Professional Documents
Culture Documents
كارل ماركس والصحافة
كارل ماركس والصحافة
كارل ماركس والصحافة
تقديم
رغم تعدد الدراسات والقراءات ،يوجد وجه آخر لكارل ماركس مازال غ ير مع روف بالكام ل يتمث ل في األنش طة
الصحفية التي لم يتوقف عن ممارستها طيلة أغلب فترات حياته الفكرية والسياسية رغم قصرها أي ما يس اوي 25
سنة من جملة 65سنة عاش أغلب فتراتها بين المالحقات والنفي .وهو ما يطرح إشكالية العالقة م ا بين ممارس اته
الصحفية وبين أهم مكونات المتن النظري التي توصل إلى تش ييده س واء في مس توى أهم المف اهيم ال تي نحته ا من
داخ ل الظرفي ات التاريخي ة واالجتماعي ة لعص ره الموس وم بتح والت مجتمعي ة عميق ة ،أو في مس توى تحليالت ه
لمختلف بنيات "التشكيلة االجتماعية" الرأسمالية الصاعدة بخصائصها الوظيفية وتناقضاتها الهيكلية .أم ا الفرض ية
التي يمكن االنطالق منها لتناول هذه اإلشكالية فتحيل على أن المقاالت الص حفية لك ارل م اركس ق د مثلت أش كاال
مبكرة من االستقصاء السوسيولوجي ،ومقدمات إجرائية كانت ض رورية ومج ال اختب ار لتش ييد نموذج ه التحليلي
لمجريات التحولات المجتمعية ولآليات اشتغالها.
فرغم ما تميزت به تجربته الصحفية من ثراء وعمق بما كانت ق د أم دت ب ه أعمال ه الالحق ة من معطي ات ميداني ة
ومنهجية ،إال أن محدودية االهتمام بها يعود في رأينا إلى عدة عوامل يمكن إجمالها في صنفين اثنين:
ـ تعدد األعمال النظرية المنشورة في مؤلفاته الكالسيكية المعروفة بتنوعها بين الفلسفة واالقتصاد واالجتماع ،الذي
غطى على األعمال الصحفية واألنشطة السياسية ،1مقابل تشتت مقاالته الصحفية التي لم ُتجّم ع إلى حّد الي وم وهي
تفوق 1500مقال حسب بعض التقديرات األولية ،رغم تطوير العديد منها إلى نصوص نشرها الحقا لتمثل أعماال
مركزية بين مؤلفات ماركس.
ـ تحّو ل الماركسية إلى إيديولوجيا تبريرية بداية مع النظام البلش في-الس وفياتي ثم في أوروب ا الش رقية وعدي د دول
العالم الثالث حيث ُاس تخدمت لت برير مظ اهر التس لط السياس ي واالس تبداد الفك ري وأداة لالعت داء على الحري ات
العامة والفردية خاصة على حرية الصحافة واإلعالم ،وهي نفس االنتهاكات ال تي ك ان م اركس نفس ه ق د قاومه ا،
مقارنة بالممارسات المناقضة والجرائم التي ظلت والزالت تمارس باسمه وُتبرر باسم النظرية التي شيدها.2
إن تفحص أهم أعمال ماركس الصحفية يؤكد أن إهمالها س وف يظ ل عائق ا أم ام فهم التط ور الحاص ل في مجم ل
أفكاره انطالقا من دور المالحظات والمشاهدات الميدانية ال تي وفرته ا الممارس ة الص حفية في نحت أهم مفاهيم ه
1
Van thao Trinth, Marx, Engels et le journalisme révolutionnaire: Analyse de la conjoncture politique dans la Nouvelle
Gazette Rhénane, Editions Antropos, Paris, 1980.
2
Guichard Benjamin, « Les usages révolutionnaires de la liberté de la presse : Condamnations et justifications de la
censure dans la Russie de 1917 », Siècles [En ligne], 27 | 2008, mis en ligne le 31 mai 2013, (Consulté le 02 février
2019), URL : http://journals.openedition.org/siecles/828
1
النقدية وفي بناء أغلب نظرياته بل وفي مساهمته الضمنية في تأسيس السوسيولوجيا الحديثة موضوعا ومنهجا .كما
يمكن لدراسة أعماله الصحفية أن تكشف عن معالم نظرية اتصالية ماركسية مخالفة لتلك التي تم التعود على تلقيه ا
والتعاطي معها استنادا لماركسية كالسيكية رسمية على حساب الرجوع لنصوص م اركس ال تي تن اولت الص حافة
في بنيتها المهنية ووظائفها المجتمعية وعوائقها االقتصادية والسياسية.
ما هي المراحل التي مّر بها ماركس في مزاولته لمهنة الصحافة؟ وما هي أنواع الصحافة التي مارسها ونّظ ر له ا
من خالل مفهومه لحرية الصحافة وتصوره للوظائف الفكرية والمدنية والسياسية للصحافة؟ وكي ف س اهم بنش اطه
الصحفي في استقصاء األحداث والظواهر وتعميم استنتاجاته السوس يولوجية؟ ه ل ك انت كتابات ه الص حفية مج رد
صدى لكتاباته النظرية؟ أم على العكس كانت عديد االس تنتاجات النظري ة ال تي توّص ل إليه ا في مؤلفات ه النظري ة
كثيرا ما تستند إلى ما كان يتحقق من إجرائيته ميدانيا بواسطة متابعاته وتحقيقاته الصحفية؟
ـ المسار الصحفي لكارل ماركس
لم يكن ماركس الوحيد من بين السوسيولوجيين الذين نحوا هذا المنحى في االشتغال بالصحافة ،فإلى جانب أوقس ت
كونت ( )A. Comteوألكسيس دو توكفيل )A. De Tocqueville( 3وماكس فيبر ( )M. Weberمن الجيل األول
للرواد المؤسسين ،نجد أيضا الكثير من الجيل الثاني أمثال روبار عزرا بارك ( )R. Ezra Parkوريمون آرون(
)R. Aronوروبار إسكاربي( )R. Escarpitوبيار نافيل ( )P. Navilleوجونديفي نيو () J. Duvignaud
وغيرهم الذين مارس وا الكتاب ة الص حفية ب التوازي م ع أعم الهم السوس يولوجية .لكن تجرب ة م اركس الص حفية
تميزت بأن مّثلت له مجاال ميدانيا لالستقصاء وإدماج الميكرو -تحليل ضمن الم اكرو -تحلي ل خاص ة في مس توى
العم ل على التقاطع بين تفسير الوقائع اليومية بظواهرها المستجدة في اتجاه نمذجتها النظرية من ناحي ة وبين
.وه و م ا س اعده على أج رأة مافترضه من مجهود معرفي يراه ض روريا لك ل حرك ة تغييري ة
تغييرها حسب ي
مفهوم البراكسيس و"نقل موضوع هذا المفهوم من الكائن اإلنساني المطلق إلى الكائن التاريخي المتش ّك ل داخ ل النش اط
أو اعتباطا ألنها مثلت وسيطا .4
المغترب]" كما لم يكن التقاؤه بالصحافة المكتوبة صدفة االجتماعي الحقيقي[غير
عموميا وجدت فيه أجيال القرن من المثقفين والكتاب والسياسيين وسيلة لنش ر األفك ار ونقاش ها ض من س ياق ع ام من
التحوالت المجتمعية الكبرى ارتبطت بتداعيات الثورات الص ناعية والسياس ية وآثاره ا في االنتق ال الص عب من النظ ام
القديم إلى نظام جديد لمجتمع رأسمالي قّيد التهيكل كانت مساراته السياسية متخلفة عن بقي ة المس ارات االجتماعي ة
االقتصادية في مستوى الصراع بين القوى الصاعدة بمصالحها المتضاربة وتمثالتها المتقابلة .أما السياق الخاص
اللتحاق ماركس بالفضاء العمومي الذي بدأ بال تشكل حول الصحافة المكتوبة ،فقد ارتب ط بنفس الجي ل ال ذي انتمى
3
Benoît Jean-Louis, Tocqueville et la presse: Presse, opinion publique et démocratie, 2009, http://bibliotheque.uqac.ca/
(Consulté le 21/12/2018).
4
Sanchez-Vasquez Adolfo, "La philosophie de la praxis comme nouvelle pratique de la philosophie", in L'Homme et la
société, Traduction K. Nair, n°43-44, 1977, pp141-149.
2
إلي ه م اركس من االنتيليجنس يا الطالئعي ة التواق ة إلى إح داث ب دائل مجتمعي ة لحال ة ال تردي السياس ي واألزم ات
االجتماعية طيلة القرن التاس ع عش ر بأحداث ه الك برى والمفص لية في الت اريخ السياس ي األوروبي الح ديث .فك ان
انتشار النوادي الثقافية والحلقات الفكرية-السياسية والصحف والدوريات المختصة وغير المختصة ،يعبر عن حالة
من الغليان المجتمعي في أغلب مجتمعات أوروبا الغربية وخاص ة في المجتم ع األلم اني أين ك انت حرك ة اليس ار
الهيغلي تستقطب شباب المثقفين وتمثل نواته األكثر ديناميكية بعناصرها الطموح ة ال تي اش تغل أغلبه ا بالص حافة
المكتوبة إما احتراف ا أو بش كل عرض ي طلب ا للتغي ير إذ مّث ل م اركس أح د رموزه ا .5وح تى ل و ك ان ق د اش تغل
بالتدريس الجامعي بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الفلسفة ،فإن عديد المؤشرات تفيد بأنه ك ان س وف
يلتحق بالصحافة إن آجال أو عاجال نظرا لتقاطع شغفه المبكر بنمط الكتابة السجالية السائدة في عصره م ع
استقصاءاته الميدانية المبكرة وتحليالته النقدية الموجهة ،ال لالكتفاء بفهم واقع المجتمع الرأسمالي في مس توى
عالقاته االجتماعية والسياسية بل إلح داث التغي ير انطالق ا من طبيع ة تناقض اته الموض وعية الخارج ة عن اإلرادة
المباشرة لألفراد.
ومن خالل تفحص المسار المهني الطويل لماركس في مزاولة الصحافة المكتوبة ،يمكن للتحقيب الزم ني أن ي وّفر
عناصر المقارنة واالستنتاج لتطور عالقته بالصحافة من حيث تصوره لهذا الوس يط العم ومي المس تجد من ذ بداي ة
القرن التاسع عشر ومن حيث وظائفها في تشكيل فكره السياسي وفي أجرأة مفاهيمه النظرية وإثرائها:
Iـ المرحلة األولى ( :)1848-1842حرية الصحافة والوظائف النقدية.
أو "اللحظة العقالنية-اللبرالية")Moment rationaliste-libéral( 6
انطلقت هذه المرحلة سنة 1842حين بدأ مراسال لصحيفة جديدة "الصحيفة الرينانية" ( )Gazette Rhénaneفي
منطق ة ريناني ا األلماني ة ،ك انت معارض ة للكنيس ة الكاثوليكي ة ذات النف وذ الكب ير في ألماني ا البروس ية ومنافس ة
"للصحيفة الكولونية" ( de Cologne (Gazetteالمحافظ ة والمقرب ة من نفس الكنيس ة ،وذل ك بع د أن ص رف
النظر عن التدريس الجامعي نتيجة تضييقات الدولة البروسية تجاه المثقفين اليساريين .7نشر ماركس أول مق ال ل ه
ضد الرقابة على المنشورات يوم 5م اي 1842بعم ر لم يتج اوز 24س نة ،وب دأ مس اره الص حفي بمجموع ة من
المقاالت الجاهزة حول الرقابة كان يعتزم نشرها في مجلة أخرى .8سرعان ما اتخ ذت "الص حيفة الريناني ة" خط ا
تحريريا أكثر استقاللية وراديكالية مع وجود مجموعة من الهيقليين اليساريين أمثال برونو ب اور (. )B. Bauer
وم ويز ه اّس ( )M. Hessوغ يرهم ،فوج دت مقاالت ه استحس انا ومقبولي ة من ذ البداي ة نتيج ة أس لوبه الس جالي
والحجاجي وكفاءته اللغوية وسعة اطالعه المعرفي .سمح له هذا النمط من الكتابة بدفع تحليالته السياسية والنظرية
5
Rühle Otto, Karl Marx: Vie et œuvre, (1978),Traduit de l’allemand par Alexandre Vialatte, Entremonde, Paris, 2011,
p49.
6
Althusser Louis, Pour Marx, (1965), Editions La Découverte, Paris, 1996, p27.
7كان للتضييق على الحريات األكاديمية وأساليب الطرد من الجمعة التي تعرض له ا عدي د المفك رين والمثقفين أمث ال لودفي غ فيورب اخ ( Ludwig Andreas
) Feuerbachوبرونو باور ( ،) Bruno Bauerأن أحبط ماركس ودفعه للعدول عن إمكانية التدريس الجامعي.
8تسّم ى "طرفة" (( Anecdoteيديرها أحد أصدقائه من الشباب الهيقلي أرنولد روج (.)Arnold Ruge
3
إلى المدى النقدي الذي وّفر له تجذير تصوراته األولية للمسألة الديمقراطية-الحقوقية ولمكانة حري ة الص حافة على
خريطة الحريات العامة والفردية ولحساسيته لقض ايا الفق ر واالس تغالل مقاب ل م ا ك ان يالحظ ه من إث راء ف احش
للعناصر األرستقراطية والبورجوازية المستفيدة من تحالفه ا م ع الجه از الب يروقراطي المحاف ظ للدول ة البروس ية
ولمختلف أجهزتها التشريعية والقضائية والتنفيذية.
1ـ من حرية الصحافة إلى سوسيولوجيا الصحافة
تعلق الموضوع األول بحرية الصحافة من خالل سلسلة من 6مقاالت نقدي ة متتالي ة وغ ير ممض اة ،موجه ة ض د
سلطة الرقاب ة وخطب اء البرلم ان المحّلي وأم راء األرس تقراطية البروس ية في التض ييق على حري ة التعب ير ونق د
السياس ات العام ة ،داف ع من خالله ا ك ارل م اركس عن الط ابع التح رري للص حافة مؤسس ا ب ذلك لتص ورها
ال ديمقراطي ،اس تند في ه إلى تأص يل حق وقي سياس ي لمب دأ الحري ة ال تي ال يمكن فص لها عن الوج ود اإلنس اني:
"فاإلنسان إما كائن الحرية أو فاقد إلنسانيته" 9.كما أكد على أن الصحافة هي مؤسسة ديمقراطية تتكفل بنشر األفكار
المتعددة التي يحتاجها األفراد لبن اء تص وراتهم وم واقفهم دون قي ود أو ح دود ،معت برا أن حري ة الص حافة من
الحريات األساسية ألنها تختزل عديد الحريات األخرى المرتبطة بطبيعة الش رط اإلنس اني الت ّواق إلى التح رر مث ل
حريات التفكير والتعبير والنشر مدافعا عن الحق العمومي في معرف ة ك ل اآلراء المعروض ة للت داول .فكلم ا تم
رفض أح د أش كال الحري ة تص بح ه ذه األخ يرة مه ددة في وجوده ا بم ا س ماه "ش به وج ود ،وكلم ا نش طت
الممارس ات المنافي ة للحري ة فهي تتح ّول ت در يجيا إلى قاع دة في حين تتح ول الحري ة إلى اس تثناء الص دفة
10
والتعّسف".
كانت أغلب األفكار التي عبر عنها في مقاالته األولى ،تنطلق من أن الصحافة "مؤسسة ديمقراطية" تتجاوز الصفة
الشكلية لبقية الحريات البورجوازية األخرى تبعا لوظائفها التحررية ،ال يمكن التضحية باس تقالليتها وحريته ا كم ا
يتبين ذلك سواء من خالل المحاور أو من خالل الحجج والبراهين التي تناولها في بداية نشاطه الص حفي .فق د ق دم
م اركس تحليال مي دانيا لعالق ة الهيمن ة ال تي تمارس ها الس لطة السياس ية األلماني ة بمختل ف مؤسس اتها التنفيذي ة
والتشريعية والقض ائية على الص حافة إلى ج انب الض غط التج اري المس لط عليه ا من قب ل الم الكين والمس اهمين
والناشرين في انتداب الصحفيين ورسم االتجاهات التحريرية مما يعطي لجهاز الرقابة سلطة ال يقّد ر خطورته ا في
تهديد المهنة في بنيتها التنظيمية ووظائفها االجتماعية والسياسية.
لذلك كان البحث عن الحرية مقترنا عنده بإشاعة الحقيقة في تصوره للعمل الصحفي كم ا في ممارس ته المهني ة في
مقاومة التالعب الرسمي ب القيمتين والتض حية بهم ا مع ا على حس اب تط ور المجتم ع واس تنتج في بعض مقاالت ه
األولى أن الص حافة األلماني ة ظلت غ ير فّعال ة ،تخش ى من س لطة الرقاب ة أك ثر من رأي الق راء ،مه ددة بالفص ل
9
Hardt Hanno, "Communication is freedom: Karl Marx on press freedom and censorship", in the public, Vol.7 (2000), 4,
pp85-100, p87.
10المرجع السابق ،ص .89
4
واإليقاف مقارنة بالصحافة األوروبية التي كان يتابعها خاصة في فرنسا وبلجيكا وأنقلترا والواليات المتحدة .وكتب
في إحدى مقاالته منتق دا واق ع الص حافة في ألماني ا أن "أك ثر المظ الم يمكن أن تحص ل أمامه ا أو ض دها دون أن
تح رك س اكنا ،وأك بر الفض ائح وأض خم التس ريبات يمكن أن ُتع رف عن طري ق الص دفة لكن أب دا عن طري ق
الصحف" ،11ال فق ط بس بب الهيمن ة الرقابي ة والتس لط السياس ي للدول ة البروس ية ولكن أيض ا بس بب قب ول بعض
الصحفيين باالشتغال ضمن هذه الشروط وتطوع البعض اآلخر لل دفاع عن مص الح غ ير مص الحهم وعن مواق ف
غير مواقفهم.
لقد وفرت هذه المقاالت لماركس الشاب مجاال ميدانيا مباشرا قاده إلى بداية تحسس العناصر النقدية لم ا س ماه فيم ا
بعد "المثالية الهيغلية" المنقطعة بتص وراتها ومفاهيمه ا عن الوق ائع االجتماعي ة المش اهدة ،حين اعت بر في إح دى
مقاالته خالل هذه المرحلة األولى أن فكرة الحرية مثل غيرها من األفكار العديدة المتداولة داخل الحلقات الفكري ة،
بقيت في عصره "مقولة عاطفية منحصرة في خيال أغلب األلمان من المثقفين والمفكرين الذين يقدسون األفكار في
ذاتها إلى درجة تجعلهم ال يهتمون بتحقيقها إال نادرا ،مثلما تلقاه فكرة الحرية" 12.كما خلص في آخر ه ذه المق االت
إلى بعض االستنتاجات السوسيولوجية لواقع الصحافة األلمانية معتبرا أن تحرير الصحافة يفترض تحرير فاعليه ا
المهنيين من االغتراب الذي يشكوا منه بقية العمال المش تغلين ب الفكر والس اعد حين ينفص لون عن منتج اتهم ال تي
تتحول إلى بضاعة وخدمات "خالية من اإلحساس بالمتعة عند منتجيها غير المقتنعين بم ا يكتب وه خوف ا أو تزلف ا".
غير أن "تحرير األيدي واألرجل ال يكون ذا معنى إّال إذا كان مصاحبا بتحرير ال رؤوس" 13في جم ع مبّك ر ل دى
ماركس بين مختلف شرائح الطبقة العمالي ة ب الفكر والس اعد يكش ف عن بعض مع الم رؤيت ه المس تقبلية لتش كل
الوعي الطبقي ،وهو ما قاده إلى استنتاج المطالب ة بتحري ر الص حافة والص حفيين من س لطة الم الكين والناش رين
والمساهمين في المؤسسات الص حفية ال تي أص بحت من الص ناعات المربح ة في عص ر التص نيع الش امل حيث ع ايش
ماركس بدايات تعميمه على المجال الصحفي واشتغاله وفق قواعد ربحية مضرة بقطاع الص حافة من خالل تحكم
ه ؤالء الم الكين في انت داب من يرض ون عن ه من المح ررين وفي رس م الخط وط التحريري ة لمؤسس ات الص حافة
المكتوبة .لذلك انتقد الصحافة التجارية وق دم تص ورا ب ديال لص حافة ش عبية يمتلكه ا المح ررون بم ا يكفي
للدخل الحياتي األدنى لضمان جودة التحرير دون أهداف ربحيفتكة،ون ب ذلك "ق ادرة على تحوي ل الص راع الم ادي
[بجميع أطرافه] إلى صراع فكري ينير العق ول ويح رر األف راد من أغاللهم ال تي ق د ال يرونه ا إال في م رآة
الصحافة" ،14وه و م ا يف ترض منطقي ا اعتراف ه بالتعددي ة الص حفية لجمي ع الطبق ات واالتجاه ات ش رط خ وض
16
Hardt Hanno, "Communication is freedom: Karl Marx on press freedom and censorship", Op. Cit. p89.
17
Kouvélakis Stathis,"Marx 1842-1844 : De l’espace public à la démocratie révolutionnaire", Op. Cit.
18
Hardt Hanno, "Communication is freedom: Karl Marx on press freedom and censorship", Op. Cit. p90.
7
جرأة وتمسكا بحرية التعبير إلى الهجرة مثلما حصل مع ماركس نفس ه وم ع أغلب المفك رين المتن ورين من جيل ه.
كما انصب نقده للرقابة على تقويضها لعقالنية السلطة السياسية ولتطوير ال روح العمومي ة ألنه ا ال تحق ق أه دافها
بالتشدد مع المنشورات والصحف" :تصّم آذان الحكومة فال تس مع غ ير ص وتها متوهم ة أنه ا تنص ت إلى ص وت
الشعب [ ]...وتؤدي إلى نتائج عكسية لما تتوهمه الحكومة" ،ثم تجعل المواطنين مجبرين على اعتب ار المنش ورات
غير الخاضعة للرقابة ،هي خارجة عن القانون وعلى أن الحرية ال تتحقق إال ضد القانون.
فلئن كان نقد ماركس للصحافة السائدة في عص ره ق د ارتب ط بطبيع ة اش تغال النظ ام الرأس مالي س واء من حيث
قوانين الربح الموجهة الشتغال المؤسسات الصحفية أو من حيث الرقابة المفروضة على المنش ورات أو ك ذلك من
حيث القواعد االستعمالية للصحافة بوظائفها التبريرية ،فإن التجربة البلشفية كانت قد عاملت الصحافة والص حفيين
حسب نفس المنطق الرأسمالي بأكثر أشكاله استبدادا وتسلطا في مس توى اس تقاللية المؤسس ات الص حفية والرقاب ة
التي فُرضت عليها بشكل منهجي لفائدة تبرير السياسات والمواقف الرسمية ،19وه و م ا ع برت عن ه عدي د األص وات
الناقدة للتجربة البلشفية من داخل المنظومة الماركسية أمثال روزا لكسمبورغ ( )Luxembourg Rosaالتي كانت
20
ممكن". تطالب "بتوسيع الرقابة العمومية في مقابل الرقابة الرسميةوضمان ديمقراطية الرأي العام على أوسع نطاق
فما كتبه ماركس من ذ م ا يق ارب ق رنين من ال زمن ح ول ارته ان تحري ر الص حافة بتحرره ا من س لطة اإلش هار
التجاري والتجار المالكين والمساهمين ومن سلطة الدعاية السياسية الرسمية ،مازالت مقوالته تتردد في النظري ات
السوسيولوجية والفلسفية المعاصرة المهتمة بالصحافة واإلعالم ال لعبقريته في التنّبؤ ،بل لتواصل نفس التشريطات
والوظائف االجتماعية للممارسة الصحفية رغم تجدد األشكال التنظيمية والتقنية ورغم تنوع المض امين واألجن اس
الصحفية .فقد كان ماركس وفيا ألهم الشروط المهنية للصحافة أواسط القرن التاسع عشر ،فيتخ ذ من أهم األح داث
السياسية البرلمانية أو التنفيذية التي كان يتابعها ،تعّلة لنقد التسلط السياسي للدولة البروسية والكشف عن مح اوالت
تجيير الصحافة لتبرير سياساتها بشكل مفضوح كما لم يكن يستثني الصحافة السائدة من نقده إما لمواقفها المحافظ ة
والتبريرية أو لقبولها باألمر الواقع في انزياح عن وظائفها األساسية في النق د وال دفاع عن الحري ات وعلى رأس ها
حرية الصحافة.
2ـ القضايا االقتصادية االجتماعية في مرآة الصحافة الشعبية
أما الموضوع الثاني الذي تناوله ماركس في ثالث مقاالت أخرى ،فقد خصص ه لتحلي ل طبيع ة العالق ة بين الدول ة
البروسية والكنيسة الكاثوليكية لّم ا دخل في سجال صحفي مع محرري "الصحيفة الكولونية" المحافظة ذات الت أثير
الكبير في منطقة كولونيا ورينانيا ،شارحا للنتائج الميدانية الملموسة منها والمنطقية لتدخل الدين في الدول ة بف رض
مصادرة الحريات بفرض سلطة األعراف والتقاليد على حساب سلطة الق انون الوض عي ومنتق دا ألفك ار المدرس ة
19
Guichard Benjamin, « Les usages révolutionnaires de la liberté de la presse : Condamnations et justifications de la
censure dans la Russie de 1917 », Op. Cit.
20
Luxembourg Rosa, La révolution russe, Editions Essai, Collection "Aube", Trad. Française, Paris, 1978, p28.
8
التاريخية للقانون ومؤسسها قوستاف هوقو (( Gustav Hugoمن خالل أمثلة ألحداث سياسية تجسّد إعاقة ال دين
للدولة في توزيع الحقوق والواجبات بين المواطنين ،ولمواقف حكومية متأثرة بالتمييز الكنسي والمذهبي بين أف راد
المجتمع الواحد .ومن األمثلة على التأثير الديني في سياسة الدولة البروسية ما ك ان ق د تس ّرب من وث ائق برلماني ة
سرية ،تحصّل ماركس على إح داها ح ول مش روع لتغي ير ق وانين ال زواج لص الح التع اليم الكاثوليكي ة المحافظ ة
والمتشددة في مسائل األحوال الشخصية والعائلية .وقد تناوله ماركس فيم ا يش به المعالج ة االستقص ائية للص حافة
المعاصرة مدافعا عن ضرورة فصل األحوال الشخصية بما فيها الزواج الم دني عن ال دين مثلم ا داف ع عن الطالق
باعتباره خيارا شخصيا حرا يقابل حرية خيار الزواج ،وتمكن من خاللها أن يحّو ل المسألة إلى قضية عام ة زادت
في انتشار الصحيفة وأثارت نقاشات فكرية وسياسية حول الموضوع في أغلب الجهات بُطل على إثره ا المش روع
تحت ضغط الرأي العام الذي تشكل حول الموضوع.
وّفرت هذه المقاالت المهتمة بموضوع العالقة بين الديني والسياسي ،تفكيرا معمقا في المسألة الدينية ل دى م اركس
من حيث تطوير مواقفه من العلمانية باتجاه أكثر راديكالية مقتفيا في ذلك أثر الثورة الفرنس ية انطالق ا مم ا الحظ ه
من سطوة للكنيسة الكاتوليكية على مفاصل الدولة البروسية وتعطيلها لحركة التغيير وتبريرها الستغالل واضطهاد
نفس الطبقات المغتربة في المقوالت الدينية التي تعادي مصالحها التاريخية والمباشرة .بذلك قادته بعض استنتاجاته
األولية من األمثلة المعالجة في مقاالته الصحفية األولى إلى ص ياغة الموق ف النظ ري والسياس ي المع روف ال ذي
سوف يطوره الحقا .ذلك أن "إلغاء الدين من حيث هو سعادة وهمية للشعب هو ضرورة لصنع سعادته الفعلية .لكن
تطلب تخلي الشعب عن الوهم يعني أن تطلب منه التخلي عن وضع بحاجة إلى وهم .فنقد الدين هو بداية نق د وادي
الدموع الذي يمثل نفس ال دين هالت ه العلي ا ،ونق ده يع ني الهب وط من الس ماء إلى األرض" ،21أي ال يمكن نق ده في
سماء الميتافيزيقيا ،بل سوسيولوجيا في أرض العالق ات االجتماعي ة والسياس ية انطالق ا من وظائف ه التبريري ة في
تأبيد التناقض بين قوى اإلنتاج وعالق ات اإلنت اج ض من التش كيلة االجتماعي ة الس ائدة .أم ا االس تنتاجات الخاص ة
بسياسة الدولة البروسية غير العقالنية سواء في سياستها الرقابية أو االقتصادية أو الدينية ال تي لمس ها في تحليالت ه
الصحفية ،فقد مّثلت له حافزا نقديا على مراجعة المفهوم الهيغلي للدولة الم وروث والمنتش ر ل دى جيل ه باعتباره ا
"العقل االجتماعي المدبر للحقيق ة" وبتعاليه ا المف ترض عن الص راعات االجتماعي ة ،وتحويله ا الحق ا إلى مك ون
اجتماعي غير محايد بسياساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية كما انتقدها أوال في مقاالته الص حفية ثم كم ا س وف
يعتمدها الحقا في نحت مفهومه "للدولة الطبقية".
بعد تسلمه إلدارة تحرير "الصحيفة الرينانية" أواخر نفس سنة ،1842تمحورت اهتمامات ماركس الصحفية حول
نوع ثالث من قضايا اقتصادية-اجتماعية متنوعة مثل الظروف المعيشية البائسة لمزارعي العنب في س هل م وزال
( )Moselleغرب ألمانيا وتعرضهم الستغالل التّج ار ومص ّنعي الخم ور ب التخفيض من أس عار ال بيع ،وللتحاي ل
21ماركس كارل ،أنجلز فريديريك ،حول الدين -نقد فلسفه الحق عند هيغل ،ترجمة ياسين الحافظ ،دار الطليعة ،بيروت ،ص .33
9
البيروقراطي بالترفيع غير المتناسب من الضرائب لفائ دة الدول ة ،وذل ك بع د إج راء تحقيق ات ومق ابالت ص حفية
ميداني ة بم ا يقاب ل االستقص اء المي داني من المنظ ور السوس يولوجي .وه و م ا أث ار ردود فع ل غ ير مس بوقة من
المالحقات والمحاكمات رفض على أثرها ماركس اإلفصاح عن اسم المراسل الصحفي حتى ال يكون محل تتبع ات
ومحاكم ات رغم التهدي دات ،مؤسس ا ب ذلك ألح د المب ادئ الديونتولوجي ة في التحف ظ على المص ادر الص حفية
والتضامن المبدئي بين أصحاب المهنة.
أما المثال الثاني عن مثل هذه المواضيع التي تناولته ا الص حيفة تحت إدارت ه التحريري ة ارتبطت بح دث برلم اني
تمثل في سن قانون ردعي جدي د من قب ل البرلم ان المحلي ( )La Dièteيج ّرم س رقة الحطب الميت من م زارع
المالكين العقاريين وموجها ضد الفقراء الريفيين وشبه الحضريين ال ذين تع ودوا على اس تخدام الفواض ل الخش بية
للتدفئة ولصناعة بعض المستلزمات المنزلية وبيعها بأسعار بسيطة لتحس ين دخ ولهم .22وحس ب ذل ك الق انون أص بح
توصيف وتكييف الجرائم الغابية منوطا بعهدة الحراس الموظفين عند المالكين ،كما أصبح المتهمون مجبرين على دفع
غرامات مالية مع إمكانية إجبارهم على أعمل الس خرة (دون مقاب ل) لفائ دة نفس المالكين تحت س لطة رؤس اء البل ديات
المتحالفين معهم .ولنقد هذه التشريعات التي تالحق استرزاق الفقراءوتحتك ر تص نيع الفواض ل الخش بية ،أص در
ماركس في "الصحيفة الرينانية" سلسلة من المقاالت بين شهري أكتوبر ونوفم بر ك ان أوله ا بعن وان "نق اش ح ول
قانون سرقة الحطب" ،كشف من خاللها عن تعم د الق انون الخل ط بين ج ذوع األش جار وبين الحطب الميت الملقى على
األرض والذي لم يعد مكونا من مكونات الش جر وبالت الي يس قط عن ه ح ق الملكي ة المنس وب لم الكي الغاب ات .وبنفس
الطريقة السجالية التحليلية ،انتقد فيها أيض ا مفه وم الملكي ة ال تي ُي زعم انتهاكه ا وانتهى إلى اعتباره ا نوع ا من
السرقة المنظمة والمحمي ة بنفس الق انون ال ذي اس تند إلى س لطة الع رف في الحماي ة المطلق ة ألص حاب الملكي ات
العقارية ارتباط ا بتص ور إقط اعي ق ديم ُيف رد األرس تقراطيين بح ق الملكي ة دون غ يرهم .كم ا بّين أن مث ل ه ذه
التشريعات ليست قوانين بالمعنى الحديث بقدر ما هي استعادة غ ير قانوني ة لالمتي ازات القديم ة اس تنادا إلى س لطة
األعراف والتقاليد التمييزية بإضفاء الشرعية القانونية عليها كما كانت تبرره ا المدرس ة التاريخي ة في الق انون
التي كانت تحاول أن تجعل من القوانين الرومانية ق وانين كوني ة بطريق ة انتقائي ة لص الح النبالء واألرس تقراطيات
المحلية ،فُتفرض على حساب عدالة المساواة بين األفراد.
لق د ك انت مق االت ه ذه المرحل ة األولى من حي اة م اركس الص حفية الخاص ة بس رقة الحطب وظ روف اس تغالل
مزارعي الكروم ،عبارة إما عن تحقيقات ميدانية أو مقاالت رأي تنطلق من بعض األح داث السياس ية ال تي حّوله ا
إلى مواضيع صحفية طرح من خاللها قضايا سياسية واجتماعية عديدة وانتقد من خاللها ألول مّر ة الملكية الفردي ة
22
Bensaïd Daniel, Les Dépossédés. Karl Marx : Les voleurs de bois et le droit des pauvres, Editions La Fabrique,
Paris, 2007.
10
لوسائل اإلنتاج التي سوف تمثل حجر األساس في صياغة البيان الشيوعي بعد 5سنوات ،مس تبقا ب ذلك م ا اعت بره
لويس ألتوسير "قطيعة إبستمولوجية في فكر ماركس الشاب" لم تكتمل في نظره إال بعد .231848
مثلت سلسلة المقاالت التي خصصها ماركس لهذه المواضيع فرصا لتطوير أفكاره األولي ة النقدي ة ح ول العالق ات
االقتصادية ولجمع المعطيات الميدانية واألمثلة الملموسة التي س وف يس تخدمها الحق ا في كتاب ه "مس اهمة في نق د
االقتص اد السياس ي" س نة ،1859ومن خالل ه ذه التجرب ة األولى م ع المعاين ة الص حفية للواق ع المعيش ال تي
اصطدمت مع تصوراته الهيقلية المثالية ،تمكن ماركس من تعمي ق تفك يره النق دي الم ادي ،إذ كش فت ل ه مس ألتْين
أساسيتين سوف توجهان مساره الفكري والصحفي الالحق وتس اهمان في تط وير نظريات ه االقتص ادية والسياس ية
الالحقة:
-عم ق التناقض ات االجتماعي ة والسياس ية الناتج ة عن تناقض ات اقتص ادية باألس اس وعج ز االقتص اد السياس ي
الكالسيكي عن تفسير عديد الظواهر المستجدة رغم عدم اهتمامه باستثمار الجهد في المجال األكاديمي البحت.
-ارتهان الدولة البروسية بالمصالح األكثر ارتباطا باألرستقراطيات وعائالت المالكين الق دامى واس تمرارها تحت
هيمنة الكنيسة األكثر محافظة مقارنة بما تحقق من فصل بين الدين والدولة في أهم المجتمعات األوروبية المجاورة
مثل فرنسا والمملكة المتحدة.
كانت المعركة األخيرة للصحيفة الرينانية تحت إدارة ماركس مع السلطات البروسية التي ان زعجت من التحقيق ات
حول الظروف االقتصادية واالجتماعية لمزارعي الكروم بسهل موزال ،فطالبت الصحيفة رسميا بالكشف عن اسم
مراسلها الذي قام بهذه التحقيقات الثالث من أجل مقاضاته ،وهو ما رفضه ماركس ورّد عليه بسلسلة من المق االت
المنتقدة مرة أخرى للرقابة المفروضة على حرية الصحافة .دافع في آخر كتباته كما في أولها عن حرية الص حافة،
مكذبا رئيس إقليم رينانيا حين رّد على اتهاماته بالحجج والبراهين ،كم ا تض منت ه ذه المق االت األخ يرة تض امنا
مبدئيا مع إحدى الصحف التي تم إيقافها في مدينة اليبزيق ( )Gazette Générale de Leibzigمؤكدا على أن
حرية الصحافة والرأي والتفكير تفترض تعددا في المن ابر وحماي ة للحري ات األساس ية بم ا فيه ا حري ة الص حافة.
ورغم ذلك صدر القرار النهائي بإيقاف "الصحيفة الرينانية" بداية من 1أفريل 1843من أجل ثالث تهم رسمية:
ـ الكشف عن الوثيقة السرية الخاصة بمشروع القانون حول الزواج.
ـ رفض الكشف عن اسم صاحب التحقيقات من أجل تتبعه األمني والقضائي.
ـ محتوى المقاالت حول حرية الصحافة التي رّد بها ماركس على اتهام ات رئيس إقليم ريناني ا بش أن التحقيق ات
المنشورة.
انتهت هذه التجربة الصحفية األولى القصيرة من الصحافة اللبرالية في مسيرة ماركس الصحفية بإيقاف "الص حيفة
الرينانية" نهائيا عن الصدور ،تاركة فيه آثارها الُم حبطة من إمكانية مواصلة المطالبة بالحري ات الديمقراطي ة دون
23
Althusser Louis, Pour Marx, Op. Cit.p58.
11
تغيير جذري لواقع العالقات االقتصادية والسياسية السائدة خاصة في ألمانيا أواسط القرن التاسع عشر ،وذل ك بع د
أن حققت هذه الصحيفة أرقاما قياسية خالل الفترة الوجيزة لتوليه إدارة تحريره ا س واء في ع دد النس خ المطبوع ة
الذي مّر من 2000إلى 3500نسخة أو في ع دد المش تركين من 800إلى 3000مش ترك ،ح تى أص بحت أك بر
مؤسسة صحفية في ألمانيا منذ .1830
بعد ذلك مّر ماركس بفترة غير مستقرة في حياته انعكست على إنتاجه الصحفي ،فبعد إيقاف الصحيفة قرر ماركس
مغ ادرة ألماني ا إلى فرنس ا بع د أن ت زوج دون أن يتمكن من تحس ين وض عه االجتم اعي إلص دار نش رية خاص ة
بواسطة م ا ك ان ينتظ ره من ميراث ه الع ائلي ،ورغم ذل ك س اهم إث ر هجرت ه األولى إلى فرنس ا في إص دار مجل ة
"الحوليات الفرنسية-األلمانية" التي سرعان ما توقفت ألسباب مالية وسياسية .لم يصدر من "الحوليات" سوى عدد
واحد ضمنه ماركس مقالتين نظريتّين" :حول المسألة اليهودي ة" و"مس اهمة في نق د فلس فة الح ق لهيغ ل" ،س وف
يص دران الحق ا في ش كل م ؤلفيْن مع روفيْن حمال عدي د العناص ر التحليلي ة واالس تنتاجية المس تندة لمالحظات ه
واستنتاجاته خالل تجربة الكتابة الصحفية .كما عمل أواخر هذه المرحلة مراسال لعدة صحف ومجالت ألمانية مث ل
"الصحيفة األلمانية" ( )Gazette Allemandeالص ادرة في بروكس ال أو "إلى األم ام" 24الص ادرة في ب اريس
حيث طرد إلى بلجيكا بسبب محتوياتها بع د أن اش تكته الس لطات األلماني ة إلى الدول ة الفرنس ية "ال تي ال يمكن أن
25
تتحمل ما يسيء للعالقات األلمانية الفرنسية".
على ال رغم من التط ور الحاس م في فك ر م اركس من ذ 1845من خالل كتاب ه المش ترك م ع أنقل ز "اإلي ديولوجيا
األلمانية" باعتبار أن الصحافة السائدة مثلها مثل كافة أشكال الوعي االجتماعي إنما هي مك ّو ن من مكون ات البني ة
الفوقية التي تجّيرها اإليديولوجيا السائدة لتشغيل آليات الهيمنة والتبرير والتعمية ،واصل الكتابة الصحفية لمواجه ة
نفس هذه اإلي ديولوجيا وتعري ة تناقض اتها داخ ل نفس الفض اء العم ومي ال ذي تح اول أن تحتك ره لفائ دة الطبق ات
المسيطرة.
IIـ المرحلة الثانية ( :)1849-1848الصحافة البديلة في امتحان الظرفية الثورية
26
"اللحظة العقالنية-الجماعوية" ()Moment rationaliste-communautaire
1ـ اللحظة الثورية واللحظة التأسيسية
ك ان م اركس وانقل ز ق د توقع ا في "البي ان الش يوعي" نهاي ة 1847ث ورة بورجوازي ة وش يكة في ألماني ا ،داعين
الشيوعيين إلى "االهتمام بما سوف تمثله من تحقيق للشروط األكثر تقدما للحض ارة األوروبي ة [ ]...حيث ال يمكن
لهذه الثورة البورجوازية إال أن تكون تمهي دا للث ورة البروليتاري ة" ،27وم ا إن وص لت الث ورة إلى ألماني ا في م ارس
،1848ح تى س ارعا إلى مغ ادرة بلجيك ا والس تقرار بكولوني ا ( )Cologneأين انخرط ا في "الجمعي ة
24لم نتمكن من معرفة كل المواضيع التي كتب فيها ماركس جملة مقاالته خالل هذه المرحلة لعدم توفر ترجمتها من األلمانية
25
Rühle Otto, Karl Marx: Vie et œuvre, Op. Cit. p85.
26
Althusser Louis, Pour Marx, Op. Cit.p27.
27
Marx Karl, Engels Friedrich, Manifeste du parti communiste, (1848), Paris, Flammarion, 1998, p118.
12
28
الديمقراطية" ( )Association Démocratiqueثم أصدرا صحبة مجموعة من أعضاء "الرابطة الش يوعية"
"الص حيفة الريناني ة الجدي دة"( )Nouvelle Gazette Rhénaneفي 1ج وان 1848تواص لا م ع تجربت ه
الصحفية السابقة ،وبغاية متابعة أحداث هذه الثورة رغم اندالع مثيالتها في عدة بل دان أوروبي ة ومنه ا فرنس ا من ذ
فيفري .1848مثلت هذه المرحلة تجربة نوعية وثرية في أشكالها ومض امينها رغم قص ر م ّد تها الزمني ة ارتباط ا
بهذا السياق السياس ي ،زاول خالله ا م اركس م ا س ماه بعض الدارس ين بـ"الص حافة الثوري ة" أو "ت اريخ ال زمن
الحاضر" السجالي والملتزم لتفسير تتابع أحداث الصراع الشرس بين الطبقات المهيمنة والطبق ات المهيمن عليه ا.
نشرت هذه الصحيفة 301عددا وتج اوز ع دد مش تركيها إلـ 6000مش تركا رغم الص عوبات المالي ة الناتج ة عن
المالحقات والمحاكمات والخطايا المالية ،بعد أن استثمر فيها الجزء األوفر مما تبقى من ميراثه العائلي ال ذي أنفق ه
على مشروع الصحيفة بكلفة ُقّد رت بـ 7000تالر 29حسبعمل ة ذل ك العص ر ،أم ا كتابات ه الص حفية بافتتاحيات ه
ومقاالته خالل هذه المرحلة فقد تمحورت حول األحداث السياس ية ارتباط ا بموج ة االنتفاض ات ال تي اجت احت معظم
الدول األوروبية انطالقا من ثورة فيفري 1848بفرنسا.
تزامنت هذه المرحلة مع المنعرج الفكري والسياسي في حياة ماركس ،صاغ خاللها مشروع صحافة رأي سياس ية
ثورية دون أن يمارس صحافة حزبي ة حيث تب نى م ع رفاق ه اس ترتيجية الض غط على الق وى والحرك ات التقدمي ة
البورجوازية في ألمانيا لتحيق أك ثر م ا يمكن من المكاس ب الديمقراطي ة والعمالي ة على حس اب النظ ام اإلقط اعي
القديم بمؤسساته االقتصادية واالجتماعية وتأثيره في موازين القوى السياسية المعيقة لتطور الحركة العمالي ة .غ ير
أن اختيار القوى البورجوازية للتحالف مع قوى الثورة المضادة ودخول القوى العمالية والفالحية إلى س احة الفع ل
السياسي بطريقة مستقلة ،30أدت إلى تغي ير ه ذه االس تراتيجيا الص حفية بالتوج ه إلى الدعاي ة السياس ية والتعبئ ة
الجماهيرية من خالل التركيز على أحداث التحركات (تجمعات ،مسيرات ،إضرابات ،اعتص امات ،احتالل بعض المص انع
وشركات الخدمات ،بعض تجارب التسيير الذاتي لمنشآت االقتص ادية ،بعض الح روب والح روب األهلي ة ال تي ان دلعت
بفعل الثورة والثورة المضادة) وتحليل خلفياتها ونتاجها المفترضة بل واق تراح آف اق التغي ير حين انتهى بال دعوة
الصريحة إلى التنظم واالنتفاض خاصة مع بداية سنة .1849تكّيف ماركس الصحفي ورفاقه م ع التغي ير الط ارئ
داخل الفضاء العمومي بتصّد ر فاعلين ُج دد من منظمات مهنية ونقابية وسياسية للمش هد السياس ي واالجتم اعي ،وعم ل
على مساندة هذه الحركة االجتماعية ودعمها بل وتوجيهها في عدة ح االت بواس طة األدوار الدعائي ة والتحريض ية
28التي تأسست سنة 1847في بروكسال أين تم تحرير البيان الشيوعي سنة.1848
29أنظر:
- McLellan David, Karl Marx: His Life and Thought, Published by The Macmillan Press LTD, (First edition 1973),
Reprinted, London,1985, p222.
- Gudrun Mattes, « Journalisme et pouvoir politique pendant la révolution de 1848 – l’exemple de la "Nouvelle
gazette rhénane", Thèse de doctorat en Etudes germaniques, Trajectoires [En ligne], 9 | 2015, mis en ligne le 15
décembre 2015, consulté le 29 août 2018. URL : http://journals.openedition.org/trajectoires/1695 , p150.
30
Gudrun Mattes, « Journalisme et pouvoir politique pendant la révolution de 1848 – l’exemple de la "Nouvelle gazette
rhénane", Thèse de doctorat en Etudes germaniques, Op. Cit. p64.
13
والتأطيرية لتلك التحركات واتخاذهم جمهورا مستهدفا بطبيعة صحافة الرأي السياسية التي اختصت بها "الصحيفة
الرينانية الجديدة" بقيادتها الراديكالية الجديدة على حقل ص حفي ع رف مرحل ة انتقالي ة من التش كل ض من الس ياق
السياسي األلماني لما قبل التوحيد الفدرالي للدولة/األمة مع نهاية القرن التاسع عش ر بقي ادة أوّت و ف ون بس مارك (
.)Otto Von Bismarck
رغم ما ذهب إليه من أن هزيم ة ج وان 1848في فرنس ا هي مج رد معرك ة من مع ارك الح رب االجتماعي ة بين
البروليتاريا والبورجوازية ،فقد أعطى ماركس أهمية تاريخية عالمية ألحداث تلك الثورة باعتباره ا أح داثا فاص لة
في ت اريخ الص راع الطبقي ض من المجتم ع الرأس مالي ال ذي اختص بتحلي ل آلي ات اش تغاله بواس طة االستقص اء
الصحفي ليقدم تحليال سوسيولوجيا مستندا لمعطيات ميدانية مباش رة ت برهن عن ص حة بعض فرض ياته ومفاهيم ه
التي كان قد صاغها سابقا أو لتعديل بعضها أو أيضا لتدقيق بعضها اآلخر .ومن األمثلة عن ذلك الت دقيق م ا يص ح
عن فرضية التغيير الثوري وعن مفهوم الثورة التي لم تعد مجرد تغيير لشكل السلطة السياسية (ملكية ،جمهوري ة)
دون محتويات طبقية ،بل أصبحت تعني في المجتمع الرأسمالي "الهجوم العمالي ضد سلطة البورجوازية ممثلة في
مؤسس اتها السياس ية القائم ة في المج االت التش ريعية والتنفيذي ة والقض ائية واس تبدالها بمؤسس ات بديل ة" .ك انت
المقاالت الخاصة بتلك المرحلة قد مثلت بوادر نظري ة سياس ية نّس بت من التحديدي ة االقتص ادية للمج ال السياس ي
وأعطت للدولة استقاللية أكبر في صياغة اس تراتيجياتها وسياس اتها للحف اظ على النظ ام الطبقي ال ذي تمثل ه ،حين
يكون مهددا 31إلى جانب ما وّفرته متابعاته الصحفية من عناصر أولية الستكمال نظريته في الدولة بوصفها جهازا
طبقيا يتمتع بسلطات قادرة على صيانة المصالح الطبقية وحمايتها كما طورها لينين الحقا في كتاب ه "الدول ة
والث ورة" .ض من ذل ك الس ياق تمّك ن م اركس بمقاالت ه الص حفية من إع ادة الص راعات االجتماعي ة والسياس ية إلى
تعبيراتها الطبقية رغم ما عاينه والحظه من استقاللية القوى السياسية وخاصة منها تلك الماس كة بس لطة الدول ة،
عن القوى االقتصادية التي تمثل مصالحها التاريخية والمباشرة خاص ة خالل األزم ات الثوري ة واالنتفاض ات المه ددة
لسلطة البورجوازية.
س محت التجرب ة الص حفية لك ارل م اركس خالل ه ذه المرحل ة بتحلي ل آلي ات التغي ير الث وري تحليال م اكرو-
سوسيولوجيا "وفق زمنّيتين اثنتين :إحداهما زمنية خّطية تعبر عن اتجاه الحركة التاريخية العام ة ،والثاني ة زمنّي ة
دورية تحيل على التحقق الفعلي للثورة البروليتارية" 32التي كانت قبل هذه المرحلة مجرد نتيج ة "حتمّي ة" لالتج اه
التاريخي الخّطي معزولة عن الشروط الموض وعية والذاتي ة ال تي تفرزه ا الظرفي ة الثوري ة الناتج ة ب دورها عن
األزمات االقتصادية والسياسية الدورية ال تي ال يمكن للنظ ام الرأس مالي أن يتخطاه ا دون أن ته دد كيان ه الطبقي.
وقدم بذلك تصورا أوليا الندالع الثورات س وف يتط ور في كتابات ه الالحق ة إلى نظري ة في التغي ير السياس ي
31
Barbier Maurice, La pensée politique de Karl Marx, Paris, L’Harmattan, 1992, p 232.
32
Viparelli Irène, "Crise et conjoncture révolutionnaire : Marx et 1848", in Actuel Marx 2009/2 (n° 46), pp122-136,
https://doi.org/10.3917/amx.046.0841 (Consulté le 23/12/2018).
14
الثوري ،ربط في ه وض عية " الظرفي ة الثوري ة " بظرفي ة األزم ة االقتص ادية وبوت يرة الص راع الطبقي من
حيث موازين القوى السياسية وبحصيلة الدعاية اإليديولوجي ة باعتباره ا متغ يرات ثالث لمفه وم " كثاف ة
مولدة لالنفجار الثوري ،ال من حيث حجمها بل أساسا بما تحمله من آثار
األزمة" ))Intensité de la criseال ّ
ونتائج تاريخية ملموس ة في مس توى تج ذير المؤسس ات العمالي ة لتدش ين إمكاني ة التغي ير الث وري .33غ ير أن ه ذه
"الظرفية الثورية" تظل في نظر كارل ماركس وضعية مزدوجة ومفتوحة على إمكانيتين اثنتين :إما التواف ق السياس ي
بين الفاعلين السياسيين والبورجوازية أو االنفجار الثوري الذي يؤدي بدوره إم ا إلى إمكاني ة نج اح الث ورة أو إلى
فشلها نتيجة انتصار الثورة المضادة.
2ـ كثافة األزمة والظرفية الثورية
وإذا ما اعتبر أن التغيير الثوري سيرورة معقدة من اشتغال العوامل االقتصادية والعوامل السياسية ،فذلك نتيجة م ا
استخلصه من نشاطه الصحفي والسياسي خالل مرحلة حاسمة من الت اريخ االجتم اعي للنظ ام الرأس مالي الح ديث
منتصف القرن التاسع عشر ألن الثورة ال تنفجر من عدم بل تكون نتيجة لتجذير "كثافة األزمة" مثلما تكون الثورة
المضادة إضعافا لدرجة ه ذه الكثاف ة وامتصاص ا لنتائجه ا بم ا يه دف إلى تخطي "الظرفي ة الثوري ة" ال تي تك ون
بدورها نتيجة لألزمة االقتصادية دون أن تكون مالزمة لها في جميع الوضعيات والسياقات.
لم يكتف ماركس في مقاالت هذه المرحلة بتحلي ل ش روط الث ورة وعوام ل نجاحه ا ،ب ل مكنت ه المتابع ة الص حفية
لألحداثها اليومية بالتقصي والتحقيق والمالحظة من تحليل آلي ات اش تغال الث ورة المض ادة على مختل ف واجهاته ا
التي يمكن أن تكون حاسمة في إفشال الثورة وتحويلها إلى هزيمة سوف تع اني منه ا البروليتاري ا لس نوات عدي دة:
"فقط عن طريق الثورة المضادة ،يمكن الحفاظ بالقوة على سلطة سياسية فاقدة لكل أساس اجتماعي حين يتّم ارتداد
،1848 الدولة ضد المجتمع" 34.فقد حلل أيضا تلك المواجهة الدامي ة بين العم ال والحكوم ة في فرنس ا ج وان
كما في بقية الس ياقات الثوري ة األخ رى ال تي عّم ت أغلب ال دول األوروبي ة ،معت برا أنه ا تمث ل الوج ه اآلخ ر لقم ع
االس تعمار الفرنس ي للجزائ ريين تحت ش عارات مض لل ومخادع ة مث ل "إق رار الس الم في الجزائ ر" ،35معت برا أن
شراسة الدولة البورجوازية في مواجهة الحركة العمالية كانت تكشف عن وجهه ا الهمجي وال ديكتاتوري حين تحّس
بتهديد النظام وبمجرد إمكانية اإلطاحة بسلطتها السياسية الحامية لمصالحها الحاضرة والمستقبلية.
لماذا لم تنفجر الثورة في أنقلترا رغم انتشار الموجة الثورية في عديد المجتمعات األوروبية نتيجة األزمة العالمية؟
طرح ماركس على نفسه هذا الس ؤال وح اول اإلجاب ة عن ه ببعض المق االت الص حفية متوخي ا منهج ا مقارن ا بين
مختلف السياقات األوروبية ،استخدم فيه المعطيات الكمية والكيفية ثم انتهى إلى تفسير هذه اإلشكالية تفسيرا متع دد
األسباب ومتداخل العوامل:
33
Marx Karl, Les luttes de classe en France, 1848-1850 (1850), in Œuvres IV. Politiques I, Gallimard, Paris, 1994, p326.
34
Viparelli Irène, "Crise et conjoncture révolutionnaire : Marx et 1848", Op. Cit.p129.
35
Marx Karl, Engels Friedrich, La nouvelle Gazette Rhénane, II, Paris, Éditions Sociales, 1969, pp192-195.
15
ـ حجم األزم ة االقتص ادية في أنقل ترا ال ذي لم يتج اوز ال دوائر األولي ة للمض اربة والتج ارة وم ا تس تفيده من
مستعمراتها الشرقية .
ـ ض عف الص راعات االجتماعي ة بين الطبق ات نتيج ة تس ليم الس لطة لنظ ام سياس ي محاف ظ يعم ل تحت وص اية
البورجوازية بطريقة سلمية.
ـ خداع الطبقة العاملة بما يق ع توزيع ه من فت ات الزي ادة في األج ور لمجابه ة نت ائج األزم ة في مس توى التض خم
ومستوى العيش.
هكذا استعمل مفهوم "كثافة األزمة" لتفسير هذه المفارقة ،مقّد را أن درجة هذه الكثافة "ال تح دث في مرك ز النظ ام
الرأسمالي ،بقدر ما تتركز في أطرافه ألن البلدان األكثر ضعفا حيث تعّم التناقضات مختلف المج االت االجتماعي ة
بأشكالها األكثر راديكالية وانفجاراتها العنيفة ،هي التي يمكن أن تتحول فيها درجات متفاوتة من كثاف ة األزم ة إلى
ظرفية ثورية بسهولة أكبر".36
توّص ل ماركس إلى مجمل هذه االستنتاجات من خالل مزاولة نشاطه الصحفي في متابعة أحداث الثورات وتحليله ا
ضمن إطار نظري من المفاهيم السوسيولوجية والمقاربات المقارنة ،كان يبحث بواسطتها عن اآللي ات االجتماعي ة
المفس رة إلمكاني ة ح دوث التغي ير السياس ي الث وري ،إذ تأك د ل ه مي دانيا أن ان دالع الث ورات ينطل ق من الظرفي ة
التاريخية التي تستفحل خالله ا األزم ة االقتص ادية العالمي ة وتتكث ف ب درجات متفاوت ة لت ؤدي في أك ثر الس ياقات
الوطنية كثافة من حيث نتائجها إلى ظرفية ثورية مواتية يرتبط نجاح الثورة فيها بنتيجة الص راع بين ق وى الث ورة
وقوى الثورة المضادة .تبدو عناصر هذه النظرية الظرفية في الثورة كامنة بين سطور المدونة الصحفية التي كتبها
خالل هذه المرحلة استنادا إلى مبدأين اثنين :أولهما "أن ال إمكانية لثورة جديدة إال نتيجة ألزمة جديدة" ،37وثانيهم ا
أن درجة كثافة األزمة هي المحددة في اندالع الثورة بقطع النظر عن نجاحها من فشلها.
ورغم هذا التوجه السياسي الواض ح لنوعي ة الص حافة ال تي اش تغل عليه ا ،اس تخدم م اركس أهم مق اييس الكف اءة
المهنية في إدارته لـ"الصحيفة الرينانية الجديدة" سواء في مستوى الشكل أو المضمون:38
ـ الشكل :اعتمد الحفاظ على أركان قارة تحترم عادات القراءة وانتظارات قّراءه مع تنوي ع في األجن اس الص حفية
ونمط الكتابة كما التزم بجودة الصياغات اللغوية وتشدد مع المحررين في أساليب التحرير المعتمدة...
ـ المضمون :تميز الخ ّط التحري ري للص حيفة باالختي ارات الدقيق ة لألح داث النوعي ة ومالحقته ا مالحق ة ميداني ة
بواسطة شبكة واسعة من المراسلين ،وإنتاج مقاالت رأي إخبارية وأخرى تحليلية ال تخفي دعايتها السياس ية ال إلى
أحزاب أو جهات سياسية بعينها بل إلى توجه تحرري مناهض للفقر واالستغالل واالضطهاد .
36
Marx Karl, Les luttes de classe en France, 1848-1850 (1850), Op.Cit. p332.
37المرجع السابق ،ص333 .
38
Gudrun Mattes, « Journalisme et pouvoir politique pendant la révolution de 1848 – l’exemple de la "Nouvelle gazette
rhénane", Thèse de doctorat en Etudes germaniques, Op. Cit. 198.
16
رغم الفشل الذي انقادت إليه الثورة لم تنته هذه المرحلة إال بعد أن تم إغالق "الص حيفة الريناني ة الجدي دة" في 19
م اي 1849بع د أن ُأحي ل ك ارل م اركس إلى القض اء في 7و 8فيف ري 1849بتهم ة التح ريض على العص يان
المسلح ثم نفيه إلى باريس في 16ماي 1849حيث ُطرد منها مجددا بعد مشاركته النشيطة في تظ اهرة 13ج وان
1849لينتقل إلى لندن حيث عاش حتى آخر حياته.
قبل ذلك ،عمدت إدارة التحرير بقيادة ماركس إلى إصدار آخر عدد لها ب اللون األحم ر تض من دع وات ص ريحة
للعمال من أج ل "االتح اد والتنظم ومواص لة النض ال" ،تم على إثره ا نفي ه ومالحق ة بقي ة المح ررين بالمط اردة
والسجن والنفي .عرفت أغلب كتابات هذه المرحلة تطورا في وضوح الرؤية التحليلية واالستنتاجات التأليفية ودق ة
المفاهيم المستخدمة ،يمكن رّد أحد أسبابها الرئيسة إلى المعايشة الصحفية الميدانية ألحداث االنتفاض ات والث ورات
رغم فش لها في جمي ع الس ياقات األلماني ة واألوروبي ة ،مم ا جع ل ل ويس ألتوس ير يص ف ه ذا التط ور بالقطيع ة
اإلبستمولوجية بين مرحلة ما قبل 1848وما بعدها.
كانت أغلب المقاالت الصحفية التي خصصها ماركس للحالة الثورية في فرنسا ،ق د تّم ت اس تعادتها بش كل واض ح
في مؤلفه الالحق "صراع الطبقات في فرنسا" بعد أن كان قد نشره مقاال على جزأين في مجلة أص درها م ع أنقل ز
بنفس اسم الصحيفة الرينانية الجديدة مع إضافة عنوان فرعي لها" :مجلة اقتص ادية سياس ية" في 6أع داد بمدين ة
هومبورغ لكن صدورها كان في لندن سنة ،1850ثم بشكل غ ير مباش ر بع د تل ك المرحل ة بس نتين ،ظه ر كت اب
"الثامن عشر من برومر لويس بونابرت" 39الذي مّث ل دراس ة مادي ة تاريخي ة تجم ع بين العم ق النظ ري وال ثراء
اإلجرائي ومقاربة تأليفية استندت إلى مقاالته الصحفية باستنتاجاتها الخاص ة بتل ك الظرفي ة الثوري ة .ال ش ك أن
المعايشة الصحفية للظرفية الثورية أواسط القرن التاسع عش ر ،ق د مثلت لم اركس تجرب ة ثري ة باالس تنتاجات
الفكرية والدروس السياسية لمسار االنتفاضات العمالية والشعبية التي اجتاحت معظم الدول الغربية مكنت ه من بن اء
نظرية في الثورة تتضمن عديد العناصر السوسيولوجية التي كانت صالحة في تحليل ذل ك الواق ع ال ذي عايش ه
ماركسببنياته االقتصادية واالجتماعية والسياسية.
قدم ماركس من خالل تجربته الصحفية الثانية مشروع ص حافة ديمقراطي ة ثوري ة ذات ط ابع سياس ي-اقتص ادي،
بديلا لنموذج الصحافة الرأسمالية التجارية السائدة في ألمانيا القرن التاسع عش ر ،ض من س ياق الظرفي ة التاريخي ة
التي انطلقت في أوروبا الغربية منذ 1848بموجة من االنتفاضات حاول التكيف م ع م ا رافقه ا من ظه ور مج ال
عمومي جديد للحركة العمالية للفعل أخذ بزمام المبادرة في الفعل السياسي على مسرح األحداث المحلي ة والعالمي ة
على حساب المجال العمومي البورج وازي .40وه و م ا يمّك ن من اس تجالء عناص ر نظري ة في الص حافة وعالقته ا
39
Marx Karl, Le 18 Brumaire de Louis Bonaparte, (1851), Les Éditions Sociales, Collection "Classiques du marxisme",
Paris, 1969.
40
Gudrun Mattes, « Journalisme et pouvoir politique pendant la révolution de 1848 – l’exemple de la "Nouvelle gazette
rhénane", Thèse de doctorat en Etudes germaniques, Op.Cit. p66-67.
17
بالفضاء العم ومي باعتباره ا دعام ة أساس ية لمالمح مش روع لص حافة بديل ة متح ررة من اإلكراه ات المؤسس ية
والتجارية من خالل الفصل بين المصالح المهنية للصحفيين والمثقفين وبين المصالح التجارية ألرب اب المؤسس ات
الصحفية من ممولين ومساهمين وناشرين حتى تتمكن الصحافة من تحقيق وظائفها في توسيع المش اركة السياس ية
والتأثير في موازين القوى السياسية.
بعد أن استقر بصفة نهائية في أنقلترا ،لم يجد ماركس وأنقلز صحفا أوروبية تستوعب مقاالتهما ب اآلراء والمواق ف
المستندة إلى استنتاجاتهما "لدروس ثورة "1848سواء الصحف اللبرالية أو االشتراكية ،خاصة بع د القض اء على
الصحف الراديكالية االنقليزية سنة ،1858رفض ماركس الكتابة في صحيفة "البروليت اري" ()Le Prolétaire
نظ را لتوجهاته ا الش عبوية ،وبخالف مقاالت ه في الص ادرة في الص حافة األمريكي ة ،اقتص رت كتابات ه على
مخطوطات متبادلة لم تجد طريقها إلى النشر مثل ما وق ع م ع مخط وط "نق د برن امج قوت ه" 41ال ذي لم ينش ر إال
بعد وفاته .
IIIـ المرحلة الثالثة ( :)1862-1851نقد االقتصاد السياسي والتوسع االستعماري
بعد االستقرار القصري في لندن والتفرغ للتأليف والنشاط السياسي ،دون دخل ق ار إلعال ة أس رته ،عم ل م اركس
مراسال مستقرا ألكثر من 10سنوات لفائدة الصحيفة األمريكية األك ثر انتش ارا" ،المن بر ال نيويوركي الي ومي" (
)New-York Daily Tribuneالتي كانت ق د تأسس ت س نة 1841وس رعان م ا أص بحت من أك بر الص حف
العالمية بـسحب يفوق 200ألف نسخة سنة ،1856إذ كانت تنشر مقاالته ومقاالت أنقل ز بإمض ائه للحص ول على
مال إضافي كان في أمس الحاجة إليه ،كما راسل بصفة غير منتظم ة ع دة ص حف أنقليزي ة وعالمي ة أين وص لت
مقاالته إلى جنوب إفريقيا .هكذا وّفرت مهنة المراسلة الصحفية خالل هذه المرحلة أهم دخل قار نسبيا بالنسبة إليه،
مقارنة بما كان يحصل عليه من العائدات الزهيدة لنشر بعض كتبه وذلك بعد أن ع اش ظروف ا مالي ة قاس ية جعلت ه
يفقد أحد أبناءه لعجزه عن توفير نفقات عالجه ،وتمكن من نشر أكثر من 500مقال طيلة هذه المرحلة األخ يرة من
نشاطه الصحفي أي بمعدل مقال كل أسبوع تقريبا.
أما الص حيفة اإلنقليزي ة الوحي دة ال تي كتب فيه ا بعض المق االت المتفرق ة خالل ه ذه المرحل ة ،فك انت "ص حيفة
الشعب" ( ، )The people's paperذات التوجهات االشتراكية مثلما لم يكن متحمسا للكتابة في الصحف األلمانية
ما عدى "صحيفة الشعب" ( )Volk Dasالص ادرة في لن دن س واء ض د البونابرتیة ال تي ك انت تتظ اھر آن ذاك
بتحرير القومیات المظلومة رغم توجهاتها االستعمارية الصريحة ،أو لنقد تجربة التوحيد األلماني التي كانت تتج ه
في نظره لصالح البورجوازية البروسية على حساب المصالح العمالية رغم موقفه الداعم للوحدة األلمانية من حيث
المبدأ .تخلى ماركس خالل هذه المرحلة عن الفكرة التي رافقته كثيرا خالل المراحل الس ابقة ح ول إنش اء ص حيفة
جديدة ،رغبة منه في التفرغ لكتابة مخطوط "رأس المال" الذي لم يتمكن خالل حياته إال من نشر الج زء األول من
41
Marx Karl, Critique du programme de Gotha, (1875), les Editions sociales, collection "Geme", Paris, 2008.
18
هذا المشروع المركزي التأليفي من بين مجمل أعماله 42وكذلك نظرا للظروف االجتماعية القاسية التي عاشها حتى
وفاته في 14مارس 1883نتيجة إصابته بمرض السّل.
خالل كامل هذه المرحلة واصل مع نفس النمط الصحفي الذي كان قد بدأه لصحافة رأي تحليلي ة-نقدي ة اس تخدمها
وسيلة للتعريف بآرائه ولمحاولة التأثير في النقاش الدائر حول أهم قضايا وأحداث العصر مستخدما منهجه الج دلي
ورؤيته لطبيعة العالقة الصراعية بين الق وى الجدي دة ل رأس الم ال االحتك اري والتنافس ي وبقاي ا األرس تقراطيات
المتنّف ذة سياسيا وماليا وبين تنوع وانتشار الحركات العمالية .إلى جانب ما تميز به من مقاربة لعالم السياسة وتحليل
العالقات الدولية سواء في مستوى التحالفات أو الحروب والحروب األهلي ة أو ك ذلك في مس توى كش ف الخلفي ات
االقتصادية النطالق الظاهرة االستعمارية تحت شعار ما ُسمي بـ"التبادل الح ّر" ،43مقارن ا بين المواق ف األمريكي ة
واالنكليزية في االقتصاد العالمي من خالل عديد المقاالت السجالية والتحليلية أو ما ُس ّم ي "الحرب الص حفية الخفي ة"
التي كانت دائرة على أعمدة نفس الصحيفة بينه وبين مستشار الرئيس األمريكي أبراهام لنكلن ،عالم االقتص اد ه ونري
شارلز كاري ( )Henry Charles Careyذي التوجهات االقتصادية الحمائية ،من خالل مجموع ة من المق االت ح ول
نتائج الحضور االستعماري االنقليزي في الهند ونتائج التبادل الحر .44
بعد ضعف االهتمام بالحياة السياسية في أوروب ا ل دى ق راء "المن بر ال نيويوركي الي ومي" وأم ام تن امي األح داث
التاريخية الدائرة في أمريكا أواسط القرن التاسع عشر مثل حرب االنفصال وتأسيس الحزب الجمه وري واإللغ اء
القانوني للعبودية ،45أصبحت مقاالته تتناول الشأن األمريكي بتحليل هذه األحداث التي كتب فيها ماركس عديد المقاالت
التحليلية دون أن يخفي إعجابه بالنظام السياسي األم ريكي في مس ألتين اعتبرهم ا أساس يتين في تط ور المجتمع ات
الصناعية مقارنة بأغلب النظم األوروبية ،وهما غياب الملوكية واألرستقراطية.
1ـ نقد االقتصاد السياسي
ارتبطت أغلب مقاالته الصحفية خالل هذه المرحلة بنق د االقتص اد السياس ي وحرك ة التوس ع الرأس مالي في ش كله
االس تعماري ،تمهي دا للج زء األول من مؤلف ه الالح ق "رأس الم ال" 46ال ذي ك انت بعض أدوات ه المنهجي ة وأغلب
42
Aron Raymond, Les étapes de la pensée sociologique, Editions Gallimard, Paris, pp184-185.
43
Marx et Engels, Textes sur le colonialisme, Éditions du Progrès, Moscou, 1977, p66.
44
Vézina Simon, Henry C. Carey et le système américain d’économie contre l’impérialisme du libre-échange britannique:
Son passage au New York Tribune, Mémoire de Maître ès arts (M.A.), Département d’Histoire, Faculté des Arts et
Sciences, Université de Montréal, 2014, pp73-100:
https://irec.quebec/ressources/repertoire/memoires-theses/Simon_Vezina.pdf (31/11/2018).
45وجه ماركس رسالة شكر باسم الجمعية األممية للعمال ،والتي صارت تعرف في ما بعد باسم األممية األولى ،للرئيس األم ريكي أبراهــام لنكلن بمناس بة
إلغائه للعبودية في أمريكا سنة ،1864أنظر نص الرسالة:
- Écrit: par Marx entre le 22 et le 29 novembre 1864, Première publication: The Bee-Hive Newspaper, n°169, 7
Novembre 1865; Transcription/Balisage: Zodiac/Brian Baggins; Version en ligne: Archives Internet Marx & Engels
(marxists.org) 2000.
- L'Association internationale des travailleurs (AIT) est le nom officiel de la Première Internationale, fondée
le 28 septembre 1864 à Londres.
46
Krätke Michael, "Journalisme et science: L'importance des travaux journalistiques de Marx pour la critique de
l'économie politique", in Actuel Marx, n°42, 2007/2, pp128-163.
19
معطياته االقتصادية واالجتماعية قد ُج ّم عْت بواسطة تحقيقاته وأبحاثه الصحفية حتى أن عديد المعطيات اإلحصائية
وعديد الفقرات الواردة فيه كانت مأخوذة من مقاالته الص حفية الص ادرة خالل ه ذه المرحل ة مث ل تل ك المعطي ات
الخاصة بالحضور اإلنكليزي في كل من الهند والصين واندونيسيا إلى ج انب المعطي ات الرس مية ح ول االقتص اد
اإلنكليزي من أجور وإنتاج وأرباح وغيرها .وفي عديد المواض ع ،ك انت كتابات ه الص حفية تظه ر في نظ ر بعض
الدارسين "أكثر عمقا في بعض موضوعاتها مم ا ك انت علي ه في مخطوط ات "رأس الم ال" مث ل س وق الم ال أو
47
التشريعات البنكية وغيرها كما لو أنه كان يجمع تلك المعطيات ويوثقها ليستعملها الحقا".
ومن األمثلة الدالة على ذلك تكفي اإلشارة إلى بعض ها ،ففي مع رض تناول ه لق وانين الص ناعة المانيفكتوري ة في
إنقلترا ،تعمد ماركس في أحد مقاالته 48الرجوع إلى كتاب أنقلز "وضعية الطبقة العاملة في أنقلترا" الصادر س نة
10س اعات عم ل يومي ا لم ا تب نى
،1845حيث يستجلي ما سّم اه "التاريخ السري" لعش ريات النض ال من أج ل الـ
البرلمان االنقليزي هذا القانون رغم عدم تمثيلية العم ال في ه إذ فس ر ذل ك بالص راع ال دائر بين البورجوازي ة
واألرس تقراطية العقاري ة ال تي اقتنص ت تل ك الفرص ة لالنتق ام من البورجوازي ة الص ناعية ردا على م ا ك انت ق د
فرضته عليه ا فيما يخص قانون اإلصالح االنتخابي لـ 1831وقانون الحبوب لـ .1846كذلك األمر بالنسبة إلى ما
كتبه حول نظام العمل بالتناوب ( )Par roulementلضمان اش تغال المص انع كام ل أي ام األس بوع وال ذي تم
إلغاؤه سنة 1850على حساب الترفيع في ساعات العم ل اليومي ة بنص ف س اعة ،مبين ا طريق ة اش تغال الص ناعة
ض مان الرأسمالية في استغالل أقصى لمجهود العمل باعتباره العامل الحاسم ال فقط في عملية اإلنتاج ب ل في
فائض القيمة وتحديد قيمته الفعلية.
وفي آخ ر مقاالت ه بـ"المن بر ال نيويوركي الي ومي" 49ح ول الص ناعة المانيفكتوري ة األنقليزي ة ،بّين اس تنادا إلى
1839و 1859أن أج ور العم ال ق د ارتفعت بطريق ة واض حة كلم ا تم تط بيق
إحصائيات متفق دي الش غل م ا بين
التشريعات القانونية الخاص ة ب احترام بعض الش روط الش غلية وبتجدي د آالته ا في المص انع الك برى ،ولكنه ا
تراجعت حيث تم االقتصار فقط على تطبيق الحّد من ساعات العمل خاصة بالنسبة إلى األطفال والنساء الذين عادة
ما يتم استضعافهم وتخفيض تأجيرهم في تمييز واضح عن بقية العم ال .كم ا الح ظ أيض ا أن المص انع ال تي
كانت تجدد آالتها طبقا للقوانين الجديدة ،كانت توفر إنتاجا أوفر وأن العمال يبذلون مجهودات أكبر خالل ساعات عمل
نظرية ائضالقيم ة" :م ا ك ان الم الكون يخس رونه بالح ّد الق انوني من
ف أقل من ذي قبل ،ويفسر ذلك بالرجوع إلى
ساعات العمل بمقياس زمن العمل المطلق ،كانوا في المقابل يربحون أكثر منه بتك ثيف زمن العم ل الفعلي" .ك ل ه ذه
47المرجع السابق ،ص.129
48مقال صادر في "المنبر النيويوركي اليومي" يوم 15مارس 1853بعنوان:
- "Débats parlementaires - Le clergé et la lutte pour la journée de dix heures-La famine", cité in Krätke Michael,
"Journalisme et science: L'importance des travaux journalistiques de Marx pour la critique de l'économie politique",
Op.Cit, p129.
49مقال صادر في "المنبر النيويوركي اليومي" يوم 6أوت 1860 ،بعنوان:
- "La situation de l'industrie manufacturière anglaise" cité in Krätke Michael, "Journalisme et science: L'importance des
travaux journalistiques de Marx pour la critique de l'économie politique", Op.Cit, p130.
20
الظواهر رجع إليها ماركس الحقا في كتاب "رأس المال" ليتعم ق في بعض ها أو ليختص ر بعض ها اآلخ ر بع د أن
كان قد جمع معطياتها وحلل نتائجها في مقاالته الصحفية ،مقّد ما بذلك بعض األطر السوسيولوجية لتحليل الظ واهر
الشغلية المستجدة على الشروط الجديدة لإلنتاج في نسخته الصناعية ،ومبينا مثال أن الحد من ساعات العمل اليومية
والزيادة في األجور أصبحا محفزا على التجديد التكنول وجي وعقلن ة المؤسس ة في التحاي ل على تحقي ق ال ربح في
سياق التنافس على ما توفره عروض السوق العالمية في زمن ماركس كما في زمننا الراهن 50.فقد كان يس تنتج من
ن من الدولة البورجوازية لم يكونا في صالح العمال
المفروضي
ْ ذلك أن التطور التكنولوجي وتحديد ساعات العمل
قيمة التأجير وال من حيث الزمن الفعلي للعمل الرتباط األجور باإلنتاجية في حساب صاحب العمل وأن ه رغم
ال من حيث
حماية التشريعات الشغلية للعمال ظاهريا فإنها تظل في خدم ة رأس الم ال والص ناعة الرأس مالية ال فق ط في
51
أنقلترا بل أيضا في بقية السياقات األوروبية مثل فرنسا وبلجيكا وحتى في أمريكا.
كما كانت عديد المواضيع التي تناوله ا بمقاالت ه في ص حيفة "المن بر ال نيويوركي الي ومي" ق د ارتبطت باألح داث
الداخلي ة في بريطاني ا من خالل تش خيص األزم ات االقتص ادية والمالي ة وتحلي ل السياس ات النقدي ة للمنظوم ة
الرأسمالية باالحتكار والمضاربة ،وما تنبأ به من نتائج االنهيارات المصرفية وأزمات التضخم والزيادة في اإلنتاج
وغيرها ،كان قد ص ُدق بعض ه ولم يص دق بعض ه اآلخ ر إلى ج انب نق ده للديمقراطي ة الش كلية ال تي ظه رت ل ه
تناقض اتها من خالل م ا الحظ ه من تالعب باالنتخاب ات وتض ييق انتق ائي على بعض الحري ات المه دد الس تقرار
النظام .كما تناول أيضا عديد الظواهر الشغلية المرتبطة ببنية العمل المأجور في عص ر الص ناعة الرأس مالية مث ل
التغيير الحاصل في قوانين الشغل وشروط التأجير من حيث عالقة ع دد س اعات العم ل بإدم اج اآلالت التقني ة في
اإلنتاج ،مقدما بذلك إطارا تحليليا لسوسيولوجيا العمل والعلوم االقتصادية ،52دون أن يغف ل عن الظ واهر االجتماعي ة
مث لالظ روف القاس ية والتمييزي ة لتش غيل النس اء واألطف ال في المرافقة لتطور الرأسمالية الصناعية في أنقلترا
مستوى التأجير واالستغاللوتدمير البيئة من خالل االستنزاف الرأسمالي لمواردها.
2ـ التبادل الحر والتوسع االستعماري.
أما الموضوع الثاني الذي اشتغل عليه ماركس في عديد مقاالته خالل المرحلة األخ يرة من مس اره الص حفي ،فق د
ارتبط بموضوع التجارة العالمية وهو ما س وف يس تعيد معطيات ه واس تنتاجاته الحق ا في مخط وط "رأس الم ال"،
منطلقا من أن التجارة العالمية اتخذت منعرجا تاريخيا حين أصبحت رأس مالية البني ة اإلنتاجي ة والتنظيمي ة وتي ارا
جارفا "تحت وطأة الحمى الصناعية في مجاالت النسيج والصناعات الكبرى المدعومة بظرفي ات تاريخي ة مالئم ة
للتصدير" 53.فقد كانت إخفاقات ثورة 1848التي اجتاحت معظم الدول األوروبية فرصة مالئمة لرأس المال من أج ل
50
Krätke Michael, "Journalisme et science: L'importance des travaux journalistiques de Marx pour la critique de
l'économie politique", Op.Cit, p134.
51
Marx Karl, Le capital, T1, (1867), Les Éditions sociales, Paris, 1969.
52
Aron Raymond, Les étapes de la pensée sociologique, Op. Cit. p191.
53سلسلة من المقاالت الصادرة في "المنبر النيويوركي اليومي" بين 1859و 1860مثل:
21
تعويض تأخره الصناعي والتجاري بما كان يفترض اقتحام أسواق جديدة في آسيا باستخدام كل الوسائل االقتصادية
والدبلوماس ية وح تى الق وة العس كرية لترك يز االس تعمار "دون مراع اة الحاج ات المحلي ة للس كان األص ليين وال
طاقاتهم الشرائية" ،وهي ظاهرة عالمية يعتبرها ماركس متكررة في جميع البلدان التي وصلت إليه ا الرأس مالية.54
كان المثال األبرز ال ذي يتق دم للمت ابع االقتص ادي وللمالح ظ الص حفي ،يتمث ل في قط اع النس يج المتهيك ل ح ول
الهيمنة شبه التامة للصناعة القطني ة األنقليزي ة ممثال في مجم ع "القطن الملكي" من خالل توري د القطن الخ ام من
النهائية
. واليات الجنوب األمريكي والهند بأسعار منخفضة وتصدير منتجاته
كما تمحورت اهتمامات ماركس الصحفية حول مواض يع عدي دة مث ل السياس ات الخارجي ة والداخلي ة ألهم الق وى
الرأسمالية في عالم الق رن التاس ع عش ر ممثل ة في المملك ة المتح دة وروس يا القيص رية وح ول األح داث الك برى
والظواهر المستجدة خالل بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أزم ات وح روب حيث انكب في سلس لة
من مقاالته على تحليل السياسة االستعمارية االنكليزية والروسية وما رافقها من مظاهر مزدوجة النتائج واآلثار.55
فكانت مواضيع التجارة العالمية والتبادل المفروض على المستعمرات وأنصاف المس تعمرات ،من أك ثر القض ايا ال تي
شغلته خاصة ما ارتبط بتدمير االقتصاديات المحلي ة وتغي ير بني ات عالقاته ا االجتماعي ة بـ"خل ق ع الم جدي د على
صورة النظام الرأسمالي ،يشكله أينما حّل" 56دون مراعاة لحاجات السكان األص ليين مث ل م ا وص فه من تحطيم
لصناعة القطن الهندية .فكشف بذلك عن عديد الم ؤامرات االس تعمارية وافتع ال الح روب (ح رب األفي ون األولى
والثانية ،الحرب على الصين والهند واندونيسيا) في مناطق الهند وشرق آسيا واختالق المبررات الواهية للتدخالت
العسكرية لضمان المصالح التجارية في خلق أسواق جدي دة والبحث عن ث روات لتط وير حرك ة التص نيع ،م ع م ا
اعتبره "جرائم حرب وإرهابا منظما كان يقوده نفاق الحضارة البورجوازية".57
ولكنه توقع في اآلن نفسه تطور أشكال المقاومة العمالية بظهور قوى اجتماعية معبّرة عن ق وى إنتاجي ة جدي دة في
تلك المستعمرات اعت بر وظيفته ا ض رورية ودوره ا حاس ما لتحريره ا من الهيمن ة الرأس مالية االس تعمارية رغم
التقاطع بين االستبداد األوروبي الحديث واالستبداد الش رقي التقلي دي ال ذي فس ر ب ه الط ابع المتن اقض لالس تعمار
الرأسمالي ،حيث تمكن من تجمي ع المعطي ات الميداني ة واإلحص ائية الدال ة على تحطيم الص ناعة القطني ة الهندي ة
وإغ راق س وقها بالمنتج ات النهائي ة األنقليزي ة .58واس تنتج من ذل ك حتمي ة الظ اهرة االس تعمارية نتيج ة التط ور
- "Sur le Traité anglo-chinois", "La situation du commerce britannique", "Industrie et Commerce",… (MEW 13, p.
498), Op.Cit, p135.
54
Marx et Engels, Textes sur le colonialisme, Op.Cit. p18.
55
Ibid.
56وهي نفس االستنتاجات التي كان قد عّبر عنها في "البيان الشيوعي" ثم استعادها لحقا في كتاب "رأس المال".
57
Marx Karl, Dispatches for the New York Tribune, Selected Journalism of Karl Marx, Edited bay Ledbetter James,
Penguin Books, 2007, https://libcom.org/files/Marx-DispatchesfotheNewYorkTribune.pdf (Consulté le 22/072017).
58
Marx et Engels, Textes sur le colonialisme, Op.Cit. p18.
22
المتناقض للرأسمالية الصناعية المنقادة بقوانين الربح والتي انطلقت من أوروبا الغربية لتغزو بقي ة الع الم وإح داث
تغ يرات تتج اوز المظ اهر االقتص ادية إلى توف ير "األس س المادي ة لتنظيم اجتم اعي جدي د على ص ورة التنظيم
في االجتماعي للمجتمعات الغربية" 59،مقدما بذلك بعض العناصر األولية لما سوف ُيعرف الحقا بنقد الحداث ة
عقالنيتها األداتية واالستهالكيةخاصة مع رواد مدرسة فرنكفورت.
كانت هذه التحليالت الماكروسوسيولوجية المضمنة في المق االت الص حفية س وف تس تعاد الحق ا في كت اب "رأس
الم ال" لتمث ل األس س األخ يرة الكتم ال نظري ة م اركس والمنطل ق لتط وير النظري ات الماركس ية الالحق ة ح ول
االمبريالي ة 60والتط ور الالمتك افئ القتص اديات المراك ز واألط راف ال تي طورته ا مدرس ة التبعي ة في مج ال
61
سوسيولوجيا التنمية.
من ناحية تقنيات التحرير الصحفي التي استخدمها مركس ،تلك ال تي ك ان يتخ ذ فيه ا من الح دث السياس ي األك ثر
تداوال منطلقا لتحليل أسبابه االقتصادية والسياسية وخلفياته التاريخية من خالل إثرائه بالمعطيات الكمية والكيفية ثم
يمر إلى تضمين أحكامه الخاصة حول دواعيه ونتائجه المفترضة .كم ا ك ان الس تخدام المف اهيم واألط ر التحليلي ة
الجديدة عن الفكر السياسي لمنتصف القرن التاسع عشر ،أن جعل من اإلقبال على مقروئية مقاالت ه س ببا في تزاي د
الطلب على نشرها وإعادة نشرها في الملحق ات األس بوعية والش هرية لنفس الص حيفة دون أن يك ون راض يا على
مستوى التأجير الذي كان يتلقاه بالنظر إلى المجهود المبذول في جمع المعطي ات الكيفي ة والكمي ة من الت اريخ ومن
اإلحصائيات الرسمية وبالنظر أيضا إلى جودة كتاباته الصحفية مقارن ة بنظرائ ه من الص حفيين في أوروب ا أو في
أمريكا ذاتها التي كان ماركس ق د أب دى إعجاب ه بمس توى الحري ات الص حفية فيه ا في مع رض دفاع ه عن حري ة
الصحافة خالل أولى تجاربه المهنية في مجال الصحافة المكتوبة.
خاتمة
إن اختزال أعمال كارل ماركس في ما كان قد أصدره خالل حياته أو في ما ُنشر له من مؤلفات بعد وفاته أو أيض ا
في الرجوع االنتقائي إلى رسائله ،يظل عمال مجّز أ ومنقوصا بما ال يساعد في فهم تط ور نظريات ه وبن اء مفاهيم ه
وخاص ة في اإلحاط ة بمس اهمته في التأس يس للسوس يولوجيا الحديث ة وتط وير بعض مدارس ها الالحق ة في عدي د
المواضيع الدراسية والمجاالت البحثية .فماركس الذي بدأ نشاطه الصحفي بص فة مبك رة ،ك ان ق د خص ص ج زء
وافرا من مجهوده الفكري والسياس ي الالح ق للص حافة ال تي لم يتعام ل معه ا تع امال مهني ا فق ط ،ح تى أن بعض
? 59
Krätke Michael, "Journalisme et science: L'importance des travaux journalistiques de Marx pour la critique de
l'économie politique", Op. Cit. pp136-137.
60
أنظر:
- Lénine, Vladimir Illich, L'impérialisme, stade suprême du capitalisme, Editions Sociales, Paris, 1982.
- Serfati Claude, "Les théories marxistes de l’impérialisme", in Période, 7 mai 2018,
http://revueperiode.net/guide-de-lecture-les-theories-marxistes-de-limperialisme (visité le 12/12/2018).
61
Amine (Samir), Le développement inégal, Essai sur les formations sociales du capitalisme périphérique, Les Editions
de Minuit, Paris 1973.
23
المتخصصين عّد ه من أكبر صحفيي القرن التاسع عشر 62سواء من حيث حجم المق االت واالفتتاحي ات أو من حيث
تنوع المواضيع التي تناولها أو كذلك من حيث تصوراته لحرية الصحافة ولوظائفها الفكرية والسياس ية في تش كيل
الفضاء العمومي وتدعيم تأثيره في المجال المدني والسياسي .مارس ماركس مهنة الصحافة في مختلف وض عياتها
المهنية ،مراسال لعديد المجالت والصحف المحلية األلمانية والعالمية ،ورئيس تحرير لف ترتين وج يزتين ومح اوال
إصدار عديد الصحف والدوريات كما كان قد فكر جديا في بعث وكالة أنباء ،غير أن اإلمكانيات المالي ة والش روط
السياسية لمن عاش معارضا ومالحقا ومنفيا لم تكن لتسمح له بمثل هذه المشاريع .فكانت الصحافة المهن ة الوحي دة
التي زاولها بصفة مبكرة واستخدمها في أهداف مختلفة كم ورد رزق أوال وك أداة لنش ر أفك اره النظري ة والدعاي ة
السياسية لها ولكن أيضا كوسيلة لتعميق عدة أفكار ونحت بعض المفاهيم بل مثلت له مج اال مي دانيا الختب ار بعض
الفرضيات التي كان يحتاج إلى البرهنة عليها ومدها بالعناصر الميدانية الضرورية في سجاالته الفكرية والسياس ية
وإنتاجاته النظرية.
كغيره من أهم رواد السوسيولوجيا الحديثة ،أعطى كارل ماركس أهمية أساسية للشكل االتصالي السائد في عص ره
والممثل في الصحافة المكتوبة ،بل تميز عنهم بامتهانه للصحافة واستخدامها وسيلة ال فقط لنش ر األفك ار والدعاي ة
بل أيضا لالستقصاء واكتشاف المعطيات الميدانية الكمية والكيفية انطالقا من تن اول األح داث المتك ررة وتحويله ا
إلى ظواهر قابلة للمشاهدة والتحليل والتنظ ير .فق د أس س م اركس لص حافة سياس ية نقدي ة ولص حافة رأي عميق ة
تتج اوز التن اول الص حفي العف وي حيث ك انت األح داث السياس ية المتناول ة ق د مثلت ل ه م داخل لتحلي ل البني ات
االقتصادية واالجتماعية الكامنة ورائها ،معتبرا أن صحافة "ثورية" نقدية وح دها يمكن أن تؤس س لص حافة بديل ة
للصحافة التبريرية المساهمة من منظوره في إعاقة التحول المجتمعي الذي ظل مقتنعا بضرورته وحتميته .غير أن
ما يمكن استنتاجه كذلك ،أن الصحافة المكتوبة لم تكن بالنسبة إليه مجرد أداة من أدوات تغيير العالم االجتماعي ب ل
كذلك وسيلة الكتشاف تناقضاته ومتابع ة ص راعاته واالنتب اه إلى خفاي اه الميداني ة من خالل األح داث الجاري ة في
الحياة السياسية واالقتصادية والفكرية بوصفها مؤشرات دالة على ديناميكية التحوالت المجتمعية التي ك ان مهوس ا
بتحليلها .رغم أن ماركس كان قد عايش إرهاصات التطور النوعي للحقل الصحفي في أوروبا القرن التاس ع عش ر
وعانى من تناقضات الصناعة الصحفية في أنشطته الصحفية وربما لم يجد الوقت لتن اول بني ة الص ناعة الص حفية
الرأسمالية رغم تحليالته الوصفية ،مثله مثل ماكس فيبر الذي لم يتمكن بدوره من إنجاز مشروعه الض خم لدراس ة
الصحافة في عصره العتبارات مالية وإدارية ،63إال أننا نجد في متن النظرية الماركس ية ع دة مف اهيم ك انت مفي دة
في تحليل بنيات هذا الحقل مثلما طورته ا ع دة نظري ات معاص رة س واء م ع أعم ال مدرس ة فرنكف ورت أو أعم ال
62
Marx Karl, Dispatches for the New York Tribune, Selected Journalism of Karl Marx, Op. Cit.
63
Bastin Gilles, "La presse au miroir du capitalisme moderne: Un projet d'enquête de max weber sur les journaux et le
journalisme" in Réseaux, n° 109, 2001/5, pp 172-208.
24
بورديو ( )Bourdieuفي فرنسا أو كذلك الدراسات الثقافية في أنقلترا المتجمع ة ح ول أعم ال ريتش ارد هوق ار (
.)Richard Hoggart
لم يمارس كارل م اركس ص حافة عفوي ة تكتفي بالح دود المهني ة في مج رد إع ادة نش ر األخب ار وتحلي ل أس بابها
ونتائجها المفترضة ،بل مثلت له عديد المق االت والتحقيق ات الص حفية من الناحي ة المنهجي ة نوع ا من االستقص اء
الميداني لتحليل عدة ظواهر ،وشكّل في عدة حاالت نواتات ألعمال نظري ة الحق ة إذ تح ّول بعض ها إلى نص وص
مركزية في الفكر الماركسي مثلما كان واعيا بضرورة االستقصاء الميداني في شكله السوسيولوجي كما يش ير إلى
ذلك مشروع "الدراسة الميدانية العمالية" التي كان ينوي القي ام به ا لجم ع المعطي ات الميداني ة الض رورية لتحلي ل
الشرط العمالي في التشغيل الصناعي بمختل ف متغيرات ه .64فق د مكنت ه الممارس ة الص حفية من الوق وف على جمل ة
المعطيات الميدانية ،استخدمها كمؤشرات دالة على متانة المتغيرات التي استعملها في تحليل مجمل العالقات المفترض ة
بينها والبرهنة على صدق مقوالته النقديةفيتفكيك بنية النسق الرأس مالي .كم ا مثلت نفس المق االت والتحقيق ات أدوات
إجرائية لتحليل عدة ظواهر مصاحبة لتطور الرأسمالية الصناعية خالل النص ف الث اني من الق رن التاس ع عش ر مث ل
تأثير المكننة وتشغيل النساء واألطف ال والتمي يز في األج ور وظ روف اس تغالل العم ال ،انتهىمعه ا إلى ض رورة
إدماج تحرير هذه الطبقات والفئات في مسار التحرر اإلنساني من االستغالل واالضطهاد واالغتراب.
64كان ماركس قد بدأ بإنجاز استمارة اس تبيان ب أكثر من 100س ؤال في منظ ور دراس ة ميداني ة مونوغرافي ة ض خمة ح ول الوض عية الش غلية والمهني ة
واالجتماعية للعمال في فرنساُ ،نشرت ألول مرة في:
- Revue socialiste, n° 4, 20 avril 1880.
أنظر نص االستمارة والتصدير لها بقلم ماركس نفسه في:
- « Enquête ouvrière(1880). Karl Marx », in Travailler 2004/2 (n° 12), p. 21-28. https://www.cairn.info/revue-
travailler-2004-2-page-21.htm (12/07/2018).
25