Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 61

‫مصطفى محمود‬

‫تعريف بالكاتب‪:‬‬

‫النشأة‬

‫مصطفى كمال محمود حسين‬


‫المولد فى شبين الكوم منوفية فى ‪25/12/1921‬‬

‫السرة متوسطة و الب موظف (سكرتير فى مديرية الغربية) متدين و قدوة فى‬
‫كمالته الخلقية و صبره و إحتماله و مثابرته و حبه للعمل و مواظبته عل الصلة‬
‫فى أوقاتها لم تفته صلة الفجر فى وقتها بالمسجد ‪ ..‬محب لولده فدائى فى خدمتهم‬
‫(و كذلك الم) ‪.‬ه‬

‫المناخ التربوى‬

‫ل قهر فيه و ل قمع و ل عنف و إنما حرية و مسئولية و محاسبة فى لطف و قد‬
‫رسبت ثلث سنوات فى السنة الولى البتدائية فتركنى الهل على حالى دون تغليظ‬
‫أو تعنيف ‪.‬ه‬
‫كنت كثيرا ما أرقد مريضا و أنا طفل ‪ ..‬و لذلك حرمت من اللعب العنيف و‬
‫النطلق الذى يتمتع به الطفال ‪ ..‬و كانت طفولتى كلها أحلم و خيال و إنطواء ‪.‬ه‬
‫و كنت دائما أحلم و أنا طفل بأن أكون مخترعا عظيما أو مكتشفا أو رحالً أو عالما‬
‫مشهورا ‪ ..‬و كانت النماذج التى أحلم بها هى كريستوفر كولمبس و أديسون و‬
‫ماركونى و باستير ‪.‬ه‬
‫الحياة فى طنطا فى جوار السيد البدوى و حضور حلقات الذكر و المولد و الناى و‬
‫مذاق القراقيش و إبتهالت المتصوفة و الدراويش ‪ ..‬كان لها أثر فى تكوينى الفنى و‬
‫النفسى ‪ .‬ه‬

‫الحداث الجوهرية‬

‫كان مرض الوالد بالشلل لمدة سبع سنوات ووفاته سنة ‪1939‬و كان ذلك حينما‬
‫أكملت دراستى الثانوية و قررت دخول كلية الطب ‪ .‬ه‬
‫و إنتقلنا بعد ذلك من طنطا الى القاهرة مع الوالدة ‪.‬ه‬

‫سنوات المراهقة‬

‫كانت اشبه بمغالبة حصان جامح ‪ ..‬يفلت لجامه مرة و أكبح جماحه و أحكمه مرات‬
‫‪ ..‬و لم يكن الصراع سهل بل كان شاقا و طويل وخلف وراه جسما مغطى بالكدمات‬
‫و الجراح ‪.‬ه‬

‫الدراسة‬

‫اخترت دراسة الطب و شعرت ساعتها أنها ترضى فضولى و تطلعى الى العلم و‬
‫معرفة السرار ـ و كانت الدراسة صعبة وتحتاج الى ارادة و تركيز و نوع من‬
‫النقطاع و الرهبانية ‪ ..‬واحتاج المر منى الى عزم و ترويض و معاناة ‪ ..‬و كان‬
‫حبى للعلم و طموحى يساعدنى ‪ ،‬و كانت صحتى الضعيفة تخذلنى ‪ ..‬و بدنى المعتل‬
‫يضطرنى الى العتكاف من وقت لخر فى الفراش ‪.‬ه‬

‫و فى السنة الثالثة طب إحتاج المر الى علج بالمستشفى سنتين و أدى هذا النقطاع‬
‫الطويل الى تطور إيجابى فى شخصيتى ‪ ..‬إذ عكفت طول هذه المدة على القراءة و‬
‫التفكير فى موضوعات أدبية‪.‬ه‬

‫و فى هاتين السنتين تكونت فى داخلى شخصية المفكر المتأمل و ولد الكاتب الديب‬
‫‪.‬ه‬

‫و حينما عدت الى دراسة الطب بعد شفائى كنت قد أصبحت شخصا آخر ‪ .‬أصبحت‬
‫الفنان الذى يفكر و يحلم و يقرأ و يطالع بإنتظام أمهات كتب الدب و المسرح و‬
‫الرواية ‪.‬ه‬

‫و بسبب هذه الهواية الجديدة التى ما لبثت أن تحولت الى إحتراف و كتابة منتظمة فى‬
‫الصحف فى السنوات النهائية بكلية الطب ‪ ..‬إحتاج المر وقت مضاعف لكى أنجح و‬
‫أتخرج (بدأت أكتب فى مجلتي التحرير و روز اليوسف)‪.‬ه‬

‫و حينما تخرجت فى سنة ‪ 1953‬كان زملئى قد سبقونى فى التخرج بسنتين و ثلثة‬


‫‪.‬ه‬

‫و أستطيع أن أقول أن المرض و المعاناة و العزلة الطويلة فى غرف المستشفيات قد‬


‫فجرت مواهبى ‪ ..‬و اللم كان الب الحقيقى والباعث لكل هذه اليجابيات و المكاسب‬
‫التى كسبتها كإنسان و فنان وأديب و مفكر‪.‬ه‬
‫و اللم أيضا هو الذى صقل أخلقى و جل معدن نفسى و فجر الحس الدينى فى‬
‫داخلى و كان أداة التنوير و الصحوة و التذكير بال ‪..‬ه‬

‫رحلتى من الشك إلى اليمان‬

‫لم تكن بسبب إنكار أو عناد أو كفر و إنما كانت إعادة نظر منهجية حاولت أن أبدأ‬
‫فيها من جديد بدون مسلمات موروثة ‪.‬ه‬

‫و لم أفقد صلتى بال طوال هذه الرحلة ‪ ..‬و إن كنت قد بدأت قطار الفكر و قطار‬
‫الدين من أوله من عند الصفحة الولى ‪ ..‬من مبدأ الفطرة ‪ ..‬و ماذا تقوله الفطرة‬
‫بدون موروثات ‪.‬ه‬

‫و إنتهيت من الرحلة الى إيمان أشد و عقيدة أرسخ و إنعكست الرحلة فى ال ‪89‬‬
‫كتاب التى ألفتها ‪.‬ه‬
‫الظلم المخيف‬
‫بقلم ‪ :‬د‪ .‬مصطفى محمود‬

‫هل خطر على بالك وأنت تتأمل السماء في ليلة صافية أنك ل ترى من هذه السماء إل‬
‫‪ % 5‬وربما أقل من محتوياتها مهما استخدمت من مناظير ومجسات وأدوات‬
‫استشعار ‪ ..‬مظلمة ل يخرج منها ضوء وسحب من العوالق والتربة ممتدة مترامية‬
‫بل حدود ‪..‬‬

‫ويقول رجال الفلك أن هذه المادة السوداء المظلمة هي مجموع الغبار الكوني وسحب‬
‫الغاز البارد وفقاعات كونية سابحة في الفضاء وكتل مادية جوفاء وثقوب سوداء‬
‫ونيازك وبقايا نجوم ميتة ‪ ..‬وجسيمات دقيقة وفتافيت ذرات هائمة في تجمعات‬
‫سحابية مثل البروتونات والنيوترونات والباريونات والكواركات وجسيمات النيوترينو‬
‫التي تخترق الرض وتخرج من الناحية الخرى في سر عات مذهلة مثل السهام‬
‫الخفية ‪ ..‬هذا عدا الجسام الكبرى العملقة كالنجوم والشموس والمجرات والكواكب‬
‫والتوابع والقمار التي تدور في أفلكها ‪.‬‬

‫وافتراض وجود هذه المادة السوداء الخفية كان سببه أن النجوم والشموس والكواكب‬
‫والكتل المجرية العملقة ل تكفي بمجموع كتلتها للحتفاظ بتماسك مجموع الكون‬
‫ككل ‪ ..‬وتأثيرها الجذبي ل يكفي لجمع شمل العناقيد الكونية الهائلة من مجرات‬
‫وتوابع لتسبح في أسرة متحاضنة كما نراها ‪ ..‬وكان ل بد أن تنفرط لول وجود هذه‬
‫المادة المفترضة ‪.‬‬

‫والمعضلة معضلة حسابية وإحصائية ‪ ،‬فحاصل جمع الكتل الموجودة والمرئية‬


‫بمناظيرنا وكاميراتنا الفضائية ومجساتنا لشعة اكس وأشعة جاما والشعة تحت‬
‫الحمراء ومنظار هابل تقول إن مجموع المادة الموجودة أقل بكثير من المقدار الذي‬
‫يفسر هذا التماسك الجذبي القائم ولو أن ما نرى هو كل المادة الموجودة لكان لبد أن‬
‫ينفرط هذا الكون بددا ويتناثر في الفضاء ويضيع ويبرد وينطفئ ول يجتمع له شمل‬
‫‪ ..‬فهناك حد أدنى من الكتلة لتكون هناك قبضة تمسك البنيان الكوني ‪ ..‬وكان لبد‬
‫من الفتراض أن أكثر من تسعين في المائة من مادة الكون خافية وغير منظورة ول‬
‫يخرج منها أي ضوء يدل عليها ‪ ..‬وأنها لبد أن تكون موجودة قطعا رغم أننا ل‬
‫نراها لتكون هناك تلك القبضة الملحوظة التي تمسك بالكون المرئي‬

‫وعلماء الجاذبية يؤكدون أن هناك حدا أدنى من الكتلة لتتماسك هذه السرة الهائلة من‬
‫المجرات والنجوم والشموس والكواكب والقمار ولترحل كما نراها وهي متحاضنة‬
‫في هذا الفضاء اللنهائي ‪.‬‬

‫فإذا كانت الكتلة أكبر فإن المجموعة تنهار على بعضها وتنكمش وتتكدس وتتضاغط‬
‫وتنصهر ويجري عليها أقصى درجة من (الهرس) الجذبي وترتفع درجة حرارتها‬
‫وتتحول إلى عجينة نارية ‪.‬‬

‫ثم تنضغط إلى حد أقصى من الصغر‪ ..‬ثم تعود فتنفجر وتتمدد وتتناثر في الفضاء‬
‫لتعيد قصة النفجار الول الذي بدأ به الكون ‪ ..‬ثم تنتشر في السماوات السبع وتتشكل‬
‫على صورة نجوم وشموس ومجرات سابحة مرتحلة ‪ ..‬كما هي في عالمنا المشهود‬
‫الن ‪.‬‬

‫وتظل تتمدد وتتباعد بفعل قوة النفجار حتى تخمد هذه القوة ‪ ..‬فينشأ ما يسمى بالكون‬
‫المتعادل بين قوتين ‪ ..‬القوة الجاذبة المركزية والقوة الطاردة المركزية ويستمر هذا‬
‫الكون عدة مليارات أخرى من السنين ‪.‬‬

‫فإذا استمر التباعد وتغلبت القوة الطاردة المركزية على القوة الجاذبة المركزية بسبب‬
‫صغر الكتلة فإن القبضة تظل تضعف وتضعف ثم يتناثر الكون بددا في الفضاء ‪..‬‬
‫وذلك هو الكون المفتوح في لغة علماء الفلك ‪ ..‬فهو في تمدد أبدا وفي تناثر دائما ل‬
‫يجتمع له شمل ‪.‬‬

‫وإذا حدث العكس بسبب ضخامة الكتلة المادية فإن الكون ينهار على بعضه بسبب‬
‫ثقله ثم ينكمش ويتضاغط إلى نقطة النفجار الول ‪.‬ز وذلك هو نموذج الكون المغلق‬
‫في لغة الفلكيين ‪.‬‬

‫يقول ربنا عن الساعة في القران ‪:‬‬

‫" ثقلت في السماوات والرض ل تأتيكم إل بغتة " ‪.‬‬

‫فيربط سبحانه وتعالى بين " الثقل " والنهيار الكوني في كلمة "ثقلت" ‪ ..‬وهي إشارة‬
‫علمية بليغة تفوت الكثيرين ‪ ..‬وسبحان الذي وسع كل شئ رحمة وعلما ‪ ..‬فكلمة "‬
‫تثاقل " ‪ ..‬هي الترجمة الحرفية لكلمة ‪ ..Gravitation‬أي الجاذبية وهذه معجزة‬
‫البيان القرآني الدقيق الذي ل تنتهي عجائبه ‪.‬‬
‫والمعنى المستفاد من كل هذا أن الكتلة المادية لمجموع الكون هي التي سوف تحدد‬
‫سلوكه وسوف تحدد نهايته ‪ ..‬ولننا ل نرى مجموع هذه المادة ول نشهد منها إل‬
‫الجزء الذي يشع ضوءا ‪ ..‬ويخفي علينا نماما جانب المادة السوداء المظلمة ول‬
‫ندركها إل تخمينا واستنتاجا من حساباتنا ‪ ..‬فإننا لن نعلم متى ستأتي لحظة النهيار‬
‫الجذبي ومتى تقوم الساعة رغم أننا نعلم أشرا طها وعلماتها وتلك لفتة أخرى لدقة‬
‫البيان القرآني "ل تأتيكم إل بغتة" أي أننا سوف نفاجأ بها ولن تدركها حساباتنا رغم‬
‫توقعنا لحدوثها ‪ ..‬فهناك عنصر ناقص في هذه الحسابات لن ندركه بوسائلنا ‪ ..‬هو‬
‫المادة السوداء المظلمة ومداها وكتلتها بالضبط‬

‫وهذه هي "س" في المعادلة التي ل سبيل إلى تحديدها كميا وهذا هو التحدي الذي‬
‫يواجه العلماء ‪.‬‬

‫أي أننا لن نعلم "بالضبط" مقدار هذه المادة السوداء المظلمة وبالتالي لن نستطيع أن‬
‫نحدد ساعة النهيار وهناك جنون فلكي الن حول هذه المادة السوداء ‪ ..‬وهناك سباق‬
‫محموم بين كل المراصد ومراكز البحاث الفلكية للوصول إلى الماهية الحقيقة لهذه‬
‫المادة السوداء وكميتها وكتلتها‬

‫والخلف على أشده بين كل مراكز البحث‬

‫ولكن كلهم متفقون على أنها حقيقية وأنها تمل السماوات ‪ ..‬ولكنهم مختلفون غاية‬
‫الختلف في مقدارها ‪ ..‬وفي ماهيتها‪.‬‬

‫ولفتة أخرى للدقة القرآنية في خطاب ال لموسى عن الساعة ‪ ..‬يقول ربنا لموسى إن‬
‫الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى (‪– 15‬طه) يقول ربنا " أكاد‬
‫أخفيها " ول يقول أخفيها ‪ ..‬أي أننا سنعلم أنها آتية ‪.‬‬

‫والكلمة غاية في الدقة ‪ ..‬فالفلكيون الن يعلمون أنها آتية لشك وأنها مرتبطة بالزيادة‬
‫التراكمية للكتلة ‪ ..‬ولكنهم ل يعلمون مقدار هذه الكتلة الكلية ‪ ..‬بسبب المادة المظلمة‬
‫التي ل يخرج منها ضوء ول تدركها المناظير ‪ ..‬وبالتالي ل يستطيعون حساب موعد‬
‫النهيار بالضبط لن الرقم الكلي مجهول‬

‫وايات مثل ‪" ..‬اقتربت الساعة وانشق القمر" (‪– 1‬القمر)‬

‫" وما يدريك لعل الساعة قريب" (‪ – 17‬الشورى)‬

‫"يسأل أيان يوم القيامة" ( ‪ – 6‬القيامة ) كلها ‪ ..‬إشارات إلى استحالة التحديد " فإذا‬
‫برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر " ( ‪ – 9 – 8 – 7‬القيامة )‬

‫ول يجمع الشمس والقمر إل في النهيار الجذبي الذي ينهار فيه الثنان بجاذبية‬
‫المركز ويتحول الكون كله إلى عجينة واحدة تهرسها الجاذبية هرسا ‪..‬‬

‫ول شك أنها ستكون حالة مشهدية خارقة تخطف البصر لغرابتها ‪ ..‬هذا إذا ظل‬
‫المشاهد قادرا على المشاهدة وإذا لم يتحول إلى بودرة أو مسحوق ‪.‬‬

‫والمر ل يمكن وصفه فهو كارثة كبرى بكل المقاييس يتضاءل أمامها كل ما نرى‬
‫من سيول وأعاصير وزلزل وبراكين وصواعق وانهيارات جليدية ‪.‬‬

‫إنها النهاية التي ل يعلم إل ال ماذا بعدها ‪.‬‬


‫ول يملك عالم الفلك الذي يرصد ويقيس ويسجل ويحسب إل أن يصاب بالرجفة‬
‫والذعر ‪ ..‬فالرقام التي تجتمع لديه من الحاسبات الكمبيوترية الضخمة تنبئ باحتمال‬
‫مؤكد ‪ ..‬أن هناك مادة مظلمة خفية تمل جنبات الفضاء والكون وأن هذه المادة الخفية‬
‫تشكل أكثر من ‪ 95‬من الكون وأن ما نراه بأعيننا من هذا الكون أقل من ‪ %5‬من‬
‫محتواه الكلي ‪ ..‬وأن المجرات غارقة في هالت خفية من هذه المادة كما تغرق حبات‬
‫الفستق في المربى ‪ ..‬وأن هناك عفريتا ماردا له مليين الذرع يضغط على مادة هذا‬
‫الكون شيئا فشيئا من اللحظة الحرجة التي سوف ينهار فيها كل شئ كمعمار هائل من‬
‫القش متى ‪..‬؟ ل نستطيع أن نحدد ‪.‬‬

‫والكمبيوترات الضخمة ل تسعف‬

‫والرقام لم تظهر بعد‪.‬‬

‫ول نملك إل التخمين ‪.‬‬

‫ولكن كل الرصاد تقول إن هذا الكون العظيم يسير حثيثا إلى نهايته‪.‬‬

‫من أنت ؟‬
‫من أنت ؟‬

‫من أنت‪ ..‬حينما تتردد لحظة بين الخير و الشر‪ ..‬من تكون‪..‬؟!‬

‫أتكون النسان الخير أم الشرير أم ما بينهما‪..‬؟!‬

‫أم تكون مجرد احتمال للفعل الذي لم يحدث بعد‪..‬؟!‬

‫إن النفس ل تظهر منزلتها و ل تبدو حقيقتها إل لحظة أن تستقر على اختيار‪ ،‬و‬
‫تمضي فيه باقتناع و عمد و إصرار‪ ،‬و تتمادى فيه و تخلد إليه و تستريح و تجد‬
‫ذاتها‪.‬‬

‫و لهذا ل تؤخذ على النسان أفعال الطفولة‪ ،‬و ل ما يفعله النسان عن مرض أو عن‬
‫جنون أو عن إكراه‪...‬‬

‫و إنما تبدأ النفس تكون محل محاسبة منذ رشدها‪ ،‬لن بلوغها الرشد يبدأ معه ظهور‬
‫المرتكزات و المحاور التي ستنمو عليها الشخصية الثابتة‪.‬‬

‫و اختيارات النسان في خواتيم حياته هي أكثر ما يدل عليه‪ ،‬لنه مع بلوغ النسان‬
‫مرحلة الخواتيم يكون قد تم ترشح و تبلور جميع عناصر شخصيته‪ ،‬و تكون قد انتهت‬
‫ذبذبتها إلى استقرار‪ ،‬و تكون بوصلة الرادة قد أشارت إلى الطابع السائد لهذه‬
‫الشخصية‪.‬‬

‫و لهذا يقول أجدادنا‪ ..‬العبرة بالخواتيم‪ ..‬و ما يموت عليه العبد من أحوال‪ ،‬و أعمال‬
‫و ما يشغله في أيامه الخيرة هو ما سوف يبعث عليه‪ ..‬تماما كما ينام النائم فيحلم بما‬
‫استقر في باله من شواغل لحظة أن رقد لينام‪.‬‬
‫و لهذا أيضا ل تؤخذ النفس بما فعلته و ندمت عليه و رجعت عنه‪ ،‬و ل تؤخذ بما‬
‫تورطت فيه ثم أنكرته و استنكرته‪ ،‬فإن الرجوع عن الفعل ينفي عن الفعل أصالته و‬
‫جوهريته و يدرجه مع العوارض العارضة التي ل ثبات لها‪.‬‬

‫و قد أعطى ال النسان مساحة كبيرة هائلة من المنازل و المراتب‪ ..‬يختار منها علوا‬
‫و سفل ما يشاء‪ ..‬أعطاه معراجا عجيبا يتحرك فيه صاعدا هابطا بل حدود‪ ..‬ففي‬
‫الطرف الصاعد من هذا المعراج تلطف و ترق الطبائع‪ ،‬و تصفو المشارب و‬
‫الخلق حتى تضاهي الخلق اللهية في طرفها العلى ( و ذلك هو الجانب الروحي‬
‫من تكوينه) و في الطرف الهابط تكثف و تغلظ الرغبات و الشهوات‪ ،‬و تتدنى الغرائز‬
‫حتى تضاهي الحيوان في بهيميته‪ ،‬ثم الجماد في جموده و آليته و قصوره الذاتي‪ ..‬ثم‬
‫الشيطان في ظلمته و سلبيته ( و ذلك هو الجانب الجسدي الطيني من التكوين‬
‫النساني)‪.‬‬

‫و بين معراج الروح صعودا و منازل الجسد و الطين هبوطا‪ ،‬تتذبذب النفس منذ‬
‫ولدتها‪ ،‬فتتسامى من هنا و تتردى هناك بين أفعال السمو و أفعال النحطاط‪ ،‬ثم‬
‫تستقر على شاكلتها و حقيقتها‪.‬‬

‫(( قل كل يعمل على شاكلته )) (‪ – 84‬السراء)‬

‫و متى يبلغ النسان هذه المشاكلة و المضاهاة بين حقيقته و فعله فإنه يستقر و‬
‫يتمادى‪ ،‬و يمضي في اقتناع و إصرار على خيره أو شره حتى يبلغ نهاية أجله‪.‬‬

‫و معنى هذا أن النفس النسانية أو (( النا ))‪ ..‬هي شيء غير الجسد‪ ..‬و هي ليست‬
‫شيئا معلوما بل هي سر و حقيقة مكنونة ل يجلوها إل البتلء‪ ،‬و الختبار‬
‫بالمغريات‪.‬‬
‫و ما الجسد و الروح إل الكون الفسيح الذي تتحرك فيه تلك النفس علوا و هبوطا بحثا‬
‫عن المنزلة التي تشاكلها و تضاهيها و البرج الذي يناسب سكناها فتسكنه‪ ..‬فمنا من‬
‫يسكن برج النار ( الشهوات) و هو مازال في الدنيا‪ ،‬فل يبرح هذا البرج حتى‬
‫الممات‪ ،‬فتلك هي النفس التي تشاكل النار في سرها و هي التي سبق عليها القول و‬
‫العلم بأنها من أهل النار‪.‬‬

‫و ذلك علم سابق عن النفوس ل يتاح إل ل وحده‪ ،‬لنه وحده الذي يعلم السر و‬
‫أخفى‪ ،‬فهو بحكم علمه التام المحيط يعلم أن هذه الحقيقة المكنونة في الغيب التي‬
‫اسمها فلن‪ ،‬و التي مازالت سرا مستترا لم يكشفه البتلء و الختبار بعد‪ ،‬و التي لم‬
‫تولد بعد و لم تنزل في الرحام‪ ..‬يعلم ربنا تبارك و تعالى بعلمه المحكم المحيط أن‬
‫تلك النفس لن تقر و لن تستريح و لن تختار إل كل ما هو ناري شهواني سلبي‬
‫عدمي‪ ..‬يعلم عنها ذلك و هي مازالت حقيقة مكنونة ل حيلة لها في العدم‪.‬‬

‫و هذا العلم الرباني ليس علم إلزام و ل علم قهر‪ ،‬بل هو علم حصر و إحاطة‪ ،‬فال‬
‫بهذا العلم ل يجبر نفسا على شر‪ ،‬و ل ينهى نفسا عن خير‪ ،‬فهو يعلم حقائق هذه‬
‫النفس على ماهي عليه دون تدخل‪.‬‬

‫فإذا جاء ميقات الخلق ( و جميع هذه النفس تطلب من ال أن يخلقها و يرحمها‬
‫بإيجادها و هي مازالت حقائق سالبة في العدم) أعطى ال تلك النفس اليد و القدم و‬
‫اللسان لتضر و تنفع‪ ،‬و أعطاها ذلك الكون الفسيح الذي اسمه الروح و الجسد لتمرح‬
‫فيه صاعدة هابطة تختار من منازله ما يشاكلها لتسكن فيه‪ ..‬فإذا سكنت و استقرت‪ ،‬و‬
‫تسجلت أعمالها قبضها ال إليه يوم البعث و الحساب المعلوم‪ ..‬حيث تقرأ كل نفس‬
‫كتابها‪ ،‬و تعلم منزلتها فل يعود لحد العذر في أن يحتج بعد ذلك حينما يضعه ال في‬
‫مستقر الجنة أو مستقر النار البدية‪.‬‬
‫و قد أعذر ال و أنذر الجميع من قبل ذلك بالرسل و الكتب و اليات‪ ،‬و أقام عليهم‬
‫الحجة بما وهب لهم من عقل و ضمير و بصيرة و حواس تميز الضار من النافع و‬
‫الخبيث من الطيب‪.‬‬

‫و لهذا حينما تطالب النفوس المجرمة في النار أن تعطى فرصة أخرى‪ ،‬و أن ترد إلى‬
‫الدنيا لتعمل الصالحات‪ ،‬و حينما يدعي البعض أن تعذيب تلك النفوس أبديا على ذنوب‬
‫مؤقتة ارتكبتها في الزمن المحدود هو أمر ظالم‪.‬‬

‫حينئذ يجيب ربنا متحدثا عن هؤلء المجرمين قائل‪:‬‬

‫(( و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون )) (‪ – 28‬النعام)‬

‫و في هذا الرد البليغ إشارة إلى أن إجرام تلك النفس لم يكن ذنبا موقوتا في الزمن‪..‬‬
‫بل لنهم ليعاودون هذا الجرم في كل زمن و مهما عاود ال خلقهم‪ ..‬لن ذلك الجرام‬
‫حقيقة مكنونة‪ ،‬و ليس عرضا محدودا بالزمان و المكان‪ ..‬و لهذا كان عقابه البد‪ ،‬و‬
‫ليس العذاب الموقوت‪.‬‬

‫و نقول أيضا‪ :‬إن هناك عدالة عميقة كامنة في هذا المصير‪ ..‬نارا أبدية أم جنة‪ ..‬إن‬
‫كل نفس بينها و بين ذلك المصير النهائي مشاكلة تامة‪ ،‬و مضاهاة و ائتلف في‬
‫الحقائق‪ ..‬فالحقائق النارية تسكن النار و الحقائق النورانية تسكن الجنة‪ ..‬فل قسوة‬
‫هناك و ل وحشية‪ ،‬و إنما وضع لكل شيئ في مكانه‪.‬‬

‫و السر الخر الذي ينكشف لنا أن البيئة ل يمكن أن تصنع من إنسان صالح ( نفسه‬
‫صالحة بالحقيقة) إنسانا مجرما و ل العكس‪ ،‬و أن الكلم على أن مظالم المجتمع‬
‫جعلت فلنا لصا‪ ،‬هذا الكلم ل يصدق دينيا و ل واقعيا‪ .‬فالمجتمع يضع للجريمة‬
‫إطارها فقط و لكن ل ينشئ جريمة في إنسان غير مجرم‪ ..‬بمعنى أن لص هذا الزمان‬
‫تعطيه إمكانيات العصر العلمية وسائل إلكترونية و أشعة ليزر ليفتح بها الخزائن‪،‬‬
‫بينما نفس اللص منذ عشرين سنة لم يكن يجد إل طفاشة‪ ..‬كما أن قاتل اليوم يمكن أن‬
‫يستخدم بندقية مزودة بتلسكوب ( كما فعل قاتل كنيدي) بينما هو في أيام قريش ل يجد‬
‫إل سيفا‪ ،‬ثم قبل ذلك بعدة قرون ل يجد إل عصا‪ ،‬ثم قبل ذلك على أيام قابيل و هابيل‬
‫ل يجد إل الحجارة‪.‬‬

‫إن المجتمع و العصر و الظروف تصنع للجريمة شكلها‪ ،‬و لكنها ل تنشئ مجرما من‬
‫عدم‪ ،‬و ل تصنع إنسانا صالحا من نفس ل صلح فيها‪.‬‬

‫و بالمثل ل يستطيع البوان بحسن تربيتهما أن يقلبا الحقائق فيخلقا من ابنهما المجرم‬
‫ابنا صالحا و ل العكس‪.‬‬

‫و نجد في سورة الكهف حكاية عن غلم مجرم كافر‪ ،‬أبواه مؤمنان‪.‬‬

‫(( و أما الغلم فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا )) (‪– 80‬‬
‫الكهف)‬

‫و أكثر النبياء كانوا من آباء كفرة‪ ،‬و استجابت أكثر القوام لهؤلء النبياء و لم‬
‫يستجب الباء‪.‬‬

‫من الذي يستطيع أن يقلب حقائق النفس و يغيرها؟ ل أحد سوى ال وحده‪.‬‬

‫و ال ل يفعل ذلك إل إذا طلبت النفس ذاتها أن تتغير و ابتهلت من أجل ذلك‪ ،‬لنه‬
‫واثقنا جميعا على الحرية التامة و على أنه ل إكراه في الدين‪ ..‬و أن من شاء أن يكفر‬
‫فليكفر‪ ،‬و من شاء أن يؤمن فليؤمن‪ ..‬و أنه لن يقهر نفسا على غير هواها‪ ..‬و أنه لن‬
‫يغير من نفس إل إذا بادرت بالتغير و طلبت التغير‪.‬‬

‫(( إن ال ل يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) (‪ – 11‬الرعد)‬

‫و تلك هي التزكية‪.‬‬

‫(( و لول فضل ال عليكم و رحمته ما زكا منكم من أحد أبدا و لكن ال يزكي من‬
‫يشاء)) (‪ – 21‬النور)‬

‫و على النسان أن يبدأ بتزكية نفسه و تطهيرها‪.‬‬

‫(( قد أفلح من زكاها‪ ،‬و قد خاب من دساها)) (‪ – 10 ،9‬الشمس)‬

‫(( من تزكى فإنما يتزكى لنفسه)) (‪ – 18‬فاطر)‬

‫و ل سبيل إلى تطهير النفس و تزكيتها إل بإتقان العبادة و التزام الطاعات‪ ،‬و إطالة‬
‫السجود و فعل الصالحات‪.‬‬

‫و بحكم رتبة العبودية يصبح النسان مستحقا للمدد من ربه‪ ،‬فيمده ال بنوره و يهيئ‬
‫له أسباب الخروج من ظلمته‪.‬‬

‫و ذلك هو سلوك الطريق عند الصالحين من عباد ال‪ ،‬بالتخلية ( تخلية النفس من‬
‫الصفات المذمومة)‪ ،‬ثم التحلية ( تحلية القلب بالذكر و الفضائل) و التعلق و التخلق و‬
‫التحقق‪.‬‬

‫و التعلق عندهم هو التعلق بال و ترك التعلق بما سواه‪.‬‬


‫و التخلق هو محاولة التحلي بأسمائه الحسنى‪ ،‬الرحيم و الكريم و الودود و الرءوف و‬
‫الحليم و الصبور و الشكور‪ ..‬قول و فعل‪.‬‬

‫و التحقق هو أن تصل إلى أقصى درجات الصفاء و اللطف و المشاكلة‪ ،‬فتصبح‬


‫نورانيا في طباعك أو تكاد‪.‬‬

‫و ل سبيل إلى صعود هذا المعراج إل بالعبادة و الطاعة و العمل الصالح‪ ،‬و التزام‬
‫المنهج القرآني و السلوك على قدم محمد العبد الكامل عليه صلوات ال و سلمه‪.‬‬

‫و الذي يعلق على هذا الكلم فيقول‪:‬‬

‫قولك عن النفس أنها (( السر )) هو كلم أغمضت فيه‪ ،‬و ألغزت و حجبت و ما‬
‫كشفت‪.‬‬

‫أقول له إن نفسا فيها القابلية للحركة على جميع تلك المعارج صعودا و هبوطا‪ ،‬و‬
‫فيها القابلية أن تكون ربانية أو شيطانية أو حيوانية أو جمادية‪.‬‬

‫نفس بهذه المكانيات هي (( السر العظم )) ذاته‪.‬‬

‫و من ادعى أنه أدرك السر العظم؟!!‬

‫إن هي إل أصابع تشير‪.‬‬

‫و المشار إليه ل يعلمه إل ال‪.‬‬

‫و نحن جميعا ل نعلم‪.‬‬


‫((نقطة من البحر المحيط))‬

‫في ساعات الصفاء حينما تنقشع الغواشي عن القلب و تنجلي البصيرة‪ ،‬و أرى كل‬
‫شيء أمامي بوضوح‪ ،‬تبدو لي الدنيا بحجمها الحقيقي و بقيمتها الحقيقية‪ ،‬فإذا هي‬
‫مجرد رسم كروكي أو ديكور مؤقت من ورق الكرتون‪ ،‬أو بروفة توزع فيها الدوار‬
‫لختيار قدرات الممثلين‪ ،‬أو مجرد ضرب مثال لتقريب معنى بعيد و مجرد و هي في‬
‫جميع الحوال مجرد عبور و مزار و منظر من شباك في قطار‪.‬‬

‫و هي الغربة و ليست الوطن‪.‬‬

‫و هي السفر و ليست المقر‪.‬‬

‫أعجب تماما و أدهش من ناس يجمعون و يكنزون و يبنون و يرفعون البناء و ينفقون‬
‫على أبهة السكن و رفاهية المقام‪ ..‬و كأنما هو مقام أبدي‪ ..‬و أقول لنفسي أنسوا أنهم‬
‫في مرور؟‪ .‬ألم يذكر أحدهم أنه حمل نعش أبيه و غدا يحمل ابنه نعشه إلى حفرة‬
‫يستوي فيها الكل؟‪ ..‬و هل يحتاج المسافر لكثر من سرير سفري و هل يحتاج‬
‫الجوال لكثر من خيمة متنقلة؟‪.‬‬
‫و لم هذه البهة الفارغة و لمن؟‪.‬‬

‫و لم الترف و نحن عنه راحلون؟‪.‬‬

‫هل نحن أغبياء إلى هذه الدرجة؟‪ .‬أم هي غواشي الغرور و الغفلة و الطمع و عمى‬
‫الشهوات و سعار الرغبات و سباق الوهام؟‪ .‬و كل ما نفوز به في هذه الدنيا وهمي‪،‬‬
‫و كل ما نمسك به ينفلت مع الريح‪.‬‬

‫و الذين يتقاتلون ليسبق الواحد منهم الخر أكثر عمى‪ ،‬فالشارع سد عند نهايته و كل‬
‫العربات تتحطم و يستوي فيها السابق باللحق‪ ،‬و ل يكسب أحد منهم إل وزر قتل‬
‫أخيه‪ ..‬بل إن أكثر الناس أحمال و أوزارا في هذه الدنيا هم الكثر كنوزا و الكثر‬
‫ثراء‪ ،‬فكم ظلموا أنفسهم ليجمعوا‪ ،‬و كم ظلموا غيرهم ليرتفعوا على أكتافهم‪.‬‬

‫و لعلنا سمعنا مثل هذا الكلم و نحن نلهث متسابقين على الطريق‪ ..‬فهو كلم قديم قدم‬
‫التاريخ رددته جميع السفار و قاله جميع الحكماء و لكنا لم نلق له بال و لم يتجاوز‬
‫شحمة الذن‪.‬‬

‫و مازلنا نسمع و ل نسمع برغم تطور أدوات الستماع و كثرة الميكروفونات و‬


‫مكبرات الصوت‪ ،‬و لقطات الهمس اللكترونية من فوق الفضاء و من تحت الثرى‪.‬‬

‫و مازلنا نزداد صمما عن إدراك هذه الحقيقة البسيطة الواضحة و كأنها طلسم مطلسم‬
‫و لغز عصي على الفهام‪.‬‬

‫هل نحن مخدرون؟‪.‬‬


‫أم هناك ما هو أقوى أثرا و أكثر شراسة من الخمور و المخدرات‪ ،‬هي مادية العصر‬
‫التي طبعت الناس بذلك الشعار المسكر؟ غامر و اكسب‪ ..‬و انهب و اهرب‪ ..‬و‬
‫سارع إلى اللذة قبل أن تفوتك‪ ..‬و عش لحظتك بملئها طول و عرضا و ل تفكر ماذا‬
‫بعد فقد ل يكون هناك بعد‪.‬‬

‫نعم تلك هي الخدعة التي يستدرج إليها الكل‪ ..‬إنه ل شيء سوى ما نرى و نسمع و‬
‫نذوق و نلمس من ماديات‪ ،‬و أنه ليس وراء هذه الدنيا شيء و نفوسنا المارة‬
‫استراحت إلى هذه الفلسفة لنها تشبع لها رغائبها و تحقق لها مشتهياتها‪ ،‬و الحيوان‬
‫في داخلنا اختارها لنها تشبع غرائزه‪.‬‬

‫و تلك النفس هي الفتنة و الحجاب و هي التي أفرزت هذه الحضارة المادية و‬


‫روجتها‪.‬‬

‫ألم يسأل داوود ربه‪ :‬يارب كيف أصل إليك‪ .‬فقال له ربه‪ ..‬اترك نفسك و تعال‪ ..‬أن‬
‫يترك هذه النفس لنها العقبة‪ (( ..‬فل اقتحم العقبة‪ .‬و ما أدراك ما العقبة‪ .‬فك رقبة))‬
‫(‪ 13 – 11‬البلد)‬

‫ل انفكاك من هذه العقبة إل بالنفكاك من طمعك‪ ..‬فتفك الرقبة و تطعم المسكين و‬


‫تؤثر غيرك على نفسك‪ .‬و لذلك لم يطلب السلم من المسلم نبذ الدنيا و إنما طلب‬
‫منه قمع النفس و كبحها و شكمها‪ ..‬لن النفس هي الصل‪ ..‬و الدنيا مجرد أداة لتلك‬
‫النفس لتختال و تزهو و تتلذذ و تستمتع‪.‬‬

‫إن النفس هي الموضوع و هي ميدان المعركة و محل البتلء‪ ،‬و الدنيا ورقة‬
‫امتحانها‪ ،‬و مطلوب الدين هو الرتقاء بهذه النفس و الرتفاع بها من شهوات البطن‬
‫و الفرج و من شهوات الجمع و الكتناز‪ ،‬و من حمى الستعراض و الكبر و التفاخر‬
‫ليكون لها معشوق أرقى هو القيم و الكمالت‪ ،‬و معبود واحد هو جامع هذه الكمالت‬
‫كلها‪..‬‬
‫و إنما تدور المعركة في داخل النفس و في شارع الدنيا حيث يتفاضل الناس بمواقفهم‬
‫من الغوايات و المغريات و ما تعرض عليهم شياطينهم من خواطر السوء و من‬
‫فرص اللذة كل لحظة‪.‬‬

‫و لم يطلب السلم من المسلم أن ينبذ الدنيا‪ ،‬بل طلب منه أن يخوضها مسلحا بهذه‬
‫المعرفة‪ ،‬فالدنيا هي مزرعته و هي مجلى أفعاله و صحيفة أعماله‪.‬‬

‫و قدم له فلسفة أخرى في مواجهة الفلسفة المادية‪ ..‬قدم له فلسفة استمرار و بقاء فهو‬
‫لن يموت و يمضي إلى عدم‪ ..‬بل إلى حياة أخرى سوف تتعدد فصول و تمضي به‬
‫كدحا و جهادا حتى يلقى ربه‪ (( :‬يا أيها النسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملقيه)) (‬
‫‪ – 6‬النشقاق)‬

‫الحضارة المادية لم تقدم للنسان إل الموت و حياة تمضي سدا و تنتهي عبثا‪ ..‬أما‬
‫السلم فقدم للنسان الخلود و حياة تمضي لحكمة و تنتقل من طور إلى طور وفقا‬
‫لنواميس ثابتة من العدل اللهي‪ ،‬حيث ل يذهب أي عمل سدى و لو كان مثقال ذرة‬
‫من خير أو شر‪ ..‬فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره‪.‬‬

‫و اليوم تصل الحضارة المادية إلى ذروة من القوة و العلم و تكتمل لها أدوات الفعل و‬
‫التأثير من إذاعة و تليفزيون و سينما و مسرح و كتب و مجلت‪ ،‬و هي سواء كانت‬
‫أمريكية أو سوفييتية‪ ،‬فهي ل تفتأ تغتال العقل و الروح و تتحالف على النسان بخيلها‬
‫و رجلها‪ ،‬و لكنها برغم كل شيء ضعيفة متهافتة واهية لنها تغتال نفسها ضمن ما‬
‫تغتال و تأكل كيانها‪ ،‬وسوف تقتتل مع بعضها البعض و تتحارب بالمخلب و الناب و‬
‫بالقنابل الذرية و القذائف النووية فالطمع و الجشع حياتها و موتها‪.‬‬
‫و على رقعة صغيرة من الرض يقف السلم كمنارة في بحر لجي مظلم متلطم‬
‫الموج يعج بالبوارج و الغواصات و حاملت الصواريخ و حاملت الرءوس النووية‪.‬‬

‫و ما أكثر المسلمين ممن هم في البطاقة مسلمون‪ ،‬و لكنهم في الحقيقة ماديون اغتالتهم‬
‫الحضارة المادية بأفكارها و سكنتهم حتى الحشاء و النخاع‪ ،‬فهم يقتل بعضهم البعض‬
‫و يعيشون لليوم و اللحظة و يجمعون و يكنزون و يتفاخرون و ل يرون من الغد أبعد‬
‫من لذة ساعة‪ ،‬و يتكلمون بلغة سوفييتية أو لغة أمريكية و ل يعرفون لهم هوية‪..‬‬

‫و قد نجد من يصلي منهم إلى القبلة خمس مرات في اليوم و لكن حقيقة قبلته هي‬
‫فاترينة البضائع الستهلكية‪.‬‬

‫و ل يبقى بعد ذلك إل قليل أو أقل القليل ممن عرف ربه‪.‬‬

‫و لو بقي مؤمن واحد مرابط على الحق في الربعة آلف مليون فهو وحده أمة‬
‫ترجحهم جميعا عند ال يوم تنكشف الحقائق و ينهدم مسرح العرائس و يتمزق ديكور‬
‫الخيش و الخرق الملونة‪ ،‬و تنهار علب الكرتون التي ظنناها ناطحات سحاب و تنتهي‬
‫الدنيا‪.‬‬

‫و حينئذ و عندما تهتك الستار و تقام الموازين‪ ،‬سوف نعرف ما الدنيا و ماذا‬
‫تساوي‪ ..‬و ماذا يساوي كل الزمن حينما نضع أقدامنا في البد‪.‬‬

‫و حينئذ سوف نتذكر الدنيا كما نتذكر رسما كروكيا‪ ،‬أو مسرح خيال الظل‪ ،‬أو نموذج‬
‫مثال مصنوع من الصلصال لتقريب معنى بعيد بعيد و مجرد‪..‬‬
‫و سوف نعلم أنها ما كانت سوى النقطة التي فيها كل أملح البحر المحيط‪ ،‬و لكنها لم‬
‫تكن أبدا البحر المحيط‪.‬‬

‫(بتصرف)‬

‫((علم نفس قرآني))‬

‫سيداتي وسادتي‪ ..‬هل تعلمون ما معنى أن ال موجود؟‬

‫معناه أن العدل موجود و الرحمة موجودة و المغفرة موجودة‪.‬‬

‫معناه أن يطمئن القلب و ترتاح النفس و يسكن الفؤاد و يزول القلق فالحق لبد واصل‬
‫لصحابه‪.‬‬

‫معناه لن تذهب الدموع سدى و لن يمضي الصبر بل ثمرة و لن يكون الخير بل‬
‫مقابل و لن يمر الشر بل رادع و لن تفلت الجريمة بل قصاص‪.‬‬

‫معناه أن الكرم هو الذي يحكم الوجود و ليس البخل‪..‬و ليس من طبع الكريم أن يسلب‬
‫ما يعطيه‪ ..‬فإذا كان ال منحنا الحياة‪ ،‬فهو ل يمكن أن يسلبها بالموت‪ ..‬فل يمكن أن‬
‫يكون الموت سلبا للحياة‪ ..‬و إنما هو انتقال بها إلى حياة أخرى بعد الموت ثم حياة‬
‫أخرى بعد البعث ثم عروج في السماوات إلى ما ل نهاية‪.‬‬
‫معناه أنه ل عبث في الوجود و إنما حكمة في كل شيء‪ ..‬و حكمة من وراء كل‬
‫شيء‪ ..‬و حكمة في خلق كل شيء‪ ..‬في اللم حكمة و في المرض الحكمة و في‬
‫العذاب حكمة و في المعاناة حكمة و في القبح حكمة و في الفشل حكمة و في العجز‬
‫حكمة و في القدرة حكمة‪.‬‬

‫معناه أل يكف العجاب و أل تموت الدهشة و أل يفتر النبهار و أل يتوقف الجلل‪.‬‬

‫فنحن أمام لوحة متجددة لعظم المبدعين‪.‬‬

‫معناه أن تسبح العين و تكبر الذن و يحمد اللسان و يتيه الوجدان و يبهت الجنان‪.‬‬

‫معناه أن يتدفق القلب بالمشاعر و تحتفل الحاسيس بكل لحظة و تزف الروح كل يوم‬
‫جديد كأنه عرس جديد‪.‬‬

‫معناه أل نعرف اليأس و ل نذوق القنوط‪.‬‬

‫معناه أن تذوب همومنا في كنف رحمة الرحيم و مغفرة الغفار‪..‬‬

‫أل يقول لنا ربنا (( إن مع العسر يسرا))‪ ..‬و أن الضيق يأتي و في طياته الفرج فأي‬
‫بشرى أبعث للطمئنان من هذه البشرى‪.‬‬

‫و لن ال سبحانه واحد‪ ..‬فلن يوجد في الوجود إله آخر ينقض وعده و لن ننقسم على‬
‫أنفسنا و لن تتوزعنا الجهات و لن نتشتت بين ولء لليمين و ولء لليسار و تزلف‬
‫للشرق و تزلف للغرب و توسل للغنياء و ارتماء على أعتاب القوياء‪ ..‬فكل القوة‬
‫عنده و كل الغنى عنده و كل العلم عنده و كل ما نطمح إليه ين يديه‪ ..‬و الهرب ليس‬
‫منه بل إليه‪ ..‬فهو الوطن و الحمى و الملجأ و المستند و الرصيد و الباب و الرحاب‪.‬‬
‫و ذلك الحساس معناه السكن و الطمأنينة و راحة البال و التفاؤل و الهمة و القبال و‬
‫النشاط و العمل بل ملل و بل فتور و بل كسل و تلك ثمرة ((ل إله إل ال)) في نفس‬
‫قائلها الذي يشعر بها و يتمثلها‪ ،‬و يؤمن بها و يعيشها و تلك هي أخلق المؤمن بل‬
‫إله إل ال‪.‬‬

‫و تلك هي الصيدلية التي تداوي كل أمراض النفوس و تشفى كل علل العقول و تبرئ‬
‫كل أدواء القلوب‪.‬‬

‫و تلك هي صيحة التحرير التي تحطم أغلل اليدي و الرجل و العناق و هي أيضا‬
‫مفتاح الطاقة المكنوزة في داخلنا و كلمة السر التي تحرك الجبال و تشق البحور و‬
‫تغير ما ل يتغير‪.‬‬

‫و لم يخلق إلى الن العقار السحري الذي يحدث ذرة واحدة من هذا الثر في النفس‪.‬‬

‫و كل عقاقير العصاب تداوي شيئا و تفسد معه ألف شيء آخر‪ ..‬و هي تداوي‬
‫بالوهم و تريح النسان بأن تطفئ مصابيح عقله و تنومه و تخدره و تلقى به إلى قاع‬
‫البحر موثوقا بحجر مغمى عليه شبه جثة‪.‬‬

‫أما كلمة ل إله إل ال فإنها تطلق النسان من عقاله و تحرره من جميع العبوديات‬
‫الباطلة و تبشره بالمغفرة و تنجيه من الخوف و تحفظه من الوسواس و تؤيده بالمل‬
‫العلى و تجعله أطول من السماء هامة و أرسخ من الرض ثباتا‪ ..‬فمن استودع همه‬
‫و غمه عند ال بات على ثقة و نام ملء جفنيه‪.‬‬

‫ولن ال هو خالق الكون و مقدر القدار و محرك المصائر‪ ..‬فليس في المكان أبدع‬
‫مما كان‪ ..‬لنه المبدع بل شبيه‪ ..‬ل يفوقه في صنعته أحد‪ ..‬فلن تعود الدنيا مسرحا‬
‫دمويا للشرور و إنما درسا رفيعا من دروس الحكمة‪.‬‬
‫و لن ال موجود فإنك لست وحدك‪ ..‬و إنما تحف بك العناية حيث سرت و تحرسك‬
‫المشيئة حيث حللت‪.‬‬

‫و ذلك معناه شعور مستمر بالئتناس و الصحبة و المان‪ ..‬ل هجر‪ ..‬و ل غدر‪ ..‬و‬
‫ل ضياع‪ ..‬و ل وحدة‪ ..‬و ل وحشة و ل اكتئاب‪ .‬و ذلك حال أهل ل إله إل ال‪.‬‬

‫يذوقون شميم الجنة في الدنيا قبل أن يدخلوها في الخرة و هم الملوك بل عروش و‬


‫بل صولجان‪ ..‬و هم الراسخون المطمئنون الثابتون ل تزلزهم الزلزل و ل تحركهم‬
‫النوازل‪.‬‬

‫تلك هي الصيدلية اللهية لكل من داهمه القلق‪ ..‬فيها علجه الوحيد‪ ..‬و فيها الكسير‬
‫و الترياق و ماء الحياة الذي ل يظمأ بعده شاربه‪ ..‬و فيها الرصيد الذهبي و المستند‬
‫لكل ما نتبادل على الرض من عملت ورقية زائلة متبدلة‪ ..‬و فيها البوصلة و‬
‫المؤشر و الدليل‪.‬‬

‫و فيها الدواء لكل داء‪.‬‬

‫التركيبة النفسية اليمانية‬

‫و المؤمنون أهل حلم و صبر و تواضع و تسامح و حياء‪.‬‬

‫((يمشون على الرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلما)) (‪ 63‬الفرقان)‬
‫تعرفهم بطول الصمت و تواصل الفكر و خفض الصوت و البعد عن الهرج و‬
‫الصخب و التلعن‪.‬‬

‫و تعرفهم بالتأني و التقان و الحسان فيما يعهد إليهم من أعمال‪ ،‬و تعرفهم بالدماثة‬
‫و لين الطبع و الصدق و الوفاء و العتدال في الخذ من كل شيء‪.‬‬

‫و إذا كان لبد من اختيار صفة واحدة جامعة لطابع المؤمن لقلت هي‪:‬‬

‫السكينة‪ ،‬فالسكينة هي الصفة المفردة التي تدل على ان النسان استطاع أن يسود‬
‫مملكته الداخلية و يحكمها و يسوسها‪.‬‬

‫و هي الصفة المفردة التي تدل على انسجام عناصر النفس و التوافق بين متناقضاتها‬
‫و انقيادها في خضوع و سلسة لصاحبها و هي أمر ل يوهب إل لمؤمن‪.‬‬

‫و أنت تقرأ هذه السكينة في هدوء صفحة الوجه‪ ..‬ليس هدوء السطح بل هدوء‬
‫العمق‪ ..‬هدوء الباطن‪ ..‬و ليس هدوء الخواء و ل سكون البلدة‪ ،‬و إنما هدوء التركيز‬
‫و الصفاء و اجتماع الهمة و وضوح الرؤية‪ ..‬و كأنما الذي تراه أمامك يضم البحر‬
‫بين جنبيه‪.‬‬

‫و البحر ساكن و لكنه جياش يطرح اللئ و الصداف و المراجين من أعماقه لحظة‬
‫بعد لحظة‪ ،‬فهو غني الغنى اللنهائي‪.‬‬

‫و هذه خاصية المؤمن‪ ..‬ذلك الهدوء المشع الثري‪ ..‬لماذا‪..‬؟!‬

‫لن علقة المؤمن بماحوله علقة متميزة مختلفة‪ ..‬علقته بالمس و الغد و علقته‬
‫بالموت‪ ..‬و علقته بالناس‪ ..‬و علقته بعمله و نظرته للخلق‪.‬‬
‫فالخلق بالمعنى المادي الواقعي هي أن تشبع رغباتك بما ل يتعارض مع حق‬
‫الخرين في إشباع رغباتهم هم أيضا‪ ،‬فهي مفهوم مادي اجتماعي بالدرجة الولى و‬
‫هدفها حسن توزيع اللذات‪.‬‬

‫أما الخلق بالمعنى الديني – فهي بالعكس – أن تقمع رغباتك و تخضع نفسك و‬
‫تخالف هواك و تحكم شهواتك لتتحقق برتبتك و منزلتك العظيمة كخليفة عن ال و‬
‫وارث للكون المسخر من أجلك‪ ..‬فأنت ل تستحق هذه الخلفة و السيادة على العالم‪،‬‬
‫إل إذا استطعت أول أن تسود نفسك و تحكم مملكتك الداخلية‪ ..‬و مفهوم الخلق هنا‬
‫فردي‪ ،‬و هدفه بلوغ الفرد درجة كماله و إن كانت هناك ثمرة اجتماعية يجنيها ذلك‬
‫الفرد فإنها تأتي بالتبعية‪.‬‬

‫فالمجتمع الذي يتألف من مثل هؤلء الفراد لبد أن يسوده الوئام و السلم و المحبة‪.‬‬

‫و الخلق بهذا المعنى هي خروج من عبودية النفس إلى مرتبة عليا‪ ..‬خروج من‬
‫الرغبة في شيء مادي إلى الرغبة في حضرة الله‪ ..‬خروج من الجزء إلى الكل‪..‬‬
‫من النسبي إلى المطلق حيث يجب أن تطلع كل العيون‪ ..‬و هذا ل يمكن أن يتم إل إذا‬
‫تم تصحيح و تكميل بصر العين‪ ..‬فأصبحت ترى كل شيء بحقيقة حجمه و نسبته ل‬
‫تحجبها لذة دنيوية عن رؤية الكمالت اللهية‪.‬‬

‫و لهذا تبدأ الخلق الدينية بمجاهدة الشهوات حتى تحكمها و تخضعها و ل تبدأ‬
‫بالتسليم لها و بإشباعها كما هو شائع‪ ،‬فهي ليست دعوة إلى حسن توزيع اللذات و إنما‬
‫هي دعوة إلى الخروج من أسر الملذات‪ ،‬و هكذا تختلف النظرتان تماما و تؤدي كل‬
‫منهما إلى انسان مختلف‪.‬‬
‫فالنسان المادي يستهدف النزوة و اللذة الفورية و المقابل المادي العاجل (( لنه ل‬
‫يعتقد في وجود شيء وراء الحياة الدنيوية ))‪ ،‬و هو لهذا يجري وراء(( اللحظة )) و‬
‫يلهث وراء (( الن ))‪ ،‬و لكن اللحظة متفلتة و ((الن)) هارب و الفوت و الحسرة‬
‫تلحقانه في أعقاب كل خطوة يخطوها و هو متروك دائما و في حلقه غصة و في لبه‬
‫حسرة و كلما أشبع شهوته ازدادت جوعا‪ .‬و هو يراهن كل يوم بل ضمان و بل‬
‫رصيد فهو محكوم عليه بالموت ل يعرف متى و كيف و أين‪ ،‬فهو يعيش في قلق و‬
‫توتر مشتت القلب متوزع الهمة بين الرغبات ل يعرف للسكينة طعما حتى يدهمه‬
‫الموت رغم أنفه‪.‬‬

‫أما النسان المؤمن فهو تركيب نفسي مختلف و أخلقية مختلفة‪ ،‬فهو يرى اللذات‬
‫الدنيوية زائلة‪ ،‬و أنها ل تساوي شيئا‪ ،‬و أنها مجرد امتحان إلى منازل و درجات‬
‫وراءها‪ ،‬و أن الدنيا مجرد عبور إلى تلك المنازل و الدرجات الباقية‪ ..‬و أن الدنيا‬
‫كالخيال و أن ال هو الضمان الوحيد في رحلة النيا و الخرة‪ ..‬و أنه ل حاكم و ل‬
‫مقدر سواه‪ ..‬و لو اجتمع الناس على أن يضروك لما استطاعوا أن يضروك إل بشيء‬
‫كتبه ال عليك‪ ،‬و إن اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لما استطاعوا أن ينفعوك إل‬
‫بشيء كتبه ال لك‪.‬‬

‫و لهذا فإن المؤمن ل يفرح لكسب و ل ييأس على خسران‪ ،‬و إذا دهمه ما يكره قال‬
‫في نفسه‪(( :‬و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر‬
‫لكم و ال يعلم و أنتم لتعلمون))‬

‫و ال عنده حكيم عادل رحيم ل يقضي بالشر إل بسبب و لحكمة أو لفائدة و استحقاق‬
‫عادل‪.‬‬
‫و هو ل يحسد أحدا و ل يغبط أحدا‪ ،‬بل هو مشفق على الناس مما هم فيه من غفلة‪،‬‬
‫يقول له قلبه‪:‬‬

‫(( ل يغرنك تقلب الذين كفروا في البلد‪ ..‬متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد))‬
‫(‪ 197 -196‬آل عمران)‬

‫(( أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين‪ ..‬نسارع لهم في الخيرات بل ل يشعرون))‬
‫(‪ 56-55‬المؤمنون)‬

‫(( إنما نملي لهم ليزدادوا إثما)) (‪ -187‬آل عمران)‬

‫(( ما أصاب من مصيبة في الرض و ل في أنفسكم إل في كتاب من قبل أن نبرأها‬


‫إن ذلك على ال يسير‪ ..‬لكيل تأسوا على ما فاتكم و ل تفرحوا بما آتاكم و ال ل‬
‫يحب كل مختال فخور)) (‪ 23-22‬الحديد)‬

‫(( قل لن يصيبنا إل ما كتب ال لنا))‬

‫و ثمرة تلك اليات عند المؤمن هي السكينة و الهدوء النفسي و اطمئنان البال و الثقة‬
‫في حكمة ال و عدله و رحمته و تصريفه‪.‬‬

‫و مثل هذا المؤمن كلما ترك شهوة من شهواته‪ ،‬وجد عوضا لها حلوة في قلبه‪ ،‬مما‬
‫يلقى من التحرر الداخلي من أغلل نفسه و مما يجد من النور في بصيرته‪.‬‬

‫و هو يترك السعي إلى الحظوظ للسعي إلى الحقوق و يترك الدعاوى إلى الوامر‪.‬‬

‫و يترك أهواء النفس إلى وجه الحق‪.‬‬


‫و يكف عن التلهف و الحركة وراء الغراض و المناصب و الرياسات و المغانم و‬
‫يسكن إلى جنب ال‪ ..‬و هل بعد ال مغنم؟!!‬

‫و من صفات هذا المؤمن العامل لوجه ال أنه ناهض بالهمة على الدوام ل يفتر و ل‬
‫يكسل و ل يتواكل‪ ،‬بينما يفتر من يعمل للجرو يفتر من يعمل للخوف ((يخدع الول‬
‫نفسه بالستكفاء و يخدع الثاني نفسه بالتمني)) أما القاصد وجه ربه فإنه ل يفتر لنه‬
‫لم يربط جهاده بأجر و هو ل يكسل متواكل على مغفرة لنه ل يتحرك بالخوف من‬
‫عقاب و إنما هو عبد محب متطوع‪ ،‬العمل عنده سعادة‪ ،‬لهذا ل تجده متبرما و ل‬
‫متسخطا و إنما هو دائما طلق الوجه مشرق البسمة متفائل‪ ،‬حماد لربه في جميع‬
‫الحالت ل يسب الدهر و ل ينسب لربه نقصا و ل قصورا‪.‬‬

‫و هذه التركيبة النفسية النادرة هي ثمرة اليمان بالقرآن و هي ثمرة التوحيد‪ ..‬و‬
‫التوحيد يجمع عناصر النفس و يوحد اتجاه المشاعر نحو مصدر واحد للتلقي فيؤدي‬
‫بذلك إلى أثر تركيبي بنائي في الشخصية بعكس تعدد اللهة و تعدد مصادر الخوف و‬
‫النفع و الضرر فإنه يؤدي إلى توزع المشاعر و انقسام النفس و تشتت النتباه إلى‬
‫العديد من الجهات‪ ،‬و يؤدي بذلك إلى تفكيك رباط الشخصية‪.‬‬

‫و القارئ للقرآن الكريم يخرج بعلم نفس قرآني متميز بديع و منفرد في تربيته‬
‫للمسلم‪.‬‬

‫و ليس عجيبا أن القرآن أقام حضارة و صنع تاريخا‪ ..‬فإنه قبل ذلك أقام إنسانا و ربى‬
‫نفسا بديعة سوية متفردة في تكاملها و أشرق عليها بسكينة ل مثيل لها‪.‬‬

‫و مثل تلك التربية الفذة تشهد للقرآن بأنه خرج من المشكاة اللهية‪ ..‬فل مرب مثل‬
‫الرب‪.‬‬
‫و لهذا يختلف علم النفس و علم النفس القرآني في علج المراض النفسية‪ .‬فعلم‬
‫النفس ل يرى إمكانا لتبديل النفس أو تغييرها جوهريا لن النفس تأخذ شكلها النهائي‬
‫في السنوات الخمس الولى من الطفولة‪ ..‬و ل يبقى للطبيب النفسي دور سوى إخراج‬
‫المكبوت فيها إلى الوعي‪ ..‬أو فتح نوافذ للتنفيس و التعبير و تخفيف الغليان الداخلي‪..‬‬
‫و بهدف الوصول إلى ذلك يلجأ الطبيب النفسي إلى العلج بالتنويم المغناطيسي أو‬
‫العلج باليحاء أو بالتنفيس و التعبير و الفن و اللعب أو العلج بالستغراق في عمل‬
‫آلي أو العلج بالشباع المباشر‪.‬‬

‫و كل هذه الصور أشبه بعلج السرطان بالمراهم أو المسكنات لنها ل تحاول أن‬
‫تغير من النفس شيئا‪ ،‬فكلها تقبل وجود الدمل النفسي على حاله ثم تقول للمريض‪..‬‬
‫اصرخ أو تأوه أو ارقص أو غني لتنفس عن آلمك‪ ..‬أو تضع يده على الدمل و تقول‬
‫له‪ ..‬هنا الدمل‪ ..‬و هذا كل جهدهم‪.‬‬

‫أما الدين فيقول بإمكانية تبديل النفس و تغييرها جوهريا و يقول بإمكانية إخراجها من‬
‫ظلمة البهيمية إلى أنوار الحضرة اللهية و من حضيض الشهوات إلى ذروة الكمالت‬
‫الخلقية و ذلك بالرياضة و المجاهدة‪.‬‬

‫و يكون ذلك على مراحل‪ ..‬أولها‪ :‬تخلية النفس من عاداتها المذمومة و ذلك‬
‫بالعتراف بالذنوب و العيوب و إخراج هذه العيوب إلى النور كما قال موسى لربه‬
‫بعد قتل المصري خطأ‪:‬‬

‫(( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له)) (‪ -16‬القصص)‬

‫و كما نادى يونس في الظلمات‪:‬‬

‫(( ل إله إل أنت سبحانك إني كنت من الظالمين)) (‪ -87‬النبياء)‬


‫و المرحلة الثانية‪ :‬هي التوبة و قطع الصلة بالماضي و الندم على ما فات و مراقبة‬
‫النفس فيما يستجد من أمور و محاسبتها على الفعل و الخاطر‪.‬‬

‫و المرحلة الثالثة‪ :‬هي مجاهدة الميول النفسية المريضة بأضدادها‪ .‬و ذلك برياضة‬
‫النفس الشحيحة على النفاق و إكراه النفس الشهوانية على التعفف‪ ،‬و دفع النفس‬
‫النانية إلى البذل و التضحية و اليثار‪ ،‬و حث النفس المختالة المزهوة على التواضع‬
‫و النكسار‪ ،‬و استنهاض النفس الكسولة إلى العمل‪ ..‬و بمعالجة الضد بالضد تصل‬
‫النفس إلى الوسط العدل‪ ..‬و هو صراط الحكمة‪ ..‬و هو حظ الصالحين من البشر‪.‬‬

‫و ل تنجح تلك الرياضة دون طلب المدد و العون من ال و دون الصلة و الخشوع و‬
‫الخضوع و الفناء في محبة ال ركوعا و سجودا في توحيد كامل(و توحيد ال ل يكون‬
‫إل بطاعته الكاملة و السترسال معه‪ ..‬ل تريد لنفسك إل ما يطلبه هو لك) و هنا‬
‫تحدث المعجزة‪ ..‬فيتبدل القلق سكينة و الفزع طمأنينة و الخسة الشهوانية عفة و‬
‫طهارة‪ ..‬و النواقص النفسية كمالت‪.‬‬

‫و ذروة العلج النفسي هي(( الذكر)) ذكر ال بالقلب و اللسان و الجوارح و السلوك‬
‫و العمل‪ ..‬و استشعار الحضرة اللهية على الدوام و طوال الوقت في كل قول و‬
‫فعل‪.‬‬

‫و في الذكر شفاء و وقاية و أمن و طمأنينة لن الذكر يعيد الصلة المقطوعة بين العبد‬
‫و الرب و يربط النفس بمنبعها و يرد الصنعة إلى صانعها‪ ..‬حيث هو العلم بعيوبها‬
‫و القدر على علجها‪.‬‬

‫(( ادعوني استجب لكم)) (‪ -60‬غافر)‬


‫(( فاذكروني أذكركم)) (‪ -152‬البقرة)‬

‫فيعود النور ليغمر ظلم النفس و يحل العمار مكان الخراب‪.‬‬

‫و بينما يرى فرويد (الطيبة) تخاذل و سلبية و ينصح مريضه قائل له‪ (( :‬كل و إل‬
‫فأنت مأكول))‪.‬‬

‫نرى نحن الطيبة قوة إيجابية‪ ..‬و نأمر بالصفح‪:‬‬

‫(( فاعفوا و اصفحوا)) (‪ -109‬البقرة)‬

‫(( فاصفح الصفح الجميل)) (‪ -85‬الحجر)‬

‫(( و أن تعفوا أقرب للتقوى)) (‪ -237‬البقرة)‬

‫و بينما يرى فرويد من العمال مايساعد على تفريغ و تنفيس الغليان النفسي‪ ..‬نشترط‬
‫نحن العمل الصالح‪.‬‬

‫و بينما يرى أن ماضي الطفولة حاكم على كل إنسان و موجه لفعاله ل نقول نحن‬
‫بحاكم إل ال‪ ..‬و نقول إننا بفضل ال يمكن أن نخرج من أي حكم‪ ،‬و بينما يقول‬
‫بفطرة عدوانية و بغريزة التحطيم و الهدم و بالطاقة الشهوانية كدوافع رئيسية‪ ،‬نقول‬
‫نحن‪ :‬إن النسان فُطر حرا مختارا بين النوازع السالبة و الموجبة يختار ما يشاء منذ‬
‫البداية‪.‬‬

‫و سبب كل هذه المادية الفرويدية و مادية علم النفس بوجه عام هو أنهم يتعاملون مع‬
‫النفس النسانية على أنها مادة وجسد يمكن اقتحامه بالتشريح و التجربة‪ ..‬و هم‬
‫يفعلون هذا عن إيمان بأنه ل روح هناك و ل ذات و ل نفس‪ ..‬و إنما مجموعة‬
‫مركبات كيميائية و جينات وراثية اسمها النسان و تلك هي خطيئة الحضارة المادية‪،‬‬
‫فهذا التصور أبعد ما يكون عن الصواب لن النفس النسانية (( ذات )) قبل كل شيء‬
‫و ل يمكن إحالتها إلى موضوع مجرد‪ ..‬و هي كالحياة إذا أعملت فيها مبضع التشريح‬
‫ماتت في يدك‪ ..‬و النفس دائما تستخفي على النظرة التحليلية و تتنكر بما تطرح في‬
‫الظاهر من ردود أفعال سلوكية و هي ل تعطي سرها أبدا حتى لصاحبها إذا بدأ‬
‫يتدبرها كموضوع‪ ،‬لنها ليست موضوعا بل هي في جوهرها (( ذات )) بكر إذا‬
‫فضضت بكارتها و هتكت استسرارها و حاولت أن تقتحمها بالنظرة الموضوعية‬
‫استعصت عليك و تفلتت منك بمجموعة من البدائل السلوكية الخادعة و تحولت إلى‬
‫شيء آخر‪ ..‬و لم تعد (( هي ))‪.‬‬

‫و يظل دائما الفارق بين ما ترى منها في الظاهر و ما خفى عليك من حقيقتها‪،‬‬
‫كالفارق الهائل بين الجسد الظاهر و الروح التي تسكنه‪ ..‬و أنت لن تصل أبدا إلى كنه‬
‫الروح بتشريح الجسد‪ ..‬و إنما أنت على أحسن الفروض سوف تفهم الجسد أكثر فأكثر‬
‫و لكنك تظل دائما بعيدا كل البعد عن إدراك سر الروح و لغزها‪.‬‬

‫(( و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إل قليل )) (‬


‫‪ -85‬السراء)‬
‫المكر اللهي‬

‫بطل الحادث (( سليمة إبراهيم )) ‪ 801‬جنايات الصف‪ ،‬اشتركت مع أخيها – ‪ 17‬سنة‬


‫– في قتل زوجها ضربا و خنقا‪ ،‬ثم هجمت عليه و أكلت أعضاءه و هو ميت‪ ..‬هكذا‬
‫تقول اعترافاتها المفصلة أمام وكيل النيابة و القاضي‪ ..‬و هكذا شهدت الوقائع كما‬
‫تشهد الجثة‪.‬‬

‫قرأت الحادث مع اللوف الذين قرأوه‪ ،‬و شعرت معهم بتلك القشعريرة الباردة‪ ،‬و‬
‫الفضول إلى معرفة هذا الحادث الغريب في وحشيته‪.‬‬

‫هل يمكن أن يبلغ الغل بإمرأة إلى هذا المدى‪.‬‬

‫و ماذا يمكن أن تكون صورة هذا الوجه الذي يأكل الميتة‪.‬‬

‫طالعتني في سجن النساء بالقناطر إمرأة وسيمة‪ ،‬دقيقة الملمح‪ ،‬أسنانها جميلة كصفين‬
‫من لؤلؤ‪ ..‬على وجهها سكينة و طمأنينة‪ ..‬تصلي و تصوم‪ ،‬و تنام نوما هادئا عميقا‪..‬‬
‫و كلمها كله عن رحمة ال و أمر ال و حكمة ال‪ ..‬و كأنها رجل صوفي ضل‬
‫مكانه‪.‬‬

‫أيمكن أن يخالف الظاهر الباطن إلى هذا الحد؟‬


‫أيمكن أن تخدع الصور‪ ،‬و تكذب العين و اليد و اللسان؟‬
‫أيمكن أن تصبح الحياة كلها تمويها؟‬
‫و كيف يخلق ال للحقائق البشعة وجوها جميلة؟‬
‫و ما الدافع الذي أخرج من الباطن كل هذا الشر المخفي؟‬
‫و ما الذي هتك الحجاب و كشف النفس على ما هي عليه‪.‬‬
‫الزوج تزوج عليها‪..‬‬
‫هذا أمر عادي في البدو‪..‬‬
‫و هو يتكرر في تلك البيئة دون أن تأكل النساء أزواجهن‪.‬‬
‫الزوج طلق الزوجة ثم ردها‪..‬‬
‫كان يسيء معاملتها أمام الزوجة الجديدة‪.‬‬
‫أهي غضبة للنفس و للكرامة؟!‬

‫و لكن الزوجة اعترفت بأنها كانت على علقات متعددة مع رجال متعددين أثناء‬
‫الطلق فهي لم تحفظ لنفسها كرامة‪..‬‬

‫كيف ل يبدو كل هذا الخراب النفسي على ذلك الوجه الجميل السمح الوديع‪ ،‬المطمئن‬
‫الهادئ كأنه وجه قديس‪.‬‬

‫تذكرت رجل جميل رأيته ذات مرة‪ ..‬كان جميل فاتنا مفتول العضل‪ ،‬جذاب الصورة‬
‫كأنه نجم سينما‪ ..‬و كان مهذبا يتكلم بنبرة خفيضة‪ ..‬و كان يجفل بنظراته في حياء‪..‬‬
‫ثم تبين لي فيما بعد أنه مجنون يعالج بالصدمات الكهربائية‪.‬‬

‫كان باطن الرجل خرابا مطلقا‪..‬‬


‫و كانت حقيقته الخواء‪.‬‬
‫و كان فارغا تماما و مجوفا من الداخل‪ ..‬إلى هذا المدى يمكن أن تكذب الصور و‬
‫تخدع الشكال‪.‬‬
‫(( إن ال ل ينظر إلى صوركم و ل إلى أشكالكم و إنما ينظر إلى قلوبكم و‬
‫أعمالكم ))‪.‬‬
‫في ليلة الجريمة عاد الزوج إلى زوجته بهدية من الحلوى ليصالحها (( لم يكن يدري‬
‫برغم سنوات المعاشرة الطويلة أنه ينام كل ليلة مع ضبع ))‪ ..‬قتلته في لحظة غزل‪..‬‬
‫كيف واتتها الشجاعة؟‬
‫نفس السؤال يلح علي باستمرار‪.‬‬
‫كيف تتنكر الحقائق في غير ثيابها؟‬
‫و يلبس الباطل الحق‪..‬‬
‫و يلبس القبح الجمال‪.‬‬
‫و تلبس الجريمة الحب‪.‬‬
‫و كيف يخلق الخالق هذه العبوات الجميلة لهذه النفوس البشعة؟ كيف يضع السم في‬
‫وردة و يضع العسل في عقرب‪ ،‬و يخفي المتفجرات في أقنعة من حرير؟‬
‫أهذا مصداق الية‪:‬‬
‫(( و ال مخرج ما كنتم تكتمون )) (‪ – 721‬البقرة)‪.‬‬

‫أهو المكر اللهي الذي يستدرج به ال النفوس‪ ،‬و يمتحنها بعضها ببعض ليفضح‬
‫خباياها و مكتوماتها‪ ،‬و ليخرج حقائقها و يكشف بشاعتها‪ ،‬فإذا بالمرأة الجميلة جلدا‬
‫و إذا بالرجل الدميم ملكا‪..‬‬

‫هي ل تشعر بندم أو تأنيب ضمير‪ ..‬و يقينها أنها على الحق‪.‬‬
‫أيمكن أل يعرف الواحد منا نفسه؟‬

‫لقد قال أبوبكر أنه ل يطمئن إلى أنه صار إلى الجنة حتى و لو دخلت إحدى رجليه‬
‫الجنة‪ ،‬مادامت الرجل الثانية لم تدخل بعد‪ ..‬و ذلك خوفا من مكر ال‪ ..‬خوفا من أن‬
‫يكشف ال في اللحظة الخيرة شرا مكتوما في نفسه يدخله به النار البدية‪ ..‬شرا كان‬
‫يكتمه أبوبكر في نفسه دون أن يدري به أو يدري عنه‪.‬‬
‫و تلك هي ذروة التقوى‪..‬‬
‫خوف ال‪..‬‬
‫و التواضع و عدم الطمئنان إلى براءة النفس و نقائها‪ ،‬و خلوها من الشوائب‪..‬‬
‫و عدم الغرور بصالح العمال‪..‬‬
‫و خوف المكتوم الذي يمكن أن يفتضح فجأة بالمتحان‪..‬‬

‫لم يكن أبوبكر من أهل الدعاوي‪..‬‬


‫لم يكن يدعي لنفسه منزلة أو صلحا‪..‬‬
‫و إنما كان من أهل الحقائق‪..‬‬

‫و أهل الحقائق في خوف دائما من أن تظهر فيهم حقيقة مكتومة ل يعلمون عنها شيئا‬
‫تؤدي بهم إلى المهالك‪ ،‬فهم أمام نفوسهم في رجفة‪..‬‬
‫و أمام ال في رجفة‪..‬‬
‫و ذلك هو العلم الحق بالنفس و بال‪..‬‬
‫فالنفس هي(( السر العظم ))‪ ..‬و هي الغيب المطلسم‪..‬‬
‫هي غيب حتى عن صاحبها‪ ..‬ل تنكشف له إل من خلل المعاناة‪ ..‬و هي في مكر‬
‫دائم تظهر وجها من وجوهها‪ ،‬و تخفي ألف وجه‪..‬‬

‫و ال غيب مطلق و خفاء تام‪ ..‬و هو سبحانه ذروة المكر إن صح القول‪..‬‬


‫لماذا وصف ال نفسه بالمكر؟ و قال‪:‬‬
‫(( و يمكرون و يمكر ال و ال خير الماكرين ))‪ – 30( .‬النفال)‪.‬‬
‫و ما الفرق بين مكر ال و مكرنا‪..‬‬
‫و كيف يمكر ال‪..‬‬

‫ال يمكر لظهار الحقيقة‪..‬‬


‫و نحن نمكر لخفائها‪..‬‬
‫و لهذا كان مكر ال خيرا كله‪ ،‬و مكرنا سوءا كله‪..‬‬
‫مكر ال نور و مكرنا ظلمة‪..‬‬
‫مكر ال عدل و مكرنا ظلم‪..‬‬

‫و هل هناك أسوأ من مكر هذين الصفين من السنان اللؤلؤية التي تأكل الميتة‪ ،‬و‬
‫تمتص الدم البارد و توشوش بالحب‪ ،‬و تضمر الموت؟!‬

‫شيء واحد في مظهر هذه المرأة العجيبة كان ينم عليها‪ ..‬هو صوتها‪..‬‬
‫ذلك الصوت النحاسي المعدني الذي يخرج عاليا حادا رتيبا على الدوام‪ ،‬و كأنه يخرج‬
‫من أنبوبة معدنية و ليس من قلب يشعر‪.‬‬
‫صوت ل يبدو فيه حزن و ل فرح و ل غضب‪..‬‬
‫صوت معرى مجرد من جميع المشاعر‪..‬‬
‫صوت أقرع أملس ل يشف عن أي انفعال‪ ..‬يعطيك الحساس دائما بأن هناك شيئا‬
‫غير إنساني يتكلم‪ ،‬و إنك أمام جماد ينطق‪..‬‬
‫تتكلم عن الحب كما تتكلم عن الكراهية‪..‬‬
‫تتكلم عن رحمة ال كما تتكلم عن انتقامه بنفس الوجه الجامد و النبرة النحاسية‬
‫الرتيبة‪..‬‬
‫يخيل لمن يسمعها أن هناك شخصا آخر يتكلم في داخلها‪ ..‬شيطانا‪ ..‬أو جنا‪ ..‬أو ملقنا‬
‫يتكلم من وراء خباء‪..‬‬

‫هل يمكن أن تتلبسنا الشياطين‪..‬‬


‫ال يقول إن الشياطين ل تتسلط إل على أشباهها‪ ،‬و إنه لبد أن تكون هناك مشاكلة و‬
‫مجانسة بين اثنين ليتسلط واحد على الخر‪..‬‬
‫(( شياطين النس و الجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) (‪– 112‬‬
‫النعام)‪.‬‬
‫الشيطان ل يتسلط إل على شيطان مثله‪ ،‬حيث يمكن التواصل و التأثر بحكم‬
‫المشاكلة‪..‬‬
‫أما عباد ال فل مدخل للشيطان عليهم‪..‬‬
‫فال يقول لبليس‪..‬‬
‫(( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان )) (‪ – 42‬الحجر)‪.‬‬
‫فل حجة لمن يقول‪ ..‬تسلط علي الشيطان‪ ..‬فنحن نرد عليه قائلين‪ ( ..‬لنك شيطان‬
‫مثله )‪.‬‬

‫و لمن يتصور أن المكر اللهي ينافي العدل‪ ..‬نقول بل هو عين العدل‪ ..‬فال ل يمكر‬
‫إل بماكر‪.‬‬
‫(( يمكرون و يمكر ال )) ( ‪ – 30‬النفال)‪.‬‬
‫(( يكيدون كيدا‪ ،‬و أكيد كيدا )) (‪ – 16 ،15‬الطارق)‪.‬‬

‫و حقيقة المر أن ال يسلط على النسان الذي يخفي شيئا في نفسه إنسانا آخر يخفي‬
‫شيئا في نفسه‪ ..‬و هذا منتهى العدل‪ ..‬بل نحن أمام ميزان مضبوط تماما‪ ..‬ففي كلتا‬
‫الكفتين نفس ماكرة تخفي شيئا‪.‬‬
‫ثم إنه من تماكر الثنين بعضهما ببعض تظهر الحقيقة‪..‬‬

‫و هذه هي الدنيا‪..‬‬
‫و لهذا خلقها‪..‬‬
‫لحقاق الحق‪..‬‬
‫ما خلق السماوات و الرض إل بالحق‪.‬‬
‫و هذا عين الخير في أمر خلق الدنيا برغم ما يبدو من دم جريمة و شر و بشاعة‪..‬‬
‫فالعبرة بالخواتيم‪..‬‬
‫و شرور الدنيا زائلة مهما استحكمت‪..‬‬
‫و ل أهمية لشر زائل مادام سوف يكشف لنا في الختام عن خير باق‪..‬‬

‫و لو فكر الواحد منا في المر تفكيرا هادئا‪ ،‬و لو تأمل ما يجري في الدنيا حوله في‬
‫عمق لدرك أن المر جاد برغم ما يبدو في الظاهر من هزل و عبث‪ ،‬فكل شيء‬
‫محسوب‪ ،‬و كل شيء يجري بموازين دقيقة‪.‬‬

‫و نحن الماكرون الماهرون‪ ..‬و كل واحد فينا يتصور أنه يخطط بفطانة‪ ..‬و ذكاء‪..‬‬
‫نحن بدون أن ندري‪ ،‬يكشف بعضنا بعضا‪ ،‬و نكشف أنفسنا من خلل مآزق الشطرنج‬
‫المتوالية التي تزجنا فيها المقادير‪ ،‬و نفتضح عبر هذا الفعل المتسلسل الذي اسمه‬
‫الدنيا حتى ل تبقى فينا باقية‪ ..‬ثم نموت و قد ظهر المكتوم‪.‬‬

‫و الذين يدركون تمام الدراك لب القضية تصيبهم الرجفة من الرأس إلى القدم‪..‬‬
‫إن ما يجري في هذه الدنيا ليس عبثا‪..‬‬
‫بل إن المر جاد بصورة مخيفة‪.‬‬

‫و الرجل الماكر الذي يسألنا دائما‪ ..‬كيف يذهب إنسان متحضر في السويد إلى جهنم‪..‬‬
‫كيف يذهب ذلك الرجل البيض النظيف الجميل اللطيف أستاذ التكنولوجيا إلى جهنم و‬
‫يذهب حاج مغفل يبكي عند الكعبة إلى الجنة؟‬

‫نقول له‪ :‬لقد ذهب ذلك الحاج الذي يبكي عند الكعبة بالفعل إلى الجنة من الن‪ ..‬إنه‬
‫من الن في الجنة‪ ..‬لقد أدرك روح المسألة و اتصل بالعلم الكلي المطلق‪ ..‬أما‬
‫صاحبك فمازال يشتغل بالنحاس و الحديد و المنجنيز‪ ..‬مازال مشغول بالمسألة ذاتها‪..‬‬
‫لم يدرك روحها‪..‬‬

‫و هذا أمر يفيد في الدنيا‪ ..‬و لكن ل قيمة له بعد ذلك و ال لم يمنعنا عن كشف الحديد‬
‫و المنجنيز بل أمرنا به‪.‬‬
‫(( و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس )) (‪ -25‬الحديد)‪.‬‬
‫و ذلك أمر بإدراك المنافع في الحديد‪..‬‬

‫و لكن دين ال يقتضي منا التوغل وراء ذلك لدراك روح المسألة بحثا عن نفع آخر‬
‫باق‪ ..‬و بذلك يجمع المسلم بين نفع الدنيا و نفع الخرة‪ ،‬فالحديد و المنجنيز ليسا كل‬
‫شيء‪ ..‬فالحاج الذي يبكي عند الكعبة ليس مغفل‪ ..‬فهو يبكي بسبب علم آخر عميق‬
‫تعلمه‪ ..‬هو علمه بنفسه و علمه بربه‪ ..‬و هو واقف على عتبة من العلم أعلى من‬
‫صاحبنا أستاذ التكنولوجيا في السويد الذي وقف علمه عند الحديد و المنجنيز‪.‬‬

‫و أين هذا العارف بنفسه و العارف بربه‪ ..‬من هذا العارف الخر الذي توقفت‬
‫معارفه عند المادة و قوانينها؟‬
‫إن المغفل الحقيقي هو الذي عرف المادة و غفل عن رب المادة‪..‬‬

‫و تحصيل العلوم المادية سهل و هو في الكتب و في المدارس و في مصر وحدها‬


‫أكثر من عشرة آلف حامل دكتوراه‪ ،‬و أكثر من مائة ألف حامل ماجستير و دبلوم‪.‬‬
‫و لكن كم في هذا البلد من الحاد أو العشرات ممن يمكن أن يقال عنهم من العارفين‬
‫بنفوسهم و العارفين بربهم‪.‬‬

‫لقد حصلت علوم الطب و أنا شاب‪..‬‬


‫و هأنذا أكتهل دون أن أن أصل إلى معرفة بنفسي و بربي‪ ..‬فتلك ذروة ل يبلغها إل‬
‫الفراد‪..‬‬
‫هؤلء الذين قال عنهم ربهم‪:‬‬
‫(( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا )) (‪ – 58‬مريم)‪.‬‬
‫ذلك حال صاحبنا الذي سجد باكيا عند الكعبة‪..‬‬

‫و تلك مرتبة و منزلة و درجة بينها و بين صاحبنا النظيف اللطيف الذكي المتحضر‬
‫أستاذ التكنولوجيا السويدي سبع سماوات‪ ..‬هذا سيد من سادة الرض‪ ،‬صاحب ملك‬
‫محدود في زمن محدود‪ ..‬و ذلك سيد على الولين و الخرين له في السماوات ملك‬
‫بل حدود في أبد بلتناه‪..‬‬

‫فمن هو المغفل بالحقيقة؟‬


‫و من هو الفائز بالحقيقة؟‬

‫و لكن نحن في عصر مادي‪ ..‬و ذكر الجنة و السماوات أمر يبتسم له أهل الدنيا و‬
‫سادتها الماكرون‪ ،‬و يضحكون فيه على سذاجتنا و ل أحد يهتم في هذه الدنيا إل‬
‫بالربح العاجل‪..‬‬

‫و لهذ اقتضى العدل أن يتعامل ال مع هؤلء الماكرين‪ ..‬بالمكر اللهي‪..‬‬


‫(( و مكروا مكرا و مكرنا مكرا )) (‪ – 50‬النمل)‪.‬‬

‫و ما هم فيه من رخاء و غنى و علو‪ ..‬هو استدراج و ليس علوا‪.‬‬


‫(( سنستدرجهم من حيث ل يعلمون )) (‪ – 44‬القلم)‪.‬‬
‫(( أيحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين‪ ،‬نسارع لهم في الخيرات بل ل يشعرون ))‬
‫(‪ – 56 ،55‬المؤمنون)‪.‬‬
‫(( و قد مكروا مكرهم و عند ال مكرهم و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال )) (‪46‬‬
‫– إبراهيم)‪.‬‬

‫و صاحبنا الذكي الذي ل تنفد له حجج إذا رآنا نحكم حول عنقه حلقات المنطق و إذا‬
‫شعر بمنطقنا يوشك أن يسكته ما يلبث أن يصرخ‪.‬‬
‫و ماذا أساوي أنا إلى جوار عظمة ال‪ ..‬و لماذا يعذبني ال و أنا ل أساوي شيئا‪ ..‬و‬
‫هل أنا إل ذرة تافهة؟‬

‫و هو تواضع كاذب و انكسار مفتعل لنه لو شعر حقا بعظمة ربه و بتفاهة نفسه لخر‬
‫ساجدا باكيا أمام هذه العظمة‪ ،‬و لشعر بالخشوع أمام تلك الهيبة‪ ..‬إنما هي الملحاة و‬
‫الجدل‪.‬‬

‫و نرد على مكره فنقول‪:‬‬


‫لست تافها عند ربك و ل هين الشأن‪ ،‬فقد نفخ فيك من روحه‪ ،‬و أسجد لك ملئكته‪ ،‬و‬
‫سخر لك أكوانه كلها‪ ،‬و أعطاك التسرمد و الخلود‪ ،‬و منحك الحرية‪ ..‬إن شئت كنت‬
‫ربانيا‪ ..‬و إن شئت كنت شيطانيا‪.‬‬
‫فأين هوان الشأن من هذا كله‪.‬‬

‫بل هو تحايل الماكرين حينما يصبح ظهرهم إلى الحائط و تتقطع بهم الحجج‬
‫فيتمسكنون و يتماوتون و يتخافتون و يتهامسون‪ ..‬هل نحن إل ذباب يارب‪..‬‬

‫و هل للتراب أن يتطاول‪..‬‬
‫و هل للطين عندك شأن يساوي أن تحفل به و تعذبه؟ و لو أحس الواحد منهم بالفعل‬
‫أنه تراب‪ ،‬و لوانطلقت أعماله و أقواله من هذا الحساس لكان له مع ال حال غير‬
‫الحال و شأن غير الشأن‪.‬‬

‫و لكنه المكر‪..‬‬

‫و مهما تماكروا‪ ..‬فال أمكر‪..‬‬

‫لماذا تمرض نفوسنا؟!!‬

‫المؤمن ل يعرف شيئا اسمه المرض النفسي لنه يعيش في حالة قبول و انسجام مع‬
‫كل ما يحدث له من خير و شر‪ ..‬فهو كراكب الطائرة الذي يشعر بثقة كاملة في‬
‫قائدها و في أنه ل يمكن أن يخطئ لن علمه بل حدود‪ ،‬و مهاراته بل حدود‪ ..‬فهو‬
‫سوف يقود الطائرة بكفاءة في جميع الظروف و سوف يجتاز بها العواصف و الحر و‬
‫البرد و الجليد و الضباب‪ ..‬و هو من فرط ثقته ينام و ينعس في كرسيه في اطمئنان‬
‫و هو ل يرتجف و ل يهتز اذا سقطت الطائرة في مطب هوائي أو ترنحت في‬
‫منعطف أو مالت نحو جبل‪ ..‬فهذه أمور كلها لها حكمة و قد حدثت بارادة القائد و‬
‫علمه و غايتها المزيد من المان فكل شيء يجري بتدبير و كل حدث يحدث بتقدير و‬
‫ليس في المكان أبدع مما كان‪ ..‬و هو لهذا يسلم نفسه تماما لقائده بل مساءلة و بل‬
‫مجادلة و يعطيه كل ثقته بل تردد و يتمدد في كرسيه قرير العين ساكن النفس في‬
‫حالة كاملة من تمام التوكل‪.‬‬
‫و هذا هو نفس احساس المؤمن بربه الذي يقود سفينة المقادير و يدير مجريات‬
‫الحوادث و يقود الفلك العظم و يسوق المجرات في مداراتها و الشموس في مطالعها‬
‫و مغاربها‪ ..‬فكل ما يجري عليه من أمور مما ل طاقة له بها‪ ،‬هي في النهاية خير‪.‬‬

‫اذا مرض و لم يفلح الطب في علجه‪ ..‬قال في نفسه‪ ..‬هو خير‪ ..‬و اذا احترقت‬
‫زراعته من الجفاف و لم تنجح وسائله في تجنب الكارثة‪ ..‬فهي خير‪ ..‬و سوف‬
‫يعوضه ال خيرا منها‪ ..‬و اذا فشل في حبه‪ ..‬قال في نفسه حب فاشل خير من زيجة‬
‫فاشلة‪ ..‬فاذا فشل زواجه‪ ..‬قال في نفسه الحمد ل أخذت الشر و راحت‪ ..‬و الوحدة‬
‫خير لصاحبها من جليس السوء‪ ..‬و اذا أفلست تجارته قال الحمد ل لعل ال قد علم‬
‫أن الغنى سوف يفسدني و أن مكاسب الدنيا ستكون خسارة علي في الخرة‪ ..‬و اذا‬
‫مات له عزيز‪ ..‬قال الحمدل‪ ..‬فال أولى بنا من أنفسنا و هو الوحيد الذي يعلم متى‬
‫تكون الزيادة في أعمارنا خيرا لنا و متى تكون شرا علينا‪ ..‬سبحانه ل يسأل عما‬
‫فعل‪.‬‬

‫و شعاره دائما‪( :‬و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو‬
‫شر لكم و ال يعلم و أنتم لتعلمون)‬

‫و هو دائما مطمئن القلب ساكن النفس يرى بنور بصيرته أن الدنيا دار امتحان و بلء‬
‫و أنها ممر ل مقر‪ ،‬و أنها ضيافة مؤقتة شرها زائل و خيرها زائل‪ ..‬و أن الصابر‬
‫فيها هو الكاسب و الشاكر هو الغالب‪.‬‬
‫ل مدخل لوسواس على قلبه و ل لهاجس على نفسه‪ ،‬لن نفسه دائما مشغولة بذكر‬
‫العظيم الرحيم الجليل و قلبه يهمس‪ :‬ال‪ ..‬ال‪ ..‬مع كل نبضة‪ ،‬فل يجد الشيطان محل‬
‫و ل موطئ قدم و ل ركنا مظلما في ذلك القلب يتسلل منه‪.‬‬
‫و هو قلب ل تحركه النوازل و ل تزلزله الزلزل لنه في مقعد الصدق الذي ل تناله‬
‫الغيار‪.‬‬
‫و كل المراض النفسية التي يتكلم عنها أطباء النفوس لها عنده أسماء أخرى‪:‬‬

‫الكبت اسمه تعفف‬


‫و الحرمان رياضة‬
‫و الحساس بالذنب تقوى‬
‫و الخوف (و هو خوف من ال وحده) عاصم من الزلل‬
‫و المعاناة طريق الحكمة‬
‫و الحزن معرفة‬
‫و الشهوات درجات سلم يصعد عليها بقمعها و يعلو عليها بكبحها الى منازل الصفاء‬
‫النفسي و القوة الروحية‬
‫و الرق‪ ..‬مدد من ال لمزيد من الذكر‪ ..‬و الليلة التي ل ينام فيها نعمة تستدعي‬
‫الشكر و ليست شكوى يبحث لها عن دواء منوم فقد صحا فيها الى الفجر و قام‬
‫للصلة‬
‫و الندم مناسبة حميدة للرجوع الى الحق و العودة الى ال‬
‫و الل م بأنواعها الجسدي منها و النفسي هي المعونة اللهية التي يستعين بها على‬
‫غواية الدنيا فيستوحش منها و يزهد فيها‬
‫و اليأس و الحقد و الحسد أمراض نفسية ل يعرفها و ل تخطر له على بال‬
‫و الغل و الثأر و النتقام مشاعر تخطاها بالعفو و الصفح و المغفرة‬
‫و هو ل يغضب ال لمظلوم و ل يعرف العنف ال كبحا لظالم‬
‫و المشاعر النفسية السائدة عنده هي المودة و الرحمة و الصبر و الشكر و الحلم و‬
‫الرأفة و الوداعة و السماحة و القبول و الرضا‬

‫تلك هي دولة المؤمن التي ل تعرف المراض النفسية و ل الطب النفسي‪..‬‬


‫و الصنام المعبودة مثل المال و الجنس و الجاه و السلطان‪ ،‬تحطمت و لم تعد قادرة‬
‫على تفتيت المشاعر و تبديد النتباه‪ ..‬فاجتمعت النفس على ذاتها و توحدت همتها‪ ،‬و‬
‫انقشع ضباب الرغبات و صفت الرؤية و هدأت الدوامة و ساد الطمئنان و أصبح‬
‫النسان أملك لنفسه و أقدر على قيادها و تحول من عبد لنفسه الى حر بفضل الشعور‬
‫بل اله ال ال‪ ..‬و بأنه ل حاكم و ل مهيمن و ل مالك للملك ال واحد‪ ،‬فتحرر من‬
‫الخوف من كل حاكم و من أي كبير بل ان الموت أصبح في نظره تحررا و انطلقا‬
‫و لقاء سعيد بالحبيب‪.‬‬

‫اختلفت النفس و أصبحت غير قابلة للمرض‪ ..‬و ارتفعت الى هذه المنزلة باليمان و‬
‫الطاعة و العبادة فأصبح اختيارها هو ما يختاره ال‪ ،‬و هواها ما يحبه ال‪ ..‬و ذابت‬
‫النانية و الشخصانية في تلك النفس فأصبحت أداة عاملة و يدا منفذة لرادة ربها‪ .‬و‬
‫هذه النفس المؤمنة ل تعرف داء الكتئاب‪ ،‬فهي على العكس نفس متفائلة تؤمن بأنه ل‬
‫وجود للكرب مادام هناك رب‪ ..‬و أن العدل في متناولنا مادام هناك عادل‪ ..‬و أن باب‬
‫الرجاء مفتوح على مصراعيه مادام المرتجى و القادر حيا ل يموت‪.‬‬

‫و النفس المؤمنة في دهشة طفولية دائمة من آيات القدرة حولها و هي في نشوة من‬
‫الجمال الذي تراه في كل شيء‪ ..‬و من ابداع البديع الذي ترى آثاره في العوالم من‬
‫المجرات الكبرى الى الذرات الصغرى‪ ..‬الى اللكترونات المتناهية في الصغر‪ ..‬و‬
‫كلما اتسعت مساحة العلم اتسع أمامها مجال الدهاش و تضاعفت النشوة‪ ..‬فهي لهذا‬
‫ل تعرف الملل و ل تعرف البلدة أو الكآبة‪.‬‬

‫و حزن هذه النفس حزن مضيء حافل بالرجاء‪ ،‬و هي في ذروة اللم و المأساة ل‬
‫تكف عن حسن الظن بال‪ ..‬و ل يفارقها شعورها بالمن لنها تشعر بأن ال معها‬
‫دائما‪ ،‬و أكثر ما يحزنها نقصها و عيبها و خطيئتها‪ ..‬ل نقص الخرين و عيوبهم‪ ..‬و‬
‫لكن نقصها ل يقعدها عن جهاد عيوبها‪ ..‬فهي في جهاد مستمر و في تسلق مستمر‬
‫لشجرة خطاياها لتخرج من مخروط الظل الى النور المنتشر أعلى الشجرة لتأخذ منه‬
‫الحياة ل من الطين الكثيف أسفل السلم‪.‬‬

‫انها في صراع وجودي و في حرب تطهير باطنية‪ ..‬و لكنه صراع هادئ واثق ل‬
‫يبدد اطمئنانها و ل يقتلع سكينتها لنها تشعر بأنها تقاتل باطلها بقوة ال و ليس بقوتها‬
‫وحدها‪ ..‬و الحساس بالمعية مع ال ل يفارقها‪ ،‬فهي في أمن دائم رغم هذا القتال‬
‫المستمر لشباح الهزيمة و لقوى العدمية بداخلها‪ ..‬فهي ليست وحدها في حربها‪.‬‬

‫ذلك هو الجهاد الكبر الذي يشغل النفس عن التفاهات و الشكايات و اللم الصغيرة‬
‫و يحفظها من النكفاء على ذاتها و الرثاء لنفسها و الحتفاء بمواهبها‪ ..‬فهي مشغولة‬
‫عن نفسها بتجاوز نفسها و تخطي نفسها و العلو على ذاتها‪ ..‬فهي في رحلة خروج‬
‫مستمرة‪ ..‬رحلة تخطي و صعود‪ ،‬و دستورها هو‪( :‬أن تقاوم أبدا ما تحب و تتحمل‬
‫دائما ما تكره)‬

‫و مشاعر هذه النفس منسابة مع الكون متآلفة مع قوانينه متوافقة مع سننه متكيفة‬
‫بسهولة مع المتغيرات حولها‪ ..‬فيها سلسة طبيعية و بساطة تلقائية‪ ..‬تلتمس الصداقة‬
‫مع كل شيء‪ ..‬و مثالها الكامل هو النبي محمد صلى ال عليه و سلم حينما كان‬
‫يحتضن جبل أحد و يقول‪ :‬هذا جبل يحبنا و نحبه‪ ..‬فالمحبة الشاملة هي أصل جميع‬
‫مشاعرها‪ ..‬انها في صلح دائم مع الطبيعة و مع القدر و مع ال‪ ..‬و الوحدة بالنسبة‬
‫لهذه النفس ليست وحشة بل أنس‪ ..‬و ليست خواء بل امتلء‪ ..‬و ليست فراغا بل‬
‫انشغال‪ ..‬و ليست صمتا‪ ..‬بل حوار داخلي و استشراف نوراني‪ ..‬و هي ليست وحدة‬
‫بل حضن آمن‪ ..‬و عذابها الوحيد هو خطيئتهاو احساسها بالبعد و النفصال عن‬
‫خالقها‪ ..‬و هو عذاب يخفف منه اليمان بأن ال عفو كريم تواب يحب عباده الوابين‬
‫المستغفرين‪ ..‬و هي أقرب ما تكون الى ربها و هي ساجدة ذائبة حبا و خشوعا‪..‬‬
‫يقول بعض الولياء الصالحين‪ :‬نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف‪،‬‬
‫و لكن أنى للملوك أن يعرفوها و هم غرقى الدنيا و سجناء ماديتها‪.‬‬

‫ان السبيل الى ميلد تلك النفس و خروجها من شرنقتها الطينية هو الدين و الطاعة و‬
‫المجاهدة و ل يوجد سبيل آخر لميلدها‪ ..‬فالعلم ل يلد ال غرورا و الفن ل يلد ال‬
‫تألها‪ ..‬و الدين وحده هو المحضن الذي تتكامل فيه النفس و تبلغ غايتها‪.‬‬
‫و بين العلماء مرضى نفوس مشغولون باختراع القنابل و الغازات السامة‪.‬‬
‫و بين الفنانين متألهون غرقى اللذائذ الحسية‬
‫و الدين وحده هو سبيل النفس الى كمالها و نجاتها و شفائها‬

‫و النفس المؤمنة نفس عاملة ناشطة في خدمة اللخرين و نجدتهم ل يقطعها تأملها‬
‫عن الشارع و السوق و زحام الرزاق‪ ..‬و العمل عندها عبادة‪ ..‬و العرق و الكدح‬
‫علج و دواء و شفاء من الترف و أمراض الكسل و التبطل‪ ..‬حياتها رحلة أشواق و‬
‫مشوار علم و رسالة خدمة‪ ..‬و العمل بابها الى الصحة النفسية‪ ..‬و منتهى أملها أن‬
‫تظل قادرة على العمل حتى النفس الخير و أن تموت و هي تغرس شجرة أو تبني‬
‫جدارا أو توقد شمعة‪ ..‬تلك النفس هي قارب نجاة‪ ،‬و هي في حفظ من أي مرض‬
‫نفسي‪ ،‬و ل حاجة بها الى طب هذه اليام‪ ،‬فحياتها في ذاتها روشتة سعادة‪..‬‬

‫النفس و الروح‬
‫في اللغة الدارجة نخلط دائما بين النفس و الروح‪ ،‬فنقول إن فلنا طلعت روحه‪ ..‬و‬
‫نقول إن فلنا روحه تشتهي كذا‪ ،‬أو أن روحه تتعذب أو أن روحه توسوس له‪ ،‬أو أن‬
‫روحه زهقت‪ ،‬أو أن روحه اطمأنت‪ ،‬أو أن روحه تاقت و اشتاقت أو ضجرت و‬
‫ملت‪ ..‬و كلها تعبيرات خاطئة‪ ،‬و كلها أحوال تخص النفس و ليس الروح‪.‬‬

‫فالتي تخرج من بدن الميت عند الحشرجة و الموت هي نفسه و ليست روحه‪.‬‬

‫يقول الملئكة في القرآن للمجرمين ساعة الموت‪:‬‬

‫(( أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون )) (‪ – 93‬النعام)‬

‫و التي تذوق الموت هي النفس و ليس الروح‪.‬‬

‫(( كل نفس ذائقة الموت )) (‪ – 185‬آل عمران)‬

‫و النفس تذوق الموت و لكن ل تموت‪ ..‬فتذوقها الموت هو رحلة خروجها من البدن‪،‬‬
‫و النفس موجودة قبل الميلد‪ ،‬و هي موجودة بطول الحياة‪ ،‬و هي باقية بعد الموت‪ ،‬و‬
‫عن وجود النفس قبل ميلد أصحابها يقول ال‪ :‬إنه أخذ الذرية من ظهور الباء قبل‬
‫أن تولد و أشهدها على ربوبيته حتى ل يتعلل أحد بأنه كفر لنه وجد أباه على الكفر‪.‬‬

‫(( و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم و أشهدهم على أنفسهم ألست‬
‫بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين‪ ،‬أو تقولوا إنما‬
‫أشرك آباؤنا من قبل و كنا ذريةً من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون‪ ،‬و كذلك نفصل‬
‫اليات و لعلهم يرجعون )) (‪ – 174 ،173 ،172‬العراف)‬
‫فذلك مشهد أحضرت فيه النفس قبل أن تلبس أجسادها بالميلد‪ ،‬و ليس لحد عذر‬
‫بأن يكفر بعلة كفر أبيه‪ ،‬فقد كان لكل نفس مشهد مستقل طالعت فيه الربوبية‪ ..‬و بهذا‬
‫استقرت حقيقة الربوبية فطرتنا جميعا‪.‬‬

‫ثم إن الروح ل توسوس‪ ،‬و ل تشتهي و ل تهوى و ل تضجر و ل تمل و ل تتعذب‪،‬‬


‫و ل تعاني هبوطا و ل انتكاسا‪ .‬إنما تلك كلها من أحوال النفس و ليس الروح‪.‬‬

‫يقول القرآن‪:‬‬

‫(( فطوعت له نفسه قتل أخيه)) (‪ – 30‬المائدة)‬

‫(( و لقد خلقنا النسان و نعلم ما توسوس به نفسه)) (‪ – 16‬ق)‬

‫(( و نفس و ما سواها‪ ،‬فألهمها فجورها و تقواها)) (‪ – 8 ،7‬الشمس)‬

‫(( بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل)) (‪ – 18‬يوسف)‬

‫(( و ضاقت عليهم أنفسهم و ظنوا أل ملجأ من ال إل إليه)) (‪ – 118‬التوبة)‬

‫(( إنما يريد ال ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق أنفسهم)) (‪ – 55‬التوبة)‬

‫(( و من يرغب عن ملة إبراهيم إل من سفه نفسه)) (‪ – 130‬البقرة)‬

‫(( و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (‪ – 9‬الحشر)‬

‫(( و أحضرت النفس الشح) (‪ – 128‬النساء)‬

‫(( و ما أبرئ نفسي إن النفس لمارة بالسوء)) (‪ – 53‬يوسف)‬


‫فالنفس هي المتهمة في القرآن بالشح و الوسواس و الفجور و الطبيعة المارة‪ ،‬و‬
‫للنفس في القرآن ترق و عروج‪ ،‬فهي يمكن أن تتزكى و تتطهر‪ ،‬فتوصف بأنها لوامة‬
‫و ملهمة و مطمئنة و راضية و مرضية‪.‬‬

‫(( يأيتها النفس المطمئنة‪ ،‬ارجعي إلى ربك راضية مرضية‪ ،‬فادخلي في عبادي‪ ،‬و‬
‫ادخلي جنتي)) (‪ 30 – 27‬الفجر)‬

‫أما الروح في القرآن فتذكر دائما بدرجة عالية من التقديس و التنزيه و التشريف‪ ،‬و‬
‫ل يذكر لها أحوال من عذاب أو هوى أو شهوة أو شوق أو تطهر أو تدنس أو رفعة‬
‫أو هبوط أو ضجر أو ملل‪ ،‬و ل يذكر أنها تخرج من الجسد أو أنها تذوق الموت‪ ..‬و‬
‫ل تنسب إلى النسان و إنما تأتي دائما منسوبة إلى ال‪.‬‬

‫يقول ال عن مريم‪:‬‬

‫(( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا)) (‪ – 17‬مريم)‬

‫و يقول عن آدم‪:‬‬

‫(( فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (‪ – 29‬الحجر)‬

‫يقول (( روحي )) و ل يقول روح آدم‪.‬‬

‫فينسب ربنا الروح لنفسه دائما‪.‬‬

‫(( و أيدهم بروح منه)) أي من ال (‪ – 22‬المجادلة)‬


‫و يقول عن القرآن و نزوله على النبي عليه الصلة و السلم‪:‬‬

‫(( و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا)) (‪ – 52‬الشورى)‬

‫و يقصد بالروح هنا الكلم اللهي القرآني‪.‬‬

‫(( يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلق)) (‪ - 15‬غافر)‬

‫(( ينزل الملئكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده)) (‪ – 2‬النحل)‬

‫و الروح هنا هي الكلمة اللهية و المر اللهي‪.‬‬

‫و الروح دائما تنسب إلى ال‪ ،‬و هي دائما في حركة من ال و إلى ال و ل تجري‬
‫عليها الحوال النسانية و ل الصفات البشرية‪ ..‬و ل يمكن أن تكون محل لشهوة أو‬
‫هوى أو شوق أو عذاب‪.‬‬

‫و لهذا توصف الروح بأوصاف عالية‪.‬‬

‫فيقول القرآن عن جبريل‪ :‬إنه روح القدس‪ ..‬و الروح المين‪.‬‬

‫و يقول عن عيسى إنه (( رسول ال و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه)) أي روح‬
‫من ال (‪ – 171‬النساء)‬

‫أما النفس فهي دائما تنسب إلى صاحبها‪.‬‬

‫(( و ما أصابك من سيئة فمن نفسك)) (‪ – 79‬النساء)‬

‫(( و من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه)) (‪ – 15‬السراء)‬


‫(( و ضاقت عليهم أنفسهم)) (‪ – 118‬التوبة)‬

‫(( و ما أبرئ نفسي)) (‪ – 54‬يوسف)‬

‫(( و كذلك سولت لي نفسي)) (‪ – 96‬طه)‬

‫(( و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)) (‪ – 9‬الحشر)‬

‫(( و من يرغب عن ملة إبراهيم إل من سفه نفسه)) ‪ – 130‬البقرة)‬

‫و حينما تنسب النفس إلى ال فتلك هي الذات اللهية‪.‬‬

‫(( و يحذركم ال نفسه)) (‪ – 28‬آل عمران)‬

‫ذلك هو ال ليس كمثله شيئ و هو مما ل يستطيع النسان أن يتخيل له شبيها و ل‬


‫يصح أن نقيس النفس اللهية على نفوسنا‪..‬‬

‫فالنفس اللهية هي غيب الغيب‪.‬‬

‫يقول عيسى لربه يوم القيامة‪:‬‬

‫(( تعلم ما في نفسي و ل أعلم ما في نفسك)) (‪ – 116‬المائدة)‬

‫فالنفس اللهية ل تتشابه مع النفس النسانية إل في اللفظ و لكنها شيء آخر البتة‪..‬‬

‫(( ليس كمثله شيء)) (‪ – 11‬الشورى)‬


‫(( لم يكن له كفوا أحد)) (‪ – 4‬الخلص)‬

‫و السؤال إذن‪:‬‬

‫ما نصيب كل منا من الروح؟‬

‫و ماذا نعني حينما نقول إن لنا روحا و جسدا؟‬

‫ثم ما علقة نفس كل منا بروحه و جسده؟‬

‫أما نصيبنا من الروح فهو النفخة التي ذكرها القرآن في قصة خلق آدم‪.‬‬

‫(( إني خالق بشرا من طين‪ ،‬فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين)) (‬
‫‪ – 72 ،71‬ص)‬

‫و ما حدث من أمر التسوية و التصوير و النفخ في صورة آدم يعود فيتكرر في داخل‬
‫الرحم في الحياة الجنينية لكل منا‪ ..‬فيكون لكل منا تسوية و تصوير‪ ،‬ثم نفخة ربانية‬
‫حتى تتهيأ النسجة و يستعد المحل لتلقي هذه النفخة‪ ،‬و ذلك يكون في الشهر الثالث‬
‫من الحياة الجنينية‪ ،‬و ينتقل الخلق بهذه النفخة من حال إلى حال‪..‬‬

‫يقول ربنا عن هذه المراحل‪:‬‬

‫(( ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام‬
‫لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين)) (‪ – 14‬المؤمنون)‬
‫فيقول عند النفخة‪(( :‬ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين))‪ ..‬إشارة إلى نقلة‬
‫هائلة نقل بها المضغة المكسوة بالعظام إلى مستوى ل يبلغه و ل يقدر عليه إل أحسن‬
‫الخالقين‪ ..‬و ذلك بالنفخة الربانية‪.‬‬

‫و يتكلم عن هذا النفخ في الجنين بعد تسويته في آية أخرى عن نسل آدم‪.‬‬

‫(( ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين‪ ،‬ثم سواه و نفخ فيه من روحه و جعل لكم‬
‫السمع و البصار و الفئدة)) (‪ – 9 ،8‬السجدة)‬

‫و نفهم من هذا أن السمع و البصر و الفؤاد هي من ثمار هذه النفخة الروحية‪ ..‬و إنه‬
‫بهذه المواهب ينقل النسان من نشأة إلى نشأة و من مستوى إلى مستوى‪ ،‬و هذا هو‬
‫معنى‪(( ..‬ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك ال أحسن الخالقين))‪.‬‬

‫إن نصيبنا من هذه الروح إذن هو نصيبنا من هذه النفخة‪ ..‬و كل منا يأخذ من هذه‬
‫النفخة على قدر استعداده‪.‬‬

‫و بفضل هذه النفخة يصبح للواحد منا خيال و ضمير و قيم و عالم من المثل‪ ..‬و‬
‫الجسد و الروح فينا أشبه بأرض الواقع و سماء المثال‪.‬‬

‫و علقة نفس كل منا بروحه و جسده هي أشبه بعلقة ذرة الحديد بالمجال‬
‫المغناطيسي ذي القطبين‪.‬‬

‫و الذي يحدث للنفس دائما هو حالة استقطاب‪ ،‬إما انجذاب و هبوط إلى الجسد‪ ،‬إلى‬
‫حمأة الواقع و طين الغرائز و الشهوات‪ ،‬و هذا هو ما يحدث للنفس الجسدانية‬
‫الحيوانية حينما تشاكل الطين و تجانس التراب في كثافتها‪ ،‬و إما انجذاب و صعود‬
‫إلى الروح‪ ،‬إلى سماوات المثال و القيم و الخلق الربانية‪ ،‬و هو ما يحدث للنفس‬
‫حينما تشاكل الروح و تجانسها في لطفها و شفافيتها‪ ..‬و النفس طوال الحياة في حركة‬
‫و تذبذب و استقطاب بين القطب الروحي و بين القطب الجسدي‪ ..‬مرة تطغى عليها‬
‫ناريتها و طينتها‪ ،‬و مرة تغلبها شفافيتها و طهارنها‪.‬‬

‫و الجسد و الروح هما مجال المتحان و البتلء‪ ،‬فتبتلى النفس و تمتحن بهاتين‬
‫القوتين الجاذبتين إلى أسفل و إلى أعلى لتخرج سرها‪ ،‬و تفصح عن حقيقتها و رتبتها‬
‫و ليظهر خيرها و شرها‪.‬‬

‫و من هنا نفهم أن حقيقة النسان هي((نفسه))‪ ،‬و الذي يولد و يبعث و يحاسب هو‬
‫نفسه‪ ،‬و الذي يمتحن و يبتلى هو نفسه‪ ،‬و ما يجري عليه من الحوال و الحزان و‬
‫الشواق هي نفسه‪ ..‬أما جسده و روحه فهما مجرد مجال تماما مثل الرض و‬
‫السماوات في كونهما مجال حركة بالنسبة للنسان لظهار مواهبه و ملكاته‪ ..‬فكما‬
‫أعطى ال لهذه النفس عضلت (جسدا) كذلك أعطاها روحا لتحيا‪ ،‬و تعمل و تكشف‬
‫عن سرها و مكنونها و تباشر خيرها و شرها‪.‬‬

‫و بهذا المعنى تكون كلمة ((تحضير الرواح)) كلمة خاطئة‪ ،‬فالرواح ل تستحضر‪،‬‬
‫و ل يمكن لي روح أن تستحضر‪ ،‬لن الروح نور منسوب إلى ال وحده‪ ،‬و هو ينفخ‬
‫فينا هذا النور لنستنير به‪ ..‬و هذا النور من ال و إلى ال يعود و ل يمكن حشره أو‬
‫استحضاره‪ ..‬أما ما يحشر و يستحضر فهي النفس و ليس الرواح‪ ..‬هذا إذا صح أن‬
‫هؤلء الناس يستحضرون أنفسا في جلساتهم‪ ..‬و أغلب الظن أن ما يحضر يكون من‬
‫الجن المصاحب لهذه النفس في حياتها (القرناء)‪ ،‬و كل منا له في حياته قرين من‬
‫الجن يصاحبه‪ ،‬و هو بحكم هذه الصحبة الطويلة يعرف أسراره و يستطيع أن يقلد‬
‫صوته و إمضاءه‪ ،‬و هذا الجن هو الذي يلبس الوسيط في غرفة التحضير المظلمة‪،‬‬
‫و يدهش الموجودين بما يحسبونه خوارق‪.‬‬
‫أما الرواح فل يمكن استحضارها‪.‬‬

‫أما النفس فل يحشرها و ل يحضرها إل ربها‪.‬‬

‫و النفس ل يمكن أن تتحول إلى روح‪ ،‬و إنما هي في أحسن أحوالها ترتقي حتى‬
‫تشاكل الروح و تجانسها بقدر ما تتخلق بالخلق الربانية‪ ،‬و بقدر ما تقترب من‬
‫المثال النوراني (الروح التي نفخها ال في النسان)‪.‬‬

‫كذلك يمكن لهذه النفس أن تتدنى و تهبط حتى تشاكل الشياطين‪ ،‬و تجانس إبليس في‬
‫ناريته‪.‬‬

‫و النفس التي تتطهر و تتزكى حتى تشاكل و تجانس الروح في لطفها هي التي يقربها‬
‫ال من عرشه يوم القيامة‪ ،‬و هي التي يقول عنها إنها ستكون (( في مقعد صدق عند‬
‫مليك مقتدر)) (‪ – 55‬القمر)‬

‫‪ ..‬لنها بهذا التطهر و الترقي تصبح نفسا ربانية مكانها إلى جوار ال‪.‬‬

‫أما النفوس المظلمة التي تهبط بفجورها و غلظتها إلى الدرك الشيطاني فهم الذين‬
‫يقول عنهم ربهم يوم القيامة‪:‬‬

‫(( إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)) (‪ – 15‬المطففين)‬

‫و هؤلء سيكون مكانهم مع النفوس النارية السفلية في قاع الظلمة و الجحيم‪ .‬أما‬
‫الروح فل مكان لها في جنة أو جحيم‪ ،‬و إنما هي نور من نور ال تنسب إليه‪ ،‬و هي‬
‫منه و ليجري عليها ابتلء و ل محاسبة و ل معاقبة و ل مكافأة‪ ..‬و إنما هي المثل‬
‫العلى في الية‪:‬‬
‫(( و له المثل العلى و هو العزيز الحكيم)) (‪ – 60‬النحل)‬

‫(( و له المثل العلى في السماوات و الرض و هو العزيز الحكيم)) (‪ – 27‬الروم)‬

‫و ذلك عالم المثال النوراني الذي يستمد قدسيته و نورانيته من كونه من ال و من أمر‬
‫ال‪.‬‬

‫(( و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إل قليل)) (‪85‬‬
‫– السراء)‬

You might also like