فقه اللغة وعلم اللغة (إشكالية المصطلح)

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 27

‫فقه المغة وعمم المغة (إشكالية المصطمح)‬

‫عبد اهلل بوخمخال‬

‫جامعة الجزائر‪2‬‬

‫يتطرق المقال إلى بيان المدلول المغوي لكل من فقو ولغة كال عمى‬
‫حدة‪ ،‬ثم يبين مدلول التركيبين‪ :‬فقو المغة وعمم المغة اصطالحا‪ ،‬كما يقف‬
‫وقفة ال بأس بيا عند التطور الداللي الذي عرفتو مفردة المغة إلى أن‬
‫صارت مرادفة لمسان وذلك بعيد القرن ‪2‬ه‪ ،‬وقد كان من معانييا أيضا‬
‫المادة المستقراة زمان ُج ّماع المغة‪،‬ثم صارت تطمق ويراد بيا تنوعا لغويا‬
‫يعرج المقال عمى عمم المغة‪،‬الذي ىو أحد‬
‫يقابمو ما ىو شائع و ذائع‪ ،‬ثم ِّ‬
‫عموم المسان العربي‪ ،‬وىو العمم الذي حمل لواءه الخميل وأبوعمرو‬
‫وتالميذه‪ ،‬ثم أصحاب المعاجم فيما بعد ليفضي بو الحال إلى ما صار‬
‫معروفا في نياية ق‪4‬ه بفقو المغة ‪ ،‬ثم يخمص المقال إلى الكشف عما‬
‫وقع بين عديد الدارسين من خمط رىيب بين المصطمحات التالية ‪:‬فقو‬

‫‪368‬‬
‫ إلى أن ينتيي إلى عالمين نظروا‬،‫ الفيمولوجيا‬،‫ المسانيات‬،‫ عمم المغة‬،‫المغة‬
‫ فقضيا في مجمل‬،‫ أال وىما الحاج صالح وعبده الراجحي‬، ‫نظرة معمقة‬
: ‫أحكاميما بمايمي‬

.‫ أن عمم المغة ىو حصيمة الجيود التي نيض بيا من ُعنوا بمتن المغة‬-

‫ أي دراسة الثقافة‬،‫ وأن فقو المغة عند الغربيين ىو الفيمولوجيا‬-


‫ وىو مساو‬،‫والحضارة من خالل النصوص األدبية من وجية نظر األلمان‬
.‫ أو ما يعرف بالنحو المقارن من وجية اإلنجميز‬،‫لفقو المغة المقارن‬

،‫ وأن المسانيات ىو العمم الذي ُيعنى بالمسان البشري ال بمغة بعينيا‬-


.‫واطالق عمم المغة عميو خطأ مبين‬

The present study aims to explore the linguistic


signification of understanding ‫ فقه‬and language, then the
combination of the two terms: philology and science of
langue. In addition, it shows the semantic development of
the word language that becomes
synonym to langue after the second century. After
that, it throws light on the science of langue which is one of
Arabic linguistic disciplines that the two scholars Alkhalil
and Abu Amer and their followers were concerned with. The
study also clarifies the confusion of many researchers
between: philology and linguistics and the science of
369
‫‪langue, showing that some of them do not make difference‬‬
‫‪between these terms. In this respect, we introduce the‬‬
‫‪readers to two scientists who looked into the issue deeply‬‬
‫‪and came out with very interesting results, namely Elhadj‬‬
‫‪Saleh and Abduh Erradjihi.‬‬

‫يعتبر عمم المغة من أجل عموم العربية قدرا‪ ،‬وأعالىا منزلة‪ ،‬وأقدرىا‬
‫عمى تجمية بعض من الحيرة الذي اكتنف بح ار أمدتو كل قبيمة بسيل من‬
‫تحمموا في‬
‫السمات المفظية غزير‪ ،‬فارتوى منو أئمة المغة األعالم ‪ ،‬الذين ّ‬
‫سبيل تبيان أسرار لغة القرآن عنتا كبيرا‪ ،‬ولحقيم من السير والتعب في‬
‫دبجوا كتبا تجاوزت حدود‬
‫ارتحاليم المستمر ما لحقيم‪ ،‬فكان من ذلك أن ّ‬
‫الجمع و الشرح إلى أعماق المغة‪ ،‬وىذا البذل في دراسة المغة لم يبرح يشق‬
‫طريقو ألن يستزيد‪،‬غير أن عصرنا ىذا وقع فيو ما لم يكن لو مثيل من‬
‫قبل‪ ،‬حيث صار العالم كما يقال قرية واحدة‪ ،‬فاختمطت العموم وتمازجت‬
‫وأضحى من الميسور أن تطّمع عمى ما عند الغربيين‪،‬من غير أن تطال‬
‫عمومنا وىو الشيء الذي ولّد لنا إشكالية‬
‫َ‬ ‫عموميم‬
‫ُ‬ ‫بالدىم قدماك‪ ،‬فعمت‬
‫َ‬
‫وضع المصطمحات وتحديد المفاىيم‪ ،‬إذ المتصفح لكتب المحدثين أول ما‬
‫يصطدم بو ىو الخمط الرىيب في الدرس المغوي بين فقو المغة وعمم المغة‪،‬‬
‫أىما متالزمان ال يفترقان داللة ومعنى؟ أم ىما متفارقان ؟ وىل إذا تكمفنا‬

‫‪370‬‬
‫ليما تحديدا بنظرة غربية أغنانا ذاك عن األوبة إلى ما قالتو كتب األقدمين‬
‫من العرب ؟‪.‬‬

‫مفهوم مصطمح فقه المغة‪:‬‬

‫تعريف كممة فقه‪ :‬الفقو في المغة ىو العمم بالشيء والفيم لو‪ ،‬و الفطنة‬
‫فيو‪.¹‬‬

‫يقال‪:‬فقُو يفقُو فقاىة فيو فقيو‪ ²‬إذا صار فقييا وفَِقو ‪:‬أي فيم فقيا‪ ،‬و‬
‫بعض العمماء يرى أن الفقو أخص من العمم‪ ،‬قال الراغب األصفياني‬
‫"الفقو ىو التوصل إلى عمم غائب بعمم شاىد‪ ،‬فيو أخص من العمم" وقد‬
‫وردت مادة فقو في القرآن عشرين مرة تحمل المعاني السابقة‪ ،‬و من ذلك‬
‫قولو تعالى‪ {:‬فمال ىؤالء القوم ال يكادون يفقيون حديثا } وقولو تعالى‪{:‬‬
‫فموال نفر من كل فرقة منيم طائفة ليتفقيوا في الدين} و قولو تعالى ‪{ :‬‬
‫وان من شيء إال يسبح بحمده ولكن ال تفقيون تسبيحيم }‪ ،‬وقد غمب‬
‫استعمال الفقو عمى عموم الدين لشرفو‪ ، ³‬وذلك من باب تخصيص الداللة‬
‫ولكنو يستعمل في غير عموم الدين بقرينة‪.⁴‬‬

‫أما في االصطالح فقد أصبح عمما عمى فقو الشريعة وىو ‪(:‬العمم‬
‫باألحكام الشرعية من أدلتيا التفصيمية)‪،‬و سمي المشتغمون بو بالفقياء‪،‬‬

‫‪371‬‬
‫فإذا أطمق ىذا المصطمح انصرف الذىن إلى ىذا المعنى‪,‬إال إذا قُّيد فإنو‬
‫يدل عمى المعنى الذي قيد لو‪ ،‬كقولنا‪:‬فقو المغة أو فقو السيرة‪، ⁵‬وانا وجدنا‬
‫بعض الفقياء المحدثين قد قيدوه في أحد مصنفاتيم‪ ،‬أعني‪( :‬فقو السنة)‬
‫لسيد سابق‪.‬‬

‫تعريف كممة لغة ‪:‬‬

‫المغة مشتقة من لغا يمغو إذا تكمم‪ ،‬فمعناىا الكالم‪ ، ⁶‬وفي الحديث (من‬
‫قال في الجمعة صو فقد لغا) أي تكمم‪. ⁷‬‬

‫وجاء في لسان العرب البن منظور في مادة لغو ما يمي "قال أبو سعيد‪:‬إذا‬
‫أردت أن تنتفع باألعراب فاستمغيم ‪،‬أي اسمع من لغاتيم من غير مسألة‬
‫‪...‬لغا فالن عن الصواب وعن الطريق إذا مال عنو‪ ،‬قالو ابن األعرابي"‬
‫قال ‪":‬والمغة أخذت من ىذا (أي في اصطالح المغويين)ألن ىؤالء تكمموا‬
‫بكالم مالوا فيو عن لغة ىؤالء اآلخرين "‪ ،⁸‬ففيو زيادة عن النطق واألداء‬
‫معنى النطق الخاص المتميز عن سائر الكالم‪ ،⁹‬والمغو الباطل‪ ،‬قال‬
‫{و إذا مروا بالمغو مروا كراما}‪.¹⁰‬‬ ‫تعالى‪:‬‬

‫أما في االصطالح‪ :‬المغة ىي عبارة المتكمم عن مقصوده‪ ¹¹‬عمى حد‬


‫قول ابن خمدون‪.‬‬

‫‪372‬‬
‫وعرفيا ابن جني فقال‪":‬ىي أصوات يعبر بيا كل قوم عن‬
‫أغراضيم"‪،¹²‬لكن ىذا التعريف الذي اصطنعو ابن جني ينسحب عمى‬
‫المسان بالمفيوم الذي ورد في القرآن الكريم وكان أيضا مستعمال في‬
‫العصر الجاىمي‪ ،‬والذي يعنينا نحن في ىذا الموضع بالذات أن نيتدي‬
‫إلى دالالت ىذه المفردة قبل حمول القرن الثالث اليجري‪ ،‬ألنيا عرفت‬
‫تطو ار دالليا أي قبل أن تصير مرادفة لمسان‪ ،‬وقد كان ىذا بعد زمان‬
‫سيبويو كما أومأ إلى ذلك األستاذ عبد الرحمن الحاج صالح‪ ،¹³‬لذلك يجدر‬
‫بنا جميعا أن نحيط بجميع معانييا لنتفادى المبس الذي وقع فيو بعض‬
‫الدارسين قديما وحديثا‪.‬‬

‫ىذا ولم نجد من أوضح ىذا التطور الداللي الذي مرت بو لفظة لغة‬
‫في حدود ما قرأناه كاألستاذ الحاج صالح حيث أوضح أن ‪":‬المغة كانت‬
‫تطمق عند النحاة والمغويين عمى عدة معان زيادة عمى ما يفيم من تحديد‬
‫ابن جني ليا‪ ،‬و ىو المسان بوجو عام ‪...‬ىو أوال أن المفيوم العام الذي‬
‫عرف لمفظ المغة ما عرف في الحقيقة إال بعد نياية القرن الثاني اليجري‪،‬‬
‫وأن األصل في الداللة عميو ىو ما استعممو القرآن الكريم والشعر الجاىمي‬
‫وما نقل من كالم النحويين قبل وفاة سيبويو ‪ ،‬وكل ما ألف في ذلك العيد‬

‫‪373‬‬
‫و الحديث ‪...‬فال يوجد فييا إال لفظ المسان وكمما‬ ‫في العربية و الفقو‬
‫استعممت كممت لغة فييا فيو‪:‬‬

‫‪ -‬لمداللة عمى الكيفية الخاصة التي يمتاز بيا قوم عن قوم في تأدية‬
‫لفظ معين‪ ،‬إما في النطق أو صياغتو أو تركيبو‪ ،¹⁴‬ومثالو ما ورد في‬
‫وىييات في اختالف المغتين قول العرب‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ىييات‬ ‫الكتاب ‪...":‬ونظير‬
‫‪:‬استأصل اهلل عرقاتِيم واستأصل اهلل عرقاتَيم "‪ ¹⁵‬والمغة بيذا المعنى ىي‬
‫الميجة في استعمال المتأخرين‪ ،‬بينما الميجة في أصل الوضع فقد حددىا‬
‫صاحب المسان بالمسان‪ ،‬وزاد عمى ذلك أيضا أنيا جرس الكالم‪ ،¹⁶‬أما‬
‫الحاج صالح فعرف الميجة بأنيا نظام لغوي بأجمعو وخاصة المسان‬
‫اإلقميمي الذي لو خصوصيات لغوية تخالف الميجات األخرى‪ ،‬وكميا‬
‫(الميجات) تنتمي إلى لسان أقدم‪. ¹⁷‬‬

‫ثم صار المتأخرون يجعمون الميجة في مقابل المغة بالمفيوم الذي‬


‫تناولناه‪ ،‬وىم بذلك ال يقصدون الميجة التي تنبثق عن لغة أ ّم والتي تختمف‬
‫عن نظيرتيا من الميجات اختالفا جوىريا‪ ،‬وانما في حسيم التأدية الميجية‬
‫ليس إال (وفي ىذا الكثير من التسامح) ‪.¹⁸‬‬

‫‪374‬‬
‫‪ -‬فبعدما كانت المغة تدل عمى التنوعات اإلقميمية في تأدية الكالم صارت‬
‫تدل أيضا عمى مجموعة األلفاظ الموضوعة ‪ ،‬أي المادة المستقراة التي‬
‫تمقاىا الناس من أفواه المغويين‪ ،‬أعني ‪:‬األصمعي‪،‬وأبا زيد‪ ،‬وأبا عبيدة‪ ،‬وأبا‬
‫عمرو الشيباني‪،‬وغيرىم ممن كان يعتني بجمع المغة‪ ،‬أي موضوعات‬
‫المسان‪.‬‬

‫‪ -‬إال أن عبارتيم المغة العربية التي كانوا يقابمون بيا المغة األعجمية‪،‬‬
‫ّأدتيم حتما إلى ىذا االشتراك الداللي بين المغة و المسان الذي رأيناه عند‬
‫ابن جني‪،‬ألنو أصبحت المسافة قريبة بين ىذه العبارة وعبارة المسان‬
‫فعبروا ىذه المسافة بأن أشربوا لفظ المغة مدلول المسان‪،‬و حصل‬
‫العربي‪َ ،‬‬
‫بذلك ترادف تام بيذا االعتبار‪،‬وحافظوا مع ذلك عمى المدلول األول لمفظ‬
‫المغة‪ ،¹⁹‬وبيذا المعنى وظف الجاحظ كممة المغة في كتابو البيان مصرحا‬
‫أن العربية وأن "العرب كميم شيء واحد ألن الدار والجزيرة واحدة ‪...‬فيم‬
‫في ذلك بذلك شيء واحد في الطبيعة والمغة ‪. ²⁰"...‬‬

‫‪ -‬المغة في مقابل االصطالح‪ :‬فالكممات االصطالحية في المغة معظميا‬


‫ليا معنى لغوي مبتذل عند عامة الناس‪ ،‬ثم يأخذ معناه االصطالحي في‬
‫عمم من العموم‪ ... ،‬مثل الصوم‪ ،‬لغة‪ :‬ىو اإلمساك عن الشيء مطمقا‬

‫‪375‬‬
‫‪،‬ومنو قولو تعالى ‪{:‬فقولي إني نذرت لمرحمن صوما فمن اكمم اليوم إنسيا‬
‫}‪،‬أي إمساكا عن الكالم‪ ،‬أما في اصطالح الفقياء‪ ،‬فيو‪ :‬اإلمساك عن‬
‫شيوتي البطن والفرج بنية من طموع الفجر إلى غروب الشمس‪. ²¹‬‬

‫‪ -‬لغة في مقابل الكالم المستعمل‪ :‬أي كممة فصيحة في مقابل ما ىو‬


‫أفصح منيا‪ ،‬وقد كان ذلك زمان ابن السكيت‪ ،‬فقد أكثر في كتابو إصالح‬
‫المنطق من إيراد المفظة األكثر استعماال لدى القبائل العربية‪ ،‬ثم يردفيا‬
‫ٍ‬
‫بتأدية أخرى لمّفظة نفسيا ويسمييا لغة‪ ،‬وذلك مثل قولو ‪ :‬فَكاك الرقبة وىو‬
‫الكالم المستعمل‪ ،‬وِفكاك الرقبة بكسر الفاء لغة‪.²²‬‬

‫باعتبار تركيبه‪:‬‬

‫فقو المغة باعتبار تركيبو يعرف تعريفا لغويا وآخر اصطالحيا‪.‬‬

‫لغة‪ ،‬ىو فيم المغة والعمم بيا وادراك كنييا‪.²³‬‬

‫وىو في االصطالح عند القدماء من عمماء العرب لفظ أطمق عمى أحد‬
‫فروع عمم المغة‪( ،‬وموضوعو ىو البحث عن الفوارق المغوية التي تنتج عن‬
‫التفريع الداللي وتشعبات المعاني‪ ،‬أو بعبارة أخرى التمييز بين الوضع‬

‫‪376‬‬
‫واالستعمال فيما يرجع إلى المفردات‪ ،‬أي الوضع المغوي األول وما يتفرع‬
‫عنو من استعماالت مختمفة ‪(:‬الجماعية اإلقميمية أو الفردية النادرة) ‪.²⁴‬‬

‫أما ابن خمدون فقد تحدث عن فقو المغة في الركن الثاني من أركان‬
‫عموم المسان العربي‪ ،‬أال وىي عمم المغة‪ ،‬بما يوحي أن ىذا العمم في حسو‬
‫فرع وامتداد لعمم المغة حيث قال‪":‬ثم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى‬
‫عمى العموم ثم تستعمل في األمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بيا‪ ،‬فرق‬
‫ذلك عندنا بين الوضع واالستعمال‪ ،‬واحتاج الناس إلى فقو في المغة عزيز‬
‫المأخذ‪ ،‬كما ُوضع األبيض بالوضع العام لكل ما فيو بياض‪ ،‬ثم اختص‬
‫ما فيو بياض من الخيل باألشيب‪ ،‬ومن اإلنسان باألزىر‪ ،‬ومن‬

‫الغنم باألممح‪ ،‬حتى صار استعمال األبيض في ىذه كميا لحنا وخروجا‬
‫عن لسان العرب‪ ،‬واختص بالتأليف في ىذا المنحى الثعالبي‪.²⁵"...‬‬

‫وىناك تعاريف أخر تحدثت عن الجدة التي لحقت فقو المغة‪ ،‬أضربنا‬
‫عنيا صفحا‪ ،‬وباالرتداد إلى الكتب التي عالجت قضايا فقو المغة‪ ،‬نمفي‬
‫منيا الخصائص البن جني الذي ضن عمى كتابو باسم فقو المغة قد ناقش‬
‫فيو بفكره الثاقب ومنطقو السميم أبحاثا خطيرة في أصل المغة أإليام ىي أم‬
‫اصطالح؟ وفي مقاييس العربية و اطرادىا وشذوذىا و تصاقب ألفاظيا‬

‫‪377‬‬
‫لتصاقب معانييا واتفاق المفظين واختالف المعنيين واالشتقاق األكبر‬
‫وتركب المغات واختالف الميجات"‪ ²⁶‬ومن كتب ىذا المضمار أيضا‬
‫«الصاحبي في فقو المغة»البن فارس ت‪395‬ه‪ ،‬إذ ذىب فيو إلى أن المغة‬
‫ضمنو بعض المباحث اليامة كخصائص ىذه المغة‪ ،‬و‬
‫ّ‬ ‫إليام‪ ،‬كما‬
‫اشتقاقتيا‪ ،‬وقياسيا‪ ،‬و مترادفيا‪ ،‬و مجازىا‪ ،‬واشتراكيا‪ ،‬ونحتيا‪ ،‬واختالف‬
‫لغاتيا وليجاتيا‪ ،‬أما الثعالبي ت‪429‬ه في «فقو المغة» لم يضمنو إال‬
‫مباحث قميمة نيطت بفقو المغة‪ ،‬أما القسم اآلخر من كتابو فيو منضو‬
‫تحت ما يعرف بمعجم المعاني‪.‬‬

‫كما تعرض ابن سيده ت‪458‬ه في«المخصص» لبعض البحوث‬


‫المتعمقة بنشأة المغة العربية‪ ،‬وبالترادف والتضاد واالشتراك واالشتقاق‬
‫وتعريب األلفاظ األعجمية‪.²⁷‬‬

‫واألمر لم يقتصر عمى الكتب المطولة‪ ،‬فقد ألفت مصنفات كثيرة في‬
‫جزئيات ىذا العمم قديما‪ ،‬مثل كتاب االشتقاق البن دريد‪ ،‬واألضداد ألبي‬
‫حاتم السجستاني‪ ،‬واألضداد في المغة البن األنباري‪ ،‬و شفاء الغميل فيما‬
‫ورد في كالم العرب من الدخيل لشياب الدين خفاجي‪ ،‬وما اختمفت ألفاظو‬
‫واتفقت معانيو لؤلصمعي‪ ،‬وما وقع في القرآن من المعرب‬

‫‪378‬‬
‫لمسيوطي‪...‬والمزىر في عموم المغة وأنواعيا لو أيضا‪ ،‬ويشتمل ىذا الكتاب‬
‫عمى الكثير من أبواب فقو المغة مثل مباحث الترادف واالشتراك والتوليد‬
‫والتعريب وغيرىا‪ . ²⁸‬وبعد ىذا العرض الذي أبان لنا عن ماىية فقو المغة‬
‫والمواضيع التي ىي من صميم اىتماماتو‪ ،‬يمكن لنا القول بأن فقو المغة‬
‫ىو تتويج لذلك الجيد الذي بذلو عمماء المغة‪ ،‬فبعدما أعنتوا أنفسيم في‬
‫جمع المادة المغوية وشرحيا بالرحمة إلى منتجعات البادية لمسماع من‬
‫الفساد‪ ،‬وقد كانت طرائق جمعيم‬
‫ُ‬ ‫المسان الحضري‬
‫َ‬ ‫أىميا‪،‬وبعدما داخل‬
‫وسماعيم عممية‪ ،‬نيضوا فييا بمسح كامل لجميع أقطار شبو الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬وفي مدة فاقت القرن‪ ،‬ممتمسين ثبوت المفظة وتنوع صيغيا‬
‫ومصادر ثبوتيا ومدى شيوعيا وتعدد دالالتيا‪ ،‬فكانت رسائل الموضوعات‬
‫أوال‪ ،‬ثم المعاجم الضخمة التي حاولت أن تحصي أكبر عدد ممكن من‬
‫الكممات العربية‪ ،‬وترتيبيا عمى نمط معين وشرح كمماتيا مستشيدين عمى‬
‫ذلك بما غصت بو المدونة المستقراة‪،‬عمى غرار صنيع الخميل في كتابو‬
‫العين‪ ،‬وكل من انبرى ليذا األمر‪ُ ،‬ع ّد من عمماء المغة ‪.‬‬

‫فعمم المغة في تحديد ابن خمدون لو ىو‪" :‬بيان الموضوعات المغوية‬


‫"‪ ،²⁹‬وىو عند الرضي اإلسترابادي "عمم األلفاظ المغوية السماعية "‪. ³⁰‬‬

‫‪379‬‬
‫وبعد ىذا كمو والسيما قُبيل إقفال أبواب السماع بفساد األلسنة في‬
‫الج َّماع لممادة المغوية‬
‫جميع أنحاء البيئة العربية‪ ،‬وبعد ما وقف ىؤالء ُ‬
‫أنفسيم مشدوىين أمام أسرار ىذه المغة والخصائص التي ازدانت بيا‬
‫واختصت عن سائر المغات بيا‪ ،‬وبعدما َّ‬
‫تبدد الخوف من ذىاب المغة‬
‫بموت أصحابيا‪ ،‬وتك ّشف ليم ما غمض من دالالتيا‪ ،‬وما التبس عمييم‬
‫من تنوعاتيا‪ ،‬اغتدت الحاجة ماسة إلى استكناه أسرارىا وبيان خصائصيا‪،‬‬
‫فأخذوا في التعمق في ذلك إلى غير غاية‪ .‬وما يقضي بصحة ما نرمي‬
‫إليو‪ ،‬أن ابن فارس وىو من فقياء المغة العظام قد خمف لنا معجمين‬
‫ىامين‪ ،‬أال وىما المجمل والمقاييس‪ ،‬باإلضافة إلى ابن جني الذي بو ختم‬
‫َّ‬
‫السماع ت‪392‬ه‪ ،‬فقد خمد في فقو المغة وأصوليا كتابا أسماه‪:‬‬
‫«الخصائص»‪.‬‬

‫ومن خالل ما أوردناه نخمص إلى أن فقو المغة ىو عمم يتوسع في‬
‫دراسة مظاىر وخصائص العربية في مستوياتيا المختمفة‪ ،‬فيحدثنا عن‬
‫اإلعراب الذي ىو لب الدرس النحوي‪ ،‬لكنو ال يتعرض لجزئياتو وتفاصيمو‬
‫وأبوابو‪ ،‬وانما يتحدث عنو كظاىرة وميزة امتازت بيا المغة العربية‪ ،‬كأن‬
‫يجيب عن مسألة ذات بال أال وىي‪ ،‬عالم أعربت العرب كالميا؟ كما‬
‫تناولت بالدرس بعض مالو عالقة بالدرس الصرفي‪ ،‬نحو االشتقاق‪ ،‬لكنو‬
‫‪380‬‬
‫ال يتتبعو نوعا نوعا‪ ،‬وكممة كممة‪ ،‬أعني االشتقاقات السبعة والتصاريف‬
‫الثالثة‪ ،‬وانما عن وجوده في العربية وارتداد التصاريف الناجمة عن المادة‬
‫الواحدة إلى معنى جامع يربط بينيا‪ ،‬وعن دوره في العممية التوليدية‪ ،‬وكذا‬
‫داللة بعض األوزان الصرفية عمى المعاني‪ ،‬كما ُيعنى فقو المغة كذلك‬
‫بداللة األصوات عمى المعاني‪ ،‬السيما بين المفظين المتشابيين لفظا‬
‫ومعنى‪ ،‬أما عن تعرضيا لما ىو من قبيل الدرس المعجمي فحدث عن‬
‫البحر وال حرج فكيف؟ وىي إحدى فروع عمم المغة‪ ،‬لكنيا ال تشرح الكممة‬
‫لذاتيا‪ ،‬وانما فيما ىو راجع إلى مقابمتيا بنظائرىا‪ ،‬إما ترادفا أو تضادا أو‬
‫اشتراكا‪ ،‬كما تتقاطع وعمم البالغة في فن البيان من بعض الوجوه‪ ،‬ذلك أن‬
‫بعض المعاني تُكسى بألفاظ تتواءم معيا‪ ،‬ثم تأتي معان أخرى فتأخذ ذات‬
‫المفظ اللتقائيم في معنى مشترك جامع بينيم‪ ،‬أي أن المعنى الثاني‬
‫يستعير من األول لفظو لقاء المشابية التي بينيما‪.³¹‬‬

‫الخالف الدائر بين المحدثين في تحديد فقه المغة وعمم المغة‪:‬‬

‫لقد وقع خمط كبير ولبس جسيم بين عديد الدارسين‪ ،‬فتجد من يجعل‬
‫سيان‪ ،‬وان منيم لمن يجعل فقو المغة شيئا مختمفا عن‬
‫فقو المغة وعمم المغة ّ‬
‫عمم المغة‪ ،‬وفييم من يجعل عمم المغة مرادفا لمسانيات‪ ،‬فإما أن يوردىا كما‬

‫‪381‬‬
‫ىي (عمم المغة)‪ ،‬وفي أحسن أطواره يمحق بيا كممة عام‪ ،‬أي عمم المغة‬
‫العام‪ ،‬كما نمفي خمطا بين فقو المغة و الفيمولوجيا والمسانيات المقارنة‪،‬‬
‫لذلك سنحاول ىاىنا أن نستعرض أراء الدارسين وتصوراتيم حول ىذه‬
‫المصطمحات‪ ،‬فنبدأ أوال بمن جعميما سواء‪ ،‬ثم نثني بمن فرق بينيما ‪.‬‬

‫أ) من عدل بينهما من الدارسين‪:‬‬

‫يقول الشيخ محمد بن إبراىيم الحمد ‪ " :‬فبعض المؤلفين المحدثين‬


‫يفرق بين المصطمحين‪ ،‬وبعضيم يجعميما شيئا واحدا باعتبار أن العمم‬
‫والفقو شيء واحد‪ ... ،‬فإذا استخدم مصطمح « فقو المغة» باعتباره شامال‬
‫لدراسة المغة بعامة‪ ،‬فيو األنسب ألنو مستخدم في عربيتنا وارد في تراثنا‪،‬‬
‫واذا استخدم اصطالح «عمم المغة»‪ ،‬فإنما يعنى بو المرادف لفقو المغة‪،‬‬
‫بناء عمى المعنى المغوي‪ ،‬وال مشاحة في االصطالح"‪. ³²‬‬

‫من خالل ىذا التصور الذي أورده محمد بن إبراىيم الحمد‪ ،‬يتبين لنا‬
‫أنو فاتو أن اصطالح عمم المغة قد ورد كذلك في تراثنا‪ ،‬وقد عرضنا سالفا‬
‫كالما البن خمدون يتناول فيو «عمم المغة»‪ ،‬والشيخ في كالمو السابق‬
‫يستبعد عمم المسان استبعادا عند إيراده اصطالح عمم المغة‪ ،‬عمى خالف‬
‫بعض المحدثين الذين يعبرون عن المسانيات بعمم المغة‪ ،‬وفيما يأتي من‬

‫‪382‬‬
‫الكالم سنعرض ليم بمشيئة اهلل تعالى‪ ،‬واآلية عمى صحة ما نأتيو أن‬
‫الشيخ عند حديثو عن الخمط بين المصطمحين (فقو المغة وعمم المغة )‬
‫قال‪":‬لقد حصل خمط بين المصطمحين السابقين بسبب ترجمة بعض‬
‫المصطمحات الغربية ومحاولة تطبيقيا عمى لغتنا "‪. ³³‬‬

‫ومن الذين سمكوا ىذا المنحى المتمثل في النأي عن التفريق بينيما‬


‫صبحي صالح‪ ،‬بدعوى أنو"من العسير التفريق بينيما‪،‬ألن جل مباحثيما‬
‫متداخمة لدى طائفة من العمماء في الشرق والغرب قديما وحديثا‪ ،‬وقد سمح‬
‫ىذا التداخل أحيانا بإطالق كل من التسميتين عمى األخرى‪ ،‬حتى غدا‬
‫العمماء يسردون البحوث المغوية التي تسمك عادة في عمم المغة‪ ،‬ثم يقولون‬
‫‪ :‬وفقو المغة يشمل معظم البحوث السابقة وال سيما إذا قارنت ىذه البحوث‬
‫بين لغتين أو لغات متعددة "‪ ³⁴‬و يضيف فيقول‪ ":‬واذا التمسنا التفرقة بين‬
‫ىذين الضربين من ضروب الدراسة المغوية من خالل التسميتين‬
‫المختمفتين المتين تطمقان عمييما‪ ،‬وجدناىا تافية ال وزن ‪Linguistique‬‬
‫‪ou science du langage‬ليا ‪،‬فاسم عمم المغة عند الفرنجة‬

‫أي العمم المختص بالكالم‪ ،‬أو المغة‪ ،‬واسم‬ ‫‪ ،‬وىي كممة ‪Philologie‬‬
‫فقو المغة عندىم ‪ Logos‬بمعنى صديق‪ ،‬و الثاني ‪ Philolos‬مركبة من‬

‫‪383‬‬
‫بمعنى الخطبة‪ ،‬أو الكالم‪ ،‬فكأن‬ ‫لفظين إغريقيين أحدىما الثاني‬
‫واضع التسمية الحظ أن فقو المغة يقوم عمى حب الكالم لمتعمق في‬
‫دراستو ‪³⁵"...‬‬

‫إذن صبحي صالح يرى أن صعوبة تحديد الفرق بين المصطمحين‬


‫يرتد إلى التداخل الذي بينيما (فقو المغة وعمم المغة )‪،‬في الشرق و‬
‫الغرب‪،‬و قولو في الشرق‪،‬يقصد بو عند العرب‪ ،‬ونحن قد بينا أن األوائل قد‬
‫فرقوا بينيما‪ ،‬إذ يعتبر فقو المغة امتدادا وفرعا عن عمم المغة وىو متأخر‬
‫عنو‪،‬وأما قولو في الغرب‪ ،‬فإن كان يقصد أن ذلك قد كان قبل زمان دي‬
‫سوسير فمكالمو قدر كبير من الصحة‪ ،‬وىذا ما بينو عبده الراجحي بقولو‬
‫‪ ":‬كان ألعمال بوب وراسك وجريم تأثير كبير عمى من خمفيم من باحثي‬
‫المغة‪ ،‬في ألمانيا وفي األقطار األوربية األخرى‪ ،‬وقد ميدت لتطوير الدرس‬
‫المغوي حيث بدأ التمييز بين فقو المغة وعمم المغة"‪ ،³⁶‬وأما إن كان يرمي‬
‫بما قال إلى المسانيات‪ ،‬وقد أومأ إلى ذلك بتوظيفو مصطمح فيو مجانب‬
‫لمحقيقة‪ ،‬وسنكشف ذلك بعد حين ‪Linguistique .‬‬

‫سووا بينيما من الدارسين العرب المحدثين؛ الدكتور عمي‬


‫ومن الذين َّ‬
‫عبد الواحد وافي بحيث لم يفرق بينيما تفريقا واضحا‪ ،‬حتى إنيما يكادان‬

‫‪384‬‬
‫أن يكونا شيئا واحدا‪ ،‬غير أن فقو المغة عنده مختص بالبحوث المتصمة‬
‫بعمم المغة وحده ‪ .‬ولعمي عبد الواحد وافي كتاب تحت اسم «عمم المغة »‬
‫لكن عمم المغة عنده يدل عمى مفيوم المسانيات العام ‪.‬‬

‫وممن ذىب ىذا المذىب الدكتور السيد يعقوب بكر حيث قال في‬
‫مقدمة كتابو «نصوص في فقو المغة العربية »‪ ":‬فقو المغة‪،‬ىوعمم المغة‬
‫»‪،‬فاعتبر فقو المغة ترجمة لمصطمح الفيمولوجيا ىذا من جية ‪ ،‬ومن جية‬
‫ثانية اعتبره مرادفا لمصطمح عمم المغة"‪. ³⁷‬‬

‫ب‪ -‬من فرق بينهما من الدارسين‪:‬‬

‫من عجب أن األستاذ بمعيد صالح لما جاء ليتحدث عن مواضيع فقو‬
‫عرف فقو المغة‬
‫المغة‪ ،‬ذكر جل المباحث التي عرضنا ليا سالفا‪ ،‬لكنو ّ‬
‫عمى النحو اآلتي ‪ " :‬ىو الذي ُيعنى بدراسة النصوص بغية إقرار الصحيح‬
‫منيا عمى وجو الخصوص‪ ،‬ويشمل فقو المغة عمى الدراسة المقارنة بين‬
‫مختمف المغات (فقو المغة المقارن ) وشاع استعمال لفظة عمم المغات الذي‬
‫ُيعنى بدراسة المغات عمى أسس عممية حديثة حيث يختمف في منيجو عن‬
‫فقو المغة"‪ ،³⁸‬صحيح أنو نبِو إلى الفرق الذي بين فقو المغة وعمم المغة‪،‬‬

‫‪385‬‬
‫لكنو منسحب عمى الدرس المغوي الغربي فيو‪ ،‬إذن يفرق بين الد ارسات‬
‫المغوية التاريخية المقارنة وبين المسانيات ‪.‬‬

‫ومن خالل تصفحنا كتاب فقو المغة لمراجحي‪ ،‬تك ّشف لنا أنو ينظر‬
‫إلى الموضوع بنظر واع‪ ،‬ذلك أنو استيل كتابو بالحديث عن فقو المغة‬
‫عرج عمى فقو المغة وعمم المغة‬
‫وعمم المغة كما ينظر إلييما الغربيون‪ ،‬ثم َّ‬
‫عند العرب فأجاد وأصاب‪ ،‬وقد كان كالمو في ذلك مطابقا لما أوردناه قبال‬
‫‪,‬وال بأس أن نورد ما ذكره عن ىذين ِ‬
‫العْم َمين حسب الرؤية الغربية ليما ‪.‬‬

‫ينقل لنا عن روبنز في حديث لو عن فقو المغة ما يمي‪ ":‬إن مصطمح‬


‫فقو المغة يستعمل استعماال مختمفا عند كل من البريطانيين و األلمان‪ ،‬ففي‬
‫استعمال البريطانيين يتساوى االصطالح مع فقو المغة المقارن الذي ىو‬
‫أقدم وما يزال معروفا يساعد عند المغويين ما يسمونو عمم المغة التاريخي‬
‫والمقارن‪ ،‬وىو يعني عند األلمان‪ ،‬الدراسة العممية لمنصوص األدبية‬
‫القديمة‪ ،‬ويعني أكثر من ذلك دراسة الثقافة والحضارة من خالل النصوص‬
‫األدبية"‪ . ³⁹‬ذا وقد بين عبده الراجحي أن عموم المغة عند الغربيين قد‬
‫كانت قبال غير متمايزة عندىم‪ "،‬ثم ومنذ القرن التاسع عشر بدأ عمم المغة‬
‫يأخذ حدوده الواضحة‪ ،‬وىنا تبرز أسماء ثالثة من المغويين الكبار‪ ،‬ىم‬

‫‪386‬‬
‫سوسير و بمومفيمد وسابير‪،...‬ومن محاضرات سوسير يتضح أن عمم المغة‬
‫ال يدرس لغة معينة‪ ،‬و إنما يشمل كل ظواىر الكالم اإلنساني‪ ،‬سواء كان‬
‫أصحابو متحضرين أم بدائيين‪ ،‬وسواء كان ذلك في فترات قديمة أم حديثة‪،‬‬
‫ميز «عمم المغة » عن « فقو المغة »‪ ،‬حينما أكد أن عمم المغة يدرس‬
‫كما ّ‬
‫المغة من أجل ذاتيا‪ ،‬أي أنو ال يدرسيا باعتبارىا وسيمة لغاية أخرى‬
‫كدراسة الثقافة أو األدب في «فقو المغة »"‪ ،⁴⁰‬والمقصود بعمم المغة عند‬
‫الراجحي ىو عمم المسان العام ‪.‬‬

‫ومن الذين أجادوا وأفادوا ونظروا بنظرىم الثاقب كما ىي عادتيم‬


‫دواما األستاذ عبد الرحمن الحاج صالح فقد عرض المسألة عرضا ضافيا‬
‫ورد اآلتي‪ ":‬أما فقو المغة الذي بدأ يستعممو العمماء‬
‫بالم َ‬
‫وافيا‪ ،‬نجتزئ منيا ُ‬
‫في ق‪ 5‬ه فيو ال يدل أبدا عندىم عمى ما يدل عميو عمم المسان الحديث‬
‫آثره بعض إخواننا فأطمقو عميو )‪...‬فإن العمماء العرب في القديم‬
‫(وان كان َ‬
‫ما أرادوا بيذا إال ما ىو متعمق بالدراسة المتعمقة لمغة فقط‪ ،‬ال لمسان كمو‪،‬‬
‫وموضوعو ىو البحث عن الفوارق المغوية الناتجة عن التعارض بين‬
‫الوضع و االستعمال وما يترتب عمى ذلك من التفريع الداللي و تشعبات‬
‫المعاني‪⁴¹" ...‬‬

‫‪387‬‬
‫وفي ذات السياق لكن في موضع آخر يقول ‪ ":‬عند غيرنا(فقو المغة)‬
‫من معاصرينا ىو ترجمة لمفيومين متقاربين ‪:‬‬

‫أ‪ -‬مفيوم الفيمولوجيا عند قدماء الغربيين (اليونانيين وكل من تأثر‬


‫بأدبيم من األوربيين) وىو الدراسة المغوية لمنصوص القديمة إلدراك فحواىا‬
‫و مغزاىا‪ ،‬وكانت ىذه الدراسة من جممة الوسائل (خصوصا في القرون‬
‫األخيرة) التي يستعين بيا العمماء األوربيون‪ ،‬غير المغويين‪ ،‬كالمؤرخ ورجل‬

‫القانون وناقد اآلثار األدبية‪... ،‬وعمى ىذا لم يكن ىذا الفن مستقال بذاتو‪،‬‬
‫أما الغرض منو أن يخدم غيره من العموم اإلنسانية‪.‬‬

‫ب‪ -‬مفيوم الدراسة المغوية التاريخية‪ ،‬أو عمم المسان المقارن‪ ،‬أو‬
‫النحو المقارن والمقصود منو شيئان‪ :‬إثبات المراحل التطورية التي تمر‬
‫عمييا المغة‪ ،‬و إ ثبات القرابة بين المغات باستعمال مناىج المقارنة‬
‫التاريخية"‪. ⁴²‬‬

‫وجامع ذلك أن الفيمولوجيا األوربية من وجية نظر الحاج صالح‪ ،‬قد‬


‫تعاورت عمييا طريقتان‪" ،‬طريقة تقتصر عمى النصوص القديمة وال تتعداىا‬
‫ثم جددت في القرن التاسع عشر فأدخمت فييا طرق النحو المقارن‪ ،‬ثم‬

‫‪388‬‬
‫غمبت عمييا النزعة التاريخية فصار المغويون في ذلك العيد في غير ىذه‬
‫المناىج التطورية منيجا عمميا عمى اإلطالق "‪.⁴³‬‬

‫والذي عرضنا لو يمثل بحق تصور الحاج صالح ليذه المفاىيم‪ ،‬فال‬
‫ُي ِّ‬
‫عكر عمينا بعد ىذا ما زعمو عبد المالك مرتاض ‪ -‬وىو عندنا صادق‬
‫مصدق ‪ -‬من لقياه بالحاج صالح في وىران‪ ،‬فدار بينيما كالم مفاده أن‬
‫المسانيات عند الحاج صالح تعني فقو المغة المتمحض لدراسة لغة واحدة‬
‫بعينيا‪ ،‬إذ كان عمم المغة العام يطمق عميو حسب األستاذ الحاج صالح‬
‫لسانيات عامة‪ ،‬ثم يضيف إلى ذلك فيقول‪":‬ونحن عدنا إلى الكتب‬

‫المتخصصة والى الموسوعات الفرنسية الصادرة منذ شيور (المقاء تم عام‬


‫‪2004‬م) فألفيناىا تجمع عمى أن المسانيات ىي عمم المغات ال عمم لغة‬
‫واحدة"‪.⁴⁴‬ال يسعنا بعد ىذا اإليراد إال أن نقول‪ :‬ليس لنا عمم بما جرى‬
‫بينيما من حديث إال ما ورد‪ ،‬ولعل مأتى ذلك من سوء فيم أحدىما‬
‫لآلخر‪ ،‬ولكن الكتابات السابقة لمحاج صالح قاضية بخالف ذاك ‪ ،‬ذلك أنا‬
‫إذا أبنا إلى كتابو الموسوم ‪«:‬بحوث ودراسات في عموم المسان» وجدناه‬
‫يقول‪ ...":‬وىو(الفارابي) ينطمق دائما من ىذه التسمية « عمم المسان »‬
‫لمداللة عمى الموضوعات العامة والدالالت الخاصة‪ ،‬وكذلك العمماء الذين‬

‫‪389‬‬
‫سبقوه‪ ،‬واذا أرادوا التخصيص وصفوا ىذا المفظ أو أضافوه إلى اسم األمة‬
‫المعينة‪ ،‬ومنو قول الفارابي ‪«:‬وأىل العمم بذلك المسان» وكذا قول الشافعي‬
‫‪«:‬عند أىل العمم بمسان العرب»"‪ ،⁴⁵‬بل ىو يقصر فقو المغة عمى الدراسة‬
‫المتعمقة لمغة فقط‪ ،‬ال لمسان كمو ‪.‬‬

‫خاتمة‬

‫بعد ىذا العرض الذي حاولنا من خاللو تحديد المصطمحات‪ ،‬وبيان‬


‫المفاىيم التي وقع فييا غمط جسيم بعث عمى الحيرة والقمق‪ ،‬انتيينا إلى‬
‫طائفة من األحكام التي ُيتوخى منيا إزالة كل لبس وتبديد كل قمق‪:‬‬

‫‪ -‬حري بكل دارس أن يحيط عمما بجميع ىذه المفاىيم‪ ،‬وأن يمنحيا‬
‫ما يميق بيا من المصطمحات حتى ال نقع في الغمط الذي وسمت بو‬
‫بعض دراسات العرب المحدثين‪ ،‬و ال يتأتى ذلك إال بدراسة معمقة لما‬
‫كتبو األقدمون و المحدثون‪.‬‬

‫‪ -‬عمم المغة ىو حصيمة لتمك الجيود التي نيض بيا عمالقة المغة في‬
‫جمع المادة المغوية وشرحيا‪ ،‬وبطرائق عممية تقوم عمى السماع والمسح‬
‫الكامل لؤلقطار العربية ‪.‬‬

‫‪390‬‬
‫‪ -‬فقو المغة ىو فرع وامتداد لعمم المغة‪ ،‬وكان الباعث لو بعد اطمئنانيم‬
‫عمى لغتيم بتجميعيا‪،‬ىو التفريق بين الوضع واالستعمال‪ ،‬و الرغبة‬
‫الجامحة في استكناه أعماق المغة‪.‬‬

‫‪ -‬عمم المغة عندنا ىو أحد أركان عمم المسان العربي‪.‬‬

‫‪ -‬فقو المغة عند الغربيين ىو الفيمولوجيا‪ ،‬أي دراسة المغة الالتينية‬


‫واإلغريقية ليس غير‪ ،‬أما ُّ‬
‫عد المسانيات المقارنة من ىذا القبيل فغير‬
‫وجيو‪ ،‬ذلك أن المسانيات المقارنة ىي دراسة عممية بحتة ال غاية من‬
‫ورائيا سوى دراسة المغة‪ ،‬بينما الفيمولوجيا يستعين بيا المثقف لغاية أخرى‪،‬‬
‫أي أنيا قامت بغية إسداء خدمة لسوائيا من العموم اإلنسانية‪.‬‬

‫‪ -‬عمم المغة عندىم كانت الحدود في أول عيده والفواصل بينو وبين‬
‫معالمو بنزوعو إلى المسمك‬
‫ُ‬ ‫فقو المغة تكاد أن تكون متالشية‪ ،‬ثم اتضحت‬
‫العممي القائم عمى الوصف‪ ،‬الميتم بالمسان البشري ال بمغة واحدة‪ ،‬ونحن‬
‫نرتضي لو اصطناع مصطمح المسانيات بدال من عمم المغة‪ ،‬بيد أنو موجود‬
‫في تراثنا العربي وبمفيوم مغاير‪ ،‬ثم إن النظرة الشمولية لمسانيات وتحت‬
‫مصطمح عمم المسان‪ ،‬ىي من اصطناع الفارابي قبل أن يكون ليا وجود‬
‫في الدرس الغربي‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫هوامش المقال ‪:‬‬
‫‪ -1‬محمد الحمد‪ ،‬فقو المغة‪ ،‬دار ابن خزيمة‪ ،‬ط‪ ،1‬الرياض‪ ،‬ص‪17‬‬

‫‪ -2‬نفسو‪.‬‬

‫‪ -3‬المرجع نفسو‪ ،‬ص‪18-17‬‬

‫‪ -4‬نفسو ‪.‬‬

‫‪ -5‬محمد الحباس‪ ،‬محاضرات في فقو المغة‪ ،‬دار غبريني‪ ،2006 ،‬ص‪11‬‬

‫‪ -6‬محمد الحمد‪ ،‬فقو المغة‪ ،‬ص‪18‬‬

‫‪ -7‬محمد الحباس‪ ،‬محاضرات في فقو المغة‪ ،‬ص‪12‬‬

‫‪ -8‬عبد الرحمان الحاج صالح‪ ،‬السماع المغوي العممي ‪ ،‬موفم لمنشر‪ ،‬الجزائر‪،2007،‬‬
‫ص‪156‬‬

‫‪ -9‬نفسو‪.‬‬

‫‪ -10‬محاضرات في فقو المغة ‪ ،‬ص‪12‬‬

‫‪ -11‬ابن خمدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬دار اليدى‪ ،‬الجزائر‪ ،2009 ،‬ص‪624‬‬

‫‪ -12‬محاضرات في فقو المغة‪ ،‬ص‪13‬‬

‫‪ -13‬ينظر‪ :‬السماع المغوي العممي‪،‬ص‪،161‬بحوث ودراسات في عموم المسان‪،‬موفم‬


‫لمنشر‪ ،‬الجزائر‪ ،2007،‬ص‪82-81‬‬

‫‪ -14‬الحاج صالح‪ ،‬بحوث ودراسات في عموم المسان‪ ،‬ص‪82‬‬

‫‪ -15‬السماع المغوي العممي عند العرب‪ ،‬ص‪153‬‬

‫‪392‬‬
‫‪ -16‬المرجع نفسو‪ ،‬ص‪156‬‬

‫‪ -17‬نفسو‪.‬‬

‫‪ -18‬نفسو‪.‬‬

‫‪ -19‬الحاج صالح ‪ ،‬بحوث ودراسات‪ ،‬ص‪82‬‬

‫‪ -20‬السماع المغوي‪ ،‬ص‪190‬‬

‫‪ -21‬محمد الحباس‪ ،‬محاضرات في فقو المغة ‪ ،‬ص‪15‬‬

‫‪ -22‬ينظر‪ :‬السماع المغوي العممي عند العرب‪ ،‬ص‪44-43‬‬

‫‪ -23‬محمد الحمد‪ ،‬فقو المغة ‪ ،‬ص‪19‬‬

‫‪ -24‬محمد الحباس‪ ،‬محاضرات في فقو المغة‪ ،‬ص‪16‬‬

‫‪ -25‬ابن خمدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ص‪628‬‬

‫‪ -26‬صبحي صالح‪،‬دراسات في فقو المغة‪،‬ص‪22‬‬

‫‪ -27‬المصدر نفسو‪ ،‬ص‪( 23-22‬بتصرف)‬

‫‪ -28‬محمد الحباس ‪،‬محاضرات في فقو المغة‪ ،‬ص‪19‬‬

‫‪ -29‬ابن خمدون‪ ،‬المقدمة‪ ،‬ص‪626‬‬

‫‪ -30‬محمد الحباس ‪ ،‬محاضرات في فقو المغة‪ ،‬ص‪21‬‬

‫الصريم يطمق عمى الميل و النيار معا‪،‬وأصل ىذا المفظ أنو من القطع‪ ،‬ذلك أن‬
‫‪ّ -31‬‬
‫الميل ينصرم من النيار‪ ،‬وكذلك النيار ينصرم من الميال‪،‬وىما من األضداد‪،‬لكن في‬

‫‪393‬‬
‫أصل الوضع خصت إحداىما بيذا المفظ ‪،‬ثم استعارتو الثانية نظ ار اللتقائيما في معنى‬
‫الصريم»‪.‬‬
‫مشترك‪ ،‬يعد أصال لمفظة « ّ‬
‫‪ -32‬محمد الحمد‪ ،‬فقو المغة‪ ،‬ص‪20‬‬

‫‪ -33‬المرجع نفسو‪ ،‬ص‪21‬‬

‫‪ -34‬صبحي صالح‪ ،‬دراسات في فقو المغة‪ ،‬ص‪19‬‬

‫‪ -35‬نفسو‪.‬‬

‫‪ -36‬عبده الراجحي‪ ،‬فقو المغة‪ ،‬دار النيضة؛ بيروت‪ ،‬ص‪18‬‬

‫‪ – 37‬المرجغع نفسو‪ ،‬ص‪9‬‬

‫‪ -38‬السيد يعقوب بكر‪ ،‬نصوص في فقو المغة العربية‪،‬ج‪ ،1‬دار النيضة العربية‪،‬‬
‫بيروت ‪ ، 1970،‬ص‪11‬‬

‫‪ -39‬بمعيد صالح‪ ،‬فقو المغة العربية ‪ ،‬دار ىومو‪،‬الجزائر‪ ،‬ص‪10‬‬

‫‪ -40‬عبده الراجحي ‪ ،‬فقو المغة‪ ،‬ص‪19‬‬

‫‪ -41‬نفسو‪.‬‬

‫‪ -42‬محمد الحباس‪ ،‬محاضرات في فقو المغة‪ ،‬ص‪21‬‬

‫‪ -43‬الحاج صالح‪ ،‬بحوث ودراسات في عموم المسان‪ ،‬ص‪17‬‬

‫‪ -44‬عبد المالك مرتاض‪ ،‬نظرية النص األدبي ‪،‬دار ىومة‪ ،‬الجزائر‪ ،2007،‬ص‪152‬‬

‫‪ -45‬الحاج صالح‪ ،‬بحوث ودراسات في عموم المسان‪ ،‬ص‪87‬‬

‫‪394‬‬

You might also like