Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 28

‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‬


‫‪Hartmout Roza and critique of late modernity‬‬
‫هشام معافة‪،‬‬
‫جامعة قسنطينة ‪ -2‬عبد الحميد مهري ‪،‬‬
‫‪hichem.maafa@univ-constantine2.dz‬‬
‫تاريخ القبول‪2023/04/08 :‬‬ ‫تاريخ االستالم‪2022/08/09 :‬‬

‫ملخص‪:‬‬
‫إن هدف "هارتموت روزا" من مشروعه هو نقد املجتمعات الحداثية املتأخرة‬
‫والتأسيس لعالقة أصيلة مع العالم بعد أن اهتلكت هذه العالقة وتآكلت نتيجة "للتسارع"‪،‬‬
‫فما يميز املجتمعات الحديثة هو تسارع ايقاع الحياة وهو يرجع الى تزايد هائل في معدل‬
‫التسارع التقني في الوقت الذي يتقلص فيه الزمن ‪ ،‬اذ تعيش أغلبية الذوات في الحداثة‬
‫املتأخرة تجربة االفتقار إلى الزمان وما يترتب عنه من قلق‪ ،‬وهذه املظاهر يعتبرها "هارتموت‬
‫روزا" كأشكال سلبية من التسارع‪ ،‬لذلك أسس لسوسيولوجيا معيارية غرضها الكشف عن‬
‫اشكال االغتراب واألمراض املتمخضة عن تحوالت الزمن داخل هذه املجتمعات‪ .‬بيد أن عالج‬
‫ما يخلفه التسارع من أمراض واغتراب ليس التباطؤ بل ينبغي التفكير فيما وراء مفهوم الزمن‬
‫بحثا عن إرساء عالقة أصيلة بالعالم‪ ،‬لذلك اقترح مفهوما جديدا هو "الصدى"‪ .‬فالصدى‬
‫بما هو عكس لعملية التسارع وعالج له‪ ،‬ال يعبر عن عالقة الذات بالزمن بل عالقتها بالعالم‪.‬‬
‫الكلمات املتفتايةة‪ :‬صدى‪ ،‬تسارع‪ ،‬حداثة متأخرة‪ ،‬العالم‪ ،‬اغتراب‪.‬‬
‫‪Summary :‬‬
‫‪The gool of "Hartmout Roza" in his project is to critique late modern‬‬
‫‪societies and establish an original relationship with the world after this‬‬
‫‪relationship has been destroyed and eroded as a result of acceleration,‬‬
‫‪what distinguishes modern societies is the acceleration of the rhythm of‬‬
‫‪life, And it is due to a huge increase in the rate of technical acceleration‬‬
‫‪a time when time is shrinking, as the majority of people in the late‬‬
‫‪modernity live the experience of contempt for time and the consequent‬‬
‫‪anxiety. These manifestations are regarded by "Hartmout Roza" as‬‬
‫‪negative forms of acceleration; therefore, he founded of sociological‬‬
‫‪normative its purpose revealing forms of alienation and diseases‬‬
‫‪generated of the transformations of time within these societies.‬‬

‫‪723‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫‪However, the therapy of post acceleration diseases and alienation is not‬‬


‫‪a slowdown deceleration, it should be thought beyond the concept of‬‬
‫‪time in search of establishing an authentic relation in the world, so he‬‬
‫‪proposed a new concept which is "the resonance". The resonance as a‬‬
‫‪contrast of acceleration process and its therapy does not express the‬‬
‫‪subject's relation to time; but rather his relationship to the world.‬‬
‫;‪Keywords: Resonance; Acceleration; Late Modernity; World‬‬
‫‪Alienation.‬‬
‫‪hichem.maafa@univ-constantine2.dz‬‬

‫أوال‪ .‬مقدمة‪:‬‬
‫"هارتموت روزا" "‪ )... -1965( "Hartmut Rosa‬أحد أهم ِّ‬
‫ممثلي الجيل‬
‫الرابع ملدرسة فرانكفورت النقدية‪ ،‬سار في الدرب نفسه الذي سلكه رواد‬ ‫َّ‬
‫املدرسة برسمه ملعالم مشرع جديد غرضه الكشف عن تناقضات الحداثة‬
‫الغربية املتأخرة‪ُ .‬يعايش االنسان الغربي في الحداثة املتأخرة تجربة االفتقار إلى‬
‫الزمان وما يترتب عنه من قلق نتيجة لظاهرة التسارع التي يعتبرها "روزا" صورة‬
‫ً‬ ‫جديدة من االغتراب‪ .‬وفي لدن هاته ُّ‬
‫السلطة التي تجعل الذوات دائما تحت وطأة‬
‫مطالب االستعجال تنهار استقاللية األفراد والشروط التي تضمن وجودهم؛‬
‫فالحداثة التي أسست ملفهوم فردية ذرية تمارس استقالليتها بفضل ما تتمتع به‬
‫ً‬
‫من حرية اختيار صارت نتيجة لفلسفتها عن الهيمنة واالستقاللية عائقا يقف‬
‫أمام تحقيق الذوات لعالقاتهم األصيلة بالعالم‪ .‬تقود أشكال التسارع السلبية‬
‫كما تحدث عنها "روزا" إلى تشوه العالقة بين األنا والعالم‪ ،‬فزيادة على فقدان‬
‫الذات وتآكل الهوية الثابتة‪ ،‬يفقد االنسان الحداثي عالقته األصيلة بالعالم‪،‬‬
‫ومن ثم أضحى صمت العالم القائم على صمم العالقة أنا‪ -‬عالم صورة من صور‬
‫أمراض الحداثة‪ .‬يتقدم مشروع "هاتموت روزا" كسوسيولوجيا غرضها اختبار‬
‫العالقة بالعالم واالنفتاح على تحليل وصفي ونقدي قلق تجاه واقع املجتمعات‬
‫الحداثية الراهنة‪ ،‬إذ تناقش جل كتاباته مفاهيم مستحدثة عمل على نحتها‬
‫واعطائها دالالت مفهومية عميقة تالمس أهم ظواهر املجتمعات الحداثية‬

‫‪724‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫املتأخرة مثل‪ :‬التسارع واالغتراب والصدى وجعل العالم متاحا‪ ،‬التي اعتبرها‬
‫مفاهيم مفتاحية لكل نقد للحداثة‪ .‬وعليه نصوغ إشكالية هذا املقال على النحو‬
‫التالي‪ :‬هل يمكن التأسيس لعالقة أصيلة بين األنا والعالم على مفهوم الصدى؟‬
‫بعد أن فقد االنسان الغربي الحديث عالقته بالعالم وتآكلت جراء ما يعايشه من‬
‫تسارع وتيرة الحياة االجتماعية؟‬
‫ثانةا‪ .‬معضلة الحداثة املتأخرة وتآكل العالقة بالعالم‪:‬‬
‫عرض "هارتموت روزا " مشروعه عن نقد الحداثة املتأخرة في كتابه‬
‫"الصدى‪ ،‬سوسيولوجيا العالقة بالعالم" " ‪Résonance: une sociologie de la‬‬
‫‪ ،"relation au monde‬ويمثل الكتاب حوصلة لنظرية اجتماعية تستجمع‬
‫ً‬
‫قيمة ذات صلة باملجتمع والنظرية االجتماعية املعاصرة‪ .‬وهو فضال‬ ‫مطارحات ِّ‬
‫عن ذلك‪ ،‬محصلة ملسار نظري طويل ورحب فرض نفسه منذ نشره لكتابه‬
‫"التسارع" "‪"Accélération‬سنة ‪ 2005‬بما هو نقد اجتماعي للزمن‪ ،‬فأضحى‪ ،‬بال‬
‫ً‬
‫مراء‪ ،‬مدخال ضروريا لنظريته االجتماعية عرض في متنه تحليال للمجتمعات‬
‫املعاصرة وانتهى الى إعادة تصنيفها داخل زمن الحداثة الطويل‪ .‬تتجاوز نظريته‬
‫الجديدة عن الحداثة كل املفاهيم التقليدية التي انبنت عليها‪ :‬فهي ليست‬
‫ً‬
‫مشروعا عقالنيا كما دعا اليه "ماكس فيبر" "‪1920 -1864( "Max Weber‬م) أو‬
‫"الفردية" عند "جورج زيمل" "‪1918 -1858( "Georg Simmel‬م)‪ ،‬أو "التفاضل‬
‫الوظيفي" "اميل دوركايم" "‪1917 -1858( "Émile Durkheim‬م) فحسب‪ ،‬ولكنها‬
‫عبارة عن مشروع مستحدث يتميز بطرحه ملفهوم جديد هو "التسارع" الذي يؤثر‬
‫في عمق البنى االجتماعية بالقدر نفسه الذي يؤثر في الذوات االجتماعية‪.‬‬
‫استلهم "هارتموت روزا" مشروعه النقدي من مالحظته لوجود "عدم‬
‫تزامن" أو "توتر زمني" "‪ "Désynchronisation‬داخل سيرورات املجتمعات‬
‫ً‬
‫وانطالقا منها َّ‬
‫طور منظورية جديدة بصياغة مشروع طموح‬ ‫الحداثية املتأخرة‪،‬‬
‫عن سوسيولوجيا وصفية معيارية غرضها توصيف صور االغتراب واألمراض‬

‫‪725‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫املتمخضة عن تحوالت الزمن داخل املجتمعات الحداثية املتأخرة‪ .‬وكتابه‬


‫التوجه‪ :‬فحتى نفهم املسار النقدي ملجتمعات الحداثة‬ ‫"الصدى" ال يحيد عن هذا َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫املتأخرة كمجتمعات خاضعة لسيرورة "التسارع" بحيث تخلف شكال جديدا من‬
‫االغتراب بقدر ما تحققه من تقدم‪ ،‬ينبغي البحث عن تصور جديد يسمح‬
‫بالتفكير في عكس عملية التسارع بجميع أشكاله‪ .‬بيد أن هذا املفهوم ليس هو‬
‫"التباطؤ" "‪ ،"Décélération‬علينا التفكير –برأيه‪ -‬فيما وراء البنى الزمنية بإعادة‬
‫إدماج سؤال "العالم"‪ .‬ويقترح كحل لعكس عملية التسارع مصطلح "الصدى" "‬
‫‪"Résonance‬؛ ويمكن أن نصوغ املعادلة بعبارة "هارتموت روزا" ذاته على النحو‬
‫التالي‪" :‬إذا كان التسارع هو املشكلة‪ ،‬فإن الصدى هو ربما الحل"‪ .1‬بيد أن مفهوم‬
‫"الصدى" كعكس لعملية "التسارع" ال يعبر عن عالقة الذات بالزمان ولكن عن‬
‫عالقتها بالعالم‪ ،‬فال مناص من إعادة التفكير في التسارع من زاوية "تآكل"‬
‫"‪ "Erosion‬العالقة بالعالم‪ ،‬وتجاوز وجهة النظر الوحدوية واالختزالية التي‬
‫تحصرها ضمن معيار فريد ووحيد هو الزمن‪ .‬يعد هذا املنعطف الذي سلكه‬
‫ً‬
‫"روزا" اعترافا بصعوبة تأسيس تصور عن "الحياة الخيرة" "‪ "vie bonne‬باعتماد‬
‫قاعدة فريدة وهي نقد البنى الزمانية للمجتمعات الحداثية املتأخرة‪ .‬يتخذ هذا‬
‫التحول اذن شكل سوسيولوجيا طموحة عن العالقة بالعالم ونظرية نقدية‬
‫متجذرة داخل رؤى عملية للحياة السعيدة‪ ،‬أو يتقدم مشروعه باألحرى‬
‫كسوسيولوجيا غرضها اختبار العالقة بالعالم واالنفتاح على تحليل وصفي‬
‫ونقدي قلق تجاه واقع املجتمعات الحداثية الراهنة‪.‬‬
‫التحول نحو سوسيولوجيا العالقة‬ ‫ال يسعنا الوقوف على داللة هذا َّ‬
‫طورها "روزا" في "الصدى"‪-‬إال إذا طرحناها في عالقتها بكتاباته األولى‬‫بالعالم ‪-‬كما َّ‬
‫بغرض معرفة موقعها ضمن مشروعه الذي يروم التنظير النقدي للحداثة األولى‪.‬‬
‫وحتى يتسنى لنا ذلك من الضروري العودة الى مشروع "تشارلز تايلور" " ‪Charles‬‬
‫كرس له "هارتموت روزا" أغلب أعماله األولى‪ ،‬والذي‬ ‫‪1931( "Taylor‬م‪ )... -‬الذي َّ‬

‫‪726‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫يرجع إليه باستمرار وفي مواضع عديدة‪ .‬لقد أفاد "هارتموت روزا" كثيرا من‬
‫فلسفة "تشارلزز تايلور" األخالقية والسياسية‪ ،‬على نحو ال نجانب الصواب إذا‬
‫َّ‬
‫ما قلنا إن مشروعه عن سوسيولوجيا العالقة بالعالم ما هو إال تطوير ملشروع‬
‫ً‬
‫"تايلور" واستثمار له‪ .‬ويعود اهتمامه به إلى مرحلة مبكرة من فكره‪ ،‬وتحديدا في‬
‫أطروحة الدكتوراه التي أنجزها ونشرت سنة ‪ 1998‬حول الفلسفة السياسية‬
‫ً‬
‫واالخالقي ة‪ . 2‬كانت آنذاك أعمال "تايلور" موضوعا لنقاش حي في الفلسفة‬
‫ً‬
‫األخالقية والسياسية‪ ،‬وتحديدا في أعقاب نشره لكتاباته املتمركزة حول‬
‫الليبيرالية الحديثة‪ .‬لقد تأثر "هارتموت روزا "في أعماله بهذه الفلسفة‬‫الفلسفة ِّ‬
‫إلى درجة أن الوقوف على هاته املنظورية ضروري لفهم رهانات عمله‬
‫السوسيولوجي‪ .‬وسنحاول فيما يلي عرض املحاور الكبرى لهذه الفلسفة بغرض‬
‫تنضيد مناحي االستثمار بينهما‪.‬‬
‫ط َّور "تشارلزز تايلور" مقاربة فلسفية متمركزة حول العالقة بالعالم في‬
‫مقابل األطروحات الليبيرالية القائمة على تصورها لفردية (ذاتية) تمارس‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫توسال في تطويرها بفكرة‬‫استقالليتها بفضل ما تتمتع به من حرية اختيار‪ ،‬م ِّ‬
‫"موريس ميرلوبانتي" "‪1961 -1908( " Maurice Merleau-Ponty‬م) التي‬
‫بموجبها يشكل "جسد العالم" أساس كل معرفة‪ ،‬فالتفكير في العالم هو أن نخبره‬
‫َّأوال‪ .‬إ َّن العالم برأي "ميرلوبانتي" ليس ما أفكر فيه ولكن ما أعايشه"‪ ،‬لذا نظر إلى‬
‫الخبرة بالعالم على َّأنها تجربة أولية وهي التي تمنح الكائنات صفتها ككائنات في‬
‫ً‬
‫العالم‪ .‬يحذو "تايلور" حذو "ميرلوبانتي" مستعيرا مشروعه الفينوميتولوجي‬
‫ُ‬
‫كو ُنها‬
‫بغرض العودة إلى العالم‪ ،‬أو التأسيس لعالقة بالعالم تسبق كل معرفة ن ِّ‬
‫ً‬
‫عنه؛ كل إدراك للذات يرجع الى إدراك العالم والتفكير فيه عوضا من االنغالق‬
‫ً‬
‫خالفا َّ‬ ‫ً‬
‫للنظريات الليبرالية التي تجعل من‬ ‫على وعي تأملي معطى مسبقا‪ ،‬كل ذلك‬
‫ً‬ ‫الفرد َّ‬
‫الحر املتشكل مسبقا نقطة انطالق‪ .‬بالنسبة لـ"تايلور" ليست الذات‬
‫املستقلة معطاة مسبقا إ َّنها امكانية َّ‬
‫تتكون في عالقتها بالعالم‪ ،‬واذاك فهو يقلب‬

‫‪727‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫ً‬
‫منظورية الفلسفة الليبيرالية الفردانية رأسا على عقب‪ :‬فالعالقة بالعالم هي‬
‫املعطى األولي ال استقاللية الذات‪ ،‬وفي لدنها‪ ،‬أي العالقة بالعالم تتشكل‬
‫استقاللية الذات وحرية االختيار ‪ .3‬يتأثل نقد "تايلور" لنظرية استقاللية الفرد‬
‫ً‬
‫على الحجة التي بموجبها ال تصير الذات موضوعا للتفكير إال بفضل تأويلية‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫الذات التي تستهدف ‪ -‬من خالل فاعلية الفهم الذاتي التي تفتح أفقا للمعنى ‪ -‬شيئا‬
‫آخر غير الذات متجذر في العالقة األصلية بالعالم‪ .‬إذ ينكشف ما ستصير عليه‬
‫الذات‪ ،‬أي هويتها‪ ،‬في هذا التأويل الذاتي‪ .‬واملحصلة ال يعود التفكير في الهوية‬
‫َّ‬ ‫ً ً‬
‫تأمال ذاتيا ولكن كنموذج للعالقة بالعالم يتشكل في النشاط التأويلي الذاتي‪،‬‬
‫والذي تصدر عنه الرغبات والقيم واملعتقدات املميزة لألفراد بفضل طريقتهم في‬
‫االرتباط بالعالم‪ .‬فما يشكل هوية الذات هي الطريقة التي تجعلها قادرة على أن‬
‫ً‬ ‫ً َّ ً‬
‫تتقبل –أو ترفض‪ -‬أشياء العالم؛ إذ تلعب الذات األخالقية دورا خالقا ونقديا‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ذاتيا في عملية تشكيل الهوية‪ .4‬والشاهد على ذلك؛ نلفي بعض النماذج في تشكل‬
‫ً‬
‫الهوية على أ َّنها أكثر نجاحا من غيرها حينما تجيب ‪-‬حسب "تشارلزز تايلور"‪ -‬عن‬
‫تطلعات ورغبات تتكشف بصورة بعدية في حركة التأويل‪ ،‬ومن ثم فهو ينفي عنها‬
‫ً‬
‫أي محتوى أو مضمون موجود قبال داخل الحركة التأويلية ذاتها‪.‬‬
‫ً‬
‫يقترح "تشارلز تايلور" تبعا لذلك أخالقا جديدة متجذرة في تجربة معنى‬
‫العالم‪ ،‬يطلق عليها اسم "أخالق األصالة" "‪ُ "Ethique de l’authenticité‬لي ِّميز بها‬
‫ُّ‬
‫تشكل الهويات األصيلة كمحصلة للعالقة بالعالم عن الهويات غير األصيلة أو‬
‫ً‬ ‫املُ ْست ِّلب ُة‪ ،‬وهي أخالق نت َّ‬
‫عرف في داخلها على األشكال األكثر تحققا عن العالقة‬
‫بالعالم‪ ،‬والتي تشكل في النهاية هوية الفرد أو الذات‪ ،5‬ولئن كانت بعض العالقات‬
‫بالعالم أكثر نجاح من أخرى فألنها ‪-‬حسب "تايلور" ‪ -‬أكثر احترام للذات والعالم‬
‫وحقائقه األخالقية‪ ،‬ومن املحتمل أن بعض الهويات قد تشكلت وفقا لنموذج‬
‫تكوين ‪-‬إن جاز لنا القول‪" -‬فاسد" "‪ "Erronées‬وأشكال تعبيرية غير اجتماعية‪.‬‬

‫‪728‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫ً‬
‫لذا فإن هذه الهويات املستلبة وغير األصيلة التي ينبغي أن َّنتخذها موضوعا‬
‫للنقد بسبب عدم قدرتها على التعبير وتحقيق قدرات الذوات على واقع األرض‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫هنا تحديدا تتجلى فكرة مركزية في فلسفة "تشارلز تايلور" أفاد منها‬
‫تحوالت البنى الزمانية في الحداثة‪.‬‬ ‫"هارتموت روزا" ووظفها في أعماله حول ُّ‬
‫استخلص "تشارلز تايلور" من توصيفه السابق ما َّ‬
‫تتميز به الحداثة في نظرتها إلى‬
‫مفهوم الهوية‪ .‬تقوم الحداثة في نظر "تايلور" على إلزام أخالقي مقتضاه البحث‬
‫داخل األنا أو الذات عن الدالالت األخالقية للهوية الذاتية ومعرفة إذا ما كانت‬
‫مصادرها تتواءم مع وعي كلي جوهري وأساس ي بالنسبة إلينا كذوات أخالقية‪.‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫وهنا مكمن املفارقة؛ تخفي الحداثة في داخلها عائقا مقتضاه‪ :‬ال يمكن للذوات‬
‫الحداثية في لدن عالم مهيمن من طرف العقالنية األداتية ومن قبل نزعة ذرية‬
‫فردية وعقالنية مجردة‪ ،‬تكوين أفق من الداللة وإعادة إنتاج مبادئ أخالقية‪.‬‬
‫ومبرر هذا املعتقد؛ لم تشهد الحداثة ظهور أخالق األصالة في الوقت نفسه مع‬
‫أشكال سياسية رافضة للتراتبيات القديمة (ظهور املشروع الديموقراطي)‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫فحسب‪ :‬بل كانت أيضا موطنا للنزعة الفردية املغالية التي انبثقت منذ القرن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫السابع عشر من لدن اقتصاد يمنح للمؤسسة والسوق دورا مركزيا‪ .‬واملحصلة‬
‫يمتزج البحث عن االصالة –وهذه هي املفارقة‪ -‬مع سيطرة العقالنية األداتية‬
‫والنظام االقتصادي الرأسمالي الذي يشجع النزعة الفردية‪ ،‬والتي تم التفكير فيها‬
‫خارج كل تكوين جسدي وكل موقف حواري وعاطفي وأشكال الحياة التقليدية‪.6‬‬
‫ً‬ ‫َّ ً‬ ‫ُ ُ‬
‫ال يمنح الفرد الحداثي املستقل للعالقات التي تك ِّون ُه كـ"ذات" إال دورا أداتيا وهذا‬
‫ما يقود في النهاية الى تشكيل ذات متجاهلة ملتطلبات العالم لحساب حياة‬
‫متمركز حول الفرد‪ .‬تقوم العالقة األداتية على فكرة أنه من املمكن ضمان املرء‬
‫بذاته لظهوره الخاص‪ ،‬أن "يختار ذاته دون معرفة أو االعتراف بأفاق أخرى من‬
‫ً‬
‫املعنى عدا حرية االختيار‪ .7‬وعليه يذهب "تايلور" أبعد من ذلك جازما بأن النزعة‬
‫الفردية الذرية واألداتية ال تروم تهديم فكرة األصالة فحسب‪ ،‬بل غرضها هو‬

‫‪729‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫التقسيم االجتماعي الذي يهدد كل مشروع مشترك أو املشروع الديموقراطي‪8‬؛‬


‫َّ‬
‫إنها تقود الى إضعاف ال َّروابط العاطفية وتدمر التشاركية السياسية بإفراغ‬
‫تتحول الطاقة السياسية ألفراد املجتمع إلى‬‫الديموقراطية من محتواها‪ .‬هكذا َّ‬
‫مصدر للقلق‪ ،‬ويصير من الصعب تعبئة األغلبية الديموقراطية حول السياسة‬
‫والبرامج املشتركة‪ .‬وغياب الذوات الحديثة عن املجتمع السياس ي يولد في النهاية‬
‫ً‬
‫إحساسا بالعجز واالغتراب يتناقض مع قيم املجتمع الديموقراطي الفاعل والحي‪.‬‬
‫ً‬
‫نلمس في تشخيص "تشارلز تايلور" ألمراض املجتمعات الحديثة نقدا في‬
‫ً‬
‫الوقت نفسه لصعوبات املجتمعات الحداثية املتأخرة التي تقف عائقا أمام‬
‫تحقيقها لفكرة األصالة التي أشرنا إليها أعاله‪ ،‬ومن ثم ال تهدف فلسفته األخالقية‬
‫ً‬
‫والسياسية إلى الكشف عن هذه األمراض فحسب‪ ،‬ولكن أيضا إيجاد عالجات‬
‫للنزعة األداتية املهيمنة عليها‪ .‬يقترح "تشارلز تايلور" كبديل عن هيمنة العقالنية‬
‫األداتية مستويين من االحترام؛ األول يطرحه على مستوى االعتراف ويعني به‬
‫احترام الخر‪ ،‬والثاني على املستوى الداللي‪ :‬ويعني به العالقة الداللية بين الذوات‬
‫والعالم‪ .‬يكمن عالج أمراض الحداثة ‪-‬وهذا "موقف تشارلز تايلور"‪ -‬في قدرة كل‬
‫فرد على بلوغ لغة صدى شخص ي داخل ثقافة تخضع للهيمنة األداتية‬
‫واالستقاللية الفردية‪.9‬‬

‫‪730‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫ثالثا‪ .‬التسارع واالغتراب وفقدان العالم‬


‫رأينا أعاله أن رؤية "هارتموت روزا" للحداثة تقوم في مجملها على فلسفة‬
‫"تايلور"‪ ،‬لقد اهتم في تشخيصه ألمراض الحداثة بالوقائع الهادمة لسيرورات‬
‫خصص دراسة‬ ‫الراهنة‪ .‬وفي هذا التوجه َّ‬
‫التسارع التقني والثقافي في املجتمعات َّ‬
‫ً‬
‫مبدء لها‪ .‬لقد‬ ‫نظرية متمركزة حول مسألة "التسارع" في الحداثة جعل منه‬
‫استكنه "هارتموت روزا" التسارع كتزايد كمي لوحدات الزمان (أو تقلص الزمن‬
‫بالنسبة ملعطى كمي ثابث)‪ ،10‬واعتبره ظاهرة معقدة قسمه إلى ثالثة أبعاد‪ ،‬انطلق‬
‫في البداية من "التسارع التقني" ‪ l’accélération technique‬الذي نلحظ تزايده‬
‫التواصل والتنقل واإلنتاج والتوزيع واستهالك السلع‪ .‬ومن‬ ‫أكثر فأكثر في مجال َّ‬
‫نتائجه هو التحول الجذري في النظام الزمكاني للمجتمع‪ :‬أعني إدراك الزمان‬
‫كزمان مضغوط ُي ِّقلص املكان بفضل سرعة وسائل النقل واالتصاالت ووسائل‬
‫ً‬
‫التواصل‪ .‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى‪ ،‬وخالفا للتسارع التقني‪ ،‬يحصل داخل‬
‫ً‬
‫املجتمع تسارعا في التغيير االجتماعي الذي يقود الى تسارع املجتمع ذاته‬
‫‪ 11 l’accélération de la société‬؛ ألن إيقاع التغييرات هو ذاته بصدد ُّ‬
‫التغير‪:‬‬
‫فالحاضر يتقلص وذلك داخل مجموعة من األبعاد‪ :‬سياسية ومهنية وعائلية‪.‬‬
‫وإلى هذا ينضاف في نظر "هارتموت روزا" "تسارع إيقاع الحياة" " ‪l’accélération‬‬
‫‪ "du rythme de vie‬الذي يتميز عن نمطي التسارع السابقين بما يتضمنه من‬
‫سرعة وتقلص لألفعال داخل النشاطات االعتيادية‪ ،‬بمعنى قدرتنا على أن ننجز‬
‫ً‬
‫الكثير من األشياء في وقت قصير‪ ،‬وهو يشير‪ ،‬فضال عن ذلك‪ ،‬إلى خبرة يعايشها‬
‫َّ‬
‫األفراد االجتماعيين ومقتضاها االفتقار الى الوقت واستنزاف الذات في اللهث‬
‫ً‬
‫دون توقف وراء الساعة‪ .‬يزداد شعورنا ‪-‬يوما بعد يوم‪ -‬بالحاجة إلى الزمن الذي‬
‫استحال إلى مادة استهالكية أضحت نادرة لذلك "يشعر الناس بالعجلة وكأنهم‬
‫واقعين تحت ضغط الزمن‪ ،‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬كأن لديهم ذلك الشعور أو االنطباع‬
‫بأن الوقت يمر بسرع ة فائقة عما كان عليه الحال في الزمن املاض ي‪ ،‬لذلك‬

‫‪731‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫تجدهم يشتكون دوما وفي كل حين من هذه السرعة الفائقة التي لم تعد تسمح‬
‫لهم بإشباع وتيرة حياتهم االجتماعية"‪.12‬‬
‫ما ُيميز املجتمعات الحديثة هو تسارع ايقاع الحياة وهو يرجع إلى تزايد‬
‫هائل في معدل التسارع التقني بينما يتقلص الزمن في الوقت نفسه‪ .‬إذ تعايش‬
‫أغلبية الذوات في الحداثة املتأخرة تجربة االفتقار إلى الزمان وما يترتب عنه من‬
‫قلق‪ ،‬وهذه املظاهر يعتبرها "هارتموت روزا" كأشكال سلبية من التسارع‪، 13‬‬
‫ترتبط بذاتية تتشكل داخل السيولة كما أشار إلى ذلك "سيجموند باومان"‬
‫ً‬
‫"‪2017 -1925( "Zygmunt Bauman‬م) بحيث تخضع الذوات دائما ملتطلبات‬
‫االستعجال‪ ،‬وتحت هاته السلطة تنهار استقاللية األفراد والشروط التي تضمن‬
‫وجودها‪.‬‬
‫ُيرجع "هارتموت روزا" هذه األشكال السلبية من التسارع إلى عدم التزامن‬
‫الراهنة‪ ،‬ويمكن مالحظة ظاهرة عدم التزامن بوضوح في مجال‬ ‫داخل املجتمعات َّ‬
‫ً‬
‫السياسة والفضاء التقنو‪ -‬اقتصادي‪ .‬دأبنا على اعتبار السياسة إطارا يوازن بين‬
‫ً‬
‫الصلة باالقتصاد والتكنولوجيا والعلم انطالقا من فرضية مؤداها‬ ‫القرارات ذات ِّ‬
‫أن ثمة تزامن ممكن بين اتخاذ القرار السياس ي والتطور االجتماعي‪ ،‬لكنها‪ ،‬أي‬
‫َّ‬
‫السياسة‪ ،‬قلما تبلغ هذا الوصل الفاعل بين السيرورات التكنولوجية املتسارعة؛‬
‫ً‬
‫قياسا إليها‪ ،‬ومبرر هذا َّ‬ ‫ً‬
‫التوتر هو كون املمارسة‬ ‫فهي تبقى دائما متأخرة‬
‫الديموقراطية تستغرق وقتا لتنظيم الجمهور والتعرف على الجماعات‬
‫ُ‬
‫كونها‪ ،‬ثم تستغرق بعد ذلك وقتا أطول لصياغة الحجج‬ ‫االجتماعية التي ت ِّ‬
‫واختبارها من أجل بلوغ التوافق قبل اتخاذ القرار التداولي‪ .14‬إن الوتيرة البطيئة‬
‫التخاذ القرار السياس ي الديموقراطي القائم على اإلرادة الجماعية يغذي فكرة‬
‫أن السياسة تعوق العمل االجتماعي واالقتصادي والتقني املتسارع‪ ،‬الى درجة أننا‬
‫انتقلنا ‪ -‬في بداية الحداثة‪ -‬من صورة سياسة مقرونة بالحركية االجتماعية الى‬
‫تصور للسياسة كعامل يمنع من التسارع املنبثق في فضاء الحداثة املتأخرة‪،‬‬

‫‪732‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫ً‬ ‫َّ‬
‫واملحصلة إذا كان عدم التزامن بين السياسة والتطور االجتماعي ليس إال مظهرا‬
‫ً‬
‫واحدا من َّ‬
‫التجليات العديدة للحداثة املتأخرة‪ ،‬فهو أيضا واحد من أعراض‬
‫ُ‬
‫التسارع املرضية في املجتمعات الحداثية املتقدمة‪ .‬لقد أدرك "هارتمود روزا" إلى‬
‫أي درجة تعجز الذوات املنخرطة في لدن الحداثة املتأخرة املفرطة في التسارع‬
‫عن‪" :‬إعادة التوافق وتقويم األفاق الزمنية املختلفة لحياتهم‪ :‬النماذج والبنى‬
‫واألفاق واملنظوريات التي تطبع أفعالنا اليومية‪ ،‬إذ تنفصل أكثر فأكثر عن‬
‫التوقعات واألفاق التي نطورها من أجل حياتنا"‪.15‬‬
‫وهذه هي صورة االغتراب الذي يعاني منه االنسان في الحداثة الغربية‬
‫املتأخرة‪ ،‬فصور التسارع كما تحدث عنها "هارتموت روزا" تؤدي إلى تشوه العالقة‬
‫بين األنا والعالم‪ ،‬فزيادة على فقدان الذات وتآكل الهوية الثابتة‪ ،‬يعتبر هذا‬
‫َّ‬
‫التشوه كشكل من أشكال االغتراب‪ ، 16‬وعليه يرتبط التحليل النقدي للتسارع‬
‫بمفهوم "االغتراب" الذي أعطاه "روزا" دالالت وأبعاد جديدة من خالل وصله –‬
‫كما أملحنا أعاله‪ -‬بأطروحة االستقاللية في الحداثة‪ :‬إن االغتراب هو فقدان‬
‫ً‬
‫للذات ملا تتميز به األخيرة من قدرة على التحديد الذاتي‪ ،‬ويصير االغتراب فاعال‬
‫حينما تدفع بنى املجتمع املعاصر الزمانية بالذوات إلى السير في مجرى أفعال لم‬
‫يختاروها حينما شرعوا في الفعل ضمن زمن مهيمن‪ .17‬لقد أدرك "هارتموت روزا"‬
‫محدودية مفهوم االغتراب املتأثل على الهيمنة واالستقاللية‪ ،‬لذلك عمل على‬
‫صياغة مفهوم جديد يتجاوز التصور القديم الضيق املحصور في هاذين‬
‫البعدين‪ .‬لهذا السبب لجأ الى صياغة تعريف لالغتراب أعطاه أبعاد مختلفة‬
‫يجسد جميع عناصر العالم املختلفة (املكان‪ ،‬الش يء‪ ،‬الفعل‪ ،‬الزمانية‪،‬‬
‫العالقات) ويتيح فحص أثاره تحت هيمنة مفهوم السرعة‪ .‬يتجلى في ضوء هذا‬
‫املفهوم املوسع عن االغتراب الجانب السلبي للتسارع ليس فقط ألنه يحرم االفراد‬
‫من قدرتهم على االختيار (االستقاللية) ولكن أيضا ألنه عائق يقف أمام تحقيقهم‬
‫لعالقاتهم األصيلة بالعالم‪ ،‬ملا يجعلهم غير قادرين على فهم هذا األخير‪ .‬وبما أن‬

‫‪733‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫إدراك األشياء والخبرات بالعالم يتطلب االنتباه واالهتمام وفترة من الزمن‪ ،‬فإن‬
‫ً‬
‫بنى الزمان ال يمكن أن تتسارع إلى األبد وال يمكن تحمل دائما عواقبه‪ .‬إن الثمن‬
‫الذي ندفعه مقابل هذا اإليقاع أو الوتيرة العالية هو فقدان العالم‪ :‬ال يرجع‬
‫االغتراب الذي يخلفه التسارع الى كينونتنا الداخلية الثابتة غير القابلة للتغير‬
‫ولكن يرجع إلى قدرتنا على امتالك العالم‪ .‬لقد أضحى العالم بالنسبة لألفراد في‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الحداثة املتأخرة صامتا وباردا وكئيبا وغير مرغوب‪ .‬واذاك أصبح صمت العالم‬
‫ً‬
‫القائم على صمم العالقة أنا‪ -‬عالم سببا لعوامل قلق عظيم ودائم في كل‬
‫تشخيص لألمراض التي نجدها في التحليالت االجتماعية النقدية للحداثة‪.18‬‬
‫رابعا ـ الصدى والتأسيس لعالقة أصةلة بالعالم‬
‫ً‬
‫يقترح "هارتموت روزا" مفهوما مقابال لالغتراب وهو "الصدى"‪ ،‬مفهوم‬
‫َّ‬
‫يسمح بوضع أطر جديدة لعالقة ناجحة بالعالم‪ .‬وال يسعنا فهمها إال من خالل‬
‫كل آثارها حينما نعيد موضعتها في إطار الفلسفة األخالقية والسياسية لـ"تشارلز‬
‫تايلور" كما تتجلى على خلفية النظرية االجتماعية لـ"هاتموت روزا"‪ .‬يثير‬
‫"هارتموت روزا" في هذا املعنى امكانية "إعادة ادماج مفهوم االغتراب داخل‬
‫النظرية النقدية املعاصرة" بفضل نقد "البنى الزمانية للمجتمع"‪ ،‬أين تشير‬
‫النتائج االستيالبية‪ ،‬وهذه عبارته‪" :‬إلى طريق واعدة أكثر لإلمكانيات املستقبلية‬
‫للنظرية النقدية "‪ . 19‬لذلك ال يسعنا الوقوف على الداللة الحقيقة ملفهوم‬
‫الصدى اال إذا انطلقنا من توصيف "تشارلز تايلور" لها‪ ،‬والتي وظفها "روزا "بوعي‬
‫وامتياز في مشروعه‪.‬‬
‫ً‬
‫لقد أقام "تشارلز تايلور" قسما من فلسفته األخالقية على مفهوم‬
‫"الصدى"‪ ،‬أين كشف عن اضطرابات الحداثة عبر االستعانة بفكرة االمراض‬
‫ً‬
‫التي تتمظهر في األداتية وفقدان املعنى والتشظي االجتماعي‪ .‬وتصور عالجا لهاته‬
‫االضطرابات صاغه ضمن مشروعه املتمركز حول نظريته األخالقية والسياسة‪.‬‬
‫إن "سياسته عن االعتراف" املتمركزة حول االحترام والتعدد هي واحدة من‬

‫‪734‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫وجوهه‪ ،‬مثل أخالقه عن األصالة‪ ،‬التي من خاللهما تبحث الذات عن تشكيل‬


‫هوياتها لتحيا حياة أصيلة‪ .‬ال تعبر األصالة عند "تشارلز تايلور" عن طريقة في‬
‫وجود أو الكينونة ولكن هي صورة من البحث عن ذات ترتبط بالعالم والخرين‬
‫الدائم عن هوية ثابتة‪ ،‬والتي تسعى إلى تحقيقها مسترشدة بمعنى‬ ‫غرضها التقص ي َّ‬
‫الخير دون أن تعبر عنه أو أن تعي ذلك‪ .20‬فال يسع الذات أن تفهم ذاتها دون‬
‫اإلحالة إلى تصور أخالقي يحدد ما هو خير أو شر‪ ،‬وكونها تصير ذاتا فهذا يتوقف‬
‫على ما تحمله من خير‪ .‬إن التزام الذات بما تحمله من خير سيكون أقوى‪ ،‬وال‬
‫َّ‬
‫تكون هويتها إال بالرجوع إلى هذه الصلة وسبل تقييمها‪ . 21‬وإدراك الطبقات‬ ‫ِّ‬
‫املختلفة لهذه الصلة بالخير يتم بفضل األفراد وعالقتهم بالعالم‪ .‬فالصلة القوية‬
‫تتحدد كهوية بفضل الخير الذي يعتبر جوهريا لوجود األفراد‪ ،‬أما الصلة‬
‫ً‬
‫الضعيفة فتعبر عن التزام متراخ تجاه خير أقل حسما‪ ،‬صلة مفقودة تعبر عن‬
‫خير يحترمه الفرد دون أن يقتفي أثره بفاعلية‪ ،‬واملحصلة صلة تقف على مبعدة‬
‫من الخير ال يمتلك الفرد عنه إال معرفة غير محددة وهو يحترمها دون أن تكون‬
‫لديه صلة بها ودون االلتزام بها‪.‬‬
‫يتحدث "تشارلز تايلور" عن صدى شخص ي عندما تصير الرابطة بن األنا‬
‫ً‬
‫والخير موضوعا لتقييم صارم‪ .‬لجهة أن السبيل الوحيد الستكشاف النسق الذي‬
‫تنخرط فيه الذات من أجل تحديد املصادر األخالقية داخل مجتمع حديث‬
‫ً‬
‫يفتقر الى نسق داللة كلي ‪-‬بوسع الجميع الولوج إليه‪ -‬يتطلب أوال املرور بهذا‬
‫الوجه من الصدى الشخص ي‪ .22‬كما أن الصدى عند "تشارلز تايلور" هو الصورة‬
‫التي تأخذها هذه العالقة عندما تكون موائمة اللتزام أو عالقة حساسة أين تكون‬
‫الذات منغمسة في انفعاالتها‪ ،‬عبر بلوغ القدرة على االستجابة بطريقة حساسة‪.‬‬
‫ً‬
‫إن الصدى هو أيضا ما يسمح للذوات بالتوجه الذاتي عبر االختيار بين مختلف‬
‫األفعال الخيرة من بين تعدد املمكنات بفضل تفضيل أحداهما أو العزوف أو‬
‫النفور الذي يظهر داخل االلتزام الحس ي‪ .‬هكذا يتم تجريب "الصدى الشخص ي"‬

‫‪735‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫ً‬
‫– َّأوال وقبل كل ش يء‪ -‬في مالحظة نشاط فرد ما وسلوكياته‪ ،‬وفي أعقاب هذه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫الخبرة من املمكن أن نمنح للذات‪ ،‬التي صارت فنانا أو حرفيا أو رياضيا أو قاضيا‪،‬‬
‫دوافع تسمح لها باالختيار من بين نشاطات ممكنة متعددة‪ .‬يتم هذا االختيار‬
‫ُّ‬
‫بداية‪ ،‬بفضل أسبقية االلتزام‪ ،‬بطريقة عملية ودون تفكر أو دون تدخل للفعل‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫اإلرادي‪ .‬فال تتشكل األسباب الواضحة لتبرير االختيار إال بطريقة بعدية انطالقا‬
‫من خبرة معيشة بالصدى الشخص ي‪ . 23‬تكشف االستجابة العاطفية هذه‬
‫األفعال الخيرة وتطلع عليها الذوات امللتزمة وتقدم لها أسبابا وبواعث لتمييز هذه‬
‫األفعال الخيرة عن غيرها‪ .‬إن الصدى عند "تايلور" هو التصور الذي يسمح‬
‫بتحديد معايير الحياة الخيرة بأن يخدم كمرجع عملي لفلسفة أخالقية وسياسية‬
‫تستخدم لتقديم وسائل تتجاوز أمراض الحداثة‪.‬‬
‫يتوسل "هارتموت روزا" بمفهوم "الصدى الشخص ي" كمفهوم معياري‬
‫يسمح بتحديد املالمح العملية لحياة خيرة‪ .‬وقد أشار في نهاية كتابه "االغتراب‬
‫والتسارع" سنة ‪ 2012‬إلى أن الحداثة املتأخرة أفرزت مأساة صدى في العالم‪،‬‬
‫والتي ال يسعنا الكشف عنها إال بفضل فكرة "حياة خيرة" غنية بتجارب صدى‬
‫متعددة األبعاد‪ :‬حياة تدخل في تردد مع محاور الصدى املتنوعة‪.24‬‬
‫على نفس خطى "تايلور" ف ِّهم "هاتموت روزا" الصدى‪ ‬بداية بمعنى‬
‫االنفعالية؛ أن تكون الذوات متأثرة ومحركة أو مساءلة من طرف ش يء ذي داللة‬
‫خاصة بالنسبة إليهم‪ .‬فهل من املمكن االنخراط في فعل صدى مع جزء من العالم‬
‫إذا كان األخير يتموقع على مسافة بعيدة نتيجة سلوك دفاعي أو سلوك عدواني‬
‫غرضه السيطرة على العالم‪ .‬يتطلب االنخراط في الصدى القدرة على أن نكون‬
‫متأثرين بالعالم إلى درجة االندماج الكلي مع ما يحدث فيه‪ .‬إن هذا التأثر ال يعني‬
‫غياب الفعل ألنه في الجهة املقابلة أيضا يكمن الصدى‪ ،‬أعني القدرة على اإلجابة‬
‫أو االستجابة بطريقة فاعلة إلى هاته املطالب‪ ،‬االستجابة إلى باعث أو دافع‬
‫ومواجهة ما َّأثر فينا‪ .25‬يتجلى الصدى كرابطة بين الذوات في تبادل َّ‬
‫النظرات أو‬

‫‪736‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫ً‬
‫في الحوار أين يتكشف االنصات والجواب؛ ونلفيه‪ ،‬فضال عن ذلك‪ ،‬في عالقة‬
‫األفراد بالطبيعة حينما يتفاعلون بينهم وبين عناصر طبيعية (السباحة‬
‫والبستنة) أو مع أشياء بغرض القيام بنشاط على نحو جيد‪ ،‬مثل أداء معزوفة‬
‫موسيقية عبر االستعانة بأداة‪ .‬وبعبارة أخرى؛ ال تنفصل تجربة الصدى بالنسبة‬
‫التحول التي يحاكي من خاللها األفراد بعض األجزاء‬‫لـ"ها تموت رومزا" عن عملية َّ‬
‫ر‬
‫من العالم‪ ،‬فاملحاكاة هي ثمرة لتحول أضحى ممكننا بفضل العملية الحوارية‬
‫ً‬
‫للصدى‪ .‬في املقابل ‪-‬وخالفا للمحاكاة الحوارية‪ -‬نلفي أن التملك هو األداتية وهو‬
‫توجه أحادي الجانب محروم من التأثر واالجابة‪ ،‬يختزل في النهاية إلى عالقة‬
‫متأثلة على غياب العالقة‪ .‬فالتملك واملحاكاة هما اذن نموذجان متعارضان من‬
‫العالقة بالعالم‪ ،‬ولكن وحدها املحاكاة التي تعبر عن "الصدى"‪.‬‬
‫يظهر مفهوم الصدى‪ ،‬إذن‪ ،‬كنقطة مرجعية نقدية لسوسيولوجيا تتخذ‬
‫كموضوع لها اختبار العالقات بالعالم‪ .‬عمل "هارتموت روزا"‪ -‬وهو في هذا ال يزال‬
‫وفيا لروح النظرية النقدية لفرانكفورت ‪ -‬على ايجاد وسائل اختبار هذه‬
‫العالقات بطريقة اجتماعية‪ ،‬بتقديمه ملفاتيح عن علم اجتماع لهذه العالقات‬
‫دون التخلي عن تقييم ونقد بعض األشكال املنخرطة في العالقات بالعالم‪ .‬يسمح‬
‫تمييزه بين مختلف مجالت "الصدى" بالتمييز على املستوى االجتماعي بين أنماط‬
‫"الصدى" املختلفة بفضل أسيقة النشاطات الخاصة (العائلة العمل الرياضة‬
‫‪‬‬
‫الطبيعة الخ)‪ .‬وبعبارة أخرى؛ يسمح التمييز الذي أقامه بين محاور الصدى‬
‫األفقية والعمودية والقطرية بدراسة الطريقة التي يترجم بها املفهوم العام‬
‫للصدى بفضل العالقة مع الخرين واألشياء ومع املتعالي‪ .‬ومنذ ذلك الوقت‪ ،‬اتخذ‬
‫ً‬
‫مفهوم الصدى الذي نحته "تايلور" على املستوى الفلسفي بعدا اجتماعيا أكثر‬
‫عينية بفضل الجهد التصوري الكبير الذي بدله "هارتموت روزا" ‪.26‬‬
‫ً‬
‫تتيح سوسيولوجيا العالقة بالعالم التي طورها "هارتموت روز" متوسال‬
‫بمفهوم الصدى إمكانية إعادة تحديد مجال علم االجتماع النقدي في املجتمعات‬

‫‪737‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫املعاصرة‪ .‬بيد أنه ال يروم التحقق مما هو مختلف والكشف عن شذرات العالم‬
‫الناتجة عن الهيمنة بقدر ما يهدف إلى امتالك وسائل تقييم هاته املجتمعات في‬
‫ضوء معيار محايث غير تحكيمي متجذر داخل تصور عملي عن الحياة الخيرة‪.‬‬
‫إذا كان الصدى يجسد هذه الحياة الخيرة املتجذرة في املمارسات الفعلية‪ ،‬فهو‬
‫يسمح بالتحقق على نحو فعال من األنماط الواقعية لالغتراب داخل املجتمعات‬
‫الحالية عبر التعرف على األمراض التي تخترقها‪ .‬يظهر الصدى اذن كقطب مضاد‬
‫لالغتراب أي العالقة داخل غياب العالقة‪ ،‬أين تكون نتائجه على تشكيل هوية‬
‫األفراد االجتماعيين وخيمة‪ .‬ال يسمح توضيح هاته األقطاب املتعارضة بإعادة‬
‫تعريف مصطلح االغتراب في عالقته بالصدى فقط‪ ،‬ولكن أيضا التفكير ‪-‬على‬
‫ً‬
‫املستوى االجتماعي‪ -‬في حقيقة االغتراب المتالك الوسائل التي تجعل منه نقدا‬
‫ً‬
‫قادرا على فتح أفاق من أجل تجاوزه‪ .‬وفي كتابه "جعل العالم غير متاحا"‬
‫"‪ "Rendre le monde indisponible‬نحت "هارتموت روزا" مصطلحات جديدة‬
‫تتجلى على خلفية هذا القطب صدى ضد اغتراب الذي طوره في كتابه "‬
‫الصدى"‪ . 27‬وأكد على أن ما يميز الصدى كونه غير متاح "‪"l’indisponibilité‬‬
‫"‪ "Unverfügbarkeit‬ويتموضع في هذا اإلطار في تضاد مع االتاحة األداتية للعالم‪.‬‬
‫نتبين من خالل هذه الفكرة التي بموجبها يكون الصدى غير متاح‪ ،‬عدم وجود‬
‫ً‬
‫سبيل معد مسبقا يقود الى الصدى وال منهجا رسمت معامله قبال يجعل مثل هاته‬
‫التجربة ممكنة‪ .‬وبعبارة "روزا" ال يترك الصدى نفسه بما يتسم به من طابع عدم‬
‫االتاحة ليتراكم أو يتم تخزينه وال أن ينمو بطريقة أداتيه‪ .28‬فالصدى يتمرد على‬
‫منطق االعالء والتحسين والتطوير االجتماعي املسيطر في املجتمعات الحديثة؛‬
‫ويتجلى هكذا كمفهوم في توتر مع املنطق األداتي املهيمن في الحداثة‪ ،‬والذي يروم‬
‫اختزال العالم فيما هو قابل للحساب والسيطرة واملتوقع‪ ،‬ومن ثم إلى كل ما هو‬
‫متاح‪.‬‬

‫‪738‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫أفاد "هارتموت روزا" في نقد الحداثة من نقد "تشارلزز تايلور" لها املتمحور‬
‫حول هيمنة النزعة األداتية املسبقة‪ ،‬بيد أنه اقترح قراءة نقدية جديدة‪ ،‬بتوسيع‬
‫تطبيق مشروع "تايلور" النقدي على تحول البنى الزمانية والتي يستخلص منها‬
‫ً‬
‫تصورا للحداثة بما هي تكوين سوسيو‪ -‬ثقافي قائم على مبدأ استقرار النمو‬
‫االقتصادي والتسارع التقني والتجديد الثقافي‪ .‬ال يمكن للمجتمعات الحديثة أن‬
‫َّ‬
‫تستقر إال وفقا لنموذج التنامي ‪ ، l’accroissement‬ألنها مجبرة على أن تجعل‬
‫ً‬
‫العالم متاح دائما عندما تضعه تحت تصرفها من خالل التقنية واالقتصاد‬
‫والسياسة‪ .29‬بيد أن هذه العالقة القلقة والعنيفة بالعالم أضحت تحت تأثير من‬
‫التكوين السوسيو‪-‬ثقافي الحديث ‪-‬الذي استغرق ظهوره ثالثة قرون‪ -،‬عالقة‬
‫طبيعية حينما ترسخ االعتقاد بأن جوهر املشروع الحداثي يكمن في جعل العالم‬
‫ً‬
‫متاحا عبر اخضاعه للسيطرة‪ .‬فهل العالم بالنسبة للحداثة هو املجال الذي‬
‫تمارس فيه العنف؟ أعني املجال الذي نفهمه ونعرفه ونستغله من أجل تملكه‬
‫ً‬
‫والسيطرة عليه؟ هذه االستراتيجية التي تهدف إلى جعل العالم متاحا‪ ،‬واملدفوعة‬
‫التعطش إلى مراكمة املصالح والتملك أكثر مما‬ ‫من طرف لعبة التنامي‪ ،‬ال يثيرها َّ‬
‫يثيرها الخوف من الحصول على القليل ثم ما هو أقل‪ .30‬وعليه يغرف الخوف من‬
‫عدم التملك من حاجة الحداثة إلى التوسع‪ :‬هذه هي أطروحة "هارتموت روزا"‬
‫التي تفضح أالعيب الحداثة؛ فعوض أن تثمن الصدى في العالقات االجتماعية‬
‫كان غرضها التأسيس لكل ش يء من خالل السيطرة والهيمنة‪.‬‬
‫لعلنا ندرك الن أن غرض "هارتموت روزا" من نحته ملفهومه عن الصدى‬
‫هو التأسيس لعالقة أصيلة مع العالم‪ ،‬وهذا ما يقودنا ضرورة إلى مناقشة وجه‬
‫آخر من سوسيولوجيا الصدى النقدية‪ ،‬أعني توصيفه لنظريته عن الصدى ضد‬
‫كل صراع يحيل منذ الوهلة األولى الى النزعة األداتية‪ .‬لم ير "روزا" في نظرية‬
‫ً‬
‫الصدى النقدية امتدادا أو استمرارية لنظرية "أكسيل هونيت" " ‪Axel‬‬
‫‪1949( "Honneth‬م‪ )... -‬عن الصراع من أجل االعتراف كما كانت األخيرة‬

‫‪739‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫استمرارية لنظرية "هابرماس" عن التواصل‪ ،‬بل تم تصورها كبديل عنها تقطع‬


‫كل صلة بها‪ُ .‬يباعد "هارتموت روزا" على نحو مطلق بين الصدى واالعتراف –في‬
‫صيغته الهونتية‪ -‬بسبب تجذر األخير داخل الصراع‪ ،‬إن االعتراف كما يقول‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫"عالئقي يتحرك دائما داخل عالم تنافس ي‪ ،‬وهو سبب يجعله موضوعا‬
‫للصراع"‪ .31‬لجهة أن "االعتراف "بأحدهم (املنتصر)يتضمن تقريبا على نحو ال‬
‫يمكن تجنبه ازدراء الخر (املغلوب)"‪ .‬ال يوجد في نظره صراع من أجل الصدى ألن‬
‫األخير ال يدع نفسه ليفهم في سياق سجالي ضمن عالم تنافس ي‪ ،‬فال يسعنا أن‬
‫ً‬
‫ننخرط في صراع من أجل الصدى (خالفا لالعتراف)‪ :‬فحيثما يندمج الفرد في‬
‫عالقة صراع فهو مجبر على االنغالق الذي يضعف الصدى‪ .‬وهذا ما يحصل‬
‫لألفراد في مواجهة عالم خطير ومليء بالتهديدات‪ ،‬فهم ينخرطون داخل انغالق‬
‫ً‬
‫هيجاني يولد مقاومة عاطفية قوية وميال الى الصراع‪َّ .32‬إن الشخص الذي يعجز‬
‫‪-‬ألسباب عديدة‪ -‬عن ادراك العالم والخر يسعى إلى أن يفرض نفسه أو يدافع‬
‫عنها عبر تبني هذا السلوك االنغالقي‪ ،‬بيد أن هذه الصعوبات التي تقف أمام بلوغ‬
‫الصدى ستتنامى بشكل قوي‪ .‬والنتيجة حسب "روزا " تقود كل عالقة نزاع مع‬
‫العالم الى فقدان العالم ذاته ال محالة‪.‬‬
‫يدين هذا التصور عن الصدى الذي يستبعد الصراع بالكثير إلى الفرضية‬
‫الفلسفية التي استعارها "تشارلزز تايلور" من " موريس ميرلوبانتي"‪ ،‬والتي‬
‫بموجبها ال تتواجه الذات والعالم إال إذا نتج أحدهما عن الخر‪ .‬أشار "هارتموت‬
‫روزا" في مواضع عديدة إلى أن استحالة الصراع بين الذات والعالم ترجع إلى أن‬
‫الذوات توجد بديا في العالم‪ ،‬على نحو تكون منخرطة فيه مسبقا‪ .33‬إن القدرة‬
‫على الصدى تعبر في حد ذاتها حسب "رورزا" عن ماهية الطبيعة اإلنسانية وكل‬
‫كون للروح اإلنساني‬ ‫ُ‬
‫العالقات املمكنة بالعالم؛ فالقدرة على الصدى هي عامل م ِّ‬
‫َّ‬ ‫ً‬
‫والروح االجتماعية والبعد الجسدي أيضا‪ ،‬والشرارة األولى للوعي هي اإلحساس‬
‫بالحضور‪ :‬ش يء ما موجود‪ ،‬ش يء ما حاضر‪ .‬إن الذات ال تنفصل عن العالم إال‬

‫‪740‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫ب خطوات صغيرة وهما ال ينقسمان إال تبعا لصدى ديناميكي؛ نحن نتعلم خالل‬
‫التمييز شيئا فشيئا‪ ،‬على ضوء ش يء ما‪ ،‬بيننا نحن كذوات ُمكتشفة‬ ‫نشأتنا َّ‬
‫والعالم كما نصادفه‪ .34‬أما السبب الثاني الذي يجعلنا نرى استحالة الصراع من‬
‫أجل الصدى بالنسبة لـ"هارتموت روزا" هو أن توقع أو احتساب أثار الصدى‬
‫مسبقا هو أمر مستحيل‪ :‬هذا األخير يبقى غير متاح بالنسبة لكل فعل استراتيجي؛‬
‫ً‬
‫فالصدى ليس أمرا ُيخطط له من قبل أو يفهم أو يستثمر من قبل عالم أداتي‪،‬‬
‫وكل املحاوالت التي تسعى لكي تشكل تجربة صدى تجانب هدفها وتترك األفراد في‬
‫النهاية باردين وغير مبالين‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬ال يتحقق الصراع الذي يهدف إلى تأسيس‬
‫لعالقة صدى وال يكتمل؛ ألن عملية "الصدى" ذاتها تفلت من كل سلوك فهم أو‬
‫سيطرة‪.‬‬
‫يمكننا أن نتساءل كنقد ملوقف "روزا"‪ :‬ألم يتسرع في استبعاد وجهة نظر‬
‫ً‬
‫خصبة وخيطا رفيعا ُموجها رسم معامله "أكسيل هونيت" في كتابه "الصراع من‬
‫ً‬
‫أجل االعتراف" حينما اقترح إعادة بناء تقليد فكري جديد طور بموجبه تصورا‬
‫ً‬
‫غير أداتي عن الصراع خالفا للتقليد الذي أرساه كل من "نيكوال ميكافيلي"‬
‫"‪1527-1469( "Niccolò Machiavelli‬م) و"توماس هوبز" "‪"Thomas Hobbes‬‬
‫(‪1679-1588‬م) ؟‪ ،‬أعني استكناههما للصراع بمصطلحات املنافسة من أجل‬
‫حفظ الذات‪ .‬ينخرط االعتراف عند "أكسيل هونيت" ‪-‬بما هو تقدير متبادل‪ -‬في‬
‫عالقات أخالقية تجمع بين الشركاء في العملية التفاعلية‪ ،‬وهو طريقة لنسج‬
‫عالقات بين الفاعلين االجتماعيين بغرض التقليل من عدم االحترام والتقدير‪.35‬‬
‫بهذا املعنى ليس الصراع تنافسا يعكس نظرة أداتية غرضها البحث عن زيادة‬
‫املصالح الشخصية بل عامل اجتماعي مؤثر يدعم إمكانيات إقامة روابط يتسنى‬
‫لألفراد بموجبها من التفاعل والتقدير املتبادل‪ .‬وهذا ما أشار إليه "زيمل " من‬
‫قبل‪ :‬إن الصراع هو عامل اجتماعي‪ ،‬إنه خالق للروابط وليس العكس‪ .‬وعليه‬
‫ً‬
‫أضحى الصراع عامال يساعد على االدماج االجتماعي ال على تراكم االمتيازات‬

‫‪741‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫وزيادة املصالح الشخصية في تنافس ال نهائي‪ .‬يسمح هذا التصور برؤية شكل‬
‫ً‬
‫آخر من الصراع ال يروم تحطيم الروابط ولكن تدعيمها‪ ،‬تحديدا من خالل‬
‫القدرة على التأثير فيمن هم منخرطون في هذه الصراعات‪ ،‬بأن يجعلهم‬
‫حساسين لهذا االنبثاق ويشجع استجاباتهم اإليجابية‪ .‬من املفترض أن هيمنة‬
‫روابط االعتراف من خالل الصراع تجعل الذوات املعنية به متأثرة –ومن ثم‬
‫حساسة لهذه املتطلبات‪ -‬وتدفعهم لالستجابة‪ ،‬ومن ثم يتحولون داخل هذا‬
‫الصراع الديناميكي‪ .‬بعبارة أخرى إن نجاح الصراع من أجل االعتراف باملعنى‬
‫الذي فهمه "أكسيل هونيت" يفترض الصدى؛ فال ش يء يمنع من التفكير في‬
‫مفهوم الصراع من أجل االعتراف كشرط للصدى ال كعامل مضر به‪.‬‬
‫صحيح أن نظرية االعتراف كما طورها "أكسيل هونيت" لم تحسن توظيف‬
‫العالم وانحصرت في العالقات البينذاتية والروابط املؤسساتية‪ .‬وهذا التوجه‬
‫ً‬
‫املتجاهل للعالم كثيرا ما أشار اليه "هونيت" ذاته كواحد من نقائص هذه‬
‫النظرية‪ .‬لقد كان "هارتموت روزا" محقا حينما أدمج داخل هذا النقاش عناصر‬
‫عن منعطف مادي كان قد تجاهله "أكسيل هونيت"؛ فال ش يء يمنع من ادراج‬
‫البعد املوضوعي في التصور البينذاتي واألخالقي لالعتراف كما طوره األخير‪ .‬يسمح‬
‫مثال التأمل في الصراع من أجل التذاوت (الذي يتجاهل العالم) بتطوير مقاربة‬
‫قابلة ألن تكشف عن الصراع من أجل االعتراف في عالقات الذوات بالعالم‪ ،‬عبر‬
‫اختبار الحواجز التي نصادفها ضمن هذه العالقة في صورة مقاومة أو‬
‫اضطرابات عملية‪ .‬غالبا ما يصير العالم ‪ -‬تحت نموذج االضطراب ‪ -‬كموضوع‬
‫َّ‬
‫لالهتمام من طرف الذوات االجتماعية‪ :‬عندما يتجلى العالم كاضطراب ويصير‬
‫مشكلة أمام قدرتهم على الفعل‪ ،‬وبمصطلحات "هارتموت روزا" ذاته؛ حينما ال‬
‫ً‬
‫يعود العالم متاحا تجتمع كل الشروط لتد ُّخ ِّل الصراع الذي يهدف الى جعله‬
‫ً‬
‫متاحا‪ ،‬ومن ثم البحث عن العالقات الحوارية الهادئة للذوات مع العالم‪ .‬ال‬
‫يتعارض هذا التصور العالئقي عن الصراع –الال أداتي – مع النموذج الذي‬

‫‪742‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫استحدثته نظرية الصدى‪ ،‬إنه على العكس يثريه عبر االستعانة بهذا البعد‬
‫الصراعي ال االستراتيجي‪ .‬يسمح هذا التصور عن الصراع‪ ،‬انطالقا من اضطرابات‬
‫العالم‪ ،‬املتمركز حول الجهود التي تبدلها الذوات إليجاد صدى مع العالم‬
‫بالتفكير في العملية التي بموجبها يثير االضطراب ‪-‬أي الصدى املكسور في العالم‪-‬‬
‫عملية بحث حساس ومعرفي متمحور حول املظاهر املوضوعية (العالم)‪ ،‬تثير‬
‫مثل هاته املقاربة مشكلة أخرى أمام نظرية الصدى لـ"هارتموت روزا" تغرف عن‬
‫تصور متجذر في روح العالم ومتمحورة حول "الحس ي" "‪– "le sensible‬ومن ثم‬
‫حول الال معرفي‪ .‬فعبر اإلحاطة بالعملية التي بموجبها تندفع الذوات إلى إيجاد‬
‫صدى مع العالم بفضل تأمل هادئ بعيد عن كل صراع خاضع للحسابات‬
‫واملقوالت األداتية‪ ،‬تثار أسئلة مركزية متعلقة بنوع املعرفة التي ال تهدف إلى‬
‫ْ‬
‫السيطرة على العالم‪ .‬يك ُم ُن التساؤل عن مثل هذه املعرفة التي ال تروم الهيمنة‬
‫على العالم‪ ،‬والتي في ضوئها يتم التفكير في العالقة باألخرين والعالم‪ ،‬في مركز‬
‫مشروع النظرية النقدية ذاتها واملعرفة الخاصة بها وهذا ما عكسته مشاريع‬
‫روادها‪" :‬ما كس هوركهايمر" و"اكسيل هونيت" مرورا بـ"ادورنو" و"ماركوز"‬
‫و"هابرماس"‪.‬‬
‫وعليه ال ينبغي أن نحصر الصدى في نمط واحد هو "جسد العالم"‬
‫فحسب‪ ،‬ألن الفاعلية التأملية‪ ،‬زيادة على ذلك‪ ،‬ذات صلة بالصدى‪ .‬ثمة اختالف‬
‫بين وجهين ضروريين من الصدى‪ ،‬األول يتعلق بالجانب الحس ي املتحقق أو‬
‫الجسدي كما أكد "هارتموت روزا"‪ ،‬والوجه الثاني يحيل إلى "عقل متصادي"‬
‫ً‬
‫"‪"Raison Résonante‬منخرط في عملية تأمل العالقة الكشفية للعالم‪ .‬فعوضا‬
‫من استبعاد املعرفة كشكل من الال صدى استكنهت ههنا كوجه من وجوهه‪.36‬‬
‫يصير الصدى هكذا تفكيرا‪ ،‬أو باألحرى فعل تفكير‪ ،‬على نحو يسمح هذا التوسيع‬
‫النظري للصدى ليشمل املعرفة بإعادة احياء واحد من العناصر املفتاحية في‬

‫‪743‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫النظرية النقدية لفرانكفورت يتمثل في إقامة نقد للمعرفة التشييئية التي تحكم‬
‫العلوم ونموذجها املوضوعي‪.‬‬
‫يقوم هذا التصور "للعقل املتصادي" داخل املجال املعرفي على مفهوم‬
‫الصراع من أجل االعتراف الذي ناقشناه أعاله‪ ،‬ألن البحث عن حدود العالم‬
‫ً‬
‫املتوتر يحمل معنى خاص يتطلب جهدا من طرف الذوات للدخول في صدى ‪-‬من‬
‫خالل التفكير‪ -‬مع العالم املضطرب‪ .‬إن هذا الجهد ليس شيئا آخر عدا الصراع‬
‫من أجل الفهم الذي يروم البحث عن صدى مع العالم‪ .‬ال يمت الصراع هنا بأية‬
‫صلة للتنافس األداتي الذي ُيخضع موضوعاته إلى عمليات حسابية بسيطة‪ ،‬ألن‬
‫من ينخرطون في هذا الصراع ينبغي أن يكونوا متأثرين ومن ثم عليهم مضاعفة‬
‫للتحول عن الذات من أجل التفاعل مع العالم بطريقة مناسبة‪ .‬بوسعنا‬ ‫الجهود َّ‬
‫ُ‬
‫أن نرى هنا جهد البحث التأملي بما هو صراع أين ت ْق ِّحم الذات كل كينونتها في‬
‫النزاع وتجعل نفسها في وضع تكون قابلة للتأثر واملساءلة؛ فغايتها هي تطوير‬
‫عالقة بالعالم خالية من االضطراب واالغتراب‪ .‬يأخذ الصراع هكذا صورة صراع‬
‫العالقة من أجل العالقة ذاتها ال بتنافس نفعي بين ذوات ال يستهويهم سوى صقل‬
‫استراتيجياتهم بغرض الهيمنة أو تنمية مصادرهم وزيادة مصالحهم إلى أقص ى‬
‫حد‪ .‬هذا هو الوجه الديناميكي للصراع‪ 37‬الذي يتقدم خطوة خطوة عبر إعادة‬
‫بناء الصدى الذي يقود الى تصويب أنماط االدراك املسبقة ومقوالت الفهم‬
‫والتصورات للدخول في رابطة مع العالم‪.‬‬
‫من الراجح أن "هارتموت روزا" قد نأى في كتاباته األخيرة عن إدراك‬
‫"الصدى" كصراع حينما أكد على مسألة الحداثة بما هي مشروع "لجعل العالم‬
‫متاحا" "‪"mise à disposition du monde‬؛ ألن الحداثة في نظره ليست مجرد‬
‫ً‬
‫مشروع يروم تحقيق استقرار ديناميكي ملا هو غير مستقر‪ ،‬ولكنها أيضا جهد‬
‫ً‬
‫تاريخي عنيد لجعل العالم متاحا"‪ .38‬هذا الجهد سينتهي إلى اإلخفاق ألن إمكانات‬
‫ً‬
‫جعل العالم متاحا تخلق بشكل مفارق عدم إتاحة متنامية للعالم‪ :‬بقدر ما نزداد‬

‫‪744‬‬
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫ً‬
‫إلحاحا في تتبع الصدى بقدر ما تتقلص فرص مصادفته‪ ،‬كيف ذلك؟ في الواقع‬
‫يمكننا فهم هذه املفارقة بطريقتين مختلفتين‪ :‬تعتبر األولى أن مقوالت إتاحة‬
‫العالم غير مالئمة لفهم العالم‪ ،‬إذ ليس في وسعها سوى "االستحواذ عليه" ألنها‬
‫ً‬
‫تطبق عليه مقوالت من الخارج تمارس ضده توجها عنيفا‪ .‬لذا فاملقوالت املعرفية‬
‫املستخدمة من طرف الذوات في إتاحة العالم هي التي نض ُعها أمام املساءلة ألنها‬
‫ً‬
‫تشتغل انطالقا من آلية سيطرة عنيفة ال من حوار العقل‪ .‬أما الطريقة الثانية في‬
‫فهم هذه الظاهرة تعتبر أن العالم يقاوم هذه املقوالت ذاتها التي تجعله غير متاح‬
‫للذوات‪ ،‬على األقل في جزء منه‪ .‬يقاوم العالم ‪-‬بأنماط وجوده الخاصة‪ -‬الفكر وال‬
‫َّ‬
‫يقدم نفسه إال كأجزاء أو كشظايا‪ ،‬ولئن كان يقاوم من خالل عدم اتاحته فهذا‬
‫يوحي بأنه غير قابل للقبض عليه بوصفه عاملا‪ . 39‬كل محاولة لفهمه معرضة‬
‫للفشل ألن مشروع فهم العالم ذاته هو مجرد وهم؛ مرده الهوس املتزايد‬
‫بالهيمنة؛ والذي رأى النور مع املشروع الحداثي في القرن السابع عشر‪ ،‬ثم عرف‬
‫تجلياته الكبرى فيما بعد من خالل تجسيده في مجاالت تميزت بهيمنة النزعة‬
‫األداتية (االقتصاد والعلم والتكنولوجيا)‪ .‬واملحصلة‪ ،‬يفسر "هارتموت روزا"‬
‫رغبة الحداثة في جعل العالم متاحا من أجل السيطرة عليه بردها في النهاية الى‬
‫"الخوف" من فقدانه‪ 40‬؛ فالخوف من فقدان العالم هو الذي يغذي هذا الجهد‬
‫املتعاظم‪ ،‬ولكنه يفتقر الى األمل في ايجاده عبر تبني نمط معرفي محكوم عليه‬
‫باإلخفاق‪ .‬ان عدم قدرته على إيجاد رابط غير أداتي مع العالم يبقيه على مسافة‬
‫بعيدة عنه‪.‬‬
‫خامسا‪ .‬الخاتمة‪:‬‬
‫رسم "هارتموت روزا" معالم مشروع جديد هو بمثابة منعطف جذري‬
‫نحت بموجبه مفاهيم مستجدة غيرت منحى النظرية النقدية ملدرسة‬
‫فرانكفورت‪ ،‬فمفاهيم التسارع واالغتراب والصدى تؤسس لسوسيولوجيا نقدية‬

‫‪745‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫جديدة تالمس عمق املشكالت االجتماعية في املجتمعات الحداثية املتأخرة‪ ،‬وهي‬


‫داللة على عبقرية فذة ونموذج ابداعي على غير مثال‪.‬‬
‫تتولد األزمة التي تعاني منها املجتمعات الحديثة من تسارع ايقاع الحياة‬
‫الذي يرجع إلى تضخم التسارع التقني في مقابل تقلص الزمن‪ ،‬وتمثل هذه املظاهر‬
‫أشكاال سلبية من التسارع قادت "هاتموت روزا" إلى التأثيل لسوسيولوجيا‬
‫معيارية تروم توصيف صور االغتراب واألمراض الناجمة عن تحوالت الزمن‬
‫داخل هذه املجتمعات‪ .‬بيد أن عالج ما يخلفه التسارع من أمراض واغتراب ليس‬
‫التباطؤ بل ينبغي التفكير فيما وراء مفهوم الزمن بحثا عن إرساء عالقة أصيلة‬
‫بالعالم‪ ،‬لذلك اقترح مفهوما جديدا هو "الصدى"‪ .‬فالصدى بما هو عكس‬
‫لعملية التسارع وعالج له‪ ،‬ال يعبر عن عالقة الذات بالزمن بل عالقتها بالعالم‪.‬‬
‫بحث روزا عن عالج هذه األمراض وجميع مظاهر االغتراب في مفهوم‬
‫الصدى بما هو مفهوم ال ينتمي الى البنى الزمانية للمجتمعات ااملعاصرة مثل‬
‫التباطؤ بل بإعادة ادماج سؤال العالم‪ ،‬وعليه أسس ملنعطف مادي كان قد‬
‫تجاهله أسالفه من ممثلي املدرسة‪ ،‬باهتمامه بالبعد املوضوعي في التصور‬
‫البينذاتي واألخالقي لالعتراف‪.‬‬

‫‪746‬‬
750-723 ‫ ص‬،)2023( 1 :‫ العـــدد‬/ 14 ‫المجلد‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

:‫ قائمة املصادرواملراجع‬.‫سادسا‬
:‫ املصادرباللغة التفرنسةة‬.
- Hartmut Rosa, Accélération. Une critique sociale du temps, traduit de
l’allemand par Didier Renault, Editions La Découverte, Paris , 2010.
- Hartmut Rosa, Aliénation et accélération. Vers une théorie critique de la
modernité tardive, traduit de l’allemand par Thomas Chaumont, Editions La
Découverte, Paris, 2012.
- Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, traduit de l’allemand par Olivier
Mannoni, Editions La Découverte, Paris , 2020.
- Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde, traduit de
l’allemand par Sacha Zilberfarb, Editions La Découverte, Paris, 2018.
:‫ املراجع باللغة العربةة‬.
‫ املنظمة‬،‫ ترجمة حيدر حاج اسماعيل‬،‫ تكون الهوية الحديثة‬:‫ منابع الذات‬،‫ تشارلز تايلور‬-
.2014 ،‫ الطبعة األولى‬،‫ بيروت‬،‫العربية للترجمة‬
‫ ترجمة‬،‫ القواعد األخالقية للمآزم االجتماعية‬:‫ الصراع من أجل االعتراف‬،‫ أكسيل هونيت‬-
.2015 ،‫ الطبعة األولى‬،‫ بيروت‬،‫ املكتبة الشرقية‬،‫جورج كتورة‬
:‫ املراجع باللغة التفرنسةة‬.
- Charles Taylor, the ethics of authenticity, Harvard University Press,
Massachusetts, 2003.
:‫املقاالت‬
‫ نحو نظرية نقدية جديدة للحداثة‬-‫ التسارع واالغتراب‬:‫ هارتموت روزا‬،‫ كمال بومنير‬-
.2014 ،10 ‫ العدد‬،10 ‫ املجلد‬،‫ مجلة دراسات فلسفية‬،‫املتأخرة‬

:‫مواقع االنترنيت‬
- Marc-Antoine Pencolé, Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation
au monde, http://journals.openedition.org/lectures/29658, 18 juin 2022,

747
‫ هشام معافة‬.................................................‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‬

:‫ الهوامش‬.‫سابعا‬

1
- Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde, traduit de
l’allemand par Sacha Zilberfarb, Editions La Découverte, Paris, 2018, P 7.
‫ الفلسفة السياسية عند تشارلز‬.‫ "الهوية والبراكسيس الثقافي‬:‫ عنوان الرسالة هو‬-2
."‫تايلور‬

- « Identität und kulturelle Praxis. Politische Philosophie nach Charles Taylor"


"Identité et Praxis culturelle. La philosophie politique chez Charles Taylor ».
3
-Charles Taylor, the ethics of authenticity, Harvard University Press,
Massachusetts, 2003, p 38- 39.
،‫ ترجمة حيدر حاج اسماعيل‬،‫ تكون الهوية الحديثة‬:‫ منابع الذات‬،‫ تشارلز تايلور‬- 4
.92 -91 ‫ ص‬،2014 ،‫ الطبعة األولى‬،‫ بيروت‬،‫املنظمة العربية للترجمة‬
5
- Ibid, p 48- 59.
6
- Ibid, p 118.
7
- Ibid, p 110.
8
- Ibid, p 118- 119.
9
- Ibid, p 90- 91.
10
- Hartmut Rosa, Accélération. Une critique sociale du temps, traduit de
l’allemand par Didier Renault, Editions La Découverte, Paris , 2010, p 88.
11
- Hartmut Rosa, Aliénation et accélération. Vers une théorie critique de la
modernité tardive, traduit de l’allemand par Thomas Chaumont, Editions La
Découverte, Paris, 2012, p 20- 25.
‫ نحو نظرية نقدية جديدة للحداثة‬-‫ التسارع واالغتراب‬:‫ هارتموت روزا‬،‫ كمال بومنير‬- 12
.15 -14 ‫ ص‬،2014 ،10 ‫ العدد‬،10 ‫ املجلد‬،‫ مجلة دراسات فلسفية‬،‫املتأخرة‬
13
- Hartmut Rosa, Aliénation et accélération. Vers une théorie critique de la
modernité tardive, Op. Cit, p 32.
14
- Ibid, p 96.

748
‫المجلد ‪ / 14‬العـــدد‪ ،)2023( 1 :‬ص ‪750-723‬‬ ‫مجـــــــلة دراســـــــــــات‬

‫‪15‬‬
‫‪- Ibid, p 139.‬‬
‫‪ -16‬كمال بومنير‪ ،‬هارتموت روزا‪ :‬التسارع واالغتراب‪-‬نحو نظرية نقدية جديدة للحداثة‬
‫املتأخرة‪ ،‬ص ‪.22-21‬‬
‫‪17-‬‬ ‫‪Hartmut Rosa, Accélération. Une critique sociale du temps, Op. Cit, p 98- 99.‬‬
‫‪18- Hartmut Rosa, Aliénation et accélération. Vers une théorie critique de la modernité tardive,‬‬

‫‪Op. Cit, p 137- 140.‬‬


‫‪19‬‬
‫‪- Ibid, p 139.‬‬
‫‪20- Charles Taylor, The ethics of authenticity, Harvard University Press, Massachusetts, 2003,‬‬

‫‪p 47- 48.‬‬

‫‪ -21‬تشارلز تايلور‪ ،‬منابع الذات‪ :‬تكون الهوية الحديثة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.73‬‬
‫‪22‬‬
‫‪Charles Taylor, The ethics of authenticity, Op. Cit, p 90.‬‬
‫‪23‬‬
‫‪- Ibid, p 91.‬‬
‫‪24‬‬
‫‪- Hartmut Rosa, Accélération. Une critique sociale du temps, Op. Cit, p 14.‬‬
‫‪" - ‬الصدى" عند هارتموت روزا هو عالقة معرفية وعاطفية وجسدية بالعالم أين تتأثر‬
‫الذات من جهة بجزء من العالم‪ ،‬وتستجيب‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬للعالم بالفعل عليه بشكل‬
‫عيني على نحو تحقق فعاليتها‪ .‬يتميز الصدى بميزتين متكاملتين‪ ،‬األولى‪ :‬االنفتاح على العالم‬
‫وهي القدرة على استضافة العالم والتأثر به‪ ،‬والثانية‪ :‬القدرة على الفعل على العالم‪،‬‬
‫والتعرف على نشاطنا فيه‪ .‬وخالفا لعالقة الصدى بالعالم يتحدث "روزا" عن عالقة صامتة‬
‫وباردة تختزل في بعدها األداتي‪ ،‬وهي عالقة سلبية بالعالم‪ ،‬فالصدى يترافق مع اإلحساس‬
‫بأننا محمولين ليس مقدوفا بنا في العالم‪ ،‬ان نخبره كعالم متجاوب ومنفتح وجذاب‪ ،‬ال‬
‫كعالم منفر وخطر‪.‬‬
‫‪-Ma rc-Antoine Pencolé, Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde,‬‬
‫‪http://journals.openedition.org/lectures/29658, 18 juin 2022, p 2.‬‬
‫‪25- Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, traduit de l’allemand par Olivier Mannoni,‬‬

‫‪Editions La Découverte, Paris , 2020, p 44.‬‬


‫‪ -‬ميز "هارتموت روزا" بين ثالثة محاور ممكنة للصدى‪ ،‬الصدى االفقي ‪horizontale‬‬
‫الذي يتجلى في العالقات البينذاتية والصدى القطري ‪ diagonale‬الذي يكون فاعال في عالم‬
‫األشياء الجامدة والصدى العمودي ‪ verticale‬الذي يتجلى في التعالي‪ .‬واذا ما طبقناه على‬

‫‪749‬‬
‫هارتموت روزا ونقد الحداثة املتأخرة‪ .................................................‬هشام معافة‬

‫االختالف الوظيفي للمجتمع يخترق كل محور العديد من الفضاءات االجتماعية‪ :‬العائلة‬


‫الصداقة والسياسة فيما يتعلق باملحور االفقي‪ ،‬ثم العمل واملدرسة والرياضة واالستهالك‬
‫بالنسبة للصدى القطري‪ ،‬وأخيرا الدين والطبيعة والفن والتاريخ بالنسبة للمحور العمودي‪.‬‬
‫هذا ما يمنح التفكير طابعا أكثر تجريبية على نحو حساس ألنه يتعلق بتحديد أنماط الصدى‬
‫أو االغتراب الخاص بكل فضاء‪ ،‬ويصف مجموعة عينية من املمارسات من املعايير‬
‫واملؤسسات‪.‬‬
‫‪- Marc-Antoine Pencolé, Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde,‬‬
‫‪Op. Cit, p 3.‬‬
‫‪26‬‬
‫‪- Ibid, p 2- 3.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪- Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde, Op. Cit, p 165- 169.‬‬
‫‪28‬‬
‫‪- Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, Op. Cit, p 49.‬‬
‫‪29‬‬
‫‪- Ibid, p 17.‬‬
‫‪30‬‬
‫‪- Ibid, p 16- 17.‬‬
‫‪31‬‬
‫‪- Ibid, p 224.‬‬
‫‪32‬‬
‫‪- Ibid, p 15.‬‬
‫‪33‬‬
‫‪- Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, Op. Cit, p 11.‬‬
‫‪34‬‬
‫‪- Ibidem.‬‬
‫‪ -35‬أكسيل هونيت‪ ،‬الصراع من أجل االعتراف‪ :‬القواعد األخالقية للمآزم االجتماعية‪،‬‬
‫ترجمة جورج كتورة‪ ،‬املكتبة الشرقية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،2015 ،‬ص ‪.171 -170 ،27‬‬
‫‪36‬‬
‫‪- Hartmut Rosa, Résonance. Une sociologie de la relation au monde, Op. Cit, p 149.‬‬
‫‪37‬‬
‫‪- Ibid, p 472.‬‬
‫‪38‬‬
‫‪- Hartmut Rosa, Rendre le monde indisponible, Op. Cit, p 6.‬‬
‫‪39‬‬
‫‪- Ibid, p 14- 15.‬‬
‫‪40‬‬
‫‪- Ibid, p 29.‬‬

‫‪750‬‬

You might also like