،الجامعة األردنية ،2111 ،ص .6
( )414عبد هللا الغذامي :النقد الثقافي رؤية جديدة ،فصول ،ع ،51ربيع ،2112ص .41
251
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وعن تلك اجلملة ذات املعىن البالغي ،وعرب هذا التمييز ال تكون (اجلملة الثقافية) مجلة
حنوية ،بل قد تطول حىت لتصبح مقطعاً شعرياً أو سردياً ،وقد تقصر حىت لتكون شبه
مجلة ،ومبا أهنا تكشف النسق املضمر وتعرب عنه فإهنا هلذا ذات داللة نسقية ،ال تداولية
وال بالغية( )916والداللة النسقية داللة "ترتبط يف عالقات متشابكة نشأت مع الزمن
لتكون عنصراً ثقافياً أخذ بالتشكل التدرجيي إىل أن أصبح عنصراً فاعالً ،لكنه وبسبب
نشوئه التدرجيي متكن من التغلغل غري امللحوظ وظل كامناً هناك يف أعماق اخلطابات،
وظل ينتقل ما بني اللغة والذهن البشري فاعالً أفعاله من دون رقيب نقدي النشغال
النقد باجلمايل أوالً ،مث لقدرة العناصر النسقية على الكمون واالختفاء"( )915وحىت نطلق
على أداء ما مسمى النسق البد أن تتوفر فيه الشروط التالية(:)911
أ -البد من وجود نسقني يف نص واحد ،أو ما هو يف حكم النص الواحد.
ب -يكون أحد النسقني نقيضاً لآلخر ومضاداً له ،على أن يظل النسق الناقض
مضمراً خمتبئاً وحيتاج كشفه إىل األخذ مببدأ النظر النقدي.
جـ -يشرتط يف النص احلامل للنسقني أن يكون مما تتوفر فيه مسات النص األديب
اجلمالية اإلبداعية ،من حيث إن مجالية النصوص هي الوسيلة اليت تتوسل فيها
الثقافة لتمرير أنساقها املضمرة.
د -البد أن يكون النص ذا مجاهريية وشيوع ،وهذا سيكون دليالً على متكن النسق
من التغلغل يف مجوع مستهلكي الثقافة.
252
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
والنص الذي تتحدث عنه هذه الشروط هو ذلك احلامل للنسق وال يقرأ هذا
النص لذاته وال جلماليته ،بل نتوسل بالنص لنكشف حيل الثقافة عربه يف مترير أنساقها،
فسؤال النسق هنا هو بديل عن سؤال النص ،أي أن سؤال املضمر بدل من سؤال الدال،
من هنا يفرتق جذرياً النقد الثقايف عن النقد األديب.
وحىت ال تتداخل الداللة النسقية يف مفهومها بالداللة الضمنية ،يلمح عبد اهلل
الغذامي إىل أن األخرية هي من معطيات النص كتكوين داليل إبداعي ،وهي يف وعي
الباحث واملبدع وتدخل ضمن إطار اإلحساس العام للقارئ وختضع لشروط التذوق ،أي
أهنا يف حميط الوعي النصوصي العام ،أما الداللة النسقية فمضمرة وليست يف حميط
الوعي ،ناقضاً منطق النص ذاته ،ودالالته اإلبداعية ،الصريح منها والضمين ،وهذه
املضمرات النسقية تتسرب فينا عرب جيلها"( ،)911من هنا كان لزاماً أن ال ننظر للنص
بوصفه جمتلى أدبياً فحسب بل بوصفه حادثة ثقافية أيضاً.
إن مهمة النقد الثقايف قطعاً هي ليست نقد الثقافة هكذا بإطالق ،أو جمرد
رصدها ودراستها وحتليل ظواهرها ،بل نقد املستهلك الثقايف الذي خيبئ األنساق املضمرة
والناقصة .لقد بات النسق مفهوما مركزياً يف مشروع النقد الثقايف له قيم داللية ومسات
اصطالحية خاصة جنمعها على النحو التايل(:)910
-1يتحدد النسق عرب وظيفته ،وليس عرب وجوده اجملرد ،والوظيفة النسقية ال حتدث
إال يف وضع حمدد ومقيد قائم على التناقض (مر بنا سابقاً).
-1قراءة النصوص تكون من وجهة نظر النقد الثقايف أي أهنا حالة ثقافية.
253
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
النسق من حيث هو داللة مضمرة فإن هذه الداللة ليست مصنوعة من مؤلف، -1
ولكنها منكتبة ومنغرسة يف اخلطاب ،مؤلفتها الثقافية.
النسق ذو طبيعة سردية ،يتحرك يف حبكة متقنة خفي ومضمر وقادر على -9
االختفاء ويستخدم أقنعة كثرية (اجلمالية).
األنساق الثقافية أنساق تارخيية أزلية وراسخة وهلا الغلبة دائماً. -6
هناك نوع من اجلربوت الرمزي ذي طبيعة جمازية كلية /مجاعية ،أي تورية ثقافية -5
تشكل املضمر اجلمعي ويقوم اجلربوت الرمزي بدور احملرك الفاعل يف الذهن
الثقايف لألمة.
حول شرط وجود نسقني متعارضني يف نص واحد ،ال نعين (النص) مبعناه األول، -1
وإمنا املقصود هو (اخلطاب) أي نظام التعبري واالفصاح سواء أكان يف نص مفرد/
طويل أو مركب أو يف جمموع إنتاج مؤلف ما أو يف ظاهرة سلوكية أو اعتبارية.
وفيما يلي حماولة الستظهار بعض األنساق املقرتح وجودها يف الروايات التارخيية
(مادة الدراسة) ،وأقول مقرتحة متهيداً إلثبات نسقيتها املضمرة الناقضة للنسق العام الذي
يسوقها "فكل خطاب خيفي داخله القدرة على أن يقول غري ما قاله ،وأن يغلف عدداً
يسمى بوفرة املدلول بالنسبة للدال الواحد والوحيد عليه ،فإن
كثرياً من املعاين :وهذا ما ّ
اخلطاب امتالء وثراء ال حد هلما"(.)909
254
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
خلّف االستعمار الغريب للشرق وختاذل القائمني عليه انزياحاً ذهنياً ظهرت
معامله على مالمح اهلويتني؛ اهلوية الغربية الغالبة املسجلة بأقالم غربية -استشراقية ،واهلوية
املسوقة بأقالم استشراقية -غربية أيضاً .وهذا االنزياح هو ما ميكن إدراجه العربية املغلوبة ّ
حتت مسمى (اخلطاب االستعماري أو الكولوينايل) ،وقد ظهرت مالمح هذا اخلطاب يف
رواية "أرض السواد" يف أكثر من موقف كلها توحي بسطوة هائلة متتلكها ممثلة الغرب
نصبت املاكنة املخرتعة سيدة على العامل ،وبسبب سلطة آنذاك بريطانيا العظمى اليت ّ
اآللة البخارية خيرتع الرجل األبيض ذاته ويعيد اخرتاع املسافة بني العراق وبريطانيا..
ويرسل بداود باشا وحصانه إىل ما قبل زمن اخرتاع اآللة البخارية"(.)901
يقول عبد الرمحن منيف واصفاً داود باشا الذي يشعر جيداً هبذا الفرق:
"مع تزايد عدد الناس حول داود باشا كان شعوره بالوحدة يزداد،
ورغبته بالنعزال تقوى ،لم يكن هكذا من قبل ،لكنه امتأل بهذا
الشعور منذ أن عاد إلى بغداد وأصبح والي ا ،ومع كل يوم جديد،
ومع كل حدث جديد ،يحس أن الذين حوله يزدادون بالدة ،أو
يصبحون أقل قدرة على فهم ما يريد ..يحس أنهم في عالم آخر،
يكف هؤلء الذين حوله عن التمثيل ،وعن إطالق
كان يتمنى أن ّ
صيحات اإلعجاب ،ولكن دون جدوى"(.)4 2
يف ظل حضارة ال يتوقف صعودها ،وحضارة ال يرتدد اندثارها يبزغ جنم الرجل
األبيض املتسلح بدولته القوية ،داود باشا الذي يعيش يف نسق
( )411فيصل دراج :أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة ،الكرمل ،ع ،2111 ،64ص.17
( )412الرواية.236/1 :
255
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
سلطوي موروث ومفروض عليه ملؤه التداعي واالهنيار والتزعزع وغياب الثقة ،الطبيب
هندي ،الصراف يهودي ،املرتجم آرمين ،اآلغا كردي ..وصراع بني املدينة والبادية ،يف
ظل هذه الظروف يأيت (ريتش) القنصل الربيطاين ممثل احلضارة االستعمارية وأداهتا يف
العراق حامالً مقولة :القوة ،بل متكئاً عليها يتعامل مع البشر والطبيعة والوالة وكأهنم
أشياء تروض فيستقيم أمرها كما هو مطلوب ،يريد أن يعلن حضارته لتكون األفضل بني
احلضارات ونسقه املضارع لنسق التقدم والريادة.
ميهر يف توظيف سياسة االستعراض اليت سوف تسوق حضارته ،اآلخرون
متفرجون وحنن نعرض ما يبهر العقول قبل العيون ،يعلن ريتش بداية العرض يف كل موسم
ويعلن انتهاءه ،و"يكون يف عرضه الزاهي املمتد من القرود والطيور امللونة إىل األفيال
()901
واألسود ،إشارة إىل عرض آخر ،ال يكشف عنه إال يف حلظات العقاب املميت"
ريتش -الرجل األبيض -يستطيع أن يتعامل مع أكثر احليوانات وحشية وغرابة ،فليس
غريباً أن ينجح يف التعامل مع بشر "ال ميلكون حساً بالزمن"( )909إنه عامل آثار وأمهر
الرواة وخبري بالطيور وفارس يطعم السكر للخيول وهو املثقف الباحث عن الكتب قدميها
وحديثها ،يسوق نسقه الغريب املتحضر ليمارس عروضاً خفية ،املال عنواهنا فيغرى باملال
ويضرب باملال ويصنع البغايا باملال.
ويسوقه كالزمة
وحياول (ريتش) يف هذه الرواية أن يظهر نسقه املكشوف ّ
البني
حضارية غربية تشكل نسقاً ظاهراً ،ينقضه بنسق معارض حمتجب ،فعلى الصعيد ّ
يظهر اجنليزياً يتكلم لغات عدة ،العربية والفارسية والرتكية ،أمام
( )413فيصل دراج :أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة ،ص .11
( )414الرواية.314/1 :
256
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الشرقي (داود باشا) الذي ال جيد من معاونيه من يعرف االجنليزية ،يظهر ريتش أمام
املطهمة ومرافقيه ذوي املالبس املوشاة ترافقه اآلالت اجلميع مبوكبه الفخم وعربته ّ
املوسيقية ذات الصوت الفخيم ،متتزج كل هذه اهلاالت بشخصية االجنليزي (ريتش)
" فتظهر حقيقة القنصل الربيطاين املستمدة من احلقيقة الربيطانية اليت هزمت نابليون
وتالميذه اليتامى"(.)906
وهذا النسق الظاهري املكتنز بأدوات القوة واملغلف مبالمح احلضارة والثقافة
خيبئ خلفه نسقاً معارضاً ناقضاً للنسق األول الداعي إىل لفت االنتباه حنو حضارة الرجل
األبيض وعلو شأنه ،فيكون هذا نسقه املعلن أما النسق الضمين فيما يروجه ريتش ،فهي
نظرته إىل الشرق والشرقيني نظرة استشراقية تنتقص حقوقهم وتشوه صورهتم.
"أثناء زياريت األخرية للمملكة املتحدة ،ولبعض الدول األوروبية ،أدركت أن ما
يفصل الشرق عن أوروبا ليس اجلغرافيا أو الزمن بل ونوع العقلية أيضاً!
وكاد ريتش يستطرد ،لكنه فجأة أدرك أن ترجمانه واحد من
()4 6
الشرق ،ول يحسن أن يقول أمامه كل شيء" ..
إذن عقول الغربيني هي العقول اليت حيتذى هبا ،أما عقول الشرقيني فهي منحرفة
عن الصواب ،وهذه مجلة ثقافية تعرب عن نسق وتكشفه.
"فأهل الولية ،كما قال لنفسه ،يشبهون األطفال أيام العيد ،أو
()4 7
في مواجهة أشياء جديدة أو غير متوقعة"
( )415فيصل دراج :أرض السواد وذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة ،ص .11
( )416الرواية.112/1 :
( )417الرواية.251/1 :
257
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
251
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
" يبني ريتش الشرقيين في خطاب استشراقي نموذجي ،يضع العقل أمام
العاطفة ،والعلم أمام اإليمان ،والوضوح مقابل اللتباس ،والمبادرة مقابل
اإلرجاء ،ويضع اإلحساس بالزمن في مواجهة بالدة أصيلة ل تعرف عن
()5 2
معنى الزمن شيئا"
هذا هو النسق العام الذي يسعى اخلطاب االستعماري االستشراقي إىل إحالله
يف أذهان الشرقيني عن شرقهم ،وضمن هذا النسق العام يظهر نسق ناقض هلذا النسق
العام وخيتبئ يف تصرحياهتم اليت يسوقوهنا دون مواربة ،وقد برز التضاد يف غري موقف:
-1هذا الشرق املتخلف ضمن مفاهيمهم االستشراقية اليت يروجوهنا هو يف سرائرهم
عكس ذلك ،وأدل دالئل هذا األمر انبهار االجنليزي ريتش وزوجته ماري بأناقة
حضارة الشرق وبافتقادهم إليها ،فيسعون بشىت الوسائل إىل سرقة آثاره ووضعها
يف بريطانيا لتزداد هبا بريطانيا حسناً على حسن ،حىت وصل األمر بزوجة ماري
إىل االعرتاف بضعفهم أمام حضارة الشرق وسحره واملشهد التايل بني ريتش
وزوجته (ماري) حول حنت عظيم يف قرصباد ميثل جمسماً لثور جمنح عظيم ،حتاول
ماري إقناع زوجها ريتش بأن يوجد طريقة لنقله إىل بريطانيا:
"تطلع إليها ريتش طويالا قبل أن يسأل:
-ولكن ماذا نستطيع أن نفعل يا عزيزتي؟ لو كان صغيرا يمكن حمله،
ولو كانت لدينا وسائل تساعدنا على التعامل معه ،لما ترددت في الموافقة
على نقله إلى بريطانيا فورا ،كي يحمي امبراطوريتنا الراهنة كما حمى
امبراطوريات سابقة ..لكن انظري إلى ضخامته ،إلى وزنه ،إلى ارتفاعه ،فما
عسانا نفعل إزاء وضع مثل هذا؟
ردت ماري بانفعال أقرب إلى التحدي:
( )512فيصل دراج :أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة ،ص .11
251
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-وكيف فعل الذين نحتوا مثل هذا التمثال قبل آلف السنين؟ هل كانوا
أقوى أو أكثر جدارة منا؟ ألم يجلبوا الصخر من أمكنة بعيدة؟ ألم يشعروا
فجر كل عبقريتهم؟ يجب يا كلود أن تفكر بكل هذا لكي
بالتحدي الذي ّ
تحس بالتحدي ،يا عزيزي ،هل يمكن أن تسلم بالهزيمة قبل أن تخوض
()5 3
المعركة؟"
يضم بني ثناياه أكثر من مجلة ثقافية متتلئ باجملاز والتورية
واالقتطاع السابق ّ
الجملة األولى" :كي حيمي امرباطوريتنا الراهنة كما محي امرباطوريات سابقة"،
فاملعىن القريب أن يرفعوا من شأن حضارهتم ومحايتها .ولكن يف احلقيقة إن املعىن
البعيد يصل إىل معىن مناقض للنسق العام الذي يسوقه هؤالء الغربيون ،إذ يُظهر
هذا القول عدم اقتناع االجنليز حبضارهتم ،فريغبون تزويدها بقطع من حضارة
اآلخرين ،فيكتب هلا اخللود ،فضالً عن إمياهنم باخلرافات ،فهم يريدونه حامياً
المرباطوريتهم العظمى ،لشكهم أصالً حبضارهتم احلالية القائمة على ابتكار اآللة
اليت حيكمون هبا العامل.
الجملة الثانية " :وكيف فعل الذين حنتوا مثل هذا التمثال قبل آالف السنني؟ هل
كانوا أقوى أو أكثر جدارة منا؟ أمل جيلبوا الصخر من أمكنة بعيدة؟ أمل يشعروا
بالتحدي الذي فجر كل عبقريتهم؟"
وهذه التساؤالت املتالحقة تشكل ضاغطاً نسقياً يكشف دون شك عن نسق
يعارض اقتناعهم الظاهر بثقافتهم وحضارهتم ،ويظهر تشككهم هبا ،إنه انبهار
حقيقي بعظمة هذه احلضارة اليت حيكموهنا اليوم واعرتاف بصغارهم أمامها،
فماري ال تريد من زوجها الناطق باسم حضارة
261
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
بريطانيا العظمى أن ينحت هلا متثاالً آخر يوازيه مجاالً وهيبة وهباء ،بل طلبت منه
أن يفكر بطريقة ميكن من خالهلا نقل التمثال إىل بريطانيا وليس صنعه جمدداً،
وهذا نسق معارض خيتبئ بني ثنايا النسق العام فينقضه.
-1إن سعي الغرب املستعمر على تسويق منوذجه الذي يبدو متحضراً متطوراً راقياً
يريد أن يغزو الشرق برقيه وأصالته وحضارته املديدة ،يفشل يف التعامل مع املرأة
آت إىل حتريرها وإعادة حقوقها املهضومة ،ومع أن الغريب حاول أن اليت زعم أنه ٍ
يبدو حريصاً يف تعامله مع املرأة إال أن هذا احلرص قد سها عنه يف بعض
األوقات ليكشف عن نظرة متواضعة يكنّها للمرأة الغربية وذلك يف موقفني:
األول :عندما أبدت (ماري) رغبتها يف البقاء عند اآلثار أسابيع أو أشهر تعكف
على التنقيب عنها ودراستها والكتابة عنها ،كشف زوجها االجنليزي ريتش عن
نظرة متثل شاهداً نسقياً يفضي إىل املضمر ،يقول:
" وماذا لو بقيت هنا لعدة شهور ،أتستطيع خاللها أن تؤمن فريق عمل؟"
وهل بإمكانها أن تعمل بمفردها؟ وماذا سيقول اآلخرون :الفرنسيون
واألتراك وأهل المنطقة :زوجة القنصل تحولت من سيدة بالط إلى مجرد
عامل ة يدوية ،وبمستوى أدنى من العمال العاديين؟ وفكرة من هذا النوع،
أل تقابل أو يرد عليها بضحكة ساخرة؟ أل يعتبر مجرد وجود فرد
انجليزي في المكان المناسب والوقت المناسب سبب ا كافي ا لترتيب
حقوق؟ والقسمة إذا جرت أل تعتمد على القوة والنفوذ؟ قال لنفسه
بمرارة" :شرط القسمة األساسي أن يكون المرء موجود ا وقوي ا ،ولذلك
()5 4
فإن فكرة بقاء ماري ليست خاطئة أو مرفوضة"..
261
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
إذن هناك نسقان متعارضان ،نسق حمكوم إىل اخلطاب االستعماري الذي
انتهى إليه االقتطاع ،ونسق معارض خمتبئ ظهرت أطرافه يف بداية االقتطاع ،إنه خيشى
من تقول اآلخرين على زوجته فيما لو عملت يف التنقيب عن اآلثار ،وتناسى أهنا اجنليزية
تسوق النسق االستعماري كما هو قادر على تسويقه، تتوازى معه يف احلقوق وحيق هلا أن ّ
فيتكشف املبدأ الداخلي معارضاً املبدأ اخلارجي الذي ينص على ضرورة "أن يكون املرء
موجوداً وقوياً".
الثاني :عندما يكشف االجنليزي (ريتش) عن نظرة تشكيك يف أهلية (ماري)/
(املرأة الغربية) لتشاركه االقرتاحات واحللول:
262
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
بطريقته اخلاصة لكنه يراوغ فيظهر (النسق املضموين) أو (الداللة املضمونية) رغماً عنه،
ويستخدم املال والنساء واهلدايا لتذليل الصعوبات اليت تواجهه ،ميتلك نظرة مسبقة حنو
الشرقيني تعلمها يف مدرسة االستعمار ،فحكم عليهم قبل أن خيالطهم .أما عن (النسق
املوءود) أو (الداللة املضمرة) فإن للمرأة وضعاً آخر أنه ال يثق بقدراهتا – وهي غربية-
على إدارة أمور اآلثار والتنقيب عليها ،فذكوريته االستعمارية ميارسها على املرأة الغربية
كما مارسها قروناً على الشرق حىت إهنا ال يسمح هلا بأن تبين عالقات مع نساء املنطقة
إال ضمن رؤيته اخلاصة.
263
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
يعول
عندما تتوارى الصور احلقيقية للمرأة خلف صورة اخلطيئة ،فهذا مشهد ال ّ
حتول املرأة إىل
عليه يف استقصاء كينونتها ،بل يفرض علينا طوقاً من املفاهيم الزائفة اليت ّ
مفهوم خاص ضمن خطابات ال حترتم خصوصيتها ،بل تكيفها أين شاءت ،وقد ظهرت
املرأة يف بعض األعمال حديث الدراسة مظهراً قد خيلّف غرابة ويكشف عن نسق مضمر
البد من مناقشته .وفيما يلي استعراض لصور املرأة املتكررة يف الروايات موضوع الدراسة.
"استطاع داود بالحزم والحنكة أن يقضي على هذا التمرد .وما إن
هدأت األمور حتى قامت ثورة من نوع آخر :ثورة نابي خاتون ..إذ
اعتبرت عودة داود تحدي ا لها ،فلقد رفضت ،ومنذ البداية ،أن
تزوجه ابنتها ،فلجأت الى معاملته بخشونة ،أما اآلن وبعد أن قضى
على التمرد ،أصبح الجميع يلهجون باسمه ،فقد أصبح رجالا خطرا.
قالت نابي خاتون لبنها سعيد تؤنبه ،عندما جاء لزيارتها" :كيف
تتخذ داود نائبا لك وأنت تعرف حق المعرفة أنه وأشباهه أعدائي
منذ وقت طويل؟ يجب أن تعزلـه حالا ،وإل فوجهي حرام عليك،
وحليبي غير محلل لك ،فلست أنت ولدي ولست أنا أمك"
()5 6
ولم يجد سعي ٌد بدا من عزل داود"
264
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
وقد تسبب هذا العزل اجلائر بأن يقود داود باشا مترداً على سعيد باشا ينتهي
مبقتل سعيد يف أحضان أمه نايب خاتون ،اليت أساءت كثرياً يف تقدير األمور فكانت
العواقب وخيمة عليها وعلى ابنها الوايل ،وقد وصفها داود باشا يف صفحات الحقة
بأهنا:
()691
"كانت ملكة يف مرحلة ،مث أمرأة معتوهة يف مرحلة أخرى"
265
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
266
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-4المرأة العاجزة
وقد متثلت يف شخصيتني األوىل شخصية امللكة "نيتوقريس" يف رواية "رادوبيس"
وعجزها هو يف افتقارها إىل قرار ينقذ حياهتا وكرامتها اليت ُمست من قبل امللك وغانيته
رادوبيس ،فكانت شخصيتها مهمشة ضعيفة مستكينة:
"وكانت الملكة ضاقت بانزوائها ،وضغطت عليها عواطفها الخفية وواجبها
المبين ،لتخرج من صمتها وسجنها الطويل ..فلم تعد تستطيع صبرا،
واقتنعت نفسها بأن واجبها يدعوها إلى عمل شيء ما ،وإلى بذل محاولة
أخرى ..وتساءلت في حيرتها" :أأذهب حق ا إلى هذه المرأة ،وألفتها الى
واجبها ،وأطلب إليها أن تنقذ الملك من الهاوية التي يندفع إليها..
"وأسلمها تساؤلها هذا إلى حيرة طويلة وارتباك محزن ،هويا بها إلى الهوس
والهذيان ،ولكنها لم ترجع عن فكرتها ،وما كانت تزداد إل تصميم ا ،كانت
كسيل يندفع في منحدر ل يستطيع عنه حول .ولكنه يندفع مضطرب ا مزبد ا
( )51
كاسرا ..فقالت في نهاية المعركة الناشبة" :سأذهب"..
وكان ذهاهبا وباالً عليها كشف عجزها وقلة حيلتها ،وهي امللكة ،ولكنها
كسبت رضا الشعب وحبّه فقتل الشعب امللك جزاء ِعيّه وأراد منها أن تكون احلاكمة.
أما الشخصية العاجزة األخرى ،فهي شخصية حمسنة بنت داود باشا يف رواية
"أرض السواد" والعجز هنا عجز عضوي ،فمنذ أن ولدت وقدماها مشلولتان ال تقويان
على احلركة ،وهذا ما كان حيزن ويكلم فؤاد أبيها:
" -بابا آني منو خلقني؟
-ربنا سبحانه وتعالى خلقك يا بنيتي؟
-وأختي زكية
267
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-ربنا يا بنتي !
مقرمة * وهي تمشي ؟
-وليش خلقني ّ
-راح تمشين ،يا بنتي ،بس اصبري ،كلها كم شهر وتمشين.
-لكن هي أصغر مني وتمشي !
-إنت تمرضت لما كنت صغيرة ،والمرض أثر عليك ،وربنا راح
()511
يخليك تمشين فد يوم"
خاف أن شخصية حمسنة العاجزة شخصية تفرض علينا أن نفكر هبا وغري ٍ
بوصفها رمزاً ،ملثبطات أو عوائق اكتمال السلطة لداود باشا ،فسالمة نصفها العلوي رمز
إىل امتالك داود باشا للعقل والتفكري السليم واإلدارة احلازمة .أما تلف جزئها السفلي،
فهو رمز لقلة اإلمكانيات وضعف احليلة .ومن جهة أخرى قد يكون عجزها رمزاً لغياب
دور فاعل للمرأة يف تلك احلقبة.
شح مناذج املرأة يف الروايات اليت استطلعناها -باستثناء رواية "ثالثية
واحلقيقة أن ّ
غرناطة" لرضوى عاشور ،ميكن أن يقدم نسقاً ذا داللة مضمرة ،فاملرأة تضطلع يف
الروايات املدروسة بدور تكميلي أو إردايف ،وإذا ما أخذت دوراً رئيسياً كانت مثاالً
أخالقياً ساقطاً يف حكم اجملتمع .إذ حتولت املرأة إىل شيء جيلب املتعة والتسلية ليخفف
عن الرجل الذي يضطلع بدور استثنائي قيادي وال جيوز أن يكون رمزاً لشيء بل الرمز
من مهام املرأة تكونه كما نشاء ،فاملرأة يف مطلع "ثالثية غرناطة" رمز لغرناطة اآلذنة
باهنيار ،و "رادوبيس" رمز الحنرافات احلكام ،و "حمسنة" رمز لعجز السلطة ،و"مسية" يف
رواية احلجاج رمز للغاية اليت ال تدرك.
مقعدة. *
261
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
لقد غابت املرأة الفاعلة بشكل واضح عن "رواية السواد" وهي رواية هتتم
باعرتاف كاتبها بأناس القاع واملسحوقني الذين ال صوت هلم ،فأرادت أن تكون صوتاً
هلم ،ومع ذلك فقد مت جتاهل املرأة وغيب دورها الفاعل يف هذه الرواية اليت تشكل حقبة
مهمة يف تاريخ العراق وأسندت املهام احلقيقية للرجل الشرقي الذي يستطيع وحده أن
يعرب عن مرادنا وحيقق طموحاتنا .ولو افرتضنا أن عبد الرمحن منيف قد آذن بذلك
ليعكس لنا واقع غياب املرأة فعلياً عن احلدث آنذاك ،فهل عدم وسيلة توصله إىل مراده
غري وسيلة الغياب( ،)611والواقع أن حضور املرأة يف الرواية بدأ يثري كثرياً من التساؤالت،
فهي واقعة بني منوذج الغياب أو منوذج احلضور بوصفها شيئاً للمتعة والفائدة ،وليست
ذاتاً جيب إظهارها مظهراً حقيقياً يكسر حدة حضور الرجل وطغيانه يف الرواية العربية،
وهذا ما ميكن أن يشكل نسقاً غري مقصود أضمر خالل النسق العام للروايات ،اليت
تعاجل فرتات زمنية متباينة متهيداً للكشف عن مكوناهتا احلقيقية من انتصارات وهزائم.
فيتدخل الوعي الثقايف ليخلد ضمائر املذ ّكر ويثبتها نافرة احلروف على صفحاته.
وبعد ،فإن األنساق املضمرة فيما درسنا واستوضحنا ال تقتصر على هذين
النموذجني ،فهناك أنساق أخرى تستحق االستيضاح والكتابة ،نأمل أن تكون جماالً
خصباً لدراسات الحقة إن شاء اهلل.
261
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
الخاتم ــة
271
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
مرادفات الكالم ،ومل خيرج عن ذلك ،رغم تعدد الدراسات العربية اليت حاولت الربط بني
التوظيف العريب القدمي للفظة واالستخدام احلديث هلا.
* إن اخلطاب ال ينحصر يف اللغة الكالمية فقط ،بل ترافقة إشارات وإمياءات
وتنغيمات تعزز املعىن الذي قصده املرسل ،وقد خيلو اخلطاب من الكالم وحتل حمله
اإلشارات أو الرموز أو اللغات غري البشرية ،كلغة الطيور أو إشارات املرور أو الرسم
واملوسيقى والنحت ،فكلها تبعث برسائل تؤدي مهمة الكالم يف اخلطاب وقد
تتفوق عليه.
* إن مصطلحي النص واخلطاب مصطلحان يتقاربان ويتباعدان يف الوقت نفسه،
فلسانياً يتطابق اخلطاب مع النص ألهنما ينفذان باللسان فيحققان مغزى .أما
ابستمولوجيا فإن اخلطاب أوسع من النص ،كونه منظومة معرفية تتمثل يف مجلة من
النصوص وامللفوظات واإلجراءات اليت يستدخلها األفراد ،فتسهم يف تشكيل وعيهم
وصورة العامل ،ومن مث متارس عليهم إكراهات سلطوية .أما سردياً وحسب سعيد
يقطني ،فإن النص مفهوم أوسع من اخلطاب ،ألن اخلطاب لديه هو طريقة يف أداء
الفكرة اليت تشكل جزءاً من النص ،أما النص ،فهو الذي يشمل الطريقة واملعىن.
* تعد فكرة مستويات اخلطاب من النماذج الفاعلة يف عملية حتليله ،إذ ينطلق من
اسرتاتيجية تنظيمية تكفل للدرس أن يستبصر اخلطاب ضمن اجتاهني؛ األول :أفقي
مسحي يهتم باملساحة الظاهرة أي بسطح اخلطاب .الثاين :رأسي تعمقي يبحث يف
جيولوجيا اخلطاب وطبقاته املتالحقة وصوالً إىل مغزى اخلطاب ومالحمه النسقية
وأبعاده املعرفية.
* ال تتشابه مجيع اخلطاب يف فكرة التحليل ،فلكل خطاب خصوصيته يف التحليل،
لكننا ميكن أن نطبق فكرة املستويات عليها دون حتفظ ،أما االختالف فيكون يف
مراتب اخلطاب أو طبقاته أو مستوياته ،فما قد ميس لوناً روائياً معيناً ليس بالضرورة
أن ميس اللون اآلخر ،وهكذا ،فعلى سبيل
271
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
امل ثال يف حتديدنا ملستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية اعتمدنا املستوى التارخيي مبثابة
عالمة مائزة للرواية التارخيية يصعب توفرها يف لون آخر من الروايات ،ولكن قد
تتوفر يف املسرحيات التارخيية مثالً وعندها فإن املستوى األول (الرتكييب السردي) هو
الذي سيختلف.
* إن "الرواية التارخيية" وصف سردي للون معني من الروايات اليت توظف التاريخ
بشكل ظاهر ،وقد أثار هذا اللون الكثري من التضاربات يف التعريف ،ولكن الدراسة
حتددها بأهنا :خطاب أديب ينشغل على خطاب تارخيي مثبت سابق عليه انشغاالً
أفقياً ،حياول إعادة إنتاجه روائياً ،ضمن معطيات آنية ،ال تتعارض مع املعطيات
األساسية للخطاب التارخيي ،وانشغاالً رأسياً عندما حياول إمتام املشهد التارخيي من
وجهة نظر املؤلف إمتاماً تفسريياً أو تعليلياً أو تصحيحياً ،لغايات إسقاطية أو
استذكارية أو استشرافية.
املخول أوالً بالكشف عن
* إن املستوى الرتكييب السردي للنصوص الروائية بعامة هو ّ
مجاليات النص ،ومتيّزه على نص آخر مياثله .فاملنهج البنيوي للسرديات قادر على
اكتشاف آليات عمل اخلطاب ضمن مستواه األول ،وميتلك التفويض باحلكم على
قدرة اخلطاب املوظف على استغالل إمكانية السرد الروائي وتسخريها خلدمة النص
ال أن تكون عالة عليه.
* إن متازج التارخيي بالروائي يعد من املعضالت اليت تواجه كاتب الرواية ،حيث إن
الروائي يعتمد على سعة أفق الكاتب وخياله .أما التارخيي فمدون ال جمال للتحكم
يف مفرداته إال على مستوى اإلخراج ،من هنا سلك الروائيون غري طريقة لتحقيق
املزج ،كأن يسرد الروائي جمموعة من األخبار التارخيية الصرفة يف بداية الرواية تكون
مبثابة هتيئة جو تارخيي لألحداث اليت ستنقاد على أثره .أو كأن يعكس الراوي
أحداث التاريخ على تصرفات الشخصيات فيفهم احلدث التارخيي ،أو كأن يروى
احلدث
272
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
التارخيي أكثر من مرة على لسان الشخصيات ليعرض الواحد منهم كل حدث ضمن
فهمه اخلاص ،فيتفادى بذلك الروائي صرامة التاريخ ويليب متطلبات الصدقني الفين
والتارخيي.
* تنقسم الرواية التارخيية يف أدائها إىل مراحل تعكس كل مرحلة تطور الوسائل
املستجدة يف خدمة اخلطاب الروائي يف الرواية التارخيية ،إذ اعتمدت الرواية على
جمموعة من الروايات املتباعدة يف زمن صدورها بدءا من 1091وحىت 1000
لتغطي الدراسة مساحة واسعة من االجنازات على صعيد الرواية التارخيية.
* متيزت رواييت "أرض السواد" 1000و "ثالثية غرناطة" ،1009بقدرهتما على
توظيف التقنيات الروائية بشكل الفت ،فرغم صرامة الشكل الزمين املتسلسل
لألحداث التارخيية ،ومن مث صرامة مماثلة ترافقها يف الرواية التارخيية ،إال أهنما
استطاعتا أن توظفا طريقتني سرديتني خمتلفتني ،متثلت األوىل بتقنية املشاهد الروائية
املتفاضلة زمنياً كما يف ثالثية غرناطة ،والتقنية الثانية هي "التداعيات احلكائية" كما
هي يف "أرض السواد" .ولعل التداعيات تقنية ال تعتمد منهجية منظمة يف سرد
األحداث كما "املشاهد" بل إن األحداث تفضي إىل أحداث قريبة منها مكاناً أو
زماناً.
املوجه أصالً من قبل النقد الثقايف ،مستوى معرفياً متقدماً يف
* يعد املستوى النسقي َّ
توسيع دائرة البحث يف اخلطاب عن طريق إدراجه ضمن سياقات متاثله ،لكنه
يندرج ضمنها ،لكشف األنساق الثقافية غري املعلنة واليت تسري بالضد من النسق
املعلن ،وهذا املستوى من البحث قد ميثل رديفاً فاعالً ينضم إىل املستويات األخرى
للتعامل النصوص واستيعاهبا.
وأخرياً ،فإن الدراسة ال تقتصر نتائجها على ما ذكرت بل يتواصل احلديث جمدداً بتوسيع
كل فكرة ضمن نطاقها العام الذي أفرزها.
273
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
المراج ـ ــع
أ -المصادر
-زيدان ،جرجي .)1001( ،احلجاج بن يوسف (رواية) ،بريوت ،دار صادر( ،ط.)1
-عاشور ،رضوى .)1001( ،ثالثية غرناطة (رواية) ،بريوت ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر( ،ط.)1
-حمفوظ ،جنيب .)1011( ،رادوبيس (رواية) ،القاهرة ،دار مصر للطباعة( ،ط.)19
-منيف ،عبد الرمحن .)1000( ،أرض السواد ( 1أجزاء -رواية) ،بريوت ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر ،املركز
الثقايف العريب (ط.)1
274
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
275
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
فضل ،صالح .)1001( ،بالغة اخلطاب وعلم النص ،الكويت ،سلسلة عامل املعرفة (.)159 -
فضل ،صالح .)1001( ،شفرات النص ،القاهرة ،دار الفكر( ،ط.)1 -
الفريوزبادي ،قاموس احمليط. -
القاسم ،بنيه( ،د.ت) الرواية التارخيية عند جنيب حمفوظ ،القاهرة ،دار الشروق(،ط.)1 -
قاسم ،سيزا .)1019( ،بناء الرواية :دراسة مقارنة لثالثية جنيب حمفوظ ،القاهرة ،اهليئة املصرية العامة للكتاب. -
القرطاجين ،حازم ( .)1011منهاج البلغاء وسراج األدباء ،تقدمي وحتقيق حممد احلبيب ابن اخلوجة ،بريوت ،دار -
الغرب اإلسالمي.
حلمداين ،محيد .)1001( ،بنية النص السردي ،بريوت ،املركز الثقايف العريب( ،ط.)1 -
مرتاض ،عبد امللك .)1001( ،يف نظرية الرواية ،الكويت ،سلسلة عامل املعرفة (.)199 -
املرجتى ،أنور ،سيميائية النص األديب ،الدار البيضاء ،افريقيا الشرق( ،ط.)1 -
املسدي ،عبد السالم .)1011( ،األسلوبية واألسلوب ،تونس ،الدار العربية للكتاب (ط.)1 -
مصلوح ،سعد .)1019( ،األسلوب ،الكويت ،دار البحوث العلمية. -
مفتاح ،حممد .)1016( ،حتليل اخلطاب الشعري– اسرتاتيجية التناص ،بريوت ،دار التنوير (ط.)1 -
مفتاح ،حممد .)1000( ،املفاهيم معامل -حنو تأويل واقعي ،بريوت ،املركز الثقايف العريب( ،ط.)1 -
منيف ،عبد الرمحن .)1991( ،رحلة ضوء ،بريوت ،املؤسسة العربية للدراسات والنشر (ط.)1 -
ناصف ،مصطفى .)1006( ،اللغة والتفسري والتواصل ،الكويت ،سلسلة عامل املعرفة.)101( ، -
جنم ،حممد يوسف .)1055( ،القصة يف األدب العريب احلديث ،بريوت. -
نوار ،عبد العزيز( ،د.ت) .داود باشا وايل بغداد ،اجلمهورية العربية املتحدة ،دار الكتاب العريب. -
هالل ،حممد غنيمي( ،د.ت) .األدب املقارن ،بريوت ،دار العودة (ط.)6 -
يقطني ،سعيد .)1016( ،القراءة والتجريب ،الدار البيضاء ،دار الثقافة( ،ط.)1 -
يقطني ،سعيد .)1010( ،انفتاح النص الروائي ،بريوت ،املركز الثقايف العريب(،ط.)1 -
يقطني ،سعيد .)1001( ،الرواية والرتاث السردي ،بريوت ،املركز الثقايف العريب. -
يقطني ،سعيد .)1001( ،حتليل اخلطاب الروائي (الزمن -السرد -التبئري) ،بريوت ،املركز الثقايف العريب( ،ط.)1 -
276
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
بروب ،فالدميري ( .)1011مورفولوجيا اخلرافة ،تر :ابراهيم اخلطيب ،الشركة املغربية للناشرين املتحدين ،الدار -
البيضاء.1015 ،
بوتور ،ميشال .)1015( ،حبوث يف الرواية اجلديدة ،تر :فريد أنطونيوس ،بريوت ،منشورات عويدات (ط.)1 -
بوجراند ،روبرت دي .)1011( ،النص واخلطاب واإلجراء ،تر :متام حسان ،القاهرة ،عامل الكتب( ،ط.)1 -
تودوروف ،تزفيتان ،الشعرية ،ترمجة شكري املبخوت ورجاء بن سالمة ،الدار البيضاء ،توبقال. -
توماس ،هنري( ،د.ت) أعالم الفن القصصي ،تر :عثمان مويه ،القاهرة ،املؤسسة العربية املصرية للتأليف والنشر. -
جنيت ،جريار .)1001( ،خطاب احلكاية حبث يف املنهج ،تر :حممد املعتصم ،القاهرة ،اجمللس األعلى للثقافة -
والفنون (ط.)1
جنيت ،جريار ( )1999عودة إىل خطاب احلكاية ،تر :حممد معتصم ،بريوت ،املركز الثقايف العريب(ط.)1 -
شرودر ،موريس وهولربت ،جون وهنري ،جورج ( .)1015نظرية الرواية ،عالقة التعبري بالواقع ،تر :حممد جاسم -
املوسوي ،بغداد ،مكتبة التحرير.
الشكالنيون الروس ( .)1011نظرية املنهج الشكلي ،تر :ابراهيم اخلطيب ،بريوت ،مؤسسة األحباث العربية، -
(ط.)1
ريكاردو ،جان ( .)1001قضايا الرواية احلديثة ،تر :صياح اجلهيم ،دمشق ،وزارة الثقافة واإلرشاد القومي. -
فوتو ،برنار دي .)1050( ،عامل القصة ،القاهرة ،عامل الكتب. -
فورسرت ،أ .)1009( ،أركان الرواية ،تر :موسى عاصي ،طرابلس ،جروس برس( ،ط.)1 -
فوكو ،ميشال ،نظام اخلطاب ،تر :حممد سبيال ،بريوت ،دار التنوير( ،ط.)1 -
فوكو ،ميشال .)1011( ،حفريات املعرفة ،تر :سامل يغوت ،املركز الثقايف العريب ،بريوت. -
كريستيفا ،جوليا .)1001( ،علم النص ،تر :فريد الزاهي ،الدار البيضاء ،توبقال. -
لوبوك ،بريسي .)1011( ،صنعة الرواية ،تر :عبد الستار جواد ،بغداد ،دار الرشيد( ،ط.)1 -
لوكاش ،جورج .)1011( ،الرواية التارخيية ،تر :صاحل جواد كاظم ،بريوت ،دار الطلعية. -
مندالو ،أ .)1001( ،الزمن والرواية ،تر :بكر عباس ،بريوت ،دار صادر( ،ط.)1 -
موير ،أودين( ،د.ت) .بناء الرواية ،الدار املصرية للتأليف والطباعة. -
277
) األردن، اربد، عالم الكتب الحديث، 6002 نضال الشمالي. الرواية والتاريخ (د: كتاب
: المراجع األجنبية-د
Austin, John, (1961). How to do things with words. -
- Benvenist, Emile (1971). Problems in General linguistiecs, University of
Miami Press, Florida (1st ed.).
- Bussmann, Hadumod, (1996). Dectionary of language and Lingusitics,
Trans. By Gregory P. Trauth and Kevstin Kassazi, London.
- Childers, J. and G. Hentzi (1995). Columbia Dictionary of Modern
Literary and Cultural Criticism, Columbia University Press, NewYork.
- Crystal and Devtsch A., A first dictionary of linguistics and phonetics.
- Docort, Todorov, (1979). Encyclopedia of Scinces of language,
London.
- Hartman, Stock, (1970). Dictionary of language and linguistics, London.
- Hatch, Evelyn (2000). Discourse and language Education, Cambridge (5
Published).
- Howrthon J. (1992). A concise Glossary of Contemporary Literary
Theory, London.
- Ibrahim, Hanan (1999). Tales of tow Houses (PH. D Thesis) University
of Kent.
- Macdonell, Dian, (1986). Theories of Discourse, Oxford: Basil Black
well Ltd.
Mills, Sara (1999). Discourse, London- NewYork, Routledge. -
- Oxford Advanced Learner’s Dictionary of Current English, by hornby,
1984, P. 245.
- Rchards, Jack, (1985). Longman Dictionary of Applied Linguistics.
- Searle, John (1968). Speech Acts.
- Sebeok, (1986). Encyclopedia Dictionary of Semioties, NewYork.
- Waston, Jaines, (1981). A dictionary of Communication and Media
studies edition, New Delhi.
- Webster’s Third New International Dictionary: Vol. 1 (A to G) 1971:
USA: Encyclopedia Britanica, Inc.
الدوريات-هـ
271
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
ابرير ،بشري .)1001( ،النص األديب وتعدد القراءات ،جملة نزوىُ ،عمان( ،ع.)11 -
أبو أهيف ،عبد اهلل .)1991( ،رؤى التاريخ يف الرواية العربية ،جملة املوقف األديب ،دمشق ،ع (.)119 -
أدونيس .)1011( ،يف الشعرية ،جملة الكرمل ،ع (.)1 -
ايغلتون ،تريي .)1991( ،مفهوم التاريخ يف الفكر ما بعد احلداثي ،تر :ثائر ديب ،جملة الكرمل ،ع (.)51 -
ايغلتون ،تريي .)1991( ،الثقافة يف طبعاهتا املختلفة ،تر :ثائر ديب ،جملة الكرمل ،ع (.)11-19 -
بارت ،روالن .)1011( ،نظرية النص :تر :منجي الشملي ،عبد اهلل صولة ،حممد القاضي ،حوليات اجلامعة -
التونسية ،ع (.)11
باروت ،حممد مجال والكيالين ،مشس الدين ( .)1991التاريخ والسرد :جتليات القدس يف تاريخ مقدس ،جملة -
الكرمل ،ع (.)16-19
بلوحي ،حممد .)1991( ،سيميائية اخلطاب السردي ،جملة كتابات معاصرة ،ع(.)91 -
تودوروف ،تزفتيان .)1011( ،اإلنشائية اهليكلية ،تر :مصطفى التواين ،جملة الثقافة األجنبية (ع.)1 -
جارييت ،ميشال .)1991( ،املذاهب الشكالنية ،كتابات معاصرة ،متوز ،ع(.)91 -
جريان ،عبد الرمحن .)1011( ،مستويات البناء يف "جنمة أغسطس" ،جملة فصول ،القاهرة ،م ،1ع(.)1-1 -
احلجمري ،عبد الفتاح ( .)1001هل لدينا رواية تارخيية؟ جملة فصول ،القاهرة ،م( ،)15ع (.)19 -
حداد ،نبيل .)1001( ،شجرة الفهود السميحة خريس ،صورة اجملتمع األردين االنتقايل يف نصف قرن ،أحباث -
الريموك ،سلسلة اآلداب واللغويات ،م( ،)16ع(.)1
دراج ،فيصل .)1999( ،مقابلة مع عبد الرمحن منيف "التاريخ ذاكرة إضافية لإلنسان" ،جملة الكرمل ،ع (.)51 -
دراج ،فيصل .)1999( ،أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة ،جملة الكرمل ،ع(.)59 -
دراج ،فيصل .)1991( ،التاريخ وصعود الرواية ،جملة الكرمل ،ع (.)11-19 -
رميا ،بيري .)1010( ،حنو سوسيولوجية النص األديب ،جملة العرب والفكر العاملي ،ع(.)6 -
الشمايل ،نضال .)1999( ،القرمية لسميحة خريس :احلوار يف أهبى حلله ،صحيفة العرب اليوم ،األردن. -
الشنطي ،حممد .)1999( ،الغذامي من النقد األلسين إىل النقد الثقايف ،صحيفة اجلزيرة ،الرياض ،ع (.)1991 -
عبدة ،قاسم .)1001( ،الرواية التارخيية عند حممد فريد أبو حديد ،جملة أدب ونقد ،القاهرة ،ع (.)199 -
الغذامي ،عبد اهلل ( .)1991النقد الثقايف رؤية جديدة ،جملة فصول ،القاهرة ،ع(.)60 -
فتحي ،ابراهيم ( ،)1991تطور أدوات الصياغة الروائية ،جملة فصول ،القاهرة ،ع(.)51 -
فرج ،مرمي مجعة .)1999( ،قراءة يف الرواية التارخيية املعاصرة ،صحيفة البيان ،األمارات ،بيان الثقافة ،ع(،)95 -
.1999/11/15
القاضي ،حممد .)1001( ،الرواية والتاريخ :طريقتان يف كتابة التاريخ روائياً ،ج ،11م(.)1 -
قريرة ،توفيق ( .)1991التعامل بني بنية اخلطاب وبنية النص يف النص األديب ،جملة عامل الفكر ،ع( ،)1جملد -
( ،)11ديسمرب.
لفتة ،حممد جنيب .)1001( ،ولرتسكوت والرواية التارخيية ،اجمللة الثقافية ،اجلامعة األردنية ،ع ( )99آذار. -
مانقينو ،دومينك ( .)1011مقدمة إىل حتليل احلديث ،تر :قاسم املقداد ،جملة املعرفة ،دمشق ،ع (.)111 -
املقداد ،قاسم ( .)1015يف حتليل احلديث واحلديث السياسي ،جملة املعرفة ،دمشق ،ع(.)101 -
271
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-الوعر ،مازن .)1005( ،علم حتليل اخلطاب وموقع اجلنس األديب ،جملة آفاق الرتاث واحلداثة ،االمارات ،ع
(.)19
-الوعر ،مازن .)1991( ،تقنيات اخلطاب املقنع واخلطاب العادي ،جملة املوقف األديب ،دمشق ،متوز ،ع
(.)116
-يقطني ،سعيد .)1991( ،من النص إىل النص املرتابط ،جملة عامل الفكر ،الكويت ،ع( ،)1جملد( ،)11ديسمرب.
ز -المؤتمرات
-اجلميل ،سيار .)1000( ،الرواية التارخيية ،ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ ،األردن ،جامعة آل البيت ،جملة البيان،
م( ،)1ع(.)1
-حنفي ،حسن .)1001( ،حتليل اخلطاب ،املؤمتر العلمي الثالث (حتليل اخلطاب العريب) جامعة فيالدلفيا ،األردن.
-السد ،نور الدين .)1001( ،مفارقة اخلطاب األديب للمرجع ،املؤمتر العلمي الثالث (حتليل اخلطاب) ،جامعة
فيالدلفيا ،األردن.
-الشمايل ،نضال .)1991( ،تقنية الوصف يف الرواية األدنية( ،مؤمتر) (ملتقى الرواية يف األردن) ،جامعة آل
البيت ،األردن ،الرواية يف األردن ،حترير (شكري املاضي) و(هند أبو الشعر) ،منشورات جامعة آل البيت.
-غرايبة ،هاشم .)1000( ،عن التاريخ والرواية ،ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ ،األردن ،جامعة آل البيت ،جملة
البيان ،م ( ،)1ع (.)1
-املاضي ،شكري .)1000( ،الرواية والتاريخ وفن الرواية العربية ،ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ ،األردن ،جامعة
آل البيت ،جملة البيان ،م( ،)1ع(.)1
-وقائع مؤمتر العامية يف الرواية ( .)1069جملة األديب ،ج( ،)19سنة (.)1
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
-ياغي ،عبد الرمحن .)1000( ،الدخول الروائي يف عباءة التاريخ ،ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ ،جامعة آل
البيت ،األردن ،جملة البيان ،م( ،)1ع(.)1
211
كتاب :الرواية والتاريخ (د .نضال الشمالي ، 6002عالم الكتب الحديث ،اربد ،األردن)
212