الفصل الثاني

You might also like

Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 13

‫الفصل الثاني‪ :‬شعرية المكان في الرواية بحر الصمت‬

‫ماهية المكان لغة و اصطالحا‪1/:‬‬

‫‪:‬تعريف المكان لغة ‪1.1‬‬

‫‪ :‬يمكن حصر مفهوم المكان فيما يلي‬

‫وردت عدة مفاهيم لمصطلح "المكان" في المعاجم اللغوية حيث يقول "ابن منظور" في‬
‫معجمه لسان العرب (( المكان هو الموضع ‪ ،‬و الجمع أمكنة‪ ،‬و أما جمع الجمع ‪...‬‬
‫فالمكان و المكانة واحد ‪ ،‬ألنه الموضع لكينونة الشيء فالعرب تقول‪" :‬كن مكانك و قم‬
‫‪-‬مكانك " فقد دل هذا على أنه مصدر))‪01 -‬‬

‫كما وردفي معجم "المجند" ((المكان هو الموضع‪ ،‬وهو مصدر لفعل الكينونة وهو( مفعل‬
‫من كون) فتقول مكان الجريمة أو مكان اللقاء ‪(..‬وهو العلم بمكان) أي له فيه مقدرة أو‬
‫منزلة‪( ...‬وهذا مكان هذا) أي بدله و نجد لحفظ المكان في القرآن الكريم في عدة‬
‫مواضيع منها قوله تعالى ‪ ":‬فحملته فانتبذت به مكانا قصيا" سورة مريم اآلية‪22‬‬

‫ونجدأن مصطلح المكان من خالل هذه المفاهيم ذو دالالت متشابهة ترمي إلى معنى‬
‫‪".‬واحدد وهو " الموضع المشغول‬

‫‪:‬المكان اصطالحا ‪2.1‬‬

‫أما اصطالحا فنجد المكان يتخذ مفهوما أوسع إذا قمنا بربطه بالكائنات الحية سواء إنسان‬
‫أو حيوان‪ ،‬وفي هذا يقول "فاروق أحمد سليم"‪":‬نحصل على لفظ يدل على داللة عميقة على‬
‫صيرورة الحياة اإلنسانية فالمكان هو الموضع الذي يولد فيه اإلنسان وهو الموضع الذي‬

‫‪-‬ابن منظور ‪،‬لسان العرب ‪ ،‬مج‪-14‬ط‪( 3‬مادة‪،‬مكن) ص‪- 11301‬‬


‫أنطوان نعمة وآخرون ‪ ،‬المنجد في اللغة العربيةالمعاصرة (مادة‪،‬مكن) ص ‪-02- 1351‬‬
‫يستقر فيه وهو الموضع الذي يعيش فيه و يتطور فيه إذ ينتقل من حال إلى آخر ‪ ،‬و ما‬
‫‪-‬ينطبق على تطور حياة االنسان الفرد‪ ،‬ينطبق على تطور حياة الجماعات و األمم" ‪01-‬‬

‫فالمكان ذو أهميته بارزة في تشكل الحياة ‪ ،‬فهو الموضع الذي ينشأ فيه الكائن الحي و‬
‫يتطور فيه ‪ ،‬ومن ثم "فإن المكان ال يكون ذا جدوى ‪ ،‬ما لم ترتبط به الحياة ‪ ،‬سواء كانت‬
‫هذه الحياة حياة بشر أم حيوان ‪ ،‬فأي كوكب من الكواكب و أي مكان لم يكتشف بعد ولم‬
‫تخترقه الحياة ليس بمكان فالمكان هو الموضع الذي تزخر فيه الحياة ‪ ،‬كتوفره على‬
‫‪-‬العناصر األساسية للحياة من ماء و وهواء و تراب ‪02- .‬‬

‫من خالل هذا نجد أن إطالق مصطلح المكان على موضع معين مرتبط بشرط أساسي‬
‫‪ .‬وهو "الحياة" التي تمتاز بدورها بثالث خاصيات أساسية هي الماء و الهواء و التراب‬

‫المكان في الدراسات النقدية ‪2/:‬‬

‫‪ :‬عند النقاد الغرب ‪1.2‬‬

‫صادف النقاد الغربيين مجموعة من المصطلحات والتي يمكن اعتبارها أنها تصب جميعا‬
‫‪-‬في المكان مثل ‪ :‬الفضاء ‪ ،‬المجال ‪ ،‬الحيز وكذا الموقع ‪03-‬‬

‫وقد سجل المكان في الساحة الغربية حضورا بارزا في العملية النقدية الحديثة ‪ ،‬فقد‬
‫بدا االهتمام بداللة ‪ ،‬مع "غاستون باشالر" ‪ ،‬كأول محاولة ‪ ،‬لتحديد المفهوم و وظيفته في‬
‫النص األدبي ‪ ،‬عند الغرب حيث يقول ‪ ":‬إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال ال يمكن أن‬
‫فاروق أحمد سليم ‪ ،‬اإلنتماء في الشعر الجاهلي ‪ ،‬منشورات إتحاد الكتاب العرب‪ ،‬دمشق _ سوريا ‪ ،‬وط‪ 1998‬ص ‪-01-‬‬
‫‪197‬‬
‫‪ .‬باديس فوغالي ‪ ،‬الزمان و المكان في الشعر الجاهلي ‪ ،‬ربد عالم الكتب ‪-02-‬‬
‫غالب هالس ‪ ،‬المكان في الرواية العربية ‪ ،‬دارين هاني ‪ ،‬دمشق‪-‬ط‪ 1989 ،1‬ص‪-03-09‬‬
‫يبقى مكانا ال مباليا ذا أبعاد هندسية فحسب ‪ ،‬فهو مكان عاش فيه بشر ليس بشكل‬
‫موضوعي فقط ‪ ،‬بل بكل ما في الخيال من تحيز ألننا ننجذب نحوه ألنه يكشف الوجود‬
‫في حدود تتسم بالحماية ‪ ،‬في مجال الصور ‪ ،‬ال تكون العالقات متبادلة في الخارج و‬
‫‪-‬األلفة متوازنة " ‪01-‬‬

‫أما جوليان غريماس فله نظرة أخرى حول المكان إذ يطلق عليه مصطلح الحين‬
‫فيقول‪" :‬هو الشيء المبني المحتوي على عناصر متقطعة انطالقا من االمتداد المتصور‬
‫على أنه بعد كامل ممتلئ دون أن يكون حل االستمرارية و يمكن أن يدرس هذا الشيء‬
‫‪-‬من وجهة نظر هندسية خالصة " ‪02-‬‬

‫وهذا التعريف يعطي االمتداد في التصور و االعتماد على الخيال معتبرا إياه بنية‬
‫‪ .‬هندسية له حدود خاصة‬

‫وهو ما ذهب إليه "جم أرجنت" في مقالة له بعنوان "الحيز و اللغة" ويقول فيها‪" :‬لقد وجد‬
‫حيز معاصر ‪ ،‬إن هذه األطروحة تتضمن فعال اقترابا اثنين أو ثالثة ‪ ،‬األول هو اللغة‬
‫والثاني هو الفكر والثالث هو الفن المعاصر فهذه القيم الثالثة جميعها محيزة أي قائمة‬
‫‪-‬على توظيف الحيز" ‪03-‬‬

‫كما نجد من النقاد الذين اهتموا بدراسة المكان الباحث السيميائي "يوري لوتمان" لقوله‪":‬‬
‫هو مجموعة من األشياء المتجانسة (من الظواهر ‪،‬أو الحاالت أو الوظائف ‪،‬أو األشكال‬
‫المتغيرة ‪..‬إلخ)‪ .‬تقومبينهما عالقة شبيهة بالعالقات المكانية المألوفة العادية (مثل‪:‬‬
‫‪-‬اإلتصال ‪ ،‬المسافة‪..‬إلخ) ‪04-‬‬

‫غاستون باشالر ‪ ،‬جماليات المكان‪ ،‬تر ‪ ،‬غالب هلسا المؤسسة الجامعية للدراسة و النشر و التوزيع بيروت ‪ ،‬ط‪-01- ،02‬‬
‫‪،1984‬ص‪31‬‬
‫عبد المالك مرتاض في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد سلسة عالم المعرفة ‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة و الفنون و ‪-02-‬‬
‫‪.‬األدب ‪،‬وط ‪ 1998‬ص ‪122‬‬
‫عبد المالك مرتاض ‪ ،‬نظرية النص األدبي‪ ،‬دار هومة ‪ ،‬الجزائر ‪ ،‬ط‪2010 ،2‬م ص ‪-03- 325، 324‬‬
‫محمد بو عزة ‪ ،‬تحليل النص السردي (تقنيات و مفاهيم) دار األمان‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ط‪2010 ،1‬م ص ‪-04- 99‬‬
‫‪:‬النقاد العرب ‪2.2‬‬

‫لقد عرف حسن لجراوي ‪ ،‬المكان بوصفه شبكة من العالقات و الرؤيات و وجهات‬
‫النظر التي تتضامن مع بعضها لتشيد الفضاء الروائي الذي ستجري فيه األحداث فالمكان‬
‫يكون منظما بنفس الدقة التي نظمن بها العناصر األخرى في الرواية لذلك فهو يؤثر فيها‬
‫و يقوي من نفوذها كما يعبر عن مقاصد المؤلف وتغيير األمكنة الروائية سيؤدي إلى نقطة‬
‫تحول حاسمة في الحبكة و بالتالي في تركيب السرد و المنحى الدرامي الذي يتخذه ‪- .‬‬
‫‪01-‬‬

‫وقد عرف باديس فوغاي في كتابة " دراسته في القصة و الرواية" بقوله‪ " :‬لم يعد‬
‫المكان مجرد أداة لوظيفة إشارية لمعنى من المعاني الثابتة ‪ ،‬أو ديكورا هامشيا لمشهد من‬
‫المشاهد ‪،‬إنما صار عنصرا مكانيا هاما قائما بذات بنفسه ‪ ،‬و طرفا أساسيا من أطراف‬
‫‪-‬العمل القصصي أو الروائي ‪02- .‬‬

‫باإلضافة إلى الناقد الجزائري عبد المالك مرتاض ‪ ،‬الذي أعطى عناية كبرى في‬
‫مختلف دراساته ‪ ،‬و أعماله الروائية ‪،‬إذ يعرف في كتابه "تحليل الخطاب السردي" بقوله ‪:‬‬
‫هو كل ما عنى حيزا جغرافيا حقيقيا ‪ ،‬من حيث نطاق الحيز في حد ذاته ‪ ،‬على كل فضاء‬
‫خرافي أو أسطوري أو كل ما يند على المكان المحسوس ‪ ،‬كالخطوط واألبعاد و‬
‫األحجام ‪ ،‬والثقال و األشياء المجسمة ‪ ،‬مثل‪ :‬األشجار و األنهار و ما يجسد هذه المظاهر‬
‫‪-‬الحيزية من حركة أو تغيير ‪03- .‬‬

‫حسن بحراوي ‪ :‬بنية الشكل الروائي ‪ ،‬الفضاء الزمن ‪ ،‬الشخصية المركز الثقافي العربي ‪ ،‬بيروت ‪ ،‬ط‪1990 ، 1‬م ص ‪-01-‬‬
‫‪32.‬‬
‫‪ .‬باديس فوغالي دراسته في القصة و الرواية ‪ ،‬علم الكتب الحديث األردن‪ ،‬وط ‪2014‬م ‪ ،‬ص ‪-02- 159‬‬
‫حميد الحميداني ‪ ،‬بنية النص السردي من منظور النقد األدبي ‪ ،‬المركز الثقافي العربي ‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪-03- ، 3‬‬
‫‪2000‬م‪،‬ص‪04‬‬
‫‪ :‬المكان في رواية بحر الصمت‪3-‬‬

‫‪:‬األمكنة المفتوحة‪1.3‬‬

‫يقصد بالمكان المفتوح أي المكان المنفتح الدالالت فهو " يوحي باإلتساع و التحرير وال‬
‫يخلو األمر من مشاعر الضيق و الخوف ويرتبط المكان المفتوح بالمكان المغلق إلى‬
‫المفتوح ‪ ،‬توافقا مع طبيعته الراغبة دائما في اإلنطالق و التحرر وهذا ال يتوفر إال في‬
‫‪-‬المكان المفتوح"‪01-‬‬

‫فالفضاءات المفتوحة تتسم بالحرية ‪ ،‬وهي متواجدة في الرواية بأشكال عديدة جاءت‬
‫مشحنة بالدالالت ‪ ،‬تعددت األماكن و تنوعت في رواية بحر الصمت ‪ ،‬ومن األماكن‬
‫المفتوحة في هذه الرواية برناس وطي القرية التي عاش فيها بطل الرواية فترة من الزمن‬
‫تقع على بعد ‪35‬كلم من مدينة وهران ( عاصمة الغرب الجزائري ) "كانت األشياء تبدو‬
‫جاهزة سلفا والقدر يسطر األحداث بإتقان ممل ‪ ،‬رغم الفقر و الجهل والحرمان تجد الناس‬
‫سعداء جدا‪ ،‬فرحين بالالشيء الذي يصنع عالمهم الغريب ‪ ...‬كانوا يستقبلون نهاراتهم‬
‫بفرح ساذج‪ ،‬فيخضعون عندئذ للتفاصيل التافهة التي كانت تربطهم إلى بعضهم ‪ ،‬بحيث‬
‫‪-‬ال أحد ينظر إلى أبعد من رجليه " ‪02-‬‬

‫تعتبر هذه القرية من القرى الفالحية أي يعتمد سكانها على النشاط الفالحي لكسب‬
‫لقمة العيش ‪ ،‬وتعكس البساطة التي تعرفها القرى الجزائرية في تلك الفترة ‪ ،‬كما كان‬
‫النظام اإلقطاعي طاغيا وهو ثقافة أوروبية جاءت مع اإلستعمار الفرنسي و غرست في‬
‫الثقافة الشعبية الجزائرية ‪ ،‬وقد كان سائدا في تلك المرحلة التاريخية ‪ ،‬كانت تحظى بعض‬
‫العائالت بالثراء على حساب عائالت أخرى تمثل أغلبة سكان القرية ‪ ،‬فمن بين العائالت‬
‫اإلقطاعية‬

‫‪ .‬حفيظة أحمد ‪ ،‬بنية الخطاب في الرواية النسائية الفلسفية ‪ ،‬ص‪-01- 166‬‬


‫‪ .‬ياسمينة صالح ن بحر الصمت ص‪-02- 10‬‬
‫نجد عائلة سي السعيد الذي يمتلك أراضي واسعة ورثها عن والده سي البشير ‪ ،‬يعمل فيها‬
‫‪ .‬بعض األهالي و األسر يسترزقون منها‬

‫من تقاليد قرية براناس أن يتزعم القرية عمدة يدير شؤونها ويعتبر المسؤول األول‬
‫عن أهلها فيحظى بإحترام وجهاء القرية ثم بسطاتها وهو ما كان شائعا في مختلف القرى‬
‫‪ .‬و المداشر و األرياض‬

‫‪ -‬كان من تقاليد القرية أن يكون منها عمدة يحضى باحترام الوجهاء ‪"01- "...‬‬

‫و من بعض األماكن الجزئية الوظيفية المفتوحة من الريف ‪ ،‬وهي مالزمة للحالة‬


‫النفسية للشخصيات المقترنة ‪ ،‬بداللة السعادة و الهناء التي كان يحياها البطل في الريف‬
‫خاللها نجد "‪...‬كنت رجال و أنا بعد لم أتجاوز بعد العاشرة من العمر ‪ ...‬أتذكر جيدا‬
‫أيامها و أنا أعود إلى القرية قادما من العاصمة ‪ ...‬كنت طفال أيامها ‪،‬أعود إلى القرية في‬
‫العطل‪ ،‬ألمشي في أزقتها الضيقة و المسكونة بالفقر ‪ ،‬كنت أمشي متفاخرا بنفسي عظيما‬
‫‪-‬في قناعتهم أنني سيدهم جميعا ‪02- "...‬‬

‫كما أن القرية مكان مفتوح على قرى أخرى مجاورة لها من خالل " كانت الحرب‬
‫‪-‬وقتها تشتعل في قرى أخرى قريبة من قرية براناس " ‪03-‬‬

‫كما يحضر الريف بفضاء مفتوح تحضر المدينة أيضا بفضاء مفتوح ‪ ،‬إال أنه يحمل‬
‫دالالت مغايرة لتلك التي يحملها الفضاء األول ‪ ،‬و كما تحضر مالمح الريف باهتة حيث‬
‫تخلو من األماكن الواضحة ‪ ،‬تحضر المدينة ببعض عناصرها وعادات سكانها ويظهر‬

‫ياسمينة صالح ن بخر الصمت ص‪-01- 11‬‬


‫المرجع نفسه ص ‪-02- 11 ، 10‬‬
‫المرجع نفسه ص ‪-03- 19‬‬
‫ذلك في قولها ‪ ":‬وكانت العاصمة ‪...‬ما أجمل أيامي فيها ‪ ،‬و أنا أكبر تدريجيا على‬
‫حبها ‪ ..‬كان حي 'بلكور' من أعرق الشوارع التي صنعتني ثانية ‪،‬داخل طيبة عمتي و‬
‫حنانها الزائد ‪،‬وداخل القهوة المرشوشة بماء الزهر‪ .‬كنت أكبر بإحساس جميل و غامض "‬
‫‪01--‬‬

‫وهنا المدينة لم توصف بشكل واضح و عام كوصف شوارعها أو الشارع الذي تقطنه‬
‫‪ .‬الشخصية ‪ ،‬بل جاء لتسليط الضوء على المرحلة االنتقالية التي خاضتها الشخصية‬

‫ومن األماكن المفتوحة أيضا ‪ ،‬دوار سيدي منصور الذي انتقلت إليه الشخصية في‬
‫الرواية ‪ ،‬وهذا المكان لم تتعمق المؤلفة في وصفه وهو المكان الذي شارك فيه البطل في‬
‫الحرب و يتجلى ذلك في قوله‪ " :‬تتجاوزني األحداث جدا منذ غادرت قريتي نحو دوار‬
‫'سيدي منصور' ‪ ،‬ومن ثم نحو جبال صنعت وجه الوطن ‪ ...‬لم تكن الجبال لتلتقي سوى‬
‫في الكارثة و الفجيعة ‪ ،‬وكانت العرب آنذاك هي المركز الذي التقت فيه كل الجبال ‪...‬‬
‫فالثورة لم تصنع 'األوراس' ‪ ،‬ولكن األوراس صنعت كل الثوار ليصبح ذاكرتهم المطلقة‬
‫‪ )...(-‬عامان كامالن من االنتقال من وكر إلى وكر ‪02-...‬‬

‫حين وصل السعيد إلى "الدوار" بدا له األمر كأن أهل القرية غير مكترثين للحرب التي‬
‫تدور رحالها في كافة مناطق البالد ‪ ،‬وذلك نتيجة الهدوء الذي وجده في المكان لحظة‬
‫وصوله إليه ‪ ،‬فرغم سيطرة فرنسا على هذا الدوار إال أن دوريات الحراسة و التفتيش‬
‫كانت قليلة عكس ما توقعه البطل ‪ ،‬فأهل هذا المكان يعيشون حالة من االستقرار واألمن‬
‫‪ .‬رغم الظروف الصعبة التي تحيط بهم‬

‫حينما وصل السعيد إلى الدوار كان متعبا و جائعا و مغطا بالوحل ‪ ،‬دخله متسلال فتوجس‬
‫‪ :‬منه أهل المكان خيفة متسائلين عن هوية هذا الغريب‬

‫ياسمينة صالح بحر الصمت ص ‪-01- 48‬‬


‫المرجع نفسه ص ‪-02- 71-70‬‬
‫بجسدي النحيل الغارق في الوحل واإلعياء ‪ ،‬وجدتني أسأل عن 'علي بالندي' ألكتشف "‬
‫أن سكان الدوار يتوجسون مني من أول نظرة يرمونها نحوي ‪ ...‬كان فضيعا إحساسي‬
‫بالخوف والضياع معا في مكان ال أعرفه ‪ ،‬وال يعرفني ‪ ...‬قبالة أناس يكرهون شكلي‬
‫‪ .‬الموحل ‪ ، -01- " ...‬فسؤاله عن 'علي بالندي' هو ما زاد توجس أهل القرية منه‬

‫كما نجد من األماكن المفتوحة أيضا مرتفع الشاللة وهو من أحد األماكن التي زارها‬
‫السعيد أثناء الحرب وهو مرتفع من أحد الجبال اتخذه الرشيد قائد الكتيبة التي كان السعيد‬
‫ينتمي إليها ‪ ،‬مرتفع أخذه البطل و رفاقه مقرا لهم للقيام بعملية اعتراض قافلة العدو وكونه‬
‫‪ :‬المكان األنسب و األضمن لنجاح العملية رغم وعورة التضاريس‬

‫بينما بقينا نحن نتقدم نحو مرتفع 'الشاللة' الذي اتخذه الرشيد مقرا له ‪...،‬كانت منطقة "‬
‫غريبة بالنسبة لي (‪ )...‬في البدء استغربت أن يختار العدو طريقا كهذه للعبور منه ‪ ،‬فقد‬
‫‪-‬كانت الصخور و االلتواءات الصعبة تشكل تضاريس المنطقة الجبلية ‪02- "...‬‬

‫كانت الدهشة تعلو وجه السعيد الخيار العدو طريقا صعبة كهته الطريق ليمون قواعده‬
‫بما تحتاج من مؤونة وسالح ‪ ،‬وتركه طرقا أكثر سهولة لكن رشيد أزال عنه الدهشة‬
‫‪ :‬وأخذ يشرح له السبب‬

‫في مرحلة كهذه يعرف العدوان أن الطريق التي تبدو سهلة هي األصعب ‪ ،‬فهو باختياره"‬
‫هذه الطريق الصخرية الوعرة يضن أنها األضمن ‪ ،‬بحيث يمكن تمشيطها بطائرة‬
‫‪-‬هليكوبتر واحدة‪03-...‬‬

‫ياسمينة صالح‪ ،‬بحر الصمت ص ‪-01- 66‬‬


‫المرجع نفسه ص ‪-02- 90‬‬
‫المرجع نفسه ص ‪-03- 90‬‬
‫فالمكان المفتوح في النص سواء كان في الريف أو المدينة أو الجبال فهم األمكنة الفعالة‬
‫التي شاركت في صنع بعض األحداث للنص وترتبط بإعطاء دالالت معينة كارتباط‬
‫الريف بالجهل و األمية في حين ترتبط المدينة بالعلم و التحضر وحيث ترتبط الجبال‬
‫‪ .‬بالحرب و الجهاد‬

‫‪ :‬األمكنة المغلقة ‪2.3.‬‬

‫وهو المكان الذي يتصف بالمحدودية بحيث أن الفعل ال يتجاوز اإلطار المحدد كالغرفة و‬
‫يجسد هذا المكان صورا مكانية متعددة مثل البيت والغرفة ‪ ،‬وتتميز هذه الصور بمميزات‬
‫أهمها عالقات األلفة و الدفئ و األمان قد تكون مميزات سلبية معارضة وفي المقابل نجد‬
‫المكان المفتوح والذي ال يمكن فهمه إال من خالل مقابلته للمكان األول مع مميزاته والتي‬
‫قد تكون في الغربة و العدوانية لذلك فالمكان الذي ألفه الناس يرفض أن يبقى منغلقا بشكل‬
‫‪-‬دائم بل يتفرع نحو أمكنة أخرى ويتحرك نحو أزمنة أخرى ‪01- ...‬‬

‫إن األمكنة المغلقة تحضر في النص بصورة عامة ‪ ،‬حيث يكتفي الراوي بإعطاء‬
‫خطوط عريضة لها دون االلتفات إلى التفاصيل الواصفة إلجرائها ومكوناتها ‪ ،‬وتختلف‬
‫األماكن المغلقة حسب طبيعة البيئة التي يقع فيها المكان المغلق ‪ ،‬وال يتجاوز أوصاف‬
‫‪ .‬المكان حدود الدالالت التي يصنعها السرد‬

‫عز الدين المناصرة ‪ ،‬شهادة في شعر األمكنة ‪ ،‬التبيين ‪ ،‬مجلة ‪ ،‬فصيلة تصدر عن الجاهلية ‪ ،‬العدد‪ ، 1990 ، 1‬ص ‪-01-‬‬
‫‪37.‬‬
‫وصف الكاتب األماكن المغلقة كالبيوت و المستشفى ‪ ،‬فالبيوت نجدها في الرواية‬
‫‪' .‬متعددة وسنركز على بيت الراوي 'سي السعيد‬

‫فالفضاء البيتي قد أتاح لنا بدوره نماذج مالئمة لدراسة القيم و مظاهر الحياة الداخلية‬
‫لألفراد الذين يقطنون تحت سقوفها ‪ ،‬فبيت 'سي السعيد ' يقدم في صورة باهتة حيث لم‬
‫يظهر في غرفته إال جدار به صورة و ساعة يمين الجدار "‪ ...‬أرفع عيني إلى الصورة‬
‫المعلقة يمين الجدار فأصاب بما يشبه الذهول و أنا أكتشف قدرتي على قراءة ما بين‬
‫‪-‬سطور الفراغ و الالمتناهي ‪01- "...‬‬

‫كما تصفها في مظهر آخر"أدير رأسي نحو اليمين ‪ ،‬و أتأمل النافذة المغلقة أجدني أحلم‬
‫‪-‬بالصباح الذي يدنو من الضوء ‪ ،‬من الحقيقة أجدني أحلم بالهدوء والراحة " ‪02-‬‬

‫كما كان بيت سي السعيد المكان الذي يستعيد فيه ذكرياته ويصفه أثناء استرجاعه‬
‫لماضيه ‪ ،‬هو البيت الذي يسكنه هو و ابنته الوحيدة في العاصمة بعدما فقد ابنه رشيد ‪،‬‬
‫وكما وصفته لنا ياسمينة صالح على لسان سي سعيد بيت يتكون من طابقين سفلي و‬
‫علوي وفي الطابق العلوي غرف النوم ‪ ":‬أضع رجلي على أول درجة من السلم العلوي‬
‫المؤدي إلى الدور األول (‪ )...‬فجأة انتابتني رغبة ملحة للصعود إلى غرفة ابني ‪ ،‬ثم‬
‫‪-‬تحولت الرغبة إلى يأس ‪03- "...‬‬

‫‪ :‬يتوسط الطابق العلوي بهو يقع بين غرف النوم‬

‫أصل إلى البهو الذي يقود إلى الغرفة ‪،‬أتردد في الدخول ‪...‬أنا رجل خجول من"‬
‫نفسه ‪ ،‬أدنو من الغرفة على يميني ‪ ،‬غرفة ابني ‪ ،‬و أدفع الباب يصعقني هواء بارد ‪،‬‬
‫‪-‬فأسرع نحو النافذة فأغلقها " ‪04-‬‬

‫ياسمينة صالح ‪ ،‬بحر الصمت ص ‪-01- 82‬‬


‫المرجع نفسه ص‪-02- 82‬‬
‫المرجع نفسه ص‪-03- 82‬‬
‫وهناك بيت ثان و الذي يملكه السعيد في قرية براناس وهو ال يقل فخامة عن البيت‬
‫الذي يملكه في العاصمة ‪ ،‬و الذي ورثه عن أبيه بعد وفاته ‪ ،‬لم يتم وصف هذا البيت‬
‫بصفة مفصلة من طرف الروائية ‪ " :‬بقطعة األرض والبيت الذين ورثتهما عن والدي‬
‫كنت رجال محترما وكان الناس عندما يتحدثون عني يقولون ‪':‬سي السعيد تبارك اهلل عليه'‬
‫‪01- "-‬‬

‫كان يمثل بيت سي السعيد مصدر كآبة و ألم و حزن بالنسبة له وذلك لمرارة‬
‫‪ .‬الذكريات التي عاشها فيه ‪ ،‬لفقدانه البنه الرشيد‬

‫كما نجد األماكن المغلقة أيضا الغرفة و المتمثلة في غرفة الرشيد وكذلك غرفة ابنته اللتان‬
‫ذكرهما السعيد وهو يسترجع ذكرياته عن ولديه خاصة الرشيد الذي فقده وهو في عز‬
‫الشباب‪ ،‬كانت غرفته تمتاز بالنظام والنظافة و الترتيب "‪ ..‬أنظر لألشياء حولي ‪..‬‬
‫يدهشني النظام في الغرفة ‪ ..‬كل شيء مرتب بإتقان‪. -02-"...‬تحتوي الغرفة على العديد‬
‫من األغراض واألشياء ‪ ،‬نجد فيها سريرا وطاولة عليها صورتان"‪..‬أدنو من السرير و‬
‫أجلس على حافته ‪..‬تصفعني صورة 'جميلة' على طاولة السرير ‪..‬أكاد أمد يدي إليها‬
‫فأخاف ‪..‬أكتشف صورة أخرى و أتأملها بذهول 'صورة عمر' " ‪ -03-‬كما تحتوي على‬
‫مكتب صغير فوقه كتب منظمة "‪...‬أقف على قدمي و أتقدم من المكتب الصغير ‪...‬‬
‫مجموعة من الكتب مصفوفة في نظام مثير " ‪ -04-‬هذا النظام و الترتيب يدل على‬
‫‪ .‬شغور الغرفة منذ وفاة الرشيد ولم يتم الدخول إليها و إثارة الفوضى فيها‬

‫أما الغرفة الثانية وهي غرفة االبنة فهي نقيض الغرفة األولى‪،‬غرفة تعمها‬
‫الفوضى‪":‬أجر شيخوختي المتعبة إلى الغرفة الثانية و أدفع بابها وأدخ‪..‬أضيء نورها‬
‫‪ ..‬فتصدمني الفوضى‬
‫ياسمينة صالح ‪ ،‬بحر الصمت ص‪-01- 81‬‬
‫المرجع نفسه ص‪-02- 79‬‬
‫المرجع نفسه ص‪-03- 111‬‬
‫أنحني لألرض وأرفع جوربا شفافا و ‪ ،‬وألم سترة جلدية ومنشفة حمام ‪ ..‬أعيد األشياء إلى‬
‫ما أعتقده نظاما ضروريا ‪ ..‬أجد متعة غريبة وأنا أرتب األشياء يخيل لي أنني أقوم‬
‫‪-‬بترتيب حياة ابنتي ‪ ،‬فأبتسم رغما عني ‪01- "..‬‬

‫كما نجد الروائية ياسمينة صالح قد وصفت السجن والذي يعتبر هو اآلخر من‬
‫األماكن المغلقة ‪ ،‬فكان هو المكان الذي يسجن فيه الشخصية 'عمر' بعد االستقالل نتيجة‬
‫للصراعات السياسية القائمة تلك الفترة ‪ ،‬فقد استقال من الحزب والسياسة و أسس جريدة‬
‫وأخذ يعطي أراءه التي لم يكن يقدر أن يصرح بها وهو في الحزب ‪" :‬عمر في السجن" ‪-‬‬
‫‪02-‬‬

‫بذل السعيد جهده إلخراج صديقه عمر من السجن ‪ ،‬بعد فترة خرج هذا األخير مريضا‬
‫و متعبا ألنه لم يتحمل السجن و قسوته "كان خروج 'عمر' حادثا مهما بالنسبة لي ‪،‬‬
‫ألواجهك و أواجه 'عمر' أيضا ‪ ..‬كنت قد علمت أنه خرج مريضا من السجن ‪ ...‬لم‬
‫يتحمل جسمه النحيل صالبة سجون االستقالل ‪..‬لم تتحمل كرامته إهانة رفاقه القدامى ‪"..‬‬
‫‪03--‬‬

‫وكل هذا صار نتيجة الفوضى التي خلقها االستدمار بعده ‪ ،‬فأصبحت التيارات السياسية‬
‫تتجاذب و تتصادم فيما بينها‬

‫كما نجد من األماكن المغلقة المستشفى ولم تذكر منه تفاصيل عديدة كوجود الشخصيات‬
‫أو األجهزة وكأنه مكان مفرغ أو شبه مفرغ ومن المقاطع التي وصف فيها المستشفى‬
‫"نظرت‬

‫ياسمينة صالح ‪ ،‬بحر الصمت ص ‪-01- 82‬‬


‫المرجع نفسه ص‪-02- 82‬‬
‫المرجع نفسه ص‪-03- 82‬‬
‫حول ألجد ابنتي تركض في بهو المستشفى ‪ ،‬و تدنو مني ‪ ..‬وتنظر إلي بغضب ‪- "..‬‬
‫إلى جانب مقطع آخر ‪ " :‬كنت جاسا على كرسي بهو المستشفى قبالة الغرفة‬ ‫‪-01‬‬
‫التي مات فيه ابني ‪ ..‬بقيت صامتا و مفجوعا و أنا أكتشف فضاعة الموت هذه المرة ‪" ..‬‬
‫‪02--‬‬

‫كما نجد أيضا ‪ .. " :‬في المستشفى ‪ ،‬و أنا أنتظر إلى نهاية العملية القيصرية ‪،‬‬
‫استيقضت و بداخلي أشياء كثيرة اعتقدت أنها ماتت ‪ ..‬كأن الوالدة الصعبة فتحت أمامي‬
‫‪-‬أبوابا قديمة و حميمة " ‪03-‬‬

‫لقد كانت كل من الغرفة ‪ ،‬البيت ‪ ،‬السجن و المستشفى (أماكن مغلقة ) مصدر حزن‬
‫‪ .‬و ألم بالنسبة لـ سي سعيد لذلك كانت بينه و بين هذه األماكن عالقة طاردة‬

‫ياسمينة صالح ‪ ،‬بحر الصمت ص‪-01- 81‬‬


‫المرجع نفسه ص‪-02- 79‬‬
‫المرجع نفسه ص‪-03- 111‬‬

You might also like