Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 286

‫الدكتور نـضــال الـشـمـالــي‬

‫الرواية والتاريخ‬
‫بحث في مستويات الخطاب في الرواية التاريخية العربية‬

‫عالم الكتب الحديث‬


‫إربد‪ -‬األردن‬ ‫طبع بدعم من وزارة الثقافة‬
‫‪6002‬‬
‫الدكتور نـضــال الـشـمـالــي‬

‫الرواية والتاريخ‬
‫بحث في مستويات الخطاب في الرواية التاريخية العربية‬

‫عالم الكتب الحديث‬


‫إربد‪ -‬األردن‬
‫‪6002‬‬
‫فهرس المحتويات‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪1‬‬ ‫المقدمة‬

‫‪5‬‬ ‫الباب األول‪ :‬المنطلق النظري‬


‫‪7‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬مفاهيم الخطاب‪ :‬رؤية استقصائية‬
‫‪9‬‬ ‫أولا‪ :‬في األصول العربية‬
‫‪17‬‬ ‫ثانيا ا‪ :‬في الدرس اللساني واألنظمة المجاورة‬
‫‪99‬‬ ‫ثالثا ا‪ :‬في الثقافة الغربية وفلسفتها‬
‫‪77‬‬ ‫رابعا ا‪ :‬الخطاب في الثقافة العربية المعاصرة‬
‫‪55‬‬ ‫خامسا ا‪ :‬الخطاب والنص‬
‫‪57‬‬ ‫سادسا ا‪ :‬مقاربة عامة‬

‫‪59‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬مستويات الخطاب‬


‫‪06‬‬ ‫أولا‪ :‬فكرة المستويات (المحفّز)‬
‫‪71‬‬ ‫ثانيا ا‪ :‬النظريات السابقة‬
‫‪91‬‬ ‫ثالثا ا‪ :‬مستويات الخطاب‪ -‬مقاربة عامة‬

‫‪167‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬الرواية التاريخية‪( -‬المساحة والحد)‬


‫‪111‬‬ ‫أولا‪ :‬مفهوم الرواية التاريخية‬
‫‪111‬‬ ‫ثانيا ا‪ :‬نشأة الرواية التاريخية‬
‫‪195‬‬ ‫ثالثا ا‪ :‬الموازنة بين التاريخي والروائي‬
‫‪177‬‬ ‫رابعا ا‪ :‬لماذا العودة إلى الماضي؟‬
‫‪179‬‬ ‫خامسا ا‪ :‬الروايات التاريخية (نموذج الدراسة)‬
‫الصفحة‬ ‫الموضوع‬
‫‪157‬‬ ‫الباب الثاني‪ :‬الجانب التطبيقي‬
‫‪159‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬المستوى التركيبي‬
‫‪151‬‬ ‫‪ -‬المبحث األول‪ :‬الزمن‬
‫‪191‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثاني‪ :‬الصيغة‬
‫‪199‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثالث‪ :‬زاوية الرؤية‬
‫‪969‬‬ ‫الفصل الثاني‪ :‬المستوى التاريخي‬
‫‪911‬‬ ‫‪ -‬المبحث األول‪ :‬الموازنة بين الروائي والتاريخي‬
‫‪990‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثاني‪ :‬التعامل مع الشخصية التاريخية‬
‫‪970‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثالث‪ :‬مسوغات اللجوء إلى التاريخ‬
‫‪957‬‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬المستوى النسقي (الموءود)‬
‫‪957‬‬ ‫‪ -‬تمهيد‬
‫‪955‬‬ ‫‪ -‬النسق األول‪ :‬أسطورة الرجل األبيض‬
‫‪905‬‬ ‫‪ -‬النسق الثاني‪ :‬تشييء المرأة وتهميشها‬
‫‪976‬‬ ‫الخاتمة‬
‫‪975‬‬ ‫المراجع‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫املـقــدمـ ــة‬

‫جل اهتمامهم ويشغل‬ ‫مازال اخلطاب (‪ )Discourse‬يستلهم قرحية الن ّقاد‪ ،‬فيستميل ّ‬
‫عظيم تفكريهم‪ .‬وهذا الكتاب من الدراسات اليت تشتغل على اخلطاب وتنشغل فيه‪ ،‬فتستطلعه‬
‫وتبحث فيه ضمن سياقاته اليت يتكاثر فيها‪.‬‬
‫واخلطاب "‪ "Discourse‬مسمى قدمي استعري الصطالح حديث‪ ،‬اكتسب دالالت‬
‫عديدة تتناسب مع احلقل الثقايف الذي ينشأ فيه‪ ،‬ومع أ ّن لفظة خطاب لفظة متأصلة يف ثقافتنا‬
‫العربية إال أهنا ال حتيط آنذاك ‪-‬حبكم معجميتها‪ -‬بالظروف االستثنائية إلطالق "مسمى‬
‫اخلطاب" جتسيداً لكثري من املعاين القارة يف الذهن‪ ،‬فاكتسبت اللفظة عاملها اخلاص الذي يستحق‬
‫أن يستلهم ويستميل‪.‬‬
‫وبدءاً يستثري عنوان الدراسة "مستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية العربية" ثالثة‬
‫مصطلحات تستلزم ثالث وقفات مستقصية‪ :‬اخلطاب ‪ ، Discourse‬مستويات اخلطاب‬
‫‪ ،Levels of Discourse‬الرواية التارخيية ‪ .Historical Novel‬وقد استغرقت كل‬
‫وقفة من هذه الوقفات فصال الستجالء املصطلح وبيان حيثياته من منطلق نظري‪ ،‬متهيداً للوصول‬
‫إىل املنتهى التطبيقي‪ .‬فهذا كتاب يف حتليل اخلطاب ‪ ،Discourse Analysis‬يقوم على‬
‫فكرة أن للخطاب مستويات ‪ levels‬أو طبقات ‪ Layers‬ميكن استقطاهبا من خالل التحليل‪،‬‬
‫وهذه املستويات‪ -‬يف ظن الدراسة‪ -‬هي اليت ميكن أن تقود إىل سيطرة أفضل على حمدثات‬
‫اخلطاب وجمرياته وسينه وجيمه‪.‬‬
‫وينبين فعل الدراسة‪ -‬بناء على ما سبق‪ -‬يف بابني اثنني‪ ،‬حوى كل باب منهما ثالثة‬
‫فصول متآزرة‪ ،‬تنهض بفكرة مستويات اخلطاب "‪ "Levels of Discourse‬يف حماولة‬
‫لتأطريها مث تطبيقها؛ لذا انشغل الباب األول "املنطق النظري" يف استدراك املصطلحات الثالثة اليت‬
‫أحدثها عنوان الكتاب‪ :‬اخلطاب‪ ،‬مستويات اخلطاب‪ ،‬الرواية التارخيية‪ .‬إذ عوجل كل مصطلح ضمن‬
‫فصل ٍ‬
‫خاص به‪ ،‬وعلى النحو التايل‪:‬‬
‫الفصل األول‪ :‬مفاهيم الخطاب‪ -‬رؤية استقصائية‪ ،‬حيث ينشغل هذه الفصل‬
‫بتحديد وفرز واستقصاء مفاهيم اخلطاب املتكاثفة يف ساحات العلوم اإلنسانية واليت أخذت‬

‫‪1‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يسخر جل اهتمام الدراسة‪ -‬هنا‪ -‬يف استيضاح مفهوم اخلطاب ضمن‬ ‫أكثر من لون وهيئة؛ إذ ّ‬
‫البيئة املنشِّئة له‪ .‬فكانت البداية مع األصول العربية ونظرهتا للفظة اخلطاب من ناحية معجميّة‪،‬‬
‫وتوظيفية وكيف تساوت لفظة اخلطاب مع لفظة الكالم واآلثار املرتتبة على ذلك يف االستخدام‪،‬‬
‫وكيف وظّف النص القرآين هذه اللفظة‪.‬‬
‫منحى اصطالحياً أم ال‪ .‬مث‬
‫وما إذا كان استخدام اللفظة لدى العلماء والكتّاب قد أخذ ً‬
‫تتبعت الدراسة تعامل الدرس اللساين واألنظمة اجملاورة مع اخلطاب بوصفه مصطلحاً حمدد املعامل‬
‫بدءا من "دي سوسري" مروراً بـ "هاريس" وصوالً إىل "بنفنست" مث استعراض تعريفات اخلطاب يف‬
‫بعض املفاهيم األلسنية الغربية‪ ،‬بعد ذلك رصدت الدراسة تعامل الثقافة الغربية وفلسفاهتا مع‬
‫اخلطاب‪ ،‬متنالة بشيء من التفصيل مشروع الفرنسي (ميشال فوكو) الذي تعامل مع اخلطاب‬
‫بوصفه عملية إنتاج ذهين‪ ،‬وهو منظومة تتضمن جمموعة العبارات اليت أنتجت يف فرتة حمددة زمنياً‪،‬‬
‫فاخلطاب الذي يتم إنتاجه يف مرحلة ما البد أن يكون حامالً خلاصيات جتعله خيتلف عن باقي‬
‫الفرتات الزمنية اليت أنتجت فيها خطابات مغايرة هلا نظامها تفكريها وطبيعة تفكريها وحتليلها‪ .‬بعد‬
‫ذلك انتقلت الدراسة للحديث عن أثر كل ما سبق يف الثقافة العربية املعاصرة‪ ،‬فاستجلت تعامل‬
‫كبار الن ّقاد واللغويني العرب مع مصطلح اخلطاب وكيف أهنم مل خيرجوا يف نظرهتم للخطاب عن‬
‫أحد اإلطارين أكان ألسنياً بنيوياً أم ثقافياً فلسفياً‪ .‬وال تغفل الدراسة قبل أن تنهي هذا الفصل أن‬
‫تفرق بني مصطلحي النص واخلطاب مشرية إىل نقاط التداخل والتخارج‪.‬‬
‫ويف الفصل الثاني‪ :‬مستويات الخطاب تظهر فكرة الدراسة مبجملها‪ ،‬إذ تعتنق‬
‫الدراسة سلوكاً مغايراً يف حماولة لتحليل اخلطاب من خالل مستويات مرتاتبة تقودنا إىل حتليل‬
‫للخطاب‪ ،‬فللخطاب ثالثة مستويات‪ -‬يف نظر الدراسة‪ -‬هي ِّ‬
‫املشكلة للخطاب أفقياً ورأسياً‪،‬‬
‫فكان املستوى الرتكييب الذي يستثمر اجلهود السردية يف حتليل النص الروائي‪ ،‬وخاصة جهود العامل‬
‫قسم هذا املستوى إىل مستويات أصغر منه تشكله‪ ،‬وهي الزمن‬ ‫الفرنسي جريار جنيت الذي ّ‬
‫اجلادة " حتليل اخلطاب‬
‫والصيغة وزاوية الرواية‪ .‬وهي املستويات اليت طبقها سعيد يقطني يف دراسته ّ‬
‫الروائي"‪ ،‬واليت يرى أن هذه العناصر الثالثة هي املش ّكلة للخطاب‪ ،‬إذ اخلطاب لديه هو الطريقة‬
‫اليت تنفذ هبا الرواية‪ .‬أما املستوى الثاين‪ :‬املستوى التارخيي فيختص بالعالقة الوثيقة بينها‪،‬‬
‫واملستوى الثالث‪ :‬املستوى النسقي‪ ،‬ضمن املنظور‬

‫‪2‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫موسع حملاوالت بعض الباحثني‬ ‫الثقايف‪ .‬وقد استقرت الدراسة على هذه املستويات بعد استعراض َّ‬
‫والنقاد يف حتليل اخلطاب وتوزيعه إىل عناصر أو مستويات‪.‬‬
‫أما الفصل الثالث‪ :‬الرواية التاريخية‪ -‬المساحة والحد فنخصصه للحديث عن هذا‬
‫اللون الزاهي من الروايات العربية‪ ،‬والذي يعيش أزمة حتديد املصطلح وأبعاده‪ ،‬فاالختالف على‬
‫حتديد مفهوم واحد للرواية التارخيية واضح من خالل التعريفات شديدة التباين يف بعض األحيان‪.‬‬
‫فسعت الدراسة إىل حماولة تقريب وجهات النظر بوضع تعريف حيدد الرواية التارخيية ومساحتها اليت‬
‫تتحرك عليها تقريبياً‪.‬‬
‫تبحث الدراسة بعد ذلك اخلطر مسرعة حنو املنتهى التطبيقي يف الباب الثاين‪ :‬الذي‬
‫جيسد فكرة مستويات اخلطاب‪ ،‬فتحاول ان تطبق املستويات اليت ارتضتها يف الفصل الثاين من‬
‫الباب األول‪ .‬وقد اعتمدت الرواية لغايات التطبيق أربع روايات تفرتض أهنا تارخيية‪ ،‬حرصت‬
‫الدراسة أن تكون متباينة يف زمن اإلصدار والتأليف واملوضوع الذي تطرحه‪ ،‬فوقع االختيار على‬
‫رواية "احلجاج بن يوسف" جلرجي زيدان (‪ )1091‬وهي يف التاريخ اإلسالمي األموي‪ ،‬رواية‬
‫"رادوبيس" لنجيب حمفوظ (‪ )1091‬يف التاريخ الفرعوين‪ ،‬رواية "ثالثية غرناطة" لرضوى عاشور‬
‫‪ 1009‬عن هنايات العرب يف األندلس‪ ،‬وأخرياً رواية "أرض السواد" لعبد الرمحن منيف (‪)1000‬‬
‫يف تاريخ العراق احلديث فرتة داود باشا‪.‬‬
‫وقد جاء الفصل األول يف هذا الباب للتفصيل يف املستوى األول‪ :‬التركيبي السردي‪ ،‬إذ‬
‫طبقت الدراسة ‪ -‬كما ذكرت آنفاً‪ -‬النظرية السردية يف حتليل النص الروائي على الروايات عينة‬
‫الدراسة الستجالء طرق تنفيذ اخلطاب سردياً بدءاً بعنصر الزمن (‪ )Time‬املبين على فكرة التمايز‬
‫بني زمن القصة (املدلول) وزمن اخلطاب (الدال) من خالل ثالث عالقات هي الرتتيب‬
‫(‪ ،)Order‬الدميومة (‪ ،)Duration‬والتواتر (‪ .)Frequency‬مث عنصر الصيغة (‪ ،)Mood‬وفيه‬
‫تستوضح الدراسة ثالثة أمناط من الصيغ تتوزع لغة الرواية هي‪ :‬اخلطاب املسرود‪ ،‬واخلطاب غري‬
‫املباشر‪ ،‬واخلطاب املنقول (املباشر)‪ .‬أما يف العنصر الثالث زاوية الرؤية (‪ ،)Perspective‬فيختص‬
‫مبوقع الرؤية وحتركها حنو احلدث‪ ،‬إذ هناك أكثر من طريقة للرؤية من خالل كيفية سرده‪ ،‬وموقع‬
‫الراوي‪ .‬أما الفصل الثاين فيختص باملستوى الثاين‪ :‬المستوى التاريخي وفيه توازن بني اخلطاب‬
‫التارخيي واخلطاب الروائي يف الرواية التارخيية وأين يتالقيان؟ وأين يفرتقان؟ بعد ذلك خيصص‬

‫‪3‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفصل حديثه عن ظروف تواجد الشخصية التارخيية يف الرواية التارخيية ومدى فاعليتها يف احلدث‪.‬‬
‫وأخرياً حتاول الدراسة استعراض وحتليل أسباب ومسوغات اللجوء إىل التاريخ لكتابة الرواية‪ ،‬وهي‬
‫عديدة وتأخذ أكثر من ٍ‬
‫جتل وشكل‪.‬‬
‫أما الفصل الثالث واألخري فقد اختص باملستوى الثالث‪ :‬المستوى النسقي وهو فصل‬
‫يوظف النقد الثقايف‪ ،‬الذب يستخدم السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة من دون أن يتخلى عن‬
‫مناهج التحليل األديب والنقدي‪ ،‬وحياول هذا الفصل التعريف بالنسق الثقايف وخاصة النسق املضمر‬
‫الذي يتحرك على نقيض املعلن والواعي‪ ،‬وجييز حىت خطابات املعارضة الفكرية والثقافية‪ .‬وهذا‬
‫النسق البد له من مجلة ثقافية تكشف عنه بلسانه هو وهي حتماً ختتلف عن اجلملة النحوية ذات‬
‫القيمة التداولية‪ .‬وتتعرض الدراسة يف تطبيقها إىل نسقني ميثالن على املستوى النسقي مها‪ :‬نسق‬
‫الضد‬
‫(أسطورة الرجل األبيض)‪ ،‬ونسق (تشييء املرأة وهتميشها) وهي أنساق ثقافية سارت على ّ‬
‫من النسق العام الذي حيملها ال يروجها ولكن ألن الثقافة وضعتها يف ال وعيه‪.‬‬
‫ويظهر مما سبق أن الدراسة وظفت غري منهج يف استقصاء غايتها‪ ،‬فهجنت منهجها ال‬
‫لقصور يف أدوات البحث بل بغية‪ ،‬حتقيق كمال أدواته وقدرته على العطاء‪ ،‬فاستثمرت الرواية‬
‫جهود املنهج البنيوي يف السرديات‪ ،‬وجهود املنهج الوصفي وجهود املنهج الثقايف؛ إذ إن إمتام‬
‫املشهد يقتضي حضور األطراف املشاركة‪ ،‬ولعل هذا حيسب من الصعوبات اليت واجهت الدراسة‪،‬‬
‫فكان لزاماً على الباحث أن يهضم هذه املناهج يف حماولة لتطبيقها على النصوص الروائية‪ ،‬أضف‬
‫إىل ذلك العودة احلتمية يف كل رواية إىل مرجعيتها التارخيية لدراسة املادة احلكائية يف صورهتا‬
‫األوىل‪ ،‬مث متابعة التطور الفين الذي طرأ عليها‪.‬‬
‫وأخرياً‪ ،‬فإن هذا الكتاب ما هو إال حماولة تشتهي الوصول إىل طرف حقيقة‪ ،‬فإن مل‬
‫يكن فالتجربة يف ح ّد ذاهتا حقيقة‪ ،‬إذ "علينا أن نغزو احلقيقة بالظن‪( ،‬وإن مل نفعل) فلن تكون‬
‫هناك حقيقة*‪.‬‬

‫*‬
‫هذا القول لساندرس برس (‪.)1114‬‬

‫‪4‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الباب األول‬
‫المنـطـلـ ــق النـظ ــري‬

‫‪ ‬الفصل األول‪ :‬مفاهيم الخطاب– رؤية استقصائية‪.‬‬


‫‪ ‬الفصل الثاني‪ :‬مستويات الخطاب‪.‬‬
‫‪ ‬الفصل الثالث‪ :‬الرواية التاريخية – المساحة والحد‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪6‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفصل األول‬
‫مفاهيـم الخطـاب‪ :‬رؤيــة استقصائيــة‬

‫"إن العلم بمواقع المعاني في النفس‪ ،‬علم‬


‫بمواقع األلفاظ الدالة عليها في النطق"‬
‫*‬
‫عبد القاهر الجرجاني‬

‫ال نروم يف هذا الفصل من دراستنا املستقصية الوصول إىل حتديد انفعايل ملفهوم‬
‫اخلطاب بقدر ما نرنو إىل تقصي األصول املنشِّئة ملدلوالته املرافقة ألقالم كتبة اخلطاب‬
‫ومستهلكيه‪ ،‬وما يكسب اخلطاب بعداً غري منطي يف طرحه هو االستقرار على توثني‬
‫اللفظة دون اصطالحها‪.‬‬
‫إن عبوراً عاجالً فوق مدارس األصول واللغة والفكر والفلسفة ليكشف لنا‬
‫انتشاراً واسعاً للفظة اخلطاب على صفحاهتا دون اتفاق على مفهوم هلا‪ ،‬وعلى ما يبدو‬
‫ورث اتفاقاً عفوياً على استخدام اللفظة‬
‫أن التباين احلاصل يف فهم مدلول اخلطاب قد ّ‬
‫دون مدلول ٍ‬
‫موحد هلا‪ ،‬فتعددت ظالل اللفظة لكن مصدر الظل واحد‪ .‬إن احتكار كل‬
‫اجتاه ملدلول خاص للفظة‪ -‬حمط النزاع‪ -‬أدى إىل ارتفاع درجة التوظيف‪ ،‬مما خلف‬
‫انقسامات يف مدلول اخلطاب أظهرت فوضى مسلكية يف توظيفه وأخرى يف التعامل‬
‫معه‪.‬‬

‫عبد القاهر الجرجاني‪ :‬دالئل اإلعجاز (في علم المعاني)‪ ،‬تحقيق محمد عبده ومحمد الشنقيطي‪،‬‬ ‫*‬

‫تصحيح وتعليق محمد رشيد رضا‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار المعرفة للطباعة‪ ،1171 ،‬ص ‪.44‬‬

‫‪7‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إن هذه الدراسة تتجاوز‪ -‬وأحياناً تضرب‪ -‬عن البحث عن تعريف توفيقي‬
‫للفظة يرضي مجيع األطراف بل تسعى فيما تسعى إليه إىل حصر أمالك مدلوالت‬
‫اخلطاب يف املصارف األصولية واللغوية والفلسفية والفكرية إبرازاً لعمق سطوة اللفظة على‬
‫الذهنيات املصدِّرة هلا‪ ،‬والتعريف هو من يفسد نشوة هذا التوسع يف فهم لفظة اخلطاب‪،‬‬
‫وإن كان يف بعض استخداماته مبنياً على ممارسة جمانية للفظة دون اصطالح مسبق‬
‫يوضحها من قبل مستخدمها‪ .‬إن آلية البحث النسقية لتلجأ إىل التعريف حىت تضرب‬
‫حدوداً له متيزه عن غريه‪ ،‬فرتوضه للعمل جمدداً على أسطح أوراق البحث البيضاء‪ ،‬وأرى‬
‫فعاالً يف مجع املدلول ومنعه ينبغي أن خيفف من احتفائه‬
‫أن التعريف حىت يكون ّ‬
‫بالعموميات ويكثّف جهده على اخلصوصيات‪ ،‬وهذه األخرية هي مثار اجلدل يف‬
‫استطالع هذه الدراسة‪.‬‬
‫لقد باتت املسافة بعيدة من حيث داللتها على التطور بني التحديد األول‬
‫للفظة اخلطاب ومجلة التحديدات األخرية املرتاكمة حبق لفظة اخلطاب‪ ،‬فتكرار حماوالت‬
‫التحديد أدى إىل تعومي مدلول اللفظة حىت باتت يف بعض األحيان إناء فارغاً متعدد‬
‫االستعماالت‪ ،‬فمنذ أن كانت لفظة اخلطاب تعين عرض موضوع أو معاجلة قضية من‬
‫القضايا على حنو ما كتب ديكارت (‪ )1569-1650‬من "خطاب عن املنهج" أو‬
‫ليبنتز (‪ )1115-1595‬من "خطاب عن امليتافيزيقا" أو روس (‪ )1111-1111‬من‬
‫"خطاب عن الالمساواة" أو إمييه سيزر فيما كتبه من "خطاب عن الكولونيالية" مروراً‬
‫بدي سوسري (‪ )1011-1161‬الذي ّفرق بني اللغة ‪ Languge‬والكالم ‪Parole‬‬
‫هم عام‬
‫واللسان ‪ Langue‬والعامل األمريكي زيللج هاريس (‪ )1011-1090‬الذي ّ‬
‫(‪ )1061‬بوصف منهج يبحث عن بنية شاملة متيز اخلطاب يف أية مادة مكتوبة‪ ،‬أو‬
‫شبه لغة‪ ،‬تتكون‬

‫‪1‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫من وحدات أصغرها اجلملة وانتهاء بالتحديد األخري مليشال فوكو (‪)1019-1015‬‬
‫الذي ربط اخلطاب بأركيولوجيا املعرفة وقرنه باملمارسات األبستيمية‪ -‬مل يزل اخلطاب‬
‫عصيّاً على التحديد والثبات‪ ،‬فهل نع ّد هذا فوضى منهجية نابعة من توجهات انطباعية‬
‫مل تستقر على منهج واضح املعامل؟ وإال ملاذا جند أنفسنا نصطدم بظاهرة اجتزاء‬
‫املفاهيم وابتسارها من سياقاهتا دون إخضاعها إىل ترتيب منهجي متكامل؟ ما دور‬
‫االجتاهات املنشِّئة للفظة اخلطاب يف تعدد خياالته ومدلوالته؟ ملاذا هذا اإلصرار‬
‫الواضح من خمتلف الدارسني على توظيف لفظة اخلطاب؟ هل غفلت الثقافة العربية‬
‫(األصول) عن لفظة اخلطاب كمصطلح أم أهنا بقيت مفردة لغوية ال اصطالحية؟ كيف‬
‫تعاملت الثقافة الغربية بشقيها األلسين والفلسفي مع لفظة اخلطاب؟ إىل أي اجتاه‬
‫سارت الثقافة العربية (املعاصرة) يف تعاملها مع هذه اللفظة؟ كيف لعبت املمارسات‬
‫اجملانية دوراً يف متييع مدلول اخلطاب وتداخله مع مصطلحات أخرى كالنص واألثر‬
‫واملبىن واملنت‪..‬؟‬

‫أولا‪ :‬في األصول العربية‬


‫مجّة هي الدراسات اليت ن ّقبت عن أصول لفظة "اخلطاب" يف املعاجم العربية‬
‫األم‪ ،‬والعجيب أن بعض هذه الدراسات كان يبحث جاداً يف هذه (املعاجم) عن‬
‫اصطالح للفظة اخلطاب يوازي يف نضجه ما ّقرت عليه الدراسات األلسنية والفلسفية‬
‫احلديثة‪ ،‬وملا ضعف الطالب واملطلوب عن حتقيق املراد االصطالحي من دوائر املعاجم‬
‫تضعف قدرة (اللفظة) القدمية يف املعاجم‬
‫مهّت بعض الدراسات املتقصية بإصدار أحكام ّ‬
‫القدمية على أن ترقى إىل مصطلح اخلطاب كما هو يف الدراسات احلديثة‪ ،‬واملأخذ‪ -‬يف‬
‫كامن يف‬
‫ظين‪ٌ -‬‬

‫‪1‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫طلبهم لالصطالح من املعجم‪ ،‬فهل املعجم اللغوي املباشر مبثابته بؤرة داللية ‪-‬مهما‬
‫اختلفت لغته‪ -‬يستطيع القيام ولو جتاوزاً مبهمة اصطالحية‪.‬‬
‫تستهل إحدى الدراسات يف تعريف اخلطاب يف معرض احلديث عن معىن‬
‫اللفظة يف املعاجم العربية األصول بقوهلا‪" :‬إن اخلطاب حيثما ورد يف تضاعيف املعجم‬
‫العريب إمنا هو الكالم ومراجعته" (‪.)1‬‬
‫وترد العبارة التالية يف معرض آخر‪" :‬مل خيرج ابن منظور يف حتديد مفهوم‬
‫اخلطاب عن داللة الكالم" (‪ ،)1‬فهل كنا نتوقع أن اصطالح اخلطاب ماثل يف ذهن ابن‬
‫منظور أو الفريوزبادي أو الزبيدي وغريهم‪ ،‬فاحنصر معىن اخلطاب املعجمي يف الكالم‬
‫فقط؟ أم أن املعاجم األوروبية واألمريكية اصطلحت مبكراً على مفهوم اخلطاب قبل أن‬
‫تستقر أركانه يف الثقافة الغربية؟‬
‫إن ارحتال بعض الدارسني وهم حمملون قبالً باالصطالح الغريب للفظة اخلطاب‬
‫إىل املعاجم العربية طالبني منها قرائن داللية يوصلوهنا بقرائنهم االصطالحية وتنفيذ مبدأ‬
‫النص املعجمي مبا ينوء حبمله‪.‬‬
‫حيمل ّ‬ ‫املقايسة يعد خطأ منهجياً ميكن أن ّ‬
‫وقد ورد اخلطاب بداللته املعجمية يف قاموس ‪ Websters‬مبعىن "اجلدل‪،‬‬
‫احلوار‪ ،‬فن املناورة الكالمية‪ ،‬تبادل األفكار شفاهة‪ ،‬امللكة العقلية‪ ،‬التعبري عن األفكار‪،‬‬
‫احلديث‪ ،‬مقطوعة‪ ،‬القدرة احلوارية" (‪.)1‬‬

‫عبد هللا ابراهيم‪ :‬المصطلح وظاهرة االنزياح الداللي )‪(on- line‬‬ ‫(‪)1‬‬
‫‪http://www.abdullah-ibrahum.com/page2-2-7-1.htm.‬‬
‫نور الدين السد‪ :‬مفارقة الخطاب األدبي للمرجع‪ ،‬المؤتمر العلمي الثالث‪ ،‬تحليل الخطاب‬ ‫(‪)2‬‬
‫العربي‪ ،1117 ،‬مراجعة أ‪.‬د‪ .‬صالح أبو أصبع‪ ،‬تحرير د‪ .‬غسان عبد الخالق‪ ،‬جامعة فيالدلفيا‪،‬‬
‫ص ‪.215 -214‬‬
‫)‪(3) Webster’s Third New International Dictionary: Vol. 1 (A to G‬‬
‫‪1971. USA: Encyclopedia Britannica, Inc.‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ويف قاموس ‪ Oxford‬وردت لفظة خطاب )‪ (Discourse‬مبعىن الكالم‬


‫‪ ،Speech‬واحملاضرة ‪ Lecture‬واخلطبة ‪ Sermon‬واملقولة أو الرسالة املوجزة‬
‫‪ ،treatise‬أو حماضرة حول ‪ .)9(Preachor Lectureupon ...‬والتشابه يف‬
‫الطرحني ل يس باألمر الغريب؛ ألن املعاجم العربية واملعاجم الغربية تنفذ مهمتها الداللية‬
‫مبعزل عن أي مهمة اصطالحية‪ -‬مفهوميّة‪ ،‬وإذا ما ورد اصطالح إلحدى الكلمات‬
‫فيكون جمازياً‪ .‬والدراسات العربية يف هذا الصدد تتوزع يف اجتاهني‪ :‬اإلجتاه األول‪:‬‬
‫دراسات جتاهلت املفهوم الداليل للخطاب يف األصول العربية‪ ،‬أل ّن النصوص العربية‬
‫النقدية والفلسفية والدينية مل تتعامل مع اخلطاب اصطالحاً(‪.)6‬‬
‫االجتاه الثاين‪ :‬دراسات أفادت من املستوى املعجمي للفظة ذكراً وتوظيفاً‪،‬‬
‫فحاولت استنباط اصطالح عريب للخطاب من املصادر املعجمية‪ ،‬علماً أن املصادر‬
‫العربية األصول تكاد ختلو من أي تعريف يعاجل اخلطاب اصطالحاً‪ ،‬وأن هذه اللفظة‬
‫مرت خالل العصور العربية الزاهرة بالرتمجة والتأليف والتقعيد مرور السهم من الرميّة‪ .‬ولو‬
‫ّ‬
‫ق ّدر هلا أن يُلتفت إليها لغدت واضحة املعامل كاملنت والنص واألثر والفصاحة‬
‫واإلسهاب‪ ..‬اخل‪ ،‬ولعل الدافع‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Oxford Advanced Learner’s Dictionary of Current English by as‬‬


‫‪hornby, 1984, p. 245 .‬‬
‫انظر على سبيل المثال‪:‬‬ ‫(‪)5‬‬
‫‪ -‬سعيد يقطين‪ ،‬تحليل الخطاب الروائي (السرد‪ -‬الزمن‪ -‬التبئير) ‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬ط‪. 1117 ،3‬‬
‫‪ -‬جابر عصفور‪ ،‬خطاب الخطاب‪ ،‬ضمن كتاب محراب المعرفة (دراسات مهداه إلى إحسان‬
‫عباس‪ ،‬تحرير ابراهيم السعافين‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪.)1117‬‬
‫‪ -‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ ،‬اطروحة جامعية (غير منشورة)‪،‬‬
‫الجزائر‪.1114 ،‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يسر هلم االلتفاف على ما وردنا من نزر بسيط حبق‬


‫االنفعايل لدى بعض الدارسني ّ‬
‫مناح‪:‬‬
‫"اخلطاب" وقد أخذ هذا التعامل ثالثة ٍ‬
‫األول‪ :‬تأويل معجمية اللفظة تأويالا اصطالحيا‪ :‬إذ ورد معىن اخلطاب يف‬
‫عموم املعاجم العربية(‪" )5‬اخلطاب واملخاطبة مراجعة الكالم وقد خاطبه بالكالم خماطبة‬
‫وخطاباً‪ ،‬ومها يتخاطبان‪ .‬واخلطبة مصدر اخلطيب وخطب اخلطيب على املنرب واختطب‬
‫خيطب خطابة (بفتح اخلاء وكسرها)‪ ،‬واسم الكالم اخلُطبة‪ ..‬وذهب أبو إسحاق إىل أن‬
‫اخلطبة عند العرب‪" :‬الكالم املنثور املسجع وحنوه‪ "..‬ويف التهذيب‪" :‬واخلطبة مثل الرسالة‬
‫اليت هلا أول وآخر‪ .‬وخطب‪ :‬خاطبه أحسن اخلطاب‪ ،‬وهو املواجهة بالكالم" وقد‬
‫حاولت بعض الدراسات أن تؤول وتقارب بني ما ورد آنفاً واملفهوم املتفق عليه لسانياً‪،‬‬
‫فقد وردت يف إحدى الدراسات اليت سلكت هذا املسلك التأويلي بعد أن استعرضت‬
‫املعاين املعجمية للفظة اخلطاب العبارة التالية‪" :‬ورغم اختالفها (أي املعاين املعجمية‬
‫للفظة اخلطاب) فإهنا ال تبتعد عن األساس الذي يقوم عليه املفهوم يف اللسانيات‬
‫احلديثة" (‪ ،)1‬وهذا مثال على هذا النمط من التأويل القسري‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬تأويل اللفظة قرآنيا‪ :‬فقد وردت لفظة خطاب يف القرآن الكرمي ثالث‬
‫مرات هي على التوايل‪ :‬قال تعاىل‪ :‬‬
‫‪،)1(‬‬

‫ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪ ،‬الفيروزبادي‪ :‬المحيط‪ ،‬الزمخشري‪ :‬أساس البالغة‪ ،‬الجوهري‪:‬‬ ‫(‪)6‬‬
‫الصحاح في اللغة والعلوم‪ ،‬مادة (خ ط ب)‪.‬‬
‫مدلفاف سليمة‪ :‬تحليل الخطاب القصصي في القرآن الكريم‪ ،‬أطروحة جامعية (غير منشورة)‪،‬‬ ‫(‪)7‬‬
‫‪ ،1117‬جامعة الجزائر‪ ،‬ص‪.1‬‬
‫سورة ص‪ ،‬آية ‪.21‬‬ ‫(‪)1‬‬

‫‪12‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وقال تعاىل‪ :‬‬


‫‪ ،)0(‬وقال تعاىل‪ :‬‬
‫‪ .)19(‬أما "فصل اخلطاب"‪ :‬فصل القضاء بني الناس باحلق‬
‫و "عزين يف اخلطاب"‪ :‬غلبين فكان كالمه أقوى من كالمي وأعظم‪ ،‬و"خطاباً" يف اآلية‬
‫الثالثة‪ :‬حيادثونه ويكلمونه‪ .‬وقد استثمرت بعض الدراسات هذا التوظيف القرآين للتقرب‬
‫(‪)11‬‬
‫حبثت عنه ملياً يف كتب التفسري‪ ،‬ففصل‬
‫من املصطلح القار يف الذهن أصالً عندما ْ‬
‫(‪)11‬‬
‫البني من الكالم امللخص الذي يتبينه من خياطب به‪ ،‬ال‬
‫ّ‬ ‫اخلطاب عند الزخمشري‬
‫يلتبس عليه‪ ،‬وفصل اخلطاب عند ُش ّرب(‪ :)11‬املبني الدال على املقصود بال التباس‪ ،‬حبيث‬
‫تكون العالمة الدالة بوصفها قريناً مالزماً للخطاب‪ ،‬هي البيان والتبيني‪ ،‬وجتنب اإلهبام‬
‫والغموض واللبس‪ .‬ويف الرتكيز على دالة اإلبانة يكون االقرتاب من املفهوم األلسىن العام‬
‫للخطاب قد مت‪.‬‬

‫الثالث‪ :‬الصطالح على الخطاب بالستفادة من تعريف الكالم‪ :‬إذ ذهبت‬


‫بعض الدراسات العربية احلديثة(‪ )19‬إىل البحث عن لفظة أخرى توازي‬

‫سورة ص‪ ،‬آية ‪.23‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫سورة النبأ‪ ،‬آية ‪.37‬‬ ‫(‪)11‬‬
‫أنظر مثالا‪ -:‬عبد هللا ابراهيم‪ :‬المصطلح وظاهرة االنزياح الداللي‪ -‬مقال )‪ (on-line‬سابق‪.‬‬ ‫(‪)11‬‬
‫‪ -‬نور الدين السد‪ :‬مفارقة الخطاب األدبي للمرجع‪ ،‬ص ‪.216-215‬‬
‫الزمخشري‪ :‬الكشاف‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،1117 ،‬ج‪ ، 4‬ص ‪. 11‬‬ ‫(‪)12‬‬
‫شبر‪ :‬تفسير القرآن‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار احياء التراث العربي‪ ،1177 ،‬ط‪ ،3‬ص ‪.421‬‬ ‫ُ‬ ‫(‪)13‬‬
‫– أحمد يوسف‪ :‬تحليل الخطاب من اللسانيات إلى السيميائيات )‪(on-line‬‬ ‫(‪)14‬‬
‫‪www.nizwa.com/volume12/p.38.html‬‬
‫‪ -‬نور الدين السد‪ :‬مفارقة الخطاب األدبي للمرجع‪ ،‬ص ‪.217‬‬

‫‪13‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اخلطاب اصطالحاً‪ -‬ضمن املفهوم األلسين العريب‪ -‬فكان االتفاق على اصطالح الكالم‬
‫بوصفه مساوياً ملفهوم اخلطاب حديثاً‪ .‬فنقبّت عن تعريف الكالم يف االصطالح العريب‬
‫متهيداً خلطبنته فالكالم عند ابن جين(‪" )16‬كل لفظ مستقل بنفسه‪ ،‬مفيد ملعناه‪ ..‬إهنا‬
‫اجلمل املستقاة بأنفسها الغانية عن غريها‪ ..‬وهو واقع على اجلمل دون اآلحاد"‪ .‬والكالم‬
‫(‪)15‬‬
‫دل على معىن حيسن‬ ‫عند ابن هشام هو "القول املفيد بالقصد‪ ،‬واملراد باملفيد ما ّ‬
‫السكوت عليه"‪ .‬أما الزخمشري(‪ )11‬فالكالم عنده ذلك "املركب من كلمتني أسندت‬
‫إحدامها إىل األخرى‪ ..‬وذلك ال يتأتى إال يف امسني كقولك زيد أخوك‪ ،‬وبشر صاحبك‬
‫ويعرف الشريف‬
‫أو يف فعل واسم حنو قولك ضرب زيد وانطلق بكر ويسمى مجلة"‪ّ .‬‬
‫اجلرجاين الكالم(‪ )11‬بأنه "املعىن املركب الذي فيه اإلسناد التام" ويستثمر هذا التعريف‬
‫عبد اهلل إبراهيم فيعقب عليه تعقيباً يزيد الكالم قرباً من اخلطاب؛ إذ يقول‪" :‬وداللة‬
‫ضم شيء هبدف اإلفادة‪ ،‬مبا حيسن السكوت على األمر‪ ،‬دون‬ ‫اإلسناد هنا‪ ،‬إمنا هي ّ‬
‫حاجة للبحث عن غريه‪ ،‬وبه يتم جلمل اللغة االكتمال‪ ،‬واالتصال نظماً وداللة"(‪ )10‬وال‬
‫يرى عبد اهلل إبراهيم بداً من اإلقرار بوجود تالزم داليل بني مفهوم اخلطاب والكالم يف‬
‫الثقافة العربية‪ ،‬وحقيقة أن الكالم حظي بتعريفات‬

‫ابن جني‪ :‬الخصائص‪ ،‬تحقيق محمد علي النجار‪ ،‬بغداد‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪،1111 ،‬‬ ‫(‪)15‬‬
‫ط‪ ،4‬ج‪ ،1‬ص ‪.11‬‬
‫األنصاري‪ :‬مغني اللبيب عن كتب األعاريب‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد محي الدين عبد الحميد‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫(‪)16‬‬
‫‪ ،1117‬ج‪ ،2‬ص ‪. 431‬‬
‫أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش‪ :‬شرح المفصل للزمخشري‪ ،‬قدمه‪ :‬إميل بديع يعقوب‪،‬‬ ‫(‪)17‬‬
‫بيروت‪ ،‬منشورات محمد علي بيضون‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬ط‪ ، 2111 ،1‬ج‪ ،1‬ص ‪.71‬‬
‫الشريف الجرجاني‪ :‬التعريفات‪ ،‬بيروت‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،1171 ،‬ص ‪.114‬‬ ‫(‪)11‬‬
‫عبد هللا ابراهيم‪ ،‬المصطلح وظاهرة االنزياح الداللي ‪ ،‬مرجع سابق‪.(on-line) ،‬‬ ‫(‪)11‬‬

‫‪14‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اصطالحية توضحه ومل حيظ اخلطاب بذلك الحنصاره أصالً يف دائرة األداء الشفوي الذي‬
‫مسوغ لوضع مصطلحني يف دائرة واحدة حىت ينهض‬ ‫هو شكل من أشكال الكالم‪ ،‬وال ّ‬
‫أحدمها باآلخر‪.‬‬
‫ويبدو أن العربية مل تقدم نصوصاً مبكرة وظفت لفظة اخلطاب مبستوى أعلى‬
‫من مستواه املعجمي‪ ،‬فقد رصد عبد اهلل إبراهيم مجلة من التوظيفات للفظة "خطاب"‬
‫حتسب للمستوى االصطالحي املبكر فاعتمد على توظيف ابن حزم(‪ )19‬لعبارة "دليل‬
‫اخلطاب" الذي يعرفه ابن حزم بأنه ضد القياس‪ ،‬وهو أن حيكم للمسكوت خبالف حكم‬
‫املنصوص عليه‪ .‬واعتمد على سيف الدين اآلمدي(‪ )11‬الذي استخدم عباريت "فحوى‬
‫اخلطاب" و "حلن اخلطاب" اللذين حييالن على مدلول اللفظ يف املسكوت عنه‪ ،‬موافقاً‬
‫للحكم يف حمل النطق" وهي من التوسعات املبكرة يف مدلول اخلطاب‪ .‬ومن التوظيفات‬
‫املبكرة للخطاب ما وردنا عن عبد العزيز البخاري (‪119‬هـ)(‪ )11‬الذي أشار إىل أن‬
‫اخلطاب يشمل اللفظ والفحوى(‪ )11‬ليشري بذلك إىل ظاهر األداء اللغوي وباطنه‪ ،‬وقد‬
‫كان هذا التدخل احلسن من عبد العزيز البخاري إجيابياً خيتصر املسافة حنو اصطالح‬
‫(‪)19‬‬
‫للخطاب‪ ،‬وقد آزر ما سبق أحد علماء القرن الثاين عشر اهلجري وهو التهانوي‬
‫الذي‬

‫ابن حزم‪ :‬رسائل ابن حزم‪ ،‬تحقيق إحسان عباس‪ ،‬بيروت‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،‬‬ ‫(‪)21‬‬
‫‪ ،1111‬ج‪ ،4‬ص ‪.411‬‬
‫سيف الدين اآلمدي‪ :‬منتهى السؤل في علم األصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مطبعة صبيح‪ ،‬ج‪ ،1‬ص ‪-61‬‬ ‫(‪)21‬‬
‫‪.61‬‬
‫عبد العزيز البخاري‪ :‬كشف األسرار‪ ،‬مكتبة الضائع ‪1317‬هـ‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.175‬‬ ‫(‪)22‬‬
‫وممن انتصروا لهذا الفصل بين شكل الخطاب وفحواه في الدراسات الفقهية عند أبي اسحاق‬ ‫(‪)23‬‬
‫الشيرازي (ق‪11‬هـ) في "كتابه اللمع في أصول الفقه )‪ (on-line‬عندما قال‪" :‬اعلم أن مفهوم‬
‫الخطاب على أوجه‪ :‬أحدها فحوي الخطاب وهو ما د ّل عليه اللفظ من جهة التنبيه"‬
‫‪www.al-eman.com/Islamlib/viewchp. asp?BID=267&CID=3#549‬‬
‫التهانوي‪ :‬كشاف اصطالحات الفنون‪ ،‬تحقيق لطفي عبد البديع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬ ‫(‪)24‬‬
‫للكتاب‪ /1172 ،‬ج‪ /2‬ص ‪. 175‬‬

‫‪15‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫قال إن اخلطاب " هو اللفظ املتواضع عليه املقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه‪،‬‬
‫فاحرتز باللفظ عليه من األقوال املهملة" وختم تعريفه للخطاب بقوله "إن اخلطاب إما‬
‫الكالم اللفظي أو الكالم النفسي املوجه حنو الغري لإلفهام"‪.‬‬
‫وقد اعتمد عبد اهلل إبراهيم على هذا التعريف يف دراسته املثبتة أدناه ألنه‬
‫حسب تعبريه "توغل يف صلب املعضلة االصطالحية هلذا املفهوم‪ ،‬وأنشأ حدوداً واضحة‬
‫للمصطلح"(‪ )16‬مث يضيف أنه "تعريف شامل‪ ،‬يتسع لداللة املصطلح‪ ،‬كما تشكل يف‬
‫الثقافة الغربية" وخيتم القول بعد استعراضه السابق جملموعة من تعاريف اخلطاب والكالم‬
‫"إن اخلطاب مصطلح واضح الداللة يف األصول"‪ .‬ويبدو أن الباحث كان ميتلك طموحاً‬
‫مسبقاً للتوصل إىل مثل هذه املطابقة املثالية بني داللة معجمية حتاول النهوض على‬
‫خجل‪ ،‬ومصطلح م كتمل ماثل يف ذهنه عن اخلطاب‪ ،‬لقد أقنعنا الباحث يف بعض‬
‫حتليالته الستخدامات القدماء للفظة اخلطاب كما يف حتليله لتعريف التهانوي الذي أبرز‬
‫فيه عناصر اخلطاب من ِ‬
‫خماطب وخماطَب ورسالة ونية مسبقة للتأثري يف السامع‪ ،‬لكنها‬
‫تبقى حماولة اقرتاب من املفهوم االصطالحي للخطاب يف معناه املنتهى إليه حديثاً‪.‬‬
‫نقر بأن الدراسات العربية قد بذلت جهداً موفقاً يف تتبع لفظة‬
‫ولكن جيب أن ّ‬
‫"خطاب" سواء أكان ذلك يف بؤرها املعجمية أم السياقية ممثلة بنصوص قرآنية أو يف‬
‫نصوص القدماء‪ ،‬وقد بذل أصحاب هذه الدراسات جهداً واضحاً يف تأويل اللفظة‬
‫ضمن سياقاهتا يف حماولة إلثبات بذورها االصطالحية اليت افرتضوا أهنا موجودة يف أذهان‬
‫موظفيها األوائل مما أوقع بعضهم يف دائرة التحديد االنفعايل املبكر للخطاب يف األصول‬
‫العربية‪ .‬إن توظيف لفظة خطاب‬

‫(‪ )25‬عبد هللا ابراهيم‪ :‬المصطلح واالنزياح الداللي )‪.(on-line‬‬

‫‪16‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يف ثقافتنا العربية القدمية بقي يف جلّه ضمن البؤرة املعجمية للكلمة ومل يرق إىل البؤرة‬
‫االصطالحية الناضجة لكلمة ‪. Discourse‬‬

‫ثانيا‪ :‬في الدرس اللساني واألنظمة المجاورة‬


‫‪Linguistics and the Neighbouring Disciplines‬‬

‫منذ أن انتدبت الرتمجة لفظة اخلطاب لتحمل الطاقات االصطالحية الغربية‬


‫ملصطلح ‪ Discourse‬يف االجنليزية ونظريه ‪ Discours‬يف الفرنسية أو ‪Diskurs‬‬
‫يوسع من دائرة استخدامها على‬
‫يف األملانية كثر تداول اللفظة ضمن وعي اصطالحي ّ‬
‫حنو غري مألوف يف ثقافتنا العربية املديدة‪ .‬وعلى مستوى االشتقاق اللغوي فإن أغلب‬
‫املرادفات األجنبية الشائعة ملصطلح "اخلطاب" مأخوذة من أصل التيين‪ ،‬وهو االسم‬
‫‪ Discursus‬املشتق بدوره‪ ،‬من الفعل ‪ Discurrere‬الذي يعين "اجلري هنا وهناك"‬
‫أو اجلري ذهاباً وإياباً" ‪ ،‬وهو فعل يتضمن معىن التدافع الذي يقرتن بالتلفظ العفوي‪،‬‬
‫وإرسال الكالم‪ ،‬واحملادثة احلرة‪ ،‬واالرجتال‪ ،‬وغري ذلك من الدالالت اليت أفضت‪ ،‬يف‬
‫اللغات األوروبية احلديثة‪ ،‬إىل معاين العرض والسرد واخلطبة الطويلة نسبياً غري اخلاضعة‬
‫إىل خطة جامدة‪ ،‬مث املوعظة واخلطبة املنم ّقة‪ ،‬واحملاضرة‪ ،‬واملعاجلة البحثية‪ ،‬وأخرياً اللغة من‬
‫حيث هي أفعال أدائية لفاعلني‪ :‬وممارسة اجتماعية لذوات متارس الفعل االجتماعي‬
‫وتنفعل به بواسطة اللغة(‪.)15‬‬
‫ويعد الدرس اللساين احلاضن الشرعي األول ملصطلح اخلطاب‬
‫)‪ (Discourse‬يف صورته األساسية؛ إذ مل يبخل الدرس اللساين يف م ّد يد‬

‫(‪ )26‬جابر عصفور‪ :‬خطاب الخطاب‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪17‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫العون لكثري من املعارف اإلنسانية على مستوى التقنني ومستوى التحليل‪ ،‬حىت أصبح‬
‫حتليل اخلطاب بؤرة جتاذب وتفاعل بني جماالت حبثية ع ّدة‪ ،‬فأفادت منه جماالت متزامنة‬
‫أو متعاقبة منذ النحاة اجلدد والشكالنيني الروس وحلقة براغ ومدارس اللسانيات؛‬
‫النص‪ ،‬واللغويات الوظيفية (النسقية) واللغويات التوزيعية والتداولية‪ ،‬واللغويات‬
‫كلغويات ّ‬
‫املعرفية والنقدية‪ ،‬وإثنوجرافيا االتصال‪ ،‬والسيميوطيقيا‪ ،‬وما بعد البنيوية‪ ،‬والتفكيكية‪،‬‬
‫والنِسوية‪ ،‬إضافة إىل خطاب ما بعد الكولونيالية‪.‬‬
‫ظهرت أوىل أعراض مصطلح "اخلطاب" بظهور كتاب فرديناند دي سوسري‬
‫(‪" )1011-1161‬حماضرات يف اللسانيات العامة"(‪ )11‬الذي يع ّد مؤسساً لعصر‬
‫بأكمله من الدرس اللساين‪ ،‬وقد تضمن أهم املبادئ األساسية للسانيات؛ كنظامية اللغة‪،‬‬
‫الدال واملدلول‪ ،‬اللغة والكالم‪ ،‬التزامنية والتعاقبية‪ ،‬العالقات اخلطية (األفقية) واجلدولية‬
‫(الرأسية)‪ .‬فاللغة )‪ (Language‬لدى سوسري هي ملكة التخاطب اليت ميلكها كل‬
‫البشر طبقاً لقوانني الوراثة‪ ،‬فهي ظاهرة إنسانية عامة‪ ،‬وهي نظام حنوي له وجود كامن يف‬
‫كل عقل‪ ،‬وبتحديد أدق‪ ،‬يف عقل اجلماعة‪ ،‬ألن اللغة ليست كاملة عند أي متكلم‪ :‬أهنا‬
‫توجد وجوداً كامالً يف عقل اجلماعة فقط(‪ .)11‬أما الكالم )‪ (Parole‬فهو ما نسمعه‬
‫يف احلياة االنسانية من عبارات ينطقها األفراد هلا وجود مادي(‪ .)10‬إن هذا التمييز بني‬
‫اللغة والكالم على هذا النحو اللماح مينح الكالم باإلضافة إىل وظيفته اللغوية وظيفة‬
‫أدائية‪،‬‬

‫(‪ )27‬وهي محاضرات ألقاها دي سوسير على طلبته في جامعة جنيف في السنوات (‪)1111-1116‬‬
‫وضع فيها مالمح نظريته في اللسانيات‪ ،‬وقد جمعت هذه المحاضرات بعد وفاته من مذكرات‬
‫تالميذه عام ‪ ،1116‬وقد ع ّد هذا الكتاب بمثابة الرسالة التبشيرية في اللسانيات‪.‬‬
‫(‪ )21‬محمد فتيح‪ :‬في الفكر اللغوي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة ‪ ،1111 ،‬ص ‪.53-52‬‬
‫(‪ )21‬محمود حجازي‪ :‬البحث اللغوي‪ ،‬مكتبة غريب‪ ،‬القاهرة‪ ،1113 ،‬ص‪.33‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فالكالم لغة مؤداة يف سياق فردي‪ ،‬من هنا كان لزاماً على الباحثني إلباس الكالم ثوباً‬
‫اصطالحياً جيمع اللغة باألداء فكان اخلطاب )‪ (Diseourse‬فاخلطاب‪ -‬حسب‬
‫الدارسني‪ -‬مرادف للكالم عند سوسري يتوافر على عناصر فيزيائية من موجات صوتية‬
‫وعناصر فيزيولوجية كالتصويت وعناصر نفسية تتمثل املتصور الذهين والصورة‬
‫السمعية(‪.)19‬‬
‫إن تلك املقدمة يف اللسانيات احلديثة كانت مبعث االنطالق يف ختصيب‬
‫مفهوم اخلطاب لدى كثري من اللسانيني من العامل األمريكي‪ -‬روسي األصلي‪ -‬زيللج‬
‫هاريس (‪ .)1011-1090‬الذي اضطلع عام (‪ )1061‬بتوصيف منهج يؤطر لبنية‬
‫شاملة جتعل من اخلطاب شيئاً مستقالً عن أية مادة مكتوبة‪ ،‬ففي حبثه املعنون بـ‪" :‬حتليل‬
‫اخلطاب" قال إن اخلطاب "ملفوظ طويل‪ ،‬أو هو متتالية من اجلمل تتكون من جمموعة‬
‫منغلقة ميكن من خالهلا معاينة بنية سلسلة من العناصر بواسطة املنهجية التوزيعية‬
‫وبشكل جيعلنا نظل يف جمال لساين حمض" (‪.)11‬‬

‫وهذا التعريف يكتسب أمهيته من جوانب عدة‪ ،‬أبرزها‪:‬‬


‫أنه سعى إىل حتليل اخلطاب بنفس التصورات واألدوات اليت حتلل هبا اجلملة(‪.)11‬‬ ‫‪-‬‬

‫(‪ )31‬انظر‪:‬‬
‫سعيد يقطين‪ ،‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص‪.22‬‬ ‫–‬
‫محمد بلوحي‪ :‬سيميائية الخطاب السردي‪ ،‬كتابات معاصرة‪ ،‬تموز ‪ ،2112‬عدد‬ ‫–‬
‫‪ ،47‬ص‪.13‬‬
‫(‪ )31‬انظر‪:‬‬
‫‪ -‬سعيد يقطين‪ ،‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.17‬‬
‫‪ -‬عبد هللا إبراهيم‪ ،‬المتخيل السردي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،1111 ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪ ،‬ص‪.15‬‬
‫‪ -‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ ،‬ص ‪.215‬‬
‫(‪ )32‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اهتم بتحليل اخلطاب انطالقاً من مسألتني(‪:)11‬‬ ‫‪-‬‬


‫األوىل‪ :‬توسيع حدود الوصف اللساين إىل ما هو خارج اجلملة‪ ،‬وهذه مسألة‬
‫لسانية حمضة‪ ،‬الثانية‪ :‬تتعلق بالعالقات املوجودة بني اللغة والثقافة واجملتمع‪ ،‬وقد‬
‫كان اهتمامه هبذه األخرية أقل من األوىل‪.‬‬
‫رغم أنه لساين إال أن تعريفه السابق يظهر حماولته اخلروج من قيد النموذج اللغوي‬ ‫‪-‬‬
‫وإن بقي أسري التصور اللغوي املباشر(‪.)19‬‬
‫كانت منهجيته التوزيعية تدفعه إىل االهتمام بالطرق اليت تتكرر هبا أجزاء اخلطاب‬ ‫‪-‬‬
‫داخل املكون الشامل‪ ،‬أو تتوزع هبا األجزاء داخل سياق املكونات ومن مث‬
‫الكشف عن منط توزيعي لعالقات املعاين يف املمارسة اخلطابية(‪.)16‬‬
‫وسع دائرة اهتمام اللسانيات إىل مستوى النص‪ ،‬خارجاً بذلك على تقليد أرساه‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫بلومفيلد يقضي بأن التعبري اللغوي املستقل باإلفادة أو اجلملة(‪.)15‬‬
‫يسعى هاريس إىل تطبيق تصوره التوزيعي على اخلطاب والذي من خالله تصبح‬ ‫‪-‬‬
‫كل العناصر‪ ،‬أو متتاليات العناصر يف خمتلف مواطن اخلطاب ال يلتقي بعضها‬
‫ببعض بشكل اعتباطي؛ إذ إن التوزيعات اليت تلتقي من خالهلا هذه العناصر تعرب‬
‫عن انتظام معني يكشف عن بنية اخلطاب(‪.)11‬‬

‫نور الدين السد‪ :‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ ،‬ص ‪.215‬‬ ‫(‪)33‬‬
‫عبد هللا إبراهيم‪ :‬المتخيل السردي‪ ،‬ص‪.153‬‬ ‫(‪)34‬‬
‫جابر عصفور‪ :‬خطاب الخطاب‪ ،‬ص ‪.11-11‬‬ ‫(‪)35‬‬
‫سعيد بحيري‪ :‬علم لغة النص‪ ،1117 ،‬مكتبة لبنان ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ص‪.11‬‬ ‫(‪)36‬‬
‫نور الدين السد‪ :‬االسلوبية في النقد الحديث‪ ،‬ص‪.215‬‬ ‫(‪)37‬‬

‫‪21‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ومن هنا حتولت اجلملة إىل أصغر وحدة للخطاب عند اللسانني‪ ،‬وبذلك اتسع‬
‫أفق البحث وخفت القيود اللسانية املفروضة على اجلملة‪ ،‬فانطلق اللسانيون‬
‫خارج حدود اجلملة ليقننوا اخلطاب ويؤصلوه‪ .‬وكان على رأسهم العامل الفرنسي‬
‫أميل ينفنست )‪ 1055 (Emile- Benveniste‬الذي بدأ ارحتاله حنو‬
‫اخلطاب مبقارنته مع نظام اللغة عندما وضح بأن‪" :‬اجلملة اليت هي صنع غري حمدد‬
‫من التنوع الالحمدود‪ -‬هي جوهر حياة الكالم اآلدمي أثناء الفعل ونتستنج من‬
‫هذا بأننا مع اجلملة نغادر ميدان اللغة بوصفها نظاماً من العالقات وندخل إىل‬
‫عامل آخر‪ ،‬ذلك هو عامل اللغة بوصفها أداة للتواصل حيث يكون تعبريها هو‬
‫اخلطاب"(‪.)11‬‬
‫وبذا يكون اخلطاب هو ميدان التواصل‪ ،‬وإذا كان هاريس قد قنّن اخلطاب مبتتالية‬
‫مجلية تقدم بنية امللفوظ‪ ،‬فإن بنفستت سيعرض لنا تعريفه للخطاب من منظور‬
‫خمتلف يستفيد من الدعائم اللسانية لكنه يتجاوزها‪ ،‬وهو تعريف واسع للخطاب‬
‫حيتم علينا أن نفهمه على أنه "كل ملفوظ يفرتض متحدثاً ومستمعاً على أن‬
‫تتوفر يف املتحدث قصدية التأثري على اآلخر بطريقة ما"(‪.)10‬‬
‫إن هذا التعريف خيضع اجلملة جملموعة من احلدود‪ ،‬إذ هي أصغر وحدة يف‬ ‫‪-‬‬
‫اخلطاب‪ ،‬ومع اجلملة سنغادر جمال اللسانيات بوصفه نظاماً للعالقات‪ ،‬فاجلملة‬
‫تتضمن عالمات وليس عالمة واحدة‪ ،‬وندخل يف جمال آخر يَ ُّ‬
‫عد‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Benvenist, Emile (1971) Problems in General linguisties, University of‬‬


‫‪Miami Press, Florida (1st ed.) P.110.‬‬
‫)‪(2‬‬ ‫‪Ibid, P. 208-209‬‬

‫‪21‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اللسان أداة للتواصل نعرب عنه بواسطة اخلطاب‪ ،‬وهذا التمييز يضعنا أمام جمالني(‪.)99‬‬
‫خيتلفان وإن كانا يتعانقان‪ ،‬ويقدمان تبعاً لذلك لسانيتني خمتلفتني‪ :‬فمن جهة‬
‫اللسان هناك جمموعة عالمات مستخلصة بواسطة إجراءات صارمة‪ ،‬ومن جهة‬
‫أخرى هناك جتلي اللسان يف عملية التواصل‪ ،‬من هنا تربز اجلملة مبثابة وحدة‬
‫للخطاب‪.‬‬
‫يقيم بنفست من خالل هذا التعريف‪ -‬مع العديد من اللسانيني مفهوم (التلفظ)‬ ‫‪-‬‬
‫‪ Enuncie‬والتلفظ هو الفعل الذايت يف استعمال اللغة أو املمارسة األدائية‪،‬‬
‫فاخلطاب ممارسة وهو فعل حيوي يف إنتاج مادة نصية مقابل التلفظ‪ ،‬وبذا يتيح‬
‫(التلفظ) دراسة (الكالم) ضمن مركز نظرية التواصل ووظائف اللغة (‪.)91‬‬
‫إن اخلطاب ضمن التعريف السابق هو ممارسة عملية للتلفظ يفضي إىل تعدد‬ ‫‪-‬‬
‫اخلطابات وتنوعها وتباين مهامها ابتداءً باملشافهات اليومية وصوالً إىل أعقد‬
‫اخلطابات صنع ًة وعنايةً بالشكل واألسلوب‪.‬‬
‫من خالل التعريف السابق سيتجاوز اخلطاب حدوده املعجمية املألوفة جتاوزاً‬ ‫‪-‬‬
‫احتوائياً ال تنصلياً فهو التواصل الشفهي واحلديث واحلوار واملعاجلة الرمسية ملوضوع‬
‫ما يف الكتاب أو الكالم وهو القدرة على االستفسار والسؤال والتفكري وهو‬
‫إجراء مناقشة أو إصدار موسيقى وأخرياً حسب بنفنست هو وحدة تتضمن‬
‫أكثر من مجلة تشكل نصاً يستخدمه اللسانيون(‪.)91‬‬

‫(‪ )41‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي ص‪.11‬‬


‫(‪ )41‬نور الدين السد‪ :‬األسلوبية في النقد العربي الحديث ‪ ،‬ص‪.211‬‬
‫)‪(3‬‬ ‫‪Sara Mills , Descourse, 1999 , London- New York, Routledge (p.2).‬‬

‫‪22‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وقد قدم قاموس اللغة واللسانيات جمموعة من التعريفات األلسنية املتداولة‬


‫للخطاب فاخلطاب "مصطلح يشري إىل أنواع خمتلفة من النص وقد استخدم النص‬
‫باختالفات متنوعة يف املعىن‪:‬‬
‫‪ ‬إنتاج عملية تفاعلية يف سياق سسيوثقايف )‪.(1954 Pike‬‬
‫‪ ‬األداء )‪ (Performance‬مقابل النص بوصفه متثيالً للبنية الشكلية القواعدية‬
‫للخطاب‪.‬‬
‫‪ ‬الكالم (مقابل النثر املكتوب)‪( ،‬أو النص)‪(1975 cicourel) .‬‬
‫‪ ‬التفاعل احلواري‪.(1977 coulthard) .‬‬
‫‪ ‬اللغة يف السياق عرب مجيع األشكال واألساليب)‪.(1981 Tannen‬‬
‫‪ ‬العملية (مقابل املنتج) أو النص )‪.)91( " (1983 Brawn & Yule‬‬

‫ويف معجم لساين آخر يعرف اخلطاب بأنه "مصطلح يستخدم يف اللغويات‬
‫لإلشارة إىل التوسع املتصل باللغة (وال سيما املنطوقة) توسعاً أبعد من مستوى اجلملة‪،‬‬
‫وباملعىن العام فإن اخلطاب هو وحدة سلوك هلا حاالت نظرية مسبقة يف جمال اللغة"(‪.)99‬‬
‫ويف مكان آخر‪ ،‬يعرف اخلطاب بأنه اللغة اليت مت إنتاجها نتيجة لعملية االتصال(‪.)96‬‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Dectionary of Language and Lingusitcs, Hadu mod Bussmann, Trans. By‬‬
‫‪Gregory P. Trauth and Kevstin Kazzazi, London, 1996, (p.131).‬‬
‫)‪(2‬‬ ‫‪A first dictionary of linguistics and phonetics, david crystal, Andre‬‬
‫‪Devtsch (p.114).‬‬
‫)‪(3‬‬ ‫‪Jack Rchards, longman Dictionary of Applied Linguistics, 1985,‬‬
‫‪p. 83- 84.‬‬

‫‪23‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫واخلطاب هو أيضاً "شكل أو منط أو نوع (صنف) من استخدام اللغة‪ ،‬وكل‬


‫شخص يوجد يف داخله (قرارته) مدى كامل يتحرك فيه إلنتاج ما هو ممكن من أساليب‬
‫خطابية"(‪.)95‬‬
‫أما جان كارون فريى يف اخلطاب جمموعة منسجمة من امللفوظات(‪ .)91‬يف حني‬
‫يقرر كل من هارمتان وستوك أن اخلطاب نص حمكوم بوجود كلية واضحة‪ ،‬تتألف من‬
‫صيغ تعبريية متوالية عن متحدث يبلغ رسالة ما(‪.)91‬‬
‫أما "بيري زميا" فاخلطاب لديه وحدة وقوف ُمجلية‪ ،‬أي أنه يبدأ من اجلملة‪ ،‬وال‬
‫ينتهي هبا‪ ،‬تولد من لغة مجاعية وتُع ّد بنيتها الداللية (بوصفها بنية عميقة) جزءاً من‬
‫شيفرة‪ ،‬وميكن متثيل مسارها الرتكييب‪ -‬النحوي بواسطة منوذج تشخيصي (سردي) (‪.)90‬‬
‫وعلى صعيد آخر فقد أكد البنيويون أن كل مظهر خطايب أقل من اجلملة أو‬
‫معادل هلا ينضوي حتت لواء اللسانيات‪ ،‬وأن كل ما وراء اجلملة يلتحق باخلطاب الذي‬
‫هو ‪-‬حسب بارت‪ -‬موضوع علم معياري قدمي هو البالغة(‪ .)69‬وفعالً وبعد التقدم‬
‫امللموس على مصطلح اخلطاب الذي أحدثه كبار األلسنيني سواء أكان هاريس أم‬
‫بنفنست فقد بدأت اللسانيات تتجاوز‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Jaines Waston, Adictionary of communication and Media studies‬‬


‫‪edition, New Delhi, 1981, (Discourse) P. 57.‬‬
‫(‪ )47‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫‪(3) Hartman, stock, Dictionary of language and linguistics, London‬‬
‫‪1970, p. 69‬‬
‫(‪ )41‬بيير زيما‪ :‬نحو سوسيولوجية النص األدبي‪ ،‬مجلة العرب والفكر العالمي‪ ،‬ع‪،1111 ،5‬‬
‫ص‪.13‬‬
‫(‪ )51‬روالن بارت‪ :‬نظرية النص‪ ،‬ترجمة منجي الشملي وعبد هللا صوله ومحمد القاضي‪،‬‬
‫حوليات الجامعة التونسية‪ ،‬ع‪ ،1111 ،27‬ص ‪.17‬‬

‫‪24‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫موضوعها الذي كانت حدوده تقف عند مستوى اجلملة‪ ،‬وقد أمثر ذلك يف النظرية‬
‫البنيوية وما بعدها‪ ،‬إذ أثار استخدام مصطلح اخلطاب اختالفاً كبرياً يف وجهات النظر‬
‫السابقة للغة والتمثيل؛ حني رأى املنظرون البنيويون وما بعد البنيويني‪ -‬كما سيظهر ذلك‬
‫يف املبحث القادم‪ -‬اللغة بوصفها نظاماً بقواعده اخلاصة وضوابطه وبتأثريه احملدد على‬
‫الطريقة اليت يفكر فيها األفراد ويعربون عن أنفسهم وليس بوصفها تفسريية أو شفافة‬
‫فقط‪ ،‬بل بوصفها وسيلة للتواصل أو شكالً من أشكال التمثيل(‪.)61‬‬
‫أما تودوروف فقد كان شغوفاً بنقل حصيلة االنتاجات األلسنية حبق اخلطاب‬
‫إىل دائرة العمل األديب‪ ،‬فقال إن اخلطاب هو "جمموع البنيات اللفظية اليت تعمل يف كل‬
‫عمل أديب"(‪ .)61‬أما الدراسات األسلوبية فقد اهتمت بتحري اخلصائص اللغوية اليت‬
‫يتحول هبا اخلطاب عن سياقة اإلخباري إىل وظيفته التأثريية واجلمالية(‪.)61‬‬
‫ويبدو أن املشرتك يف كل ما سبق ميكن أن ندرجه ضمن النقاط التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬إن اخلطاب يف كل اجتاهات فهمه العامة هو اللغة يف حالة فعل مصدرها فاعل‬
‫منتج(‪.)69‬‬
‫‪ -1‬اخلطاب منظومة مجلية وحدهتا الصغرى اجلملة‪ ،‬حمكومة بنظام من امللفوظات‪.‬‬

‫‪(1) Sara Mills: Descourse p. 8.‬‬


‫(‪ )52‬تودوروف‪ :‬الشعرية‪ ،‬ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سالمة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬توبقال‪ ،‬ص‬
‫‪.16‬‬
‫(‪ )53‬نور الدين السد‪ :‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ ،‬ص‪.267‬‬
‫(‪ )54‬صالح فضل‪ :‬بالغة الخطاب وعلم النص‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬عدد ‪ ،164‬الكويت‪ ،‬آب‪،‬‬
‫‪ 1112‬ص‪.11‬‬

‫‪25‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -1‬للخطاب عناصر هي املرسل واملرسل إليه والرسالة يتوجهم هدف التأثري واإلفهام‪.‬‬
‫‪ -9‬إن اكتمال دائرة التأثري الداللية يف اخلطاب تنبين على تفاعل املرسل إليه مع‬
‫املرسل من خالل الرسالة املندرجة ضمن سياق‪ .‬واحململة جبملة من الشيفرات‪.‬‬
‫‪ -6‬يظهر علم اللسانيات احلديث ويوسع مفهوم اخلطاب وال جيعله قاصراً فقط على‬
‫الكالم‪ ،‬بل اخلطاب مدونة كالمية موضوعة ضمن إطار تواصلي يستثمر‬
‫االشارات واالمياء والنرب والتنغيم‪.‬‬
‫‪ -5‬إن هناك دالالت يف الكالم غري ملفوظة يدركها السامع أو املتحدث دون عالقة‬
‫معلنة أو واضحة جيب االلتفات إليها‪.‬‬

‫إن اخلطاب يف حمصلته األلسنية العامة هو مفهوم لساين معاصر عن القول‬


‫الذي يتجاوز اجلملة‪ ،‬والذي تدرسه اللسانيات انطالقاً من قواعد تسلسل اجلمل‪.‬‬
‫وقبل أن تنهي الدراسة حديثها عن الدرس األلسين يف تشكيله للخطاب نطرح‬
‫تعريفني للخطاب لعاملي لغة مشهورين اكتسب تعريفيهما أمهية؛ ألهنما يفتحان الباب‬
‫أمام اخلطاب ليوسعا من اهتماماته‪:‬‬
‫األول‪ :‬روجر فاولر(‪ .)66‬الذي يعرف اخلطاب بأنه كالم أو كتابة ينظر اليها من‬
‫وجهة نظر املعتقدات والقيم واملصنفات اليت جيسدها‪ ،‬وهذه األخرية تؤلف طريقة للنظر‬
‫إىل العامل بوصفه تنظيماً أو متثيالً للخربة‪ -‬أو أديولوجية باملعىن احملايد (الالهتكمي)‬
‫فأساليب اخلطاب املختلفة تنطوي على متثيالت‬

‫(‪ )55‬لساني بريطاني تحويلي يعمل على األسلوبيات‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يكون اخلطاب‬
‫خمتلفة للخربة وأن مصدر هذه التمثيالت هو السياق التواصلي الذي ّ‬
‫"(‪.)65‬‬
‫وهذا التعريف خيصب دالالت اخلطاب االصطالحية ويرفع من مستوى انفتاحه‬
‫على الدالالت الثقافية‪ .‬ويرفع من درجة توظيفه‪ ،‬ويلغي إصرار حناة اجلملة الذي يرتكز‬
‫اهتمامهم على دراسة اجلملة ويرون أن اجلملة هي اليت جيب أن تكون حمور الدرس‬
‫اللغوي باعتبارها الوحدة األساسية للكالم ومن هؤالء تشومسكي(‪. )61‬‬
‫الثاين‪ :‬جون أوسنت(‪ .)1059-1011( )61‬الذي أملح يف حديثه عن اخلطاب‬
‫على العالقة اليت ال تنفصل بني اللغة والفعل واحلقل وإىل ضرورة فهم املمارسة اخلطابية‬
‫بوصفها ممارسة اجتماعية ال تنفصل فيها اللغة عن املوقف‪ ،‬أو املنظومات عن الفعل‬
‫الذي يؤكد نوعا من املعرفة(‪.)60‬‬

‫‪(1) Sara Mills: Discourse, p. 6.‬‬


‫(‪ )57‬براون ويول‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ترجمة محمد لطفي ومنير التريكي‪ ،1117 ،‬جامعة الملك سعود‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬ص ‪.26‬‬
‫وهو كتاب يعتمد مقاربة لسانية بالدرجة األولى‪ ،‬وليس متخصصا ا بتحليل النصوص األدبية‪،‬‬
‫فالكتاب يعالج كيفية استعمال الناس للغة كونها أداة تواصل‪ ،‬وكيف يؤلف المتكلم رسائل لغوية‬
‫يوجهها إلى المتلقي‪ ،‬فيقوم هذا األخير بمعالجتها على نحو خاص لتفسيرها‪ ،‬واهتمام الكتاب‬
‫بالدرجة األولى حسب ما يعلن مؤلفاه إلى ما يسعى عالم اللغة الوصفي تقليديا ا إلى تحقيقه وهو‬
‫الكشف عن طرق استعمال القوالب اللغوية في عملية التواصل مستعينا ا باألدلة التي تقدمها‬
‫الدراسات األلسنية النفسية واللسانية االجتماعية (صفحة ي) (ص‪.)31‬‬
‫(‪ )51‬فيلسوف لغوي أمريكي قدم مجموعة من المحاضرات المهمة في هذا الصدد ألقاها عام ‪1155‬‬
‫في جامعة هارفارد‪.‬‬
‫(‪ )51‬جابر عصفور‪ :‬خطاب الخطاب‪ ،‬ص‪.11‬‬

‫‪27‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وما سبق يفضي بنا إىل ما يلي‪:‬‬


‫تعريف أوسنت يقودنا إىل طريق ممهد يؤسس اخلطاب بوصفه مصطلحاً عندما‬ ‫‪-‬‬
‫يصبح داالً على نسق من الوحدات اللغوية (أصغرها اجلملة) اليت تكون تسلسالً‬
‫جنسوي اخلواص (جنس أديب) يف أشكال األداء اللغوي‪.‬‬
‫هذا األداء يؤسس يف تناسقه املنطوق أو املكتوب ويف عالقته بالعالمات املوازية‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫عمليات االتصال وإنتاج املعىن واجملتمع بعامة‪ ،‬ويقوم بتأصيل القيم يف الوقت‬
‫الذي يقوم بتوزيع املعرفة وتأكيد عالقات السلطة والقوة بني أفراد اجملتمع خباصة‪.‬‬
‫من هنا يقرتن املصطلح بدالالت جديدة يف الثقافة املعاصرة (ستكون مدار‬ ‫‪-‬‬
‫البحث يف املبحث التايل) تشري إىل آفاق واعدة من النظر العقلي والرؤى املنهجية‬
‫واىل دالالت معرفية تعني على فهم الواقع يف ممارساته اخلطابية املختلفة‪.‬‬

‫وهذا سيتجلى الحقاً عند (فوكو) يف قوله إن اجملتمع مجْع اخلطابات املوجودة‬
‫فيه‪ ،‬وأن أية نظرية عن القوة والشرعية والسلطة متالزمة مع املعرفة‪ ،‬ذلك التالزم الذي‬
‫حدده فوكو يف عباراته الشهرية اليت تؤكد أنه ال توجد عالقات قوة ال تقوم بتأسيس ما‬
‫يلزم عنها من خطاب معريف‪ ،‬بل ال توجد معرفة ال تفرتض عالقات قوة تتأسس هبا(‪.)59‬‬

‫(‪ )61‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪21‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ثالثا‪ :‬في الثقافة الغربية وفلسفاتها‬


‫يتناول "دومينك مانقينو" )‪ (D. Maingueneau‬يف كتابه (االجتاهات‬
‫اجلديدة يف حتليل اخلطاب)(‪ )51‬جمموعة من القضايا األساسية يف حتليل اخلطاب كان‬
‫أمهها إجياد مكانة لتحليل اخلطاب ضمن العلوم االنسانية‪ ،‬فال يبقى أسري نظرة التحليل‬
‫اللساين‪ ،‬بل ارتقى استخدامها إىل خمتلف دوائر العلوم االنسانية‪ ،‬ويبدو أن اإلحلاح‬
‫املتنامي على استخدام مصطلح اخلطاب ونظرياته وآلياته وآليات حتليله إمنا هو تلبية‬
‫ملطالب ماسة لاليقاع العاملي املتسارع‪ ،‬إيقاع ما بعد البنيوية وما بعد احلداثة‪.‬‬
‫باتت كثري من الدراسات املهمة يف حتليل اخلطاب خارج نطاق علم اللغة‪،‬‬
‫وتكون فرع هام يف‬
‫كعلوم األنثروبولوجيا وعلم االجتماع والبالغة اجلديدة والشعرية‪ّ .‬‬
‫يسمى "إثنوجرافيا الكالم"‪ ،‬تدرس فيه األمناط املختلفة للخطابات‬ ‫مباحث علم اإلناسة ّ‬
‫املستعملة يف الثقافات العديدة‪ ،‬مثل القصص واأللغاز واللعب بالكلمات والسباب‬
‫وغريها من أساليب السرد واألسطورة‪ .‬أما علم االجتماع فقد تركزت حبوثه يف جمال‬
‫التحليل املستفيض للحوارات اليومية وقواعد متتاليات اجلمل وأفعال احلديث وحمتواه‬
‫املتعلق باملعتقدات وأمناط السلوك لألفراد يف اجملتمع‪ ،‬خاصة يف إطار حتليل وسائل‬
‫االتصال اجلماعي‪ .‬وينبه صالح فضل(‪ )51‬إىل أن هذا النوع من البحوث نادر يف‬
‫الدراسات العربية وإن كانت بعض املؤسسات الواعية قد أخذت يف تنميتها‪ ،‬ويأيت يف‬
‫هذا االطار املعريف ذاته علوم البالغة واألسلوب والشعرية واأللسنية‪ ،‬ألهنا تنكب‬

‫(‪ )61‬مقدمة إلى تحليل الحديث‪ ،‬ترجمة قاسم المقداد‪ ،‬مجلة المعرفة‪ ،‬دمشق‪ ،‬عدد ‪،1111 ،221‬‬
‫ص‪.21‬‬
‫(‪ )62‬صالح فضل‪ :‬علم الخطاب وبالغة النص‪ ،‬ص‪.16 -15‬‬

‫‪21‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫على دراسة خواص اخلطاب الفنية النوعية(‪ )51‬وعن املفاهيم اخلطابية اليت ارتقت بأفق‬
‫املصطلح املفهوم الذي طرحه مارك اجنينو عن داللة اخلطاب عندما ردها إىل كل ما يقال‬
‫أو يثبت يف جمتمع من اجملتمعات من حيث االنساق املولدة وخمزونات املوضوعات‪،‬‬
‫وقواعد التلفظ اليت تقوم بتنظيم ما يقال وما ال يقال داخل اجملتمع‪ ،‬يف الوقت الذي‬
‫تعمل على صيانة تقسيم العمل اخلطايب(‪.)59‬‬
‫ومارك اجنينو يف هذا التعريف خيصص اخلطاب العام املتلفظ به يف اجملتمع؛ أي‬
‫مينح كل جمتمع خطاباً خيتص به جمتمع أنساقه وخمزوناته‪ .‬أما يورجان هامربس*(‪.)56‬‬
‫فاخلطاب لديه ذلك الشكل اللغوي الذي توجد فيه دعاوي السالمة(‪)55‬؛ أي ذلك‬
‫اخلطاب الذي يسمح بقول ومينع قوالً آخر ‪ ،‬وهو القول امللتزم باألصول السليمة‪.‬‬
‫ويستخدم باختني (‪ )1016 -1106‬اخلطاب ليشري إما إىل الصوت أو إىل‬
‫طريقة استخدام الكلمات اليت تفرتض سلطة (وهذا االستخدام متأثر مبعىن الكلمة‬
‫الروسية للخطاب ‪ .)51()Slovo‬أما حتليل اخلطاب فيعين لديه دراسة عمليات التلفظ‬
‫اللغوي يف سياقات أدائها االجتماعي‪ ،‬على أساس أن السياق االجتماعي جزء ال‬
‫ينفصل عن أي فعل لغوي وأن معىن كل تلفظ يتضمن وضع املتكلم بوصفه ذاتاً‬
‫اجتماعية تنعكس على غريها‪ ،‬وأفق االستقبال الذي يعين القيم السابقة للمستمع‪،‬‬
‫والتجسد التارخيي للغة بوصفها فضاءً أيديولوجياً تؤسسه‪ ،‬وتتفاعل فيه‪ -‬متقاربة أو‬
‫متصارعة‪ -‬كل اخلطابات املوجودة بوصفها‬

‫(‪ )63‬المرجع نفسه ص ‪.16‬‬


‫(‪ )64‬جابر عصفور‪ :‬خطاب الخطاب‪ ،‬ص‪.11‬‬
‫فيلسوف ألماني معاصر‪.‬‬ ‫*‬
‫(‪ )66‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪11‬‬
‫)‪(5‬‬ ‫‪Sara Mills : Discourse, p. 7-8‬‬

‫‪31‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ظواهر اجتماعية‪ ،‬وبوصفها عالقات (وعالمات) قوة يف الوقت نفسه‪ .‬ويعين ذلك أن‬
‫اخلطابات تقوم بتنظيمات بعينها إلنتاج املعرفة وتوزيع القوة‪ ،‬وتعمل بوصفها أنساقاً‬
‫من وذجية لتحديد املعاين وتوصيلها‪ ،‬خالل تشكالهتا املختلفة اليت ال تكف عن التالقي‬
‫والتصادم والتنافس‪ ،‬مؤسسة بذلك العملية احلوارية الكربى للمجتمع كله‪ ،‬فكل خطاب‬
‫مبثابة فضاء (أو عملية) تتأسس فيه العالقات بني األفراد (العالقة الذاتية)‪ ،‬ويتم إنتاج‬
‫موضوعات املعرفة ‪ ،‬وتتولد مواصفات القيم‪ ،‬وذلك على حنو مييز كل خطاب عن غريه‪،‬‬
‫ويواجه كل خطاب غريه يف عالقات املعرفة اليت هي عالقات القوة يف اجملتمع(‪.)51‬‬
‫من هنا تتقاطع اخلطابات وتتداخل ورمبا تتشارط أو تتصارع أو تتنابذ فاخلطاب‬
‫يوازي احلضارة كونه الناطق الرمسي هبا‪ ،‬وإذا اختلفت احلضارات اختلفت اخلطابات‬
‫وتصارعت‪.‬‬
‫يوسع أفق املشهد‬
‫إن تعبئة وحدات اخلطاب بالقوة املعرفية ألي حضارة ّ‬
‫االصطالحي للكلمة (‪ )Discourse‬حىت تصبح نقطة تفاعل ومد وجزر بني عدد‬
‫وجيز من اجملاالت يف كل أحناء العامل املتقدم‪ ،‬فنبتت كثري من دراسات حتليل اخلطاب‬
‫خارج تربة علم اللغة وخاصة تلك املتعلقة باحلضارة‪.‬‬
‫إ ّن اخلطاب يف الفلسفة الغربية نشاط فكري نوعي ازداد اإلقبال عليه بتصاعد‬
‫الثورة الكونية يف تكنولوجيا االتصاالت والتجليات احلداثية‪ ،‬وما بعد احلداثية للهيمنة‪،‬‬
‫والتقدم النوعي يف وسائل إنتاج املعرفة وتوزيعها والوسائل املوازية يف غرضها‪ ،‬مبا يؤكد‬
‫عالقات القوة والعالقات املضادة هلا على السواء‪ .‬وذلك نشاط يتميز بتضافر‬
‫االختصاصات املتباينة‪ ،‬وتفاعل املطامح‬

‫(‪ )61‬جابر عصفور ‪ :‬خطاب الخطاب ‪ ،‬ص‪.111‬‬

‫‪31‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫واالهتمامات املتصارعة يف كل ما يكشف عن العالقات املؤسسية ألركولوجيا املعرفة يف‬


‫اجملتمع‪ ،‬بواسطة أفعال الكالم اليت تربز دور اللغة من حيث هي ممارسة خطابية يؤديها‬
‫األفراد مشافهة أو كتابة أو حواراً أو خماطبة(‪.)50‬‬
‫وفيما يلي استعراض ألهم مشروع فلسفي ضمن هذا الطرح للفرنسي ميشال‬
‫فوكو (‪ )1019 -1015‬الذي يع ّد خطوة متقدمة جداً يف جعل اخلطاب فلسفة يف‬
‫مرافئ املعرفة العقلية‪.‬‬
‫يتعامل فوكو مع اخلطاب بوصفه عملية إنتاج ذهين وع ّده أمراً يُسعى إليه ككثري‬
‫من األمور؛ لذا فهو صراع للسلطة من أجل السلطة‪ ،‬يقول فوكو‪" :‬كلمة ‪"Discours‬‬
‫نص وكالم وكتابة وغريها بشمله لكل إنتاج ذهين سواء أكان‬ ‫مصطلح لساين متميز عن ّ‬
‫نثراً أم شعراً‪ ،‬منطوقاً أو مكتوباً‪ ،‬فردياً أو مجاعياً‪ ،‬ذاتياً أو مؤسسياً‪ ،‬يف حني أن‬
‫املصطلحات األخرى تقتصر على جانب واحد‪.‬‬
‫وللخطاب منطق داخلي وارتباطات مؤسسية‪ ،‬فهو ليس ناجتاً بالضرورة عن‬
‫ذات فردية يعرب عنها أو حيمل معناها‪ ،‬أو حييل إليها‪ ،‬بل قد يكون خطاب مؤسسة أو‬
‫فرتة زمنية أو فرعاً معرفياً ًً ما(‪ .)19‬فاخلطاب فيما سبق يتسع ليحتضن اإلنتاج اإلنساين‬
‫الذي ال يشكله الفرد‪ ،‬وإن كان هو من ينطق به‪ ،‬فاخلطاب هو جماالت املعرفة اإلنسانية‪.‬‬
‫ويف معرض آخر يواصل فوكو ضبط اصطالح اخلطاب بقوله‪" :‬بدالً من أن‬
‫أضيّق من املعىن الفضفاض والواسع للفظة "خطاب"‪ ،‬أعتقد أنين ضاعفت وأكثرت من‬
‫معانيه‪ :‬فهو أحياناً يعين امليدان العام جملموع العبارات‪ ،‬وأحياناً أخرى جمموعة متميزة من‬
‫العبارات‪ ،‬وأحياناً ثالثة‪ ،‬ممارسة هلا قواعدها‪ ،‬تدل‬

‫(‪ )61‬المرجع نفسه ‪ ،‬ص ‪.111-111‬‬


‫(‪ )71‬ميشال فوكو‪ :‬نظام الخطاب‪ ،‬ترجمة محمد سبيال‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪ ،1‬ص‪.1‬‬

‫‪32‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫داللة وصف على عدد معني من العبارات وتشري إليها؛ أمل أجعل لفظ اخلطاب الذي‬
‫كان من املفروض أن يقوم بدور احلد أو الغطاء للفظ العبارة ‪ ،‬يتغري حبسب تغيريي لوجه‬
‫التحليل وملواطن تطبيقه‪ ،‬ومبقدار ما كانت تغيب عن بايل‪ .‬العبارة ذاهتا "(‪.)11‬‬
‫وبنظرة معمقة يف التعريفات الثالثة السابقة جند ما يلي‪:‬‬
‫التعريف األول‪ :‬يظهر أن مجيع امللفوظات أو النصوص اليت هلا معىن واليت هلا‬
‫بعض التأثري على العامل الواقعي تع ّد خطاباً‪( ،‬اخلطاب يف مستواه العام)‪.‬‬
‫ِ‬
‫ىن معينة ضمن اخلطاب‪ ،‬وبذلك فهو مهتم بأن‬ ‫التعريف الثاني‪ :‬يناقش فيه ب ً‬
‫يكون قادراً على حتديد اخلطابات‪ ،‬أي جمموعة امللفوظات اليت يبدو أهنا تنظّم بطريقة‬
‫معينة يبدو أهنا متتلك اتساقاً وقوة مشرتكة بينها؛ لذا سيظهر خطاب نسوي وآخر‬
‫امربيايل وثالث استشراقي وهكذا‪ ،‬فاخلطابات اليت نفكر هبا هلا ختصيص واضح إىل‬
‫مناطق مميزة‪ :‬فهي رمبا تكون جزءاً من الدين‪ ،‬وجزءاً من املعرفة وجزءاً من الثقافة(‪،)11‬‬
‫فاخلطابات ال تولد مقسمة بل حنن حنددها وقد خنطئ يف هذا التحديد‪.‬‬
‫التعريف الثالث‪ :‬وهو أكثر التعريفات صدى‪ ،‬إذ يهتم مبلفوظات النصوص‬
‫املنتجة أقل من اهتمامه بالقواعد والبىن اليت تنتج ملفوظات معينة‪ ،‬إن طبيعة اخلطاب‬
‫هذه اليت حتكمها القوانني هي اليت تتمتع باألمهية الكربى‬

‫(‪ )71‬ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ترجمة‪ :‬سالم يفوت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪ ،1117‬ص ‪.76‬‬
‫)‪(2‬‬ ‫‪Dian Macdonell: Theories of Discourse, Oxford: Basil Blackwell‬‬
‫‪Ltd., 1986, p. 95.‬‬

‫‪33‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ضمن هذا التعريف‪ ،‬ففي عمل معظم منظري اخلطاب تستخدم هذه التعريفات بشكل‬
‫متبادل وميكن ألحدها أن ينبين فوق اآلخر(‪( .)11‬مستوى اجلنس الكتايب) الذي قد‬
‫يكون مقاالً أو رواية أو مسرحية وهكذا‪.‬‬
‫لقد ق ّدم " فوكو" مفهومه عن اخلطاب على أنه منظومة من القواعد اليت تنتظم‬
‫داخل املمارسة اخلطابية‪ ،‬وهو منظومة تسمح بتكوين مواضيع البحث‪ ،‬وتوزيعها‪ ،‬وحتدد‬
‫أمناط القول أو لعبة املفاهيم واالحتماالت النظرية(‪.)19‬‬
‫وهذه املنظومة شبكة معقدة من العالقات االجتماعية والسياسية والثقافية اليت‬
‫حتدد كيفية إنتاج اخلطاب‪ ،‬وهنا يتدخل الدور الواعي للخطاب "املتمثل باهليمنة اليت‬
‫ميارسها يف حقل معريف أو مهين أصحاب ذلك احلقل على صحة خطاب املتحدث‬
‫ومشروعيته‪ ،‬وما إىل ذلك من مالبسات تشري بوضوح إىل أن إنتاج اخلطاب وتوزيعه ليس‬
‫حراً كما قد يبدو ظاهره"(‪ )16‬وعندها قد يتحول اخلطاب إىل أداة مباشرة لإلخضاع‬
‫األيديولوجي(‪ ،)15‬فجميع أنواع اخلطاب تتموضع أيديولوجياً وليس منها ما هو حمايد(‪.)11‬‬
‫إن اخلطاب ضمن مستواه النصي ميتلك سلطة على متلقيه مستمعاً أو قارئاً‪:‬‬
‫سلطة تظهر يف استغراقه يف اخلطاب وتأثره مبا فيه من طاقة بيانية فينتاب املتلقي ضرب‬
‫من الوهم فال يرى الكمال إال فيه‪ ،‬وال يرى إال مجاله وتلك أشد أحكام السلطة‬
‫(‪)11‬‬
‫اخلطابية ‪ ،‬فترتسخ حىت تشكل قناعة عند املتلقي فال جيد فكاكاً‬

‫‪(1) Sara Milis , Discourse, p. 6.‬‬


‫(‪ )74‬معن زياده‪ :‬الموسوعة الفلسفية العربية‪ ،‬معهد اإلنماء العربي‪ ،‬بيروت‪ ،1116 ،‬ج‪ ،1‬ص‪-771‬‬
‫‪.772‬‬
‫(‪ )75‬ميشال فوكو‪ ،‬نظام الخطاب‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫‪(4) D.Macdonell Theories of Discourse p. 110.‬‬
‫‪(5) Ibid , p. 59.‬‬
‫(‪ )71‬نور الدين السد‪ :‬مفارقة الخطاب‪ ،‬للمرجع األدبي‪ ،‬ص ‪.314‬‬

‫‪34‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫منها ومن تأثريها‪ ،‬واملتعة أقل حتكماً من السلطة‪ ،‬فأنساق اخلطاب ومكوناته وانسجامها‬
‫متارس السلطة على املتلقي توجهه أىن شاء فيما تنتقض هذه السلطة إذا ما حضر وعي‬
‫القارئ أو السامع بالنظر النقدي إىل مجيع خصائص اخلطاب التكوينية وبتسلح الناقد‬
‫مبنظومة حتليلية متكاملة بعدهتا املصطلحية واملفاهيمية واإلجرائية‪ ،‬فالنظرة النقدية‬
‫للخطاب تقلص من تأثريه على املتلقي املتخصص‪.‬‬
‫وبوسعنا اآلن أن نقرر بأن اخلطاب حسب فوكو يسعى إىل إقرار ثنائينت‬
‫متداخليتني متنافستني يف اخلطاب مها‪ :‬الكلمة والشيء‪ .‬الكلمة صاحبة الوجود املادي‬
‫والشيء الذي جتتمع الكلمات لتأخريه‪ .‬فاملادية ال تكفي حلصر اخلطاب؛ يقول فوكو‪:‬‬
‫"أما لفظ اخلطاب الذي أكثرنا وبالغنا يف استخدامه ٍ‬
‫مبعان خمتلفة‪ ،‬فإننا نفهم اآلن سبب‬
‫اهبامه‪ ،‬فقد استعمل بكيفية أكثر عمومية وأكثر التباساً للداللة على جمموع اإلجنازات‬
‫اللفظية‪ ،‬وكنا نفهم عندئذ لفظ خطاب ما مت إنتاجه (أو كل ما مت إنتاجه عند االقتضاء)‬
‫بواسطة األدلة‪ .‬كنا نفهم منه كذلك جمموعة من أفعال الصياغة‪ ،‬أو اجلمل والقضايا‪.‬‬
‫وأخريا‪ :‬وهذا هو املعىن الذي كنا نفضله (إضافة إىل األول الذي يشكل بالنسبة له أفقاً)‬
‫اعتربنا أن اخلطاب يتكون من جمموعة من األدلة من حيث هي عبارات وبوصفنا قادرين‬
‫على أن نعني أمناط وجودها اخلاصة"(‪.)10‬‬
‫يوسع ما قدمه اللسانيون عن اخلطاب‪ ،‬فاخلطاب‪ -‬حسبما يفضل‪-‬‬ ‫ففوكو ّ‬
‫جمموعة عبارية نابعة من سجل نظام التكون ويتجاوز كونه وحدة بالغية ميكن أن تتكرر‬
‫إىل ما ال هناية‪.‬‬

‫(‪ )71‬ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪،‬ص ‪.111‬‬

‫‪35‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إن فوكو يف مشروعه الفلسفي يستثمر اخلطاب يف ميدانني‪ :‬ميدان حتليل‬


‫الفكر(‪ )19‬وميدان اخلطاب(‪ ،)11‬فتحليل الفكر يؤدي إىل استيضاح ما َك ُمن فيه من‬
‫جمازيات (ما وراء اخلطاب)‪ ،‬أما حتليل اخلطاب فيحفل بالعبارة نظراً لتحررها إال من‬
‫التزامها بذاهتا فال حتيل على شيء‪.‬‬
‫أما نسيج اخلطاب فيتشكل عند فوكو يف أربعة أسس مفرتضة هي(‪:)11‬‬
‫أن العبارات املختلفة األشكال واملبعثرة يف الزمان تشكل جمموعاً واحداً‪ ،‬إذا كانت‬ ‫‪‬‬
‫ترجع بصورة أو بأخرى إىل ذات املوضوع وحتيل عليه‪.‬‬
‫إنه لتحديد جمموعة من العالقات بني عدد من العبارات‪ ،‬البد من الرتكيز على‬ ‫‪‬‬
‫شكلها ومنط تسلسلها وترابطها‪.‬‬
‫البحث يف إقامة جمموعة من العبارات عن طريق حتديد نظام املفاهيم الدائمة‬ ‫‪‬‬
‫واملتنافسة‪.‬‬
‫من أجل جتميع العبارات يف وحدات حقيقية‪ ،‬ينبغي وصف تسلسلها وتتابعها‬ ‫‪‬‬
‫وأشكال التوحيد اليت تظهر هبا كوحدة املضامني الفكرية ومتاثلها وثباهتا‪.‬‬

‫(‪ )11‬انظر‪ -‬ميشال جاريتي‪ :‬المذاهب الشكالنية ‪ ،‬مجلة كتابات معاصرة‪ ،‬تموز ‪ ،2112‬عدد ‪،47‬‬
‫ص ‪.12‬‬
‫كما يظهر في دراسته "حفريات المعرفة" ‪ 1161‬وهي مجموعة من الدراسات أنجزها في‬
‫الستينيات طوّ ر فوكو فيها آركيولوجيا (علما ا للحفريات) استجوب بعض التحوالت في الفكر‬
‫الغربي على امتداد األربعمائة سنة األخيرة‪ ،‬فاقتصر الكتاب على التحليل العام ألنواع الخطاب‬
‫(التاريخ الطبيعي‪ ،‬واالقتصادي والسياسي مثال) في وحداتها الكبرى وقواعد تشكلها وأنماط‬
‫عملها‪.‬‬
‫(‪ )11‬راجع ‪.D. Macdonell: Theories of discourse, p. 82 :‬‬
‫ولم يحظ هذا الميدان بكبير اهتمام عند فوكو‪ ،‬فقد تعاملت اركيولوجيا فوكو مع الميادين‬
‫اإلنسانية بشكل خاص‪ ،‬وليس مع العلوم المادية‪.‬‬
‫(‪ )12‬راجع‪ :‬عبد هللا ابراهيم‪ :‬المصطلح ظاهرة االنزياح الداللي (‪.)on-line‬‬

‫‪36‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إن منهج فوكو يف كتابه "حفريات املعرفة" ال يتضمن أي حماولة للجري أو‬
‫اللهث وراء البدايات كما ال يقرن التحليل بأي تنقيب أو سرب جيولوجي‪ ،‬بل يدل على‬
‫الفكرة األساسية واحملورية العامة لوصف هدفه؛ استنطاق املاقيل يف مستوى وجوده‪ ،‬ويف‬
‫مستوى الوظيفة العبارية اليت متارس عليه والتشكيلة اخلطابية اليت ينتسب إليها‪ ،‬واملنظومة‬
‫العامة الحتفاظه وظهوره‪ .‬فاحلفريات تصف اخلطاب كممارسات حمددة يف عنصر نظام‬
‫االحتفاظ والظهور"(‪.)11‬‬
‫إن اخلطاب يتلخص عند فوكو يف اقرتانه باملمارسات األبستيمية اليت تقع يف‬
‫مرحلة الوسط بني معايري النسق اللغوي من جهة واالستخدام الفردي للغة من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬فاخلطاب عند فوكو يأىب أن يكون مللم ًة توفيقية للكلمات‪ ،‬فال حيضر معناه يف‬
‫قواعد قوة ضابطة للنسق اللغوي فحسب‪ ،‬إنه ينطوي على العالقة البينية بني‬
‫الذوات(‪ ،)19‬ويكشف عن اجملال املعريف الذي ينتج وعي األفراد بعاملهم‪ ،‬ويوزع عليهم‬
‫املعرفة املبينة يف منطوقات خطابية سابقة التجهيز‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬الخطاب في الثقافة العربية المعاصرة‬


‫مل جتد الدراسات العربية احلديثة املتناولة ملوضوعة اخلطاب وحتليله مناصاً من‬
‫االلتحاق بأحد املفهومني الكبريين للخطاب‪ ،‬واللذين أفرزهتما الثقافة الغربية يف السنوات‬
‫الثالثني املنصرمة‪ ،‬وتبعاً لذلك مل تقدم الدراسات العربية جديداً يذكر على مفهوم‬
‫اخلطاب بل جلأت كل حماولة إىل تبين إحدى التوجهني السابقني يف تعريف اخلطاب؛‬
‫التوجه األلسين باشتقاقاته املنهجية‪،‬‬

‫(‪ )13‬ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ص ‪.122‬‬


‫(‪ )14‬جابر عصفور‪ :‬خطاب الخطاب‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪37‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫والتوجه الفلسفي بتنوعاته الفكرية‪ ،‬فاخلطاب إما تسلسل ُمجلى أو توجه يكشف فلسفة‬
‫(ما)‪ .‬مع إملاح إىل تفرع اخلطاب حنو الداللة وانفتاحه على العلوم اإلنسانية املتعددة‪ .‬ولنا‬
‫أن نستعرض أبرز تعريفات اخلطاب يف الدراسات العربية‪.‬‬
‫يوحد "حممد خطايب" تعامله مع مصطلحي النص واخلطاب‪ ،‬فهما مسميان‬ ‫ّ‬ ‫‪-‬‬
‫لشيء واحد‪ .‬وبناء عليه يصبح النص‪ /‬اخلطاب‪ -‬حسب مزجه‪" -‬كل متتالية من‬
‫اجلمل‪ -‬كما يذهب إىل ذلك هاليداى وحسن‪ -‬نصاً‪ ،‬شريطة أن تكون بني هذه‬
‫اجلمل عالقات‪ ،‬أو على األصح بني بعض عناصر هذه اجلمل عالقات‪ ،‬تتم هذه‬
‫العالقات بني عنصر وآخر وارد يف مجلة سابقة أو مجلة الحقة‪ ،‬أو بني عنصر‬
‫برمتها سابقة أو الحقة"(‪ )16‬فاخلطاب عند حممد خطايب ال خيرج عن‬
‫وبني متتالية ّ‬
‫الدائرة العامة اليت خطتها األلسنية عام ‪ 1061‬كما هي عند هاريس‪.‬‬
‫أما "مازن الوعر" فريى يف علم اخلطاب مثرة تتوج شجرة املناهج املتشابكة‪ ،‬فعلم‬ ‫‪-‬‬
‫اخلطاب لديه أو علم النص هو " نظرية قامت على أنقاض األسلوبيات‬
‫ومناهجها املتعددة؛ ذلك ألن هذا العلم هو أكثر تطوراً وأشد حساسية جتاه‬
‫النص األديب الذي مل تستطع البالغة واألسلوبيات أن تتعامال معه على حنو‬
‫تواصلي (اثنوغرايف) عميق‪ .‬فقد استطاع هذا العلم التعامل مع الشبكات الداللية‬
‫والثقافية واالجتماعية والدينية‬

‫(‪ )15‬محمد خطابي‪ :‬لسانيات النص مدخل إلى انسجام الخطاب‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪ ،1111‬ط‪ ،1‬ص ‪.13‬‬

‫‪31‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫والسيميولوجية للنص األديب بدقة وعمق" (‪ )15‬فمازن الوعر ميتدح ‪ -‬وهو ألسين –‬
‫جماوزة اخلطاب لبنيته الظاهرة إىل بنيته العميقة‪ ،‬ويف سياق آخر يقول يف الصدد‬
‫ذاته‪ " :‬ما نريد قوله إن من املفيد أال نتطلع إىل اخلطاب يف شكله الظاهري فيما‬
‫إذا كان حمادثة أم كتابة‪ ،‬بل جيب أن ننظر بعمق إىل أبعاده وأهدافه(‪.)11‬‬
‫ويف األسلوبية العربية يعرف " سعد مصلوح" اخلطاب بأنه " رسالة موجهة من‬ ‫‪-‬‬
‫املنشئ إىل املتلقي تستخدم فيها نفس الشفرة اللغوية املشرتكة بينهما‪ ،‬ويقتضي‬
‫ذلك أن يكون كالمها على علم مبجموع األمناط والعالقات الصوتية والصرفية‬
‫تكون نظام اللغة‪ ،‬أي الشيفرة املشرتكة"(‪ )11‬وما ذهب إليه‬
‫والنحوية والداللية اليت ّ‬
‫سعد مصلوح قد ال ينطبق على مجيع اخلطابات‪ ،‬فقد ينطبق قوله على اخلطاب‬
‫الدارج‪ -‬كالماً أو كتابة‪ -‬الذي يهدف إىل التوصيل‪ ،‬فقد تتجاوز وظائف‬
‫اخلطاب هذه الوظيفة‪ ،‬فضالً عن اشرتاطه فهم املتلقي للغة املرسل‪ ،‬وهذا رأي قد‬
‫ينطبق على خطابات ُكتبت بنفس اللغة لكنها عصيّة على الفهم‪.‬‬
‫أما "عبد السالم املسدي" فيقدم تعريفه مباشرة عن اخلطاب األديب‪ ،‬إذ ع ّده "‬ ‫‪-‬‬
‫كياناً أفرزته عالقات معينة مبوجبها التأمت أجزاؤه ‪ ،‬فقد تولّد عن ذلك تيار‬
‫يعرف امللفوظ األديب بكونه جهازاً خاصاً من القيم طاملا أنه حميط‬
‫ّ‬

‫(‪ )16‬مازن الوعر‪ :‬علم تحليل الخطاب وموقع الجنس األدبي‪ ،‬مجلة آفاق التراث والحداثة‪ ،‬اإلمارات‪،‬‬
‫عدد ‪.1116-14‬‬
‫(‪ )17‬مازن الوعر‪ :‬تقنيات الخطاب المقنع والخطاب العادي‪ ،‬مجلة الموقف األدبي‪ ،‬دمشق‪ ،‬تموز‪،‬‬
‫‪ ،2112‬عدد ‪.375‬‬
‫(‪ )11‬سعد مصلوح‪ ،‬األسلوب‪ ،1111 ،‬الكويت‪ ،‬دار البحوث العلمية‪ ،‬ص ‪.23‬‬

‫‪31‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ألسين مستق ل بذاته وهو ما أفضى إىل القول بأن األثر األديب بنية ألسنية تتجاوز مع‬
‫السياق املضموين جتاوزاً خاصاً"(‪.)10‬‬

‫إن اخلطاب األديب يف حمصلته األوىل معطى تفرزه العالقات حيث يتفاعل‬
‫بعضها مع بعض؛ إذ تشكل كياهنا اخلاص‪ .‬كما يالحظ أن املسدي أضفى على‬
‫مصطلح اخلطاب صفة عدم االستقرار فهو مرة خطاب ومرة أخرى كيان ُمفرز ومرة ثالثة‬
‫جهاز خاص‪ ،‬وهو كذلك حميط الشيء‪ ،‬ومن مث أثر أديب أو بنية ألسنية فهل هلذه‬
‫املفاهيم من موحد؟ وهل اخلطاب يستطيع أن يستوعبها؟‬
‫أما "نور الدين السد" وهو أحد الباحثني الناشطني يف جمال اخلطاب فيعرف‬
‫ِ‬
‫املخاطب‬ ‫اخلطاب بأنّه‪" :‬إجناز يف الزمان واملكان"‪ .‬ويقتضي لقيامه شروطاً أمهها‬
‫واملخاطَب‪ .‬وحتدد كيان اخلطاب مكونات تعلن عن حدوثه وهي‪ :‬األصوات واملفردات‬
‫(الكلمات) والرتاكيب والداللة والتداول‪ .‬وإذا كان ذلك فإن اخلطاب وجود فيزيائي‪ ،‬ألن‬
‫اللغة ظاهرة فيزيائية إىل جانب كوهنا اجتماعية وتعبريية وتوصيلية‪ ،‬وهي بنية حتكمها‬
‫عالقات تعلن عن انتمائها إىل كيان لغوي متماسك عرب نسيج من الكلمات مرتابطة‬
‫فيما بينها‪ ،‬وهبذا يكون اخلطاب نظاماً من العالقات الدالة ظاهراً وباطناً"(‪.)09‬‬
‫ونور الدين السد فيما سبق ينهج هنجاً توصيفياً لتحديد اخلطاب زماناً وشكالً‬
‫وصوتاً وبىن فال يغلّب جانباً على جانب آخر‪ ،‬فاخلطاب قبل كل شيء‬

‫(‪ )11‬عبد السالم المسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ط‪ ،2‬الدار العربية للكتاب‪ ،1112 ،‬تونس‪ ،‬ص‬
‫‪.111‬‬
‫(‪ )11‬نوارة بوعياد‪ :‬دراسات في اللغة واألدب‬
‫)‪http://www.aljahidhiya.ass.dz/Revues/tabyin17/mathoumelkhitab.htm (on-line‬‬

‫‪41‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إجناز‪ .‬ويف تعريفه السابق يقارب نور الدين السد مفهوم الفعل الكالمي أداة‬
‫أساسية يف التواصل حتكمها قوانني وقواعد اجتماعية ولغوية(‪.)01‬‬
‫وتعريف "حممد مفتاح" ال يبتعد كثرياً عن هذا التوجه فاخلطاب لدى حممد‬
‫مفتاح يندرج ضمن ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬مدونة كالمية‪.‬‬
‫‪ -1‬حدث‪ ،‬كل خطاب هو حدث يقع يف زمان ومكان وال يعيد نفسه إعادة مطلقة‪.‬‬
‫تواصلي‪ :‬لتوصيل املعلومات واملعارف‪.‬‬ ‫‪-1‬‬
‫تفاعلي‪ :‬بوصفه وظيفة معززة للتواصل‪.‬‬ ‫‪-9‬‬
‫مغلق‪ :‬أي انغالق مسته الكتابية األيقونية اليت هلا بداية وهناية‪.‬‬ ‫‪-6‬‬
‫تداويل‪ :‬فاحلدث اللغوي ليس منبثقاً من عدم‪ ،‬بل متولد من أحداث تارخيية‬ ‫‪-5‬‬
‫ونفسانية واجتماعية ولغوية‪ ..‬وتتناسل منه أحداث لغوية أخرى الحقة‪.‬‬
‫"فاخلطاب إذن مدونة‪ ،‬حدث كالمي ذو وظائف متعددة"(‪.)01‬‬

‫وهنا حياول حممد مفتاح مللملة مفردات اخلطاب من خالل حصر وظائفه‪،‬‬
‫فالوظائف تكشف ماهية املصطلح الذي هو بدوره يكشف مدى عمل املفهوم ونشاطه‪.‬‬

‫(‪ )11‬للمزيد من االطالع راجع‪:‬‬


‫‪-‬‬ ‫‪Austin, J.L. (1962). How to do Things with Words. London: Oxford‬‬
‫‪University Press.‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪Searle, John. (1969) Speech Acts: An Essay in the Philosophy of Language.‬‬
‫‪London: Cambridge University Press, P 16 .‬‬
‫(‪ )12‬محمد مفتاح‪ :‬تحليل الخطاب الشعري‪ ،‬استراتيجية النناص‪ ،‬ط‪ ،1‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪،1115 ،‬‬
‫ص ‪.15-14‬‬

‫‪41‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أما بنيوياً فتعد دراسة سعيد يقطني (حتليل اخلطاب الروائي) من الدراسات‬ ‫‪-‬‬
‫املستقصية لنشأة اخلطاب‪ ،‬فبعد أن يسرد وحيلل يف مقدمة كتابه أهم منظري‬
‫اخلطاب‪ ،‬ويعلق عليهم يقدم لنا تصوره عن اخلطاب الروائي‪ ،‬فاخلطاب الروائي‬
‫(‪)01‬‬
‫عنده هو الطريقة اليت تقدم هبا املادة احلكائية يف الرواية ‪ .‬وهو يطرح مفهوماً‬
‫ُجمتزأً للخطاب عندما ّ‬
‫خصصه بالرواية‪ .‬لكنه يُبقى الطريقة اليت تعرض هبا املادة‬
‫اخلطابية؛ إضافة إىل رغبته يف توسيع آلية اخلطاب وتنويع ممارساته يف نقل املادة‬
‫بأكثر من صيغة‪.‬‬
‫ومن الدارسني اجلادين يف موضوع اخلطاب نثبت تعريف "إبراهيم صحراوي"‬ ‫‪-‬‬
‫للخطاب‪ ،‬فاخلطاب لديه‪" :‬كل جمموع له معىن لغوي (شفوياً كان أم كتابياً)‪،‬‬
‫تعليمي‪ ،‬سينمائي‪ ،‬رمسي"(‪.)09‬‬

‫ختتلف أبعاد هذا اجملموع من حالة إىل أخرى‪ .‬فقد يكون مجلة واحدة أو فقرة‬
‫أو نصاً يتكون من فقرات متعددة‪ .‬كما ختتلف أشكاله ومضامينه وجماالته الداللية‪ .‬وهو‬
‫يف كل حالة خيضع لقواعد وقوانني خاصة تنظمه‪ .‬على أنه جيب إدراج هذا اجملموع أو‬
‫البناء ذي الداللة يف سياق تبليغي يفرتض وجود قطبني جتري بينهما العملية سواء أكانت‬
‫مباشرة أم غري مباشرة‪ ،‬واخلطاب هبذا املعىن رسالة تندرج يف العامل الثقايف الذي ينتمي‬
‫إليه مرسلها‪ ،‬وحتمل كل القيم مجاليةً كانت أم اقتصادية أو سياسية‪ ...‬وما إىل ذلك مما‬
‫يدخل يف تركيبة عامل ثقايف‬

‫(‪ )13‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص‪.7‬‬


‫(‪ )14‬ابراهيم صحراوي‪ :‬الخطاب األدبي لدى جرجي زيدان‪( ،‬رسالة جامعية غير منشورة)‪ ،‬جامعة‬
‫الجزائر‪ ،1113 ،‬ص ‪.5‬‬

‫‪42‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫معني"(‪ .)06‬وإبراهيم صحرواي ينهج هنجاً مشولياً يف مللمة ما قرأه عن اخلطاب ووضعه يف‬
‫تعريف واحد واسع أكثر منه ُحمدِّداً‪.‬‬
‫وصالح فضل يؤازر مثل هذا التوجه‪ ،‬فريى أن اخلطاب بات يتجه اليوم ليصبح‬
‫"طريقة يف التناول التقين ومنهجاً للتحليل العلمي دون االعتماد على مصادرات مسبقة‬
‫ومعايري دائمة‪ ،‬تستمد صالبتها من البنية األيديولوجية املغلقة"(‪ )05‬وهذه الرؤية تظهر‬
‫حماولة استيعاب للخطاب وجعله طريقة لنقل األفكار وتصوراً للتفاعل اإلنساين‪ .‬وقد‬
‫نلمس يف رؤيته أيضاً تأثراً بطرح تودوروف الذي ع ّد اخلطاب متنوعاً ضمن املادة اليت‬
‫يعمل عليها‪.‬‬
‫‪ -‬ومن الدراسني العرب الذين حاولوا طرح اصطالح للخطاب منذر عياشي‪،‬‬
‫فاخلطاب كما يعرفه‪" :‬جمموعة منظمة من اجلمل وهدفه احلصول على‬
‫اإلقناع"(‪ .)01‬وعلى ما يبدو أن منذر عياشي يتعامل مع اخلطاب على أنه عمل‬
‫فكري يظهر يف آلية اجلمل املنظمة‪ .‬إن املزج بني املذهب اللساين واملذهب‬
‫الفلسفي يف تعريف اخلطاب لدى الدارسني العرب خيّم على مشهدهم البحثي‪.‬‬

‫ومن الدراسني الذين حاولوا االنتصار للخطاب من منطلق فلسفي فكري‬


‫مصطفى ناصف؛ إذ يقول‪" :‬إن نظرية اخلطاب تبحث أحياناً يف االعرتاف بالسلطة‬
‫األدبية أو قوامها‪ ،‬ويف هذا قدر من االجحاف‪ .‬لدينا خطابات كثرية وطرق خمتلفة‬
‫لدراستها"(‪.)01‬‬

‫ابراهيم صحراوي‪ :‬الخطاب األدبي لدى جرجي زيدان‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫(‪)15‬‬
‫صالح فضل‪ :‬بالغة الخطاب‪ ،‬وعلم النص‪ ،‬ص ‪.1 ، 1‬‬ ‫(‪)16‬‬
‫منذر عياشي‪ :‬مقاالت في األسلوبية‪ ،1111 ،‬اتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ص ‪.112‬‬ ‫(‪)17‬‬
‫مصطفى ناصف‪ :‬اللغة والتفسير والتواصل‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬الكويت‪ ،1115 ،‬عدد ‪ ،113‬ص‬ ‫(‪)11‬‬
‫‪.332‬‬

‫‪43‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فهذه دعوة صرحية لتتبع أنواع اخلطاب واخلروج على منطية اخلطاب الواحد وما‬
‫يقصده الباحث وينتصر إليه البحث عن آليات أخرى للخطاب غري اللغة‪ ،‬يقول‪" :‬إن‬
‫العالقات االجتماعية ال يستوعبها خطاب واحد وال ميكن أن يعترب اخلطاب األديب‬
‫خالصة واقعية لنشاط اللغة الكثيف املتقاطع"(‪ .)00‬إن مصطفى ناصف من خالل تعقيبه‬
‫هذا حياول صقل نظرية الستيعاب اخلطاب يف الفكر العريب احلديث‪ ،‬ومن مث ظهور‬
‫خطابات متخصصة‪ .‬كما ظهر لدى "حممد عابد اجلابري" الذي يرى يف اخلطاب‬
‫خالصة فكرية أو توجهاً إديولوجياً حني يقول‪" :‬عندما نتحدث عن الفكر العريب أو أي‬
‫فكر‪ ،‬وحنن نعي منتجات هذا الفكر فإننا نقصد أساساً جمموعة من النصوص‪ ،‬والنص‬
‫رسالة من الكاتب إىل القارئ فهو خطاب"(‪.)199‬‬
‫لذلك ظهرت لدينا خطابات كثرية اكتسبت مسمياهتا من الفحوى الفكرية أو‬
‫الوظيفة اليت حتملها‪ .‬فهناك اخلطاب االستشراقي وهناك خطاب اهليمنة وهناك خطاب‬
‫القوة وخطاب الفلسفة وكذلك خطاب اخلطاب‪.‬‬
‫ومن األدباء العرب الذين استثمروا لفظة اخلطاب على النحو األخري"أدونيس"‬
‫الذي وظّف يف إحدى كتاباته لفظة "اخلطاب الرتاثي" عندما يقول‪" :‬غري أ ّن اخلطاب‬
‫الرتاثي السائد يقوم يف منطلقاته ومنظورته على إرادة توحيد الرتاث ووحدته يف هوية‬
‫متميزة متواصلة هي هوية الواحد‪ )191( "...‬فأدونيس يستخدم لفظة اخلطاب قاصداَ ًً هبا‬
‫فحوى التوجه الثقايف الفكري للرتاث‪ ،‬إنه‬

‫(‪ )11‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.332‬‬


‫(‪ )111‬محمد عابد الجابري‪ :‬الخطاب العربي المعاصر‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت ‪ ،1115‬ص‬
‫‪.17‬‬
‫(‪ )111‬أدونيس‪ :‬في الشعرية‪ ،‬مجلة الكرمل‪ ،‬عدد ‪ ،1111 ،3‬ص ‪.131‬‬

‫‪44‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفكر املوجه الذي حيمل رؤية حمددة‪ ،‬وبذلك فهو التعبري عن الرؤية اإلنسانية‬
‫يف مرحلة معينة(‪.)191‬‬
‫وخالصة ما سبق أن الدراسات العربية كانت وفية الصطالحات اخلطاب اليت‬
‫ق ّرت يف الثقافة الغربية فلم خترج عنها بل دعمتها باالستخدام والرتويج ومل تتميز أية‬
‫حماولة يف اخلروج عن البعد األلسين أو البعد الفلسفي للخطاب‪ ،‬باستثناء بعض‬
‫الدراسات العابرة اليت خرجت عفو اخلاطر عن هذين التوجهني جلهل أسبق مبكنوهنما‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬الخطاب والنص‬


‫شاعت هاتان الكلمتان شيوعاً منقطع النظري يف الكتابات العاملية على‬
‫اختالف توجهاهتا‪ ،‬إذ ال يكاد خيلو مقال أو دراسة أو كتاب من إحدى هاتني‬
‫اللفظتني‪ ،‬ومع أ ّن كثرياً من الدراسات نذرت صفحاهتا لتعقب هاتني اللفظتني وتقنينهما‬
‫والتفريق بينهما إال أهنما ما زالتا تتداخالن بل وتتنازعان أحياناً على مكان واحد يف‬
‫السطر قبل أن حتل إحدامها هناك‪ .‬وهذا يكشف لبساً واضحاً عند بعضهم يف توظيف‬
‫أحد املصطلحني ودليل ذلك االزدواج يف توظيفهما يف الدراسة نفسها ضمن معىن‬
‫واحد‪.‬‬
‫إن مصطلحي اخلطاب )‪ (Discourse‬والنص ‪ Text‬يتقاربان إىل درجة‬
‫التماهي وأحياناً يتنافران َّ‬
‫حد استقالل كل واحد مبدلوله اخلاص‪ .‬وبادئ ذي بدء جيب أن‬
‫ندرك أن تشابه املفاهيم واملصطلحات ال يعين بالضرورة متاثلها‬

‫(‪ )112‬ومن الذين آزروا هذا التوجه في توظيف مصطلح الخطاب‪ -:‬علي حرب‪ :‬نقد النص‪ ،‬المركز‬
‫الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ - ،1113 ،‬فادي اسماعيل‪ :‬الخطاب العربي المعاصر‪ ،‬المؤسسة‬
‫الجامعية‪ ،‬ط‪.1113 ،2‬‬

‫‪45‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يف الداللة أو االصطالح‪ ،‬ألن كل مصطلح يكتسب معناه وخصوصيته من السياق‬


‫النظري الذي يوظف يف نطاقه‪ ،‬وهنا مصدر التنوع واالختالف(‪ .)191‬خاصة وأننا أمام‬
‫مصطلح اخلطاب متعدد املدلوالت‪.‬‬
‫وال بأس من عرض بعض األمثلة اليت تثبت عمق التداخل بني املصطلحني فيما‬
‫يلي‪:‬‬
‫نص تغلبت فيه‬ ‫‪ -‬يذهب جاكبسون يف حتديد مفهوم اخلطاب األديب إىل أنه‪ٌ " :‬‬
‫الوظيفة الشعرية للكالم‪ .)199("..‬فاخلطاب األديب هو يف حمصلته النهائية (نص)‪.‬‬
‫‪ -‬كل السرديني الذين يقفون عند احلد اللفظي للحكي (جنيت‪ ،‬تودوروف‪،‬‬
‫فاينريش‪ )...‬المييزون بني اخلطاب والنص‪ .‬إهنما يستعمالن بنفس الداللة اليت‬
‫حيملها مصطلح اخلطاب املتفق عليه‪ ،‬فجنيت مثالً يستخدم احلكي أحياناً وهو‬
‫يعين من خالله اخلطاب‪ ،‬وأحياناً أخرى النص(‪.)196‬‬
‫كما أن "ريفاتري" يوظف النص واخلطاب مبعىن واحد؛ إذ يقول‪" :‬إن النص أو‬ ‫‪-‬‬
‫اخلطاب األديب من وجهة نظر املعىن ليس إال سلسلة من وحدات إعالمية‬
‫متعاقبة"(‪.)195‬‬
‫ومن املعاجم األجنبية اليت رادفت بني املصطلحني املعجم املوسوعي للسيموطيقا‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫وهو بذلك إمنا يؤكد وحدة املفهوم املشرتك بينهما‪ ،‬ويف‬

‫سعيد يقطين‪ :‬المصطلح السردي العربي قضايا واقتراحات‪ ،‬مجلة نزوي‬ ‫(‪)113‬‬
‫)‪(www.nizwa.com/volume21/p61-68.htm) (on- line‬‬
‫نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ K‬ص ‪.111‬‬ ‫(‪)114‬‬
‫سعيد يقطين‪ :‬انفتاح النص الروائي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،1،1111‬ص ‪.11‬‬ ‫(‪)115‬‬
‫نور الدين السد‪ :‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ ،‬ص ‪.211 -211‬‬ ‫(‪)116‬‬

‫‪46‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫معرض حديثه عن ترادفهما يغيّب لفظة "اخلطاب" معتمداً على لفظة "النص" للقيام‬
‫باملهمة عن اللفظة األخرى‪ :‬فيصبح معىن النص ذلك الذي يستخدم للإلشارة إىل‬
‫أي فقرة ملفوظة أو مكتوبة‪ ،‬كما حييل النص على كل بناء نظري جمرد‪ ،‬فداللته‬
‫وداللة اخلطاب واحدة‪ .‬وإىل ذلك يذهب "فان دايك" أيضاً‪ .‬كما أن النص هو‬
‫سلسلة من العالمات اللفظية"(‪.)191‬‬
‫ومن الدراسني العرب الذين مزجوا بني املصطلحني يف مرادف واحد "حممد‬ ‫‪-‬‬
‫مفتاح" الذي حيلل اخلطاب الشعري حتت نظرية "اسرتاتيجية التناص"‪ .‬فيستخدم‬
‫اخلطاب مبفهوم النص إذ يقول‪ ":‬إن هذه النظرية الكلية اجلامعة بني اللسانيات‬
‫الوضعية والذاتية املستغلة لكل معطيات النص قربتنا خطوات يف سيبل إدراك‬
‫خصوصيات النص األديب‪ ،‬ومع ذلك فإننا نظن أن تشاكل اإليقاع ودورية املعىن‬
‫وكثافته‪ ،‬وخرق الواقع هي من قوانني اخلطاب الشعري ال ختتلف"(‪.)191‬‬

‫فهل النص واخلطاب متماثالن يف االصطالح‪ ،‬أم أن لكل منهما مصطلحاً‬


‫خاصاً يؤدي إىل استخدام خاص؟ وإذا كانا خمتلفني فأيهما حيتوي اآلخر؟ أحيتوي النص‬
‫اخلطاب أم العكس؟‬
‫غدا مصطلح اخلطاب مستقالً عن مصطلح النص وإن كانت تشغلهما مهام‬
‫مشرتكة‪ ،‬إال أن التقدم املنهجي احلاصل يف دراسات اخلطاب وعلم النص أوجدت بني‬
‫املصطلحني فروقاً قد تكون متناقضة فيما بينها‪ ،‬ولكن البد من استعراضها متهيداً‬
‫للخلوص إىل رأي قاطع يف هذا التداخل‪:‬‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Sebeok, Encyclopedia Dictionary of semiotics new york – 1986 .9.1080‬‬


‫(‪ )111‬محمد مفتاح‪ :‬تحليل الخطاب الشعري "استراتيجية التناص"‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‬
‫ط‪ ،1112 ،1‬ص ‪.16‬‬

‫‪47‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫النص هو السند املادي‪ -‬يف شكله الكتايب املقروء أو شكله الصويت‬ ‫أولا‪:‬‬
‫املسموع(‪ -)190‬للخطاب الذي هو بدوره فلسفة تفهم وأفكار تؤطّر يكلف‬
‫النص بتأديتها(‪.)119‬‬
‫فالنص هنا يساوي املنت )‪ (Cropus‬ويطلق يلمسليف ‪ Hjelmslev‬كلمة‬
‫نص على القول الشفوي أو اخلطي‪ ،‬إنه ذلك املتمثل يف بنية القول املادي‬
‫تتناوله مناهج التحليل الصويت والداليل والبنوي املهتمة أساساً بالقول دون‬
‫املنتج أو املتلقي(‪.)111‬‬
‫يرى جيفري لييش ومايكل شورت أن اخلطاب تواصل لغوي يرى أنه اتفاق‬ ‫ثانيا‪:‬‬
‫(معاملة) بني املتحدث واملستمع بوصفه نشاطاً تواصلياً حيدد شكله بغرضه‬
‫االجتماعي‪ .‬أما النص فهو تواصل لغوي إما حمكي أو مكتوب يرى ببساطة‬
‫على أنه رسالة مش ّفرة يف وسيطها السمعي أو املرئي(‪.)111‬‬
‫متلق مباشر‪ ،‬بينما النص يتم إعداه ٍ‬
‫ملتلق غائب يتلقاه‬ ‫ثالثا‪ :‬يفرتض اخلطاب وجود ٍ‬
‫الحقاً‪ ،‬فاخلطاب نشاط تواصلي بينما النص مدونة(‪ )111‬او تسجيل‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Docort, Todrov: Encyclopedia Dictionary of Scinces of Language,‬‬


‫‪London, 1979, p295.‬‬
‫(‪ )111‬ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )111‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬مكتبة لبنان‪ ،‬ط‪ ،2112 ،1‬ص ‪.161 -167‬‬
‫‪(4) J.Howrthon: A concise Glossary of contemporary Literary Throry,‬‬
‫‪Edward Arnold. London, 1992, p. 189.‬‬
‫(‪ )113‬بشير ابرير‪ :‬النص األدبي وتعدد القراءات‪ ،‬مجلة نزوي‪ ،‬عدد ‪ ،11‬يوليو ‪.1117‬‬
‫توفيق قريرة‪ :‬التعامل بين الخطاب وبنية النص في النص األدبي‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬عدد‬
‫‪ ،2‬مجلد ‪ ،32‬ديسمبر ‪ ،2113‬ص ‪.113‬‬

‫‪41‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫متعددة (‪ )116‬أو‬ ‫كالمي حلدث تواصلي(‪ )119‬أو مدونة حدث كالمي ذي وظائف‬
‫آلة بصرية يقدمها املؤلف للقارئ (‪.)115‬‬
‫رابعا‪ :‬اخلطاب ممارسة نظرية أي (آلية عمل)‪ .‬أما النص‪ -‬حسب جوليا‬
‫كريستيفا(‪ )111‬فجهاز عرب لساين‪ ،‬كما أنه جسم كتايب مكتمل‪ -‬حسب دريدا‬
‫(‪)111‬‬
‫حي ينتج عن هذه املمارسة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كائن‬ ‫إنه‬ ‫‪-‬‬
‫ٍ‬
‫مستكف بذاته "منغلق عليها"‪ .‬أما اخلطاب فهو نشاط تواصلي‬ ‫النص جسد‬‫خامسا‪ّ :‬‬
‫ضمن سياق اجتماعي ما يتطلب االنفتاح على غريه ليكتمل فتتخصب‬
‫دالالته(‪.)110‬‬
‫سادسا‪ :‬النص هو صياغة املعىن يف إطار تكون مادي‪ .‬أما اخلطاب فهو عملية حتويل‬
‫املعىن إىل أفكار تقبل احملاورة واالنطالق جمدداً(‪ .)119‬فالنص هو فن يصوغ‬
‫املعاين أما اخلطاب فهو الذي ينشِّئها‪.‬‬
‫سابع ا‪ :‬النص حسب‪ -‬فان دايك‪ -‬بناء نظري حتيت جمرد ملا يسمى عادة خطاباً(‪.)111‬‬
‫فالنص يف حمصلته النهائية خطاب موثّق‪ ،‬أو حسب بول ريكور بأن النص‬
‫خطاب مت تثبيته بواسطة الكتابة(‪.)111‬‬

‫(‪ )114‬براون ويول‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪.227‬‬


‫(‪ )115‬محمد مفتاح‪ :‬تحليل الخطاب الشعري‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫(‪ )116‬جيرار جينت‪ :‬خطاب الحكاية‪ -‬بحث في المنهج‪ ،‬القاهرة‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‬
‫ط‪ 2‬ص ‪.261‬‬ ‫والفنون‪،1117،‬‬
‫(‪ )117‬جوليا كريستيفا‪ :‬علم النص‪ ،‬تر‪ :‬فريد الزاهي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار توبقال‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )111‬عبد العزيز حمودة‪ :‬المرايا المقعرة‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬عدد ‪ ،272‬أغسطس ‪،2111‬‬
‫الكويت‪،‬ص ‪.456‬‬
‫(‪ )111‬سعيد بحيري‪ :‬علم لغة النص‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫(‪ )121‬نبيلة ابراهيم‪ :‬فن القص‪ ،‬القاهرة ‪ ،‬مكتبة غريب‪ ،1112 ،‬ص ‪.56‬‬
‫(‪ )121‬محمد خطابي‪ :‬لسانيات الخطاب‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫(‪ )122‬بشير ابرير‪ :‬النص األدبي وتعدد القراءات‪ ،‬نزوى‪ ،‬عدد ‪.1117 ،11‬‬

‫‪41‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ثامنا‪ :‬ميكن جملموعة من النصوص ذات مسة معينة أن تشكل خطاباً‪ ،‬فاخلطاب ال‬
‫حتده حدود النص‪ .‬أما النص كمادة فينتهي عند انتهاء النص وال يندمج بغريه‪،‬‬
‫ألن االكتمال من خواصه(‪ )111‬واالكتفاء بالذات من طبائعه‪.‬‬
‫يكون خطاباً‪ ،‬بل إن مهمته األساسية‬‫تاسعا‪ :‬النص يشرتط الرتابط حىت يستطيع أن ّ‬
‫أن مينحنا الرتابط الرصفي‪ .‬الذي يؤدي إىل اكتمال النص حىت تتحقق ممارسة‬
‫(‪)119‬‬
‫اخلطاب‪.‬‬
‫عاشرا‪ :‬الن ص طموحه ينتهي بانتهاء النص‪ ،‬أما اخلطاب فيبدأ عندما ينتهي النص‬
‫ليعيش منظومته مع اخلطابات األخرى اليت يتسامل معها أو يتصارع أو يتنابذ‪.‬‬
‫أحد عشر‪ :‬إن النص حيتوي على داللة غري قابلة للتجزئة(‪ )116‬كأن يكون "قصة"‪ ،‬أو‬
‫"وثيقة" أو أن يكون "قصيدة" مبا يعين أنه حيقق وظيفة ثقافية حمددة‪ ،‬وينقل‬
‫داللتها الكاملة‪ .‬أما اخلطاب فداللته تقبل التجزئة والتقسيم والتوزيع واجلمع‪.‬‬
‫ثاني عشر‪ :‬إن اخلطاب يراد به‪ -‬جتاوزاً‪ -‬أن يكون نصاً مفتوحاً على وضعيات التواصل‬
‫أو على سياقات التعامل بالقول‪ .‬أما النص فهو مندرج يف نسق (جنسوي)‬
‫أكرب منه خصوصاً إذا تعلق األمر بالنص األديب(‪ .)115‬إن اخلطاب يستعري‬
‫النص لتنفيذ مراده مث يغادره إىل نص آخر أىن شاء‪.‬‬

‫صالح فضل‪ :‬بالغة الخطاب وعلم النص‪ ،‬ص ‪.51‬‬ ‫(‪)123‬‬


‫روبرت دي بوجراند‪ :‬النص والخطاب واإلجراء‪ ،1111 ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.11‬‬ ‫(‪)124‬‬
‫صالح فضل ‪ :‬بالغة الخطاب وعلم النص‪ ،‬ص‪.234‬‬ ‫(‪)125‬‬
‫توفيق قريرة‪ :‬التعامل بين بنية الخطاب وبنية النص في النص األدبي‪ ،‬ص ‪.113‬‬ ‫(‪)126‬‬

‫‪51‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ولكن النتيجة اليت جيب أن خنلص إليها ورغم ما ورد يف االستعراض السابق أن‬
‫تقر بأن اخلطاب أوسع من النص بالتحديد املعريف اإلبستيمي؛ اذ هو منظومة معرفية‬
‫ّ‬
‫تتمثل يف مجلة من النصوص وامللفوظات واإلجراءات اليت يستدخلها األفراد وتسهم يف‬
‫تشكيل وعيهم وصورة العامل والعالقات فيه‪ ،‬ومتارس عليهم ومن مث إكراهاهتا السلطوية‪،‬‬
‫كما أن حتليل اخلطاب عند فوكو يشمل النظر إىل آليات إنتاج اخلطاب وتنظيمه‬
‫الداخلي وتوزيعه واملؤسسات اليت ترسم حدوده ومعايريه الشرعية واملشاركني فيه‪.‬‬
‫أما من وجهة نظر سرديه فاألمر خمتلف متاماً فاخلطاب هو القول الشفهي أو‬
‫اخلطي الذي خيرب عن حدث أو سلسلة أحداث‪ ،‬وهذا التعريف يقربه متاماً من النص يف‬
‫صورته آنفة الذكر ويقربه من السرد(‪ .)111‬فيما يتحول النص إىل جمموعة من البنيات‬
‫العميقة أو البنيات النسقية تتضمن اخلطاب وتستوعبه‪ ،‬فهو مظهر داليل أما اخلطاب‬
‫فمظهر حنوي(‪ .)111‬وهذا اجتهاد مغاير من يقطني ويتناقض متاماً مع مفهوم اخلطاب‬
‫املعريف األوسع الذي عرض سابقاً‪.‬‬
‫وكان منطلق هذا التمييز مرهون بأن التحليل ال ميكنه أن يتوقف عند حدود‬
‫الوصف (اخلطاب)‪ ،‬وأن عليه أن يتعداه إىل التفسري (النص) ولقد سهل هذا التمييز‬
‫عملية التفريق بينهما إجرائياً ونظرياً‪ .‬فضمن هذا التمييز يغدو النص أمشل من اخلطاب‬
‫ألنه ميتلك األداء والداللة معاً‪ .‬يقول سعيد يقطني‪" :‬جلأت يف حتليل اخلطاب وانفتاح‬
‫النص إىل ربط "اخلطاب" باملظهر النحوي و "النص" باملظهر الداليل‪ .‬وكان منطلق هذا‬
‫التمييز يرهتن بإمياين بأن التحليل ال ميكنه أن يتوقف‬

‫(‪ )127‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية ص ‪.11‬‬


‫(‪ )121‬سعيد يقطين ‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.17 -16‬‬

‫‪51‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫عند حدود الوصف (اخلطاب)‪ ،‬وأن عليه أن يتعداه إىل التفسري (النص) ولقد سهل هذا‬
‫التمييز علمية التفريق بينهما إجرائياً ونظرياً‪ ،‬وذلك أين كنت أرى ضرورة االهتمام بالنص‬
‫باعتباره موئالً للداللة‪ ،‬وأساساً لالنطالق إىل االهتمام جبوانب أخرى تتجاوز الراوي إىل‬
‫الكاتب‪ ،‬واملروي له إىل القارئ والبنيات السردية إىل الداللية‪ ،‬وصيغ اخلطاب إىل‬
‫بنيات النص‪ .‬وكان انفتاح النص أساس ذلك التميز الذي مسح يل باحلديث عن التفاعل‬
‫النصي (التناص) من خالل التمييز بني البنيات النصية عرب تعريف أوسع للنص‪ ،‬ألنه‬
‫أمشل من اخلطاب"(‪.)110‬‬
‫أما عن التمييز املعريف بني النص واخلطاب فال نراه يروق لدعاة تطوير النص‬
‫الذين مايزوا‪ -‬مؤخراً‪ -‬بني نص ظاهر )‪ (Pheno-Text‬ونص نوعي ‪(Geno‬‬
‫)‪ Text‬عندما أوكلوا للنص النوعي كثرياً من مهام اخلطاب‪ ،‬يف حني أن النص الظاهر‬
‫نص ذو بنية مادية حيلل صوتياً وتركيبياً وداللياً وبنيوياً‪ .‬أما النص النوعي‪ -‬حسب‬
‫كريستيفا‪ -‬فيتجاوز املنت اللغوي املسطح‪ ،‬بل هو كالم تتطلب قراءته استعادة مراحل‬
‫تكوينه لغة وداللة وصوالً إىل كشف موقع منتجه‪ .‬والنص النوعي جزء من املنطق العام‪،‬‬
‫املتعدد الوجوه‪ ،‬غري املقتصر على ما هو متعارف عليه وهو ال خيضع للبنيوية (ألنه فعال‬
‫بناء ال بنية) وال للتحليل النفسي (ألنه خارج الالوعي ولو تكون مما يلفظه الالوعي)‬
‫والنص ال يتمثل يف البنية العميقة بل هو ينتمي إىل املستوى اجملرد من عمل اللغة‪ ،‬وال‬
‫يعكس بنية اجلملة بل يسبقها ويلحق هبا(‪.)119‬‬

‫(‪ )121‬سعيد يقطين‪ :‬من النص إلى النص المترابط‪ ،‬مجلة عالم الفكر‪ ،‬عدد ‪ ،2‬مجلد ‪ ،32‬اكتوبر‪-‬‬
‫ديسمبر‪ ،2113 ،‬ص ‪.76‬‬
‫(‪ )131‬لطيف زيتوني‪ ،‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.161‬‬

‫‪52‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫سادسا‪ :‬مقاربة عامة‪:‬‬


‫تقلع هذه الدراسة يف حمطتها األخرية من هذا الفصل عن استجالء مفاهيم‬
‫اخلطاب ومدلوالته ألن غايتها فتح الطريق أمام آفاق اخلطاب املتنامية ال إغالقها‬
‫بالتعريف‪ ،‬فممارسة اخلطاب تؤدي بنا إىل فهمه دون املساس جتريدياً حبقه‪ ،‬وما خنلص‬
‫إليه يف القطرات األخرية من مدادنا يف هذا الفصل هو أن اخلطاب ضمن املشهد األخري‬
‫املرصود له بات حيمل دالالت حمدثة حتكمها املستويات الثقافية اليت يعيش خالهلا‪ ،‬وما‬
‫يدلنا على حمدثاته الداللية‪ -‬أي اخلطاب‪ -‬إحلاح اللفظة يف الربوز على صفحات البحث‬
‫وأمواج الصوت‪ ،‬وكثرة متداوليها‪ ،‬وأداؤها من االعتبارات ما مل يكن موجوداً يف الذهن أو‬
‫اللغة‪ .‬مع بقاء خيط رفيع يربط اخلطاب مبرجعيته املعجمية اليت تنص على أن اخلطاب‬
‫معرفات اخلطاب‬‫هو اللغة يف حالة فعل وتقتضي فاعالً‪ ،‬وهو ما اتفقت عليه مبدئياً ّ‬
‫واجتاهات فهمه (إجنليزية‪ -‬أمريكية‪ -‬فرنسية)‪.‬‬
‫ويبقى من فعل العبث تلمس تعريف اصطالحي موحد للخطاب‪ ،‬ألن لكل‬
‫حقل ثقايف رغبة يف املسامهة يف تعريف اخلطاب؛ لذا جيب أن يدرس كل خطاب ضمن‬
‫حقله الثقايف الذي نشأ فيه إىل حد الرتويج له‪ ،‬فإذا أخرجناه من مستقره صار غريباً عن‬
‫معجميته وغري فاعل إال يف منشئه ومنظومته اليت أنبتته‪ ،‬فكثرت تبعاً لذلك خمصصات‬
‫اخلطاب واحنسرت عمومياته املشرتكة بني املروجني‪ ،‬وهذا مما يسهل إقحام أو تسريب‬
‫دالالت قد ال تكون من جنسه "فيتعرض لالنتهاك النعدام ضوابط عملية حتافظ عليه‬
‫وتعمل على تطويره"(‪ )111‬فمعىن اخلطاب يتحدد يف كل مرة يوظف فيها ضمن الشبكة‬
‫النسقية اليت ينتمي إليها واملؤسسة الثقافية اليت تروج له‪ ،‬فاخلطاب "بوصفه منطقة خاصة‬
‫من‬

‫(‪ )131‬عبد هللا ابراهيم ‪ :‬المصطلح وظاهرة االنزياح الداللي‪ (on line) ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫استخدام اللغة‪ ،‬ميكن أن يعرف بواسطة املؤسسات اليت يتصل هبا ومن املوقع الذي يأيت‬
‫منه " (‪.)111‬‬
‫واملهم فعالً هو أن نكون قادرين على أن نقرر يف أي سياق يستخدم املصطلح‬
‫اآلن‪ ،‬وأي املعاين نسبت إليه‪.‬‬
‫أما التشتت احلاصل يف فهم اخلطاب فيعود إىل مجلة من األسباب اليت ميكن أن‬
‫تضاف إىل احلتمية السابقة‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫إن كل حقل ثقايف ينظر إىل اخلطاب من زاوية حاجته له‪ ،‬فاللسانيون يرون فيه‬
‫اللغة يف حالة فعل (كالم)‪ ،‬واملفكرون والفالسفة يرونه ايديولوجيا والنقاد يرونه ممارسة أو‬
‫شكالً أدبياً‪.‬‬
‫انقسام النقاد واملفكرين يف التعامل مع اخلطاب بوصفه عمالً أو بوصفه‬
‫ايديولوجيا‪ ،‬مما أكثر من ختصيصات املفهوم(‪.)111‬‬
‫توسع مفهوم اخلطاب إىل احلد الذي يسوغ لبعضهم أن جيعل كل ما يدل على‬
‫شيء أو كل ما له معىن أن يعد جزءاً من اخلطاب(‪ .)119‬مما جعل نظريات اخلطاب‬
‫احلديث ليست متناسقة(‪ .)116‬وهذا ما أوقع بعض الدارسني يف ممارسات جمانية‬
‫للمصطلح(‪.)115‬‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪D. Macdonell: Thories of Discourse, p.2-3.‬‬


‫‪Sara Mills: Discourse, p.8.‬‬
‫)‪(2‬‬ ‫(ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ص‪Sara. Mills Discours , p.29 / .)31‬‬
‫)‪(3‬‬ ‫‪D. Macdonell: Theories of discourse, p. 4.‬‬
‫)‪(4‬‬ ‫‪Ibid, p.t.‬‬
‫(‪ )136‬كثر إطالق لفظة الخطاب على كل ما يمكن أن يحويه النص‪ ،‬وإليك مثاالا‪ ،‬ففي دراسة عن‬
‫الخطاب الروائي عند غسان كنفاني ورد في مجلة (أدب ونقد) عدد ‪ 1117 ،145‬سبتمبر‪،‬‬
‫التعبير التالي‪( :‬إن دراسة المحورين األساسيين للخطاب الروائي عند غسان كنفاني‪ :‬األرض‬
‫والمرأة‪ ،‬الموت والبعث تكشف عن بنية التشكيل الثالثي لهذا الخطاب‪ )..‬إن هذه المضامين عند‬
‫دارسي الخطاب الروائي‪ -‬بنيويا ا‪ -‬ال تعد من مفردات الخطاب‪ ،‬ولو ضربنا صفحا ا عن النظرة‬
‫البنيوية فإن هاتين المسألتين تنضمان طوعا ا الى المستوى الداللي لتشكالن شيئا ا من أشياء ضمن‬
‫مستوى واحد من مستويات الخطاب الروائي العام‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ولكن إذا عدنا أدراجنا إىل رصد اخلطاب ضمن تياريه األساسيني األلسين‬
‫والثقايف فإننا جند ما يلي‪:‬‬
‫أ‪ -‬إن اخلطاب ألسنياً وحدة لغوية أمشل من اجلملة‪ ،‬فهو نظام من ملفوظات نشأ من‬
‫اشتغال اللسانيني على الكالم بوضعه مظهرا خيص كل فرد على حدة‪ ،‬فاخلطاب‬
‫يفعل دور املتلقي‪.‬‬
‫فردي املصدر بنيّة التوصل والتأثري‪ ،‬مما ّ‬
‫ب‪ -‬واخلطاب ثقافياً طريقة خاصة يف التعبري عن مفردات معينة يف املعرفة االجتماعية‪،‬‬
‫جتوزه هذه احلدود‪.‬‬
‫على حنو يلزم وضع حدود خاصة لكل خطاب بالقدر الذي ّ‬
‫كما أن اخلطاب ليس وحدة لغوية مفارقة‪ ،‬بل وحدة من وحدات الفعل اإلنساين‬
‫والتفاعل واالتصال واملعرفة‪ ،‬وأنه ليس كياناً ثابتاً جامداً من الكلمات والدوال‪.‬‬
‫فعال من املشاغل واالهتمامات والتوترات والصراعات والتناقضات اليت‬ ‫وإمنا حقل ّ‬
‫تكشف عن تنظيم اجملتمع ومؤسساته وأبنية القوى وأدوارها مضمنة‪ ،‬لذا فتحليل‬
‫اخلطاب جيب أن يكون مرتبطا باخلطابات الفعلية وليس باألمثلة املوجزة املعزولة‬
‫أو املصطنعة(‪.)111‬‬

‫وجدير بالذكر التنويه إىل أن ما سبق يعد عامالً رئيسا يف نقض البنيوية اليت مل‬
‫حتفل كثرياً بالعامل االجتماعي الذي يصنع املعىن ويعيد إنتاجه‪.‬‬
‫ومل خترج الدراسات العربية عن أحد هذين التوجهني‪ ،‬وكأن تلك االجتاهات‬
‫فرضت سلطتها يف إقناعنا مبا روجوه مع قناعتنا بكفاءة ما قالوه‪ ،‬وأنبتت فيه مصطلحاهتا‬
‫املتكاثرة عشوائياً؛ مما ح ّد من مقدرتنا االصطالحية على‬

‫(‪ )137‬جابر عصفور‪ :‬خطاب الخطاب‪ ،‬ص ‪.111 -117‬‬

‫‪55‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫استنبات مصطلحاتنا اخلاصة يف ظل غياب حمفزات النمو اليت تفرزها ثقافتنا املغيّبة عن‬
‫املشهد(‪.)111‬‬
‫قاراً على مرجعيته املعجمية‬ ‫أما يف األصول العربية فقد ظل اخلطاب يف جلّه ّ‬
‫النصباب االهتمام على مصطلح الكالم املشابه له يف االصطالح احلديث للفظة‬
‫خطاب‪.‬‬
‫إن نوع اخلطاب واخنصاصه ضمن صفة معينة يتبع تلك القيم املهيمنة فيه ألهنا‬
‫بؤرة التحكم يف نوع اخلطاب‪ ،‬فانشغال اخلطاب ضمن وظائفه األدبية جيعله أدبياً‬
‫وانشغاله ضمن وظائفه العلمية جيعله علمياً‪ ،‬واالقتصادية جيعله اقتصادياً وهكذا‪ ،‬وال جند‬
‫ضرورة يف تتبع خصائص كل خطاب على حدة‪ ،‬فقيم كل خطاب تكتنز فيه وال متانع‬
‫من كشف هويتها وهوية خطاهبا املندرجة فيه(‪.)110‬‬
‫ومبا أن دراستنا هي عن األدب وخطاباته فالبد من عرض تعريف للخطاب‬
‫األديب‪ ،‬فاخلطاب االديب لدى "تودوروف" هو خطاب انقطعت الشفافية عنه معتربا أن‬
‫احلدث اللساين العادي خطاب ش ّفاف نرى من خالله معناه"(‪ )199‬ويعرفه "فاغنز" بأنه‬
‫" صياغة مقصودة لذاهتا‪ ،‬ولغته تتميز عن لغة اخلطاب العادي أو النفعي‪ ،‬فهو صوغ للغة‬
‫عن وعي وإدراك"(‪.)191‬‬

‫(‪ )131‬حتى ال يفقدنا التعميم المصداقية نلفت األنظار إلى اجتهاد التهانوي اآلنف الذكر عندما استعرضنا فهمه‬
‫المبكر للخطاب في ( ق ‪11‬م) والذي كان قد تنبه إليه عبد هللا ابراهيم في دراسته عن المصطلح وظاهرة‬
‫االنزياح الداللي‪.‬‬
‫(‪ )131‬هناك كثير من الدارسين انشغلوا في البحث عن خصائص كل خطاب كدراسة نور الدين السد‪ :‬مفارقة‬
‫الخطاب األدبي للمرجع‪ ،‬ص ‪ .211-211‬ودراسة فلاير القضاة‪ :‬الخطاب الروائي عند أمين معلوف‪،‬‬
‫أطروحة ماجستير‪ ،‬الجامعة األردنية‪ ،2112 ،‬ص ‪ .7‬وهذه األخيرة جهدت في تصنيف الخطابات إلى‬
‫قانونية‪ ،‬سياسية‪ ،‬اجتماعية‪.‬‬
‫(‪ )141‬عن دراسة‪ :‬نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ ،‬ص ‪.2113‬‬
‫(‪ )141‬عبد السالم المسدي‪ :‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬ص ‪.117‬‬

‫‪56‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ويعرفه عبد اهلل الغذامي بأنه "فعالية لغوية احنرفت عن مواصفات العادة‬
‫خيصها‬
‫والتقليد‪ ،‬وتلبت بروح متمردة رفعتها عن سياقها االصطالحي إىل سياق جديد ّ‬
‫ومييزها"(‪.)191‬‬
‫فاخلطاب األديب هو انزياح عن اللغة التعاملية اليومية يتخلق بأخالق اجلمال‬
‫واألسلوب والبنية‪ ،‬وميتلك وظائف متنوعة جيعل منه أدبياً‪ .‬وحتليل هذا اخلطاب يكون‬
‫منصباً على هذه الوظائف اليت جتعل منه أدبياً كما أملح إىل ذلك جاكبسون(‪ )191‬يف‬
‫معرض حديثة عن العمل األديب‪.‬‬
‫ومن مجلة الوظائف الشكلية اليت يتخلق هبا اخلطاب األديب ميكننا أن خنصصه‬
‫(جنسويا) أهو روائي أم قصصي أم شعري أم مسرحي‪ .‬وهكذا فاخلطاب الروائي هو‬
‫الطريقة اليت تقدم هبا املادة احلكائية يف الرواية وقد تكون املادة احلكائية واحدة‪ ،‬لكن‬
‫الذي يتغري هو اخلطاب الروائي(‪ ،)199‬ويكون الفارق بني خطاب روائي وآخر هو كيفية‬
‫توظيف املادة احلكائية وعناصر اخلطاب الروائي توزيعاً يكشف عن املعاين الواقرة يف‬
‫(‪)196‬‬
‫النفس فـ "العلم مبواقع املعاين يف النفس‪ ،‬علم مبواقع األلفاظ الدالة عليها يف النطق"‬
‫أي علم مبنطق النطق الدال على املنطوق‪.‬‬

‫(‪ )142‬عبد هللا الغذامي‪ :‬الخطيئة والتكفير‪ ،‬إصدارات نادي جده األدبي الثقافي‪ ،‬ط‪ ،111 ،2‬ص ‪.6‬‬
‫(‪ )143‬الشكالنيون الروس‪ :‬نظرية المنهج الشكلي‪ ،‬ترجمة إبراهيم الخطيب‪ ،‬مؤسسة األبحاث‬
‫العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1112 ،1‬ص ‪.35‬‬
‫(‪ )144‬سعيد يقطين‪ ،‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.7‬‬
‫(‪ )145‬عبد القاهر الجرجاني‪ :‬دالئل االعجاز‪ ،‬ص ‪. 44‬‬

‫‪57‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪51‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفصل الثاني‬
‫مستويات الخطـاب‬

‫"إن الخطاب النقدي ل يزال أسير الشرك الساذج‬


‫المتمثل بوضع األصالة قبالة التكرار‪ ،‬والشرك الذي‬
‫يخلع التصنيف األول على كل النصوص األدبية الجديرة‬
‫بالدراسة‪ ،‬في حين أن التصنيف الثاني مقصور منطقيا‬
‫باألساس على النقد وعلى كل ما هو غير جدير‬
‫بالدراسة"‬
‫إدوارد سعيد‬
‫العالم والنص والناقد‬
‫ف‪ / 7‬الدروب المطروقة والمهجورة‬

‫جيولوجيا اخلطاب أو مستوياته رؤية تتجاوز البنيوية لكنها ال تستغين عنها‪،‬‬


‫فالدرس البنيوي واحة للمناهج الالحقة ملا جيف ماؤه‪ ،‬واالفرتاض املسبق أن للخطاب‬
‫مستويات أو بِىن افرتاض يوحي ببنينة الدراسة‪ ،‬وهو األمر الذي حنرص على تأكيده ونفيه‬
‫على حد سواء‪.‬‬
‫اجملربة أثبتت مهارة قد تبدو فائقة يف استكناه موارد النص‬
‫إن البنيوية بأدواهتا َّ‬
‫ضمن مستوياته األولية وهو أمر خلب لب كثري من املتجولني على سطح النص(‪.)195‬‬
‫التعمقي األول‪ ،‬علماً أن‬
‫فأُسروا مبعطيات البنيوية ضمن املستوى ّ‬

‫(‪ )146‬استخد ُم مصطل َح النص للمرة الثانية في هذا الفصل استخداما ا واعيا ا حسب التمييز الوارد بينه‬
‫مواز للخطاب‬
‫ٍ‬ ‫وبين الخطاب في الفصل األول من هذه الدراسة‪ ،‬فالنص في حالة من حاالته‬
‫ضمن إطاره األلسني‪ .‬أما ضمن إطاره المعرفي (األبستيمي) فالنص جزء من الخطاب‬
‫والخطاب أرحب ويمتد للسيطرة على نصوص أكثر فيشكل اتجاه‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫دراسة جيولوجيا النص تتجاوز املفاهيم الشكالنية السردية ‪-‬بعد أن توظفها‪ -‬إىل مفاهيم‬
‫يف ظنها أهنا مستوى أعمق فرضها اخلطاب‪ ،‬مث إىل مفاهيم أكثر إيغاالً فُرضت على‬
‫اخلطاب أو وئدت فيه‪ .‬ولكن هل للخطاب مستويات؟ وإذا افرتضنا ذلك جدالً‪ ،‬فما‬
‫حمفزات هذه الفكرة؟ وهل هناك حماوالت سابقة؟ مث ما هي مستويات اخلطاب؟‬

‫أولا ‪ :‬فكرة المستويات (المح ّفز)‬


‫لطاملا هتيب بريسي لوبوك (‪ )1056 -1110‬صاحب "صنعة الرواية"(‪ )191‬من‬
‫اقتحام الشكل الروائي ظناً منه أنه بذلك ينتهك حرمته‪ ،‬فالرواية هي شرحية من احلياة‪،‬‬
‫ويؤكد أن أي حماولة لتفكيك عناصر الرواية تؤدي إىل إتالف احلياة فيها‪ ،‬أما حتسس‬
‫اجلسد الروائي وإعادة بنائه فأمر البد منه‪ .‬ولوبوك يف ختوفه هذا يسرتعي االنتباه إىل‬
‫تصور أدوات النقد االنطباعية عن خوض غمار عمليات مباشرة يف اجلسد الروائي خشية‬
‫إفساد شرحية من شرائح احلياة‪ .‬إذن الرواية معقدة تعقد احلياة وف ّكها حيتاج إىل مهارة مل‬
‫تتوفر بعد‪ .‬ولوبوك حمق يف إثبات هذا التخوف لرفع منسوب احلذر يف التعامل مع هذا‬
‫اللون األديب‪ ،‬فالولوج إىل النص الروائي دون منهجية مثبتة قد يفسد نشوة الرواية كوهنا‬
‫حدثاً تواصلياً ويبقينا خارج أسطرها‪.‬‬
‫إن البحث عن كيفية احتواء النص الروائي شغلت كثريين من حمللي اخلطاب؛‬
‫ألن الرواية حسب ميخائيل باختني (‪ )1016-1106‬على خالف األنواع األخرى‪ ،‬ال‬
‫فعال تارخيياً‪ ،‬يتشكل من‬
‫متتلك قوانني خاصة‪ ،‬وما هو ّ‬

‫(‪ )147‬بيرسي لوبوك‪ :‬صنعة الرواية‪ ،‬ترجمة عبد الستار جواد‪ ،‬بغداد‪ ،‬دار الرشيد‪ ،‬ط‪،1111 ،1‬‬
‫ص ‪.31‬‬

‫‪61‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫مناذج روائية عدة ‪ ،‬وليس من القواعد الروائية حبد ذاهتا(‪ )191‬فاخلطاب الروائي جتميعي‬
‫النهج توفيقي اللهجة؛ ألنه يبحث يف احلياة بعموميتها ال يف مناذج خاصة‪ ،‬فهي خطاب‬
‫عام‪ .‬فكان البد من االتفاق على أن كل نص يرتكب من أمور خمتلفة‪" ،‬فقد يالحظ من‬
‫يتأمله رتالً من األصوات أو الصيغ اليت يتلو بعضها بعضاً يف الزمن احلقيقي للكالم‪ ،‬أو‬
‫حركة من الشمال إىل اليمني على الصفحة"(‪ .)190‬كما الحظت جوليا كريستيفا "أن كل‬
‫تشرب وحتويل‬
‫نص هو عبارة عن لوحة فسيفسائية من االقتباسات وكل نص هو ّ‬
‫(‪)169‬‬
‫املكونة للنص‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املادة‬ ‫إلثبات‬ ‫التناص‬ ‫بفكرة‬ ‫يستيفا‬
‫ر‬ ‫ك‬ ‫ليا‬‫جو‬ ‫وتسعى‬ ‫لنصوص أخرى"‬
‫ومن ملحوظ منهجي يلفت عبد امللك مرتاض إىل أن "النص شبكة من املعطيات‬
‫األلسنية والبنيوية وااليديولوجية" (‪.)161‬‬
‫إن هذا النص التجميعي يُنتج يف تآلفه نصاً جديداً هو ما نبحث عنه يف حتليل‬
‫اخلطاب‪ .‬يقول عبد القاهر اجلرجاين‪" :‬ال يُتصور إشراك بني شيئني حىت يكون هناك‬
‫معىن يقع ذلك اإلشراك فيه" (‪.)161‬‬
‫إن قدرة النص على اإلهبار ناجتة من مهارته يف التأليف بني عناصره اليت استعان‬
‫أقرها‬
‫هبا إلغناء البعد العالمايت الوظيفي للغة النص كما ّ‬

‫(‪ )141‬ميخائيل باختين‪ :‬الملحمة والرواية‪ ،‬ترجمة جمال شحيّد‪ ،‬معهد اإلنماء العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪ ،1112‬ط‪ ،1‬ص‪.21‬‬
‫(‪ )141‬روبرت دي بوجراند‪ :‬النص والخطاب واإلجراء‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )151‬مارك انجينو‪ :‬مفهوم التناص في الخطاب النقدي الجديد‪ ،‬ترجمة أحمد المديني ضمن كتاب‬
‫"في أصول النقد الجديد" ط‪ ،1‬عيون المقاالت‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫(‪ )151‬عبد الملك مرتاض‪( ،‬في نظرية النص األدبي)‪ ،‬مجلة المجاهد األسبوعية‪ ،‬عدد ‪،1441‬‬
‫مارس‪ ،1111 ،‬الجزائر‪ ،‬ص ‪ ،57‬نقالا عن أطروحة نور الدين السد‪ ،‬األسلوبية في النقد‬
‫العربي الحديث‪ ،‬ص ‪276‬‬
‫(‪ )152‬عبد القاهر الجرجاني‪ :‬دالئل اإلعجاز‪ ،‬ص ‪.172‬‬

‫‪61‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فدرس النص على أنه جمموعة من العالمات تؤدي وظائف خمتلفة‪ :‬سياقية‬ ‫جاكبسون‪ُ ،‬‬
‫إحالية‪ ،‬تعبريية‪ ،‬ندائية خطابية‪ ،‬صالتية‪ ،‬شكلية‪ ،‬ميتالغوية‪ ،‬اجتماعية(‪ ،)161‬فكان البد‬
‫من العودة إىل مكونات اخلطاب األساسية‪ ،‬وهي مكونات كثرية متداخلة حتتاج إىل منهج‬
‫يف حتليل اخلطاب يفك تداخلها ويعيد تركيبها؛ ألن قراءة اخلطاب هي "إعادة إلنتاجه أو‬
‫كتابته‪ ،‬وهي تقوم على ممارسة ثقافية هلا تأثري يف احلقل االجتماعي"(‪ .)169‬وحتليل‬
‫اخلطاب )‪ (Discourse analysis‬مصطلح شامل يغطي التحليالت املختلفة‬
‫للخطاب ويستخدم بشكل مرتادف مع حتليل النص‪ ،‬وقد ح ّفزه أهله لذلك‬
‫املصطلح(‪ )166‬وحتليل اخلطاب هو دراسة لغة التواصل سواء أكانت حمكية أم مكتوبة؟‬
‫والنظام الذي تنبثق منه املعطيات يوضح أن التواصل هو مؤسسة لغوية وعقلية واجتماعية‬
‫متداخلة(‪.)165‬‬
‫ففي الوقت الذي كثر فيه احلديث عن نظام يف توصيفاتنا اللغوية لعلم النظام‬
‫الصويت وعلم الرتاكيب وعلم الداللة‪ ،‬فإن البحث عن نظام يف مستوى اخلطاب ما زال‬
‫قيد التطور‪ .‬وليس هناك جمموعة من اإلجراءات التحليلية متفق عليها لتوصيف اخلطاب‬
‫املعرفة للخطاب جيب أن تعتمد قبالً على‬
‫فأي حتديد لوحدات اخلطاب وللعمليات ّ‬
‫جمموعة أهداف الدراسة‪.‬‬

‫(‪ )153‬بهاء الدين محمد فريد ‪ :‬أجناس خطابية معاصرة (مقاربة عالماتية)‪ ،‬مجلة أفق‪ ،‬المغرب‪ ،‬سنة‬
‫(‪ ،)1‬عدد (‪ ،)7‬سنة (‪ ،2111 ، )1‬مارس )‪(on-line‬‬
‫‪www. Ofouq.com/archiv01/mar01/aqwas7-1a.htm.‬‬
‫(‪ )154‬أنور المرتجي‪ ،‬سيميائية النص األدبي‪ ،‬افريقيا الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،1‬ص ‪.36‬‬
‫‪(3) Dictionary of Language & Lingustics: P. 131 .‬‬
‫‪(4) Evelyn Hatch: Discourse and Languge Education, Cambridge‬‬
‫‪(5 Published), 2000, P. 1 .‬‬

‫‪62‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫كما يشمل حتليل اخلطاب عموماً "دراسة القواعد الكامنة وراء إنتاج ملفوظ‬
‫ما‪ ،‬والكيفية اليت يعمل هبا ملفوظ يتكون من سلسلة من اجلمل أو من الفقرات املتصلة‬
‫مع بعضها"(‪ )161‬وحتليل اخلطاب يقتضي اإلفادة من منجزات العلوم اإلنسانية والتجريبية‬
‫وخاصة دروس األلسنية ليقنن آلية دراسته ويزحيها عن االنطباعية‪ .‬إن حتليل اخلطاب‬
‫يقتضي الرتكيز على قصدية الكاتب وعلى األشكال املكونة وعلى األفكار األكثر جتريداً‬
‫للكيفية اليت ميكن هبا أن يتشكل اخلطاب(‪)161‬؛ مما يقتضي بداية العودة إىل الوحدات‬
‫اللغوية األساسية لتحليل اخلطاب اليت قد تكون يف اخلطاب العام هي الصوت مث املعجم‬
‫مث الصرف مث الرتكيب (اجلملة) مث القصد‪ ،‬وما سبق يوحي بأن اخلطاب يتكون من‬
‫مستويات تشكله‪ ،‬وعلى احمللل أن يبدأ من السطح حىت يستطيع أن يكتشف املستوى‬
‫العميق‪ ،‬فاملستوى األعمق وهكذا‪ .‬كل ذلك من أجل أن نعيد بناء رصيد االفرتاضات‬
‫املسبقة اليت رمبا كانت لدى األطراف قبل حتليل مقطع من اخلطاب(‪ .)160‬إن اصطالح‬
‫"مستويات اخلطاب" ‪ Levels of Discourse‬اصطالح مسحي (أفقي)– عمقي‬
‫(رأسي) يسعى إىل توظيف السطح ليبني بؤر العمق فيه تلك اليت ميكن أن يصل احمللل‬
‫من خالهلا إىل مقاصد النص العظمى‪.‬‬
‫إن حمفزات فكرة مستويات اخلطاب نابعة من أن الكلمة يف اخلطاب كلمة‬
‫مكتظة بدالالت متعددة املشارب‪ :‬دينية‪ ،‬ثقافية‪ ،‬اجتماعية‪ ،‬حضارية‪ ،‬وليس فقط كلمة‬
‫عاديّة تؤسس عالقة مباشرة تعيينية مع مرجعها(‪ .)159‬فالكلمة‬

‫(‪ )157‬قاسم المقداد‪ ،‬في تحليل الحديث والحديث السياسي‪ ،‬مجلة المعرفة‪ ،‬دمشق‪ ،‬عدد‬
‫‪ ،1116 ،212‬ص‪.15‬‬
‫)‪(2‬‬ ‫‪E. hatch: Discourse and Language Education , P. 291 .‬‬
‫(‪ )151‬براون ويول‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )161‬محمد خطابي‪ :‬لسانيات النص‪ ،‬ص ‪.254‬‬

‫‪63‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫تكتسب معناها من اتصاهلا مبواقف وحوادث سابقة‪ ،‬فهي عالمة حتيل بداهة على‬
‫مواقف حمذوفة‪ ،‬فكلمة "السالم" مثالً ختتلف داللتها من سياق إىل آخر‪ ،‬ومن مث فإن‬
‫املستوى املباشر ال يعول عليه دائما لكشف طاقات هذه الكلمة دون تدخل يف إبراز‬
‫سياقها وتارخيها الذي نشأت فيه‪ ،‬يرافق ذلك النسق الذهين حمللل اخلطاب الذي مينح‬
‫هذا األخري طريقة معينة ملعاجلة ما حيصل أثناء إصدار اخلطاب وتأويله(‪.)151‬‬
‫متلق لن يواجه اخلطاب خايل الوفاض‪ ،‬وإمنا سيستعني بتجاربه السابقة‪،‬‬ ‫إ ّن أي ٍ‬
‫ضمن مستوى حمدد من الذهنية‪ ،‬فمعارفه املرتاكمة جتمعت لديه بوصفه قارئاً متمرساً‬
‫قادراً على االحتفاظ باخلطوط العريضة للنصوص اليت سبق له معاجلتها(‪.)151‬‬
‫ومن جهة املؤلف فإنه يعمد إىل مادة مبذولة يف احلياة‪ ،‬مستهلكة ومستخدمة‬
‫لوظائف االتصال اليومي ليقيم يف داخلها نظاماً فنياً جديداً‪ ،‬يعتمد شفرة موضوعية‬
‫ومجالية وتقنية خمالفة لشفرة اللغة والثقافة املألوفة ومرتاكبة فوقها يف الوقت نفسه‪ .‬فأصبح‬
‫متاسه وختالفه‬
‫جهد احملللني منصباً على استكناه قواعد هذا التشفري األديب ومعرفة كيفية ّ‬
‫مع اللغة العادية‪ ،‬وما هي األدوات اليومية اليت تتحول بفعل التنظيم اللغوي األديب إىل‬
‫أعمال فنية متماسكة ذات أبنية متعددة املستويات من مجالية‪ ،‬وغري مجالية‪ ،‬حبيث متتلك‬
‫فعالية متثيلية جديدة(‪.)151‬‬

‫(‪ )161‬براون ويول‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪.211‬‬


‫(‪ )162‬محمد خطابي‪ :‬لسانيات النص‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )163‬صالح فضل‪ :‬شفرات النص‪ ،‬دار الفكر‪ ،1113 ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬ص ‪.141‬‬

‫‪64‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وتربز فكرة مستويات اخلطاب من موضوع التماسك النصي‪ ،‬فالتماسك‬


‫يقتضي وجود أكثر من مش ّكل للخطاب‪ ،‬فهناك بِىن سطحية وأخرى داللية تتصل‬
‫بظواهر خارجية‪ ،‬وحتلل بالتعاون مع منجزات العلوم اإلنسانية والتجريبية وصوالً إىل مبدأ‬
‫التماسك الكلي للنص الذي يتجاوز البىن السطحية (صوت‪ ،‬صرف‪ ،‬معجم‪ ،‬حنو)‬
‫فيتصل مبستواها الداليل األمشل أو البنية العميقة للنص‪ .‬كما نلمس ذلك عند "فان‬
‫طور نظرية البنية الكربى للنص باعتبارها بنية جتريدية كامنة‬
‫دايك" ‪ Van Dijk‬الذي ّ‬
‫متثل منطق النص‪ ،‬وهذا يتالقى جوهرياً مع تصورات جرمياس ‪ Grimas‬عن البنية‬
‫العميقة الداللية واملنطقية‪ ،‬وإن اختلف عنه يف بقية اإلجراءات وخطوات التحليل (‪.)159‬‬
‫إن مفهوم البىن الكربى مفهوم قاوم فكرة التماسك النصي املتحدة على مستوى‬
‫عالقات الرتابط بني املتتاليات واجلمل‪ ،‬فاملتتاليات واجلمل ال تقدم متاسكاً إال على‬
‫مستواها املباشر (األبنية الصغرى) ورفع ذلك إىل التمثيل الداليل األكرب يف البنية الكربى‬
‫اليت حتكم البىن األصغر منها‪ ،‬فتحليل النصوص نابع من مالحظة الرتابط واالتساق بني‬
‫عموم األبنية يف النص‪.‬‬
‫يقول ميشال فوكو‪" :‬ليست العبارة إسقاطاً مباشراً‪ ،‬على مستوى اللغة‪ ،‬ملوقف‬
‫معني أو جملموعة من التمثيالت‪ ،‬ليست جمرد إشراك لعدد من العناصر والقواعد اللسانية‬
‫واستخدام هلا من طرف الذات املتكلمة‪ .‬فالعبارة‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬ومنذ نشأهتا‪ ،‬تربز بوضوح‬
‫داخل حقل عباري مينحها وضعاً ومكانة ويرتب عالقاهتا املمكنة باملاضي‪ ،‬ويفتح أمامها‬
‫مستقبالً حمتمالً‪ .‬فكل عبارة‪ ،‬هي هبذا املعىن نوعية وال توجد عبارة عامة أو متحللة أو‪..‬‬
‫بل مثة باستمرار‬

‫(‪ )164‬صالح فضل‪ :‬بالغة الخطاب وعلم النص‪ ،‬ص ‪.266‬‬

‫‪65‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫عبارة منضوية يف جمموع‪ ،‬تلعب دورها وسط عبارات أخرى تستند إليها‪ ،‬وتتميز عنها‪:‬‬
‫فهي تندمج دوماً يف شبكة من العبارات‪ ،‬تنال حصتها‪ ،‬مهما كانت ضئيلة وتافهة‬
‫داخلها"(‪.)156‬‬
‫ومن حمفزات فكرة اخلطاب ما أحدثه الشكالنيون الروس من فصل بني احلكاية‬
‫‪ Fabla‬اليت هي املادة القصصية األساسية‪ ،‬واليت هي جمموع األحداث املروية يف السرد‪،‬‬
‫وبني احلبكة ‪ Sujet‬واليت هي القصة كما حتكى بالفعل عن طريق ربط األحداث معاً‬
‫ربطاً ِعللياً‪ ،‬فاحلكاية هي ماذا حدث بالفعل‪ .‬أما احلبكة فهي كيف أصبح القارئ واعياً‬
‫مبا حدث‪ ،‬أي نظام ظهور األحداث يف العمل األديب نفسه‪ ،‬سواء على النحو التقليدي‬
‫من حيث الرتتيب الزمين أو على حنو اسرتجاعي‪ ،‬وهكذا‪.)155(..‬‬
‫وعلى مستوى اخلطاب الروائي يتم حبث آلية تنفيذ الوقائع الروائية‪ ،‬وهذه اآللية‬
‫هي اليت تسمى خطاباً الرتباطها بتحويل النحوي إىل جنس أديب‪ ،‬ولوال حتقق شروط‬
‫معينة يف هذه اآللية ملا مسيت رواية‪ .‬وهذا ما دفع سعيد يقطني إىل إصدار كتابني‬
‫متالزمني متتابعني يف حتليل الرواية ومل جيعلهما يف كتاب واحد‪ ،‬األول‪ :‬حتليل اخلطاب‬
‫الروائي ( كتاب يعاجل التقنيات اليت جتعل من أي مادة قصصية رواية‪ ،‬وهذه مهمة‬
‫اخلطاب‪ .‬والثاين‪ :‬انفتاح النص الروائي (وهو كتاب يعاجل دالالت املادة القصصية دون‬
‫الكيفية اليت عرضت هبا)‪ .‬إن مثل هذا التمييز يذكرنا بقوة مبسألة الشكل واملضمون‬
‫ولكن لن يعين ما سبق بأي حال من األحوال العودة إىل الفصل بني الشكل واملضمون‬
‫فاألمر هنا‬

‫(‪ )165‬ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ص ‪.13-12‬‬


‫(‪ )166‬ابراهيم فتحي‪( ،‬تطور أدوات الصياغة الروائية من الواقعية إلى الحداثة)‪ ،‬مجلة فصول‪،‬‬
‫ع‪ ،61‬شتاء ‪ ،2113‬ص ‪.31‬‬

‫‪66‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫خمتلف؛ "إذ إن البحث عن الشكل املناسب حلمل املضمون‪ ،‬يعين أن للشكل قيمة ال‬
‫تقل عن املضمون‪ ،‬ولكن حني يتحدان يف صورة النص‪ ،‬فإن النص يكون املنطلق ويكون‬
‫حتليل النص ‪-‬وإن اجته إىل املضمون‪ -‬فإنه جيمع يف كل مراحل الوصف والتحليل بينه‬
‫وبني ذلك الشكل اخلاص الذي يكشف‪ -‬بقدر ال يقل عن املضمون‪ -‬عن مكونات‬
‫النسيج الكلي املوحد"(‪ .)151‬فالنص حسب بعض التوجهات شامل للخطاب والقصة‬
‫معاً وعند التحليل جيب أن منيز بينهما وال خنلط بينهما إال لغايات تكاملية اختتامية‪.‬‬
‫ومن حمفزات فكرة مستويات اخلطاب شيوع التناص يف األعمال األدبية؛ إذ إن‬
‫طبيعة الكتابة تقتضي االستناد إىل املخزون اللغوي الذي يقدمه املبدع وهو نتاج تفاعل‬
‫خمزنة يف ذهن املبدع‪ ،‬ويتمخض عن عملية التفاعل والتداخل هلذا‬
‫نصوص ال حصر هلا ّ‬
‫النص الذي ينتجه املبدع‪ .‬وهذا التفاعل هو الذي يدعى بـ "تداخل النصوص" أو‬
‫"تداخل اخلطابات"‪ ..‬وهو مفهوم متطور يف فهم العملية اإلبداعية اليت يعد مرجعها‬
‫األساس كتابات أخرى سابقة‪ ،‬وليس الواقع املادي كما هو خارج النصوص أو‬
‫نص جامع تقوم يف أحنائه نصوص أخرى يف مستويات‬ ‫نص‪ٌ ،‬‬ ‫اخلطابات(‪" .)151‬إن كل ٍ‬
‫متغرية‪ ،‬وبأشكال قد نتعرفها إن قليالً أو كثرياً‪ :‬هي نصوص الثقافة الراهنة‪ .‬فكل نص‬
‫نسيج طارف من شواهد تالدة" (‪ .)150‬وقد يصل التناص حد استدعاء مادة حكائية‬
‫كاملة جيتهد يف عرضها من خالل تقنيات اخلطاب كما سنالحظ ذلك يف الرواية‬
‫التارخيية اليت تشكل‬

‫(‪ )167‬سعيد بحيري‪ :‬علم لغة النص‪ ،‬ص ‪. 72‬‬


‫(‪ )161‬نور الدين السد‪ :‬األسلوبية في النقد العربي الحديث‪ ،‬ص ‪. 271‬‬
‫(‪ )161‬روالن بارت‪ :‬نظرية النص‪ ،‬ترجمة منجي الشملي وعبد هللا صولة ومحمد القاضي‪ ،‬حوليات‬
‫الجامعة التونسية‪ ،‬ع‪ ،1111 ،27‬ص ‪.11‬‬

‫‪67‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫تناصاً كبرياً مع التاريخ فتتحقق احلوارية بني النصوص مبخزوناهتا الالمتناهية‪ ،‬وقد تأخذ‬
‫مسمى تداخل اخلطابات‪" ،‬فاخلطاب الروائي‬
‫تقنية التناص شكالً آخر ميكن إدراجه حتت ّ‬
‫يستوعب بنيات خطابية متعددة‪ :‬املسرحي‪ -‬الشعري‪ -‬الديين‪ -‬احلكائي‪ -‬الشفوي‪-‬‬
‫الصحايف‪ -‬السياسي‪ -‬التارخيي‪ ..‬ويأيت تداخل اخلطابات هنا وتعددها يف إطار انفتاح‬
‫اخلطاب الروائي عليها‪ ،‬لتقوم بوظائفها يف جمرى اخلطاب‪ ،‬وبتضافر مع الطرائق املوظفة يف‬
‫بنائه" (‪. )119‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإن للخطاب الروائي خصوصيته عندما نتعامل مع مستوياته‪ ،‬فهناك‬ ‫ُ‬
‫مستويات هتمل مؤقتاً إلبراز مستويات فاعلة أخرى تتكئ على املهمل إلبراز ذاهتا‪،‬‬
‫واألصل أننا عندما حنتكم إىل العمل األديب أن نتعامل معه كله "ابتداء من الكلمة‪ ،‬إىل‬
‫اجلملة مث إىل الفقرات للوصول إىل معايري بنائية ثابتة‪ ،‬تتضافر عناصر القصة مجيعها على‬
‫إبرازها"(‪ .)111‬وخصوصية اخلطاب الروائي تظهر يف تعامله مع البىن الكربى الواضحة يف‬
‫الرواية‪ ،‬فالوقوف عند املستوى الصويت قد يعيق الوصول إىل املقاصد الكربى يف النص‬
‫الروائي‪ .‬إن اخلطاب الروائي يبدأ فعلياً من وحدته الصغرى وهي اجلملة اليت تتآلف مع‬
‫مجل أخرى على حنو معني‪ ،‬فتنتج فكرة ضمن أسلوب ما قابل للتأويل‪ ،‬واملستوى الصويت‬
‫قد يكون فاعالً يف حتليل اخلطاب الشعري أكثر منه يف النثر العتماد اخلطاب الشعري‬
‫معان خاصة ال تناسب إال مقام الشعر‪ ،‬وليس القصد من‬ ‫على هذه األصوات إليصال ٍ‬
‫هذه الدعوة إىل نبذ الصوت‪ ،‬فللصوت أمهيته املتجذرة يف حتقيق الكالم‪ .‬يقول اجلاحظ‪:‬‬
‫"وتأيت الداللة (الصوتية) بوصفها آلة للفظ‪ ،‬فهي‬

‫سعيد يقطين‪ :‬القراءة والتجريب‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬ط‪ ،1115 ،1‬ص‬ ‫(‪)171‬‬
‫‪.215‬‬
‫)‪(2‬‬ ‫‪D. Lodge: The Language of Fiction, London, 1966, P. 34 .‬‬

‫‪61‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اجلوهر الذي يقوم به التقطيع‪ .‬وبه يوجد التأليف"(‪ ،)111‬أي ال ميكن أن يتحقق كالم‬
‫يف أي شكل من األشكال‪ ،‬أو مستوى من املستويات يف النثر أو الشعر‪ ،‬إال بظهور‬
‫الصوت وحنن ال نردد كالم اجلاحظ‪ ،‬فمن ناحية َمْبدئية‪ ،‬فإن الصوت هو مادة اخلطاب‬
‫احملمول عليها‪ ،‬ولكن ما قيمة الصوت يف حتليل املقاطع الداللية الصغرى والكربى يف‬
‫الرواية؟ يبدو أن قيمته يف الرواية ال توازي أمهيته يف الشعر‪ ،‬ألن الشعر ميتلك كثافة‬
‫تعرب عنه األبيات‪.‬‬
‫تعزز اإلحياء باملوقف الشعري اليت ّ‬
‫استثنائية لسمات صوتية معينة ّ‬
‫إن للخطاب مناهج وطرقاً عديد ًة يف حتليله أبرزها(‪:)111‬‬
‫‪ - 1‬منهج حتليل املضمون يف العلوم االجتماعية لتحليل اخلطاب الديين أو اخلطاب‬
‫السياسي‪ ،‬النبوءات أو الزعامات‪.‬‬
‫‪ -1‬منهج التحليل اللغوي النفسي كما هو احلال يف علم اللسانيات النفسي‬
‫‪ Psycho-linguistics‬من أجل معرفة داللة األلفاظ على نفسية قائلها‪.‬‬
‫‪ -1‬منهج التحليل اللغوي االجتماعي من أجل معرفة الدالالت العرفية وآليات‬
‫االستعمال االجتماعي للغة كما هو احلال يف علم اللسانيات االجتماعي‬
‫)‪.(Socio Linguistics‬‬
‫‪ -9‬منهج التحليل اللغوي اخلالص كما هو احلال يف علم اللسانيات‬
‫العام )‪ (General Linguistics‬من حيث علوم األصوات والقراءات‬
‫والرتاكيب‪.‬‬

‫(‪ )172‬الجاحظ‪ :‬البيان والتبيين‪ ،‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬القاهرة‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‪،‬‬
‫‪ ،1141‬ج‪ ،1‬ص‪.71‬‬
‫(‪ )173‬حسن حنفي‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪.21‬‬

‫‪61‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ولنا أن خنص اخلطاب الروائي مبنهج السرديات ‪ Narratology‬الذي‬


‫يدرس السرد بوصفه صيغة إنشائية لتمثيل احلوادث واملواقف وترتيبها زمنياً‪ ،‬ويبني متايزها‬
‫يف الصيغ األخرى غري السردية‪ ،‬ويتوقف عند العالقات املمكنة بني النص واحلكاية‪ ،‬وبني‬
‫النص والسرد‪ ،‬وبني السرد واحلكاية وخصوصاً عند مسائل الزمن والصيغة وزاوية الرؤية أو‬
‫دراسة السرد من حيث دالالت اخلطاب وطبيعته وشكله ووظائفه من دون النظر إىل‬
‫صيغة متثيله(‪ )119‬فضالً عن احتشاد كثري من الدالالت يف حواشي الكلمات‪ ،‬اليت تظهر‬
‫يف العمل األديب مبثابة بؤر جتتمع فيها أطراف متناقضة كاملوروث الثقايف واالجتماعي‬
‫واإلنساين واملزاج والطباع والعادات والقدرات اإلبداعية(‪ .)116‬وكلها التفاتات تسعى إىل‬
‫حتليل اخلطاب ومنها اخلطاب الروائي مدار البحث يف هذه الدراسة‪.‬‬
‫لقد قدمت كثري من الدراسات آليات خاصة هبا يف حتليل اخلطاب نابعة من‬
‫توجهها النظري حنوه‪ ،‬ولكن قبل استعراض أهم الدراسات اليت حاولت تقدمي تصور‬
‫ناجح يف فهم اخلطاب وحتليله جنزم بأن انفراد كل منهج على حدة مل يتح هلذه املناهج‬
‫أن حتقق غايتها اليت انعقدت من أجلها‪ ،‬فما أحدثه منهج ما هو إمتام لنقص منهج آخر‬
‫وهكذا‪ ،‬وال أدعو إىل خلط املناهج يف حتليل اخلطاب بل إىل التنسيق بني تلك اليت‬
‫أثبتت جدواها يف التعامل مع اخلطاب بشكل عام واخلطاب الروائي بشكل خاص‪.‬‬

‫(‪ - )174‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬


‫‪ -‬محمد بلوحي‪ :‬سيميائية الخطاب السردي‪ ،‬مجلة كتابات معاصرة‪ ،‬عدد ‪ ،47‬تموز ‪،2112‬‬
‫ص ‪.14‬‬
‫(‪ )175‬صالح فضل‪ :‬شفرات النص‪ ،‬ص ‪.226‬‬

‫‪71‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ثانيا‪ :‬المحاولت السابقة‪:‬‬


‫حظي حتليل اخلطاب )‪ (Discourse Analysis‬باهتمام كثري من‬
‫الدارسني على اختالف مشارهبم النقدية وحقوهلم الفكرية‪ .‬فأفرز هذا االهتمام عشرات‬
‫البحوث التنظريية والتطبيقية يف حق حتليل اخلطاب‪ .‬ولكن ما يهمنا يف هذه الدراسة تلك‬
‫احملاوالت الباحثة يف اخلطا ب من حيث مستوياته اليت ينبين فيها واملكونات اليت يتشكل‬
‫منها؛ كالصوت والرتكيب والصرف والداللة والبالغة‪ ،‬ومن حيث املكونات املفرتضة؛ كأن‬
‫يكون متقاطعاً مع خطابات أخرى‪ ،‬وما هي الدالالت العميقة املرتتبة على هذا التقاطع‬
‫أو التصادم وهكذا‪ .‬وفيما يلي استعراض ألهم الدراسات اليت تعاملت مع اخلطاب من‬
‫حيث مستوياته‪:‬‬

‫أ‪ -‬الدراسات الغربية‪:‬‬


‫‪ -1‬بارت والدرس البنيوي‪ :‬انطلق التحليل البنيوي للخطاب قبل بارت من‬
‫مستويات عدة‪:‬‬
‫‪ -1‬املستوى الصويت‪.‬‬
‫‪ -1‬املستوى الصريف‪.‬‬
‫‪ -1‬املستوى الرتكييب‪.‬‬
‫‪ -9‬املستوى الداليل‪.‬‬
‫‪ .6‬املستوى املعجمي‬
‫‪ .5‬املستوى البالغي‪.‬‬
‫وهذه املستويات ميكن أن تنطبق على أي خطاب قابل للتحليل‪ ،‬وقد تكون‬
‫عقيمة إذا طبقت على النص األديب؛ ألهنا حتد من طموحاته‪ ،‬فهذه‬

‫‪71‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫املستويات تنتهي بانتهاء اجلملة‪ ،‬فهي الوحدة األخرية يف اللغة؛ لذا كان لزاماً‬
‫على البنيوية أن تنظر يف ألسنية أخرى متتلك صالحيات أبعد من اجلملة تتناسب‬
‫وطاقة السرد املكتنزة‪.‬‬
‫لقد وفرت اللسانيات حملللي السرد بنيوياً مفهوماً حامساً‪ ،‬ويكمن هذا املفهوم‬
‫خاصة يف تنظيمه الذايت‪ ،‬ألهنا تلفت إىل ما هو جوهري يف كل نسق معين‪،‬‬
‫وتسمح يف اآلن ذاته‪ ،‬بإعالن كيفية أال يكون السرد جمرد تالحق عبارات(‪.)115‬‬
‫إن املستويات اليت سبق تعدادها مستويات تراتبيه ينبين بعضها على بعض وال‬
‫جيوز الفصل بينها إال جمازاً‪ ،‬ولو أمكن الفصل بينها بتوصيف كل مستوى مستقل‬
‫عن اآلخر‪ ،‬لعجز كل مستوى عن إظهار املقاصد املتوخاة‪ .‬فكل وحدة تنتمي إىل‬
‫أي من هذه املستويات ال حتوز معىن إال إذا أمكنها االنتماء إىل مستوى أرقى‪.‬‬
‫(‪)111‬‬
‫مييز بارت بني نوعني من الوحدات الوظيفية‪:‬‬
‫‪ -‬وحدات توزيعية تتطابق مع الوظائف اليت حتدث عنها فالدميري بروب يف‬
‫كتابه "مورفولوجيا اخلرافة"‪ ،‬وهي نفسها وظائف التحفيز اليت أشار إليها‬
‫توماتشفسكي؛ إذ إهنا تتطلب بالضرورة عالقات بينها ‪.‬‬
‫وحدات إدماجية‪ ،‬وهي وظائف ختتلف عن السابقة‪ ،‬ولذلك ال حيتفظ هلا‬ ‫‪-‬‬
‫"بارت" هبذا االسم‪ ،‬ألهنا ال تتطلب بالضرورة عالقات فيما بينها‪ ،‬فكل‬
‫ومكمل‪ ،‬ولكن‬
‫وظيفة تقوم بدور العالمة‪ ،‬إذ إهنا ال حتيل على فعل الحق ّ‬
‫حتيل فقط على مفهوم ضروري بالنسبة‬

‫(‪ )176‬روالن بارت‪ :‬النقد البنيوي للحكاية‪ ،‬ترجمة أنطون أبو زيد‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص‬
‫‪.17‬‬
‫(‪ )177‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪72‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫للقصة احملكية‪ ،‬فكل ما يعلق بوصف الشخصيات واألخبار املتعلقة هبوياهتا أو‬
‫وصف اإلطار العام الذي جتري فيه األحداث كلها تتم بواسطة الوحدات‬
‫اإلدماجية(‪.)111‬‬

‫من هنا يقرتح "بارت" مستويات لتحليل العمل السردي يصفها باجلانبية املؤقتة‪،‬‬
‫فائدهتا تعليمية حمضة‪ :‬ألن هذه املستويات تسمح بتحديد املسائل ومجعها‪ ،‬دون‬
‫أن تكون يف تعارض مع بعض التحليالت اليت أجريت على هذا الصعيد‪ ،‬يقول‬
‫"بارت"‪" :‬مث إننا لنقرتح متييزاً يف العمل السردي* بني مستويات ثالثة‪ :‬مستوى‬
‫"الوظائف" (باملعىن الذي تأخذه الكلمة عند بروب وبرميون)‪ ،‬ومستوى‬
‫"األفعال" (باملعىن الذي تأخذه هذه الكلمة عند غرمياس عندما يتكلم عن‬
‫األشخاص كما لو أهنم فواعل)‪ ،‬ومستوى "السرد" (والذي هو باملعىن االمجايل‬
‫يتمثل مبستوى "اخلطاب" كما هو عند تودوروف) ونريد أن نتذكر أن هذه‬
‫املستويات الثالثة ترتبط ببعضها برباط ذي صيغة اندماجية تتابعية‪ :‬فالوظيفة ال‬
‫معىن هلا إال إذا أخذت مكاناً يف الفعل العام للفاعل‪ .‬ويتلقى الفعل نفسه معناه‬
‫األخري من كونه حدثاً مسروداً‪ ،‬أسند إىل خطاب له قانونه اخلاص"(‪ .)110‬واملهم‬
‫فيما سبق عرضه يف منهج بارت أنه يوزع النص القصصي إىل وحدات متفاوتة؛‬
‫ألن الوحدة القصصية املعينة تتطلب عالقة متينة بني عناصر القصة‪ ،‬وحىت ُحتدد‬
‫الوحدات السردية األوىل‪ ،‬فمن الضروري أال تغيب عن نظرنا‬

‫(‪ )171‬حميد لحمداني‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬ط‪ ،1113 ،1‬ص ‪.21‬‬
‫يترجم أنطوان أبو زيد لفظة (السردي) في ترجمته لكتاب النقد البنيوي للحكاية (باالنشائي)‪.‬‬ ‫*‬

‫(‪ )171‬روالن بارت‪ :‬المدخل إلى التحليل البنيوي للقصص‪ ،‬ترجمة منذر عياشي‪ ،‬مركز اإلنماء‬
‫الحضاري‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص ‪.31‬‬

‫‪73‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫السمة الوظيفية للمقاطع اليت نفحصها‪ ،‬فمرة ستمثل الوظائف وحدات أعلى من‬
‫اجلملة‪ ،‬ومرة وحدات أدىن منها ستأخذ دورها يف التحليل؛ ألن مغزى العمل‬
‫القصصي ال يكمن يف بداية أو هناية فحسب‪ ،‬بل إنه ينشأ تدرجيياً مع تدرج‬
‫العمل القصصي‪ ،‬فأي وحدة مثبتة يف مستوى ما لن حتظى بفاعلية ما مل تنتسب‬
‫إىل إطار يقابلها يف مستوى آخر هو أعلى منها‪ ،‬إن الوظيفة حسب ما سبق لن‬
‫يكتب هلا الظهور ما مل تندمج يف السياق العام للحركات واألفعال اليت تقوم هبا‬
‫شخصية ما‪ ،‬فضالً عن ذلك فإن هذه األفعال لن تأخذ معناها هي األخرى ما مل‬
‫تكن مروية ضمن اإلطار األعم(‪.)119‬‬
‫إن "روالن بارت" يف توليفته السابقة يوفق بني ثالث رؤى نقدية سبقه إليها كل‬
‫من فالدميري بروب )‪ ،(Propp‬وغرمياس )‪ (Greimas‬وتودوروف‬
‫)‪.(Todorov.‬‬
‫‪ -2‬منهج فالديمير بروب )‪ :(Propp‬وقد برز يف كتابه "مورفولوجيا‬
‫(‪)111‬‬
‫عام ‪ ،1011‬ومصطلح "مورفولوجيا" يعىن عنده دراسة األشكال‬ ‫اخلرافة"‬
‫وأن أشكال احلكايات تتطلب دراسة القوانني اليت تنظّمها‪ ،‬على غرار مورفولوجيا‬
‫التشكيالت العضوية للنبات(‪ ،)111‬أي اعتماداً على بنائها الداخلي‪ ،‬ودالئلها‬
‫اخلاصة‪ ،‬بعيداً عن أي حتديد تارخيي أو تقسيم‬

‫(‪ )111‬أكد بارت تخليه عن هذا المدخل البنيوي لتحليل السرد (‪ )1166‬في معالجته لمقارنته الجديدة‬
‫‪ S/Z‬وهي خالصة ندوة ‪ ،1161-1161‬ألنه يرى أنه ينبغى ألي نص أن يشرح ضمن ما‬
‫يميزه‪ ،‬وهذا ما فعله بارت بالنسبة إلى سارازين‪ :‬انطالقا ا من الشيفرات التي حددها في المقدمة‬
‫(اإليحائية‪ ،‬والتأويلية‪ ،‬والرمزية‪ ..‬الخ) انظر‪ :‬ميشال جاريتي‪ :‬المذاهب الشكالنية‪ ،‬مجلة كتابات‬
‫معاصرة‪ ،‬تموز‪ ،2112 ،‬عدد ‪ ،47‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )111‬ترجمة ابراهيم الخطيب‪ ،‬الشركة المغربية للناشرين المتحدين‪ ،‬الدار البيضاء‪.1116 ،‬‬
‫(‪ )112‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.17‬‬

‫‪74‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫موضوعايت‪" ،‬إن ما هو مهم يف دراسة احلكاية هو التساؤل عما تقوم به الشخصيات‪.‬‬


‫عل هذا الشيء أو ذاك‪ ،‬وكيف فعله‪ ،‬فهي أسئلة ال ميكن طرحها إال‬
‫أما َم ْن فَ َ‬
‫باعتبارها توابع ال غري(‪ .)111‬والوظيفة حسب بروب هي "عمل شخصية ما‪ ،‬وهو‬
‫احلبكة" (‪ )119‬والشخصيات‬ ‫عمل حمدد من زاوية داللته داخل جريان‬
‫األساسية عنده تنحصر يف سبع شخصيات‪ )1 :‬املتعدي والشرير ‪ )1‬الواهب‬
‫‪ )5‬البطل ‪ )1‬البطل الزائف‪ ،‬وكل‬ ‫‪ )1‬املساعد ‪ )9‬األمرية ‪ )6‬الباعث‬
‫شخصية من تلك الشخصيات تقوم بعدد من تلك الوظائف احملددة‪ ،‬وهذا‬
‫التوزيع اجلديد لدى بروب يقلل من أمهية نوعية الشخصيات‪ ،‬وذلك ألن ما هو‬
‫ضروري هو الدور الذي تتقلده‪ ،‬إذن فالشخصية مل تعد حتددها صفاهتا الذاتية بل‬
‫أعماهلا اليت تقوم هبا‪.‬‬
‫‪ -3‬منهج غريماس)‪ :(Greimas‬ويتجاوز به حتليل اخلطاب القصصي مبستواه‬
‫الشكلي إىل املستوى العميق‪ ،‬وغرمياس حيدد لذلك مصطلحني للداللة على‬
‫مستويني يف التحليل السيميولوجي(‪ :)116‬مستوى النحو األساسي للنص ومستوى‬
‫التمظهر النصي الذي يشكل البعد السطحي للسرد؛ ومصطلح (البنية السطحية)‬
‫لدراسة اخلطاب الروائي‪ ،‬بوصفه كتابة تتم وفق قواعد حمددة وضرورية‪ .‬إضافة‬
‫لدراسة املعىن بربط النص باخلارج‪ .‬وهتتم البنية السطحية بظاهرتني مها‪ :‬املركبة‬
‫السردية واملركبة اخلطابية‪ .‬أما (البنية العميقة)‪ ،‬فبعد أن تكشف املركبتان السردية‬
‫واخلطابية‬

‫(‪ )113‬حميد لحمداني‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬ص ‪.24‬‬


‫(‪ )114‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫(‪ )115‬عبد الرحمن جيران‪ :‬مستويات البناء في "نجمة أغسطس"‪ ،‬مجلة فصول‪ ،‬م‪ ،7‬ع‪،2-1‬‬
‫‪ ،1117‬ص‪.217‬‬

‫‪75‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫عن برامج القصة ومساراهتا‪ ،‬ينتقل احلديث إىل البنية العميقة وهي اليت تتحكم يف معاين‬
‫النص من خالل شبكة عالقات تربط بني قيم النص وهي األقطاب الداللية‪،‬‬
‫ونظام عمليات يقوم بتنظيم االنتقال من معىن إىل معىن‪.‬‬
‫‪ -4‬منهج تودوروف )‪ :(Todorov‬ويبدأ من أعمال الشكالنيني الروس ّ‬
‫مطوراً‬
‫إياها‪ ،‬وبالتحديد من خانة الفصل بني املنت واملبىن(‪ ،)115‬مؤكداً أن لكل حكي‬
‫أديب مظهرين متكاملني‪ ،‬إنه يف آن واحد قصة وخطاب‪ .‬فالقصة "هي تلك‬
‫األحداث يف ترابطها وتسلسلها ويف عالقتها بالشخصيات يف فعلها‬
‫وتفاعلها"(‪ .)111‬أما اخلطاب )‪" (Discourse‬فيظهر لنا من خالل وجود‬
‫الراوي الذي يقوم بتقدمي القصة"(‪ )111‬من خالل هذا التمييز يقدم لنا تودوروف‬
‫تصوراً متكامالً لدراسة احلكي بني قطريه آنفي الذكر‪ ،‬مث يقدم لنا بعد ذلك‬
‫مكونات كل من املظهرين مرّكزاً بشكل رئيسي على ما ينبغي أن يهتم به التحليل‬
‫األديب حبثاً وتقصياً‪" ،‬فاحلكي كقصة يتم التمييز فيه بني مستويني مها‪ :‬منطق‬
‫األحداث من جهة والشخصيات وعالقاهتا بعضها ببعض من جهة ثانية‪ .‬أما‬
‫احلكي كخطاب فريكز على حتليله من خالل ثالثة جوانب‪ :‬زمن احلكي‪،‬‬
‫وجهاته‪ ،‬وصيغه"(‪ )110‬مث يعود تودوروف يف كتابه "الشعرية" عام ‪1011‬‬

‫قسّم الشكالنيون الروس العمل القصصي إلى مستويين‪ :‬األول هو المتن ‪ Fable‬وهو المستوى الذي‬ ‫(‪)116‬‬
‫يتعامل مع األحداث كما يفترض أنها وقعت‪ ،‬والثاني هو المبنى )‪ (Sujet‬الذي يتعهد تلك األحداث بالبناء‬
‫والتنظيم ضمن قواعد تحويلية تخص صاحب العمل تجري على أحداث المستوى األول‪ .‬أنظر‪ :‬نصوص‬
‫الشكالنيين الروس‪ :‬نظرية المنهج الشكلي‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫(‪)117‬‬
‫سعيد يقطين ‪ :‬تحليل الخطاب الروائي ‪ ،‬ص ‪.31‬‬ ‫(‪)111‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 31‬‬ ‫(‪)111‬‬

‫‪76‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ليطور املنطلقات اليت عيّنها فيما سبق مستفيداً من العديد من اإلجنازات‪ ،‬وباألخص‬
‫ذلك التطوير الذي أضفاه جنيت على حتليل اخلطاب الروائي عام ‪ ،1011‬يطرح‬
‫تودوروف تصوراً متكامالً حول حتليل النص األديب‪" .‬يبدأ أوالً بتسجيل كون‬
‫النص األديب يتحدد من خالل ثالثة جوانب مركزية‪ .‬هذه اجلوانب هي‪ :‬الداليل‬
‫والرتكييب والفعلي"(‪ ،)109‬ويربز تودوروف أن اجلانب الفعلي (اللفظي) هو املركزي‬
‫بالنسبة للبويطيقا اليت يشتغل فيها‪ ،‬وهو اجلانب الذي نال اهتماماً لدى العديد‬
‫وجهات السرد‪ ،‬األحباث املورفولوجية‬
‫من التيارات النقدية اجلديدة‪ :‬األسلوبية‪ْ ،‬‬
‫األملانية‪ ،‬وجهات النظر يف النقد األجنلو‪-‬أمريكي‪" .‬إن هذه اجلوانب الثالثة مع‬
‫املقوالت اليت تتضمنها على مستوى التحليل تبدو لنا على الشكل التايل‪:‬‬
‫‪ -1‬اجلانب الداليل‪ :‬جنيب منه عن سؤالني‪ :‬كيف يدل النص على شيء؛‬
‫وعلى ماذا يدل؟ ونطرح فيه قضايا سجالت الكالم‪.‬‬
‫‪ -1‬اجلانب اللفظي‪ :‬يتضمن املقوالت التالية‪ :‬الصيغة )‪(Mood‬‬
‫والزمن)‪ (Temps‬والرؤيات )‪ (Visions‬والصوت )‪.(Voix‬‬
‫‪ -1‬اجلانب الرتكييب‪ :‬ويتضمن بنيات النص‪ -‬النظام الفضائي (وهو خاص‬
‫بالشعر)‪ -‬الرتكيب السردي‪ -‬ختصيصات وارتدادات (وهنا يتحدث عن‬
‫احملموالت السردية)(‪ .)101‬وهذه املستويات الثالثة هي يف نظر سعيد يقطني‬
‫مكملة للنص األديب ومستوفية له‪ ،‬وما اخلطاب إال ذلك اجلانب اللفظي‬
‫املتشكل من زمن السرد ومظاهره وأمناطه‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 35‬‬ ‫(‪)111‬‬


‫سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.36-35‬‬ ‫(‪)111‬‬

‫‪77‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الذي يعرض لنا كيفية حكي القصة من خالل را ٍو يقدمها دون التدخل يف‬
‫الفحوى الداللية‪ ،‬وخيرج من مقولة اخلطاب ما خال ذلك‪.‬‬
‫قسمت جوليا كريستيفا العمل النصي إىل‬ ‫‪ -5‬جوليا كرستيفا وعلم النص‪ّ :‬‬
‫مستويني‪:)101(:‬‬
‫‪ -‬نص ظاهر )‪ (Pheno-Text‬وهو ذاك الذي يتمثل يف بنية القول‬
‫املادي‪ ،‬والذي تتناوله إمجاالً مناهج التحليل الصويت والداليل والبنيوي اليت‬
‫ال هتتم للمتكلم (منتج القول) بل للقول‪.‬‬
‫نص مولّد (نوعي‪ )Geno-Text -‬وهذا املستوى ليس متنا لغوياً‬ ‫‪-‬‬
‫مسطّحاً‪ ،‬بل هو كالم تتطلب قراءته استعادة مراحل تكوينه لغة وداللة‬
‫وصوالً إىل كشف موقع منتجه‪ .‬والنص النوعي جزء من املنطق العام‪،‬‬
‫املتعدد الوجوه‪ ،‬غري املقتصر على ما هو متعارف عليه‪ ،‬وهو ال خيضع‬
‫للبنيوية (ألنه فعل بناء ال بنية) وال للتحليل النفسي (ألنه خارج الالوعي‬
‫النص النوعي عن البنية العميقة يف‬
‫تكون مما يلفظه الالوعي) وخيتلف ّ‬ ‫ولو ّ‬
‫القواعد التوليدية‪ ،‬ألن غاية البنية العميقة (اجملردة اخلطيّة‪ ،‬غري النحوية وغري‬
‫املعجمية) هي فقط توليد اجلملة اليت متثلّها على مستوى البنية السطحية‬
‫من دون أن ترتقي مراحل البناء السابقة‪ ،‬فهي انعكاس لبنية اجلملة‬
‫السطحية‪ .‬أما النص النوعي فينتمي إىل املستوى اجملرد من عمل اللغة‪ ،‬وال‬
‫يعكس بنية اجلملة بل يسبقها ويلحق هبا‪.‬‬

‫لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪ ،161‬ص ‪.21‬‬ ‫(‪)112‬‬

‫‪71‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -6‬إيفلن هاتش )‪ :(Evelyn Hatch‬وقد أثبتت هذه الباحثة يف دراسة جادة‬


‫هلا بعنوان )‪ (Discourse and Language Education‬صدرت عام‬
‫‪ ،1001‬فكرة مستويات اخلطاب يف ثالث مستويات(‪:)101‬‬
‫‪ -‬المستوى األول‪ :‬األنساق العقلية واللغوية‪( :‬صفات النص) ويف هذه‬
‫اجملموعة من التحليالت اهلدف هو وصف البنية بوصفها طبقة تنتمي إىل‬
‫أواهنا‪:‬‬
‫‪ .1‬مكونات نظام‪.‬‬
‫‪ .1‬البىن السردية‪.‬‬
‫‪ .1‬اإلشاريات‪ /‬الروابط اإلشارية‪.‬‬
‫‪ .9‬حتليل الفروقات يف السمات بني أساليب اخلطاب‪.‬‬
‫‪ .6‬حتليل الفعل الكالمي‪.‬‬
‫‪ -‬المستوى الثاني‪ :‬العمليات املعرفية واللغوية (بنية النص) وتنتج عن انتقاء‪/‬‬
‫تفعيل مرتكز على أهداف وقصديات املتكلم‪ /‬الكاتب‪:‬‬
‫‪ .1‬حتليل اخلط‪.‬‬
‫‪ .1‬حتليل البنية البالغية‪.‬‬
‫‪ .1‬اتساق املشرتك (املسامهة يف العملية اللغوية)‬
‫‪ .9‬تداولية األفعال الكالمية‪.‬‬
‫‪ .6‬التحليل السياقي‪.‬‬
‫‪ -‬المستوى الثالث‪ :‬العمليات املعرفية واللغوية واالجتماعية (بنية النص تنشأ‬
‫من التواصل املبين اجتماعياً) ‪:‬‬

‫)‪(1‬‬ ‫‪Evelyn Hatch: Discourse and Language Eduction, P. 291-292.‬‬

‫‪71‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ .1‬التحليل احلواري‪.‬‬
‫‪ .1‬الضوابط الطقسية‪.‬‬
‫‪ .1‬املكون التقييمي‪.‬‬
‫‪ .9‬مسات االشرتاك‪.‬‬
‫‪ .6‬حتليل احلدث الكالمي‪.‬‬
‫تسوق مستويات اخلطاب‬
‫و (هاتش) حتاول بنظرهتا املاركسية لألشياء أن ّ‬
‫على أهنا طبقات )‪ (Layers‬تستجمع اإلرث التحليلي للخطاب فتصبه يف‬
‫توليفة واحدة مكتظّة‪.‬‬

‫ب‪ -‬الدراسات العربية‪:‬‬


‫‪ -1‬صالح فضل‪ :‬يع ّد صالح فضل من ّ‬
‫املربزين يف جانب التنظري التحليلي للعمل‬
‫األديب‪ ،‬وقد أسهم مبشاريع عدة لتحليل العمل األديب كان من أبرزها كتابه (نظرية‬
‫البنائية يف النقد‪ ،)1011 ،‬وكتابه (بالغة اخلطاب وعلم النص‪ )1001 ،‬وقد‬
‫تصدى غري مرة إىل حتليل العمل األديب انطالقاً من فكرة تقسيمه إىل مستويات‬
‫مبثابتها فكرة بنيوية خالصة‪ ،‬ففي كتابه األول(‪ )109‬ينظر صالح فضل إىل العمل‬
‫األديب من خالل املستويات التالية‪:‬‬
‫أ‪ -‬املستوى الصويت‪ :‬حيث تدرس احلروف ورمزيتها وتكويناهتا املوسيقية من نرب‬
‫وتنغيم وإيقاع‪.‬‬
‫ب‪ -‬املستوى الصريف وتدرس فيه الوحدات الصرفية ووظيفتها يف التكوين اللغوي‬
‫واألديب خاصة‪.‬‬

‫(‪ )114‬صالح فضل‪ :‬نظرية البنائية في النقد‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪ ،1117 ،‬ص‪،321‬‬
‫‪.322‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫جـ‪ -‬املستوى املعجمي وتدرس فيه الكلمات ملعرفة خصائصها احلسيّة والتجريدية‬
‫واحليوية واملستوى األسلويب هلا‪.‬‬
‫د‪ -‬املستوى النحوي لدراسة تأليف اجلمل وتركيبها وطرق تكوينها وخصائصها‬
‫الداللية واجلمالية‪.‬‬
‫هـ‪ -‬مستوى القول لتحليل تراكيب اجلمل الكربى ملعرفة خصائصها األساسية‬
‫والثانوية‪.‬‬
‫و‪ -‬املستوى الداليل الذي يشغل بتحليل املعاين املباشرة وغري املباشرة والصور‬
‫املتصلة باألنظمة اخلارجة عن حدود اللغة واليت ترتبط بعلوم النفس‬
‫واالجتماع ومتارس وظيفتها على درجات يف األدب والشعر‪.‬‬
‫ز‪ -‬املستوى الرمزي الذي تقوم فيه املستويات السابقة بدور الدال اجلديد الذي‬
‫يسمى باللغة‬
‫ينتج مدلوالً أدبياً جديداً يقود بدوره إىل املعىن الثاين أو ما ّ‬
‫داخل اللغة‪.‬‬

‫ويع ّقب صالح فضل على تقسيمه املقرتح بقوله‪" :‬ويالحظ على هذا الرتتيب‬
‫اعتماده على التنظيم اللغوي املسبق بطريقة مباشرة توشك أن تكون تبسيطاً منهجياً‬
‫خطرياً يغري بالسذاجة املدرسية ويوحي للباحثني بوضع فراغات تقليدية وحماولة ملئها‬
‫بتعسف مما جيعلهم جيافون روح املنهج البنائي الذي يرفض االنتقال من التحليل الشكلي‬
‫إىل الداللة املوضوعية" (‪.)106‬‬
‫وبالرغم من أن احملورين األفقي واالستبدايل ظاهرين يف هذا التقسيم‪ ،‬فإن صفته‬
‫العامة قد اتسعت لتغطي أي عمل أديب ميكن أن يدرس فيعيش هذا‬

‫(‪ )115‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 323 -322‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اجملزأة دون الدخول إىل مفاصل النص احلقيقية املراد‬


‫التحليل ضمن العموميات ّ‬
‫حبثها‪.‬‬
‫(‪)105‬‬
‫يطور صالح فضل هذه التقسيمة وحيصرها‬
‫ّ‬ ‫ويف مشروعه الثاين (‪)1001‬‬
‫يف ثالثة مستويات بدالً من سبعة وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬األبنية الصوتية الصرفية‪ :‬وهتتم مببدأي التكرار واحلذف‪ ،‬فهناك تكرار تام لبعض‬
‫األصوات الصائتة والصامتة أو للواحق صرفية وتكرار شبه تام مثل تكرار الكلمات‬
‫ذات األصل الواحد‪ ،‬وهناك حذف صويت كالرتخيم وما شابه ذلك‪.‬‬
‫‪ -1‬األبنية النحوية‪ :‬ويتابع هذا املستوى اإلضافة واحلذف والقلب‪.....‬‬
‫‪ -1‬األبنية الداللية‪ :‬وخيتص هذا املستوى مبتابعة إضافة عناصر داللية أو كلمات‬
‫ومبتابعة احلذف يف بعض العناصر الداللية أو الكلمات‪ ،‬إضافة إىل القلب‬
‫واإلبدال‪.‬‬

‫والنموذج السابق باق على لغويته ومهيّأ لشغل خواص بنيوية‪ ،‬وهذه التقسيمات‬
‫مصممة يف األساس لتحليل النصوص الشعرية من خالل لغويتها الصرفة‪ ،‬ولكن صالح‬
‫فضل يستأنف ابتكار تقسيمات تسهم يف حتليل اخلطابات األدبية بشكل عام والسردية‬
‫(القصصية) بشكل خاص‪ ،‬ويسمى تقسيماته اخلاصة بالقصص والسرديات مبظاهر السرد‬
‫وهو مييز عند حتليل القصة بني ثالثة مستويات أو أمناط للسرد (‪ )101‬هي‪:‬‬
‫‪ -1‬احلكاية )‪ (Histoire‬وتطلق على املضمون السردي؛ أي على املدلول‪.‬‬
‫‪ -1‬القصة )‪ (Recit‬ويطلق على النص السردي‪ ،‬وهو الدال‪.‬‬

‫(‪ )116‬صالح فضل‪ :‬بالغة الخطاب وعلم النص‪ ،‬ص ‪.211‬‬


‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.211‬‬ ‫(‪)117‬‬

‫‪12‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -1‬القص )‪ (Narration‬ويطلق على العملية املنتجة ذاهتا‪ ،‬وبالتايل على جمموعة‬


‫املواقف املتخيلة املنتجة للنص السردي أو ما يعرف باخلطاب القصصي أو‬
‫السردي أو الروائي‪ ،‬وصالح فضل يف ذلك إمنا ينقل تصور جريار جنيت يف هذا‬
‫الصدد الذي يعرضها على شكل مستويات ثالثة أيضاً‪ ،‬فتحليل اخلطاب‬
‫القصصي يتطلب النظر يف‪:‬‬
‫‪ -‬مستوى الزمن (عالقة القصة باحلكاية املروية)‬
‫‪ -‬مستوى الصيغة (تشري إىل الكيفيات واألشكال)‬
‫‪ -‬مستوى الصوت )‪( (Voix‬ويشري إىل الطريقة اليت يتدخل هبا كل من املرسل‬
‫واملتلقي يف عملية السرد)‪.‬‬
‫وواضح جداً أن املستوى األول واملستوى الثاين يتصالن اتصاالً وثيقاً بالعالقة بني‬
‫القصة واحلكاية آنفاً‪ .‬وخيص صالح فضل هبذه املستويات اخلطاب السردي‬
‫القصصي دون اخلطاب الشعري الذي يتطلب خصوصية يف التحليل تغاير‬
‫خصوصية اخلطاب السردي القصصي‪ .‬فاخلطاب السردي القصصي ال جيب عليه‬
‫أن ينشغل دائماً يف صوت القصة اجملرد ويف تراكيبها الصرفية املتكررة واألبنية‬
‫النحوية املنتهية عند اجلملة‪ ،‬بل عليه أن يبدأ من اجلملة بوصفها أصغر وحدة‬
‫خطابية يف القصة أو الرواية‪.‬‬
‫‪ -2‬محمد خطابي ‪ :‬قدم حممد خطايب عام (‪ )1001‬دراسة جادة حتت عنوان‬
‫"لسانيات النص‪ :‬مدخل إلى انسجام الخطاب" عرض فيها منظوره اخلاص‬
‫مدعماً جبملة من اآلراء يف هذا الصدد‪ ،‬كان أبرزها دراسة "فان دايك" يف حتليل‬
‫النص حتليالً يفرق بني البنية الصغرى والبنية الكربى‪ .‬كما اعتمد حممد اخلطايب يف‬
‫كتابه هذا على التصور الذي طرحه كل من‬

‫‪13‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ G. Brown & G.Yule‬يف كتاهبما ‪Discourse analysis‬‬


‫الصادر عام ‪ 1011‬عن جامعة كامربدج‪ ،‬وقد ع ّد حممد خطايب هذا الكتاب‬
‫مبثابة نقلة نوعية يف جمال حتليل اخلطاب‪ ،‬الحتوائه على اقرتاحات ومناقشات‬
‫لوجهات نظر متعددة تنتمي إىل ختصصات متنوعة هتتم هي أيضاً بتحليل‬
‫اخلطاب من زاوية ختصصها (‪. )101‬‬
‫أما عن املستويات اخلطابية اليت ّقر عليها مؤلف "لسانيات النص" فهي على‬
‫النحو التايل(‪:)100‬‬
‫‪ -1‬المستوى النحوي‪ :‬مبا حيويه من‪:‬‬
‫أ‪ -‬اإلحالة‪.‬‬
‫ب‪ -‬اإلشارة‪.‬‬
‫جـ‪ -‬أدوات املقارنة‪.‬‬
‫د‪ -‬العطف‪.‬‬
‫هـ‪ -‬احلذف‪.‬‬
‫و‪ -‬االستبدال‪.‬‬
‫‪ -2‬المستوى المعجمي‪:‬‬
‫التكرير (البناء‪ ،‬املناسبة‪ ،‬رد العجز على الصدر)‪.‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫ب‪ -‬التضام‪.‬‬
‫جـ‪ -‬املطابقة‪.‬‬

‫(‪ )111‬محمد خطابي‪ :‬لسانيات النص‪ ،‬ص ‪.47‬‬


‫(‪ )111‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.211‬‬

‫‪14‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -3‬المستوى الدللي‪:‬‬
‫مبدأ االشرتاك (اجلامع العقلي والومهي)‬ ‫أ‪-‬‬
‫ب‪ -‬العالقات‪ :‬اإلمجال‪ /‬التفصيل‪ ،‬العموم‪ /‬اخلصوص‪.‬‬
‫جـ‪ -‬موضوع اخلطاب‬
‫د‪ -‬البنية الكلية‬
‫هـ‪ -‬التغريض‬
‫‪ -4‬المستوى التداولي‪:‬‬
‫السياق وخصائصه‬ ‫أ‪-‬‬
‫ب‪ -‬املعرفة اخللفية (األطر‪ ..‬اجلامع اخليايل‪ ،‬التضام النفسي)‬
‫وهذه املستويات األربعة ختص أنواع اخلطاب بشكل عام‪ ،‬مث خيص‬
‫املستوى الشعري مبستوى خامس هو‪:‬‬
‫‪ -5‬المستوى البالغي‪:‬‬
‫الستعارة (التعالق الستعاري)‬ ‫‪-‬‬
‫ويطبق حممد خطايب هذه التوليفة على قصيدة "فارس الكلمات‬
‫الغريبة" للشاعر أدونيس من ديوان أغاين مهيار الدمشقي‪ ،‬وخيترب‬
‫مفاهيمه السابقة على هذه القصيدة‪ ،‬لكن اخلطاب السردي‬
‫القصصي يبقى عاجزاً عن اإلفادة من هذه املستويات اللغوية اجلافة‬
‫اليت قد تقطّع أوصاله دون جدوى تذكر‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -3‬محمد مفتاح‪ :‬يطرح حممد مفتاح يف كتابه "املفاهيم معامل" (‪ )1000‬اسرتاتيجية‬


‫عامة متس أي نص أديب وختضعه للتحليل‪ ،‬وتقوم على ثالثة مستويات من‬
‫التحليل هي(‪:)199‬‬
‫‪ -1‬الستراتيجية التصاعدية‪ :‬وتعين فهم الكلمات واجلملة مث إىل فهم مجلة‬
‫أخرى تليها‪ ،‬مث ربط اجلمل بعضها ببعض إىل هناية النص‪ .‬وهذا ما يعادل‬
‫املستوى األفقي عند الباحثني اللغويني‪ ،‬أو التجاوري الرتكييب‪.‬‬
‫‪ -2‬الستراتيجية التنازلية‪ :‬وتكون باالعتماد على ّ‬
‫املخزن يف ذاكرتنا‪ .‬وقد‬
‫اقرتحت مفاهيم علم النفس املعريف هلذه االسرتاتيجية مفاهيم عديدة؛ مثل‬
‫األطر واملدونات واخلطاطات والنماذج الذهنية‪ .‬وهذا يعادل املستوى‬
‫االستبدايل لدى صالح فضل(‪ )191‬وفيه تنمو العمليات ذات األساس‬
‫التشبيهي وهي املكونة جلميع التنظيمات االختيارية‪.‬‬
‫‪ -3‬الستراتيجية التقييسية‪ :‬وتعين توظيف ما هو معلوم لفهم ما هو جمهول‪،‬‬
‫واخلربات السابقة لفهم األوضاع املستجدة‪.‬‬
‫وهنا ينفتح املشهد النصي على أفق أوسع من التأويالت‪ ،‬ألن التأويل‬
‫حسب فوكو‪" :‬أسلوب من أساليب مواجهة النقص العباري وتعويضه عن‬
‫طريق توفري املعىن‪ ،‬أسلوب من أساليب الكالم مبناسبة النقص ورغماً عنه"‬
‫(‪.)191‬‬

‫(‪ )211‬محمد مفتاح‪ :‬المفاهيم معالم (نحو تأويل واقعي)‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ص‪.151-151‬‬ ‫ط‪،1،1111‬‬
‫(‪ )211‬صالح فضل‪ :‬بالغة الخطاب وعلم النص‪ ،‬ص ‪.51‬‬
‫(‪ )212‬ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ص ‪.112‬‬

‫‪16‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أما االسرتاتيجيتان األوليان فهما حبث عن قانون ذلك النقص‪ ،‬وقياس‬


‫وحتديد صورته النوعية‪ .‬ولعل فكرة التصاعدي والتنازيل ظهرت بوضوح‬
‫أقرا بأن من أحد‬
‫لدى مؤلفي كتاب "حتليل اخلطاب" براون ويول اللذين ّ‬
‫أجزاء التحليل املهمة أن "نبحث عن معاين الكلمات وبنية اجلملة لنبين‬
‫معىن إمجالياً متكامالً للجملة (أي التحليل صعوداً) ولكننا يف الوقت نفسه‬
‫وحنن نقوم هبذا العمل نكون بصدد التنبؤ مبا ستعنيه اجلملة التالية يف غالب‬
‫الظن اعتماداً على السياق‪ ،‬إضافة إىل املعىن اإلمجايل للجمل اليت سبق‬
‫حتليلها (أي التحليل نزوالً)" (‪.)191‬‬
‫‪ -4‬حسن حنفي‪ :‬وقد طرح هذا املفكر العريب فكرته عن اخلطاب بعيداً عن الذهنية‬
‫األلسنية‪ ،‬إذ إن اخلطاب لديه يوازي "فحوى الفكر" وال يقتصر على اجلملة أو‬
‫النص بل يتجاوزمها يقول‪" :‬ويبدو أن أنواع اخلطاب يف األدبيات املعاصرة قد مت‬
‫استبعادها حلساب عمومية اخلطاب وإخضاعه ملنطق لغوي ومنهج حتليلي واحد‪.‬‬
‫ويف العمومية ختتفي اخلصوصية‪ .‬فقد اجتهت املدارس اللغوية املعاصرة حنو الشكل‬
‫دون املضمون‪ ،‬وبالتايل مل تعن إال باأللفاظ والرتاكيب"(‪ )199‬وحسن حنفي‬
‫مبلحوظته السابقة إمنا يشري إىل إمهال األبعاد غري اللغوية يف حتليل اخلطاب‪ ،‬من‬
‫هنا يطرح حسن حنفي تصوره يف حتليل اخلطاب‪ ،‬فللخطاب مستويات أو أبعاد‬
‫هي(‪:)196‬‬

‫(‪ )213‬ج‪ .‬براون و ج‪ .‬يول‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪.211‬‬


‫(‪ )214‬حسن حنفي‪ :‬تحليل الخطاب‪( ،‬المؤتمر العلمي الثالث‪ -‬تحليل الخطاب العربي) ‪ ،1117‬جامعة‬
‫فيالدلفيا‪ ،‬األردن‪ ،‬ص ‪.27‬‬
‫(‪ )215‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.33-21‬‬

‫‪17‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أ ‪ -‬مستوى عالم اللغة‪( :‬األلفاظ املستقلة عن املعاين أو املرتبطة هبا) وهو ما‬
‫يعادل مباحث األلفاظ يف علوم اللغة‪ ،‬تقسيم اجلملة إىل اسم وفعل‬
‫وحرف‪ ..،‬وتفكيك االسم والفعل‪ .‬ومهمة التفكيك هنا القضاء على قوة‬
‫العقل )‪ (Logomachos‬حبيث يتم اكتشاف أن وراء عامل اللغة ال‬
‫عوامل أخرى‪ ،‬ال معاين وال أشياء وال أفعال‪ .‬الكتابة يف نقطة الصفر كما‬
‫يقول روالن بارت‪ .‬وإجيابيات هذا املستوى هو جتاوز لغة الدين ولغة‬
‫امليتافيزيقا من أجل إخضاع اللغة ‪-‬باعتبارها لغة‪ -‬إىل منطق حمكم‬
‫لأللفاظ‪ ،‬ومن سلبياته الوقوع يف الصورية اخلاصة‪ ،‬وكأن عامل اللغة ال شأن‬
‫له بباقي املستويات‪.‬‬
‫ب‪ -‬مستوى عالم المعاني المستقل عن األلفاظ‪ :‬وميتاز هذا املستوى بأنه‬
‫يركز على املعىن ورؤية املاهيات وحديث النفس وجتاوز الوسيلة إىل الغاية‬
‫وعيبه اإليغال يف النزعة الباطنية دون حاجة إىل أدوات اتصال مثل اللغة‬
‫واستبدال الرؤيا بالصوت املسموع‪.‬‬
‫ج‪ -‬مستوى عالم األشياء‪( :‬مستقل عن األلفاظ واملعاين) وهو عامل التحقق‬
‫من صدق القضايا اليت تصدر أحكاماً على الواقع حىت تصبح أحكاماً‬
‫علمية‪ .‬األشياء ليست لغة إمنّا توجد يف العامل اخلارجي الذي مييل إىل‬
‫اللغة من املفهوم إىل املصدق‪.‬‬
‫د‪ -‬مستوى عالم األفعال‪ ،‬األوامر والنواهي‪ :‬وهو البعد اإلنساين للخطاب‬
‫الذي يبني أن اخلطاب ليس جمرد صياغة لغوية (املستوى األول)‪ ،‬وليس‬
‫التعبري عن ٍ‬
‫معان (املستوى الثاين)‪ ،‬وليس التحقق من صدقه يف الواقع‬
‫(املستوى الثالث)‪ ،‬بل هو اقتضاء فعل‪ ،‬نداء لسلوك‪ ،‬توجه حنو املمارسة‬
‫ودافع للحركة والتغري االجتماعي‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وهذا املشروع الذي يقره ويسعى إليه حسن حنفي حيث اخلطى يف إقرار أن‬
‫الشكل واملضمون األويل مها وسيلتا اخلطاب إلظهار مكنوناته‪ ،‬فال هتُّم املفكرين‬
‫لغةُ اخلطاب أو معانيه األوىل بقدر ما هتمهم فحوى هذا اخلطاب فحسن حنفي‬
‫مدفوع برغبته يف توظيف املفاهيم الفكرية او املعرفية لتغيري الواقع‪ .‬وهذا مغاير متاماً‬
‫ملراد السرديني حمللي اخلطاب القصصي الذين يرون يف اخلطاب كيفية ال فحوى‪.‬‬
‫‪ -5‬سعيد يقطين‪ :‬يع ّد مشروع سعيد يقطني (‪ )1010‬يف حتليل اخلطاب من أبرز‬
‫املشاريع العربية قاطبة اليت احتوت احملاوالت البنيوية واملعرفية اليت سبقته مث هضمها‬
‫ووالف بينها‪ ،‬وقد تلخص مشروعه يف كتابني صدرا متالزمني مها‪:‬‬
‫‪ -1‬حتليل اخلطاب الروائي‪ :‬الزمن– السرد– التبئري‪.‬‬
‫‪ -1‬انفتاح النص الروائي‪ :‬النص– السياق‪.‬‬

‫ويظهر هذا املشروع التزاماً مباشراً بتحليل اخلطاب الروائي خاصة دون غريه‪ ،‬علماً‬
‫ورواده‪ .‬وقد‬
‫أن مقدمته للكتاب األول كانت شاملة ألبرز تعريفات اخلطاب ّ‬
‫اختص الكتاب األول باملستوى الرتكييب للخطاب الروائي‪ ،‬فيما تعهد الكتاب‬
‫الثاين باملستوى الداليل للخطاب الروائي واملستويان يتحدان لتقدمي تصور فاعل يف‬
‫حتليل النص الذي يضم اخلطاب‪ ،‬ألنه أمشل منه حسب يقطني‪.‬‬
‫والرؤية النقدية اليت يسعى يقطني إىل خط معاملها تقوم على مبدأ السرديات‬
‫احلديثة اليت هتتم باخلطاب السردي ألسنياً وسيميولوجيا؛ ألسنياً باهتمامه بالبناء‬
‫والعالئق اليت تربط الراوي باملنت احلكائي‪ ،‬كما‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ظهر ذلك لدى بارت وتودوروف وجنيت‪ .‬وسيمولوجياً باهتمامه بدالالته وبناه‬
‫العميقة اليت تتحكم به متجاوزاً املستوى األلسين املباشر وصوالً إىل إقرار وظائف‬
‫للسرد‪.‬‬
‫كما هو لدى بروب وبرميون وغرمياس‪ .‬وهذان املستويان يبذالن اجلهد من أجل‬
‫توضيح مقاربة معرفية للخطاب يف مستوياته الرتكيبية والداللية‪ .‬أما التأويل فمرتوك‬
‫للقراءة الذاتية للنص‪ .‬ويصف عبد اهلل إبراهيم مشروع يقطني بقوله‪" :‬على هذا‬
‫املوروث اخلصب للسرديات‪ ،‬جبهودها الروسية والفرنسية واألجنلو‪ -‬ساكسونية‪،‬‬
‫ينهض اجلذر النظري لكتايب سعيد يقطني األخريين"(‪.)195‬‬
‫وبعد‪ ،‬فالتقسيمات عديدة ومتباينة وقد تكون متضاربة‪ ،‬فكل خطاب يطرح‬
‫معطيات تسمح بتحليلها ولكل خطاب إمكانياته‪ ،‬ومن غري العملي أن نطرح‬
‫توليفة اعتباطية لتحليل أصناف اخلطابات شىت؛ إذ ال مناص من التخصيص؛ ألن‬
‫التخصيص جينبنا الوقوع يف شرك العموميات الباقية على السطح‪ ،‬كما أن إقحام‬
‫توليفة يف نص ال يتحملها يعين تفتيت النص دون غاية توصلنا إىل مغزاه الداليل‬
‫أو الفين‪ ،‬ألن انتزاع األعمال عن طريق الوصف التفصيلي من سياقها (اجلنسوي)‬
‫يوجه ضربة قاسية لالستجابات املخزونة يف جوف هذه األعمال‪ ،‬مما يدفعنا إىل‬
‫مالحقة املستوى املباشر املقروء وإمهال املراد املعريف املكنوز‪ ،‬وكالمها صنوان يف‬
‫القراءة التأويلية‪ .‬إن احملاوالت كثرية‪ ،‬لكن كشف مكنوز اخلطاب األديب‬

‫(‪ )216‬عبد هللا ابرهيم‪ :‬المتخيل السردي‪ ،‬ص ‪.146‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫(‪)191‬‬
‫وللدراسة يف هذا اإلطار‬ ‫يبقى مرهوناً‪ ،‬أخرياً‪ ،‬بقدرة الدارس على التناول‬
‫حماولة‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬مستويات الخطاب‪ -‬مقاربة عامة‪:‬‬


‫جل احملاوالت السابقة‬
‫تنطلق الدراسة يف هذا املبحث من افرتاض مفاده أنه ّ‬
‫انقسمت يف حتليلها للخطاب إىل اجتاهني‪ :‬اجتاه ألسين بنيوي تركييب‪ ،‬واجتاه فكري‬
‫داليل‪ ،‬مع غلبة واضحة ألصحاب االجتاه األول؛ فإخضاع حتليل اخلطاب إىل املنطق‬
‫اللغوي أزاح مستوى الرؤية عن األبعاد التحليلية األخرى‪ ،‬فغلّبت املدارس النقدية يف‬
‫معظمها الشكل على املضمون انطالقاً من الفكرة القائلة أن دراسة األدب تقتضي دراسة‬
‫ما جيعل منه أدباً‪ ،‬فاألدبية هي اهتمامنا‪ ،‬واللغة هي ما مينح األدب استقاللية عن غريه‪.‬‬
‫فبات اخلطاب أصواتاً ونربات أكثر منه دالالت ومعاين‪ ،‬فسادت النزعة الشكلية‬
‫للخطاب وطغت على السطح‪.‬‬
‫إن حتليل اخلطاب يقتضي بالضرورة دراسة النهج املتبع يف إنتاج ملفوظ ما‪،‬‬
‫فضالً عن اآللية اليت يعمل هبا هذا امللفوظ وقد كان اجلرجاين قد سبقنا إىل القول بأن‬
‫"األلفاظ ال تفيد حىت تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف‪ ،‬ويعمد هبا إىل وجه دون وجه من‬
‫الرتكيب والرتكيب"(‪.)191‬‬

‫(‪ )217‬تجاوزت هذه الدراسة عن بعض المحاوالت التي اجتهدت في رسم تصور جاد لتحليل العمل‬
‫األدبي‪ ،‬نظراا لتالقيها مع بعض الدراسات التي عرضنا لها‪ ،‬نذكر منهم‪ :‬عبد الملك مرتاض‪،‬‬
‫وسعيد بحيري‪ ،‬وموريس أبو ناضر وبشير ابرير‪.‬‬
‫(‪ )211‬عبد القاهر الجرجاني‪ :‬أسرار البالغة في علم البيان‪ ،‬صححها وعلق عليها‪ :‬محمد رشيد‬
‫رضا‪ ،‬ط‪ ،6‬القاهرة‪ ،‬مكتبة محمد علي صبيح‪ ،1151 ،‬ص ‪.2‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فدراسة اخلطاب وحتليله يقتضي الوقوف عند اللغة مث جتاوزها‪ ،‬مع ضرورة أال‬
‫يفرتض احمللل سياقاً أكرب مما هو ضروري لضمان الفهم الصحيح للخطاب‪ .‬ومن اجلدير‬
‫بالذكر أن مقولة اجلرجاين السابقة تتسق إىل حد بعيد مع تعريف (اخلطاب = النص)‬
‫على األقل من إطار لساين حديث ‪.‬‬
‫إن الفكرة الرئيسية اليت تقود هذه الدراسة يف حتليل اخلطاب هي افرتاض‬
‫مستويات يتكون منها اخلطاب‪ ،‬فتتشكل معانيه‪ ،‬وتظهر طاقاته فتتجاوز املعاين األُول إىل‬
‫معان ثو ٍان وثوالث(‪.)190‬‬
‫ٍ‬
‫إن تقسيم اخلطاب إىل مستويات خاضع ‪-‬قبالً‪ -‬إىل اعتبارات مخسة هي‪:‬‬
‫أننا أمام منط سردي خاص امسه الرواية التارخيية يتقاطع فيه‬ ‫*‬
‫خطابان؛ األول تارخيي (جانب احلكاية) والثاين‪ :‬فين (جانب اخلطاب)‪،‬‬
‫فالدالالت تبدأ من القدمي وتنتهي يف احلاضر‪.‬‬
‫إن اخلطاب عملية حركية استعملت فيها اللغة بوصفها أداة توصيلية يف سياق‬ ‫*‬
‫ٍ‬
‫ومقاصد كامنة‪ ،‬مما يقتضي االلتفات سوياً إىل الدال‬ ‫معني للتعبري عن ٍ‬
‫معان‬
‫(اللغة) واملدلول (املقصد)‪.‬‬
‫إن مبدأ (تلوين اخلطاب)(‪ )119‬الذي يقوم عليه اخلطاب الروائي يدفع بالدراسة إىل‬ ‫*‬
‫هتجني منهج حيقق نضج األداة حيثّها على العطاء‪.‬‬

‫(‪ )211‬من أبرز المستخدمين لفكرة المعاني األول والثواني‪ ..‬حازم القرطاجني في كتابه‪ :‬منهاج‬
‫البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تقديم وتحقيق محمد الحبيب بن الخوجة‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الغرب اإلسالمي‪،‬‬
‫‪ ،1111‬ص‪.23‬‬
‫(‪ )211‬عبارة (تلوين الخطاب) مقتبسة عن ابن قيم الجوزية (‪751‬هـ) وقد وردت في كتابه‪ :‬الفوائد‬
‫المشوّ ق إلى علوم القرآن‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات دار ومكتبة الهالل‪ ،1117 ،‬ص ‪.22‬‬

‫‪12‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وتسريه‪ ،‬وهذه الثقافة تربز أو ختتفي يف‬


‫إن كل خطاب مندرج ضمن ثقافة حتكمه ّ‬ ‫*‬
‫ثنايا اخلطاب حىت بات هناك فعل مجاعي واحد متوا ٍر يف جمموع نصوص خطاب‬
‫ما حمكوم عليه بالرفض‪ ،‬بسبب احنرافه عن السلوك املثايل املنشود‪ ،‬اكتسب هذا‬
‫االحنراف بعداً نسقياً يف نصوص الثقافة ال مناص من كشفه وحماكمته‪.‬‬
‫إن ما ينطبق من مستويات على خطاب الرواية التارخيية ال ينطبق بالضرورة على‬ ‫*‬
‫اخلطاب الروائي بشكل عام‪ ،‬نظراً للمعطيات اخلاصة اليت تشغل هذا اللون من‬
‫الروايات‪.‬‬

‫إذن ما هي مستويات الخطاب في الرواية التاريخية (‪ )211‬؟‬ ‫‪-‬‬


‫تستقر الدراسة على املستويات التالية‪:‬‬
‫المستوى األول‪ :‬التركيبي (السردي) – الملفوظ فقط‬
‫‪ -‬الزمن‪.‬‬
‫‪ -‬الصيغة‪.‬‬
‫‪ -‬زاوية الرؤية (املنظور)‪.‬‬
‫المستوى الثاني‪ :‬التاريخي (الستعاني) – الملفوظ وما وراء الملفوظ‬
‫‪ -‬املوازنة بني التارخيي والروائي‪.‬‬
‫‪ -‬الشخصيات التارخيية‪.‬‬
‫‪ -‬مسوغات اللجوء إىل التاريخ‪.‬‬
‫الم ْوءُود) ما وراء الملفوظ فقط‬
‫المستوى الثالث‪ :‬النسقي ( َ‬
‫مكمالً وليس بديالً‪.‬‬
‫‪ -‬الثقايف ّ‬
‫‪ -‬النسق (اخلصائص ‪ -‬األدوات ‪ -‬األمثلة)‪.‬‬

‫(‪ )211‬سينشغل الفصل القادم برسم حدود مائزة للرواية التاريخية عن غيرها من الروايات‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المستوى األول‪ :‬التركيبي السردي (الملفوظ فقط)‬


‫خيتص هذا املستوى بضرب حدود الزمة متيّز هذا اللون األديب عن غريه من‬
‫األجناس‪ ،‬فتحليلنا خيص اخلطاب الروائي وحده‪ ،‬ويستثىن ما خال ذلك من األعمال‬
‫القصصية‪ ،‬فأي سرد البد من أن يقوم على دعامتني أساسيتني مها‪:‬‬
‫أ) أن حيتوي حكاية ما تضم أحداثاً معينة‪.‬‬
‫ب) الطريقة اليت تعرض هبا تلك احلكاية‪ ،‬وهذا العرض يسمى سرداً‪ ،‬والسرد هو ما‬
‫مييز لوناً قصصياً عن آخر‪.‬‬

‫وهذا املستوى مرهون بالدعامة الثانية؛ أي بشكل العمل الروائي الذي هو‬
‫" الطريقة اليت تقدم هبا القصة احملكية يف الرواية‪ ،‬إنه جمموع ما خيتاره الروائي من وسائل‬
‫وحيل لكي يقدم القصة للمروي له" (‪.)111‬‬
‫إن اخلطاب الروائي يف هذا املستوى هو الطريقة اليت تطرح هبا مادة احلكاية يف‬
‫الرواية‪ ،‬من هنا ستغدو الدراسة يف املستوى األول غري مكرتثة باملنت احلكائي؛ ألن ذلك‬
‫سيكون من اختصاص املستويني الالحقني بل ستصب اهتمامها يف هذا املستوى على‬
‫مكونات اخلطاب اليت اقرتحها ترفيتان تودوروف عام ‪ ،1055‬وأثبتها جريار جنيت(‪:)111‬‬
‫أ‪ -‬الزمن‪( :‬كشف العالقة بني زمن القصة وزمن اخلطاب) ‪.Time‬‬
‫ب‪ -‬الصيغة‪( :‬منط اخلطاب الذي يستعمله السارد) ‪.Mood‬‬
‫القصة) ‪.Aspect‬‬
‫جـ‪ -‬اجلهة‪( :‬الكيفية اليت يدرك هبا السارد ّ‬

‫(‪ )212‬حميد لحمداني‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫(‪ )213‬جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.41‬‬

‫‪14‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أ‪ -‬الزمن (سرديا) ‪Time :‬‬


‫فكرة الزمن فكرة متعددة الظالل‪ ،‬وكل إضاءة تُسلط على الزمن تقدم له داللة‬
‫خاصة تديرها أدوات خاصة صادرة عن حقل فكري ونظري ما‪ .‬فتتعدد الرؤى وتتطرف‬
‫أخرى‪ .‬ويف هذا املبحث تطرح الدراسة مفهوم الزمن ذي الظالل السردية‪ ،‬النابعة من‬
‫افرتاض منطني للزمن يف الرواية‪ :‬األول هو زمن القصة (األحداث احلقيقية املتسلسلة‬
‫تسلسالً عاملياً منطقياً‪ -‬األحداث كما حدثت فعالً) وزمن اخلطاب (األحداث بعد‬
‫التشكيل)(‪.)119‬‬
‫ويعود الفصل يف هذه القسمة إىل الشكالنيني الروس الذين أظهروا ريادة يف‬
‫ذلك من خالل التقسيم الذي أقاموه يف أي عمل قصصي‪ /‬حكائي عندما فصلوا ومايزوا‬
‫بني املنت احلكائي )‪ (Fable‬واملبىن احلكائي )‪ ، (Sujet‬فاملنت احلكائي هو األحداث‬
‫كما حدثت فعالً (طبيعياً) واملبىن هو طريقة تشكيل األحداث يف املنت وإظهارها على‬
‫حنو خمصوص(‪ .)116‬من هنا كان لزاماً النظر إىل الزمن يف الرواية نظرة مزدوجة القرار‪.‬‬
‫وانطالقاً من هذه العالقة املزدوجة‪ ،‬ميكن أن يقدم لنا املؤلف ضروباً زمنية شىت‬
‫ظاهرة يف املبىن احلكائي؛ إذ من الصعب منطقياً أن يتطابق ‪-‬مهما حاول املؤلف‪ -‬تتابع‬
‫األحداث وتواليها يف عمل ما مع الرتتيب الطبيعي لألحداث احلقيقية (املفرتض‬
‫حدوثها)؛ إذ كيف للمؤلف أن يقدم لنا حدثني وقعا يف زمن واحد؟ حتماً سيلجأ إىل‬
‫طريقة متكنه من إشعارنا بأن احلدثني متاثال زمنياً ولكنه ق ّدم أحدمها على اآلخر‪ .‬وهذا‬
‫االجتهاد منه يصب يف زاد املبىن‬

‫(‪ )214‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.45‬‬


‫(‪ )215‬نظرية المنهج الشكلي‪ ،‬نصوص الشكالنيين الروس‪ ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪15‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وليس املنت‪ .‬ومن الرواد يف جمال حتليل الزمن سردياً ذلك التوزيع الذي أثبته جريار جينت‬
‫(‪)115‬‬
‫يف كتاب (خطاب احلكاية) املطبق على رواية "حبثاً عن الزمن الضائع" لربوست‬
‫وستنهج الدراسة النهج ذاته يف حتليل الزمن‪.‬‬

‫‪ -1‬الترتيب ‪( :ORDER‬زمن احلكاية‪ ،‬االسرتجاعات‪ ،‬االستباقات)‬


‫فمن الطبيعي أال يسري اخلطاب )‪ (Discourse‬مبحاذاة احلكاية‬
‫)‪ (Diegesis‬ومن مث فلن يطابق زمنه زمنها مطابقة تامة‪ ،‬ألن اخلطاب يتطلب‬
‫من راويه أن يعود إىل الوراء الستدراك حديث سابق أو معلومة حان دورها‪،‬‬
‫واخلطاب يطلب من راويه أحياناً أن يسبق التسلسل املنطقي الزمين للسرد هلدف‬
‫يف ذهنه‪ ،‬ويشري ما سبق إىل حاالت من خروج اخلطاب عن خط زمن احلكاية‬
‫املنطقي‪ .‬من هنا تربز قضية الرتتيب الزمين‪ ،‬والراوي يف هذه احلال له أن حيدث‬
‫مطابقة )‪ (Achrony‬بني زمن اخلطاب وزمن احلكاية وهي حالة ممكنة نظرياً‬
‫ولكنها غري معروفة يف التطبيق‪ ،‬أو أن حيدث خمالفة )‪ (Anachrony‬بني‬
‫الزمنيني‪ .‬وللمخالفة شكالن‪:‬‬
‫أ‪ -‬االسرتجاع )‪ )111((Analepsis‬عودة النص إىل ماضيه‪.‬‬
‫واالسرتجاع خمالفة لسري السرد يقوم على عودة الراوي إىل حدث سابق‪ ،‬مما‬
‫يولد داخل الراوية حكاية ثانوية‪ .‬ووظيفة االسرتجاع يف الغالب وظيفة‬
‫تفسريية تُسلط الضوء على ما مضى أو فات وغمض من حياة الشخصية‬
‫يف املاضي‪ .‬واالسرتجاع أمناط‪:‬‬

‫(‪ )216‬جيرار جينت‪ :‬خطاب الحكاية‪.‬‬


‫(‪ )217‬ينظر‪ ،‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪16‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -1‬اسرتجاع خارجي )‪(External Analepsis‬‬


‫‪ -1‬اسرتجاع داخلي )‪(Internal Analepsis‬‬
‫‪ -1‬اسرتجاع تلقائي )‪(Atoumatic Analepsis‬‬
‫‪ -9‬اسرتجاع قسري )‪(Compulsory Analepsis‬‬
‫‪ -6‬استباق اعتباطي )‪( Arbitrary Analepsis‬‬

‫ب‪ -‬االستباق )‪ )111((Prolepsis‬ذكر خرب مل حين وقته بعد‪.‬‬


‫واالستباق شائع يف النصوص املروية بصيغة املتكلم‪ ،‬وال سيما يف كتب‬
‫السري والرحالت حيث الكاتب والراوي والبطل أدوار ثالثة ميثلها فرد‬
‫واحد‪ .‬ويتخذ االستباق أحياناً شكل حلم كاشف للغيب أو شكل تنبؤ أو‬
‫افرتاضات صحيحة نوعاً ما بشأن املستقبل‪ .‬ولالستباق أمناط‪:‬‬
‫‪ -1‬استباق متهيدي )‪. (Preparatory Prolepsis‬‬
‫‪ -1‬استباق إعالين )‪.(Declarative Prolepsis‬‬

‫‪ -2‬المدة )‪:(Duration‬‬
‫ونعين هبا الفرتة الزمنية اليت يستغرقها الراوي يف رواية ما يروي للمروي له‪ ،‬ومدة‬
‫الرواية اخلطية مرتبطة بسرعة احلكاية‪ ،‬وقد قيل إن سرعة احلكاية تقاس بقيمة‬
‫حجم النص املكتوب على الزمن الذي استغرقه احلدث‪ ،‬فعلى سبيل املثال قد‬
‫خيصص را ٍو ما عشر صفحات للحديث عن سنة خلت‪ ،‬لكنه قد يعطي العدد‬
‫نفسه من الصفحات أو أكثر‬

‫(‪ )211‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪17‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫لوصف مشهد ال يتجاوز ساعة‪ ،‬وتفسري هذا األمر مرهون بقياس املدة‬
‫)‪ :(Duration‬املدة احلقيقية للمشهد املروي‪.‬‬
‫وتسمح لنا هذه التقنية بدرس سرعة كل مقطع من مقاطع الرواية مث مقارنة هذه‬
‫السرعات لكشف إيقاع الكتابة يف الرواية‪ .‬وهناك ‪-‬نظرياً‪ -‬تدرج يف سرعة‬
‫احلكاية من احلد األدىن الذي يسجله الوقف )‪ (Pause‬إىل احلد األقصى الذي‬
‫يسجله احلذف )‪ (Ellipsis‬والدراسة السردية حتصر هذه السرعات اليت تقيس‬
‫املدة يف أربع حركات‪:‬‬
‫أ‪ -‬الخالصة‪ /‬ملخص )‪:)21 ((Summary‬‬
‫وهي إحدى سرعات السرد‪ ،‬وهو متغري احلركة‪ ،‬بينما السرعات األخرى‬
‫حمددة مبدئياً‪ ،‬هلذا يستخدمه السرد بكثري من املرونة لكل سرعة ترتاوح بني‬
‫املشهد واحلذف‪ .‬بقي امللخص إىل أواخر القرن التاسع عشر جسر العبور‬
‫الطبيعي من مشهد إىل آخر‪ ،‬واللوحة اخللفية اليت تتحرك أمامها املشاهد‪،‬‬
‫واللحمة اليت جتمع أجزاء السرد إىل أن أصبح تقنية زمنية تتجاوز ذلك‪.‬‬
‫ب‪ -‬الستراحة‪ :‬الوقف )‪:)22 ((Pause‬‬
‫وهو أبطأ سرعات السرد ويتمثل بوجود خطاب ال يشغل أي جزء من زمن‬
‫احلكاية‪ .‬والوقف ال يصور حدثاً‪ ،‬ألن احلديث يرتبط دائماً بالزمن‪ ،‬بل‬
‫يرافق التعليقات اليت يقحمها املؤلف يف السرد‪ .‬وينطبق هذا املوقف على‬
‫املقاطع الوصفية إذا تناولت منظراً ال يلفت أحداً من شخصيات احلكاية‪.‬‬

‫(‪ )211‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.151‬‬


‫(‪ )221‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.175‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫جـ‪ -‬القطع‪ /‬الحذف )‪:)221((Ellipsis‬‬


‫وهو أقصى درجات السرعة‪ ،‬ويعين إغفال فرتة من زمن احلكاية وإسقاط‬
‫كل ما تنطوي عليه من أحداث‪ .‬ويلجأ الراوي إىل احلذف حني ال يكون‬
‫احلدث ضرورياً لسري الرواية أو لفهمها‪ .‬واحلذف أنواع‪ :‬حذف معلن‪،‬‬
‫حذف ضمين‪ ،‬حذف افرتاضي‪.‬‬
‫د‪ -‬المشهد )‪:)222((Scene‬‬
‫هو أسلوب العرض الذي تلجأ إليه الرواية حني تقدم الشخصيات يف حال‬
‫حوار مباشر‪ ،‬واملشهد مياثل يف سرعته سرعة احلكاية‪ ،‬فال يتفوق عليها وال‬
‫املفصل والسرد امللّخص هو صدى‬
‫تتجاوزه‪ .‬والتضاد يف السرعة بني املشهد ّ‬
‫للتضاد يف املضمون بني املسرحي وغري املسرحي‪.‬‬

‫‪ -3‬التردد (التواتر) )‪:)223((Frequency‬‬


‫هو العالقة بني مع ّدل تكرار احلدث ومعدل تكرار رواية احلدث‪ .‬فاحلدث يقع‬
‫وتروى حكايته‪ .‬وقد يتكرر وقوعه مرات عدة وتتكرر روايته مرات عدة أو تروي‬
‫حكاية واحدة ختتصر كل الوقعات املتشاهبة؛ هلذا ميكن أن يوضع تصور من‬
‫العالقات الرتددية بني احلدث وروايته قائم على ثالث حاالت‪:‬‬

‫(‪ )221‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.74‬‬


‫(‪ )222‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.154‬‬
‫(‪ )223‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 52‬‬

‫‪11‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫سرد إفرادي )‪(Defamiliarization‬‬ ‫أ‪-‬‬


‫وهو أن نروي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة‪ ،‬أو أن نروي (كذا) مرة ما‬
‫حدث (كذا) سرداً إفرادياً‪.‬‬
‫ب‪ -‬تكرار سرد )‪(Repeating Narrative‬‬
‫وهو عودة السرد تكراراً إىل حدث واحد‪ ،‬تكرار السرد تستخدمه القصة‬
‫لتعرب عن حاالت كثرية‪ ،‬وتستخدمه أيضاً للتعبري عن اختالف وجهات‬
‫النظر‪.‬‬
‫جـ‪ -‬تكرار حدث )‪(Iterative Narrative‬‬
‫سرد يقدم مرة واحدة حدثاً تكرر وقوعه يف الزمن‪ .‬إنه توليف حكايات‬
‫متعددة يف حكاية واحدة من غري أن خنتار حكاية منها بوصفه منوذجاً‬
‫لألخريات‪.‬‬

‫(‪)224‬‬
‫ب‪ -‬الصيغة )‪(Mood‬‬
‫وهي ضبط املعلومة السردية‪ ،‬أي التحكم بأشكاهلا ودرجاهتا‪ ،‬فاملسافة‬
‫)‪ (Distance‬واملنظور )‪ (Perspective‬مها الوجهان األساسيان للصيغة؛ إذ ميكن‬
‫للراوي أن يقدم احلدث الواحد بصيغ خمتلفة‪ .‬ميكنه أن ينقل كالم الشخصيات حرفياً‪.‬‬
‫يصور املشهد كأنه يقع أمامنا (صيغة العرض) وميكنه أن يتناول احلدث على أنه‬
‫وأن ّ‬
‫آت ‪ ،‬وأن ينقل كالم الشخصيات بأسلوب مباشر أو غري مباشر‪ .‬أما‬‫ماض أو ٍ‬
‫حدث ٍ‬
‫الصيغ اليت ميكن أن يقدمها الراوي للمروي له حسب جينت(‪ ،)116‬فهي كما يلي‪:‬‬

‫(‪ )224‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية ‪ ،‬ص ‪.111 ،111‬‬
‫(‪ )225‬جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.117-115‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -1‬خطاب غري مباشر )‪:(Indirect Discourse‬‬


‫احملول وهو خطاب منقول بصيغة الغائب‪ ،‬يأيت بعد فعل القول أو ما يف معناه‪،‬‬
‫أو ّ‬
‫وال يكون مسبوقاً بعالمات تنصيص (قال له أن يغرب عن وجهه ) خطاب‬
‫الغائب هو خطاب غري مباشر‪ ،‬ألن الراوي ال ينقل كالم الشخصية حبروفه بل‬
‫ينقله مبعناه‪.‬‬

‫‪ -1‬خطاب مباشر )‪:(Direct Discourse‬‬


‫أو املنقول وهو خطاب منقول حرفياً بصيغة املتكلم‪ ،‬يأيت غالباً بعد فعل القول أو‬
‫ما يف معناه‪ ،‬ويكون مسبوقاً بنقطتني وموضوعاً بني قوسني مزدوجني‪ .‬مثاله‪ :‬قال‬
‫له‪" :‬اغرب عن وجهي"‪" ،‬قلت ألمي‪ :‬جيب مطلقاً أن أتزوج من ألربتني"‪.‬‬

‫‪ -1‬اخلطاب املسرود )‪:(Narratized Discourse‬‬


‫أو املروي وهو األبعد مسافة‪ ،‬إذ ينقله الراوي كحدث من أحداث احلكاية‪،‬‬
‫"مثاله‪ :‬أمره بالغروب عن وجهه"‪ .‬ال فرق يف اخلطاب املسرود بني ما أصله كالم‬
‫وما أصله حركات ومواقف وحاالت نفسية‪ .‬وهذا اخلطاب هو األبعد عن األصل‬
‫واألشد اختصاراً له‪ .‬وقد نصح "فلوبري" الكاتب بأن يروي هبذا األسلوب كالم‬
‫الشخصيات الثانوية‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫جـ‪ -‬موقع الرؤية (الجهة) ‪Perspective‬‬


‫ومن أبرز من تتبع موقع الراوي يف العمل السردي الشكالين الروسي‬
‫(‪)111‬‬
‫"توماتشفسكي"(‪ )115‬و"تودوروف" يف مقوالت احلكي(‪ ،)111‬وجريار جنيت‬
‫وملخص القول إن مواقع الراوي يف النص خيتلف الختالف مستويات السرد‪ ،‬واختالف‬
‫عالقات الراوي باحلكاية اليت يرويها واختالف التبئري‪ ،‬فالراوي إما أن يكون خارج‬
‫احلكاية اليت يرويها أو داخل هذه احلكاية‪ ،‬وبناء عليه يتحدد موقعه من خالل عالقته‬
‫باحلكاية اليت يرويها‪ ،‬فإما أن يكون حسب يقطني(‪ )110‬جواين احلكي‬
‫)‪ (Homodiegetic‬أو براين احلكي )‪ (Heterodiegetic‬وهذان املوقعان‬
‫يتدخالن فيما بينهما فيتولد من هذا التداخل أربعة أشكال أساسية‪:‬‬
‫‪ -1‬را ٍو خارج احلكاية وال ينتمي إليها‪ :‬وهو راوي احلكاية الرئيسية بضمري الغائب‪،‬‬
‫ويكون عاملاً بكل شيء وتفوق معرفته معرفة الشخصيات احلكائية يف الراوية‪.‬‬
‫‪ -1‬را ٍو خارج احلكاية وينتمي إليها‪ :‬وهو راوي احلكاية الرئيسية بضمري املتكلم‪ ،‬مثل‬
‫رواية أحالم مستغامني "ذاكرة اجلسد"‪.‬‬
‫‪ -1‬را ٍو داخل احلكاية وال ينتمي إليها‪ :‬هو شخصية داخل الرواية‪ ،‬تروي حكاية‬
‫ثانوية هي غائبة عنها مثل شهرزاد يف ألف ليلة وليلة‪.‬‬
‫‪ -9‬را ٍو داخل احلكاية وينتمي إليها‪ :‬هو شخصية داخل الرواية تروي حكاية ثانوية‬
‫مشاركة يف حوادثها‪ ،‬مثل السندباد يف ألف ليلة وليلة‪.‬‬

‫نظرية المنهج الشكلي‪ :‬نصوص الشكالنيين الروس‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫(‪)226‬‬


‫ينظر‪ :‬حميد لحمداني‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬ص ‪.41-47‬‬ ‫(‪)227‬‬
‫خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.251‬‬ ‫(‪)221‬‬
‫سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪. 311‬‬ ‫(‪)221‬‬

‫‪112‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المستوى الثاني‪ :‬التاريخي (الملفوظ وما وراء الملفوظ)‬


‫ويبحث هذا املستوى يف قراءة التاريخ ضمن قوالبه الفنية‪ ،‬وهو مستوى ال يليق‬
‫إال بتحليل الرواية التارخيية فقط؛ ألنه يبحث يف آلية تنفيذها‪ ،‬انطالقاً من فكرة مفادها‬
‫أن الرواية التارخيية إعادة بناء هتدف إنتاج شيء جديد؛ لذا سينصب البحث يف دراسة‬
‫الرواية التارخيية على كيفية إعادة كتابة املادة التارخيية روائياً وذلك يف حماور‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫المحور األول‪ :‬التاريخي والروائي‪:‬‬


‫وفيه تبحث الدراسة يف كيفية موازنة الروائي بني ما هو تارخيي وما هو فين؛‬
‫حبيث ال يطغى الوقائعي على فنية العمل‪ ،‬وال تطغى فنية العمل بتخيالته املبدعة على‬
‫تارخيية املضمون‪ .‬وهل اللجوء إىل اللغة التارخيية يع ّد خذالناً ملا هو فين؟ والعكس؟‪.‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬الشخصيات التاريخية‪:‬‬


‫وفيه تبحث الدراسة يف آلية التعامل مع الشخصيات التارخيية يف العمل الروائي‬
‫منوها وتسطيحها‪ ،‬ومن حيث حياديتها أو فاعليتها‪ ،‬فالشخصية التارخيية‬ ‫من حيث ّ‬
‫شخصية مثبتة يصعب حتميلها بأكثر مما أسنده إليها التاريخ‪.‬‬

‫المحور الثالث‪ :‬الهدف من اللجوء الى التاريخ‬


‫ال شك أن اللجوء إىل التاريخ يتجاوز اهلدف التعليمي البحت‪ ،‬بل إن القول‬
‫بذلك جيانب احلقيقة؛ إذ البد من أسباب تدفع كثرياً من الروائيني إىل توظيف التاريخ‬
‫وتسخريه يف أعماهلم الروائية احملكومة أصالً لرسالتها الفنية‪،‬‬

‫‪113‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فهل يندرج هذا التسخري ضمن إعادة صياغة التاريخ فنياً‪ ،‬ومن مث كشف املسكوت عنه؟‬
‫أم أن هذا التسخري يندرج ضمن استشراف املستقبل بقراءة املاضي؟ أم يندرج حتت‬
‫املقارنة بني ما كان يف املاضي وما يكون اآلن؟‬

‫المستوى الثالث‪ :‬المستوى النسقي الموءود (ما وراء الملفوظ)‬


‫سين طويلة من‬
‫وهذا املستوى يكمل احللقة املفقودة يف دراسة اخلطاب؛ فبعد ّ‬
‫الرتكيز على لغوية اخلطاب ومضامينه وثيمه‪ ،‬ينربى املنهج الثقايف ‪(Cultural‬‬
‫أعم منه وأمشل‪" ،‬والنقد‬
‫)‪ Studies‬لدراسة اخلطاب بوصفه مندرجاً ضمن سياق ثقايف ّ‬
‫الثقايف فرع من فروع النقد النصوصي‪ ،‬ومن مث فهو أحد علوم اللغة وحقول (األلسنية)‬
‫معين بنقد األنساق املضمرة اليت ينطوي عليها اخلطاب الثقايف بكل جتلياته؛ لذا جنده‬
‫معنياً بكشف ال اجلمايل كما هو شأن النقد األديب‪ ،‬وإمنا مهه كشف املخبوء من حتت‬
‫أقنعة البالغي‪ /‬اجلمايل"(‪ )119‬والواضح أن هذا املنهج "تغري يف منهج التحليل يستخدم‬
‫املعطيات النظرية واملنهجية يف السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة من دون أن يتخلى عن‬
‫مناهج التحليل األديب النقدي‪ .‬وهو النقد الذي ينفتح إىل ما هو غري مجايل‪ ،‬فال يؤطر‬
‫املعرفية"‬ ‫فعله حتت إطار تصنيفات النص اجلمايل‪ ،‬ويستفيد من مناهج التحليل‬
‫(‪.)111‬‬
‫أما منهجية النقد الثقايف فتسمح لنا بكشف حركة النسق بوصفه مضمراً يتحرك‬
‫على الضد من املعلن الواعي‪ .‬والنسق "عناصر مرتابطة متفاعلة متمايزة‪،‬‬

‫(‪ )231‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي‪ ،‬قراءة في األنساق العربية الثقافية‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬
‫بيروت‪،‬ط‪ ،2111 ،1‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ )231‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.52‬‬

‫‪114‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وتبعاً هلذا‪ ،‬فإن كل ظاهرة أو شيء ما يعترب نسقاً دينامياً‪ ،‬والنسق الدينامي له دينامية‬
‫داخل ية ودينامية خارجية حتصل بتفاعله مع حميطه؛ والدينامية إما خطية أو غري خطية‪،‬‬
‫وغري اخلطية إما انعكاسية وإما غري انعكاسية؛ على أن نظرية التكرار تؤكد رجوع كل‬
‫نسق إىل حالة أولية يف هناية أمد طويل"(‪ )111‬واألنساق الثقافية اليت سيخصها هذا‬
‫املستوى بالتنقيب عليها هلا وظائف دالة عليها ومواصفات حتددها وهي(‪:)111‬‬
‫أ‪ -‬نسقان حيدثان معاً ويف آن‪ ،‬يف نص واحد أو يف ما هو حبكم النص‬
‫الواحد‪.‬‬
‫ب‪ -‬يكون املضمر منهما نقيضاً ومضاداً للعلين‪ ،‬فإن مل يكن هناك نسق‬
‫مضمر من حتت العلين فحينئذ ال يدخل النص يف جمال النقد الثقايف‪.‬‬
‫جـ‪ -‬البد أن يكون النص مجيالً ويستهلك بوصفه مجيالً‪ ،‬بوصف اجلمالية‬
‫هي أخطر حيل الثقافة لتمرير أنساقها وإدامتها‪.‬‬
‫د‪ -‬وال بد أن يكون النص مجاهرياً وحيظى مبقروئية عريضة‪ ،‬وذلك لكي نرى‬
‫ما لألنساق من فعل عمومي ضارب يف الذهن االجتماعي والثقايف‪.‬‬

‫مما سبق تكون التوليفة التحليلية للخطاب شاملة لثالث مستويات رصدت يف‬
‫اخلطاب الروائي للرواية التارخيية‪ .‬األول‪ :‬الرتكييب السردي ويشمل كل اخلطابات الروائية‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬التارخيي وخيتص بالروايات التارخيية فقط‪.‬‬

‫(‪ )232‬محمد مفتاح‪ :‬المفاهيم معالم‪ ،‬ص ‪.135‬‬


‫(‪ )233‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪. 71 -77‬‬

‫‪115‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الثالث‪ :‬النسقي وهو معجم على النصوص اجلماهريية اجلمالية على اتساع‬
‫قطاعاهتا‪.‬‬
‫وسنخصص الباب الثاين– إن شاء اهلل– من هذه الدراسة لتطبيق املستويات‬
‫املقرتحة على مناذج من الرواية التارخيية‪ .‬أما الفصل القادم فسينهض برسم حدود للرواية‬
‫التارخيية تفصلها عن أمناط الروايات األخرى املتداخلة يف بعض مهامها مع الرواية التارخيية‬
‫‪.Historical Novel‬‬

‫‪116‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفصل الثالث‬
‫الــروايـ ــة التـاري ـخـي ــة‬
‫(المساحة والح ّد)‬

‫يغري من مباين األمور‪ ،‬ويكيّف‬


‫"واعلم أن تبدل األزمان وتقلب احلدثان ّ‬
‫يف اعتبار األشياء‪ ،‬فما كان يعترب باألمس فضيلة يعترب اليوم ويف الغد‬
‫رذيلة‪ ،‬وما كان يعده الناس يف املاضي نقيصة يعدونه يف احلاضر‬
‫كماالً"‬
‫محمد المويلحي‪ :‬حديث عيسى بن هشام‪ ،‬ص ‪44‬‬

‫مسوغ‬
‫موجه؟ وهل مثة ّ‬ ‫هل ختون الرواية التارخيية املوتى؟ أم أهنا تاريخ زائف ّ‬
‫لتمازج سرديتني إحدامها وثائقية واألخرى مجالية؟ أم أن الرواية تغبط التاريخ ثراءه املعريف‪،‬‬
‫فتحول املعرفة املاضوية إىل ترنيمة معادة التشكيل؟ وملاذا هي الدراسات اليوم َك ِلفةٌ بنسبة‬
‫املولود إىل والده؟‬
‫إذ درجت كثري من الدراسات يف هذا الصدد على عقد املقارنة النمطية بني‬
‫آخر من‬
‫التاريخ والرواية التارخيية للتفريق بني شيئني قُضي األمر بينهما باكراً‪ .‬وحاول نـَ َفٌر ُ‬
‫الدارسني التقريب بني الرواية التارخيية والرواية الواقعية وكأن الروايتني مل تنبتا يف تربة‬
‫واحدة!‬
‫يف البدء جيب أن ندرك أن "الرواية التارخيية" تنبين حكائياً على التاريخ وتقتات‬
‫عليه وتتشكل منه وتضيف عليه وختتزل منه وتتصرف فيه‪ ،‬ولكنها ليست تارخياً‪،‬‬
‫يسر له‪ ،‬إىل مهامه املتفق عليها أصالً‪.‬‬
‫النصراف كل لون‪ ،‬مبا ّ‬

‫‪117‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫كما أن الرواية التارخيية ليست إعادة كتابة للتاريخ‪ ،‬بل إعادة تدوين املاضي‬
‫على حنو مجايل ال حيادي يركن إىل نص تارخيي حتسبه غري مكتمل‪ ،‬فالتاريخ (دال)‬
‫واملاضي (مدلول) والتاريخ هو رؤية املؤرخ‪ .‬أما املاضي فهو ما اسرتعى انتباه املؤرخ فكتبه‬
‫وقر يف أذهان الناس‪ ،‬مث سارع هذا‬‫لب الروائي فكتبه رواية بعد أن ثبت ّ‬
‫تارخيا‪ ،‬وخلب ّ‬
‫األخري إىل استيضاح معامله أو حماكمته أو تلخيصه أو تصويبه أو إمتامه أو استحضاره إنه‬
‫االستشراف ال ريب‪ ،‬سواء أكان حنو األمام أم للخلف ؟ إن الرواية هي استثمار للتاريخ‬
‫(بتصرف)‪.‬‬
‫إن االنصراف إىل القول بأن الرواية التارخيية جسد منفصل عن التاريخ قول‬
‫أمر بات‬
‫مقضي ال جيب الوقوف عنده؛ فالتفريق أو املقارنة بني التاريخ والرواية التارخيية ٌ‬
‫ّ‬
‫ال يق ّدم كثرياً يف أي قناعة منهجية فاعلة‪ ،‬أما كيف تلهج الرواية بالتاريخ؟ وما موقف‬
‫الرواية من التاريخ؟ وكيف يتسردق التاريخ يف الرواية؟ فهذه تساؤالت باتت يف عداد‬
‫املفقودين‪ ،‬ال تُعقد النية يف البحث عنها إال فيما ندر‪ ،‬وستحاول الدراسة اإلجابة عنها‬
‫الحقا‪.‬‬
‫إن الرواية أمست سيدة األلوان واألجناس‪ ،‬وهذه السيادة ال تنبع من حلوهلا يف‬
‫نفوس املتلقني فحسب‪ ،‬وال تنبع من تفوقها على الشعر يف زماننا أيضاً‪ ،‬بل إن الرواية‬
‫لون ما عاد يوقف هنمه لون آخر‪ ،‬ففي مواقف كثرية سلبت الرواية الشعر أدواته‬
‫ورواده على حد سواء‪ ،‬والرواية هنلت من التاريخ‬ ‫وتسلحت بسالحه وسرقت متلقيه ّ‬
‫نتائجه‪ ،‬وحق ّقت يف مسلماته‪ ،‬وأكملت ما سكت عنه التاريخ وصححت ما زيّفه‪ .‬وقد‬
‫استفادت الرواية من نظريات علم االجتماع وعلم النفس واالنثربولوجيا وحللت وقيّمت‬
‫كثرياً من األحداث والشخصيات‪ .‬كما أ ّن الرواية رمست للناس مستقبلهم وقربت البعيد‬
‫وقومت‬
‫وأفادت من قفزات اإلعالم املتسارعة فأخربت واستشرفت وتنبأت وانتقدت ّ‬
‫وحللت‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وحاكمت؛ فكل ما يف احلياة هو من اهتمامها فالنفس واجملتمع واملشاعر والتاريخ‬


‫واملاضي واحلاضر من احلياة‪ ،‬والرواية فن كتابة احلياة دون ممنوع‪ ،‬والتاريخ من هاته‬
‫املعطيات‪ ،‬وهو من أرفد الرواية وغ ّذاها مبادة حكائية ال تنضب‪ .‬من هنا يأيت التساؤل‬
‫مسماها من إصرارها على التاريخ‪،‬‬
‫القائل‪ :‬إذا افرتضنا أ ّن هناك "رواية تارخيية" اكتسبت ّ‬
‫فهل لنا أن نطلق‪ -‬قياساً‪ -‬مسميات أخرى من قبيل "رواية نفسية" و "رواية اجتماعية"‬
‫وزعنا الرواية على العلوم‬
‫و "رواية سياسية" و "رواية تكنولوجية" و‪ ..‬و‪..‬؟ إذن نكون قد ّ‬
‫األخرى‪ ،‬إن هذا القياس يغادر الصحة وجيانب الصواب‪ ،‬ألن الرواية هي الرواية مهما‬
‫مسمى شكلي جلنس أديب واضح املعامل‪ ،‬والروايات على اختالفها‬ ‫تشكلت مادهتا‪ ،‬فهي ّ‬
‫تسخرها‬
‫تنجمع فيها مواصفات حتدد مالحمها اجلنسوية فال ختتلط بغريها‪ .‬أما املادة اليت ّ‬
‫الرواية فهي مادة مضمون ال مادة متلّك‪ ،‬فمهما تعددت وكثرت وانقسمت فلن تتجاوز‬
‫احل ّد اللفظ الشكلي احملدد جلنس العمل األديب‪.‬‬
‫مسمى "الرواية التارخيية" دون بروز مسميات أخرى كما ذُكر سابقاً‬‫أما ظهور ّ‬
‫يربره‪ ،‬إذ إن تأثري الرواية يف التاريخ تأثري يتجاوز املضمون إىل الشكل‪ ،‬فالتاريخ‬
‫فله ما ّ‬
‫يرفد الرواية باملادة احلكائية اليت يشكلها املبىن‪ ،‬يف حني أ ّن العلوم األخرى ال متتلك‬
‫املقومات احلكائية اليت ميلكها التاريخ‪ ،‬بل إن خدماهتا ال تتجاوز مستوى األدوات اليت‬
‫يوظفها الروائي يف عمله‪ .‬إن التاريخ ميتلك صالحيات أعظم ألنه السرد األكرب وما‬
‫الرواية إال تابعة متمردة عليه‪ ،‬من هنا تربز خصوصية هذه التسمية (الرواية التارخيية‬
‫تام من قبل النقاد‪ ،‬فسهروا يف شوارد‬‫‪ )Historical Novel‬اليت عوملت بتسليم ٍ‬
‫املسمى دون احلديث عن أهليته يف محل مكنونات هذا التمازج احلاصل بني التاريخ‬
‫ّ‬
‫والرواية‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إن مصطلح "الرواية التارخيية" مصطلح شكلي قبل أن يعطي داللته املضمونية‬
‫البارزة فيه‪ ،‬يسيطر فيه اخلطاب الروائي سيطرة احتوائية‪ -‬إنائية* وينشغل فيه اخلطاب‬
‫التارخيي انشغاالً مضمونياً ينصاع فيه إىل تش ّكل اخلطاب الروائي أكثر من انصياعه إىل‬
‫قانون التاريخ وأصوله‪ .‬من هنا ال ختون الرواية التارخيية املوتى وتقدم تارخياً زائفاً بل‬
‫توضيحاً جملرياته وحتليالً ملعطياته واختزاالً ملفرداته ومتادياً خلوافيه وانتقاء حلقبه هلدف أو‬
‫آلخر‪ .‬بل تستحضر ما كان يف (املا قبل) لتعيد بناء (املا بعد)‪ ،‬إن "الرواية التارخيية" نتاج‬
‫تفاعل خطابني مكتملني ق ّدم كل منهما خربته ما استطاع‪ .‬فما احلدود اليت متيّز الرواية‬
‫التارخيية عن غريها من الروايات؟ مىت نطلق على رواية لفظة تارخيية ومىت حنجب اللفظة‬
‫عنها؟ وهل إسناد كلمة تارخيية إىل رواية من الروايات هو تشريف هلا أم تكليف؟‬
‫قبل اإلجابة عن هذه التماديات يروقنا أن نقرتب أكثر من "الرواية التارخيية"‬
‫حىت ندرك مالحمها املائزة عن غريها‪:‬‬
‫‪ -‬الرواية التارخيية هي سرد ألحداث تارخيية مثبتة‪ ،‬بقصد إعادة استيعاهبا وجتديد‬
‫طريقة عرضها‪.‬‬
‫عصي على‬
‫ّ‬ ‫والرواية التارخيية آليتها األولية التاريخ‪ ،‬أما أهدافها فمتعدد األبعاد‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫احلصر‪.‬‬
‫الرواية التارخيية مستوى و ٍاع من األداء‪ ،‬يف أحيان كثرية تعيد صياغة مادة ماثلة‬ ‫‪-‬‬
‫أصالً يف ذهن املتلقي‪ ،‬هلدف أو آخر‪ ،‬فقارئ الرواية التارخيية يفرتض أنه يقرأها‬
‫وهو مستعد معرفياً خلوضها‪.‬‬

‫نسبة إلى اإلناء الذي يص ّنف المادة حسب شكله ‪.‬‬ ‫*‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الرواية التارخيية تعتمد فرتة تارخيية حم ّددة تسلّط الضوء عليها‪ ،‬فمن منطلق تارخيي‬ ‫‪-‬‬
‫ليس ملادة الرواية التارخيية بداية وال هناية (ألن التاريخ هو زمنها)‪ ،‬ومن منطلق‬
‫منتهى عندها‪.‬‬
‫روائي البداية هي أقدم نقطة مبدوء هبا والنهاية هي آخر نقطة ً‬
‫الرواية التارخيية باختيارها حقبة حمددة مثبتة تعد (تبئرياً) كبرياً واسع األبعاد وختلص‬ ‫‪-‬‬
‫إىل أهداف حمددة يصنعها املتلقي مع املرسل‪.‬‬
‫"الرواية التارخيية" عودة إىل املاضي برؤية آنية‪ ،‬فاملاضي هو (زمن احلكاية)‬ ‫‪-‬‬
‫واحلاضر هو (زمن الكتابة)‪.‬‬
‫كتابة "الرواية التارخيية" هي تعبري عن مواقف ورؤى للعامل بشكل خمتلف ال ميت‬ ‫‪-‬‬
‫بصلة إىل الكتابة بطريقة يفهمها القارئ مباشرة(‪.)119‬‬

‫أولا‪ :‬مفهوم الرواية التاريخية‬


‫تتأنّق كثري من الدراسات يف استهالك مصطلح "الرواية التارخيية" دون تأنّق يف‬
‫إبراز مفرداته الدالة عليه وال حمدداته املسيطرة على أبعاده‪ ،‬فجولة عجلى على توظيفات‬
‫املوظفني هلذا املصطلح تكشف عن تلك املرونة اهلائلة اليت اكتسبها املصطلح جراء تعدد‬
‫أي رواية رواية تارخيية تندرج ضمن سياق تارخيي يعكس‬ ‫استعماالته‪ ،‬ليس أقلها اعتبار ّ‬
‫فرتة حياتية حمددة‪ ،‬فالعودة إىل املاضي ال تنتج دائماً رواية تارخيية‪ ،‬إهنا عودة مشروطة‬
‫مبحددات ترسم مالمح هذا اللون السردي من الروايات‪.‬‬

‫(‪ )234‬مريم جمعة فرج‪ :‬قراءة في الرواية التاريخية المعاصرة‪ ،‬صحيفة البيان االماراتية‪ ،‬بيان‬
‫الثقافة‪ ،‬ع‪.2111/11/26 ،46‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يصف جورج لوكاش "الرواية التارخيية" بأهنا‪" :‬رواية تثري احلاضر‪ ،‬ويعيشها‬
‫املعاصرون بوصفها تارخيهم السابق بالذات"(‪ )116‬وجورج لوكاش يقدم هذا التوصيف‬
‫للرواية التارخيية يف معرض حديثه عن رواية الكاتب االيطايل مانزوين "املخطوبات" مقارناً‬
‫إياها بأعمال ولرت سكوت‪ ،‬وهذا التوصيف يعكس هدفاً من أهداف اللجوء إىل املاضي‬
‫أال وهو إثارة احلاضر من خالل املاضي‪ ،‬ويف سياق آخر يؤكد لوكاش "أن ما يهم يف‬
‫الرواية التارخيية ليس إعادة سرد األحداث التارخيية الكبرية‪ ،‬بل اإليقاظ الشعري للناس‬
‫الذين برزوا يف تلك األحداث‪ ،‬وما يهم هو أن نعيش مرة أخرى الدوافع االجتماعية‬
‫واإلنسانية اليت أدت هبم اىل أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك متاماً يف الواقع‬
‫التارخيي"(‪ .)115‬إن الرواية التارخيية يف حمصلتها اخلتامية لدى لوكاش هي تفاعل بني الروح‬
‫التارخيية واألنواع األدبية‪ ،‬تفاعالً يعكس ما خفي سابقاً وما غمض الحقاً‪.‬‬
‫ويعرف ألفرد شيبارد ‪ Alfred Sheppard‬الرواية التارخيية بقوله‪" :‬تتناول‬ ‫ّ‬
‫القصة التارخيية املاضي بصورة خيالية‪ .‬يتمتع الروائي بقدرات واسعة يستطيع معها جتاوز‬
‫حدود التاريخ‪ ،‬لكن على شرط أن ال يستقر هناك لفرتة طويلة إال إذا كان اخليال ميثل‬
‫جزءاً من البناء الذي سيستقر فيه التاريخ" (‪ ،)111‬وهذا التعريف يؤكد أن الرواية التارخيية‬
‫عودة للماضي بغية إعادة إنتاجه جمدداً إنتاجاً يتجاوز حدود التاريخ جتاوزاً حمدوداً تربز‬
‫فيه أهداف اللجوء إىل هذا‬

‫(‪ )235‬جورج لوكاش‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ترجمة‪ :‬صالح جواد كاظم‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪،1171،‬‬
‫ص‪.11‬‬
‫(‪ )236‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.46‬‬
‫(‪ )237‬نقالا عن‪:‬محمد نجيب لفتة‪ :‬ولتر سكوت والرواية التاريخية‪ ،‬المجلة الثقافية‪ ،‬الجامعة األردنية‪،‬‬
‫ع‪ ،41‬آذار‪ ،1117 ،‬ص ‪. 115‬‬

‫‪112‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اللون من األدب‪ .‬أما جوناثان فيلد ‪ J. Field‬فريى أن الرواية التارخيية "تعترب تارخيية‬
‫عندما تقدم تواريخ وأشخاصاً وأحداثاً ميكن التعرض إليهم" (‪ )111‬و "فيلد" عندما‬
‫يشرتط إلحداث لون امسه "الرواية التارخيية" تواريخ وأشخاصاً وأحداثاً فإمنا يعرض املواد‬
‫املش ّكلة للرواية التارخيية دون طرح شروط هلذا التش ّكل‪.‬‬
‫ويقدم ستودارد ‪ Stoddard‬تعريفاً مغايراً ملا قدمه فيلد ‪ Field‬مفاده أن‬
‫الرواية التارخيية "متثل سجالً حلياة األشخاص أو لعواطفهم حتت بعض الظروف التارخيية"‬
‫(‪ )110‬ستودارد يركز على فنيّة العمل أكثر من تارخييته‪ ،‬فالرواية سجل حلياة األشخاص‬
‫حتفها احلوادث التارخيية من هنا أو هناك‪ ،‬ومن هذا التعريف تصبح كثري من الروايات‬
‫تارخيية ألهنا حبكم عودهتا إىل املاضي سواء أكان قريباً أم بعيداً فحتماً ستذكر الظروف‬
‫التارخيية املؤثرة يف حياة الشخص واملوجهة لألحداث‪.‬‬
‫ويرى ويسرت ‪ Wister‬أن الرواية التارخيية "متثل أي شكل سردي يقدم وصفاً‬
‫دقيقاً حلياة بعض األجيال"(‪ )199‬وبناء على ما سبق سيغدو الفصل بني الرواية والسرية‬
‫الشعبية القائمة على السرد أمراً ليس باليسري‪ ،‬فالتعميم (يف أي شكل سردي) هو تعمية‬
‫للمراد‪ ،‬فضالً عن أن هذا التعريف ينزح إىل التسجيل أكثر منه إىل التشكيل‪.‬‬
‫أما بيوكن ‪ Buchan‬فإن الرواية التارخيية لديه هي كل رواية "حتاول إعادة‬
‫تركيب احلياة يف فرتة من فرتات التاريخ "(‪ )191‬وهذا حتديد جيد من بيوكن‬

‫(‪ )231‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 115‬‬


‫(‪ )231‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 115‬‬
‫(‪ )241‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 115‬‬
‫(‪ )241‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 115‬‬

‫‪113‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يربز ف يه أن الرواية التارخيية البد من أن ختتص بفرتة تارخيية حمددة يعمل فيها الكاتب‬
‫أدواته الفنية إلعادة إظهار هذه الفرتة إظهاراً فنياً موحياً بعيداً عن سطوة الوثائقية‪.‬‬
‫يف حني أن بيكر ‪ Baker‬يرى أن الرواية التارخيية هي تلك الرواية اليت‬
‫"تتناول عادات بعض الناس مكتوبة بلغة حديثة"(‪ )191‬وهذا التعريف رغم اختصاره إال‬
‫أنه يغلّب فنية الرواية التارخيية على تارخييتها‪ ،‬فالتاريخ مادة يشكلها الروائي بلغته الفنية‬
‫احلديثة مركزاً على ما سكت عنه التاريخ ‪ ،‬فهذا التعريف يق ّدم هدفاً من أهداف كتابة‬
‫الرواية التارخيية ال يكفل هلا التميّز عن كثري من الروايات اليت تشرتك معها فيما طرح‪.‬‬
‫(‪)191‬‬
‫تعريفه للرواية التارخيية تعريفاً‬ ‫ومن خالل التعريفات السابقة جيمل حممد جنيب لفتة‬
‫مستخلصاً بقوله‪" :‬هي إعادة بناء خيالية للماضي تتناول أساساً حياة مجع من الناس‬
‫وعاداهتم وتقاليدهم" وهذا التعريف يطرح ثالثة حتديدات للرواية التارخيية؛ أوهلا أن وجهة‬
‫الرواية التارخيية لدى التعريف السابق وجهة ماضوية؛ إذ املاضي هو صاحب احلكاية‪،‬‬
‫وثانيها أن آليتها إعادة بناء التصور عن املاضي‪ ،‬أما ثالثها فهو أن مادهتا حياة جمموعة‬
‫من الناس ضمن فرتة زمنية معينة ينمازون جبملة من العادات والتقاليد‪ ،‬وما يفتقر إليه‬
‫هذا التعريف هو تأكيد على ضرورة عدم العبث مبجريات املاضي األساسية بل يكون‬
‫عمل الروائي على ما هو خيايل ال يتعارض مع الوقائعي‪ ،‬إضافة إىل أن هذا التعريف‬
‫ينطبق على كثري من الروايات غري التارخيية اليت تتوجه إىل املاضي القريب لعرض أحداثه‬
‫فلماذا ال نسمى رواية "يوم قتل الزعيم" لنجيب حمفوظ رواية تارخيية مع أهنا تعيد بناء‬

‫(‪ )242‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 115‬‬


‫(‪ )243‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.115‬‬

‫‪114‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫املاضي من خالل اجملتمع وأفراده‪ ،‬وملاذا ال نتعامل مع "أبناء القلعة" لزياد قاسم أو "سرية‬
‫عمان‬
‫مدنية" لعبد الرمحن منيف على أهنما روايتان تارخييتان ومها تعيدان بناء ماضي ّ‬
‫وتشكالهنا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً‪ ،‬ال بد أن من وراء ذلك سبباً! إنه يكمن يف أن‬
‫هذه الروايات وأخرى غريها ال تنطلق من التاريخ إلعادة بنائه بل إن التارخيي أو الوقائعي‬
‫مصاحب طبيعي النعكاس احلياة يف الرواية وليس العمود الفقري للعمل‪.‬‬
‫ومن التعريفات اليت حاولت توصيف الرواية التارخيية تعريف "معجم‬
‫املصطلحات األدبية"(‪ )199‬الذي يرى أنه "ليس معناها العميق احلدوث يف الزمن املاضي‬
‫فهي رواية تستحضر ميالد األوضاع اجلديدة‪ .‬وتصور بداية ومساراً وقوة دافعة يف مصري‬
‫مل يتشكل بعد‪ .‬وهي عمل يقوم على توترات داخلية يف جتارب الشخصيات متثيالً لنوع‬
‫من السلوك والشعور اإلنساين يف ارتباطهما املتبادل باحلياة االجتماعية والفردية‪ ،‬وهي‬
‫متثل بالضرورة تعقيداً وتنوعاً يف اخلربة والتجربة"‪ ،‬وهذا التعريف توصيف ملهمة الرواية‬
‫وحتديد لغايتها‪ ،‬فالتاريخ أداهتا وغطاؤها‪ ،‬ولكن أهدافاً بعيدة هي مبتغاها‪ ،‬إهنا إمتام ملا مل‬
‫يكمله التاريخ‪.‬‬
‫املعرفة‪ ،‬فتستثمر‬
‫إن الرواية التارخيية "تعتمد الزمان املوثّق‪ ،‬واملكان احملدد واحلادثة ّ‬
‫جهد املؤلف الذي حقق الواقعة‪ ،‬وتتقاطع معه يف الوقت ذاته"(‪ )196‬وهذا شرط مييز‬
‫الرواية التارخيية عن أي رواية أخرى قد تستثمر التاريخ دون توثيق أو دون أن يكون‬
‫التاريخ هو العمود الفقري للرواية‪ .‬كما أن الرواية التارخيية "اشتمال ملا حيكى يف يوم‬
‫متجدد عن مشاهد صورة املاضي ووقائعه وأحداثه‬

‫(‪ )244‬ابراهيم فتحي‪ :‬معجم المصطلحات األدبية‪ ،‬فصل الراء‬


‫‪http://literary.ajeeb.com/articales/reh/R0019.asp‬‬
‫(‪ )245‬هاشم غرايبة‪ :‬عن التاريخ والرواية‪ ،‬مجلة البيان‪ ،‬جامعة آل البيت‪ ،‬م‪ ،2‬ع‪ ،2‬ربيع ‪1111‬م‪،‬‬
‫ص‪.71‬‬

‫‪115‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وحركة شخوصه‪ ،‬ومسات معاينة‪ ،‬يف داخل إطار من الزمن‪ ،‬وعلى أرضية معينة من‬
‫(‪)195‬‬
‫وهذا شرط آخر يربز أن مهمة الرواية التارخيية إحداث النظرة اآلنية‬ ‫املكان"‬
‫واملتجددة على جمريات املاضي ووقائعه إحداثاً يعيد إنتاج هذا اخلطاب املثبت‪ ،‬انطالقاً‬
‫من أن كل عمل قصصي "إمنا حيكى عن حدث ٍ‬
‫ماض‪ .‬ولكن هذا املاضي ال بد أن‬
‫شكل على حنو جيعله حاضراً يف ذهن قارئ القصة‪ .‬ذلك أن حضور العمل شرط‬ ‫يُ َّ‬
‫أساسي لنجاح العمل القصصي"(‪ .)191‬والرواية التارخيية حىت تكتسب صفتها األدبية‬
‫البد هلا من إعادة تشكيل املادة احلكائية (التاريخ) تشكيالً تواصلياً مع احلاضر املعاش‪.‬‬
‫وأخرياً البد من أن تظهر رؤية الفنان يف هذا التشكيل حىت تكتمل أبعاد هذا‬
‫العمل‪ .‬يقول عبد القادر القط‪" :‬فالرواية التارخيية‪ ،‬هي ذلك اجلنس األديب الذي يستلهم‬
‫من التاريخ مادة له‪ ،‬تُصاغ يف شكل فين يكشف عن رؤية الفنان‪ ،‬لذلك التُفت إليه من‬
‫التاريخ‪ ،‬ويصور توظيفه لتلك الرؤية للتعبري عن جتربة من جتاربه‪ ،‬أو ملعاجلة قضية من‬
‫(‪)191‬‬
‫من هنا تتضح‬ ‫قضايا جمتمعه متخذاً من التاريخ ذريعة للتعبري عن موقفه منها"‬
‫اخلطوط العريضة املائزة للرواية التارخيية عن أي عمل آخر يشبه الرواية التارخيية‪ ،‬فالرواية‬
‫املسمى البد هلا من أن تتكئ على شروط أبرزها‪:‬‬
‫التارخيية حىت تكتسب هذا ّ‬

‫(‪ )246‬سيار الجميل‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬مجلة البيان‪ ،‬جامعة آل البيت‪ ،‬م‪ ، 2‬ع‪ ،1111 ، 2‬ص ‪31‬‬
‫‪.‬‬
‫(‪ )247‬نبيلة ابراهيم‪ :‬نقد الرواية‪ ،‬مكتبة غريب‪ ، 1112 ،‬ص ‪.32‬‬
‫(‪ )241‬عن أميمة شندي‪ :‬مصر في قصص نجيب محفوظ (ر ‪ .‬ج) جامعة عين شمس‪ ،1111 ،‬ص‬
‫‪.32‬‬

‫‪116‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -1‬أن تعتمد حقبة موثّقة من التاريخ تكون مادهتا احلكائية‪.‬‬


‫‪ -1‬أن تكون هذا املادة مبثابة العمود الفقري للعمل‪.‬‬
‫‪ -1‬أن يعيد الروائي تشكيل هذه املادة تشكيالً روائياً فنياً‪.‬‬
‫‪ -9‬أن تكون إعادة التشكيل ضمن منظور آين يربط املادة احلكائية املاضوية باحلاضر‬
‫ِ‬
‫وهناته‪.‬‬
‫‪ -6‬أن ينطلق الروائي يف إعادة كتابة هذه املادة من وجهة نظر ختصه لغايات متعددة‪.‬‬

‫وبناء على ما سبق فإن الرواية التارخيية‪ -‬من منطلق هذه الدراسة‪ -‬هي‪:‬‬
‫"خطاب أدبي ينشغل على خطاب تاريخي مثبت سابق عليه انشغالا أفقيا‪ ،‬يحاول‬
‫إعادة إنتاجه روائي ا‪ ،‬ضمن معطيات آنية‪ ،‬ل تتعارض مع المعطيات األساسية‬
‫للخطاب التاريخي‪ .‬وانشغالا رأسيا عندما تحاول إتمام المشهد التاريخي من وجهة‬
‫نظر المؤلف إتماما تفسيريا أو تعليليا أو تصحيحيا‪ ،‬لغايات إسقاطية أو استذكارية‬
‫أو استشرافية"‪.‬‬
‫إذن البد أن تكون املادة التارخيية هي العمود الفقري الذي تنبين عليه األحداث‬
‫الروائية التكميلية اليت جتعل من هيئة العمل عمالً أدبياً خالصاً‪ .‬أما األعمال الروائية‬
‫األخرى فإهنا تنشأ على انعكاس األحداث التارخيية وال يكون التاريخ مهها بل ساعة‬
‫زمنية من هذا التاريخ مل يشر إليها ألهنا مغيبة‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫التسلسل التاريخي المثبت الغائب‬ ‫التسلسل التاريخي المثبت الحاضر‬

‫الزمن‬
‫الزمن‬

‫المبنى‬
‫الروائي‬
‫السرد‬
‫السرد‬ ‫المبنى‬
‫الروائي‬

‫زاوية‬
‫الرؤية‬
‫زاوية‬
‫الرؤية‬

‫المتن التاريخي‬ ‫المتن التاريخي‬

‫(الرواية‬ ‫(الرواية التاريخية)‬


‫األدبية)‬

‫والشكل السابق يظهر أن الرواية التارخيية حممولة على منت متسلسل تارخيياً‬
‫فتمر أحداثها مبوازاة‬
‫تسلسالً مثبتاً حاضراً يف العمل‪ .‬أما الرواية اليت تستفيد من التاريخ ّ‬
‫التاريخ الذي يضيء األحداث‪ ،‬وقد يوجهها ويؤثر يف مسارها‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬نشأة الرواية التاريخية‬


‫هل ميكن للرواية التارخيية أن تنشأ يف حقل أخر غري الرواية‪ ،‬أو أن تنبت يف‬
‫حقل غري ذلك احل قل الذي أينعت فيه؟ قد ميتزج التاريخ بالسرد يف عمل ما ميكن أن‬
‫يسوغ‬
‫يظهر يف شكل سرية أو ملحمة أو خرافة‪ ،‬لكن ذلك ال ّ‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اعتبار األعمال القصصية القدمية املعتمدة على التاريخ جذوراً للرواية التارخيية‪ ،‬فالرغبة‬
‫يف سرد املاضي املوثّق رغبة تالزم البشرية منذ األزل طرأت عليها رغبة سرد ٍ‬
‫ماض‬
‫مفرتض ُمسي بالرواية األدبية‪ ،‬وحقيقة أننا ال ميكننا بأي حال من األحوال تسمية بعض‬
‫األعمال السردية الرتاثية كالسري الشعبية واملقامات وغريها(‪ )190‬نقطة انطالق للرواية‬
‫التارخيية‪ ،‬فالرواية التارخيية جنس ٍ‬
‫تال للرواية األدبية وتابع هلا؛ ألهنا تستفيد من معطياهتا‬
‫وتطورها على حنو آخر‪.‬‬
‫تنسب الرواية التارخيية احلديثة يف الغالب للكاتب األمريكي ستيفن كرين‬
‫)‪ (Stephen Crane‬صاحب رواية "شارة الشجاعة احلمراء"‪ ،‬إال أن ظهورها‬
‫بشكلها املتكامل بدأ لدى بعض النقاد الغربيني على يد كتّاب من أمثال ولرت سكوت‬
‫(‪)161‬‬
‫(‪ )169()1111-1111‬يف روايته "ويفريل" ‪ ،1119‬وهو ما يرفضه كتاب آخرون‬
‫يرون أن الرواية التارخيية الغربية بدأت على يد الكاتب الروسي "ليو تولستوي"‬
‫(‪ )1019-1111‬ومل يعرفها العامل قبل كتابته لروايته الشهرية "احلرب والسالم"‬
‫(‪ ،)1150-1156‬فقد جاءت هذه الرواية لتفصح‬

‫(‪ )241‬أبرز من تحدث عن ذلك ‪ ،‬انظر‪:‬‬


‫‪ -‬فاروق خورشيد‪ :‬في الرواية العربية (عصر التجمع) ‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الشروق‪ ،1175 ،‬ص‬
‫‪.11‬‬
‫‪ -‬نبيه القاسم‪ :‬الرواية التاريخية عند نجيب محفوظ‪ ،‬سلسلة الثقافة‪ ،‬ص ‪. 7‬‬
‫‪ -‬ابراهيم خليل‪ :‬ظالل وأصداء أندلسية في األدب المعاصر‪ ،‬اتحاد الكتاب العربي‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪ ،2111‬مقدمة الفصل الثاني‬
‫‪www.awn-dam.org/Book/oo/studyoo/327-a-b/Bookoo-sd008.htm‬‬
‫(‪ )251‬ابراهيم السعافين‪ :‬تطور الرواية العربية الحديثة في بالد الشام ‪ ،1167-1171‬دار الرشيد‪،‬‬
‫بغداد‪ ،1111 ،‬ص ‪. 211‬‬
‫(‪ )251‬انظر‪ :‬مريم جمعه‪ :‬في الرواية التاريخية المعاصرة‪ ،‬صحيفة البيان‪ ،‬االمارات‪ ،‬ملحق بيان‬
‫الثقافة‪ ، 2111/11/26 ،‬عدد ‪. 46‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫عن معرفة واسعة يتمتع هبا الروائي عن تاريخ األسرتني اللتني تناولت الرواية تارخيهما‪،‬‬
‫وعن غزو نابليون لروسيا‪ ،‬وعن ما ميتلكه من جتارب‪ ،‬وقوة خيال‪ ،‬فتمكن من خالل‬
‫(‪)161‬‬
‫ذلك أن ينتج رواية فنية تارخيية عظيمة ‪ .‬واآلن تعيش الرواية التارخيية عصراً ذهبياً‬
‫عند الغرب كما يظهر ذلك على أيدي كتاب معاصرين من أمثال‪ :‬خوسيه ساراماجو‬
‫وماركيز وماريو فاراجاس لوسا ومارجريت اتوود‪.‬‬
‫أما على الصعيد العريب فللحديث مساره اخلاص‪ ،‬إذ نشأت الرواية العربية عند‬
‫انطالقتها األوىل يف مهد التاريخ‪ ،‬ونرصد ذلك عند كتّاب مثل سليم البستاين يف روايته‬
‫"زنوبيا" (‪ ،)1111‬وجورجي زيدان (‪ )1019-1151‬الذي غ ّذى هذا اللون األديب‬
‫بسلسلة من احلكايات التارخيية اإلسالمية حىت أن بعضهم يصفه برائد هذا الفن النثري‬
‫يف أدبنا العريب(‪ ،)161‬وتابعه يف ذلك علي اجلارم (‪ ،)1090-1111‬وحممد فريد أبو‬
‫حديد (‪ )1055-1101‬الذي ق ّدم (امللك الضليل) و(املهلهل سيد ربيعة) و(زنوبيا‬
‫ملكة تدمر)‪ .‬وحممد سعيد العريان (‪ )1059-1096‬الذي اقتصر على تاريخ مصر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وخاصة عهد األيوبيني واملماليك يف روايته (قطر الندى) و (شجرة الدر) و‬
‫(على باب زويلة)‪ .‬وعلي أمحد باكثري (‪ )1056-1019‬الذي اجته إىل التاريخ‬
‫اإلسالمي يف أوطانه املتعددة فألف (وإسالماه) و(الثائر األمحر) و (سرية شجاع) وانطلق‬
‫من املواقف اليت حتتوي على صراعات ليدير حركتها مبهارة فائقة تعكس هذه‬

‫(‪ )252‬هنري توماس‪ :‬أعالم الفن القصصي‪ ،‬تر‪ :‬عثمان مويه‪ ،‬المؤسسة العربية المصرية للتأليف‬
‫والنشر‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص ‪.214-213‬‬
‫(‪ )253‬محمد غنيمي هالل‪ :‬األدب المقارن‪ ،‬ط‪ ، 5‬دار العودة‪ ،‬بيروت‪( ،‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص ‪. 245‬‬

‫‪121‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫احلركة‪ ،‬وقد ع ّده النقاد االمتداد املتطور لفن أديب جديد(‪ .)169‬وبعد ذلك ظهرت روايات‬
‫جسدت حملات من التاريخ الفرعوين يف ثالثة من أعماله هي‬
‫جنيب حمفوظ التارخيية اليت ّ‬
‫(‪،)1099‬‬ ‫"عبث األقدار" (‪ )1010‬و "رادوبيس" (‪ )1091‬و "كفاح طيبة"‬
‫وقد شكلت هذه الروايات الثالث تقدماً ملحوظاً يف هنضة الرواية التارخيية‪ ،‬فبعد أن‬
‫كانت الرواية التارخيية عند كتاب اجليل األول إعادة كتابة للتاريخ بصورة شائقة هتدف‬
‫إىل تثبيت أحداثه من خالل متحورها حول قصة مبتدعة تبث التشويق يف أرجاء الرواية‪-‬‬
‫ومنثل هلم جبرجي زيدان الذي كان يتحسس يف أعماله شقوق التاريخ يف حقبة ما‬
‫فيمألها حبكاية غرامية تكون حموراً لألحداث حىت يتجمع حوهلا وال متضي إىل أبعد مما‬
‫يطفو على السطوح(‪ -)166‬أصبحت الرواية عند كتاب اجليل الثاين أقل تبعية للتاريخ فما‬
‫مسمى العصر‬‫عاد احلرص يف كتابة الرواية التارخيية يقتصر على إبداع نص تارخيي حيمل ّ‬
‫التارخيي وأداءه وصوره وعبقه فقط‪ ،‬بل جتاوز هذا األمر إىل توظيف املادة التارخيية‬
‫توظيفاً فنياً بالدرجة األوىل‪ ،‬وخري من ميثل هذا اجليل الروائي املصري جنيب حمفوظ الذي‬
‫يعد أبرز كتّاب الرواية التارخيية العربية يف طبعتها الثانية‪.‬‬
‫وميكننا أن نقرتح بعض التفسريات لربوز الرواية التارخيية وطغياهنا يف مطلع ظهور‬
‫الرواية العربية‪ ،‬فمثالً‪:‬‬
‫‪ -‬انبعاث الروح القومية وتأكيد اهلوية يف سياق االحتكاك مع الغرب الطاغي من جهة‬
‫وتنامي الوعي والشعور باملظامل العثمانية من جهة أخرى؟‬

‫(‪ )254‬محمد أبو بكر حميد‪ :‬هل انتهت مرحلة الرواية التاريخية العربية؟‬
‫‪www.lahaonline.com/Literature/Critique/455.doc_ctr.htm‬‬
‫(‪ )255‬عبد الرحمن ياغي‪ :‬الدخول الروائي في عباءة التاريخ‪ ،‬مجلة البيان‪ ،‬م‪ ، 2‬ع‪ ،2‬ص ‪55-54‬‬
‫‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -‬وعند جنيب حمفوظ نلمس التأكيد على الشخصية الوطنية املصرية وجذورها التارخيية‬
‫استجابة حلركة االستقالل‪.‬‬

‫ويف اجليل الثالث حتولت الرواية التارخيية حتوالً جاداً حنو إقرار مزيد من األدبية‬
‫لبث وجهة نظر تلجأ إىل‬
‫للرواية التارخيية‪ ،‬ضمن أجواء ناقدة للتاريخ يتدخل فيها املؤلف ّ‬
‫املاضي برؤية آنية إسقاطية استثمارية؛ إذ غدت الرواية التارخيية عند أصحاب هذا اجليل‬
‫املتأخر أدبية خالصة‪ ،‬يُستثمر التاريخ فيها لغايات إبداعية صرفة تسهم يف نقد الذات‬
‫وتوجه حنو املستقبل حىت نفيد من أخطاء املاضي‪.‬‬
‫ّ‬
‫تزعم هذا اللون من الرواية‬
‫ومن أشهر رواد هذا اجليل "مجال الغيطاين" الذي ّ‬
‫فكتب "الزيين بركات" رواية تارخيية المعة ضمن تقنيات فنية متطورة‪ ،‬يتكئ فيها على‬
‫نص تارخيي مثبت هو نص ابن إياس "بدائع الزهور"‪ .‬ومن مبدعي هذا اجليل "رضوى‬
‫خلصت هزمية العرب يف األندلس يف روايتها "ثالثية غرناطة" فأرخت للهزمية‬
‫عاشور" اليت ّ‬
‫بواقعها املرير فكان اإلسقاط فيما كتبت حاصالً‪ .‬ومن رواد هذا اجليل أيضاً عبد الرمحن‬
‫منيف الذي كتب روايته التارخيية "أرض السواد" وفيها يعيد تشكيل جمريات تاريخ العراق‬
‫يف الثلث األول من القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫لقد مرت الرواية التارخيية يف أدبنا العريب بثالث مراحل واضحة املعامل هي‪:‬‬
‫المرحلة األولى‪ :‬مرحلة إعادة تسجيل التاريخ سردياً مع حماولة للتقيد ولو من‬
‫بعيد مبجرياته لغايات تعليمية إخبارية‪ ،‬كما ظهر ذلك يف أعمال جرجي‬

‫‪122‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫زيدان‪ .‬فجرجي زيدان يُتهم بانه مل يكن أميناً على أحداث التاريخ بل كان تركيزه على‬
‫قصص خيالية مبتدعة هبدف التسلية يف املقام األول ال هلدف إعادة تسجيل التاريخ مع‬
‫تقيد تام‪ ،‬لغايات تعليمية إخبارية‪ .‬ولكن ميكن القول ان احلكائي تقدم عند ذلك على‬
‫السردي الفين وأنه مل يعنت بتوظيف التاريخ ملخاطبة أسئلة الواقع وحنو ذلك‪.‬‬
‫المرحلة الثانية‪ :‬مرحلة املوازنة بني ما هو تارخيي وما هو فين‪ ،‬فالتاريخ يُسكب‬
‫يف قالب روائي واضح املعامل‪ .‬وحيقق أهدافه ويستعرض وجهة نظره‪ ،‬كما ظهر يف روايات‬
‫جنيب حمفوظ األوىل‪.‬‬
‫المرحلة الثالثة‪ :‬مرحلة استثمار التاريخ استثماراً إسقاطياً واعياً يرهتن التاريخ فيه‬
‫إىل ما هو فين بالدرجة األوىل‪ ،‬وفيه يتهيّأ التاريخ قناعاً‪ .‬والروايات اليت سارت على هذا‬
‫النهج تسعى جاهدة إىل تفسري الواقع املعيش من خالل املاضي املنقضي الذي ميكن أن‬
‫يسمى بـ‬
‫يعيد نفسه‪ ،‬لكنها هترب إىل فرتات مشاهبة للحظتها احلاضرة فتقوم مبا ّ‬
‫"اإلسقاط التارخيي"‪ ،‬كما ملسنا ذلك لدى مجال العيظاين يف "الزيين بركات" ورضوى‬
‫عاشور يف "ثالثية غرناطة" وعبد الرمحن منيف يف "أرض السواد"‪.‬‬
‫إن هذا اإلصرار على العودة إىل املاضي أو االندفاع حنوه له ما يربره دائماً‪ ،‬لكن‬
‫جيب أن تتم هذه العودة أو هذه االندفاعة ضمن موازنة دقيقة تكفل للخطابني الروائي‬
‫والتارخيي أن يتناسقا دون أن يتعارضا‪ .‬فكيف للروائي أن يوازن بني هذين الضربني من‬
‫اخلطاب؟‬

‫‪123‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ثالثا‪ :‬الموازنة بين التاريخي والروائي‬


‫مبا أن كل "رواية تارخيية" تعتمد على مرجعيتني(‪ )165‬يف بناء العمل‪ ،‬أوالمها‪:‬‬
‫مرجعية حقيقية متصلة باحلدث التارخيي (احلكاية) وثانيتهما‪ :‬مرجعية ختيلية (روائية)‬
‫مقرتنة باحلدث الروائي‪ ،‬فإن املرجعية األوىل مرجعية نفعية واملرجعية الثانية مرجعية مجالية؛‬
‫لذا فإن الرواية التارخيية سوف يتجاذهبا هاجسان؛ أحدمها األمانة التارخيية اليت تقتضي‬
‫عليها بأال جتايف ما تواضعت عليه املصادر التارخيية من قيام الدول وسقوطها واندالع‬
‫احلروب والوقائع املأثورة واآلخر مقتضيات الفن الروائي(‪ )161‬بأبعاده الالمتناهية‪.‬‬
‫ويبدو أن تغليب مرجعية على أخرى يغري يف تكوين هذا اللون وحييله إىل شيء‬
‫آخر‪ ،‬ففي الرواية التارخيية أمثلة عديدة "تدل على أن اليقظة التامة للبعد الفكري يف‬
‫الرواية قد أثر سلبياً يف األداء الفين‪ ،‬ونالحظ هذا بصفة عامة يف الرواية التارخيية حيث‬
‫تزيد املرجعية التارخيية على حساب املرجعية الفنية‪ ،‬ونالحظ ذلك يف حماوالت (جورجي‬
‫زيدان) التارخيية‪ ،‬إذ زادت املرجعية التارخيية لغاية معرفية فقلت الفنية بالتبعية"(‪ ،)161‬وهنا‬
‫يقع الروائي يف براثن التاريخ وينساق خلف ما هو تارخيي فيصبح أحياناً مؤرخاً يف بعض‬
‫مشاهد عمله الروائي وعمله مسرداً وثائقياً أكثر منه إملاعاً روائياً‪ ،‬ويف املقابل‪ ،‬فإن إغراق‬
‫الروائي يف التأنق الفين ويف فلسفة القضايا التارخيية واالبتعاد عنها إىل وقائع مفرتضة نابعة‬
‫من خياله اخلصب واإلقبال الشره على حتليل ما كان وما جيب أن‬

‫(‪ )256‬عبد الفتاح الحجمري‪ :‬هل لدينا رواية تاريخية؟ فصول‪ ،‬مج ‪ ،1117 /34/16‬ص ‪.63‬‬
‫(‪ )257‬محمد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ‪ ،‬عالمات‪ ،‬ج‪ ،1‬م‪ ،7‬ص ‪.113‬‬
‫(‪ )251‬محمد نجيب التالوي‪ :‬وجهة النظر في األصوات العربية‪ ،‬منشورات اتحاد الكتاب العرب‪،‬‬
‫دمشق‪ .2111 ،‬القسم األول (البعد التنظيري) ‪.www.awn-dam.org‬‬

‫‪124‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يكون‪ ،‬فإنه خيرج عن دائرة الرواية التارخيية كلياً فال يعود خطابه الروائي املوثّق صنو‬
‫اخلطاب الروائي املبتدع‪.‬‬
‫فعلى سبيل املثال جتاوز جنيب حمفوظ الوقوع يف براثن التاريخ فيما كتب من‬
‫الروايات اليت تناول فيها حقباً مثبتة من التاريخ الفرعوين‪ ،‬فوازن بني ما هو وثائقي وما‬
‫هو مجايل ومل يغلب الفن على التاريخ‪ ،‬وال التاريخ على الفن‪ ،‬كان خط التاريخ عنده‬
‫متسلساً رقراقاً ساعده على الظهور مبظهر الفت بتقنياته الفنية اليت جييدها متاماً‪ .‬أما‬
‫عندما دخل مرحلة كتابة الرواية الواقعية واستثمر فيها التاريخ استثماراً مسانداً ال فقرياً‬
‫كانت رواياته واقعية وليست تارخيية‪ ،‬وهذا مسار آخر‪ .‬لقد شكل جنيب حمفوظ نقله‬
‫نوعية يف كتابة الرواية التارخيية جتاوز فيها كل انقياد للتاريخ على حساب ما هو فين‪،‬‬
‫فمادة التاريخ مادة مغرية للروائي ألهنا تقوم على السرد والرواية تقوم على السرد كذلك‪،‬‬
‫مما ييسر انقياد الروائي إىل سرد مصنوع فيه طواعية ظاهرة‪ .‬يقول جورج لوكاش "إن‬
‫مطواعية املادة التارخيية هي يف احلقيقة فخ للكاتب العصري‪ ،‬والسبب هو أن عظمته‬
‫بوصفه كاتباً سوف تعتمد على الصراع بني نواياه الذاتية والصدق والقدرة اللذين يرسم‬
‫هبما الواقع املوضوعي‪ ،‬وكلما سارت نواياه على حنو سهل كان عمله أضعف وأفقر‬
‫وأكثر هزاالً"(‪ :)160‬ألنه بذلك يستسلم منقاداً إىل مغريات السرد التارخيي الذي ال‬
‫ينضب‪ .‬جيب يف عملية استثمار التاريخ أن تتحكم وجهة نظر الروائي يف ترتيب البيت‬
‫الداخلي للرواية وتأثيثه مبجريات وقائعية وأخرى متخيّلة ال تقف بالضد مع اجملريات‬
‫احلقيقية بل تآزرها‪ ،‬إن حتكم الروائي يف عمله نابع من جعل نظرته سيدة العمل‪،‬‬
‫فتضخيم حدث أو إمهال‬

‫(‪ )251‬جورج لوكاش‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪. 131‬‬

‫‪125‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ختصه‪،‬‬
‫آخر أمر خيص الروائي وحده‪ ،‬بل إن جمرد اختياره ملوضوع روايته يع ّد وجهة نظر ّ‬
‫يدافع عنها ويكسوها ضمن طاقاته الرؤيوية‪ ،‬يقول جنيب حمفوظ يف املمايزة بني طرق‬
‫املوازنة بني التارخيي والروائي‪ :‬إن للرواية التارخيية نوعني‪" :‬األول منهما تعيدك فيه الرواية‬
‫التارخيية إىل التاريخ بكل تفاصيله وطقوسه وكأهنا تردك إىل احلياة فيه‪ ،‬أو تبعث احلركة يف‬
‫أوصاله اهلامدة‪ .‬أما النوع الثاين فإنه يستعيد املناخ التارخيي فقط‪ ،‬مث يرتك لنفسه قدراً من‬
‫احلرية النسبية داخل إطاره وأنا من النوع الثاين"(‪.)159‬‬
‫إن هذه الدعوة إىل إحداث التوازن بني فلسفة الروائي وعلمه بالشيء من جهة‬
‫وبني فنيته يف متثيل العمل هي دعوة إىل حتقيق الصدق‪ ،‬فالرواية التارخيية حتقق مبدأ‬
‫الصدق إذا أعادت تكوين التاريخ بصورة ذاتية‪ ،‬وليس بصورة موضوعية‪ .‬إهنا ال هتتم‬
‫باألرقام والتواريخ‪ .‬إمنا تركز على الظروف الطبيعية والثقافية والروحية املتغرية ألمة من‬
‫األمم(‪ .)151‬إن الرواية التارخيية متتاز عن غريها من األعمال القصصية بارتباطها بصدقية‬
‫العمل‪ ،‬تنافسها يف ذلك السرية الذاتية أو الغريية‪ ،‬والتزام األديب مبصداقية املادة التارخيية‬
‫التزاماً دقيقاً يفقد العمل مصداقيته الفنية‪ .‬وقد طالب إحسان عباس يف هذا الصدد بأال‬
‫يناقض األديب بني فلسفته وفنه ألن ذلك التناقض "قد يؤدي إىل عجز األديب عن‬
‫تقدمي صورة أو رؤية فنية أو موقف أديب يؤمن به الفنان‪ ،‬ومن مثَّ‪ ،‬رمبا ينتج أبطاالً أو‬
‫شخوصاً غري مقنعة وغري قادرة على تقدمي نفسها بقوة‪ ،‬هذا من جهة‪ .‬ومن جهة أخرى‬
‫فإنه يضيّع علينا فرصة اإلفادة من رؤيته الفكرية‬

‫(‪ )261‬انظر جمانة السالم‪ :‬غرناطة في الرواية‪( ،‬رسالة جامعية غير منشورة)‪ ،‬الجامعة األردنية‪،‬‬
‫ص ‪.23‬‬ ‫‪،1111‬‬
‫(‪ )261‬محمد نجيب لفتة‪ :‬ولتر سكوب والرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪.116‬‬

‫‪126‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫والفلسفية بشكل عام(‪.)151‬‬


‫ولعل أخطر ما يهدد فنيّة العمل الروائي الطابع التسجيلي الذي حيتكم إليه‬
‫السرد الوثائقي‪ ،‬إن على الروائي حىت يتخلص من هذه االحتماالت أن يتصرف‬
‫مبعطيات التاريخ تصرفاً تنسيقياً م ّدعماً‪" ،‬فيتصرف باملكان والزمان ويضيف إىل الواقع‬
‫وحيذف منه‪ ،‬كي ينتهي إىل صدق خاص به يوقظ املساءلة وينهى عن اإلجابة‬
‫(‪)151‬‬
‫عرب عنه أدوين موير بقوله يف معرض حديثه عن‬ ‫األكيدة" ‪ .‬وهذا الصدق اخلاص ّ‬
‫الرواية التارخيية إهنا "نوع زائف من التاريخ"(‪ )159‬والزيف يعادل يف معناه مقوله "أعذب‬
‫الشعر أكذبة" والكذب هنا عنصر التخييل يف العمل األديب إذ يشكل التخييل عنصراً‬
‫أساسياً مهيمناً على أي سردية تارخيية مهما كان جنسها(‪ ،)156‬وهذه طريقة من طرق‬
‫"استخراج أبطال ال عدد هلم من التاريخ ومن مثّ إعادة تصنيفهم يف الرواية التارخيية‪ .‬لقد‬
‫جرى ذلك باستغالل الضباب التارخيي الذي خييّم على ذاكرة الكثريين‪ ،‬وباالستفادة من‬
‫التاريخ البعيد املتواري كوقائع أو كأسباب ونتائج‪ ،‬والذي يتخايل يف الذاكرة كرؤى‬
‫ورغبات وكأجماد قدمية أكثر مما هو وقائع فعلية‪ .‬وباعتبار أن البيئة التارخيية ألبطال من‬
‫هذا النوع بعيدة‪ ،‬وتكاد تكون جمهولة‪ ،‬فإن من السهل إعادة تشكيلها وفق ما خيدم‬
‫قناعات أو أهدافاً معينة"(‪ .)155‬والطريقة السابقة يف املوازنة بني ما هو تارخيي‬

‫(‪ )262‬انظر‪ :‬عباس عبد الحليم عباس‪ :‬إحسان عباس بن التراث والنقد األدبي‪ ،‬منشورات وزارة‬
‫الثقافة‪ ،‬األردن‪ ، 2112 ،‬ص ‪ ، 351‬في معرض حديثه عن مقدمة إحسان عباس لكتاب د‪.‬‬
‫محمود السمرة (متمردون) ص ‪. 1‬‬
‫(‪ )263‬فيصل دراج‪ :‬التاريخ وصعود الرواية‪ ،‬مجلة الكرمل‪ ،‬عدد ‪ ،2112 ، 71-71‬ص ‪. 141‬‬
‫(‪ )264‬أدوين موير‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬تر‪ :‬ابراهيم الصيرفي‪ ،‬الدار المصرية للتأليف والطباعة (د‪.‬ت)‪،‬‬
‫ص‪.121‬‬
‫(‪ )265‬محمد جمال باروت وشمس الدين الكيالني‪ :‬التاريخ والسرد (تجليات القدس في تاريخ مقدس)‪،‬‬
‫مجلة الكرمل‪ ،‬عدد ‪ ،2113 ، 75-74‬ص ‪.26‬‬
‫(‪ )266‬عبد الرحمن منيف‪ :‬رحلة ضوء‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪،2111 ،1‬‬
‫ص‪.11-1‬‬

‫‪127‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وما هو روائي ليس مستغرباً بل مطلوباً وأكثر‪ ،‬فإذا كان عمل املؤرخ اليوم يتجاوز تدوين‬
‫التاريخ بأمانة وصدق إىل مطالبته بالتفسري والتعليل واملقارنة واملوازنة والربط والتعليق‪،‬‬
‫فكيف احلال‪ -‬إذن‪ -‬بالروائي التارخيي الذي تص ّدى للحديث عن املاضي‪ ،‬سعياً وراء‬
‫حتقيق التواصل اإلنساين‪ ،‬معتمداً على حدسه وبصريته يف التنبؤ مبا ميكن أن يقع يف‬
‫الغد‪ ،‬وذلك وفقاً لروايته اخلاصة ومبا يتالءم مع أحوال جمتمعه وواقعه الذي يعيش‬
‫فيه(‪ .)151‬وهذا حيرر الروائي من القيود اليت افرتضها مؤلفو كتاب (نظرية الرواية‪ /‬عالقة‬
‫التعبري بالواقع)(‪ )151‬عندما يقولون‪" :‬إن الروايات التارخيية وروايات األفكار واملواقف هي‬
‫جنس أقل شاناً‪ ،‬حبكم عدم إتاحتها الفرصة لنا للهرب إىل عاملنا‪ ،‬فالفن ال يقوم مبزيته‬
‫لتخطي النتائج واملرتتبات أو حبكم دقته التارخيية‪ ،‬بل إنه يقوم مبوجب مواصفاته‬
‫اجلمالية"(‪ ، )150‬إذ إن الروائي بقدرته على سد الثغور وتسليط الضوء على املفاصل‬
‫احلرجة يستطيع أن يوسع من دائرة حتركاته على مساحة الرواية احملددة سلفاً‪.‬‬
‫وللرواية التارخيية غري طريقة يف استحضار التاريخ أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬استدعاء الوقائع والشخصيات التارخيية‪ :‬ويف هذه الطريقة تتوسل الرواية بالتاريخ‬
‫الستكناه احلاضر فيه‪ ،‬كما حدث يف رواية مجال الغيطاين "الزيين بركات" فالوقائع‬
‫يف هذه الرواية عكست احلاضر املعيش‪.‬‬
‫‪ -1‬إجياد مناخ تارخيي تضطلع فيه شخصيات غري تارخيية مل خيصصها التاريخ بالدقة‬
‫اليت خصص هبا الشخصيات التارخيية املثبتة نصاً بأعمال متخيّلة‪:‬‬

‫(‪ )267‬قاسم عبده وأحمد الهواري‪ :‬الرواية التاريخية في األدب العربي الحديث‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ص ‪.1‬‬
‫(‪ )261‬تأليف‪ :‬مورس شرودر وجون هولبرن وجورج هنري‪ ،‬ترجمة محسن الموسوي‪ ،‬مكتبة‬
‫التحرير‪ ،‬بغداد‪. 1116 ،‬‬
‫(‪ )261‬المرجع السابق‪ ،‬ص ‪. 73‬‬

‫‪121‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ويف هذه الطريقة يكون اهلدف هو مناقشة فرتة زمنية حمددة الستخالص العرب‬
‫والغايات‪ .‬كما نلمس ذلك يف رواية رضوى عاشور "ثالثية غرناطة" ورواية‬
‫"الزوبعة" لزياد قاسم‪.‬‬
‫‪ -1‬استحضار نوع سردي قدمي بوصفه شكالً‪ ،‬واعتماده منطلقاً إلجناز مادة روائية‪،‬‬
‫وتتدخل بعض قواعد النوع القدمي يف اخلطاب‪ ،‬فتربز من خالل أشكال السرد أو‬
‫أمناطه أو لغاته أو طرائقه‪ .‬كما يظهر ذلك يف رواية "رسالة يف الصبابة والوجد"‬
‫جلمال العيظاين(‪.)119‬‬

‫ومن أبرز الطرق اليت يلجأ إليها الروائيون للتغلب على منطية السرد التارخيي قراءة‬
‫األحداث من خالل انعكاسها على الناس الذين عاشوا يف تلك الفرتة‪ .‬كيف كانت‬
‫أفعاهلم وردود أفعاهلم جتاه ما حصل؟ ما هي الدوافع اإلنسانية واالجتماعية اليت جعلتهم‬
‫يفكرون ويتصرفون هبذا الشكل؟ ومن هنا نالحظ أن معظم الروايات التارخيية تعتين‬
‫عناية خاصة باحلياة الشعبية واألشخاص العاديني‪ ،‬ألن الرتكيز على أمثال هؤالء يزيد من‬
‫منسوب الصدق الفين يف العمل(‪ .)111‬ومنهم من يفضل عدم امليل إىل التاريخ الرمسي‪،‬‬
‫ألن هذا التاريخ كتبه احلكام واألقوياء‪ ،‬يف الوقت الذي غيّبت وجهات النظر األخرى أو‬
‫ُش ّوهت‪ ،‬وعليه فهو تاريخ من طرف واحد(‪ .)111‬وبعض الروائيني يهدفون من إعادة قراءة‬
‫األحداث والوقائع هبدف الوصول إىل فهم أفضل لـ‪ :‬كيف كانت احلياة؟ وكيف كانت‬
‫أحوال الناس الذين عاشوا خالهلا؟ فتنطق الرواية مبا أمهله التاريخ(‪.)111‬‬

‫(‪ )271‬سعيد يقطين‪ :‬الرواية والتراث السردي‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،1112 ،‬ص ‪.6‬‬
‫(‪ )271‬عبد الرحمن منيف‪ :‬رحلة ضوء‪ ،‬ص ‪. 63‬‬
‫(‪ )272‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪. 132‬‬
‫(‪ )273‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.132‬‬

‫‪121‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أما على مستوى الشخصيات الروائية فإن الرواية التارخيية توظف نوعني من‬
‫الشخصيات؛ األول‪ :‬شخصيات تارخيية صرفة عاشت حقاً وأثبتها التاريخ على حنو‬
‫معني‪ .‬والثاين‪ :‬شخصيات تارخيية متخيّلة يفرتض الروائي أهنا كانت موجودة‪ .‬والنوع‬
‫األول يشكل عبئاً كبرياً على الروائي‪ .‬أما الثاين فهو متعة الروائي وإنقاذ له من التبعية‬
‫اليت تفرضها شخصيات النوع األول‪.‬‬
‫إن النوع األول‪ :‬الشخصيات التارخيية الصرفة (احلقيقية) اليت يُفرض فيها على‬
‫ط معينة أثبتها التاريخ‪ ،‬فال يستطيع الروائي أن يقف‬ ‫الروائي الراغب باالنطالق شرو ٌ‬
‫أمامها إال مطيعاً‪ ،‬فأي خمالفة حبق الشخصيات التارخيية تفقد العمل مصداقيته على‬
‫مستوى احلكاية‪ ،‬فالرواية التارخيية تفرض صرامتها الوثائقية دائماً؛ لذا فإن الروائي مطالب‬
‫يويف الشخصيات احلقيقية حقها التارخيي‪ ،‬وهذا ما يوقعه كثرياً يف التسجيل والرتديد‪،‬‬ ‫بأن ّ‬
‫فيقلص من أدبية هذا العمل‪ .‬يقول فورسرت‪" :‬وملا كانت الشخصية التارخيية جزءاً ال‬
‫يتجزأ من املادة التارخيية‪ ،‬فإهنا تقلل من حرية الفنان الروائي‪ ،‬إذ البد هلذه الشخصية من‬
‫أن حتتفظ بالقدر املميز هلا بوصفها شخصية عاشت يف حقبة زمنية معينة‪ ،‬وذلك حىت‬
‫ال يكون مثة تصادم وتنافر بني الشخصيتني‪ ،‬التارخيية عموماً‪ ،‬والروائية املأخوذة‬
‫عنها"(‪ .)119‬م ن هنا جند أن الروائيني ابتكروا غري طريقة يف التعامل مع هذا اللون من‬
‫الشخصيات‪ .‬فنجدهم مرة حيولوهنا إىل شخصية ثانوية قلما تسهم يف احلدث املباشر‪،‬‬
‫بل يظهر دورها مبثابة انعكاس على تصرفات الشخصيات املتخيلة‪" ،‬فمن كان بطالً يف‬
‫التاريخ‪ ،‬قد يغدو شخصاً ثانوياً يف الرواية‪ ،‬والعكس يصدق يف ذلك"(‪ .)116‬وهذه‬
‫الطريقة تأمن طريق العودة للروائي‪ ،‬ولكنها إذا‬

‫(‪ )274‬فورستر‪ :‬أركان الرواية‪ ،‬ص ‪. 61‬‬


‫(‪ )275‬جورج لوكاش‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪. 33-32‬‬

‫‪131‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫مارست هذا االبتعاد عن عموم الشخصيات التارخيية الواردة يف الرواية‪ ،‬فإن ذلك قد‬
‫يبعدها عن تسميتها "رواية تارخيية" ألهنا تكون بعدت أصالً عن وصاية التاريخ اليت ال‬
‫تتحقق إال بشخصيات من التاريخ‪.‬‬
‫ومن الروائيني من يكسر القفل التارخيي املؤدي إىل الشخصيات التارخيية‬
‫احلقيقية‪ ،‬فيغفل دورها (فال يعطيها جماالً حراً للتحرك ويتجاهل كثرياً من تصرفاهتا) بإذن‬
‫مسبق من التاريخ نفسه شرط أال يغري من حقائقه اليت أثبتها‪ ،‬فيدخل الروائي إىل الشق‬
‫املفرتض واملتخيل هلذه الشخصيات عندما حياول كشف سرائرها آنذاك‪ ،‬وكيف كانت‬
‫هذه الشخصيات تتعامل مع املقربني؟ وما احلوار الذي نشأ وينشأ بينه وبني ذويه أو‬
‫املقربني منه؟ كل ذلك بعيداً عن أي تعارض معلومايت قد ميس هذه الشخصيات‪ ،‬عندها‬
‫سيحقق الروائي مكسبني؛ األول‪ :‬التخلص من األسر التسجيلي الوثائقي الذي يطارد‬
‫كتاب الرواية التارخيية‪ ،‬والثاين‪" :‬إزاحة النقاب عن ذلك اجلانب املسترت يف حياة تلك‬
‫الشخصيات‪ ،‬حبيث مي ّكن القارئ من فهم الناس يف الرواية‪ .‬إذا ما أظهر حياهتم الداخلية‬
‫واخلارجية لتبدو شخصيات الرواية أكثر وضوحاً من شخصيات التاريخ‪ ،‬أو حىت من‬
‫أصدقائنا‪ ،‬فقد قيل عنهم كل ما ميكن قوله‪ ،‬حىت لو كانوا غري كاملني"(‪ .)115‬كما ظهر‬
‫ذلك يف أعمال فوليرت وديدرو وفيلدنج‪ ،‬وعندها ينقل الروائي الشخصية احلقيقية من‬
‫صفتها التارخيية إىل صفتها الروائية‪.‬‬
‫أما النوع الثاني‪ :‬وهو الشخصيات التارخيية املتخيّلة‪ ،‬فتع ّد مالذ الروائي وهدفه‬
‫األمسى‪ ،‬إذ ال قيود حتد من نشاطها‪ ،‬نرنو إليها حرة تتصرف على‬

‫(‪ )276‬فورستر‪ :‬أركان الرواية‪ ،‬ص ‪. 61‬‬

‫‪131‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫سجيتها يشكلها الروائي كيفما أراد‪ ،‬فهم من "حيكمون احلياة بكل ما حتمله من غىن‬
‫وتعدد‪ ،‬ومن خالل هؤالء تغادر القصور إىل الشوارع اخللفية‪ .‬ويف مثل هذه األمكنة‬
‫نكتشف ونتعرف إىل احلياة اليت كانت قائمة دون تزييف ودون فرض‪ .‬وإذا كان‬
‫يدون كل ما يتعلق هبم‪ ،‬فإن الصنّاع‬ ‫لألحداث الكربى واألشخاص الكبار من ّ‬
‫احلقيقيني للتاريخ غائبون يف أغلب األحيان‪ ،‬وهذا ما حتاول الرواية التارخيية أن تتصدى‬
‫له‪ ،‬أن تتواله‪ ،‬لكي نرى من خالل ذلك صراعات التاريخ وعدواته"(‪ .)111‬وهذه‬
‫الشخصيات ال تشكل خطورة يف استعماهلا‪ ،‬تلك اليت تشكلها الشخصية التارخيية اليت‬
‫يفضل كثري من الروائيني إبقاءها يف الظل‪ ،‬أو استخدام أسلويب التلميح واإلشارة من‬
‫بعد إىل معاملها دون اسرتسال يف وصفها‪ ،‬لذلك برزت الشخصيات املتخيلة يف واجهة‬
‫العمل يف حني تقبع الشخصيات التارخيية يف املؤخرة‪ .‬يقول ولرت سكوت "أنا أمنح‬
‫التاريخ ما يستحقه‪ ،‬لكن الشخصيات التارخيية احلقيقية تقبع يف املؤخرة من أعمايل‪ .‬إن‬
‫دراسة الفرتة التارخيية تصبح عدمية الفائدة دون مبادئ تصلح جلميع البشر ويف كل‬
‫األزمنة"(‪.)111‬‬
‫أما عن اللغة اليت يوظفها الروائي يف الرواية التارخيية فال يفرتض أن تبتعد كثرياً‬
‫عن اللغة املعاصرة حىت لو كانت تعاجل فرتة زمنية ضاربة يف القدم‪ ،‬وهذا لن يؤثر على‬
‫املصداقية الفنية اليت يرجوها الروائي‪ .‬ألن استلهام لغة احلكاية من زمنها قد يقطع الوصل‬
‫بني املتلقي (اجلاهل هبا) واملرسل (املتعامل هبا)‪ .‬وهذا يفقد اللغة وظيفتها التواصلية‬
‫والتفاعلية؛ لذا جند بعض الروائيني ينهجون غري هنج يف تقريب الرواية التارخيية من زمنها‬
‫احلقيقي‪ ،‬فبعضهم يلجأ‬

‫(‪ )277‬عبد الرحمن منيف‪ :‬رحلة ضوء‪ ،‬ص ‪، 64‬‬


‫(‪ )271‬محمد نجيب لفتة‪ :‬ولتر سكوت والرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪. 111‬‬

‫‪132‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إىل سبك روايته ضمن شكل تراثي قدمي يوحي لنا بأننا نتعامل مع مادة تراثية صرفه‪ ،‬كما‬
‫يظهر ذلك لدى مجال الغيطاين يف روايته "رسالة يف الصبابة والوجد" ومنهم من يغذي‬
‫روايته جبملة من التعابري الرتاثية اليت ال تزيد على اللغة املعاصرة الشائعة فيومهنا أننا أمام‬
‫عمل ن ّفذ يف زمانه‪ ،‬وهذا شائع لدى رضوى عاشور يف "ثالثية غرناطة" ومع امتداد‬
‫الرواية التارخيية يف أدبنا العريب وازدهارها تطورت تقنية اإلحياء اللغوي إىل احلد الذي حدا‬
‫ببعضهم أن يلجأ إىل العامية يف احلوار‪ .‬ألن العامية يف احلوار (عامية املرحلة التارخيية)‬
‫تعيدنا إىل زمن احلكاية‪ ،‬فنعيشها حبقيقتها من خالل حمموهلا الثقايف واالجتماعي الذي‬
‫تؤديه‪ ،‬وقد برز ذلك لدى عبد الرمحن منيف يف "أرض السواد" ولدى مسيحة خريس يف‬
‫"القرمية"(‪ )110‬ولدى زياد قاسم يف "الزوبعة"(‪ )119‬إذ فرض هؤالء حواراً عامياً على‬
‫أعماهلم أضفى واقعية تارخيية أعادت املتلقي إىل زمن احلدث احلقيقي‪ ،‬لكن على كل‬
‫كاتب يف الرواية التارخيية أن يستغل اللغة بوصفها تقنية فاعلة ختدم العمل الروائي بأكثر‬
‫من طريقة‪ ،‬وال يكتفي بسالمتها الرتكيبية بل جيب أن يدرك أن هلا سالمة إحيائية البد‬
‫من حتقيقها‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬لماذا العودة إلى الماضي؟‬


‫ما زال التساؤل حيتمل أكثر من إجابة‪ ،‬فلماذا هذا االندفاع حنو املاضي؟ أال‬
‫تتوفر يف احلاضر مادة تشغل الروائي عن ماضيه؟ بلى‪ ،‬فاحلاضر دائماً هو من يوجه‬
‫الكاتب حنو موضوع يلتمس فيه دواءً ألرقه‪.‬‬

‫(‪ )271‬ينظر مقالنا‪ :‬القرمية لسميحة خريس الحوار في أبهى حلله‪ ،‬جريدة العرب اليوم ‪.‬‬
‫(‪ )211‬تنظر دراستنا‪ :‬تجربة زياد قاسم الروائية‪ ،‬دار وائل‪ ،‬ط‪ ،2112 ،1‬ص ‪. 272‬‬

‫‪133‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إن كل نص مهما بعد عن حاضره مرهتن بطريقة أو بأخرى إىل بند من بنود احلاضر‬
‫والرواية التارخيية نص يبتعد يف ظاهره عن نقطة احلاضر (نقطة االنطالق) ويتوغل يف‬
‫املاضي لكنه يبقى وليد (اآلن) وإن ابتعاده يف املاضي ما هو إال طريقة لفهم احلاضر‪،‬‬
‫فهي يف كثري من مناذجها استعارة عصر غابر لتمثيل روح العصر احلاضر‪ ،‬فاملرسل ال‬
‫يرمي من وراء ذلك إىل أن يقول لنا‪" :‬هكذا عاش آباؤنا يف التاريخ‪ ،‬وهكذا نعيش‬
‫حالياً‪ ،‬إنه وهو يُرهن الواقعي واالجتماعي يكتب نصاً‪ ،‬وينتج عاملاً نصيّا له استقالله‬
‫وهويته اليت ال ميكننا معاينة نصيتها أو إنتاجيتها إال بوضعها يف إطار بنية سوسيو‪-‬‬
‫نصيّة"(‪.)111‬‬
‫إن الرواية يف بعض مناذجها متثل خطاباً بديالً عن التوجيه واإلرشاد املباشرين‬
‫إىل االتعاظ حبوادث التاريخ ومساره واستعادة مناذج بطوالته ومفاخره‪ ،‬فاحلاضر حلُّه يف‬
‫املاضي(‪ ، )111‬بل إن احلاضر هو نتاج ما مضى‪ ،‬ويرى جورج لوكاش يف هذه الثنائية‬
‫(احلاضر‪ -‬املاضي) أن "تصوير التاريخ أمر مستحيل على املرء ما مل حيدد صلته‬
‫فن تارخيي عظيم حقاً‪ ،‬ال تكمن‬ ‫باحلاضر‪ ،‬إال أن هذه العالقة التارخيية‪ ،‬يف حالة وجود ّ‬
‫يف اإلملاع إىل الوقائع الراهنة بل يف جعلنا نعيش التاريخ جمدداً باعتباره ما قبل التاريخ‬
‫احلاضر‪ ،‬ويف إضفاء شعرية على القوى التارخيية واالجتماعية واالنسانية اليت جعلت من‬
‫خالل مسار طويل حياتنا الراهنة على ما هي عليه"(‪ .)111‬من هنا البد للرواية التارخيية‬
‫حىت تكتسب هذا الوصف أن حتمل من قضايا العصر مشاغله ومهومه فتعلق عليها‬
‫وتبحث هلا عن تفسري‪ .‬أما أسباب اللجوء إىل الرواية التارخيية من هذا املنطلق فمتعددة‪،‬‬
‫أبرزها‪:‬‬

‫(‪ )211‬عبد هللا ابراهيم‪ :‬المتخيل السردي‪ ،‬ص ‪. 176‬‬


‫(‪ )212‬حسن حنفي‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪. 25‬‬
‫(‪ )213‬جورج لوكاش‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪. 114‬‬

‫‪134‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إن اللجوء إىل املاضي إلجناز رواية قد ينطلق بادئ ذي بدء من قيمة تعليمية‬ ‫‪-1‬‬
‫حمددة تكشف لنا التاريخ بطريقة قصصية شائقة ختلق لدينا وعياً سياسياً‬
‫واجتماعياً مباضينا‪ ،‬إذ ميكن للرواية التارخيية أن تعمد إىل تربية األجيال القادمة‬
‫"بإعادة إنتاج املعرفة التارخيية فنياً عند تلك األجيال‪ ،‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل‬
‫ميكن توظيف ذلك كله يف بناء اجملتمع العريب‪ ،‬بإغناء ثقافته‪ ،‬وتقومي سلوكياته‪،‬‬
‫وتصحيح اعوجاجاته‪ ،‬وتعزيز ملكاته‪ ،‬وتقوية أدبياته ولغته وأساليب كتابات‬
‫أبنائه‪ ..‬كما ميكننا أيضاً تقدمي شيء للعامل الذي يسمع مبا كان للعرب يف‬
‫املاضي من أدوار وتاريخ مأثور"(‪ )119‬ومن أهم األمثلة املراعية هلذا املنطلق‬
‫جرجي زيدان صاحب أول وأضخم حماولة يف إلباس التاريخ ثوباً روائياً‪ ،‬وجرجي‬
‫زيدان حياول أن يظهر مبظهر املؤرخ عندما يكتب الرواية وليس العكس‪ ،‬إذ‬
‫انتماؤه للتاريخ سابق على والئه للرواية‪ ،‬فأثر التاريخ يف أعماله مقدم على الفن‪،‬‬
‫صب التاريخ يف قوالب روائية متالحقة‪" ،‬فلم يستطع السيطرة على‬ ‫حيث أنه ّ‬
‫ميله الشديد لتعليم التاريخ وتعميم معرفته‪ .‬فجعل له سيطرة كبرية على طريقته‬
‫الفنية‪ ..‬ولذا نرى أنه كثرياً ما يستطرد إىل التعليم والنصح والوعظ فيقطع سياق‬
‫القصة‪ ،‬وخيضع العمل الفين للغاية الثقافية اليت كان يتوخى بلوغها يف كل ما‬
‫كتب"(‪ ،)116‬وقد أدى هذا إىل إحداث ضعف عام ساد يف أعماله القصصية‪،‬‬
‫تغلب فيه اخلطاب التارخيي التعليمي على اخلطاب الروائي الفين‪.‬‬

‫(‪ )214‬سيّار الجميل‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪. 31-31‬‬


‫(‪ )215‬محمد يوسف نجم‪ :‬القصة في األدب العربي الحديث‪ ،‬بيروت‪ ،1166 ،‬ص ‪. 176‬‬

‫‪135‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -1‬بعث جمد املاضي وإحياؤه جمدداً يف األذهان‪ ،‬وهذا منطلق يبدأ من املاضي لريفد‬
‫احلاضر‪ ،‬ومنطلق يسمو على األول يف هدفه‪ ،‬وعندما خيتار الكاتب لُمعاً من‬
‫تاريخ أمته ويعرضها روائياً‪ ،‬فإمنا يزيد الصلة بني املاضي واحلاضر وثوقاً(‪ ،)115‬فليس‬
‫صحيحاً أن الروائي يعمد إىل التاريخ بدافع فين هو سهولة العثور على مادة أو‬
‫موضوع يصلح نواة لعمل روائي(‪ ،)111‬فالرواية أوالً هي شكل وجنس أديب يتطلب‬
‫شروطاً ملزمة للكاتب‪ ،‬وإذا مل يأخذ الكاتب موضوعه من التاريخ فحتماً سيأخذه‬
‫من ماضيه القريب‪ .‬فمساءلة الروائي تنحصر يف أدائه قبل أن تكون فيما اختاره‬
‫من حكايات‪.‬‬
‫‪ -1‬استعادة الذات الضائعة باكتشاف معىن االستمرار يف شيء ما أو االنتماء إىل‬
‫شيء ما يبدو قد ضاع إىل األبد(‪ .)111‬إن اهتزاز وجدان أي أمة وإحساسها بأن‬
‫شخصيتها االجتماعية بدأت تضمحل بسبب أو آخر يدفعها إىل فتح سجالت‬
‫حل ملأزقها ورفع ملعنوياهتا والبحث عن خمرج هلا‪ .‬وعلى صعيد‬ ‫املاضي‪ ،‬إلجياد ّ‬
‫الرواية التارخيية العربية فإن مكانة العرب الدولية املتواضعة وهدرهم إلمكاناهتم يف‬
‫املآزق الطائفية واإلقليمية والقطرية وسواها واإلحساس باخليبة القومية إثر اهلزائم‬
‫املتكررة يف مواجهة االستعمار العريب واالستيطان الصهيوين مث تفاقم اإلحساس‬
‫هبذه اخليبة إثر احلروب العربية واالنشقاقات الداخلية(‪ ،)110‬أدى‬

‫(‪ )216‬انظر للتطبيق دراسة‪ :‬نبيل حداد‪ ،‬شجرة الفهود صورة المجتمع االردني في نصف قرن‪،‬‬
‫أبحاث اليرموك‪ ،‬م ‪ ،15‬ع‪ ،3‬ص‪ .45‬حيث اسقطت الدراسة الماضي على الحاضر‪.‬‬
‫(‪ )217‬كما نص على ذلك محمد حسن عبد هللا‪ :‬الواقعية في الرواية العربية‪ ،‬ص ‪. 114‬‬
‫(‪ )211‬ابراهيم فتحي‪ :‬تطور أدوات الصياغة الروائية من الواقعية إلى الحداثة‪ ،‬مجلة الفصول‪ ،‬شتاء‬
‫‪ ،2113‬ع ‪ ،61‬ص ‪. 31‬‬
‫(‪ )211‬عبد هللا أبو أهيف‪ :‬رؤى التاريخ في الرواية العربية‪ ،‬مجلة الموقف األدبي‪ ،‬دمشق‪ ،‬حزيران‪،‬‬
‫‪ ،2112‬عدد ‪ ،374‬ص‬

‫‪136‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إىل االلتفات جبد إىل املاضي بل واالندفاع حنوه للتذكري فيه والدعوة إليه‪ ،‬فتعلقنا‬
‫بالذكريات وحبثنا عن القيم االعتبارية فيه واستعرنا أبطال(‪ )109‬من زمن أفل إىل‬
‫زمن مهزوم‪ ،‬كل ذلك من أجل البحث عن الذات جمدداً‪ ،‬فعمد بعض الكتاب‬
‫" إىل أن تكون أعماهلم مصابيح هداية يف مساء أمتهم العربية‪ ،‬متخذين من التاريخ‬
‫ستاراً تنعكس عليه أحداث األمة وواقعها املرير‪ ،‬وكل ذلك دعوة النتشال اإلنسان‬
‫العريب من وحل الكوارث العاملية واهلزات واحمللية اليت زعزعت كيانه وه ّدته‪،‬‬
‫فالتاريخ إذاً كان وسيلة يتخذها الفنان للتعبري عن رؤية معاصرة" (‪ ،)101‬ال ينفصل‬
‫عنها بل هو تابع هلا يتوسلها‪.‬‬
‫‪ -9‬إعادة قراءة التاريخ هبدف التقصي أو اإلمتام أو التصحيح أو االختزال‪ .‬فالتاريخ‬
‫موجه أصالً من قبل من يكتبه‪،‬‬
‫ال ينقل كل ما حدث بل أبرز ما حدث والتاريخ ّ‬
‫ألنه يكتبه بطريقة ختدم وجهة نظره وتربهن على صحة آرائه‪ ،‬فهو غري حمايد‪ ،‬مما‬
‫أوقع التاريخ يف مثالب مجّة تنقص منه قدراً ال يعاجل إال بإعادة القراءة كأن يعاد‬
‫تناوله روائياً‪ ،‬فالكتابة الروائية هي مبثابة قوة إضافية للتعلم الراصد املتابع‪ ،‬قوة‬
‫تسمح له بأن يتجاوز كثرياً من اخلطوط اليت وقف أمامها املؤرخ مقيداً‪.‬‬

‫إن االعتماد على احلدث التارخيي ضمن هذا املنطلق يتجاوز فكرة االتكاء على‬
‫التاريخ بوصفه موضوعاً روائياً سيُتم ما غفل عنه التاريخ‪" ،‬إن الرواية العربية وهي تعيد‬
‫استثمار التاريخ يف إنتاجها للداللة الروائية‪ ،‬تقدم‬

‫(‪ )211‬شكري الماضي‪ :‬الرواية والتاريخ وفن الرواية العربية‪ ،‬ص ‪. 63‬‬
‫(‪ )211‬محمد أبو بكر حميد‪ :‬هل انتهت مرحلة الرواية التاريخية؟‬
‫‪www.lahonline.com/literature/critique/455.doc-ctv.htm.‬‬

‫‪137‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫توظيفات خمتلفة يف الفهم والقصد‪ ،‬ألهنا ختتار كيفية حمددة يف القول والرتكيب وإنتاج‬
‫التخييل‪ ،‬وألهنا تعرب أيضاً عن احلاجة إىل الرواية‪ ،‬واحلاجة ألن تكون تارخيية‬
‫كذلك"(‪ .)101‬فاخليال هو القادر على إمتام ما مل يذكره التاريخ بناء على معطيات‬
‫التاريخ نفسه‪ ،‬يقول عبد الرمحن منيف منبهاً إىل تطور نظرة الرواية للتاريخ‪" :‬وإذا كانت‬
‫بطولة الفرد يف مراحل معينة‪ ،‬مراحل االقطاع واالرستقراطية هي حمور روايات املغامرات‬
‫والروايات التارخيية‪ ،‬فإن ظهور األقل ثروة واألقل قوة بدأت بالظهور‪ ،‬تلتها بطولة الناس‬
‫العاديني‪ ،‬وبعض األحيان بطولة الكتل واجلموع‪ ،‬إذ أخذت هذه حتظى باهتمام متزايد‬
‫وتليب حاجات فعلية‪ ،‬األمر الذي جعل روايات كثرية هتجر املوضوعات القدمية‪ ،‬لتلتفت‬
‫إىل ناس القاع واجملهولني والذين يعيشون يف العتمة أو العزلة‪ ،‬وأصبحت األماكن‬
‫واحليوانات واألشياء‪ ،‬مادة للبطولة الروائية"(‪ )101‬وهنا تكون إعادة القراءة بلفت األنظار‬
‫إىل أشياء يف الظل‪ ،‬فالتاريخ يهتم بالنتائج واخلالصات أكثر‪ ،‬أما الرواية التارخيية فهمها‬
‫الكيفيات املؤدية‪ ،‬مهها أسباب اهلزمية مهها ملاذا عدنا إىل الوراء‪ ،‬إذ "عليها أن حتدد يف‬
‫املاضي األسباب اليت كانت وراء ما حدث بعد ذلك‪ ،‬وأيضاً رسم السريورة اليت تطورت‬
‫بشكل بطيء من خالهلا وأحدثت هذا الواقع"(‪ .)109‬فما عاد املهم أن نعيد سرد‬
‫أحداث كبرية‪ ،‬بل تعزيز جانب اخليال عند الناس الذي عاشوا تلك األحداث وأن‬
‫نتقصى دوافعهم وحاجاهتم ورغباهتم لنقرتب منهم أكثر‪ ،‬تلك اليت أدت هبم أن يتصرفوا‬
‫على ذلك النحو اجل ّذاب‪ .‬ومن الروايات التارخيية اليت انطلقت من هذا املنطلق "ثالثية‬
‫غرناطة" لرضوى عاشور و "الزوبعة" لزياد قاسم‪.‬‬

‫(‪ )212‬عبد الفتاح الحجمري‪ :‬هل لدينا رواية تاريخية؟ ‪ ،‬ص ‪. 63‬‬
‫(‪ )213‬عبد الرحمن منيف‪ :‬رحلة ضوء‪ ،‬ص ‪. 12-11‬‬
‫(‪ )214‬امبيرتو ايكو‪ :‬حاشية على "اسم الوردة" آليات الكتابة‪ ،‬تر‪ :‬سعيد بنكراد )‪. (on-line‬‬

‫‪131‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وبعد فإن دوافع اللجوء إىل املاضي كثرية ومتباينة‪ ،‬ولكنها يف كل أحواهلا ليست‬
‫جمرد مرحلة كانت الرواية فيها غري واثقة من نفسها وال موقنة من مجاهلا الغين‪ ،‬وسلطاهنا‬
‫األديب" كما حاول عبد امللك مرتاض إقرارها(‪ ،)106‬ولكنها أثرى من ذلك وأبعد‪ ،‬وهي‬
‫أعمق يف رؤاها وأمشل يف امتداداهتا وأكثر تأثرياً يف نتائجها‪ ،‬إهنا مزج الواقع باملاضي على‬
‫غرينا موقع رؤيتنا منها‪ ،‬إهنا تشبه آلة املطياف أو‬
‫حنو مسؤول‪ ،‬ختتلف نظرتنا إليها كلما ّ‬
‫(‪)105‬‬
‫تغري من‬
‫تلك اآللة اليت حتتوي على قطع من الزجاج امللون ما إن ّ‬ ‫الكاليد سكوب‬
‫أوضاعها حىت تعكس جمموعة من األشكال اهلندسية خمتلفة األلوان ال هناية هلا‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬الروايات التاريخية (نموذج الدراسة)‬


‫وقد اعتمدت الدراسة أربع روايات تارخيية عربية صدرت يف فرتات متباعدة‬
‫نسبياً وشكلت يف تباعدها األجيال الثالثة لكتاب الرواية التارخيية العربية والروايات هي‬
‫على النحو التايل‪:‬‬
‫‪ -1‬جرجي زيدان‪ :‬احلجاج بن يوسف الثقفي(‪.)101‬‬
‫‪ -1‬جنيب حمفوظ‪ :‬رادوبيس(‪.)101‬‬
‫‪ -1‬رضوى عاشور‪ :‬ثالثية غرناطة(‪.)100‬‬
‫‪ -9‬عبد الرمحن منيف‪ :‬أرض السواد (ثالثة أجزاء)(‪.)199‬‬

‫(‪ )215‬عبد الملك مرتاض‪ :‬في نظرية الرواية‪ ،‬سلسلة عالم المعرفة‪ ،‬عدد ‪ ،1111 ،241‬الكويت‪،‬‬
‫ص‪.31‬‬
‫(‪ )216‬تيري ايغلتون‪ :‬مفهوم التاريخ في الفكر ما بعد الحداثي‪ ،‬تر‪ :‬ثائر ديب‪ ،‬مجلة الكرمل‪،614 ،‬‬
‫صيف ‪ ،2111‬ص ‪.46‬‬
‫(‪ )217‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪. 1111 ،1‬‬
‫(‪ )211‬دار مصر للطباعة‪ ،‬ط ‪. 1111 ، 11‬‬
‫(‪ )211‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬ط‪. 1111 ، 2‬‬
‫(‪ )311‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪. 1111 ،1‬‬

‫‪131‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وفيما يلي موجز عن كل رواية منها والظروف التارخيية اليت تناقشها‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪ -1‬رواية "أرض السواد"‬


‫تتماشى "أرض السواد" مع فرتة حمددة من تاريخ العراق احلديث‪ ،‬تنحصر يف‬
‫الربع األول من القرن التاسع عشر‪ ،‬وبالتحديد فرتة حكم داود باشا وايل بغداد‬
‫(‪ ،)1111-1111‬إال أهنا تبدأ فعلياً قبل هذا التاريخ عندما تعرض يف بداية الرواية‬
‫ملخصاً تارخيياً ألهم فرتات حكم املماليك للعراق أمساه املؤلف "حديث بعض ما‬
‫جرى"‪ ،‬ويبدأ امللخص أحداثه‪ ،‬عندما حضرت الوفاة سليمان الكبري ‪ 1191‬أعظم وايل‬
‫مملوكي حكم العراق‪ ،‬وينتهي امللخص يف صفحة (‪ )19‬عندما توىل داود باشا احلكم إثر‬
‫ثورة قام هبا على سعيد باشا وايل بغداد املخلوع‪ ،‬لتبدأ أحداث الرواية احلقيقية يف يوم‬
‫التاسع عشر من شباط لعام ‪1111‬م ‪.‬‬
‫وعبد الرمحن منيف مؤلف الرواية حيول الوثيقة التارخيية إىل رواية‪ ،‬فينفخ الروح‬
‫يف زمن املاضي‪ ،‬فيكتب مذكرات من ال مذكرات له‪ ،‬يتوجه منيف‬
‫إىل القارئ بكل وضوح فريجع به إىل املاضي وإىل مكان يعرفه اجلميع له خصوصيته‬
‫الكاملة من حيث املناخ واألهنار واملعتقدات وأمناط العيش‪ ،‬جتيء أحداث الرواية متامخة‬
‫لزمن متقلب‪ ،‬يتصارع فيه املماليك على ملك سليمان الكبري‪ ،‬واستئناف الغزو الوهايب‪،‬‬
‫ونابليون يرتجل عن جواده ويذهب إىل املنفى‪ ،‬ويظهر حممد علي باشا يف مصر‪ .‬يف هذا‬
‫األثناء يدخل داود باشا‪-‬موظف عثماين يف بغداد جورجي األصل‪ -‬إىل بغداد دخول‬
‫الفاحتني فيحكم بغداد من ‪ 1111‬وحىت‪ ،1111‬يرافق هذا الذكر ظهور القنصل‬
‫الربيطاين "ريتش" يف بغداد الذي وصلها يف سن الثالثة والعشرين مزوداً بعلم االستعمار‬
‫وبغطرسة ال تغيب‬

‫‪141‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫عنها الشمس وبسلطة تنصب الوالة مث ختلعهم دون أن يدركوا‪ .‬ويف هذا اخلضم بني‬
‫إرادة تريد االستقالل (داود باشا) وأخرى حتطم اإلرادة واالستقالل (ريتش) كانت أحالم‬
‫كل طرف كوابيس لآلخر‪.‬‬
‫ويشق الصراع طريقة بني إرادتني متنافرتني يف زمنني تارخييني ال متكافئني‪،‬‬
‫والرواية تنهج هنجاً واقعياً ميزج بني األحداث التارخيية احلقيقية واألحداث املتخيلة‪،‬‬
‫وهتمش بداية أوالد سليمان الكبري الثالثة وأصهاره األربعة مستبقية "داود" هذا الفىت‬
‫اجلورجي األصل الذي عطف عليه سليمان وربّاه يف قصره‪ ،‬وهذا ميثل العنصر احلقيقي‬
‫يف الرواية‪ ،‬أما العنصر املتخيل فيتمثل يف نسق الشخصيات الشعبية املفتوح الذي يظهر‬
‫على شكل حكايات متوالدة‪ ،‬فكل إنسان حكاية يشارك اآلخرين هبا وال يتنازل عنها‪،‬‬
‫وبذلك تبين الرواية فضاء شعبياً متعدد الوجوه هو فضاء بغداد يف مطلع القرن التاسع‬
‫عشر‪ ،‬الذي حيتضن التاجر والعسكري واملومس واجلاسوس واجلندي العاشق واحملاسب‬
‫والسقاء وصاحب املقهى واليهودي واملرتجم واملتدين واآلغا واألخرق والطفلة املشلولة‪..‬‬
‫هي شخصيات تبين احلس الشعيب واحلس الشعيب بينها‪.‬‬
‫أما لغة احلوار فهي (العامية) اللهجة العراقية النابعة من عمق شعبيتهم‪ ،‬إهنا لغة‬
‫األلفة واإليقاع‪ ،‬والعامية يف ترابطها مع الشخصيات تش ّكل شخصية تكشف الوجه‬
‫احلقيقي هلم‪.‬‬
‫تتعامل "أرض السواد" منطقياً‪ ،‬مع حدث تارخيي معلن البداية والنهاية‪ ،‬ميلي‬
‫مساراً خطياً متصاعداً‪ ،‬ال حيد من صرامته إال تلك التفاصيل البشرية للصورة الشعبية‬
‫اليومية‪ ،‬فاحلدث الواحد يروى أكثر من مرة على ألسنة العامة وكل واحد يعرب عن رأيه‬
‫فتأخذ الشخصيات استقالهلا الكامل من حيث‬

‫‪141‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫التصرف والكالم‪ ،‬إن الرواية تستثمر طاقة التاريخ فتعيد كتابة املكتوب‪،‬‬
‫والشخصيات التارخيية الفعلية تشاطر الشخصيات املتخيلة ومنها الذي تعيشه‪ ،‬فيتآزر‬
‫التارخيي والروائي ليقدمان خطاباً روائياً عن التاريخ‪ ،‬يبدأ من زمن معلوم وينتهي عند زمن‬
‫معلوم أيضاً‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪ -2‬رواية "ثالثية غرناطة" ‪4‬‬


‫مئة وسبع عشرة سنة هي زمن القصة احلقيقي الذي ترويه هذه الثالثية اليت‬
‫جاءت لتحكي مأساة العرب "املوريسكيني" الذين فرضت عليهم الظروف أن يصمدوا‬
‫بعد أن عاشوا السقوط العريب فيها‪ ،‬وذلك منذ عام ‪1901‬م‪ ،‬فرتصد الرواية أوضاعهم‬
‫احلياتية اليت تزداد صعوبة يوماً بعد يوم وحياة أحفادهم من بعدهم واليت امتدت حىت عام‬
‫‪ 1590‬م وهو العام الذي شهد طرد آخر العرب من األندلس بعد صدور قرار احلكام‬
‫األسبان هبذا الشأن‪.‬‬
‫وتسلط الرواية الضوء على أحوال أسرة عربية غرناطية عايشت زمن السقوط عن‬
‫قرب مع األجداد وزمن الطرد والتهجري مع األحفاد‪ ،‬بعد أن أزاحهم القشتاليون عن‬
‫ديارهم قسراً‪ ،‬والرواية ال تعرض حلياة امللوك والساسة ولكنها من خالل تناول احلياة‬
‫اليومية ألفراد هذه األسرة‪ -‬أسرة أيب جعفر الوراق‪ -‬اليت تشكل أمنوذجاً ميثل جمموع‬
‫األسر العربية يف تلك احلقبة‪.‬‬
‫وتدور أحداث الرواية يف غرناطة نفسها‪ ،‬ويف حي البيازين‪ ،‬حتديداً‪ ،‬أكرب‬
‫الوراق‪ ،‬وهو‬
‫أحيائها وأكثرها سكناً يف ذلك العصر‪ ،‬إذ تلخص حياة عائلة أيب جعفر ّ‬
‫من اختريت له تلك املهنة يف سياق رواية سعت إىل ربط الشعيب املمثل بأيب جعفر‬
‫بالثقافة العربية وبالدين‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وتبدأ أحداث الرواية من ذلك اليوم الذي شهد اجتماع احلمراء الشهري الذي‬
‫تأكد فيه اخلضوع واالستسالم للقشتاليني‪ ،‬فتتجاوب الرواية مع املد التارخيي لرتوي مقولة‬
‫أيب عبد اهلل الصغري الذي ينتحب لضياع البالد على دوره‪.‬‬
‫وتتعامل الرواية تعامالً حذراً مع الشخصيات التارخيية‪ ،‬إذ ال تشركها إشراكاً‬
‫مباشراً باحلدث بل تفتعل تصرفات هذا النوع من الشخصيات‪ .‬أما الشخصيات املتخيلة‬
‫يف هذه الرواية فهي من تلعب الدور األساسي يف هذه األحداث وتبقى الشخصيات‬
‫التارخيية إطاراً تنفذ األحداث من خالله‪ ،‬مثل موسى بن أيب الغسان‪ ،‬أيب عبد اهلل‬
‫الصغري‪ ،‬فرديناند‪ ،‬ازابيال‪.‬‬
‫وتنقسم الرواية إىل ثالثة أجزاء متتالية؛ األول‪( :‬غرناطة) ويستمر مخساً وثالثني‬
‫سنة بدءاً من ‪1901‬م وانتهاء بـ ‪1611‬م وهو العام الذي أعدمت فيه ُسليمة واليت‬
‫خلص إعدامها مأساة جيل بأكمله فكان حدث إعدامها خامتة ناجحة يف هناية اجلزء‬
‫األول‪ .‬الثاين‪( :‬مرمية) وميتد أربعاً ومخسني سنة وتلخص حقبة مضاعفة من الظلم‬
‫والتهجري‪ ،‬وقد أسند هذا اجلزء يف عنوانه إىل تلك السيدة املقاومة (مرمية) واليت تعادل يف‬
‫بعض نواحيها السيدة مرمي العذراء‪ .‬أما اجلزء الثالث (الرحيل) فامتد حوايل مثان وعشرين‬
‫سنة‪ ،‬وحيمل هذا اجلزء الداللة الكربى على انقطاع األمل بالعودة وكان ذلك بصدور‬
‫قرار اإلسبان بطرد العرب من إسبانيا عام ‪1590‬م‪.‬‬

‫‪ -3‬رواية "رادوبيس" ‪1 43‬‬


‫وهذه الرواية الثانية يف مسرية جنيب حمفوظ املديدة‪ ،‬وموضوعها التاريخ الفرعوين‪،‬‬
‫وبالتحديد فرتة حكم امللك الشاب "مرنرع الثاين" أحد ملوك العائلة‬

‫‪143‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫السادسة من فراعنة مصر‪ .‬و"رادوبيس" اسم غانية رائعة احلسن‪ ،‬كانت تسكن يف‬
‫قصرها البديع يف جزيرة "بيجة" يف عرض النيل‪ ،‬أمام مدينة "أون" عاصمة امللك‪ ،‬وكان‬
‫امللك "مرنرع الثاين" حديث عهد بالعرش‪ ،‬تقوده شهواته وطيشه إىل حيث احلسن إينما‬
‫وجد‪.‬‬
‫وتبدأ الرواية يف يوم عيد النيل‪ ،‬حيث يتجمع الناس من كل حدب وصوب‬
‫ملشاهدة ملكهم امل قدس‪ ،‬ولكن حادثة خطرية حتدث يف ذلك اليوم عندما يرتفع هتاف‬
‫ميجد وزير امللك (رئيس الكهنة) خنوم حتب‪ .‬والسبب يف هذا النداء العلين‪ -‬الذي ميثل‬
‫ضرباً من ضروب العصيان‪ ،-‬قرار امللك بتجريد املعابد من أكثر ممتلكاهتا من األراضي‬
‫الزراعية‪ ،‬وإعادهتا إىل ملكيته اخلاصة‪ ،‬كما كانت قبل أن يهبها أجداده للمعابد والكهنة‪،‬‬
‫وقد عارض الوزير خنوم حيث هذا القرار وأوعز إىل كهنة األقاليم بتأليب الشعب ضد‬
‫فرعون الغاضب؛ ألن هذه األراضي ملكية مجاعية يستفيد منها كل الناس‪ ،‬أما فرعون‬
‫فكان يرى أن الكهنة تستفيد من ريع هذه األراضي ألنفسهم وليس للمعابد‪ ،‬لذا فهو‬
‫أوىل هبا ليبىن قصوراً وقبوراً‪.‬‬
‫ولكن هذا امللك يف غمرة اشتعال مجرة املعارضة يقع بسهولة يف حب الغانية‬
‫"رادوبيس" معشوقة كبار الدولة‪ ،‬وهنا تقرر الغانية أن ترتكهم وتنفرد مبعشوقها امللك‬
‫فتخلص نفسها وفكرها لفرعون الشاب‪ ،‬وتدافع عن حبها له‪ ،‬حىت تتحدى زوجته امللكة‬
‫فتعم قصة فرعون ورادوبيس اآلفاق ويربط الشعب بني بذخه يف قصر الغانية‬‫"نيتوقريس" ّ‬
‫وحرمان املعابد حقوقها‪ ،‬فيثور الناس بعد أن طفح هبم الكيل‪ ،‬فتزحف اجلموع على‬
‫القصر ويأىب فرعون أن خيتبئ وراء حرسه فيربز وحيداً ليتلقى سهماً قاتالً نفذ إىل قلبه‪ ،‬مث‬
‫هتف الناس باسم امللكة اليت صربت طويالً على جرحها‪ ،‬ووقفت إىل جانب الكهنة‬
‫والشعب‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وقد طلب امللك وهو يف رمقه األخري أن ميوت بني يدي رادوبيس‪ ،‬فكان له ما‬
‫متىن‪ ،‬وعند ذلك مل يكن أمام "رادوبيس" إال أن تتجرع السم فال تسقط بني يدي‬
‫غرميتها‪ ،‬ووفاء ملعشوقها القتيل‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪ -4‬رواية "الحجاج بن يوسف" ‪1‬‬


‫وهي رواية ال تؤرخ حلياة احلجاج بن يوسف الثقفي وايل العراق كما يتوهم‬
‫القارئ‪ ،‬ولكنها رواية تتحدث عن حقبة حرجة يف تاريخ الدولة العربية اإلسالمية‪ ،‬وهي‬
‫حصار احلجاج لعبد اهلل بن الزبري يف مكة‪ ،‬ورمي الكعبة باملنجنيق‪ .‬تبدأ األحداث‬
‫التارخيية بوفاة يزيد سنة ‪59‬هـ وتنتهي بدخول احلجاج مكة املكرمة منتصراً عام ‪11‬هـ‬
‫واألحداث التارخيية السابقة‪ ،‬متحلّقة حول قصة عاطفية وضعها الكاتب لزيادة عنصر‬
‫التشويق يف القصة‪.‬‬
‫وتوظف الرواية مجلة من الشخصيات التارخيية املتفاعلة يف األحداث‪ ،‬مثل عبد‬
‫اهلل بن الزبري وعبد امللك بن مروان واحلجاج بن يوسف الثقفي وسكينة بنت احلسني‪،‬‬
‫وشخصيات متخيلة كان لدخوهلا إمتاماً للحدث وتفعيالً لدور الشخصية التارخيية‪ ،‬كما‬
‫حدث مع "حسن" ومغامراته بني عبد اهلل بن الزبري واحلجاج بن يوسف الثقفي‪ .‬والقصة‬
‫مبنية أساساً على حب حسن (وهو من أهل العراق) لسمية بنت عرفجة الثقفي (من‬
‫فتيات املدينة) فتتكاثف األحداث ملتفة حول هذه القصة فيتعرف القارئ على الوقائع‬
‫التارخيية يف غمرة انشغاله بقصة احلب اليت تتعقد كلما أوغلنا يف الرواية‪ ،‬فتنفرج يف النهاية‬
‫بعد انتهاء األحداث التارخيية اليت اهتم الراوي بسردها‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪146‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الباب الثاني‬
‫الـجـانـب التطـبـيـقي‬

‫‪ ‬الفصل األول‪ :‬المستوى التركيبي‬


‫‪ ‬الفصل الثاني‪ :‬المستوى التاريخي‬
‫‪ ‬الفصل الثالث‪ :‬المستوى النسقي‬

‫‪147‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪141‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفصل األول‬
‫المـس ـتــوى الـتـركـيـ ـبـي‬

‫‪ -‬الزمن‬
‫‪ -‬الصيغة‬
‫‪ -‬وجهة النظر‬
‫"الروائي يستطيع أن يعبر أجيالا أو قرونا‬
‫بحركة من يده دون أن يحطم الخيال"‬
‫*‬
‫برنار دي فوتو‬
‫تـمهـيـد‪:‬‬
‫قص منجز إىل داعمني أساسيني يروجانه ويتعهدانه؛ األول هو‬ ‫يرهتن أي ِّ‬
‫احلكاية أو املادة القصصية كما يفرتض أهنا حدثت‪ ،‬والثاين هو الطريقة اخلاصة يف‬
‫تشكيل هذه املادة وعرضها وتركيبها على حنو خاص جيعل من هذه املادة جنساً أدبياً‬
‫مألوفاً ذا مقومات إبداعية خاصة متنحه صفة السردية‪ ،‬اليت هي أصالً فرع من أصل كبري‬
‫هو الشعرية )‪ (Poetics‬ذلك األصل املختص بنظرية األدب وما جيعل من العمل‬
‫األديب أدبياً‪.‬‬
‫واخلطاب يف إحدى مراحله هو ذلك الناشئ عن اجتماع الكالم وتآلفه على‬
‫حنو خمصوص و" هو ما ينتخب من مكونات الكالم‪ ،‬على هيئة مجل تتعالق فيما بينها‬
‫وصوالً لتأسيس وجودها العضوي الذي هو اخلطاب‪ ،‬وهكذا تنتظم دائرة اخلطابات‪،‬‬
‫ويصبح البحث عن نظام حيدد نظمها الداخلية ضرورة منهجية‪،‬‬

‫*‬
‫عالم القصة‪ ،‬تر‪ :‬محمد هدارة‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬القاهرة‪ ،1161 ،‬ص ‪.115‬‬

‫‪141‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫هلذه الغاية‪ ،‬أو بسببها ظهرت الشعرية"(‪ )191‬وما املستوى الرتكييب إال ذلك الباحث يف‬
‫منهجية ذلك اخلطاب وآلية تش ّكله وتواصله مع املتلقي‪ ،‬إنه حتليل لتلك الطريقة اليت‬
‫تُعرض هبا املادة القصصية‪.‬‬
‫وستتكئ هذه الدراسة يف مستواها األول (الرتكييب) على النموذج الذي ارتضاه‬
‫"جنيت" يف كتابه "خطاب احلكاية"؛ إذ ع ّده الدارسون من أيسر النماذج وأنضجها يف‬
‫تتبع املظهر الفعلي أو اللفظي أو النحوي لدراسة أدبية العمل السردي من خالل دراسة‬
‫العالقة احلاصلة بني املادة القصصية (املضمون) والطريقة اليت ُشكلت هبا املادة‬
‫(الشكل)‪ ،‬من هنا ستكون مكونات هذا املستوى مقصورة على ثالثة عناصر ش ّكلت‬
‫وتش ّكل املستوى الرتكييب للعمل السردي‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬الزمن )‪.(Time‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬الصيغة )‪.(Mode‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬زاوية الرؤية )‪.(Perspective‬‬
‫وهذه املكونات هي اليت "يرّكز عليها السرديون بصفة عامة‪ ،‬وإن كنا جند‬
‫اختالفات بينهم يف ترتيبها وربطها بعضا ببعض"(‪.)191‬‬

‫(‪ )311‬عبد هللا إبراهيم‪ :‬المتخيل السردي‪ ،‬ص ‪.141-141‬‬


‫(‪ )312‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.52‬‬

‫‪151‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المبحث األول‬
‫الــزمـ ـ ــن‬

‫تنطلق الدراسة يف هذا املبحث من فكرة التمايز املثبت بني زمن القصة (املدلول)‬
‫وزمن اخلطاب (الدال) "فاحلكاية مقطوعة زمنية مرتني‪ ..‬فهناك زمن الشيء املروي وزمن‬
‫احلكاية (زمن املدلول وزمن الدال)‪ .‬وهذه الثنائية ال جتعل االلتواءات الزمنية‪ -‬اليت من‬
‫املبتذل بياهنا يف احلكايات‪ -‬ممكنة فحسب (ثالث سنوات من حياة البطل ملخصة يف‬
‫مجلتني من رواية‪ )..‬بل األهم أهنا تدعونا إىل مالحظة أن إحدى وظائف احلكاية هي‬
‫إدغان زمن يف زمن آخر"(‪ .)191‬وهذا املبحث خيتص مبتابعة الرتتيب الزمين خلطاب ما من‬
‫خالل إحداث مقارنة بني الزمن احلقيقي املفرتض للمادة القصصية املستغّلة والزمن‬
‫احملدث بعد إعادة تشكيل هذه املادة‪ ،‬أي املقارنة بني زمن القصة وزمن اخلطاب‪ ،‬وما‬
‫يتخلل ذلك من استباقات أو اسرتجاعات أو تسريع أو تبطيء أو تكرار‪ ،‬وما هذا التباين‬
‫يف توازي الزمنني إال طريقة من طرق تشكيل املادة األولية للقصة‪ ،‬فزمن اخلطاب "يتصف‬
‫بالنسبية الذاتية والتوزيع غري املتساوي لألمهية وعدم االنتظام وعدم االطِّراد‪ ،‬على النقيض‬
‫من الزمان املوضوعي"(‪.)199‬‬
‫إن مقولة الزمن مقولة متعددة املظاهر خمتلفة الوظائف استنزفت كثرياً من اجلهود‬
‫يف سبيل التعرف إىل ماهيته وإدراكه‪ ،‬بدءاً من الشكالنيني الروس الذي درسوا مقولة‬
‫الزمن ضمن نظرية األدب ممارسني بعض حتديداته على العمل السردي‪ ،‬فكانت‬
‫العالقات اجلامعة لألحداث هي األساس وليس طبيعة‬

‫(‪ )313‬جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪ ،45‬والقول لـ )‪.(Christian Metz‬‬


‫(‪ )314‬إبراهيم فتحي‪ :‬تطور أدوات الصياغة الروائية‪ ،‬فصول‪ ،‬عدد ‪ ،61‬شتاء ‪ ،2113‬ص ‪.31‬‬

‫‪151‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫األحداث نفسها(‪ .)196‬تالهم لوبوك وموير اللذان أكدا على أمهية الزمن يف السرد‬
‫والتشديد على خطورة الدور املنوط به(‪.)195‬‬
‫ويستقي "جورج لوكاش" مفهومه للزمن يف الرواية من هيجل وبريجسون‪ ،‬ولكنه‬
‫يعطيه صياغة خمالفة إلشكالية الزمن يف الفكر الفلسفي للقرن التاسع عشر‪ ،‬حيث يرى‬
‫بأن الزمن "هو عملية احنطاط متواصلة‪ ،‬وشاشة تقف بني اإلنسان واملطلق‪ .‬ومثل مجيع‬
‫مكونات البنية الروائية لديه فإن الزمنية هي أيضاً ذات طبيعة دياليكتيكية‪ ،‬فهي سلبية‬
‫وإجيابية معاً"(‪ )191‬ويشرتك معه يف هذا املفهوم إىل حد ما "ميخائيل باختني"(‪.)191‬‬
‫بعد ذلك ويف إطار قريب من هذا اإلطار دعا "جان بويون" إىل احرتام الزمن يف‬
‫دراسة العمل الروائي بل إنه ذهب إىل ح ِّد أن جعل منهم أي عمل أديب متوقفاً على فهم‬
‫وجوده يف الزمن(‪ ،)190‬انطالقاً من نظرة هيدجر وسارتر اليت ترى أن الزمنية يف أصلها‬
‫ليس هلا وجود‪ ،‬بل إهنا ميزة ما ميكن تزمينه‪.‬‬
‫أما على الصعيد البنيوي فقد أثار "روالن بارت" قضية الزمن السردي يف مؤلفه‬
‫"درجة الصفر يف الكتابة" ‪ ،‬إذ أعلن أن أزمنة األفعال يف شكلها الوجودي والتجرييب ال‬
‫تؤدي معىن الزمن املعرب عنه يف النص وإمنا غايتها تكثيف الواقع وجتميعه بواسطة الربط‬
‫املنطقي(‪.)119‬‬

‫نصوص الشكالنيين الروس‪ :‬نظرية المنهج الشكلي‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫(‪)315‬‬


‫انظر‪ * :‬لوبوك‪ :‬صنعة الرواية‪ ،‬ص ‪ * - 55‬ادوين موير‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫(‪)316‬‬
‫نقال عن‪ :‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ط‪ ،1111 ،1‬بيروت‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪،‬‬ ‫(‪)317‬‬
‫ص ‪.111‬‬
‫ميخائيل باختين‪ :‬الملحمة والرواية‪ ،‬تر‪ :‬جمال شحيد‪ ،1112 ،‬بيروت‪ ،‬دار االنماء العربية‪،‬‬ ‫(‪)311‬‬
‫ص‪.33‬‬
‫نقال عن‪ :‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫(‪)311‬‬
‫المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.111‬‬ ‫(‪)311‬‬

‫‪152‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وجدير بالذكر أن بارت بقي متمسكاً يف طرحه هذا حىت عندما كتب مؤلفه‬
‫"التحليل البنيوي للسرد" الذي يعد خالصة ما أنتج بارت يف التحليل السردي‪ .‬ومن‬
‫أعالم هذا التوجه نذكر ميشال بوتور صاحب كتاب "حبوث يف الرواية اجلديدة" وفيه‬
‫يعلن صراحة عن صعوبة عرض حمتوى الرواية وفق تسلسل زمين مسرتسل‪ ،‬ففي رأيه أننا‪،‬‬
‫حىت يف السرد األكثر التزاماً بالتسلسل الزمين ال نعيش الزمن باعتباره استمراراً إال يف‬
‫بعض األحيان‪ ..‬وأن العادة وحدها هي اليت متنعنا من االنتباه أثناء القراءة إىل التقطعات‬
‫والوقفات وأحياناً القفزات اليت تتناوب على السرد‪ ،‬وقد وصف "بوتور" التسلسل الزمين‬
‫الرتيب باخلشونة إذا طبقناه حميالً إيانا إىل قراءة "األوديسة" وإلثبات ذلك ميثل بوتور مبا‬
‫يلي‪ " :‬وعندما يكون هناك شخصان مهمان وينفصل أحدمها عن اآلخر‪ ،‬فنحن‬
‫مضطرون إىل ترك مغامرات أحدمها لبعض الوقت لنعلم ما فعله اآلخر حىت الوقت‬
‫نفسه"(‪ ،)111‬وهذا يشعرنا باستحالة املوازاة بني ما حدث أصالً وكيف كتب بعد ذلك‪،‬‬
‫وقد شاركه يف توجهه هذا "اآلن روب غريبة" يف كتابه "حنو رواية جديدة"‪.‬‬
‫قسم الزمن إىل‬
‫وينقلنا "تودوروف" نقله نوعية يف التعامل مع مقولة الزمن؛ إذ ّ‬
‫ثالثة أصناف هي(‪:)111‬‬
‫‪ -1‬زمن القصة‪ :‬ذلك الزمن اخلاص بالعمل التخييلي‪.‬‬
‫‪ -1‬زمن السرد‪ :‬ذلك الزمن املرتبط بعملية التلفظ‪.‬‬
‫‪ -1‬زمن القراءة‪ :‬ذلك الزمن املطلوب إلجناز النقص قراءة‪.‬‬

‫(‪ )311‬ميشال بوتور‪ :‬بحوث في الرواية الجديدة‪ ،‬تر‪ :‬فريد أنطونيوس‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪ ،1116 ،3‬ص ‪.17‬‬
‫(‪ )312‬انظر‪ :‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.114‬‬

‫‪153‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وكلها أزمنة داخلية يضاف إليه جمموعة من األزمنة اخلارجية وهي‪:‬‬


‫‪ -1‬زمن الكاتب‪ :‬أي املرحلة الثقافية واألنظمة التمثيلية اليت ينتمي إليها املؤلف‪.‬‬
‫‪ -1‬زمن القارئ‪ :‬وهو املسؤول عن التفسريات اجلديدة اليت تعطى ألعمال املاضي‪.‬‬
‫‪ -1‬الزمن التارخيي‪ :‬ويظهر يف عالقة التخيل بالواقع‪.‬‬

‫(‪)111‬‬
‫زمنا آخر هو‬ ‫مث أضاف "جان ريكاردو" يف كتابه "قضايا الرواية احلديثة"‬
‫زمن التخيّل الذي يقابل زمن احلكي فيربز الفرق جلياً ولكل من هذين الزمنيني وظائف‬
‫يضطلع هبا‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإن مقولة الزمن مقولة حظيت باهتمام كثري من النقاد والفالسفة‬
‫أسهموا يف استجالئها وإيضاح معاملها‪ ،‬وقد استطاع "جريار جنيت" عام (‪ )1011‬من‬
‫خالل كتابه "خطاب احلكاية" أن يرتجم هذه اجلهود املشتغلة على قضية الزمن إىل فهم‬
‫أكثر فاعلية يف التعامل مع زمن الرواية فبدأ بتسويق نظرته القائلة بأن زمن الرواية زمن‬
‫مزيف ال يعكس الزمن احلقيقي للمادة القصصية الفعلية‪ .‬ومع هذه احملاولة ميكننا احلديث‬
‫عن مرحلة متقدمة يف حتليل اخلطاب الروائي‪ ،‬فالزمن يشغل ثلثي كتابه املذكور آنفاً‪،‬‬
‫ويرسم يف األذهان احملددات التالية للزمن يف الرواية(‪:)119‬‬
‫‪ -1‬عالقات الرتتيب )‪ (Order‬الزمين بني تتابع األحداث يف املادة احلكائية وبني‬
‫ترتيب الزمن الزائف وتنظيماهتا يف احلكي‪.‬‬

‫(‪ )313‬تر‪ :‬صياح الجهيم‪ ،‬دمشق‪ ،‬وزارة الثقافة واإلرشاد القومي‪ ،1117 ،‬ص ‪.........‬‬
‫(‪ )314‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪154‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -1‬عالقات املدة أو الدميومة )‪ (Duration‬املتغرية بني هذه األحداث أو مقاطع‬


‫حكائية‪ ،‬واملدة الزائفة (طول النص) وعالقاهتا يف احلكي‪ :‬عالقة السرعة اليت هي‬
‫موضوع مدة احلكي‪.‬‬
‫‪ -1‬عالقات التواتر )‪ (Frequency‬بني القدرة على التكرار يف القصة واحلكي‬
‫معاً‪.‬‬

‫فجنيت باختصار يبحث يف نوعية العالقة بني القصة (املدلول) واخلطاب‬


‫(الدال) من خالل ثالثة مستويات سنعتمدها يف استجالء مقولة الزمن يف الرواية التارخيية‬
‫موضوع الدراسة‪ ،‬فتصبح املستويات على هذا النحو‪:‬‬
‫الرتتيب‪ :‬االسرتجاع‪ ،‬االستباق‪.‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫ب‪ -‬املدة‪ :‬التسريع (حذف‪ ،‬خالصة) والتبطيء (رمبا مشهد حواري‪ ،‬وقفة وصفية)‪.‬‬
‫جـ‪ -‬التكرار‪( :‬سرد إفرادي‪ ،‬تكرار حدث‪ ،‬تكرار سرد)‪.‬‬

‫مع األخذ بعني االعتبار أن الزمن يف الرواية التارخيية له خصوصية‪ ،‬فاملادة األولية‬
‫أي تسريع أو تبطيء أو استباق أو‬
‫للرواية هي أصالً تاريخ مثبت ومألوف وحمصور‪ ،‬وإن ّ‬
‫اسرتجاع أو تكرار البد له ما يربره‪ ،‬ألن األصل مدرك قبالً‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أ‪ -‬الترتيب )‪(Order‬‬


‫إن دراسة الرتتيب الزمين لعمل قصصي ما‪ ،‬منوطة قبالً مبراقبة ترتيب األحداث‬
‫وتنظيمها ترتيباً زمنياً مراقبة تقارن بني الزمن الكرونولوجي للمادة موضوع السرد وبني‬
‫املادة املسرودة (احملدثة) الحقاً‪ ،‬و"األصل يف املتواليات احلكائية أهنا تأيت وفق تسلسل‬
‫زمين متصاعد يسري بالقصة سرياً حثيثاً حنو هنايتها املرسومة يف ذهن الكاتب‪ ،‬على أن‬
‫استجابة الرواية هلذا التتابع الطبيعي يف عرض األحداث حالة افرتاضية أكثر مما هي‬
‫واقعية‪ ،‬ألن تلك املتواليات قد تبتعد كثرياً أو قليالً عن اجملرى اخلطي للسرد فهي تعود إىل‬
‫الوراء لتسرتجع أحداثاً تكون قد حصلت يف املاضي أو على العكس من ذلك تقفز إىل‬
‫األمام لتستشرف ما هو آت أم متوقع من األحداث ويف كلتا احلالتني نكون إزاء مفارقة‬
‫زمني ة توقف اسرتسال احلكي املتنامي وتفسح اجملال أمام نوع من الذهاب واإلياب على‬
‫حمور السرد انطالقاً من النقطة اليت وصلتها القصة"(‪ .)116‬هذا االقتطاع الطويل يلخص‬
‫مبدأ الرتتيب بوضوح‪ ،‬عندما ينذرنا بأن زمن السرد زمن خملخل إذا ما قورن بزمن القصة‬
‫احلقيقي متأرجح "يعادل هبا تأرجح العقل إىل األمام واخللف يف الزمن مع حركة اللغة إىل‬
‫األمام"(‪ )115‬ونقطة البداية يف العمل السردي هي نقطة الثبات األساسية يف العمل بل‬
‫هي نقطة االرتكاز اليت يتجه الكاتب منها حنو اخللف (املاضي) أو األمام (املستقبل)‪،‬‬
‫فيتحقق اهلدف من املفارقة الزمنية وهو "نقل تأثري زمن حاضر منتشر يكون كل من‬
‫املاضي واملستقبل جزءاً منه بدالً من تدرج زمين منتظم ألحداث مستقلة غري‬
‫متصلة"(‪ )111‬فينحكم توارد األحداث وتتابعها إىل قضيتني أساسيتني يف الرتتيب مها‪:‬‬

‫(‪ )315‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.111‬‬


‫(‪ )316‬أ‪ .‬مندالو‪ :‬الزمن والرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫(‪ )317‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.211‬‬

‫‪156‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫* االسرتجاع )‪.(Analepsis‬‬
‫* االستباق )‪.(Prolepsis‬‬

‫‪ -1‬السترجاع )‪:(Analepsis‬‬
‫وهو خمالفة صرحية لسري السرد يكون بعودة راوي السرد وحمركه إىل حدث (يف‬
‫عُرف املضمون) سابق‪ ،‬يهدف إىل استعادة أحداث ماضية أمهل السرد ذكرها لسبب أو‬
‫آلخر‪ ،‬وحبسب املادة املعاد إليها تنكشف أنواع االسرتجاع أكانت داخلية أم خارجية‬
‫"إن كل عودة للماضي تشكل بالنسبة للسرد استذكاراً يقوم به ملاضيه اخلاص‪ ،‬وحييلنا من‬
‫خالله إىل أحداث سابقة عن النقطة اليت وصلتها القصة"(‪ ،)111‬فاالسرتجاع هو ذاكرة‬
‫النص أو مفكرة السرد‪.‬‬
‫والتساؤل الذي يطرح نفسه‪ ،‬ملاذا يعود السارد إىل حدث قصد إمهاله أصالً؟‬
‫أليس من املنطقي أن يعيد السرد ذاكراً احلدث يف مكانه الصحيح؟ من هنا تربز قضية‬
‫اخلطاب فاخلطاب األديب ال شك أن بتصرفه املقصود مبثل هذه القضايا يكسب العمل‬
‫خصوصية تقيه شر التسجيل‪ ،‬فيتجاوز الصدق احلقائقي الصدق الفين للعمل‪ ،‬إن قضية‬
‫العودة إىل حدث ما يف الرواية ال يكون بالضرورة نسيانا له مث تذكراً‪ ،‬بل إن الوعي الفين‬
‫أثناء السرد هو الذي حيتم على السارد جتاهل أحداث يف أوقاهتا مث العودة إليها يف الوقت‬
‫الذي يراه مناسباً‪ ،‬فمثالً قد يكون التواصل احلدثي لسرد قضية ما يتطلب من الكاتب‬
‫جتاهل بعض األحداث األخرى اليت ميكن أن تعيق إمتام هذا احلدث ومن مث استذكاره‬
‫جمدداً‪.‬‬

‫(‪ )311‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ :‬ص ‪.121‬‬

‫‪157‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫كما أن تزامن األحداث يتطلب منا ذكر حدث قبل آخر ومن مث العودة إىل‬
‫هذا اآلخر يف موعد الحق الستحالة سرد احلدثني معاً‪ .‬وقد تعكس تقنية االسرتجاع‬
‫هوى ما يف نفس السارد يعيد فيه ترتيب األحداث اليت يظن أن األفضل أن تكون عليه‬
‫هكذا‪ ،‬وميكننا أن نتعامل معه ضمن التصنيف التايل‪:‬‬
‫أ‪ -‬السترجاع الداخلي )‪ :(Internal Analepsis‬و"هو الذي يستعيد‬
‫أحداثاً وقعت ضمن زمن احلكاية أي بعد بدايتها وهو الصيغة املضادة لالسرتجاع‬
‫اخلارجي"(‪ )110‬ومن أبرز وسائله التذكر (التداعي)‪ ،‬وهذا مثال من رواية "أرض‬
‫السواد" يوضح ذلك‪:‬‬
‫"في اليوم األول استراح سيد عليوي‪ ،‬وخالل هذه الستراحة‬
‫استعاد الماضي كلَّه ّ‬
‫تذوق‪ ،‬من جديد طعم اإلهانات التي تلقاها‬
‫من سعيد‪ :‬العتقال ثم إصدار حكم اإلعدام‪ ،‬والتهديد بالتنفيذ‬
‫كل يوم ثم تدخل الباليوز لتخفيف حكم اإلعداد‪ ،‬وكيف رفض‬
‫سعيد أول مرة‪ ،‬ورفض في المرة الثانية‪ ،‬وأخيرا حين وافق‬
‫مضطرا‪.)32 ("..‬‬
‫فاآلغا سيد عليوي يتذكر ما حدث معه ومسرتجعاً أحداثاً تعود إىل ما بعد نقطة‬
‫البداية يف الرواية‪ ،‬وهنا متنحنا هذه التقنية الزمنية حلظة تنوير يف حياة هذه‬
‫يتسن للسارد إيضاحها يف وقتها حىت ال يقطع وترية السرد آنذاك‪.‬‬‫الشخصية مل ّ‬
‫وقد يلجأ السارد إىل االسرتجاع اخلارجي بنية التفسري وإثراء املعرفة يف جانب ما‬
‫يقول السارد يف رواية "أرض السواد" بعد مقتل سعيد باشا حاكم بغداد بقصد‬
‫التوضيح‪:‬‬

‫(‪ )311‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.21‬‬


‫(‪ )321‬أرض السواد‪.35/1 :‬‬

‫‪151‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫" فحين انصرف سعيد باشا للعناية بحمادي‪ ،‬أخذ أكثر جنود القلعة‬
‫يفكرون ويخططون للنجاة بأرواحهم‪ ،‬بدأ األمر بشكل فردي‬
‫(‪)321‬‬
‫وسري‪ ،‬ثم اتسع ‪"..‬‬
‫فالسارد هنا مهتم بتفسري وتأويل أسباب اهلزمية اليت فين هبا سعيد باشا حاكم‬
‫بغداد ومن مث خلعه من احلكم‪.‬‬
‫ويف ثالثية غرناطة تكثر حاالت االسرتجاع الداخلي‪ ،‬رمبا ألن الذاكرة ما زالت‬
‫متعلقة باملاضي (األرض املسلوبة)‪ ،‬ورمبا ألن املكان بدأ يتغري تباعاً فما وجدت‬
‫الذاكرة مناصاً من االستعانة باملاضي‪:‬‬
‫"في شهور لحقة كان سعد يستحضر تلك اللحظات كثيرا‪ ،‬ل‬
‫يستحضر الركض المحموم ول خطواته الحائرة في طرق جبلية‬
‫يجهلها ويتوغل فيها خائف ا وجائع ا‪ ،‬ول القبض عليه بعد ذلك بأربعة‬
‫أيام‪ ،‬بل كان يستحضر ذلك النهر البشري المتدفق بحذاء سور‬
‫القلعة الحجري يصعد ثم يهبط" (‪.)322‬‬
‫ويف رواية رادوبيس يستمر التداعي ماثالً كأسلوب من أساليب االسرتجاع‪:‬‬
‫"يا ما أجمل الذكريات! ذكرت العيد الماضي (رادوبيس)‪ ،‬يوم اعتلت هودجها‬
‫الفاخر وشقت به الحشد الكبير لترى فرعون الشاب‪ ،‬ولما وقعت عيناها عليه‬
‫خفق قلبها وهي ل تدري‪ ،‬وأحست بدبيب الحب غريبا لطول عهدها‬
‫بالجفاء‪ ،‬فحسبته قلقا غاضب ا أو نفثة ساحر‪ ،‬ذاك اليوم الخالد حين خطف‬
‫النسر صندلها! ولم يكد يبدأ اليوم الثاني حتى زارها فرعون‪ ،‬ومن ثم زار قبلها‬
‫الحب وتغيرت حياتها وتغيرت الدنيا جميعها"(‪.)323‬‬

‫(‪ )321‬الرواية‪.54/1 :‬‬


‫(‪ )322‬الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬
‫(‪ )323‬الرواية‪ ،:‬ص ‪.215‬‬

‫‪151‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وهذا االسرتجاع الداخلي احلاصل على لسان رادوبيس مل يظهر يف وقته احلقيقي‬
‫إذ مل يفرج عنه الراوي إال يف الصفحات األخرية من الرواية علماً أن موضعه‬
‫املفرتض سيكون يف الصفحة الثانية عشرة عندما جتمهر الناس ملشاهدة موكب‬
‫فرعون‪ ،‬وقد كان حجب هذه املعلومة اليت وردت الحقاً يف الصفحة اخلامسة بعد‬
‫املئة الثانية يف حمله‪ ،‬ألن تسارع احلدث يف بداية الرواية كان تسارعاً تأسيسياً ال‬
‫جمال لذكر املعلومة اخلاصة قبل أن يضع هلا الراوي إطاراً تتفاعل من خالله‪ ،‬ولو‬
‫أن الراوي أفصح عن هذه املشاعر باكراً خلسرت رادوبيس من شخصيتها اجلبارة‬
‫اآلسرة الشيء الكثري ورمبا ألظهرت مظهراً منطياً ال تقصده إرادة الكاتب البتة‪.‬‬
‫إن فائدة الكشف باالسرتجاع عن مثل هذا األمر يعطينا عمقاً يف تطور احلدث‪،‬‬
‫وحتوالً يف الشخصية بني املاضي واحلاضر‪.‬‬

‫ب‪ -‬السترجاع الخارجي )‪ :(External Analepsis‬هو ذاك الذي يستعيد‬


‫أحداثاً تعود إىل ما قبل بداية احلكاية(‪ .)119‬وهذا النمط من االسرتجاع أكثر ما‬
‫يكون يف الروايات اليت تعاجل فرتة زمنية حمدودة‪ ،‬إذ البد من إضاءة هذه الفرتة من‬
‫خالل عقد التواصل مع فعاليات حديثة خارج اإلطار العام لزمن القصة‪" ،‬فكلما‬
‫ضاق الزمن الروائي شغل االسرتجاع اخلارجي حيزاً أكرب"(‪.)116‬‬
‫كما أن هذا النمط من االسرتجاع "مينح الكثري من الشخصيات احلكائية املاضية‬
‫فرصة احلضور واالستمرارية يف زمن السرد احلاضر باعتبارها‬

‫(‪ )324‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫(‪ )325‬سيزا قاسم‪ :‬بناء الرواية‪ ،‬ص ‪.41‬‬

‫‪161‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫شخصياته حمورية وأساسية"(‪ )115‬كاستحضار صورة األم املتوفاة قبل البدء الفعلي‬
‫للقصة‪ ،‬ومن رواية "احلجاج بن يوسف الثقفي" نرصد االسرتجاع اخلارجي التايل‪:‬‬
‫"كان عبد اهلل بن الزبير بن العوام من كبار الصحابة‪ ،‬وكان قد رفض‬
‫مبايعة ليزيد بن معاوية كما رفضها الحسين بن علي‪ ،‬وخرجا من‬
‫المدينة إلى مكة‪ ،‬ودعا كل منهما إلى بيعته هو‪."..،‬‬
‫فهذا االسرتجاع خارجي‪ ،‬ألنه يقدم معلومة سبقت البداية احلقيقية للرواية‬
‫واهلدف منه رسم صورة مكتملة عن شخصية عبد اهلل بن الزبري الرئيسية يف هذه‬
‫الرواية‪ ،‬وقد اسرتجع جرجي زيدان هذه املعلومة بأسلوب إخباري تارخيي مباشر‬
‫بعيداً عن أي اعتبارات فنية هلذه الرواية‪.‬‬
‫وقد يأخذ االستحضار اخلارجي منط املونولوج فالشخصية تستدعي أمراً يؤرقها‪،‬‬
‫كما خطر هذا اخلاطر يف نفس أيب جعفر يف رواية ثالثية غرناطة‪:‬‬
‫"ولما ذهب المنادي وانفرط الحشد‪ ،‬وجد أبو جعفر نفسه يسير وحيدا في‬
‫برد الشارع ل يقصد مكانا بعينه بل تحمله قدماه اللتان تألفان الطرقات يقول‬
‫لنفسه هذا المنحوس ليس أولهم ول آخرهم يقول سيذهب عبد اهلل ولن‬
‫يخلفه‪ -‬منحوس أو غير منحوس‪ -‬سوى ملوك الروم‪ ..‬ألم يعقد السلطان‬
‫ط وأسوأ مع القشتاليين وجاء السلطان األيسر وألغى‬ ‫يوسف المول معاهدة أح ّ‬
‫المعاهدة وحاربهم"(‪.)327‬‬
‫فأبو جعفر يستحضر من تاريح األندلسيني حوادث ميكن أن تنطبق على واقعهم‬
‫املر بعد أن َوقَّ َع ملك غرناطة العريب وثيقة اخلضوع‪ ،‬فأسعف أبو جعفر نفسه‬
‫ّ‬
‫بالتذكر واستدعى املاضي البعيد علّه يكون قريباً‪.‬‬

‫(‪ )326‬مها قصراوي‪ :‬الزمن في الرواية ‪ ،‬رسالة جامعية غير منشورة‪ ،‬الجامعة األردنية‪ ،2112 ،‬ص‬
‫‪.113‬‬
‫(‪ )327‬الرواية‪ :‬ص ‪.13‬‬

‫‪161‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫جـ‪ -‬السترجاع التلقائي )‪ :(Automatic Analepsis‬وهو ذلك النوع من‬


‫االسرتجاعات اليت ينحكم إليها السارد طوعاً لتوضيح أمر عاجل حان وقته‪ ،‬فال‬
‫يشعر املتلقي بتغري سريورة السرد‪ ،‬ألن االسرتجاع يكون إمتاماً لوتريته وليس‬
‫إيقافاً لذلك‪ ،‬وهذا النوع من االسرتجاع ال يتعارض مع النوعني السابقني‪،‬‬
‫فاالسرتجاع التلقائي قد يكون يف الوقت نفسه داخلياً أو خارجياً بناء على‬
‫املعلومة اليت يرصدها‪ .‬ومن األمثلة املرصودة على هذا النمط االسرتجاع املخطوط‬
‫حتته يف االقتطاع التايل من "أرض السواد"‪:‬‬
‫" ما كادت هذه الغمة تنقضي‪ ،‬وقبل أن يستقر الوضع لعلي باشا‪،‬‬
‫حتى بدأ الغزو الوهابي‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬كما يروي التاريخ‪ .‬وإذا كانت‬
‫لكل حرب أسبابها وذرائعها فقد اعتبر المال عثمان الذريعة فهذا‬
‫الرجل الذي قتلت زوجته وأولده أمام عينيه في أثناء غزو كربالء‪،‬‬
‫( ‪)32‬‬
‫قرر أن ينتقم‪"..‬‬
‫فهم‬
‫فاحلرب وقعت وكان البد من ذكر السبب وذكر السبب حيتاج إىل اسرتجاع‪ّ ،‬‬
‫السارد بذكر السبب املتمثل باملالّ عثمان‪ ،‬فجاء االسرتجاع تلقائياً‪ .‬ومثل ذلك ما‬
‫حدث مع "نعيم" أحد شخصيات رواية "ثالثية غرناطة" عندما حتايل على سيده‬
‫القس للخروج كل يوم حبجة تعلم لغة املنطقة ليساعده يف فهمها وكان هدفه‬
‫احلقيقي رمبا مالقاهتا وفعالً سوف يراها كل يوم‪ ،‬فإذا وقف الكالم هنا سيشعر‬
‫القارئ بأن الكالم مبتور والبد من معرفة هذه الشخصية الطارئة اليت سوف‬
‫يقابلها "نعيم" فكان االسرتجاع وسيلة لذلك‪:‬‬

‫(‪ )321‬الرواية‪.11 /1 :‬‬

‫‪162‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫"كان نعيم قد التقى بها قبل أسبوعين‪ ،‬كان يستحم في جدول‬


‫خلف الدار فإذا بها تمر بالقرب منه‪ .‬استحى من عريّه وغمر نفسه‬
‫في الماء ثم عاد وأطل برأسه‪ ،‬وجدها واقفة تتطلع إليه‪ ،‬كان لها‬
‫قسمات منحوتة واضحة‪ ،‬وجه أسمر يميل إلى استدارة وجبين واسع‬
‫وعينان سوداوان‪ ..‬لم تكن صبية بل امرأة‪ ،‬ربما في الثالثين من‬
‫عمرها‪.)32 ("..‬‬
‫السترجاع القسري )‪ :(Compulsory Analepsis‬وهو اسرتجاع‬ ‫د‪-‬‬
‫يشعرنا بسطوة الراوي وحتكمه يف سري األحداث‪ ،‬ويكون عندما ينقلنا الراوي‬
‫فجاءة ودون سابق إنذار حنو معلومة ماضوية قصد إمهاهلا وحان دورها‪ ،‬كأن يبدأ‬
‫أحد املشاهد باحلديث عن تاريخ إحدى الشخصيات اليت بدت مألوفة لدى‬
‫القارئ حلضورها املبكر يف الرواية‪ ،‬وهذا االسرتجاع قد ينطبق على االسرتجاعني‬
‫الضد من االسرتجاع التلقائي‪ ،‬وهو حتماً ليس‬
‫الداخلي واخلارجي‪ ،‬ولكنه على ِّ‬
‫حكماً على هذا النوع من االسرتجاع بالسلبية أو االجيابية بقدر ما هو وصف‬
‫آللية االستخدام‪ ،‬ويف املثال التايل من "أرض السواد" يفاجئنا الراوي بعرض‬
‫معلومات ماضوية عن شخصية "ناهي زبانة" وهي شخصية ثانوية عندما دخل‬
‫على روجينا ليحقق معها‪:‬‬
‫"‪ ..‬وتصر على اإلنكار‪ ،‬إلى أن دخل عليها ناهي زبانة‪( .‬استرجاع)‪،‬‬
‫وناهي الذي ارتبط بالسراي منذ زيارته األولى لبغداد‪ ،‬بعد أن‬
‫تعرض هو وبطرس يعقوب لعتداء‪ ،‬إثر خروجهما من قهوة الشط‪،‬‬
‫تخلى بالكامل عن اآلغا‪ ،‬وأخذ يعمل مع السراي‪ ،‬وقد أبلغ عن كل‬
‫شيء وبالتفصيل‪.‬‬

‫(‪ )321‬الرواية‪ :‬ص ‪.212‬‬

‫‪163‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫(مواصلة) حني دخل ناهي‪ ،‬ورأى روجينا غارقة بدموعها‪ ،‬قال هلا بطريقة تقريرية‬
‫باردة‪ :‬ترى اجلماعة يعرفون كل شيء‪."..‬‬
‫وإقحام املعلومة املخطوط حتتها يظهر قسريتها‪ ،‬فاملشهد قد يكتمل دون هذه‬
‫املعلومة اليت كان املمكن إيرادها الحقاً أو سابقاً ولكن السارد أوردها قسراً عندما‬
‫سر تعاون روجينا (حليفة اآلغا) مع قوات‬ ‫شعر أنه حان وقتها فتفسر للقارئ ّ‬
‫الباشا حاكم بغداد بطريقة مفاجئة‪.‬‬

‫هـ‪ -‬استرجاع اعتباطي )‪ :(Arbitrary Analepsis‬وهو اسرتجاع مفاجئ‪،‬‬


‫ال مربر له‪ ،‬وال حيمل قيمة فنية‪ ،‬وال يطرح معلومة متممة‪ ،‬وال يؤثر حذفها يف‬
‫سري احلدث‪ ،‬أو أن طريقة عرضها كانت مباشرة وغري منسجمة مع فنية العمل‪.‬‬
‫كاللغة التقريرية اليت يطرحها االسرتجاع التايل من رواية "احلجاج بن يوسف‬
‫الثقفي" يف احلديث عن ليلي األخيلية الشاعرة اليت كان قدمها الراوي يف وقت‬
‫سابق مث عاد يف هناية احلديث عنها ليعرض معلومات فائضة عن احلاجة الفنية‪،‬‬
‫ولكنها قد حتقق حاجة تعليمية مضمرة يف ذهن املؤلف‪:‬‬
‫"كانت ليلى األخيلية شاعرة بارعة كما تقدم‪ ،‬وكانت تفد على‬
‫الملوك واألمراء تمدحهم وتنال منهم الرعاية والجوائز‪ .‬وكانت قد‬
‫وفدت على عبد الملك بن مروان في ذلك العام فامتدحته‪ ،‬ثم‬
‫سارت إلى خالد فعهد إليها في البحث عن رملة واستيصافها من‬
‫عزة‪.)33 (" ..‬‬
‫فهذه املعلومات اليت تدفقت يف هذا املوضع عن شخصية ثانوية يف الرواية مل حيتج‬
‫إليها يف تفسري بعض احلوادث أو إكمال مشهد من املشاهد غري‬

‫(‪ )331‬الرواية‪ :‬ص ‪.21‬‬

‫‪164‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫املكتملة يف أذهاننا‪ ،‬بل إن احلديث بعد هذا املوضع عن هذه الشاعرة سينتهي من‬
‫الرواية كلياً بعد إمتام هذا االسرتجاع غري املربر‪.‬‬
‫واالسرتجاع‪ -‬فيما سبق ذكره‪ -‬مينح العمل السردي قيماً ووظائف متنحه‬
‫استقاللية تقنية‪ ،‬فهو يس ّد الثغرات اليت خيلفها السرد ويوضح ويفسر إذا ما لزم‬
‫األمر‪ ،‬ويتوىل التعريف بشخصية سبق احلديث عنها دون توضيح لسماهتا أو‬
‫معاملها‪ ،‬كما أن االسرتجاع ينّور اللحظة احلاضرة يف حياة الشخصية وفعلها من‬
‫خالل استعادة املاضي‪ ،‬كما خيلصنا من الرقابة ويكشف عمق التطور يف احلدث‪،‬‬
‫والتحول يف الشخصية بني ماضيها وحاضرها‪ُّ .‬‬
‫ويعد االسرتجاع أكثر شيوعاً من‬
‫االستباق‪ ،‬ألنه يتوغل يف املاضي يف أكثر من جهة فيكمل الصورة الشخصية‬
‫وأحداثها‪ ،‬كما أن فعل رواية األحداث فعل خيتص فيما مضى أكثر من‬
‫اختصاصه فيما سيحدث‪ ،‬فالرواية سرد للماضي أوالً‪.‬‬

‫الستباق )‪ :(Prolepsis‬وهو "خمالفة لسري زمن السرد تقوم على جتاوز‬ ‫‪-1‬‬
‫حاضر احلكاية وذكر حدث مل حين وقته بعد"(‪ )111‬وهو مفارقة زمنية تتجه إىل‬
‫االمام تصور حدثاً مستقبلياً سيأيت فيما بعد(‪ ،)111‬وهو على الض ّد من‬
‫االسرتجاع )‪ ،(Anaiepsis‬واالستباق هو "القفز على فرتة زمنية معينة من‬
‫زمن القصة‪ ،‬وجتاوز النقطة اليت وصلها اخلطاب الستشراف مستقبل األحداث‬
‫والتطلع إىل ما سيحصل من مستجدات الرواية"(‪ )111‬واالستباق يف نظر جريار‬
‫جنيت "هو احلكاية التكهنية‪ ،‬بصيغة املستقبل عموماً‪ ،‬ولكن‬

‫(‪ )331‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬


‫(‪ )332‬موريس أبو ناضر‪ :‬األلسنية والنقد األدبي‪ ،‬دار النهار‪ ،‬بيروت‪ ،1171 ،‬ص ‪.16‬‬
‫(‪ )333‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.132‬‬

‫‪165‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ال شيء مينع من إجنازها بصيغة احلاضر"(‪ )119‬ويتمتع بانتشار أديب أقل من‬ ‫‪-1‬‬
‫األمناط األخرى‪ .‬ومن خصائص هذه التقنية "هو كون املعلومات اليت يقدمها ال‬
‫تتصف باليقينية‪ ،‬فما مل يتم قيام احلدث بالفعل‪ ،‬فليس هناك ما يؤكد‬
‫حصوله"(‪ )116‬فاالستباق حالة من االنتظار‪ ،‬والتوقع تسيطر على املتلقي أثناء‬
‫القراءة‪ .‬أما أنواعه حسب الوظيفة اليت يؤديها فهي نوعان‪ :‬متهيدي وإعالين‪.‬‬

‫أ‪ -‬الستباق التمهيدي )‪ :(Preparatory Prolepsis‬هو حدث أو‬


‫ملحوظة أو إحياء أويل ميهد حلدث أكرب منه سيقع الحقاً‪ ،‬وقد يأخذ شكل حلم‬
‫أو حدث عابر جمزوء‪ .‬واملثال التايل من "أرض السواد يقدم متهيداً ولو باإلحياء إىل‬
‫أن أمراً خطرياً سيلّم بـ "بدري" أحد ضباط جيش اآلغا يف كركوك أثناء إعداد هذا‬
‫األخري حركة انقالب على وايل بغداد داود باشا‪:‬‬

‫"بعد تأكد اآلغا من انقطاع عالقة بدري بالسراي‪ ،‬أوعز لمرافقه‪،‬‬


‫حامد أن يتابع الرحلة معه‪ ،‬ليس فقط بإحطاته بجو من الو ّد والثقة‪،‬‬
‫بل ومحاولة كسبه ليكون من رجال الشمال‪ ،‬كما أصبحوا يطلقون‬
‫على هذه المجموعة"(‪.)336‬‬

‫مث عرض عليه حامد االلتحاق معهم للتمرد على داود باشا فلم يستجب بدري‬
‫وأراد أن يكون حيادياً فقتل يوم زفافه قبل أن يرى عروسه‪ ،‬وقد كان الراوي‬
‫حريصاً على إيالء اللحظات واأليام اليت سبقت وصول‬

‫(‪ )334‬جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.231‬‬


‫(‪ )335‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.133-132‬‬
‫(‪ )336‬الرواية‪.36/2 :‬‬

‫‪166‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫عروسه مبنتهى الدقة حىت شعرنا بعظم اخلطر الذي ينتظره(‪ ،)111‬فكان ذلك‬
‫مبثابة توطئة ملا سيأيت من أحداث رئيسية وهامة فخلَّفت هذه األحداث حالة من‬
‫التوقع واالنتظار يف نفوس املتلقني‪.‬‬
‫وقد يكون االستباق التجريدي على شكل حلم متر به إحدى الشخصيات‬
‫ليكون تفسريه ماثالً يف أحداث ستقع‪ ،‬وقد استخدمت رضوى عاشور هذه‬
‫التقنية غري مرة يف ثالثيتها‪ ،‬وكان ذلك يف بداية الرواية عندما حلم أبو جعفر‬
‫بامرأة عارية تنحدر يف اجتاهه من أعلى الشارع كأهنا تقصده‪ ،‬اقرتبت فتأكد أهنا‬
‫ليس ت ماجنة أو خممورة بل صبية بالغة احلسن‪ ،‬سرتها مبلفه الصويف ولكنها‬
‫(‪)111‬‬
‫واصلت املسري‪ ،‬مث شاهد طيفها وهي ميتة طافية اجلثة على مياة هنر شنيل‬
‫وقد كانت هذه الرؤية متهيداً يبشر بسقوط غرناطة‪ ،‬وبدء عصر جديد من احملن‬
‫والقهر‪.‬‬
‫ويف موضع آخر يف الرواية نفسها(‪ )110‬كان موت ظبية سليمة اليت أهداها زوجها‬
‫سعد هلا‪ ،‬إيذانا حبدث حزين وهو موت طفلها الذي ستنجبه بعد أيام‪:‬‬

‫"‪ ..‬ولكن الطفل الذي وضعته سليمة أسلم الروح بعد أسبوعين من‬
‫ولدته فعرفت أم جعفر أن موت الظبية كان عالمة أو إشارة وأن اهلل‬
‫في سمائه له حكمة تجل عن الفهم"( ‪.)34‬‬

‫فهذا التطور املؤمل سبقته إشارة موحية منحت املتلقي إحساساً بأن شيئاً ما‬
‫سيحدث‪.‬‬

‫الرواية‪.251/2 :‬‬ ‫(‪)337‬‬


‫الرواية‪ ،‬ص ‪.11 ،1‬‬ ‫(‪)331‬‬
‫ص ‪.111-117‬‬ ‫(‪)331‬‬
‫الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫(‪)341‬‬

‫‪167‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ب‪ -‬الستباق اإلعالني )‪ :(Declrative Prolepsis‬وهذا النوع من‬


‫االستباق يضطلع مبهمة إخبارية حامسة تطرح بشكل مباشر حدثاً سيجري‬
‫تفصيله فيما سيأيت غري قابل للنقض أو امتناع احلدوث‪ .‬ويف رواية "احلجاج بن‬
‫يوسف الثقفي" نرصد هذا االستباق اإلعالين لإلخبار عن حدث سيجري‬
‫تفصيله الحقاً وهو حصار مكة املكرمة متهيداً لرمي عبد اهلل بن الزبري املتحلق‬
‫حول الكعبة وجنده باملنجنيق‪:‬‬
‫"ونصب الحجاج المنجنيق على جبل أبي قبيس المشرف على مكة‬
‫من جهة الشمال والشرق وكان ابن الزبير مقيما مع أهله بالمسجد‬
‫الحرام‪ ،‬ومعه جماعة من رجاله قد بايعوه حتى الموت وصبروا معه‬
‫صبر الرجال"(‪.)341‬‬
‫وبعد ثالث عشرة صفحة يأيت موعد هذا احلدث فيلقى من التفصيل حقه فكون‬
‫هذا االستباق استعداداً لدى القارئ ملتابعة أمر جلل أو حدث ستبىن عليه مجلة‬
‫من االعتبارات‪.‬‬
‫ومن أمناط االستباق اليت رصدت يف بعض الروايات أن بعض كتّاب الرواية ال‬
‫يكتفون برتقيم مشاهد رواياهتم بل إن بعضهم جلأ إىل وضع عناوين هلذه املشاهد‬
‫تكون يف بعضها كاشفة عن حمتواه املتوقع‪ ،‬وقد ظهر ذلك لدى جنيب حمفوظ يف‬
‫"رادوبيس" ولدى جرجي زيدان يف روايته "احلجاج بن يوسف الثقفي"‪ .‬ومن أمثلة‬
‫هذه العناوين‪ " :‬املفاجأة السارة‪ ،‬مسية يف منزل سكنية‪ ،‬القتل أو الزواج‪ ،‬رمي‬
‫الكعبة باملنجنيق‪ ،‬فشل ابن الزبري" ومثلها يف "رادوبيس"‪" :‬الرئيس اجلديد‪ ،‬طاهو‬
‫يهذي‪ ،‬فرتة االنتظار‪ ،‬هناية طاهو‪ ،‬األمل والسم" وغريها‪..‬‬

‫(‪ )341‬الرواية‪ ،‬ص ‪.12‬‬

‫‪161‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فاالستباق تقنية مت ّهد وتوطئ ملا سيأيت‪ ،‬أو قد يكون إعالناً عن إشارة صرحية‪ ،‬أو‬
‫أنه يوجه القارئ إىل متابعة تطور شخصية ما‪ ،‬أو مينح أمهية حلدث ما قصد‬
‫السبق إليه‪.‬‬
‫وبذلك تكون تقنيتا الرتتيب (االسرتجاع‪ ،‬االستباق) تقنيتني فاعلتني تثريان املظهر‬
‫اللفظي للرواية بدالالت ومعان جديدة‪ ،‬حتفزها اللحظة احلاضرة مبا تشتمل عليه‬
‫من شخوص وأحداث وأمكنة‪ ،‬أو حتفزه احلواس كالرائحة أو الصورة ورمبا اللون‬
‫فتطلب بذلك االستباق أو االسرتجاع وقد تلعب اللغة يف بعض األحيان دور‬
‫احملضر للتعامل مع إحدى هاتني التقنيتني‪ ،‬فلفظة ما نسمعها بطريقة ما حتيلنا إىل‬
‫ما مضى‪.‬‬
‫أما آليات االسرتجاع واالستباق فتتمثل بالتذكر أو املونولوج أو احلوار أو املذكرات‬
‫واالعرتافات ورمبا األحالم‪.‬‬

‫ب‪ -‬المدة ‪Duration‬‬


‫واملدة او االستغراق الزمين هو ذلك البند الذي يراقب‪ -‬باملقارنة بني القصة وزمن‬
‫السرد‪ -‬تسارع األحداث او تباطؤها ورمبا مجودها فهل استغرق حدث ما مدة‬
‫زمنية تتناسب مع طولـه الطبيعي أو ال تتناسب؟ وملاذ ال يكون هناك توافق دقيق‬
‫بني احلكاية والقصة من حيث الزمن املستغرق؟ وإذا افرتضنا حدوث ذلك فكيف‬
‫سيغدو هذا العمل املتواقت؟ أظن أن العمل سيحتاج لقراءته فرتة زمنية توازي‬
‫تلك الفرتة احلقيقية اليت نسجته‪ ،‬وأظن أيضاً أن السارد سيغدو مسجالً من طراز‬
‫رفيع ال تفوته فائته‪ ،‬وهذا مينحنا "ضرباً من التساوي بني املقطع السردي واملقطع‬
‫القصصي"(‪ ،)191‬ويف احلقيقة أن "البناءات الزمنية هي‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬من‬

‫جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫( ‪)342‬‬

‫‪161‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫التعقيد املضين حبيث إن أمهر املخططات‪ ،‬سواء أكانت مستعملة يف حتضري‬


‫العمل األديب‪ ،‬أو يف نقده‪ ،‬ال ميكن أن تكون إال خمططات تقريبية عادمة‬
‫اإلتقان"(‪ )191‬ولن تكون مطابقة يف أي حال من األحوال‪.‬‬
‫من هنا كان لزاماً علينا حىت ننجح يف رصد التسارعات أو تأخرها عن نقطة‬
‫الصفر أن نقارن بني الزمن احلقيقي للقصة (األحداث كما يفرتض أهنا وقعت)‬
‫والزمن السردي احملدث "ولكي نستطيع درس الزمن يف دميومته‪ ،‬ونتمكن من‬
‫إيضاح األخطاء ينبغي لنا‪ ،‬يف الواقع أن نطبق على مدى معني‪ ،‬وأن نعتربه كأنه‬
‫مسافة علينا أن خنتارها"(‪.)199‬‬
‫وقد اقرتح "جريار جنيت" يف كتابه "خطاب احلكاية" جمموعة من التقنيات‬
‫الواصفة اليت تكشف البعد اإليقاعي لزمن الرواية من خالل مقارنته بزمن القصة‬
‫احلقيقي وهي‪:‬‬
‫أ‪ -‬تسريع السرد‪ :‬اخلالصة‬
‫احلذف (القطع)‬
‫ب‪-‬تعطيل السرد‪ :‬املشهد‬
‫الوقفة الوصفية (االسرتاحة)‬

‫أ‪ -‬تسريع السرد‬


‫وتسريع السرد يف أبسط معانيه هو ضمور يف زمن القصة مقابل الزمن السردي‬
‫اآلخر احملدث‪ ،‬حبيث خيتصر الزمن احلقيقي يف عبارة أو مجلة أو إشارة توحي بأن‬
‫زمنا ما قد أجنز ومت جتاوزه لسبب أو آلخر‪ ،‬إذ إن غاية‬

‫(‪ )343‬جان ريكاردو‪ :‬بحوث في الرواية الجديدة‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫(‪ )344‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.113‬‬

‫‪171‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫القصة هي بالتأكيد "أال حنتفظ سوى باملهم‪ ،‬أي ما كان ذا داللة‪ ،‬وما ميكنه أن حيل‬
‫طي الكتمان‪ ،‬فيظل‬ ‫حمل الباقي ألنه يدل عليه‪ ،‬وبالتايل نستطيع ترك الباقي ّ‬
‫الكالم عن األساسي‪ ،‬ومنر مرور الكرام على الثانوي"(‪ ،)196‬وتسريع السرد تقنيتان‬
‫تتوليان مهمة هذا التقدم املتجاوز للكثري من األحداث مها‪ :‬احلذف أو القطع‬
‫)‪ (Ellipsis‬واخلالصة أو امللخص )‪.(Summary‬‬

‫‪ -1‬الحذف أو القطع )‪ :(Ellipsis‬ويعد أكثر حاالت السرد سرعة وهو "تقنية‬


‫زمنية تقتضي إسقاط فرتة طويلة أو قصرية‪ ،‬من زمن القصة وعدم التطرق ملا جرى‬
‫فيها من وقائع وأحداث"(‪ )195‬فالقطع خيتصر كثرياً من املسافات بكلمات‬
‫بسيطة‪ ،‬كأن يقول السارد "ومرت سنتان" أو "وانقضى زمن طويل فعاد البطل من‬
‫غيبته"‪ ،‬وهذا القطع قد يغطي فرتة زمنية طويلة أو قصرية من زمن القصة احلقيقي؛‬
‫أي أن مقطعاً قصرياً من اخلطاب يغطي موضحاً طويالً من القصة احلقيقية‪.‬‬
‫ومن أسباب اللجوء إىل هذه التقنية هو زيادة متاسك السرد‪ ،‬حبذف ما ال خيدم‬
‫الرواية واملؤلف (السارد) هو من يتحكم بذلك وحسب املخطط الذهين الذي‬
‫يسري عليه‪ ،‬ويكثر استخدام هذه التقنية كلما كانت الرواية تغطي فرتة زمنية‬
‫طويلة‪ ،‬فيكثر حذف أحداث ال ختدم السرد‪ ،‬إذن تقوم هذه التقنية على مبدأ‬
‫االختيار وهي من لوازم السرد القصصي أكثر مما هي من لوازم السرد الوثائقي‪.‬‬

‫(‪ )345‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.112‬‬


‫(‪ )346‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.156‬‬

‫‪171‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وتقنية احلذف أو القطع تقنية برزت جراء استحالة سرد األيام واحلوادث بشكل‬
‫اف ودقيق‪ ،‬فال بد من احلذف بالقفز على فرتات زمنية معينة ميكن‬ ‫متسلسل و ٍ‬
‫العودة إىل بعضها باالسرتجاع )‪ (Analepsis‬وللحذف أو القطع ثالثة أنواع؛‬
‫املعلن‪ ،‬والضمين‪ ،‬واالفرتاضي‪.‬‬
‫‪ )I‬الحذف المعلن‪ :‬ويكون "بإعالن الفرتة الزمنية احملذوفة على حنو صريح‪،‬‬
‫سواء أجاء ذلك يف بداية احلذف كما هو شائع يف االستعماالت العادية‪،‬‬
‫أو تأجلت تلك املدة إىل حني استئناف السرد ملساره"(‪ )191‬ومثال ذلك ما‬
‫علي حفيد‬ ‫ورد يف رواية "ثالثية غرناطة" بعد أن انقطع السرد نتيجة تعرض ّ‬
‫العائلة للحبس مدة معلنة‪:‬‬
‫"غادر على بوابة السجن وقد انقضى "بعض الوقت" الذي قرره‬
‫لها‪ ،‬وكان قد أمضى في الحبس ثالث سنوات وخمسة شهور‬
‫( ‪)34‬‬
‫وأربعة أيام"‬
‫فهذا االنقطاع دام فرتة ليست بالقصرية من زمن القصة الذي يربو على املئة‬
‫عام‪ ،‬وإمجاالً فإن الروايات التارخيية جمربة على حتديد الفرتة الزمنية احملذوفة؛‬
‫ألهنا تعرض زمنا مثبت البداية والنهاية‪ .‬ونستحضر من "أرض السواد املثال‬
‫التايل عن القنصل الربيطاين "ريتش"‪:‬‬
‫" في النصف الثاني من حزيران عاد ريتش إلى بغداد‪ ،‬بعد أن قضى‬
‫ثالثة أشهر وبضعة أيام في رحلته إلى الشمال‪ .‬توقف بشكل متعمد‬
‫في خان بني سعد وقت ا إضافي ا‪ ،‬ريثما تستكمل كافة الترتيبات التي‬
‫تليق بعودته ودخوله‪ ،‬بعد هذا الغياب الطويل بالنسبة له‪ ،‬وأيض ا‬
‫( ‪)34‬‬
‫آلخرين كانوا ينتظرون هذه العودة"‬

‫(‪ )347‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.151‬‬


‫(‪ )341‬الرواية‪ :‬ص ‪.371‬‬
‫(‪ )341‬أرض السواد‪.16/2 :‬‬

‫‪172‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وما سبق قطع معلن مدته ثالثة أشهر وبضعة أيام وهي املدة اليت تغيب‬
‫فيها القنصل الربيطاين "ريتش" عن بغداد‪ ،‬صرف خالهلا الراوي نظره عن‬
‫متابعته مكتفياً بإعالمنا سبب هذا االنصراف‪ ،‬الذي قد يعود إىل‬
‫توضيحه‪ -‬الراوي‪ -‬فيما بعد‪.‬‬
‫‪ )II‬الحذف الضمني‪ :‬وهو ذلك احلذف األكثر شيوعاً يف األعمال الروائية‬
‫ويقابل احلذف املعلن‪" ،‬ويعترب هذا النوع من صميم التقاليد السردية‬
‫املعمول هبا يف الكتابة الروائية حيث ال يظهر احلذف يف النص‪ ،‬بالرغم من‬
‫حدوثه‪ .‬وال تنوب عنه أية إشارة زمنية أو مضمونية‪ ،‬وإمنا يكون على‬
‫القارئ أن يهتدي إىل معرفة موضعه باقتفاء أثر الثغرات واالنقطاعات‬
‫احلاصلة يف التسلسل الزمين الذي ينتظم القصة"(‪ .)169‬من هنا تربز‬
‫صعوبة إعطاء أمثلة ملموسة للحذف الضمين يف الرواية وسنحاول يف‬
‫املقطع التايل من رواية "رادوبيس" استجالء احلذف الضمين غري املعلن‪:‬‬
‫"وضاق الملك ذرعا برأي سوفخاتب‪ ،‬وأحس بوحشة في‬
‫جناحه الخاص‪ ،‬فهرع إلى قصر بيجة الذي ل تالحقه الوحشة‬
‫إليه قط‪ .‬وكانت رادوبيس تجهل ما دار في الجتماع األخير‪،‬‬
‫فكانت أدنى إلى الطمأنينة منه‪ ،‬ولكنها لم تلق صعوبة في قراءة‬
‫(‪)351‬‬
‫الحساس‪"..‬‬
‫صفحة وجهه ّ‬

‫هذا املقطع يبدو ألول وهلة متماسكاً رقراقاً ال حذف فيه ولكنه يف حقيقة‬
‫األمر قد ذكر أبرز األحداث اليت أخذت وقتا ال يقل عن‬

‫(‪ )351‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.162‬‬


‫(‪ )351‬رادوبيس‪ :‬ص ‪.111‬‬

‫‪173‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫نصف يوم يف أربعة أسطر‪ ،‬فال شك أن بني ضيق امللك ووحشته جبناحه اخلاص‬
‫يف بيجة أحداثاً ُحذفت‪ ،‬ومل يعلن عنها بل جاءت ضمنية‪ ،‬وبني ذهابه إىل‬
‫قصر بيجة ولقائه برادوبيس أحداثاً صغرى ال تستحق الذكر بل حذفت‬
‫ضمنياً دون إعالن‪ .‬إن تقنية احلذف الضمين شائعة يف أصناف العمل‬
‫السردي؛ ألهنا تتطلبه لشد أوصال احلدث‪.‬‬
‫وقد يأخذ احلذف الضمين شكالً آخر‪" ،‬مثل السكوت عن فرتة ما من‬
‫حياة شخصية ووضعها يف الظل ريثما جيري تقدمي شخصية أو استعراض‬
‫حدث طارئ‪ ..‬اخل‪ ،‬وطبيعي أن حتدث بسبب ذلك فجوة زمنية كبرية هبذا‬
‫القدر أو ذاك‪ ،‬وجمموعة مبا يكفي ليجعل القارئ ال يتفطن إىل وجودها إال‬
‫بعد حتميص ومراجعة"(‪.)161‬‬
‫‪ )III‬الحذف الفتراضي‪" :‬ويأيت يف الدرجة األخرية بعد احلذف الضمين‬
‫ويشرتك معه يف عدم وجود قرائن واضحة تسعف على تعيني مكانه أو‬
‫الزمن الذي يستغرقه‪ ،‬وكما يفهم من التسمية اليت يطلقها عليه جنيت‪،‬‬
‫فليس هناك من طريقة مؤكدة ملعرفته سوى افرتاض حصوله باالستناد إىل ما‬
‫قد نالحظه من انقطاع يف االستمرار الزمين للقصة مثل السكوت عن‬
‫أحداث فرتة من املفرتض أن الرواية تشملها‪ ..‬أو إغفال احلديث عن‬
‫جانب من حياة شخصية ما"(‪ ،)161‬ولكن البد من التنبه إىل أن هذه‬
‫الدالئل اليت تقودنا إىل افرتاض بوجود احلذف فإهنا ال تقربنا من صورته أو‬
‫تظهر لنا فحواه‪.‬‬

‫(‪ )352‬حسن بحراوي‪ :‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬ص ‪.162‬‬


‫(‪ )353‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.164‬‬

‫‪174‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وأكثر ما يصادفنا هذا النمط عند انتهاء مقطع ذي رقم أو عنوان مستقل‬
‫مث نبدأ مبقطع آخر‪ ،‬فهنا يستقر احلذف املفرتض‪ ،‬ولكنه ال يستدعي‬
‫الذهن إىل ضرورة إدراكه واستحضار معامله‪ ،‬فهو ال يشكل للقارئ قطعاً‬
‫خمالً لعدم افرتاض القارئ حدوثه فعالً‪.‬‬
‫‪ -2‬الخالصة )‪" :(Summary‬وتعتمد اخلالصة يف احلكي على سرد أحداث‬
‫ووقائع يفرتض أهنا جرت يف سنوات أو أشهر أو ساعات‪ ،‬واختزاهلا يف صفحات‬
‫أو أسطر أو كلمات قليلة دون التعرض للتفاصيل"(‪ )169‬وهو ثاين أمناط التسريع‬
‫يف السرد‪ ،‬إذ ميكن مع هذه التقنية أن يقطع السارد مسافات شاسعة بأسطر قليلة‬
‫تلخص فحوى هذه السنوات فيتحقق امللخص‪ .‬واخلالصة سرد منفذ بإجياز خيتزل‬
‫فيه زمن اخلطاب ليصبح أصغر من زمن القصة‪ ،‬والتلخيص أو اخلالصة هو جتاوز‬
‫املطلوب لكثري من املعلومات غري الضرورية اليت تقدم للسرد فائدة‪ ،‬ونضرب املثال‬
‫التايل من رواية "احلجاج بن يوسف الثقفي" على حالة التلخيص املنتقيه‬
‫لألحداث من اجملموع العام‪:‬‬
‫"قضت سمية أكثر النهار في قلق واضطراب تارة تمشي في‬
‫الدار‪ ،‬وآونة تخرج إلى البستان‪ ،‬وهي تتوقع أن ترى عبد اهلل آتيا‬
‫وتسمع خبرا‪ .‬ثم سمعت أذان العصر فالتفتت إلى مصدره جهة‬
‫باب البيت فرأت أباها داخالا فخفق قلبها ولبثت تنتظر ما يبدو‬
‫(‪)355‬‬
‫منها"‬
‫وهذه األسطر القليلة تلخص فرتة زمنية ليست بالقصرية‪ ،‬فعملية التلخيص عملية‬
‫تعتمد على االختيار واإلبعاد؛ أي اختيار ما هو مطلوب وخيدم مصلحة السرد‬
‫وإبعاد ما هو غري ذلك‪ ،‬وقد رأى بعض النقاد أن‬

‫(‪ )354‬حميد لحمداني‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬ص ‪.36‬‬


‫(‪ )355‬الرواية‪ :‬ص ‪.77‬‬

‫‪175‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫تقنية التلخيص "أقرب إىل األسلوب التسجيلي منه إىل األسلوب األديب‪ .‬هذا‬
‫فوق أنه يتميز بالتجريد‪ ،‬والتجريد ال يناسب التعبريية اليت ينشدها الروائي احلديث‬
‫لوصف املشاعر وخلجات النفس‪ ،‬وهو ما حاول كتّاب تيار الوعي أن يصلوا‬
‫إليه"(‪ ، )165‬ولكن هذا ال يقلل من أمهية هذه التقنية وعظم شأهنا يف كبح مجاع‬
‫السرد وتطويعه‪ ،‬فما هو غري ضروري جيب أن يقصى وما هو مطلوب هو ما‬
‫يشغل البال والقلم‪.‬‬
‫وتكثر احلاجة إىل توظيف تقنية التلخيص يف الروايات اليت تعاجل فرتات زمنية‬
‫طويلة فمن عدد حمدود من الصفحات‪ ،‬ففي املثال التايل من "رادوبيس" تلخيص‬
‫ألحداث متسارعة ومهم يف بلورة الرواية‪ ،‬فقد كثرت األفعال الدالة على تسارع‬
‫السرد‪:‬‬
‫"ولكن اشتد الحرج‪ ،‬فتعددت زيارات خنوم حتب للمقاطعات‪ ،‬واستقبل‬
‫في المظاهرات في كل مكان‪ ،‬وتعالى الهتاف باسمه في البلدان‪ .‬وضاق‬
‫بذلك كثير من الحكام‪ ،‬ورأوا فيه معنى لم يرتح إليه إخالصهم لفرعون‪،‬‬
‫فاجتمع حكام أمبوس‪ ،‬وفرمونتس ولتولس‪ ،‬وطيبة‪ ،‬وتشاوروا فيما بينهم‪،‬‬
‫وقر رأيهم على مقابلة الملك‪ .‬وقصدوا إلى آبوا وطلبوا المقابلة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫(‪)357‬‬
‫فاستقبلهم فرعون استقبالا رسميا سوفخاتب"‬
‫واملثال السابق تتكاثف الرغبة إىل حشد أكرب كم من األحداث املهمة على‬
‫صعيد الرواية‪ ،‬يف خالصة وافية بإيصال الفكرة‪ ،‬فالتلخيص أسبغ غري فائدة على‬
‫مر مروراً سريعاً على فرتة زمنية قد تكون طويلة‬
‫تسارع أحداث الرواية؛ حيث إنه ّ‬
‫إذا ما نبست مع زمن القصة‪ ،‬كما أنه ربط بني‬

‫(‪ )356‬سيزا قاسم‪ :‬بناء الرواية‪ -‬دراسة مقارنة لثالثية نجيب محفوظ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،1114 ،‬ص‪.221‬‬
‫(‪ )357‬الرواية‪ :‬ص ‪.171‬‬

‫‪176‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫مشهدين مهمني يف الرواية مشهد وضع البالد قبل "خنوم حبت" الكاهن‬
‫ووضعها بعد أن تصاعدت شعبته‪ ،‬ومن مث ضرورة اختاذ إجراء‪ ،،‬هذا ما سيفرض‬
‫يف املشهد الالحق‪ ،‬فضالً عن جتاوز األحداث الثانوية اليت ختللت هذا املشهد‪،‬‬
‫وسكت عنها السارد‪ ،‬لتحقيق الرتابط النصي بني الفرتات الزمنية املتباعدة‪.‬‬

‫ب‪ -‬تعطيل السرد‬


‫وهو احلركة املضادة لتسريع السرد‪ ،‬أي إبطاء السرد وتعطيل تسارعه بالتبطيء أو‬
‫حىت اإليقاف‪ ،‬ويكون ذلك من خالل تقنيتني تقومان هبذه احلركة ومها‪ :‬املشهد‬
‫(احلواري) والوقفة (الوصفية)‪ ،‬ففي املشهد احلواري يصبح زمن السرد مساوياً أو‬
‫أقل بقليل لزمن القصة‪ .‬ويف تقنية الوقفة الوصفية يتفوق زمن السرد على زمن‬
‫القصة فتصبح القصة أسرع يف زمنها وقطعها من زمن السرد املشغول بالتقاط‬
‫بعض امللحوظات الساكنة اليت تسكن معها حركته‪.‬‬

‫المشهد الحواري )‪ :(Scene‬ومن أهم وظائف هذه التقنية كسر‬ ‫‪-1‬‬


‫القراء‬
‫رتابة املنظّم لألحداث‪ ،‬فتتقلص سطوته وتقرتب الشخوص من ّ‬
‫دون وصاية سردية ميارسها الراوي على املروي له‪ .‬واملشهد عند‬
‫ثودوروف "هو حالة التوافق التام بني الزمنني عندما يتدخل األسلوب‬
‫املباشر‪ ،‬وإقحام الواقع التخييلي يف صلب اخلطاب خالقة بذلك‬
‫مشهداً"(‪ )161‬وللمشهد أنواع ميكن أن يصنف إليها‪:‬‬

‫(‪ )351‬تودوروف‪ :‬الشعرية‪ ،‬ص ‪.41‬‬

‫‪177‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ )I‬احلوار اخلارجي (ديالوج)‪ :‬ويتطلب أكثر من طرف إلدارة حديث متبادل‬


‫بينهما يظهر كل واحد موضوعه جبالء وبلغته اخلاصة‪ ،‬وهذا حوار مباشر‬
‫حر الطرح‪ ،‬ورد يف "ثالثية غرناطة" يدور بني نعيم هذا الفىت‬
‫واضح املعامل ّ‬
‫قس قشتايل مثقف يكتب عن "كريستوبال‬ ‫الغرناطي الذي يعمل عند ّ‬
‫كولون" والصعوبات اليت واجهته يف اكتشافه للعامل اجلديد‪ ،‬والقس بدوره‬
‫يكتب عن أهل األرض املكتشفة األصليني‪:‬‬
‫"نعيم‪ :-‬كيف تعرف أفكارهم ومعتقداتهم ولم تتحدث مباشرة إليهم؟‬
‫األب ميجيل‪ :-‬ألحظ سلوكهم وأجمع مالحظاتي إلى مالحظات اآلخرين‬
‫ومنها أستنتج أفكارهم ومعتقداتهم‪.‬‬
‫‪ :-‬وهل تكتب يا سيدي القس عن تلك األشياء األخرى أيض ا‪.‬‬
‫‪ :-‬نعم يا ولدي كتبت وسأكتب المزيد عن كل األشياء الموجعة التي رأيتها‬
‫نحول حلم الرجل‬ ‫وسمعت عنها‪ ،‬وسوف أضيف أنه من العار حقا أن ّ‬
‫العظيم الذي اكتشف هذه األرض إلى هذه الشراسة غير المفهومة هل تعلم‬
‫يا نعيم ما هي الدوافع التي حركت كولون ودفعته لالبحار والمخاطرة؟‬
‫‪ -‬اكتشاف أرض جديدة يا سيدي‪.‬‬
‫سام ونبيل يتلخص‬ ‫‪ -‬لم يكن ذلك إل وسيلة يا ولدي‪ ،‬وسيلة لتحقيق حلم ٍ‬
‫في هدفين جليلين ل ثالث لهما‪ :‬أن ينشر كلمة الرب بين من لم تصل‬
‫إليهم من قبل‪ ..‬وأن يحصل على الذهب ليجرد عملة صليبية الى األراضي‬
‫المقدسة تفتح القدس وتستعيد قبر السيد المسيح من أيدي من يفكرون به‪.‬‬
‫(‪)160‬‬
‫‪ -‬ولكن المسلمين ل يكفرون بالمسيح يا سيدي القس!"‬

‫(‪ )351‬الرواية‪ :‬ص ‪.175‬‬

‫‪171‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وتقنية املشهد فيما سبق قدمت للمتحاورين جماالً للتعبري عن رؤيتهم خالل‬
‫احلديث املباشر الذي دار فيما سبق بني املتحاورين‪ ،‬فظهرت وجهات النظر‬
‫ناصعة دون تدخل من الراوي أو اختصار منه جملريات النقاش‪ ،‬بل ترك الراوي‬
‫الزمام هلايتني الشخصيتني‪ ،‬فكسر رتابة السرد ونقلتنا أمام عرض ممسرح واضح‬
‫املعامل دقيق الكيفيات‪.‬‬
‫‪ )II‬الحوار الداخلي (المونولوج)‪" :‬وهو خطاب غري مسموع وغري منطوق تعرب فيه‬
‫شخصية ما عن أفكارها احلميمة القريبة من الالوعي‪ :‬إنه خطاب مل خيضع لعمل‬
‫ومجلة مباشرة‪ ،‬قليلة التقيّد بقواعد النحو كأهنا أفكار‬
‫املنطق‪ ،‬فهو يف حالة بدائية‪ُ :‬‬
‫مل تتم صياغتها بعد"(‪ ،)159‬ومتثل عليه هبذا احلوار الداخلي (املونولوج) الذي‬
‫خطر يف بال رادوبيس وهي تتأمل (بنامون) هذا الرسام احملرتف الذي يُ ِك ُّن هلا‬
‫حبّا نقياً‪:‬‬
‫"فعطفت أفكارها (رادوبيس) إلى هنا وإلى هناك حتى عثرت في‬
‫شرودها بالعاشق الجاثي في معبده‪ ..‬في الحجرة الصيفية‪ ،‬بنامون‬
‫أخف ظله‪ ،‬كانت تساءلت مرة حيرى كيف‬ ‫بن بسار‪ ،‬ما أرقّه وما ّ‬
‫تجزيه على ما أدى لها من خدمة جليلة‪ ،‬وقد طار على جناحي‬
‫حماية إلى أقصى الجنوب‪ ،‬وعاد بأسرع مما ذهب يجمله الشوق‬
‫فيعبر به مشاق الطريق‪ ..‬بل همست مرة في ارتباك كيف تستطيع‬
‫(‪)361‬‬
‫أن تتخلص منه ؟ "‬
‫وهذا احلوار الداخلي يعد تقنية إقناعية تربز ما يف داخل هذه‬
‫الشخصية من خلجات ستسهم يف تطوير احلدث‪ ،‬كما أن هذه‬
‫التقنية تكشف عن‬

‫(‪ )361‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.163‬‬


‫(‪ )361‬الرواية‪ :‬ص ‪.214‬‬

‫‪171‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫سطوة الراوي بطريقة أخرى فمن خالل إعطاء احلرية الكاملة‬


‫للشخصية يف أن تتأمل قضاياها اخلاصة يربز الراوي قدرته على الولوج‬
‫إىل عمق الشخصيات ليكشف عن متكنه من توزيع األحداث على‬
‫أكثر من زاوية رؤية‪.‬‬

‫‪ )III‬المشهد الحواري الموصوف‪ :‬وهو تقنية أكثر بطئاً من املشهد احلواري احلر‪،‬‬
‫وأسرع من الوقفة الوصفية‪ ،‬واملشهد احلواري املوصوف هو حوار يدور بني أكثر‬
‫مدعماً بوصف مساعد يتواله الراوي ليكمل املشهد فيغدو واضحاً بيّناً‬ ‫من طرف ّ‬
‫ومثاله‪ ،‬هذا احلوار الدائر بني شخصية "بدري" و"سيفو" يف أرض السواد"‪:‬‬
‫"تطلَّع بدري ٍ‬
‫بتحد إىل عيين سيفو‪ ،‬قال‪ ،‬وخرج صوته دافئاً وراجياً‪ - :‬إذا‬
‫قلت لك فد سر‪ ،‬يا أبو فالح‪ :‬يظل بينّا؟ وما يطلع؟‬
‫رد سيفو‪ ،‬وشاب صوته األلم‪:‬‬
‫بي؟‬
‫على بختك بدري شنو مالك ثقة ّ‬
‫وبعد قليل‪ ،‬وكأنه يلومه‪:‬‬
‫‪ -‬لول إني أعرفك‪ ،‬وأعرف الحليب اللي رضعك‪ ،‬كانت أخذت‬
‫على خاطري‪..‬‬
‫وتغيرت اللهجة أكثر‪ ،‬أصبحت تقريع ا‪:‬‬
‫‪ -‬شنو نسيت األوادم؟ ما عاد أكو أمان بالدنيا ؟‬
‫والرجال يتربطون بزنجيل أو بكلمة يقولونها‪ ..‬؟‬
‫وعاد إلى لهجة مصالحة‪ - :‬ل ‪ ...‬على بختك يا بدري‪ ،‬ما كنت‬
‫(‪)362‬‬
‫أريد منك هذا الكالم"‬

‫(‪ )362‬الراوية ‪.435/1‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وهذا احلوار الذي دار بني هاتني الشخصيتني جرى بوساطة الراوي ما كان‬
‫ليسمح للشخصية بأن تتحدث قبل أن يعززها بوصف آينّ هو الذي يزيد من‬
‫املشهد بطئا‪ ،‬إذ إن الوصف والكالم حيدثان يف وقت واحد‪ ،‬أي يتزامنان يف زمن‬
‫القصة احلقيقي‪ ،‬لكن يستحيل حدوث ذلك يف زمن السرد‪ ،‬ألن هذا الزمن ال‬
‫ميتلك إال قناة واحدة لإلبالغ عكس الزمن احلقيقي الذي ميتلك كل القنوات‬
‫اإلرسالية‪.‬‬
‫ونرى احلوار فيما سبق قد ّقوى إيهام املتلقي باحلاضر الروائي فغدا احلوار بلهجته‬
‫احمللية الصادقة سيداً يف كسر رتابة السرد قارب بني املتلقي والشخصيات ورفع‬
‫حواجز النقل اليت ينصبها الراوي على تقاطعات الرواية فيسمح مث مينع وهكذا‪،‬‬
‫وللحوار يف أرض السواد خصوصيته‪ ،‬إذ عُرض باللهجة احمللية احلقيقية(‪ )151‬اليت‬
‫أكسبت العمل مصداقية فنية آتت أكلها ومل تفسد أناقة اللغة الفصحى اليت‬
‫يتسلح هبا الراوي إذا ما نطق‪ ،‬وقد وضع عبد الرمحن منيف يف مطلع روايته وقبل‬
‫نص فيها املؤلف على أن "هلجة بغداد مليئة بالكثافة والظالل‪،‬‬
‫البدء إشارة قبلية ّ‬
‫وقد استعملتها يف احلوار للضرورة‪ ،‬دون حماولة إلظهار براعة لغوية‪ :‬أمتىن من‬
‫القارئ أن يبذل جهداً من أجل التمتع جبمال هذه اللهجة"(‪ )159‬وهذه النية‬
‫املسبّقة يف توظيف اللهجة العامية لتزيد من أسهم مسرحة العمل فريقى يف مهمته‬
‫على مهمة اإلخبار فقط‪ ،‬اليت يتسيدها الراوي‪ ،‬يقول مندالو‪" :‬إن وهم‬

‫(‪ )363‬تثير قضية المزاوجة بين الفصحى والعامية في الرواية جدالا واسعا ا لم ينت ِه بعد‪ ،‬يتقاسمه المؤيد‬
‫والمعارض(للمزيد انظر‪ :‬وقائع المؤتمر العامية في الرواية‪ ،‬مجلة األديب‪ ،‬ج‪ ،11‬سنة ‪،13‬‬
‫‪ ،1154‬ص‪.)75-72‬‬
‫(‪ )364‬الرواية‪.1 /1 :‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫احلضور يتقوى كثرياً باإلكثار من احلوار الذي ينتج أثراً شبيهاً مبا حيدث يف املسرح‬
‫حيث يكون املشاهد حاضراً بالفعل"(‪.)156‬‬
‫‪ -2‬الوقفة الوصفية )‪:(Pause‬‬
‫يعول عليها يف إبطاء وترية السرد أو حىت تعطيله‬
‫يعد الوصف تقنية زمنية فاعلة ّ‬
‫كلياً‪ ،‬فورود الوصف يف النص يكون على حساب التتابع الزمين يف سرد‬
‫األحداث‪ ،‬فيعطل السرد‪ ،‬ويعلق جمرى القصة لفرتة قد تطول أو تقصر‪ .‬إن‬
‫الوصف أشبه بعملية استطراد واسعة يضطلع هبا اخلطاب الروائي ويتوسع على‬
‫القص على زمن احلكاية‪ ،‬وعندها‬
‫حساب الزمن احلقيقي للحكاية‪ .‬فيتفوق زمن ّ‬
‫يكون التعطيل خمتصاً بالزمن القصصي احلقيقي خلدمة النص املكتوب لغايات‬
‫البناء الفين‪ ،‬وميكن للمبدع أن يهيئ الوصف مسؤوالً مباشراً يشرف على بناء‬
‫الفضاء الروائي(‪ )155‬الذي يشمل أعضاء املوقف من شخوص وأشياء تتقاطع مع‬
‫السرد‪ .‬ويف املقطع التايل من "ثالثية غرناطة" نقف عند الوصف التايل لصيف‬
‫الرباق‪:‬‬
‫غرناطة ّ‬
‫"التالل في الصيف تقيم أعراسها‪ ،‬تنشر على المهد أخضرها العميم‬
‫تدغدغة زهور البر بعطورها‪ ،‬ألوانها وبينها شقائق النعمان تفوقها بهاء‬
‫وفجرا بأحمرها الكيّاد‪ .‬صيف غرناطة عروق زيتون تحمل‪ ،‬ومشمش‬
‫يجمع حالوته على‬
‫مغناج يلوح ويخفى بين خضرة األوراق‪ ،‬ورمان كتوم ّ‬
‫مهل قبل أن ينفرط بين يدي آكليه‪ ،‬وتعريشات دوال‪ ،‬وأشجار جوز‬
‫ولوز وكستناء تظلل الطرقات‪ ،‬وماء دافق ينحدر من قمم الجبال مقبالا‬
‫(‪)367‬‬
‫على الوديان ضاخ ا ومكركرا"‬

‫(‪ )365‬أ‪ .‬مندالو‪ :‬الزمن والرواية‪ ،‬ص ‪.133‬‬


‫(‪ )366‬حميد لحمداني‪ :‬بنية النص السردي‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )367‬الرواية‪ :‬ص ‪.44‬‬

‫‪112‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫والنص السابق وقفة وصفية تبدأ جبملة أوىل تصف ما هو عام‪ ،‬كلي‪ ،‬كبري‬
‫وظاهر‪ ،‬فيما تنتقل اجلملة الثانية تفسرياً لفحوى اجلملة األوىل‪ ،‬وبعد ذلك تتوىل‬
‫اجلمل األ خرى وصف ما هو جزئي يتمم اجلملة األوىل ويثبت مصدقيتها‪ ،‬وهذا‬
‫الوصف الدقيق الذي جيمد الزمن مأخوذاً مبا رأى يتمسك باملكان املسلوب‬
‫ويفرض رابطة خاصة بني الشخصيات وبينه‪ ،‬إنه كما يصف روالن بارت مثل‬
‫(‪)151‬‬
‫هذه الوقفات الوصفية إحكام لغوي مهووس ال خيلو من جنون يف الوصف‬
‫فيستخدم أفعاالً وأمساء ونعوتاً لتكوينه‪ ،‬حيث وضعت يف خدمة الفكرة الوصفية‬
‫املكلّفة ببناء فضاء للحدث واحلدث هنا هجرة قسرية من هذا املكان املسلوب‪.‬‬
‫ويف مثال آخر جند أن الوصف يتجاوز أمر االرتباط باملكان إىل وظيفة إيضاحية‬
‫مكملة لعناصر الشخصية الروائية‪ ،‬وفيما يأيت مقطع وصفي الحدى الساحرات‬
‫يف رواية "رادوبيس"‪:‬‬
‫"وشقت الصفوف المتراصة بغتة امرأة غريبة‪ ،‬كانت منحنية الظهر‬
‫كالقوس‪ ،‬تتوكأ على عصا غليظة‪ ،‬منفوشة الشعر بيضاءه‪ ،‬طويلة‬
‫مقوسة األنف‪ ،‬حادة البصر‪ ،‬يشع من عينيها‬
‫األنياب صفراءها ‪ّ ،‬‬
‫نور مخيف يرسل من تحت حاجبين كثيفين أشيبين‪ ،‬وكانت ترتدي‬
‫جلباب ا واسع ا طويالا‪ ،‬يضيق عند وسطه بمنطقة من‬
‫الكتّان‪.)36 ("..‬‬

‫وال شك أن مثل هذا الوصف يكمل صورة الشخصية يف ذهن القارئ ولو مل‬
‫يتدخل السارد مبثل هذه التقنية فستظل الشخصيات بالنسبة لنا‬

‫(‪ )361‬روالن بارت‪ :‬لذة النص‪ ،‬تر‪ :‬منذر عياش‪ ،‬مركز اإلنماء الحضاري‪ ،‬حلب‪ ،1112 ،‬ص‪.54‬‬
‫(‪ )361‬الرواية‪ :‬ص ‪.15‬‬

‫‪113‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫صوراً غري مكتملة بل إن كثرياً منها سيغدو متشاهباً‪ .‬ومن املهم‪ -‬واحلديث جار‬
‫عن تقنية الوصف‪ -‬أن نذكر أن الوصف ال يقتصر دوره على الفاعلية الزمنية بل‬
‫له أبعاد أخرى ووظائف ينمو من خالهلا ويتفاعل معها(‪ ،)119‬فالوصف يعطل‬
‫السرد ويهدئ من وتريته‪ ،‬إضافة إىل أنه ميتلك طاقة بالغية تزيينية وطاقة تفسريية‬
‫إميائية وطاقة إيهامية تقربنا من الرواية وجتعلها أكثر واقعية لنا‪ ،‬فضالً عن أنه رابط‬
‫وثيق جيمع بني الشخوص واألمكنة اليت كثرياً ما تكون لب الصراع‪ .‬كما أنه طاقة‬
‫تأملية رحبة تتجاوز مبدأ الزمن والتوقف يف كثري من األحيان(‪.)111‬‬

‫جـ‪ -‬التردد (التواتر) ‪Prequency‬‬


‫ويعد "جريار جنيت" من أوائل من درسوا سردياً موضوع الرتدد أو التكرار أو‬
‫يسميه "جنيت" التواتر السردي (‪ )111‬والرتدد أو التكرار أو التواتر هو "العالقة‬
‫بني مع ّدل تكرار احلدث ومع ّدل تكرار رواية احلدث‪ .‬فاحلدث يقع وتروى‬
‫حكايته‪ .‬وقد يتكرر وقوعه مرات عدة وتتكرر روايته مرات عدة أو تروى حكاية‬
‫واحدة ختتصر كل الوقعات املتشاهبة" (‪ .)111‬فهناك أحداث يتكرر وقوعها يف‬
‫احلياة ويتكرر وقوعها يف الرواية فينساق السرد جمرباً للتعامل معها‪ ،‬فالشمس‬
‫تشرق كل يوم واملوظف ينطلق إىل عمله يف‬

‫نضال الشمالي‪ :‬تقنية الوصف في الرواية األردنية‪ ،‬بحث منشور في كتاب الرواية في األردن‬ ‫(‪)371‬‬
‫(مجموعة أبحاث)‪ ،‬ملتقى الرواية في األردن‪ ،‬تحرير شكري الماضي وهند أبو الشعر‪،‬‬
‫منشورات جامعة آل البيت‪ ،2111 ،‬ص ‪.141‬‬
‫جيرار جنيت‪ :‬عودة إلى خطاب الحكاية‪ ،‬تر‪ :‬محمد معتصم‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫(‪)371‬‬
‫‪ ،2111‬ط‪ ،1‬ص ‪.43-42‬‬
‫جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫(‪)372‬‬
‫لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫(‪)373‬‬

‫‪114‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الساعة السابعة والقطار ينطلق يف موعده اليومي‪ ،‬والتكرار أو الرتدد حسب جنيت هو‬
‫"بناء ذهين‪ ،‬يقصي من كل حدوث كل ما ينتمي إليه خصيصاً‪ ،‬لئال حيافظ منه‬
‫إال على ما يشرتك فيها مع كل احلدوثات األخرى اليت من الفئة نفسها‪ ،‬والذي‬
‫يقوم على التجريد"(‪.)119‬‬
‫وجنيت يف حماولته خوض غمار الرتدد أو التواتر يرى أن أي حدث ال تقتصر‬
‫الفائدة منه على إنتاجه فحسب وإخراجه سردياً‪ ،‬بل أيضاً مينحنا حق إعادة‬
‫إخراجه بالتكرار‪ .‬وبناء على ذلك تتحدد أمناط التكرار أو الرتدد وهي‪:‬‬
‫‪ -‬السرد اإلفرادي‪.‬‬
‫‪ -‬تكرار احلدث (التكراري)‪.‬‬
‫‪ -‬تكرار السرد (التكراري املتشابه)‪.‬‬

‫‪ -1‬السرد اإلفرادي )‪(Singulatif‬‬


‫وهو أن نروي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة‪ ،‬أي أن "جند خطاباً وحيداً حيكي‬
‫مرة واحدة ما جرى مرة واحدة"(‪ )116‬وهذا هو األمر الشائع يف كثري من‬
‫اخلطابات فهو السرد الذي ألفناه ويقيم أود األحداث يف الروايات‪ ،‬كأن أقول‪:‬‬
‫"اليوم‪ ،‬أعلنت زواجي"‪ ،‬فهذا الشكل من السرد هو الذي "يتوافق فيه تفرد‬
‫(‪)115‬‬
‫مما يعين سرداً انفرادياً أو مشهداً‬ ‫املنطوق السردي مع تفرد احلدث املسرود"‬
‫تفردياً‪ ،‬وأمثلته كثرية وشائعة وأوسع من‬

‫(‪ )374‬جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.121‬‬


‫(‪ )375‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫(‪ )376‬جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.131‬‬

‫‪115‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أن حتصى ألنه احلدث املعتاد سردياً‪ ،‬ونذكر على سبيل املثال احلدث اخلتامي يف "أرض‬
‫السواد" والذي يسرد فيه الراوي حدث رحيل القنصل االجنليزي من بغداد بعد أن‬
‫ُمين هبزمية سياسية من وايل بغداد داود باشا‪:‬‬
‫"ظُ ْه َر الخميس غادرت سفينة الباليوز‪ .‬وقف الكثيرون على ضفتي‬
‫النهر كي يلقوا نظرة على هؤلء الذين يغادرون‪ ،‬لم يكن على ظهر‬
‫السفينة إل مجموعة من الحراس الهنود‪ ،‬أما اآلخرون فقد اختفوا‬
‫(‪)377‬‬
‫داخلها"‬
‫وهذا السرد اإلفرادي الذي ختتتم فيه الرواية أحداثها والذي لن يكرر حكيه يف‬
‫التزمن‪ ،‬بل يتآزر معه لتأكيد تفرد احلدث (ظهر‬ ‫وقت الحق ال خيلو من ّ‬
‫اخلميس) كما يستعني بالوصف إلمتام مفردات القضاء احملتضن للحدث‬
‫(الكثريون على ضفيت النهر)‪( ،‬جمموعة من احلراس اهلنود)‪( ،‬اآلخرون فقد‬
‫يتوخى االختصار يف عرض ما حدث باختصار‪.‬‬ ‫اختفوا)‪ ،‬فهذا سرد ّ‬

‫‪ -2‬تكرار الحدث )‪(Iterative Narrative‬‬


‫وهو "سرد يقدم مرة واحدة حدثاً تكرر وقوعه يف الزمن‪ ،‬إنه توليف حكايات‬
‫متعددة يف حكاية واحدة من دون أن خنتار حكاية منها كنموذج‬
‫لآلخريات"(‪ )111‬فهو خطاب واحد يتوىل مجع أحداث شىت متشابه أو متماثلة‪،‬‬
‫وأمثلته كثرية كأن نقول‪" :‬كل يوم" أو "األسبوع كلّه" أو "كنت أنام باكراً كل يوم‬
‫من أيام األسبوع" أو "يف هناية كل شهر يغيب القمر" فهذا النمط يتواله بث‬
‫سرد وحيد ينقل حدوثات ال متناهية‪ ،‬ويصف "جنيت"‬

‫(‪ )377‬الرواية‪.317/3 :‬‬


‫(‪ )371‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.61‬‬

‫‪116‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫هذا النمط بقوله‪" :‬فال يبدو أنه أثار اهتماماً حىت اآلن‪ ،‬ومع ذلك فهي شكل‬
‫تقليدي متاماً"(‪ )110‬وحىت ندل على أمثلته املتفاقمة يف األعمال الروائية موضوع‬
‫الدراسة حنشد األمثلة التالية‪:‬‬
‫سر لنعيم حببه‪.‬‬
‫‪" -‬مل ينم سعد الليل بطوله‪ ..‬وكلما أراد أن يُ ّ‬
‫تلجم لسانه‪ ،‬وكلما حاول أن يغالب ما في قلبه ازداد ما في قبله‬
‫اتقاد ا"( ‪.)3‬‬
‫‪" -‬طوال أسبوع شهدت حارة الوراقين نشاطأا لم تعهده أبد ا‪.‬‬
‫تغلق الحوانيت في النهار أو تظل مفتوحة ذرا للرماد في العيون"(‪.)3 1‬‬
‫‪" -‬وكانت تأتي عليها أحايين يثب الجنون في دمائها وتشع عيناها نورا خاطفا‪"..‬‬
‫(‪.)3 2‬‬
‫‪" -‬وكان الرجل من أهل الوجاهة إذا أراد التزوج بفتاة ل يعرفها استشار‬
‫عزة ووسطها في خطبتها أو استطالع مدى جمالها وصحتها"(‪.)3 3‬‬
‫‪ " -‬لكن حسون‪ ،‬مثل عادته كل مرة‪ ،‬ل يعرف العتدال ول يقوى على‬
‫تجنّب اآلخرين‪ ،‬إذ لبد أن يخلق جنحة أينما ذهب وأن يولد الخالف‬
‫(‪)3 4‬‬
‫حيثما يكون"‬

‫واألمثلة السابقة تظهر الزمتني يف كل مرة عندما تشعرنا بتكرار احلدث‪ ،‬األوىل‪:‬‬
‫الزمة التكرار (كلما‪ ،‬طوال‪ ،‬كل مرة)‪ ،‬والثانية‪ :‬الزمة الزمن (أسبوع‪ ،‬أحايني‪،‬‬
‫إذا)‪ ،‬وهاتني الالزمتني تدخالن على الفعل اجملرد فتحدثان التكرار وزمنه املوثّق له‪.‬‬
‫وهذه الوظيفة التقليدية لتكرار احلدث‬

‫جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص ‪.132‬‬ ‫(‪)371‬‬


‫ثالثية غرناطة‪ :‬ص ‪.41‬‬ ‫(‪)311‬‬
‫الرواية نفسها‪ :‬ص ‪.47‬‬ ‫(‪)311‬‬
‫رادوبيس‪ :‬ص ‪.123‬‬ ‫(‪)312‬‬
‫الحجاج بن يوسف‪ :‬ص ‪.17‬‬ ‫(‪)313‬‬
‫أرض السواد‪.321/2 :‬‬ ‫(‪)314‬‬

‫‪117‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫تقرتب إىل حد ما‪ -‬حسب جنيت‪ -‬إىل ح ّد ما من وظيفة الوصف‪ ،‬اليت تعقد‬
‫معها من جهة أخرى عالقات وطيدة جداً تتوثق فيها صورة من ّفذ التكرار أو من‬
‫صنع التكرار له‪.‬‬

‫‪ -3‬تكرار السرد )‪(Rebeating Narrative‬‬


‫ويف أبسط حاالته هو "عودة السرد تكراراً إىل حدث واحد"(‪ )116‬يعرضه غري مرة‬
‫لغاية يف نفس السارد‪ ،‬قد تكون احلاجة أو الرغبة الستطالع وجهات النظر لدى‬
‫شخصيات احلدث الذي يهم كل واحد منها براوية احلدث بطريقته اخلاصة‬
‫باألسلوب الذي يرتضيه‪ ،‬فتكرار السرد هو اجرتار حادثة يف أكثر من خطاب‬
‫تغري أسلويب يف‬
‫بقصد ختصيصها مع احتمالية تغيري جزئي يف فحواها يرافقه ّ‬
‫عرضها‪.‬‬
‫وقد كثر هذا النمط من التواتر كثرة الفتة يف "أرض السواد" املعلنة أساساً متسكها‬
‫مبا هو شعيب ينهل من ثقافة القاع الرابضة يف الظالم‪ ،‬فاحلدث الواحد لدى أناس‬
‫"عبد الرمحن منيف" يف أرض السواد يشبه يف توسعه دوائر املاء املتموجة‬
‫املتضخمة تلقائياً باجتاه اليابسة أو الفناء نتيجة مؤثر حدثي أملّ بسطحها الوادع‪:‬‬
‫واحلادثة التالية اليت ستعرض يف أكثر من حل هي كيف قتل اآلغا (سيد عليوي)‬
‫(محادي) مساعد سعيد باشا وايل بغداد املخلوع‪:‬‬
‫‪ " .1‬قيل إن سيد عليوى مل حيتمل الكلمات اليت قاهلا محادي‪ ،‬فقد أخرج‬
‫مسدسه على الفور وأفرغ رصاصاته كلّها يف رأسه وصدره‪ ،‬وهكذا‬
‫(‪)115‬‬
‫انتهى"‬

‫(‪ )315‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.61‬‬


‫(‪ )316‬أرض السواد‪.124/1 :‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ " .1‬وقيل إن محادي مل يقتل بالرصاص‪ ،‬أو يف تلك الليلة‪ ،‬إذ تركه عليوي‬
‫بضعة أيام ورجع إليه يف إحدى الليايل‪ ،‬وأخذ يتفنن يف تعذيبه"(‪.)111‬‬
‫‪" .1‬قيل إنه استعمل سكيناً صغرية كان يقلّم هبا أظافره عادة‪ ،‬إذ أخذ يقطع‬
‫أجزاءً من جسد محادي‪ ..‬كان يلعب بالقطع املقصوصة‪ ،‬يرميها يف اهلواء‬
‫حياول أن يدخلها يف فوهات اجلسد‪ ،‬يدوس عليها‪ ..‬حني بلغ محادي‬
‫مرحلة قاربت النهاية هوى على رأسه بالبلطة ذاهتا فشق الرأس إىل‬
‫نصفني"(‪.)111‬‬
‫‪" .9‬وقيل إن سيد عليوي مل يقتله بيده‪ .‬صحيح أنه كان موجوداً أثناء قتله‪،‬‬
‫(‪)110‬‬
‫لكنه مل يشارك يف القتل"‬
‫‪" .6‬وقيل إن مائدة أعدت لسيد عليوي يف صدر الغرفة وكان يشرب‬
‫ويتابع التعذيب‪ ..‬ويبدو أنه كان متفقاً مع رجاله‪ ،‬فما أن وضع‬
‫الكأس حىت توالت ضربات قضبان حديدة على رأس محادي وهكذا‬
‫انتهى"(‪.)109‬‬

‫وهناك روايتان أخريان ال تقالن وحشية عن هذه الروايات املتكررة عن حدث‬


‫واحد‪ ،‬فاملشرتك بني الروايات قتل اآلغا سيد عليوي محادي مساعد الوايل املخلوع بطريقة‬
‫وحشية مبتكرة‪ .‬والفائدة املرجوة من هذه التقنية ميكن هلا أن تأخذ أكثر من منحى‪ ،‬فمن‬
‫جهة تظهر هذه التواترات السردية مدى انشغال‬

‫أرض السواد‪.124/1 :‬‬ ‫(‪)317‬‬


‫ارض السواد‪.125-124/1 :‬‬ ‫(‪)311‬‬
‫أرض السواد‪.125/1 :‬‬ ‫(‪)311‬‬
‫أرض السواد‪.125/1 :‬‬ ‫(‪)311‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الناس بتتبع مثل هذه األخبار والزيادة عليها واالنسياق حنو نسق اإلشاعة والتأليف‬
‫والرتويج‪ .‬ومن ناحية ثانية تكشف لنا هذه التكرارات نظرة الناس احلقيقية حنو الوالة‬
‫واحلكام والقائمني على النظام يف تعاملهم مع قضاياهم‪ .‬ومن جهة ثالثة فإن الراوي‬
‫يعرض صفات اآلغا كما هي يف أذهان الناس‪ ،‬ومن جهة رابعة فإن تقنية تكرار السرد‬
‫تقنية تتميز هبا الرواية التارخيية اليت تضيق بصرامة التاريخ فال تستطيع أن تغري حوادثه‬
‫مهما كانت طفيفة‪ ،‬فتسعى إىل عرض غري سرد للحادثة نفسها جمموعة من أفواه عامة‬
‫الناس فيتخلص املؤلف من وثائقية التاريخ‪ ،‬ومن الوقوع يف خطأ تدويين قد يفقد العمل‬
‫مصداقيته ال تارخيية‪ ،‬إن توظيف هذه التقنية التواترية مينح العمل مصداقية فنية خترجه من‬
‫دائرة الرصد والتسجيل إىل دائرة التشكيل‪.‬‬
‫وجدير بالذكر أن تقنية تكرار السرد قد شاعت بشكل َجلِ ِّي يف "أرض السواد"؛‬
‫ألهنا رواية قصدت استلهام ضمري الشعب الصامت املراقب حلركات التهافت على الوالية‬
‫وحكم الناس‪ ،‬فما كان منها إال أن تتوىل عرض احلادثة الواحدة يف غري هيئة نطقت هبا‬
‫ألسنة أناس "القاع" اليت تنربي الرواية يف كثري من مقاطعها إىل إنصافهم بإعالء أصواهتم‬
‫فوق صوت صراع الوالة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المبحث الثاني‬
‫الصيغة )‪(MOOD‬‬

‫يرى ثودوروف بأن "مقولة الصيغة من الطبيعي جداً‪ ،‬أن تكون أكثر املقوالت‬
‫تعقيداً"(‪ ،)101‬ألهنا مقولة تتوزعها اختصاصات عديدة كاملنطق واللسان والربيطقيا وكل‬
‫اختصاص بدوره حياول أسرها بإساره اخلاص‪ ،‬إضافة إىل أن إسهامات الباحثني فيها‬
‫كانت حمدودة‪" ،‬إن صيغ اخلطاب تتعلق بالطريقة اليت يقدم لنا هبا الراوي القصة أو‬
‫يعرضها"(‪ .)101‬بداية جيب أن نفيد من تفريق "بريسي لوبوك" لصيغتني أساسيتني يف‬
‫الرواية مها‪:‬‬
‫‪ -1‬العرض )‪.(Showing‬‬
‫‪ -1‬اإلخبار )‪.(Telling‬‬

‫ويرتبط األول "بالرؤية من اخللف" والثاين يرتبط "بالرؤية مع"‪ ،‬وإن كان هذا‬
‫االرتباط مقرتحاً(‪ )101‬وليس ضرورياً‪ .‬فالعرض هو مسرحة احلدث ورفع القيود عن‬
‫الشخصيات لتقدم نفسها وفعلها أي تعرض نفسها كما هي‪ ،‬أما اإلخبار أو السرد‬
‫فاألحداث والشخصيات خاضعة حتت وصاية السارد وتأمتر بإمرته‪ ،‬لكن األمر مل يقتصر‬
‫على هذا التمييز بل تطور وأخذ منحى آخر حتت مفهوم الصيغة‪ ،‬فالصيغة هي "ضبط‬
‫املعلومة السردية‪ ،‬أي التحكم بأشكاهلا ودرجاهتا"(‪ )109‬وحىت نضبط املعلومة السردية البد‬
‫من االنطالق من إحدى‬

‫سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.171‬‬ ‫(‪)311‬‬


‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.172‬‬ ‫(‪)312‬‬
‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.173‬‬ ‫(‪)313‬‬
‫لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫(‪)314‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫حمددات الصيغة املسافة )‪ (Distance‬أو (املنظور) ‪ ، Perspective‬فضمن‬


‫املسافة يدور احلديث عن حكي األحداث وحكي األقوال‪ ،‬أما ما خيص املنظور فما‬
‫نسميه بالتبئري )‪ (Focalisation‬أي تقليص حقل الرؤية عند الراوي وحصر معلوماته‪،‬‬
‫ُمسي هذا احلصر بالتبئري "ألن السرد جيري من خالل بؤرة حتدد إطار الرؤية‬
‫وحتصره"(‪.)106‬‬
‫وما خيصنا يف هذا السياق هو الصيغة على مستوى "حكي األقوال"؛ إذ ميّز‬
‫جنيت ثالثة أنواع من اخلطاب هي‪:‬‬
‫‪ -1‬اخلطاب املسرود‪.‬‬
‫‪ -1‬اخلطاب غري املباشر‪.‬‬
‫‪ -1‬اخلطاب املنقول (املباشر)‪.‬‬

‫‪ -1‬الخطاب المسرود )‪:(Narratized Discourse‬‬


‫وهو "خطاب ينقله الراوي كحدث من أحداث الرواية‪ ،‬مثاله‪ :‬أمره بالغروب عن‬
‫وجهه"(‪ )105‬ويف هذا النوع من أقوال احلكي ال يفرق يف نقله بني كالم أو إشارة أو حركة‬
‫أو موقف‪ ،‬وهذا اخلطاب من أكثر أنواع الصيغ بعداً عن األصل ومصاب بعدوى‬
‫االختصار واالختزال؛ ألن الراوي هو املتحكم به فيحوله من قول حمكي أو إشارة مرسلة‬
‫إىل مادة ملخصة ميتلكها السارد لغايات التسريع مثالً أو التجاوز أو االهتمام بالفحوى‬
‫دون اللفظ‪ .‬ومن أمثلته الدالة على ذلك‪ ،‬املثال التايل من "ثالثية غرناطة"‪:‬‬

‫المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫(‪)315‬‬


‫المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.11‬‬ ‫(‪)316‬‬

‫‪112‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪" -‬ولما وجد نعيم أن سعد ا ليس لديه ما يحكيه انطلق يحكي له‬
‫عن نفسه‪ .‬فإنه ل يعرف‪ ،‬ل يذكر‪ ،‬ل أمه ول أباه‪ ،‬كل ما يذكره هو‬
‫تلك العجوز التي كانت ترعاه‪ ،‬ولما ماتت لم يجد سوى الطرقات‬
‫(‪)3 7‬‬
‫ثم التقى بأبي جعفر"‬
‫فهذا اخلطاب خطاب مسرود يتسيّده الراوي العليم املتعايل على الشخصيات يف‬
‫هذا املشهد املفرتض أنه حوار من طول متوسط يتجاذب فيه طريف احلديث الفتيان‬
‫الغرناطيان "نعيم" و"سعد" ومها العامالن عند أيب جعفر الوراق‪ ،‬فقد قرر الراوي سرداً‬
‫"أن سعداً ليس لديه ما حيكيه" وكان هذا التقرير نابعاً من إحساس نعيم به‪ ،‬رمبا فربع‬
‫الراوي باستخراجه من سريره "نعيم"‪ .‬بعدها انطلق الراوي يف سرد خالصة ما أفضى به‬
‫"نعيم" إىل "سعد"‪ ،‬وحتماً فإن املسافة غدت يف هذا اللون من الصيغ القولية شائعة بيننا‬
‫( ّقراء) وبني الشخصيات املتحدثة‪ ،‬وقد بُعدت املسافة عندما اختزل الراوي خالصة ما‬
‫أفضى به "نعيم" إىل سعد‪ ،‬واجلدير بالذكر أن حكاية األقوال؛ أي سردها من الراوي‪،‬‬
‫غدت الفتة يف ثالثية غرناطية"؛ إذ هنج الراوي هنج املتسيّد يف رواية األحداث‪ ،‬نظراً‬
‫لطول زمن القصة احلقيقية الذي يربو على مئة وسبع عشرة سنة‪.‬‬
‫ومن األمثلة الدالة على صيغة اخلطاب املسرود ما رصدناه يف "أرض السواد"‪:‬‬
‫"عزرا الذي فهم الرسالة جيدا‪ ،‬أبلغ ريتش أنه ل يستطيع أن يقف في وجه‬
‫الباشا‪ ،‬وأن التجار يمكن أن يضغطوا‪ ،‬لكنهم ل يستطيعون أن يحاربوا‪،‬‬
‫لذلك سيتذرعون بعدم وصول البضائع لرفع األسعار‪ ،‬وهذا أقصى ما‬
‫يستطيعونه اآلن‪ ،‬وعلى بريطانيا أن تتدبر األمر‪ ،‬وأن تستعين بقوى أخرى‪،‬‬
‫فإذا وصلت الجيوش لحصار بغداد‪ ،‬فيمكن عندئذ أن يثور الناس‪ ،‬ويؤازرهم‬
‫( ‪)3‬‬
‫التجار كما حصل لسعيد‪ ،‬وينتهي كل شيء"‬

‫(‪ )317‬الرواية‪ :‬ص ‪.21‬‬


‫(‪ )311‬الرواية‪.245/3 :‬‬

‫‪113‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ويف هذا املثال على اخلطاب املسرود خيتصر الراوي حواراً مطوالً بني متحاورين‬
‫طال النقاش بينهما‪ ،‬وعلى ما يبدو يف هذا املثال أن االختزال مل يكن الغاية الوحيدة‬
‫إلجناز هذا املشهد احلواري املسرود‪ .‬بل طبيعة املوقف تتطلب ذلك‪ ،‬فالراوي يقف من‬
‫بعيد لرصد رمبا مؤامرة خفية حصلت يف بغداد على واليها داود باشا هتدف إىل إسقاطه‬
‫دون أن تطلق بريطانيا رصاصة واحدة‪ ،‬ويشعرنا الراوي من خالل إقصائنا إقصاء نفسه‬
‫عن حضور احلوار احلي املتبادل بني القنصل الربيطاين "ريتش" وكبري الصرافني "عزرا" أنه‬
‫يرصد ما حدث مبعزل عن خلفية تارخيية مثبتة تؤكد ما حصل بدقة‪ ،‬والرصد بدقة يف مثل‬
‫خيل باملصداقية التارخيية‪ ،‬من هنا يشعرنا الراوي بأنه حيلل ما كان قد‬‫هذا املوضع قد ّ‬
‫حدث بالفعل ويتوقعه بعمومية ال تنفذ إىل صغائر ما حدث‪.‬‬

‫‪ -2‬الخطاب غير المباشر ‪Indirect Discourse‬‬


‫وهو "خطاب منقول بصيغة الغائب‪ ،‬يأيت بعد فعل القول أو ما يف معناه‪ ،‬وال‬
‫يكون مسبوقاً بعالمات تنصيص‪ :‬قال له أن يغرب عن وجهه(‪ )100‬وقد مسي هذا النمط‬
‫من الصيغ كذلك ألنه خطاب عن غائب ال تراعى الدقة يف نقل الكالم حرفياً بل قد‬
‫يُنقل باملعىن مع إشعار بأن هذا قول لفالن وهنا يبدأ رد فالن‪ ،‬وهكذا بأن يذكر أحد‬
‫أفعال القول قبل ذكر ما يفرتض أنه قول املتحدث‪ .‬ومن أمثلة ذلك ما ورد يف‬
‫"رادوبيس" عن اخلطا غري املباشر‪:‬‬
‫"فغادرت المرأة المخدع مرتبكة (يقصد الخادمة) ل تدري بما غيّر مولتها‪.‬‬
‫وارتاحت الغانية (يقصد رادوبيس) لما فعلت‪ ،‬وقالت إن هذا ليس وقتهم‪ ،‬فهي ل تستطيع‬
‫أن تجمع شتيت أفكارها لتصغي إلى إنسان‪ ،‬ول أن تحصر خواطرهما في حديث فضالا‬
‫عن أن ترقص وتغني‪ ..‬فليذهبوا جميعا‪.)4 (" ..‬‬

‫(‪ )311‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫(‪ )411‬الرواية‪ :‬ص ‪.11‬‬

‫‪114‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫والفعل (قالت) فيما سبق يكشف أن حديثاً قد أعلنت عنه رادوبيس بعد أن‬
‫غادرت خادمتها املخدع‪ ،‬فهذا خطاب غري مباشر‪ ،‬إن كان مييل إىل املونولوج الداخلي‬
‫للشخصية‪ .‬ويف هذا النوع من صيغ اخلطاب يقصد الراوي املسافة بيننا وبني الشخصية‬
‫فنقرتب أكثر منها وال يبقى احلديث معلقاً على ذمة راوية مل يعني فعالً إذا ما كان قد‬
‫فعل احلديث حبرفيته أم مبعناه‪ ،‬وهذا خيلص الراوي من مسؤولية املصداقية ولو مؤقتاً‪.‬‬
‫ومن األمثلة الدالة على اخلطاب غري املباشر نذكر هذا املثال من "أرض‬
‫السواد"‪:‬‬
‫"ولئال تصل المفاوضات مع درويش آغا إلى ما يشبه هذه النتيجة‪،‬‬
‫أُرسل إليه مشهور أبو لهيل‪ ،‬جاء مشهور كصديق للزيارة والطمئنان‬
‫عليه‪ ،‬وقد أبلغه أثناء الحديث إذا كان يوافق‪ ،‬إن باإلمكان أن‬
‫يفتدي حياته وحريته بمبلغ من المال‪ ،‬وزين هذا الحل‪ ،‬رغم صعوبة‬
‫أن يوافق عليه‪ ،‬لكن سيبذل أقصى ما يستطيع من أجل ذلك‪.‬‬
‫ودرويش آغا‪ ،‬الذي لم يرفض هذا القتراح تساءل عن الوقت الذي‬
‫يمكن أن يقضيه في هذا المطاف‪ ،‬الذي ما أن تخيم الظلمة حتى‬
‫يمتلئ بالعفاريت تتراكض حوله"‪.‬‬
‫وهذا املثال يتمازج فيه منطان من الصيغ‪ ،‬النمط األول هو املسرود والنمط الثاين‬
‫هو غري املباشر وهو ما وضع حتته خط‪ ،‬وما يدل على أنه غري مباشر األفعال الدالة على‬
‫(‪)991‬‬
‫القول فيه مثل (أبلغه) و(تساءل) ‪ ،‬فما ورد بعد هذين الفعلني ش ّكل قوالً مفرتضاً‬
‫يفرتض أن الشخصيات املتحاورة قد أفضت به‪ ،‬وقد ق ّدمه الراوي باملعىن وليس باللفظ‪،‬‬
‫وما يؤكد ذلك أن الراوي ق ّدم‬

‫(‪ )411‬إذا لم يسبق الكالم المفترض روايته فعالا من أفعال القول فإن هذا الخطاب يسمى (خطابا ا غير‬
‫مباشر)‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫حديثهم باللغة الفصحى اليت يعتمدها يف سرده ومل يذكرها باللهجة احمللية املعتمدة يف‬
‫الرواية للحوار‪ .‬أما عن النتيجة املتوخاة من توظيف هذا اللون من صيغ اخلطاب‪ ،‬فهو‬
‫"احملافظة على وحدة النرب يف السرد"(‪ ،)991‬ألن املتكلم مل يتبدل بل هو واحد (الراوي)‪،‬‬
‫إضافة إىل السيطرة على املشهد إذا كان طويالً وذكره قد يشتت االنتباه‪ ،‬فيعتمد‬
‫الكاتب على هذه الصيغة امليّالة إىل التلخيص أكثر من التفصيل؛ لذا نلمس غياب ذكر‬
‫االنفعاالت املصاحبة للقول أو لفحواه‪ ،‬وهذا الذكر نلمسه أكثر يف اللون الثالث من‬
‫صيغ اخلطاب‪ ،‬أي اخلطاب املباشر‪.‬‬

‫‪ -3‬الخطاب المباشر )‪(Direct Discourse‬‬


‫ويعرف بأنه "خطاب منقول حرفياً بصيغة‬
‫وهو الصيغة الثالثة من صيغ اخلطاب ّ‬
‫املتكلم‪ .‬يأيت غالباً بعد فعل القول أو ما يف معناه‪ ،‬ويكون مسبوقاً بنقطتني وموضوعاً بني‬
‫قوسني مزدوجني‪ .‬مثاله‪ :‬قال له‪" :‬أغرب عن وجهي"(‪ )991‬ويف احلقيقة أن شرط فعل‬
‫القول والقوسني أمران الزمان إلثبات القول إىل قائله بعيداً عن تدخل الراوي يف‬
‫حيل حمل القوسني أو النقطتني عالمة‬
‫االختصار واإلمجال أو احلذف واالختيار‪ .‬وجيوز أن ّ‬
‫تدل على حصر القول بصاحبه احلقيقي‪ ،‬وقد حيذف فعل القول ويستعاض عنه خبط‬
‫قصري يف أول السطر‪ .‬وقد كثر هذا النمط من اخلطاب يف "أرض السواد" و "رادوبيس"‬
‫و "احلجاج بن يوسف"‪ ،‬وهذه روايات تعاجل فرتة زمنية قصرية فلم يكن االعتماد على‬
‫السرد فقط بل اشرتكت هذه الصيغة بوضوح متهيداً ملسرحة العمل وكسر احتكار الراوي‬
‫لدفة العمل السردي‪ .‬أما يف رواية "ثالثية غرناطة" فكان السرد مسيطراً سيطرة ظاهرة‪،‬‬

‫(‪ )412‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬


‫(‪ )413‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.11‬‬

‫‪116‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ألهنا تقط ع فرتة زمنية شائعة والبد لالختصار من أن يتدخل للملمة خيوط الرواية‬
‫واالختصار والسرد املباشر ال جيتمعان‪ .‬ومثال هذا اللون من صيغ اخلطاب نذكر هذا‬
‫املشهد من رواية "احلجاج بن يوسف"‪:‬‬
‫"وفيما هم على تلك الحال‪ ،‬دخل الحاجب وقال‪" :‬لقد عاد‬
‫الفرسان وعما قليل يصلون"‬
‫فقال الحجاج‪" :‬وهل األسير معهم؟ "‬
‫قال‪ :‬لم أر بينهم أحد ا ماشي ا" ‪.‬‬
‫قال‪" :‬لعله جاء على جواد" ‪.‬‬
‫(‪)4 4‬‬
‫قال‪" :‬إن بينهم رجالا بلباس غريب فلعله هو األسير"‬
‫وهذه صيغ متالحقة من اخلطاب املباشر حصر كل قول بعالميت تنصيص وسبق‬
‫بفعل القول للداللة على أن الكالم للشخصية دون غريها وكان دور الراوي دوراً رقابياً‬
‫موصالً دون تدخل بالفحوى بزيادة أو نقصان‪ .‬ولعل هذه الصرامة يف حصر القول‬
‫وإحالته على صاحبه بدقة من أفعال قول ونقطتني وعالميت تنصيص ال يلتزم هبا اجلميع‬
‫ولكنهم يظهرون وسائل أخرى تصلح القتناعنا هبذا التحديد‪ ،‬كما ذكرنا آنفا‪ ،‬من وضع‬
‫خط قصري قبل القول أو طباعة األقوال طباعة موحية بأن هناك أقواالً مباشرة ستنسب‬
‫إىل قائليها‪ ،‬ومنثل على ذلك هبذا املشهد من رواية "أرض السواد"‪:‬‬

‫"أما حين أخذت تتوارد إلى السراي أخبار امتناع بعض القبائل عن‬
‫أداء ما يترتب عليها من ضرائب ورسوم‪ ،‬فقد قال داود باشا لآلغا‪،‬‬
‫وكانا يجلسان في الشرفة الجنوبية المطلة على النهر‪:‬‬

‫(‪ )414‬الرواية‪ :‬ص ‪.141‬‬

‫‪117‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -‬لزم نخلي البدو يخافون خوفة حيّة‪ ..‬بس تنذكر الحكومة‪.‬‬


‫هز اآلغا رأسه موافقا‪ ،‬تابع داود‪:‬‬
‫ولما َّ‬
‫‪ -‬وهذا ما يصير إل بعد ما يجيهم أول صواب‪ ..‬والثاني‪،‬‬
‫حتى يقولوا‪ :‬إن اهلل حق‪ ،‬وإن الحكومة تقدر على كل شيء"(‪.)4 5‬‬

‫واملشهد السابق مشهد ينقل صيغاً من اخلطاب املباشر مل حتصر بعالمات‬


‫تنصيص‪ ،‬لكن الكيفية اليت عرضتها واخلطوط القصرية يف أول كل صيغة مباشرة كشفت‬
‫لنا عنه قول صريح للشخصية املتحدثة‪ ،‬معروض بلغتها اخلاصة وهلجتها احمللية‪ .‬ونلحظ‬
‫تدخل الراوي التوضيحي ولكن خارج سياق الصيغة هبدف اإليضاح وإسناد األدوار‬
‫بدقة‪ ،‬ومن أمثلة تدخله عرض املكان الذي كانت فيه الشخصيتان تتحاوران (الشرفة‬
‫هز ‪ ..‬رأسه موافقاً)‪.‬‬
‫اجلنوبية املطلة على النهر) أو وضع املتكلم عند التكلم ( ّ‬
‫إن اخلطاب املباشر خطاب "يفرتض تبدالً يف التكلم ألن الراوي يرتك مكانه‬
‫للشخصية لتعرب بصوهتا وهلجتها وألفاظها‪ ،‬مما يعطي النص حيوية وقوة تعبري‪ .‬وحني تتوىل‬
‫الشخصية الكالم بنفسها تصبح ضمائر التكلم واخلطاب وعالمات املكان والزمان يف‬
‫كالمها تابعة لعاملها"(‪ )995‬كما أن ثقافة الشخصية تتجلى واضحة من خالل حديثها‪،‬‬
‫ألن منط اخلطاب املباشر منط مسرحي والنمط املسرحي هو أكثر األمناط صلة باملتلقي‬
‫بعيداً عن أي حاجز مهما كان شفيفاً(‪.)991‬‬

‫(‪ )415‬الرواية‪.311/1 :‬‬


‫(‪ )416‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )417‬ترى الدراسة أن هذه الصيغ الثالث كافية الستجالء أساليب عرض المعلومة سردياا‪ ،‬وتلفت‬
‫النظر إلى أن النقاد قد اجتهدوا كثيراا في استجالء صيغ أخرى هي في حقيقتها مشتقة عن هذه‬
‫األصيلة‪( .‬راجع‪ :‬سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪ )111-117‬ومن الجدير بالذكر‬
‫أن سعيد يقطين في دراسته هذه قد كشف عن صيغ أخرى تمس الحياة النفسية لدى الشخصيات‬
‫(ص‪.)115‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المبحث الثالث‬
‫زاوية الرؤية )‪(Perspective‬‬

‫مقـدمـة‬
‫ال ميكن أن يُقام أود السرد دون احلديث عن الراوي وعن وجهات النظر‬
‫(الرؤى) يف الرواية‪ ،‬الرتباط هذا األمر ارتباطاً وثيقاً بالطريقة اليت يعرض فيها الراوي‬
‫أحداث مرويته‪ .‬حىت أن بعض النقاد اعتقدوا بأن القيمة األساسية ألي رواية قارة يف‬
‫مقولة (زاوية الرؤية) يقول بريسي لوبوك‪" :‬إن جممل السؤال املعقد عن األسلوب يف صنعة‬
‫الرواية حمكوم بالسؤال عن وجهة النظر‪ ،‬السؤال عن عالقة القصة هبا"(‪ )991‬وهذا هو‬
‫األساس الذي يثين عليه ثودوروف أيضاً‪ ،‬فيقول‪" :‬ففي األدب ال نواجه أحداثاً أو أموراً‬
‫يف شكلها اخلام‪ ،‬وإمنا نواجه أحداثاً معروضة بطريقة ما وتتحدد مجيع مظاهر أي شيء‬
‫بالرؤية اليت تقدم لنا عنه"(‪.)990‬‬
‫وتعد دراسة جان بويون "الزمن والرواية" من أميز اإلسهامات البنيوية املهمة يف‬
‫عامل السرد‪ ،‬فزاوية الرؤية لديه ميكن أن تكون من خالل ثالثة أوضاع‪:‬‬
‫‪ -1‬الرؤية من الخلف‪ :‬وتشيع هذه الرؤية يف الروايات الكالسيكية‪ ،‬حيث يقف‬
‫ويسري‬
‫الراوي خلف الشخصيات فيشاهد األمور على حقيقتها‪ ،‬ولكنه يتحكم هبا ّ‬
‫القصة مبشيئته‪ ،‬وهو مطلع على خفايا شخصياته‪ ،‬ويعرفها معرفة تامة‪ ،‬ويسمى‬
‫هذا الراوي إذا مارس هذه السلطة بالراوي العليم أو كلي العلم (سارد >‬
‫شخصية)‪.‬‬

‫(‪ )411‬بيرسي لوبوك‪ :‬صنعة الرواية‪ ،‬ص ‪.225‬‬


‫(‪ )411‬ت‪ .‬تودوروف‪ :‬اإلنشائية الهيكلية‪ ،‬تر‪ :‬مصطفى التواني‪ ،‬الثقافة األجنبية‪ ،‬ع‪ ،1112 ،3‬ص‬
‫‪.12‬‬

‫‪111‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -2‬الرؤية مع‪ :‬أو الرؤية اجملاورة‪ ،‬ويف هذا النمط نلمس تساوياً بني معرفة الراوي‬
‫ومعرفة الشخصية عن نفسها‪ ،‬وهذه الرؤية كثرية التوظيف‪ ،‬خصوصاً يف املوجة‬
‫اجلديدة للكتابة الروائية‪ ،‬حيث يُعرض العامل التخييلي من منظور ذايت داخلي‬
‫لشخصية روائية بعينها‪ ،‬دون أن يكون له وجود موضوعي حمايد خارج وعيها‪،‬‬
‫وميثل تودوروف هلذه الرؤية باملعادلة (السارد = الشخصية)‪.‬‬
‫‪ -3‬الرؤية من الخارج‪ :‬ويف هذا النمط من الرؤي تقتصر معرفة الراوي فيها على‬
‫وصف أفعال الشخصية‪ ،‬ولكنه جيهل أفكارها‪ ،‬وال حياول أن يتنبأ هبا‪ ،‬وهي رؤية‬
‫نادرة االستعمال إذا ما قورنت بالرؤيتني السابقتني‪ ،‬وفيها يكون السارد أقل معرفة‬
‫من الشخصية (سارد < شخصية) وهو بذلك ميكنه أن يصف ما يرى وما يسمع‬
‫دون أن يتجاوز ذلك ملا هو أبعد‪ ،‬كاحلديث عن وعي الشخصيات مثالً‪.‬‬

‫ومل يتوقف األمر عند هذا الزوايا الثالث بل أضاف عليها ثودوروف(‪ )919‬رؤية‬
‫اجملسمة" اليت يتتابع فيها‬
‫رابعة‪ ،‬ميكن أن تكون متفرعة عن الرؤية الثانية‪ ،‬يسميها "الرؤية ّ‬
‫احلدث الواحد مرورياً من الشخصيات عدة مرات‪ ،‬فرتتسم جراء ذلك صورة شاملة‬
‫متكاملة عن احلدث‪ ،‬وخري رواية متثل هذه الرؤية يف أدبنا العريب احلديث "مريامار"‬
‫لنجيب حمفوظ‪ ،‬حيث التكافؤ السردي هو عنوان العمل‪.‬‬
‫ولعل نورمان فريدمان (‪ )1066‬هو أول من قدم رؤية منهجية يف هذا الصدد‬
‫تغطي كل حماوالت سابقيه‪ ،‬ويرسم منوذجاً مطوالً يشمل مثاين حاالت للراوي والرؤية هي‬
‫على النحو التايل‪:‬‬

‫سعيد يقطين‪ :‬تحليل الخطاب الروائي‪ ،‬ص ‪.217‬‬ ‫(‪)411‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أ‪ -‬السارد كلي املعرفة‪ -1 :‬بتدخل من الكاتب‪.‬‬


‫‪ -1‬حبياد من الكاتب‪.‬‬
‫‪ -1‬أنا – الشاهد‬ ‫ب‪ -‬السرد بضمري املتكلم‪:‬‬
‫‪ -9‬أنا – البطل أو الشخصية الرئيسية‬
‫جـ‪ -‬السرد كلي املعرفة‪ -6 :‬االنتقائي‬
‫‪ -5‬التعددي‬
‫‪ -1‬الطريقة الدرامية‬ ‫د‪ -‬سرد موضوعي حمض‪:‬‬
‫‪ -1‬طريقة الكامريا‬
‫وأفضل ما مييز هذا التصور هو "التنظيم من جهة‪ ،‬والشمول من جهة ثانية‪ ،‬إذ‬
‫إنه حاول تقدمي خمتلف الرؤيات‪ ،‬رغم أننا نعاين جبالء أن بني العديد من األشكال‬
‫السردية املقدمة فروقات بسيطة جداً"(‪.)911‬‬
‫أما جريار جنت املساهم األبرز يف مقولة الرؤية فإنه ينطلق من نظرة منهجية‬
‫متماسكة‪ ،‬فيستفيد من اآلراء السابقة ويستعري مصطلح "التبئري" ‪Focalization‬‬
‫بدالً من كل املسميات املطروحة يف هذا الصدد‪ ،‬وما قصده جنيت بالتبئري هو "تقليص‬
‫حقل الرؤية عند الراوي وحصر معلوماته‪ .‬مسي هذا احلصر بالتبئري ألن السرد جيري فيه‬
‫من خالل بؤرة حتدد إطار الرؤية وحتصره"(‪ )911‬والتبئري له مستويات حيددها جنيت‬
‫بثالثة هي‪ :‬الالتبئري‪ ،‬التبئري الداخلي‪ ،‬التبئري اخلارجي‪ .‬فاألول نلمسه يف السرد التقليدي‪،‬‬
‫والثاين ميثل املستويات املتعددة يف انتقال الرؤية بني خارج الشخصية وداخلها‪ ،‬والثالثة ال‬

‫(‪ )411‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.217‬‬


‫(‪ )412‬لطيف زيتوني‪ :‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.41‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ميكن التعرف فيه إىل دواخل الشخصية(‪ ،)911‬وقد أدت هذه النظرة إىل أربعة أمناط‬
‫أساسية تكشف وضع السارد(‪ ،)919‬هي‪:‬‬
‫‪ -1‬خارج القصة‪ -‬غيري القصة‪ :‬وهو را ٍو خارج احلكاية وال ينتمي إليها وهو راوي‬
‫احلكاية بضمري الغائب‪ ،‬وميثل عليه جنيت هبومريوس‪ ،‬ويصفه بأنه سارد من‬
‫ا لدرجة األوىل يروي قصة هو غائب عنها‪ ،‬ومن األمثلة املفضية إىل هذا النوع يف‬
‫أدبنا العريب نذكر ثالثية جنيب حمفوظ أو الروايات الواقعية والتارخيية إمجاالً‪.‬‬
‫مثلي القصة‪ :‬وهو را ٍو خارج احلكاية وينتمي إليها‪ ،‬وهو راوي‬ ‫‪ -2‬خارج القصة‪ّ -‬‬
‫احلكاية الرئيسية بضمري املتكلم‪ ،‬ومن أمثلة هذا النمط نذكر "اجلبل الصغري"‬
‫إللياس خوري و"ذاكرة اجلسد" ألحالم مستغامني‪ ،‬حيث الرواة منتمون للقصة‬
‫ولكنهم يروهنا من اخلارج‪ ،‬فاالنتماء حاصل لكن الوقوف والنظر يكون من‬
‫اخلارج‪.‬‬
‫‪ -3‬داخل القصة‪ -‬غيري القصة‪ :‬وهو را ٍو داخل احلكاية وال ينتمي إليها‪ ،‬وهو‬
‫شخصية داخل الرواية‪ ،‬تروي حكاية ثانوية هي غائبة عنها‪ ،‬وميثل جنيت على‬
‫هذا النمط من الرواة بشهرزاد يف ألف ليلة وليلة‪ ،‬فشهرزاد هي شخصية ورقية يف‬
‫حمصلتها النهائية ولكنها تقف من األحداث اليت ترويها موقف احملايد غري‬
‫املشارك‪ ،‬إهنا ساردة ولكن من الدرجة الثانية وتروي أقاصيص هي غائبة عنها‪.‬‬
‫‪ -9‬داخل القصة‪ -‬مثلي القصة‪ :‬وهو را ٍو داخل احلكاية وينتمي إليها‪ ،‬إنه‬
‫شخصية داخل الرواية تروي حكاية ثانوية مشاركة يف حوادثها‪ ،‬وميثل‬

‫(‪ )413‬عبد هللا إبراهيم‪ :‬المتخيل السردي‪ ،‬ص ‪.161-161‬‬


‫(‪ )414‬جيرار جنيت‪ :‬خطاب الحكاية‪ ،‬ص‪.251‬‬

‫‪212‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫عليه جنيت بـ "عوليس" ويصفه بأنه سارد من الدرجة الثانية يروي قصته‬
‫اخلاصة به‪ ،‬ومن أدبنا العريب القدمي منثل عليه بشخصية السندباد يف ألف ليلة‬
‫وليلة‪ ،‬الذي يروي أحداثاً هو مشارك فيها فعلياً‪.‬‬

‫وقد استثمر سعيد يقطني رؤية جنيت السابقة يف دراسته "حتليل اخلطاب‬
‫الروائي"(‪ )916‬فعرض أربع رؤى سردية خلص فيها ما سبق‪:‬‬
‫‪ -1‬رؤية برانية خارجية‬
‫الرؤية اخلارجية‬
‫‪ -1‬رؤية برانية داخلية‬
‫‪ -1‬رؤية جوانية داخلية‬
‫الرؤية داخلية‬
‫‪ -9‬رؤية جوانية خارجية‬

‫مث ينطلق من هذه النظرة فيستقصيها يف رواية "الزيين بركات" وغين عن الذكر أن‬
‫هذه النظرة يف توزيع الرؤى تذكرنا بتصنيف الشكالين الروسي توماشفسكي الذي يهيمن‬
‫على تصنيفه منطان من السرد (‪ )915‬مها‪ :‬السرد املوضوعي والسرد الذايت(‪.)911‬‬
‫تـطـبيـق‪:‬‬
‫أما إذا سلطنا االهتمام على الرواية التارخيية موضوع الدراسة وخاصة الروايات‬
‫األربع مادة الدراسة‪ ،‬فإننا جند دون استثناء أن الراوي العليم (العارف بكل شيء) هو‬
‫املسيطر على بوابة السرد سيطرة واضحة‪.‬‬

‫(‪ )415‬ص ‪.311-311‬‬


‫(‪ )416‬عبد هللا ابراهيم‪ :‬المتخيل السردي‪ ،‬ص ‪.171‬‬
‫(‪ )417‬نصوص الشكالنيين الروس‪ :‬نظرية المنهج الشكلي‪ ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪213‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إذ حتتكم "أرض السواد" و "ثالثية غرناطة" و "رادوبيس" و "احلجاج بن‬


‫يوسف" إىل را ٍو عليم هو من خارج القصة وال ينتمي إليها (خارج القصة‪ -‬غري القصة)‬
‫يسيطر على منابع احلكاية ويقدمها عندما يقتضي األمر‪ ،‬ولعل سيطرة هذا النوع من‬
‫الرواة (الرؤية من اخللف) مربرة يف هذا النوع من الروايات‪ ،‬فمن جهة نلمس يف الرواية‬
‫التارخيية شكالً قدمياً يشبه النصوص التارخيية القدمية واملالحم الشعبية اليت كان يسيطر‬
‫عليها را ٍو عليم يتحكم يف عرض املادة القصصية‪ ،‬أين؟ ومىت؟ وكيف؟ وملاذا؟ وكأن‬
‫الراوي العليم اآليت من خارج القصة وال ينتمي إليها قد تسلل من النصوص التارخيية‬
‫واملالحم القدمية واحلكايات الشعبية واألساطري‪ .‬ومن جهة ثانية جند أن متطلبات هذا‬
‫اللون من الروايات تنوء به أمحال الرواة املشاركني يف احلدث املنتمني إليه‪ ،‬ألن رواية مثل‬
‫"ثالثية غرناطة" متتد إىل أكثر من مئة وسبع عشرة سنة لن يستطيع را ٍو مشارك أن ّ‬
‫يلم‬
‫هبا ولو وظفنا معه تقنيات االسرتجاع واالستباق ستبقى رؤيته قاصرة عن أحداث كثرية‪.‬‬
‫وسرائر دفينة هدفت الرواية إىل إبرازها أصالً‪ .‬ومع أننا قد "وجدنا يف هذه الرواية تنويعاً‬
‫يف زوايا النظر يصل أحياناً إىل تعذر يف التبئري فإن األمر مل يصل إىل تعديد األصوات‪.‬‬
‫مثة صوت واحد من خالله تأتينا شذرات من كالم الغري وآرائهم(‪ )911‬ويتضح‬
‫هذا األمر يف الصفحات األوىل من الرواية‪ ،‬وبالتحديد عندما أسهم الناس يف تأويل‬
‫اختفاء موسى ابن أيب الغسان‪:‬‬

‫"لثالث ليال لم تنم غرناطة البيازين‪ ،‬تحدث الناس بال انقطاع ليس‬
‫عن المعاهدة بل عن اختفاء موسى ابن أبي الغسان استغرقهم الخبر‬
‫الذي انتشر‬

‫(‪ )411‬محمد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ‪ ،‬ص ‪.126‬‬

‫‪214‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫من نهر شنيل إلى عين الدمع‪ ،‬ومن باب نجد إلى مقابر سهل بن‬
‫مالك‪ .‬سرى في الشوارع والحواري والجنّات حملة ماء شنيل من‬
‫أطراف ثم دخلها مع نهر َح َد ُوهُ وانتقل إلى ضفته الغربية"( ‪.)41‬‬

‫والراوي العليم قبل السماح ألقوال الناس بالظهور ميتعنا باملقدمة السابقة اليت‬
‫تكشف عن وقع عظيم خلرب موسى ابن أيب الغسان يف النفوس‪ ،‬مث يستأنف‪:‬‬
‫" قال البعض إن ابن أبي الغسان خرج من اجتماع الحمراء وقد قدر‬
‫أن يقاتل القشتاليين‪ ،‬وقاتل جموعهم وحده‪ ،‬ولما أصابوه وكادوا‬
‫يظفرون به ألقى بنفسه في النهر‪.‬‬
‫وقال البعض اآلخر بل قتله محمد الصغير لينفذ ما يريد‪..‬‬
‫وقال فريق ثالث ل أغرق نفسه ول قتلوه بل صعد إلى الجبال‬
‫ليدرب الرجال ويستعد‪.‬‬
‫ّ‬
‫وقال فريق رابع‪ ،‬غرق أم لم يغرق ل فرق‪ ،‬ليس هذا زمانه ول زماننا‬
‫( ‪)42‬‬
‫فنحمل ما نقدر عليه من متاع ونرحل‪"..‬‬
‫وهذا االستطالع يكشف‪ -‬من زاوية‪ -‬أن للراوي مقدرة على التواجد يف آن‬
‫واحد يف أماكن متعددة وأزمنة خمتلفة "وهذا التنويع يف زوايا النظر يؤتى به لتأكيد هذه‬
‫القدرة على العلم اليت تكمن وراء القدرة على اإلعالم"(‪ )911‬ونرى أن مهمة الراوي قد‬
‫جتاوزت هذا الرصد السطحي ألقاويل الناس إىل إحداث غاية رمزية كمنت يف فعل كل‬
‫مئة تقولت قوالً فيما سبق‪ ،‬فالراوي من خالل هذا‬

‫(‪ )411‬الرواية‪ :‬ص ‪.11‬‬


‫(‪ )421‬الرواية‪ :‬ص ‪.12-11‬‬
‫(‪ )421‬محمد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ‪ ،‬ص ‪.126‬‬

‫‪215‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الرصد املباشر ينقلنا بطريقة غري مباشرة الستحضار مآل الناس بعد إعالن اهلزمية يف‬
‫غرناطة وموسى ابن أيب الغسان كان ميثل وميض اجلمر قبل انطفائه‪ ،‬فالفئة اليت أكربت‬
‫فيه تصرفه ومن مث إلقاء نفسه بالنهر فئة اختارت البقاء رغم كل الظروف‪ ،‬وفئة عارضت‬
‫فتعرضت للقتل‪ ،‬وفئة قاومت فنزحت إىل اجلبال لتقاتل األعداء‪ ،‬وفئة آثرت االنسحاب‬
‫طوعاً‪ .‬وقد جلأ الراوي إىل هذا االستعراض املموه حلكم الناس على موسى ابن أيب‬
‫الغسان‪ ،‬من قبيل رصد اخليارات املتبقية بعد إعالن اخلضوع‪.‬‬
‫ويف رواية "أرض السواد" مل يكن أمام املؤلف إال أن يوظف راوياً عليماً حلمل‬
‫األعباء اهلائلة اليت أوكلها املؤلف ملن سريوي األحداث فالرواية هتدف إىل استعراض حياة‬
‫الناس والسلطة يف آن واحد على اختالف طبقاهتا ومراتبها‪ ،‬وهذا لن يتأتى إال من خالل‬
‫را ٍو مرن ميتلك تصريح الدخول على "السراي" و "الباليوز" و "قهوة الشط"‪ ،‬وميتلك‬
‫تذاكر السفر إىل كركوك والسليمانية وشرق الفرات واجلنوب‪ ،‬ومع ذلك فقد مسح الراوي‬
‫لكثري من الشخصيات يف أن تتحدث بطالقة مرتني‪ ،‬يف املرة األوىل عندما مسح‬
‫للشخصيات أن تلهج بلغتها اخلاصة دون قيد‪ ،‬فربز احلوار باللهجة العامية العراقية‪ ،‬وهذا‬
‫ما أشعرنا غري مرة بغياب الراوي عن احلدث‪ ،‬ويف املرة الثانية عندما كان يستضيء بآراء‬
‫الناس إذا وقعت حادثة غري مألوفة‪ ،‬فيستمد من حتليل الناس هلذه احلادثة مصداقية فنية‬
‫تربز مرونته يف إدارة أحداث الرواية‪ ،‬وقد برز هذا غري مرة يف الرواية(‪.)911‬‬
‫أما يف رواية "رادوبيس" فقد كان الراوي العليم مرتبعاً خلف الشخصيات مراقباً‬
‫حلركاهتا وسكناهتا‪ ،‬فما مسح للشخصية بأن تتحدث إال ضمن املسار‬

‫(‪ )422‬أرض السواد‪.111/3 ،57/2 ، 313/1 :‬‬

‫‪216‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫املرسوم والدقيق‪ ،‬إذ بقي احلدث مرهوناً ذكره بإرادة الراوي‪ ،‬عن طريق املشاهد الروائية‬
‫املتالحقة اليت يأذن الراوي هبا فلم تتوزع املشاهد إال على القصر الفرعوين وقصر بيجة‬
‫حيث تسكن رادوبيس وبعض الطقوس الفرعونية والكهونتية‪ ،‬فالراوي ميتلك مهمة يسعى‬
‫إىل إجنازها سريعاً‪ ،‬وقد كان له ما أراد‪ ،‬ومل يسمح ألحدى الشخصيات أن تتدخل يف‬
‫السرد إال ضمن نافذة احلوار وباللغة اليت يرتضيها الراوي‪ ،‬فكل الشخصيات متتلك‬
‫املستوى نفسه من الرباعة اللغوية‪.‬‬
‫ويف رواية "احلجاج بن يوسف" كان الراوي العليم صاحب رسالة تعليمية‬
‫إخبارية واضحة‪ ،‬لقد اهتم بنقل االحداث وإدارة احلوار وسرد اللمع التارخيية على حد‬
‫سواء‪ ،‬فالراوي يف رواية جرجي زيدان متأثر بسيطرة املؤلف على حيثيات املوضوع‬
‫(التاريخ املراد سرده) فهو ال يرتدد يف اخلروج عن جادة الرواية إىل جادة التاريخ حىت دون‬
‫مربر‪ ،‬وهذا ما منحه مهمة إخبارية تزيد من املصداقية التارخيية على حساب املصداقية‬
‫الفنية‪:‬‬
‫"انتهينا من رواية غادة كربالء" إلى مقتل الحسين بن علي وأهله في‬
‫كربالء بجوار الكوفة‪ ،‬وما تال ذلك من وفاة يزيد بن معاوية سنة‬
‫‪ 64‬هـ"‬
‫ويف موضع آخر‪:‬‬
‫"كان عبد اهلل بن الزبير بن العوام من كبار الصحابة‪ ،‬وكان قد رفض‬
‫المبايعة ليزيد بن معاوية كما رفضها الحسين بن علي‪ ،‬وخرجا من‬
‫المدينة إلى مكة‪ ،‬ودعا كل منهما إلى بيعته هو‪"...‬‬

‫وهذا سرد تعليمي يفرضه الراوي على القارئ فيفرتض أن القارئ جيهل متاماً‬
‫السياق التارخيي هلذه األحداث فيتربع بأن يوضحها له دون افرتاض‬

‫‪217‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫نسبة ولو قليلة من املعلومات التارخيية يف ذهن املتلقي‪ ،‬وهذا شكل من أشكال سيطرة‬
‫الراوي سيطرة كاملة على إدارة الرواية قلصت من أسهم (العرض) ‪ Showing‬إىل‬
‫صاحل أسهم (اإلخبار) ‪.telling‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإن الرواية التارخيية تعتمد بشكل واضح – على األقل يف روايات‬
‫الدراسة‪ -‬على را ٍو عليم ال ينوء مبا يطلب إليه‪ ،‬قد يكون تسلل إليها من املالحم القدمية‬
‫والنصوص التارخيية‪ ،‬إذ قد كانت الروايات التارخيية وخاصة املبكرة منها قد منحت‬
‫صالحيات كبرية للراوي فسيطر على مالمح األحداث وحتكم يف منابعها‪ .‬أما يف‬
‫األجيال املتأخرة من الروايات التارخيية فقد طور الراوي العليم أساليبه فقلص من وصايته‬
‫املباشرة على الشخصيات فنطقت حبرية أكرب فزاد ذلك من مسرحة العمل الروائي وعمق‬
‫من مصداقيته الفنية‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفصل الثاني‬
‫المــستـوى الـتـاريـخـي‬

‫أ‪ -‬الموازنة بين الروائي والتاريخي‬


‫ب‪ -‬الشخصية في الرواية التاريخية‬
‫جـ‪ -‬مسوغات اللجوء إلى التاريخ‬

‫"ليس المطلوب اآلن اختراع البارود من‬


‫جديد‪ ،‬ولكن المطلوب إجادة استعماله"‬
‫عبد الرحمن منيف‪ ،‬رحلة ضوء‬
‫تـمهـيـد‪:‬‬
‫كيف ينأسر الالمتناهي يف املتناهي؟ وضمن أي فتوى تصاحلية يقبل أن يندرج‬
‫احلقيقي ضمن املبتدع؟ ولكن ماذا إذا كان مقصد املبتدع أن يتم نقص احلقيقي؟ وهل‬
‫للمبتدع قدرة على أن مينح احلقيقي املزيد من احلقيقة؟ وهل العالقة بني الالمتناهي‬
‫(التاريخ‪ ،‬احلقيقة) وبني املتناهي (الرواية‪ ،‬الزائف) عالقة تقاطع أم عالقة تصاحل؟ هي‬
‫رؤى متداخلة أحدثها متازج عجيب بني رافدين من روافد السرد يف حياتنا؛ التاريخ‬
‫(الذاكرة احلقيقية لإلنسان) والرواية (الذاكرة املفرتضة لإلنسان) فكيف للحقيقي واملفرتض‬
‫يتضاما يف خطاب واحد متوحد اللهجة مستقر العبارة؟ وهل ميكننا أن نع ّد هذا‬ ‫ّ‬ ‫أن‬
‫التضام تناصاً كبرياً يقصد به وضع التارخيي املقيّد ضمن السياق األديب املتحرر؟‬
‫ّ‬
‫إن الرواية هي حم ّفز من حمفزات التاريخ‪ ،‬ينبعث منها التاريخ جمدداً بتواصل أمنت‬
‫وحرية أوسع لتوثيق عالقته باحلاضر‪ ،‬فالرواية التارخيية هي يف‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫صورة من صورها تلبية للحاضر تنطلق منه حنو املاضي مث ترتد إليه عبقة بالدالالت‬
‫والتصورات واإلسقاطات‪ ،‬ولكن كيف حيدث هذا التوالف بني الرواية والتاريخ؟ ما هي‬
‫القوانني اليت حتكم عالقات االتصال واالنفصال بينهما؟ ما الطرق املثلى الستحضار‬
‫التاريخ وصبّه يف قوالب روائية مفتعلة؟ ومىت خيسر الروائي رهانه على التاريخ؟ مث كيف‬
‫للروائي أن يتعامل مع شخصيات تارخيية حقيقية مكتملة البناء حاضرة يف الذهن؟ أال‬
‫حي ّد ذلك من صالحياته اإلبداعية؟ وهل الشخصية التارخيية احلقيقية تع ّد ضيفاً غري‬
‫مرحب به دائماً‪ ،‬ألهنا تأيت بثياب جاهزة؟ أم أن مهمة الروائي هي الكشف عن تفاصيل‬
‫هذه الثياب وليس إلباسه ثياباً أخرى‪ .‬مث ما الدواعي احلقيقية للجوء الرواية للتاريخ؟ ملاذا‬
‫يستعري الروائي فصوالً من التاريخ دون فصول أخرى؟ أم أن التاريخ يف نظر الروائيني ميثل‬
‫نواة عمل طيّعة القياد يسهل العثور عليها‪.‬‬
‫وتنظيما ملا سبق من تساؤالت‪ ،‬سينتظم هذا الفصل ضمن ثالثة مباحث هي‪:‬‬
‫املبحث األول‪ :‬املوازنة بني الروائي والتارخيي‪.‬‬
‫املبحث الثاين‪ :‬التعامل مع الشخصية التارخيية‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬مسوغات جلوء الرواية إىل التاريخ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المبحث األول‬
‫الموازنة بين الروائي والتاريخي‬

‫إن مما يكسب الرواية التارخيية خصوصية ال متيّزها عن باقي بنات جنسها‬
‫فحسب بل عن األلوان األدبية األخرى أهنا تنطلق حنو ٍ‬
‫متلق و ٍاع مبجرياهتا العامة (أو‬
‫يفرتض ذلك) مدرك حليثياهتا التارخيية‪ ،‬ولن تكون سلطة األحداث ومجاليات الكتابة‬
‫(أحياناً) آسرة للمتلقي كما هي احلال يف الرواية عامة‪ ،‬بل سيكون متحرراً منها مقبالً‬
‫على مراقبة آلية تنفيذ احلدث التارخيي وبلورته وسيكون متابعاً إلضافات الروائي اليت جيب‬
‫أال تكون على حساب امل ّد التارخيي ومصداقيته‪ ،‬أو على حساب نفسها‪ ،‬ومن مث‬
‫ستغيب املصداقية الفنية‪ ،‬ألن الرواية ليست إعادة كتابة للتاريخ وإال أصبحت تارخياً‪ ،‬إهنا‬
‫طريقة أخرى الستيعابه وإعادة عرضه متهيداً الستثماره ممزوجاً بتوضيحات واستكماالت‬
‫يفرتض أهنا غُيبت عنه‪" ،‬إن الرواية التارخيية تقدم لنا صورة فنية كلية تضيف البعد‬
‫العاطفي الوجداين بعداً ثالثاً تدخل من خالله عناصر اإلبداع الفين"(‪ )911‬اليت قد تكون‬
‫مرغوبة يف مثل هذا السياق مجالياً‪ ،‬لكسر حدة الصرامة املنهجية التارخيية‪.‬‬
‫لقد جرى االتفاق آنفاً* على أن الرواية تتنازعها مرجعيتان؛ األوىل حقيقية‬
‫متصلة باحلدث التارخيي‪ ،‬والثانية مرجعية ختييلية مقرتنة باحلدث الروائي‪ ،‬وتلبية املرجعية‬
‫األوىل يعين حتقيق املصداقية الوثائقية وتنفيذ متطلبات‬

‫(‪ )423‬قاسمم عبممده‪ :‬الروايممة التاريخيمة عنممد محمممد فريمد أبممو حديممد‪ ،‬مجلمة أدب ونقممد‪ ،‬ع‪ ،144‬أغسممطس‬
‫‪ ،1117‬ص‪.43-42‬‬
‫*‬
‫الباب األول‪ -‬الفصل الثالث (الرواية التاريخية المساحة والح ّد)‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫املرجعية الثانية يعين حتقيق املصداقية الفنية‪ ،‬ولعل اجتماع املصداقيتني هو مطلب الرواية‬
‫التارخيية األول‪ ،‬وحىت يكون ذلك فال ب ّد للمعلومة التارخيية من طريق آمن تعرب منه إىل‬
‫عمق الرواية‪ ،‬فكيف يستثمر الكتاب األحداث التارخيية؟ أي ما هي الطرق املتبعة يف‬
‫عرض املعلومة التارخيية املستعارة لغايات إبداعية تأويلية؟‬
‫الطريقة األولى‪ :‬وهي سرد جمموعة من األخبار التارخيية املتتابعة يف مطلع‬
‫العمل الروائي بقلم املؤرخ هي مبثابة متهيد جملريات تارخيية ستشتغل عليها الرواية‪ ،‬ومثال‬
‫ذلك رواية "احلجاج بن يوسف" جلرجي زيدان‪ ،‬إذ عرض يف مطلع روايته مقطعاً سردياً‬
‫نص فيه على أحداث تارخيية غلّفت أجواء تلك الفرتة موضوع اهتمام الرواية‪ ،‬وقد‬ ‫كامالً ّ‬
‫مسّى جرجي زيدان هذا املقطع بـ "فذلكة تارخيية"‪:‬‬

‫"انتهينا في رواية "غادة كربالء" إلى مقتل الحسين بن علي وأهله في‬
‫كربالء بجوار الكوفة‪ ،‬وم ا تال ذلك من وفاة يزيد بن معاوية سنة‬
‫‪64‬هـ‪ .‬وكان عبد اهلل بن الزبير ما زال في مكة يدعو إلى بيعته وقد‬
‫الجو بعد موت الحسين‪ .‬وكان يزيد قد بعث لقتاله جند ا‬
‫خال له ّ‬
‫بقيادة الحصين بن نمير‪ ،‬فحاصروه بمكة‪ ،‬ثم جاء الخبر بوفاة يزيد‬
‫وهم في الحصار‪..‬‬
‫أما أهل الشام فبايعوا بعد موت يزيد ابنه معاوية (الثاني)‪ ..‬وأما أهل‬
‫الكوفة فإنهم بعد مقتل الحسين ندموا على تخليهم عنه‪ ..‬وفي سنة‬
‫‪ 66‬هـ ظهر في الكوفة رجل اسمه المختار بن أبي عبيد‪ ،‬قام يطالب‬
‫(‪)424‬‬
‫بدم الحسين ويدعو الناس إلى بيعة ابن الزبير‪" ..‬‬

‫(‪ )424‬الرواية‪ ،‬ص ‪.15‬‬

‫‪212‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وبعد‪ ،‬فإن االقتطاع السابق اقتطاع مباشر جداً كتب بلغة إخبارية مباشرة ميكن‬
‫أن نسميها "سردية تارخيية" مهّها األول إيصال الفكرة ضمن أقصر السبل املتاحة‪ .‬ويف‬
‫املثال السابق يرهتن السرد يف بُعد تسجيلي واضح املعامل يقدم املعلومة التارخيية دون‬
‫تدخل يف حتليل أو إيضاح أو مداخلة‪ .‬والكاتب يقع رهينة مطواعية املادة التارخيية اليت‬
‫ح ّذر منها "لوكاش" واصفاً إياها بأهنا "فخ للكاتب العصري"(‪ ،)916‬ألن "عظمته بوصفه‬
‫روائياً سوف تعتمد على الصراع بني نواياه الذاتية‪ ،‬والصدق والقدرة اللذين يرسم هبما‬
‫الواقع املوضوعي‪ .‬وكلما سارت نواياه على حنو سهل كان عمله أضعف وأفقر وأكثر‬
‫هزاالً"(‪ ،)915‬فالصدق التارخيي حاصل يف الشاهد السابق من رواية "احلجاج بن يوسف"‬
‫ولكن على حساب الصدق الفين‪ ،‬خاصة وأن هذه املقدمة التارخيية اليت عرضها يف بداية‬
‫روايته وهي جزء من الرواية مل حيتج الكاتب أن يبين عليها أحداثاً تالية إال يف النصف‬
‫اآلخر من الرواية‪ .‬علماً بأن الراوي كان بإمكانه أن يوزع هذا احلشد املتتايل من األخبار‬
‫التارخيية على جمريات األحداث عن طريق تقنية االسرتجاع أو املونولوج أو تيار الوعي‬
‫إلحدى الشخصيات‪ ،‬ولكن على ما يبدو أن سيطرة البعد الفكري التعليمي يف هذه‬
‫الرواية قد أثّرت بشكل واضح على األداء الفين‪ ،‬فاملرجعية التارخيية تتفوق بشكل واضح‬
‫على املرجعية الفنية‪ .‬وتكاد تكون مسة الروايات التارخيية يف مرحلتها األوىل انشغاهلا‬
‫باملرجعية التارخيية لغايات تعليمية ظاهرياً‪ ،‬وهذا ينطبق على روايات جرجي زيدان وحممد‬
‫فريد أبو حديد وعلي اجلارم وغريهم من كتاب املرحلة األوىل يف الرواية التارخيية‪.‬‬

‫(‪ )425‬جورج كوكاش‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪.131‬‬


‫(‪ )426‬المرجع نفسه‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ومن األمثلة كذلك على عرض األحداث التارخيية يف مطلع الرواية ما جاء يف‬
‫بداية "أرض السواد" حتت عنوان فرعي "حديث بعض ما جرى"‪:‬‬
‫ظل واليا لبغداد اثنتين‬
‫"لما حضرت سليمان الكبير الوفاة‪ ،‬بعد أن ّ‬
‫وعشرين سنة‪ ،‬جمع أولده الثالثة‪ :‬سعيد وصالح وصادق‪ ،‬وجمع‬
‫معهم أصهاره األربعة‪..‬‬
‫لم يكد سليمان باشا يلفظ أنفاسه – وقيل إن ذلك تم قبل ساعة‬
‫من الوفاة‪ -‬حتى جمع رئيس اإلنكشارية‪ ،‬أحمد آغا‪ ،‬من استطاع‬
‫جمعهم من الرعاع والسوقة واستولى على القلعة‪..‬‬
‫وفي اليوم الذي تال وفاة سليمان الكبير نودي في بغداد باسم علي‬
‫(‪)427‬‬
‫باشا واليا‪ ،‬فأعطى الباشا الجديد األمان ‪"..‬‬
‫وعبد الرمحن منيف حيشد يف بداية روايته عشر صفحات الستقصاء أبرز‬
‫األحداث التارخيية اليت جرت قبيل البداية الفعلية للرواية‪ ،‬لكنه ال يعرضها بالصرامة والدقة‬
‫اللتني سلكهما جرجي زيدان فيما سبق‪ ،‬فالتواريخ مغيّبة عن السرد‪ ،‬وهذه خطوة أوىل‬
‫حنو تطويع املادة التارخيية‪ ،‬فضالً عن ذلك فإن الراوي حياول استعراض أكثر من رأي يف‬
‫القضية نفسها ليشعرنا بفنية العمل‪ ،‬وشاهده‪" :‬مل يكد سليمان باشا يلفظ أنفاسه‪-‬‬
‫وقيل إن ذلك مت قبل ساعة من الوفاة‪ -‬حىت مجع رئيس اإلنكشارية‪ ،‬أمحد آغا‪ "..‬فهذه‬
‫اإلضافة وغريها تسبغ على العمل الروائي التارخيي مصداقية فنية تنقذه من املرجعية‬
‫التارخيية‪ ،‬إضافة إىل أن الراوي كان يضيف بني سطر وآخر عبارات توحي بقصصية‬
‫احلدث ال سردية التاريخ‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫الرواية‪.16-15/1 :‬‬ ‫(‪)427‬‬

‫‪214‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫"ما كادت هذه الغمة تنقضي‪ ،‬وقبل أن يستمر الوضع لعلي باشا‬
‫( ‪)42‬‬
‫حتى بدأ الغزو"‬
‫"وأشيع خالل تلك الفترة أن محمد بك الشاوي وأخاه عبد العزيز‪،‬‬
‫( ‪)42‬‬
‫يميالن إلى العقيدة الوهابية"‬
‫إن مثل هذه التدخالت تكسب العمل مصداقية فنية تتجاوز االلتفات حنو‬
‫التارخيي فقط‪ .‬وقد أظهر عبد الرمحن منيف حرصاً يف مطلع روايته على أن يسرد ماضيا‬
‫ميتد سنوات خلت هو مبثابة توطئة جملريات األحداث الالحقة من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‬
‫منح الرواية التارخيية طابعاً تارخيياً منذ البداية‪.‬‬
‫الطريقة الثانية‪ :‬مزج السردي بالتارخيي؛ وهي طريقة متطورة إلضفاء معامل‬
‫خطابني متضامني يف صورة واحدة‪ .‬وهذا يساعده على تقدمي التفسري والتحليل ورمبا‬
‫التأويل فيما يقرتح‪ ،‬واملثال التايل من "رادوبيس" يوضح ذلك‪:‬‬
‫"ووقفت الجنود صفين على جانبي الطريق العظيم شاهري الرماح‪ ،‬وقد نصبت‬
‫على مسافات متباعدة تماثيل بالحجم الطبيعي لملوك األسرة السادسة‪ ،‬آباء‬
‫فرعون وأجداده‪ ،‬فرأى األقربون تماثيل الفراعين‪ ،‬أسر كرى‪ ،‬وتيتي األول‪،‬‬
‫وبيبي األول‪ ،‬ومحتمساوف األول‪ ،‬وبيبي الثاني"( ‪.)43‬‬
‫واملثال السابق يروج من خالل السرد املنشغل بوصف أحد أيام العيد وما يرافق‬
‫ذلك من استعانة لبعض املعلومات التارخيية عن العائلة اليت ينتمي إليها فرعون‪ ،‬فهو من‬
‫ملوك األسرة السادسة ومن خالل التماثيل املعروضة عرفنا أمساء ملوكهم بدقة‪ ،‬وقد جاء‬
‫هذا األمر عفوياً دون قصد واضح‪ ،‬ويف‬

‫(‪ )421‬الرواية‪.11/1 :‬‬


‫(‪ )421‬الرواية‪.11/1 :‬‬
‫(‪ )431‬الرواية‪ :‬ص ‪.7‬‬

‫‪215‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫هذه الطريقة يظهر التوازن بني املرجعية التارخيية واملرجعية الفنية‪ ،‬فمن خالل االنشغال‬
‫بتتبع األحداث املتعاقبة تأيت املعلومة التارخيية لتكمل املشهد دون تكلف أو قصد‪.‬‬
‫الطريقة الثالثة‪ :‬عرض املعلومة التارخيية من خالل انعكاسها على تصرفات‬
‫الناس وسلوكياهتم وظهورها يف حوارهم‪ .‬وتع ّد هذه الطريقة من أكثر الطرق انسيابية يف‬
‫عرض املعلومة حيث الشخصيات هي اليت تتأثر وحتكم وتعاين وتفرح دون تدخل سارد‬
‫يوقف احلديث عند موضع ليسرد تارخيياً حان دوره مث يستأنف‪ .‬ولكن هذه الطريقة‬
‫متتلك القدرة على تفعيل هذين اخلطابني‪ :‬الروائي والفين جنباً إىل جنب فتتحقق املوازنة‬
‫بينهما‪ ،‬واملثال التايل من "ثالثية غرناطة" يكشف عن بعض جرائم القشتاليني يف حماكم‬
‫التفتيش يف األندلس‪:‬‬
‫"احت ّد صوت حسن‪.‬‬
‫‪ -‬هل تتهمنى بالتخاذل؟‬
‫لم يجبه سعد ولكنه تطلع إليه فزادت نظرته توترا كانت النظرة تتهم‪.‬‬
‫عال صوت حسن‪:‬‬
‫‪ -‬لن أدافع عن نفسي ليست خطيئة أن تحمي أهل بيتك ولو‬
‫بالتحايل‪ ،‬تواصل الحياة لكي تضمن لهم لقمة العيش والستر بين‬
‫جدران بيت يضمهم القشتاليون ل يرحمون وأنت تعرف وترى بأم‬
‫عينيك كل يوم إذ تساورهم الشكوك في شخص‪ ،‬مجرد شكوك‪،‬‬
‫يأخذونه ويحققون معه ويعذبونه حتى ينتزعوا منه اعترافات قد ل‬
‫تكون إل اختالقا يختلقه عقله للخالص من العذاب‪ ،‬وقد يحكمون‬
‫عليه بالموت أو يموت من عذابهم قبل أن يحكموا فيصبح عياله‬
‫بال عائل وتخرج زوجته إلى الشارع لتعيل صغارها‪ ،‬والحرة ل تأكل‬
‫من حليب ثدييها‪ ،‬ولكنها تأكل حين يجوع الصغار!‬

‫‪216‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -‬كالم كله صحيح‪ ،‬ولكن ما الذي تقترحه لمواجهة هذا‬


‫(‪)431‬‬
‫البالء؟"‬
‫ومن خالل املشهد احلواري السابق ظهرت املعلومات التارخيية وهي طريقة مقنعة‬
‫يف تقدمي التارخيي من خالل الفين‪ ،‬فالشخصيات املتحاورة نابت عن الراوي يف إيصال‬
‫املعلومة التارخيية اليت تكشف عن وحشية القشتاليني ضد من بقي من العرب يف غرناطة‪.‬‬
‫ومن األمثلة على هذه الطريقة هذا املشهد احلواري من "أرض السواد" والذي‬
‫جيمع بني القنصل الربيطاين (ريتش) وزوجته (ماري) ويدور هذا احلديث حول اآلثار اليت‬
‫شاهداها يف مشال العراق‪:‬‬
‫"في هذا الليل قالت (ماري) لريتش‪ ،‬بنوع من الرجاء‪ ،‬األقرب إلى‬
‫التوسل‪ -:‬قد أكون مجنونة‪ ،‬أو أصبحت مهووسة بهذه األشياء‬
‫الرائعة‪ ..‬وامتأل صوتها بالحزن‪:‬‬
‫‪ -‬هل تتصور‪ ،‬يا كلود‪ ،‬أننا قادرون على مغادرة هذه البالد‪ ،‬وترك‬
‫هذه األشياء وراءنا‪ ،‬بحيث ل نستطيع أن نراها مرة أخرى؟‬
‫ر ّد في محاولة لمنعها من مواصلة الحزن‪:‬‬
‫وسوف تتاح لنا فرص كثيرة لرؤيتها‪..‬‬
‫وبعد قليل‪ ،‬وكأنه يفكر بأشياء كثيرة معا‪:‬‬
‫‪ -‬إذا لم يكن كل سنة‪ ،‬فحالما نملك وقت ا أو ظروف ا مؤاتية!‬
‫سألت ماري بتردد‪ ،‬وشاب صوتها نغم يائس‪:‬‬
‫‪ -‬أل نستطيع أن نرحلها؟ أن نحملها إلى هناك‪ ،‬حيث يجب أن‬
‫(‪)432‬‬
‫تبقى‪ ،‬إلى األبد؟"‬

‫(‪ )431‬الرواية‪ ،‬ص ‪.141-131‬‬


‫(‪ )432‬الرواية‪.76-75/1 :‬‬

‫‪217‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫واملشهد احلواري السابق بأسلوبه التباديل الفعال يكشف لنا معلومة تارخيية‬
‫سوقت من خالل احلوار فنطقت الشخصيات‬ ‫غاية يف األمهية مل يذكرها السرد مباشرة بل ّ‬
‫بلسان حاهلا‪ ،‬إذ إن اآلثار يف العراق حتولت إىل مطمع الطامعني‪ ،‬واإلجنليز هم أعداء‬
‫األ رض واآلثار على حد سواء ويفكرون بطريقة خيالية تدعو إىل سرقة هذه اآلثار ونقلها‬
‫حتسه‬
‫إىل وطنهم األم‪ ،‬ويبدو أن االقرتاب أكثر من الشخصيات حىت تفضي لنا مبا ّ‬
‫وتشعر به فتنهال احلوادث التارخيية املنعكسة على حواراهتم‪.‬‬
‫الطريقة الرابعة‪ :‬ويف هذه الطريقة يروى احلدث التارخيي أكثر من مرة‪ ،‬ولكن‬
‫يف كل مرة تتوىل أمره جمموعة من الشخصيات يعاجلونه بطريقتهم اخلاصة‪ ،‬فتظهر للخرب‬
‫أكثر من زاوية للرؤية‪ ،‬مما يساعد على تبلور احلدث التارخيي واتضاح معامله أكثر‪ ،‬فضالً‬
‫عن أن هذا اللون من تقدمي التارخيي يف ثوب السردي خيفف من ح ّدة املسؤولية التارخيية‬
‫املناطة بالرواي‪ ،‬ونذكر املثال التايل من رواية "أرض السواد" اليت شاعت فيها مثل هذه‬
‫الظاهرة ظاهرة "تكرار السرد" خاصة إذا كان جمال احلديث خرباً تارخيياً‪ .‬واخلرب التايل‬
‫سيرتدد ذكره على ألسنة الناس فريويه كل واحد بطريقته مضيفاً أو مضخماً أو منتقصاً‪،‬‬
‫إنه خرب مقتل سعيد باشا وايل بغداد املخلوع الذي قتل عام ‪1111‬م وحيثيات هذا‬
‫القتل‪:‬‬
‫" في الكرخ‪ ،‬في قهوة أبو الخيل يتجمع عدد من رجال سليمان‬
‫الغنّام‪ ،‬فإن كل واحد من هؤلء الرجال‪ ،‬حين يسأل عما حصل في‬
‫القلعة (مكان مقتل سعيد باشا) تكون إجابته مطابقة أو مقاربة‬
‫إلجابة اآلخرين! يقول هؤلء الرجال إنهم تركوا القلعة في وقت‬
‫مبكر‪ ،‬تركوها قبل أن يدخل داود باشا بغداد بأيام‪ ،‬ربما تكون‬
‫ألنهم لم يعودوا يعرفون من هو الوالي‪ ،‬ومن له‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫حق إصدار األوامر‪ ،‬ليس ذلك فقط‪ ،‬كانت األوامر تتغير بين لحظة‬
‫وأخرى‪..‬‬
‫ويتبرع واحد من الجالسين لكي يقول إن الرواتب لم تدفع لهم منذ‬
‫شهور‪ ..‬وهكذا تركوا القلعة دون أسف‪..‬‬
‫ويؤمن آخرون على صحة ما يقال‪ ،‬كي ل يظن أن لهم عالقة أو‬
‫(‪)433‬‬
‫يتحملون أية مسؤولية"‬
‫واملقطع السابق هو متهيد لرواية حدث مقتل سعيد باشا ضمن أكثر من تصور‪،‬‬
‫والراوي هنا يظهر براعة يف االسراع يف نقل احلدث من مكان إىل مكان‪:‬‬
‫"يقول رجال الغنّام بانفعال إن ل أحد يستطيع أن يدافع وأن يحمي‬
‫مثلهم‪ ،‬كانوا ل يسمحون حتى للطير أن يعبر فوق القلعة حين كانوا‬
‫فيها‪ ..‬أما أن يكون الحراس نياما أو متساهلين‪ ،‬وأن تقع مثل هذه‬
‫األحداث الخطيرة‪ ،‬ول يستطيعون منعها أو مقاومتها‪ .‬فهذا يؤكد‬
‫(‪)434‬‬
‫صحة الموقف الذي اتخذوه بالنسحاب في وقت مبكر"‬
‫وما سبق يقدم رؤية من جانب احلراس الغاضبني الذين انسحبوا من مكان‬
‫احلدث قبل وقوعه لعدم رضاهم عن جمريات األمور‪ ،‬ويف رواية ثانية‪:‬‬
‫"وفي المحالت األخرى بصوب الكرخ تتردد القصة ذاتها‪ ،‬أو ما يشابهها‬
‫باختالف بسيط في بعض التفاصيل‪ .‬تقول القصة إن حراس القلعة كانوا‬
‫نياما لما تسلل عدد من رجاله داود‪ ،‬واستطاعوا الوصول إلى الجناح الذي‬
‫يقيم فيه سعيد باشا ودون صوت‪ ،‬دون أن يحس بهم أحد‪ ،‬اقتحموا‬
‫غرفته‪ ،‬وهناك حدث الشتباك‪ ،‬ول يعرف ما إذا قتلوا سعيد أو أسروه‪..‬‬

‫(‪ )433‬أرض السواد‪.57-56/1 :‬‬


‫(‪ )434‬الرواية‪.57/1 :‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫حين تروى القصة بهذا الشكل‪ ،‬تترك احتمالا أن سعيد لم يقتل‪ ،‬ول‬
‫(‪)435‬‬
‫يعرف إذا سيسلم نفسه‪ ،‬أم سيقاوم‪"..‬‬
‫ويف مكان آخر يف حملة امليدان هناك إضافات جديدة‪:‬‬
‫"سكان محلة الميدان يؤكدون أنهم دفنوا رأسين كانا بالقرب من‬
‫القلعة‪ ،‬لكن ليس أي منهما لسعيد باشا‪ ،‬وهذا ما أقسم على صحته‬
‫منعم األسود أحد الذين عملوا في السراي في فترة سابقة‪ ،‬وقد رأى‬
‫بنفسه‪ ،‬ومن قرب سعيد باشا‪ ،‬وبالتالي له القدرة على التمييز بين‬
‫(‪)436‬‬
‫هذين الرأسين ورأس الباشا! "‬
‫وال تنتهي اإلخباريات عند هذا احلد بل يكثّف الراوي جهوده جلمع املزيد منها‪:‬‬
‫"أما سكان األطراف من‪ ،‬القريبين من السوء‪ ،‬فيرددون قصص ا من‬
‫نوع آخر‪ ،‬وكلها تؤكد أن سعيد باشا ل يزال حي ا‪ ،‬وقد نجا من‬
‫الحصار الذي فرضه داود‪ ،‬وغادر بغداد‪ ،‬مع عدد من رجاله نحو‬
‫(‪)437‬‬
‫الجنوب‪"..‬‬
‫أما القاطنون عند الباب الشرقي فلهم روايتهم كذلك‪:‬‬
‫"سمعوا طلقات نارية في ليلتين متواليتين‪ ،‬وقيل إن عددا من الفرسان‬
‫حاولوا اختراق الطوق ومغادرة المدينة‪ ،‬من هذه الناحية‪ ،‬لكن ر ّدوا‪ .‬أكد‬
‫ذلك أحد الحراس الليليين‪ ،‬وقد توارى في الوقت الذي م ّد فيه الفرسان‪،‬‬
‫لكنه سمع صيحات تحذير ترددت عدة مرات‪ ،‬وقد ميز بوضوح كلمة‬
‫بالذات "يا باشا‪ ..‬يا باشا" ثم عاد الفرسان من حيث أتوا! "( ‪.)43‬‬

‫(‪ )435‬الرواية‪.57/1 :‬‬


‫(‪ )436‬الرواية‪.51/1 :‬‬
‫(‪ )437‬الرواية‪.51/1 :‬‬
‫(‪ )431‬الرواية‪.51/1 :‬‬

‫‪221‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫مث تتواىل الروايات إىل أن تنتهي يف "قهوة الشط" حيث عامة الناس وبسطاؤهم‬
‫الذين ال ميلون من جتاذب األحاديث وافرتاض احليثيات إىل أن يقرر أكثر من واحد‪:‬‬

‫"أن سعيد باشا قتل‪ ،‬وأنه مات وشبع موتا‪ ،‬كان كل من يتكلم يقول‬
‫( ‪)43‬‬
‫ذلك بثقة راسخة‪ ،‬خالفا لألماكن األخرى"‬

‫إن ما سبق من جتاذب وتناقل حلادثة جيهل الناس جمرياهتا ضمن أكثر من‬
‫احتمال ليخفف على املؤلف‪ /‬الراوي من ثقل املسؤولية التارخيية يف تقرير قصة دون‬
‫أخرى‪ ،‬فيوظف املؤلف‪ /‬الراوي غري قصة فيحقق أكثر من غاية‪:‬‬
‫إذ ختلص أوالً من املسؤولية التارخيية اليت قد تشكك يف مصداقيته التارخيية‪ ،‬إذا ما‬ ‫‪-‬‬
‫أرخت اخلرب مل تتفق على حيثيات مقتل سعيد‬ ‫علمنا أن املصادر التارخيية اليت ّ‬
‫باشا وقد استفاد املؤلف من هذه احليثيات فنثرها على ألسنة البغداديني (‪.)999‬‬
‫إثبات قدرة الراوي العليم على التنقل حبرية وخفة بني أهل بغداد لرصد ما يتقوالنه‬ ‫‪-‬‬
‫عن هذا األمر‪ ،‬وإثبات هذه القدرة يؤكد مرونة الراوي يف السماح لغريه بأن يتكلم‬
‫ويبدي وجهة نظره‪.‬‬
‫تأكيد أن هذه الرواية جاءت إلظهار أناس القاع وإبراز آرائهم والتغلغل بينهم‬ ‫‪-‬‬
‫وكشف وجهات نظرهم‪ ،‬وهذا ما حاول مؤلف الرواية تأكيده يف أكثر من مرة‬
‫"كان من الضروري يف أرض السواد أن تربز بوضوح املالمح‬

‫(‪ )431‬الرواية‪.61/1 :‬‬


‫(‪ )441‬لمعرفة الوقائع التاريخية المقترحة لمقتل سعيد باشا راجع‪:‬‬
‫عبد العزيز نوار‪ :‬داود باشا والي بغداد‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬الجمهورية العربية المتحدة‪( ،‬د‪.‬ت)‪،‬‬
‫ص‪.11-77‬‬

‫‪221‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫(‪)991‬‬
‫وقد استطاعت الرواية أن تنطلق من الشعيب‬ ‫الدقيقة لألماكن واملناخات والبشر"‬
‫إلقرار احلدث العام‪.‬‬
‫الطريقة الخامسة‪ :‬أن تدار األحداث بطريقة متصاعدة جتعل املتلقي حمتاجاً إىل‬
‫خامتة تارخيية حتسم املوقف وتكشف النهاية‪ ،‬ويف مثل هذه احلال يبلغ الصدق الفين يف‬
‫متازجه بالصدق التارخيي مرحلة متقدمة‪ .‬فعلى سبيل املثال كانت وترية األحداث يف‬
‫"ثالثية غرناطة" تتصاعد وتتأزم حنو نتيجة واحدة وأكيدة بتنا نطلبها كلما توغلنا يف‬
‫(‪ )916‬صفحة من املعاناة ختلص‬ ‫القراءة هي قرار الرحيل أو الرتحيل وفعالً وبعد‬
‫الرواية إىل النتيجة احلتمية يكون الرتحيل القسري بعد مئة سنة من املعاناة والصرب‬
‫والكفاح بارداً قاسياً‪ ،‬فجاء القرار متوقعاً بل منتظراً من املتلقي‪:‬‬
‫" المقدمة المعتادة عن خيانة عرب البالد بناء عليه تقرر ترحيلهم في‬
‫غضون ثالثة أيام إلى الثغور المحددة والموت عقوبة المخالفين ‪.‬‬
‫"للراحلين أن يأخذوا من المتاع ما يستطيعون حمله على ظهورهم‪،‬‬
‫وتتكفل السلطات بإطعامهم أثناء السفر‪ ،‬وعلى كل أن يلزم مكانه‬
‫انتظارا لنقله إلى الشواطئ ومن يبرح مكانه يتعرض للنهب والمحاكمة‪،‬‬
‫ومن يقاوم يعاقب بالموت‪.‬‬
‫أمالك المرحلين صارت بحكم المرسوم الملكي ملكا لإلقطاعيين‪ ،‬فمن‬
‫يعمد إلى إخفاء أمالكه أو حرقها يعاقب هو وكل سكان الناحية‬
‫(‪)442‬‬
‫بالموت‪"..‬‬
‫لقد وصلت الرواية إىل هناية حمتومة كان البد للتاريخ من أن حيسمها وبطريقته‬
‫املباشرة‪ ،‬فكانت هناية األحداث متوقعة بل مطلوبة الستكمال املشهد‪.‬‬

‫(‪ )441‬عبد الرحمن منيف‪ :‬رحلة ضوء‪ ،‬ص ‪.136‬‬


‫(‪ )442‬ثالثية غرناطة‪ :‬ص ‪.476‬‬

‫‪222‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ويف هنايات "أرض السواد" كنا ننتظر النتيجة احلتمية نفسها للقنصل الربيطاين‬
‫(ريتش) إذ إن وترية األحداث تتصاعد بني داود باشا يف السراي و(ريتش) يف (الباليوز)‬
‫أو مقر القنصلية الربيطانية ويصل التحدي ذروته فتنحبس األنفاس بتعاظم النفس من‬
‫التاريخ هناية مؤكدة تؤكد االنتصار ولو كان مؤقتاً‪ ،‬وقد متثل ذلك باللقاء التارخيي بني‬
‫(ريتش) وداود أعلن فيه األول انسحابه من بغداد فكانت تلك سابقة نادرة يف ذلك‬
‫العصر املزدحم باملآسي واهلزائم‪ ،‬وكانت النهاية التارخيية ضرورية لتأكيد هذا النصر فدار‬
‫مطول بني (ريتش) وداود على آخر قضية تسببت يف فصم ما تبقى من عرى‬ ‫حوار ّ‬
‫التفاهم بني الطرفني وتقرر أن يغادر (ريتش) بغداد بناء على طلبه شرط أن يبعث‬
‫(ريتش) برسالة رمسية إىل السراي تؤكد رغبته يف ترك بغداد والتوجه جنوباً‪ ،‬ومل يكن له أن‬
‫يغادر لو مل يبعث هذه الرسالة‪ :‬و"بعد يومين من هذا اللقاء‪ ،‬أرسل ريتش إلى‬
‫السراي الخطاب الذي طلبه الباشا"(‪.)443‬‬
‫الطريقة السادسة‪ :‬أن تكون املعلومة التارخيية عالة على السياق الروائي‪ ،‬أي أن‬
‫حضورها ال يسهم كثرياً يف بناء الرواية بل هو تربع من املؤلف‪ /‬الراوي يف غري حمله‬
‫الستكمال هدف قصد إليه املؤلف؛ كأن يكون هدفه تعليمياً مثالً أو عواطفه قد سبقت‬
‫خمططه يف الكتابة‪ ،‬فوقع أسرياً يف شرك التاريخ وتغلب اخلطاب التارخيي على اخلطاب‬
‫الروائي‪ .‬وقد مارس جرجي زيدان هذه الطريقة غري مرة خالل سرده لرواية "احلجاج بن‬
‫يوسف" نذكر منها مشهداً حوارياً دار بني عبد اهلل بن الزبري وبني حسن الشخصية‬
‫الرئيسية يف الرواية‪ ،‬إذ يفتعل املؤلف‪ /‬الراوي حواراً يدور بينهما ليسرد على لسان حسن‬

‫(‪ )443‬الرواية‪.315/3 :‬‬

‫‪223‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫بطل الرواية حوادث تارخيية ال حيتاج إليها السياق بل هي تقدم إضاءة خارجية على‬
‫بعض األحداث اليت حصلت ولكنها كتبت بقلم املؤرخ‪:‬‬
‫"فأسرع عبد اهلل في قطع الكالم ألنه ل يحب أن يتذكر الخطأ الذي‬
‫ارتكبه في ذلك ولوله لكان بنو العوام خلفاء اإلسالم بدل بني أمية‬
‫لشدة اضطراب حال بني أمية في ذلك الحين‪ .‬وقال لحسن‪" :‬ثم‬
‫ماذا؟ أوصلْنا إلى حديث خالد"‬
‫قال‪" :‬لما مات يزيد بايع أهل الشام ابنه معاوية (الثاني كما تعلمون وهذا لم‬
‫يكن يرى لبني أمية حق ا في الخالفة كما صرح جهارا في خطابه بعد أن‬
‫تولها بأربعين يوم ا‪ ،‬فإنه أمر فنودي" (الصالة جامعة) فلما اجتمع الناس‬
‫وقف فحمد اهلل وأثنى عليه ثم قال‪( :‬أما بعد‪ ،‬فإني ضعفت عن أمركم‪،‬‬
‫فابتغيت لكم مثل عمر ابن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده‪،‬‬
‫فابتغين ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم‪ ،‬فأنتم أولى بأمركم فاختاروا ما‬
‫كنت ألتزودها ميتا وما استمتعت بها حيا) ثم دخل داره وتغيب حتى مات‪،‬‬
‫فلما مات معاوية هذا اختلف الناس فيمن يولونه واضطربت األحوال حتى‬
‫(‪)444‬‬
‫آل األمر إلى مبايعة مروان بن الحكم ألنه‪" ..‬‬
‫ويستأنف السرد إسناد اإلخبار التارخيي هلذه الشخصية حىت يروى لعبد اهلل بن‬
‫الزبري ما جرى بعد وفاة يزيد‪ ،‬ويف احلقيقة أن الراوي هو من يقحم مثل هذا السرد‬
‫التارخيي على لسان الشخصية وكأن عبد اهلل بن الزبري يستمع هلذه االستذكارات التارخيية‬
‫ألول مرة‪ .‬يف مثل هذا السياق تتبدل مهمة الرواية من أدبية خالصة إىل تارخيية خالصة‬
‫وهنا ال يتحقق التوازن بني التارخيي والروائي‪ .‬بل جيب على املؤلف دوماً من خالل راوية‬
‫أن يبحث عن الطريقة األنسب لعرض املعلومة التارخيية املسامهة يف بناء الرواية التارخيية‬

‫(‪ )444‬الرواية‪ :‬ص ‪.115‬‬

‫‪224‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫مسامهة فاعلة‪ ،‬ولكن ضمن مسارها اخلاص الذي ال يفسد أدبية العمل وال تارخيية‬
‫الغاية‪ ،‬فليس املهم يف الرواية التارخيية "إعادة سرد األحداث التارخيية الكبرية‪ ،‬بل اإليقاظ‬
‫التخييلي للناس الذين برزوا يف تلك األحداث‪ ،‬وما يسهم هو أن نعيش مرة أخرى‬
‫الدوافع االجتماعية واإلنسانية اليت أدت إىل أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا كما فعلوا ذلك‬
‫متاماً يف الواقع التارخيي"(‪ )996‬كما أن على الرواية التارخيية أن "حتدد يف املاضي األسباب‬
‫اليت كانت وراء ما حدث بعد ذلك‪ ،‬وأيضاً رسم السريورة اليت تطورت بشكل بطيء من‬
‫خالهلا وأحدثت هذا الواقع"(‪.)995‬‬
‫وبعد‪ ،‬فالرواية التارخيية لون يتنازعه هاجسان؛ األول‪ :‬القضية املعاجلة (املادة‬
‫التارخيية) والثاين‪ :‬اإلخراج (األداء الفين) ولعل تغليب أحدمها على اآلخر هو تغليب‬
‫للعمل على نفسه‪.‬‬

‫(‪ )445‬جورج لوكاش‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫(‪ )446‬امبيرتوإيكو‪ :‬حاشية على "اسم الوردة" آليات الكتابة‪ ،‬ترجمة وتقديم سعيد بنكراد‪.‬‬
‫‪www.said-Yaktin.com/eco.htm‬‬

‫‪225‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المبحث الثاني‬
‫التعامل مع الشخصية التاريخية‬

‫إن كل مضمون البد وأن يفرض شكالً خاصاً به‪ ،‬والشخصية مهما اختلفت‬
‫وتنوعت فإهنا مضمون يفرض شكله اخلاص‪ ،‬وهذا األمر ستتضاعف مسؤوليته إن كان‬
‫املضمون منجزاً يف التاريخ‪ ،‬وعلى األديب أن يتعامل معه ضمن هذا املعطى‪ .‬ويف احلقيقة‬
‫إن الشخصية التارخيية شخصية مرهقة لكتاب الرواية بشكل عام‪ ،‬وكاتب الرواية التارخيية‬
‫بشكل خاص‪ ،‬ألهنا تدخل إىل عمل حبقيبة مالبس جاهزة ال ميكن إبعادها عنها أو‬
‫اقرتاح مالبس جديدة ال عالقة هلا بالصورة املرسومة عنها‪ ،‬إن الشخصية التارخيية تفرض‬
‫حبضورها يف العمل طوقاً حي ّد من حرية الكاتب ال ختففه إال الشخصيات املتخيلة‪،‬‬
‫فالشخصية التارخيية من املتانة والثقة بالنفس حبيث تقود الكاتب إىل مصريها هي كما‬
‫ُحسم قبل مئات أو عشرات السنني‪ ،‬وهذا ما جيعل الرواية التارخيية مهددة خبطر استحواذ‬
‫التاريخ عليها من هنا يربز التساؤل التايل‪ :‬كيف تعاملت الرواية التارخيية مع الشخصيات‬
‫التارخيية؟ وما مدى النجاح أو اإلخفاق الذي حققته الرواية التارخيية يف تعاملها مع هذا‬
‫النمط من الشخصيات؟‬
‫إن التعامل مع الشخصية التارخيية يف الرواية التارخيية أخذ أكثر من شكل يف‬
‫التعامل معها‪ ،‬هي على التوايل‪:‬‬
‫املفعلَة يف احلدث‪.‬‬
‫‪ -1‬الشخصية التارخيية ّ‬
‫‪ -1‬الشخصية التارخيية املقصاة عن احلدث‪.‬‬
‫‪ -1‬الشخصية التارخيية املفرتضة يف احلدث‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المفعلة‬
‫‪ -1‬الشخصية التاريخية ّ‬
‫املفعلة يف احلدث من املعضالت اليت ترهق الروائي بل‬
‫تعد الشخصية التارخيية ّ‬
‫وتأسره ضمن قانوهنا التارخيي اخلاص‪ ،‬وتوظيف الشخصية التارخيية يف العمل حيتاج إىل‬
‫دراية كاملة باألحداث اليت اشرتكت فيها الشخصية وتلك اليت مل تشرتك فيها‪ ،‬هذا من‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى ما هي اللغة اليت سوف تتحدث هبا هذه الشخصية‪ ،‬هل كفلت‬
‫لنا املراجع التارخيية مناذج خاصة متنحنا قدرة على توظيف لغة هذه الشخصية‪ .‬إن قدرة‬
‫الروائي على التخييل وربط األحداث واستنتاجها كفيلة بأن تقدم للروائي تصوراً جيداً‬
‫عنها حىت يعمد إىل توظيفها يف روايته‪.‬‬
‫وال تقف الصعوبات ع ند املرجعية التارخيية فحسب‪ ،‬بل يتعدى ذلك إىل‬
‫املرجعية التخييلية عندما تتورط الشخصيات التارخيية يف حوار أو موقف مع شخصيات‬
‫متخيّلة‪ ،‬إذ ال تكفل لنا النصوص التارخيية دائماً الوثائق اليت حنتاجها‪ ،‬فنعود مرة أخرى‬
‫إىل تأكيد مبدأ املزاوجة بني ما كان وأُثبت‪ ،‬وما كان ومل يُثبت (املسكوت عنه)‪ ،‬إذ إن‬
‫أي خطأ يف هذه املزاوجة قد يفسد بناء الشخصية التارخيية ومن مث املصداقية الوثائقية يف‬
‫برمته‪ .‬فما كان ومل يُثبت (املسكوت عنه) جيب أن يتناسب مع ما كان‬ ‫العمل الروائي ّ‬
‫وأُثبت‪ ،‬فيغدو مقبوالً؛ فمساحة (املسكوت عنه) يف الرواية التارخيية هي املساحة اليت‬
‫ميكن لكاتب الرواية التارخيية أن يتحول فيها رغم ضيقها‪ ،‬ولكنه خبياله اخلالّق قادر على‬
‫توسيعها يف ذهنه واستغالل كل شرب فيها‪ ،‬وهذا ما يرفع كاتبا وحيط آخر‪ ،‬إذ ليس‬
‫موضوع الرواية التارخيية ‪ -‬بالدرجة األوىل‪ -‬هو من يعلي من شأن العمل أو حيط منه‪ ،‬بل‬
‫حسن األداء هو سيد احلكم دائماً‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ومن أمثلة الشخصيات التارخيية اليت أخذت حيزاً حقيقياً يف العمل شخصية‬
‫(داود) باشا يف "أرض السواد"‪ ،‬إذ الرواية معقودة بالدرجة الثانية* على إظهار صورة‬
‫مفتقدة ألحد الوالة الذين حنتاج إليهم اليوم وهي صورة داود باشا هذا الوايل (الصح) يف‬
‫الزمن (اخلطأ) إذ مل يتوان مؤلف الرواية من أن يكشف شخصية داود باشا بلسان داود‬
‫باشا نفسه‪ ،‬فأقحمه يف مشاهد حوارية كثرية مع شخصيات تارخيية حقيقية وأخرى‬
‫متخيلة‪ ،‬دون مساس باملرجعية التارخيية هلا‪ ،‬وقد بدا حذر املؤلف يف التعامل مع هذه‬
‫الشخصية عندما تظهر؛ ألهنا متتلك حصانة تارخيية تقيها فن االختالق والتقول‪ ،‬واملشهد‬
‫التايل يكشف مدى اقرتاب عدسة الراوي من شخصية داود اقرتاب املتأمل املغامر أحياناً‪:‬‬
‫قدمه وجمّده‪:‬‬
‫وقد كان أول ظهور لشخصية داود على لسان الراوي الذي ّ‬
‫"وغرق سعيد بعشقه وفسقه‪ ،‬فأهمل أمر الرعية وشؤون الحكم‪،‬‬
‫فتدهورت األحوال وضاق الناس وارتفعته الشكوى‪ ،‬ولم يتأخر داود‬
‫(‪)447‬‬
‫لكي يلتفظ اإلشارة‪ ،‬ويدرك أن زمنه قد حان"‬

‫املفعلة‪ ،‬إذ اقرتبت منها‬


‫هذه هي بداية داود باشا الذي كان شخصية الرواية ّ‬
‫عدسة الراوي دون توجس‪ ،‬فيشرتك يف احلوار مع الشخصيات األخرى ويتفاعل معها‪:‬‬

‫"لم يكن مضى يومان على التخلص من سعيد‪ ،‬حتى نقل حمادي‬
‫إلى ثكنة الفرسان‪.‬‬

‫*‬
‫حيث إن هدفها األول كما ورد على لسان مؤلفها العراق وأناس العراق في بداية ق ‪.11‬‬
‫(‪ )447‬أرض السواد‪.23/1 :‬‬

‫‪221‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫قال الباشا لعليوي يوصيه‪:‬‬


‫‪ -‬ترى ابن الزنا حمادي‪ ،‬أظافره متروسه طحين‪ ،‬فأريد قبل ما‬
‫يزوع آخر باره‪ ،‬وأريد أعرف ممن أخذ وإلى من أعطى‪..‬‬ ‫يفارقنا ّ‬
‫وحين اهتز رأس اآلغا‪ ،‬دللة الموافقة والفهم‪ ،‬وأن لديه أشياء أخرى‬
‫أيضا يريدها من حمادي‪ ،‬تابع الباشا بنبرة جديدة‪:‬‬
‫‪ -‬هه ‪ ..‬الدولة ينراد لها فلوس ما تاكلها النيران‪ ،‬يا آغا‪ ،‬وهذا ابن‬
‫الزفرة‪ ،‬أكل األخضر واليابس‪ ،‬فأريدك تبوق لسانه‪ ،‬أريدك تحوقه‬
‫من هنا لهنا حتى نحصل على الذهب اللي نهبه هو وسعيد" ( ‪. )44‬‬
‫والشخصية التارخيية اليت ميثلها داود شخصية حيّة واقعية تتعامل بشكل اعتيادي‬
‫مع املواقف وتتحادث مع غريها من الشخصيات‪ ،‬وتتحدث بلهجتها‪ ،‬ضمن موضوعات‬
‫ومفاهيم ال تؤثر على نسقها التارخيي العام النابعة منه‪ .‬ويف مواقف أخرى يزداد التحرر يف‬
‫التعامل مع الشخصية التارخيية فيصل ح ّد التأمل النفسي واملونولوج الداخلي‪:‬‬
‫"قال داود لنفسه بعد أن توالت األخبار عن قاسم‪ ،‬ثم تأكدت‪" :‬هؤلء‬
‫البدو يعرفون شيئا واحد ا‪ ،‬وقد أتقنوه لفرط ما أدمنوا عليه‪ :‬إشغال الدولة‪،‬‬
‫إنهم ل يعرفون الحرب‪ ،‬صحيح أنهم يقاتلون‪ ،‬لكنهم ل يستطيعون التمييز‬
‫بين النصر والهزيمة‪ ،‬وربما ل تعنيهم هذه القضية‪ .‬فقط يريدون خصم ا حتى‬
‫ولو كان وهم ا‪ ،‬كي يحاربوه‪ .‬وبهذه الطريقة يشعرون بوجودهم وأهميتهم‪ .‬أما‬
‫إذا غاب الخصم فعندئذ يأكلون أنفسهم إلى أن يتالشوا‪ ،‬ويبدو أنهم ل‬
‫يريدون التالشي‪ ،‬على األقل اآلن !"‬
‫هكذا مرت الصور في ذهن داود باشا‪ ،‬وهو يستعيد عالقاته وحروبه‬
‫( ‪)44‬‬
‫معهم‪"...‬‬

‫(‪ )441‬الرواية‪.111 /1 :‬‬

‫‪221‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فالشخصية التارخيية لداود باشا تبقى حمافظة على اتزاهنا التارخيي رغم‬
‫اشرتاكها يف األحداث وظهورها يف احلوار واملونولوج‪ ،‬إهنا تعيش حياهتا كاملة‬
‫داخل الرواية‪.‬‬
‫ومن الشخصيات التارخيية اليت أفلحت" أرض السواد" يف رسم صورهتا وتفعيلها‬
‫داخل الرواية شخصية القنصل الربيطاين (ريتش) يف بغداد‪ ،‬إضافة إىل شخصية (اآلغا)‬
‫سيد عليوي اليت كان لشخصه اليد الطويل يف تفعيل كثري من األحداث وتغيري مسارها‬
‫دون أن تفقد مصادقيتها‪ .‬مع املالحظة أن مثل هذه الشخصياته ال تظهر كثرياً إال من‬
‫أجل االشرتاك يف مشاهد قد تؤدي إىل اثر تارخيي مثبت‪ .‬ونضيف إىل هذه الشخصيات‬
‫املفعلة يف احلدث شخصية امللك يف (رادوبيس) الذي نرافقه منذ توليه العرش‬‫التارخيية ّ‬
‫وحىت مقتله بسهم من أحد الثائرين استقر يف فؤاده‪.‬‬

‫‪ -2‬الشخصيات التاريخية المقصاة عن الحدث‬


‫وهذا اللون من الشخصيات يكثر جتاذبه يف الروايات التارخيية وغري التارخيية‪،‬‬
‫فهذا النوع من الشخصيات هو إطار يف العمل الروائي تدور األحداث من خالله‪ ،‬ولكنه‬
‫ال يشارك فيها مباشرة العتبار أو آلخر‪ .‬ولكن قد تكون من أهم األسباب اليت دفعت‬
‫كثرياً من الروائيني أن يوظفوا الشخصيات التارخيية يف أعماهلم توظيفاً حمدوداً جداً‪ ،‬وهو‬
‫عدم الرغبة يف التورط مبا مل يكتبه التاريخ‪ ،‬ومن مث الدخول يف االحتماالت واالفرتاضات‬
‫أن الشخصية قالت ذلك أم مل تقله‪ ،‬ومع أن كثرياً من هذه الشخصيات اكتسبت دوراً‬
‫فاعالً يف التاريخ إال أهنا مل حتظ بالدور نفسه يف العمل الروائي ألن القانون هنا خيتلف‪،‬‬
‫"فمن كان بطالً يف التاريخ‪ ،‬قد يغدو شخصاً ثانوياً يف الرواية‪ ،‬والعكس يصدق‬

‫الرواية‪.114/1 :‬‬ ‫(‪)441‬‬

‫‪231‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫يف ذلك"(‪ ،)969‬ألن قانون الغين هو احلاضر وقانون التارخيي هو املاضي‪ ،‬فضالً عن أن‬
‫إعطاء الشخصية التارخيية تصاريح املشاركة باألحداث قد يقلل من حرية الكاتب‪.‬‬
‫لقد شاع استخدام هذا النوع من الشخصيات التارخيية‪ ،‬وخاصة يف رواية "ثالثية غرناطة"‬
‫إذ الشخصيات التارخيية احلقيقية هي إطار عام تنبعث الرواية وأحداثها من خالهلا‪ ،‬لقد‬
‫كانت الشخصيات التارخيية يف هذه الرواية ثانوية حسب األمهية‪ ،‬مل تشارك يف الفعاليات‬
‫احلقيقية للرواية بل ظل صداها ظاهراً من على بعد‪ ،‬ولكنها مل تصل ح ّد البطولة يف‬
‫الرواية‪ ،‬نذكر من هذه الشخصيات "أبو عبد اهلل حممد الصغري" الذي ورد ذكره يف بداية‬
‫الرواية ليعلن استسالمه وخضوعه‪ ،‬مث خيتفي دون رجعة‪:‬‬

‫" بكى أبو عبد اهلل محمد الصغير‪ ،‬وقال إن اهلل كتب عليه أن يكون‬
‫(‪)451‬‬
‫شقيا وأن يتم ضياع البالد على يديه‪"..‬‬

‫ويف املقابل هلذه الشخصية املأساوية تظهر كذلك شخصية موسى ابن أيب‬
‫الغسان رمز املقاومة ورفض التسليم‪ ،‬أما حضوره فكان طيفاً سريعاً رمزياً مث انتهى‪:‬‬

‫"‪ ..‬وترددت الشائعات عن غرق موسى ابن أبي الغسان في نهر‬


‫(‪)452‬‬
‫شنيل‪"...‬‬

‫مث ينشغل الراوي اختتاماً هلذه الشخصية يف رصد أقاويل الناس حول اختفائه أو‬
‫استشهاده‪.‬‬

‫(‪ )451‬جورج لوكاش‪ :‬الرواية التاريخية‪ ،‬ص ‪.33-32‬‬


‫(‪ )451‬ثالثية غرناطة‪ :‬ص ‪.13‬‬
‫(‪ )452‬الرواية‪ :‬ص ‪.11‬‬

‫‪231‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وهناك أيضاً شخصية امللك فردنياند وامللكة إيزابيال ومها شخصيتان هامشيتان‬
‫يف احلدث ذكرمها الراوي مرة واحدة يف بداية الرواية(‪.)961‬‬
‫أما يف رواية "احلجاج نفسه* الذي مل تكن يف الواقع تتحدث الرواية عن‬
‫شخصه بل إهنا تتحدث يف هناياهتا عن حصاره ملكة قاصداً قتل عبد اهلل بن الزبري بن‬
‫العوام الذي ظهر كذلك مبظهر ثانوي‪ ،‬لكن السمة البارزة لدى جرجي زيدان هي‬
‫توظيف الشخصيات التارخيية توظيفاً افرتاضياً قد يقلص كثرياً من مصداقية العمل‬
‫التارخيي‪ ،‬فيجمع شخصيات تارخيية مل يثبت التاريخ اجتماعها على هذا النحو‪ ،‬عندما‬
‫مجع الشاعر العذري (مجيل) مبحبوبته (بثينة) يف لقاء مؤثر وآسر(‪ )969‬قد ينايف الصدق‬
‫التارخيي‪.‬‬
‫فضالً عن تلك اجللسات املفرتضة بني (حسن) بطل الرواية املتخيّل وعبد اهلل‬
‫مطول اهلدف منه الكشف عن املعلومات التارخيية املتممة للحدث‬ ‫بن الزبري يف حوار ّ‬
‫بطريقة إخبارية مباشرة‪:‬‬
‫"فقال عبد اهلل وهو يبتسم ابتسامة الستخفاف‪ :‬وكيف يكون ذلك وهو ابن‬
‫يزيد الذي أمر بحصار هذا البيت وقاتلنا حتى هدم الكعبة بمنجنيقاته ثم‬
‫احترقت وأعدنا بناءها فقال حسن‪" :‬صدقت يا مولي إنه ابن يزيد بن معاوية‪،‬‬
‫ولكن ل يخفى عليك أنه لما مات يزيد كان الحصين بن نمير ل يزال محاصرا‬
‫البيت الحرام وأنتم فيه‪ ،‬وهو ل يعلم بموت خليفته يزيد‪ ،‬وقيل إنكم عرفتم‬
‫بموته قبله‪ ،‬وإذا صح ما سمعته عما دار بينكم وبينه في شأن الخالفة" فقطع‬
‫(‪)455‬‬
‫علي البيعة بعد موت يزيد؟"‪..‬‬
‫عبد اهلل كالمه وقال‪" :‬أظنك تعني أنه عرض ّ‬

‫(‪ )453‬الرواية‪ :‬ص ‪.12‬‬


‫الكسندر روما عندما ألف "هنمري الثمامن" ولمم تكمن الروايمة عنمه مباشمرة قمال‪" :‬لمم يكمن هنمري‬ ‫*‬

‫الثامن بالنسبة لي إال مسماراا علقت به نوحتي"‪.‬‬


‫(‪ )454‬الحجاج بن يوسف‪ :‬ص ‪.61‬‬
‫(‪ )455‬الرواية‪ :‬ص ‪.114‬‬

‫‪232‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫واملشهد السابق يوضح مدى االبتذال الذي وقعت فيه شخصية عبد اهلل بن‬
‫الزبري بن العوام حىت يعقد حماورة من هذا النوع التحليلي مع شخصية متخيلة أصالً‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فليس املهم أن تكون الشخصية التارخيية فاعلة أو مقصاة عن العمل بل‬
‫املهم كيف توظف يف العمل الروائي وما هي املهام اليت ميكن أن توكل إليها‪.‬‬

‫‪ -3‬الشخصية التاريخية المتخيّلة‪:‬‬


‫عوضت كثرياً‬
‫مع أن الرواية التارخيية يف صورة من صورها اختزال للتاريخ إال أهنا ّ‬
‫من الشخصيات التارخيية املفرتضة رمبا تكون مما انشغل التاريخ عن ذكره‪ .‬ومن هنا تتشح‬
‫الرواية التارخيية مبهمة التنبيه إىل تلك الشخصيات اليت كانت هناك يف ذلك الوقت‬
‫"فالرواية التارخيية تزاوج عادة بني الشخصيات التارخيية والشخصيات املتخيّلة‪ .‬إال أن‬
‫األمر ال يقف فيها عند هذا احل ّد‪ ،‬وإمنا يتجاوز إىل ظاهرة أخرى هي إسناد أعمال ال‬
‫تارخيية إىل الشخصيات التارخيية وأعمال تارخيية اىل الشخصيات املتخيّلة"(‪.)965‬‬
‫مكملة ملشروع وضعه الروائي‬ ‫إن الشخصية املتخيّلة يف الرواية التارخيية شخصية ّ‬
‫وأراد إمتامه من خالل هذه الشخصيات‪ ،‬فهذه الشخصيات ال حت ّدها مرجعية وال تقيدها‬
‫نصوص التاريخ القدمية فهي ليست وليدهتم‪ ،‬إهنا وليدة متازج األفكار وتبلورها على حنو‬
‫خاص‪.‬‬

‫محمد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫(‪)456‬‬

‫‪233‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وقد ضربت لنا هذه الشخصيات اليت غزت ثالثية غرناطة مقدرة الشخصيات‬
‫املتخيّلة على إجناز رواية متكاملة وهذا ما صنعته عائلة أيب جعفر الوراق (أم جعفر‪ ،‬أم‬
‫حسن‪ ،‬حسن‪ ،‬سليمة‪ ،‬نعيم‪ ،‬سعد‪ ،‬مرمية‪ ،‬عائشة‪ ،‬علي) سلسلة من الشخصيات رمبا‪:‬‬
‫نفذت كل واحدة منها مهامها مبنتهى اإلتقان‪ ،‬هذه العائلة الراسخة يف األرض اليت‬
‫نشأت فيها‪ ،‬أكثر منه مئة سنة عاشتها وهي تكابد آالم البقاء‪ .‬واملشهد التايل هو خامتة‬
‫متسكه باألرض وبقاؤه فيها ألن رحيله‬ ‫الرواية مع (علي) حفيد حفيد أيب جعفر يظهر ّ‬
‫يعين انتهاءه‪ ،‬ولكن كيف سيكون له ذلك والقرارات بشأن البقاء واضحة‪:‬‬
‫"قد يكون الموت في الرحيل وليس في البقاء‪ ،‬لبد أن يعرف معنى‬
‫الحكاية وتفاصيلها وأيضا ما فعله األجداد‪ ..‬سيبقى‪ .‬قد يقبضون‬
‫عليه ويحكمون بموته لمخالفة القرار‪ .‬سيرحل‪ ،‬يُح ّدق في ماء‬
‫البحر‪ ،‬تشرد عيناه ثم ينتبه على ص ّفارة عالية تؤذن بالرحيل‪.‬‬
‫علي‪ ،‬أدار ظهره للبحر‪ ،‬وأسرع الخطو ثم هرول ثم ركض‬ ‫قام ّ‬
‫مبتعد ا عن الشاطئ والصخب والزحام‪ .‬التفت وراءه فأيقن أن أحد ا‬
‫لم يتبعه‪ ،‬فعاد يمشي بثبات وهدوء‪ ،‬يتوغل في األرض‪ ،‬يتمتم‪ :‬ل‬
‫(‪)457‬‬
‫وحشة في قبر مريمة !"‬
‫إن بناء الشخصية التارخيية املتخيّلة على هذا اجلانب من املهارة واالتقان‬
‫واملعطيات نابع بشكل أساسي من حرية الراوي الذي يشكلها دون قيود مسبقة‪.‬‬
‫ومن الشخصيات املبتكرة يف "أرض السواد" شخصية (بدري) وهو شخصية‬
‫من صنع اخليال أسهمت يف ربط كثري من األحداث على حنو معني‪ ،‬فبدري يعمل ضمن‬
‫قوات اآلغا (سيد عليوى) يف الشمال يف كركوك‪ .‬والرواية‬

‫(‪ )457‬ثالثية غرناطة‪ :‬ص ‪.411‬‬

‫‪234‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫تعول على مثل هذه الشخصيات للتحرك هبا دون قيد أو شرط‪ ،‬فهي شخصيات تكمل‬ ‫ّ‬
‫املشهد وتصنعه أحياناً كثرية‪ ،‬إهنا شخصيات تولد أىن شاءت ومتوت أىن تشاء‪ ،‬وال‬
‫شروط مسبقة تتحكم هبا‪ ،‬لقد استطاع كاتب "أرض السواد" ومن خالل جمموعة من‬
‫الشخصيات التارخيية املتخيّلة أن يقيم أود العمل‪ ،‬أهنم‪ -‬أي الشخصيات املتخيلة‪-‬‬
‫باعرتاف املؤلف "حيكون احلياة بكل ما حتمله من غىن وتعدد‪ ،‬ومن خالل هؤالء نغادر‬
‫القصور إىل الشوارع اخللفية‪ ،‬ويف مثل هذه األمكنة نكتشف ونتعرف إىل احلياة اليت‬
‫كانت قائمة دون تزييف ودون فرض‪ ..‬إن الصنّاع احلقيقيني غائبون يف أغلب األحيان‪،‬‬
‫وهذا ما حتاول الرواية التارخيية أن تتصدى له‪ ،‬أن تتواله‪.)961("..‬‬

‫(‪ )451‬عبد الرحمن منيف‪ :‬رحلة ضوء‪ ،‬ص ‪.64‬‬

‫‪235‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المبحث الثالث‬
‫مسوغات اللجوء إلى التاريخ‬

‫"البحث عن الذات الضائعة" و"اكتشاف معىن االستمرار" و"االنتماء إىل شيء‬


‫قد ضاع إىل األبد" و"مسح الغبار عن الصور القدمية" و "إعادة بناء املاضي" كلها ٍ‬
‫معان‬
‫نستذكرها عندما يكون احلديث عن الرواية التارخيية‪ ،‬فإذا كناقد وازنا يف املبحث األول‬
‫بني الروائي والتارخيي مث دققنا يف املبحث الثاين يف شخصيات املاضي وكيف تصبح‬
‫حاضرة يف الذهن؟ فإننا يف هذا املبحث سنتحدث عن (ملاذا)؟ بعد أن انتهينا من‬
‫(كيف)؟‬
‫كثرية هي مسوغات االندفاع حنو املاضي‪ ،‬وقد حاولت الدراسة فيما سبق* أن‬
‫ترصد مجلة من هذه املسوغات‪ ،‬فإذا انطبق أحدها على رواية تارخيية ما قد ال ينطبق‬
‫على رواية أخرى‪ ،‬من هنا‪ ،‬ستحاول الدراسة استقصاء مجلة من األسباب واملسوغات يف‬
‫كل رواية على حده الستكناه احملتوى واستنباط املغزى‪:‬‬

‫‪ )I‬رواية "الحجاج بن يوسف" لجرجي زيدان (‪)1 1‬‬


‫يهم بقراءة هذه الرواية أن يقرأ رواية تعرض بالتحديد إىل حياة‬
‫يتوقع كل من ّ‬
‫احلجاج بن يوسف الثقفي أحد والة بين أمية على العراق‪ ،‬بل وأكثر الوالة جراءة يف‬
‫حكم العراق‪ ،‬ولكن الرواية مل تن ِرب هلذا األمر بالتحديد‪ ،‬فكان احلجاج بن يوسف‬
‫شخصية رئيسية يف النصف الثاين من الرواية‪ ،‬ومل يكن شخصية حمورية البتة‪ ،‬إذ اشرتكت‬
‫شخصيات رئيسية عدة يف األحداث مثل عبد اهلل بن الزبري وأمه أمساء بنت أيب بكر‬
‫وسكينة بنت احلسني وحممد بن احلنفية‪ ،‬ومسية بنت عرفجة الثقفي‪ ،‬وخطيبها حسن وهو‬
‫من أهل العراق و‪..‬‬

‫*‬
‫راجع‪ :‬الفصل الثالث من الباب األول‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ويبدو أن تسمية هذه الرواية باسم احلجاج له ما يربره‪ ،‬إذا ما علمنا أن حماصرة‬
‫احلجاج بن يوسف لعبد اهلل بن الزبري يف مكة‪ ،‬مث رمي الكعبة باملنجنيق ش ّكل سابقة‬
‫عظيمة يف حق التاريخ اإلسالمي‪ ،‬فأراد جرجي زيدان أن يثبتها ويتوقع حيثياهتا فدوهنا‬
‫روائياً ونسبها إىل حمدثها‪.‬‬
‫وإذا ما حاولنا استجالء أسباب العودة إىل التاريخ يف هذه الرواية‪ ،‬فإننا البد‬
‫لنا من أن نستحضر السياق الثقايف الذي كانت تعيشه املنطقة العربية يف زمن كتابة‬
‫الرواية أي مطلع القرن العشرين‪ ،‬ففي هنايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين‬
‫بث التاريخ جمدداً يف أذهان الناس من خالل‬ ‫كان جهد الروائيني منصباً على إعادة ّ‬
‫استمالته حنو الرواية هذا الفن الغريب الوافد غري املقبول من قبل الناس حىت تلك الساعة‪،‬‬
‫فكان البد من التمويه من خالل التاريخ هذا السرد املتنامي يف الذهن دون انقطاع‪.‬‬
‫لقد كان اللجوء إىل التاريخ لدى جرجي زيدان يف رواياته عامة ضرباً من تسويق‬ ‫‪-‬‬
‫التاريخ روائياً والرواية تارخيياً من خالل بلورة املعلومة التارخيية وإعادة بنائها ضمن‬
‫املوحد‪.‬‬
‫قصة خيالية مفتعلة ال متس تلك املرحلة إال من خالل الزي ّ‬
‫كما أن لدافع التسلية نصيب يف كتابة "احلجاج بن يوسف"‪ ،‬من خالل تلك‬ ‫‪-‬‬
‫القصة العاطفية املدرجة بني ثنايا الرواية‪ ،‬وتكون هذه القصة حمالة على السياق‬
‫التارخيي احلقيقي لتشد أركانه وتثبت زواياه‪.‬‬
‫وهناك هدف تعليمي غري خاف يف الرواية‪ ،‬فاملؤلف حريص على وضعنا يف‬ ‫‪-‬‬
‫السياق التارخيي دائماً ومبنتهى الدقة أحياناً‪ ،‬إال أن جرجي زيدان مل ير ِاع أحياناً يف‬
‫هدفه هذا التسجيل األمني ألحداث التاريخ عندما ميزج‬

‫‪237‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫بني اخليايل واحلقيقي دون مراعاة للمعلومة التارخيية احلقيقية كما وردت‪ ،‬كلقاء حسن‬
‫بابن الزبري (‪ )960‬ولقاءات حسن (‪ )959‬باحلجاج نفسه‪.‬‬

‫‪ )II‬رواية "رادوبيس" لنجيب محفوظ (‪)1 43‬‬


‫وهي ثاين أعمال جنيب حمفوظ الروائية عامة والتارخيية خاصة‪ ،‬وهذه الرواية‬
‫تتناول حقبة الفرعون (مرنرع الثاين) أحد ملوك األسرة السادسة‪" ،‬والوضع احلقيقي لرواية‬
‫"رادوبيس" ال يعدو أن يكون حلقة يف سلسلة تاريخ مصر اليت أراد املؤلف كتابتها‪..‬‬
‫ويشري موقعها ا لتارخيي من تاريخ مصر الفرعونية إىل الفرتة اليت صاحبت اهنيار الدولة‬
‫القدمية‪ ،‬حني تعاظم نفوذ الكهنة‪ ،‬مما أدى إىل ضعف السلطة املركزية واهنيارها"(‪)951‬؛‬
‫لذلك لن تكون هذه الرواية باعثة ألجماد املاضي متغنية بأهازيج الرتاث‪ ،‬كذلك لن تكون‬
‫تعليمية؛ ألهنا مل تتعامل مع القارئ تعامل املعلم بل تعامل املناقش احملاور‪ ،‬ومن هنا علينا‬
‫أن ال حنصر رؤيتنا الفنية هلذه الرواية يف حدودها التارخيية‪ ،‬بل ميكن أن يكون هلا ارتباط‬
‫باحلاضر‪ ،‬كأن نستلهم العربة والعظة من جمريات القصة الدالة على العواقب الوخيمة‬
‫الناجتة عن إمهال احلاكم ألمور رعيته وااللتفات إىل شهوات النفس ولذات اجلسد‪ .‬من‬
‫هنا ميكن لنا أن نتحول هبذه امللحوظة إىل البعد اإلسقاطي‪ ،‬فهذه الرواية "تتجاوز هذا‬
‫اإلطار لتلقي بظالهلا على واقع احلياة املصرية يف ذلك الوقت الذي ظهرت فيه‪ ،‬وهو‬
‫أوائل األربعينات إذ كانت مصر يف ذلك الوقت حتت احلكم امللكي‪ ،‬بكل أثقاله وأوزاره‪،‬‬
‫فكأهنا تنبه بوعي الوطين إىل معامل الطريق‪ ،‬كما تشري يف الوقت نفسه إىل أصالة الشعب‬

‫(‪ )451‬الرواية‪ :‬ص ‪.114‬‬


‫(‪ )461‬الرواية‪ :‬ص ‪.141‬‬
‫(‪ )461‬عبد المحسن طه بدر‪ :‬الرؤية واألداة نجيب محفموظ‪ ،‬دار المعمارف‪ ،‬القماهرة‪ ،‬ط‪( ،3‬د‪.‬ت)‪ ،‬ص‬
‫‪.156‬‬

‫‪231‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫املصري‪ ،‬وعمق إدراكه من قدمي‪ ،‬ملسؤوليات احلاكم وواجباته‪ ،‬وتصديه له بالقوة إذا‬
‫احنرف عن اجلادة‪ ،‬ومل تفلح معه وسائل اإلقناع السلمية من توسالت وتضرعات"(‪.)951‬‬
‫ومن امللحوظات اليت ميكن إمجاهلا يف هذا الصدد أن من أهم األسباب الداعية‬
‫إىل العودة إىل التاريخ يف هذه الرواية هو من منطلق إسقاطي على احلاضر املعيش لغايات‬
‫وعظية إرشادية‪ ،‬كما أن إظهار الشعب املصري القدمي هبذا املظهر اخلالّب من الوعي‬
‫والقدرة على اختاذ القرار ليكشف عن دافع االعتزاز بالشخصية الوطنية ومتجيدها وإظهار‬
‫قدراهتا كما حنب‪.‬‬

‫‪)1‬‬ ‫‪ )III‬رواية "ثالثية غرناطة" لرضوى عاشور (‪5‬‬


‫إهنا الوجه اآلخر للهزمية‪ ،‬وصدى استغاثات تأخر رجعها‪ ،‬وهنر من األحزان‬
‫كثرت روافده‪ ،‬ويبدو أن السؤال التقليدي (ملاذا العودة إىل التاريخ؟) سيكون أقرب إىل‬
‫السذاجة أمام هذه الرواية املمتدة إىل حنورنا !‬
‫إهنا رواية الذات املهضومة‪ ،‬وأول هزمية كربى يف تارخينا لقد ش ّكل تناول‬
‫موضوع خروج العرب من األندلس وبقاء ثلة منهم تراهن على البقاء الدرس األعظم‬
‫الذي تروجه الرواية وحتاول فضحه وتكأ جراحه‪ .‬والعودة إىل التاريخ يف هذه الرواية‬
‫مسوغ هلذه العودة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫حققت أكثر من ّ‬
‫‪ -‬إسقاط قضية ماضية على قضية حاضرة‪ ،‬إسقاط ما حدث يف األندلس بعد اهلزمية‬
‫على ما حدث وحيدث يف فلسطني اليوم؛ وهذا اإلسقاط جير الوعي حنو خانة‬
‫التنبه واحليطة واحلذر إنه إسقاط يكشف مالمح (اآلخر) املتعدي‪.‬‬

‫(‪ )462‬شفيع السيد‪ :‬اتجاهات الرواية المصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الشباب‪ ،1176 ،‬ص ‪.31-21‬‬

‫‪231‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫االنطالق من االجتماعي للسيطرة على التارخيي‪ ،‬إن انطالق الرواية من أسرة‬ ‫‪-‬‬
‫غرناطية واالستمرار يف تتبع مفاصل حياهتا‪ ،‬يف هذه احلياة اليت تصعب يوماً بعد‬
‫آخر‪ ،‬ليكشف عن هدف إكمال ما مل يقله التاريخ‪ ،‬وانعطاف حنو بؤرة األمل‬
‫اليت خلفها خروج العرب من األندلس‪.‬‬
‫ومن منطلق فين كان اللجوء إىل التاريخ يف هذه الرواية "مبثابة الديكور الذي يؤطر‬ ‫‪-‬‬
‫األحداث املتخيلة‪ .‬إال أنه أحيانا ديكور مصطنع متليه حاجة العامل املتخيل‬
‫أساساً‪ .‬وما هذا التعميم واإلفراط إال أداة حتقق هبا الرواية غايتها املتمثلة يف‬
‫(‪)951‬‬
‫من هنا كان لزاماً‬ ‫املغايرة أي يف إخراج عامل روائي خمتلف عن العامل املعيش"‬
‫على املؤلفة أن تكتب ما تتوقع أن التاريخ مل يكتبه‪.‬‬

‫‪)1‬‬ ‫‪ )IV‬رواية "أرض السواد" لعبد الرحمن منيف (‬


‫هل ميكننا أن نع ّدها تارخياً للوايل داود باشا؟ أم أهنا مرحلة من مراحل التفوق‬
‫الربيطاين يف املشرق العريب؟ ال شك أهنا تنطق بالضمري الشعيب‪ ،‬وتتحدث بلسان‬
‫احملرومني‪ ،‬إهنا باختصار توظف األجزاء لتصنع هبم (الكل)‪ ،‬هي تتحدث بامسهم مجيعاً‬
‫تطلق هلم حرية األداء ليتشكل املظهر جلياً واضح األبعاد‪.‬‬
‫تتناول "أرض السواد" فرتة من تاريخ العراق (بداية القرن التاسع عشر)" للنفاذ‬
‫عربها إىل معرفة أفضل هلذا البلد أوالً‪ ،‬ومن أجل طرح سؤال مركزي يشغل كثريين‪ :‬ملاذا‬
‫فشلت أو تعثرت حماوالت النهوض يف املنطقة خالل العصر‬

‫(‪ )463‬محمد القاضي‪ :‬الرواية والتاريخ‪ ،‬ص ‪.136‬‬

‫‪241‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫احلديث"(‪ ،)959‬إذن من أوىل مسوغات العودة إىل التاريخ يف رواية أرض السواد هي‪:‬‬
‫‪ -‬استحضار فرتة حمددة من تاريخ العراق لغايات استقصاء وحبث واستظهار‬
‫مق ّدرات وطن‪ ،‬فطافت الرواية يف أرجائه ووصفت أماكنه واستجلت املناخات‬
‫والبشر‪.‬‬
‫كما أن العودة إىل تاريخ العراق وهلذه املرحلة بالذات يكشف لنا عن بعد‬ ‫‪-‬‬
‫إسقاطي‪ " ،‬فهذه املرحلة من تاريخ العراق احلديث مرحلة داود فإهنا متاثل‪ ،‬من‬
‫بعض اجلوانب‪ ،‬املرحلة الراهنة‪ ،‬من حيث الصراع الدويل والتنافس للسيطرة‬
‫واالستحواذ على املفاتيح األساسية يف املنطقة‪ ،‬وبالتايل إخضاعها وإحلاقها‪ ،‬وهذا‬
‫ما نراه بأعيننا اآلن"(‪.)956‬‬
‫‪ -‬استجالء العظة والعربة مما حدث يف تلك الفرتة‪ ،‬ووضع ذلك حاضراً أمام‬
‫القارئ‪ ،‬يسهم يف استيضاحه‪ ،‬ومن مث احلكم عليه فاملاضي عندها سيتشكل‬
‫حاضراً يف ذهن قارئ القصة‪" ،‬ذلك أن حضور العمل شرط أساسي لنجاح‬
‫العمل القصصي"(‪ )955‬وما العودة إىل التاريخ يف حمصلته النهائية إال لنقله إىل‬
‫احلاضر يف صورة من صوره‪.‬‬

‫(‪ )464‬فيصممل دراج‪ :‬مقابلممة مممع عبممد الممرحمن منيممف بعنمموان "التمماريخ ذاكممرة إضممافية ل نسممان‪ ،‬مجلممة‬
‫الكرمل‪ ،‬ع‪ ،6‬ربيع ‪ ،2111‬ص ‪.14‬‬
‫(‪ )465‬عبد الرحمن منيف‪ :‬رحلة ضوء‪ ،‬ص ‪.141‬‬
‫(‪ )466‬نبيلة إبراهيم‪ :‬نقد الرواية‪ ،‬ص ‪.32‬‬

‫‪241‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪242‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الفصل الثالث‬
‫املـستــوى الـنـسـقـي‬
‫(الـمـوءود)‬

‫تمهيد‬ ‫‪-‬‬
‫النسق (‪ )1‬أسطورة الرجل األبيض‬ ‫‪-‬‬
‫النسق (‪ )2‬تشييء المرأة أو تهميشها‬ ‫‪-‬‬

‫"إن السيطرة ال تتم بسبب قوة املسيطر فحسب‪،‬‬


‫ولكنها أيضاً تتمكن منا بسبب قدرهتا على‬
‫جعلنا نقبل هبا ونسلّم بوجهتها"‬
‫*‬
‫قرامشي‬
‫تـمهـيـد‪:‬‬
‫يبدو أن أنواع اخلطاب وألوانه يف األدبيات املعاصرة قد مت استبعادها يف كثري من‬
‫احلاالت حلساب عمومية اخلطاب وإخضاعه ملنطق لغوي ومنهج حتليلي واحد‪ .‬ويف‬
‫العمومية ختتفي اخلصوصية(‪ ،)951‬ويصبح البحث عنها أمراً شاقاً وغريباً‪ ،‬فاأللفاظ‬
‫والرتاكيب هي النهج املتبع والعلم احملبب إىل النفس‪ ،‬أما املضامني سواء أكانت دينية أم‬
‫أخالقية أم‪ ..‬فلها جماالهتا اليت تدرسها خارج إطار علم اللسان‪ ،‬والسبب يكمن يف تفوق‬
‫النزعة الشكلية فيه‪ .‬فاستقل علم اللسان بنفسه‪ ،‬وتركت املهام املتبقية للعلوم اإلنسانية‪.‬‬

‫*‬
‫‪Childers, J. and G. Hentzi: Columbia Dictionary of Modern Literary and‬‬
‫‪Cultural Criticism, Columbia University Press, NewYork, 1995, P. 131.‬‬
‫(‪ )467‬حسن حنفي‪ :‬تحليل الخطاب‪ ،‬ص ‪.27‬‬

‫‪243‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أما اخلطاب فغدا علماً خالصاً من علوم اللسان بصرف النظر عن مفردات‬
‫املعىن واملغزى واملسبب؛ لذا كانت النظرة إىل النصوص نظرة يشوهبا بعض النقص‪ .‬فكان‬
‫ويوسع نظره يف األفق‪ ،‬وهذا ما حتقق يف الدراسات‬
‫البد من إجياد البديل الذي حيتضن ّ‬
‫الثقافية )‪.(Studies Culture‬‬

‫‪ -‬لماذا النقد الثقافي؟‬


‫تغري يف منهج التحليل يستخدم املعطيات النظرية‬ ‫إن النقد الثقايف هو " ّ‬
‫واملنهجية يف السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة من دون أن يتخلى عن مناهج التحليل‬
‫األديب والنقدي"(‪ )951‬إذن هو منهج مساعد يقف راسخاً إىل املناهج النقدية السابقة‬
‫املتعمقة‪ .‬والنقد الثقايف هو ذلك‬
‫وقفة املتمم ذي النظرة األفقية الواسعة والنظرة الرأسية ّ‬
‫النقد الذي "ينفتح إىل ما هو غري مجايل‪ ،‬فال يؤطر فعله حتت إطار تصنيفات النص‬
‫اجلمايل‪ ،‬ويستفيد من مناهج التحليل املعرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة اخللفية‬
‫التارخيية‪ ،‬إضافة إىل إفادته من املوقف الثقايف النقدي والتحليل املؤسسايت"(‪.)950‬‬
‫إن النقد الثقايف يتناسج مع املناهج األخرى "فيتناول النص مرتقياً على مدارجه‬
‫النص وفق مراتب متناضدة الشرح‬ ‫إىل فضاء ما وراء النص‪ ،‬فالنقد األديب يقلب ّ‬
‫والتفكيك والتأويل وإعادة البناء‪ ،‬مستنجداً بزاد ثقايف متنوع فاستثمر النقد األديب امل ّكون‬
‫الثقايف إلغناء إجنازاته‪ ،‬أما النقد الثقايف فغايته استكشاف املناخ الرمزي الذي ينشأ فيه‬
‫النص"(‪ ،)919‬إضافة إىل حتديد املناخ‬

‫(‪ )461‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪.41‬‬


‫(‪ )461‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.41‬‬
‫(‪ )471‬محمد الشنطي‪ :‬الغذامي من النقد األلسني إلى النقد الثقافي‪ ،‬جريدة الجزيرة السعودية‪ ،‬عدد‬
‫‪ ،1111‬الخميس ‪.2111/2/24‬‬

‫‪244‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫السيمولوجي الذي يشكل ذهنياً احملددات احلقيقية والفاعلة ألنساق اإلبداع وكيفيات‬
‫التداول ومجاليات التلقي‪.‬‬
‫أما عن نظرة املنهج الثقايف إىل النص األديب "فالنص األديب جزء من سياق‬
‫تارخيي يتفاعل مع مكونات الثقافة األخرى من مؤسسات ومعتقدات وتوازنات قوى وما‬
‫إىل ذلك"(‪ ، )911‬لذا سيدرس النص األديب إىل جانب الوضع التارخيي الذي سينتج عنه‪،‬‬
‫لكون النص األديب والسياقات التارخيية اليت أنضجته من العناصر التكوينية فهما‬
‫فعال فيها‪ ،‬وهذه النظرة‬ ‫متكامالن والسياق التارخيي حمتضن للنصوص األدبية وعامل ّ‬
‫حتقق مبدأ التارخيانية اجلديدة )‪ (New Historicism‬أو النزعة التارخيية‬
‫فعال يف تفسري كثري من الظواهر املرتبطة باإلنسان‪،‬‬
‫)‪ (Historicisme‬فالتاريخ مبدأ ّ‬
‫كل ذلك من أجل "إحداث نقلة نوعية يف الوعي النقدي بأرخنة النصوص وتنصيص‬
‫التاريخ‪ ،‬وال شيء خارج النص‪ -‬كما هو املبدأ النقدي النصوصي رمبا التشريعي"(‪،)911‬‬
‫والتارخييانية اجلديدة مبدأ أفرز عرب تفاعله مع النصوص مصطلح (اجلماليات الثقافية‬
‫‪ ) Cultural Poetics‬على يد ستيفن قرين بالت‪ ،‬الذي كان قد أطلق عام‬
‫‪ 1011‬مصطلح التارخيانية اجلديدة "ليصف به مشروعه رمبا يف خطاب النهضة‪ ،‬خاصة‬
‫االجنليزي أو الشكسبريي حتديداً كما هو عنده‪ ،‬ولقد القى املصطلح قبوالً عريضاً لدى‬
‫مجاعات النقد املابعد بنيوي‪ ،‬ونظريات اخلطاب‪ ،‬إذ عرب الدارسون احلدود فيما بني‬
‫التاريخ واألنثروبولوجيا والفن والسياسة واألدب واالقتصاد‪ .‬ومتت اإلحاطة بقاعدة‬
‫الالتداخل اليت كانت حترم على دارسي اإلنسانيات التعامل مع أسئلة السياسة والسلطة‪،‬‬
‫ومع ما هو يف صلب حياة الناس"(‪.)911‬‬

‫(‪ )471‬الرويلي والبازعي‪ :‬دليل الناقد األدبي‪ ،‬ص ‪.46‬‬


‫(‪ )472‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪.46‬‬
‫(‪ )473‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.42‬‬

‫‪245‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫أما االفرتاضات اليت جتمع بني التارخييني اجلدد‪ ،‬مع كل ما بينهم من تباينات‬
‫واختالفات‪ ،‬خبمسة افرتاضات(‪ )919‬هي‪:‬‬
‫أ‪ -‬هناك شبكة من املمارسات املادية تغلّف كل فعل تعبريي‪.‬‬
‫ب‪ -‬كل أفعال نزع األ قنعة أو االنتقاد أو املعارضة مهددة بأن تقع ضحية ملا تعرتض‬
‫عليه أو تسعى إىل فقده‪.‬‬
‫جـ‪ -‬ليس هناك حدود فاصلة يف حركة تداول ما هو أديب وما هو غري أديب‪،‬‬
‫د‪ -‬ال ميكن ألي خطاب مهما كان أدبياً أو غري أديب أن يعطي حقيقة غري قابلة‬
‫للتغري‪ ،‬وال أن يعرب عن طبيعة بشرية ال تقبل التبدل‪.‬‬
‫هـ‪ -‬أخرياً يقرر (فيسر ‪ )916()Veeser.H.A‬أن اخلطاب الواصف واملنهج النقدي‬
‫للثقافة اخلاضعة للرأمسالية سيكون بالضرورة مشاركاً يف اقتصادياهتا‪ .‬وعلى ما سبق‬
‫فإن التارخيانية اجلديدة سعت إىل تطوير منهج يف قراءة الثقافة كفعل حي‪ ،‬وهذه‬
‫بدايات املنهج الثقايف‪.‬‬

‫أما التساؤل األبرز الذي يقوم عليه النقد الثقايف‪ ،‬فقد خلصه الغذامي يف كتابه‬
‫"النقد الثقايف"(‪ )915‬وجاء على النحو التايل‪:‬‬
‫‪ -‬هل هناك أنساق ثقافية تسربت من الشعر وبالشعر لتؤسس لسلوك غري إنساين‬
‫وغري دميقراطي؟ ويضرب مثاالً على ذلك بفكرة (الفحل) هذه الفكرة اليت كان‬
‫للنسق الشعري دور كبري يف ترسيخها‪ ،‬ومن مث كانت الثقافة‪ -‬مبا أن أهم ما فيها‬
‫هو الشعر‪ -‬وراء شعرنة الذات وشعرنة القيم؟‬

‫(‪ )474‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.43‬‬


‫(‪ )475‬صاحب كتاب )‪.1111 (The New Historicism‬‬
‫(‪ )476‬ص ص ‪.1-7‬‬

‫‪246‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫لقد آن األوان ألن نبحث يف العيوب النسقية للشخصية العربية املتشعرنة‪ ،‬واليت‬ ‫‪-‬‬
‫حيملها ديوان العرب وتتجلى يف سلوكنا االجتماعي والثقايف بعامة‪.‬‬
‫لقد أدى الدور األديب دوراً مهماً يف الوقوف على (مجاليات) النصوص‪ ،‬ويف تدريبنا‬ ‫‪-‬‬
‫على تذوق اجلمايل‪ ..‬وعلى الرغم من هذا‪ ..‬أوقع نفسه يف حالة من العمى الثقايف‬
‫التام عن العيوب النسقية املختبئة من حتت عباءة اجلمايل‪ ،‬وظلت العيوب النسقية‬
‫تتنامى متوسلة باجلمايل‪ ،‬الشعري والبالغي‪ ،‬حىت صارت منوذجاً سلوكياً يتحكم فنياً‬
‫وذهنياً وعملياً‪ ،‬وحىت صارت مناذجنا الراقية ‪ -‬بالغياً‪ -‬هي مصادر اخللل النسقي‪.‬‬
‫إن ما يرتاءى لنا مجالياً وحداثياً يف مقياس الدرس األديب هو رجعي ونسقي يف‬ ‫‪-‬‬
‫مقياس النقد الثقايف‪ ..‬وكل دعاوى أدونيس يف احلداثة سيتضح أهنا اخلطاب لفظي‬
‫ال يؤدي إال إىل مزيد من النسقية الرجعية‪.‬‬
‫وليس القصد هو إلغاء املنجز النقدي األديب‪ -‬ألن الثقايف يتعاون مع النقدي‬ ‫‪-‬‬
‫األديب‪ -‬وإمنا متويل األداة النقدية من أداة يف قراءة اجلمايل اخلالص وتربيره‬
‫(وتسويقه) بغض النظر عن عيوبه النسقية إىل أداة يف نقد اخلطاب وكشف أنساقه‪.‬‬

‫بناء على ما سبق فإن املنهج الثقايف منهج يبحث مرحلة ما بعد األدبية‬
‫ليكشف أشياء قابعة وراء األدب أو حتته‪ .‬فبعد أن كان القول األديب يف نظر (ريتشاردز)‬
‫عمالً‪ ،‬فقد حتول يف نظر (روالن بارت) إىل نص‪ ،‬مث حسم (فوكو) األمر عندما نقل‬
‫النظر من (النص) إىل (اخلطاب) فأسس بذلك وعياً نظرياً يف نقد اخلطابات الثقافية‬
‫واألنساق الذهنية‪ ،‬فكانت أوىل ممارسات النقد الثقايف عندما "جرى الوقوف على (فعل)‬
‫اخلطاب وعلى حتوالته النسقية‪ ،‬بدالً من‬

‫‪247‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الوقوف على جمرد حقيقته اجلوهرية‪ ،‬التارخيية أو اجلمالية"(‪.)911‬‬


‫منذ هذه اجلهود وأخرى مثلها ظهر االهتمام مبرحلة ما بعد النقدية‪ ،‬حيث‬
‫(التارخيانية اجلديدة) و (النقد الثقايف) متأسسة على نقد ما بعد البنيوية وما بعد احلداثة‬
‫وما بعد الكولونيالية (اخلطاب االستعماري) حيث تأيت مشروعات نقدية متنوعة‬
‫تستخدم أدوات النقد يف جماالت أعمق وأعرض من جمرد األدبية‪.‬‬
‫إن املعضلة اليت تأسس عليها رد فعل (الثقايف) ماثلة يف نظرة النقد األديب إىل‬
‫النص بوصفه قيمة مجالية جيري دائماً السعي لكشف هذا اجلمايل‪ ،‬وتربير أي فعل للنص‬
‫مهما كان‪ ،‬حتت مبدأ األصل اجلمايل‪ ،‬مما جعل اجلمال منتجاً بالغياً حمتكراً‪ ،‬فصار‬
‫للجمايل شرط مؤسسايت‪ ،‬يصنعه األديب ويسوقه النقد مث يعممه‪ .‬وكانت النتيجة أن هذا‬
‫االلتزام املبدئي حرم النقد من القدرة على معرفة عيوب اخلطاب‪ ،‬ومن مالحظة جتاوزات‬
‫املؤسسة الثقافية وحيلها يف خلق حالة من التدجني والرتويض العقلي والذوقي لدى‬
‫مستهلكي الثقافة(‪.)911‬‬
‫مما سبق ظهرت احلتمية القائلة بضرورة حتريك أدوات النقد باجتاه فعل الكشف‬
‫عن األنساق وتعرية اخلطابات املؤسساتية والتعرف إىل أساليبها يف ترسيخ هيمنتها وفرض‬
‫شروطها على الذائقة احلضارية لألمة‪ ،‬وهذا يتطلب منا التأسيس لنظرية ثقافية هلا أساس‬
‫هو مبثابة الذاكرة االصطالحية‪ .‬ويبدو أن هذا النضوج يف مالحقة األنساق والتحقق من‬
‫هويتها سوف ميسي فعالً مؤقتاً بعد فضح أبرز األنساق املضمرة وتعريتها‪ ،‬علماً أن هذه‬
‫األنساق احتاجت إىل حقب زمنية طويلة حىت تكتسب مالحمها‪ ،‬لذا على النقد الثقايف‬
‫أن يصل إىل النقطة‬

‫(‪ )477‬المرجع نفسه‪ :‬ص‪.14-13‬‬


‫(‪ )471‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.16-15‬‬

‫‪241‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اليت ميكن أن يكتب هلا االستقرار عليها ألنه خرج من مظلة املؤسسة النقدية األدبية‬
‫والبد له من صنع مؤسسته اخلاصة اليت تقيه شر الضياع وعوامل التعرية‪.‬‬
‫إن أمهية الثقافة يف نظر الدراسات الثقافية تربز من حقيقة أن الثقافة تعني على‬
‫تشكيل وتنميط التاريخ‪ ،‬وأفضل ما تفعله الدراسات الثقافية هو وقوفها على عمليات‬
‫إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهالكها‪ ،‬وهذا يستحضر نظرية اهليمنة اليت طرحها قرامشي من‬
‫قبل واليت يؤكد فيها أن السيطرة ال تتم بسبب قوة املسيطر فحسب‪ ،‬ولكنها أيضاً تتمكن‬
‫وسعت الدراسات‬ ‫منا بسبب قدرهتا على جعلنا نقبل هبا ونسلّم بوجاهتها‪ ،‬لذلك فقد ّ‬
‫الثقافة اجملال ليشمل العرق واجلنس واجلنوسة والداللة واإلمتاع(‪.)910‬‬
‫تتساءل الدراسات الثقافية اليوم عن مدى هيمنة األمناط علينا وعما إذا كنا‬
‫قادرين على تعديل وجهة هذا الفعل املهيمن إىل وجهات أخرى؟ وما مدى مسؤوليتنا‬
‫عن هذا الذي نفعله‪ ،‬لقد اكتفت نظريات التلقي باالحتفاء مبتعة اجلمهور املستقبل دون‬
‫التمعن أو نقد وظيفة املتعة حىت لقد جرت تسمية العنف الذي يتخذ املتعة وسيلة له‬
‫على أنه رفض ومتعة مجاهريية‪ ،‬وذلك يف بعض الدراسات على أفالم "هوليوود"(‪.)919‬‬
‫ومن امللحوظات اليت أثارها النقد الثقايف أن هناك أمناطاً من األنساق الثقافية‬
‫احلس النقدي من حيث أنه‬ ‫جرى تثبيتها جملرد أهنا مجاهريية وإمتاعية‪ .‬وهذا فعل ينقصه ّ‬
‫ال يلحظ دور لعبة اإلمتاع يف ترويض اجلمهور ودفعهم إىل‬

‫(‪ )471‬انظر‪ :‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.11‬‬


‫تيري ايغلتون‪ :‬الثقافة في طبعاتها المختلفة‪ ،‬تر‪ ،‬ثائر ديب‪ ،‬الكرمل‪ ،‬ع‪ ،2112 ،71-71‬ص‬
‫‪.115‬‬
‫(‪ )411‬المرجع السابق‪ :‬ص ‪.22‬‬

‫‪241‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫قبول األنساق املهيمنة والرضى بالتمايزات اجلنسية (اجلنوسة)‪ ،‬وميثل الغذامي على ذلك‬
‫مبا حدث يف فيلم (رامبو) و(تريمينيتور) عندما ُس ّخرت املتعة من أجل العنف الذكوري‬
‫والطبقي(‪.)911‬‬
‫يطرح (فنسنت ليتش ‪ )V. Leitch‬يف كتابه ‪(Cultural Criticism,‬‬
‫)‪ 1992‬مصطلح النقد الثقايف مسمياً مشروعه النقدي هبذا االسم حتديداً‪ ،‬وقد جعله‬
‫رديفاً ملصطلحي ما بعد احلداثة وما بعد البنيوية "حيث نشأ االهتمام باخلطاب مبا أنه‬
‫خطاب‪ ،‬وهذا ليس تغيرياً يف مادة البحث فحسب‪ ،‬ولكنه أيضاً تغري يف منهج التحليل‬
‫يستخدم املعطيات النظرية واملنهجية يف السوسيولوجيا والتاريخ والسياسة واملؤسساتية‪ ،‬من‬
‫دون أن يتخلى عن مناهج التحليل األديب والنقدي‪.‬‬
‫وقد خلص الغذامي(‪ )911‬اخلصائص اليت يقوم عليها النقد الثقايف على النحو‬
‫التايل‪:‬‬
‫أ‪ -‬ال يؤطر النقد الثقايف فعله حتت إطار التصنيف املؤسسايت للنص اجلمايل‪ ،‬بل‬
‫ينفتح على جمال عريض من االهتمامات إىل ما هو غري حمسوب يف حساب‬
‫املؤسسة‪ ،‬وإىل ما هو غري مجايل يف عرف املؤسسة‪ ،‬سواء أكان خطاباً أم ظاهرة‪.‬‬
‫ب‪ -‬يستفيد النقد الثقايف من مناهج التحليل العرفية من مثل تأويل النصوص ودراسة‬
‫اخللفية التارخيية‪ ،‬إضافة إىل إفادته من املوقف الثقايف النقدي والتحليل املؤسسايت‪.‬‬

‫(‪ )411‬المرجع نفسه‪ :‬ص‪.23‬‬


‫(‪ )412‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.32‬‬

‫‪251‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫جـ‪ -‬إن الذي مييّز النقد الثقايف املابعد بنيوي هو تركيزه اجلوهري على أنظمة اخلطاب‬
‫وأنظمة اإلفصاح النصوصي‪ ،‬كما هي لدى بارت وديريدا وفوكو‪ ،‬خاصة يف مقولة‬
‫ديريدا أن ل شيء خارج النص‪.‬‬

‫إن هذا النقد حياول من خالل مبادئه أن "ينجو‪ ..‬من مثالب املنهج البنيوي‬
‫املتطرف الذي اجته إىل عزل النص عن سياقه ومراجع إحاالته اخلارجية‪ .‬إن املنهج‬
‫الثقايف‪ ..‬يقدم صيغة منهجية متوازية تفيد من النتائج اليت توصلت إليها اجتاهات النقد‬
‫اجلديد‪ ،‬لكنها ال تتجاهل سياق اخلطاب وال الوظائف اإليصالية للرسالة األدبية‪ ،‬على‬
‫أهنا تتناول مضامني اخلطاب ورسالته من خالل القيم الفنية والبنائية واألسلوبية اليت‬
‫يستظهر هبا‪ ،‬باعتبار هذه القيم هي الرسالة ذاهتا"(‪.)911‬‬

‫‪ -‬النسق بوصفه موءود ا‪:‬‬


‫إن منهجية النقد الثقايف تتيح لنا كشف حركة النسق بوصفه مضمراً يتحرك‬
‫على نقيض املعلن والواعي‪ ،‬وجييز حىت خطابات املعارضة الفكرية والثقافية كخطاب‬
‫احلب وخطاب الصعلكة لتكون خطابات نسقية منذ أن كانت الشعرنة هي النسق‬
‫املهيمن الذي به تتشعرن كل اخلطابات وإن بدت على عكس ذلك‪ .‬وهذه هي القيمة‬
‫(‪)919‬‬
‫املنهجية العملية هلذا النقد منذ كان يكشف لنا ما ال يكشفه النقد األديب‬
‫ويتحقق النسق من خالل مجلة ثقافية تكشف عنه على أن تكون حمدثة بلسانه‪ ،‬ومنيزها‬
‫عن اجلملة النحوية ذات القيمة التداولية‪،‬‬

‫(‪ )413‬رزان إبراهيم‪ :‬خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة (ر‪ .‬ج) إشراف الدكتور‬
‫سمير قطامي‪ ،‬الجامعة األردنية‪ ،2111 ،‬ص ‪.6‬‬
‫(‪ )414‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي رؤية جديدة‪ ،‬فصول‪ ،‬ع ‪ ،51‬ربيع ‪ ،2112‬ص ‪.41‬‬

‫‪251‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وعن تلك اجلملة ذات املعىن البالغي‪ ،‬وعرب هذا التمييز ال تكون (اجلملة الثقافية) مجلة‬
‫حنوية‪ ،‬بل قد تطول حىت لتصبح مقطعاً شعرياً أو سردياً‪ ،‬وقد تقصر حىت لتكون شبه‬
‫مجلة‪ ،‬ومبا أهنا تكشف النسق املضمر وتعرب عنه فإهنا هلذا ذات داللة نسقية‪ ،‬ال تداولية‬
‫وال بالغية(‪ )916‬والداللة النسقية داللة "ترتبط يف عالقات متشابكة نشأت مع الزمن‬
‫لتكون عنصراً ثقافياً أخذ بالتشكل التدرجيي إىل أن أصبح عنصراً فاعالً‪ ،‬لكنه وبسبب‬
‫نشوئه التدرجيي متكن من التغلغل غري امللحوظ وظل كامناً هناك يف أعماق اخلطابات‪،‬‬
‫وظل ينتقل ما بني اللغة والذهن البشري فاعالً أفعاله من دون رقيب نقدي النشغال‬
‫النقد باجلمايل أوالً ‪ ،‬مث لقدرة العناصر النسقية على الكمون واالختفاء"(‪ )915‬وحىت نطلق‬
‫على أداء ما مسمى النسق البد أن تتوفر فيه الشروط التالية(‪:)911‬‬
‫أ‪ -‬البد من وجود نسقني يف نص واحد‪ ،‬أو ما هو يف حكم النص الواحد‪.‬‬
‫ب‪ -‬يكون أحد النسقني نقيضاً لآلخر ومضاداً له‪ ،‬على أن يظل النسق الناقض‬
‫مضمراً خمتبئاً وحيتاج كشفه إىل األخذ مببدأ النظر النقدي‪.‬‬
‫جـ‪ -‬يشرتط يف النص احلامل للنسقني أن يكون مما تتوفر فيه مسات النص األديب‬
‫اجلمالية اإلبداعية‪ ،‬من حيث إن مجالية النصوص هي الوسيلة اليت تتوسل فيها‬
‫الثقافة لتمرير أنساقها املضمرة‪.‬‬
‫د‪ -‬البد أن يكون النص ذا مجاهريية وشيوع‪ ،‬وهذا سيكون دليالً على متكن النسق‬
‫من التغلغل يف مجوع مستهلكي الثقافة‪.‬‬

‫(‪ )415‬المرجع نفسه‪.‬‬


‫(‪ )416‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪.71‬‬
‫(‪ )417‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي رؤية جديدة‪ ،‬فصول‪ ،‬ص ‪.51‬‬

‫‪252‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫والنص الذي تتحدث عنه هذه الشروط هو ذلك احلامل للنسق وال يقرأ هذا‬
‫النص لذاته وال جلماليته‪ ،‬بل نتوسل بالنص لنكشف حيل الثقافة عربه يف مترير أنساقها‪،‬‬
‫فسؤال النسق هنا هو بديل عن سؤال النص‪ ،‬أي أن سؤال املضمر بدل من سؤال الدال‪،‬‬
‫من هنا يفرتق جذرياً النقد الثقايف عن النقد األديب‪.‬‬
‫وحىت ال تتداخل الداللة النسقية يف مفهومها بالداللة الضمنية‪ ،‬يلمح عبد اهلل‬
‫الغذامي إىل أن األخرية هي من معطيات النص كتكوين داليل إبداعي‪ ،‬وهي يف وعي‬
‫الباحث واملبدع وتدخل ضمن إطار اإلحساس العام للقارئ وختضع لشروط التذوق‪ ،‬أي‬
‫أهنا يف حميط الوعي النصوصي العام‪ ،‬أما الداللة النسقية فمضمرة وليست يف حميط‬
‫الوعي‪ ،‬ناقضاً منطق النص ذاته‪ ،‬ودالالته اإلبداعية‪ ،‬الصريح منها والضمين‪ ،‬وهذه‬
‫املضمرات النسقية تتسرب فينا عرب جيلها"(‪ ،)911‬من هنا كان لزاماً أن ال ننظر للنص‬
‫بوصفه جمتلى أدبياً فحسب بل بوصفه حادثة ثقافية أيضاً‪.‬‬
‫إن مهمة النقد الثقايف قطعاً هي ليست نقد الثقافة هكذا بإطالق‪ ،‬أو جمرد‬
‫رصدها ودراستها وحتليل ظواهرها‪ ،‬بل نقد املستهلك الثقايف الذي خيبئ األنساق املضمرة‬
‫والناقصة‪ .‬لقد بات النسق مفهوما مركزياً يف مشروع النقد الثقايف له قيم داللية ومسات‬
‫اصطالحية خاصة جنمعها على النحو التايل(‪:)910‬‬
‫‪ -1‬يتحدد النسق عرب وظيفته‪ ،‬وليس عرب وجوده اجملرد‪ ،‬والوظيفة النسقية ال حتدث‬
‫إال يف وضع حمدد ومقيد قائم على التناقض (مر بنا سابقاً)‪.‬‬
‫‪ -1‬قراءة النصوص تكون من وجهة نظر النقد الثقايف أي أهنا حالة ثقافية‪.‬‬

‫(‪ )411‬المرجع نفسه‪ :‬ص ‪.51-51‬‬


‫(‪ )411‬عبد هللا الغذامي‪ :‬النقد الثقافي‪ ،‬ص ‪.76‬‬

‫‪253‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫النسق من حيث هو داللة مضمرة فإن هذه الداللة ليست مصنوعة من مؤلف‪،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫ولكنها منكتبة ومنغرسة يف اخلطاب‪ ،‬مؤلفتها الثقافية‪.‬‬
‫النسق ذو طبيعة سردية‪ ،‬يتحرك يف حبكة متقنة خفي ومضمر وقادر على‬ ‫‪-9‬‬
‫االختفاء ويستخدم أقنعة كثرية (اجلمالية)‪.‬‬
‫األنساق الثقافية أنساق تارخيية أزلية وراسخة وهلا الغلبة دائماً‪.‬‬ ‫‪-6‬‬
‫هناك نوع من اجلربوت الرمزي ذي طبيعة جمازية كلية‪ /‬مجاعية‪ ،‬أي تورية ثقافية‬ ‫‪-5‬‬
‫تشكل املضمر اجلمعي ويقوم اجلربوت الرمزي بدور احملرك الفاعل يف الذهن‬
‫الثقايف لألمة‪.‬‬
‫حول شرط وجود نسقني متعارضني يف نص واحد‪ ،‬ال نعين (النص) مبعناه األول‪،‬‬ ‫‪-1‬‬
‫وإمنا املقصود هو (اخلطاب) أي نظام التعبري واالفصاح سواء أكان يف نص مفرد‪/‬‬
‫طويل أو مركب أو يف جمموع إنتاج مؤلف ما أو يف ظاهرة سلوكية أو اعتبارية‪.‬‬

‫وفيما يلي حماولة الستظهار بعض األنساق املقرتح وجودها يف الروايات التارخيية‬
‫(مادة الدراسة)‪ ،‬وأقول مقرتحة متهيداً إلثبات نسقيتها املضمرة الناقضة للنسق العام الذي‬
‫يسوقها "فكل خطاب خيفي داخله القدرة على أن يقول غري ما قاله‪ ،‬وأن يغلف عدداً‬
‫يسمى بوفرة املدلول بالنسبة للدال الواحد والوحيد عليه‪ ،‬فإن‬
‫كثرياً من املعاين‪ :‬وهذا ما ّ‬
‫اخلطاب امتالء وثراء ال حد هلما"(‪.)909‬‬

‫(‪ )411‬ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ص ‪.111‬‬

‫‪254‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫النسق األول‪ :‬أسطورة الرجل األبيض‬

‫خلّف االستعمار الغريب للشرق وختاذل القائمني عليه انزياحاً ذهنياً ظهرت‬
‫معامله على مالمح اهلويتني؛ اهلوية الغربية الغالبة املسجلة بأقالم غربية‪ -‬استشراقية‪ ،‬واهلوية‬
‫املسوقة بأقالم استشراقية‪ -‬غربية أيضاً‪ .‬وهذا االنزياح هو ما ميكن إدراجه‬ ‫العربية املغلوبة ّ‬
‫حتت مسمى (اخلطاب االستعماري أو الكولوينايل)‪ ،‬وقد ظهرت مالمح هذا اخلطاب يف‬
‫رواية "أرض السواد" يف أكثر من موقف كلها توحي بسطوة هائلة متتلكها ممثلة الغرب‬
‫نصبت املاكنة املخرتعة سيدة على العامل‪ ،‬وبسبب سلطة‬ ‫آنذاك بريطانيا العظمى اليت ّ‬
‫اآللة البخارية خيرتع الرجل األبيض ذاته ويعيد اخرتاع املسافة بني العراق وبريطانيا‪..‬‬
‫ويرسل بداود باشا وحصانه إىل ما قبل زمن اخرتاع اآللة البخارية"(‪.)901‬‬
‫يقول عبد الرمحن منيف واصفاً داود باشا الذي يشعر جيداً هبذا الفرق‪:‬‬
‫"مع تزايد عدد الناس حول داود باشا كان شعوره بالوحدة يزداد‪،‬‬
‫ورغبته بالنعزال تقوى‪ ،‬لم يكن هكذا من قبل‪ ،‬لكنه امتأل بهذا‬
‫الشعور منذ أن عاد إلى بغداد وأصبح والي ا‪ ،‬ومع كل يوم جديد‪،‬‬
‫ومع كل حدث جديد‪ ،‬يحس أن الذين حوله يزدادون بالدة‪ ،‬أو‬
‫يصبحون أقل قدرة على فهم ما يريد‪ ..‬يحس أنهم في عالم آخر‪،‬‬
‫يكف هؤلء الذين حوله عن التمثيل‪ ،‬وعن إطالق‬
‫كان يتمنى أن ّ‬
‫صيحات اإلعجاب‪ ،‬ولكن دون جدوى"(‪.)4 2‬‬
‫يف ظل حضارة ال يتوقف صعودها‪ ،‬وحضارة ال يرتدد اندثارها يبزغ جنم الرجل‬
‫األبيض املتسلح بدولته القوية‪ ،‬داود باشا الذي يعيش يف نسق‬

‫(‪ )411‬فيصل دراج‪ :‬أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة‪ ،‬الكرمل‪ ،‬ع‪ ،2111 ،64‬ص‪.17‬‬
‫(‪ )412‬الرواية‪.236/1 :‬‬

‫‪255‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫سلطوي موروث ومفروض عليه ملؤه التداعي واالهنيار والتزعزع وغياب الثقة‪ ،‬الطبيب‬
‫هندي‪ ،‬الصراف يهودي‪ ،‬املرتجم آرمين‪ ،‬اآلغا كردي ‪ ..‬وصراع بني املدينة والبادية‪ ،‬يف‬
‫ظل هذه الظروف يأيت (ريتش) القنصل الربيطاين ممثل احلضارة االستعمارية وأداهتا يف‬
‫العراق حامالً مقولة‪ :‬القوة‪ ،‬بل متكئاً عليها يتعامل مع البشر والطبيعة والوالة وكأهنم‬
‫أشياء تروض فيستقيم أمرها كما هو مطلوب‪ ،‬يريد أن يعلن حضارته لتكون األفضل بني‬
‫احلضارات ونسقه املضارع لنسق التقدم والريادة‪.‬‬
‫ميهر يف توظيف سياسة االستعراض اليت سوف تسوق حضارته‪ ،‬اآلخرون‬
‫متفرجون وحنن نعرض ما يبهر العقول قبل العيون‪ ،‬يعلن ريتش بداية العرض يف كل موسم‬
‫ويعلن انتهاءه‪ ،‬و"يكون يف عرضه الزاهي املمتد من القرود والطيور امللونة إىل األفيال‬
‫(‪)901‬‬
‫واألسود‪ ،‬إشارة إىل عرض آخر‪ ،‬ال يكشف عنه إال يف حلظات العقاب املميت"‬
‫ريتش‪ -‬الرجل األبيض‪ -‬يستطيع أن يتعامل مع أكثر احليوانات وحشية وغرابة‪ ،‬فليس‬
‫غريباً أن ينجح يف التعامل مع بشر "ال ميلكون حساً بالزمن"(‪ )909‬إنه عامل آثار وأمهر‬
‫الرواة وخبري بالطيور وفارس يطعم السكر للخيول وهو املثقف الباحث عن الكتب قدميها‬
‫وحديثها‪ ،‬يسوق نسقه الغريب املتحضر ليمارس عروضاً خفية‪ ،‬املال عنواهنا فيغرى باملال‬
‫ويضرب باملال ويصنع البغايا باملال‪.‬‬
‫ويسوقه كالزمة‬
‫وحياول (ريتش) يف هذه الرواية أن يظهر نسقه املكشوف ّ‬
‫البني‬
‫حضارية غربية تشكل نسقاً ظاهراً‪ ،‬ينقضه بنسق معارض حمتجب‪ ،‬فعلى الصعيد ّ‬
‫يظهر اجنليزياً يتكلم لغات عدة‪ ،‬العربية والفارسية والرتكية‪ ،‬أمام‬

‫(‪ )413‬فيصل دراج‪ :‬أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )414‬الرواية‪.314/1 :‬‬

‫‪256‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الشرقي (داود باشا) الذي ال جيد من معاونيه من يعرف االجنليزية‪ ،‬يظهر ريتش أمام‬
‫املطهمة ومرافقيه ذوي املالبس املوشاة ترافقه اآلالت‬ ‫اجلميع مبوكبه الفخم وعربته ّ‬
‫املوسيقية ذات الصوت الفخيم‪ ،‬متتزج كل هذه اهلاالت بشخصية االجنليزي (ريتش)‬
‫" فتظهر حقيقة القنصل الربيطاين املستمدة من احلقيقة الربيطانية اليت هزمت نابليون‬
‫وتالميذه اليتامى"(‪.)906‬‬
‫وهذا النسق الظاهري املكتنز بأدوات القوة واملغلف مبالمح احلضارة والثقافة‬
‫خيبئ خلفه نسقاً معارضاً ناقضاً للنسق األول الداعي إىل لفت االنتباه حنو حضارة الرجل‬
‫األبيض وعلو شأنه‪ ،‬فيكون هذا نسقه املعلن أما النسق الضمين فيما يروجه ريتش‪ ،‬فهي‬
‫نظرته إىل الشرق والشرقيني نظرة استشراقية تنتقص حقوقهم وتشوه صورهتم‪.‬‬
‫"أثناء زياريت األخرية للمملكة املتحدة‪ ،‬ولبعض الدول األوروبية‪ ،‬أدركت أن ما‬
‫يفصل الشرق عن أوروبا ليس اجلغرافيا أو الزمن بل ونوع العقلية أيضاً!‬
‫وكاد ريتش يستطرد‪ ،‬لكنه فجأة أدرك أن ترجمانه واحد من‬
‫(‪)4 6‬‬
‫الشرق‪ ،‬ول يحسن أن يقول أمامه كل شيء‪" ..‬‬
‫إذن عقول الغربيني هي العقول اليت حيتذى هبا‪ ،‬أما عقول الشرقيني فهي منحرفة‬
‫عن الصواب‪ ،‬وهذه مجلة ثقافية تعرب عن نسق وتكشفه‪.‬‬
‫"فأهل الولية‪ ،‬كما قال لنفسه‪ ،‬يشبهون األطفال أيام العيد‪ ،‬أو‬
‫(‪)4 7‬‬
‫في مواجهة أشياء جديدة أو غير متوقعة"‬

‫(‪ )415‬فيصل دراج‪ :‬أرض السواد وذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫(‪ )416‬الرواية‪.112/1 :‬‬
‫(‪ )417‬الرواية‪.251/1 :‬‬

‫‪257‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وهو يف موقف آخر‪:‬‬


‫( ‪)4‬‬
‫"ملتبسون ومجهولون بالفوضى والتناقض‪ ،‬إنهم كاألطفال"‬
‫وعندما اقرتبت (ماري) زوجة السفري من وضع مولودها األول طلبت أن يولد ابنها يف‬
‫انكلرتا‪:‬‬
‫( ‪)4‬‬
‫"كي يكون طبيعي ا بين زمالئه‪ ،‬ول يحمل عقل الشرق"‬
‫ولريتش نظرة أخرى يف الكرامة عند العريب خاصة عندما جيرح أويهان‪:‬‬
‫"ألن الشرقي حين يجرح يتحول إلى ذئب‪ ،‬تعمى بصيرته تمام ا‬
‫( ‪)5‬‬
‫ويصبح مستعد ا لرتكاب كل أنواع الحماقات"‬
‫أما عبقرية الشرقيني لدى ريتش فتتجلى يف أمر واحد‪:‬‬

‫"قال ريتش لنفسه "عبقرية الشرقيين تتجلى في حالة واحدة‪:‬‬


‫يحتربون ويريقون الدماء بسخاء‪ ،‬ثم يتصالحون‪ ،‬ول تعرف لماذا‬
‫تحاربوا وكيف تصالحوا‪ ،‬وهذا ما يجعل اعتماد المنطق في تفسير‬
‫(‪)5 1‬‬
‫هذه الحالة يقود تماما إلى الموقف الخاطئ"‬

‫وروجه قبل أن‬


‫والظاهر مما سبق أن ريتش حيمل خطاباً استشراقياً ماثالً يف ذهنه حفظه ّ‬
‫يلتقي هبم‪ ،‬ويصفهم بأوصاف مل يلمسها فيهم بعد‪.‬‬

‫(‪ )411‬الرواية‪.261/1 :‬‬


‫(‪ )411‬الرواية‪.57/2 :‬‬
‫(‪ )511‬الرواية‪.15/2 :‬‬
‫(‪ )511‬الرواية‪.112/3 :‬‬

‫‪251‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫" يبني ريتش الشرقيين في خطاب استشراقي نموذجي‪ ،‬يضع العقل أمام‬
‫العاطفة‪ ،‬والعلم أمام اإليمان‪ ،‬والوضوح مقابل اللتباس‪ ،‬والمبادرة مقابل‬
‫اإلرجاء‪ ،‬ويضع اإلحساس بالزمن في مواجهة بالدة أصيلة ل تعرف عن‬
‫(‪)5 2‬‬
‫معنى الزمن شيئا"‬
‫هذا هو النسق العام الذي يسعى اخلطاب االستعماري االستشراقي إىل إحالله‬
‫يف أذهان الشرقيني عن شرقهم‪ ،‬وضمن هذا النسق العام يظهر نسق ناقض هلذا النسق‬
‫العام وخيتبئ يف تصرحياهتم اليت يسوقوهنا دون مواربة‪ ،‬وقد برز التضاد يف غري موقف‪:‬‬
‫‪ -1‬هذا الشرق املتخلف ضمن مفاهيمهم االستشراقية اليت يروجوهنا هو يف سرائرهم‬
‫عكس ذلك‪ ،‬وأدل دالئل هذا األمر انبهار االجنليزي ريتش وزوجته ماري بأناقة‬
‫حضارة الشرق وبافتقادهم إليها‪ ،‬فيسعون بشىت الوسائل إىل سرقة آثاره ووضعها‬
‫يف بريطانيا لتزداد هبا بريطانيا حسناً على حسن‪ ،‬حىت وصل األمر بزوجة ماري‬
‫إىل االعرتاف بضعفهم أمام حضارة الشرق وسحره واملشهد التايل بني ريتش‬
‫وزوجته (ماري) حول حنت عظيم يف قرصباد ميثل جمسماً لثور جمنح عظيم‪ ،‬حتاول‬
‫ماري إقناع زوجها ريتش بأن يوجد طريقة لنقله إىل بريطانيا‪:‬‬
‫"تطلع إليها ريتش طويالا قبل أن يسأل‪:‬‬
‫‪ -‬ولكن ماذا نستطيع أن نفعل يا عزيزتي؟ لو كان صغيرا يمكن حمله‪،‬‬
‫ولو كانت لدينا وسائل تساعدنا على التعامل معه‪ ،‬لما ترددت في الموافقة‬
‫على نقله إلى بريطانيا فورا‪ ،‬كي يحمي امبراطوريتنا الراهنة كما حمى‬
‫امبراطوريات سابقة‪ ..‬لكن انظري إلى ضخامته‪ ،‬إلى وزنه‪ ،‬إلى ارتفاعه‪ ،‬فما‬
‫عسانا نفعل إزاء وضع مثل هذا؟‬
‫ردت ماري بانفعال أقرب إلى التحدي‪:‬‬

‫(‪ )512‬فيصل دراج‪ :‬أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة‪ ،‬ص ‪.11‬‬

‫‪251‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -‬وكيف فعل الذين نحتوا مثل هذا التمثال قبل آلف السنين؟ هل كانوا‬
‫أقوى أو أكثر جدارة منا؟ ألم يجلبوا الصخر من أمكنة بعيدة؟ ألم يشعروا‬
‫فجر كل عبقريتهم؟ يجب يا كلود أن تفكر بكل هذا لكي‬
‫بالتحدي الذي ّ‬
‫تحس بالتحدي‪ ،‬يا عزيزي‪ ،‬هل يمكن أن تسلم بالهزيمة قبل أن تخوض‬
‫(‪)5 3‬‬
‫المعركة؟"‬
‫يضم بني ثناياه أكثر من مجلة ثقافية متتلئ باجملاز والتورية‬
‫واالقتطاع السابق ّ‬
‫الجملة األولى‪" :‬كي حيمي امرباطوريتنا الراهنة كما محي امرباطوريات سابقة"‪،‬‬
‫فاملعىن القريب أن يرفعوا من شأن حضارهتم ومحايتها‪ .‬ولكن يف احلقيقة إن املعىن‬
‫البعيد يصل إىل معىن مناقض للنسق العام الذي يسوقه هؤالء الغربيون‪ ،‬إذ يُظهر‬
‫هذا القول عدم اقتناع االجنليز حبضارهتم‪ ،‬فريغبون تزويدها بقطع من حضارة‬
‫اآلخرين‪ ،‬فيكتب هلا اخللود‪ ،‬فضالً عن إمياهنم باخلرافات‪ ،‬فهم يريدونه حامياً‬
‫المرباطوريتهم العظمى‪ ،‬لشكهم أصالً حبضارهتم احلالية القائمة على ابتكار اآللة‬
‫اليت حيكمون هبا العامل‪.‬‬
‫الجملة الثانية‪ " :‬وكيف فعل الذين حنتوا مثل هذا التمثال قبل آالف السنني؟ هل‬
‫كانوا أقوى أو أكثر جدارة منا؟ أمل جيلبوا الصخر من أمكنة بعيدة؟ أمل يشعروا‬
‫بالتحدي الذي فجر كل عبقريتهم؟"‬
‫وهذه التساؤالت املتالحقة تشكل ضاغطاً نسقياً يكشف دون شك عن نسق‬
‫يعارض اقتناعهم الظاهر بثقافتهم وحضارهتم‪ ،‬ويظهر تشككهم هبا‪ ،‬إنه انبهار‬
‫حقيقي بعظمة هذه احلضارة اليت حيكموهنا اليوم واعرتاف بصغارهم أمامها‪،‬‬
‫فماري ال تريد من زوجها الناطق باسم حضارة‬

‫(‪ )513‬الرواية‪.11/2 :‬‬

‫‪261‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫بريطانيا العظمى أن ينحت هلا متثاالً آخر يوازيه مجاالً وهيبة وهباء‪ ،‬بل طلبت منه‬
‫أن يفكر بطريقة ميكن من خالهلا نقل التمثال إىل بريطانيا وليس صنعه جمدداً‪،‬‬
‫وهذا نسق معارض خيتبئ بني ثنايا النسق العام فينقضه‪.‬‬

‫‪ -1‬إن سعي الغرب املستعمر على تسويق منوذجه الذي يبدو متحضراً متطوراً راقياً‬
‫يريد أن يغزو الشرق برقيه وأصالته وحضارته املديدة‪ ،‬يفشل يف التعامل مع املرأة‬
‫آت إىل حتريرها وإعادة حقوقها املهضومة‪ ،‬ومع أن الغريب حاول أن‬ ‫اليت زعم أنه ٍ‬
‫يبدو حريصاً يف تعامله مع املرأة إال أن هذا احلرص قد سها عنه يف بعض‬
‫األوقات ليكشف عن نظرة متواضعة يكنّها للمرأة الغربية وذلك يف موقفني‪:‬‬
‫األول‪ :‬عندما أبدت (ماري) رغبتها يف البقاء عند اآلثار أسابيع أو أشهر تعكف‬
‫على التنقيب عنها ودراستها والكتابة عنها‪ ،‬كشف زوجها االجنليزي ريتش عن‬
‫نظرة متثل شاهداً نسقياً يفضي إىل املضمر‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫" وماذا لو بقيت هنا لعدة شهور‪ ،‬أتستطيع خاللها أن تؤمن فريق عمل؟"‬
‫وهل بإمكانها أن تعمل بمفردها؟ وماذا سيقول اآلخرون‪ :‬الفرنسيون‬
‫واألتراك وأهل المنطقة‪ :‬زوجة القنصل تحولت من سيدة بالط إلى مجرد‬
‫عامل ة يدوية‪ ،‬وبمستوى أدنى من العمال العاديين؟ وفكرة من هذا النوع‪،‬‬
‫أل تقابل أو يرد عليها بضحكة ساخرة؟ أل يعتبر مجرد وجود فرد‬
‫انجليزي في المكان المناسب والوقت المناسب سبب ا كافي ا لترتيب‬
‫حقوق؟ والقسمة إذا جرت أل تعتمد على القوة والنفوذ؟ قال لنفسه‬
‫بمرارة‪" :‬شرط القسمة األساسي أن يكون المرء موجود ا وقوي ا‪ ،‬ولذلك‬
‫(‪)5 4‬‬
‫فإن فكرة بقاء ماري ليست خاطئة أو مرفوضة‪"..‬‬

‫(‪ )514‬الرواية‪.11/2 :‬‬

‫‪261‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫إذن هناك نسقان متعارضان‪ ،‬نسق حمكوم إىل اخلطاب االستعماري الذي‬
‫انتهى إليه االقتطاع‪ ،‬ونسق معارض خمتبئ ظهرت أطرافه يف بداية االقتطاع‪ ،‬إنه خيشى‬
‫من تقول اآلخرين على زوجته فيما لو عملت يف التنقيب عن اآلثار‪ ،‬وتناسى أهنا اجنليزية‬
‫تسوق النسق االستعماري كما هو قادر على تسويقه‪،‬‬ ‫تتوازى معه يف احلقوق وحيق هلا أن ّ‬
‫فيتكشف املبدأ الداخلي معارضاً املبدأ اخلارجي الذي ينص على ضرورة "أن يكون املرء‬
‫موجوداً وقوياً"‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬عندما يكشف االجنليزي (ريتش) عن نظرة تشكيك يف أهلية (ماري)‪/‬‬
‫(املرأة الغربية) لتشاركه االقرتاحات واحللول‪:‬‬

‫"أفكار كثيرة كانت تراوده‪ ،‬كان يبوح لماري ببعضها‪ ،‬ويبقى‬


‫األخرى أحالما تراوده وحده‪ ،‬ألن ماري ل تعرف التدرج أو‬
‫الحلول الوسطى‪ ،‬حيث تقتنع بأمر يسيطر عليه إلى الدرجة‬
‫القصوى‪ ،‬بحيث ل تقوى على رؤية غيره‪ ،‬أو إمكانية وجود شيء‬
‫أكثر أهمية منه‪ ،‬لهذا عليه أن ينضج القتراحات‪ ،‬أن يقلبها من‬
‫كل الجوانب‪ ،‬حتى إذا اقتنع إذا اطمأن‪ ،‬يمكن أن يطرحها‬
‫(‪)5 5‬‬
‫للتداول أولا‪ ،‬ثم إلقناع اآلخرين بها بعد ذلك"‬
‫إن الغريب ميارس شكله وتكتمه حىت على الغربيني مثله‪ ،‬ألهنم قد يكونون نساء‬
‫مثالً‪ ،‬فال يبادهلم الوضوح بل يفكر ويقرر مث يطلق اقرتاحاته احملسومة أصالً فريغب يف‬
‫شيء ويرغب عن شيء آخر‪ ،‬مث يكون القرار كما أراد إنه الرجل األبيض (النسق العام)‬
‫أو (الداللة الصرحية) مروض احليوانات والبشر جييد أكثر من لغة (حيرتم املرأة) ويعرف‬
‫أهم اإلصدارات يف فرنسا كما لو أهنا يف بريطانيا‪ ،‬مثقف يهتم باآلثار وحيافظ عليها‬

‫(‪ )515‬الرواية‪.11/2 :‬‬

‫‪262‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫بطريقته اخلاصة لكنه يراوغ فيظهر (النسق املضموين) أو (الداللة املضمونية) رغماً عنه‪،‬‬
‫ويستخدم املال والنساء واهلدايا لتذليل الصعوبات اليت تواجهه‪ ،‬ميتلك نظرة مسبقة حنو‬
‫الشرقيني تعلمها يف مدرسة االستعمار‪ ،‬فحكم عليهم قبل أن خيالطهم‪ .‬أما عن (النسق‬
‫املوءود) أو (الداللة املضمرة) فإن للمرأة وضعاً آخر أنه ال يثق بقدراهتا – وهي غربية‪-‬‬
‫على إدارة أمور اآلثار والتنقيب عليها‪ ،‬فذكوريته االستعمارية ميارسها على املرأة الغربية‬
‫كما مارسها قروناً على الشرق حىت إهنا ال يسمح هلا بأن تبين عالقات مع نساء املنطقة‬
‫إال ضمن رؤيته اخلاصة‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫النسق الثاني‪ :‬تشييء المرأة أو تهميشها‬

‫يعول‬
‫عندما تتوارى الصور احلقيقية للمرأة خلف صورة اخلطيئة‪ ،‬فهذا مشهد ال ّ‬
‫حتول املرأة إىل‬
‫عليه يف استقصاء كينونتها‪ ،‬بل يفرض علينا طوقاً من املفاهيم الزائفة اليت ّ‬
‫مفهوم خاص ضمن خطابات ال حترتم خصوصيتها‪ ،‬بل تكيفها أين شاءت‪ ،‬وقد ظهرت‬
‫املرأة يف بعض األعمال حديث الدراسة مظهراً قد خيلّف غرابة ويكشف عن نسق مضمر‬
‫البد من مناقشته‪ .‬وفيما يلي استعراض لصور املرأة املتكررة يف الروايات موضوع الدراسة‪.‬‬

‫‪ -1‬المرأة الفاشلة في إدارة شؤون السياسة‪:‬‬


‫وقد ظهر هذا النموذج يف "أرض السواد" ومثلّته شخصية "نايب خاتون" زوجة‬
‫سليمان الكبري وأم سعيد باشا وايل بغداد املخلوع‪ .‬وهي سبب رئيسي يف خلعه وقتله‪،‬‬
‫البنوة‪:‬‬
‫كانت تفرض عليه القرار السياسي واإلداري‪ ،‬فيوضح له حبكم عاطفة األمومة و ّ‬

‫"استطاع داود بالحزم والحنكة أن يقضي على هذا التمرد‪ .‬وما إن‬
‫هدأت األمور حتى قامت ثورة من نوع آخر‪ :‬ثورة نابي خاتون‪ ..‬إذ‬
‫اعتبرت عودة داود تحدي ا لها‪ ،‬فلقد رفضت‪ ،‬ومنذ البداية‪ ،‬أن‬
‫تزوجه ابنتها‪ ،‬فلجأت الى معاملته بخشونة‪ ،‬أما اآلن وبعد أن قضى‬
‫على التمرد‪ ،‬أصبح الجميع يلهجون باسمه‪ ،‬فقد أصبح رجالا خطرا‪.‬‬
‫قالت نابي خاتون لبنها سعيد تؤنبه‪ ،‬عندما جاء لزيارتها‪" :‬كيف‬
‫تتخذ داود نائبا لك وأنت تعرف حق المعرفة أنه وأشباهه أعدائي‬
‫منذ وقت طويل؟ يجب أن تعزلـه حالا‪ ،‬وإل فوجهي حرام عليك‪،‬‬
‫وحليبي غير محلل لك‪ ،‬فلست أنت ولدي ولست أنا أمك"‬
‫(‪)5 6‬‬
‫ولم يجد سعي ٌد بدا من عزل داود"‬

‫(‪ )516‬الرواية‪.22/1 :‬‬

‫‪264‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫وقد تسبب هذا العزل اجلائر بأن يقود داود باشا مترداً على سعيد باشا ينتهي‬
‫مبقتل سعيد يف أحضان أمه نايب خاتون‪ ،‬اليت أساءت كثرياً يف تقدير األمور فكانت‬
‫العواقب وخيمة عليها وعلى ابنها الوايل‪ ،‬وقد وصفها داود باشا يف صفحات الحقة‬
‫بأهنا‪:‬‬
‫(‪)691‬‬
‫"كانت ملكة يف مرحلة‪ ،‬مث أمرأة معتوهة يف مرحلة أخرى"‬

‫‪ -2‬المرأة الغانية (المضللة)‬


‫وقد ظهرت يف رواييت "أرض السواد" و "رادوبيس" ظهوراً الفتاً‪ ،‬بل إن رواية‬
‫"رادوبيس" تتسمى باسم غانية أخذت دوراً حمورياً يف الرواية‪ ،‬أضلت فرعون جبماهلا‪،‬‬
‫الكهان‪،‬‬
‫فعشقها وانشغل هبا عن حكم الناس‪ ،‬فأمهل الدولة‪ ،‬وتعدى على أمالك املعابد و ّ‬
‫فثار عليه الناس وهو يف غمرة انشغاله عنهم بـ(رادوبيس) اليت لفظ أنفاسه األخرية بني‬
‫أحضاهنا‪.‬‬
‫"كان يطير إلى قصرها الحالم هاجرا قصره ودنياه‪ ،‬غير آسف ول‬
‫متردد‪ ،‬فكانا يفران معا من الوجود ويلوذان بنفسيهما العامرتين بالحب‪،‬‬
‫ويستسلمان لسحر الهوى وفنونه‪ ،‬ويصليان ناره‪ ..،‬وكانا أقصى ما يلقيان‬
‫من أسباب الهموم في أيامهما تلك أن تكتشف رادوبيس في الضحى‬
‫بعد توديعه لها‪ ،‬أنها لم تسأله أعينيها يؤثر بالشوق أم شفتيها‪..‬‬
‫( ‪)5‬‬
‫كانت أياما ل نظير لها في األيام‪" ..‬‬
‫واستمرار هذا النعيم استمرار لبعد فرعون املتنامي عن شعبه إىل أن انتهى األمر‬
‫بسهم نفذ إىل قلب فرعون فأقاله من نعيمه‪ ،‬والكل يتحدث عن "رادوبيس" غانية‬
‫"بيجة" اليت خلبت لب الكثريين وآخرهم فرعون القتيل‪.‬‬

‫(‪ )517‬الرواية‪.11/2 :‬‬


‫(‪ )511‬الرواية‪ :‬ص ‪.112‬‬

‫‪265‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -3‬المرأة الغانية (الجاسوسة)‬


‫ومثلتها جبراءة شخصية الغانية (روجينا) يف "أرض السواد" وهي من أبرز‬
‫الشخصيات النسائية يف "أرض السواد" حيث ّأدت دوراً كبرياً يف حوك املؤامرات املؤدية‬
‫إىل االنقالب فكان ارتباطها األكرب يتجه حنو سيد عليوي (اآلغا) واتصاالته بالقنصل‬
‫الربيطاين (ريتش)‪ ،‬فكانت مهزة الوصل بني املتآمرين على داود باشا وايل بغداد‪ ،‬ولكن يف‬
‫وقت ما اهنارت واعرتفت وكشفت املؤامرات وشهدت على ذلك يف جلسة احملكمة اليت‬
‫حكم فيها على اآلغا سيد عليوي نتيجة خيانته باإلعدام‪:‬‬
‫"ولما جاءت روجينا ضرب اآلغا‪ ،‬ل شعوريا‪ ،‬على جبهته‪ ،‬وهو يراها تدرج‬
‫مثل بطة‪ :‬سمينة مرتبكة‪ ،‬ومليئة باألسى جلست‪ ،‬أول األمر على كرسي‬
‫طلب منها أن تجلس عليه‪ .‬سأل طلعت باقة اآلغا إذا كان يعرفها أو له‬
‫عالقة بها‪ ،‬واآلغا الذي رفض اإلجابة ركز نظراته على روجينا‪ ..‬لكن‬
‫روجينا ظلت مطرقة‪ .‬أما حين سألها طلعت باقة ما إذا كانت تعرفه‪ ،‬فقد‬
‫وقفت وهي ترد‪:‬‬
‫‪ -‬منو ما يعرف اآلغا؟‬
‫ولما كرر السؤال كيف عرفته وأين‪ ،‬وماذا تعرف عنه‪ ،‬ردت‪:‬‬
‫‪ -‬شغلتنا‪ ،‬يا بك‪ ،‬عرفتنا عليه وعلى غيره !‬
‫سأهلا طلعت من جديد ما إذا محلت ماالً لآلغا‪ ،‬وما مقداره‪ ،‬وملاذا ؟‬
‫وردت بالتفصيل كيف حملت مالا من الباليوز لتسلمه إلى اآلغا‪ ،‬وأنها‬
‫( ‪)5‬‬
‫كانت مجرد رسول‪"..‬‬
‫أكثر من خطيئة تغلّف هذا النموذج فيغدو غريباً انتهازياً متجاوزاً ال حدود‬
‫لسيئاته وال سرت لعوراته‪ ،‬هذا النموذج لديه القدرة وامليزات ألن يتكيف مع الطقس مهما‬
‫اختلفت حاالته‪.‬‬

‫(‪ )511‬الرواية‪.535-534/2 :‬‬

‫‪266‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -4‬المرأة العاجزة‬
‫وقد متثلت يف شخصيتني األوىل شخصية امللكة "نيتوقريس" يف رواية "رادوبيس"‬
‫وعجزها هو يف افتقارها إىل قرار ينقذ حياهتا وكرامتها اليت ُمست من قبل امللك وغانيته‬
‫رادوبيس‪ ،‬فكانت شخصيتها مهمشة ضعيفة مستكينة‪:‬‬
‫"وكانت الملكة ضاقت بانزوائها‪ ،‬وضغطت عليها عواطفها الخفية وواجبها‬
‫المبين‪ ،‬لتخرج من صمتها وسجنها الطويل‪ ..‬فلم تعد تستطيع صبرا‪،‬‬
‫واقتنعت نفسها بأن واجبها يدعوها إلى عمل شيء ما‪ ،‬وإلى بذل محاولة‬
‫أخرى‪ ..‬وتساءلت في حيرتها‪" :‬أأذهب حق ا إلى هذه المرأة‪ ،‬وألفتها الى‬
‫واجبها‪ ،‬وأطلب إليها أن تنقذ الملك من الهاوية التي يندفع إليها‪..‬‬
‫"وأسلمها تساؤلها هذا إلى حيرة طويلة وارتباك محزن‪ ،‬هويا بها إلى الهوس‬
‫والهذيان‪ ،‬ولكنها لم ترجع عن فكرتها‪ ،‬وما كانت تزداد إل تصميم ا‪ ،‬كانت‬
‫كسيل يندفع في منحدر ل يستطيع عنه حول‪ .‬ولكنه يندفع مضطرب ا مزبد ا‬
‫( ‪)51‬‬
‫كاسرا‪ ..‬فقالت في نهاية المعركة الناشبة‪" :‬سأذهب‪"..‬‬
‫وكان ذهاهبا وباالً عليها كشف عجزها وقلة حيلتها‪ ،‬وهي امللكة‪ ،‬ولكنها‬
‫كسبت رضا الشعب وحبّه فقتل الشعب امللك جزاء ِعيّه وأراد منها أن تكون احلاكمة‪.‬‬
‫أما الشخصية العاجزة األخرى‪ ،‬فهي شخصية حمسنة بنت داود باشا يف رواية‬
‫"أرض السواد" والعجز هنا عجز عضوي‪ ،‬فمنذ أن ولدت وقدماها مشلولتان ال تقويان‬
‫على احلركة‪ ،‬وهذا ما كان حيزن ويكلم فؤاد أبيها‪:‬‬
‫"‪ -‬بابا آني منو خلقني؟‬
‫‪ -‬ربنا سبحانه وتعالى خلقك يا بنيتي؟‬
‫‪ -‬وأختي زكية‬

‫(‪ )511‬الرواية‪ :‬ص ‪.141-141‬‬

‫‪267‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -‬ربنا يا بنتي !‬
‫مقرمة * وهي تمشي ؟‬
‫‪ -‬وليش خلقني ّ‬
‫‪ -‬راح تمشين‪ ،‬يا بنتي‪ ،‬بس اصبري‪ ،‬كلها كم شهر وتمشين‪.‬‬
‫‪ -‬لكن هي أصغر مني وتمشي !‬
‫‪ -‬إنت تمرضت لما كنت صغيرة‪ ،‬والمرض أثر عليك‪ ،‬وربنا راح‬
‫(‪)511‬‬
‫يخليك تمشين فد يوم"‬

‫خاف أن شخصية حمسنة العاجزة شخصية تفرض علينا أن نفكر هبا‬ ‫وغري ٍ‬
‫بوصفها رمزاً‪ ،‬ملثبطات أو عوائق اكتمال السلطة لداود باشا‪ ،‬فسالمة نصفها العلوي رمز‬
‫إىل امتالك داود باشا للعقل والتفكري السليم واإلدارة احلازمة‪ .‬أما تلف جزئها السفلي‪،‬‬
‫فهو رمز لقلة اإلمكانيات وضعف احليلة‪ .‬ومن جهة أخرى قد يكون عجزها رمزاً لغياب‬
‫دور فاعل للمرأة يف تلك احلقبة‪.‬‬
‫شح مناذج املرأة يف الروايات اليت استطلعناها‪ -‬باستثناء رواية "ثالثية‬
‫واحلقيقة أن ّ‬
‫غرناطة" لرضوى عاشور‪ ،‬ميكن أن يقدم نسقاً ذا داللة مضمرة‪ ،‬فاملرأة تضطلع يف‬
‫الروايات املدروسة بدور تكميلي أو إردايف‪ ،‬وإذا ما أخذت دوراً رئيسياً كانت مثاالً‬
‫أخالقياً ساقطاً يف حكم اجملتمع‪ .‬إذ حتولت املرأة إىل شيء جيلب املتعة والتسلية ليخفف‬
‫عن الرجل الذي يضطلع بدور استثنائي قيادي وال جيوز أن يكون رمزاً لشيء بل الرمز‬
‫من مهام املرأة تكونه كما نشاء‪ ،‬فاملرأة يف مطلع "ثالثية غرناطة" رمز لغرناطة اآلذنة‬
‫باهنيار‪ ،‬و "رادوبيس" رمز الحنرافات احلكام‪ ،‬و "حمسنة" رمز لعجز السلطة‪ ،‬و"مسية" يف‬
‫رواية احلجاج رمز للغاية اليت ال تدرك‪.‬‬

‫مقعدة‪.‬‬ ‫*‬

‫(‪ )511‬الرواية‪.234/3 :‬‬

‫‪261‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫لقد غابت املرأة الفاعلة بشكل واضح عن "رواية السواد" وهي رواية هتتم‬
‫باعرتاف كاتبها بأناس القاع واملسحوقني الذين ال صوت هلم‪ ،‬فأرادت أن تكون صوتاً‬
‫هلم‪ ،‬ومع ذلك فقد مت جتاهل املرأة وغيب دورها الفاعل يف هذه الرواية اليت تشكل حقبة‬
‫مهمة يف تاريخ العراق وأسندت املهام احلقيقية للرجل الشرقي الذي يستطيع وحده أن‬
‫يعرب عن مرادنا وحيقق طموحاتنا‪ .‬ولو افرتضنا أن عبد الرمحن منيف قد آذن بذلك‬
‫ليعكس لنا واقع غياب املرأة فعلياً عن احلدث آنذاك‪ ،‬فهل عدم وسيلة توصله إىل مراده‬
‫غري وسيلة الغياب(‪ ،)611‬والواقع أن حضور املرأة يف الرواية بدأ يثري كثرياً من التساؤالت‪،‬‬
‫فهي واقعة بني منوذج الغياب أو منوذج احلضور بوصفها شيئاً للمتعة والفائدة‪ ،‬وليست‬
‫ذاتاً جيب إظهارها مظهراً حقيقياً يكسر حدة حضور الرجل وطغيانه يف الرواية العربية‪،‬‬
‫وهذا ما ميكن أن يشكل نسقاً غري مقصود أضمر خالل النسق العام للروايات‪ ،‬اليت‬
‫تعاجل فرتات زمنية متباينة متهيداً للكشف عن مكوناهتا احلقيقية من انتصارات وهزائم‪.‬‬
‫فيتدخل الوعي الثقايف ليخلد ضمائر املذ ّكر ويثبتها نافرة احلروف على صفحاته‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فإن األنساق املضمرة فيما درسنا واستوضحنا ال تقتصر على هذين‬
‫النموذجني‪ ،‬فهناك أنساق أخرى تستحق االستيضاح والكتابة‪ ،‬نأمل أن تكون جماالً‬
‫خصباً لدراسات الحقة إن شاء اهلل‪.‬‬

‫(‪ )512‬للمزيد عن حضور المرأة وغيابها في الرواية انظر‪:‬‬


‫‪Hanan Ibrahim, Tales of tow Houses (PH.D. Thesis) University of kent,‬‬
‫‪1999, P. 217.‬‬

‫‪261‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫الخاتم ــة‬

‫"الكــل ل يقــال أبـد ا"‬


‫*‬
‫ميشال فوكو‬

‫وبعد‪ ،‬فإن موضوع اخلطاب يف متازجه مع حيثيات النشاط اإلنساين يشكل‬


‫مفادات المتناهية‪ ،‬يصعب مالحقتها‪ ،‬إال إذا تعاضدت فيما بينها لتشكل أمناطاً بارزة‬
‫من اخلطاب ميكن حتديدها ورمبا تدوينها‪ .‬وما هذه الدراسة إال حصيلة متازج اخلطاب‬
‫سجل‬
‫بنشاطني إنسانيني بارزين؛ الرواية (األدب) والتاريخ‪ .‬وهذا النمط من التمازج ّ‬
‫حضوراً بارزاً على الصعيد األديب‪ ،‬ولوال هذا التسجيل ملا حتقق شرط التعاضد والتتابع‬
‫حيدد وتدون حيثياته‪.‬‬
‫فاستحق هذا النمط من اخلطابات أن ّ‬
‫ويف هذا الصدد فقد خلصت الدراسة بعد ألي إىل جمموعة من النتائج على‬
‫مستوى اخلطاب ومتازجه بالرواية (األدب) والتاريخ نذكر أبرزها‪:‬‬
‫* من العبث الوقوف عند تعريف واحد للخطاب؛ ألن كل حقل معريف أو فلسفي أو‬
‫لغوي ينظر إليه من زاوية حاجته‪ ،‬فاللسانيون يرون فيه اللغة يف حالة فعل (كالم)‪،‬‬
‫فهو وحدة لغوية أمشل من اجلملة‪ ،‬فهو نظام من امللفوظات نشأ من اشتغال‬
‫اللسانيني على الكالم بوصفه مظهراً خيصص كل فرد على حدة‪ ،‬فاخلطاب فردي‬
‫املصدر بنية التوصل والتأثري‪ ،‬مما يفعل دور املتلقي‪ .‬أما املفكرون والفالسفة‬
‫فاخلطاب لديهم ضرب ثقايف له طريقة خاصة يف التعبري عن مفردات معينة يف‬
‫املعرفة االجتماعية‪ ،‬على حنو يلزم ضرب حدود خاصة لكل خطاب بالقدر الذي‬
‫جتوزه هذه احلدود‪.‬‬
‫ّ‬
‫* بقي اخلطاب يف األصول العربية رهني املعىن املعجمي‪ ،‬إذ استقر على مرجعية‬
‫واحدة‪ ،‬عندما اقتصر توظيف اللفظة على أهنا مرادف من‬

‫ميشال فوكو‪ :‬حفريات المعرفة‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫*‬

‫‪271‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫مرادفات الكالم‪ ،‬ومل خيرج عن ذلك‪ ،‬رغم تعدد الدراسات العربية اليت حاولت الربط بني‬
‫التوظيف العريب القدمي للفظة واالستخدام احلديث هلا‪.‬‬
‫* إن اخلطاب ال ينحصر يف اللغة الكالمية فقط‪ ،‬بل ترافقة إشارات وإمياءات‬
‫وتنغيمات تعزز املعىن الذي قصده املرسل‪ ،‬وقد خيلو اخلطاب من الكالم وحتل حمله‬
‫اإلشارات أو الرموز أو اللغات غري البشرية‪ ،‬كلغة الطيور أو إشارات املرور أو الرسم‬
‫واملوسيقى والنحت‪ ،‬فكلها تبعث برسائل تؤدي مهمة الكالم يف اخلطاب وقد‬
‫تتفوق عليه‪.‬‬
‫* إن مصطلحي النص واخلطاب مصطلحان يتقاربان ويتباعدان يف الوقت نفسه‪،‬‬
‫فلسانياً يتطابق اخلطاب مع النص ألهنما ينفذان باللسان فيحققان مغزى‪ .‬أما‬
‫ابستمولوجيا فإن اخلطاب أوسع من النص‪ ،‬كونه منظومة معرفية تتمثل يف مجلة من‬
‫النصوص وامللفوظات واإلجراءات اليت يستدخلها األفراد‪ ،‬فتسهم يف تشكيل وعيهم‬
‫وصورة العامل‪ ،‬ومن مث متارس عليهم إكراهات سلطوية‪ .‬أما سردياً وحسب سعيد‬
‫يقطني‪ ،‬فإن النص مفهوم أوسع من اخلطاب‪ ،‬ألن اخلطاب لديه هو طريقة يف أداء‬
‫الفكرة اليت تشكل جزءاً من النص‪ ،‬أما النص‪ ،‬فهو الذي يشمل الطريقة واملعىن‪.‬‬
‫* تعد فكرة مستويات اخلطاب من النماذج الفاعلة يف عملية حتليله‪ ،‬إذ ينطلق من‬
‫اسرتاتيجية تنظيمية تكفل للدرس أن يستبصر اخلطاب ضمن اجتاهني؛ األول‪ :‬أفقي‬
‫مسحي يهتم باملساحة الظاهرة أي بسطح اخلطاب‪ .‬الثاين‪ :‬رأسي تعمقي يبحث يف‬
‫جيولوجيا اخلطاب وطبقاته املتالحقة وصوالً إىل مغزى اخلطاب ومالحمه النسقية‬
‫وأبعاده املعرفية‪.‬‬
‫* ال تتشابه مجيع اخلطاب يف فكرة التحليل‪ ،‬فلكل خطاب خصوصيته يف التحليل‪،‬‬
‫لكننا ميكن أن نطبق فكرة املستويات عليها دون حتفظ‪ ،‬أما االختالف فيكون يف‬
‫مراتب اخلطاب أو طبقاته أو مستوياته‪ ،‬فما قد ميس لوناً روائياً معيناً ليس بالضرورة‬
‫أن ميس اللون اآلخر‪ ،‬وهكذا‪ ،‬فعلى سبيل‬

‫‪271‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫امل ثال يف حتديدنا ملستويات اخلطاب يف الرواية التارخيية اعتمدنا املستوى التارخيي مبثابة‬
‫عالمة مائزة للرواية التارخيية يصعب توفرها يف لون آخر من الروايات‪ ،‬ولكن قد‬
‫تتوفر يف املسرحيات التارخيية مثالً وعندها فإن املستوى األول (الرتكييب السردي) هو‬
‫الذي سيختلف‪.‬‬
‫* إن "الرواية التارخيية" وصف سردي للون معني من الروايات اليت توظف التاريخ‬
‫بشكل ظاهر‪ ،‬وقد أثار هذا اللون الكثري من التضاربات يف التعريف‪ ،‬ولكن الدراسة‬
‫حتددها بأهنا‪ :‬خطاب أديب ينشغل على خطاب تارخيي مثبت سابق عليه انشغاالً‬
‫أفقياً‪ ،‬حياول إعادة إنتاجه روائياً‪ ،‬ضمن معطيات آنية‪ ،‬ال تتعارض مع املعطيات‬
‫األساسية للخطاب التارخيي‪ ،‬وانشغاالً رأسياً عندما حياول إمتام املشهد التارخيي من‬
‫وجهة نظر املؤلف إمتاماً تفسريياً أو تعليلياً أو تصحيحياً‪ ،‬لغايات إسقاطية أو‬
‫استذكارية أو استشرافية‪.‬‬
‫املخول أوالً بالكشف عن‬
‫* إن املستوى الرتكييب السردي للنصوص الروائية بعامة هو ّ‬
‫مجاليات النص‪ ،‬ومتيّزه على نص آخر مياثله‪ .‬فاملنهج البنيوي للسرديات قادر على‬
‫اكتشاف آليات عمل اخلطاب ضمن مستواه األول‪ ،‬وميتلك التفويض باحلكم على‬
‫قدرة اخلطاب املوظف على استغالل إمكانية السرد الروائي وتسخريها خلدمة النص‬
‫ال أن تكون عالة عليه‪.‬‬
‫* إن متازج التارخيي بالروائي يعد من املعضالت اليت تواجه كاتب الرواية‪ ،‬حيث إن‬
‫الروائي يعتمد على سعة أفق الكاتب وخياله‪ .‬أما التارخيي فمدون ال جمال للتحكم‬
‫يف مفرداته إال على مستوى اإلخراج‪ ،‬من هنا سلك الروائيون غري طريقة لتحقيق‬
‫املزج‪ ،‬كأن يسرد الروائي جمموعة من األخبار التارخيية الصرفة يف بداية الرواية تكون‬
‫مبثابة هتيئة جو تارخيي لألحداث اليت ستنقاد على أثره‪ .‬أو كأن يعكس الراوي‬
‫أحداث التاريخ على تصرفات الشخصيات فيفهم احلدث التارخيي‪ ،‬أو كأن يروى‬
‫احلدث‬

‫‪272‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫التارخيي أكثر من مرة على لسان الشخصيات ليعرض الواحد منهم كل حدث ضمن‬
‫فهمه اخلاص‪ ،‬فيتفادى بذلك الروائي صرامة التاريخ ويليب متطلبات الصدقني الفين‬
‫والتارخيي‪.‬‬
‫* تنقسم الرواية التارخيية يف أدائها إىل مراحل تعكس كل مرحلة تطور الوسائل‬
‫املستجدة يف خدمة اخلطاب الروائي يف الرواية التارخيية‪ ،‬إذ اعتمدت الرواية على‬
‫جمموعة من الروايات املتباعدة يف زمن صدورها بدءا من ‪ 1091‬وحىت ‪1000‬‬
‫لتغطي الدراسة مساحة واسعة من االجنازات على صعيد الرواية التارخيية‪.‬‬
‫* متيزت رواييت "أرض السواد" ‪ 1000‬و "ثالثية غرناطة" ‪ ،1009‬بقدرهتما على‬
‫توظيف التقنيات الروائية بشكل الفت‪ ،‬فرغم صرامة الشكل الزمين املتسلسل‬
‫لألحداث التارخيية‪ ،‬ومن مث صرامة مماثلة ترافقها يف الرواية التارخيية‪ ،‬إال أهنما‬
‫استطاعتا أن توظفا طريقتني سرديتني خمتلفتني‪ ،‬متثلت األوىل بتقنية املشاهد الروائية‬
‫املتفاضلة زمنياً كما يف ثالثية غرناطة‪ ،‬والتقنية الثانية هي "التداعيات احلكائية" كما‬
‫هي يف "أرض السواد"‪ .‬ولعل التداعيات تقنية ال تعتمد منهجية منظمة يف سرد‬
‫األحداث كما "املشاهد" بل إن األحداث تفضي إىل أحداث قريبة منها مكاناً أو‬
‫زماناً‪.‬‬
‫املوجه أصالً من قبل النقد الثقايف‪ ،‬مستوى معرفياً متقدماً يف‬
‫* يعد املستوى النسقي َّ‬
‫توسيع دائرة البحث يف اخلطاب عن طريق إدراجه ضمن سياقات متاثله ‪ ،‬لكنه‬
‫يندرج ضمنها‪ ،‬لكشف األنساق الثقافية غري املعلنة واليت تسري بالضد من النسق‬
‫املعلن‪ ،‬وهذا املستوى من البحث قد ميثل رديفاً فاعالً ينضم إىل املستويات األخرى‬
‫للتعامل النصوص واستيعاهبا‪.‬‬
‫وأخرياً‪ ،‬فإن الدراسة ال تقتصر نتائجها على ما ذكرت بل يتواصل احلديث جمدداً بتوسيع‬
‫كل فكرة ضمن نطاقها العام الذي أفرزها‪.‬‬

‫واهلل من وراء القصد‬

‫‪273‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫المراج ـ ــع‬

‫أ‪ -‬المصادر‬
‫‪ -‬زيدان‪ ،‬جرجي‪ .)1001( ،‬احلجاج بن يوسف (رواية)‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪( ،‬ط‪.)1‬‬
‫‪ -‬عاشور‪ ،‬رضوى‪ .)1001( ،‬ثالثية غرناطة (رواية)‪ ،‬بريوت‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪( ،‬ط‪.)1‬‬
‫‪ -‬حمفوظ‪ ،‬جنيب‪ .)1011( ،‬رادوبيس (رواية)‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار مصر للطباعة‪( ،‬ط‪.)19‬‬
‫‪ -‬منيف‪ ،‬عبد الرمحن‪ .)1000( ،‬أرض السواد (‪ 1‬أجزاء‪ -‬رواية)‪ ،‬بريوت‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬املركز‬
‫الثقايف العريب (ط‪.)1‬‬

‫ب‪ -‬المراجع العربية‬


‫‪ -‬ابراهيم‪ ،‬عبد اهلل‪ .)1009( ،‬املتخيَّل السردي‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب (ط‪.)1‬‬
‫القص‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة غريب‪.‬‬
‫‪ -‬ابراهيم‪ ،‬نبيلة‪ .)1001( ،‬فن ّ‬
‫‪ -‬ابراهيم‪ ،‬نبيلة‪( ،‬د‪.‬ت)‪ .‬نقد الرواية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة غريب‪.‬‬
‫‪ -‬ابن حزم‪ .)1019( ،‬رسائل ابن حزم‪ ،‬حتقيق إحسان عباس‪ ،‬بريوت‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر‪.‬‬
‫‪ -‬ابن جين‪ ،)1009( ،‬اخلصائص‪ ،‬حتقيق حممد علي النجار‪ ،‬بغداد‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪.‬‬
‫‪ -‬ابن منظور‪ ،‬لسان العرب‪.‬‬
‫‪ -‬ابن يعيش‪ ،‬أبو البقاء‪ .)1991( ،‬شرح املفصل للزخمشري‪ ،‬ق ّدمه‪ :‬إميل يعقوب‪ ،‬بريوت‪ ،‬منشورات حممد علي‬
‫بيضون‪ ،‬دار الكتب العلمية (ط‪.)1‬‬
‫‪ -‬أبو ناضر‪ ،‬موريس‪ .)1010( ،‬األلسنية والنقد األديب‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار النهار‪.‬‬
‫‪ -‬إمساعيل‪ ،‬فادي‪ .)1001( ،‬اخلطاب العريب املعاصر‪ ،‬املؤسسة اجلامعية‪.‬‬
‫‪ -‬اآلمدي‪ ،‬سيف الدين‪( ،‬د‪.‬ت)‪ .‬منتهى السؤل يف علم األصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مطبعة صبيح‪.‬‬
‫‪ -‬األنصاري‪ ،‬ابن هشام‪ .)1001( ،‬مغين اللبيب عن كتب األعاريب‪ ،‬حتقيق حممد حمي الدين‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ -‬حبراوي‪ ،‬حسن‪ .)1009( ،‬بنية الشكل الروائي‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب (ط‪.)1‬‬
‫‪ -‬حبريي‪ ،‬سعيد‪ .)1001( ،‬علم لغة النص‪ ،‬بريوت‪ ،‬مكتبة لبنان‪.‬‬
‫‪ -‬البخاري‪ ،‬عبد العزيز‪1191( ،‬هـ)‪ .‬كشف األسرار‪ ،‬مكتبة الضائع‪.‬‬
‫‪ -‬بدر‪ ،‬عبد احملسن طه‪( ،‬د‪.‬ت)‪ .‬الرؤية واألداة جنيب حمفوظ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعارف (ط‪.)1‬‬
‫‪ -‬التهانوي (‪ .)1011‬كشاف اصطالحات الفنون‪ ،‬حتقيق لطفي عبد البديع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬اهليئة املصرية العامة‬
‫للكتاب‪.‬‬
‫‪ -‬اجلابري‪ ،‬حممد عابد‪ .)1016( ،‬اخلطاب العريب املعاصر‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪.‬‬
‫‪ -‬اجلاحظ‪ ،‬أبو بكر عثمان‪ .)1091( ،‬البيان والتبيني‪ ،‬حتقيق عبد السالم هارون‪ ،‬القاهرة‪ ،‬جلنة التأليف والرتمجة‬
‫والنشر‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫اجلرجاين‪ ،‬الشريف‪ .)1011( ،‬التعريفات‪ ،‬بريوت‪ ،‬مكتبة لبنان‪.‬‬ ‫‪-‬‬


‫اجلرجاين‪ ،‬عبد القاهر (‪ .)1060‬أسرار ال بالغة يف علم البيان‪ ،‬صححها وعلق عليها حممد رشيد رضا‪ ،‬مكتبة‬ ‫‪-‬‬
‫حممد علي صبيح (ط‪.)5‬‬
‫اجلرجاين‪ ،‬عبد القاهرة (‪ .)1011‬دالئل االعجاز يف علم املعاين‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد عبده وحممد الشنقيطي‪ ،‬تصحيح‬ ‫‪-‬‬
‫وتعليق‪ :‬حممد رشيد رضا‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعرفة‪.‬‬
‫املشوق إىل علوم القرآن‪ ،‬بريوت‪ ،‬منشورات دار ومكتبة اهلالل‪.‬‬ ‫اجلوزية‪ ،‬ابن قيم (‪ .)1011‬الفوائد ّ‬ ‫‪-‬‬
‫اجلواهري‪ ،‬أساس البالغة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حجازي‪ ،‬حممود‪ .)1001( ،‬البحث اللغوي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة غريب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫حرب‪ ،‬علي‪ .)1001( ،‬نقد النص‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫محودة‪ ،‬عبد العزيز‪ .)1991( ،‬املرايا املقعرة‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬ع (‪.)111‬‬ ‫‪-‬‬
‫خطايب‪ ،‬حممد‪ .)1001( ،‬لسانيات النص مدخل إىل انسجام اخلطاب‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫خورشيد‪ ،‬فاروق‪ .)1016( ،‬يف الرواية العربية‪ ،‬عصر التجمع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الشروق‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫الرويلي‪ ،‬ميجان والبازعي‪ ،‬سعد‪ .)1999( ،‬دليل الناقد األديب‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫الزخمشري‪ ،‬أساس البالغة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الزخمشري (‪ .)101‬الكشاف‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الكتاب العريب (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫زيادة‪ ،‬معن‪ .)1015( ،‬املوسوعة الفلسفية العربية‪ ،‬حلب‪ ،‬معهد االمناء العريب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫زيتوين‪ ،‬لطيف (‪ .)1001‬معجم مصطلحات نقد الرواية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مكتبة لبنان‪(،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫السعافني‪ ،‬ابراهيم‪ .)1019( ،‬تطور الرواية العربية يف بالد الشام ‪ ،1051-1119‬بغداد‪ ،‬دار الرشيد‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫السيد‪ ،‬شفيع‪ .)1015( ،‬اجتاهات الرواية املصرية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة الشباب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ُشرب (‪ .)1011‬تفسري القرآن‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫الشمايل‪ ،‬نضال‪ .)1991( ،‬جتربة زياد قاسم الروائية‪ ،‬عمان‪ ،‬دار وائل (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫عباس‪ ،‬عباس عبد احلليم (‪ .)1991‬إحسان عباس بني الرتاث والنقد األديب‪ ،‬األردن‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عبد اهلل‪ ،‬حممد حسن‪ ،‬الواقعية يف الرواية العربية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عبدة‪ ،‬قاسم وهواري‪ ،‬أمحد (د‪.‬ت) الرواية التارخيية يف األدب العريب احلديث‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عصفور‪ ،‬جابر‪ .)1001( ،‬خطاب اخلطاب يف‪ :‬ابراهيم السعافني (حمرر)‪ ،‬حمراب املعرفة‪ ،‬دراسات مهداة إىل‬ ‫‪-‬‬
‫إحسان عباس‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪( ،‬ط‪.)1‬؟‬
‫عياشي‪ ،‬منذر‪ .)1009( ،‬مقاالت يف األسلوبية‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الغذامي‪ ،‬عبد اهلل‪ .)1016( ،‬اخلطيئة والتكفري‪ ،‬جدة‪ ،‬إصدارات نادي جدة األديب الثقايف‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫الغذامي‪ ،‬عبد اهلل (‪ .)1999‬النقد الثقايف‪ ،‬قراءة يف األنساق العربية الثقافية‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‬ ‫‪-‬‬
‫(ط‪.)1‬‬
‫فتيح‪ ،‬حممد (‪ .)1010‬يف الفكر اللغوي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العريب (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫فضل‪ ،‬صالح‪ .)1011( ،‬نظرية البنائية يف النقد‪ ،‬بغداد‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪275‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫فضل‪ ،‬صالح‪ .)1001( ،‬بالغة اخلطاب وعلم النص‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة (‪.)159‬‬ ‫‪-‬‬
‫فضل‪ ،‬صالح‪ .)1001( ،‬شفرات النص‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفريوزبادي‪ ،‬قاموس احمليط‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫القاسم‪ ،‬بنيه‪( ،‬د‪.‬ت) الرواية التارخيية عند جنيب حمفوظ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الشروق‪(،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫قاسم‪ ،‬سيزا‪ .)1019( ،‬بناء الرواية‪ :‬دراسة مقارنة لثالثية جنيب حمفوظ‪ ،‬القاهرة‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫القرطاجين‪ ،‬حازم (‪ .)1011‬منهاج البلغاء وسراج األدباء‪ ،‬تقدمي وحتقيق حممد احلبيب ابن اخلوجة‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫الغرب اإلسالمي‪.‬‬
‫حلمداين‪ ،‬محيد‪ .)1001( ،‬بنية النص السردي‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫مرتاض‪ ،‬عبد امللك‪ .)1001( ،‬يف نظرية الرواية‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة (‪.)199‬‬ ‫‪-‬‬
‫املرجتى‪ ،‬أنور‪ ،‬سيميائية النص األديب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬افريقيا الشرق‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫املسدي‪ ،‬عبد السالم‪ .)1011( ،‬األسلوبية واألسلوب‪ ،‬تونس‪ ،‬الدار العربية للكتاب (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫مصلوح‪ ،‬سعد‪ .)1019( ،‬األسلوب‪ ،‬الكويت‪ ،‬دار البحوث العلمية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مفتاح‪ ،‬حممد‪ .)1016( ،‬حتليل اخلطاب الشعري– اسرتاتيجية التناص‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار التنوير (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫مفتاح‪ ،‬حممد‪ .)1000( ،‬املفاهيم معامل‪ -‬حنو تأويل واقعي‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫منيف‪ ،‬عبد الرمحن‪ .)1991( ،‬رحلة ضوء‪ ،‬بريوت‪ ،‬املؤسسة العربية للدراسات والنشر (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫ناصف‪ ،‬مصطفى‪ .)1006( ،‬اللغة والتفسري والتواصل‪ ،‬الكويت‪ ،‬سلسلة عامل املعرفة‪.)101( ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫جنم‪ ،‬حممد يوسف‪ .)1055( ،‬القصة يف األدب العريب احلديث‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫نوار‪ ،‬عبد العزيز‪( ،‬د‪.‬ت)‪ .‬داود باشا وايل بغداد‪ ،‬اجلمهورية العربية املتحدة‪ ،‬دار الكتاب العريب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫هالل‪ ،‬حممد غنيمي‪( ،‬د‪.‬ت)‪ .‬األدب املقارن‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار العودة (ط‪.)6‬‬ ‫‪-‬‬
‫يقطني‪ ،‬سعيد‪ .)1016( ،‬القراءة والتجريب‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬دار الثقافة‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫يقطني‪ ،‬سعيد‪ .)1010( ،‬انفتاح النص الروائي‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪(،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫يقطني‪ ،‬سعيد‪ .)1001( ،‬الرواية والرتاث السردي‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫يقطني‪ ،‬سعيد‪ .)1001( ،‬حتليل اخلطاب الروائي (الزمن‪ -‬السرد‪ -‬التبئري)‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬

‫جـ‪ -‬المراجع األجنبية المترجمة‬


‫‪ -‬اجنينو‪ ،‬مارك‪ ،‬مفهوم التناص يف اخلطاب النقدي اجلديد‪ ،‬تر‪ :‬أمحد املديين عن كتاب يف أصول النقد اجلديد‬
‫(ط‪ )1‬عيون املقاالت‪ ،‬الدار البيضاء‪.‬‬
‫‪ -‬باختني‪ ،‬ميخائيل‪ .)1011( ،‬امللحمة والرواية‪ ،‬تر‪ :‬مجال شحيّد‪ ،‬معهد االمناء العريب‪ ،‬بريوت (ط‪.)1‬‬
‫‪ -‬بارت‪ ،‬روالن‪ ،‬النقد البنيوي للحكاية‪ ،‬تر‪ :‬انطون أبو زيد‪ ،‬بريوت‪ ،‬منشورات عويدات‪.‬‬
‫‪ -‬بارت‪ ،‬روالن‪ ،‬املدخل إىل التحليل البينوي للقصص‪ ،‬تر‪ :‬منذ عياشي‪ ،‬حلب‪ ،‬مركز اإلمناء احلضاري‪.‬‬
‫‪ -‬بارت‪ ،‬روالن (‪ .)1001‬لذة النص‪ ،‬تر‪ :‬منذر عياشي‪ ،‬حلب‪ ،‬مركز االمناء احلضاري‪.‬‬
‫‪ -‬براون ويول (‪ .)1001‬حتليل اخلطاب‪ ،‬ترمجة حممد لطفي ومنري الرتيكي‪ ،‬جامعة امللك سعود‪ ،‬الرياض‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫بروب‪ ،‬فالدميري (‪ .)1011‬مورفولوجيا اخلرافة‪ ،‬تر‪ :‬ابراهيم اخلطيب‪ ،‬الشركة املغربية للناشرين املتحدين‪ ،‬الدار‬ ‫‪-‬‬
‫البيضاء‪.1015 ،‬‬
‫بوتور‪ ،‬ميشال‪ .)1015( ،‬حبوث يف الرواية اجلديدة‪ ،‬تر‪ :‬فريد أنطونيوس‪ ،‬بريوت‪ ،‬منشورات عويدات (ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫بوجراند‪ ،‬روبرت دي‪ .)1011( ،‬النص واخلطاب واإلجراء‪ ،‬تر‪ :‬متام حسان‪ ،‬القاهرة‪ ،‬عامل الكتب‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫تودوروف‪ ،‬تزفيتان‪ ،‬الشعرية‪ ،‬ترمجة شكري املبخوت ورجاء بن سالمة‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬توبقال‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫توماس‪ ،‬هنري‪( ،‬د‪.‬ت) أعالم الفن القصصي‪ ،‬تر‪ :‬عثمان مويه‪ ،‬القاهرة‪ ،‬املؤسسة العربية املصرية للتأليف والنشر‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫جنيت‪ ،‬جريار‪ .)1001( ،‬خطاب احلكاية حبث يف املنهج‪ ،‬تر‪ :‬حممد املعتصم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬اجمللس األعلى للثقافة‬ ‫‪-‬‬
‫والفنون (ط‪.)1‬‬
‫جنيت‪ ،‬جريار (‪ )1999‬عودة إىل خطاب احلكاية‪ ،‬تر‪ :‬حممد معتصم‪ ،‬بريوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب(ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫شرودر‪ ،‬موريس وهولربت‪ ،‬جون وهنري‪ ،‬جورج (‪ .)1015‬نظرية الرواية‪ ،‬عالقة التعبري بالواقع‪ ،‬تر‪ :‬حممد جاسم‬ ‫‪-‬‬
‫املوسوي‪ ،‬بغداد‪ ،‬مكتبة التحرير‪.‬‬
‫الشكالنيون الروس (‪ .)1011‬نظرية املنهج الشكلي‪ ،‬تر‪ :‬ابراهيم اخلطيب‪ ،‬بريوت‪ ،‬مؤسسة األحباث العربية‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫(ط‪.)1‬‬
‫ريكاردو‪ ،‬جان (‪ .)1001‬قضايا الرواية احلديثة‪ ،‬تر‪ :‬صياح اجلهيم‪ ،‬دمشق‪ ،‬وزارة الثقافة واإلرشاد القومي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فوتو‪ ،‬برنار دي‪ .)1050( ،‬عامل القصة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬عامل الكتب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫فورسرت‪ ،‬أ‪ .)1009( ،‬أركان الرواية‪ ،‬تر‪ :‬موسى عاصي‪ ،‬طرابلس‪ ،‬جروس برس‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫فوكو‪ ،‬ميشال‪ ،‬نظام اخلطاب‪ ،‬تر‪ :‬حممد سبيال‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار التنوير‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫فوكو‪ ،‬ميشال‪ .)1011( ،‬حفريات املعرفة‪ ،‬تر‪ :‬سامل يغوت‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫كريستيفا‪ ،‬جوليا‪ .)1001( ،‬علم النص‪ ،‬تر‪ :‬فريد الزاهي‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬توبقال‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لوبوك‪ ،‬بريسي‪ .)1011( ،‬صنعة الرواية‪ ،‬تر‪ :‬عبد الستار جواد‪ ،‬بغداد‪ ،‬دار الرشيد‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫لوكاش‪ ،‬جورج‪ .)1011( ،‬الرواية التارخيية‪ ،‬تر‪ :‬صاحل جواد كاظم‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الطلعية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مندالو‪ ،‬أ‪ .)1001( ،‬الزمن والرواية‪ ،‬تر‪ :‬بكر عباس‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪( ،‬ط‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫موير‪ ،‬أودين‪( ،‬د‪.‬ت)‪ .‬بناء الرواية‪ ،‬الدار املصرية للتأليف والطباعة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪277‬‬
)‫ األردن‬،‫ اربد‬، ‫ عالم الكتب الحديث‬، 6002 ‫ نضال الشمالي‬.‫ الرواية والتاريخ (د‬: ‫كتاب‬

:‫ المراجع األجنبية‬-‫د‬
Austin, John, (1961). How to do things with words. -
- Benvenist, Emile (1971). Problems in General linguistiecs, University of
Miami Press, Florida (1st ed.).
- Bussmann, Hadumod, (1996). Dectionary of language and Lingusitics,
Trans. By Gregory P. Trauth and Kevstin Kassazi, London.
- Childers, J. and G. Hentzi (1995). Columbia Dictionary of Modern
Literary and Cultural Criticism, Columbia University Press, NewYork.
- Crystal and Devtsch A., A first dictionary of linguistics and phonetics.
- Docort, Todorov, (1979). Encyclopedia of Scinces of language,
London.
- Hartman, Stock, (1970). Dictionary of language and linguistics, London.
- Hatch, Evelyn (2000). Discourse and language Education, Cambridge (5
Published).
- Howrthon J. (1992). A concise Glossary of Contemporary Literary
Theory, London.
- Ibrahim, Hanan (1999). Tales of tow Houses (PH. D Thesis) University
of Kent.
- Macdonell, Dian, (1986). Theories of Discourse, Oxford: Basil Black
well Ltd.
Mills, Sara (1999). Discourse, London- NewYork, Routledge. -
- Oxford Advanced Learner’s Dictionary of Current English, by hornby,
1984, P. 245.
- Rchards, Jack, (1985). Longman Dictionary of Applied Linguistics.
- Searle, John (1968). Speech Acts.
- Sebeok, (1986). Encyclopedia Dictionary of Semioties, NewYork.
- Waston, Jaines, (1981). A dictionary of Communication and Media
studies edition, New Delhi.
- Webster’s Third New International Dictionary: Vol. 1 (A to G) 1971:
USA: Encyclopedia Britanica, Inc.

‫ الدوريات‬-‫هـ‬

271
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫ابرير‪ ،‬بشري‪ .)1001( ،‬النص األديب وتعدد القراءات‪ ،‬جملة نزوى‪ُ ،‬عمان‪( ،‬ع‪.)11‬‬ ‫‪-‬‬
‫أبو أهيف‪ ،‬عبد اهلل‪ .)1991( ،‬رؤى التاريخ يف الرواية العربية‪ ،‬جملة املوقف األديب‪ ،‬دمشق‪ ،‬ع (‪.)119‬‬ ‫‪-‬‬
‫أدونيس‪ .)1011( ،‬يف الشعرية‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬ع (‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫ايغلتون‪ ،‬تريي‪ .)1991( ،‬مفهوم التاريخ يف الفكر ما بعد احلداثي‪ ،‬تر‪ :‬ثائر ديب‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬ع (‪.)51‬‬ ‫‪-‬‬
‫ايغلتون‪ ،‬تريي‪ .)1991( ،‬الثقافة يف طبعاهتا املختلفة‪ ،‬تر‪ :‬ثائر ديب‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬ع (‪.)11-19‬‬ ‫‪-‬‬
‫بارت‪ ،‬روالن‪ .)1011( ،‬نظرية النص‪ :‬تر‪ :‬منجي الشملي‪ ،‬عبد اهلل صولة‪ ،‬حممد القاضي‪ ،‬حوليات اجلامعة‬ ‫‪-‬‬
‫التونسية‪ ،‬ع (‪.)11‬‬
‫باروت‪ ،‬حممد مجال والكيالين‪ ،‬مشس الدين (‪ .)1991‬التاريخ والسرد‪ :‬جتليات القدس يف تاريخ مقدس‪ ،‬جملة‬ ‫‪-‬‬
‫الكرمل‪ ،‬ع (‪.)16-19‬‬
‫بلوحي‪ ،‬حممد‪ .)1991( ،‬سيميائية اخلطاب السردي‪ ،‬جملة كتابات معاصرة‪ ،‬ع(‪.)91‬‬ ‫‪-‬‬
‫تودوروف‪ ،‬تزفتيان‪ .)1011( ،‬اإلنشائية اهليكلية‪ ،‬تر‪ :‬مصطفى التواين‪ ،‬جملة الثقافة األجنبية (ع‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫جارييت‪ ،‬ميشال‪ .)1991( ،‬املذاهب الشكالنية‪ ،‬كتابات معاصرة‪ ،‬متوز ‪ ،‬ع(‪.)91‬‬ ‫‪-‬‬
‫جريان‪ ،‬عبد الرمحن‪ .)1011( ،‬مستويات البناء يف "جنمة أغسطس"‪ ،‬جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م‪ ،1‬ع(‪.)1-1‬‬ ‫‪-‬‬
‫احلجمري‪ ،‬عبد الفتاح (‪ .)1001‬هل لدينا رواية تارخيية؟ جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬م(‪ ،)15‬ع (‪.)19‬‬ ‫‪-‬‬
‫حداد‪ ،‬نبيل‪ .)1001( ،‬شجرة الفهود السميحة خريس‪ ،‬صورة اجملتمع األردين االنتقايل يف نصف قرن‪ ،‬أحباث‬ ‫‪-‬‬
‫الريموك‪ ،‬سلسلة اآلداب واللغويات‪ ،‬م(‪ ،)16‬ع(‪.)1‬‬
‫دراج‪ ،‬فيصل‪ .)1999( ،‬مقابلة مع عبد الرمحن منيف "التاريخ ذاكرة إضافية لإلنسان"‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬ع (‪.)51‬‬ ‫‪-‬‬
‫دراج‪ ،‬فيصل‪ .)1999( ،‬أرض السواد ذاكرة التاريخ وتاريخ الذاكرة‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬ع(‪.)59‬‬ ‫‪-‬‬
‫دراج‪ ،‬فيصل‪ .)1991( ،‬التاريخ وصعود الرواية‪ ،‬جملة الكرمل‪ ،‬ع (‪.)11-19‬‬ ‫‪-‬‬
‫رميا‪ ،‬بيري‪ .)1010( ،‬حنو سوسيولوجية النص األديب‪ ،‬جملة العرب والفكر العاملي‪ ،‬ع(‪.)6‬‬ ‫‪-‬‬
‫الشمايل‪ ،‬نضال‪ .)1999( ،‬القرمية لسميحة خريس‪ :‬احلوار يف أهبى حلله‪ ،‬صحيفة العرب اليوم‪ ،‬األردن‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الشنطي‪ ،‬حممد‪ .)1999( ،‬الغذامي من النقد األلسين إىل النقد الثقايف‪ ،‬صحيفة اجلزيرة‪ ،‬الرياض‪ ،‬ع (‪.)1991‬‬ ‫‪-‬‬
‫عبدة‪ ،‬قاسم‪ .)1001( ،‬الرواية التارخيية عند حممد فريد أبو حديد‪ ،‬جملة أدب ونقد‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ع (‪.)199‬‬ ‫‪-‬‬
‫الغذامي‪ ،‬عبد اهلل (‪ .)1991‬النقد الثقايف رؤية جديدة‪ ،‬جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ع(‪.)60‬‬ ‫‪-‬‬
‫فتحي‪ ،‬ابراهيم (‪ ،)1991‬تطور أدوات الصياغة الروائية‪ ،‬جملة فصول‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ع(‪.)51‬‬ ‫‪-‬‬
‫فرج‪ ،‬مرمي مجعة‪ .)1999( ،‬قراءة يف الرواية التارخيية املعاصرة‪ ،‬صحيفة البيان‪ ،‬األمارات‪ ،‬بيان الثقافة‪ ،‬ع(‪،)95‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.1999/11/15‬‬
‫القاضي‪ ،‬حممد‪ .)1001( ،‬الرواية والتاريخ‪ :‬طريقتان يف كتابة التاريخ روائياً‪ ،‬ج‪ ،11‬م(‪.)1‬‬ ‫‪-‬‬
‫قريرة‪ ،‬توفيق (‪ .)1991‬التعامل بني بنية اخلطاب وبنية النص يف النص األديب‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬ع(‪ ،)1‬جملد‬ ‫‪-‬‬
‫(‪ ،)11‬ديسمرب‪.‬‬
‫لفتة‪ ،‬حممد جنيب‪ .)1001( ،‬ولرتسكوت والرواية التارخيية‪ ،‬اجمللة الثقافية‪ ،‬اجلامعة األردنية‪ ،‬ع (‪ )99‬آذار‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مانقينو‪ ،‬دومينك (‪ .)1011‬مقدمة إىل حتليل احلديث‪ ،‬تر‪ :‬قاسم املقداد‪ ،‬جملة املعرفة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ع (‪.)111‬‬ ‫‪-‬‬
‫املقداد‪ ،‬قاسم (‪ .)1015‬يف حتليل احلديث واحلديث السياسي‪ ،‬جملة املعرفة‪ ،‬دمشق‪ ،‬ع(‪.)101‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪271‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -‬الوعر‪ ،‬مازن‪ .)1005( ،‬علم حتليل اخلطاب وموقع اجلنس األديب‪ ،‬جملة آفاق الرتاث واحلداثة‪ ،‬االمارات‪ ،‬ع‬
‫(‪.)19‬‬
‫‪ -‬الوعر‪ ،‬مازن‪ .)1991( ،‬تقنيات اخلطاب املقنع واخلطاب العادي‪ ،‬جملة املوقف األديب‪ ،‬دمشق‪ ،‬متوز ‪ ،‬ع‬
‫(‪.)116‬‬
‫‪ -‬يقطني‪ ،‬سعيد‪ .)1991( ،‬من النص إىل النص املرتابط‪ ،‬جملة عامل الفكر‪ ،‬الكويت‪ ،‬ع(‪ ،)1‬جملد(‪ ،)11‬ديسمرب‪.‬‬

‫و‪ -‬الرسائل الجامعية‪:‬‬


‫‪ -‬ابراهيم‪ ،‬رزان‪ .)1991( ،‬خطاب النهضة والتقدم يف الرواية العربية (رسالة جامعية)‪ ،‬اجلامعة األردنية‪.‬‬
‫‪ -‬السامل‪ ،‬مجانة‪ .)1000( ،‬غرناطة يف الرواية (رسالة جامعية غري منشورة)‪ ،‬اجلامعة األردنية‪.‬‬
‫‪ -‬السد‪ ،‬نور الدين‪ .)1009( ،‬األسلوبية يف النقد العريب احلديث (رسالة دكتوراة غري منشورة)‪ ،‬جامعة اجلزائر‪،‬‬
‫اجلزائر‪.‬‬
‫‪ -‬سليمة‪ ،‬مدلفاف‪ .)1001( ،‬حتليل اخلطاب القصصي يف القرآن الكرمي (رسالة ماجستري غري منشورة)‪ ،‬جامعة‬
‫اجلزائر‪ ،‬اجلزائر‪.‬‬
‫‪ -‬شندي‪ ،‬أميمية‪ .)1001( ،‬مصر يف قصص جنيب حمفوظ (رسالة جامعية غري منشورة)‪ ،‬جامعة عني مشس‪.‬‬
‫‪ -‬صحراوي‪ ،‬ابراهيم (‪ .)1001‬اخلطاب األديب لدى جرجي زيدان‪( ،‬رسالة جامعية غري منشورة)‪ ،‬جامعة اجلزائر‪.‬‬
‫‪ -‬قصراوي‪ ،‬مها‪ .)1991( ،‬الزمن يف الرواية (رسالة جامعية غري منشورة)‪ ،‬اجلامعة األردنية‪.‬‬
‫‪ -‬القضاة‪ ،‬فريال‪ .)1991( ،‬اخلطاب الروائي عند أمني معلوف (رسالة جامعية غري منشورة)‪ ،‬اجلامعة األردنية‪.‬‬

‫ز‪ -‬المؤتمرات‬
‫‪ -‬اجلميل‪ ،‬سيار‪ .)1000( ،‬الرواية التارخيية‪ ،‬ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ‪ ،‬األردن‪ ،‬جامعة آل البيت‪ ،‬جملة البيان‪،‬‬
‫م(‪ ،)1‬ع(‪.)1‬‬
‫‪ -‬حنفي‪ ،‬حسن‪ .)1001( ،‬حتليل اخلطاب‪ ،‬املؤمتر العلمي الثالث (حتليل اخلطاب العريب) جامعة فيالدلفيا‪ ،‬األردن‪.‬‬
‫‪ -‬السد‪ ،‬نور الدين‪ .)1001( ،‬مفارقة اخلطاب األديب للمرجع‪ ،‬املؤمتر العلمي الثالث (حتليل اخلطاب)‪ ،‬جامعة‬
‫فيالدلفيا‪ ،‬األردن‪.‬‬
‫‪ -‬الشمايل‪ ،‬نضال‪ .)1991( ،‬تقنية الوصف يف الرواية األدنية‪( ،‬مؤمتر) (ملتقى الرواية يف األردن)‪ ،‬جامعة آل‬
‫البيت‪ ،‬األردن‪ ،‬الرواية يف األردن‪ ،‬حترير (شكري املاضي) و(هند أبو الشعر)‪ ،‬منشورات جامعة آل البيت‪.‬‬
‫‪ -‬غرايبة‪ ،‬هاشم‪ .)1000( ،‬عن التاريخ والرواية‪ ،‬ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ‪ ،‬األردن‪ ،‬جامعة آل البيت‪ ،‬جملة‬
‫البيان‪ ،‬م (‪ ،)1‬ع (‪.)1‬‬
‫‪ -‬املاضي‪ ،‬شكري‪ .)1000( ،‬الرواية والتاريخ وفن الرواية العربية‪ ،‬ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ‪ ،‬األردن‪ ،‬جامعة‬
‫آل البيت‪ ،‬جملة البيان‪ ،‬م(‪ ،)1‬ع(‪.)1‬‬
‫‪ -‬وقائع مؤمتر العامية يف الرواية (‪ .)1069‬جملة األديب‪ ،‬ج(‪ ،)19‬سنة (‪.)1‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫‪ -‬ياغي‪ ،‬عبد الرمحن‪ .)1000( ،‬الدخول الروائي يف عباءة التاريخ‪ ،‬ورقة حبثية حول الرواية والتاريخ‪ ،‬جامعة آل‬
‫البيت‪ ،‬األردن‪ ،‬جملة البيان‪ ،‬م(‪ ،)1‬ع(‪.)1‬‬

‫ح‪ -‬مواقع انترنت‬


‫‪ -‬إبراهيم‪ ،‬عبد اهلل‪ :‬املصطلح وظاهرة االنزياح‬
‫‪www.abdullah-Ibrahum.com/Page2-2-7-1-htm‬‬
‫‪ -‬ايكو‪ ،‬امبريتو‪ :‬حاشية على "اسم الوردة" آليات الكتابة‪ ،‬ترمجة وتقدمي‪ :‬سعيد بنكراد‬
‫‪www.said-Yaktin.com/eco.htm‬‬
‫‪ -‬بوعياد‪ ،‬نوارة‪ :‬دراسات يف اللغة واألدب‬
‫‪www.aljahidhiya.ass.dz/Revues/tabyin17/mathoumelkhitab.htm‬‬
‫‪ -‬التالوي‪ ،‬حممد جنيب‪ :‬وجهة النظر يف األصوات العربية‪ ،‬منشورات احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪www.awn-dam.org‬‬
‫‪ -‬محيد‪ ،‬حممد أبو بكر‪ :‬هل انتهت مرحلة الرواية التارخيية العربية؟‬
‫‪www.lahonline.com/Literature/Critique/455.doc_Ctr.htm‬‬
‫‪ -‬خليل‪ ،‬ابراهيم (‪ )1999‬ظالل وأصداء أندلسية يف األدب املعاصر‪ ،‬احتاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق‪ ،‬مقدمة الفصل‬
‫الثاين‬
‫‪www.awn-dom.org/Book/00/studyoo/327-a-b/Book00-sd008.htm‬‬
‫‪ -‬الشريازي‪ ،‬أبو اسحاق‪ :‬اللمع يف أصول الفقه‬
‫‪www.aleman.com/Islamlib/viewchp.sp?BID=267&D=3#549‬‬
‫‪ -‬فتحي‪ ،‬ابراهيم‪ :‬معجم املصطلحات األدبية (فصل الراء)‬
‫‪http://Literary.ajeeb.com/articales/reh/R0019.asp‬‬
‫‪ -‬فريد‪ ،‬هباء الدين حممد (‪ .)1991‬أجناس خطابية معاصرة (مقاربة عالماتية) جملة أفق عدد (‪.)1‬‬
‫‪www.ofouq.com/archive01/mar01/aqwas7-1a.htm‬‬
‫‪ -‬يقطني‪ ،‬سعيد‪ :‬املصطلح السردي العريب قضايا واقرتاحات (جملة نزوى)‪ ،‬ع(‪)11‬‬
‫‪www.nizwa.com/volume21/p61-68.htm‬‬
‫‪ -‬يوسف‪ ،‬أمحد‪ :‬حتليل اخلطاب من اللسانيات إىل السيميائيات جملة نزوى)‪ ،‬عدد(‪.)11‬‬
‫‪www.nizwa.com/volume12/p.38.htm‬‬

‫‪211‬‬
‫كتاب ‪ :‬الرواية والتاريخ (د‪ .‬نضال الشمالي ‪ ، 6002‬عالم الكتب الحديث ‪ ،‬اربد‪ ،‬األردن)‬

‫تم بحمد اهلل‬

‫‪212‬‬

You might also like