مسيرتي في البحث

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 133

‫مسيرتي في البحث‬

‫يوسف بن ألِعازَر‬

‫مقدمة بقلم‬
‫د‪ .‬سليم من ّير‬
‫مدير مؤسسة المصالحة‬

‫دار المحراث للنشر‬


‫‪THE PLOUGH PUBLISHING HOUSE‬‬
‫يرجى مشاركة هذا الكتاب مع أصدقائكم‪ .‬وال تترددوا في إرساله في البريد‬
‫االلكتروني أو طبع الكتاب كليا أو جزئيا‪ ،‬لكن الرجاء عدم إجراء أي تغيير بأية‬
‫طريقة كانت‪ .‬وإذا رغبتم في عمل نسخ متعددة منه لتوزيعه على نطاق واسع‪،‬‬
‫أو إلعادة استنساخ أجزاء منه كرسائل إخبارية أو دورية‪ ،‬فيرجى مراعاة القيود‬
‫التالية‪:‬‬
‫• ال يجوز إعادة نشره ملكاسب مادية‪.‬‬
‫• يجب إدراج عبارة االئتمان التالية‪" :‬حقوق الطبع والنشر لدار‬
‫املحراث للنشر ‪ - Plough Publishing House‬سنة ‪.3102‬م‪ .‬تم‬
‫استخدامه بعد اإلذن"‪.‬‬

‫هذا الكتاب "مسيرتي في البحث ‪"My Search‬‬


‫من منشورات دار املحراث للنشر ‪ ،The Plough Publishing House‬في‬
‫عنوانيه التاليين‪:‬‬
‫‪.0‬‬ ‫‪Rifton ،NY ،12471 USA‬‬
‫‪.3‬‬ ‫‪Robertsbridge ،East Sussex ،TN32 5DR ،UK‬‬
‫‪www.plough.com‬‬
‫طبعة جديدة‬

‫الترقيم الدولي‬
‫‪ISBN: 978-0-87486- 851-7‬‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬


‫‪Copyright © 2013 by The Plough Publishing House‬‬
‫‪Rifton ،NY ،12471 USA‬‬
‫‪All rights reserved‬‬
‫يف ظل تلك احلرية وااللتباسات هناك ناس أبرياء بقلوب نقية مِمنْ هم يف ضياع‪،‬‬

‫ويرتعشون بسبب ما يرونه‪ ،‬كما يرتجون بأمل وأسى متسائلني‪" :‬من أين سيأتي‬

‫عوننا؟‪ ...‬مَنْ هم الذين سريشدوننا ويظهرون لنا مثاال صاحلا من خالل‬

‫حياهتم‪ ،‬وعن طريق سلوكهم؟‪ ...‬من ترانا سنتبع؟‪ "...‬فالصغار والكبار‬

‫يبحثون عن النور احلقيقي بشوق بالغ‪ ،‬ويتصارعون مع شكوكهم‪.‬‬

‫ناتان هوفشي ‪Natan Hofshi‬‬

‫ناشط سالم إسرائيلي (‪0181 - 0881‬م)‬


‫‪5‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫محتويات الكتاب‬
‫املقدمة ‪6 ...............................................................................‬‬ ‫‪‬‬

‫ذكريات الطفولة ‪01 .............................................................‬‬ ‫‪.1‬‬


‫روزفادوف ‪ -‬الحياة في املدينة ‪02 ........................................‬‬ ‫‪.2‬‬
‫الحياة الدينية ‪31 .................................................................‬‬ ‫‪.3‬‬
‫الجئون ‪34 .............................................................................‬‬ ‫‪.4‬‬
‫النفي الى سيبيريا ‪23 .............................................................‬‬ ‫‪.5‬‬
‫سمرقند ‪ -‬الجوع واملرض ‪42 ...............................................‬‬ ‫‪.6‬‬
‫أطفال طهران ‪48 ..................................................................‬‬ ‫‪.7‬‬
‫فلسطين ‪54 ...........................................................................‬‬ ‫‪.8‬‬
‫في إعدادية الزراعة ‪60 .........................................................‬‬ ‫‪.9‬‬
‫ويبدأ البحث ‪68 ....................................................................‬‬ ‫‪.11‬‬
‫القتال في سبيل البلد ‪76 .....................................................‬‬ ‫‪.11‬‬
‫جمع الشمل ‪87 ....................................................................‬‬ ‫‪.12‬‬
‫ويستمر البحث ‪13 ................................................................‬‬ ‫‪.13‬‬
‫جماعة باريس ‪18 ..................................................................‬‬ ‫‪.14‬‬
‫انبثاق األمل ‪017 ..................................................................‬‬ ‫‪.15‬‬

‫ملحق …‪007 ….….....................................................……........‬‬ ‫‪‬‬


‫نبذة عن مجتمعات برودرهوف املسيحية ‪031 ...............‬‬ ‫‪‬‬
‫‪6‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫المقدمة‬

‫إنه لشرف لي بأن ُيطلب مني أن أكتب مقدمة لهذا الكتاب‬


‫"مسيرتي في البحث" الذي يسرد قصة حياة يوسف بن أل َ‬
‫عازر‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫وبينما أقوم بكتابة هذه السطور فإنني أفكر في النواحي املختلفة‬
‫ََ‬
‫التي ملستني من حياته‪.‬‬

‫في يوم مليء باالضطرابات في عام ‪0117‬م كنت جالسا في‬


‫بيت لحم بينما كانت تدور صدامات عنيفة بين اإلسرائيليين‬
‫والفلسطينيين‪ .‬لقد كنت في مكتبي في كلية بيت لحم للكتاب‬
‫املقدس وأنا أصغي لصوت التظاهرات وإطالق الرصاص العنيف‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫وقد تسللت رائحة الغاز الرديئة من خالل نافذة املكتب‪ .‬وفي ذلك‬
‫حنة بن أل َ‬
‫عازر‪ .‬لقد تلقيت‬ ‫تلقيت رسالة من امرأة تدعى ّ‬‫الوقت ّ‬
‫ِ‬
‫العديد من الرسائل في حياتي ّ‬
‫ولكنني أذكر القليل منها‪ .‬فقد كانت‬
‫‪7‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫عرفت نفسها على أنها ابنة يوسف بن‬ ‫هذه حالة استثنائية‪ .‬لقد ّ‬
‫أل َ‬
‫عازر وأخبرتني بجزء من قصة حياة والدها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫عازر وهو يختبر إرهاب النازيين عند‬ ‫نشأ يوسف بن أل َ‬
‫ِ‬
‫صعودهم للسلطة‪ .‬وقد هرب من أوروبا ليأتي إلى فلسطين وينضم‬
‫إلى الفرق اليهودية التي حاربت من أجل تأسيس دولة يهودية‪ .‬وكان‬
‫هدفهم توفير ملجإ آمن لليهود املضطهدين في أوروبا‪ .‬وكان ممتلئا‬
‫بالحيوية والحماسة‪ ،‬فوجد يوسف نفسه يحارب في صفوف‬
‫ّ‬
‫القوات التي هزمت املدينة الفلسطينية اللد‪ ،‬وهي مسقط رأس ي‪.‬‬

‫حنة سردا لألعمال الوحشية التي‬ ‫قدمت ّ‬ ‫وفي الرسالة‪ّ ،‬‬


‫إن األحداث التي حصلت في‬ ‫اقترفها والدها بحق األشخاص في اللد‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫اللد تمثل إحدى الجروح املفتوحة في العالقة بين اإلسرائيليين‬
‫اليهود والفلسطينيين‪ ،‬إذ أن أغلبية سكانها اضطروا ملغادرتها خالل‬
‫فإن معاصرة هذه األحداث‬ ‫حرب عام ‪0148‬م‪ .‬وبالنسبة ليوسف‪ّ ،‬‬
‫للتعرف على املسيح‪ .‬ولقد شجعه ذلك أيضا‬‫ّ‬ ‫والتفكير بحياته قاده‬
‫ّ‬
‫لكي يسعى تجاه املصالحة‪ .‬وتوجه أيضا إلى أملانيا ساعيا نحو‬
‫املصالحة مع هؤالء الذين اقترفوا أفعاال شنيعة تجاه شعبه خالل‬
‫ّ‬ ‫املحرقة‪ .‬ومن ّ‬
‫ثم بحث عن طريقة لكي يتصالح بها مع سكان اللد‬
‫وأن يحصل على مغفرتهم‪.‬‬

‫لقد اشتملت رسالة حنة على طلب باإلنابة عن والدها‪ .‬لقد‬


‫أرادت أن تتصل بالناس الذين يعيشون في اللد والذين طردوا من‬
‫ّ‬
‫بيوتهم‪ .‬لكنها في هذا الوقت لم تكن تعلم أنني نشأت في اللد ولم‬
‫تعرف أيضا عن قصة أسرتي‪ .‬فارتعشت يدي بينما كنت أقرأ‬
‫اللد قد ّ‬ ‫ّ‬
‫تم إنكاره من قبل‬ ‫كلماتها‪ .‬هذا وإن طرد الفلسطينيين من‬
‫‪8‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫اإلسرائيليين لسنوات طوال‪ .‬لكن قراءة قصة يوسف ّأدى إلى‬


‫التأكيد على ما قاله لي والدي وأسرتي‪ .‬فقد اعترف يوسف باألعمال‬
‫ُ ُ‬
‫الوحشية التي اقت ِرفت بحق سكان اللد وسعى لكي يحصل على‬
‫مغفرتهم‪.‬‬

‫ألتوقعها من قبل؛ رجل يطلب‬ ‫كانت تلك عطية لم أكن ّ‬


‫املغفرة بسبب حادثة تركت ندوبها وال تزال تؤثر بشكل كبير في‬
‫ونسقت بأن يلتقي‬‫سكان هذه األرض‪ .‬فأجبت حاال على طلبها ّ‬
‫والدها بوالدي‪ .‬لقد كان ذلك بمثابة صورة ال ّ‬
‫تصدق ولن أنساها‬
‫أبدا‪ .‬فأتى يوسف ملقابلة والدي يعقوب وراقبتهما عندما دخال إلى‬
‫وكل منهما يصف لآلخر األحداث التي‬ ‫البلدة القديمة في اللد ّ‬
‫حصلت في ذلك اليوم في عام ‪0148‬م‪ .‬بعدها اتجه يوسف نحو‬
‫والدي وطلب منه أن يسامحه‪ .‬والحقا أخبرني والدي‪" :‬لم ّ‬
‫أصدق‬
‫بقصتي ّ‬
‫بأنه سوف يتم االعتراف ّ‬ ‫ّ‬
‫وبأن ذلك الشخص سيطلب‬ ‫قط‬
‫املغفرة"‪.‬‬

‫هذا وإن أحد أكثر الجوانب صعوبة وتحديا في مبادرات‬


‫املصالحة بين الفلسطينيين واإلسرائيليين هي التاريخ والسرد‬
‫الروائي ‪ -‬ما الذي حصل في هذه األرض؟ من هو املذنب؟ من الذي‬
‫ّ‬
‫ابتدأ األمر؟ وكيف نختار أن نتذكر هذه األحداث؟ فبالنسبة لليهود‬
‫هنالك املعاناة واأللم من املحرقة والتمييز الذي واجهوه في البالد‬
‫التي عاشوا فيها‪ .‬وبالنسبة للفلسطينين‪ ،‬كانت السنوات من ‪0147‬‬
‫‪0141 -‬م والتي تعرف بالنكبة بمثابة عالمة بارزة في ذاكرتنا‪ ،‬إذ ّ‬
‫تم‬
‫إخراج الكثير من األشخاص من بيوتهم‪ ،‬وال يزال سعيهم نحو‬
‫الوصول إلى مطامحهم الوطنية ينتظر التحقيق‪ .‬فتركت كل هذه‬
‫‪9‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫األحداث ندوبا كبيرة‪ ،‬يجب أن يتم االعتراف بها وأن يتم فهمها‬
‫واحترامها ومعالجتها‪.‬‬

‫عندما يتم االعتراف بكل من التاريخ والرواية بشكل متبادل‬


‫فسيكون هنالك طريقا للمض ي قدما للفلسطينيين واإلسرائيليين‪،‬‬
‫تجسد األمر في حياة يعقوب ويوسف‪ .‬فقد وجد هذان األثنان‬ ‫كما ّ‬
‫ولعل عملهما ّ‬
‫يمهد الطريق‬ ‫ّ‬ ‫التحرر من خالل التوبة واملغفرة‪.‬‬ ‫ّ‬
‫للكثيرين في مجتمعنا‪ .‬لكن يتطلب األمر الشجاعة واالنفتاح‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التقدم حتى نتمكن من‬ ‫والتعلم العميق من خبرات الحياة ورغبة في‬
‫وإن قصة يوسف ويعقوب هي بمثابة رسالة أمل‪.‬‬ ‫إلهام جيل جديد‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫إنها رسالة لنا كلنا‪.‬‬

‫د‪ .‬سليم ّ‬
‫منير‬
‫مدير مؤسسة املصالحة‬
‫‪Musalaha Ministry of Reconciliation‬‬
‫‪http://www.musalaha.org/ar.asp‬‬
‫‪11‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫يودت‪ ،‬لينا‪ ،‬جدتي‬


‫ليو‪ ،‬يوسف‪ ،‬العم مايلخ‪ ،‬الوالدة‪ ،‬االخت ِ‬

‫‪1‬‬
‫ذكريات الطفولة‬

‫لقد ولِدتُ في يوليو ‪9191‬م‪ ،‬في مدينة فرانكفورت األملانية‪ .‬وكان‬


‫ّ‬
‫والدي من يهود أوروبا الشرقية والذين كانا قد جاءا الى أملانيا من‬
‫بولندا‪ ،‬قبل عدة سنوات من ذاك التاريخ‪ .،‬وعلى خالف اليهود‬
‫ّ‬
‫والدي يعرفان الش يء‬ ‫الذين كانوا قد عاشوا ألجيال في أملانيا‪ ،‬كان‬
‫القليل عن التراث األملاني‪ ،‬مثل الكاتب الشهير ‪ Goethe‬على سبيل‬
‫املثال أو الشاعر الشهير ‪ Schiller‬وكان اليهود األملان أكثر ثراء‪،‬‬
‫وأفضل تثقيفا‪ ،‬وأشد وطنية؛ ألنهم كانوا يعتبرون أنفسهم جزء‬
‫‪11‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫حقيقا من املجتمع األملاني‪ .‬أما نحن فلم نكن نشعر وكأننا في بلدنا‬
‫ولدت كان عمر أخي "ليو" أحد عشر وأختي "لينا"‬ ‫ُ‬ ‫هناك‪ .‬وعندما‬
‫ُ‬
‫عشرة‪ .‬فأصبحت الطفل املدلل في األسرة مدة سنة ونصف‪ .‬وحتى‬
‫يودت" كان االهتمام ما زال ينصب ّ‬
‫علي‬ ‫بعد والدة أختي الصغيرة " ِ‬
‫والدي آنذاك من‬‫ّ‬ ‫بسبب حالتي املرضية املستمرة‪ .‬وقد تمكن‬
‫تأسيس حياة مريحة الى حد ما‪ ،‬فلذلك تلقيت دالال مفرطا وأنا‬
‫طفل‪ .‬وكان لدينا الكثير من أقارب والدتي يقاسموننا الدار‪ ،‬وكنت‬
‫ألعب مع أبناء خوالي كثيرا‪.‬‬

‫والدي أشبه بمستودع يتشاركون به مع عمي‬ ‫ّ‬ ‫وكان لدى‬


‫"حايم سيمحا"‪ .‬وقد اعتادت البنات الشابات في أملانيا على صرف‬
‫عرسهن ‪ Aussteuer‬من شراشف‬ ‫ّ‬ ‫أول راتب يقبضنه في تحضير جهاز‬
‫وأوجه وسائد وبطانيات ‪ -‬وأحيانا فراش من الريش ‪ -‬ليوم عرسهنّ‬
‫املنتظر‪ .‬وكان كل من أبي وعمي يبيعون مثل هذه األقمشة الكتانية‬
‫بالتقسيط الشهري‪ .‬وسارت أمور العمل على ما يرام حتى أستطاع‬
‫أقربائي‪ ،‬على ما أظن‪ ،‬من اقتناء أمالك عديدة في مدينة‬
‫فرانكفورت‪ .‬لذا كنا محظوظين بالحقيقة عندما جاء النازيون الى‬
‫الحكم في أملانيا ألنه كان لدينا السبل واالمكانيات املادية التي‬
‫ساعدتنا على الهرب من البلد‪.‬‬

‫وذكرياتي عن مدينة فرانكفورت متنوعة ومتناثرة مثل‪ :‬زيارة‬


‫مثيرة الى حديقة الحيوانات في فرانكفورت‪ ،‬أو فحص طبي ّ‬
‫مروع‬
‫لحنجرتي في مرحلة الصف التمهيدي‪ ،‬أو دكان رائع لبيع السكريات‬
‫بالقرب من منزلنا‪.‬‬
‫‪12‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ّ‬
‫السامية ‪ "Anti-Semitism‬كانت‬ ‫وأولى ذكرياتي عن "معاداة ‪-‬‬
‫عد ُت مرة الى البيت ُوم ِرددا التعبير‬
‫حينما ارتعبت أمي عندما ّ‬
‫"‪ "Dreckjude‬الذي معناه "يهودي حقير"‪ .‬فكنت على األرجح‪،‬‬
‫وكطفل بعمر ‪ 2‬سنوات‪ ،‬قد تعلمته من أصدقائي في اللعب دون‬
‫علمي بمعناه‪ .‬بعدئذ شاهدنا من نافذة منزلنا الشرطة النازية ‪SA‬‬
‫حين كانت تمر من شارعنا منشدة‪" :‬عندما سيسيل الدم اليهودي‬
‫من سيوفنا‪...‬الخ‪ "...‬فباإلضافة الى خوفي كنت أالحظ الرعب في‬
‫ّ‬
‫والدي كذلك‪.‬‬ ‫أعين‬

‫فلما جاء هتلر الى سدة الحكم في يناير ‪0122‬م‪ ،‬كان أهلي‬
‫على اقتناع كامل بضرورة مغادرة أملانيا‪ .‬وفي شهر أبريل ذهب أبي الى‬
‫فلسطين إليجاد منزل لنا هناك‪ .‬وكنا نترقب منه جوابا بلهفة وقلق‬
‫بالغين؛ وانتظرنا مدة ثمانية أشهر‪ .‬لكنه وفي نهاية املطاف لم‬
‫يتمكن من ضمان رخصة دخول لنا الى فلسطين من السلطات‬
‫البريطانية آنذاك‪ .‬وأبلغنا بأننا يجب أن نلتقي معه في بولندا‬
‫إلحساسه بعدم وجود األمان له في أملانيا‪ .‬وبعد جمع بهيج لشمل‬
‫أسرتنا في محطة القطار في ريزخوف ‪ Rzeshov‬توجهنا الى مدينة‬
‫أمي األصلية روزفادوف ‪ Rozwadow‬حيث قضينا الست سنوات‬
‫التي تلت‪.‬‬
‫‪13‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ليو مع صديقه‬
‫ويوسف مع صديقه‬
‫خارج منزلهما‬
‫في روزفادوف‬

‫‪2‬‬
‫روزفادوف ‪ -‬الحياة في المدينة‬

‫كانت روزفادوف ‪ Rozwadów‬مدينة صغيرة‪ ،‬وكان يقطنها حوالي‬


‫خمسة آالف نسمة‪ .‬وكان في وسط البلدة ساحة ‪ -‬كبيرة على ما‬
‫أذكر ‪ -‬حيث كان يقام فيها سوق أسبوعيا‪ .‬وكان يمر من وسط هذه‬
‫الساحة شارع مزدحم‪ .‬وقلما كنا نرى سيارات تمر من هناك بل أكثر‬
‫ما كان هو ضجيج مرور العربات والخيل‪ .‬وكان أفضل صديق لي هو‬
‫‪14‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ذاك الرجل الذي كان يجهز والدي بالبضائع‪ ،‬والذي كان قد ّ‬


‫فر من‬
‫الشيوعية في بلده جورجيا‪ ،‬وكان فقير الحال‪ .‬وكنت أحب أن‬
‫أقض ي وقتي معه ومع أسرته‪ .‬وكم كنت أتمتع في مشاهدته وهو‬
‫يصنع الحبال بطريقة مدهشة للغاية‪ .‬وباإلضافة الى ذلك‪ ،‬كان‬
‫ّ‬
‫أملانية‬ ‫يحكي لنا قصصا رائعة وبلهجته الييدية الفريدة (لهجة‬
‫يستعملها يهود أوروبا)‪.‬‬

‫وكنا نسكن في منزل ضمن صف من البيوت التي كانت‬


‫محاذية ألحد جوانب ساحة السوق‪ .‬أما في خلف الدار فكان هناك‬
‫فناء يمتد ملئة أو مئتين متر الى طريق ترابي‪ .‬وكنا نتقاسم ماء بئر مع‬
‫جيراننا‪ ،‬وندفئ املنزل بواسطة موقد خشب‪ .‬ولم يوجد ماء جاري‬
‫وكان لدينا مرافق صحية خارج الدار‪ .‬وكل هذه اآلمور تبدو بدائية‬
‫إال أنها كانت اعتيادية في ذلك الوقت‪ :‬فالكل عاش بهذه الطريقة‪.‬‬

‫وكان والدي بائع جملة للسكر وغيرها من السلع األساسية‪.‬‬


‫فكان يشتري بضائع بكميات كبيرة ويجهز املحالت في مناطق واسعة‬
‫حول روزفادوف‪ .‬وكانت البضائع تخزن في الطابق األرض ي وفي غرف‬
‫السراديب ملنزلنا‪ .‬وقد سكنا الطابق العلوي‪ .‬وغالبا ما كنت أسمعه‬
‫يتكلم عن أمور املصلحة مع والدتي‪ .‬ولم يظنا بأنني كنت أفهم إال‬
‫أنني كنت شديد الفضول فيما يتعلق بأمور العمل‪ ،‬ولقد َ‬
‫هضمتها‬
‫كلها‪ .‬وكانت املشكلة دائما هي السيولة النقدية‪ .‬فكان الناس‬
‫يشترون السلع بالتقسيط ومن ثم ال يمكنهم تسديد الدفوعات‪.‬‬
‫ّ‬
‫لوالدي‪.‬‬ ‫وكان هذا األمر مصدر قلق مستمر‬
‫‪15‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وكان لوالدي أحيانا دكانا للسكريات أيضا‪ .‬وتراني في تلك‬


‫األوقات أرتاد الدكان باستمرار وأقف أمامه طالبا بعض السكريات‪.‬‬
‫وفي أحيان أخرى كنت أذهب هناك على األكثر لشحذ ش يء من‬
‫النقود لشراء السكريات من الدكان اآلخر الذي في طرف الشارع‪.‬‬
‫وكانت شهيتي لألكل قليلة حتى أن أهلي كانوا‪ ،‬في بعض املرات‪،‬‬
‫يدفعون لي نقودا آلكل وجبات طعامي‪ .‬وكان أبي صارما بعض‬
‫ْ‬
‫وسكنت‬ ‫الش يء في النقود ولكن عندما جاءت جدتي " الته حايا "‬
‫معنا عندها بدأ ُت أحصل على ما أردته‪ .‬ففي البداية لم ِترد جدتي‬
‫ْ‬
‫ترك أملانيا ولكن عندما بدأنا نسمع عن الذي كان يجري هناك‬
‫ْ‬
‫تمكنت والدتي من إقناعها لالنتقال إلينا والسكن معنا‪.‬‬

‫وكان وفاة "الته حايا" صدمة حقيقية ألسرتنا بالرغم من أن‬


‫عمرها كان ثمانين ونيف‪ .‬فبينما كانت تقلي البيض لفطور " ليو" في‬
‫صباح أحد األيام فإذا بها تنادي والدتي فجأة وتخبرها بأنه قد حان‬
‫أوانها للرحيل‪ .‬إال أن أمي لم تصدق بأنها كانت جادة في كالمها؛ ألنها‬
‫لم تكن مريضة أو ما شابه ذلك‪ .‬غير أن "الته حايا" ذهبت الى‬
‫فراشها ورحلت بسالم‪.‬‬

‫كانت مدينة روزفادوف على األرجح نصف يهودية ونصف‬


‫كاثوليكية وقد سكنا بين جيران مختلطين‪ .‬وكان دار القصاب الذي‬
‫إعتاد على تعليق لحم الخنزير في شباك دكانه على بعد بيتين أو‬
‫ثالثة بيوت عنا فقط‪ .‬وكان الجيران االقرب لنا بولنديين‪ .‬إال أننا‬
‫كان لنا احتكاك قليل معهم‪.‬‬

‫وكان يوجد إحساس قو ّي للعشرة األخوية بين اليهود بالرغم‬


‫من كل االختالفات بين األغنياء والفقراء وبالرغم من النفاق‬
‫‪16‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫والدسائس وغيرها من هذه األمور‪ .‬ولم يكن لليهود كامل الحقوق في‬
‫بولندا غير أننا لم نكن مقيدين في عالقاتنا مع البولنديين‪ .‬وبحكم‬
‫ّ‬
‫والدي‪ ،‬فأنا على يقين من أنهما كانا قد تعامال غالبا مع‬ ‫عمل‬
‫بولنديين‪ ،‬غير أنني كطفل لم يكن ّ‬
‫لدي أية عالقات‪ .‬وبالحقيقة‬
‫فأني تعلمت اللغة البولندية أوال عندما باشرت في املدرسة‪ .‬وقد‬
‫بدأنا نتجنب الكنيسة الكاثوليكية عندما سمعنا بأنها تعبد‬
‫األصنام‪ .‬وكنا دائما متخوفين من املسيحيين والسيما في عيد‬
‫الفصح‪ .‬ألنهم كانوا يعتادون ‪ -‬وبعد خروجهم من القداديس في‬
‫الكنيسة ‪ -‬على االعتداء علينا وعلى االنتهاك والذبح والفرهود‬
‫ومحاولة اقتحام املحالت التجارية‪ .‬لذلك كنا نعتاد على إحكام غلق‬
‫محالتنا أثناء فترة عيد الفصح أو غيرها من األعياد املسيحية‪.‬‬

‫وفور وصولنا الى روزفادوف قال لي أبي‪" :‬واآلن يا يوسف‬


‫عليك املباشرة في الدوام في خيدر ‪ ".Chaider‬فهي كانت املدرسة‬
‫العبرية التقليدية للفتيان اليهود‪ .‬فهناك تعلمنا العبرية ابتداء من‬
‫األبجدية‪ .‬وكان ال ‪ Melamet‬أو املعلم يعلمنا األحرف عن طريق‬
‫يتوان عن استعمال العصا لضبط‬ ‫َ‬ ‫إنشادها بصوت غنائي ولم‬
‫الصف‪ .‬وبعد حين تعلمنا بعض األجزاء من التوراة عن طريق‬
‫ترديدها بعد املعلم‪ .‬ويبدو أننا تعلمنا الكثير هناك ألنني تمكنت من‬
‫التقاط اللغة العبرية بسرعة حال وصولي الى إسرائيل الحقا‪.‬‬

‫ويا لنا من حفنة أوالد مشاغبين بالنسبة ملعلمنا‪ .‬فكان‬


‫األوالد قد وجدوا بأنهم عندما يمسك بعضهم بيد بعض ويشكلون‬
‫صفا واحدا ويلمس األول السلك الكهربائي في صندوق الكهرباء‬
‫فسيحس األخير بالصقعة‪ .‬فتلك الصقعة كانت بداية فظة‬
‫‪17‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ُ‬
‫استفتحت بها أيامي في مدرسة ال "خيدر" وأنا في عمر ‪ 4‬سنوات‪.‬‬
‫وحاملا كان املعلم يترك الصف كان ّ‬
‫يعم الهرج واملرج بين ال ‪- 05‬‬
‫‪ 31‬فتى‪ .‬وحتى عندما كان في الصف‪ ،‬كان بعض الفتيان يلعبون‬
‫الورق تحت الطاولة رغم تعريض أنفسهم لخطر القصاص‬
‫بالضرب‪ .‬وأتذكر أيضا كيف كان أحد الفتيان األكبر سنا يجمع‬
‫النقود من الفتيان اآلخرين ‪ -‬بائعا شجرة لكل منهم في فلسطين‪ .‬أما‬
‫أنا فلم َأر شجرتي قط ولكنني بالتأكيد تعلمت بعض الحيل‬
‫التجارية منه‪.‬‬
‫وعندما كنت في السابعة من عمري ترتب ّ‬
‫علي الدوام في‬
‫ّ‬
‫والدي وأخي وأختي كيفية‬ ‫مدرسة بولندية‪ ،‬فلذلك علمني كل من‬
‫َّ‬
‫اإلجابة على بعض األسئلة البسيطة مثل‪ :‬ما أسمك؟ أين ولدت؟ ما‬
‫أسم أباك وأمك؟ وما الى ذلك‪ .‬وتعلمت‪ ،‬في ذلك الوقت‪ ،‬املبادئ‬
‫األولية للغة البولندية وكنت جيدا في درس الحساب إال أنني ال‬
‫أملك ذكريات سعيدة في تلك املدرسة‪ .‬وبغض النظر عن صعوبات‬
‫اللغة فإن الطالب البولنديين بل وحتى املعلمين كانوا ينظرون نظرة‬
‫احتقار الى األطفال اليهود والتي بدورها جعلت من حياتنا حياة‬
‫بؤس‪.‬‬
‫ّ‬
‫نتجمع فيها‬ ‫وفي بيتنا لم يكن لنا على األغلب وجبات طعام‬
‫كلنا كأسرة‪ .‬بل الذي كان يحصل هو أن أمي أو لينا كانت تسرع‬
‫ّ‬
‫لتحضر شيئا يأكله األوالد‪ .‬غير إن الحال في املساء‬ ‫وتأتي من الدكان‬
‫ِ‬
‫كان يختلف‪ ،‬فكان أكثر ّ‬
‫تجمعا نوعا ما‪ .‬وكنا نغلق دكاننا أيام اآلحاد‬
‫لنذهب في نزهة‪ .‬أما رجال األعمال فكانوا يذهبون الى النهر‪ .‬وفي أيام‬
‫السبت لم يعتاد اليهود أداء أي عمل ولم نكن نتمش ى ملسافات‬
‫‪18‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫طويلة‪ ،‬ولكننا كنا نغتنم الفرصة لنقوم بمثل هذه األمور أيام‬
‫اآلحاد والعطل الرسمية‪ .‬وأتذكر جيدا نزهات عائلية سعيدة عند‬
‫نهر "سان" باإلضافة الى السفرات‪.‬‬

‫كنت طفال عصبيا الى حد ما مع كثير من املشاكل الصحية‬


‫ولم آكل جيدا‪ .‬وكنت أذهب الى طبيب األسنان باستمرار ‪ -‬ولعل‬
‫ذلك يرجع الى ولوعي بالسكريات الذي لم يكن هناك سبيال‬
‫لتقويمه‪ .‬وعندما كنت في حوالي السن الخامسة كان ّ‬
‫لدي نوع من‬
‫االنتفاخ في أحد أصابع قدمي‪ .‬وأشار أحدهم ألمي عن وجود‬
‫شخص قادر على معالجتي؛ وال أعتقد بأنه كان طبيبا حقيقيا‬
‫باملعنى الصحيح‪ .‬فقد وضع مسحوقا ما على االنتفاخ وصرخت‬
‫مروعة بحيث التزال تر ّن في ّ‬
‫أذني‪ .‬أما االنتفاخ فلم‬ ‫حينها صرخة ّ‬
‫يعد ثانية إال أن العالج ترك ندبة التزال في إصبعي منذ ذلك‬
‫الوقت‪.‬‬

‫علي أن أقض ي عدة أسابيع في كراكوف ‪Krakow‬‬ ‫ومرة كان ّ‬


‫حيث كنت أتلقى العالج ألذني املصابة من قبل أحد األخصائيين‬
‫هناك‪ .‬ولدي ذكريات رهيبة عن كيف كان الطبيب يقشط القيح‬
‫من أذني كل يوم‪ .‬ولكن عندما عدنا الى البيت اشترى لي أهلي دراجة‬
‫هوائية بثالثة عجالت‪ .‬وكان هذا يعتبر شيئا غير عادي في روزفادوف‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وعندما كنت في سن‬


‫التاسعة أخذتني أمي مع اختي‬
‫يودت الى سلسلة جبال الكاربات‬
‫ِ‬
‫‪Carpathian‬‬ ‫‪Mountains‬‬
‫الخالبة بطبيعتها‪ ،‬لقضاء عدة‬
‫أسابيع من العطلة هناك‪.‬‬
‫لدي صورة لنا مع رجل‬‫والتزال ّ‬
‫يرتدي لباس الدب ويحتضننا‪.‬‬
‫وأعتقد بأنها كانت جهودا‬
‫لتحسين صحتي‪.‬‬

‫ولم يكن لنا بالحقيقة أية نية للبقاء في روزفادوف‪ .‬ألن‬


‫والداي كانا ما يزاالن يعتزمان الرحيل الى فلسطين‪ .‬وكان عمي حايم‬
‫سيمحا مع ولديه قد سبقونا الى هناك‪ .‬وأعتقد بأنهم أفلحوا في‬
‫دخول البلد قبل أن يبدأ البريطانيون في محاولة توقيف تدفق‬
‫الالجئين األملان‪ .‬وكان أبي يخبرنا باستمرار عن تلك األشهر الثمانية‬
‫الجميلة التي قضاها هناك‪ .‬وقد جعل األمر يبدو مشوقا وساحرا‪،‬‬
‫ُ‬
‫حلمت أنا مرة بأنني كنت ذاهبا الى فلسطين‪ ،‬أرض امليعاد‪.‬‬ ‫حتى‬
‫‪21‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫راحيل وجدتي ومايلخ‬


‫وأمي وشبرنسا‬

‫‪3‬‬
‫الحياة الدينية‬

‫كان إحتفال الشابت (أي يوم السبت) قد شكل مركز حياتنا‬


‫الدينية‪ .‬فإعتاد أبي أن يأخذني كل يوم جمعة بعد الظهر الى حمام‬
‫طقس ي يدعى ِ"مكفى ‪ "Mikveh‬ففي البداية كان يصب كل واحد‬
‫دلو ماء على نفسه ويغتسل بالصابون‪ .‬بعدئذ كنا ندخل الى ما‬
‫يشبه بالساونا (حمام بخاري)‪ ،‬وهي كانت عبارة عن غرفة يمألها‬
‫البخار وفي جانبها يتدرج حوالي ‪ 31‬من الدرجات الطويلة‪ .‬وأقص ى ما‬
‫تمكنت من تسلقه كانت الدرجة الرابعة ألني لم أقوى على تحمل‬
‫‪21‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫سخونة الدرجات األعلى‪ .‬وبعد الساونا كنا نغمر أنفسنا بماء بارد‪،‬‬
‫ونترك الحمام نظيفين حقا ‪ -‬خارجيا وداخليا‪ .‬وبعدئذ كنا نرتدي‬
‫أفضل مالبسنا ونعود الى البيت إليقاد شموع الشابت‪ .‬وكانت‬
‫ممارسة هذه الطقوس قد أثرت فينا بعمق‪ ،‬وغالبا كانت تغرورق‬
‫عينا أمي بالدموع وهي توقد الشموع‪.‬‬

‫وبعد إيقاد الشموع كنا نذهب أنا ووالدي وليو الى الكنيس‬
‫لتأدية صلوات املساء‪ .‬وكانت األلحان العريقة التي كان الشماس‬
‫يؤديها تخرق فؤادي (الشماس هو خادم الكنيس ‪ .)Vorbeter‬وكنت‬
‫أفهم مجرد بعض من الكلمات العبرية إال أن ألحان ومشاعر تلك‬
‫الصلوات املنغمة كانت تعبر بكل وضوح عن االضطهاد واملعاناة التي‬
‫قاساها شعبنا‪ ،‬وعن شوقه هلل وللخالص‪ .‬وال أزال أعيش تلك‬
‫األمسيات التي كنا نقيمها أيام الجمع لحد اآلن عندما أسرق نفس ي‬
‫ألختلي وأستمع لتسجيالت يوسيل روزنبالت ‪Yossele Rosenblatt‬‬
‫على أشرطتي املخشخشة‪.‬‬

‫وإن حدث بأن مسافرا أو غريبا حضر الى الكنيس فكانت‬


‫تعتبر دعوته الى البيت من أجل مأدبة الشابت فريضة ‪.mitzvah‬‬
‫وكانت أمي تتمنى دائما أن يصطحب أبي أحدا ما معه الى البيت‪،‬‬
‫وغالبا كان يفعل ذلك‪ .‬وكان أبي يقودنا في الترتيل ونحن ندخل‬
‫ُ‬
‫الدار ومرنما‪" :‬السالم عليكم من املالئكة الحراس" وأيضا‪َ " :‬م ْن َي ْعث ُر‬
‫َ ُ َّ‬ ‫َ َ ََْْ ْ َ َ‬
‫اضل ِة؟ ِإ َّن ِق َيم َت َها ت ُفوق الآل ِل َيء"‪ .‬وكنا نغسل أيدينا‬
‫على املرأ ِة الف ِ‬
‫بحسب مراسيم الطقس ونتجمع حول املائدة االحتفالية‪ .‬ومن ثم‬
‫كان أبي يبارك النبيذ وبعده يبارك الخبز املسمى "خالة ‪"Challah‬‬
‫(وهو خبز مجدول كالضفيرة)‪ .‬وكان العشاء يستمر لساعات‪ :‬وكان‬
‫‪22‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أحيانا سمك "‪ "Gefielte Fisch‬تتبعه شوربة الشعرية " ‪Lokchen‬‬


‫‪ "mit Yoch‬وبعدئذ تأتي الحلويات‪ .‬وكان أبي يقرأ لنا بعد الطعام‬
‫شيئا من كتاب "السالم عليكم" أو من كتابات بعض املؤلفين اليهود‬
‫األوروبيين الشهيرين‪ .‬وإلنهاء األمسية كنا نرتل الكثير من الصلوات‬
‫واملزامير‪ ،‬كلنا معا‪.‬‬

‫الشابت فكنا ننام‪ .‬وبعد وجبة فطور‬ ‫َ‬ ‫أما في صباح يوم‬
‫خفيفة ‪ -‬مثل كعكة القهوة ‪ -‬كانت األسرة كلها تذهب الى الكنيس‪.‬‬
‫ّ‬
‫صبحيات أيام‬ ‫وكانت أمسيات أيام الجمع تتميز بالرزانة‪ ،‬أما‬
‫السبت فكان فيها طابعا أكبر من األجواء االجتماعية‪ .‬وكم كنت‬
‫أحب رؤية القارئ‪ ،‬في الكنيس‪ ،‬يفتح الدوالب الخاص لحفظ‬
‫لفائف التوراة‪ ،‬ومشيرا الى أورشليم‪ .‬وكان يرفع الغطاء املخملي‬
‫بحسب األصول ويضعه على منبر الوعظ في وسط الكنيس‪ .‬وكان‬
‫يتم دعوة أبي أو غيره من الرجال ملساندة القارئ والتي كانت تعتبر‬
‫دعوة شرف‪.‬‬

‫كانت هناك الكثير من الطقوس املرافقة لقراءة التوراة‬


‫وكتب األنبياء‪ .‬وكانت هذه تؤدى برزانة‪ ،‬لكن اجتماعات الصالة‬
‫كانت تسودها أجواء الراحة واالرتخاء‪ .‬فكان والدي يغفي أحيانا‬
‫أثناء تلك القراءات الطويلة؛ فيأتي أحدهم ويقف وراءه ويجر أذنه‬
‫ويتظاهر بأنه لم يفعل شيئا‪ .‬وكانت االجتماعات تستغرق ساعات‪.‬‬

‫وكانت أمي في القسم النسائي من الكنيس أثناء االجتماعات‪.‬‬


‫وأعتقد بأنهن قد أخذن األمور بأكثر جدية من الرجال‪ .‬فرغم أنها‬
‫لم تفهم عبري إال أنه كان بمقدورك رؤيتها متأثرة داخليا في قلبها‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أما األوالد الصغار فكان لهم التنقل من والى َ‬


‫قسمي الرجال والنساء‬
‫بحرية‪ ،‬وغالبا ما كنت أالحظ أمي تبكي‪.‬‬

‫وبعد وجبة طعام دسمة تهدأ األمور وننام في فترة ما بعد‬


‫الظهر‪ .‬وكان أبي يأخذني أحيانا معه الى بيت الحاخام‪ .‬ألن هذا‬
‫اللقاء كان محور الحياة الروحية للرجال‪ ،‬ألنهم كانوا يتناقشون في‬
‫الكتب املقدسة وكتاب التلمود مع الحاخام‪ .‬ولم يعتاد أن يأتي أخي‬
‫ليو معنا؛ ألنه كان مشغوال في نشاطاته ضمن حركة الشباب‬
‫الصهيوني‪.‬‬

‫وعند ظهور النجوم األولى في املساء كنا نذهب الى الكنيس‬


‫مرة ثانية‪ .‬إال أن الطقس الختامي كان يجري في البيت‪ .‬فكنا نتناول‬
‫فرق بين النور والظلمة‬‫وجبة طعام أخرى ونرتل التسابيح هلل الذي ّ‬
‫وبين ما هو مقدس وما هو دنيوي‪ .‬فنتبع ال شابت ‪" -‬امللكة" ‪ -‬الى‬
‫الباب ونودعها ألسبوع آخر‪ .‬وعندئذ يبدأ العمل؛ فعلينا التفكير في‬
‫يوم الغد‪.‬‬
‫‪24‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪4‬‬
‫الجـــئــون‬

‫لقد كنت في سن العاشرة عندما اندلعت الحرب (الحرب‬


‫العاملية الثانية)‪ .‬واندلعت كاندالع الصاعقة في أيام الصيف‬
‫وتبعثرت كل من حضارة روزفادوف وحياتها الدينية‬ ‫ْ‬ ‫املشمسة‪.‬‬
‫ّ‬
‫وتسمر الناس بجانب أجهزة الراديو‪ .‬وحاال‬ ‫والعرقية والى األبد‪.‬‬
‫أدركنا سرعة تقدم القطعات األملانية الغازية في داخل بولندا‪،‬‬
‫واندحار الجيش البولندي‪ .‬وبدأت حشود كثيرة من الجنود ‪-‬‬
‫وأعد ْت أمي‬
‫بضمنهم الكثير من اليهود ‪ -‬باالنسحاب واملرور في املدن‪ّ .‬‬
‫مع غيرها من النساء مطبخا خارجيا لطهي الطعام للجنود‪ .‬أما‬
‫مصلحة والدي فقد تم تدميرها قبل وصول األملان بوقت طويل‪.‬‬
‫ألن الجيش البولندي نفسه جاء أوال وصادر السكر والرز‪ .‬وأعطونا‬
‫وصوالت‪ ،‬لكننا لم يكن لدينا أي أمل باستالم أية دفوعات على‬
‫اإلطالق حتى في وقتها‪.‬‬
‫‪25‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وشاعت الفوض ى والشغب الحقا‪ .‬وصار غالبية البولنديين‬


‫يجوبون الشوارع ويقتحمون املحالت وينهبونها‪ .‬وسرقوا كل ما تبقى‬
‫في محلنا التجاري‪.‬‬

‫وقد تخوفنا من أن األملان سيقومون بإرسال الرجال‬


‫األقوياء البنية الى معسكرات العمل اإلجباري‪ ،‬فعليه هرب كل من‬
‫أبي وأخي الذي كان بعمر واحد وعشرين عاما باتجاه الحدود‬
‫الروسية‪ .‬وعادوا الى البيت بعد حوالي اسبوعين ألن القطعات‬
‫العسكرية األملانية قد تقدمت وتمكنت من غلق الحدود‪.‬‬

‫حين دخل األملان مدينة روزفادوف سقطت املدينة في‬


‫غضون ساعات‪ .‬وقضينا الليلة في السرداب تحت دو ّي املدافع‬
‫واالنفجارات‪ .‬بعدئذ اختبئ أبي وأخي في ّ‬
‫العلية‪ .‬فكان يترتب علينا أن‬
‫نقول لألملان بأنهما قد تركا املنزل متوجهين الى روسيا‪.‬‬

‫وكطفل بعمر ‪ 01‬سنوات‪ ،‬لم أكن أفهم جميع األحداث‬


‫الجسيمة التي كانت تجري‪ .‬فكنا نتراكض في أرجاء املدينة‪ ،‬ونتفرج‬
‫على الجنود‪ .‬وأتذكر مرة‪ ،‬عندما كنت في ساحة السوق‪ ،‬رأيت‬
‫أملانيا كان يجمع قطعاته العسكرية من أجل إلقاء كلمة‬‫ضابطا ّ‬
‫لرفع املعنويات‪ .‬فمش ى عدة مرات أمام الجنود الواقفين‬
‫باالستعداد‪ .‬وملا كانت اللهجة الييدية ‪ Yiddish‬مقاربة لألملانية‬
‫تمكنت من فهم بعض ما قاله‪ ،‬وقد قال‪:‬‬
‫‪26‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫واآلن أيها الرجال! لقد انتصرنا هنا وانتصرنا هناك‪ .‬وزرعنا‬


‫بذورا في كل هذه البلدان‪ .‬وسوف تستولي أملانيا على العالم‬
‫كله‪.‬‬

‫لم ُيسمح لنا باالجتماع في الكنيس‪ ،‬أو بإجراء أي تجمع‪ .‬ولكن ألنه‬
‫كان يوم الغفران ‪ Yom Kippur‬لذلك تجمعنا في أحد البيوت حيث‬
‫أقمنا الصالة‪ .‬وال يسعني أبدا نسيان تلك الدعوات امللتهبة‬
‫والصارخة هلل من أجل تدخله ليسترنا‪ .‬فلم يعلم أي أحد منا ما‬
‫كان بانتظارنا إال ان كل واحد فينا كان يتوقع حدوث األسوأ‪.‬‬

‫بعد مض ي شهر على وصول األملان‪ ،‬تم إصدار أمر لكل اليهود‬
‫ليتجمعوا في ساحة السوق في غضون ساعة واحدة‪ .‬لم يخبرنا أحد‬
‫عما كان سيجري‪ ،‬إال أننا أحزمنا ما نستطيع حمله على ظهورنا من‬
‫أمتعة‪ .‬فأمرنا الضباط األملان ‪ -‬من قوات ال ‪ SS‬على ما أفترضه‬
‫اآلن ‪ -‬على السير باتجاه نهر "سان"‪ .‬فكانوا يصرخون ويسوقون تلك‬
‫الصفوف الطويلة من الرجال والنساء واألطفال وهم يحملون كل‬
‫ما أمكن حمله من أمتعة‪ .‬وساق أحدهم دراجته البخارية باتجاه‬
‫الطوابير مضايقا الجميع ليسيروا أسرع‪ .‬كما وضرب والدي بحربته‪.‬‬
‫وال أظن بأن والدي قد تأذى كثيرا‪ ،‬إال أن املشهد أثر ّفي داخليا‪.‬‬

‫وعندما وصلنا أخيرا الى نهر سان كان هناك املزيد من‬
‫الجنود‪ .‬وال أتذكر كيف عبرنا النهر‪ ،‬ولكنني أتذكر كيف صار الجنود‬
‫يفتشوننا ويأخذون كل ما له قيمة منا‪ .‬وكما إعتاد أبي أن يتنبأ بما‬
‫خيط نقودنا باملالبس الداخلية ألختي الصغيرة‪.‬‬ ‫كان قد يحدث فقد ّ‬
‫وقد صار الكثير من الناس فارغي اليدين‪ ،‬ولكننا تمكنا‪ ،‬والشكر هلل‪،‬‬
‫‪27‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫من عبور النهر بش يء من النقود باإلضافة الى معاطف فراء وغيرها‬


‫من املواد الثمينة‪.‬‬

‫أما الجانب الشرقي لنهر سان فكان وكأنه ال ينتمي الى أية‬
‫تبين بأن كل من هتلر وستالين كانا ال يزاالن يتجادالن‬ ‫دولة‪ .‬فقد ّ‬
‫حول من سيأخذه‪ .‬وقد تمكنا من إيجاد مأوى مؤقت في إحدى‬
‫القرى هناك‪ .‬وملا كان مستقبل املنطقة مجهوال لم يرد أحد املكوث‬
‫هناك لوقت طويل‪ ،‬ألننا لم نكن ندري فيما إذا ستكون املنطقة‬
‫تحت سيطرة األملان أم الروس‪.‬‬

‫فتمكن والدي مع بعض العوائل األخرى من شراء حصان‬


‫وعربة لغرض التوجه الى املناطق التي تحت االحتالل الروس ي‪.‬‬

‫ولم يمض وقت طويل حتى سمعنا بتقدم القطعات األملانية‬


‫باتجاهنا‪ ،‬فحملنا جميع أمتعتنا وبعض األطفال الصغار في العربة‬
‫وانطلقنا شرقا‪ .‬ومررنا بغابة فخرج علينا فجأة مجموعة من‬
‫اللصوص حاملين املسدسات وأمرونا بالتوقف‪ .‬وبطبيعة الحال‪،‬‬
‫ارتعب جميعنا‪ ،‬لكن رجل شجاع قام من بيننا وقال لهم‪:‬‬

‫اقتلوني لو شئتم‪ ،‬غير أننا سنقاتل من أجل هذه العربة‪.‬‬

‫ووقف الى جانبه أحد أبنائه والتقط حجرا‪ .‬أما اللصوص فقد‬
‫أخذوا إحدى الدراجات الهوائية من العربة وتواروا وتركونا نمض ي‬
‫في طريقنا‪.‬‬
‫‪28‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫خطرة‪ ،‬فرجعنا‬ ‫ْ‬ ‫وعندما ّ‬


‫حل الليل أصبحت مواصلة السفر ِ‬
‫بضعة كيلومترات الى فندق يهودي‪ .‬وقد نزل فيه الكثير من اليهود‪.‬‬
‫وفي ساعة متأخرة من الليل جاء القرويون وأحاطوا بالفندق‬
‫وأطلقوا علينا صيحات من الشتائم وخلعوا دواليب عرباتنا‪ .‬وقد‬
‫وأصبحت على قناعة تامة من أن هؤالء‬ ‫ُ‬ ‫كنا محاصرين تماما‬
‫البولنديين سيقضون علينا أجمعين‪ .‬ولكن أحد الرجال البولنديين‬
‫قفز فجأة الى فوق إحدى العربات وأنتهر مواطنيه صارخا‪:‬‬

‫أال تخجلون من أنفسكم لتعديكم على ناس ضعفاء كهؤالء؟‬


‫فغدا سيأتي دوركم‪ .‬فليرجع الجميع الى بيته! وأنا واقف هنا‬
‫مس أحدكم ّأيا من هؤالء الناس فسيكون على‬ ‫مع ابني‪ ،‬وإذا ّ‬
‫أجسادنا امليتة‪.‬‬

‫واستطاع هذا املوقف من كبح التجمهر وصار الناس يتبددون‬


‫تدريجيا‪ .‬أما أنا فلم أسمع أي ش يء عن هذا الرجل ال قبل وال بعد‬
‫تلك الليلة‪ ،‬ولكنني كنت دائما ّ‬
‫أكن له الكثير من اإلعجاب واالحترام‬
‫على فضيلته وعلى شجاعته في انتهار ذلك الحشد الغاضب‪.‬‬

‫وبعد حوالي اسبوع امكننا الوصول الى املناطق املحتلة من‬


‫قبل روسيا‪ .‬لم تكن املسافة بعيدة كثيرا لكن السير كان بطيئا‪ .‬ألننا‬
‫كنا نمش ي خالل الغابات في النهار ونبيت ونرتاح في القرى ليال‪.‬‬
‫وبالحقيقة‪ ،‬فان القطعات األملانية املتقدمة احتلتنا في ذلك‬
‫األسبوع إال أنهم لم يمنعوننا من متابعة سفرنا‪.‬‬
‫‪29‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وابتهج جميعنا عند رؤية الجنود الروس أخيرا‪ ،‬ألننا عرفنا‬


‫النست‬
‫بأننا نجونا من األملان‪ .‬وكان ذلك املكان ‪ -‬الذي يدعى " ِ‬
‫‪ "Lanzit‬على ما أظن ‪ -‬طافحا بالالجئين‪ ،‬فحشرنا أنفسنا في قطار‬
‫الى مدينة "لفوف ‪ "Lvov‬آملين في إيجاد مسكن هناك‪ .‬وكانت مدينة‬
‫"لفوف" مزدحمة كذلك لكننا كان لنا واحد من أقاربنا البعيدين‬
‫هناك‪ ،‬وكان تاجرا وسمح لنا بالبقاء في إحدى غرف مخزنه‪.‬‬

‫فكنا في غاية االمتنان من أننا لدينا ولو سقف فوق‬


‫رؤوسنا‪ ،‬غير أن بيتنا الشتوي في مدينة لفوف لم يكن مفرحا‪.‬‬
‫فكانت غرفة املخزن بعرض ‪ 5‬أمتار وبطول ‪ 05‬متر تقريبا‪.‬‬
‫واقتسمناها مع عمي مايالخ وزوجته راحيل‪ ،‬إال أن هاتين األسرتين‬
‫كانتا تتشاجران معا في أغلب األحيان‪ .‬وكانت تلك الغرفة معتمة‬
‫وباردة‪ .‬وال أتذكر وجود أي نار لكن كان يوجد لدينا وعلى األرجح‬
‫موقد خشب ‪ -‬وكان يستعمل أيضا للطبخ‪.‬‬

‫ال أتذكر أننا ذهبنا الى الكنيس في مدينة لفوف؛ وفي الواقع‪،‬‬
‫فأنا ال أتذكر وجود أية حياة دينية هناك على اإلطالق‪ .‬فأظن بأننا‬
‫جميعنا كنا منشغلين ومهتمين بالنجاة طوال تلك األشهر الستة‪.‬‬

‫وفرحتنا الفائقة عند أول لقاء لنا مع الروسيين تبددت‬


‫بسرعة عندما رأينا كيف كان شكل الحياة في روسيا‪ .‬ألنني كنت قد‬
‫بدأت ‪ -‬أنا وأختي ‪ -‬بالدوام في املدرسة في ذلك الوقت‪ .‬وكان املعلم‬
‫يعلمنا باللغة الييدية (وهي لغة يهود أوروبا) إال أنه كان شيوعيا‬
‫وحاول تلقيننا عبادة شخصية ستالين‪ .‬وأتذكر واحدة من األغاني‬
‫التي كانت تقول‪:‬‬
‫‪31‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫سوف توجد دائما جداول تجري في العالم‪ ،‬وسوف توجد‬


‫دائما نجوم في العلى‪ ،‬لكن اسم ستالين سوف يسطع فوقها‬
‫كلها‪ ،‬فاسمه أعمق من البحار وأعلى من الجبال‪ .‬وال يمكن‬
‫إيجاد مثيل له على األرض كلها‪.‬‬

‫لكن حتى نحن الصغار شعرنا بأن ذلك كان هراء؛ وصرنا حتى‬
‫نجادل املعلم سائليه‪" :‬من خلق العالم إذن؟" ولكن‪ ،‬من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬كان يتعين علينا أخذ الحذر ألن الكثير من الناس عانوا من‬
‫جراء النفي الى سيبيريا ‪ -‬إن لم يكن أسوأ ‪ -‬وذلك نتيجة ملعارضتهم‬
‫ستالين‪.‬‬

‫وألجل الحصول على ش يء من الدخل بداءنا التعامل في‬


‫السوق السوداء‪ .‬فكنا نحصل أحيانا على سكائر وسكريات وغيرها‬
‫من السلع النادرة عن طريق مراقبة املحالت التجارية وأيضا عن‬
‫طريق االنتظار في الطوابير الطويلة‪ .‬حتى أن أهلي كانوا يبعثونني‬
‫أحيانا ألبيع بعض األشياء في السوق‪ ،‬خاصة السكريات‪ .‬فقد‬
‫تجولت الشوارع خالل تلك األشهر‪ .‬فإن لم أكن أبع األشياء‬
‫بالصينية‪ ،‬تراني غالبا أقفز الى عربات ال ترام وأقوم بغيرها من‬
‫األفعال الصبيانية الحمقاء التي تبدو كمغامرات في عيني صبي ذي‬
‫‪ 01‬سنوات من العمر وهي معجزة حقا أنني لم َ‬
‫ألق حتفي في حينها‪.‬‬

‫في يونيو من عام ‪0141‬م‪ ،‬أصدر الروس مرسوما يقض ي‬


‫بتسجيل جميع املقيمين والالجئين في أوكرانيا لدى الشرطة‪ .‬وقد تم‬
‫منحنا خيارين‪ .‬فإذا رغبنا بالبقاء فسوف يمنحوننا الجنسية‬
‫السوفيتية وسوف يساعدوننا في إعادة توطيننا في داخل أوكرانيا‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أما إذا أردنا االحتفاظ بجنسيتنا البولندية فسوف يساعدوننا في‬


‫العودة الى املناطق املحتلة من قبل األملان في بولندا‪ .‬فبعد كل ما‬
‫سمعناه وعشناه في االتحاد السوفيتي الدكتاتوري‪ ،‬لم تكن فكرة‬
‫حوزة الجنسية السوفيتية مثيرة لإلعجاب‪ .‬وطبعا لم يكن لدينا‬
‫فكرة عن ما كان يجري في األحياء اليهودية البولندية؛ وفي الواقع‪،‬‬
‫كانت الشائعات تدور بأن الحياة في ظل السيطرة األملانية ليست‬
‫سيئة جدا مثلما كنا نخشاها‪.‬‬

‫وراح الكثير من عوائل الالجئين يبذلون جهودا للتفكير مليا‬


‫متسائلين‪" :‬ماذا سنفعل؟" في نهاية األمر سجل أغلب الالجئين‬
‫اليهود للعودة الى بولندا املحتلة من قبل أملانيا‪ .‬ونحن أيضا كنا‬
‫نتطلع بلهفة للعودة الى دارنا في روزفادوف‪.‬‬
‫‪32‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪5‬‬
‫النفي الى سيبيريا‬

‫ض وقت طويل بعد تسجيلنا للعودة الى بولندا‪ ،‬حتى حدث‬ ‫لم يم ِ‬
‫منع تجول في مدينة "لفوف"‪ .‬فتحتم علينا االنتظار والبقاء في بيتنا‪.‬‬
‫أخيرا جاءنا بعض الجنود ومعهم ضابط من قوات األمن‪ .‬فأمرونا‬
‫بالذهاب معهم في غضون عشر دقائق‪ .‬وكان يوما من أيام الصيف‬
‫الحارة وحملنا كل ش يء مما تبقى لنا في عربة ِحمل كانت تنتظر‬
‫خارج الدار‪ .‬ثم جلسنا مع حوالي أربعين شخصا آخرا على الحقائب‬
‫وأخذونا الى محطة القطار‪.‬‬

‫وكان الجنود منتشرين هناك في كل مكان‪ .‬فتم فرزنا الى‬


‫عدد من قطارات الشحن التي كانت بانتظارنا ‪ -‬حوالي ‪ 51‬عربة‪ ،‬و‬
‫‪ 61 - 51‬شخصا في كل عربة‪ .‬أما الشاحنات الصندوقية للقطار‬
‫فكان لها أرضية مرتفعة ويوجد فيها ثقب بدائي ُيستخدم‬
‫‪33‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫كمرحاض؛ وربما كان له نوع من الستارة‪ .‬وقطارنا لم يكن الوحيد‬


‫آنذاك؛ فقد رأيت قطارات أخرى‪ ،‬وقد سمعت بأنه قد تم نقل‬
‫ثالثة مئة ألف شخص في ذلك اليوم‪.‬‬

‫قفلت عربات الشحن وتحرك‬ ‫ْ‬ ‫فبعدما تم تحميل الجميع‪،‬‬


‫القطار‪ .‬أما جو العربة فكان حارا وهواءه فاسدا ألنه كانت هناك‬
‫مجرد فتحة صغيرة للنظر منها‪ .‬وعطش جميعنا بشكل رهيب ولم‬
‫يكن هناك شيئا نشربه‪ .‬وكان مقفول علينا في تلك العربات مدة‬
‫يومين أو ثالثة‪ ،‬ولم يمض وقت طويل حتى أدركنا أننا لسنا متجهين‬
‫الى بولندا بل متوغلين الى داخل روسيا‪.‬‬

‫بعد مض ي أيام‪ ،‬بدأوا بفتح أبواب العربات بين الحين واآلخر‬


‫ليدعونا إيجاد ش يء نأكله ونشربه‪ .‬وال أعتقد أن مايالخ وراحيل كانا‬
‫معنا في العربة نفسها بل يمكن في القطار نفسه ألننا جميعنا وصلنا‬
‫الى املكان نفسه‪ .‬وأخيرا وبعد قضاء أسبوعين في الشاحنة‬
‫الصندوقية وصلنا الى أحدى مدن َسيبيريا وتدعى "سوسفة ‪"Sosva‬‬
‫حيث أمرونا هناك بترك القطار وأرسلونا الى بضعة كيلومترات‬
‫بمحاذاة نهر سوسفة‪ .‬وتلتها بضعة كيلومترات الى عمق األراض ي‪،‬‬
‫فوجدنا حوالي مئة دار مبنية من جذوع األشجار ومرتبة في‬
‫مجموعتين وكل مجموعة ذات طابورين من الدور؛ وكان هذا يدعى‬
‫"معسكر ‪ "45‬والذي كان علينا االستقرار والسكن فيه‪.‬‬

‫وحاملا وصلنا خطب فينا آمر املعسكر من على منصة‪ .‬وتكلم‬


‫بالروسية مصحوب بمترجم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫‪34‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ربما تطنون بأنكم لن تبقوا هنا طويال‪ .‬ولكنني أنا هنا منذ‬
‫‪ 35‬سنة خلت وأؤكد لكم بأنني لم َأر أحدا قد غادر هذا‬
‫املكان‪ .‬فاألفضل لكم أن تتأقلموا معه‪ .‬فإن فعلتم هذا‬
‫ستنجون؛ وإال سيقض ي نحبكم‪.‬‬

‫كان هذا استقبالنا‪ .‬فها نحن قد أصبحنا اآلن في "منفى إجباري"‪،‬‬


‫وفي حال أفضل بقليل من املعسكرات َ‬
‫السيبيرية للعمل اإلجباري ‪-‬‬
‫تلك املعسكرات الشائنة‪.‬‬
‫ّ‬
‫في ذلك الوقت‪ ،‬كنا ما نزال نتلظى في خيبة األمل التي‬
‫أصابتنا ومستائين من جراء خداعهم لنا وإرسالنا الى َسيبيريا بدال‬
‫من بولندا‪ ،‬أي على عكس ما وعدونا به‪ .‬إال أن املفارقة هي أن‬
‫شوقنا للعودة الى بولندا قد أنقذ حياتنا على األرجح‪ ،‬ألن اليهود‬
‫الذين اختاروا البقاء في االتحاد السوفيتي قد تم توزيعهم في غرب‬
‫أوكرانيا‪ ،‬وأغلبهم قتلوا عندما غزاهم األملان‪ ،‬في حين تم نقل أولئك‬
‫الذين حاولوا العودة الى بولندا الى غرب َسيبيريا والتي كانت آمنة‬
‫نسبيا‪ .‬فكانت واحدة من تلك املرات التي استخدم فيها هللا حماقتنا‬
‫لحمايتنا‪.‬‬

‫كانت الدور الخشبية للمعسكر قد ُبنيت من قبل منفيين‬


‫سابقين‪ .‬وكل بيت خشبي كان فيه غرفتين‪ ،‬وكل أسرة كان لها غرفة‬
‫واحدة‪ .‬واستعد أبي وعلى الفور ليحصل على أفضل ما موجود‪.‬‬
‫وقد حاول في البداية أن يشغل دارا من أفضل الدور الواقعة في‬
‫ُ‬
‫وسط املعسكر‪ ،‬ولكننا سرعان ما طردنا منها وأخبرونا بأنها‬
‫‪35‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫محجوزة لغيرنا من هم أكثر حظا‪ .‬فانتهى األمر بنا في آخر دار في‬
‫الصف‪.‬‬

‫كانت مساحة غرفتنا حوالي ‪ 5‬أمتار مربعة وذات موقد‬


‫حطب روس ي قديم الطراز في إحدى أركانها‪ .‬وقد بنى والدي دكة لنا‬
‫لننام عليها وقد قايض مع غيره من الالجئين من أجل بعض‬
‫الطابوق لتحسين املوقد وتحويره ليستعمل للتدفئة وكذلك للطبخ‪.‬‬
‫ومع الوقت أضاف طاولة ومصطبة بسيطة‪ ،‬فأصبح التعديل مريحا‬
‫نوعا ما‪.‬‬

‫همنا الثاني هو تدبير وخزن الطعام وكذلك الوقود‬ ‫وكان ّ‬


‫لفصل الشتاء‪ .‬فكانت أمي تأخذنا نحن الطفلين الصغيرين معها الى‬
‫كرنبري (نوع من التوت البري األحمر‬ ‫الغابة لقطف وتجميع ثمار َ‬
‫اللون)‪ ،‬والذي كان وفيرا هناك‪ ،‬وقد جمعنا مئات اللترات من هذا‬
‫التوت‪ .‬وصنع والدي صندوقا خاصا خارج الدار لتجفيف وخزن‬
‫كرنبري لفصل الشتاء‪ .‬هذا وبذلنا جهودا شاقة أيضا في تجميع‬ ‫ثمار َ‬
‫وتحضير خزين من الحطب ليدفئنا طوال شتاء َسيبيريا الطويل‪.‬‬
‫وبفضل دهاء والدي واستقرا ِئه للمستقبل‪ ،‬فقد كان حالنا أيسر‬
‫من عوائل أخرى كثيرة‪ .‬ألن الكثيرين عانوا في املعسكر من الجوع أو‬
‫حل شتاء سيبيريا بكل قساوته‪.‬‬‫االنجماد عندما ّ‬

‫كان عمل الرجال الرئيس ي هو تقطيع خشب األشجار الى‬


‫حطب ألن الغابات الكثيفة كانت تحيط باملستوطنة‪ .‬فكانوا‬
‫يقطعونه ويفلقونه ثم يصفونه في أكداس‪ .‬وكان املوظفون يأتون‬
‫ليقيسوا األكداس ويحسبوا األجور‪ .‬وكان الفساد (الرشاوي)‬
‫متفشيا‪ .‬فكان بعض املوظفين يقولون على سبيل املثال‪:‬‬
‫‪36‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أعطني قنينة فودكا وأنقل هذا الكدس من هنا الى هناك‬


‫وسأسجل لك ضعف العمل‪.‬‬

‫واشتغل بعض الرجال قرب دارنا في نشر الخشب‪ .‬فكان يقف‬


‫أحدهم على منصة وآخرهم في أسفلها وينشران الخشب صعودا‬
‫فلق الخشب ملدة معينة‪،‬‬‫ونزوال على الدوام‪ .‬وعمل أبي أيضا في ِ‬
‫ولكنه وجد بعد ذلك شيئا أفضل‪ .‬فبالقرب من حجرتنا في نهاية‬
‫الطابور كان مكان اصطبل الخيل التابع للضباط باإلضافة الى‬
‫عربات الخيل وزالجات الجليد‪ .‬فبدأ والدي يتقاض ى أجورا مقابل‬
‫عنايته بالحيوانات والعربات‪ .‬فكان الضباط يأتون في أي وقت كان‪،‬‬
‫سواء في النهار أو في الليل‪ ،‬ويطلبون من والدي ربط حصان بعربة أو‬
‫إعادة حصان يحتاج الى علف وماء‪ .‬فكان هذا العمل أفضل بكثير‬
‫من فلق الخشب‪ .‬فقد توفقنا أخيرا على أفضل وجه عندما صارت‬
‫الدار األخيرة في الطابور من نصيبنا‪.‬‬

‫وفي بداية فصل الخريف‪ ،‬سمعنا خبر وجوب تسجيل كل‬


‫الرجال وكل العازبات لكي يعملوا في معسكر آخر يقع على بعد‬
‫بضعة كيلومترات عنا‪ ،‬قرب النهر‪ .‬لكن لم يتحتم على أبي الذهاب‬
‫بسبب عمله في اإلصطبل‪ ،‬غير أن ليو ولينا ذهبا‪ .‬لكننا لم نكن نثق‬
‫بالروس وظننا بأنهما سوف لن نراهما ثانية‪ .‬إال أنهما بالحقيقة‬
‫رجعا بالفعل بعد مساعدتهما في حصاد التبن‪.‬‬

‫وكان يوجد دكان في ذلك املكان‪ ،‬وكانت لنا الحرية لشراء ما‬
‫كان متوفرا‪ .‬وكانت األجور بالحقيقة كافية ملعيشتنا ‪ -‬طاملا كان‬
‫‪37‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫هناك شيئا نشتريه‪ .‬ومع استفحال الحرب أخذت حصة األرزاق‬


‫بالتناقص شيئا فشيئا الى أن صارت معدومة‪ .‬ومع ذلك فلم ينهزم‬
‫أبي بسرعة‪ .‬فبالرغم من أنهم لم يسمحوا لنا بالتنقل أكثر من‬
‫جمعا سكنيا على‬‫بضعة كيلومترات عن املعسكر‪ ،‬لكن كان هناك ُم ّ‬
‫مقربة منا‪ .‬وكان والدي يعرف كيف يعقد صفقات تجارية مع أولئك‬
‫القرويين النائيين‪ .‬فأتذكر مرة ذهبت مع والدي الى إحدى زوجات‬
‫جمع‪ .‬وأخذ معه ِمئزرا (أي صدرية مطبخ) قديم‬ ‫املزارعين في ذلك املُ ّ‬
‫كنا قد جلبناه معنا من روزفادوف‪ .‬كنت أعتقد بأنه مجرد خرقة ال‬
‫قيمة لها‪ ،‬إال أن أبي رتبه وجعله يبدو جميال‪ .‬واستخدم أساليبه‬
‫املعهودة في البيع وأخيرا سألته املرأة القروية‪" :‬بكم تريده؟ " فأجابها‬
‫والدي وبكل هدوء وثقة بالنفس‪ 51" :‬كيلوغراما من البطاطا و ‪2‬‬
‫ُ‬
‫حرجت كثيرا بحيث‬ ‫لترات من الحليب وشيئا من الخبز"‪ .‬أما أنا فأ ِ‬
‫ضطررت الى مغادرة الغرفة؛ فلم أصدق بأنه سيطلب كل هذا‬ ‫ا ْ‬
‫ِ‬
‫مقابل ذلك املئزر القديم‪ .‬إال أنه خرج بعد بضعة دقائق مع كل‬
‫ذلك الطعام الثمين‪ .‬وكان علينا تحمل مشقة نقله والعودة الى‬
‫املعسكر‪.‬‬

‫وأما أمي فكانت تبقى في البيت لترعانا نحن الصغار‬


‫باإلضافة الى األعمال املنزلية‪ .‬وكان يترتب علينا الذهاب عدة مئات‬
‫علي عمل ذلك عدة‬ ‫من األمتار لجلب املاء من أحد الينابيع‪ .‬وكان ّ‬
‫مرات في اليوم‪ ،‬وحتى أختي الصغيرة كانت تعمل الش يء ذاته‪ .‬وكان‬
‫عمري حينها أحد عشر عاما وهي تسعة‪ .‬وكنا ننقل الكثير من املاء‬
‫السيما عندما كانت أمي تغسل املالبس‪ .‬فكنا نغلي املالبس‪ ،‬وكنت‬
‫حك املالبس على خشبة الغسيل وفي شطفها‪.‬‬‫أساعدها في ّ‬
‫‪38‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وعندما أتذكر اآلن هذه األمور‪ ،‬أتمنى لو كنت قد ساعدتها‬


‫أكثر‪ .‬فكان هناك الكثير من العمل وكانت أمي تعاني من آالم مبرحة‬
‫جراء فتق لم يلتئم‪ .‬وجاء وقت داومت فيه باملدرسة وتعلمت قراءة‬
‫وكتابة اللغة الروسية‪ .‬إال أن ما يثير االنتباه‪ ،‬هو أن أوالد القرويين‬
‫كانوا يسيرون مسافة ‪ 5‬كيلومترات خالل الغابة املتجمدة ليجيئوا‬
‫الى املدرسة التي في معسكرنا‪ ،‬ألن مجمعهم كان فقيرا ولم يكن في‬
‫وسعهم إنشاء مدرسة لهم‪.‬‬

‫كانت األشهر الخمسة األولى حارة جدا‪ .‬وكانت تهجم علينا‬


‫سحب من البعوض املصاص للدماء وتعذبنا عندما كنا نقطف‬
‫كرنبري‪ ،‬وكان علينا االنتباه لئال نغرق في مستنقعات من الوحل‪ .‬أما‬‫َ‬
‫في فصل الشتاء‪ ،‬فكان وجه األرض يتغير‪ .‬وفي شهري أكتوبر والثاني‬
‫يتجمد كل ش يء بصالدة‪ .‬وكان العمل واملدارس يستمرون إال في‬
‫حالة هبوط درجة الحرارة الى أقل من ‪ -51‬درجة مئوية‪ .‬كان أخي‬
‫وأختي يأتيان يوميا من الغابة وهما مغطيان كليا بقماش األكياس‬
‫الثخينة املتجمدة‪ .‬وكان يترتب عليهما الجلوس طويال قرب املوقد‬
‫قبل أن يبدآ بنزع طبقات مالبسهما‪ .‬والتزال لينا تعاني لحد اآلن من‬
‫أقدامها نتيجة األذى الذي سببته قرس الصقيع‪ .‬وقد أصيب الوالد‬
‫في االسرة املجاورة لنا بمرض ذات الرئة والذي توفي على أثره‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقمت أنا وأمي‬ ‫حل الربيع أخيرا زرعنا البطاطا‪.‬‬‫وعندما ّ‬
‫بأغلب عمل الفالحة للمزرعة‪ :‬مثل عمل األسمدة الطبيعية ونقل‬
‫فضالت الحيوانات ملسافة ‪ 211 - 311‬متر من مكان اإلصطبل‬
‫الذي عمل والدي فيه‪ .‬وكان يترتب علينا نقل املاء أيضا للمزرعة‪.‬‬
‫ونمت البطاطا جيدا‪ ،‬وفي نهاية فصل الصيف تمكنا من حصد‬
‫‪39‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫عشرة أضعاف ما زرعناه‪ :‬طن ونصف من البطاطا ‪ -‬كافية لسنة‬


‫كاملة‪.‬‬

‫وفي أحد أيام ربيع ‪0140‬م عاد الوالد الى البيت من عمله‬
‫الروتيني الصباحي وهو يحس بوعكة صحية‪ .‬وبدا عليه االرتباك‪.‬‬
‫فارتمى على السرير وإذا به غائب عن الوعي تماما‪ ،‬ويسيل اللعاب‬
‫من فمه‪ .‬واحتدمت أمي غيظا ولم تعلم ما كان بوسعها أن تفعله‪.‬‬
‫فنادت على الرجال الذين كانوا ينشرون الخشب قرب بيتنا‬
‫فأسرعوا في طلب النجدة‪ .‬وكانت واحدة من الالجئين طبيبة والتي‬
‫كانت تساعد حتى الطبيب الروس ي الرسمي للمعسكر على أنه لم‬
‫يكن بالحقيقة طبيب بل كان له نوع بسيط من التدريب الطبي‪.‬‬
‫على كل حال‪ ،‬جاءت الطبيبة إلينا‪ ،‬ونخست قدم أبي بإبرة‪ ،‬ولكنه‬
‫لم يستجب‪ ،‬فأكدت لنا بأن والدي جاءته جلطة ولم نعلم آنذاك‬
‫فيما إذا كان سيشفى أو ال‪ .‬لكن األمر كان وقعه فظيعا على أمي‪.‬‬

‫أما ليو ولينا فقد عمال في معسكر آخر بعيد عنا‪ ،‬فذهب‬
‫رجل يخبرهما عما جرى‪ .‬فوجد أختي وأخبرها بأن الوالد ليس في‬
‫صحة جيدة‪ ،‬ولكنها لم تدرك مدى خطورة ما كان يقوله‪ ،‬في‬
‫أباك"‪ .‬فأسرعت في الحال‬
‫البداية‪ .‬لكنه قال لها أخيرا‪" :‬قد يموت ِ‬
‫إليجاد ليو وتركا مكان عملهما خلسة وركضا الى البيت مسافة ‪- 01‬‬
‫عرضا نفسيهما الى خطر‬‫‪ 03‬كيلومتر‪ .‬ومما الشك فيه‪ ،‬إنهما قد ّ‬
‫إرسالهما الى معسكرات العمل اإلجبارية حين غادرا من غير‬
‫استئذان‪.‬‬

‫يبد أبي أية‬


‫وصال الى البيت في حوالي منتصف الليل‪ .‬ولم ِ‬
‫عالمة الستعادة وعيه طوال تلك الفترة‪ .‬ولكنه بدأ يتحرك قليال‬
‫‪41‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫قبل وصولهما ببرهة‪ .‬فياله من ارتياح عارم عندما تمكنوا من‬


‫تنفس الصعداء فور علمهم من أن الوالد مازال على قيد الحياة‪.‬‬
‫ووطدت هذه التجربة مشاعر الوحدة الحقيقية في أسرتنا‪.‬‬
‫قربتنا من الرجلين الذين كانا ينشران الخشب‬ ‫باإلضافة الى أنها ّ‬
‫قرب دارنا‪ .‬وقد كانا كالهما مثقفين جدا‪ :‬وأظن بأن أحدهما كان‬
‫مهندسا‪ .‬باإلضافة الى تعريض أنفسهما للخطر عندما غادرا عملهما‬
‫تجر معاقبة أي‬
‫من غير استئذان باالنصراف‪ .‬إال أنه في النهاية لم ِ‬
‫منهما‪ .‬وقد عاد كل من أخي وأختي الى عملهما في اليوم التالي‪ .‬وقد‬
‫وغض طرفه عنهما في حين كان‬ ‫ّ‬ ‫علم مسؤول عملهما بما حدث‬
‫اآلخرون يغطون ويملون مكان ليو ولينا‪.‬‬

‫وفي صباح اليوم التالي أصبح والدي قادرا على االستجابة‬


‫لبعض الش يء‪ .‬وبعدئذ نام طوال النهار‪ ،‬واستمر اللعاب يسيل من‬
‫فمه‪ .‬أخيرا استيقظ ونظر حواليه واستطاع التعرف علينا‪ .‬فبهذا‪،‬‬
‫استغرقت فترة عدم وعيه مدة يوم كامل‪ .‬وقد سببت له هذه‬
‫الجلطة‪ ،‬وعلى األرجح‪ ،‬شلل نصفي في وجهه‪ ،‬ولكنه سرعان ما‬
‫تمكن من الوقوف على رجليه‪ .‬وأصبحت صحته واهنة بالتأكيد‪،‬‬
‫ولكنه لم يتعوق بشكل كبير‪ .‬ولم يتواجد دواء لحالة ارتفاع ضغط‬
‫الدم آنذاك‪ ،‬إال أن والدتي استمرت في مراقبته كالصقر للتأكد لئال‬
‫يثار كثيرا‪.‬‬

‫عند نهاية صيف ثان في َسيبيريا سمعنا بأن األملان اجتاحوا‬


‫روسيا‪ .‬فقلقنا كثيرا في بادئ األمر ملا قد ّ‬
‫تكنه هذه األخبار لنا من‬
‫ُ‬
‫مصائب‪ ،‬ولكنها جلبت بالحقيقة لنا ارتياحا غير متوقع‪ .‬فقد اجبر‬
‫ستالين على االلتفات الى الحلفاء طلبا للمساعدة‪ ،‬واغتنمت‬
‫‪41‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫الحكومة البولندية في املنفى هذه الفرصة للمطالبة باإلفراج عن‬


‫الالجئين البولنديين املحجوزين في َسيبيريا‪ ،‬وسمعنا فجأة بأننا‬
‫أحرار وبمقدورنا الذهاب أينما نشاء! ولكننا‪ ،‬طبعا‪ ،‬كنا ما نزال في‬
‫غابات َسيبيريا النائية وبيوتنا في بولندا كانت ما تزال تحت االحتالل‬
‫األملاني‪.‬‬

‫تمكن أبي من استئجار غرفة لنا في مدينة صغيرة تدعى‬


‫"سوسفة ‪ "Sosva‬والتي تبعد حوالي كيلومترا واحدا عن املعسكر‪.‬‬
‫واحتوت هذه املدينة على محطة قطار ومكتب بريد ومنشرة خشب‬
‫حيث اشتغل ليو ولينا فيها‪ .‬وكان اليزال عندنا تجهيزا من البطاطا‬
‫يكفينا مدة سنة‪ ،‬فقمنا بعدة رحالت ذهابا وإيابا حاملين كل ش يء‬
‫الى مدينة سوسفة‪.‬‬

‫فأردنا الخروج من َسيبيريا واالبتعاد عن الجيش األملاني‬


‫الزاحف‪ .‬فنظرنا في الخريطة فقررنا النزوح جنوبا الى دولة‬
‫"أوزبكستان ‪ ،"Uzbekistan‬ألننا قلنا بأنه في حالة احتالل األملان‬
‫لكامل روسيا فسيمكننا الفرار جنوبا عبر أفغانستان وأخيرا الى‬
‫فلسطين‪ .‬فقررنا أن نأكل البطاطا واالحتفاظ بالخبز من حصة‬
‫األرزاق ألن السفر سيكون أسهل مع الخبز‪ .‬فشرعنا في تجفيف‬
‫الخبز تحت أشعة الشمس الحارة وأكلنا البطاطا مع صلصة ال‬
‫كرنبري‪ .‬ولم يكن لدينا سكر‪ ،‬وكان ال َ‬
‫كرنبري ّ‬
‫مرا للغاية‪ .‬ولم يكن‬ ‫َ‬
‫لدينا حتى أية لحوم‪ ،‬ال ش يء غير البطاطا ‪ -‬في الصباح والظهر‬
‫واملساء‪ .‬كان هذا هو غذائنا ألسابيع عديدة‪ .‬ولكن‪ ،‬وللغرابة‪ ،‬فما‬
‫أزال أحب البطاطا لحد اآلن! وتمكنا أخيرا وبمشاركة بعض العوائل‬
‫‪42‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫األخرى من تأجير عربة مقطورة‪ .‬وفي نوفمبر من عام ‪0140‬م كان‬


‫كل ش يء مهيأ لرحلتنا باتجاه الجنوب‪.‬‬
‫‪43‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪6‬‬
‫سمرقند ‪ -‬الجوع والمرض‬

‫قطارات كثيرة مختلفة ج ّرت عربتنا خالل طريق متعرج من‬


‫َسيبيريا الى أوزبكستان‪ .‬وبتوجهنا الى الجنوب رأينا قطارات محملة‬
‫بالجنود ذاهبة عكس االتجاه ‪ -‬الى الجبهة‪ .‬وطبعا كان النقل‬
‫العسكري له األولوية‪ ،‬لذلك كانت عربتنا غالبا ما تقف منتظرة‬
‫عدة أيام في بعض محطات القطار‪ .‬وكنا نستفاد من تلك التوقفات‬
‫في إيجاد الطعام واملؤن لتلك الرحلة‪ ،‬ولكننا لم نعلم قط متى كان‬
‫قطارنا سيتحرك‪.‬‬

‫وحدث مرة أن ليو ولينا كانا راجعان من قضاء بعض األمور‬


‫حين بدأ القطار فجأة بالتحرك‪ .‬فقفز ليو الى العربة املجاورة لعربتنا‬
‫في حين استنزفت لينا كل طاقتها الى أن تمكنت من اإلمساك‬
‫وظن حارس املحطة الروس ي بأنها كانت تريد اعتالء‬ ‫بالعربة األخيرة‪ّ .‬‬
‫‪44‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫القطار من دون أن تدفع ثمن الركوب فأخذ يحاول دفعها عن‬


‫القطار وتجادلت معه لغاية املحطة التالية‪ ،‬حيث قفزت من القطار‬
‫فعثرت علينا‪ .‬وقد سمعنا قصصا بحوادث مماثلة حيث تشتتت‬
‫عوائل بأكملها‪.‬‬

‫وحاولنا إيجاد ملجأ لنا في مدينة "طشقند ‪"Tashkent‬‬


‫عاصمة أوزبكستان‪ ،‬لكن املدينة كانت مكتظة تماما بالناس‪.‬‬
‫فاتجهنا بعد عدة أيام الى الجنوب أكثر وأكثر والى مدينة سمرقند‪،‬‬
‫لكن الحالة هناك لم تكن أفضل‪ .‬ألنه كانت هناك مئات اآلالف من‬
‫الالجئين يهربون من انقضاض األملان عليهم‪ .‬وكثير منهم كانوا من‬
‫اليهود‪ ،‬لكن كثيرين غيرهم لم يكونوا يهود‪ .‬وتمكن أبي أخيرا من‬
‫تأجير غرفة من يهودي بخارى ‪( Buchara jew‬وهم يهود منطقة‬
‫بخارى في أوزبكستان)‪ ،‬وكانت الغرفة صغيرة‪ :‬ربما كانت ‪ 3‬في ‪ 2‬متر‪.‬‬
‫وما كنا نقدر أن نتمدد نحن الستة على أرضية الغرفة الطينية‬
‫املدكوكة؛ فكنا أشبه بسمك العلب‪.‬‬

‫وكنا نتقاسم ساحة الدار واملرافق الصحية التي كانت في‬


‫خارج الدار مع ذاك اليهودي البخارى الذي كان يسكن في ذاك‬
‫املجمع السكني‪ .‬وكانت لغة وتقاليد أولئك الناس اليهود غريبة‬
‫علينا‪ .‬حتى أن كنيسهم كان مختلفا عما اعتدنا عليه في أوروبا‬
‫الشرقية‪ .‬وقد سمعت بعد حين أن بعضهم تكلم بالسوء عن اليهود‬
‫البخارى‪ .‬فربما قد استغل أحدهم وضع الالجئين‪ ،‬إال أنهم‪،‬‬
‫وبصورة عامة‪ ،‬كانوا قد أبدوا ضيافة عظيمة ألسرتنا وحتى أكثر‬
‫من توقعاتنا في ظل تلك الظروف‪ .‬ألن الناس أنفسهم كانوا فقراء‬
‫وربما عانوا أكثر من جراء االكتظاظ الذي سببناه لهم‪.‬‬
‫‪45‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫كان الجوع املتواصل ‪ -‬الذي ال يرحم ‪ -‬ينخر فينا طوال كل‬


‫تلك األشهر في مدينة سمرقند؛ فلم أشهد جوعا فظيعا مثل ذاك‬
‫من قبل‪ .‬فمن أجل الحصول على أي ش يء كان يتحتم علينا‬
‫االنتظار في طوابير طويلة ‪ -‬واحيانا نبيت الليل هناك‪ .‬فصارت‬
‫الجموع تنتظر وتتدافع من أجل الحصول على حصة تموينية‬
‫جن الناس بسبب الجوع‪ .‬فكان الناس‬ ‫ضئيلة من الخبز‪ .‬فقد ّ‬
‫اليائسين يهجمون على أولئك الذين حصلوا على حصتهم من الخبز‬
‫ليسلبوه منهم ويلتهموه في الحال كذئاب جائعة‪ .‬وقد ضربتني مرة‬
‫شلة من األوالد على رأس ي وسرقوا مني الخبز الذي كنت أحمله الى‬
‫البيت‪.‬‬

‫وكانت تنتشر باستمرار إشاعات عن احتمالية استالم أحد‬


‫الدكاكين لسلعة معينة‪ .‬فترى الناس قد احتشدت لتنتظر ملدة‬
‫ساعات أمام الدكان‪ ،‬وغالبا في منتصف الليل‪ .‬وقد ُم ِنعت‬
‫التجمعات الليلية وصارت الشرطة تعاملهم بوحشية بالعص ي‬
‫لتفريقهم‪ .‬لكن فور ذهاب الشرطة فإذا بهم يحتشدون ثانية‬
‫منتظرين أمام الدكان‪ .‬وكانت هذه العملية تتكرر مرتين أو ثالث‬
‫مرات أثناء الليل‪ .‬وفور فتح الدكان ألبوابه فإذا بجموع الناس‬
‫تندفع وتنعصر في داخله‪ .‬وأنا كنت صبيا يافعا آنذاك وقد تعلمت‬
‫بعض املهارات ألتسلل وأتحرك كالديدان الى مقدمة الطوابير‪.‬‬
‫وكنت أحيانا أحاول شراء ش يء من الطعام اإلضافي؛ كمشروب ال‬
‫براندي أو غيره من السلع النادرة لبيعها في السوق السوداء‪.‬‬

‫فبأسلوب أو بآخر فقد تمكنا من الحصول على ما يكفينا‬


‫من الطعام لنبقى على قيد الحياة‪ .‬ولم يكن لدى الكثيرين غير‬
‫‪46‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫مواجهة املوت جوعا أو اإلصابة بمرض التيفوئيد والذي تفش ى‬


‫باألحياء املكتظة بالسكان‪ .‬واعتادت الشاحنات السير يوميا اللتقاط‬
‫جثث املوتى املترامية في الشوارع‪ .‬وأول من أصيب بالتيفوئيد في‬
‫أسرتنا كان أخي ليو‪ .‬فقد كانت صحته دائما جيدة‪ ،‬إال أنه تمرض‬
‫فجأة وأصابته الحمى الشديدة والهذيان‪ .‬واعتنت أمي به؛ وأتذكرها‬
‫تبكي على حالته‪ .‬وتمكنا من استدعاء الطبيب بثمن باهض‪ .‬فقد‬
‫حاولنا جاهدين إبقاءه بعيدا عن املستشفيات املكتظة باملرض ى ألن‬
‫السلطات كانت تعزل املصابين بالتيفوئيد‪ .‬فكان الناس بالحقيقة‬
‫ُيتركون هناك ليلقوا حتفهم‪.‬‬

‫بعد ذلك أصيبت أمي باملرض ‪ -‬على األرجح من ليو‪.‬‬


‫فصممنا إبقاء أمنا بعيدا عن املستشفى‪ .‬وصرنا على استعداد لبيع‬
‫كل ش يء لندفع تكاليف مراجعة الطبيب واألدوية‪ .‬وحتى كنا نقف‬
‫وراء باب الدار كمراقبين في حال اقتراب أي من مفتش ي الصحة؛‬
‫فعندها كنا سنقفل الباب ونتظاهر بعدم وجود أحد في البيت‪ .‬لكن‬
‫حالة والدتي ازدادت سوء‪ .‬وكانت أمي تقلق علينا أكثر من نفسها‪،‬‬
‫ّ‬
‫سيحل بزوجي وبأوالدي يا ترى؟" وكنا‬ ‫فصرخت مرة قائلة‪" :‬ماذا‬
‫كلنا مجتمعين حول سريرها ليلة وفاتها‪ .‬وصادف اليوم الثاني من‬
‫عيد الفصح‪ ،‬والذي كان ذكرى والدة ليو أيضا‪.‬‬
‫ْ‬
‫تمكنت رعايتها‬ ‫إن وفاة أمي غيرت حياتنا تغييرا أبديا‪ .‬فقد‬
‫املليئة محبة التي كانت تقدمها بكل تواضع وهدوء من جعل أسرتنا‬
‫متماسكة خالل كل تلك الصراعات‪ .‬فهي‪ ،‬بالحقيقة‪ ،‬بذلت نفسها‬
‫في التضحية ألجلنا‪ .‬فغالبا ما كانت تتخلى عن طبق طعامها لكي‬
‫تغذيني أكثر‪ .‬وكانت غالبا تحتاج مساعدة ودعم أكثر مما أنا كنت‬
‫‪47‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أقدمه لها‪ .‬وكم تمنيت من يومها أن أعود ألعيش تلك األيام ثانية‬
‫ألخدمها مثلما كانت تخدمنا‪ .‬لكننا استطعنا من تقديم خدمة‬
‫واحدة أخيرة لها‪ .‬فقد ذهبنا كلنا ودفناها في املقبرة اليهودية‪ .‬وحفر‬
‫أبي أسمها على حجر القبر‪.‬‬

‫يودت يتيمين (أي فاقدي أحد‬ ‫وبعد هذا صرنا أنا واختي ِ‬
‫الوالدين) واستطعنا الذهاب والدوام في امليتم البولندي‪ .‬وارتأى‬
‫والدي أن نذهب هناك لنحصل على رعاية أفضل‪ ،‬فذهبنا‪ .‬وبالرغم‬
‫من أننا كنا بولنديي الجنسية ونتقن اللغة إال أننا لم نحس وكأننا‬
‫في بلدنا بين أولئك البولنديين الكاثوليك‪ .‬فكانت صلواتهم تذكرنا‬
‫باملذابح التي أصابت األحياء اليهودية ملدينة روزفادوف‪ .‬وبدا األمر‬
‫لنا بأنهم كانوا يصلون للتماثيل ‪ -‬والتي كانت تعتبر وثنية بالنسبة لنا‬
‫‪ -‬فأبقينا أنفسنا على مسافة منهم ومتحذرين منهم‪.‬‬

‫مما الشك فيه‪ ،‬أن مستوى معيشتنا بامليتم كان أفضل‪.‬‬


‫فكانت لنا مالبسا نظيفة وطعاما أكثر‪ ،‬لكني لم أحصل على صحة‬
‫جيدة هناك‪ .‬فبعد أن أتخمت نفس ي باألكل في عدد من وجبات‬
‫فقدت شهيتي بعد ذلك‪ .‬وبدأت أشعر باملرض‬ ‫ُ‬ ‫الطعام في البداية‪،‬‬
‫في الليالي‪ .‬فقد أصبحت كدر في املشاعر وأخذت في التركيز فقط على‬
‫كيفية نجاتي‪ .‬وكنت على األكثر قد أكملت سن الثالثة عشرة في‬
‫ذلك امليتم إال أنني ال أظن بأنني كنت قد انتبهت الى هذا األمر في‬
‫وقته‪ .‬وفقدت مرحلة بلوغي ‪ bar mitzvah‬في تخبطي الخارجي‬
‫والداخلي (أي الصحي والنفس ي) لتلك األسابيع القليلة في سمرقند‪.‬‬
‫‪48‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪7‬‬
‫أطفال طهران‬

‫في شهر أغسطس من عام ‪9199‬م قامت الحكومة البولندية‬


‫املنفية بجهود إلجالء األيتام البولنديين من روسيا‪ .‬فالكثير منهم‬
‫مات إما جوعا أو مرضا والبقية كانوا على وشك املوت‪ .‬فبين أولئك‬
‫األطفال الذين يبلغ عددهم ما يقارب العشرة آالف طفل م ْ‬
‫من تم‬ ‫ِ‬
‫إجالئهم كان تقريبا هناك ثمانية مئة الى ألف طفل يهودي‪ .‬وقد‬
‫سمعنا بفرصة الخروج هذه ونحن في امليتم وأخذنا في مناقشة‬
‫األمر‪" :‬ماذا سنفعل؟"‪ ...‬لم يكن قرارا سهال ألنه كان ينطوي على‬
‫‪49‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫عدم رؤيتي لكل واحد من أفراد أسرتي ثانية‪ .‬على أنني أحسست‬
‫بعدئذ بتأنيب الضمير ألني تركت والدي‪.‬‬

‫لقد تم وضعنا في قطار وجيء بنا الى مدينة "كراسنوفودسك‬


‫‪ "Krasnovodsk‬في تركمنستان واملطلة على بحر قزوين‪ .‬وهناك‬
‫أخذونا على متن السفن‪ .‬وكان يوجد بالتأكيد حوالي عشرة آالف‬
‫نفس في تلك السفينة وجرى حشرنا فيها كسمك الساردين املعلب‪.‬‬
‫فلم يكن هناك أية غرف أو ما شابه ذلك؛ فكنا مجرد نستلقي على‬
‫ظهر املركب أو تحت ظهر املركب‪ .‬وال أتذكر جيدا مدة تلك السفرة ‪-‬‬
‫ربما ‪ 26‬ساعة‪ .‬بعدئذ وصلنا الى ميناء يدعى بهالفي ‪ Pahlavi‬في بالد‬
‫فارس (إيران)‪ .‬وكانت الدنيا صيف‪ ،‬فخيمنا على الشاطئ الرملي‪.‬‬

‫وألول مرة‪ ،‬وبعد عدة أشهر‪ ،‬أكلنا هناك طعاما مضبوطا‪:‬‬


‫وكان على األغلب لحم البقر املعلب والحليب املركز من أمريكا‪ .‬غير‬
‫أن صحتي كانت قد أخذت في التدهور في ذلك الوقت ولم يكن‬
‫لدي أية شهية لألكل‪ .‬وأتت الوكالة اليهودية الى ذلك املخيم تبحث‬
‫عن أطفال يهود‪ .‬وكانوا قد شرعوا في تجميع األطفال في طهران‪،‬‬
‫آملين في إرسالهم الى فلسطين‪ .‬وكان الحلفاء يرسلون اإلمدادات‬
‫باستمرار الى روسيا عن طريق طهران وبحر قزوين فلذلك كانت‬
‫الكثير من الشاحنات ترجع فارغة من بهالفي الى طهران‪.‬‬

‫وجعلونا نركب هذه الشاحنات ‪ -‬حوالي عشرة الى خمسة‬


‫خطرة‪ ،‬وشديدة االنحدار‪،‬‬‫عشر طفال في كل منها‪ .‬وكانت الطرق ِ‬
‫وضيقة‪ .‬وكانت توجد فيها مجرد بعض األماكن القليلة لتجاوز‬
‫العربات األخرى‪ ،‬وكان طريقنا مليء بالعربات الخربة‪ .‬وعندما كانت‬
‫‪51‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫الشاحنات تترنح على طرقات الجبال كان مرض ي يشتد ولم أقدر أن‬
‫وزاد األلم في معدتي‪ .‬وكنت أصرخ من‬ ‫أمسك نفس ي عن التقيؤ‪َ .‬‬
‫رمي نفس ي من الشاحنة‬‫شدة األلم‪ .‬ودفعني سوء حالتي الى محاولة ّ‬
‫إال أن أحدهم أمسك بي والحمد هلل‪ .‬وأعتقد بأن الطريق الى طهران‬
‫استغرق أكثر من يوم كامل‪ ،‬ألننا توقفنا في طريقنا عند مكان ما‬
‫لنبيت الليل فيه‪ .‬وكان يوجد معسكر للجيش البولندي قرب طهران‬
‫واحتوى قسما خاصا لأليتام اليهود‪ .‬وجرى تصنيفنا وتوزيعنا الى‬
‫ُ‬
‫فسكنت مع ‪ 51 - 41‬ولدا في‬ ‫مجاميع بحسب العمر والجنس‪،‬‬
‫خيمة كبيرة‪ ،‬حيث نمنا على الحصران‪ .‬وكان في وسط تلك الخيم‬
‫اليهودية دكانا يبيع سلعا متنوعة ومطبخا لتحضير الطعام‪.‬‬

‫كان لدي حالة إسهال باستمرار وكانت شهيتي لألكل ماتزال‬


‫معدومة‪ .‬فكان وزني أقل من ‪ 21‬كيلوغراما وأصبحت واهنا جدا‪.‬‬
‫فأمسيت جلد وعظم كصور األطفال التي تراها اآلن عن دول‬
‫العالم الثالث‪ .‬وأصبح منظري يكسر القلب مما دفع بأعضاء‬
‫الوكالة اليهودية أن يأخذوني معهم في رحالتهم الى يهود طهران‬
‫األثرياء لتحفيز تعاطفهم مع الحركة ولجمع التبرعات‪.‬‬

‫وما كان لي شيئا في املعسكر غير التجول فيه وأنا خائر‬


‫َّ‬
‫ألصب بعذابي أمامها‪ .‬وبدأت‬ ‫يودت‬
‫املعنويات أو الجلوس مع أختي ِ‬
‫ألوم نفس ي على كل ما قد أسئت معاملة والدي وعلى هجراني‬
‫لوالدي‪ .‬وأخذت الكوابيس تراودني ليال وحتى وددت في مفارقة‬
‫وفية لي وحاولت تشجيعي ورفع‬‫يودت كانت دائما ّ‬
‫الحياة‪ ،‬إال أن ِ‬
‫معنوياتي‪ .‬وكان عمرها مجرد أحد عشر عاما في حين كان عمري‬
‫‪51‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ثالثة عشر‪ ،‬وال أعلم كيف كان سيكون لي النجاة من دونها‪ .‬لذلك‬
‫سأبقى شاكرا لها ومن أعماقي على أسلوب معاضدتها لي‪.‬‬

‫وحاول أعضاء الوكالة اليهودية تنظيمنا وتزويدنا بنشاطات‬


‫من تقاليدنا وتثقيفنا بعض الش يء‪ .‬فكان هناك بعض املرشدين‬
‫لكل ‪ 51‬طفال فضال عن وجود شخص مسؤول عن املخيم بأسره‪.‬‬
‫ولم يكونوا كلهم من فلسطين‪ .‬فبعضهم كان الجئا أيضا‪ ،‬من الذين‬
‫قد أفلحوا في الخروج من روسيا بطريقة أو بأخرى‪ .‬وكانوا على‬
‫اتصال مع الوكالة اليهودية الفلسطينية التي حاولت مساعدتنا على‬
‫الهجرة‪ .‬ولم يكن لنا أية مدرسة أثناء تلك الفترة هناك‪ ،‬لكن‬
‫املرشدين علمونا األغاني عندما كنا نجلس حول النار في األمسيات‪.‬‬
‫وما أزال أعرف بعضا من هذه األغاني لحد اآلن‪ ،‬مثل أغنية " ‪Arim‬‬
‫‪."dem Fajer‬‬

‫وصادف أن ُو ِج َد رجل من بين املرشدين أصله من‬


‫علي‪ ،‬لكنه عندما رأى الحالة‬ ‫روزفادوف والذي استطاع التعرف ّ‬
‫أمسيت بها أحضرني في الحال الى السيدة "سيبوره شيرتوك‬ ‫ُ‬ ‫التي‬
‫‪ "Zipporah Shertok‬التي صار زوجها الحقا رئيسا للوزراء في‬
‫إسرائيل‪ .‬وكانت هي مسؤولة آنذاك على األيتام في طهران في بيت‬
‫األطفال اليهود "‪ "Beit ha-Yeled ha-Yehudi‬وقد أراها كيف كان‬
‫الجلد يتقشر في الجهة الخلفية ألرجلي وتكلم معها بالعبرية التي لم‬
‫أكن أفهمها آنذاك‪ .‬وقد تأكد لهم من إصابتي بمرض الحصاف‪،‬‬
‫وهو مرض يصيب الجلد بسبب نقص اللحوم في الغذاء‪ .‬وعليه‪،‬‬
‫فقد سمحوا لي ولولد واهن آخر من الدخول الى مخزن املخيم‬
‫واختيار كل ما كان يروق لنا من طعام‪ .‬وكان لنا أيضا طلب أي نوع‬
‫‪52‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ُ‬
‫فكنت دائما أطلب الهمبركر‬ ‫من الطعام من مطعم الجنود‪.‬‬
‫والبطاطا وسرعان ما أخذ وزني يزداد‪.‬‬

‫يمض وقت طويل حتى تمرضت ثانية وتم إرسالي‬ ‫ِ‬ ‫ولكن لم‬
‫الى املستشفى‪ .‬وتم تشخيص مرض الجرب ّ‬
‫لدي‪ ،‬الذي كان منتشرا‬
‫في املخيم‪ ،‬فوضعوني في قسم َ‬
‫الح ْجر‪ .‬وبينما أنا كنت هناك سمعنا‬
‫بخبر سفرنا كلنا الى فلسطين‪ .‬فأصابني الهلع لخوفي من أن تسافر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فتوسلت لكي يأذنوا لي بترك‬ ‫املجموعة من دوني واترك هناك‪.‬‬
‫املستشفى‪ .‬وأخيرا تمكنت من الخروج ليس أكثر من يوم أو يومين‬
‫قبل موعد مغادرة املجموعة‪.‬‬

‫ووصلنا مدينة طهران في أغسطس من عام ‪0143‬م ومكثنا‬


‫هناك حوالي ستة أشهر‪ .‬بعدئذ غادرناها متوجهين الى فلسطين‪.‬‬
‫وكان أسرع طريق لنا هو‪ ،‬بالحقيقة‪ ،‬عبر البر قاطعين العراق‪ ،‬إال‬
‫أن العراق لم يسمح لنا باملرور خالله فلذلك تحتم علينا اتخاذ‬
‫طريق ملتوي غير مباشر للوصول الى فلسطين‪ .‬فسافرنا في قطار الى‬
‫ميناء يقع على البحر العربي‪ .‬ثم جعلونا نركب بارجة نقل عسكرية‬
‫متوجهة الى كراجي في الهند (حاليا باكستان)‪ .‬وأبحرنا ضمن قافلة‬
‫تتكون من نحو ‪ 31 -05‬بارجة وكانوا يحذروننا باستمرار من‬
‫احتمالية اضطرارنا لترك البارجة والقفز الى البحر في أية لحظة‬
‫أثناء اإلبحار‪ .‬وكان هذا في نهاية عام ‪0143‬م‪ ،‬حيث كان القتال مع‬
‫اليابانيين محتدما‪ .‬فكانت الطائرات الحربية تتقرب أحيانا من‬
‫البوارج فيصيبنا الرعب‪.‬‬

‫أما على ظهر البارجة فكنا ننام على األراجيح الشبكية‪ ،‬عدة‬
‫أوالد معا‪ .‬وأتذكر تذوقي ملربى البرتقال ألول مرة هناك‪ ،‬وتعلمنا‬
‫‪53‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أيضا بعض األغاني اإلنكليزية من الجنود البريطانيين‪ .‬وعندما ُ‬


‫بدأت‬
‫الحقا في العيش معا مع اإلنكليز صرت أحاول غناء أغنية "أرنبي‬
‫الصغير يستلقي على مياه املحيط ‪My Bonnie Lies over the‬‬
‫‪ "Ocean‬فتمتعوا لسماعهم هذه األغنية وخصوصا عندما كنت‬
‫أخلط كلماتها رأسا على عقب‪ .‬طبعا لم يكن لفظ الكلمات لفظا‬
‫مضبوطا شيئا مهما بالنسبة لي إال أنه كان احتكاكي األول مع اللغة‬
‫اإلنكليزية‪.‬‬

‫ال أذكر الش يء الكثير عن كراجي سوى أنها كانت حارة جدا‪.‬‬
‫فقد مكثنا هناك في مخيم يقع على حدود كراجي والبد أننا تعلمنا‬
‫املزيد من األغاني والرقصات من مرشدينا‪ .‬وكنت قد استعدت‬
‫شهيتي لألكل آنذاك إال أن الطعام كان يوزع على شكل حصصا‬
‫ُ‬
‫فلذلك كنت دائما أشعر بالجوع‪ .‬وبعد ‪ 2‬أو ‪ 4‬أسابيع ركبنا البحار‬
‫ثانية وأبحرنا بمحاذاة مدينة عدن ثم البحر األحمر ورسينا في‬
‫مدينة السويس‪ .‬ثم سافرنا من هناك بواسطة قطار الى فلسطين‪.‬‬
‫‪54‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أطفال طهران يصلون فلسطين‬

‫‪8‬‬
‫فلسطين‬

‫وصلتُ الى فلسطين في شهر فبراير من عام ‪9191‬م‪ .‬وبدت لي‬


‫البلد وكأنها كلها كانت بانتظارنا‪ .‬وقد تم استقبالنا بحرارة وترحاب‬
‫يمر باملحطات عبر طريقه من قناة‬ ‫كبيرين‪ .‬فعندما كان قطارنا ّ‬
‫السويس كنا نرى وفودا من أطفال وغيرهم حاملين الورود‬
‫ّ‬
‫ويلوحون لنا ويحيونا‪ .‬وقد تم تسميتنا بأطفال طهران‪ .‬وال أظن بأننا‬
‫كنا ندعى بهذا االسم في طهران ولكنهم دعونا به في فلسطين‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وأخذنا القطار من السويس الى معسكر استقبالي مؤقت كان‬


‫يدعى أتليت ‪ Atlit‬وكان هذا يقع حوالي عشرين كيلومترا جنوب‬
‫مدينة حيفا‪ .‬وكان أغلبنا معتادا على حياة أشبه بحياة أطفال‬
‫الشوارع‪ .‬فصار بعض األوالد يسرقون ويسببون جميع أنواع األذى‬
‫حتى أثناء الرحلة‪ .‬فقد كانت مجموعتنا تتميز بالخشونة ‪ -‬كان هللا‬
‫في عون مرشدينا‪ .‬إال أنهم أبدوا لنا محبة كبيرة وتمكنوا تدريجيا من‬
‫كسب ثقتنا وأظن بأنهم أدركوا الحقا أنهم كانوا متساهلين معنا‬
‫بعض الش يء ونائمين على آذانهم‪ .‬فما طالبونا بكثير من التهذيب‬
‫كما يجب‪ ،‬ألنهم رثوا لحالنا ألننا كنا أطفاال مساكين معدومين‪.‬‬
‫فكلما كان يوضع الطعام على املائدة‪ ،‬فإذا باألطفال يتالقفون أكثر‬
‫ما بوسعهم‪ ،‬ويخبئون قسما منه الى ما بعد أو لغرض مقايضته‪.‬‬
‫وعند توزيع املالبس كان األوالد يغتنمون فرصة التفات الشخص‬
‫املعين لتوزيعها ليعودوا ويقولوا‪" :‬لم أستلم حصتي بعد"‪ ،‬ليحصلوا‬
‫على املزيد‪ .‬وأكثر ما أتذكره عن مخيم أتليت هو أنه كان جبال من‬
‫البرتقال‪ .‬فلم يصدق أحد منا بأنه كان لنا أن نأكل الكثير من‬
‫البرتقال وعلى قدر ما كنا نشاء‪ .‬فكنا نستمر نأكل ونأكل لغاية‬
‫املرض تقريبا‪.‬‬

‫وقد تحقق حلمي أخيرا‪ ،‬فكنت بالحقيقة على أرض إسرائيل‬


‫‪ .* Eretz Yisrael‬فياله من ارتياح حين وجدنا أنفسنا في أمان تام‪،‬‬
‫إال أننا كنا قلقين على أحبائنا ‪ -‬خصوصا أهالينا‪ .‬ولم نفكر في‬
‫* ‪ Eretz Yisrael‬إرْت ْز ي ْس َرئل‪ :‬وهو مصطلح لألرض التي وعد ُ‬
‫هللا بني إسرائيل أن يعطيهم إياها‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫وذلك حسب التوراة‪ ،‬وحسب مؤرخي التوراة فهي تتطابق مع املوقع الجغرافي الحالي بين دان وبئر‬
‫عرفها‬‫ُ ّ‬ ‫ُ َ‬
‫السبع غرب ًنهر األردن‪ .‬و ِعدت هذه األرض إلبراهيم ونسله من ابنه إسحق من بعده‪ .‬ت ِ‬
‫التوراة أحيانا بأرض كنعان‪.‬‬
‫‪56‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫قضايا سياسية كبيرة في حينها‪ .‬وقد صرفت سنة أو سنتين في‬


‫إسرائيل ‪ -‬مثل أغلب األوالد ‪ -‬محاوال التعامل نفسيا مع كل ما‬
‫مررت به من تجارب قاسية في الحرب‪ .‬فكانت الكوابيس أثناء النوم‬
‫ترتادني وغالبا ما كنت أستيقظ في الليل صارخا‪ .‬وكنت عصبيا الى‬
‫حد كبير وأفقد مزاجي بسرعة‪ .‬ولم يختلف بقية األوالد عني‪.‬‬

‫كان عمر األوالد يتراوح ما بين السنة والخمسة عشر‪.‬‬


‫وتصنيفنا الى مجاميع كانت مهمة شاقة‪ .‬فحاولوا في البداية‬
‫تشخيص بعض املشاكل الصحية املختلفة التي كانت متفشية‬
‫بيننا‪ :‬مثل القمل والجرب وسوء التغذية‪...‬الخ‪ .‬وقد تم إرسالنا الى‬
‫يودت الى‬‫مناطق مختلفة لغرض الشفاء‪ .‬فتم إرسالي أنا واختي ِ‬
‫أورشليم‪ ،‬وسكنا في مدرسة داخلية للبنات تدعى "بيت تزيروت‬
‫ُ‬
‫كن يسك ّن في‬‫مزراخي ‪ "Beit Tseerot Mizrachi‬أما البنات الالتي ّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫تلك املدرسة فقد أخلي َن املكان لنا وانتقل َن الى أحد مجتمعات‬
‫"كيبوتس ‪ ،* "kibbutz‬ومكثن هناك مدة ‪ 8 - 6‬أسابيع‪ .‬وتم تجهيزنا‬
‫هناك بمالبس جديدة وطعام جديد‪ .‬وكانوا يأخذوننا في جوالت‬
‫راكبين الباص‪ .‬فقد زرنا كيبوتسا آخرا ومواقع مختلفة في أورشليم‬
‫وفي أرجاء إسرائيل كلها‪.‬‬

‫بعد مض ي ‪ 6‬إلى ‪ 8‬أسابيع من استرداد العافية بدأوا‬


‫يقررون املكان الذي يجب أن ننتقل إليه‪ .‬وكانت السيدة التي‬
‫أسست حركة الهجرة للشباب ‪ Youth Aliyah‬يهودية أمريكية‬
‫معروفة وتدعى "هينرايته شولد ‪ "Henrietta Szold‬وكانت كبيرة‬

‫* كيبوتس هو عبارة عن مجمع سكني تعاوني يضم جماعة من املزارعين أو العمال اليهود الذين‬
‫يعيشون في بقعة جغرافية واحدة ويعملون معا ويتقاسمون تكاليف املعيشة األساسية‪.‬‬
‫‪57‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫السن إال أن أولئك األوالد كانوا يسكنون في قلبها وعملت على‬


‫مقابلة كل منهم على حدة‪ .‬وسألتنا عن خلفية أهالينا وعن أمنيتهم‬
‫لنا نحن أوالدهم‪.‬‬

‫يودت‪" :‬هل كان والديكما من‬ ‫وقد سألوني أنا وأختي ِ‬


‫املتدينين األرثوذكس (أي األصوليين)؟" وأجبناهم‪" :‬نعم"‪ .‬في نهاية‬
‫األمر أرسلونا الى قرية تعاونية تدعى "مشاف سدي ياكوف ‪Moshav‬‬
‫‪ ."Sde Yaacov‬وكانت هذه القرية قرية صهيونية من الطائفة‬
‫األرثوذكسية الحديثة‪ .‬لقد كانوا متدينين لكن ليس مثل ّ‬
‫تدين‬
‫اليهود األرثوذكس املتشددين "الطائفة الحسيدية ‪"Hasidic Jews‬‬
‫الذين كان لديهم لحية وخصل شعر جانبية‪ ،‬بل كانوا على األكثر‬
‫ُ‬
‫باشرت‬ ‫حليقي الوجه وكانوا صهيونيين جدا‪ ،‬ومتفانيين جدا‪ .‬وقد‬
‫أيضا في الدوام في املدرسة هناك‪ ،‬وتعلمت العبرية‪ .‬وكان هذا شيئا‬
‫جديدا‪ .‬ألن قسما منا كان قد تعلم سلفا كتابة العبرية حينما كان‬
‫في بولندا لكن لم يعرف أي واحد منا كيف يتكلمها‪.‬‬

‫كان لي صديق في ذلك الحين يدعى "يعقوب فنكلشتاين‬


‫‪ "Jakob Finkelstein‬وكان أكبر مني سنا‪ ،‬سنة تقريبا‪ .‬كان أول لقاء‬
‫لنا هو عندما لعبنا معا الشطرنج على متن سفينة كانت تبحر نحو‬
‫كراجي‪ Karachi‬وال أدري كيف اشتبكنا في أول عراك لنا وانتهى‬
‫األمر معي بأنف ينزف‪ .‬لكن بعد هذا العراك تصادقنا ودامت‬
‫صداقتنا لسنين طوال‪ .‬وقد أمضينا ساعات كثيرة نتحدث معا‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أن أحدنا كان يدعم اآلخر ‪ -‬وأعتقد أن يعقوب‪ ،‬على‬
‫األكثر‪ ،‬أخذ على عاتقه مسؤولية حمايتي في األشهر األولية‪ .‬وكان‬
‫ليعقوب أخت اسمها " َزهافا ‪ "Zahava‬والتي كانت الصديقة‬
‫‪58‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫يودت‪ .‬وكان يعقوب يعرف ويفهم العالم أكثر مني‪،‬‬ ‫املفضلة ألختي ِ‬
‫وكان يعرف كيف يستفاد كل االستفادة من أي موقف يصادفه‪ .‬إال‬
‫أنه كان مثيرا للدهشة‪ :‬فمن جهة كان يستغل اآلخرين بدهاء والى‬
‫درجة السخرية؛ ومن جهة ثانية كان صديقا وفيا جدا لي‪.‬‬

‫واكتشف يعقوب مرة عندما كنا في املدرسة الداخلية في‬


‫أورشليم أنه كان هناك هاتفا‪ ،‬ألن الهاتف وقتذاك كان شيئا غير‬
‫معروف لنا نحن األوالد‪ .‬فلذلك أراد تجريبه ومعرفة كيفية عمله‪.‬‬
‫فنظر في دفتر العناوين فوجد رقم هاتف إحدى املنظمات الدينية‬
‫فاتصل بهم هاتفيا لغرض الهزل فقط‪ ،‬فقال لهم‪" :‬لقد تم غسل‬
‫أدمغتنا هنا‪ .‬وهم يجبروننا على التخلي عن إيماننا الديني‪ .‬فهل‬
‫تستطيعون رجاء مساعدتنا؟" فمثل هزل كهذا كنا نلهو به نحن‬
‫األوالد‪.‬‬

‫يودت مع يعقوب وأخته َزهافا الى‬ ‫لقد تم نقلنا أنا وأختي ِ‬


‫القرية التعاونية نفسها "‪ "Moshav Sde Yaacov‬وكنت ال أزال‬
‫مضطربا كثيرا ولم أكن قد تأقلمت بعد على املكان الجديد‪ ،‬فلهذا‬
‫كنت مع إحدى‬ ‫السبب صادفتني الكثير من املشاكل‪ .‬ففي البداية ُ‬
‫العوائل‪ ،‬ولكنني لم أنسجم مع ربة البيت‪ .‬وسرعان ما وضعوني مع‬
‫أسرة أخرى‪ ،‬ولكنني حصلت هناك على بعض املصادمات مع رجل‬
‫كانوا يستأجرونه إلدارة حقلهم ألن ابنهم كان يحارب ضمن األلوية‬
‫العسكرية اليهودية‪ .‬وكان أصل ذلك الرجل هنغاري وفي سنه‬
‫األربعين‪ .‬وكان طويل القامة وقو ّي البنية ومزارع جيد ‪ -‬وكان متدينا‬
‫كثيرا‪.‬‬
‫‪59‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وفي الوقت الذي يسبق رأس السنه والذي يدعى ‪Sleekhot‬‬


‫(أي طلب املغفرة) يعتاد املتدينون النهوض في الصباح الباكر‬
‫ليستغرقوا في وقت يخصصونه للصالة طالبين املغفرة عن‬
‫السيئات التي فعلوها خالل السنة املنصرمة‪ .‬وهذا الرجل األجير‬
‫حاول إجباري على النهوض مبكرا جدا ‪ -‬حوالي الثالثة أو الرابعة‬
‫فجرا ‪ -‬ومن ثم الذهاب معه الى الكنيس‪ .‬في اليوم األول رفضت‬
‫علي ليقعدني من‬‫النهوض‪ .‬لكن في اليوم الذي تال سكب ماء باردا ّ‬
‫نومي‪ ،‬ولكني رفضت أيضا‪ .‬وعندما جلسنا في مساء ذلك اليوم‬
‫حول مائدة العشاء قال‪" :‬واآلن يا يوسف‪ ،‬سأفعلها ثانية غدا لو لم‬
‫فاشتطت غضبا‪ ،‬ورميت عليه سكينتين‪ .‬فقد فقدت‬ ‫ُ‬ ‫تنهض"‪.‬‬
‫أعصابي كليا‪ .‬ورميت بنفس ي على األرض وعملت مشهدا شنيعا‪.‬‬
‫فصرخت‪" :‬أنت لست بوالدي‪ ،‬وليس لك أية صالحيات ّ‬
‫علي"‪ .‬ولقد‬
‫ارتعبوا فعال‪ .‬وفي نهاية األمر‪ ،‬تم تهدئتي‪ .‬أما هو فلم يعد يتكلم معي‬
‫على اإلطالق منذ تلك اللحظة‪ .‬واستمرت على املساعدة في الحقل‬
‫إال أنه كان يتجاهلني‪.‬‬
‫ملاذا ُ‬
‫بدأت أثور ضد الديانة اليهودية؟‪ ...‬أنا أعتقد بأن جانبا‬
‫من األمر كان بسبب فكرتي عن هللا بأنه متشدد وسوف يعاقبنا‪.‬‬
‫أحس بالذنب جراء وفاة أمي وجراء تركي لوالدي في‬ ‫ّ‬ ‫ألنني كنت‬
‫االتحاد السوفيتي‪ .‬فكنت أشعر بالخوف‪.‬‬

‫على أية حال‪ ،‬كان الكثير منا غير سعيد في تلك املستوطنة‬
‫التعاونية‪ .‬وقد أرسلنا وفدا الى أورشليم بعد مض ي ثمانية أشهر‬
‫لنعبر من خالله عن عدم ارتياحنا‪ .‬فقرروا نقل األوالد األكبر سنا‬
‫من هناك وإبقاء الصغار‪ .‬فذهبت مع األكبر سنا – ما بين ‪َ 04‬و ‪05‬‬
‫‪61‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫سنة ‪ -‬الى مدرسة إعدادية الزراعة والتي كانت تدعى "ميكفة‬


‫ُ‬
‫غادرت‬ ‫إسرائيل ‪ "Mikveh Israel‬ومعناها‪( :‬أمل إسرائيل)‪ .‬فبذلك‬
‫قرية موشاف سدي ياكوف ‪ Moshav Sde Yaacov‬مع يعقوب في‬
‫َ‬
‫يودت وزهافا هناك مدة ثالث سنين تقريبا‪.‬‬
‫حين ظلت اختي ِ‬
‫‪61‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫يعقوب ويوسف‬

‫‪9‬‬
‫في إعدادية الزراعة‬

‫يقال عن "ميكفة إسرائيل ‪ "Mikveh Israel‬بأنها أقدم مستوطنة‬


‫صهيونية في فلسطين‪ ،‬ومع ذلك فقد كان هناك عددا من اليهود‬
‫يسكنون هناك بين العرب من قبلها‪ .‬وقد أسس هذه املستوطنة‬
‫أحد املحسنين اليهود من فرنسا عام ‪0871‬م واسمه "جارلس نتر‬
‫‪ "Charles Netter‬ليدرب الشباب على الزراعة‪ .‬وقد أصبحت هذه‬
‫املدرسة الحقا من أشهر مدارس الزراعة في الشرق األوسط‪.‬‬
‫فباإلضافة الى تعليم الطالب‪ ،‬كانت تغطي مساحتها الواسعة جميع‬
‫مجاالت الزراعة‪ :‬فكانت لها ‪ 81 - 61‬رأسا من املاشية والغنم‬
‫‪62‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وبستانا يحوي جميع أنواع األشجار‪ .‬وحتى كانت لهم حديقة نباتية‬
‫تضم الكثير من النباتات الفريدة من نوعها‪.‬‬

‫وكان في املدرسة قسمان‪ :‬القسم الديني والذي كان يتكون‬


‫أغلبه من املهاجرين مثلنا‪ ،‬والقسم العلماني والذي كان يتكون‬
‫أغلبه من طالب من الكيبوتسيم (أي من مجتمعات ال كيبوتس)‬
‫واملجتمعات التعاونية‪ .‬وكان أولئك اليهود العلمانيين يؤلفون غالبية‬
‫السكان في إسرائيل في ذلك الوقت‪ .‬وكان القسمان يسكنان بصورة‬
‫معزولة‪ ،‬ولها صفوف معزولة بالرغم من أنهما كانا في مدرسة‬
‫واحدة‪.‬‬

‫أما أطفال طهران فكانوا كلهم معا ضمن مجموعة واحدة‪،‬‬


‫وهي املجموعة الدينية‪ .‬وكان لنا دورة دراسية ملدة عامين‪ .‬وكان كلنا‬
‫لدينا فرصة عمل في أي فرع من فروع الزراعة في السنة األولى‪،‬‬
‫وكنا نتخصص في السنة الثانية في أحد االختصاصات ملدة ستة‬
‫أشهر‪ ،‬واختصاصا إضافيا ملدة ثالثة أشهر إضافية‪.‬‬

‫وكان معلمونا هم أيضا مرشدينا التوجيهيين في الوقت نفسه‬


‫وكانوا يسعون ملساعدتنا‪ .‬وأغلبهم كان من الطائفة الحديثة لليهود‬
‫األرثوذكس وغالبا كنت أسبب اإلزعاج في الصف‪ .‬وفي الوقت نفسه‬
‫بدأت أطرح الكثير من األسئلة وحتى عن موضوع األيمان‪ .‬فمن جهة‬
‫كنت ال أزال أثور ضد فكرتي عن "هللا املتشدد"‪ ،‬إال أنني بدأت من‬
‫جهة ثانية أصارع مع ما جرى في ال هولوكوست (إبادة اليهود في‬
‫أملانيا) – والتساؤل كان‪ :‬ملاذا سمح هللا بهذا أن يحدث؟‪ ...‬وكان‬
‫بعض األوالد معنا قد جاءوا مباشرة من معسكر "بوخن فالد‬
‫‪ "Buchenwald‬األملاني لالعتقال‪ .‬وأخذوا يخبروننا عما حدث في‬
‫‪63‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أملانيا‪ .‬وكان أولئك األوالد بعمرنا‪ ،‬حتى يمكن أصغر‪ ،‬غير أنهم كانوا‬
‫هزت‬‫يبدون كالعجزة‪ ،‬من حيث أسلوب كالمهم وتصرفاتهم‪ .‬وقد ّ‬
‫هذه األمور َبدننا كلنا‪.‬‬

‫في حوالي شهر أبريل من عام ‪0144‬م ذهب صفنا املدرس ي‬


‫بأكمله من ميكفة ‪ Mikveh‬الى "كيبوتس تيرات زفي ‪Kibbutz Tirat‬‬
‫‪ "Zvi‬وهو كيبوتس ديني في وادي "بيسان ‪ ."Beit Sha’an‬وكان‬
‫الكيبوتس لديه معسكر شغل‪ .‬فسكنا في خيم واشتغلنا هناك مدة‬
‫شهرين‪ .‬وصادف أنني كنت واقفا في أحد األيام في طابور استالم‬
‫الطعام وبدأت التحدث مع فتى كان يكبرني بضعة سنوات‪ ،‬ربما‬
‫كان عمره ما بين ‪ 31 – 08‬سنة‪ .‬وعندما أخبرته بأنني قد جئت من‬
‫فرانكفورت وبأن اسمي كان "ناخت ‪ "Nacht‬أخبرني بأنه كان يعرف‬
‫أسرتي‪ .‬فسألته‪" :‬ما اسمك؟" وعندما أخبرني عرفته في الحال وقلت‬
‫له‪" :‬أتذكرك‪ ،‬وكان لكم دكانا للسكريات! وكان يقع مجرد في نهاية‬
‫الشارع الذي كنا نسكن فيه"‪ .‬فقال‪" :‬هذا صحيح!" واألمر حقا‬
‫عجيب ألني لم أكن أكثر من ‪ 4‬سنوات من العمر عندما تركنا‬
‫فرانكفورت‪.‬‬

‫وكانت تلك املرة هي املرة األولى التي أعيش فيها ضمن‬


‫كيبوتس‪ ،‬لكن الحياة في مجتمع كيبوتس لم تعجبني آنذاك‪ .‬ألنني‬
‫كنت ال أزال أحاول التعامل نفسيا مع كل ما مررت به من تجارب‬
‫عن الحرب ومع ذكرياتي في روسيا وإيران‪ .‬وعندما كنا نخبر الناس‬
‫عما مررنا به من تجارب في روسيا فكانوا وببساطة ال يصدقوننا‪.‬‬
‫فهم لم يريدوا أن يصدقوا ما أخبرناهم‪ .‬ألنه كان هناك تعاطفا‬
‫كبيرا مع االتحاد السوفيتي آنذاك ألنهم كانوا يحاربون هتلر‪.‬‬
‫‪64‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫باإلضافة الى ذلك‪ ،‬كانت لهم فكرة مثالية عما كان يجري في روسيا‪،‬‬
‫بلد االشتراكيين‪.‬‬

‫وعندما عدنا الى ميكفة‪ ،‬أسس بعض الطالب مجموعة‬


‫َ‬
‫"هاخشرة ‪( "hachsharah‬وهي مرحلة تدريبية للتهيؤ للعيش في أي‬
‫مجتمع من مجتمعات كيبوتس) على أمل تأسيس كيبوتس‪ .‬وقد‬
‫انضموا الحقا الى "كيبوتس كفار إيزيون ‪"Kibbutz Kfar Ezion‬‬
‫الذي يقع في جنوب أورشليم‪( .‬وقد فقد الكثير منهم الحقا أرواحهم‬
‫تأسر عندما اجتاحت القطعات العسكرية األردنية‬ ‫والقسم اآلخر ّ‬
‫مجتمع ال كيبوتس الذي يعيشون فيه في حرب االستقالل‬
‫إلسرائيل)‪ .‬وكان عدد من طالب صفي باملدرسة جزء من هذه‬
‫الجماعة إال أنني كنت أعارضها‪ .‬فلم أقبل تدينهم وكنت ثائرا كثيرا‬
‫جدا‪.‬‬

‫وفي حوالي ذلك الوقت‪ ،‬اتخذت أنا قرارا ‪ -‬وبكامل وعيي‬


‫ووجداني ‪ -‬ملعارضة الدين بجملته‪ .‬وقلت لنفس ي‪:‬‬

‫أنني ال أؤمن باهلل‪ ،‬وال أؤمن بقوة خارقة للطبيعة‪ ،‬وسوف‬


‫لن أقبل أي ش يء ال أفهمه بعقلي‪.‬‬

‫وقد تم طرح الكثير من األسئلة وكانت لنا نقاشات ساخنة في غرفة‬


‫الصف باملدرسة‪.‬‬

‫وعند اقتراب "يوم الغفران‪ -‬يوم كيپبور ‪"Yom Kippur -‬‬


‫(أي يوم التكفير عن الذنوب) تهيأ كل فرد من املجموعة الدينية‬
‫للصوم ولكنني وكنتيجة لقناعاتي الشخصية آنذاك قررت وأنا‬
‫‪65‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫صبي في الخامسة عشر من العمر‪ ،‬أن ال ألتزم حتى بهذا‪ .‬ولم تكن‬
‫هذه املناسبة شيئا صغيرا لدى املتدينين‪ ،‬فكان ُيعد يوم الغفران‬
‫تجربة رائعة ومدهشة‪ ،‬غير أنني قررت عدم الصوم في يوم الغفران‬
‫بل أضئت املصابيح وشربت ما شئته‪ .‬فلم أرد أن يكون لي أية‬
‫عالقة به‪ .‬فكنت أعتقد بضرورة تطبيق كل ما أراه صحيحا ‪ -‬وليس‬
‫التكلم عنه فقط – وكنت على استعداد لقبول عواقب األمور‪.‬‬

‫وغالبا ما كنت وحيدا في ذلك الوقت باستثناء صديقي‬


‫يعقوب‪ .‬فهو بالرغم من دوامه في الصف الدراس ي األدنى مني إال أننا‬
‫كنا ال نزال معا وكنا نتحدث معا كثيرا‪ .‬وقد صممنا أن نخرج معا‬
‫ويعاون أحدنا اآلخر بعد إكمال دراستنا‪ .‬غير أن يعقوب كان أكثر‬
‫واقعي مني‪ .‬وقد صار دنيوي أيضا أي يجب متاع الدنيا‪ ،‬وكل ما كان‬
‫يتوخاه هو أن يتوفق من خالل كسب الصفقات في املجتمع‪ .‬وهو‬
‫لم يعارض بشدة النظام السائد األعوج كما أنا فعلت‪ .‬أما أنا فقد‬
‫ُ‬
‫جعلت الحياة تبدو صعبة ّ‬
‫علي بإتباعي للمبادئ والقيم الخاصة بي‪.‬‬

‫وكان لدي مرة موقف عنيف مع تلك املجموعة التي ذهبت‬


‫الى مجتمع ال كيبوتس‪ .‬فقد كنا نسكن معا في قاعة واحدة في‬
‫مساكن الطلبة‪ ،‬غير أن األوالد في هذه املجموعة تمسكوا بعالقة‬
‫بعضهم مع بعض وأهملوني‪ .‬فذهبت يوما الى أحد قادة حلقاتهم‬
‫وضربته ضربة قاسية من شدة غضبي‪ .‬فانذهل كثيرا ألن فعلتي لم‬
‫تكن متوقعة أبدا‪ .‬وسمعت فيما بعد بأنهم كانوا يخططون‬
‫ليعتصبوا ضدي وينتقموا مني‪ .‬ووجد بعض األصدقاء مأوى لي في‬
‫القسم العلماني من "ميكفة ‪ "Mikveh‬فمكثت هناك عدة ليالي الى‬
‫أن هدئت األمور‪ .‬لكن كان معلمي املدرسة على يقين بأني كنت ذات‬
‫‪66‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫تأثير س يء‪ .‬وتمكنوا من إقناعي على ترك املدرسة واالعتماد على‬


‫الذات‪ .‬وأنا بالحقيقة لم يبق لي آنذاك سوى بضعة أشهر إلكمال‬
‫دراستي التي كانت ملدة سنتين‪.‬‬

‫وفي الحقيقة فأنهم قد حظروا علينا‪ ،‬أنا ويعقوب‪ ،‬اللقاء‬


‫معا‪ .‬فبقى يعقوب باملدرسة لكننا استمررنا في لقاء أحدنا لآلخر‬
‫خلسة في الظالم‪ .‬فكنا نتمش ى معا‪ ،‬وعزمنا أن يتمسك بعضنا‬
‫ببعض‪ .‬ورتبنا أن أغادر املدرسة وأسعى إليجاد عمل وكسب بعض‬
‫املال‪ ،‬ومن ثم يغادر هو أيضا لنعيش متعاضدين ويعاون أحدنا‬
‫صب مدخولنا في صندوق واحد مشترك‪ .‬ولم‬ ‫اآلخر‪ .‬وكنا نريد أن ن ّ‬
‫أي منا اهتمام بالزراعة‪ .‬فهو كان يطمح أن يصير‬ ‫يكن لدى ّ‬
‫كهربائي‪ ،‬حيث صار الحقا‪.‬‬

‫وكان هناك ولدا آخرا من بولندا في ميكفة اسمه "بنيامين‬


‫بودنر ‪ ،"Benjamin Bodner‬الذي نجح في الهرب من قطار كان‬
‫متوجها الى أحد معسكرات االعتقال في أملانيا‪ ،‬ومن ثم تمكن من‬
‫الوصول الى إسرائيل‪ .‬وكان هذا غير سعيد في املدرسة أيضا وقد‬
‫تحدثنا أنا وهو حول موضوع مغادرة املدرسة‪ .‬وأخبرني عن " َبلماخ‬
‫‪ ،"Palmach‬وهي مجموعة قتالية تعد من صفوة قوات ال هاجاناه‬
‫‪ ،Haganah‬أي جيش املقاومة اليهودية‪ .‬وأعرب عن اعتقاده‬
‫بضرورة انخراطنا وتجنيد أنفسنا لهذه املجموعة‪ ،‬فذهبنا معا‪.‬‬
‫وربما كنت أظن بوجود ش يء فتان وجميل في األمر‪ ،‬على أنه لم‬
‫يكن لدي أية دوافع له‪ .‬فتم قبوله دوني‪ .‬وال أعرف سبب رفضهم‬
‫لي‪ ،‬ربما ألنني كنت شديد العصبية فضال عن صغر سني بسنة‬
‫ُ‬
‫واحدة أقل من سن بنيامين‪ .‬وقد قتل بنيامين الحقا في األيام‬
‫‪67‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫األخيرة من حرب االستقالل‪ .‬وقد جاء والده إلى إسرائيل بعد أن‬
‫نجا من معسكرات االعتقال فوجد ابنه مقتوال‪.‬‬

‫وقد تم تدريبنا على األسلحة في ميكفة إسرائيل‪ .‬وتعلمنا على‬


‫كيفية تركيب البنادق واملسدسات‪ .‬وتدربنا على التصويب على‬
‫الهدف‪ ،‬وعلى التسلق والقفز الى البيوت‪ ،‬وخضنا تدريبات كما لو‬
‫كنا قد تعرضنا الى هجوم‪ .‬حتى أننا ذهبنا الى الصحراء ملمارسة‬
‫مختلف التدريبات العسكرية‪ .‬وكانت هناك مشاكل ّ‬
‫جمة مع البدو‬
‫آنذاك‪ .‬فكانوا يستعملون العصيان في القتال فتعلمنا كيفية القتال‬
‫بالعصيان ‪ -‬كيفية الضرب وكيفية الدفاع‪ .‬فمن خالل ذلك‬
‫التدريب كنت عضوا غير رسمي في قوات ال هاجاناه‪ ،‬ولكن عند‬
‫مغادرتي للمدرسة فقدت اتصالي معهم في ذلك الوقت‪.‬‬
‫‪68‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫يهوذا والخالة ايلزا‬


‫سامي والعم حايم سيمحا‬

‫‪11‬‬
‫ويبدأ البحث‬

‫غادرتُ ميكفة‪ ،‬وبدأت البحث عن عمل‪ .‬وكانت األلبان واحدة من‬


‫اختصاصاتي في ميكفة‪ .‬وبش يء من املساعدة من قبل املعهد‪،‬‬
‫حصلت على شغل في مزرعة للحيوانات تنتج األلبان والتي لم تكن‬
‫بعيدة جدا عن تل أبيب‪ .‬فكان املزارع يوزع الحليب في تل أبيب‬
‫‪69‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫بعربته التي يجرها حصان‪ .‬وملا كان على الناس بدء أعمالهم مبكرا‬
‫بسبب حرارة الجو‪ ،‬اضطر املزارع الى توزيع الحليب في الفجر حين‬
‫كان الناس ما يزالون في بيوتهم‪ .‬وكان ّ‬
‫علي النهوض مبكرا في الصيف‬
‫وفي الساعة الواحدة في منتصف الليل لحلب األبقار‪ .‬وأما في‬
‫الشتاء فكانت في الساعة الثالثة‪ .‬وقد أعطاني غرفة وطاولة وأجرا‬
‫صغيرا‪ .‬فكان ذلك أول عمل لي وأصبحت سعيدا جدا لتمكني من‬
‫الوقوف على ّ‬
‫رجلي واالعتماد على نفس ي‪.‬‬

‫لقد عملت في تلك املزرعة ملدة أربعة أشهر تقريبا‪ ،‬وفي بداية‬
‫األمر كانت األمور تسير على ما يرام‪ .‬إال أني صرت على خالف مع‬
‫زوجة املزارع وكان ّ‬
‫علي املغادرة فجأة‪ .‬فقد قلت لها أني ال أقدر أن‬
‫أعمل لها بعد‪ ،‬فإذا بي تراني أبحث عن عمل مرة ثانية‪.‬‬

‫لدي بعض األقارب في إسرائيل‪ ،‬مثل خالي "حايم‬ ‫كان ّ‬


‫سيمحا ‪ "Chaim Simcha‬الذي كان أصغر من أمي‪ ،‬وكانت عالقته‬
‫حميمة جدا معها‪ .‬وبسبب محبته الكبيرة ألمي كان َيكن محبة كبيرة‬
‫لي أيضا‪ .‬وقد شاهد اسمي واسم أختي في قائمة األسماء ضمن‬
‫القادمين مع أطفال طهران‪ ،‬وعندما وصلت أنا أوال الى أتليت‪ ،‬جاء‬
‫باحثا عنا‪ .‬وبينما جلسنا نحن األوالد في الباص للتوجه الى أورشليم‬
‫فإذا به فجأة واقف هناك بجانب الباص يتكلم معنا من خالل‬
‫النافذة‪ .‬فكان هو شخص كهذا‪ ،‬حار القلب ومتفان ومخلص وطبعا‬
‫سألني عن والدتي ولكنني لم أكن حساس بالكفاية‪ ،‬فأخبرته على‬
‫الفور هناك‪ ،‬أن أمي لم تعد على قيد الحياة وقد وافاها أجلها‪،‬‬
‫فإذا به قد أصيب بصدمة ّ‬
‫مروعة‪.‬‬
‫‪71‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وقد صار بيت خالي حايم وعمتي ايلزا مثل بيتي الثاني‪ .‬وكنت‬
‫أزورهم دائما ومتى سنحت لي الفرصة بذلك حينما كنت أداوم في‬
‫ميكفة أو في املزرعة التعاونية‪ .‬فكنت أحس هناك كما لو كنت في‬
‫بيتي وقد عاملوني كابنهم تماما‪ .‬وتميز حايم سيمحا بأنه كان باهرا‬
‫ويملك رؤية واسعة األفق عن العالم‪ .‬وكان متدينا‪ ،‬لكنه كان ُيعتبر‬
‫في أوساطه على أنه شخص متفتح ‪ -‬العقلية ومفكر عميق‪ .‬وكان‬
‫رجال محترما جدا وإعتاد الناس على زيارته من أجل املشورة حول‬
‫أمورهم الشخصية أو حول املشاكل في القرية‪.‬‬
‫وأكثر من تأثير حايم سيمحا ّ‬
‫علي كان تأثير ابنه سامي‪ ،‬فقد‬
‫أثر ّفي بصورة أكبر وأعمق‪ .‬فقد كان سامي يكبرني بخمس سنوات‪،‬‬
‫ولكنه كان دائما يعاملني كصديق له‪ ،‬ال فرق بيننا‪ .‬وحين تركت‬
‫مزرعة األلبان التجأت الى سامي لطلب العون‪ ،‬ألنني لم أفقد عملي‬
‫فقط بل غرفتي أيضا‪ .‬كان لسامي سكنه الخاص في تل أبيب؛‬
‫وسمح لي بالسكن معه ومن ثم ساعدني على إيجاد سكن لي‪ .‬فكان‬
‫يقاسمني في كل ش يء ولم يطبل كثيرا على فضله ّ‬
‫علي‪ .‬فأعجبتني‬
‫هذه الروحية السخية للغاية‪.‬‬

‫وبتواجدي هناك‪ ،‬فقد قابلت الكثير من رفاقه أيضا‪ .‬وكان‬


‫سامي على األرجح فردا في الجماعة السرية التي شكلت ملحاربة‬
‫البريطانيين‪ .‬وعندما بدأت العمليات اإلرهابية تشن على‬
‫البريطانيين‪ ،‬بسط البريطانيون أيديهم على كل من كان له ارتباط‬
‫ُ‬
‫مع تلك الجماعات‪ .‬وقد اعتقل سامي ولكنهم لم يجدوا شيئا ضده‬
‫على ما أظن‪ .‬فتم إرساله الى معسكر احتجاز مثله مثل غيره‪ ،‬ولكنهم‬
‫أطلقوا سراحه الحقا وتم إدراج اسمه في الئحة املتعاطفين‪ .‬وصار‬
‫‪71‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫تحت اإلقامة الجبرية وكان يتحتم عليه تسجيل الحضور لدى‬


‫الشرطة يوميا‪ .‬وفي ذلك الوقت زاره العديد من رفاقه في بيته‪.‬‬

‫يت الكثير من النقاشات مع‬ ‫وخالل السنين التي تلت أجر ُ‬


‫سامي ورفاقه والتي ساهمت في تغيير نظرتي عن الحياة‪ .‬ألن سامي‬
‫لم يحيا لنفسه‪ .‬فألهمني لكي يكون لي رؤية أوسع‪ ،‬أي التفكير‬
‫واالنفتاح على حاجات اآلخرين في العالم بأسره‪.‬‬
‫وبدأت أيضا في ذلك الوقت بالقراءة والتفكير ّ‬
‫مليا والسيما‬
‫فيما يخص الصراع من أجل العدل والتآخي‪ ،‬وفيما يخص معنى‬
‫الحياة ‪ -‬وبخاصة عندما يجب على املرء أن يحيا من أجل ش يء‬
‫يتجاوز حدود ذاته‪ .‬فقد تعلمت اللغة العبرية منذ أن كنت في سن‬
‫الرابعة عشر أو الخامسة عشر‪ ،‬ولكني ال أتذكر أني قرأت في يوم ما‬
‫كتابا قبل ذلك الوقت‪ .‬لكني صرت آنذاك أذهب الى املكتبة‬
‫باستمرار‪ .‬فقرأت كل كتب تولستوي و دوستويفسكي املكتوبة‬
‫بالعبرية‪ .‬فاشتريت وقرأت كتاب "الجريمة والعقاب" في ليلة واحدة‪.‬‬
‫وحتما لم أقدر على هضم كل ش يء في الكتاب لكن شيئا ما ّ‬
‫ظل‬
‫معي بالتأكيد‪ .‬وقد تأثرت كثيرا بالكاتب الفرنس ي "رومين روالند‬
‫‪ "Romain Rolland‬وبمثالياته ومبادئه عن الصداقة والعدالة‬
‫االجتماعية ‪ -‬وباألخص قصته عن "انطوانيت واوليفر ‪Antoinette‬‬
‫‪ ،"and Olivier‬والتي كانت تدور حول طفلين يتيمين عاضد بعضهما‬
‫أصب جهودي مع يعقوب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫بعضا في أوقات عصيبة‪ .‬فهذا ألهمني ألن‬
‫والذي كان قد غادر مدرسة ميكفة إسرائيل آنذاك ووجد عمال‪.‬‬

‫وجدت سكنا وحتى عمل‪ ،‬وجاء يعقوب ليقاسمني‬‫ُ‬ ‫أخيرا‬


‫املعيشة‪ .‬فكنت أكسب ‪ 31‬جنيها استرلينيا في الشهر وأدفع ‪01‬‬
‫‪72‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫جنيهات لإليجار‪ ،‬وأدخر بقية ال ‪ 01‬جنيهات للتوفير‪ .‬وتشاركنا بكل‬


‫ما كنا نكسبه من نقود واضعين إياها في صندوق مشترك‪ .‬أما أنا‬
‫ُ‬
‫فلم أ ِع ْر أية أهمية للنقود‪ ،‬بعكس يعقوب الذي كان أكثر مقتصد‬
‫مني‪ .‬لكننا أخيرا تخلينا عن الصندوق املشترك واقتسمنا النقود‬
‫بالتساوي بيننا بحيث ال أحد منا كان له أكثر من اآلخر‪.‬‬
‫كنا نشتغل ّ‬
‫بكد ولكن كان لدينا الكثير من املرح كذلك‪ .‬فقد‬
‫تفاخر يعقوب مرة بأنه كان قادرا على أكل دزينتين من البيض‬
‫بجلسة واحدة‪ ،‬لكنني لم أصدقه‪ .‬فقلت له بأني سأدفع ثمن‬
‫البيض إذا تمكن من أكل الدزينتين‪ .‬فوافق واستعد‪ ،‬فذهبنا‬
‫واشترينا البيض من الدكان‪ .‬واشتريت‪ ،‬متعمدا‪ ،‬بيضا كبير الحجم‬
‫مع ش يء من الخبز ليؤكل معه ‪ -‬وفي أثناء ذلك بدأت أشعر بالقلق‪.‬‬
‫أما يعقوب فقد أكل البيض والخبز وكل ش يء‪ .‬وخسرت الرهان!‬

‫وكنت في تلك املرحلة ما بين الستة عشر والسبعة عشر من‬


‫العمر‪ ،‬حيث كنت أصارع فعال مع معنى الحياة‪ .‬ما هو الهدف من‬
‫كل هذا؟‪ ...‬لم أكن أملك إيمانا‪ ،‬ولكنني من ناحية أخرى لم أكن‬
‫مقتنعا أيضا بالعيش في سبيل نفس ي فقط‪ .‬أما يعقوب فكان‬
‫منشغال في سعيه لتحقيق مستوى معيش ي جيد وأوقات سعيدة‪.‬‬
‫لكنني رأيت عدم جدوى العيش مجرد في سبيل تجميع األموال‬
‫وكسب تقدير اآلخرين‪ .‬ألني كنت أرى أن مثل هذه األمور ال تجعل‬
‫الناس سعداء‪ .‬وداومنا على العيش معا إال أننا أخذنا بالتباعد‬
‫تدريجيا على الصعيد الفكري‪.‬‬

‫باملقابل بدأت أنجذب وأتقرب أكثر وأكثر نحو سامي ورفاقه‪.‬‬


‫وأتذكر بالتحديد إشعيا وخانا‪ ،‬اللذين كانا مخطوبين‪ ،‬حيث ناقشنا‬
‫‪73‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫معهما الكثير من القضايا‪ .‬فكنا نوزن الفوائد النسبية لكل من‬


‫الرأسمالية واالشتراكية والشيوعية‪ .‬وكانت هذه القضايا ذات معنى‬
‫حقيقي لنا إذا ما أخذنا بنظر االعتبار الوضع السياس ي في إسرائيل‬
‫‪ -‬حيث تواجدت األحزاب املختلفة مع أيديولوجياتها املختلفة‪.‬‬

‫وقد أثر ّفي سامي في األمور الخلقية الشخصية‪ .‬فكان مثاال‬


‫صالحا في االهتمام باآلخرين‪ ،‬ولكنه كان أيضا يحكي مع الناس‬
‫بصراحة ومن دون محاباة عندما كان يرى وجود نوع من األجواء‬
‫غير الالئقة أو أية رائحة لعدم الطهارة الجنسية‪ .‬وقد جعلني موقفه‬
‫هذا أراجع قيمي ومبادئي فعال فيما يخص املجال الجنس ي والحياة‬
‫الشريفة‪ .‬وهو‪ ،‬بالحقيقة‪ ،‬قد علمني معنى توقير كرامة اآلخرين‬
‫وخصوصا النساء‪ .‬فبمجرد وجودي في غرفته تفتحت آفاقي لتتخطى‬
‫أساسيات الحياة مثل الحصول على وظيفة أو نيل استحسان‬
‫اآلخرين‪ .‬فبدأت أنظر الى ما وراء القضايا اليومية التافهة وأسأل‬
‫نفس ي‪:‬‬

‫في سبيل أي ش يء أريد أن أحيا؟‬

‫كنت أريد أن أحيا في سبيل ما هو حق وصحيح‪ ،‬بغض النظر عن‬


‫تكلفته‪ .‬لكن كنت أشعر بأني ممزق‪ .‬فكنت أشعر بضعفي الشديد‬
‫وعجزي عن العيش بحسب املثل العليا التي أضعها لنفس ي‪ ،‬إال‬
‫أنني‪ ،‬وفي أعماقي‪ ،‬علمت بأنه ال يسعني التخلي عن اشتياقي وظمأي‬
‫هذا‪ .‬ربما كان ذلك له عالقة بجذوري‪ ،‬أال وهي الدعوة للعيش‬
‫بحسب الرؤية النبوية للحياة األخوية‪ ،‬والتي أعتقد بأنها مترسخة‬
‫بقلب كل يهودي‪.‬‬
‫‪74‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬كان الوضع السياس ي في فلسطين يشغلني‬


‫كثيرا جدا‪ .‬فكنت ما أزال أحاول التعامل نفسيا مع ما حدث في‬
‫عمليات "إبادة اليهود ‪ "Holocaust‬فقد انتهت املحارق وأراد الكثير‬
‫من الناجين القدوم الى فلسطين لكن منعهم البريطانيون من‬
‫الدخول‪ .‬وكنا نسمع دائما في األخبار أنباء عن احتجاز بواخر من‬
‫قبل البريطانيين ‪ -‬حيث تم ترجيع آالف من الناس‪ .‬فكانوا‬
‫يأخذونهم الى قبرص ويعيدون قسما منهم الى أوروبا‪ .‬كنت أكره‬
‫األملانيين‪ ،‬لكن وبانتهاء الحرب‪ ،‬توجهت كراهيتي نحو البريطانيين‬
‫أكثر وأكثر‪.‬‬

‫ومن الغريب‪ ،‬أنني لم َأر العرب كأعداء لي بل البريطانيين‬


‫وحدهم‪ .‬وكانت هذه املشاعر شائعة بين عامة الناس‪ :‬فكان الكثير‬
‫من الناس ينددون بالجنود البريطانيين باإلضافة الى أن العديد من‬
‫الجماعات السرية كانت تقوم بعمليات هجومية ضدهم‪ .‬وكانت‬
‫القطعات البريطانية تمر من خالل املدن بالدبابات‪ ،‬ومراكز الشرطة‬
‫كانت تبدو كالقالع حيث كانت تحيطها األسالك الشائكة‪.‬‬

‫وفي ذلك الوقت‪ ،‬كنت على قناعة من أن سعادة الناس‬


‫تكمن فقط في عيش بعضهم مع بعض بوئام‪ .‬وحلمت بمجتمع‬
‫مثالي حيث الناس يعيشون معا في سالم‪ .‬وعلمت بأنه ال مكان‬
‫للكراهية في عالم كهذا‪ .‬غير أني لم أتمكن من نسيان "محارق اليهود‬
‫‪ "Holocaust‬فكنت أريد تكريس حياتي للقتال من أجل نجاة وبقاء‬
‫شعبنا‪ .‬وكنت مستعدا للقتال ضد البريطانيين بأية وسيلة كانت‪.‬‬

‫وبمساعدة سامي تمكنت من أيجاد بعض األشغال العرضية‬


‫ُ‬
‫كنست الشوارع وحفرت‬ ‫في داخل وخارج مدينة تل أبيب‪ .‬فقد‬
‫‪75‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫الحفر ورممت الطرق واشتغلت في مختلف أعمال صيانة األبنية‪.‬‬


‫وكانت أعماال بدنية شاقة‪ .‬بعدئذ قابلت جماعة كانت تؤدي‬
‫األعمال نفسها في املدينة مستعملة البغال وعربات ّ‬
‫الجر‪ ،‬فلقيت‬
‫عمال عندهم‪ .‬فكنت أكسب حوالي ‪ 0.7‬جنيها استرلينيا في اليوم وقد‬
‫عملت ستة أيام في األسبوع‪ ،‬فكان هذا يعتبر ارتقاء درجة بالنسبة‬
‫لي‪ .‬وعندما كنت أستلم أجرتي أيام الجمع اعتدت على شراء الكتب‪.‬‬
‫وكنت أقرأ أيضا الكثير من الجرائد عندما كنت أجلس في القهوة‬
‫مع أصدقاء العمل في انتظار استالم مهمة عمل ثانية‪ .‬وكنت أهتم‬
‫بكل ما كان يجري وراء الكواليس‪ ،‬لكن بصورة عامة‪ ،‬كانت األنباء‬
‫تثيرني أزيد وأزيد حتى شعرت بضرورة التحرك‪.‬‬
‫‪76‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪11‬‬
‫القتال في سبيل البلد‬

‫كانت هناك ثالث منظمات سرية صهيونية في فلسطين آنذاك‪.‬‬


‫أولها كانت منظمة "هاجاناه ‪ "Haganah‬والتي أصبحت الحقا‬
‫الجيش اإلسرائيلي‪ .‬ومنظمة "إرجون ‪( "Irgun‬أو ‪Irgun Zvai-Leumi‬‬
‫أي املنظمة العسكرية القومية) التي كانت أكثر جادة وأصولية‬
‫وقومية‪ ،‬وترمي الى إقامة دولة يهودية على جانبي نهر األردن‪ .‬وقد‬
‫أعتقل البريطانيون الكثير منهم‪ ،‬وأعدموا قسما منهم بتهمة تنفيذ‬
‫أعمال إرهابية بحق البريطانيين‪ .‬وكانت هناك مجموعة أصغر‬
‫كذلك تدعى "لخي ‪( "Lechi‬أو ‪ Lohamei Herut Yisrael‬مقاتلي تحرير‬
‫إسرائيل)‪ .‬وكان البريطانيون يدعونها بجماعة "شتيرن ‪ "Stern‬على‬
‫اسم مؤسسها "أفراهام شتيرن ‪ ."Avraham Stern‬وكانت هذه‬
‫الجماعة ترى بأن البريطانيين كانوا األعداء الرئيسيين لهم‪ ،‬فأخذوا‬
‫يتعرضون على األهداف البريطانية أينما ومتى سنحت الفرصة لهم‪،‬‬
‫سواء كانت أهدافا عسكرية أو مدنية‪.‬‬
‫‪77‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫لدي أية أسرة في إسرائيل أردت تكريس حياتي‬ ‫وملا لم يكن ّ‬


‫للقتال من أجل نجاة وبقاء شعبنا‪ .‬فأعجبتني جماعة شتيرن‬
‫ورغبت في االنضمام إليهم‪ ،‬ولكنني لم أعثر على أي وسيلة لالتصال‬‫ُ‬
‫بهم‪ .‬وتمكنت مرة من االتصال مع منظمة إرجون‪ .‬فقد تم‬
‫اصطحابي بصورة سرية تامة الى منطقة فيها إعمار في مكان ما‪،‬‬
‫علي ضوء قوي فكانوا يستطيعون رؤيتي أما أنا فلم أستطع‬ ‫وس ِلط ّ‬ ‫ُ‬
‫رؤية من كان يستجوبني‪ .‬فسألوني‪" :‬هل تعلم ما هو هدف إرجون؟"‬
‫أما أنا فبقيت ساكتا‪ ،‬ألني لم أكن بالحقيقة منجذبا داخليا لهذه‬
‫الفكرة التي كلها مليئة بالتطلعات القومية الكبيرة‪ .‬ألن تفكيري‬
‫الرئيس ي كان منصب على ضرورة محاربتنا لإلمبريالية البريطانية‪.‬‬
‫فلذلك كنت ساكتا ولم أعرف ماذا أجيب‪ .‬باإلضافة الى أنني لم‬
‫أكن راغبا في االنضمام إليهم‪ ،‬ألني كنت أريد االنضمام الى جماعة‬
‫شتيرن باألحرى‪ .‬ثم قالوا لي‪:‬‬

‫هل تريد معرفة هدف إرجون؟ إن هدفها هو إقامة دولة‬


‫يهودية على جانبي نهر األردن‪ .‬هل تتفق مع هذا؟‬

‫فقلت بأني موافق‪ .‬وسبب عدم نجاحي في املقابلة كان واضحا‪.‬‬


‫فربما ألني كنت في سن السابعة عشرة في حينها‪.‬‬

‫في شهر نوفمبر من عام ‪0147‬م وصل التصويت على موضوع‬


‫تقسيم فلسطين الى دولة عربية وأخرى يهودية في األمم املتحدة الى‬
‫حيز التنفيذ‪ .‬والبلد كلها كانت في ترقب هائل لهذا التصويت‪ .‬فأتذكر‬
‫العديد من الناس وقفوا في شوارع تل أبيب يستمعون الى الراديو‬
‫‪78‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫حين أدلت كل دولة بصوتها‪ .‬واستمر التصويت ملدة طويلة حتى انني‬
‫سكنت في منطقة تبعد حوالي ثالثة‬‫ُ‬ ‫ذهبت للنوم أخيرا‪ .‬وقد‬
‫كيلومترات عن مركز مدينة تل أبيب‪ .‬إال أنني سمعت ضجيجا‬
‫فجائيا عاليا في منتصف الليل‪ .‬فأدركت بأن تصويت األمم املتحدة‬
‫انتهى لصالحنا‪ ،‬فنهضت من فراش ي واستأجرت سيارة أجرة متوجها‬
‫الى تل أبيب‪ .‬فكانت املدينة في ّ‬
‫أجل اغتباط لها‪ .‬وكانت اآلالف‬
‫ْ‬
‫وفتحت بعض املحالت أبوابها لتقديم املشروبات‬ ‫تجوب الشوارع‪.‬‬
‫مجانا؛ واصطف الناس يبتهجون‪ .‬وكانوا يرقصون في كل مكان‬
‫وسط املدينة‪.‬‬

‫وبقيت هناك في تل أبيب ملا تبقى من الليل‪ .‬وفي حوالي‬


‫الساعة السادسة أو السابعة صباحا سمعنا تقرير عن أولى‬
‫الضحايا‪ .‬فقد تم الهجوم على أحد الباصات الذي كان متوجها من‬
‫أورشليم الى تل أبيب ولقي العديد من الناس مصرعهم‪ .‬لقد وافق‬
‫معظم الجزء اليهودي من فلسطين على تقسيم البلد‪ ،‬إال أن معظم‬
‫العرب لم يوافقوا‪ .‬فقد شعروا بأنه قد تم االحتيال عليهم‪ ،‬وطبعا‪،‬‬
‫فأنهم كانوا يشكلون الغالبية من السكان في إسرائيل في ذلك‬
‫الوقت‪ .‬فكانوا يرون بأن البلد كلها كانت لهم ونحن كغرباء سلبنا‬
‫جزء من أرضهم‪ .‬فمنذ ذلك الوقت بدأ الصراع على نحو جاد‪ .‬وقد‬
‫وافق البريطانيون على قرار األمم املتحدة هذا واتفقوا على مغادرة‬
‫البلد في ‪ 05‬مايو عام ‪0148‬م‪.‬‬

‫وفي تلك الفترة املؤقتة‪ ،‬من نوفمبر ‪0147‬م ولغاية مايو‬


‫‪0148‬م‪ ،‬أخذت مختلف املنظمات السرية بالتعبئة فعال‪ .‬وفي تلك‬
‫األثناء صار القتال الرئيس ي بين اليهود والعرب‪ .‬وكان البريطانيون‬
‫‪79‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫يعدون العدة للمغادرة ولم يهتموا ملا كان يجري من أحداث بل‬
‫غضوا الطرف عنها‪.‬‬
‫وكانوا يتدخلون أحيانا لصالح إحدى الجهات‪ .‬وعلى ّ‬
‫مر عام‬
‫‪0148‬م كان القتال دائرا في كل أرجاء البلد بين اليهود والعرب‬
‫ملحاولة السيطرة على مختلف املدن أو مراكز الشرطة التي كانت‬
‫للبريطانيين سابقا‪.‬‬

‫وكنت متحمسا لالنضمام الى الصراع العسكري‪ .‬فلم نكن‬


‫نقبل بعد بأن ُيذبح املاليين من شعبنا كما حدث في عملية إبادة‬
‫اليهود‪ .‬فكنا نريد القتال في سبيل دولة إسرائيل وتأسيس وطن آمن‬
‫لشعبنا‪ .‬وتمكنت من االلتحاق بجيش هاجاناه وقاتلت في‬
‫مصادمات متعددة ولغاية إعالن وقف إطالق النار‪.‬‬

‫في ذلك الوقت نفسه‪ ،‬لم أكن على علم بعودة والدي الى‬
‫كنت ّ‬
‫أفضل‬ ‫أملانيا ساملا‪ ،‬أي لم تكن لي أية أسرة‪ .‬فلهذا السبب ُ‬
‫املوت في سبيل قضية كهذه بدال عن أي مواطن آخر له أهل أو‬
‫أسرة‪ ،‬فلذلك كنت أحاول التطوع في الجيش ألية مهمة كانت تبدو‬
‫خطرة‪ .‬فبهذا تدربت على زرع األلغام وما شابه ذلك‪ .‬ولم أكن ذو‬
‫خبرة كبيرة في األمر بل مجرد لكوني كنت في وحدة املتفجرات في‬
‫سرية "اإلسكندروني ‪ "Alexandroni‬في كتيبة رقم ‪ 22‬من الجيش‪.‬‬

‫وفي غضون شهر مايو من عام ‪0148‬م تمكنت أخيرا من‬


‫إقامة االتصال مع مجموعة شتيرن‪ .‬فقد تم استدعائي الى معسكر‬
‫قريب ثم تم عصب َّ‬
‫عيني ومقابلتي‪ .‬فأخبرتهم عما كان يقلقني عن‬
‫اإلمبريالية البريطانية ‪ -‬بأنها لن تسمح بدولة يهودية حرة ومستقلة‪.‬‬
‫‪81‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫فقبلوني وجئت للقتال جنبا الى جنب معهم‪ .‬ولكن بعد بضعة أيام‬
‫من إعالن دولة إسرائيل‪ ،‬طلبوا منا العودة الى وحداتنا العسكرية‪.‬‬

‫وقد اشتركنا في اشتباكات كثيرة‪ ،‬إال أن أكثرها خطورة كانت‬


‫تلك التي وقعت في بلدة تدعى "كفر سابا ‪ ."Kefar Sava‬ألن جزء من‬
‫البلدة كان يهوديا واآلخر عربيا‪ .‬وتضمنت مهمتنا هي االنقضاض على‬
‫الجزء العربي‪ .‬فذهبت وحدتي لزرع األلغام وحماية الطريق القادم‬
‫من مدينة قلقيلية القريبة لكي نتجنب أي اقتحام إلمدادات عربية‪.‬‬
‫وكانت املقاومة العربية أقوى من املتوقع‪ .‬ففي غضون دقائق قتل‬
‫وجرح العديد من رجالنا‪ .‬وأتذكر لحد اآلن كيف كان رفاقي يموتون‬‫ِ‬
‫ّ‬
‫أمام عيني‪ .‬وأمرنا آمرنا باالنصراف عن التل وإعادة تنظيم صفوفنا‬
‫ص ْب إسعاف‬ ‫في بستان مجاور‪ .‬وحاول قسم منا من الذين لم ُن َ‬
‫الجرحى‪ .‬وقد تمكنا بالرغم من النيران الكثيفة من نقل قسم من‬
‫رفاقنا املصابين الى مكان آمن نسبيا‪ .‬لكن تم تطويقنا هناك من‬
‫قبل العرب وانعزلنا عن فوجنا العسكري الذي كان في البستان في‬
‫بلدة كفر سابا‪.‬‬

‫فقرر آمرنا أخذ جماعة صغيرة معه والرجوع الى كفر سابا‬
‫لطلب التعزيزات‪ .‬فذهبت معهم إلرشادهم على الطريق الصحيح‬
‫الذي تخللته األلغام التي زرعتها أنا بنفس ي‪ .‬وفي أثناء رجوعنا هجم‬
‫العرب على الجنود اإلسرائيليين املحاصرين من وحدتنا العسكرية؛‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وألقيت‬ ‫فقتلوا الجنود الجرحى ومثلوا بهم (أي شوهوا جثثهم)‪.‬‬
‫باللوم على نفس ي لتركي إياهم هناك لوحدهم‪ ،‬حتى لو لم يكن‬
‫هناك أي ش يء يمكن القيام به إلنقاذهم‪ .‬فأصابتنا الصدمة‬
‫‪81‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫جميعنا بهذه التجربة‪ ،‬واشتعل سخط الكثيرين وانتظروا فرصة‬


‫تسنح لهم باالنتقام‪.‬‬

‫بعد أيام أو أسابيع الحقة رأيتنا في اشتباك ملحاولة أخذ‬


‫قرية "الطنطورة ‪ "Tantura‬وكانت هذه تقع حوالي ثالثين كيلومترا‬
‫جنوب مدينة حيفا‪ ،‬بالقرب من البحر‪ .‬وبعد عدد من املعارك‬
‫الضارية‪ ،‬تمكنا من السيطرة على املدينة‪ .‬وشاع بأن بعض رجال‬
‫القرية قد قتلهم اإلسرائيليين انتقاما للمذبحة التي حصلت في كفر‬
‫سابا‪ .‬وأنا شخصيا لم َأر قط أية أحداث قتل ولكن الشائعات أثرت‬
‫علي‪ .‬فكنت مصمما للقتال من أجل حقنا للعيش في هذا‬ ‫حتى ّ‬
‫البلد‪ .‬وكنت مستعدا جدا للقتال حتى ضد جيوش مصر واألردن‬
‫وبلدان أخرى‪ .‬فكنت على أهبة االستعداد لبذل حياتي لضمان حق‬
‫وجود دولة إسرائيل‪ .‬لكني كنت أرتعب من التفكير بأن الحقد‬
‫الوحش ي والتعطش لالنتقام الدموي بإمكانه أن يستولي على قلوب‬
‫الناس بسهولة‪.‬‬

‫طبعا‪ ،‬لم يكن هناك وقتا كافيا للتفكير بعمق في أمور كهذه‪.‬‬
‫ففي ذلك الوقت‪ ،‬لم أفكر بش يء إال بكيفية تقديم املزيد من‬
‫العطاء‪ .‬وكان هناك شابا في وحدتي يدعى "شموئيل َجتر ‪Schmuel‬‬
‫من كانوا يستعدون‬ ‫‪ "Getter‬وكان ينتمي الى مجموعة من الشباب م ْ‬
‫ِ‬
‫لتأسيس كيبوتس‪ ،‬فأراد االنضمام الى بقية تلك املجموعة والتي‬
‫كانت كلها جزء من قوات َبلماخ ‪ Palmach‬وهي بدورها كانت تعتبر‬
‫أفضل نخبة عسكرية في الجيش‪ .‬فمن ناحيتي‪ ،‬كنت آمل رؤية‬
‫أعمال وتحركات أكبر مع َبلماخ‪ .‬فتركنا وحدتنا العسكرية معا‬
‫ووجدنا الوحدة األخرى التي كان أصدقائه يخدمون فيها‪ .‬ولم أرد أن‬
‫‪82‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أقل لهم بأن اسمي كان يوسف ناخت لئال يكتشفوا حقيقة انتمائي‬
‫الى وحدة عسكرية مختلفة‪ .‬لذا قلت لهم بأن اسمي كان يوسف بن‬
‫عازر ‪ "Ben-Eliezer‬هو ابن أل َ‬
‫عازر الذي‬ ‫عازر‪ .‬ومعنى اسم "بن أل َ‬
‫أل َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كان حقيقة صحيحة‪ .‬وفعلتها ارتجاال في حينها من أجل تلك‬
‫اللحظة‪ ،‬إال أن اسمي بقي بن أل َ‬
‫عازر منذ ذلك الحين‪.‬‬ ‫ِ‬

‫وعندما كنت ضمن قوات َبلماخ كنت أصاحب غالبا‬


‫شموئيل وأصدقائه‪ .‬وكان ألولئك الشباب والشابات كل ش يء‬
‫مشترك فيما بينهم‪ .‬وبالرغم من أنهم كانوا في الجيش إال أنهم عاشوا‬
‫كجماعة متظافرة فيما بينهم داخل الجيش‪ .‬فكانت النساء تزودهم‬
‫بجميع أنواع املالبس؛ فكان بإمكانك أن تأخذ ما تحتاجه من‬
‫مالبس‪ ،‬وتعيدها لهم لتغسل‪.‬‬

‫وكان لوحدتنا العسكرية دورا بارزا في االستيالء على مدينة‬


‫"اللد ‪ "Lod‬قرب تل أبيب‪ .‬وهنا مرة ثانية‪ ،‬تعرضت قناعتي وتعرض‬
‫إيماني الزائد بالطبيعة البشرية إلى خيبة أمل كبيرة‪ .‬ألنه بعد أن تم‬
‫قهر املدينة كانت هناك بعض املناوشات في الشوارع‪ ،‬ولكن وفي‬
‫نهاية األمر‪ ،‬تم إصدار األوامر لكامل سكانها العرب بالرحيل‪ .‬فال‬
‫أزال أتذكر بوضوح تلك الصفوف الطويلة من الالجئين ‪ -‬رجال‬
‫يفرون نحو مستقبل مجهول‪ .‬وصارت وحدتي‬ ‫ونساء وأطفال وهم ّ‬
‫العسكرية في إحدى املرات تفتش بيوت أولئك الذين فروا من‬
‫املدينة بحثا عن أسلحة وعن ما هو نفيس‪ .‬وكانت األجواء مشدودة؛‬
‫وقد أساء أحد رفاقي تعامله مع العرب وبشكل حقود‪ .‬وفي تلك‬
‫اللحظة استرجعت ذاكرتي تجاربي السابقة وأنا صبي بعمر عشرة‬
‫سنوات حينما هربت أسرتي من بيتنا في بولندا‪ .‬أما هنا في إسرائيل‬
‫‪83‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫فاألدوار قد انعكست‪ .‬فقد ضرب أحد رفاقي فلسطينيا بحربته وقد‬


‫ُ‬
‫تذكرت والدي وهو ُيضرب‬ ‫ّ‬
‫واقشعر بدني حينما‬ ‫وخزني ضميري‬
‫بالطريقة نفسها من قبل جندي أملاني‪ .‬فقد هزتني تلك التجربة في‬
‫أعماق كياني‪ ،‬وتساءلت‪:‬‬

‫كيف يمكن للبشر معاملة اآلخرين بمثل هذه الطريقة؟‬

‫لقد رأيت اثنين من جنودنا ‪ -‬وهما بالحقيقة صبيان ‪ -‬أخذا بعضا‬


‫من العرب وأمراهم بحفر قبر‪ ،‬ثم أمراهم بالنزول إليه وبدآ‬
‫بتصويب بنادقهما إليهم‪ ،‬فصرخ العديد منا عليهما‪ ،‬فتركاهم من‬
‫صد ُ‬‫ُ‬
‫مت بالواقع املرير وهو أننا‬ ‫بعد ذلك يذهبون في سبيلهم‪ ،‬لكنني ِ‬
‫(نحن اإلسرائيليين) نبدو قادرين أيضا على اقتراف القبائح‬
‫ُ‬
‫والشائنات التي نسمع عنها تقترف من قبل شعوب أخرى في العالم‪.‬‬
‫فبقيت في دوامة من االضطراب‪ .‬ألن كل ما كنت أتمناه هو مجرد‬
‫القتال في سبيل دولة إسرائيل‪ ،‬ومجرد القتال في سبيل بقاءنا‬
‫ونجاتنا‪ ،‬وليس على حساب أذية الناس بشكل خبيث‪ .‬وهذان‬
‫الشابان لم يكن لهما أن يفعال شيئا من هذا القبيل في ظروف‬
‫حت القيم األخالقية‬ ‫طبيعية أبدا‪ ،‬لكننا كنا في وضع حيث قد ُطر ْ‬
‫ِ‬
‫في مهب الريح‪.‬‬
‫ُ‬
‫وفي أثناء ذلك الحين‪ ،‬حاولت مساعدة شخص عربي أجبر‬
‫على حفر الخنادق لنا‪ .‬وربما كان يعرف شيئا من العبرية ألنني‬
‫أتذكره يخبرني بأنه كان حالقا‪ .‬فقلت له أنه يمكنه الذهاب الى بيته‬
‫بسالم‪ ،‬لكنه كان قد َ‬
‫ض َّي َع أسرته بين الحشود املتدفقة الى خارج‬
‫املدينة‪ .‬وهنا تذكرت مرة ثانية كيف كان على أسرتي الفرار من‬
‫‪84‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫روزفادوف‪ ،‬فأحسست بش يء من االلتزام ملساعدته‪ .‬فاصطحبته‬


‫ماشيا خالل شوارع مدينة اللد الضيقة ومتنكبا بندقيتي الرشاشة‬
‫"شتين ‪ ."Sten‬فكان من الجنون حقا الخروج وحيدا بهذا الشكل؛‬
‫عرضت نفس ي للقتل وبسهولة‪ .‬على كل حال‪ ،‬مررنا‬‫ُ‬ ‫فبهذا كنت قد‬
‫في وسط املدينة ووجدنا أسرته أخيرا مع كل أمتعتهم محملة على‬
‫عربة حصان‪ .‬ورافقتهم ليصلوا الى طرف املدينة بأمان‪ ،‬غير أنني لم‬
‫حل بهم بعد ذلك‪ .‬فلذلك كانت هناك الكثير من املعاناة‬‫أعلم ماذا ّ‬
‫وحتى الوحشية‪ ،‬ولكن كانت هناك أيضا بعض من اللحظات التي‬
‫فاز فيها اإلحسان‪.‬‬

‫وقد مرضت كثيرا بعد العملية العسكرية في مدينة اللد‬


‫بوقت قصير‪ .‬وفي البداية‪ ،‬لم أعرف ماذا ّ‬
‫حل بي‪ ،‬غير أن الطبابة‬
‫أدركت أخيرا إصابتي بمرض املالريا‪ .‬وفي ذلك الوقت‪ ،‬نفدت قواي‬
‫كثيرا ولم أقدر على القيام بأي ش يء‪ .‬وبعد مض ي بضعة أسابيع في‬
‫املستشفى في قسم عالج الكينين تمكنت من إعادة االنضمام إلى‬
‫رفاقي‪ ،‬لكن األمور بدأت تتغير‪ .‬فقد تم إعالن وقف إطالق نار ولم‬
‫يتبقى أي قتال فعال بعد ‪ -‬على األقل في ذلك الوقت‪ .‬كما تغيرت‬
‫األجواء في وحدتي العسكرية كذلك‪ .‬فكان لنا دائما إحساسا ّ‬
‫قويا‬
‫بالزمالة؛ حيث كان كل من الضباط والرجال املجندين معا وعلى‬
‫حد سواء‪ .‬لكن الجيش اإلسرائيلي بدأ في ذلك الحين في االندماج‬
‫وأخذ يشدد على النظام العسكري التقليدي‪ .‬فاصبح التدريب‬
‫متشددا وميكانيكيا‪ .‬وعلى كل حال‪ ،‬لم أشعر بعدئذ بأنني قريب‬
‫عد ُت‬
‫جدا نفسيا من رفاقي في وحدتي العسكرية في َبلماخ‪ ،‬فلذلك ّ‬
‫ُ‬
‫عوقبت‬ ‫الى وحدتي في لواء اإلسكندروني‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬فقد‬
‫لتركي إياهم‪ ،‬لكن الضباط تساهلوا معي‪ ،‬ألنه لم يكن دافعي سوى‬
‫‪85‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ُ‬
‫وتوسلت إلعادتي الى وحدتي السابقة ‪-‬‬ ‫االشتراك بمعارك أقوى‪.‬‬
‫وحدة املتفجرات‪ ،‬والتي كانت تحشد صفوفها في الوقت نفسه‬
‫لغرض القيام ببعض العمليات في صحراء النقب‪ .‬وكان ذلك في‬
‫أواخر عام ‪0148‬م تقريبا‪ .‬وكانت‪ ،‬وحسبما أظن‪ ،‬آخر معركة ضارية‬
‫للحرب‪.‬‬

‫وظلت قريتين في صحراء النقب تحت سيطرة وحدات‬


‫عسكرية مصرية بقيادة جمال عبد الناصر الذي صار رئيسا‬
‫لجمهورية مصر الحقا‪ .‬وكان لدى وحدتي العسكرية أسلحة جديدة‬
‫غير مجربة‪ ،‬أال وهي قاذفات اللهب‪ .‬وكان لدينا العديد منها‪ ،‬لكنها‬
‫خطرة بسبب عدم وجود أي أحد منا من عرف فعال كيفية‬ ‫كانت ِ‬
‫استعمالها‪ .‬وقد تم تسليم أحدها الى أحد الفتيان في وحدتي‬
‫العسكرية والذي كان اسمه ديفيد‪ .‬وبدا بكل وضوح أنه خائف من‬
‫القاذفة‪ ،‬وقد علمت بأنه كان وحيدا ألهله‪ ،‬فتطوعت الستالم‬
‫القاذفة بدال عنه‪ ،‬فوافق آمرنا‪ .‬ولفجعته‪ ،‬فقد قتل ديفيد في أول‬
‫هجوم على قرية "عراق املنشية ‪ ."Iraq-Manshir‬وفي تلك األثناء‬
‫كنت أحمل هذا السالح الذي كان عديم الفائدة وثقيال ‪ -‬قاذفة‬
‫اللهب ‪ -‬طوال الليل وتحت املطر الغزير‪.‬‬

‫ظل ديفيد على قيد‬ ‫وأحيانا كنت أشعر بالذنب‪ :‬فربما ّ‬


‫الحياة لو لم أبدل مكاني معه‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬فأنا اآلن ممنون‬
‫هلل للغاية على أعجوبة بقائي على قيد الحياة لحد اآلن بعد أن‬
‫وضعت نفس ي متعمدا في الخطر مرات عديدة‪ .‬ولكوني كنت في‬
‫وحدة املتفجرات فلم أقتل قط أي شخص عن قرب‪ ،‬إال أنني كنت‬
‫أعاني كثيرا حينما أتذكر رفاقي يموتون في املعركة‪ .‬وكذلك وفي ذلك‬
‫‪86‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫علي مشاعر الكدر والشعور بالذنب لوفاة‬‫الوقت نفسه كانت تخيم ّ‬


‫أمي وملصير أبي املجهول‪ .‬فلم أقدر على التغلب على ذلك االضطراب‬
‫الداخلي ولم تحسن املالريا التي أصبت بها األمور لكنها جعلتها أسوأ‪.‬‬

‫وبالحقيقة‪ ،‬فإن أختي وبقية أفراد األسرة تركوا كل ش يء‬


‫لكي يمدوني بالدعم مرة أخرى في ذلك الوقت العسير جدا‪ .‬وقد‬
‫ذهبت الى الطبيب النفساني في الجيش عدة مرات وتركت الجيش‬‫ُ‬
‫في يناير من عام ‪0141‬م‪ .‬وطبعا‪ ،‬فقد انتهت أغلب املعارك في ذلك‬
‫الوقت‪ ،‬وكانت إسرائيل تتفاوض مع الدول العربية حول الهدنة‪.‬‬
‫ُ‬
‫أخذت أفكر بعدئذ بكل ما فعلناه‪ .‬فقد جئنا الى‬ ‫وسرعان ما‬
‫إسرائيل‪ ،‬وما أردناه كان ليس سوى الحياة بسالم مثل اآلخرين ‪-‬‬
‫فلماذا ال يحق لنا أن نتمتع بهذا الحق؟ ‪ ...‬وألننا كنا نريد أن نحيا‪،‬‬
‫فكان ذلك يعني اجتثاث غيرنا من الناس بصورة مباشرة أو غير‬
‫مباشرة‪ ،‬وجعلهم يعيشوا في مآس ي وحياة مزرية‪ .‬وبدأت أفهم األمور‬
‫أكثر وأكثر وخرجت بنتيجة مفادها أنني لن أسبب مرة ثانية األذية‬
‫لآلخرين أبدا مهما كانت القضية نبيلة وسامية‪.‬‬
‫‪87‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ليو والوالد ويوسف‬

‫‪12‬‬
‫جمع الشمل‬

‫بعد أن تركت الجيش سمعت عن والدي وعنوانه بصورة غير‬


‫متوقعة‪ ،‬وصار لدي اتصال بريدي معه‪ .‬ألنه‪ ،‬قبل ذلك الحين‪ ،‬كان‬
‫قد نجح في الوصول الى مدينة فرانكفورت في أملانيا من مدينة‬
‫سمرقند في أوزبكستان‪ .‬فقد سافر مع أخي األكبر مني ومع أختي (في‬
‫مرحلة الفوض ى التي خلفتها الحرب العاملية الثانية) ومروا بدولة‬
‫بولندا وبدولة النمسا وتمكنوا من الوصول الى أملانيا‪ .‬وفي غضون‬
‫تلك األثناء كان كل من أخي وأختي قد تزوجا‪ .‬وكان ألختي بنتا‪ .‬فقد‬
‫‪88‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ذهبوا كلهم الى أملانيا للمطالبة باسترداد ممتلكاتهم هناك‪ .‬وتمكنوا‬


‫كذلك من الحصول على تعويض مالي‪.‬‬

‫وقد دعاني أبي للمجيء الى أملانيا‪ .‬والوصول الى أملانيا كان‬
‫سهال في تلك األيام ‪ -‬وحتى الى أوروبا ‪ -‬ولم يعلم أحد بموعد‬
‫وصولي‪ .‬وقد تمكنت من السفر جوا الى باريس‪ ،‬ومن ثم وبطائرة‬
‫صغيرة ذات ‪ 31 - 05‬راكبا الى بلجيكا‪ ،‬ومنها تابعت السفر الى‬
‫فرانكفورت‪ .‬وكان هذا هو الطريق الوحيد الى فرانكفورت ألنه لم‬
‫ُ‬
‫تعجبت‪ ،‬بعد سنين‬ ‫يكن بمقدورك الذهاب من خالل باريس‪ .‬وقد‬
‫عديدة الحقة‪ ،‬من مساحة مطار فرانكفورت الجسيمة؛ ألن مبنى‬
‫املطار كان مجرد كوخ صغير آنذاك‪ .‬وعندما تركت إسرائيل لم أقدر‬
‫أن آخذ معي أكثر من ‪ 01‬جنيهات إسترلينيه‪ ،‬حتى أني أنفقت أغلبها‬
‫في الطريق‪ .‬فكنت وبكل بساطة أسأل الناس عن إرشادات الطريق‪،‬‬
‫ومتنكبا حقيبة الظهر وماشيا أبحث عن بيت أبي‪.‬‬

‫ووجدت أخيرا العنوان "‪ "Sandweg 46‬وكان أبي يمش ي أمام‬


‫الدار هناك‪ .‬ولم يتغير شكله كثيرا‪ ،‬إال أنني باعتباري ابنه‪ ،‬الذي كان‬
‫يعرفه من زمان سمرقند‪ ،‬ذلك الصبي الشاحب الوجه والهزيل‪ ،‬قد‬
‫إلي متسائال‪" :‬من عساه أن يكون‬ ‫توارى تماما‪ .‬فتوقف وأخذ ينظر ّ‬
‫ذاك الشاب ذو ال ‪ 30‬عاما ممن يتسكع أمام داره"‪ .‬فدنوت منه‬
‫وقلت له‪" :‬أبي!" فاحتضنني‪ ،‬ثم اندفع كل من أخي وأختي من داخل‬
‫الدار لينضموا إلى جمع الشمل ذاك‪ ،‬الذي مألته الدموع‪ ،‬بعد ‪7‬‬
‫سنوات من االنفصال املؤلم‪.‬‬

‫عندما كنت صبيا لم تكن عالقتي مع أبي جيدة‪ .‬فكان لدينا‬


‫في أكثر األحيان خالفات حين كان يسعى عبثا ترويض طبيعتي‬
‫‪89‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫الثائرة‪ .‬وفي لحظة وغمضة عين تطايرت كل هذه األمور ولم يكن‬
‫هناك حاجة للحديث عنها بعد‪ .‬وكان مستعدا لعمل أي ش يء‬
‫ملساعدتي‪ .‬وأتذكر كيف أخرج‪ ،‬وبكل افتخار‪ ،‬ساعة ذهبية ثمينة‬
‫أعدها خصيصا لي كهدية لترحيبي‪ .‬وبمجرد أن رأيت أبي وأخي‬‫قد ّ‬
‫وأختي على قيد الحياة ساعدني ذلك على التغلب على مشاعر‬
‫الذنب ّ‬
‫لدي جراء تركي لهم في سمرقند‪.‬‬

‫وفي خضم وضع ما بعد الحرب‪ ،‬فقد تمكن والدي من‬


‫إقامة تجارة مربحة في السكائر وغيرها من السلع النادرة‪ .‬وأرادني أن‬
‫أشاركه في العمل‪ ،‬لكنني ومع مثالياتي وقيمي ومبادئي‪ ،‬رأيت بأنني‬
‫يجب أن آكل خبزي من خالل عملي وليس من خالل محاولة ربح‬
‫األموال باملتاجرة‪ .‬وأردت تعلم إحدى الحرف فوجدت شغال كبناء‬
‫قرميد‪ .‬واستمريت في هذا العمل مدة ستة أشهر الى أن ُ‬
‫لويت كاحلي‬
‫بشكل غبي مما اضطرني الى التوقف عن العمل‪.‬‬

‫ومجرد وجودي في أملانيا كان زمنا مهما بالنسبة لي‪ .‬ألنني لم‬
‫ألتق بأي شخص أملاني منذ طفولتي وكانت لدي فكرة سيئة عنهم‬ ‫ِ‬
‫وأنهم كانوا مهووسين مرضيا أو أنهم حيوانات‪ .‬وإال فكيف لهم أن‬
‫يرتكبوا فظائع مذابح اليهود؟‪ ...‬لكن العيش والعمل مع األملان بدأ‬
‫يلين ويخفف هذه النظرة‪ .‬فكان أستاذ بناء القرميد الذي اشتغلت‬
‫عنده شخصا لطيفا‪ ،‬وإنسانا عاديا تماما‪ .‬لكن مجرد التفكير بأنه‬
‫كان يمكن أن يكون نازيا أو حتى في قوات ‪( SS‬أي القوات الخاصة‬
‫في الجيش النازي) كان يرتعش له البدن‪ .‬ومما الشك فيه أن‬
‫أشخاصا مثل "أدولف هتلر ‪َ "Adolf Hitler‬و "هاينريش هيملر‬
‫‪91‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪ "Heinrich Himmler‬كانوا قد كرسوا حياتهم متعمدين لخدمة‬


‫الشر‪،‬‬

‫لكن ما الذي جعل الكثيرين من األملان يقبلون هذا الشر‬


‫وحتى الى درجة دعمه؟‬

‫كان ّ‬
‫علي أن أتذكر ذينك الصبيين (الجنديين اإلسرائيليين) من‬
‫مدينة اللد‪.‬‬

‫فما هي يا ترى تلك القوة التي تطلق العنان لوحشية كهذه‬


‫في قلب اإلنسان؟‬

‫ألنه في تلك الحاالت التي ينعدم فيها التقيد الخلقي‪ ،‬نرى الناس‬
‫يتحولون فيها الى ما أشبه باملهووسين املرض ى‪.‬‬

‫وفي الوقت نفسه‪ ،‬كنت أعلم بضرورة عدم نسياني ملا حدث‬
‫في مذابح اليهود‪ .‬فقد مات اثنين من أوالد عمي في أحد معسكرات‬
‫االعتقال؛ وقد ماتت أمي ولقى العديد من الناس اآلخرين حتفهم‬
‫بسبب الجوع واملرض في روسيا‪ .‬وقد اشتريت كتابا يحتوي على‬
‫صور من مشاهد مختلفة عن مذابح اليهود‪ .‬وكنت أتصفحه‬
‫باستمرار ليس لش يء وإنما مجرد ألتذكر‪ .‬واآلن‪ ،‬فقد انحفرت هذه‬
‫الصور بذاكرتي‪.‬‬

‫وبعد خمسين عاما‪ ،‬فال تزال األوجاع النفسية تجتاحني‬


‫أحيانا من جرائها‪ .‬لقد حظيت بفرص عديدة لزيارة متحف مذابح‬
‫‪91‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫اليهود في واشنطن‪ ،‬إال أنني لم أقتدر على الذهاب إلى هناك‪ .‬وقبل‬
‫عدة سنوات قمت بزيارة "متحف دياسبورة ‪"Diaspora Museum‬‬
‫في تل أبيب ‪ -‬إسرائيل‪ ،‬ولكنني لم أقتدر على البقاء هناك طويال؛‬
‫ّ‬
‫التحمل‪ .‬هذا وأن الصور التي‬ ‫ألن الصور كانت أكبر من طاقتي في‬
‫في ذهني هي كذلك ش يء أكثر مما أتحمله أحيانا‪ .‬وأنا ال أرتعد لحال‬
‫أولئك الذين تأملوا فقط بل أيضا لحال أولئك الذين فعلوا تلك‬
‫األعمال الرهيبة‪ .‬وأرتعد لوجود قوة مقتدرة تعمل في العالم والتي‬
‫تجعل الناس يفعلون أشياء رهيبة كهذه‪.‬‬
‫‪92‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ويودت‬
‫يوسف ِ‬

‫‪13‬‬
‫ويستمر البحث‬

‫كنتُ في ألمانيا مدة عام من الزمن‪ ،‬من أغسطس عام ‪0141‬م‬


‫ولغاية ‪0151‬م‪ .‬وقد قضيت كل ذلك الوقت مع أبي وأخي املتزوج‬
‫وأختي املتزوجة‪ ،‬لكن‪ ،‬وبعد الحادثة التي أصابتني في كاحلي‪ ،‬صرت‬
‫غير متأكد عما سأفعله‪ ،‬فلم أتأقلم في أملانيا بالحقيقة‪ ،‬فلذلك‬
‫قررت العودة الى إسرائيل‪ .‬وكنت بأية حال‪ ،‬مقتنعا بالصهيونية‪،‬‬
‫وكنت أفضل إسرائيل على أملانيا ألن إحساس ي كان أن إسرائيل‬
‫كانت على األقل هي بلدي‪ .‬فقبل كل ش يء‪ ،‬كنت أتقن اللغة العبرية‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وكنت أحس أيضا بأنني وأيضا الشعب اليهودي بأسره‪ ،‬كان لدينا‬
‫هدف ومصير نسعى لتحقيقه‪ .‬أما هللا فلم يكن لدي أيمان به‪،‬‬
‫لكنني أردت العيش من أجل ش يء أكبر مني‪.‬‬

‫عندما رجعت الى إسرائيل‪ ،‬بدأت أسأل نفس ي‪" :‬ملاذا أحاول‬
‫دائما أن أكون مختلفا عن أي شخص آخر؟" فقلت في نفس ي بأنني‬
‫ّ‬
‫والتكيف مع املجتمع العادي مثل‬ ‫يجب أن أحاول مجرد االنخراط‬
‫اآلخرين‪ .‬فقمت بزيارة صديقي القديم يعقوب فنكلشتاين الذي كان‬
‫شخصا يعرف كيفية التأقلم مع الدنيا أكثر مني‪ .‬فقررنا املباشرة‬
‫بمصلحة تجارية معا‪ .‬وكان عندي شيئا من املال من أبي‪ ،‬أما هو‬
‫فكان يعرف كيفية تسيير املصلحة‪ .‬فاشترينا عددا من مكائن صنع‬
‫البوظة‪ ،‬وأعدينا محال تجاريا لها‪ .‬ولكوني كنت سابقا في الجيش‬
‫فكان بمقدوري الحصول على التصاريح املطلوبة للحصص‬
‫التموينية‪.‬‬

‫وحققت مصلحتنا نجاحا ال بأس به‪ ،‬ولكنني‪ ،‬وبعد مض ي‬


‫سنة‪ ،‬طفح بي الكيل ولم أقتدر على االستمرار أكثر‪ .‬فلم تكن هذه‬
‫املصلحة التجارية هي الهدف الحياتي الذي كنت أرمي إليه‪ .‬فأنهينا‬
‫شراكتنا وافترقنا كأصدقاء‪ .‬فكانت شخصية كل منا مختلفة تماما‬
‫عن اآلخر؛ فقد كان يعقوب راغبا جدا في االندماج في املجتمع‬
‫ليحصل على أقص ى استفادة منه‪ ،‬أما أنا فلم أقدر على أن أقتنع‬
‫أساسا بأسلوب ّ‬
‫الكد ملجرد املش ي يوم ‪ -‬فيوم خالل الحياة‪ ،‬وأن ال‬
‫يكون لي رؤية واسعة النطاق‪.‬‬

‫وكانت الكتب واملسرحيات واألفالم التي أثرت ّفي بعمق‬


‫تعكس كل صراعاتي الداخلية في ذلك الوقت‪ .‬فعندما يفقد "ليني‬
‫‪94‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪ "Lennie‬السيطرة على ذاته ويقتل صديقه في رواية "فئران ورجال‬


‫‪ "Of Mice and Men‬للكاتب األمريكي "جون ستاينبيك ‪"Steinbeck‬‬
‫فهو يبدو لي وكأنه يصرخ من أجل معاناة الجنس البشري بأسره‪.‬‬
‫فالسؤال هو‪:‬‬

‫ما الذي يمنع الناس عن العيش بانسجام ووئام معا؟‬

‫وكان للموضوع نفسه صدى في داخلي من خالل قراءتي لرواية‬


‫الكاتب والفيلسوف الفرنس ي "سارتر ‪ "Sartre‬والتي هي بعنوان "ال‬
‫مخرج ‪ "No Exit‬حين تم إجبار ثالثة أشخاص على العيش معا‬
‫وتمكن كل منهم من جعل حياة اآلخرين مزرية‪ .‬وفي نهاية املسرحية‬
‫يعلق أحد الشخوص قائال‪" :‬الجحيم هو اآلخرين"‪ .‬إال أنني لم َأر‬
‫قط القضية امللتهبة في صدري في ذلك الوقت قد تم التعبير عنها‬
‫بشكل مؤثر سوى في رواية "األبله ‪ "The Idiot‬للكاتب الروس ي الكبير‬
‫"دوستويفسكي ‪ ،"Dostoyevsky‬حين يطلق األمير "مايشكين‬
‫‪ "Myshkin‬صرخة من قلبه املمزق‪:‬‬

‫ملاذا ال يقدر الناس على العيش معا؟‪ ...‬ملاذا ال يقدر الناس‬


‫أن يستمع بعضهم لكالم بعض؟‬

‫فصرت أفتش أكثر وأكثر بين املثل العليا وبين املثاليين‪ .‬أما الحركة‬
‫الصهيونية االجتماعية فلم تجذبني‪ .‬فقد رأيت أن األجواء قد تغيرت‬
‫باملقارنة مع حركة كيبوتس األولية حين كان على الصهيونيين‬
‫الشباب التغلب على جميع أنواع املخاطر والعقبات ليكسبوا قوتهم‬
‫اليومي‪ .‬ففي املدة التي قضيتها في قوات َبلماخ رأيت جميع أولئك‬
‫‪95‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫الشباب يجمعون غنائم الحرب لكيبوتسهم الجديد‪ .‬وكانوا‬


‫يتحدثون عن االشتراكية واإلخاء بين الناس غير ان األمر بدا لي‬
‫ُ‬
‫أبعدت عني فكرة‬ ‫وكأنه نهب بحت‪ .‬فبعد أن رأيت كل ذلك‬
‫االنضمام الى أي كيبوتس مهما كان بل حتى لم أرغب فيها‪.‬‬

‫بدأت أقرأ الكثير من الكتابات املاركسية وتحدثت كثيرا مع‬


‫سامي‪ .‬وأقنعني أكثر وأكثر بأن الفلسطينيين سوف يكرهوننا دائما‬
‫قوى ظنوني‬ ‫كرد فعل على املشروع الصهيوني‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬فهو قد ّ‬
‫بأن جهودنا الرامية لتأسيس وطن لنا سوف ال تتحقق إال من خالل‬
‫تمزيق حياة اآلخرين‪ .‬لكن‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪ ،‬كنت أحاول غالبا‬
‫التجادل معه لكي أبرهن أنني كنت ال أزال قادرا على العيش في‬
‫إسرائيل والعمل من أجل املصالحة في آن واحد‪ ،‬وعدم االشتراك في‬
‫علي مجادال أن ما قد أغضب الفلسطينيين‬‫العنف‪ .‬إال أنه كان يرد ّ‬
‫هو ليس أعمال الفرد اإلسرائيلي سواء كانت صالحة أو طالحة‪ ،‬بل‬
‫هو النظام القائم‪ ،‬الذي هو بالتحديد تواجد دولة إسرائيل التي‬
‫أزاحتهم‪.‬‬

‫وبدأت أشعر شيئا فشيئا بأن املشكلة هي ليست مشكلة‬


‫على الصعيد القطري فحسب بل إنها حتى تخص‪ ،‬بالحقيقة‪ ،‬مصير‬
‫اإلنسانية بأكملها‪ .‬وبدأت آخذ بنظر االعتبار تاريخ األمة اليهودية‬
‫على مر القرون‪ .‬فمن جهة‪ ،‬كانت إسرائيل أمة مثل غيرها من األمم‬
‫األخرى‪ ،‬ومؤلفة من بشر مثل غيرهم من البشر‪ .‬وفي أكثر من مرة‪،‬‬
‫سعى الناس لتوطيد كيانهم بالقوة والجبروت‪ .‬غير أن الشعب‬
‫اليهودي كان دائما على علم بوجود مهمة أخرى له‪ ،‬أال وهي أن‬
‫الب ّر والعدل بين الشعوب‪ .‬وكانت هناك‪،‬‬ ‫يكونوا مثاال صالحا من ِ‬
‫‪96‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫باستمرار‪ ،‬أصواتا نبوية تدعو الناس إلى العودة الى هذه املهمة‬
‫ُ‬
‫وكنت ال أزال حينها مقتنعا باإللحاد‪ ،‬إال أن شيئا ما من‬ ‫املتميزة‪.‬‬
‫ذاك القبيل بدأ يعمل في داخلي‪.‬‬

‫وطبعا‪ ،‬كان عمي حايم سيمحا شاهدا على كل ما كنت‬


‫أخوضه من صراعات‪ .‬وبينما ازداد إحساس ي أكثر وأكثر بضرورة‬
‫مغادرة إسرائيل للبحث عن جواب وحل أعمق ملعاناة البشرية‬
‫حاول عمي إقناعي بالعدول عن السفر‪ .‬وقال لي أن معاناة الناس‬
‫هي نفسها أينما ذهبنا؛ وال أحتاج الى السفر بعيدا ألنشد ضالتي‪.‬‬
‫غير أنني كنت غير مرتاح البال وشعرت بضرورة مغادرتي إلسرائيل‬
‫للعثور على الوضوح الذي كنت أنشده‪ .‬أخيرا‪ ،‬قال لي وهو حزين الى‬
‫حد ما‪:‬‬

‫هاهنا شخص آخر في أسرتنا ِمم ْن يبحث عن املسيا (أي‬


‫املسيح)‪.‬‬

‫وربما كان يشير بذلك الى مثاليات أيام شبابه أو ربما الى ابن عمي‬
‫"اليبش ‪ ."Leibich‬ففي العشرينيات ذهب اليبش الى فلسطين‪ ،‬وقد‬
‫طرد من البلد العتناقه الشيوعية‪ .‬فرجع الى بولندا‪ ،‬لكنه ذهب في‬
‫نهاية املطاف للقتال في حرب إسبانيا األهلية ولم َي ْ‬
‫عد مطلقا‪ .‬فربما‬
‫كانت توجد هناك خاصية وراثية وراء كل الباحثين والحاملين في‬
‫أسرتنا؛ أو لعلها هي في طبيعة الشعب اليهودي‪ .‬فال أعتقد أنها‬
‫مجرد من قبيل املصادفة أن يكرس الكثير من اليهود أنفسهم‬
‫ملختلف حركات التحرر والعدالة في أرجاء العالم كله‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫على أية حال بدأت االستعداد ملغادرة إسرائيل‪ .‬وأردت‬


‫الذهاب الى باريس‪ .‬فكانت باريس في مرحلة ما بعد الحرب ملتقى‬
‫للكثير من لهم خلفيات قومية مختلفة وذوي األيديولوجيات‬
‫وكنت آمل في الحصول على عمل ككاتب طابعة في اللغة‬‫ُ‬ ‫املتنوعة‪.‬‬
‫الييدية (وهي لغة يهود أوروبا) للمطابع التي كانت تسمى "‪Lino-‬‬
‫‪ ،"typist‬فقضيت ستة أشهر أتدرب على هذه الحرفة‪ .‬وعملت ليال‬
‫ونهارا لتعلم اللغة الفرنسية‪ .‬وأخيرا‪ ،‬تركت إسرائيل الى باريس في‬
‫مايو من عام ‪0152‬م‪.‬‬
‫‪98‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪14‬‬
‫جماعة باريس‬

‫االتصال الوحيد لي في باريس كان مع ابنة خالي "بيرتا ‪"Berta‬‬


‫والتي انتقلت الى هناك من إسرائيل بعام واحد قبلي‪ .‬وعن طريقها‬
‫تعرفت على "يعقوب هالبرين ‪ "Halperin Jakob‬الذي تزوج بيرتا‬ ‫ُ‬
‫الحقا‪ .‬وكان يعقوب متكلما موهوبا‪ ،‬وكان يترأس جماعة ملتزمة من‬
‫اللينينيين في باريس (اللينينية هي مذهب الثوري املاركس ي الروس ي‬
‫لينين في الشيوعية)‪ .‬وعندما أعود بذاكرتي الى املاض ي‪ ،‬فأستطيع‬
‫أن أرى أن بيرتا وبعض من أصدقائها في تل أبيب قد راقبوني سابقا‬
‫على أمل زجي في جماعتهم اللينينية‪ .‬فقد تكلمنا معا قبل سفرها‬
‫حول األمور التي تشغلني وحول فكرة مغادرتي إلسرائيل‪ .‬غير أنني لم‬
‫أعلم في وقتها بضلوعها بأشياء كهذه‪ .‬فكنت أفترض بأنها كانت‬
‫ودودة معي مجرد ألنها ابنة عمي وأيضا بسبب تقاسمنا لبعض‬
‫األفكار املماثلة‪ .‬وعند وصولي الى باريس كنت منفتحا أكثر على‬
‫مثالياتهم الشيوعية‪.‬‬
‫‪99‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫كان ليعقوب القدرة على التغلب على أي شخص تقريبا‪،‬‬


‫ولم يشاطره أحد في النقاش‪ .‬فكان يجيد كل من اللغة الروسية‬
‫والبولندية والعربية والعبرية واألملانية وغيرها من اللغات وبصورة‬
‫جيدة‪ .‬وكان واسع االطالع الى درجة كبيرة ولديه معرفة عميقة عن‬
‫األدب التقليدي الرفيع‪ .‬وكان لينين مثاله النموذجي‪ .‬وقد انتقد‬
‫"تروتسكي ‪َ "Trotsky‬و "ستالين ‪ "Stalin‬وغيرهما من القادة‬
‫الشيوعيين بسبب خيانتهم لرؤية لينين‪ .‬وكان مقتنعا جدا باملثاليات‬
‫وكرس حياته كلها من أجل الثورة الشيوعية‪ .‬وفي الحقيقة‪ ،‬كان هو‬
‫على استعداد الستخدام أية وسيلة كانت لتحقيق هدفه في إنشاء‬
‫مجتمع عادل‪.‬‬
‫ُ‬
‫وانخرطت أنا في تلك الجماعة املتناقضة مدة ثالثة أشهر‪.‬‬
‫وقد تزاملنا كثيرا‪ ،‬وأكلنا معا وتقاسمنا تقريبا كل ش يء‪ .‬إال أن‬
‫الحلقة كانت مراقبة نوعا ما‪ .‬وكنا نجتمع في مجاميع للنقاش‬
‫سرية‪ ،‬ولم يكشف بعضنا اسمه أو خلفيته لبعض‪ .‬وكانوا‬ ‫بصورة ّ‬
‫يصدرون منشورات لتعزيز مسألة "الشيوعية الحقيقية"‪ ،‬لكنها‬
‫كانت ضد ستالين أكثر من كونها ضد الرأسماليين‪ .‬وقالوا‪" :‬نعم‪،‬‬
‫نحن جماعة صغيرة‪ ،‬ففي روسيا كانوا أيضا مجرد قلة من الناس‬
‫إال أن تلك الحركة ْ‬
‫نمت‪ .‬وعلينا أن نكون في طليعة الجماهير ومن‬
‫ثم سيتبعوننا"‪.‬‬

‫بعد ثالثة أشهر انتقلت من هناك ألعيش مع أخي وأختي في‬


‫ْ‬
‫بودي املكوث أكثر مع الجماعة في باريس أال أنني‬ ‫فرانكفورت‪ .‬كان‬
‫لم أقدر على الحصول على إذن بالبقاء في فرنسا‪ .‬وفي غضون تلك‬
‫يودت من القدوم من إسرائيل في أول زيارة لها‪،‬‬ ‫ْ‬
‫الفترة تمكنت أختي ِ‬
‫‪111‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫فالتقينا أخيرا نحن اإلخوة األربعة مرة ثانية بعد كل تلك السلسلة‬
‫من رحالت السفر الطويلة واملشتتة في أوروبا وآسيا‪ .‬وربما أمضيت‬
‫ستة أشهر في أملانيا‪ ،‬إال أنني لم أعثر على عمل هناك وكنت ال أزال‬
‫أتشوق إلى العودة الى رفاقي في باريس‪.‬‬

‫في بداية عام ‪0154‬م ساعدني أصدقائي في التسلل والعودة‬


‫الى فرنسا‪ .‬فقد عبرت أوال الحدود الى بلجيكا بطرق ملتوية ومن ثم‬
‫الى فرنسا‪ .‬وكل ش يء مض ى على ما يرام‪ ،‬إال أن ما يثير السخرية هو‬
‫أن مشاكلي بدأت بعد وصولي باريس‪ .‬فلم يكن هناك أحدا في‬
‫املحطة ليقابلني على النحو املخطط له‪ ،‬ولم يكن لي أي مكان أبات‬
‫أرد أن أثير التساؤالت والشكوك بتسكعي في املحطة‪،‬‬ ‫الليل فيه‪ .‬ولم ْ‬
‫فأخذت أتمش ى نحو منطقة في باريس تكثر فيها الحياة الليلية‪.‬‬
‫وبحلول ذلك الوقت أصبح الوقت متأخرا جدا‪ ،‬فاستقريت على‬
‫مقعد مصطبة في انتظار الصباح‪.‬‬

‫بعد قليل جاءني رجل وباشر الحديث معي‪ .‬وكان هذا الرجل‬
‫أجنبيا أيضا وروى لي كيف قد أسيئت معاملته‪ .‬وزاد تعاطفي معه‬
‫الى درجة الغباء املطلق‪ .‬فأخبرته بأني كنت متواجدا هناك بصورة‬
‫غير شرعية‪ .‬وسألني‪" :‬ألديك ما يكفيك من املال لتدبير حالك أثناء‬
‫سفرك؟" فأكدت له ذلك‪ ،‬حتى أنني أريته محفظة نقودي‪ .‬بعد‬
‫ُ‬
‫ذهبت‬ ‫ذلك بوقت قصير‪ ،‬تمنى لي التوفيق ومض ى في طريقه‪ .‬بعدئذ‬
‫لشراء قدح من القهوة فوجدت أن جميع نقودي قد سرقت‪.‬‬

‫وقد نجوت بالرغم من ذلك‪ ،‬ووجدت في اليوم الذي تال‬


‫يعقوب وبيرتا اللذان بدورهما ساعداني على إيجاد مكان للسكن‪.‬‬
‫وكان علينا تسجيل عنواننا لدى السلطات في فرنسا والذي كان‬
‫‪111‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫مشكلة بالنسبة لي‪ .‬فأخذت أتنقل من مكان الى مكان‪ ،‬ولكن أخيرا‬
‫ساعدني أحد أعضاء جماعتنا في إيجاد سكن شبه دائمي‪ .‬فكان هو‬
‫طالبا وسكن في منزل فيه امرأة تعمل عمل الناطور وتجلس قرب‬
‫الباب تشاهد الجميع في الذهاب واإلياب‪ .‬وقال لها أنه مسافر الى‬
‫"كورسيكا ‪( "Corsica‬وهي جزيرة فرنسية في البحر املتوسط) لفترة‬
‫معينة ويريدني السكن في غرفته‪ .‬وكنت أدخل وأخرج يوميا وال‬
‫أجرؤ على قول ش يء أكثر من "صباح الخير يا سيدتي!"‪ ،‬لكي ال‬
‫تحس بأني طالب غير فرنس ي‪ .‬لكن الصعوبة الحقيقة الوحيدة‬
‫كانت عند دفع اإليجار‪ .‬فكان يلزمني مراجعة سطوري باللغة‬
‫الفرنسية بعناية تامة من أجل تلك اللحظة‪.‬‬

‫لقد درسنا عن ماركس ولينين في جماعتنا‪ .‬وتناقشنا كثيرا‬


‫وذهبنا حتى الى أماكن للنقاهة والتأمل معا‪ .‬واشتياقي كان إلى ذلك‬
‫املجتمع الذي يعيش فيه الناس معا في انسجام وبدون ظلم وال‬
‫فقر‪ .‬فلذلك كانت تبدو لي بعض من نظرياتهم املاركسية أنها تعطي‬
‫أمال إليجاد حل‪ :‬مثل فكرة تقرير سلوكيات الناس من قبل املجتمع‪.‬‬
‫ومن الواضح أن من ينشأ في أحياء الفقراء تكون سلوكه مختلفة‬
‫عن الشخص الذي ينشأ في بيئات مختلفة‪ .‬فنخرج بنتيجة واضحة‬
‫هي أننا إذا غيرنا الظروف املعيشية لحياة الناس فسوف يتصرفون‬
‫بصورة مختلفة‪ .‬أما النظام الرأسمالي فهو يشجع األنانية بسبب‬
‫طبيعة أسلوب الحياة حيث كل فرد يعمل من أجل نفسه فقط‪ .‬في‬
‫حين يشجع النظام االشتراكي املشاركة وتظافر املجتمع‪.‬‬
‫‪112‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ولكن كان لي أيضا مجموعة من التساؤالت التي لم أجد لها‬


‫ردا مرضيا في تلك الجماعة‪ .‬فلم أرد رؤية تدهور األوضاع في روسيا‬
‫تكرر نفسها مرة ثانية‪.‬‬

‫فكيف لي أن أضمن أن الثورة املستقبلية ال تؤدي الى ذات‬


‫االستبداد والظلم الذي رأيته أنا شخصيا في االتحاد‬
‫السوفييتي؟‬

‫وحتى في الثورة الفرنسية‪ ،‬كان الصراخ ينادي بأهداف مثل "التآخي‬


‫والحرية واملساواة"‪ ،‬إال أن أولئك الذين استولوا على السلطة‬
‫استمروا في اقتراف فظائع شنيعة‪ .‬فكانت األفكار جيدة‪ ،‬لكن‪:‬‬

‫هل يا ترى في مقدور الثورة التي تستخدم العنف أن تحقق‬


‫تلك األفكار حقا؟‬

‫والش يء اآلخر الذي لم أكن سعيدا به في تلك الجماعة هو أنهم‬


‫كانوا يرون الكراهية من الضروريات‪ .‬فأنا أعلم بأن الثوار عليهم‬
‫الوقوف مع الجماهير وأن يكونوا مستعدين للكفاح من أجلهم‪،‬‬
‫تكن للناس الكراهية‪ .‬فقد‬ ‫لكن في نظري هذا ال يتماش ى مع أن ّ‬
‫ناقشت هذا األمر مع بيرتا عدة مرات‪ ،‬ولكنها كانت تسألني دائما‪:‬‬

‫لكن‪ ،‬ماذا عن هتلر؟‬

‫وبيرتا كانت قد جاءت من أملانيا وقتذاك‪ ،‬حيث تمكنت من الفرار‬


‫من أيدي النازيين حين كانت في عمر ‪ 06‬سنة‪ ،‬وكانت ّ‬
‫تكن لهتلر‬
‫‪113‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ولحكومته غاية الكراهية‪ .‬فاإلجابة الوحيدة التي كنت أجيبها بها هي‬
‫أنني كنت مستعدا لقتل الطغاة ومستعدا للقتال من أجل الثورة‪،‬‬
‫غير أن كراهية أي فرد هي أمر خاطئ ‪ -‬حتى مع هتلر‪ .‬فالكراهية هي‬
‫وتنزل من قدر اإلنسان الى مستوى‬ ‫انحطاط لكرامة اإلنسان؛ ّ‬
‫الحيوان‪ .‬إال أن بيرتا كانت تجيب‪:‬‬

‫أنت بالضبط كشخص مسيحي يا يوسف‪ ،‬من الذين‬


‫يمثلون "الطبقة البرجوازية ‪."Petit bourgeois‬‬

‫بعد حوالي ثالثة أشهر شعرت بأنني يجب أن أترك الجماعة وأجد‬
‫طريقي‪ .‬فلم أقطع عالقتي مع الجماعة‪ ،‬إال أنني لم أجد بعد ذلك‬
‫الش يء الذي كنت أبحث عنه‪ .‬فذهبت الى أملانيا‪ .‬وأراد كل من أخي‬
‫وأختي أن أشاركهما في مصلحتهما‪ ،‬لكنني لم أكن مهتما باملوضوع‪.‬‬
‫ووجدت عمال في مجال البناء في مدينة فرانكفورت ‪ -‬عمل بدني‬
‫شاق من التحميل والحفر‪ .‬فكانت فترة عصيبة‪ .‬ولم أجد من يتفهم‬
‫شوقي‪ .‬والتوترات التي لم أجد لها حال كانت أكثر مما أحتمله‪ .‬وكنت‬
‫أراجع املحللين النفسانيين بين الحين واآلخر‪ ،‬وأحيانا كنت ألتفت‬
‫الى املشروبات الكحولية‪ .‬فكانت تلك الفترة فترة مظلمة بالنسبة لي‪.‬‬

‫وجاءني يعقوب هالبرين في غضون تلك الفترة وسافرت معه‬


‫عندما كان يحاول االتصال بجماعات اشتراكية ممن كانت تعارض‬
‫فكر ستالين وتعمل في الوقت نفسه من أجل الثورة‪ .‬إال أن قلبي لم‬
‫يستجب ملا كانوا يسعون من أجله‪ .‬فاملجتمع الشيوعي جذبني‪ ،‬لكن‬
‫كان لدي شكوكا بشأن ماركس‪ ،‬باإلضافة الى علمي ملا قد حدث في‬
‫روسيا‪ .‬وأردت فهم سبب فشل األمور دائما‪ .‬فالناس قد بذلوا‬
‫‪114‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫جهودهم في محاولة تحقيقها‪ ،‬باإلضافة الى أنهم يشتاقون إليها‪ ،‬غير‬


‫أن شيئا ما يحول دون تحقيق مجتمع حقيقي‪ .‬وحاولت في ذلك‬
‫الوقت الحصول على السعادة بكسب رزقي بالعمل الشاق‪ ،‬لكنني‬
‫كنت ال أزال أبحث عن ش يء لم أقدر إيجاده‪ .‬فكنت وحيدا الى حد‬
‫ما‪.‬‬
‫وفي عام ‪0156‬م شعرت بأنه ّ‬
‫علي أن أقوم بمحاولة جديدة‬
‫في العيش في إسرائيل‪ .‬ولم أكن مستعدا للمشاركة في الحرب أو‬
‫العنف‪ ،‬لكني فكرت في محاولة العيش ضمن مجتمع كيبوتس‪.‬‬
‫فوصلت هناك وقتما اندلعت أزمة قناة السويس‪ .‬فقد استولت‬
‫إسرائيل وبمساعدة البريطانيين والفرنسيين على قناة السويس‬
‫وتمكنت من قهر شبه جزيرة سيناء بأكملها‪ .‬وقد سادت إسرائيل‬
‫نشوة عارمة‪ .‬وكانت أشبه بأزمنة الكتاب املقدس للملك داود عندما‬
‫حازوا على إمبراطورية كاملة‪ .‬أما بالنسبة لي فكان لها وقعا معاكسا‬
‫تماما؛ فقد أصابني الحزن‪.‬‬

‫لقد كنت أطوف كافة أرجاء البلد إال أن اكتئابي زاد أكثر‬
‫وأكثر‪ .‬وكنت على وشك االنضمام الى أحد مجتمعات كيبوتس؛‬
‫وحتى أني أجريت مقابلة هناك‪ .‬وكنت ال أزال قلقا وغير مرتاح البال‬
‫ويائسا الى درجة كبيرة‪ .‬فغادرت إسرائيل متوجها الى أملانيا بسبب‬
‫عامل اليأس وليس القناعة‪ .‬وفي طريقي‪ ،‬توقفت في روما‪ .‬فكنت أود‬
‫رؤية سبب انجذاب الكثير من السواح الى تلك املناطق‪ .‬بل أنني‬
‫ذهبت حتى الى الفاتيكان‪ ،‬رغم أنني لم أكن مهتما وال قيد شعرة ال‬
‫ُ‬
‫بالكاثوليكية وال باملسيحية‪ .‬وفي أثناء وجودي هناك اغلقت األبواب‬
‫ْ‬
‫العجب‪ ،‬فقد دخلوا بالبابا محموال على كرس ي‬ ‫وشاه ْد‬
‫ِ‬ ‫علينا فجأة‪،‬‬
‫‪115‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫نقال‪ .‬ورفع يديه عاليا وتهستر كل أولئك الناس‪ ،‬ملجرد أن رأوا‬


‫ّ‬
‫البابا‪ .‬وقد كأبني ذلك املوقف‪ .‬فقد أحسست بأن عمال كهذا ‪ -‬مثل‬
‫رفع شخص بهذا األسلوب ‪ -‬هو أيضا ضد كرامة اإلنسان‪.‬‬

‫عندما وصلت الى أملانيا في عام ‪0157‬م‪ ،‬ذهبت الى مدينة‬


‫ميونخ بدال من مدينة فرانكفورت‪ .‬وال أعلم السبب‪ .‬فقد كنت‬
‫مكتئبا للغاية ‪ -‬حتى الى درجة االنتحار في بعض األوقات‪ .‬فلم أعد‬
‫أقوى على رؤية الناس بعضهم يكره ويحارب بعضا باستمرار‪.‬‬

‫فلو انعدم التضامن بين الناس‪ ،‬ملا وجد إذن أمل‬


‫للمستقبل‪ ،‬وال هدف للحياة‪.‬‬

‫ووصلت األمور إلى ذروتها التعيسة عندما ذهبت مرة للشرب في‬
‫إحدى الليالي وسرق أحدهم كل ما عندي من مال‪ .‬فأصبحت معدم‬
‫الحال على جميع األصعدة‪ .‬حتى أنني كتبت ملحوظة انتحارية‬
‫لسامي محاوال شرح سبب عدم استطاعتي مواجهة الحياة بعد اآلن‪.‬‬
‫إال أني لقيت بعض التشجيع من قبل طبيبة نفسانية ونصحتني‬
‫بإعطاء األمر مزيد من الوقت؛ حتى إنها أعطتني شيئا من النقود‬
‫لتسيير أموري قليال إلعطائي دفعة صغيرة إلى األمام‪ .‬فقد‬
‫ُ‬
‫وأخذت أستبشر أكثر بعد‬ ‫استطاعت أن تعيد إيقاد ش يء في داخلي‪.‬‬
‫حصولي على شغل ومعاودتي على العمل مرة ثانية‪.‬‬

‫تخل عن البحث‪ .‬فقد ذهبت الى‬‫وبالرغم من اكتئابي فلم َأ َّ‬


‫دورات دراسية وشاهدت وثائقا عن عهد هتلر‪ .‬وأردت استيعاب‬
‫الكيفية التي حدثت فيها الدولة النازية (الرايخ الثالث ‪Third‬‬
‫‪116‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫‪ .)Reich‬وعندما نظم الحزب النازي الجديد مسيرة في مدينة ميونخ‬


‫ذهبت ألتحسس وأرى شكل األجواء هناك‪ .‬فكان هناك نحو ‪0111‬‬ ‫ُ‬
‫شخص‪ ،‬جالسين حول املوائد في قاعة جميلة‪ .‬وكان أولئك‬
‫القائمين على خدمة املوائد مفتولي العضالت ويتنقلون بين املوائد‬
‫ويقدمون البيرة في أقداح خزفية‪ .‬وكانت هناك فرقة موسيقية‬
‫تعزف األناشيد الوطنية‪ ،‬واملوسيقى العسكرية الحماسية‪،‬‬
‫فتصاعدت املشاعر والعواطف‪ .‬وإذا برجل ينتصب ليقول‪:‬‬

‫أترون ما قد فعلوه بنا في مدينة دريزدن ‪Dresden‬؟‬


‫أتسمعون األكاذيب التي يقولها الناس عن الشعب األملاني؟‬
‫أترون كيف يزدري املنافقون الكذابون بحضارة أملانيا‬
‫العظيمة وتراثها؟‬

‫حمس الحاضرين في تلك‬ ‫ال أقدر أن أتذكر أقواله بالضبط إال أنه ّ‬
‫ّ‬
‫حوالي ورأيت الكثيرين من العاطلين عن العمل‬ ‫القاعة‪ .‬فنظرت‬
‫والبائسين وتمكنت من رؤية الكيفية التي تجري فيها األمور‪ .‬فقد‬
‫أعطاهم ذلك الرجل أمال‪ ،‬وأعطاهم إحساسا باالنتماء‪ .‬ويمكن ألي‬
‫إنسان‪ ،‬وتحت الظروف نفسها‪ ،‬أن َّ‬
‫ينجر الى "مجتمع" كهذا‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫نزهة في الهواء الطلق لحد مجتمعات برودرهوف الذي كان في أملانيا‬

‫‪15‬‬
‫انبثاق األمل‬

‫من بين الدورات الدراسية التي خضتها في ميونخ مللء وقتي كانت‬
‫دورة تعليم لغة "اإلسبرانتو ‪( "Esperanto‬وهي لغة دولية مبتكرة)‪.‬‬
‫فصرت أقرأ صحفا متعددة بلغة اإلسبرانتو وتعرفت على جماعات‬
‫متعددة يهمها مواضيع السالم والعدل‪ .‬وقد قرأت في إحدى‬
‫الصحف إعالنا من رجل يرغب باملراسلة مع أي شخص يهمه أن‬
‫يحيا حياة قائمة على تقديم ما باستطاعة الفرد وتلقي ما يحتاجه‪.‬‬
‫فراسلته وجاءني الرد ملراسلة شخص في إنكلترا اسمه "ديريك‬
‫‪118‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫فوكس ‪ ."Derrick Faux‬فأخبرني عن مجتمعات برودرهوف‬


‫‪( "Bruderhof‬وكلمة برودرهوف تعني باللغة األملانية مكان األخوة)‬
‫وقال لي أن هناك مجتمع لهم في أملانيا‪ ،‬فقررت زيارتهم في شهر‬
‫يوليو من عام ‪0158‬م‪.‬‬

‫وكنت في ذلك الوقت ما أزال أصارع باستمرار مع مسألة‪:‬‬

‫ملاذا ال يستطيع الناس أن يعيشوا في مجتمع متآخ وفي‬


‫تضامن؟ وملاذا تفشل محاوالتهم حتى عندما يريدون العيش‬
‫في مجتمع أخوي؟‬

‫كنت متشككا باملوضوع‪ .‬وقد جعلني الجانب الديني ملجتمع‬


‫أنفر‪ .‬باإلضافة الى أنني لم أكن مهتما بجزيرة من ّ‬
‫األخوة‬ ‫برودرهوف ُ‬
‫والحياة األخوية وسط بحر من الظلم والكراهية‪ ،‬مجرد ألنهم‬
‫يحاولون الحصول على ش يء من السالم الروحي والفرح الشخص ي‪.‬‬
‫أما أنا فكنت أبحث عن الحل الشافي للبشرية جمعاء‪ .‬لكن في‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬كنت أنا شخصيا سقيم الحال‪ ،‬ألنني لم أجد ما‬
‫كنت أبحث عنه لسنوات وسنوات‪ .‬فقلت في نفس ي‪" :‬ربما سأتعلم‬
‫شيئا ما من جماعة تسعى إلى العيش معا‪ .‬وربما سأتمكن من فهم‬
‫سبب عدم تحقيق مثاليات العدل واملساواة في مختلف الثورات"‪.‬‬

‫كنت قلقا من األمر عندما أفكر في الجانب الديني واملسيحي‪،‬‬


‫إال أني أردت أن أنظر إليهم كبشر‪ .‬فقلت لنفس ي‪:‬‬
‫‪119‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫رجاء‪ ،‬ال تجحف بحقهم‪ ،‬وال تدين الناس بسرعة‪ .‬وكن‬


‫منفتحا عندما تذهب إلى هناك‪.‬‬

‫وقد تم امتحان ما عزمت عليه منذ أول مواجهة‪ .‬فقد وصلت هناك‬
‫يوم األحد بعد الظهر‪ ،‬وأول شخص لقيته كان رجال يمش ي ذهابا‬
‫وإيابا أمام املنزل وموازنا عصا على رأسه‪ .‬فسألته‪" :‬هل هذه هي‬
‫برودرهوف؟"‪ ،‬فأكد لي ذلك دون أن يرفع نظره عن العصا‪ .‬أما هو‬
‫فداوم باملش ي ذهابا وإيابا‪ ،‬ذهابا وإيابا‪ .‬فبدا األمر لي أن هناك‬
‫مس من الجنون بعض‬ ‫بعض من غريبي الطباع هنا‪ ،‬أو ربما لديهم ّ‬
‫الش يء‪ .‬إال أنه رغم هذا فقد دعا هذا الرجل غيره ليضيفني‬
‫ولنشرب الشاي‪.‬‬

‫الحقا‪ ،‬كانت هناك عروض سيرك لألطفال في مجتمعهم‪،‬‬


‫وتبين بأن الرجل خارج املنزل كان يتمرن على دوره في السيرك‪.‬‬
‫فتوضح لي سبب تصرفاته غير العادية‪ ،‬إال أن األمر بأكمله كان ال‬
‫يزال غريبا نوعا ما‪ .‬فكان كل همي هو مصير البشرية‪ ،‬أما هنا فلم‬
‫يظهر أن أحدا كان يعير أيه أهمية ألي ش يء أكثر جدية غير سيرك‬
‫لألطفال‪.‬‬

‫وبعد انتهاء عروض السيرك‪ ،‬أخذ الناس يدنون مني‬


‫ويسألوني عن الش يء الذي كنت أبحث عنه‪ ،‬وعن سبب مجيئي‪ .‬وفي‬
‫النهاية‪ ،‬مكثت هناك عدة أسابيع‪ .‬وفي آخر يوم من زيارتي طلب مني‬
‫الناس أن أخبرهم عن رأيي بالزيارة أثناء تناولنا وجبة طعام‪ .‬فقلت‬
‫لهم ما كنت اعتاد قوله‪:‬‬
‫‪111‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أخوة‪ .‬وأبحث عن الحل الشافي لحاجات‬ ‫أنا أبحث عن ّ‬


‫البشرية كلها‪ .‬وقد ظمئت إليه‪ ،‬وعلى استعداد لبذل حياتي‬
‫في سبيله‪.‬‬

‫لم أستطع االتفاق مع أفكار هؤالء الناس‪ ،‬إال أنهم أبدوا اهتماما ملا‬
‫كنت أبحث عنه وهم أنفسهم‪ ،‬وحسبما كان يبدو واضحا‪ ،‬كانوا‬
‫يبحثون عن ش يء ما‪.‬‬

‫فرجعت الى مدينة ميونخ‪ ،‬لكنني كنت أتوق الى الرجوع‬ ‫ُ‬
‫ومعاودة زيارتي الى جماعة برودرهوف ‪ -‬ألنني كنت ال أزال أحاول‬
‫اكتشاف ذلك الش يء الذي يمنع الناس من العيش معا في سالم‪.‬‬
‫فكتبت في الرسالة التي طلبت فيها معاودة زيارتي لهم‪:‬‬

‫ُ‬
‫ظمئت إلى أن أتحسس في قلبي‪ ،‬ولو مرة واحدة في‬ ‫لقد‬
‫حياتي‪ ،‬ذلك الحل الشافي ألبلغ حاجات البشرية‪ ،‬حتى وإن‬
‫كان ملجرد دقيقة واحدة‪ ،‬فسيكون كاف لي‪.‬‬

‫وال أريد نسيان تلك الجملة أبدا‪ ،‬ألن ذلك كان شغفي في حينها‪،‬‬
‫ومنذ ذلك الوقت اختبرت أشياء أكثر من ذلك‪.‬‬

‫وجئت في زيارة ثانية في شهر سبتمبر عام ‪0158‬م‪ .‬فرحب بي‬


‫أعضاء ذلك املجتمع بحرارة الى معشرهم‪ .‬وكنا نعيش ببساطة‬
‫شديدة‪ :‬فلم تكن هناك تدفئة والطعام كان شحيحا‪ .‬وكان لدينا‬
‫قطعة صغيرة من الجبن وش يء من الخبز القتسامه فيما بيننا‬
‫‪111‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫لوجبة الفطور‪ ،‬وحتى قد طلب مني مرة املسؤول عن شراء األطعمة‬


‫ألقرضهم شيئا من املال‪ ،‬فأعطيته كل ما كان لدي‪.‬‬

‫وبدأت أحب أولئك الناس وأردت البقاء هناك مدة أطول‪،‬‬


‫غير أني كنت أتكلم بكل صراحة عن كل ما كنت أشعر به‪ .‬ولقد‬
‫احترمتهم كمسيحيين واحترمت إيمانهم ‪ -‬فلم أعتاد على االزدراء‬
‫بمعتقدات الناس مطلقا ‪ -‬ولكنني تساءلت عن سبب عدم قدرتنا‬
‫على العيش من أجل العدل بدون اإليمان باهلل‪ .‬باإلضافة إلى أنني‬
‫اعتبرت مشاركتي بأية فعالية دينية سخرية ورياء‪ .‬فكلما كانوا‬
‫يرتلون التراتيل ذات فحوى دينية التزمت الصمت‪ .‬ولم يكن األمر‬
‫علي‪ ،‬ألنهم كانوا يرتلون باستمرار ‪ -‬وباألخص عندما‬ ‫سهال دائما ّ‬
‫يقترب عيد امليالد ‪ - Christmas‬ولكن موقفي كان مبدئيا‪ .‬كما أنني‬
‫رفضت االشتراك بأداء تمثيلية مشاهد مغارة امليالد للسبب ذاته‪.‬‬
‫أما عندما كانت األغنية ليست دينية‪ ،‬اشتركت بها بكامل الحيوية‪.‬‬
‫وأنا بالحقيقة متعجب من أنهم سمحوا لي بالبقاء عندهم‪ .‬فقد كنا‬
‫جماعة صغيرة مع العديد من الضيوف الزوار‪ ،‬وحتما أنني قد‬
‫وكلفت كل واحد منهم الكثير من الصبر بسبب طرحي للكثير‬‫ُ‬ ‫أرهقت‬
‫من االستفسارات مناقشا ومشككا في الركائز الدينية ملجتمعهم‪.‬‬
‫وبالفعل فقد جاء ّ‬
‫إلي أحدهم بعد فترة قصيرة من عيد رأس‬
‫السنة امليالدية قائال‪:‬‬

‫ملاذا تتجادل كثيرا‪ ،‬يا يوسف‪ ،‬حول الجوانب املختلفة‬


‫لحياتنا املشتركة سواء كانت األيديولوجية أو اإليمانية؟‬
‫‪112‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وع ْ‬
‫ش‬ ‫ّ‬
‫أتبحث عن األخوة؟ فإذا كنت تبحث عنها‪ ،‬فتعال ِ‬
‫معنا وفقا لها‪ .‬وال تتكلم فقط عنها‪.‬‬

‫فكانوا يريدونني أن أشترك بصورة فعالة معهم بدال من التواجد‬


‫كمراقب وناقد‪ .‬وقد بدا لي كالمه معقوال‪ ،‬فقلت أني أود ذلك‪.‬‬
‫وسوف يسعني عندئذ أن أجرب املوضوع وذلك بأن أعيشها بنفس ي‬
‫وأضعها في حيز التطبيق‪ .‬لكن ما اختبرته الحقا أصابني بصدمة‬
‫كبيرة‪.‬‬

‫وطبقا لوجهة نظري املاركسية كلها‪ ،‬كنت مقتنعا بأن‬


‫الظروف الخارجية تقرر سلوك الناس‪ .‬وكنت أفترض بأن املجتمع‬
‫بدأت الشكوك تساورني في‬‫ْ‬ ‫املثالي سيضمن أخوية مثالية‪ .‬وطبعا‪،‬‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬ألن جميع الجهود التي بذلتها لحد اآلن لخلق مجتمع‬
‫مثالي كهذا قد باءت بالفشل تماما‪ .‬ولكن عندما حاولت العيش في‬
‫وجدت أن هناك ش يء في داخلي كان يعارضها‪ .‬وحتى‬ ‫ُ‬ ‫مجتمع أخوي‪،‬‬
‫ضمن الظروف التي تبدو مثالية كان هناك شيئا ما في داخلي يقف‬
‫عقبة في طريق الحياة األخوية الحقيقية‪ ،‬وفي طريق التعاضد‬
‫والتضامن الحقيقي‪ :‬فكل من ال أنا (أي الذات) واإلرادة الذاتية‬
‫وسرعة الزعل لم يكونوا نتيجة لتأثيرات خارجية؛ إنهم كانوا في‬
‫صميم كياني بالذات‪ .‬فكانت هذه صدمة لي‪.‬‬

‫فهل ضاع كل بحثي هدرا؟ ماذا ّ‬


‫علي أن أفعل اآلن؟ فقد‬
‫أصبحت في مفترق طرق‪.‬‬
‫‪113‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وفي ذروة اضطرابي الداخلي‪ ،‬زارنا في مجتمع برودرهوف الذي كنت‬


‫فيه رجل يدعى "هاينريش آرنولد ‪ "Heinrich Arnold‬والذي جاء من‬
‫إحدى مجتمعات برودرهوف املسيحية التي في أمريكا‪ .‬وكان قد‬
‫عاش واختبر الحياة املسيحية املشتركة لسنوات طوال‪ .‬وكان‬
‫متحمسا كثيرا للقائي والتحدث معي‪ .‬فحكيت له ما كنت أبحث‬
‫عنه وما كنت أشتاق إليه‪ .‬أما هو فكان يستمع إلي فقط وفي غاية‬
‫التفهم والرأفة؛ حتى كانت عينيه تغرورق بالدموع أحيانا‪ .‬وقد كتب‬
‫لي الحقا من أمريكا‪:‬‬

‫لدي ثقة وإيمان بأننا سنصبح إخوة في‬‫يا يوسف‪ ،‬أنا ّ‬


‫مجتمع أخوي واحد يوما ما‪.‬‬

‫أما أنا فقد تعجبت من قوله لي ذلك‪ ،‬ألني كنت داخليا ما أزال‬
‫بعيدا كل البعد عن قبول األساس املبني عليه حياة جماعة‬
‫برودرهوف‪ .‬فكنت ما أزال ملحدا الى درجة كبيرة؛ ولم أكن مستعدا‬
‫لقبول أي شكل من االعتقادات الدينية التي لم أستطع إثباتها‬
‫منطقيا‪.‬‬
‫ُ‬
‫العنصرة هناك‬ ‫تأكدت من أن اختباري ليوم عيد‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬
‫عندهم في عام ‪0151‬م كان نقطة االنقالب في حياتي‪ .‬فقد جاء‬
‫الكثير من الناس إليهم‪ ،‬وأغلبهم طلبة‪ ،‬الى مؤتمر عطلة نهاية‬
‫األسبوع والذي دعت إليه جماعة برودرهوف‪ .‬وكان "هاينز فون‬
‫هومير ‪ - "Heinz von Homeyer‬الكاتب األملاني املعروف لكتاب‬
‫ُ‬
‫العنصرة‬ ‫"الجبل املشع" ‪ -‬هو املتكلم الرئيس ي‪ .‬وطبعا كان عيد‬
‫احتفاال دينيا (وهو ذكرى يوم حلول الروح القدس على جماعة‬
‫‪114‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫املسيحيين األوائل) وكانت لي نظرتي الخاصة املتحفظة حياله‪.‬‬


‫فهاهنا أيضا كنت مراقبا أكثر من مشارك‪ .‬وفي إحدى أمسيات‬
‫املؤتمر احتدم النقاش بين مجموعتين متعارضين من الزوار لغاية‬
‫أنهم وصلوا الى طريق مسدود‪ ،‬حسبما كان يبدو‪ .‬وال أتذكر موضوع‬
‫نقاشهم بالضبط‪ ،‬لكنهم‪ ،‬وفي نهاية األمر‪ ،‬بدأ بعضهم يصرخ على‬
‫بعض‪ .‬حينئذ وقف رجل وقال‪:‬‬

‫أيها الناس األعزاء‪ ،‬أريد أن أقول شيئا لكم‪ .‬هناك نوعان‬


‫من القوى الروحية في هذا العالم‪ .‬فهناك قوة روحية ّ‬
‫تجمع‬
‫الناس‪ ،‬وهناك قوة روحية تشتت الناس‪ .‬فأي من هاتين‬
‫القوتين تريدون أنتم االستماع لها في قلوبكم؟‬

‫ثم جلس‪ .‬وفجأة حدث تغير في أجواء تلك الغرفة‪ .‬فأصبح الناس‬
‫قادرين على التواصل فيما بينهم‪ ،‬وفتح الناس قلوبهم وصار بعضهم‬
‫يتكلم بصراحة وأمانة مع بعض‪ .‬وانهارت تلك الجدران التي كانت‬
‫بين الناس مجرد قبل ثوان خلت‪.‬‬

‫سبر‬
‫فكان هناك شيئا ما يحدث في تلك الغرفة لم أقدر على ِ‬
‫ّ‬
‫غوره‪ .‬فأثر ذلك الش يء ّفي آنذاك واستوقفني‪ .‬وال أعلم سبب حدوثه‬
‫ّ‬ ‫في تلك اللحظة‪ ،‬إال أن شيئا ما قد ّ‬
‫حرك قلبي وأثر فيه‪.‬‬

‫ُ‬
‫شعرت بواقعية قوة السيد املسيح‬ ‫وفي تلك اللحظة ذاتها‬
‫مر العصور‪ ،‬أن ُي ّ‬
‫جمع شعبا في وحدة‬ ‫الذي كان يريد‪ ،‬على ّ‬
‫وفي حياة أخوية‪.‬‬
‫‪115‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫والى هذه الرؤية نفسها كانت األمة اليهودية قد ُد ْ‬


‫عيت لتمثيلها‪ ،‬لكي‬
‫تصبح مثاال صالحا لطريق جديد من الحياة في هذا العالم ‪ -‬طريق‬
‫جديد تماما‪.‬‬

‫وفي تلك اللحظة ذاتها‪ ،‬غمرتني تلك القوة كليا وغيرت‬


‫حياتي‪.‬‬

‫كان ذلك تماما عكس الكاريكاتير املسيحي الذي رأيته في املذابح في‬
‫بولندا‪ ،‬وفي القداديس املسعورة في روما‪ ،‬ولدى أولئك املسيحيين‬
‫الراضين عن أنفسهم في مناطق كثيرة من العالم‪ ،‬والذين يسعون‬
‫الى خالصهم الذاتي فقط والذين اضطهدوا شعبي‪ .‬لم تكن تجربة‬
‫دينية شخصية لطيفة؛ فقد وجدت الجواب الشافي والحل الشافي‬
‫لحاجات البشرية الجوهرية والضرورية – ووجدت املفتاح للسالم‬
‫الحقيقي والعدل الحقيقي والذي يتشوق إليه جميع الناس‪ .‬فكان‬
‫أي جانب روحي‬ ‫منطقي املتصلب‪ ،‬ولغاية تلك اللحظة‪ ،‬يستبعد ّ‬
‫لدي أي شك‪ .‬فقد‬ ‫كهذا‪ .‬لكن منذ ذلك الوقت فصاعدا‪ ،‬لم يكن ّ‬
‫وجدت ما كنت أبحث عنه‪.‬‬

‫فهذا هو الجواب الشافي والحل الشافي الوحيد لحاجات‬


‫البشرية‪ ،‬أال وهو أن يفتح الناس أنفسهم لروح هللا الذي‬
‫يسعى الى تجميع شعب يعيش وفقا ملشيئته‪.‬‬

‫تعجبني لعبة الشطرنج‪ .‬فغالبا ما تستغرق بعض الوقت قبل إجراء‬


‫أية نقلة فيها‪ .‬فتأخذ بالتفكير بجميع االحتماالت وبعدئذ تقرر‬
‫الحركة‪ .‬ويبدو األمر لك منطقيا بالتمام ألن كل ش يء قد تم التفكير‬
‫‪116‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫به مليا‪ .‬لكن خصمك في بعض األحيان يقوم بنقلة معينة لم تكن‬
‫قد حسبت حسابها مطلقا؛ نقلة تسير بعكس منطقك بأكمله‪.‬‬
‫وستدرك حينها أن كل ما أنجزته كان مبنيا على منطق باطل‪.‬‬
‫فعليك أن تبدأ من نقطة الصفر‪ ،‬كما لو أنها مباراة جديدة تماما‪.‬‬

‫ُ‬
‫ظمئت إلى أن أتحسس في قلبي‪ ،‬ولو مرة واحدة في‬ ‫لقد‬
‫حياتي‪ ،‬ذلك الحل الشافي ألبلغ حاجات البشرية‪ ،‬حتى وإن‬
‫كان ملجرد دقيقة واحدة‪ ،‬فسيكون كاف لي‪.‬‬

‫ُ‬
‫شهدت واختبرت بأنه من املمكن للرجال والنساء واألوالد‬ ‫نعم‪ ،‬لقد‬
‫واليهود والعرب واألملانيين واألفريقيين واألمريكيين واآلسيويين أن‬
‫يعيشوا معا في سالم وإخاء‪ .‬وكذلك يمكن التغلب على قوى الشر‬
‫َ‬
‫التي تشتت الناس‪ .‬وال أزال أحب أن أ َه َب حياتي كلها لهذا االشتياق‬
‫وإلتمامه‪.‬‬
‫‪117‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ملحق‬

‫َ َ ْ َ َ ْ ُ َ َ ُ َّ َ َ ْ ُ ُ ُ‬
‫الر ّب‪( ".‬إشعيا ‪ )5 :3‬دعونا نتبع‬
‫ور َّ‬
‫"يا بيت يعقوب هلم فنسلك ِفي ن ِ‬
‫النور اإللهي بكل ما أوتينا من قوة‪ ،‬بارتعاش وخشوع‪ ،‬لكن بكامل‬
‫الحزم‪ .‬فلو فعلنا ذلك فربما سنكون مثاال صالحا‪ ،‬ورمزا لآلخرين‪،‬‬
‫وهروبا من الظلمة الى النور‪ .‬فلنطرح عنا تباهينا وتباهي غيرنا‬
‫الفارغ أال وهو أننا شعب هللا املختار‪ .‬دعونا نظهر اختيارنا هذا عن‬
‫طريق األعمال الصالحة في الحياة اليومية‪ ،‬واضعين في حيز‬
‫التطبيق الدعوة التي قد دعانا إليها أبانا السماوي؛ وهي أن نكون‬
‫قدوة ورونقا لجميع األمم‪ ،‬ولجميع الناس‪.‬‬

‫قول من‬
‫ناتان هوفش ي ‪Natan Hofshi‬‬
‫ناشط سالم إسرائيلي (‪0181 - 0881‬م)‬

‫لقد رمى يوسف نفسه وبكل ثقله الى هذه الحياة الجديدة‪،‬‬
‫الحياة في ظل السيد املسيح حين أصبح فردا في "مجتمعات‬
‫‪118‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫برودرهوف املسيحية ‪( "Bruderhof‬التي تعيش مجتمعاتها حياة‬


‫مسيحية مشتركة)‪ ،‬ليضع في حيز التطبيق األجوبة التي وجدها‪ .‬لكن‬
‫أنباء الصراع املستمر في إسرائيل أثقلت كاهله‪ ،‬الى جانب ذكرياته‬
‫املؤملة عندما كان قد اشترك هو شخصيا في ذلك الصراع في‬
‫السنوات السابقة‪ .‬فهو ال يزال يرى في مخيلته وجوه أهالي مدينة‬
‫رحلتهم وحدته العسكرية عن ديارهم‪ ،‬وأيضا ذكرياته‬ ‫اللد التي َّ‬
‫املبكرة عندما هو نفسه تم ترحيله عن داره في بولندا‪.‬‬

‫لكنه‪ ،‬الحقا‪ ،‬وفي عام ‪0117‬م‪ ،‬أي خمسين عاما بعد تلك‬
‫األحداث‪ ،‬اتصل بأحد العرب اإلسرائيليين من سكان اللد‪ ،‬واسمه‬
‫كان يعقوب منير‪ .‬فبعد ش يء من املراسلة سافر يوسف الى اللد‬
‫وقابل يعقوب‪ .‬وتمكن يوسف من طلب املغفرة والعفو من يعقوب‬
‫ّ‬
‫أحس بمحبة يعقوب له‪ .‬وقض ى كل منهما‬ ‫على ما جرى‪ ،‬وحتى أنه‬
‫وقته مع اآلخر يسردان تجاربهما عن تلك األيام التعيسة في عام‬
‫‪0148‬م‪ ،‬وقد تصالحا مصالحة شخصية تامة‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬كانت‬
‫هذه خطوة صغيرة‪ ،‬ومجرد قصة واحدة أمام السيل الطافح من‬
‫التفجيرات االنتحارية وغارات االنتقام من قبل طرفي النزاع‬
‫اإلسرائيلي – الفلسطيني‪ ،‬لكن وكما قال يوسف عن خطوة املغفرة‬
‫وطلب العفو‪:‬‬

‫ربما سوف تبدأ هذه املبادرة سلسلة من ردود األفعال‬


‫املماثلة‪ .‬ألن العنف يستدرج عنفا‪ ،‬أما املبادرة في عملية‬
‫مغايرة‪ ،‬عن طريق ّ‬
‫مد اليد ّ‬
‫الخيرة‪ ،‬والحصول على املغفرة‬
‫واملصالحة‪ ،‬فيمكن لها أن تنتشر على نطاق أوسع‪ .‬وكل‬
‫‪119‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫واحد منا يمكنه عمل ذلك في عالقاته وتفاعله مع اآلخرين‪،‬‬


‫بطلب املغفرة والعفو والسعي إلى بناء عالم أفضل‪.‬‬

‫وشوالمت وحايم‬
‫ِ‬ ‫ولدى يوسف وزوجته روت سبعة أوالد‪ :‬خانا‬
‫وايلداد وتيكفا وإفرايم ومينا‪ .‬وكلهم يسكنون حاليا في مجتمعات‬
‫برودرهوف املنتشرة في كافة أرجاء العالم‪ .‬ويوسف ضليع جدا في‬
‫ترويج املغفرة واملصالحة بين الناس‪ .‬واألهم من كل ش يء‪ ،‬فهو‬
‫يعمل على إبقاء تلك الرؤية حية عن وجود طريق آخر للحياة‪ ،‬وهو‬
‫أن الناس من رجال ونساء يمكنهم العيش معا بسالم‪.‬‬

‫املحررون‬
‫‪121‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫نبذة عن‬

‫مـجـتمعـات بـرودرهـوف المـسـيحيـة‬


‫‪Bruderhof Communities‬‬

‫هويتنا‬
‫إنّ حركة برودرهوف ‪( Bruderhof‬حيث تعني الكلمة باألملانية‬
‫مكان اإلخوة) هي حركة دولية للحياة املسيحية املشتركة املساملة‬
‫والتي يتألف قوامها من كل من األسر والعزاب على حد سواء الذين‬
‫يسعون لوضع وصايا يسوع املسيح في حيز التطبيق من محبة هللا‬
‫فت حياة املسيحيين األوائل في سفر‬‫ومحبة القريب‪ .‬ومثلما قد ُوص ْ‬
‫ِ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أعمال الرسل في الفصل الثاني والرابع‪ ،‬فقد دعينا نحن أيضا إلى‬
‫تلك الحياة التي فيها الكل قلب واحد وروح واحدة‪ ،‬فال يملك أحد‬
‫‪121‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫أي ش يء‪ ،‬بل كل ش يء مشترك‪ .‬كما نستقي اإلرشاد واإللهام من‬


‫حياة جماعة األنابابدست ‪ Anabaptist‬التي انبثقت منذ زمن‬
‫اإلصالح حيث التهبت صدورهم غيرة ومحبة ليتبعوا املسيح في‬
‫مجتمعات مسيحية ّ‬
‫كلية املشاركة على غرار املسيحيين األوائل‪.‬‬

‫إيـمـانـنــا‬
‫نؤمن بجميع تعاليم السيد المسيح وبالثالوث األقدس وبقانون‬
‫ً‬
‫اإليمان الرسولي‪ .‬ونؤمن بنعمة الخالص التي قدمها لنا مجانا الرب‬
‫يسوع املسيح بموته على الصليب مسترخص دمه الثمين املسفوك‬
‫كفارة لخطايانا ولخطايا العالم كله‪ .‬ونقول مع القديس بولس‬
‫الرسول‪:‬‬

‫صليب َ ّب َنا َي ُس َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ ََْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬


‫وع‬ ‫َوأ َّما ِم ْن ِج َ َِهي‪ ،‬ف َحاشا ِلي أن أفت ِخ َر ِإال ِب َ ِ ِ ِر‬
‫َْ‬
‫امل ِس ِيح‪( "...،‬غالطية ‪)04 :6‬‬

‫وال نؤمن بأن كنيستنا هي الكنيسة الحقيقية الوحيدة ّ‬


‫وبأن غيرنا‬
‫ضاالت بل نؤمن ّ‬‫ّ‬
‫بأن كل من يتبع يسوع ينال الخالص‬ ‫من الكنائس‬
‫مهما كان انتمائه الطائفي‪ .‬وال نستعلي على بقية األديان األخرى أو‬
‫بأن مصير أفرادها العذاب األبدي في جهنم ملجرد أنهم‬ ‫نؤمن ّ‬
‫ّ‬
‫ينتمون إليها أو قد ُوِلدوا في بقاعها‪ ،‬ألن املسيح جاء ليخلص ال‬
‫ليدين‪ ،‬فها هو يقول‪:‬‬

‫ين ْال َع َال َم‪َ ،‬ب ْل ِل َي ْخ ُل َ‬


‫الل ُه ْاب َن ُه إ َلى ْال َع َالم ل َيد َ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫ص‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أل َّن ُه ل ْم ُي ْر ِس ِل‬
‫ْ َ‬
‫ِب ِه ال َعال ُم"‪( .‬يوحنا ‪)07 :2‬‬
‫‪122‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وهذا يشمل حتى عدم إدانة الخطأة سواء كانوا مسيحيين أو غير‬
‫ّ‬ ‫مسيحيين‪ ،‬فاهلل تعالى هو ّ‬
‫الديان‪ .‬كما ال نؤمن بأننا سنحظى‬
‫بملكوت هللا إن كنا مهملين لوصايا يسوع املسيح عن َع ْمد وتنقصنا‬
‫الرب وملوثين باآلثام وال نتوب بعدما ّبين لنا‬
‫نار الحماسة لقضية ّ‬
‫الرب الطريق الصحيح‪ .‬فقد قال السيد املسيح‪:‬‬

‫لي‪َ :‬يا َ ب‪َ ،‬يا َ ب! َي ْد ُخ ُل َم َل ُك َ‬ ‫َْ َ ُ‬


‫وت‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫َي ُقو ُل‬ ‫س كل َم ْن‬ ‫لي‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ْ َ ُ َ َ َ َ َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫ات"‪.‬‬
‫يفعل ِإرادة أ ِبي ال ِذي ِفي السماو ِ‬ ‫ال ِذي‬ ‫ات‪ ،‬ب ِل‬
‫السماو ِ‬
‫(متى ‪)30 :7‬‬

‫ونؤمن بضرورة أن يضع مجتمع الكنيسة ‪ -‬كجماعة ‪ -‬تعاليم‬


‫ً‬
‫السيد املسيح في حيز التطبيق يوميا ليقدم شهادة حقيقية عن‬
‫اإليمان املسيحي الذي يشمل املشاركة واملغفرة والخدمة والتوبة‬
‫اليومية‪ .‬ومثالنا هو حياة جماعة يسوع مع التالميذ‪ ،‬وحياة‬
‫الكنيسة الرسولية األولية في أورشليم‪.‬‬

‫لـمـحـة تـاريـخـيـة‬
‫بدأت حركة برودرهوف المسيحية في عام ‪0131‬م في أملانيا عندما‬
‫أخذت مجاميع من املسيحيين تبحث عن أجوبة ملا قد ّ‬
‫حل من‬
‫دمار في املجتمع بعد الحرب العاملية األولى‪ ،‬فأسسوا مجتمعات‬
‫مسيحية متشاركة تسترشد الهدى في حياتها اليومية من وصايا‬
‫وتعاليم يسوع املسيح‪.‬‬
‫‪123‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وفي سنواتها املبكرة زاد‬


‫عدد أفراد الجماعة‬
‫ليصل بضعة مئات‬
‫واعتمدوا في كسب‬
‫رزقهم على الزراعة وبيع‬
‫ً‬
‫كتبهم‪ .‬وكان حالهم فقيرا‬
‫ً‬
‫جدا ألن مجتمعهم‬
‫املسيحي فتح أبوابه‬
‫الستقبال اليتامى واألمهات الوحيدات وغيرهم من املحتاجين‪.‬‬
‫وحر َم بيع كتبهم‬ ‫ّ‬
‫وأشتد الفقر عندما جاء النظام النازي إلى الحكم َّ‬
‫الحرف التي كانت للجماعة‪.‬‬‫وغيرها من ِ‬

‫وفي عام ‪0127‬م حاصرت قوات ال ـ "‪ "SA‬أرضنا (وهي قوات‬


‫عسكرية متخصصة باالنقضاض)‪ ،‬وسجنت العديد من أعضاءنا‪،‬‬
‫وأمرتنا بمغادرة بلدنا أملانيا في غضون ‪ 48‬ساعة‪ .‬وقد كتب أحد‬
‫بأن هذا املجتمع املسيحي‪،‬‬‫ضباط البوليس السري – الجستابو – ّ‬
‫ً‬
‫"يمثل نظرة عاملية معارضة تماما لالشتراكية القومية ألملانيا"‪.‬‬
‫تضمنت رفض الجماعة ألداء‬ ‫والنظرة العاملية (بحسب ما سماها) ّ‬
‫التحية (االستعبادية)‬
‫لهتلر‪ ،‬وللخدمة في‬
‫ولقبول‬ ‫الجيش‪،‬‬
‫املدارس‬ ‫معلمي‬
‫النازيين في مدارسهم‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫‪124‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ولحسن الحظ‪ ،‬ولكون الجماعة كان لها أعضاء بريطانيين‪،‬‬


‫تم شراء مزرعة في مقاطعة‬ ‫تيسرت الهجرة إلى انكلترا‪ .‬وقد َّ‬ ‫ّ‬
‫"كوتسوولد ‪ "Cotswold‬في عام ‪0128‬م‪ ،‬وزاد عدد الجماعة ألكثر‬
‫ً‬
‫من ‪ 251‬فردا في خالل السنين الخمس التي تلت‪.‬‬
‫وملا كانت الحرب تلوح في األفق‪ ،‬أثار املزيج بين األعضاء‬
‫ً‬
‫االنكليزيين واألملانيين شكوكا من قبل الناس في املناطق الريفية‬
‫البريطانية‪ ،‬والسيما عندما بدأت سياسة الحكومة في اعتقال‬
‫"األجانب األعداء" تؤثر على الجماعة املسيحية األخوية‪ .‬فعرضت‬
‫الحكومة البريطانية على الجماعة خيارين‪ :‬إما اعتقال جميع‬
‫األعضاء األملانيين أو مغادرة الجماعة كلها البالد‪ .‬وفي عام ‪0140‬م‬
‫ً‬
‫وبعد تصميم أفرادها على أن يبقوا معا‪ ،‬قرروا أن يلتجئوا سوية‬
‫إلى بلد آخر‪.‬‬
‫وكانت الدولة الوحيدة – أثناء الحرب العاملية الثانية ‪ -‬التي‬
‫قبلت جماعة مساملة متكونة من انكليز وأملان هي باراغواي‪ .‬فسافر‬
‫جميع األعضاء بأمان عبر املياه التي كانت تنتشر فيها الغواصات‬
‫العسكرية املعادية وشرعوا في‬
‫بناء مجتمعهم املسيحي في‬
‫األدغال هناك‪.‬‬
‫وفي غضون العشرين‬
‫تم تأسيس‬ ‫عاما التي تلت‪َّ ،‬‬
‫ثالثة مجتمعات مسيحية في‬
‫ً‬
‫البلد‪ ،‬فضال عن مستشفى‬
‫قدمت خدماتها إلى الجماعة‬
‫باإلضافة إلى عشرات اآلالف‬
‫‪125‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫من السكان األصليين في باراغواي‪ .‬كانت الحياة في باراغواي صعبة‪،‬‬


‫ومناخها قاس وغير مألوف علينا‪ ،‬وفيها أمراض مدارية‪ ،‬وانعزال‬
‫عن العالم الواسع‪.‬‬
‫وأثناء الحرب العاملية الثانية وبعدها‪ ،‬زاد اهتمام الكثير من‬
‫األمريكيين الشباب بالحياة املسيحية املشتركة‪ .‬فأخذت العشرات‬
‫منهم تزور مجتمعاتنا املسيحية في باراغواي‪ ،‬وفي عام ‪0154‬م َّ‬
‫تم‬
‫تأسيس مجتمع "وودكرست ‪ "Woodcrest‬املسيحي في والية‬
‫ً‬
‫نيويورك في وسط وادي نهر "هدسن ‪ ."Hudson‬وأخيرا أنتقل جميع‬
‫األعضاء من باراغواي إلى الواليات املتحدة األمريكية وانكلترا‪ .‬ومنذ‬
‫تم تأسيس مجتمعات مسيحية أخرى في أملانيا واستراليا‬ ‫ذلك الحين َّ‬
‫ومرة أخرى في باراغواي‪.‬‬

‫الـحيـاة الـمـسيحيـة المـشـتركة‬


‫إنّ حياة المشاركة في العمل والعبادة ووجبات الطعام تمنحنا‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫يوميا فرصا لتجسيد معتقداتنا على أرض الواقع‪ .‬فكل فرد‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن مدى قابليته‪ ،‬قادر على أن يساهم بش يء ما‪.‬‬
‫واألعضاء يقدمون‬
‫املؤبدة‬ ‫نذورهم‬
‫والفقر‬ ‫بالطاعة‬
‫وخدمة الجماعة‪.‬‬
‫وكل من يرغب في‬
‫االنتماء يجب عليه‬
‫أن يكرس كل ما‬
‫يملك (أو تملك)‬
‫‪126‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫وأيضا كل مواهبه ليقف على أرضية واحدة ّ‬ ‫ً‬


‫سوية مع كل األخوة‬
‫واألخوات‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬يوجد أكثر من عشرين مكانا ملجتمعات برودرهوف‬
‫املسيحية في أرجاء العالم‪ .‬وحوالي نصفها تشبه القرى القائمة‬
‫بذاتها وتتكون من ‪ 211 -011‬شخص‪ .‬ويداوم األوالد في رياض‬
‫األطفال واملدارس االبتدائية الخاصة باملجتمع‪ ،‬ويعمل الكبار‬
‫حيثما‬
‫تحتاجهم أقسام العمل في املجتمع‪ ،‬مثل قسم غسيل‬
‫املالبس‪ ،‬أو املطبخ‪ ،‬أو العيادة الطبية‪ ،‬أو واحدة من املصالح التي‬
‫ً‬
‫نسترزق منها‪ .‬وتجتمع الجماعة يوميا للعبادة وتناول وجبات‬
‫الطعام وغيرها من الفعاليات‪.‬‬
‫باإلضافة إلى تلك املجتمعات املسيحية الكبيرة‪ ،‬لدينا بعض‬
‫ً‬
‫األخويات الصغيرة التي تعيش أيضا حياة مشتركة في املدن الكبيرة‬
‫مثل نيويورك ولندن‪ .‬وبسبب وعودنا بالطاعة‪ُ ،‬يحتمل أن ُيطلب‬
‫من أي عضو لنا باالنتقال إلى مجتمع مسيحي آخر‪ ،‬كبير كان أو‬
‫صغير‪ ،‬وأينما كان في العالم‪.‬‬
‫ً‬
‫ونسعى دائما إلى االتفاق باإلجماع التام مهما كلف األمر‬
‫لتحقيق وحدة حقيقية صافية في القلوب‪.‬‬

‫األســرة‬
‫إ َّننا نؤمن بأن األسرة هي األساس الصائب ألي مجتمع كان‪،‬‬
‫ً‬
‫وننظر للزواج على أنه مديد الحياة وأيضا التزام مقدس‪.‬‬
‫ّ‬
‫فيتحمل األهل املسؤولية الرئيسية فيها‪،‬‬ ‫أما تربية األوالد‬
‫بالرغم من أن املجتمع يوفر لهم حضانة ومدارس من أعمار مبكرة‪.‬‬
‫‪127‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ويتم تنشئة‬ ‫ّ‬


‫األوالد في املجتمع‬
‫املسيحي ليصبحوا‬
‫مواطنين مسئولين‬
‫يساهمون في بناء‬
‫البلد مهما كان‬
‫الذي‬ ‫الطريق‬
‫يختارونه لحياتهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إن العضوية في مجتمعنا املسيحي ليست حقا مكتسبا‬
‫بالوالدة‪ .‬فيجري تشجيع الشباب على الحصول على خبرات حياتية‬
‫ً‬
‫أيضا وكذلك ّ‬
‫حثهم على اكتشاف مشيئة هللا‬ ‫في أماكن أخرى‬
‫لحياتهم‪ .‬أما تقديم النذور املؤبدة في خدمة يسوع املسيح ضمن‬
‫ّ‬
‫شخصية للفرد وقرار‬ ‫املجتمع املسيحي فيجب أن تكون دعوة إلهية‬
‫حر نابع عن إطالع ووعي من قبل الشخص البالغ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وتجري رعاية العجزة واملعوقين من قبل الجماعة نفسها‪ ،‬وهم‬
‫يشاركون في مختلف الفعاليات واألنشطة التي تجري في املجتمع‬
‫املسيحي‪ ،‬ويعملون ما داموا قادرين على ذلك‪.‬‬

‫الـ ّتـعـلـيـم‬
‫ً‬
‫تدير مدارس المجتمعات المسيحية للكنيسة عددا من رياض‬
‫األطفال واملدارس االبتدائية وحتى الثانوية‪ ،‬وتقدم دراسات‬
‫متشددة وتعليم واسع في الفن واملوسيقى والتأكيد على‬‫ّ‬ ‫أكاديمية‬
‫ّ‬
‫التحلي بالروح الرياضية‪ ،‬باإلضافة إلى الكثير من الحرف اليدوية‬
‫املاهرة‪ .‬ومن األولويات املركزية ملدارسنا هو أن نلهم األوالد على‬
‫‪128‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬


‫ويشدد املنهج‬ ‫محبة التعلم طوال حياتهم وأيضا خدمة اآلخرين‪.‬‬
‫ً‬
‫على أسس القراءة والكتابة والحساب وأيضا على وجود عالقة قوية‬
‫مع عالم الطبيعة بدال من االعتماد على التكنولوجيا‪.‬‬
‫بعد املدرسة الثانوية‪ ،‬يواصل العديد من الطالب السعي في‬
‫التدريب املنهي أو األكاديمي‪ ،‬في حين يتعلم اآلخرون إتقان بعض‬
‫املهارات في مهن معينة من خالل التدريب‪.‬‬

‫الـعـمــل‬
‫إنَّ جميع جوانب الحياة اليومية لدينا هي بمثابة إعالن ّ‬
‫حي‬
‫إليماننا‪ ،‬والعمل ليس مستثنى من ذلك‪ .‬ويساهم كل فرد في دعم‬
‫وإعالة املجتمع ورسالته‪.‬‬

‫ً‬
‫وال يستلم أي فرد أجورا على ما يقوم به من خدمات‪ ،‬سواء‬
‫كان يعمل ّ‬
‫كسباك أو طباخ أو مهندس أو طبيب أو معلم‪ .‬وعملنا‬
‫املشترك هو تعبير عن التزامنا بخدمة بعضنا لبعض‪ .‬وال يركض‬
‫األعضاء ال وراء ممارسة مهنهم الشخصية وال وراء مركزهم‬
‫االجتماعي في أو خارج املجتمع املسيحي وال حتى القيام بأنشطة‬
‫لغرض الترقية الشخصية‪.‬‬

‫مجتمعاتنا‬ ‫وجميع‬
‫املسيحية املوجودة في أرجاء‬
‫العالم لها صندوق مالي‬
‫مشترك واحد‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫الـتـواصـل مـع اآلخـريـن‬


‫يكمن في صميم مجتمعاتنا املسيحية اشتياق للتواصل مع املجتمع‬
‫األوسع في العالم حوالينا‪.‬‬

‫ً‬
‫وباإلضافة إلى التواصل بشتى أنواعه الذي نجريه محليا من‬
‫زيارة السجون ومن مشاريع التطوير العمراني في املدينة على سبيل‬
‫أن املؤسسة الخيرية العامة التابعة ملجتمع كنيستنا‬ ‫املثال‪ ،‬إال َّ‬
‫‪ Church Communities Foundation‬تعمل سوية مع منظمات‬
‫إنسانية عديدة مثل منظمة أوكسفام لإلغاثة ‪ ،Oxfam‬ومنظمة‬
‫أنقذوا األطفال ‪ ،Save the children‬ومنظمة أطباء بال حدود‬
‫‪ ،Doctors without Borders‬والهيئة املركزية لجماعة املينونايت‬
‫‪ ،Mennonite Central Committee‬ومنظمة الرؤية العاملية ‪World‬‬
‫رس ّلي ماري كنول الي ‪Mary knoll Lay‬‬ ‫‪ ،Vision‬ومنظمة ُم َ‬
‫‪ Missioners‬ملساعدة ضحايا الفقر واملرض والكوارث الطبيعية‪.‬‬

‫ومن خالل تعاوننا وعملنا املشترك مع التربويين واألهالي‬


‫والسلطات املحلية وأيضا مع أصحاب السوابق الذين نبذوا حياة‬
‫ً‬
‫اإلجرام‪ ،‬فقد قدمت حركة برودرهوف برنامجا يدعى "كسر الدائرة‬
‫‪ Breaking the Cycle" www.breakingthecycle.com‬ملجالس‬
‫العشرات من املدارس الثانوية في انكلترا والواليات املتحدة‬
‫األمريكية وفي غيرها من الدول األخرى بغية مكافحة العنف‬
‫املتفش ي‪ .‬ومتحدثي هذه املجالس هم من الذين قد رأوا قوة وقدرة‬
‫املغفرة العجيبة من تجارب حياتهم الشخصية‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫دار الـمحـراث للـنـشـر‬

‫ينشر "دار المحراث لنشر الكتب ‪"House Plough Publishing‬‬


‫الخاص بحركة برودرهوف كتبنا وصحفنا منذ عام ‪0131‬م‪ .‬وقد‬
‫ُ‬
‫ترجمت الكثير من كتبنا التي تشمل الكتابات الروحية الشهيرة‪،‬‬
‫والكتب ال ُـم ِلهمة‪ ،‬وكتب األطفال‪ ،‬إلى عشرات اللغات‪ ،‬وصار عدد‬
‫منها من أكثر مبيعات الكتب وفقا إلحصائيات كل من املكتبات‬
‫الدينية والعلمانية‪ .‬ويمكنكم زيارة موقعنا على الشبكة‪:‬‬

‫‪www.plough.com‬‬
131 ‫مسريتي يف البحث‬

‫االتـصـال بـنـا‬
‫إذا أحببتم االتصال بنا فيمكنكم الكتابة إلى أحد العناوين البريدية‬
:‫التالية‬

Woodcrest Community Sannerzgemeinschaft


2032 Route 213 Lindenstrasse 13 36391
Rifton NY 12471 Sinntal-Sannerz
United States Germany ‫أملانيا‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‬ tel: 0049(0) 6664.402.498
tel: 001- 845.658.7700

Darvell Community Villa Primavera


Brightling Road Correo Paraguayo
Robertsbridge Agencia MultiPlaza
East Sussex TN32 5DR Casilla de Correo No. 16051
England ‫بريطانيا‬ Asuncion
tel: 0044(0) 1580.883.330 Paraguay ‫باراغواي‬
tel: 00595(0) 21-608-938

Danthonia Community
Glen Innes Road
Inverell NSW 2360
Australia ‫أستراليا‬
tel: 0061(0) 2.6723.2213

:‫ إلى عنوانينا التالية‬Email ‫أو يمكنكم ارسال رسالة إلكترونية‬

info@bruderhof.com ‫ أو‬info@plough.com
‫‪132‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫تـنـسـيـق زيـارة‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إذا أحببتَ زيارتنا للتعرف على طبيعة حياتنا فأهال وسهال بك في‬
‫جميع مجتمعاتنا املسيحية‪ ،‬املوجودة في عدد من الدول‪ ،‬مهما‬
‫َّ‬
‫كانت خلفيتك العرقية أو الدينية أو الطبقية‪ .‬وما عليك إال أن‬
‫تتصل بذلك املجتمع املسيحي الذي تود زيارته إما بالهاتف أو‬
‫بالبريد العادي أو بالبريد اإللكتروني‪.‬‬
‫والزيارات التي نتلقاها من بلدان كثيرة مفيدة لكال الطرفين‬
‫حيث نتبادل فيها الخبرات عندما ينفتح بعضنا على بعض‪ ،‬ونتعلم‬
‫ً‬
‫نحن شخصيا من الزوار الش يء الكثير‪ ،‬باإلضافة إلى العالقات‬
‫ّ‬
‫الودية التي نقيمها معهم‪.‬‬
‫وإنك كزائر ستعيش حياتنا اليومية‪ ،‬بدء من املساهمة في‬
‫العمل وإلى املشاركة في االجتماعات الروحية‪ .‬فنحن لسنا بمركز‬
‫روحيا ّ‬
‫للتهرب من الواقع‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ملمارسة الرياضات الروحية أو سبيال‬
‫وسوف ال تتلقى أجورا مقابل عملك معنا‪ ،‬ولكنك من ناحية أخرى‬
‫لن تحتاج إلى دفع تكاليف الطعام أو السكن عندنا‪.‬‬
‫وإذا كنت تريد اصطحاب أسرتك وأوالدك معك‪ ،‬فيسعدنا‬
‫ترتيب الغرف الالزمة وإدراج أوالدك ضمن مجاميع األوالد في‬
‫مدارسنا الخاصة‪.‬‬
‫أما عن موضوع مدة الزيارة فيجري تحديدها بالتنسيق مع‬
‫ذلك املجتمع املسيحي الذي تحب زيارته‪.‬‬
‫وللتعرف على مواقع جميع مجتمعاتنا المسيحية‪ ،‬وكيفية‬
‫االتصال بها‪ ،‬فيمكنكم زيارة موقع دليلنا الدولي على هذا الرابط‪:‬‬
‫‪www.bruderhof.com‬‬
‫‪133‬‬ ‫مسريتي يف البحث‬

‫كتـب أخـرى من ِإصـداراتنـا‬

‫المسـيحيـون األوائـل‬
‫كتاب ّ‬
‫أعده العالمة الالهوتي ايبرهارد آرنولد ‪ Eberhard Arnold‬حول حياة‬
‫املسيحيين األوائل التي ّ‬
‫تعري فتور وعوملة حياتنا املعاصرة وتضعنا أمام‬
‫الرهان‪.‬‬

‫المهددون – طفلك في عالم معاد‬


‫بقلم يوهان كريستوف آرنولد ‪ ،Johann Christoph Arnold‬وفيه كل ما يخص‬
‫أمور التربية‪.‬‬

‫الصحـوة‬
‫قصة حقيقية ملعركة القسيس األملاني بلومهارت ‪ Blumhardt‬مع الشياطين‬
‫التي كانت تسكن امرأة من أهالي مدينته‪.‬‬

‫ثورة اهلل‬
‫وهو مجموعة من كتابات الالهوتي ايبرهارد آرنولد ‪ Eberhard Arnold‬الذي‬
‫يشهد عن اإليمان املسيحي األصيل‪ ،‬ويتطابق مع ضمير كل إنسان على األرض‬
‫مهما كان معتقده‪ .‬ألنه وبكل بساطة يشهد عن ملكوت هللا وعدله الذي ينشده‬
‫جميع الناس‪.‬‬

‫الجـنـس واللّـه والـزواج‬


‫بقلم يوهان كريستوف آرنولد ‪ ،Johann Christoph Arnold‬وفيه كل ما يخص‬
‫أمور الحب والزواج وخدمة العزاب‪.‬‬

You might also like