Professional Documents
Culture Documents
هارتموت روزا ونقد الحداثة المتأخرة
هارتموت روزا ونقد الحداثة المتأخرة
ملخص:
إن هدف "هارتموت روزا" من مشروعه هو نقد املجتمعات الحداثية املتأخرة
والتأسيس لعالقة أصيلة مع العالم بعد أن اهتلكت هذه العالقة وتآكلت نتيجة "للتسارع"،
فما يميز املجتمعات الحديثة هو تسارع ايقاع الحياة وهو يرجع الى تزايد هائل في معدل
التسارع التقني في الوقت الذي يتقلص فيه الزمن ،اذ تعيش أغلبية الذوات في الحداثة
املتأخرة تجربة االفتقار إلى الزمان وما يترتب عنه من قلق ،وهذه املظاهر يعتبرها "هارتموت
روزا" كأشكال سلبية من التسارع ،لذلك أسس لسوسيولوجيا معيارية غرضها الكشف عن
اشكال االغتراب واألمراض املتمخضة عن تحوالت الزمن داخل هذه املجتمعات .بيد أن عالج
ما يخلفه التسارع من أمراض واغتراب ليس التباطؤ بل ينبغي التفكير فيما وراء مفهوم الزمن
بحثا عن إرساء عالقة أصيلة بالعالم ،لذلك اقترح مفهوما جديدا هو "الصدى" .فالصدى
بما هو عكس لعملية التسارع وعالج له ،ال يعبر عن عالقة الذات بالزمن بل عالقتها بالعالم.
الكلمات املتفتايةة :صدى ،تسارع ،حداثة متأخرة ،العالم ،اغتراب.
Summary :
The gool of "Hartmout Roza" in his project is to critique late modern
societies and establish an original relationship with the world after this
relationship has been destroyed and eroded as a result of acceleration,
what distinguishes modern societies is the acceleration of the rhythm of
life, And it is due to a huge increase in the rate of technical acceleration
a time when time is shrinking, as the majority of people in the late
modernity live the experience of contempt for time and the consequent
anxiety. These manifestations are regarded by "Hartmout Roza" as
negative forms of acceleration; therefore, he founded of sociological
normative its purpose revealing forms of alienation and diseases
generated of the transformations of time within these societies.
723
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
أوال .مقدمة:
"هارتموت روزا" " )... -1965( "Hartmut Rosaأحد أهم ِّ
ممثلي الجيل
الرابع ملدرسة فرانكفورت النقدية ،سار في الدرب نفسه الذي سلكه رواد َّ
املدرسة برسمه ملعالم مشرع جديد غرضه الكشف عن تناقضات الحداثة
الغربية املتأخرةُ .يعايش االنسان الغربي في الحداثة املتأخرة تجربة االفتقار إلى
الزمان وما يترتب عنه من قلق نتيجة لظاهرة التسارع التي يعتبرها "روزا" صورة
ً جديدة من االغتراب .وفي لدن هاته ُّ
السلطة التي تجعل الذوات دائما تحت وطأة
مطالب االستعجال تنهار استقاللية األفراد والشروط التي تضمن وجودهم؛
فالحداثة التي أسست ملفهوم فردية ذرية تمارس استقالليتها بفضل ما تتمتع به
ً
من حرية اختيار صارت نتيجة لفلسفتها عن الهيمنة واالستقاللية عائقا يقف
أمام تحقيق الذوات لعالقاتهم األصيلة بالعالم .تقود أشكال التسارع السلبية
كما تحدث عنها "روزا" إلى تشوه العالقة بين األنا والعالم ،فزيادة على فقدان
الذات وتآكل الهوية الثابتة ،يفقد االنسان الحداثي عالقته األصيلة بالعالم،
ومن ثم أضحى صمت العالم القائم على صمم العالقة أنا -عالم صورة من صور
أمراض الحداثة .يتقدم مشروع "هاتموت روزا" كسوسيولوجيا غرضها اختبار
العالقة بالعالم واالنفتاح على تحليل وصفي ونقدي قلق تجاه واقع املجتمعات
الحداثية الراهنة ،إذ تناقش جل كتاباته مفاهيم مستحدثة عمل على نحتها
واعطائها دالالت مفهومية عميقة تالمس أهم ظواهر املجتمعات الحداثية
724
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
املتأخرة مثل :التسارع واالغتراب والصدى وجعل العالم متاحا ،التي اعتبرها
مفاهيم مفتاحية لكل نقد للحداثة .وعليه نصوغ إشكالية هذا املقال على النحو
التالي :هل يمكن التأسيس لعالقة أصيلة بين األنا والعالم على مفهوم الصدى؟
بعد أن فقد االنسان الغربي الحديث عالقته بالعالم وتآكلت جراء ما يعايشه من
تسارع وتيرة الحياة االجتماعية؟
ثانةا .معضلة الحداثة املتأخرة وتآكل العالقة بالعالم:
عرض "هارتموت روزا " مشروعه عن نقد الحداثة املتأخرة في كتابه
"الصدى ،سوسيولوجيا العالقة بالعالم" " Résonance: une sociologie de la
،"relation au mondeويمثل الكتاب حوصلة لنظرية اجتماعية تستجمع
ً
قيمة ذات صلة باملجتمع والنظرية االجتماعية املعاصرة .وهو فضال مطارحات ِّ
عن ذلك ،محصلة ملسار نظري طويل ورحب فرض نفسه منذ نشره لكتابه
"التسارع" ""Accélérationسنة 2005بما هو نقد اجتماعي للزمن ،فأضحى ،بال
ً
مراء ،مدخال ضروريا لنظريته االجتماعية عرض في متنه تحليال للمجتمعات
املعاصرة وانتهى الى إعادة تصنيفها داخل زمن الحداثة الطويل .تتجاوز نظريته
الجديدة عن الحداثة كل املفاهيم التقليدية التي انبنت عليها :فهي ليست
ً
مشروعا عقالنيا كما دعا اليه "ماكس فيبر" "1920 -1864( "Max Weberم) أو
"الفردية" عند "جورج زيمل" "1918 -1858( "Georg Simmelم) ،أو "التفاضل
الوظيفي" "اميل دوركايم" "1917 -1858( "Émile Durkheimم) فحسب ،ولكنها
عبارة عن مشروع مستحدث يتميز بطرحه ملفهوم جديد هو "التسارع" الذي يؤثر
في عمق البنى االجتماعية بالقدر نفسه الذي يؤثر في الذوات االجتماعية.
استلهم "هارتموت روزا" مشروعه النقدي من مالحظته لوجود "عدم
تزامن" أو "توتر زمني" " "Désynchronisationداخل سيرورات املجتمعات
ً
وانطالقا منها َّ
طور منظورية جديدة بصياغة مشروع طموح الحداثية املتأخرة،
عن سوسيولوجيا وصفية معيارية غرضها توصيف صور االغتراب واألمراض
725
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
726
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
يرجع إليه باستمرار وفي مواضع عديدة .لقد أفاد "هارتموت روزا" كثيرا من
فلسفة "تشارلزز تايلور" األخالقية والسياسية ،على نحو ال نجانب الصواب إذا
َّ
ما قلنا إن مشروعه عن سوسيولوجيا العالقة بالعالم ما هو إال تطوير ملشروع
ً
"تايلور" واستثمار له .ويعود اهتمامه به إلى مرحلة مبكرة من فكره ،وتحديدا في
أطروحة الدكتوراه التي أنجزها ونشرت سنة 1998حول الفلسفة السياسية
ً
واالخالقي ة . 2كانت آنذاك أعمال "تايلور" موضوعا لنقاش حي في الفلسفة
ً
األخالقية والسياسية ،وتحديدا في أعقاب نشره لكتاباته املتمركزة حول
الليبيرالية الحديثة .لقد تأثر "هارتموت روزا "في أعماله بهذه الفلسفةالفلسفة ِّ
إلى درجة أن الوقوف على هاته املنظورية ضروري لفهم رهانات عمله
السوسيولوجي .وسنحاول فيما يلي عرض املحاور الكبرى لهذه الفلسفة بغرض
تنضيد مناحي االستثمار بينهما.
ط َّور "تشارلزز تايلور" مقاربة فلسفية متمركزة حول العالقة بالعالم في
مقابل األطروحات الليبيرالية القائمة على تصورها لفردية (ذاتية) تمارس
ً ُ
توسال في تطويرها بفكرةاستقالليتها بفضل ما تتمتع به من حرية اختيار ،م ِّ
"موريس ميرلوبانتي" "1961 -1908( " Maurice Merleau-Pontyم) التي
بموجبها يشكل "جسد العالم" أساس كل معرفة ،فالتفكير في العالم هو أن نخبره
َّأوال .إ َّن العالم برأي "ميرلوبانتي" ليس ما أفكر فيه ولكن ما أعايشه" ،لذا نظر إلى
الخبرة بالعالم على َّأنها تجربة أولية وهي التي تمنح الكائنات صفتها ككائنات في
ً
العالم .يحذو "تايلور" حذو "ميرلوبانتي" مستعيرا مشروعه الفينوميتولوجي
ُ
كو ُنها
بغرض العودة إلى العالم ،أو التأسيس لعالقة بالعالم تسبق كل معرفة ن ِّ
ً
عنه؛ كل إدراك للذات يرجع الى إدراك العالم والتفكير فيه عوضا من االنغالق
ً
خالفا َّ ً
للنظريات الليبرالية التي تجعل من على وعي تأملي معطى مسبقا ،كل ذلك
ً الفرد َّ
الحر املتشكل مسبقا نقطة انطالق .بالنسبة لـ"تايلور" ليست الذات
املستقلة معطاة مسبقا إ َّنها امكانية َّ
تتكون في عالقتها بالعالم ،واذاك فهو يقلب
727
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
ً
منظورية الفلسفة الليبيرالية الفردانية رأسا على عقب :فالعالقة بالعالم هي
املعطى األولي ال استقاللية الذات ،وفي لدنها ،أي العالقة بالعالم تتشكل
استقاللية الذات وحرية االختيار .3يتأثل نقد "تايلور" لنظرية استقاللية الفرد
ً
على الحجة التي بموجبها ال تصير الذات موضوعا للتفكير إال بفضل تأويلية
ً ً
الذات التي تستهدف -من خالل فاعلية الفهم الذاتي التي تفتح أفقا للمعنى -شيئا
آخر غير الذات متجذر في العالقة األصلية بالعالم .إذ ينكشف ما ستصير عليه
الذات ،أي هويتها ،في هذا التأويل الذاتي .واملحصلة ال يعود التفكير في الهوية
َّ ً ً
تأمال ذاتيا ولكن كنموذج للعالقة بالعالم يتشكل في النشاط التأويلي الذاتي،
والذي تصدر عنه الرغبات والقيم واملعتقدات املميزة لألفراد بفضل طريقتهم في
االرتباط بالعالم .فما يشكل هوية الذات هي الطريقة التي تجعلها قادرة على أن
ً ً َّ ً
تتقبل –أو ترفض -أشياء العالم؛ إذ تلعب الذات األخالقية دورا خالقا ونقديا
ُّ َّ ً
ذاتيا في عملية تشكيل الهوية .4والشاهد على ذلك؛ نلفي بعض النماذج في تشكل
ً
الهوية على أ َّنها أكثر نجاحا من غيرها حينما تجيب -حسب "تشارلزز تايلور" -عن
تطلعات ورغبات تتكشف بصورة بعدية في حركة التأويل ،ومن ثم فهو ينفي عنها
ً
أي محتوى أو مضمون موجود قبال داخل الحركة التأويلية ذاتها.
ً
يقترح "تشارلز تايلور" تبعا لذلك أخالقا جديدة متجذرة في تجربة معنى
العالم ،يطلق عليها اسم "أخالق األصالة" "ُ "Ethique de l’authenticitéلي ِّميز بها
ُّ
تشكل الهويات األصيلة كمحصلة للعالقة بالعالم عن الهويات غير األصيلة أو
ً املُ ْست ِّلب ُة ،وهي أخالق نت َّ
عرف في داخلها على األشكال األكثر تحققا عن العالقة
بالعالم ،والتي تشكل في النهاية هوية الفرد أو الذات ،5ولئن كانت بعض العالقات
بالعالم أكثر نجاح من أخرى فألنها -حسب "تايلور" -أكثر احترام للذات والعالم
وحقائقه األخالقية ،ومن املحتمل أن بعض الهويات قد تشكلت وفقا لنموذج
تكوين -إن جاز لنا القول" -فاسد" " "Erronéesوأشكال تعبيرية غير اجتماعية.
728
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
ً
لذا فإن هذه الهويات املستلبة وغير األصيلة التي ينبغي أن َّنتخذها موضوعا
للنقد بسبب عدم قدرتها على التعبير وتحقيق قدرات الذوات على واقع األرض.
َّ ً
هنا تحديدا تتجلى فكرة مركزية في فلسفة "تشارلز تايلور" أفاد منها
تحوالت البنى الزمانية في الحداثة. "هارتموت روزا" ووظفها في أعماله حول ُّ
استخلص "تشارلز تايلور" من توصيفه السابق ما َّ
تتميز به الحداثة في نظرتها إلى
مفهوم الهوية .تقوم الحداثة في نظر "تايلور" على إلزام أخالقي مقتضاه البحث
داخل األنا أو الذات عن الدالالت األخالقية للهوية الذاتية ومعرفة إذا ما كانت
مصادرها تتواءم مع وعي كلي جوهري وأساس ي بالنسبة إلينا كذوات أخالقية.
ً ُ
وهنا مكمن املفارقة؛ تخفي الحداثة في داخلها عائقا مقتضاه :ال يمكن للذوات
الحداثية في لدن عالم مهيمن من طرف العقالنية األداتية ومن قبل نزعة ذرية
فردية وعقالنية مجردة ،تكوين أفق من الداللة وإعادة إنتاج مبادئ أخالقية.
ومبرر هذا املعتقد؛ لم تشهد الحداثة ظهور أخالق األصالة في الوقت نفسه مع
أشكال سياسية رافضة للتراتبيات القديمة (ظهور املشروع الديموقراطي)
ً ً
فحسب :بل كانت أيضا موطنا للنزعة الفردية املغالية التي انبثقت منذ القرن
ً ً
السابع عشر من لدن اقتصاد يمنح للمؤسسة والسوق دورا مركزيا .واملحصلة
يمتزج البحث عن االصالة –وهذه هي املفارقة -مع سيطرة العقالنية األداتية
والنظام االقتصادي الرأسمالي الذي يشجع النزعة الفردية ،والتي تم التفكير فيها
خارج كل تكوين جسدي وكل موقف حواري وعاطفي وأشكال الحياة التقليدية.6
ً َّ ً ُ ُ
ال يمنح الفرد الحداثي املستقل للعالقات التي تك ِّون ُه كـ"ذات" إال دورا أداتيا وهذا
ما يقود في النهاية الى تشكيل ذات متجاهلة ملتطلبات العالم لحساب حياة
متمركز حول الفرد .تقوم العالقة األداتية على فكرة أنه من املمكن ضمان املرء
بذاته لظهوره الخاص ،أن "يختار ذاته دون معرفة أو االعتراف بأفاق أخرى من
ً
املعنى عدا حرية االختيار .7وعليه يذهب "تايلور" أبعد من ذلك جازما بأن النزعة
الفردية الذرية واألداتية ال تروم تهديم فكرة األصالة فحسب ،بل غرضها هو
729
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
730
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
731
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
تجدهم يشتكون دوما وفي كل حين من هذه السرعة الفائقة التي لم تعد تسمح
لهم بإشباع وتيرة حياتهم االجتماعية".12
ما ُيميز املجتمعات الحديثة هو تسارع ايقاع الحياة وهو يرجع إلى تزايد
هائل في معدل التسارع التقني بينما يتقلص الزمن في الوقت نفسه .إذ تعايش
أغلبية الذوات في الحداثة املتأخرة تجربة االفتقار إلى الزمان وما يترتب عنه من
قلق ،وهذه املظاهر يعتبرها "هارتموت روزا" كأشكال سلبية من التسارع، 13
ترتبط بذاتية تتشكل داخل السيولة كما أشار إلى ذلك "سيجموند باومان"
ً
"2017 -1925( "Zygmunt Baumanم) بحيث تخضع الذوات دائما ملتطلبات
االستعجال ،وتحت هاته السلطة تنهار استقاللية األفراد والشروط التي تضمن
وجودها.
ُيرجع "هارتموت روزا" هذه األشكال السلبية من التسارع إلى عدم التزامن
الراهنة ،ويمكن مالحظة ظاهرة عدم التزامن بوضوح في مجال داخل املجتمعات َّ
ً
السياسة والفضاء التقنو -اقتصادي .دأبنا على اعتبار السياسة إطارا يوازن بين
ً
الصلة باالقتصاد والتكنولوجيا والعلم انطالقا من فرضية مؤداها القرارات ذات ِّ
أن ثمة تزامن ممكن بين اتخاذ القرار السياس ي والتطور االجتماعي ،لكنها ،أي
َّ
السياسة ،قلما تبلغ هذا الوصل الفاعل بين السيرورات التكنولوجية املتسارعة؛
ً
قياسا إليها ،ومبرر هذا َّ ً
التوتر هو كون املمارسة فهي تبقى دائما متأخرة
الديموقراطية تستغرق وقتا لتنظيم الجمهور والتعرف على الجماعات
ُ
كونها ،ثم تستغرق بعد ذلك وقتا أطول لصياغة الحجج االجتماعية التي ت ِّ
واختبارها من أجل بلوغ التوافق قبل اتخاذ القرار التداولي .14إن الوتيرة البطيئة
التخاذ القرار السياس ي الديموقراطي القائم على اإلرادة الجماعية يغذي فكرة
أن السياسة تعوق العمل االجتماعي واالقتصادي والتقني املتسارع ،الى درجة أننا
انتقلنا -في بداية الحداثة -من صورة سياسة مقرونة بالحركية االجتماعية الى
تصور للسياسة كعامل يمنع من التسارع املنبثق في فضاء الحداثة املتأخرة،
732
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
ً َّ
واملحصلة إذا كان عدم التزامن بين السياسة والتطور االجتماعي ليس إال مظهرا
ً
واحدا من َّ
التجليات العديدة للحداثة املتأخرة ،فهو أيضا واحد من أعراض
ُ
التسارع املرضية في املجتمعات الحداثية املتقدمة .لقد أدرك "هارتمود روزا" إلى
أي درجة تعجز الذوات املنخرطة في لدن الحداثة املتأخرة املفرطة في التسارع
عن" :إعادة التوافق وتقويم األفاق الزمنية املختلفة لحياتهم :النماذج والبنى
واألفاق واملنظوريات التي تطبع أفعالنا اليومية ،إذ تنفصل أكثر فأكثر عن
التوقعات واألفاق التي نطورها من أجل حياتنا".15
وهذه هي صورة االغتراب الذي يعاني منه االنسان في الحداثة الغربية
املتأخرة ،فصور التسارع كما تحدث عنها "هارتموت روزا" تؤدي إلى تشوه العالقة
بين األنا والعالم ،فزيادة على فقدان الذات وتآكل الهوية الثابتة ،يعتبر هذا
َّ
التشوه كشكل من أشكال االغتراب ، 16وعليه يرتبط التحليل النقدي للتسارع
بمفهوم "االغتراب" الذي أعطاه "روزا" دالالت وأبعاد جديدة من خالل وصله –
كما أملحنا أعاله -بأطروحة االستقاللية في الحداثة :إن االغتراب هو فقدان
ً
للذات ملا تتميز به األخيرة من قدرة على التحديد الذاتي ،ويصير االغتراب فاعال
حينما تدفع بنى املجتمع املعاصر الزمانية بالذوات إلى السير في مجرى أفعال لم
يختاروها حينما شرعوا في الفعل ضمن زمن مهيمن .17لقد أدرك "هارتموت روزا"
محدودية مفهوم االغتراب املتأثل على الهيمنة واالستقاللية ،لذلك عمل على
صياغة مفهوم جديد يتجاوز التصور القديم الضيق املحصور في هاذين
البعدين .لهذا السبب لجأ الى صياغة تعريف لالغتراب أعطاه أبعاد مختلفة
يجسد جميع عناصر العالم املختلفة (املكان ،الش يء ،الفعل ،الزمانية،
العالقات) ويتيح فحص أثاره تحت هيمنة مفهوم السرعة .يتجلى في ضوء هذا
املفهوم املوسع عن االغتراب الجانب السلبي للتسارع ليس فقط ألنه يحرم االفراد
من قدرتهم على االختيار (االستقاللية) ولكن أيضا ألنه عائق يقف أمام تحقيقهم
لعالقاتهم األصيلة بالعالم ،ملا يجعلهم غير قادرين على فهم هذا األخير .وبما أن
733
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
إدراك األشياء والخبرات بالعالم يتطلب االنتباه واالهتمام وفترة من الزمن ،فإن
ً
بنى الزمان ال يمكن أن تتسارع إلى األبد وال يمكن تحمل دائما عواقبه .إن الثمن
الذي ندفعه مقابل هذا اإليقاع أو الوتيرة العالية هو فقدان العالم :ال يرجع
االغتراب الذي يخلفه التسارع الى كينونتنا الداخلية الثابتة غير القابلة للتغير
ولكن يرجع إلى قدرتنا على امتالك العالم .لقد أضحى العالم بالنسبة لألفراد في
ً ً ً
الحداثة املتأخرة صامتا وباردا وكئيبا وغير مرغوب .واذاك أصبح صمت العالم
ً
القائم على صمم العالقة أنا -عالم سببا لعوامل قلق عظيم ودائم في كل
تشخيص لألمراض التي نجدها في التحليالت االجتماعية النقدية للحداثة.18
رابعا ـ الصدى والتأسيس لعالقة أصةلة بالعالم
ً
يقترح "هارتموت روزا" مفهوما مقابال لالغتراب وهو "الصدى" ،مفهوم
َّ
يسمح بوضع أطر جديدة لعالقة ناجحة بالعالم .وال يسعنا فهمها إال من خالل
كل آثارها حينما نعيد موضعتها في إطار الفلسفة األخالقية والسياسية لـ"تشارلز
تايلور" كما تتجلى على خلفية النظرية االجتماعية لـ"هاتموت روزا" .يثير
"هارتموت روزا" في هذا املعنى امكانية "إعادة ادماج مفهوم االغتراب داخل
النظرية النقدية املعاصرة" بفضل نقد "البنى الزمانية للمجتمع" ،أين تشير
النتائج االستيالبية ،وهذه عبارته" :إلى طريق واعدة أكثر لإلمكانيات املستقبلية
للنظرية النقدية " . 19لذلك ال يسعنا الوقوف على الداللة الحقيقة ملفهوم
الصدى اال إذا انطلقنا من توصيف "تشارلز تايلور" لها ،والتي وظفها "روزا "بوعي
وامتياز في مشروعه.
ً
لقد أقام "تشارلز تايلور" قسما من فلسفته األخالقية على مفهوم
"الصدى" ،أين كشف عن اضطرابات الحداثة عبر االستعانة بفكرة االمراض
ً
التي تتمظهر في األداتية وفقدان املعنى والتشظي االجتماعي .وتصور عالجا لهاته
االضطرابات صاغه ضمن مشروعه املتمركز حول نظريته األخالقية والسياسة.
إن "سياسته عن االعتراف" املتمركزة حول االحترام والتعدد هي واحدة من
734
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
735
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
ً
– َّأوال وقبل كل ش يء -في مالحظة نشاط فرد ما وسلوكياته ،وفي أعقاب هذه
ً ً ً ً
الخبرة من املمكن أن نمنح للذات ،التي صارت فنانا أو حرفيا أو رياضيا أو قاضيا،
دوافع تسمح لها باالختيار من بين نشاطات ممكنة متعددة .يتم هذا االختيار
ُّ
بداية ،بفضل أسبقية االلتزام ،بطريقة عملية ودون تفكر أو دون تدخل للفعل
ً َّ
اإلرادي .فال تتشكل األسباب الواضحة لتبرير االختيار إال بطريقة بعدية انطالقا
من خبرة معيشة بالصدى الشخص ي . 23تكشف االستجابة العاطفية هذه
األفعال الخيرة وتطلع عليها الذوات امللتزمة وتقدم لها أسبابا وبواعث لتمييز هذه
األفعال الخيرة عن غيرها .إن الصدى عند "تايلور" هو التصور الذي يسمح
بتحديد معايير الحياة الخيرة بأن يخدم كمرجع عملي لفلسفة أخالقية وسياسية
تستخدم لتقديم وسائل تتجاوز أمراض الحداثة.
يتوسل "هارتموت روزا" بمفهوم "الصدى الشخص ي" كمفهوم معياري
يسمح بتحديد املالمح العملية لحياة خيرة .وقد أشار في نهاية كتابه "االغتراب
والتسارع" سنة 2012إلى أن الحداثة املتأخرة أفرزت مأساة صدى في العالم،
والتي ال يسعنا الكشف عنها إال بفضل فكرة "حياة خيرة" غنية بتجارب صدى
متعددة األبعاد :حياة تدخل في تردد مع محاور الصدى املتنوعة.24
على نفس خطى "تايلور" ف ِّهم "هاتموت روزا" الصدى بداية بمعنى
االنفعالية؛ أن تكون الذوات متأثرة ومحركة أو مساءلة من طرف ش يء ذي داللة
خاصة بالنسبة إليهم .فهل من املمكن االنخراط في فعل صدى مع جزء من العالم
إذا كان األخير يتموقع على مسافة بعيدة نتيجة سلوك دفاعي أو سلوك عدواني
غرضه السيطرة على العالم .يتطلب االنخراط في الصدى القدرة على أن نكون
متأثرين بالعالم إلى درجة االندماج الكلي مع ما يحدث فيه .إن هذا التأثر ال يعني
غياب الفعل ألنه في الجهة املقابلة أيضا يكمن الصدى ،أعني القدرة على اإلجابة
أو االستجابة بطريقة فاعلة إلى هاته املطالب ،االستجابة إلى باعث أو دافع
ومواجهة ما َّأثر فينا .25يتجلى الصدى كرابطة بين الذوات في تبادل َّ
النظرات أو
736
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
ً
في الحوار أين يتكشف االنصات والجواب؛ ونلفيه ،فضال عن ذلك ،في عالقة
األفراد بالطبيعة حينما يتفاعلون بينهم وبين عناصر طبيعية (السباحة
والبستنة) أو مع أشياء بغرض القيام بنشاط على نحو جيد ،مثل أداء معزوفة
موسيقية عبر االستعانة بأداة .وبعبارة أخرى؛ ال تنفصل تجربة الصدى بالنسبة
التحول التي يحاكي من خاللها األفراد بعض األجزاءلـ"ها تموت رومزا" عن عملية َّ
ر
من العالم ،فاملحاكاة هي ثمرة لتحول أضحى ممكننا بفضل العملية الحوارية
ً
للصدى .في املقابل -وخالفا للمحاكاة الحوارية -نلفي أن التملك هو األداتية وهو
توجه أحادي الجانب محروم من التأثر واالجابة ،يختزل في النهاية إلى عالقة
متأثلة على غياب العالقة .فالتملك واملحاكاة هما اذن نموذجان متعارضان من
العالقة بالعالم ،ولكن وحدها املحاكاة التي تعبر عن "الصدى".
يظهر مفهوم الصدى ،إذن ،كنقطة مرجعية نقدية لسوسيولوجيا تتخذ
كموضوع لها اختبار العالقات بالعالم .عمل "هارتموت روزا" -وهو في هذا ال يزال
وفيا لروح النظرية النقدية لفرانكفورت -على ايجاد وسائل اختبار هذه
العالقات بطريقة اجتماعية ،بتقديمه ملفاتيح عن علم اجتماع لهذه العالقات
دون التخلي عن تقييم ونقد بعض األشكال املنخرطة في العالقات بالعالم .يسمح
تمييزه بين مختلف مجالت "الصدى" بالتمييز على املستوى االجتماعي بين أنماط
"الصدى" املختلفة بفضل أسيقة النشاطات الخاصة (العائلة العمل الرياضة
الطبيعة الخ) .وبعبارة أخرى؛ يسمح التمييز الذي أقامه بين محاور الصدى
األفقية والعمودية والقطرية بدراسة الطريقة التي يترجم بها املفهوم العام
للصدى بفضل العالقة مع الخرين واألشياء ومع املتعالي .ومنذ ذلك الوقت ،اتخذ
ً
مفهوم الصدى الذي نحته "تايلور" على املستوى الفلسفي بعدا اجتماعيا أكثر
عينية بفضل الجهد التصوري الكبير الذي بدله "هارتموت روزا" .26
ً
تتيح سوسيولوجيا العالقة بالعالم التي طورها "هارتموت روز" متوسال
بمفهوم الصدى إمكانية إعادة تحديد مجال علم االجتماع النقدي في املجتمعات
737
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
املعاصرة .بيد أنه ال يروم التحقق مما هو مختلف والكشف عن شذرات العالم
الناتجة عن الهيمنة بقدر ما يهدف إلى امتالك وسائل تقييم هاته املجتمعات في
ضوء معيار محايث غير تحكيمي متجذر داخل تصور عملي عن الحياة الخيرة.
إذا كان الصدى يجسد هذه الحياة الخيرة املتجذرة في املمارسات الفعلية ،فهو
يسمح بالتحقق على نحو فعال من األنماط الواقعية لالغتراب داخل املجتمعات
الحالية عبر التعرف على األمراض التي تخترقها .يظهر الصدى اذن كقطب مضاد
لالغتراب أي العالقة داخل غياب العالقة ،أين تكون نتائجه على تشكيل هوية
األفراد االجتماعيين وخيمة .ال يسمح توضيح هاته األقطاب املتعارضة بإعادة
تعريف مصطلح االغتراب في عالقته بالصدى فقط ،ولكن أيضا التفكير -على
ً
املستوى االجتماعي -في حقيقة االغتراب المتالك الوسائل التي تجعل منه نقدا
ً
قادرا على فتح أفاق من أجل تجاوزه .وفي كتابه "جعل العالم غير متاحا"
" "Rendre le monde indisponibleنحت "هارتموت روزا" مصطلحات جديدة
تتجلى على خلفية هذا القطب صدى ضد اغتراب الذي طوره في كتابه "
الصدى" . 27وأكد على أن ما يميز الصدى كونه غير متاح ""l’indisponibilité
" "Unverfügbarkeitويتموضع في هذا اإلطار في تضاد مع االتاحة األداتية للعالم.
نتبين من خالل هذه الفكرة التي بموجبها يكون الصدى غير متاح ،عدم وجود
ً
سبيل معد مسبقا يقود الى الصدى وال منهجا رسمت معامله قبال يجعل مثل هاته
التجربة ممكنة .وبعبارة "روزا" ال يترك الصدى نفسه بما يتسم به من طابع عدم
االتاحة ليتراكم أو يتم تخزينه وال أن ينمو بطريقة أداتيه .28فالصدى يتمرد على
منطق االعالء والتحسين والتطوير االجتماعي املسيطر في املجتمعات الحديثة؛
ويتجلى هكذا كمفهوم في توتر مع املنطق األداتي املهيمن في الحداثة ،والذي يروم
اختزال العالم فيما هو قابل للحساب والسيطرة واملتوقع ،ومن ثم إلى كل ما هو
متاح.
738
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
أفاد "هارتموت روزا" في نقد الحداثة من نقد "تشارلزز تايلور" لها املتمحور
حول هيمنة النزعة األداتية املسبقة ،بيد أنه اقترح قراءة نقدية جديدة ،بتوسيع
تطبيق مشروع "تايلور" النقدي على تحول البنى الزمانية والتي يستخلص منها
ً
تصورا للحداثة بما هي تكوين سوسيو -ثقافي قائم على مبدأ استقرار النمو
االقتصادي والتسارع التقني والتجديد الثقافي .ال يمكن للمجتمعات الحديثة أن
َّ
تستقر إال وفقا لنموذج التنامي ، l’accroissementألنها مجبرة على أن تجعل
ً
العالم متاح دائما عندما تضعه تحت تصرفها من خالل التقنية واالقتصاد
والسياسة .29بيد أن هذه العالقة القلقة والعنيفة بالعالم أضحت تحت تأثير من
التكوين السوسيو-ثقافي الحديث -الذي استغرق ظهوره ثالثة قرون -،عالقة
طبيعية حينما ترسخ االعتقاد بأن جوهر املشروع الحداثي يكمن في جعل العالم
ً
متاحا عبر اخضاعه للسيطرة .فهل العالم بالنسبة للحداثة هو املجال الذي
تمارس فيه العنف؟ أعني املجال الذي نفهمه ونعرفه ونستغله من أجل تملكه
ً
والسيطرة عليه؟ هذه االستراتيجية التي تهدف إلى جعل العالم متاحا ،واملدفوعة
التعطش إلى مراكمة املصالح والتملك أكثر مما من طرف لعبة التنامي ،ال يثيرها َّ
يثيرها الخوف من الحصول على القليل ثم ما هو أقل .30وعليه يغرف الخوف من
عدم التملك من حاجة الحداثة إلى التوسع :هذه هي أطروحة "هارتموت روزا"
التي تفضح أالعيب الحداثة؛ فعوض أن تثمن الصدى في العالقات االجتماعية
كان غرضها التأسيس لكل ش يء من خالل السيطرة والهيمنة.
لعلنا ندرك الن أن غرض "هارتموت روزا" من نحته ملفهومه عن الصدى
هو التأسيس لعالقة أصيلة مع العالم ،وهذا ما يقودنا ضرورة إلى مناقشة وجه
آخر من سوسيولوجيا الصدى النقدية ،أعني توصيفه لنظريته عن الصدى ضد
كل صراع يحيل منذ الوهلة األولى الى النزعة األداتية .لم ير "روزا" في نظرية
ً
الصدى النقدية امتدادا أو استمرارية لنظرية "أكسيل هونيت" " Axel
1949( "Honnethم )... -عن الصراع من أجل االعتراف كما كانت األخيرة
739
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
740
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
ب خطوات صغيرة وهما ال ينقسمان إال تبعا لصدى ديناميكي؛ نحن نتعلم خالل
التمييز شيئا فشيئا ،على ضوء ش يء ما ،بيننا نحن كذوات ُمكتشفة نشأتنا َّ
والعالم كما نصادفه .34أما السبب الثاني الذي يجعلنا نرى استحالة الصراع من
أجل الصدى بالنسبة لـ"هارتموت روزا" هو أن توقع أو احتساب أثار الصدى
مسبقا هو أمر مستحيل :هذا األخير يبقى غير متاح بالنسبة لكل فعل استراتيجي؛
ً
فالصدى ليس أمرا ُيخطط له من قبل أو يفهم أو يستثمر من قبل عالم أداتي،
وكل املحاوالت التي تسعى لكي تشكل تجربة صدى تجانب هدفها وتترك األفراد في
النهاية باردين وغير مبالين .بهذا املعنى ،ال يتحقق الصراع الذي يهدف إلى تأسيس
لعالقة صدى وال يكتمل؛ ألن عملية "الصدى" ذاتها تفلت من كل سلوك فهم أو
سيطرة.
يمكننا أن نتساءل كنقد ملوقف "روزا" :ألم يتسرع في استبعاد وجهة نظر
ً
خصبة وخيطا رفيعا ُموجها رسم معامله "أكسيل هونيت" في كتابه "الصراع من
ً
أجل االعتراف" حينما اقترح إعادة بناء تقليد فكري جديد طور بموجبه تصورا
ً
غير أداتي عن الصراع خالفا للتقليد الذي أرساه كل من "نيكوال ميكافيلي"
"1527-1469( "Niccolò Machiavelliم) و"توماس هوبز" ""Thomas Hobbes
(1679-1588م) ؟ ،أعني استكناههما للصراع بمصطلحات املنافسة من أجل
حفظ الذات .ينخرط االعتراف عند "أكسيل هونيت" -بما هو تقدير متبادل -في
عالقات أخالقية تجمع بين الشركاء في العملية التفاعلية ،وهو طريقة لنسج
عالقات بين الفاعلين االجتماعيين بغرض التقليل من عدم االحترام والتقدير.35
بهذا املعنى ليس الصراع تنافسا يعكس نظرة أداتية غرضها البحث عن زيادة
املصالح الشخصية بل عامل اجتماعي مؤثر يدعم إمكانيات إقامة روابط يتسنى
لألفراد بموجبها من التفاعل والتقدير املتبادل .وهذا ما أشار إليه "زيمل " من
قبل :إن الصراع هو عامل اجتماعي ،إنه خالق للروابط وليس العكس .وعليه
ً
أضحى الصراع عامال يساعد على االدماج االجتماعي ال على تراكم االمتيازات
741
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
وزيادة املصالح الشخصية في تنافس ال نهائي .يسمح هذا التصور برؤية شكل
ً
آخر من الصراع ال يروم تحطيم الروابط ولكن تدعيمها ،تحديدا من خالل
القدرة على التأثير فيمن هم منخرطون في هذه الصراعات ،بأن يجعلهم
حساسين لهذا االنبثاق ويشجع استجاباتهم اإليجابية .من املفترض أن هيمنة
روابط االعتراف من خالل الصراع تجعل الذوات املعنية به متأثرة –ومن ثم
حساسة لهذه املتطلبات -وتدفعهم لالستجابة ،ومن ثم يتحولون داخل هذا
الصراع الديناميكي .بعبارة أخرى إن نجاح الصراع من أجل االعتراف باملعنى
الذي فهمه "أكسيل هونيت" يفترض الصدى؛ فال ش يء يمنع من التفكير في
مفهوم الصراع من أجل االعتراف كشرط للصدى ال كعامل مضر به.
صحيح أن نظرية االعتراف كما طورها "أكسيل هونيت" لم تحسن توظيف
العالم وانحصرت في العالقات البينذاتية والروابط املؤسساتية .وهذا التوجه
ً
املتجاهل للعالم كثيرا ما أشار اليه "هونيت" ذاته كواحد من نقائص هذه
النظرية .لقد كان "هارتموت روزا" محقا حينما أدمج داخل هذا النقاش عناصر
عن منعطف مادي كان قد تجاهله "أكسيل هونيت"؛ فال ش يء يمنع من ادراج
البعد املوضوعي في التصور البينذاتي واألخالقي لالعتراف كما طوره األخير .يسمح
مثال التأمل في الصراع من أجل التذاوت (الذي يتجاهل العالم) بتطوير مقاربة
قابلة ألن تكشف عن الصراع من أجل االعتراف في عالقات الذوات بالعالم ،عبر
اختبار الحواجز التي نصادفها ضمن هذه العالقة في صورة مقاومة أو
اضطرابات عملية .غالبا ما يصير العالم -تحت نموذج االضطراب -كموضوع
َّ
لالهتمام من طرف الذوات االجتماعية :عندما يتجلى العالم كاضطراب ويصير
مشكلة أمام قدرتهم على الفعل ،وبمصطلحات "هارتموت روزا" ذاته؛ حينما ال
ً
يعود العالم متاحا تجتمع كل الشروط لتد ُّخ ِّل الصراع الذي يهدف الى جعله
ً
متاحا ،ومن ثم البحث عن العالقات الحوارية الهادئة للذوات مع العالم .ال
يتعارض هذا التصور العالئقي عن الصراع –الال أداتي – مع النموذج الذي
742
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
استحدثته نظرية الصدى ،إنه على العكس يثريه عبر االستعانة بهذا البعد
الصراعي ال االستراتيجي .يسمح هذا التصور عن الصراع ،انطالقا من اضطرابات
العالم ،املتمركز حول الجهود التي تبدلها الذوات إليجاد صدى مع العالم
بالتفكير في العملية التي بموجبها يثير االضطراب -أي الصدى املكسور في العالم-
عملية بحث حساس ومعرفي متمحور حول املظاهر املوضوعية (العالم) ،تثير
مثل هاته املقاربة مشكلة أخرى أمام نظرية الصدى لـ"هارتموت روزا" تغرف عن
تصور متجذر في روح العالم ومتمحورة حول "الحس ي" "– "le sensibleومن ثم
حول الال معرفي .فعبر اإلحاطة بالعملية التي بموجبها تندفع الذوات إلى إيجاد
صدى مع العالم بفضل تأمل هادئ بعيد عن كل صراع خاضع للحسابات
واملقوالت األداتية ،تثار أسئلة مركزية متعلقة بنوع املعرفة التي ال تهدف إلى
ْ
السيطرة على العالم .يك ُم ُن التساؤل عن مثل هذه املعرفة التي ال تروم الهيمنة
على العالم ،والتي في ضوئها يتم التفكير في العالقة باألخرين والعالم ،في مركز
مشروع النظرية النقدية ذاتها واملعرفة الخاصة بها وهذا ما عكسته مشاريع
روادها" :ما كس هوركهايمر" و"اكسيل هونيت" مرورا بـ"ادورنو" و"ماركوز"
و"هابرماس".
وعليه ال ينبغي أن نحصر الصدى في نمط واحد هو "جسد العالم"
فحسب ،ألن الفاعلية التأملية ،زيادة على ذلك ،ذات صلة بالصدى .ثمة اختالف
بين وجهين ضروريين من الصدى ،األول يتعلق بالجانب الحس ي املتحقق أو
الجسدي كما أكد "هارتموت روزا" ،والوجه الثاني يحيل إلى "عقل متصادي"
ً
""Raison Résonanteمنخرط في عملية تأمل العالقة الكشفية للعالم .فعوضا
من استبعاد املعرفة كشكل من الال صدى استكنهت ههنا كوجه من وجوهه.36
يصير الصدى هكذا تفكيرا ،أو باألحرى فعل تفكير ،على نحو يسمح هذا التوسيع
النظري للصدى ليشمل املعرفة بإعادة احياء واحد من العناصر املفتاحية في
743
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
النظرية النقدية لفرانكفورت يتمثل في إقامة نقد للمعرفة التشييئية التي تحكم
العلوم ونموذجها املوضوعي.
يقوم هذا التصور "للعقل املتصادي" داخل املجال املعرفي على مفهوم
الصراع من أجل االعتراف الذي ناقشناه أعاله ،ألن البحث عن حدود العالم
ً
املتوتر يحمل معنى خاص يتطلب جهدا من طرف الذوات للدخول في صدى -من
خالل التفكير -مع العالم املضطرب .إن هذا الجهد ليس شيئا آخر عدا الصراع
من أجل الفهم الذي يروم البحث عن صدى مع العالم .ال يمت الصراع هنا بأية
صلة للتنافس األداتي الذي ُيخضع موضوعاته إلى عمليات حسابية بسيطة ،ألن
من ينخرطون في هذا الصراع ينبغي أن يكونوا متأثرين ومن ثم عليهم مضاعفة
للتحول عن الذات من أجل التفاعل مع العالم بطريقة مناسبة .بوسعنا الجهود َّ
ُ
أن نرى هنا جهد البحث التأملي بما هو صراع أين ت ْق ِّحم الذات كل كينونتها في
النزاع وتجعل نفسها في وضع تكون قابلة للتأثر واملساءلة؛ فغايتها هي تطوير
عالقة بالعالم خالية من االضطراب واالغتراب .يأخذ الصراع هكذا صورة صراع
العالقة من أجل العالقة ذاتها ال بتنافس نفعي بين ذوات ال يستهويهم سوى صقل
استراتيجياتهم بغرض الهيمنة أو تنمية مصادرهم وزيادة مصالحهم إلى أقص ى
حد .هذا هو الوجه الديناميكي للصراع 37الذي يتقدم خطوة خطوة عبر إعادة
بناء الصدى الذي يقود الى تصويب أنماط االدراك املسبقة ومقوالت الفهم
والتصورات للدخول في رابطة مع العالم.
من الراجح أن "هارتموت روزا" قد نأى في كتاباته األخيرة عن إدراك
"الصدى" كصراع حينما أكد على مسألة الحداثة بما هي مشروع "لجعل العالم
متاحا" ""mise à disposition du monde؛ ألن الحداثة في نظره ليست مجرد
ً
مشروع يروم تحقيق استقرار ديناميكي ملا هو غير مستقر ،ولكنها أيضا جهد
ً
تاريخي عنيد لجعل العالم متاحا" .38هذا الجهد سينتهي إلى اإلخفاق ألن إمكانات
ً
جعل العالم متاحا تخلق بشكل مفارق عدم إتاحة متنامية للعالم :بقدر ما نزداد
744
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
ً
إلحاحا في تتبع الصدى بقدر ما تتقلص فرص مصادفته ،كيف ذلك؟ في الواقع
يمكننا فهم هذه املفارقة بطريقتين مختلفتين :تعتبر األولى أن مقوالت إتاحة
العالم غير مالئمة لفهم العالم ،إذ ليس في وسعها سوى "االستحواذ عليه" ألنها
ً
تطبق عليه مقوالت من الخارج تمارس ضده توجها عنيفا .لذا فاملقوالت املعرفية
املستخدمة من طرف الذوات في إتاحة العالم هي التي نض ُعها أمام املساءلة ألنها
ً
تشتغل انطالقا من آلية سيطرة عنيفة ال من حوار العقل .أما الطريقة الثانية في
فهم هذه الظاهرة تعتبر أن العالم يقاوم هذه املقوالت ذاتها التي تجعله غير متاح
للذوات ،على األقل في جزء منه .يقاوم العالم -بأنماط وجوده الخاصة -الفكر وال
َّ
يقدم نفسه إال كأجزاء أو كشظايا ،ولئن كان يقاوم من خالل عدم اتاحته فهذا
يوحي بأنه غير قابل للقبض عليه بوصفه عاملا . 39كل محاولة لفهمه معرضة
للفشل ألن مشروع فهم العالم ذاته هو مجرد وهم؛ مرده الهوس املتزايد
بالهيمنة؛ والذي رأى النور مع املشروع الحداثي في القرن السابع عشر ،ثم عرف
تجلياته الكبرى فيما بعد من خالل تجسيده في مجاالت تميزت بهيمنة النزعة
األداتية (االقتصاد والعلم والتكنولوجيا) .واملحصلة ،يفسر "هارتموت روزا"
رغبة الحداثة في جعل العالم متاحا من أجل السيطرة عليه بردها في النهاية الى
"الخوف" من فقدانه 40؛ فالخوف من فقدان العالم هو الذي يغذي هذا الجهد
املتعاظم ،ولكنه يفتقر الى األمل في ايجاده عبر تبني نمط معرفي محكوم عليه
باإلخفاق .ان عدم قدرته على إيجاد رابط غير أداتي مع العالم يبقيه على مسافة
بعيدة عنه.
خامسا .الخاتمة:
رسم "هارتموت روزا" معالم مشروع جديد هو بمثابة منعطف جذري
نحت بموجبه مفاهيم مستجدة غيرت منحى النظرية النقدية ملدرسة
فرانكفورت ،فمفاهيم التسارع واالغتراب والصدى تؤسس لسوسيولوجيا نقدية
745
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
746
750-723 ص،)2023( 1 : العـــدد/ 14 المجلد مجـــــــلة دراســـــــــــات
: قائمة املصادرواملراجع.سادسا
: املصادرباللغة التفرنسةة.
- Hartmut Rosa, Accélération. Une critique sociale du temps, traduit de
l’allemand par Didier Renault, Editions La Découverte, Paris , 2010.
- Hartmut Rosa, Aliénation et accélération. Vers une théorie critique de la
modernité tardive, traduit de l’allemand par Thomas Chaumont, Editions La
Découverte, Paris, 2012.
- Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, traduit de l’allemand par Olivier
Mannoni, Editions La Découverte, Paris , 2020.
- Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde, traduit de
l’allemand par Sacha Zilberfarb, Editions La Découverte, Paris, 2018.
: املراجع باللغة العربةة.
املنظمة، ترجمة حيدر حاج اسماعيل، تكون الهوية الحديثة: منابع الذات، تشارلز تايلور-
.2014 ، الطبعة األولى، بيروت،العربية للترجمة
ترجمة، القواعد األخالقية للمآزم االجتماعية: الصراع من أجل االعتراف، أكسيل هونيت-
.2015 ، الطبعة األولى، بيروت، املكتبة الشرقية،جورج كتورة
: املراجع باللغة التفرنسةة.
- Charles Taylor, the ethics of authenticity, Harvard University Press,
Massachusetts, 2003.
:املقاالت
نحو نظرية نقدية جديدة للحداثة- التسارع واالغتراب: هارتموت روزا، كمال بومنير-
.2014 ،10 العدد،10 املجلد، مجلة دراسات فلسفية،املتأخرة
:مواقع االنترنيت
- Marc-Antoine Pencolé, Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation
au monde, http://journals.openedition.org/lectures/29658, 18 juin 2022,
747
هشام معافة.................................................هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة
: الهوامش.سابعا
1
- Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde, traduit de
l’allemand par Sacha Zilberfarb, Editions La Découverte, Paris, 2018, P 7.
الفلسفة السياسية عند تشارلز. "الهوية والبراكسيس الثقافي: عنوان الرسالة هو-2
."تايلور
748
المجلد / 14العـــدد ،)2023( 1 :ص 750-723 مجـــــــلة دراســـــــــــات
15
- Ibid, p 139.
-16كمال بومنير ،هارتموت روزا :التسارع واالغتراب-نحو نظرية نقدية جديدة للحداثة
املتأخرة ،ص .22-21
17- Hartmut Rosa, Accélération. Une critique sociale du temps, Op. Cit, p 98- 99.
18- Hartmut Rosa, Aliénation et accélération. Vers une théorie critique de la modernité tardive,
-21تشارلز تايلور ،منابع الذات :تكون الهوية الحديثة ،مرجع سابق ،ص .73
22
Charles Taylor, The ethics of authenticity, Op. Cit, p 90.
23
- Ibid, p 91.
24
- Hartmut Rosa, Accélération. Une critique sociale du temps, Op. Cit, p 14.
" - الصدى" عند هارتموت روزا هو عالقة معرفية وعاطفية وجسدية بالعالم أين تتأثر
الذات من جهة بجزء من العالم ،وتستجيب ،من جهة أخرى ،للعالم بالفعل عليه بشكل
عيني على نحو تحقق فعاليتها .يتميز الصدى بميزتين متكاملتين ،األولى :االنفتاح على العالم
وهي القدرة على استضافة العالم والتأثر به ،والثانية :القدرة على الفعل على العالم،
والتعرف على نشاطنا فيه .وخالفا لعالقة الصدى بالعالم يتحدث "روزا" عن عالقة صامتة
وباردة تختزل في بعدها األداتي ،وهي عالقة سلبية بالعالم ،فالصدى يترافق مع اإلحساس
بأننا محمولين ليس مقدوفا بنا في العالم ،ان نخبره كعالم متجاوب ومنفتح وجذاب ،ال
كعالم منفر وخطر.
-Ma rc-Antoine Pencolé, Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde,
http://journals.openedition.org/lectures/29658, 18 juin 2022, p 2.
25- Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, traduit de l’allemand par Olivier Mannoni,
749
هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة .................................................هشام معافة
750