Professional Documents
Culture Documents
مقالات مختارة لمصطفى محمود
مقالات مختارة لمصطفى محمود
تعريف بالكاتب:
النشأة
السرة متوسطة و الب موظف (سكرتير فى مديرية الغربية) متدين و قدوة فى
كمالته الخلقية و صبره و إحتماله و مثابرته و حبه للعمل و مواظبته عل الصلة
فى أوقاتها لم تفته صلة الفجر فى وقتها بالمسجد ..محب لولده فدائى فى خدمتهم
(و كذلك الم) .ه
المناخ التربوى
ل قهر فيه و ل قمع و ل عنف و إنما حرية و مسئولية و محاسبة فى لطف و قد
رسبت ثلث سنوات فى السنة الولى البتدائية فتركنى الهل على حالى دون تغليظ
أو تعنيف .ه
كنت كثيرا ما أرقد مريضا و أنا طفل ..و لذلك حرمت من اللعب العنيف و
النطلق الذى يتمتع به الطفال ..و كانت طفولتى كلها أحلم و خيال و إنطواء .ه
و كنت دائما أحلم و أنا طفل بأن أكون مخترعا عظيما أو مكتشفا أو رحالً أو عالما
مشهورا ..و كانت النماذج التى أحلم بها هى كريستوفر كولمبس و أديسون و
ماركونى و باستير .ه
الحياة فى طنطا فى جوار السيد البدوى و حضور حلقات الذكر و المولد و الناى و
مذاق القراقيش و إبتهالت المتصوفة و الدراويش ..كان لها أثر فى تكوينى الفنى و
النفسى .ه
الحداث الجوهرية
كان مرض الوالد بالشلل لمدة سبع سنوات ووفاته سنة 1939و كان ذلك حينما
أكملت دراستى الثانوية و قررت دخول كلية الطب .ه
و إنتقلنا بعد ذلك من طنطا الى القاهرة مع الوالدة .ه
سنوات المراهقة
كانت اشبه بمغالبة حصان جامح ..يفلت لجامه مرة و أكبح جماحه و أحكمه مرات
..و لم يكن الصراع سهل بل كان شاقا و طويل وخلف وراه جسما مغطى بالكدمات
و الجراح .ه
الدراسة
اخترت دراسة الطب و شعرت ساعتها أنها ترضى فضولى و تطلعى الى العلم و
معرفة السرار ـ و كانت الدراسة صعبة وتحتاج الى ارادة و تركيز و نوع من
النقطاع و الرهبانية ..واحتاج المر منى الى عزم و ترويض و معاناة ..و كان
حبى للعلم و طموحى يساعدنى ،و كانت صحتى الضعيفة تخذلنى ..و بدنى المعتل
يضطرنى الى العتكاف من وقت لخر فى الفراش .ه
و فى السنة الثالثة طب إحتاج المر الى علج بالمستشفى سنتين و أدى هذا النقطاع
الطويل الى تطور إيجابى فى شخصيتى ..إذ عكفت طول هذه المدة على القراءة و
التفكير فى موضوعات أدبية.ه
و فى هاتين السنتين تكونت فى داخلى شخصية المفكر المتأمل و ولد الكاتب الديب
.ه
و حينما عدت الى دراسة الطب بعد شفائى كنت قد أصبحت شخصا آخر .أصبحت
الفنان الذى يفكر و يحلم و يقرأ و يطالع بإنتظام أمهات كتب الدب و المسرح و
الرواية .ه
و بسبب هذه الهواية الجديدة التى ما لبثت أن تحولت الى إحتراف و كتابة منتظمة فى
الصحف فى السنوات النهائية بكلية الطب ..إحتاج المر وقت مضاعف لكى أنجح و
أتخرج (بدأت أكتب فى مجلتي التحرير و روز اليوسف).ه
لم تكن بسبب إنكار أو عناد أو كفر و إنما كانت إعادة نظر منهجية حاولت أن أبدأ
فيها من جديد بدون مسلمات موروثة .ه
و لم أفقد صلتى بال طوال هذه الرحلة ..و إن كنت قد بدأت قطار الفكر و قطار
الدين من أوله من عند الصفحة الولى ..من مبدأ الفطرة ..و ماذا تقوله الفطرة
بدون موروثات .ه
و إنتهيت من الرحلة الى إيمان أشد و عقيدة أرسخ و إنعكست الرحلة فى ال 89
كتاب التى ألفتها .ه
الظلم المخيف
بقلم :د .مصطفى محمود
هل خطر على بالك وأنت تتأمل السماء في ليلة صافية أنك ل ترى من هذه السماء إل
% 5وربما أقل من محتوياتها مهما استخدمت من مناظير ومجسات وأدوات
استشعار ..مظلمة ل يخرج منها ضوء وسحب من العوالق والتربة ممتدة مترامية
بل حدود ..
ويقول رجال الفلك أن هذه المادة السوداء المظلمة هي مجموع الغبار الكوني وسحب
الغاز البارد وفقاعات كونية سابحة في الفضاء وكتل مادية جوفاء وثقوب سوداء
ونيازك وبقايا نجوم ميتة ..وجسيمات دقيقة وفتافيت ذرات هائمة في تجمعات
سحابية مثل البروتونات والنيوترونات والباريونات والكواركات وجسيمات النيوترينو
التي تخترق الرض وتخرج من الناحية الخرى في سر عات مذهلة مثل السهام
الخفية ..هذا عدا الجسام الكبرى العملقة كالنجوم والشموس والمجرات والكواكب
والتوابع والقمار التي تدور في أفلكها .
وافتراض وجود هذه المادة السوداء الخفية كان سببه أن النجوم والشموس والكواكب
والكتل المجرية العملقة ل تكفي بمجموع كتلتها للحتفاظ بتماسك مجموع الكون
ككل ..وتأثيرها الجذبي ل يكفي لجمع شمل العناقيد الكونية الهائلة من مجرات
وتوابع لتسبح في أسرة متحاضنة كما نراها ..وكان ل بد أن تنفرط لول وجود هذه
المادة المفترضة .
وعلماء الجاذبية يؤكدون أن هناك حدا أدنى من الكتلة لتتماسك هذه السرة الهائلة من
المجرات والنجوم والشموس والكواكب والقمار ولترحل كما نراها وهي متحاضنة
في هذا الفضاء اللنهائي .
فإذا كانت الكتلة أكبر فإن المجموعة تنهار على بعضها وتنكمش وتتكدس وتتضاغط
وتنصهر ويجري عليها أقصى درجة من (الهرس) الجذبي وترتفع درجة حرارتها
وتتحول إلى عجينة نارية .
ثم تنضغط إلى حد أقصى من الصغر ..ثم تعود فتنفجر وتتمدد وتتناثر في الفضاء
لتعيد قصة النفجار الول الذي بدأ به الكون ..ثم تنتشر في السماوات السبع وتتشكل
على صورة نجوم وشموس ومجرات سابحة مرتحلة ..كما هي في عالمنا المشهود
الن .
وتظل تتمدد وتتباعد بفعل قوة النفجار حتى تخمد هذه القوة ..فينشأ ما يسمى بالكون
المتعادل بين قوتين ..القوة الجاذبة المركزية والقوة الطاردة المركزية ويستمر هذا
الكون عدة مليارات أخرى من السنين .
فإذا استمر التباعد وتغلبت القوة الطاردة المركزية على القوة الجاذبة المركزية بسبب
صغر الكتلة فإن القبضة تظل تضعف وتضعف ثم يتناثر الكون بددا في الفضاء ..
وذلك هو الكون المفتوح في لغة علماء الفلك ..فهو في تمدد أبدا وفي تناثر دائما ل
يجتمع له شمل .
وإذا حدث العكس بسبب ضخامة الكتلة المادية فإن الكون ينهار على بعضه بسبب
ثقله ثم ينكمش ويتضاغط إلى نقطة النفجار الول .ز وذلك هو نموذج الكون المغلق
في لغة الفلكيين .
فيربط سبحانه وتعالى بين " الثقل " والنهيار الكوني في كلمة "ثقلت" ..وهي إشارة
علمية بليغة تفوت الكثيرين ..وسبحان الذي وسع كل شئ رحمة وعلما ..فكلمة "
تثاقل " ..هي الترجمة الحرفية لكلمة ..Gravitationأي الجاذبية وهذه معجزة
البيان القرآني الدقيق الذي ل تنتهي عجائبه .
والمعنى المستفاد من كل هذا أن الكتلة المادية لمجموع الكون هي التي سوف تحدد
سلوكه وسوف تحدد نهايته ..ولننا ل نرى مجموع هذه المادة ول نشهد منها إل
الجزء الذي يشع ضوءا ..ويخفي علينا نماما جانب المادة السوداء المظلمة ول
ندركها إل تخمينا واستنتاجا من حساباتنا ..فإننا لن نعلم متى ستأتي لحظة النهيار
الجذبي ومتى تقوم الساعة رغم أننا نعلم أشرا طها وعلماتها وتلك لفتة أخرى لدقة
البيان القرآني "ل تأتيكم إل بغتة" أي أننا سوف نفاجأ بها ولن تدركها حساباتنا رغم
توقعنا لحدوثها ..فهناك عنصر ناقص في هذه الحسابات لن ندركه بوسائلنا ..هو
المادة السوداء المظلمة ومداها وكتلتها بالضبط
وهذه هي "س" في المعادلة التي ل سبيل إلى تحديدها كميا وهذا هو التحدي الذي
يواجه العلماء .
أي أننا لن نعلم "بالضبط" مقدار هذه المادة السوداء المظلمة وبالتالي لن نستطيع أن
نحدد ساعة النهيار وهناك جنون فلكي الن حول هذه المادة السوداء ..وهناك سباق
محموم بين كل المراصد ومراكز البحاث الفلكية للوصول إلى الماهية الحقيقة لهذه
المادة السوداء وكميتها وكتلتها
ولكن كلهم متفقون على أنها حقيقية وأنها تمل السماوات ..ولكنهم مختلفون غاية
الختلف في مقدارها ..وفي ماهيتها.
ولفتة أخرى للدقة القرآنية في خطاب ال لموسى عن الساعة ..يقول ربنا لموسى إن
الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (– 15طه) يقول ربنا " أكاد
أخفيها " ول يقول أخفيها ..أي أننا سنعلم أنها آتية .
والكلمة غاية في الدقة ..فالفلكيون الن يعلمون أنها آتية لشك وأنها مرتبطة بالزيادة
التراكمية للكتلة ..ولكنهم ل يعلمون مقدار هذه الكتلة الكلية ..بسبب المادة المظلمة
التي ل يخرج منها ضوء ول تدركها المناظير ..وبالتالي ل يستطيعون حساب موعد
النهيار بالضبط لن الرقم الكلي مجهول
"يسأل أيان يوم القيامة" ( – 6القيامة ) كلها ..إشارات إلى استحالة التحديد " فإذا
برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر " ( – 9 – 8 – 7القيامة )
ول يجمع الشمس والقمر إل في النهيار الجذبي الذي ينهار فيه الثنان بجاذبية
المركز ويتحول الكون كله إلى عجينة واحدة تهرسها الجاذبية هرسا ..
ول شك أنها ستكون حالة مشهدية خارقة تخطف البصر لغرابتها ..هذا إذا ظل
المشاهد قادرا على المشاهدة وإذا لم يتحول إلى بودرة أو مسحوق .
والمر ل يمكن وصفه فهو كارثة كبرى بكل المقاييس يتضاءل أمامها كل ما نرى
من سيول وأعاصير وزلزل وبراكين وصواعق وانهيارات جليدية .
ولكن كل الرصاد تقول إن هذا الكون العظيم يسير حثيثا إلى نهايته.
من أنت ؟
من أنت ؟
من أنت ..حينما تتردد لحظة بين الخير و الشر ..من تكون..؟!
إن النفس ل تظهر منزلتها و ل تبدو حقيقتها إل لحظة أن تستقر على اختيار ،و
تمضي فيه باقتناع و عمد و إصرار ،و تتمادى فيه و تخلد إليه و تستريح و تجد
ذاتها.
و لهذا ل تؤخذ على النسان أفعال الطفولة ،و ل ما يفعله النسان عن مرض أو عن
جنون أو عن إكراه...
و إنما تبدأ النفس تكون محل محاسبة منذ رشدها ،لن بلوغها الرشد يبدأ معه ظهور
المرتكزات و المحاور التي ستنمو عليها الشخصية الثابتة.
و اختيارات النسان في خواتيم حياته هي أكثر ما يدل عليه ،لنه مع بلوغ النسان
مرحلة الخواتيم يكون قد تم ترشح و تبلور جميع عناصر شخصيته ،و تكون قد انتهت
ذبذبتها إلى استقرار ،و تكون بوصلة الرادة قد أشارت إلى الطابع السائد لهذه
الشخصية.
و لهذا يقول أجدادنا ..العبرة بالخواتيم ..و ما يموت عليه العبد من أحوال ،و أعمال
و ما يشغله في أيامه الخيرة هو ما سوف يبعث عليه ..تماما كما ينام النائم فيحلم بما
استقر في باله من شواغل لحظة أن رقد لينام.
و لهذا أيضا ل تؤخذ النفس بما فعلته و ندمت عليه و رجعت عنه ،و ل تؤخذ بما
تورطت فيه ثم أنكرته و استنكرته ،فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته و
جوهريته و يدرجه مع العوارض العارضة التي ل ثبات لها.
و قد أعطى ال النسان مساحة كبيرة هائلة من المنازل و المراتب ..يختار منها علوا
و سفل ما يشاء ..أعطاه معراجا عجيبا يتحرك فيه صاعدا هابطا بل حدود ..ففي
الطرف الصاعد من هذا المعراج تلطف و ترق الطبائع ،و تصفو المشارب و
الخلق حتى تضاهي الخلق اللهية في طرفها العلى ( و ذلك هو الجانب الروحي
من تكوينه) و في الطرف الهابط تكثف و تغلظ الرغبات و الشهوات ،و تتدنى الغرائز
حتى تضاهي الحيوان في بهيميته ،ثم الجماد في جموده و آليته و قصوره الذاتي ..ثم
الشيطان في ظلمته و سلبيته ( و ذلك هو الجانب الجسدي الطيني من التكوين
النساني).
و بين معراج الروح صعودا و منازل الجسد و الطين هبوطا ،تتذبذب النفس منذ
ولدتها ،فتتسامى من هنا و تتردى هناك بين أفعال السمو و أفعال النحطاط ،ثم
تستقر على شاكلتها و حقيقتها.
و متى يبلغ النسان هذه المشاكلة و المضاهاة بين حقيقته و فعله فإنه يستقر و
يتمادى ،و يمضي في اقتناع و إصرار على خيره أو شره حتى يبلغ نهاية أجله.
و معنى هذا أن النفس النسانية أو (( النا )) ..هي شيء غير الجسد ..و هي ليست
شيئا معلوما بل هي سر و حقيقة مكنونة ل يجلوها إل البتلء ،و الختبار
بالمغريات.
و ما الجسد و الروح إل الكون الفسيح الذي تتحرك فيه تلك النفس علوا و هبوطا بحثا
عن المنزلة التي تشاكلها و تضاهيها و البرج الذي يناسب سكناها فتسكنه ..فمنا من
يسكن برج النار ( الشهوات) و هو مازال في الدنيا ،فل يبرح هذا البرج حتى
الممات ،فتلك هي النفس التي تشاكل النار في سرها و هي التي سبق عليها القول و
العلم بأنها من أهل النار.
و ذلك علم سابق عن النفوس ل يتاح إل ل وحده ،لنه وحده الذي يعلم السر و
أخفى ،فهو بحكم علمه التام المحيط يعلم أن هذه الحقيقة المكنونة في الغيب التي
اسمها فلن ،و التي مازالت سرا مستترا لم يكشفه البتلء و الختبار بعد ،و التي لم
تولد بعد و لم تنزل في الرحام ..يعلم ربنا تبارك و تعالى بعلمه المحكم المحيط أن
تلك النفس لن تقر و لن تستريح و لن تختار إل كل ما هو ناري شهواني سلبي
عدمي ..يعلم عنها ذلك و هي مازالت حقيقة مكنونة ل حيلة لها في العدم.
و هذا العلم الرباني ليس علم إلزام و ل علم قهر ،بل هو علم حصر و إحاطة ،فال
بهذا العلم ل يجبر نفسا على شر ،و ل ينهى نفسا عن خير ،فهو يعلم حقائق هذه
النفس على ماهي عليه دون تدخل.
فإذا جاء ميقات الخلق ( و جميع هذه النفس تطلب من ال أن يخلقها و يرحمها
بإيجادها و هي مازالت حقائق سالبة في العدم) أعطى ال تلك النفس اليد و القدم و
اللسان لتضر و تنفع ،و أعطاها ذلك الكون الفسيح الذي اسمه الروح و الجسد لتمرح
فيه صاعدة هابطة تختار من منازله ما يشاكلها لتسكن فيه ..فإذا سكنت و استقرت ،و
تسجلت أعمالها قبضها ال إليه يوم البعث و الحساب المعلوم ..حيث تقرأ كل نفس
كتابها ،و تعلم منزلتها فل يعود لحد العذر في أن يحتج بعد ذلك حينما يضعه ال في
مستقر الجنة أو مستقر النار البدية.
و قد أعذر ال و أنذر الجميع من قبل ذلك بالرسل و الكتب و اليات ،و أقام عليهم
الحجة بما وهب لهم من عقل و ضمير و بصيرة و حواس تميز الضار من النافع و
الخبيث من الطيب.
و لهذا حينما تطالب النفوس المجرمة في النار أن تعطى فرصة أخرى ،و أن ترد إلى
الدنيا لتعمل الصالحات ،و حينما يدعي البعض أن تعذيب تلك النفوس أبديا على ذنوب
مؤقتة ارتكبتها في الزمن المحدود هو أمر ظالم.
و في هذا الرد البليغ إشارة إلى أن إجرام تلك النفس لم يكن ذنبا موقوتا في الزمن..
بل لنهم ليعاودون هذا الجرم في كل زمن و مهما عاود ال خلقهم ..لن ذلك الجرام
حقيقة مكنونة ،و ليس عرضا محدودا بالزمان و المكان ..و لهذا كان عقابه البد ،و
ليس العذاب الموقوت.
و نقول أيضا :إن هناك عدالة عميقة كامنة في هذا المصير ..نارا أبدية أم جنة ..إن
كل نفس بينها و بين ذلك المصير النهائي مشاكلة تامة ،و مضاهاة و ائتلف في
الحقائق ..فالحقائق النارية تسكن النار و الحقائق النورانية تسكن الجنة ..فل قسوة
هناك و ل وحشية ،و إنما وضع لكل شيئ في مكانه.
و السر الخر الذي ينكشف لنا أن البيئة ل يمكن أن تصنع من إنسان صالح ( نفسه
صالحة بالحقيقة) إنسانا مجرما و ل العكس ،و أن الكلم على أن مظالم المجتمع
جعلت فلنا لصا ،هذا الكلم ل يصدق دينيا و ل واقعيا .فالمجتمع يضع للجريمة
إطارها فقط و لكن ل ينشئ جريمة في إنسان غير مجرم ..بمعنى أن لص هذا الزمان
تعطيه إمكانيات العصر العلمية وسائل إلكترونية و أشعة ليزر ليفتح بها الخزائن،
بينما نفس اللص منذ عشرين سنة لم يكن يجد إل طفاشة ..كما أن قاتل اليوم يمكن أن
يستخدم بندقية مزودة بتلسكوب ( كما فعل قاتل كنيدي) بينما هو في أيام قريش ل يجد
إل سيفا ،ثم قبل ذلك بعدة قرون ل يجد إل عصا ،ثم قبل ذلك على أيام قابيل و هابيل
ل يجد إل الحجارة.
إن المجتمع و العصر و الظروف تصنع للجريمة شكلها ،و لكنها ل تنشئ مجرما من
عدم ،و ل تصنع إنسانا صالحا من نفس ل صلح فيها.
و بالمثل ل يستطيع البوان بحسن تربيتهما أن يقلبا الحقائق فيخلقا من ابنهما المجرم
ابنا صالحا و ل العكس.
(( و أما الغلم فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا )) (– 80
الكهف)
و أكثر النبياء كانوا من آباء كفرة ،و استجابت أكثر القوام لهؤلء النبياء و لم
يستجب الباء.
من الذي يستطيع أن يقلب حقائق النفس و يغيرها؟ ل أحد سوى ال وحده.
و ال ل يفعل ذلك إل إذا طلبت النفس ذاتها أن تتغير و ابتهلت من أجل ذلك ،لنه
واثقنا جميعا على الحرية التامة و على أنه ل إكراه في الدين ..و أن من شاء أن يكفر
فليكفر ،و من شاء أن يؤمن فليؤمن ..و أنه لن يقهر نفسا على غير هواها ..و أنه لن
يغير من نفس إل إذا بادرت بالتغير و طلبت التغير.
و تلك هي التزكية.
(( و لول فضل ال عليكم و رحمته ما زكا منكم من أحد أبدا و لكن ال يزكي من
يشاء)) ( – 21النور)
و ل سبيل إلى تطهير النفس و تزكيتها إل بإتقان العبادة و التزام الطاعات ،و إطالة
السجود و فعل الصالحات.
و بحكم رتبة العبودية يصبح النسان مستحقا للمدد من ربه ،فيمده ال بنوره و يهيئ
له أسباب الخروج من ظلمته.
و ذلك هو سلوك الطريق عند الصالحين من عباد ال ،بالتخلية ( تخلية النفس من
الصفات المذمومة) ،ثم التحلية ( تحلية القلب بالذكر و الفضائل) و التعلق و التخلق و
التحقق.
و ل سبيل إلى صعود هذا المعراج إل بالعبادة و الطاعة و العمل الصالح ،و التزام
المنهج القرآني و السلوك على قدم محمد العبد الكامل عليه صلوات ال و سلمه.
قولك عن النفس أنها (( السر )) هو كلم أغمضت فيه ،و ألغزت و حجبت و ما
كشفت.
أقول له إن نفسا فيها القابلية للحركة على جميع تلك المعارج صعودا و هبوطا ،و
فيها القابلية أن تكون ربانية أو شيطانية أو حيوانية أو جمادية.
في ساعات الصفاء حينما تنقشع الغواشي عن القلب و تنجلي البصيرة ،و أرى كل
شيء أمامي بوضوح ،تبدو لي الدنيا بحجمها الحقيقي و بقيمتها الحقيقية ،فإذا هي
مجرد رسم كروكي أو ديكور مؤقت من ورق الكرتون ،أو بروفة توزع فيها الدوار
لختيار قدرات الممثلين ،أو مجرد ضرب مثال لتقريب معنى بعيد و مجرد و هي في
جميع الحوال مجرد عبور و مزار و منظر من شباك في قطار.
أعجب تماما و أدهش من ناس يجمعون و يكنزون و يبنون و يرفعون البناء و ينفقون
على أبهة السكن و رفاهية المقام ..و كأنما هو مقام أبدي ..و أقول لنفسي أنسوا أنهم
في مرور؟ .ألم يذكر أحدهم أنه حمل نعش أبيه و غدا يحمل ابنه نعشه إلى حفرة
يستوي فيها الكل؟ ..و هل يحتاج المسافر لكثر من سرير سفري و هل يحتاج
الجوال لكثر من خيمة متنقلة؟.
و لم هذه البهة الفارغة و لمن؟.
هل نحن أغبياء إلى هذه الدرجة؟ .أم هي غواشي الغرور و الغفلة و الطمع و عمى
الشهوات و سعار الرغبات و سباق الوهام؟ .و كل ما نفوز به في هذه الدنيا وهمي،
و كل ما نمسك به ينفلت مع الريح.
و الذين يتقاتلون ليسبق الواحد منهم الخر أكثر عمى ،فالشارع سد عند نهايته و كل
العربات تتحطم و يستوي فيها السابق باللحق ،و ل يكسب أحد منهم إل وزر قتل
أخيه ..بل إن أكثر الناس أحمال و أوزارا في هذه الدنيا هم الكثر كنوزا و الكثر
ثراء ،فكم ظلموا أنفسهم ليجمعوا ،و كم ظلموا غيرهم ليرتفعوا على أكتافهم.
و لعلنا سمعنا مثل هذا الكلم و نحن نلهث متسابقين على الطريق ..فهو كلم قديم قدم
التاريخ رددته جميع السفار و قاله جميع الحكماء و لكنا لم نلق له بال و لم يتجاوز
شحمة الذن.
و مازلنا نزداد صمما عن إدراك هذه الحقيقة البسيطة الواضحة و كأنها طلسم مطلسم
و لغز عصي على الفهام.
نعم تلك هي الخدعة التي يستدرج إليها الكل ..إنه ل شيء سوى ما نرى و نسمع و
نذوق و نلمس من ماديات ،و أنه ليس وراء هذه الدنيا شيء و نفوسنا المارة
استراحت إلى هذه الفلسفة لنها تشبع لها رغائبها و تحقق لها مشتهياتها ،و الحيوان
في داخلنا اختارها لنها تشبع غرائزه.
ألم يسأل داوود ربه :يارب كيف أصل إليك .فقال له ربه ..اترك نفسك و تعال ..أن
يترك هذه النفس لنها العقبة (( ..فل اقتحم العقبة .و ما أدراك ما العقبة .فك رقبة))
( 13 – 11البلد)
إن النفس هي الموضوع و هي ميدان المعركة و محل البتلء ،و الدنيا ورقة
امتحانها ،و مطلوب الدين هو الرتقاء بهذه النفس و الرتفاع بها من شهوات البطن
و الفرج و من شهوات الجمع و الكتناز ،و من حمى الستعراض و الكبر و التفاخر
ليكون لها معشوق أرقى هو القيم و الكمالت ،و معبود واحد هو جامع هذه الكمالت
كلها..
و إنما تدور المعركة في داخل النفس و في شارع الدنيا حيث يتفاضل الناس بمواقفهم
من الغوايات و المغريات و ما تعرض عليهم شياطينهم من خواطر السوء و من
فرص اللذة كل لحظة.
و لم يطلب السلم من المسلم أن ينبذ الدنيا ،بل طلب منه أن يخوضها مسلحا بهذه
المعرفة ،فالدنيا هي مزرعته و هي مجلى أفعاله و صحيفة أعماله.
و قدم له فلسفة أخرى في مواجهة الفلسفة المادية ..قدم له فلسفة استمرار و بقاء فهو
لن يموت و يمضي إلى عدم ..بل إلى حياة أخرى سوف تتعدد فصول و تمضي به
كدحا و جهادا حتى يلقى ربه (( :يا أيها النسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه)) (
– 6النشقاق)
الحضارة المادية لم تقدم للنسان إل الموت و حياة تمضي سدا و تنتهي عبثا ..أما
السلم فقدم للنسان الخلود و حياة تمضي لحكمة و تنتقل من طور إلى طور وفقا
لنواميس ثابتة من العدل اللهي ،حيث ل يذهب أي عمل سدى و لو كان مثقال ذرة
من خير أو شر ..فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره.
و اليوم تصل الحضارة المادية إلى ذروة من القوة و العلم و تكتمل لها أدوات الفعل و
التأثير من إذاعة و تليفزيون و سينما و مسرح و كتب و مجلت ،و هي سواء كانت
أمريكية أو سوفييتية ،فهي ل تفتأ تغتال العقل و الروح و تتحالف على النسان بخيلها
و رجلها ،و لكنها برغم كل شيء ضعيفة متهافتة واهية لنها تغتال نفسها ضمن ما
تغتال و تأكل كيانها ،وسوف تقتتل مع بعضها البعض و تتحارب بالمخلب و الناب و
بالقنابل الذرية و القذائف النووية فالطمع و الجشع حياتها و موتها.
و على رقعة صغيرة من الرض يقف السلم كمنارة في بحر لجي مظلم متلطم
الموج يعج بالبوارج و الغواصات و حاملت الصواريخ و حاملت الرءوس النووية.
و ما أكثر المسلمين ممن هم في البطاقة مسلمون ،و لكنهم في الحقيقة ماديون اغتالتهم
الحضارة المادية بأفكارها و سكنتهم حتى الحشاء و النخاع ،فهم يقتل بعضهم البعض
و يعيشون لليوم و اللحظة و يجمعون و يكنزون و يتفاخرون و ل يرون من الغد أبعد
من لذة ساعة ،و يتكلمون بلغة سوفييتية أو لغة أمريكية و ل يعرفون لهم هوية..
و قد نجد من يصلي منهم إلى القبلة خمس مرات في اليوم و لكن حقيقة قبلته هي
فاترينة البضائع الستهلكية.
و لو بقي مؤمن واحد مرابط على الحق في الربعة آلف مليون فهو وحده أمة
ترجحهم جميعا عند ال يوم تنكشف الحقائق و ينهدم مسرح العرائس و يتمزق ديكور
الخيش و الخرق الملونة ،و تنهار علب الكرتون التي ظنناها ناطحات سحاب و تنتهي
الدنيا.
و حينئذ و عندما تهتك الستار و تقام الموازين ،سوف نعرف ما الدنيا و ماذا
تساوي ..و ماذا يساوي كل الزمن حينما نضع أقدامنا في البد.
و حينئذ سوف نتذكر الدنيا كما نتذكر رسما كروكيا ،أو مسرح خيال الظل ،أو نموذج
مثال مصنوع من الصلصال لتقريب معنى بعيد بعيد و مجرد..
و سوف نعلم أنها ما كانت سوى النقطة التي فيها كل أملح البحر المحيط ،و لكنها لم
تكن أبدا البحر المحيط.
(بتصرف)
معناه أن يطمئن القلب و ترتاح النفس و يسكن الفؤاد و يزول القلق فالحق لبد واصل
لصحابه.
معناه لن تذهب الدموع سدى و لن يمضي الصبر بل ثمرة و لن يكون الخير بل
مقابل و لن يمر الشر بل رادع و لن تفلت الجريمة بل قصاص.
معناه أن الكرم هو الذي يحكم الوجود و ليس البخل..و ليس من طبع الكريم أن يسلب
ما يعطيه ..فإذا كان ال منحنا الحياة ،فهو ل يمكن أن يسلبها بالموت ..فل يمكن أن
يكون الموت سلبا للحياة ..و إنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة
أخرى بعد البعث ثم عروج في السماوات إلى ما ل نهاية.
معناه أنه ل عبث في الوجود و إنما حكمة في كل شيء ..و حكمة من وراء كل
شيء ..و حكمة في خلق كل شيء ..في اللم حكمة و في المرض الحكمة و في
العذاب حكمة و في المعاناة حكمة و في القبح حكمة و في الفشل حكمة و في العجز
حكمة و في القدرة حكمة.
معناه أن تسبح العين و تكبر الذن و يحمد اللسان و يتيه الوجدان و يبهت الجنان.
معناه أن يتدفق القلب بالمشاعر و تحتفل الحاسيس بكل لحظة و تزف الروح كل يوم
جديد كأنه عرس جديد.
أل يقول لنا ربنا (( إن مع العسر يسرا)) ..و أن الضيق يأتي و في طياته الفرج فأي
بشرى أبعث للطمئنان من هذه البشرى.
و لن ال سبحانه واحد ..فلن يوجد في الوجود إله آخر ينقض وعده و لن ننقسم على
أنفسنا و لن تتوزعنا الجهات و لن نتشتت بين ولء لليمين و ولء لليسار و تزلف
للشرق و تزلف للغرب و توسل للغنياء و ارتماء على أعتاب القوياء ..فكل القوة
عنده و كل الغنى عنده و كل العلم عنده و كل ما نطمح إليه ين يديه ..و الهرب ليس
منه بل إليه ..فهو الوطن و الحمى و الملجأ و المستند و الرصيد و الباب و الرحاب.
و ذلك الحساس معناه السكن و الطمأنينة و راحة البال و التفاؤل و الهمة و القبال و
النشاط و العمل بل ملل و بل فتور و بل كسل و تلك ثمرة ((ل إله إل ال)) في نفس
قائلها الذي يشعر بها و يتمثلها ،و يؤمن بها و يعيشها و تلك هي أخلق المؤمن بل
إله إل ال.
و تلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفوس و تشفى كل علل العقول و تبرئ
كل أدواء القلوب.
و تلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلل اليدي و الرجل و العناق و هي أيضا
مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا و كلمة السر التي تحرك الجبال و تشق البحور و
تغير ما ل يتغير.
و لم يخلق إلى الن العقار السحري الذي يحدث ذرة واحدة من هذا الثر في النفس.
و كل عقاقير العصاب تداوي شيئا و تفسد معه ألف شيء آخر ..و هي تداوي
بالوهم و تريح النسان بأن تطفئ مصابيح عقله و تنومه و تخدره و تلقى به إلى قاع
البحر موثوقا بحجر مغمى عليه شبه جثة.
أما كلمة ل إله إل ال فإنها تطلق النسان من عقاله و تحرره من جميع العبوديات
الباطلة و تبشره بالمغفرة و تنجيه من الخوف و تحفظه من الوسواس و تؤيده بالمل
العلى و تجعله أطول من السماء هامة و أرسخ من الرض ثباتا ..فمن استودع همه
و غمه عند ال بات على ثقة و نام ملء جفنيه.
ولن ال هو خالق الكون و مقدر القدار و محرك المصائر ..فليس في المكان أبدع
مما كان ..لنه المبدع بل شبيه ..ل يفوقه في صنعته أحد ..فلن تعود الدنيا مسرحا
دمويا للشرور و إنما درسا رفيعا من دروس الحكمة.
و لن ال موجود فإنك لست وحدك ..و إنما تحف بك العناية حيث سرت و تحرسك
المشيئة حيث حللت.
و ذلك معناه شعور مستمر بالئتناس و الصحبة و المان ..ل هجر ..و ل غدر ..و
ل ضياع ..و ل وحدة ..و ل وحشة و ل اكتئاب .و ذلك حال أهل ل إله إل ال.
تلك هي الصيدلية اللهية لكل من داهمه القلق ..فيها علجه الوحيد ..و فيها الكسير
و الترياق و ماء الحياة الذي ل يظمأ بعده شاربه ..و فيها الرصيد الذهبي و المستند
لكل ما نتبادل على الرض من عملت ورقية زائلة متبدلة ..و فيها البوصلة و
المؤشر و الدليل.
((يمشون على الرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلما)) ( 63الفرقان)
تعرفهم بطول الصمت و تواصل الفكر و خفض الصوت و البعد عن الهرج و
الصخب و التلعن.
و تعرفهم بالتأني و التقان و الحسان فيما يعهد إليهم من أعمال ،و تعرفهم بالدماثة
و لين الطبع و الصدق و الوفاء و العتدال في الخذ من كل شيء.
و إذا كان لبد من اختيار صفة واحدة جامعة لطابع المؤمن لقلت هي:
السكينة ،فالسكينة هي الصفة المفردة التي تدل على ان النسان استطاع أن يسود
مملكته الداخلية و يحكمها و يسوسها.
و هي الصفة المفردة التي تدل على انسجام عناصر النفس و التوافق بين متناقضاتها
و انقيادها في خضوع و سلسة لصاحبها و هي أمر ل يوهب إل لمؤمن.
و أنت تقرأ هذه السكينة في هدوء صفحة الوجه ..ليس هدوء السطح بل هدوء
العمق ..هدوء الباطن ..و ليس هدوء الخواء و ل سكون البلدة ،و إنما هدوء التركيز
و الصفاء و اجتماع الهمة و وضوح الرؤية ..و كأنما الذي تراه أمامك يضم البحر
بين جنبيه.
و البحر ساكن و لكنه جياش يطرح اللئ و الصداف و المراجين من أعماقه لحظة
بعد لحظة ،فهو غني الغنى اللنهائي.
لن علقة المؤمن بماحوله علقة متميزة مختلفة ..علقته بالمس و الغد و علقته
بالموت ..و علقته بالناس ..و علقته بعمله و نظرته للخلق.
فالخلق بالمعنى المادي الواقعي هي أن تشبع رغباتك بما ل يتعارض مع حق
الخرين في إشباع رغباتهم هم أيضا ،فهي مفهوم مادي اجتماعي بالدرجة الولى و
هدفها حسن توزيع اللذات.
أما الخلق بالمعنى الديني – فهي بالعكس – أن تقمع رغباتك و تخضع نفسك و
تخالف هواك و تحكم شهواتك لتتحقق برتبتك و منزلتك العظيمة كخليفة عن ال و
وارث للكون المسخر من أجلك ..فأنت ل تستحق هذه الخلفة و السيادة على العالم،
إل إذا استطعت أول أن تسود نفسك و تحكم مملكتك الداخلية ..و مفهوم الخلق هنا
فردي ،و هدفه بلوغ الفرد درجة كماله و إن كانت هناك ثمرة اجتماعية يجنيها ذلك
الفرد فإنها تأتي بالتبعية.
فالمجتمع الذي يتألف من مثل هؤلء الفراد لبد أن يسوده الوئام و السلم و المحبة.
و الخلق بهذا المعنى هي خروج من عبودية النفس إلى مرتبة عليا ..خروج من
الرغبة في شيء مادي إلى الرغبة في حضرة الله ..خروج من الجزء إلى الكل..
من النسبي إلى المطلق حيث يجب أن تطلع كل العيون ..و هذا ل يمكن أن يتم إل إذا
تم تصحيح و تكميل بصر العين ..فأصبحت ترى كل شيء بحقيقة حجمه و نسبته ل
تحجبها لذة دنيوية عن رؤية الكمالت اللهية.
و لهذا تبدأ الخلق الدينية بمجاهدة الشهوات حتى تحكمها و تخضعها و ل تبدأ
بالتسليم لها و بإشباعها كما هو شائع ،فهي ليست دعوة إلى حسن توزيع اللذات و إنما
هي دعوة إلى الخروج من أسر الملذات ،و هكذا تختلف النظرتان تماما و تؤدي كل
منهما إلى انسان مختلف.
فالنسان المادي يستهدف النزوة و اللذة الفورية و المقابل المادي العاجل (( لنه ل
يعتقد في وجود شيء وراء الحياة الدنيوية )) ،و هو لهذا يجري وراء(( اللحظة )) و
يلهث وراء (( الن )) ،و لكن اللحظة متفلتة و ((الن)) هارب و الفوت و الحسرة
تلحقانه في أعقاب كل خطوة يخطوها و هو متروك دائما و في حلقه غصة و في لبه
حسرة و كلما أشبع شهوته ازدادت جوعا .و هو يراهن كل يوم بل ضمان و بل
رصيد فهو محكوم عليه بالموت ل يعرف متى و كيف و أين ،فهو يعيش في قلق و
توتر مشتت القلب متوزع الهمة بين الرغبات ل يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه
الموت رغم أنفه.
أما النسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف و أخلقية مختلفة ،فهو يرى اللذات
الدنيوية زائلة ،و أنها ل تساوي شيئا ،و أنها مجرد امتحان إلى منازل و درجات
وراءها ،و أن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل و الدرجات الباقية ..و أن الدنيا
كالخيال و أن ال هو الضمان الوحيد في رحلة النيا و الخرة ..و أنه ل حاكم و ل
مقدر سواه ..و لو اجتمع الناس على أن يضروك لما استطاعوا أن يضروك إل بشيء
كتبه ال عليك ،و إن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لما استطاعوا أن ينفعوك إل
بشيء كتبه ال لك.
و لهذا فإن المؤمن ل يفرح لكسب و ل ييأس على خسران ،و إذا دهمه ما يكره قال
في نفسه(( :و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر
لكم و ال يعلم و أنتم لتعلمون))
و ال عنده حكيم عادل رحيم ل يقضي بالشر إل بسبب و لحكمة أو لفائدة و استحقاق
عادل.
و هو ل يحسد أحدا و ل يغبط أحدا ،بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة،
يقول له قلبه:
(( ل يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد ..متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد))
( 197 -196آل عمران)
(( أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين ..نسارع لهم في الخيرات بل ل يشعرون))
( 56-55المؤمنون)
و ثمرة تلك اليات عند المؤمن هي السكينة و الهدوء النفسي و اطمئنان البال و الثقة
في حكمة ال و عدله و رحمته و تصريفه.
و مثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته ،وجد عوضا لها حلوة في قلبه ،مما
يلقى من التحرر الداخلي من أغلل نفسه و مما يجد من النور في بصيرته.
و هو يترك السعي إلى الحظوظ للسعي إلى الحقوق و يترك الدعاوى إلى الوامر.
و من صفات هذا المؤمن العامل لوجه ال أنه ناهض بالهمة على الدوام ل يفتر و ل
يكسل و ل يتواكل ،بينما يفتر من يعمل للجرو يفتر من يعمل للخوف ((يخدع الول
نفسه بالستكفاء و يخدع الثاني نفسه بالتمني)) أما القاصد وجه ربه فإنه ل يفتر لنه
لم يربط جهاده بأجر و هو ل يكسل متواكل على مغفرة لنه ل يتحرك بالخوف من
عقاب و إنما هو عبد محب متطوع ،العمل عنده سعادة ،لهذا ل تجده متبرما و ل
متسخطا و إنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل ،حماد لربه في جميع
الحالت ل يسب الدهر و ل ينسب لربه نقصا و ل قصورا.
و هذه التركيبة النفسية النادرة هي ثمرة اليمان بالقرآن و هي ثمرة التوحيد ..و
التوحيد يجمع عناصر النفس و يوحد اتجاه المشاعر نحو مصدر واحد للتلقي فيؤدي
بذلك إلى أثر تركيبي بنائي في الشخصية بعكس تعدد اللهة و تعدد مصادر الخوف و
النفع و الضرر فإنه يؤدي إلى توزع المشاعر و انقسام النفس و تشتت النتباه إلى
العديد من الجهات ،و يؤدي بذلك إلى تفكيك رباط الشخصية.
و القارئ للقرآن الكريم يخرج بعلم نفس قرآني متميز بديع و منفرد في تربيته
للمسلم.
و ليس عجيبا أن القرآن أقام حضارة و صنع تاريخا ..فإنه قبل ذلك أقام إنسانا و ربى
نفسا بديعة سوية متفردة في تكاملها و أشرق عليها بسكينة ل مثيل لها.
و مثل تلك التربية الفذة تشهد للقرآن بأنه خرج من المشكاة اللهية ..فل مرب مثل
الرب.
و لهذا يختلف علم النفس و علم النفس القرآني في علج المراض النفسية .فعلم
النفس ل يرى إمكانا لتبديل النفس أو تغييرها جوهريا لن النفس تأخذ شكلها النهائي
في السنوات الخمس الولى من الطفولة ..و ل يبقى للطبيب النفسي دور سوى إخراج
المكبوت فيها إلى الوعي ..أو فتح نوافذ للتنفيس و التعبير و تخفيف الغليان الداخلي..
و بهدف الوصول إلى ذلك يلجأ الطبيب النفسي إلى العلج بالتنويم المغناطيسي أو
العلج باليحاء أو بالتنفيس و التعبير و الفن و اللعب أو العلج بالستغراق في عمل
آلي أو العلج بالشباع المباشر.
و كل هذه الصور أشبه بعلج السرطان بالمراهم أو المسكنات لنها ل تحاول أن
تغير من النفس شيئا ،فكلها تقبل وجود الدمل النفسي على حاله ثم تقول للمريض..
اصرخ أو تأوه أو ارقص أو غني لتنفس عن آلمك ..أو تضع يده على الدمل و تقول
له ..هنا الدمل ..و هذا كل جهدهم.
أما الدين فيقول بإمكانية تبديل النفس و تغييرها جوهريا و يقول بإمكانية إخراجها من
ظلمة البهيمية إلى أنوار الحضرة اللهية و من حضيض الشهوات إلى ذروة الكمالت
الخلقية و ذلك بالرياضة و المجاهدة.
و يكون ذلك على مراحل ..أولها :تخلية النفس من عاداتها المذمومة و ذلك
بالعتراف بالذنوب و العيوب و إخراج هذه العيوب إلى النور كما قال موسى لربه
بعد قتل المصري خطأ:
و المرحلة الثالثة :هي مجاهدة الميول النفسية المريضة بأضدادها .و ذلك برياضة
النفس الشحيحة على النفاق و إكراه النفس الشهوانية على التعفف ،و دفع النفس
النانية إلى البذل و التضحية و اليثار ،و حث النفس المختالة المزهوة على التواضع
و النكسار ،و استنهاض النفس الكسولة إلى العمل ..و بمعالجة الضد بالضد تصل
النفس إلى الوسط العدل ..و هو صراط الحكمة ..و هو حظ الصالحين من البشر.
و ل تنجح تلك الرياضة دون طلب المدد و العون من ال و دون الصلة و الخشوع و
الخضوع و الفناء في محبة ال ركوعا و سجودا في توحيد كامل(و توحيد ال ل يكون
إل بطاعته الكاملة و السترسال معه ..ل تريد لنفسك إل ما يطلبه هو لك) و هنا
تحدث المعجزة ..فيتبدل القلق سكينة و الفزع طمأنينة و الخسة الشهوانية عفة و
طهارة ..و النواقص النفسية كمالت.
و ذروة العلج النفسي هي(( الذكر)) ذكر ال بالقلب و اللسان و الجوارح و السلوك
و العمل ..و استشعار الحضرة اللهية على الدوام و طوال الوقت في كل قول و
فعل.
و في الذكر شفاء و وقاية و أمن و طمأنينة لن الذكر يعيد الصلة المقطوعة بين العبد
و الرب و يربط النفس بمنبعها و يرد الصنعة إلى صانعها ..حيث هو العلم بعيوبها
و القدر على علجها.
و بينما يرى فرويد (الطيبة) تخاذل و سلبية و ينصح مريضه قائل له (( :كل و إل
فأنت مأكول)).
و بينما يرى فرويد من العمال مايساعد على تفريغ و تنفيس الغليان النفسي ..نشترط
نحن العمل الصالح.
و بينما يرى أن ماضي الطفولة حاكم على كل إنسان و موجه لفعاله ل نقول نحن
بحاكم إل ال ..و نقول إننا بفضل ال يمكن أن نخرج من أي حكم ،و بينما يقول
بفطرة عدوانية و بغريزة التحطيم و الهدم و بالطاقة الشهوانية كدوافع رئيسية ،نقول
نحن :إن النسان فُطر حرا مختارا بين النوازع السالبة و الموجبة يختار ما يشاء منذ
البداية.
و سبب كل هذه المادية الفرويدية و مادية علم النفس بوجه عام هو أنهم يتعاملون مع
النفس النسانية على أنها مادة وجسد يمكن اقتحامه بالتشريح و التجربة ..و هم
يفعلون هذا عن إيمان بأنه ل روح هناك و ل ذات و ل نفس ..و إنما مجموعة
مركبات كيميائية و جينات وراثية اسمها النسان و تلك هي خطيئة الحضارة المادية،
فهذا التصور أبعد ما يكون عن الصواب لن النفس النسانية (( ذات )) قبل كل شيء
و ل يمكن إحالتها إلى موضوع مجرد ..و هي كالحياة إذا أعملت فيها مبضع التشريح
ماتت في يدك ..و النفس دائما تستخفي على النظرة التحليلية و تتنكر بما تطرح في
الظاهر من ردود أفعال سلوكية و هي ل تعطي سرها أبدا حتى لصاحبها إذا بدأ
يتدبرها كموضوع ،لنها ليست موضوعا بل هي في جوهرها (( ذات )) بكر إذا
فضضت بكارتها و هتكت استسرارها و حاولت أن تقتحمها بالنظرة الموضوعية
استعصت عليك و تفلتت منك بمجموعة من البدائل السلوكية الخادعة و تحولت إلى
شيء آخر ..و لم تعد (( هي )).
و يظل دائما الفارق بين ما ترى منها في الظاهر و ما خفى عليك من حقيقتها،
كالفارق الهائل بين الجسد الظاهر و الروح التي تسكنه ..و أنت لن تصل أبدا إلى كنه
الروح بتشريح الجسد ..و إنما أنت على أحسن الفروض سوف تفهم الجسد أكثر فأكثر
و لكنك تظل دائما بعيدا كل البعد عن إدراك سر الروح و لغزها.
قرأت الحادث مع اللوف الذين قرأوه ،و شعرت معهم بتلك القشعريرة الباردة ،و
الفضول إلى معرفة هذا الحادث الغريب في وحشيته.
طالعتني في سجن النساء بالقناطر إمرأة وسيمة ،دقيقة الملمح ،أسنانها جميلة كصفين
من لؤلؤ ..على وجهها سكينة و طمأنينة ..تصلي و تصوم ،و تنام نوما هادئا عميقا..
و كلمها كله عن رحمة ال و أمر ال و حكمة ال ..و كأنها رجل صوفي ضل
مكانه.
و لكن الزوجة اعترفت بأنها كانت على علقات متعددة مع رجال متعددين أثناء
الطلق فهي لم تحفظ لنفسها كرامة..
كيف ل يبدو كل هذا الخراب النفسي على ذلك الوجه الجميل السمح الوديع ،المطمئن
الهادئ كأنه وجه قديس.
تذكرت رجل جميل رأيته ذات مرة ..كان جميل فاتنا مفتول العضل ،جذاب الصورة
كأنه نجم سينما ..و كان مهذبا يتكلم بنبرة خفيضة ..و كان يجفل بنظراته في حياء..
ثم تبين لي فيما بعد أنه مجنون يعالج بالصدمات الكهربائية.
أهو المكر اللهي الذي يستدرج به ال النفوس ،و يمتحنها بعضها ببعض ليفضح
خباياها و مكتوماتها ،و ليخرج حقائقها و يكشف بشاعتها ،فإذا بالمرأة الجميلة جلدا
و إذا بالرجل الدميم ملكا..
هي ل تشعر بندم أو تأنيب ضمير ..و يقينها أنها على الحق.
أيمكن أل يعرف الواحد منا نفسه؟
لقد قال أبوبكر أنه ل يطمئن إلى أنه صار إلى الجنة حتى و لو دخلت إحدى رجليه
الجنة ،مادامت الرجل الثانية لم تدخل بعد ..و ذلك خوفا من مكر ال ..خوفا من أن
يكشف ال في اللحظة الخيرة شرا مكتوما في نفسه يدخله به النار البدية ..شرا كان
يكتمه أبوبكر في نفسه دون أن يدري به أو يدري عنه.
و تلك هي ذروة التقوى..
خوف ال..
و التواضع و عدم الطمئنان إلى براءة النفس و نقائها ،و خلوها من الشوائب..
و عدم الغرور بصالح العمال..
و خوف المكتوم الذي يمكن أن يفتضح فجأة بالمتحان..
و أهل الحقائق في خوف دائما من أن تظهر فيهم حقيقة مكتومة ل يعلمون عنها شيئا
تؤدي بهم إلى المهالك ،فهم أمام نفوسهم في رجفة..
و أمام ال في رجفة..
و ذلك هو العلم الحق بالنفس و بال..
فالنفس هي(( السر العظم )) ..و هي الغيب المطلسم..
هي غيب حتى عن صاحبها ..ل تنكشف له إل من خلل المعاناة ..و هي في مكر
دائم تظهر وجها من وجوهها ،و تخفي ألف وجه..
و هل هناك أسوأ من مكر هذين الصفين من السنان اللؤلؤية التي تأكل الميتة ،و
تمتص الدم البارد و توشوش بالحب ،و تضمر الموت؟!
شيء واحد في مظهر هذه المرأة العجيبة كان ينم عليها ..هو صوتها..
ذلك الصوت النحاسي المعدني الذي يخرج عاليا حادا رتيبا على الدوام ،و كأنه يخرج
من أنبوبة معدنية و ليس من قلب يشعر.
صوت ل يبدو فيه حزن و ل فرح و ل غضب..
صوت معرى مجرد من جميع المشاعر..
صوت أقرع أملس ل يشف عن أي انفعال ..يعطيك الحساس دائما بأن هناك شيئا
غير إنساني يتكلم ،و إنك أمام جماد ينطق..
تتكلم عن الحب كما تتكلم عن الكراهية..
تتكلم عن رحمة ال كما تتكلم عن انتقامه بنفس الوجه الجامد و النبرة النحاسية
الرتيبة..
يخيل لمن يسمعها أن هناك شخصا آخر يتكلم في داخلها ..شيطانا ..أو جنا ..أو ملقنا
يتكلم من وراء خباء..
و لمن يتصور أن المكر اللهي ينافي العدل ..نقول بل هو عين العدل ..فال ل يمكر
إل بماكر.
(( يمكرون و يمكر ال )) ( – 30النفال).
(( يكيدون كيدا ،و أكيد كيدا )) ( – 16 ،15الطارق).
و حقيقة المر أن ال يسلط على النسان الذي يخفي شيئا في نفسه إنسانا آخر يخفي
شيئا في نفسه ..و هذا منتهى العدل ..بل نحن أمام ميزان مضبوط تماما ..ففي كلتا
الكفتين نفس ماكرة تخفي شيئا.
ثم إنه من تماكر الثنين بعضهما ببعض تظهر الحقيقة..
و هذه هي الدنيا..
و لهذا خلقها..
لحقاق الحق..
ما خلق السماوات و الرض إل بالحق.
و هذا عين الخير في أمر خلق الدنيا برغم ما يبدو من دم جريمة و شر و بشاعة..
فالعبرة بالخواتيم..
و شرور الدنيا زائلة مهما استحكمت..
و ل أهمية لشر زائل مادام سوف يكشف لنا في الختام عن خير باق..
و لو فكر الواحد منا في المر تفكيرا هادئا ،و لو تأمل ما يجري في الدنيا حوله في
عمق لدرك أن المر جاد برغم ما يبدو في الظاهر من هزل و عبث ،فكل شيء
محسوب ،و كل شيء يجري بموازين دقيقة.
و نحن الماكرون الماهرون ..و كل واحد فينا يتصور أنه يخطط بفطانة ..و ذكاء..
نحن بدون أن ندري ،يكشف بعضنا بعضا ،و نكشف أنفسنا من خلل مآزق الشطرنج
المتوالية التي تزجنا فيها المقادير ،و نفتضح عبر هذا الفعل المتسلسل الذي اسمه
الدنيا حتى ل تبقى فينا باقية ..ثم نموت و قد ظهر المكتوم.
و الذين يدركون تمام الدراك لب القضية تصيبهم الرجفة من الرأس إلى القدم..
إن ما يجري في هذه الدنيا ليس عبثا..
بل إن المر جاد بصورة مخيفة.
و الرجل الماكر الذي يسألنا دائما ..كيف يذهب إنسان متحضر في السويد إلى جهنم..
كيف يذهب ذلك الرجل البيض النظيف الجميل اللطيف أستاذ التكنولوجيا إلى جهنم و
يذهب حاج مغفل يبكي عند الكعبة إلى الجنة؟
نقول له :لقد ذهب ذلك الحاج الذي يبكي عند الكعبة بالفعل إلى الجنة من الن ..إنه
من الن في الجنة ..لقد أدرك روح المسألة و اتصل بالعلم الكلي المطلق ..أما
صاحبك فمازال يشتغل بالنحاس و الحديد و المنجنيز ..مازال مشغول بالمسألة ذاتها..
لم يدرك روحها..
و هذا أمر يفيد في الدنيا ..و لكن ل قيمة له بعد ذلك و ال لم يمنعنا عن كشف الحديد
و المنجنيز بل أمرنا به.
(( و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس )) ( -25الحديد).
و ذلك أمر بإدراك المنافع في الحديد..
و لكن دين ال يقتضي منا التوغل وراء ذلك لدراك روح المسألة بحثا عن نفع آخر
باق ..و بذلك يجمع المسلم بين نفع الدنيا و نفع الخرة ،فالحديد و المنجنيز ليسا كل
شيء ..فالحاج الذي يبكي عند الكعبة ليس مغفل ..فهو يبكي بسبب علم آخر عميق
تعلمه ..هو علمه بنفسه و علمه بربه ..و هو واقف على عتبة من العلم أعلى من
صاحبنا أستاذ التكنولوجيا في السويد الذي وقف علمه عند الحديد و المنجنيز.
و أين هذا العارف بنفسه و العارف بربه ..من هذا العارف الخر الذي توقفت
معارفه عند المادة و قوانينها؟
إن المغفل الحقيقي هو الذي عرف المادة و غفل عن رب المادة..
و تلك مرتبة و منزلة و درجة بينها و بين صاحبنا النظيف اللطيف الذكي المتحضر
أستاذ التكنولوجيا السويدي سبع سماوات ..هذا سيد من سادة الرض ،صاحب ملك
محدود في زمن محدود ..و ذلك سيد على الولين و الخرين له في السماوات ملك
بل حدود في أبد بلتناه..
و لكن نحن في عصر مادي ..و ذكر الجنة و السماوات أمر يبتسم له أهل الدنيا و
سادتها الماكرون ،و يضحكون فيه على سذاجتنا و ل أحد يهتم في هذه الدنيا إل
بالربح العاجل..
و صاحبنا الذكي الذي ل تنفد له حجج إذا رآنا نحكم حول عنقه حلقات المنطق و إذا
شعر بمنطقنا يوشك أن يسكته ما يلبث أن يصرخ.
و ماذا أساوي أنا إلى جوار عظمة ال ..و لماذا يعذبني ال و أنا ل أساوي شيئا ..و
هل أنا إل ذرة تافهة؟
و هو تواضع كاذب و انكسار مفتعل لنه لو شعر حقا بعظمة ربه و بتفاهة نفسه لخر
ساجدا باكيا أمام هذه العظمة ،و لشعر بالخشوع أمام تلك الهيبة ..إنما هي الملحاة و
الجدل.
بل هو تحايل الماكرين حينما يصبح ظهرهم إلى الحائط و تتقطع بهم الحجج
فيتمسكنون و يتماوتون و يتخافتون و يتهامسون ..هل نحن إل ذباب يارب..
و هل للتراب أن يتطاول..
و هل للطين عندك شأن يساوي أن تحفل به و تعذبه؟ و لو أحس الواحد منهم بالفعل
أنه تراب ،و لوانطلقت أعماله و أقواله من هذا الحساس لكان له مع ال حال غير
الحال و شأن غير الشأن.
و لكنه المكر..
المؤمن ل يعرف شيئا اسمه المرض النفسي لنه يعيش في حالة قبول و انسجام مع
كل ما يحدث له من خير و شر ..فهو كراكب الطائرة الذي يشعر بثقة كاملة في
قائدها و في أنه ل يمكن أن يخطئ لن علمه بل حدود ،و مهاراته بل حدود ..فهو
سوف يقود الطائرة بكفاءة في جميع الظروف و سوف يجتاز بها العواصف و الحر و
البرد و الجليد و الضباب ..و هو من فرط ثقته ينام و ينعس في كرسيه في اطمئنان
و هو ل يرتجف و ل يهتز اذا سقطت الطائرة في مطب هوائي أو ترنحت في
منعطف أو مالت نحو جبل ..فهذه أمور كلها لها حكمة و قد حدثت بارادة القائد و
علمه و غايتها المزيد من المان فكل شيء يجري بتدبير و كل حدث يحدث بتقدير و
ليس في المكان أبدع مما كان ..و هو لهذا يسلم نفسه تماما لقائده بل مساءلة و بل
مجادلة و يعطيه كل ثقته بل تردد و يتمدد في كرسيه قرير العين ساكن النفس في
حالة كاملة من تمام التوكل.
و هذا هو نفس احساس المؤمن بربه الذي يقود سفينة المقادير و يدير مجريات
الحوادث و يقود الفلك العظم و يسوق المجرات في مداراتها و الشموس في مطالعها
و مغاربها ..فكل ما يجري عليه من أمور مما ل طاقة له بها ،هي في النهاية خير.
اذا مرض و لم يفلح الطب في علجه ..قال في نفسه ..هو خير ..و اذا احترقت
زراعته من الجفاف و لم تنجح وسائله في تجنب الكارثة ..فهي خير ..و سوف
يعوضه ال خيرا منها ..و اذا فشل في حبه ..قال في نفسه حب فاشل خير من زيجة
فاشلة ..فاذا فشل زواجه ..قال في نفسه الحمد ل أخذت الشر و راحت ..و الوحدة
خير لصاحبها من جليس السوء ..و اذا أفلست تجارته قال الحمد ل لعل ال قد علم
أن الغنى سوف يفسدني و أن مكاسب الدنيا ستكون خسارة علي في الخرة ..و اذا
مات له عزيز ..قال الحمدل ..فال أولى بنا من أنفسنا و هو الوحيد الذي يعلم متى
تكون الزيادة في أعمارنا خيرا لنا و متى تكون شرا علينا ..سبحانه ل يسأل عما
فعل.
و شعاره دائما( :و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو
شر لكم و ال يعلم و أنتم لتعلمون)
و هو دائما مطمئن القلب ساكن النفس يرى بنور بصيرته أن الدنيا دار امتحان و بلء
و أنها ممر ل مقر ،و أنها ضيافة مؤقتة شرها زائل و خيرها زائل ..و أن الصابر
فيها هو الكاسب و الشاكر هو الغالب.
ل مدخل لوسواس على قلبه و ل لهاجس على نفسه ،لن نفسه دائما مشغولة بذكر
العظيم الرحيم الجليل و قلبه يهمس :ال ..ال ..مع كل نبضة ،فل يجد الشيطان محل
و ل موطئ قدم و ل ركنا مظلما في ذلك القلب يتسلل منه.
و هو قلب ل تحركه النوازل و ل تزلزله الزلزل لنه في مقعد الصدق الذي ل تناله
الغيار.
و كل المراض النفسية التي يتكلم عنها أطباء النفوس لها عنده أسماء أخرى:
اختلفت النفس و أصبحت غير قابلة للمرض ..و ارتفعت الى هذه المنزلة باليمان و
الطاعة و العبادة فأصبح اختيارها هو ما يختاره ال ،و هواها ما يحبه ال ..و ذابت
النانية و الشخصانية في تلك النفس فأصبحت أداة عاملة و يدا منفذة لرادة ربها .و
هذه النفس المؤمنة ل تعرف داء الكتئاب ،فهي على العكس نفس متفائلة تؤمن بأنه ل
وجود للكرب مادام هناك رب ..و أن العدل في متناولنا مادام هناك عادل ..و أن باب
الرجاء مفتوح على مصراعيه مادام المرتجى و القادر حيا ل يموت.
و النفس المؤمنة في دهشة طفولية دائمة من آيات القدرة حولها و هي في نشوة من
الجمال الذي تراه في كل شيء ..و من ابداع البديع الذي ترى آثاره في العوالم من
المجرات الكبرى الى الذرات الصغرى ..الى اللكترونات المتناهية في الصغر ..و
كلما اتسعت مساحة العلم اتسع أمامها مجال الدهاش و تضاعفت النشوة ..فهي لهذا
ل تعرف الملل و ل تعرف البلدة أو الكآبة.
و حزن هذه النفس حزن مضيء حافل بالرجاء ،و هي في ذروة اللم و المأساة ل
تكف عن حسن الظن بال ..و ل يفارقها شعورها بالمن لنها تشعر بأن ال معها
دائما ،و أكثر ما يحزنها نقصها و عيبها و خطيئتها ..ل نقص الخرين و عيوبهم ..و
لكن نقصها ل يقعدها عن جهاد عيوبها ..فهي في جهاد مستمر و في تسلق مستمر
لشجرة خطاياها لتخرج من مخروط الظل الى النور المنتشر أعلى الشجرة لتأخذ منه
الحياة ل من الطين الكثيف أسفل السلم.
انها في صراع وجودي و في حرب تطهير باطنية ..و لكنه صراع هادئ واثق ل
يبدد اطمئنانها و ل يقتلع سكينتها لنها تشعر بأنها تقاتل باطلها بقوة ال و ليس بقوتها
وحدها ..و الحساس بالمعية مع ال ل يفارقها ،فهي في أمن دائم رغم هذا القتال
المستمر لشباح الهزيمة و لقوى العدمية بداخلها ..فهي ليست وحدها في حربها.
ذلك هو الجهاد الكبر الذي يشغل النفس عن التفاهات و الشكايات و اللم الصغيرة
و يحفظها من النكفاء على ذاتها و الرثاء لنفسها و الحتفاء بمواهبها ..فهي مشغولة
عن نفسها بتجاوز نفسها و تخطي نفسها و العلو على ذاتها ..فهي في رحلة خروج
مستمرة ..رحلة تخطي و صعود ،و دستورها هو( :أن تقاوم أبدا ما تحب و تتحمل
دائما ما تكره)
و مشاعر هذه النفس منسابة مع الكون متآلفة مع قوانينه متوافقة مع سننه متكيفة
بسهولة مع المتغيرات حولها ..فيها سلسة طبيعية و بساطة تلقائية ..تلتمس الصداقة
مع كل شيء ..و مثالها الكامل هو النبي محمد صلى ال عليه و سلم حينما كان
يحتضن جبل أحد و يقول :هذا جبل يحبنا و نحبه ..فالمحبة الشاملة هي أصل جميع
مشاعرها ..انها في صلح دائم مع الطبيعة و مع القدر و مع ال ..و الوحدة بالنسبة
لهذه النفس ليست وحشة بل أنس ..و ليست خواء بل امتلء ..و ليست فراغا بل
انشغال ..و ليست صمتا ..بل حوار داخلي و استشراف نوراني ..و هي ليست وحدة
بل حضن آمن ..و عذابها الوحيد هو خطيئتهاو احساسها بالبعد و النفصال عن
خالقها ..و هو عذاب يخفف منه اليمان بأن ال عفو كريم تواب يحب عباده الوابين
المستغفرين ..و هي أقرب ما تكون الى ربها و هي ساجدة ذائبة حبا و خشوعا..
يقول بعض الولياء الصالحين :نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف،
و لكن أنى للملوك أن يعرفوها و هم غرقى الدنيا و سجناء ماديتها.
ان السبيل الى ميلد تلك النفس و خروجها من شرنقتها الطينية هو الدين و الطاعة و
المجاهدة و ل يوجد سبيل آخر لميلدها ..فالعلم ل يلد ال غرورا و الفن ل يلد ال
تألها ..و الدين وحده هو المحضن الذي تتكامل فيه النفس و تبلغ غايتها.
و بين العلماء مرضى نفوس مشغولون باختراع القنابل و الغازات السامة.
و بين الفنانين متألهون غرقى اللذائذ الحسية
و الدين وحده هو سبيل النفس الى كمالها و نجاتها و شفائها
و النفس المؤمنة نفس عاملة ناشطة في خدمة اللخرين و نجدتهم ل يقطعها تأملها
عن الشارع و السوق و زحام الرزاق ..و العمل عندها عبادة ..و العرق و الكدح
علج و دواء و شفاء من الترف و أمراض الكسل و التبطل ..حياتها رحلة أشواق و
مشوار علم و رسالة خدمة ..و العمل بابها الى الصحة النفسية ..و منتهى أملها أن
تظل قادرة على العمل حتى النفس الخير و أن تموت و هي تغرس شجرة أو تبني
جدارا أو توقد شمعة ..تلك النفس هي قارب نجاة ،و هي في حفظ من أي مرض
نفسي ،و ل حاجة بها الى طب هذه اليام ،فحياتها في ذاتها روشتة سعادة..
النفس و الروح
في اللغة الدارجة نخلط دائما بين النفس و الروح ،فنقول إن فلنا طلعت روحه ..و
نقول إن فلنا روحه تشتهي كذا ،أو أن روحه تتعذب أو أن روحه توسوس له ،أو أن
روحه زهقت ،أو أن روحه اطمأنت ،أو أن روحه تاقت و اشتاقت أو ضجرت و
ملت ..و كلها تعبيرات خاطئة ،و كلها أحوال تخص النفس و ليس الروح.
فالتي تخرج من بدن الميت عند الحشرجة و الموت هي نفسه و ليست روحه.
و النفس تذوق الموت و لكن ل تموت ..فتذوقها الموت هو رحلة خروجها من البدن،
و النفس موجودة قبل الميلد ،و هي موجودة بطول الحياة ،و هي باقية بعد الموت ،و
عن وجود النفس قبل ميلد أصحابها يقول ال :إنه أخذ الذرية من ظهور الباء قبل
أن تولد و أشهدها على ربوبيته حتى ل يتعلل أحد بأنه كفر لنه وجد أباه على الكفر.
(( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست
بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ،أو تقولوا إنما
أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذريةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون ،و كذلك نفصل
اليات و لعلهم يرجعون )) ( – 174 ،173 ،172العراف)
فذلك مشهد أحضرت فيه النفس قبل أن تلبس أجسادها بالميلد ،و ليس لحد عذر
بأن يكفر بعلة كفر أبيه ،فقد كان لكل نفس مشهد مستقل طالعت فيه الربوبية ..و بهذا
استقرت حقيقة الربوبية فطرتنا جميعا.
يقول القرآن:
(( إنما يريد ال ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم)) ( – 55التوبة)
(( يأيتها النفس المطمئنة ،ارجعي إلى ربك راضية مرضية ،فادخلي في عبادي ،و
ادخلي جنتي)) ( 30 – 27الفجر)
أما الروح في القرآن فتذكر دائما بدرجة عالية من التقديس و التنزيه و التشريف ،و
ل يذكر لها أحوال من عذاب أو هوى أو شهوة أو شوق أو تطهر أو تدنس أو رفعة
أو هبوط أو ضجر أو ملل ،و ل يذكر أنها تخرج من الجسد أو أنها تذوق الموت ..و
ل تنسب إلى النسان و إنما تأتي دائما منسوبة إلى ال.
يقول ال عن مريم:
و يقول عن آدم:
(( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلق)) ( - 15غافر)
و الروح دائما تنسب إلى ال ،و هي دائما في حركة من ال و إلى ال و ل تجري
عليها الحوال النسانية و ل الصفات البشرية ..و ل يمكن أن تكون محل لشهوة أو
هوى أو شوق أو عذاب.
و يقول عن عيسى إنه (( رسول ال و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه)) أي روح
من ال ( – 171النساء)
فالنفس اللهية ل تتشابه مع النفس النسانية إل في اللفظ و لكنها شيء آخر البتة..
و السؤال إذن:
أما نصيبنا من الروح فهو النفخة التي ذكرها القرآن في قصة خلق آدم.
(( إني خالق بشرا من طين ،فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (
– 72 ،71ص)
و ما حدث من أمر التسوية و التصوير و النفخ في صورة آدم يعود فيتكرر في داخل
الرحم في الحياة الجنينية لكل منا ..فيكون لكل منا تسوية و تصوير ،ثم نفخة ربانية
حتى تتهيأ النسجة و يستعد المحل لتلقي هذه النفخة ،و ذلك يكون في الشهر الثالث
من الحياة الجنينية ،و ينتقل الخلق بهذه النفخة من حال إلى حال..
(( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام
لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين)) ( – 14المؤمنون)
فيقول عند النفخة(( :ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين)) ..إشارة إلى نقلة
هائلة نقل بها المضغة المكسوة بالعظام إلى مستوى ل يبلغه و ل يقدر عليه إل أحسن
الخالقين ..و ذلك بالنفخة الربانية.
و يتكلم عن هذا النفخ في الجنين بعد تسويته في آية أخرى عن نسل آدم.
(( ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين ،ثم سواه و نفخ فيه من روحه و جعل لكم
السمع و البصار و الفئدة)) ( – 9 ،8السجدة)
و نفهم من هذا أن السمع و البصر و الفؤاد هي من ثمار هذه النفخة الروحية ..و إنه
بهذه المواهب ينقل النسان من نشأة إلى نشأة و من مستوى إلى مستوى ،و هذا هو
معنى(( ..ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين)).
إن نصيبنا من هذه الروح إذن هو نصيبنا من هذه النفخة ..و كل منا يأخذ من هذه
النفخة على قدر استعداده.
و بفضل هذه النفخة يصبح للواحد منا خيال و ضمير و قيم و عالم من المثل ..و
الجسد و الروح فينا أشبه بأرض الواقع و سماء المثال.
و علقة نفس كل منا بروحه و جسده هي أشبه بعلقة ذرة الحديد بالمجال
المغناطيسي ذي القطبين.
و الذي يحدث للنفس دائما هو حالة استقطاب ،إما انجذاب و هبوط إلى الجسد ،إلى
حمأة الواقع و طين الغرائز و الشهوات ،و هذا هو ما يحدث للنفس الجسدانية
الحيوانية حينما تشاكل الطين و تجانس التراب في كثافتها ،و إما انجذاب و صعود
إلى الروح ،إلى سماوات المثال و القيم و الخلق الربانية ،و هو ما يحدث للنفس
حينما تشاكل الروح و تجانسها في لطفها و شفافيتها ..و النفس طوال الحياة في حركة
و تذبذب و استقطاب بين القطب الروحي و بين القطب الجسدي ..مرة تطغى عليها
ناريتها و طينتها ،و مرة تغلبها شفافيتها و طهارنها.
و الجسد و الروح هما مجال المتحان و البتلء ،فتبتلى النفس و تمتحن بهاتين
القوتين الجاذبتين إلى أسفل و إلى أعلى لتخرج سرها ،و تفصح عن حقيقتها و رتبتها
و ليظهر خيرها و شرها.
و من هنا نفهم أن حقيقة النسان هي((نفسه)) ،و الذي يولد و يبعث و يحاسب هو
نفسه ،و الذي يمتحن و يبتلى هو نفسه ،و ما يجري عليه من الحوال و الحزان و
الشواق هي نفسه ..أما جسده و روحه فهما مجرد مجال تماما مثل الرض و
السماوات في كونهما مجال حركة بالنسبة للنسان لظهار مواهبه و ملكاته ..فكما
أعطى ال لهذه النفس عضلت (جسدا) كذلك أعطاها روحا لتحيا ،و تعمل و تكشف
عن سرها و مكنونها و تباشر خيرها و شرها.
و بهذا المعنى تكون كلمة ((تحضير الرواح)) كلمة خاطئة ،فالرواح ل تستحضر،
و ل يمكن لي روح أن تستحضر ،لن الروح نور منسوب إلى ال وحده ،و هو ينفخ
فينا هذا النور لنستنير به ..و هذا النور من ال و إلى ال يعود و ل يمكن حشره أو
استحضاره ..أما ما يحشر و يستحضر فهي النفس و ليس الرواح ..هذا إذا صح أن
هؤلء الناس يستحضرون أنفسا في جلساتهم ..و أغلب الظن أن ما يحضر يكون من
الجن المصاحب لهذه النفس في حياتها (القرناء) ،و كل منا له في حياته قرين من
الجن يصاحبه ،و هو بحكم هذه الصحبة الطويلة يعرف أسراره و يستطيع أن يقلد
صوته و إمضاءه ،و هذا الجن هو الذي يلبس الوسيط في غرفة التحضير المظلمة،
و يدهش الموجودين بما يحسبونه خوارق.
أما الرواح فل يمكن استحضارها.
و النفس ل يمكن أن تتحول إلى روح ،و إنما هي في أحسن أحوالها ترتقي حتى
تشاكل الروح و تجانسها بقدر ما تتخلق بالخلق الربانية ،و بقدر ما تقترب من
المثال النوراني (الروح التي نفخها ال في النسان).
كذلك يمكن لهذه النفس أن تتدنى و تهبط حتى تشاكل الشياطين ،و تجانس إبليس في
ناريته.
و النفس التي تتطهر و تتزكى حتى تشاكل و تجانس الروح في لطفها هي التي يقربها
ال من عرشه يوم القيامة ،و هي التي يقول عنها إنها ستكون (( في مقعد صدق عند
مليك مقتدر)) ( – 55القمر)
..لنها بهذا التطهر و الترقي تصبح نفسا ربانية مكانها إلى جوار ال.
أما النفوس المظلمة التي تهبط بفجورها و غلظتها إلى الدرك الشيطاني فهم الذين
يقول عنهم ربهم يوم القيامة:
و هؤلء سيكون مكانهم مع النفوس النارية السفلية في قاع الظلمة و الجحيم .أما
الروح فل مكان لها في جنة أو جحيم ،و إنما هي نور من نور ال تنسب إليه ،و هي
منه و ليجري عليها ابتلء و ل محاسبة و ل معاقبة و ل مكافأة ..و إنما هي المثل
العلى في الية:
(( و له المثل العلى و هو العزيز الحكيم)) ( – 60النحل)
و ذلك عالم المثال النوراني الذي يستمد قدسيته و نورانيته من كونه من ال و من أمر
ال.
(( و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إل قليل)) (85
– السراء)