Professional Documents
Culture Documents
محاضرات في التوثيق والعقود د عبد العزيز ديدي
محاضرات في التوثيق والعقود د عبد العزيز ديدي
مقدمة
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم األمتان األكمالن على املبعوث رمحة للعاملني ،وعلى آله
أما بعد؛ فمن كمال هدي الشريعة أن سنت للناس ما به تنتظم حياهتم ،وتتحقق به مصاحلهم ،مبا
يقيم مقصد العمران على وفق املنهج اإلهلي ،واملراد الرابين يف سائر اجلوانب اليت تعلق فيها التكليف
بذمتهم؛ ومن ذلك ما يرتبط بفقه املعامالت يف خمتلف امتداداهتا وأبعادها ،فسعت إىل حفظها يف حياهتم
على أكمل وجه ،مبا أحاطتها به من التشريعات الكلية واجلزئية الرامية إىل قطع دابر النزاع والفوضى يف
طريق حتصيلهم للمصاحل اليت رصدهتا الشريعة يف مدرج التكليف هبذا الشرع احلنيف ،حىت يكون هلم شرع
ولعل الدعوة إىل توثيق العقود واملعامالت ،وكتابة ما جيري بني املتعاملني من احلقوق والواجبات؛
للوفاء ابلعهود ،وااللتزام ابلوعود ،وكان من سابغ عناية الشريعة أن أحاطت ذات القضية بتشريعات
تفصيلية ،أفصحت عنها نصوص القرآن ،ونصوص السنة البيان ،وزكاها عمل الصحب ،ودأب األمة يف
كل زمان ،فكان أن اختص الوحي القرآيني املوضوع أبطول آية يف الكتاب املبني ،ليتضح املراد ويستبني.
1
مث ما لبث املوضوع أن أصبح قبلة للفقهاء والعلماء ،فطفقوا يثورون معاين الفقه شيئا فشيئا؛ حىت
وضعوا له علما خاصا؛ هو علم الشروط ،أو علم التوثيق ...واملستقري للرتاث اإلسالمي عموما ،وللفقه
اإلسالمي خاصة ،تفجأه تلكم الثروة الفقهية اهلائلة اليت خطتها ميني الفقهاء والشروطيني يف علم التوثيق؛
بياان لشروطه وضوابطه وآدابه وخمتلف أحكامه ،وإحكاما لصنعته ،وحتقيقا ملقاصده واحلكم املرتبطة به،
فكان عنواان على حركية الفقه وقيوميته بقضااي األمة يف كل زمان ،وكل ذلك سعيا لتحقيق مقاصد الشرع
يف اخللق من وراء تسييج أحكام املعامالت هبدي الشريعة ،حىت ال تصدر عن األهواء ،فيكثر التالحي
واخلصام يف أمر ال يصلح للناس فيه إال الضبط واإلحكام ،بشرائع امللة وتعاليم اإلسالم.
2
التوثيق:
-1التوثيق لغة.
ترجع دالالت التوثيق يف أصل اللغة إىل معىن العقد واإلحكام ،وما يستصحبه من معاين اإلتقان
والتثبت ،قال اب فارس يف مقاييسه(« :وثق) الواو والثاء والقاف :كلمة تدل على عقد وإحكام .ووثقت
الشيء :أحكمته .وانقة موثقة اخللق .وامليثاق :العهد احملكم .وهو ثقة .وقد وثقت به» ،1ووثُق الشيء
يق؛ َثبت حمكم و أ ْوث ْقتُهُ جعلته وثيقا ووث ْقتُبه ( أث ُق ) بكسرمها ( ثقةً
ابلضم وَثقةً قوي و ثبت فهو وث ٌ
) و ُوثُوقًا؛ ائتمنته .يقال :وثق فالن األمر توثيقا :أحكمه ،ووثقت الدابة :أحكمت وَثقتها بشدة،
هذا وقد وردت بعض مشتقات التوثيق يف القرآن الكرمي ويف السنة النبوية ،ومن ذلك:
ورد لفظا " امليثاق" و" الوَثق" يف القرآن؛ فاألول ورد يف مواضع متعددة من القرآن منها قوله تعاىل:
- 1مقاييس اللغة ،ابن فارس ،كتاب الواو ،ابب الواو والثاء وما يثلثهما ،مادة (وثق).85/6 :
- 2املصباح ،للفيومي.947/2 :
3
، ومنها قوله جل ثناؤه :
2 1
وأما لفظ
الوَثق ،فقد ورد يف قوله تعاىل :
، ومعىن قوله تعاىل :؛ أي أحكموا قيد األسرى حىت تنظروا ُ
3
بعد يف حاهلم ابلفداء
أو العفو أو القتل أو االسرتقاق ،قال صاحب أضواء البيان «:فاإلمام خمري وله أن يفعل ما رآه مصلحة
للمسلمني من من وفداء وقتل واسرتقاق ( )...واحلاصل أنه قد ثبت يف جنس أسارى الكفار جواز القتل
وردت بعض مشتقات " وثق" يف السنة النبوية ،ومن ذلك قوله عليه الصالة والسالم كما يف
الصحيح «:قضاء هللا أحق وشرط هللا أوثق» ،5ومنه حديث كعب بن مالك يف الصحيحني «:لقد شهدت
مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم العقبة حني تواثقنا على اإلسالم».6
- 1البقرة.26:
- 2الرعد.22:
- 3حممد.04:
- 4أضواء البيان يف تفسري القرآن ،الشيخ حممد األمني الشنقيطي.349/7:
- 5أخرجه البخاري يف صحيحه ،كتاب الشروط ،ابب الشروط يف الوالء ،برقم ،2579:ورواه مسلم بلفظ «:كتاب اهلل أحق وشرط
هللا أوثق»
- 6متفق عليه.
4
كثرية هي التعريفات اليت سيجت مفهوم التوثيق؛ وجلها يدور حول كونه علما يبحث يف كيفية
إثبات االلتزامات والتصرفات والعقود على وجه يصح االحتجاج به عد احلاجة ،وهلذا عرفه طاش كربى
زاده يف مفتاح السعادة أبنه «:علم يبحث فيه عن كيفية سوق األحكام الشرعية املتعلقة ابملعامالت يف
الرقاع والدفاتر ليحتج هبا عند الاجة إليها» ،1وعرفه حاجي خليفة يف كشف الظنون أبنه «:علم
ابحث عن كيفية ثبت االحكام الثابتة عند القاضي يف الكتب والسجالت على وجه االحتجاج به
عند انقضاء شهود الال» ،2وعرفه الدكتور حممد الزحيلي أبنه « :علم يبحث فيه عن كيفية إثبات
العقود والتصرفات وغريها على وجه يصح االحتجاج به والتمسك به» ،3وعرفه الدكتور عمر اجليدي
أبنه « :علم يبني عناصر كل اتفاقية معقودة بني شخصني أو عدة أشخاص ،يضمن استمرارها ،وأثر
مفعوهلا ،وحيسم مادة النزاع بني األطراف املتعاقدة ،موضحا لكل من العاقد له ،واملعقود عليه ما له،
وما عليه ،والذي يتعاطى هلذا الفن هم الشهود ،أو ما يعرب عنهم اصطالحا ابلعدول» ،4وعرف
كذلك أبنه «:خطة يتوالها العدول املنتصبون لكتابة العقود وضبط الشروط بني املتعاقدين يف األنكحة
كثرية هي األدلة القرآنية اليت تدل على مشروعية التوثيق ،ومن ذلك:
قوله تعاىل: -
.1
فورد األمر بكتابة الديْن ،بصرف النظر عن إفادته الوجوب أو الندب ،كما ورد اإلرشاد إىل منهج الكتابة
وذلك أبن تكون ابلعدل ...قال الشيخ الطاهر بن عاشور رمحه هللا «:والتداين من أعظم أسباب رواج
املعامالت؛ ألن املقتدر على تنمية املال قد يعوزه املال ،فيضطر إىل التداين ليظهر مواهبه يف التجارة أو
ينضب املال من بني يديه وله قبل به بعد حني ،فإذا مل يتداين اختل
الصناعة أو الزراعة ،وألن املرتفه قد ُ
نظام ماله ،فشرع هللا تعاىل للناس بقاء التداين املتعارف بينهم؛ كي ال يظنوا أن حترمي الراب والرجوع ابملتعاملني
إىل رؤوس أمواهلم إبطال للتداين كله ،وأفاد ذلك التشريع بوضعه يف تشريع آخر مكمل له وهو التوثق له
ابلكتابة واإلشهاد.
- 1البقرة.282:
6
واخلطاب موجه للمؤمنني أي جملموعهم ،واملقصود منه خصوص املتداينني ،واألخص ابخلطاب هو
املدين ألن من احلق عليه أن جيعل دائنه مطمئن البال على ماله ،فعلى املستقرض أن يطلب الكتابة وإن
ومن اآلايت الدالة على مشروعية التوثيق كذلك؛ قوله تعاىل:
،2 ووجه الداللة أن اآلية ترشد إىل مكاتبة العبيد إذا علم أن
اخلري يف مكاتبتهم وهو أحفظ ملصاحلهم ومصاحل أسيادهم .ومن ذلك قوله تعاىل:
ب -األدلة من السنة:
كثرية هي األدلة من السنة اليت تشهد مبشروعية أصل التوثيق ،وأنه كان معموال به يف املداينات زمن
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وقبل أن نورد بعضا من تلك األدلة ال بد من بيان شدة عناية رسول هللا
وحرصه على تعلم الصحابة للكتابة ،اليت كان يرى فيها عليه الصالة والسالم عمادا من أعمدة قيام
الدولة احلديثة اليت كان ينشئها ابملدينة ،وكان يقول عليه الصالة والسالم كما يف حديث عبد هللا بن عمرو
كل أسري
ومما يدل على عناية رسول هللا بتعلم الصحابة للكتابة ،أنه جعل فداء أسرى بدر أبن يُعلم ي
عشرةً من غلمان الصحابة القراءة والكتابة ،وكان مقدار الفداء ابملال يومئذ أربعة آالف درهم ،مما يدل
على قيمة هذا التعليم يومئذ ،كما ثبت قبل غزوة بدر أن النيب عليه الصالة والسالم كان قد أمر بعض
الصحابة أن يُعلموا املسلمني الكتابة ،ومن هؤالء عبد هللا بن سعيد بن العاص ،الذي أمره « أن يعلم
الكتابة ابملدينة ،وكان كاتبا ،وقتل يوم بدر شهيدا» ،ويرجح بعض العلماء أن يكون النيب قد أمر عبادة
2
صفَّة القراءة والكتابة ،وهو الذي قال «:علمت انسا من أهل الصفة الكتاب
بن الصامت أن يعلم أهل ال ي
والقرآن».3
وملا جاءت أم سليم أبنس بن مالك إىل رسول هللا ليخدمه اقتصرت على ذكر معرفته
ابلكتابة فقالت «:اي رسول هللا هذا ابين ،وهو غالم كاتب».4
فانتشرت الكتابة يف عصره عليه الصالة والسالم يف وقت وجيز ،وأصبح يف األمة حينها كتبة خمتصون
يكتبون لرسول هللا الوحي واملعاهدات والعقود ...وبلغ عددهم قرابة اخلمسني ،بل ختصص بعض منهم
- 1أخرجه احلاكم يف مستدركه ،كتاب العلم ،برقم ،/372:1 :362:وصححه مبجموع طرقه األلباين يف السلسلة الصحيحة
برقم.2026:
- 2الكتاب مبعىن الكتابة.
- 3أخرجه أبو داود يف سننه ،كتاب اإلجارة ،ابب يف كسب املعلم ،برقم.3416:
- 4مسند اإلمام أمحد ،برقم.13089:
8
1
أيب بن
كاتيب الوحي ،فإن غااب؛ كتبه ي
وتذكر بعض املصادر أن علي بن أيب طالب وعثمان كاان ْ
كعب وزيد بن َثبت ،وكان خالد بن سعيد ومعاوية كاتيب حوائجه ،وكان املغرية بن شعبة واحلصني بن
منري يكتبان املداينات واملعامالت ،وكان زيد بن َثبت يكتب إىل امللوك أيضا مع ما ختصص فيه من كتابة
الوحي ،وكان الزبري بن العوام وجهم بن الصلت يكتبان يف الصدقات ،وكان حذيفة يكتب يف خرص
النخل ،وكان معيقب بن أيب فاطمة الدوسي يكتب يف املغامن ،وكان حنظلة بن الربيع خليفة لكل هؤالء
وكان الكتاب من أصحاب رسول هللا ذوي شأن عظيم ،وكان ال يتوىل الكتابة إال من ج َّل ق ْد ُره
يف الناس ،وقد عقب القلقشندي بعد ذكره ملن كان يكتب لرسول هللا من الصحابة بقوله« :ويف ذلك
ما يدل على علو خطرها [الكتابة] وارتفاع قدرها» ،3وذكر ابن عبد ربه يف العقد الفريد أن مجاعة من
– توثيق القرآن.
وهو أمر أواله النيب ابلغ العناية يف الدعوة إىل توثيقه وكتابته ،وقد كان لرسول هللا ُ كتاب
للوحي ،حيث كان أيمرهم بكتابة ما نزل عليه من القرآن ،ففي صحيح البخاري عن الرباء بن عازب
- 1ينظر صبح األعشى للقلقشندي ،68/1:والعقد الفريد لشهاب الدين أمحد ،ابن عبد ربه.8/5:
- 2التاريخ الكبري للبخاري ،برقم.129/3 ،)1039( :
- 3صبح األعشى للقلقشندي.68/1:
- 4العقد الفريد.8/5:
9
َّيب صلَّى َّ
اَّللُ علْيه ت ال يستوي القاعدون من املؤمنني واجملاهدون يف سبيل هللا ،قال الن ي
قال «:ل َّما ن زل ْ
،وخلف ظهر النيب صلى هللا عليه و سلم عمرو بن أم مكتوم األعمى قال اي رسول هللا فما أتمرين فإين
رجل ضرير البصر ؟ فنزلت مكاهنا :
2 1
وكان زيد بن َثبت وهو أحد كتبة الوحي يدعوه رسول هللا لكتابة الوحي
فيكتب ،فقد روى ابن أيب داود يف املصاحف عن خارجة بن زيد قال :دخل نفر على زيد بن َثبت
فقالوا :حدثنا بعض حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،فقال " :ماذا أحدثكم؟ كنت جار رسول
هللا صلى هللا عليه وسلم ،فكان إذا نزل الوحي أرسل إِل فكتبت الوحي» .3
-توثيق السنة.
رغم ورود النهي عن كتابة السنة خمافة اختالطها ابلقرآن ،غري أنه ثبت إذن رسول هللا لبعض
الصحابة يف الكتابة ،ومن ذلك إذنه لعبد هللا بن عمرو بن العاص ،فقد قال ":استأذنت النيب يف
كتابة ما مسعت منه ،قال ":فأذن ِل ،فكتبته" وكان عبد هللا يسمي صحيفته تلك" :الصادقة" ،كما أذن
يف الكتابة أليب شاه ،فقال «اُكتبوا أليب شاه» ،وكان لعلي رضي هللا عنه صحيفة كتبها عن النيب .
- 1النساء.94:
اَّللُ علْيه وسلَّم ،برقم.4704:
- 2صحيح البخاري ،كتاب فضائل القرآن ،ابب كاتب النَّيب صلَّى َّ
- 3املصاحف ،البن أيب داود.03:
10
كتابة صحيفة املدينة اليت كانت مبثابة الدستور املنظم لياة أهل املدينة على اختالف -
عقائدهم.
بعد نزول رسول هللا عليه الصالة والسالم ابملدينة عمد إىل كتابة وثيقة تتضمن احلقوق والواجبات،
فكانت مبثابة الدستور املنظم حلياة املسلمني فيما بينهم ،ويف عالقتهم بغريهم ،وكان ابإلمكان أن يقتصر
النيب على جمرد اخلُطبة هبا؛ لكنه عمد إىل كتابتها حىت يسهل الرجوع إليها عند احلاجة ،ومما جاء
يف الصحيفة بعد البسملة «:هذا كتاب من حممد النيب صلى هللا عليه وسلم بني املؤمنني واملسلمني من
قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق هبم وجاهد معهم ،»...وختم « :وإنه ال حيول هذا الكتاب دون ظامل
وآمث.1 »...
توثيقه عليه الصالة والسالم لبعض بيوعه كتابة ،ومن ذلك ما رواه البخاري يف صحيحه ،أن النيب
عليه الصالة والسالم كاتب العداء بن خالد يف عبد ابعه له ،فعن العداء بن خالد قال كتب ِل النيب صلى
صلى اَّلل َعلَْي حه َو َسل َم حم ْن ال َْعد حاء بْ حن َخالحد بَ ْي َع الْم ْسلح حم ح
َتى ُمَم ٌد َرسول اَّلل َ
هللا عليه وسلمَ :ه َذا َما ا ْش ََ
ومن األدلة حديثه عليه الصالة والسالم الذي حيمل الدعوة إىل توثيق الوصااي وهي قسم من
2
صي ته َم ْكتوبَةٌ حع ْن َده
ني إحال وو ح ح حح ح ح
املعامالت املاليةَ :ما َح ُّق ْام حرئ م ْسلم لَه َش ْيءٌ يوصي فيه يَبيت ل َْي لَتَ ْ ح َ َ
3
ومن السنة كذلك قوله عليه الصالة والسالم :ال نكاح إال بويل أو شاهدي عدل
مما وثق له النيب وكتبه ما يتعلق مبا أبرمه من معاهدات الصلح بني املسلمني وغريهم ،ويرى بعض
العلماء أن توثيق هذا النوع من املعاهدات واجب ،قال السرخسي «:وإذا توادع املسلمون واملشركون سنني
معلومة؛ فإنه ينبغي أن يكتبوا بذلك كتااب ،ألن هذا عقد ميتد ،والكتاب يف مثله مأمور به شرعا».4
ومن أشهر ما كتب فيه النيب الكتاب يف املعاهدات ،ما كتب يوم صلح احلديبية يف السنة
السادسة للهجرة مع كفار قريش ،واليت تضمنت مجلة شروط وبنود سرعان ما نقضت بعضها قريش ،فكان
- 1السنن الكربى للبيهقي ،كتاب البيوع ،ابب بيع الرباءة ،برقم .11098
- 2متفق عليه.
- 3السنن الصغرى للبيهقي ،كتاب النكاح ،ابب ال نكاح إال بوِل وشاهدي عدل ،برقم.2487:
- 4شرح السري الكبري.32/5:
- 5اإلقطاع ما يقتطعه اإلمام من املال العام فيعطيه جلهة تستحقه ،وقد يتعلق فيه األمر إبقطاع األراضي.
12
ومن ذلك أنه أقطع بعضا من أراضي املدينة للداريني حني وفدوا عليه وسألوه أرضا ،وكتب هلم بذلك
كتااب جاء فيه ":بسم هللا الرمحن الرحيم ،هذا كتاب من حممد رسول هللا لتميم بن أوس الداري ،أن له
قرية حريون وبيت عينون ...،ال يلجها عليهم أحد بظلم ،فمن ظلم وأخذ منها شيئا فإن عليه لعنة هللا
.
واملالئكة والناس أمجعني ،وكتب علي»
وال خيفى أن يف الكتابة هلم ضمان عدم التعرض هلم من املنازع سواء يف منفعة األرض أو ملكيتها.
كانت عهود التولية من مجلة ما كتبه النيب عليه الصالة والسالم لعماله ووالته ،فقد وىل عمرو بن
حزم حني بعثه إىل جنران وكتب له كتااب ،وقد ذكر ابن سعد أن رسول هللا كتب إىل عمرو بن حزم عهدا
حني بعثه على اليمن ،يعلمه فيه شرائع اإلسالم وفرائضه وحدوده ،1والقصد من كتابة العهد إضفاء صبغة
وسار على كتابة العهود للعمال والقضاة الصحابة الكرام كأيب بكر وعمر الذي كتب ألهل
الكوفة«:فإين بعثت إليكم عمار بن ايسر أمريا ،وعبد هللا (يعين ابن مسعود) قاضيا ووزيرا ،فامسعوا هلما
ف حدَّث نا عْبدا ُن ع ْن أيب محْزة ع ْن ْاأل ْعمش ف وج ْدان ُه ْم َخْس مائة قال أبُو ُمعاوية
ليُصلي و ْحدهُ وُهو خائ ٌ
وقد كان هذا أساسا إلحصاء اجلنود ،وإنشاء دواوين اجلند يف عهد عمر رضي هللا عنه.
كتابته الكتب إىل ملوك وعظماء زمانه يدعوهم فيها إىل اإلسالم. -
ج -دليل اإلمجاع:
دليل اإلمجاع مفيد ملشروعية التوثيق؛ ذلك أن القرآن أمر به ،كما أن النيب عليه الصالة والسالم
كاتب من عامله ،أو صاحله ،أو راسله ،أو واله ...مث جاء الصحابة فكاتبوا من عاملوهم ،وبقي األمر
قائما يف األمة من غري أن يعرف له ُمنكر ،فدل ذلك على وقوع اإلمجاع عليه.
د – دليل العقل.
دليل العقل يزكي مبدأ توثيق العقود ،ذلك أنه أدعى حلفظ مصاحل العباد ،وأقرب لدفع أسباب
آية الدين يف قوله تعاىل ،1 :هل هو
املذهب األول :أن األمر يف اآلية مفيد للوجوب ،وال قرينة تصرفه إىل معىن آخر ،فيتوجب
توثيق العقود يف املداينات ،وهذا قول الظاهرية وأيب جعفر الطربي ،وبعض من التابعني كسعيد بن
املسيب ،والضحاك ،وسعيد بن جبري ،وعطاء وجماهد ،وجابر بن زيد ،وهلم يف ذلك سند إىل بعض من
الصحابة قلة ،كابن عمر وأيب موسى األشعري ،فإهنما كاان جيعالن الكْتب واجبا إذا وقع ابلديْن ،وممن
ووما احتج به القائلون ابلوجوب؛ أن األمر يف اآلية جاء عاراي عن كل قرينة صارفة ،فال يبقى إال
3
محله على الوجوب الذي ال جتوز املخالفة فيه ،ومل ير هذا الفريق قرينة
- 1البقرة.282:
- 2تفسري املنار.100/3:
- 3البقرة.282:
- 4ينظر تفسري الطربي.51/6:
15
املذهب الثاين :وهو مذهب اجلمهور من احلنفية واملالكية والشافعية واحلنابلة؛ أن األمر يف اآلية يفيد
الندب واإلرشاد ،لقرائن تصرف داللته من إفادة الوجوب إىل إفادة الندب واإلرشاد ،1وجمموع ما استدل
األمر األول :قوله تعاىل ، :فإنه قرينة نصية صارفة لألمر -
عن إفادة الوجوب إىل إفادة الندب واإلرشاد ،وقد استدل مجهور الفقهاء واملفسرين على عدم إفادهتا
الوجوب أبن قوله تعاىل :مرتبط بقوله سبحانه :
وبقوله تعاىل ، :وبقوله سبحانه :
الذي ائتُمن أمانته .قال ابن عاشور يف هذا السياق :تعترب تكميالً لطلب
الكتابة واإلشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين محلوا األمر يف قوله تعاىل ( :فاكتبوه ( على معىن
الندب واالستحباب ،وهم اجلمهور .ومعىن كوهنا تكميالً لذلك الطلب أهنا بينت أن الكتابة واإلشهاد بني
- 1مي ز بعض العلماء بني الندب واإلرشاد ،ومن هؤالء السبكيان يف اإلهباج؛ حيث إن املندوب مطلوب لثواب اآلخرة ،واإلرشاد
ملنافع الدنيا وال يتعلق به ثواب البتة؛ ألنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه اإلهباج يف شرح املنهاج .17/2 :لكن تُعُقب أبن
ذلك يبقى خاضعا لنية املكلف ،فيثاب إن استصحب نية الثواب ،والعكس صحيح.
- 2التحرير والتنوير.123/3 :
16
األمر الثاين :لو كان األمر ابلكتابة واجبا لنقل فيها الوجوب عن النيب ، -
إذ ال يتصور يف حقه خمالفة واجب ،ولنقل كذلك عن الصحابة وهم أحرص الناس على
اقتفاء أثره ؛ وأعلم األمة أبمر األحكام ومراتبها ،ولنقل كذلك عن السلف ما يفيد الوجوب
وحرمة الرتك؛ وذلك يف كل مدايناهتم وبيوعهم وعقودهم ،والتحقيق أهنم مل ينقل عنهم ذلك على
هذا الوجه املفيد للوجوب ،ومن األدلة من السنة على ترك الكتابة واإلشهاد يف بعض عقود
ابْتاع ف ر ًسا م ْن ر ُجل من األ ْعراب الديث األول :حديث خزمية أن النيب -
ال
اِب فطفق رج ٌ
اَّلل -صلى هللا عليه وسلم -الْم ْشىي وأبْطأ األ ْعر ي
ول َّاست ْت ب عهُ لي ْقضيهُ َثن ف رسه فأ ْسرع ر ُس ُ
ف ْ
ت قد ابْت ْعتُهُ
اِب ف قال لهُ «:أول ْس ُ
اَّلل -صلى هللا عليه وسلم -حني مسع نداء األ ْعراِب ح َّىت أاتهُ األ ْعر ي
ول َّر ُس ُ
اِب
اَّلل -صلى هللا عليه وسلم -وابأل ْعراِب و ُمها يرتاجعان ،وطفق األ ْعر ي
َّاس ي لُوذُون بر ُسول َّ
مْنك » .فطفق الن ُ
يدا ي ْشه ُد أين ابي ْعتُك فم ْن جاء من الْ ُم ْسلمني قال لأل ْعراِب :ويْلك إ َّن ر ُسول َّ
اَّلل -صلى ول هلُ َّم شه ً
ي ُق ُ
17
ول :هلُ َّم ُشهداء ي ْشه ُدون أين ابي ْعتُك قال ُخزْميةُ :أان أ ْشه ُد
اِب ي ُق ُ
اِب وطفق األ ْعر ي
وسلم -ويُراج ُع األ ْعر ي
صديقك
اَّلل -صلى هللا عليه وسلم -على ُخزْمية قال ِْ «:ب ت ْشه ُد؟ » .قال :بت ْ
ول َّأنَّك ق ْد ابي ْعتهُ فأقْ بل ر ُس ُ
اَّلل -صلى هللا عليه وسلم -شهادة ُخزْمية شهادة ر ُجل ْني .1
ول َّاَّلل فجعل ر ُس ُ
اي ر ُسول َّ
ركب من الربذة وجنوب الربذة حىت نزلنا قريبا من املدينة ومعنا ظعينة لنا قال فبينا َنن قعود إذ أاتان رجل
عليه ثوابن أبيضان فسلم فرددان عليه فقال من أين أقبل القوم قلنا من الربذة وجنوب الربذة قال ومعنا مجل
أمحر قال تبيعوين مجلكم قلنا نعم قال بكم قلنا بكذا وكذا صاعا من متر قال فما استوضعنا شيئا وقال قد
أخذته مث أخذ برأس اجلمل حىت دخل املدينة فتوارى عنا فتالومنا بيننا وقلنا أعطيتم مجلكم من ال تعرفونه،
فقالت الظعينة ال تالوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم ما رأيت وجه رجل أشبه ابلقمر ليلة البدر
من وجهه فلما كان العشاء أاتان رجل فقال السالم عليكم أان رسول رسول هللا صلى هللا عليه و سلم إليكم
وأنه أمركم أن أتكلوا من هذا حىت تشبعوا وتكتالوا حىت تستوفوا قال فأكلنا حىت شبعنا واكتلنا حىت
استوفينا .2
األمر الثالث :أن يف إجياب الكتابة واإلشهاد مشقة على املتعاقدين ،قال الرازي: -
وألن يف إجياهبما أعظم التشديد ...ووجه التشديد أن املعامالت تكثربني املسلمني ،فإجياب
- 1رواه البيهقي يف السنن الكربى ،كتاب الشهادات ،ابب األمر ابإلشهاد ،برقم.23302:
- 2رواه الدارقطين يف سننه ،كتاب البيوع ،برقم.186:
18
األمر الرابع أن هللا تعاىل أحل البيع وحرم الراب يف القرآن ،ومل يشرتط اإلشهاد يف -
واختار بعض العلماء املعاصرين قوال مفاده أن األمر ابلكتابة خيتلف حكمه ابختالف
نوع املعاملة ،1فإن كانت دينا كبريا ،وتوقع الدائن حدوث طارئ يتسبب يف ضياع ماله ،أو
طلب االحتياط ،أو مل يثق ثقة اتمة ابملدين ،فالتوثيق يف مثل هذه احلال واجب.2
ويبقى الوجوب كذلك قائما فيما لو تعلق األمر مبا غري البينة اخلطية (الكتابة) إلثبات
أما ما كانت قيمته يسرية فال يتعني يف مثله حكم الوجوب ،بل حيمل على الندب واإلرشاد.
وهذا الرأي املنسوب لبعض العلماء املعاصرين؛ رأي تظهر احلاجة إليه أكثر يف واقع الناس
اليوم ،خاصة مع تغري كثري من املناطات اليت غلَّب فيها الفقهاء قدميا أصل الندب واإلرشاد.
خيتص علم التوثيق من حيث موضوعه بكتابة معامالت الناس يف خمتلف األبواب واجملاالت ،ومن
ذلك :عقود املداينات والبيوع وسائر التصرفات املالية سواء كانت على األعيان أو على املنافع ،كما خيتص
وغريها مما يصنف يف الفقه املتعلق ابملعامالت املالية أو ابألحوال الشخصية،كما خيتص إبثبات الشهادات،
والغرض يف كل؛ إثبات الب ينات اليت ُحيتج هبا يف معرض التنازع عند القضاء.
لعلم التوثيق أمساء متعددة منها :علم الشروط ،وعلم الوثيقة ،وعلم الصك ،وعلم فقه الكْتب
حتدث الشروطيون عن أمهية هذا العلم يف إصالح العقود واملعامالت ،والتماس احلجج
والبينات عند وقوع املنازعات واخلصومات اليت تفضي إىل الوقوف أمام القضاء ،كما تكمن
أمهيته يف تنظيم وجوه املعامالت املالية ،ويف جمال األحوال الشخصية ،مبا يسهم يف حفظ ما
تتعلق به من الضرورايت يف حياة العباد ،وممن حتدث عن أمهية هذا العلم اإلمام الونشريسي يف
املنهج الفائق ،إذ يقول :فإين ملا رأيت علم الوَثئق من أجل ما ُسطر يف قرطاس ،وأنفس ما
َّ
ُوزن يف قُسطاس ،وأشرف ما به األموال واألعراض والداء والفروج تستباح وحتمى ،وأكرب زكاة
لألعمال وأقرب ُرمحى ،وأقطع شيء تُنبذ به دعوى الفجور ،وترمى وتُطمس به مسالكه وتعمى
20
( )...واعلم أن علم الوَثئق من أجل العلوم قدرا ،وأعالها إانفة وخطرا؛ إذ هبا تثبت احلقوق،
ويتميز احلر من الرقيق ،ويُتوثق هبا ،ولذا مسيت معانيها وَثقا .1
إن الكتابة والتوثيق أعدل عند هللا تعاىل من عدمها ،وهللا تعاىل أيمر ابلعدل، -
والكتابة أدعى له ،وأنفى للظلم احملتمل الذي قد حيدث عند إنكار من عليه احلق.
أهنا أدعى إىل ثبوت الشهادة ،وأعون على أدائها ،وأقوم لعوجها احملتمل ،وذلك -
عند نسيان الشهود بعض جزئيات املعاملة بسبب طول املدة ،وقد تطرأ على الشهود عوارض
املوت واحلبس والغيبة ،وعدم قبول الشهادة للفسق الطارئ ،وكله سبب يف ضياع احلقوق عند
عدم توثيقها.
أهنا أنفى لالرتياب والشك بني املتعاملني يف تفاصيل الدين كجنسه وقدره. -
أهنا أنفى لالرتياب يف أمر الشهادة ،إذا نسيها الشاهد ،أو أدىل بشهادة ختالف -
متهيد:
للتوثيق أركان ثالثة يقوم عليها وهي :املوثق وهو الكاتب ،واملستوثق له واملستوثق منه ،ومها طرفا
العقد أو الوثيقة ،والوثيقة وهي الكتاب ،وقد شرط الفقهاء رمحهم هللا يف كل شروطاً خاصة كما ذكروا
بعض ما ينبغي استحبااب ،وبعض ما يتحرز منه اتقاء واحتياطا ،وكل ذلك يدل على العناية البالغة والرعاية
السابغة اليت حظي هبا التوثيق لدى السادة الفقهاء ،حفظا للحقوق وصوان للمصاحل بني العباد.
كما أن بعضا من الشروط كانت حمل اختالف بني فقهاء املذاهب ،بسبب االختالف يف أتويل
-1تعريفه:
املوثق هو الكاتب الذي يوثق العقود وَنوها ابلطريق الرمسي ،فهو الكاتب الذي يتوىل كتابة الصكوك
والوَثئق والسجالت....اليت تصلح أن تكون حجة أمام القضاء عند احلاجة إليها.
ذهب الفقهاء إىل مشروعية اختاذ الكاتب املوثق ،واستدلوا لذلك بنصوص من الكتاب والسنة ،كما
22
أ -الدليل من الكتاب:
استند الفقهاء إىل قوله تعاىل:
.1
استدل الفقهاء مبا رواه البخاري معلَّقا ،عن خارجة بن زيد بن َثبت عن زيد بن َثبت أن النيب
صلى هللا عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود ،قال زيد :حىت كتبت للنيب صلى هللا عليه وسلم كتبه،
ويف رواية عند البخاري يف التاريخ الكبري؛ أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال له :تعلم كتاب يهود،
ما آمن يهود على كتايب ،فتعلمته يف نصف شهر حىت كتبت له إىل يهود ،وأقرأته إذا كتبوا إليه .3
وقد اعتمد فيه الفقهاء على عمل الصحابة وخاصة اخللفاء الراشدين منهم؛ الذين ثبت عنهم أهنم
اختذوا كتااب يكتبون هلم ،وكذلك كان عمل من جاء بعدهم؛ سواء يف األقضية أو سائر أمورهم اليت حيتاجون
- 1البقرة.282 :
- 2صحيح البخاري ،كتاب األحكام ،ابب ترمجة األحكام وهل جيوز ترمجان واحد ،برقم.7195 :
- 3التاريخ الكبري للبخاري برقم ،1278ومسند اإلمام أمحد برقم.21658 :
23
إليها ،ومل ينكر عليهم أحد من سائر الصحابة ،فعد ذلك منهم إمجاعا لعدم وجود املخالف ،فثبتت به
ومقتضاه أن اختاذ الكتاب ابلنسبة إىل الوالة والقضاة أمر أدعى إىل احملافظة على احلقوق ،والبت يف
اخلصومات عند القضاة ،فالقاضي يشتغل ابلنظر يف األقضية ،والكاتب يتوىل إثباهتا يف احملاضر والسجالت،
كما نص العلماء على أن عدم الكتابة مفض إىل تبادل التهم ،ووقوع الريبة بني الذي له احلق والذي عليه
احلق ومها طرفا التداين ،ولذلك أمر هللا سبحانه وتعاىل ابختاذ الكاتب ابلعدل ،وأال مييل إىل أحد الطرفني
اختلف الفقهاء يف حكم كتابة الكاتب؛ وذلك على أربعة مذاهب نوردها يف اآليت:
أ -املذهب األول :وفيه اختارت طائفة من العلماء القول أبن الكتابة واجبة على سبيل الكفاية؛
مبعىن أن الكاتب يُلزم ابلكتابة إذا مل يوجد غريه ،وأما إن وجد غريه فال جتب عليه ،وممن قال هبذا؛ اإلمام
الشعيب وعطاء.
24
ب -املذهب الثاين :أن الكتابة واجبة عليه يف حال فراغه فقط ،وأما يف حال انشغاله مبصاحله فال
ج -املذهب الثالث :الكتابة واجبة على الكاتب ،وهو مذهب ابن جرير الطربي وابن حزم رمحهما
هللا؛ وقد محال األمر الوارد يف آية املداينة على الوجوب ،والنهي الوارد يف قوله تعاىل:
د -املذهب الرابع :وهو مذهب اجلمهور من العلماء؛ وهو أن الكتابة مندوبة وحممولة على سبيل
،3 وقد وصف اإلمام ابن العريب رمحه هللا هذا املذهب أبنه
اإلرشاد بقرينة
هو الصحيح ،وهو متفق مع ما ُرجح يف أن األمر يف قوله تعاىل للندب واإلرشاد.5 4
وقال ابن عطية األندلسي رمحه هللا يف ذات السياق :وأما ال َك ْتب يف اجلملة فندب ،كقوله تعاىل
- 1البقرة.282 :
- 2البقرة.282 :
- 3البقرة.282 :
- 4مي ز بعض العلماء بني الندب واإلرشاد ،ومن هؤالء السبكيان يف اإلهباج؛ حيث إن املندوب مطلوب لثواب اآلخرة ،واإلرشاد
ملنافع الدنيا وال يتعلق به ثواب البتة؛ ألنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه اإلهباج يف شرح املنهاج .17/2 :لكن تُعُقب أبن
ذلك يبقى خاضعا لنية املكلف ،فيثاب إن استصحب نية الثواب ،والعكس صحيح.
- 5أحكام القرآن ،البن العريب.500/1 :
- 6احلج.77 :
- 7احملرر الوجيز ،ابن عطية األندلسي.378/1 :
25
،1 كان أحدهم
وقد روي عن الربيع والضحاك واحلسن أنه ملا نزلت :
،2 فتكون عندهم انسخة ألمر الكتابة ،خاصة عند
فأنزل هللا تعاىل :
من قال إن آية الدين مل تنزل دفعة واحدة ،لكن التحقيق أن دعوى النسخ حتتاج إىل دليل ،3وال دليل يُنقل
وملالك رمحه هللا اختيار يف تعني الكتابة على الكاتب ،حيث ذهب رمحه هللا إىل أهنا فرض كفاية
على الكاتب ،4وهو األصح عند الشافعية ،وهذا القول قال به بعض من يرى أن الكتابة ندب وإرشاد،
ومعىن ذلك أن التوثيق ابلكتابة مندوب للكاتب ،أما إذا مل يوجد غريه فيتوجب عليه حينئذ؛ قال
ابن عطية رمحه هللا :وأما إذا أمكن الكتابة فليس جيب الك ْتب على معني وال وجوب الندب ،بل له
- 1البقرة.282 :
- 2البقرة.282 :
- 3ينظر :التوثيق واإلثبات ابلكتابة يف الفقه اإلسالمي ،د حممد مجيل مبارك.87 :
- 4ينظر املنهج الفائق للونشريسي.4/1 :
- 5التوثيق واإلثبات ابلكتابة يف الفقه اإلسالمي.102 :
26
االمتناع إال إن استأجره؛ وأما إذا عدم [(ف حق َد)] الكاتب؛ فيتوجه وجوب الندب حينئذ إىل الاضر،
هذه خالصة املذاهب يف املسألة ،وقد رجح بعض العلماء املعاصرين أن الكتابة واجب كفائي على
.3 الكاتب؛ إال إذا كان له عذر مينعه من الكتابة لقوله تعاىل :
2
من القضااي اليت اختلف فيها الفقهاء؛ ما يتعلق حبكم أخذ الكاتب األجرة على الكتابة ،وذلك
املذهب األول :وهو مذهب مجهور الفقهاء من احلنفية واملالكية والشافعية واحلنابلة؛ الذين أجازوا
أخذ الكاتب األجرة على كتابته العقود ،واستدلوا لذلك بعموم قوله تعاىل :
،4فالفعل املبين للمجهول يف "يضار" داللته جمملة حتتمل أن يقع الضرر على الكاتب والشهيد (يضارْر
كاتب وال شهيد) ،وحتتمل أن يكون الضرر واقعا منهما على غريمها (يُضارْر كاتب وال شهيد) ،ووجه
ٌ
االستدالل ابآلية :أن من وجوه املضارة ابلكاتب مطالبته ابلكتابة من غري عوض ،وقد يستغرق ذلك وقتا
خاصة أنه ممن يرى أن الكتابة من فروض الكفاية؛ ففي املدونة :ولقد سئل مالك عن القوم يكون هلم
عند الرجل املال فيستأجرون رجال يكتب بينهم الكتاب ويتوثق هلم مجيعا ،على من تَرى جعل ذلك؟
فلم يتعرض حلكم أجرته؛ بل سلم هبا وجعلها بني أطراف العقد .ومما ذكره بعض الشافعية يف الباب
"وال يلزم الشاهد كتابة الصك ورسم الشهادة إال أبجرة فله أخذها".2
إذا جرى تسمية األجرة بني املوثق (الكاتب) وأطراف املداينة ،فهي إجارة جارية على األصل
الصحيح ،وجتوز مبا يُتفق عليه قليال ؛كان أو كثريا ،وأما إذا اضطر املكتوب له إىل الكاتب؛ ألنه مل جيد
غريه ،فال جيوز له (املوثق) أن أيخذ فوق ما يستحق؛ فإن غاىل يف األجرة عُد ذلك جرحة يف حقه ،ألنه
معلوما ،وهو كذلك ليس من ابب اهلبة املطلقة ،ألن املوثق يقصد أخذ عوض عن عمله؛ فلم يبق إال
أن يكون ما أيخذه املوثق من ابب هبة الثواب ،وهو ختريج ذكره ابن املناصف يف تنبيه الكام.1
-والوجه الثاين لتخريج املسألة عند عدم تسمية األجرة :أهنا إجارة صحيحة ،ويرجع يف تقديرها
إىل هبة املثل ،وهو التوجيه الذي اختاره مجهور الفقهاء ،وهو راجع إىل حتكيم العادة والعرف فيما مل
يسم فيه لإلجارة عوض ،وإليه نبه سلطان العلماء؛ العز بن عبد السالم رمحه هللا بقوله :إن الصناع
الذين جرت العادة أال يعملوا إال أبجرة إذا صنعوا ألحد شيئا بال تسمية ( )...فاألصح أهنم يستحقون
* املذهب الثاين :وهو القائل بعدم جواز أخذ األجرة على الكتابة ،وممن قال هبذا القول بعض
املالكية –وإن كانوا قلة -وعلى وجه التحديد اثنان من فقهاء املالكية ومها اإلمام الرجراجي رمحه هللا (ت
633ه ) واإلمام لسان الدين بن اخلطيب املالكي رمحه هللا ولكل منهما أدلته.
- 1املصدر السابق.
- 2قواعد األحكام يف مصاحل األانم ،العز بن عبد السالم.130/2:
29
وقد انبىن عندمها القول ابملنع –يف جزء منه -على أن ذلك العمل –الكتابة -واجب وقربة إىل هللا
تعاىل ،فال جيوز أخذ األجرة عليه؛ بل حيتسب ذلك عند هللا تعاىل ".1"
فأما اإلمام الرجراجي رمحه هللا فقد َّبني يف مناهج التحصيل القول ابملنع وهو مييز فيه بني أمرين:
ب -الكتابة املقرونة ابلشهادة :وهي عنده مما ال جيوز أخذ األجرة عليه ،ووجه املنع عنده يف بيع
الشهادة ،إذ بيعها ممنوع ،ويف امتزاجها ابلكتابة امتزاج املباح ابملمنوع ويف ذلك قال" :إن كان يكتب
الوثيقة وال يشهد فيها فال إشكال يف جواز أخذ األجرة على ذلك ،وإن كان يكتب الوثيقة ويشهد
فيها ،وقد استمر عملهم يف مشارق األرض ومغارهبا على أخذ األجرة على ذلك ،واختذوا لذلك يف
أمهات البلدان أسواقا جيلسون فيها لبيع الشهادة ،ورأوا ذلك من أطيب املباحات ،وليت شعري من
أين أخذوا ذلك؟ هل وجدوا نصا لإلمام أيب عبد هللا مالك بن أنس رضي هللا عنه؟ أو ألحد من
وقد انربى بعض املالكية للرد على اإلمام أيب احلسن الرجراجي فيما ذهب إليه من القول بعدم جواز
أخذ األجرة على الكتابة يف حال اقرتاهنا ابلشهادة ،وممن رد عليه أحد املعاصرين له وهو اإلمام ابن بري
رمحه هللا ،فيما ذكره الونشريسي يف املنهج الفائق؛ ومما ذكره – أي ابن بري رمحه هللا -أن انتشار املوثقني
- 1القصص.60:
- 2مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل يف شرح مشكالت املدونة ،اإلمام الرجراجي( 203/9 :بتصرف)،وينظر مثلى الطريقة يف
ذم الوثيقة للسان الدين بن اخلطيب.86-85 :
30
الذين يكتبون ويشهدون –وهو الذي ينكره اإلمام الرجراجي -يُعد يف احلقيقة حجة جميزة" ،ألنه لو كان
حراما ،ملا جاز تواطؤ أهل األرض عليه؛ مع وجود العلماء ومواالة املوثقني للقضاة والفقهاء ،وال نكري
منهم".1
وقد نبه العلماء إىل أن الذي يكتب فقط وال يشهد ال يقصده الناس عادة ،وهو راجع إىل ما يرتتب
عن أمر الكتابة وأمر الشهادة من املشقة عند وجودمها متفرقتني ،فالناس عادة تقصد من جيمع بينهما
على أن بعض املذاهب كالشافعية واحلنابلة مل يروا أبسا أبخذ األجرة على الشهادة وحدها؛ فال
إشكال عندهم فيما ذكره اإلمام الرجراجي رمحه هللا ،وهذا اخلالف غري معنيني به أصال.
أما لسان الدين بن اخلطيب رمحه هللا (ت 776ه ) فقد ابلغ يف مسألة املنع من أخذ األجرة على
الكتابة مطلقا؛ سواء كانت مقرونة ابلشهادة أم ال ،واستند يف اختياره إىل ثالثة من األدلة:
-أوهلا :أن بعض العلماء قالوا أبن األمر ابلكتابة واجب؛ سواء وجوب عني أو وجوب كفاية،
والواجب ال يؤخذ على أدائه أجر ،وخرجها ابن اخلطيب على قاعدة فقهية وهي أن "ما أوجب تعاىل على
عبده ال جيوز أخذ األجرة عليه" ومن هذا القبيل إنقاذ الغرقى وشبهه".2
للوجوب "والصحيح أنه أمر إرشاد ،وفال يكتب حىت أيخذ حقه" 1فيفهم منه أن اجلواز يف أخذ األجرة
متفرع على كونه أمرا مفيدا لإلرشاد ،وأن القول ابلوجوب يرتتب عنه عدم جواز أخذ األجرة على الكتابة.
قال إلكيا اهلراس" :ولو كانت الكتابة واجبة ملا صح االستئجار عليها ،ألن اإلجارة على فعل
الواجبات ابطلة ،ومل خيتلف العلماء على جواز أخذ األجرة على كتب الوثيقة".2
ومما تعقب به بعض العلماء قول ابن اخلطيب؛ أن املالكية يفرقون بني الفعل املتعني وغري املتعني،
فاملتعني كالفروض العينية؛ فهذا ال جيوز تقاضي األجرة عليه ،وكذا املندوابت كالصلوات والصيام ،إذ ال
جيوز اإلجارة عليها ،غري أهنم أجازوا اإلجارة على بعض املندوابت من غري الصالة ؛كالقراءة والذكر...
وأما غري املتعني فهو فرض كفاية كتغسيل امليت ودفنه وهذا قد أجازوا فيه اإلجارة ،ويلحق به تعليم
والثاين :من أدلة ابن اخلطيب :أن أخذ األجرة على الكتابة دون الشهادة على فرض جوازه ،هو
حمل شبهة المتزاجهما ،والورع واالحتياط يقتضيان التنزه عن الشبهات" ،3نظرا لعدم متحض الكتابة.
على الكتابة...لكن عند النظر يف هذا الدليل بني العلماء أنه راجع إىل األول وهو أن الواجب ال
شروط الكاتب:
يطلق مصطلح "كاتب الواثئق" أو العدل" أو املوثق" على من يتوىل كتابة العقود وحتريرها بني
الناس ،وتسمى هذه الوظيفة" :التوثيق" و "العدالة" "وكتابة الشروط" وهذه الوظيفة اتبعة للقضاء ،ألن
العدل ال يتوىل ذلك إال بعد إذن القاضي ،ومسيت الوظيفة ابلعدالة ألن العدالة شرط أساس فيها .قال ابن
خلدون وحقيقة هذه الوظيفة :القيام على إذن القاضي ابلشهادة بني الناس فيما هلم وعليهم حتمال عند
الشهادة ،وأداء عند التنازع ،وكْتبا يف السجالت ،حتفظ به حقوق الناس وأمالكهم وديوهنم وسائر
معامالهتم .2
شروط املوثق:
- 1املرجع نفسه.
- 2املقدمة.635/8 :
33
أ -املوثق غري املنتصب :وقد نص بعض الفقهاء على جواز كتابة من ليس منتصبا هلا؛ أي من
ليس خمتصا هبا ،ومن هؤالء اإلمام ابن عطية األندلسي رمحه هللا تعاىل إذ يقول" :وقد يكتبها الصيب والعبد
ب -املوثق ح
املنتصب :نص بعض العلماء على شروط املوثق املنتصب ،غري أهنم اختلفوا يف حصرها
وعدها؛ فذكر ابن الغرانطي أبو إسحاق إبراهيم ابن أمحد (ت 751ه ) يف الغرانطية (وَثئق الغرانطي)
أهنا عشرة؛ وذلك "أبن يكون مسلما ،عاقال ،جمتنبا للمعاصي ،مسيعا ،بصريا ،متكلما يقظا ،عاملا بفقه
الوَثئق ،ساملا من اللحن ،وأن تصدر عنه خبط واضح ،يقرأ بسرعة وسهولة ،وأبلفاظ نية غري حمتملة ،وال
جمهولة".2
وقال ابن بري :وزاد غري الغرانطي أن يكون عاملا ابلرتسيل.4 3
وزاد بعضهم :أن يكون له علم من اللغة وعلم الفرائض واحلساب والشيات ،5ويف تنبيه احلُكام على
مآخذ األحكام البن املناصف قال» :وال ينبغي أن ينتصب لكتابة الوَثئق إال العلماء العدول ،كما قال
مالك رمحه هللا تعاىل" :ال يكتب الوَثئق بني الناس إال عارف مأمون يف نفسه على ما يكتب ،لقوله تعاىل
- 1احملرر الوجيز.377/1:
- 2ينظر املنهج الفائق للونشريسي63/1 :
- 3الرتسيل العلم الذي يذكر فيه أحوال الكاتب واملكتوب إليه من حيث اآلداب واألحوال واالصطالحات اخلاصة بكل طائفة.
- 4املنهج الفائق للونشريسي.63/1 :
- 5الشيات(:ج شية) كل لون خيالف معظم لون الفرس ،وقيل هي بياض يف سواد أو سواد يف بياض ،قال ابن منظور يف اللسان ":ال
شية فيها؛ أي ليس فيها لون خيالف سائر لوهنا" لسان العرب .392-391/15:وقال ابن عطية عند تفسريه لقوله تعاىل:ال شية
فيها " :ال شية فيها " أي ال خالف يف لوهنا :هي صفراء كلها؛ ال بياض فيها وال محرة وال سوداء" احملرر الوجيز.144/1:
34
وال يقف على فقه الوثيقة فال، وأما من ال حيسن وجوه الكتابة،
وكذلك إذا كان عاملا، لئال يفسد على الناس كثريا من معامالهتم،ينبغي أن ُمي َّكن من االنتصاب لذلك
.1 فال ينبغي أن ميكن من االنتصاب لذلك،بوجوه الكتابة إال أنه ُمتهم يف دينه
وهو شرط يف وجه عند، وهو شرط عند مجهور الفقهاء من احلنفية واملالكية واحلنابلة: اإلسالم-1
:فأما من الكتاب فقوله تعاىل
: وقوله تعاىل،3
. بتقريبهم واطالعهم على أحوال املسلمني أمر غري جائز،ووجه الداللة أن اختاذ الكافرين أولياء
صلى هللا عليه وسلم أنه قال :ما بعث هللا من نيب وال استخلف من خليفة إال كان له بطانتان ،بطانة
تدعوه إىل اخلري وحتضه عليه ،وبطانة تدعوه إىل الشر وحتضه عليه واملعصوم من عصم هللا .1
وضرب فخذي وقال أ ْخر ْجهُ وق رأ :اي أ يها الَّذين آمنُوا ال ت تَّخ ُذوا الْي ُهود والنَّصارى أ ْولياء ب ْع ُ
ض ُه ْم أ ْولياءُ
اَّلل ما ت ولَّْي تُهُ إَّمنا ب ْعض وم ْن ي ت وَّهلُْم مْن ُك ْم فإنَّهُ مْن ُه ْم إ َّن َّ
اَّلل ال ي ْهدى الْق ْوم الظَّالمني قال أبُو ُموسى و َّ
وأما دليل العقل :فإن الكاتب املوثق أمني ،والبد أن يكتب ابلعدل ،والكافر ال يؤمتن على حقوق
املسلمني خاصة أهنم (أي الكفار) يتحينون كل فرصة ليفسدوا أمور املسلمني.
ذلك مستحبا ،حيث قالوا :إن الكاتب ال يستقل هبذا األمر ،بل إن ما يكتبه يطلع عليه القاضي قبل أن
لكن أجيب أبن القاضي قد يشتغل عن الكاتب يف مساع القضااي واحلكم بني الناس ،مما جيعل
-2العقل :وقصدهم بذلك عقل التكليف ال عقل التمييز ،ألن غري العاقل ليس له والية على
العدالة :واملقصود هبا استواء أحوال الكاتب يف دينه ،واعتدال أقواله وأفعاله وأحواله ،وقيل -3
العدل من ال تظهر منه ريبة ،وهبذا تكون العدالة صفة حتمل صاحبها عن كل ما يشينه شرعا ،1سواء يف
- 1ذكر الونشريسي يف املنهج فتوى ابن عتاب رمحه هللا« :أنه سئل عن رجل ينتمي إىل الفقه ،توسل إىل بعض خدمة السلطان راغبا
أن تُقصر عقود الوَثئق عليه؛ فأجابه السلطان إىل ذلك ،وعهد من ببلده أال يقصد أح ٌد وثيقة إال عند هذا الرجل املتفقه؛ فهل جتوز
شهادته وإمامته؛ إذ هو إمام؟ فأجاب رمحه هللا :ال كثَّر هللا أمثال هذا الفقيه ،إذ طلب ما ال حيل له فال جتوز شهادته وال إمامته» املنهج
الفائق ،الونشريسي.65/1:
37
املذهب األول :مذهب اجلمهور من النفية واملالكية والشافعية والنابلة ووجه للشافعية؛ أن
،وألن الكاتب مؤمتن على احلقوق والبينات واإلقرارات فافتقر لزوما إىل ما يشرتط يف الشهود من شرط
العدالة.
املذهب الثاين :وهو اختيار بعض الشافعية يف الوجه الثاين ،حيث ذهبوا إىل عدم اشَتاط العدالة
،بل قالوا ابستحباهبا فقط ،وحجتهم يف ذلك أن الكاتب ال يكتب إال بعد اطالع القاضي عليه وإمضائه
لكن أجيب عنه أبن القاضي قد ينشغل عن ذلك ابحلكم بني الناس والنظر يف أقضيتهم.
له؛ فتؤمن خيانتهْ ،
والراجح ما ذهب إليه اجلمهور من اشَتاط العدالة حفظا لقوق الناس وصوان ملصالهم.
املذهب األول :مذهب اجلمهور من النفية واملالكية والشافعية الذين ذهبوا إىل اشَتاطها يف
املوثق ،وعللوا ذلك أبن العبيد حمط احتقار الناس ،ورمبا أثر ذلك فيما يثبتونه من احلقوق عند توليهم
38
املذهب الثاين :وهو مذهب النابلة حيث ذهبوا إىل أهنا ليست شرطا يف الكاتب ،غري أهنم قالوا
ابستحباهبا فيه ،فأجازوا اختاذ العبد كاتبا ،وقاسوا كتابته على شهادته ،فيما ذكره ابن املناصف يف تنبيه
احلكام.1
وهو شرط البد منه لتكون العقود صحيحة ،ومقتضى هذا الشرط أن يكون فقيها يف الشروط
خاصة؛ ال يف كل أحكام الفقه عامة ،فذلك مستحب ،والفرض من ذلك أن حيرر الوَثئق ساملة من
العيوب والطعون اليت قد تؤدي إىل رفض االحتجاج هبا ،وجممل ما حيقق السالمة من العيوب أمور منها:
التنبه ملعاين الكلمات اليت يستخدمها املوثق يف الوثيقة ،وذلك أبن يكتب بلغة سليمة -
التحرز مما من شأنه أن يلحق الضرر أبحد األطراف ،كتقييد موضع اإلطالق أو اإلطالق -
معرفة الوَثئق وأحكامها ،حىت يتمكن من حتقيق الشروط اليت اشرتاطها الشارع احلكيم يف -
الكتابة ،وهي أن تكون ابلعدل؛ وألن جهله ابلشروط مفسد ملا يكتبه ال حمالة ،مضيع حلقوق الناس،
شأنه أن يتبب يف ضياع حقوق الناس ،واستدلوا يف هذا الباب بقوله تعاىل:
فالنهي يف اآلية عن إعطاء احلكام الرشوة ،ويقاس عليهم من يكون هلم عوان على واليتهم يف شىت
الوظائف كالقضاة والكتاب ...كما استدلوا حبديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم :من استعملناه على
عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول .2
أن يكون وافر العقل :ووفور العقل أن يكون جزل الرأي سديد التحصيل ،حسن الفطنة، -1
أن يكون فقيها بصفة عامة ،واملراد بنوع الفقه ههنا ما يزيد على الفقه املطلوب بعلم -2
الشروط املشار إليه سابقا ،وذلك حىت يكون له علم بصحة ما يكتب من بطالنه.
- 1البقرة.188:
- 2املستدرك على الصحيحني ،للحاكم النيسابوري ،كتاب الزكاة ،برقم ،1472وقال عنه هذا حديث صحيح على شرط الشيخني
ومل خيرجاه.
40
أن يكون واضح اخلط جيده ،مع ضبطه للحروف ،وكان عمر بن عبد العزيز يقول وقد -3
كتب لعماله :إذا كتبتم فأرقوا األقالم وأقلوا الكالم ،واقتصروا على املعاين ،وقاربوا بني احلروف ،فإن أجود
1
اخلط أبينه ،كما أن القراءة أجودها أبينها
فال يرتك فسحة ميكن إحلاق شيء فيها ،ومن ذلك أن مييز بني املتشابه أو املتقارب رمسا ،كأن مييز
بني السبعة والتسعة ،ويعني ما قد يتطرق إليه االحتمال ،كأن يكون املبلغ مائة ،فإهنا يذكر بعدها نصفها
أن جيلس يف مكان مناسب حىت يتمكن من رؤية ما يكتب بيسر وسهولة ،ويكون يف مكان يسهل
على القاضي أن يراه ،كما ينبه على ذلك اإلمام الكاساين رمحه هللا بقوله :وينبغي أن يقعد
2
الكاتب حيث يرى ما يكتب وما يصنع فان ذلك أقرب إىل االحتياط
أن يكون عاملا بلغات اخلصوم ،غري مفتقر إىل ترمجان. -1
أن يتجنب معاشرة األراذل واألسافل من الناس؛ ألن ذلك حيط من قدره. -3
أال يكتب يف بلد سافر إليه حديثا حىت يفهم لغة القوم ،واصطالحاهتم وأعرافهم يف -4
التخاطب والتعامل...
41
وقد نقل اإلمام الونشريسي يف املنهج الفائق أقوال بعض من أمجل ما ينبغي للموثق من اآلداب،
فذكر قول ابن عفيون 1رمحه هللا :اعلم وفقنا هللا وإايك أن املتعرض هلذه الصناعة البد له من آلة جيمعها،
وأدوات حيسنها فأوهلا :حسن اخلط وإقامة اهلجاء ،ووضوح احلرف على أحسن صورها ،حىت ال يدخل يف
ألفاظ الوثيقة إشكال ،وال يتصور يف شيء منها احتمال ،وال سيما يف التواريخ وعند ذكر األعداد ،وهي
آكدها ،وأحوجها إىل البيان ،والعرب تقول " :اخلط أحد اللسانني وحسنه إحدى الفصاحتني ( )...وقال
نص علماء الشروط على مجلة حماذير 3ينبغي للكاتب املوثق االحرتاز منها ومن ذلك: -
أن حيرتز من مواضع زايدة األحرف( 4كأن يذكر أن له عند ألف درهم ،ومل يذكر نصفها، -
تفقد حواشي الوثيقة فقد يبقى منها ما ميكن أن يُزاد فيه ما يغري حكم ما يف الكتاب كله -
أو بعضه ،5وقد ذكر القرايف يف اإلحكام يف متييز الفتاوى عن األحكام بعض ما وقع لبعض أهل الفضل
- 1وهو أبو عبد هللا حممد بن أيب بكر ابن عفيون الغافقي الشاطيب أحد علماء الشروط ،تويف بعد (584ه)املنهج الفائق،
الونشريسي.84/1:
- 2ينظر املنهج الفائق ،للونشريسي.83-82/1 :
- 3ذكر مجلة هذه احملاذير الونشريسي يف املنهج الفائق.184-164/1:
- 4املنهج الفائق ،للونشريسي.165/1:
- 5املنهج الفائق ،للونشريسي.166/1 :
42
صلح،
بياضا خاليًا أ ْن ي ُسدَّه مبا ي ُ
من احلرج يف هذا فقال :ينبغي للمفيت إذا وجد يف آخر السطر خل ًال أو ً
بعض العلماء
صل للباطل والتتميم .وقد استُفيت ُ
فإنه ذريعةٌ عظيمةٌ للطعن على العلماء املفتني ،وذريعةٌ للتو ي
فينبغي للمفيت أن حيذر من مثل هذا ،وأن ي ُس َّد البياضات كما يفعل َّ
الوراقون يف ُكتب األحباس
أال يرتك يف آخر السطر من الوثيقة فرجة يزاد فيها شيء.3 -
أال يكتب طالقا لرجل من امرأة يدعيان أهنما ليس معهما كتاب نكاح4؛ فإن بعض الناس -
- 1ذكر الونشريسي فما عرفوا أنه من زايدة املدعي إال بنوع اخلط الذي ختالف فيه الزايدة األصل ،ينظر املنهج الفائق ،للونشريسي:
.166/1
- 2اإلحكام يف متييز الفتاوى عن األحكام ،اإلمام شهاب الدين القرايف.239-238:
- 3املنهج الفائق ،للونشريسي.168/1 :
- 4املنهج الفائق ،للونشريسي.171/1 :
43
أال يكتب لرجل جتديد صداق حىت يعلم صدق الزوجية بينهما.1 -
أال يهمل سؤال املعتدة على انقضاء عدهتا إذا ارادت النكاح.2 -
أن يتجنب الشهادة مبوت غائب بتعريف من عرفه ،فقد يكون ذلك بلغه بالغا غري موثوق، -
ينبغي له إذا شهد يف كتاب فيه ثقب 5يف أصل الورق أن ينبه عليه فيقول :ويف سطر كذا -
من هذا الكتاب ثقب قبله كذا ،وبعده كذا ،وكذلك يفعل إذا تعددت مواضع الثقب ،وإمنا يعني مواضع
الثقب متييزا له عن السقط الذي قد يطال بعض مواضع الوثيقة إذا أكلتها األرضة أو غريها ،فيسقط من
الوثيقة جزء مما هو مكتوب قد يكون أحياان هو موضوع العقد؛ كأن يسقط مقدار الدين وقيمته ،أو شرط
أساس من شروطه.
أو وكيلني ،أو وصيني 1،ومجلة ما يشرتط فيهما راجع إىل شرط األهلية وما يتفرع عنه من األحكام.
أهلية املتعاقدين :وهي عبارة عن صالحية اإلنسان لوجوب القوق املشروعة له أو عليه ،فهي
صفة جتعل الشخص تثبت له القوق ،وتثبت عليه الواجبات ،وتصح منه التصرفات .واألهلية نوعان:
وأما أهلية األداء :وهي صالحية الشخص لصدور التصرفات منه (أو ملمارستها ومباشرهتا) على
2
فهي على نوعني :أهلية أداء انقصة وأهلية أداء كاملة: وجه يعتد به شرعاً ،وهي ترادف املسؤولية
- 1أنواع الوالية :الوالية إما أن تكون أصلية :أبن يتوىل الشخص عقداً أو تصرفاً لنفسه ،أبن يكون كامل أهلية األداء (ابلغاً عاقالً
راشداً) ،أو نيابية :أبن يتوىل الشخص أمور غريه.
والوالية النيابية أو النيابة الشرعية عن الغري :إما أن تكون اختيارية أو إجبارية.
االختيارية :هي الوكالة أي تفويض التصرف واحلفظ إىل الغري.
واإلجبارية :هي تفويض الشرع أو القضاء التصرف ملصلحة القاصر ،كوالية األب أو اجلد أو الوصي على الصغري ،ووالية القاضي على
القاصر .فمصدر والية األب أو اجلد أو القاضي هو الشرع .ومصدر والية الوصي إما اختيار األب ،أو اجلد ،أو تعيني القاضي.
والوالية النيابية اإلجبارية :إما أن تكون والية على النفس أو والية على املال.
الوالية على النفس :هي اإلشراف على شؤون القاصر الشخصية كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب والتشغيل يف حرفة وَنو ذلك.
وليس هنا حمل حبثها.
والوالية على املال :هي اإلشراف على شؤون القاصر املالية من حفظ املال واستثماره وإبرام العقود والتصرفات املتعلقة ابملال .»..الفقه
اإلسالمي وأدلته ،د وهبة الزحيلي.2986/4 :
- 2الفقه اإلسالمي وادلته ،د .وهبة الزحيلي.2964/4:
45
«أهلية األداء الناقصة :هي صالحية الشخص لصدور بعض التصرفات منه دون البعض اآلخر،
وهي اليت يتوقف نفاذها على رأي غريه ،وهذه األهلية تثبت للشخص يف دور التمييز بعد متام سن السابعة
إىل البلوغ .ويعد يف حكم املميز :الشخص املعتوه الذي مل يصل به العته إىل درجة اختالل العقل وفقده،
ويفرق ابلنسبة للمميز واملعتوه بني حقوق هللا وحقوق العباد ()...
وأهلية األداء الكاملة :هي صالحية الشخص ملباشرة التصرفات على وجه يعتد به شرعاً دون
توقف على رأي غريه .وتثبت ملن بلغ احللم عاقالً أي للبالغ الرشيد ،فله مبوجبها ممارسة كل العقود ،من
واألهلية املقصودة يف التوثيق معناها ثبوت األهلية الكاملة للمستوثق له أو منه على وجه يعتد مبا
يصدر منهما شرعا ،ولذلك فإن السفيه واجملنون واحملجور عليه والصيب ليست هلم أهلية أداء كاملة ،فليس
من حقهم اإلمالء للكاتب مبا يثبت يف ذممهم ،بل يتوىل اإلمالء عنهم األولياء واألوصياء والوكالء ،ويلحق
هبم من به اخلرس ،والبكم ،والغيب (قيل هو الذي يعلم مصلحته وال يستطيع التعبري عنها) ،وإىل هذه النيابة
يف اإلمالء عن هؤالء املذكورين وأضراهبم ،أشارت آية الدين يف قوله تعاىل :
. 2
فعليه أن يرفض التوثيق ،ويعيد احملرر إىل ذوي الشأن بكتاب موصى عليه مع إبداء األسباب.
واألهلية كما سلف البيان تثبت ابلعقل والبلوغ وعدم وجود عارض من عوارضها ،1وسالمتها من
املوانع القانونية كأن يكون أحد املتعاقدين يباشر وصاية على مال قاصر أو حمجور عليه بال إذن من اجلهة
املختصة.
وأما عن الرضا الذي يتأسس عليه العقد فشرطه أن يكون موجودا ،صحيحا ،وال يكون صحيحا
حىت يصدر من ممن هو أهل له ،غري مشوب أبي عيب من عيوب الرضا؛ كالغلط ،والتدليس ،واإلكراه،
واالستغالل (الغنب الفاحش) ،وإذا كان أحد املتعاقدين ضريرا أو ضعيف البصر أو أبكم وجب على املوثق
ومما يتعلق ابملوثق؛ وجوب التحقق من شخصية املتعاقدين بشهادة شاهدين عاقلني ابلغني؛ تثبت
- 1عوارض األهلية أهلية األداء :قد يعرتض هذا النوع من األهلية بعض العوارض فتؤثر فيها ،والعوارض :هي ما يطرأ على اإلنسان
فيزيل أهليته أو ينقصها ،أو يغري بعض أحكامها .وهي نوعان عند علماء أصول الفقه:
أ -عوارض مساوية :وهي اليت مل يكن للشخص يف إجيادها اختيار واكتساب.
ب -وعوارض مكتسبة :وهي اليت يكون للشخص دخل واختبار يف حتصيلها )...( .وهي اجلنون ،واإلغماء والسكر والسفه ،والنوم
والعته » .الفقه اإلسالمي وأدلته ،د وهبة الزحيلي.2974 -2971/4 :
47
أمساء الوثيقة. -1
الوثيقة هي الكتاب الذي يكتب بني الطرفني ويشهد عليه ،وقد مساها الفقهاء أبمساء كثرية حبسب
ما يتعلق هبا من وجوه اإلثبات ،وحبسب من يشرف عليها ،وقد استعمل بعض الفقهاء كثريا من أمسائها،
يف حني اقتصر بعضهم على طائفة من أمسائها ،لكن اشتهر من أمسائها َخسة:
الوثيقة :وقد عرفها ابن عابدين يف حاشيته بقوله :الوثيقة ما كتب يف الواقعة وبقي عند -
احملضر :عرفه الفقهاء بقوهلم «:احملضر هو كتب فيه حضور املتخاصمني عند القاضي ،وما -
جرى بينهما من اإلقرار من املدعى عليه ،أو اإلنكار منه ،واحلكم ابلبينة أو النكول على وجه يرفع
السجل :السجل لغة كتاب القاضي ،وقد قال املطرزي« :السجل كتاب احلكم وقد سجل -
ُ
عليه القاضي».3
الصك :لغة الكتاب الذي يُكتب فيه املعامالت ،واصطالحا :ما كتب فيه البيع والرهن -
واملالحظ أن بعض الفقهاء يستعملون هذه األمساء أحياان مبعىن واحد يف بعضها.2
شروط الوثيقة.
إخراج املتعاقدين ح
والعوضني عن حد اجلهالة إىل حد العلم واملعرفة. -1
إخراج املتعاقدين ح
والعوضني عن حد اجلهالة إىل حد العلم واملعرفة :وذلك بتعريف -1
املتعاقدين تعريفا يتميزان به عن غريمها من األشخاص؛ وذلك بذكر امسهما ونسبهما (ويكون بذكر األب
واجلد) ،وإذا كان هلما أو ألحدمها اسم شهرة يعرف به فإنه يكتفى بذكر امسه ونعته كما كان يذكر ذلك
لرسول هللا ؛ ففي عقده مع العداء بن خالد ما يشهد على ما ذكر يف هذا الشرط من القيود ،ففي
وأما إخراج العوضني عن حد اجلهالة فيكون بذكر صفاهتما ومكاهنما؛ فإن كان أحدمها نقدا يُذكر
جنسه (درهم ،دينار ،)...وإن كان أحدمها أرضا؛ تُذكر حدودها ومكاهنا ،وإن كان دارا يذكر موضعها
ومكاهنا وصفاهتا...
دفعه املتعاقدان ،وما بقي يف ذمة كل واحد منهما ،ومىت حي يل له املطالبة به حىت ال جيحد أحد الطرفني أو
ذكر اإلشهاد (أي من شهد على الكتاب من الشهود) :وهو امتثال ألمر هللا تعاىل يف -3
اإلشهاد؛ ؛ وهو أدعى لثبوت احلقوق ،وحىت ال جيحد من عليه احلق.
كتابة التاريخ الذي كتب فيه الكتاب (الوثيقة) :وهو من مهام الصكوك؛ إذ به ميتنع -4
التزوير ،كما أن حتديد اآلجال تنتفي معه اجلهالة ،ويقي من التشاحن؛ وقد ُرفع إىل عمر رضي هللا عنه
صك حمله شهر شعبان ،فقال :أي شعبان هذا؟ الذي َنن فيه؟ أم املاضي أم الذي أييت؟ ،وقد قيل إن
- 1صحيح البخاري ،كتاب البيوع ،اباب السهولة والسماح يف الشراء والبيع ،برقم.1972:
- 2السنن الكربى للبيهقي ،كتاب البيوع ،ابب بيع الرباءة ،برقم .11098
50
هذا كان سببا يف كتابة التاريخ واعتماد التاريخ اهلجري أساسا يف التأريخ عند املسلمني زمن عمر ،
وقيل :بل سببه أن أاب موسى األشعري كتب إىل عمر أنه أتتينا منك الكتب ليس هلا اتريخ؛ فأرخ لتستقيم
األحوال فأرخ.1
ذكر الشروط اليت اعتاد كتاب الواثئق إثباهتا يف العقود :والقصد منه أن يُثبت املوثق يف -5
- 1السنن الكربى للبيهقي ،كتاب البيوع ،ابب بيع الرباءة ،برقم.11098 :
51
أقسام التوثيق:
يتم التوثيق للديون واملعامالت مبجموعة من الطرق أشهرها أربعة :التوثيق ابلكتابة ،والتوثيق
التوثيق ابلكتابة أو ما يسمى ابلبيحنة اخلطية؛ وقد سبق الديث عن حكمها ومشروعيتها وما
يتعلق هبا من األحكام ،والقصد يف هذا السياق أن الكتابة أصل تثبت به القوق واملداينات ،وهي
من الجج اليت يستند إليها الاكم أو القاضي عند ترافع اخلصوم إليه ،وقد نص الفقهاء على الكمة
َجلح حه؛ لح َما ي تَ َوقع من الكتابة؛ فقد جعل الصك كما يقول ابن العريب رمحه هللا :لحيستذ ح ح
ْكر بحه ع ْن َد أ َ
َْ َ
ول ْاألَج حل ،والنحسيان موكل حاب ْحإلنْس ح
ني حل ح ح ح ح ح
انَ ،والش ْيطَان رمبَا َ َ َ َْ َ ٌ م ْن الْغَ ْفلَة حيف الْمدة ال حيت بَْ َ
ني الْم َع َاملَة َوبَ ْ َ
ْاألَو حل .1
اختلف الفقهاء يف حجية الكتابة وحدها ،هل تقوم هبا البينة أم ال؟ وذلك على مذهبني:
- 1أحكام القرآن.498/1:
52
املذهب األول :ذهب الشافعي ومالك وأمحد يف رواية عنه ومجاعة من الفقهاء إىل أنه ال يعتمد
على اخلط وحده إذا مل يقَتن بشهادة الشهود عليه ،فالبينة الكاملة إمنا تقوم ابلكتاب املشهود عليه؛
وحجتهم يف ذلك أن اخلطوط تشتبه والتزوير فيها ممكن ،وقد تُكتب أحياان للتجربة واللهو ....ومع قيام
هذه االحتماالت والشبهات ال يبقى للخط اجملرد حجية ،وال يصلح لالعتماد عليه وحده ،خبالف ما إذا
أُشهد عليه فاحلجة تقوم به؛ ألن الشهادة ترفع الشك ،وتدفع االحتمال.
وقد متسك أصحاب هذا املذهب مبا اشرطته آية الدين من أن تكون الكتابة مؤيدة ابلشهادة؛ فقوله
تعاىل ، :يعتضد بقوله تعاىل ، :واملعىن على ذكر بعض
وعلى هذا املذهب ال يقضي القاضي بشيء ملن جاء حبق َثبت له مبجرد الكتابة دون إشهاد؛ ففي
وَثئق ابن اهلندي " رجل جاء يف يده ضيعة وادعى أهنا وقف ،وجاء بصك فيه خطوط عدول وقضاة قد
انقرضوا ،وطلب من القاضي القضاء؛ ليس للقاضي أن يقضي بذلك الصك ،1وقال النووي يف تعليل
مثل هذا« :ألن احلق يثبت ابلشهود ال ابلكتاب» ،2وقال جنم الدين احللي يف "شرائع اإلسالم" :أما
3
الكتابة فال عربة هبا إلمكان التشبيه
توثيق الدين ابلكتابة وحدها ،وأهنا تعترب يف اإلثبات إذا كانت صحيحة النسبة إىل كاتبها ،ويف ذلك يقول
1
وقال ابن فرحون يف التبصرة ابن تيمية رمحه هللا :والعمل ابخلط مذهب قوي؛ بل هو قول اجلمهور
وإ ْن قال :ل ُفالن عْندي أ ْو قبلي كذا وكذا خبط يده قضى علْيه ؛ ألنَّهُ خرج خمْرج ْاإلقْ رار اب ْحلُُقوق ()...
ف
ضت مْن ها َثانية داننري ممَّا يف بطْن هذا الْكتاب ،ه ْل ْحيل ُ
عشر دين ًارا ،ويف أ ْسفله خبط الْميت ق ب ْ
2
وب وي ْربأُ م ْن الثَّمانية ؟ قال :ي ْربأُ مْن ها بال ميني ويُ ْؤخ ُذ مْنهُ ما بقي
الْمطْلُ ُ
ومما استدل به القائلون حبجية الكتابة وحدها؛ أن الوصااي تنفذ ابخلطوط املعروفة ،واحتجوا مبا رواه
البخاري ومسلم ومالك يف املوطإ ،وبعض أصحاب السنن من حديث ابن عمر ،أن النيب قالَ :ما
- 1خمتصر الفتاوى.601:
- 2تبصرة احلكام.241-240/3:
- 3متفق عليه.
54
أن النيب كان يكتب الكتب والرسائل إىل ملوك وعظماء زمانه ،وتقوم هبا احلجة ،ومل -
يكن يطلع رسولُه على مضمون الرسالة؛ بل كان يدفعه إليه خمتوما ،وسار على مثل ذلك اخللفاء الراشدون
ومن بعدهم.
عمل الصحابة يف هذا الباب ،إذ كان عندهم اخلط حجة ،وقد حكى الرازي يف احملصول -
ما درج عليه اخللفاء والعمال والقضاة والوالة من اعتماد كْتب بعضهم لبعض دون أن -
يشهدوا حاملها على ما فيها ،وعلى هذا سار العمل إىل يوم الناس هذا.
إمجاع أهل احلديث على صحة اعتماد الراوي على اخلط احملفوظ عنده ،وجاز التحديث -
به ،ولو مل يُعتمد على ذلك؛ لضاعت من األمة أكثر األحاديث النبوية ،ومعها تضيع كثري من األحكام
الفقهية ،واآلداب الشرعية...؛ ألن الكتابة والنساخة؛ وسيلة حفظها وتناقلها بني األجيال.
َّ
استدل به املانعون من أن اخلطوط تتشابه ،وقد يدخلها التزوير واحملاكاة (التقليد)، إن ما -
األوىل :أن االعتماد على حجية الكتابة ال يكون مع وجود تلك الشبهات واالحتماالت، أ-
اخلط إىل كاتبه ،فإذا عرف ذلك
ول الْع ْلم بن ْسبة ْ
صُ ولذلك فإن القصد كما يقول ابن القيم رمحه هللاُ «:ح ُ
55
اَّللُ ُسْبحانهُ
صوات وق ْد جعل َّ
صور و ْاأل ْ
ض م ْن ا ْشتباه ال ي
اخلُطُوط ،وذلك كما ي ْعر ُ
وغايةُ ما ي ْقد ُر :ا ْشتباهُ ْ
1
صورته».
صورته وص ْوته ع ْن ُ
خلط ُكل كاتب ما ي تميَّ ُز به ع ْن خط غ ْريه كتميز ُ
الثانية :أنه كما ميكن تزوير الكتابة واخلط؛ ميكن تزوير الشهادة ،ورمبا كان التزوير يف ب-
الشهادة أكثر وقوعا ،كما أن الكشف عن تزوير اخلط أيسر من الكشف عن تزوير الشهادة؛ ألن األوىل
مفهومها. -1
يف املقاييس( :شهد) الشني واهلاء والدال أصل يدل على حضور وعلم وإعالم ،ال خيرج شيء من فروعه
عن الذي ذكرانه؛ من ذلك الشهادة ،جيمع األصول اليت ذكرانها من احلضور ،والعلم ،واإلعالم .يقال
شهد يشهد شهادة .واملشهد :حمضر الناس ،2ومسي الشاهد شاهدا ألنه حيضر ويعاين الواقعة ليُخرب
احلُكْم مبُْقتضاهُ إ ْن عُدل قائلُهُ مع ت عديده أ ْو حلف طالبه» 1وعرفت أبهنا إخبار صدق إلثبات حق بلفظ
ْ
2
الشهادة يف جملس القاضي ولو بال دعوى
تُعترب الشهادة من وسائل اإلثبات والبينة إبمجاع الفقهاء ،واألصل فيها قوله تعاىل :
،4وقوله ،5 :وقوله
،3وقوله:
6
عليه الصالة والسالم :شاهداك أو ميينه
كما أمجع العلماء على حجية الشهادة والعمل هبا يف ابب اإلثبات والبينات.
- 1شرح حدود ابن عرفة (اهلداية الكافية الشافية لبيان حقائق اإلمام ابن عرفة الوافية) ،حملمد بن قاسم األنصاري ،أبو عبد هللا ،الرصاع
التونسي املالكي.445 /1:
- 2البحر الرائق يف شرح الوَثئق.60/7:
- 3البقرة.282:
- 4البقرة.282:
- 5الطالق.02:
اَّللُ عنْهُ م ْن حلف على ميني
اَّلل رضي َّ
- 6رواه البخاري ومسلم ،واللفظ للبخاري .ونص احلديث :ع ْن أيب وائل قال :قال :عْب ُد َّ
صديق ذلك إ َّن الَّذين ي ْشرتُون بع ْهد َّ
اَّلل وأ ْمياهن ْم َثنًا قل ًيال اَّللُ ت ْ
ضبا ُن ،فأنْزل َّ
اَّلل وُهو علْيه غ ْ
ي ْستح يق هبا م ًاال وُهو فيها فاجٌر لقي َّ
اَّلل اب أل ٌيم ُ مثَّ إ َّن ْاأل ْشعث بْن ق ْيس خرج إلْي نا ف قال ما ُحيدثُ ُك ْم أبُو عْبد َّ
الر ْمحن قال فحدَّثْناهُ قال ف قال صدق لف َّي و َّ ف قرأ إىل عذ ٌ
ت إنَّهُاَّلل شاهداك أ ْو ميينُهُ قُلْ ُ اَّللُ علْيه وسلَّم ف قال ر ُس ُ
ول َّ اَّلل صلَّى َّ
اختص ْمنا إىل ر ُسول َّ
صومةٌ يف بئْر ف ْت ب ْيين وب ْني ر ُجل ُخ ُ
ت كان ْ
أُنْزل ْ
ضبا ُناَّلل وُهو علْيه غ ْ اَّللُ علْيه وسلَّم م ْن حلف على ميني ي ْستح يق هبا م ًاال وُهو فيها فاجٌر لقي َّ
اَّلل صلَّى َّ
ول َّف وال يُباِل ف قال ر ُس ُ
إذًا ْحيل ُ
اب أل ٌيم صديق ذلك ُمثَّ اقْرتأ هذه ْاآلية :إ َّن الَّذين ي ْشرتُون بع ْهد َّ
اَّلل وأ ْمياهن ْم َثنًا قل ًيال ف قرأ إىل عذ ٌ اَّللُ ت ْ
فأنْزل َّ
57
حكم الشهادة. -3
اختلف الفقهاء يف حكم الشهادة يف املداينات واملعامالت ،وهو اختالف متفرع عن أصل
االختالف يف حكم الكتابة الوارد يف آية الدين ،وذلك على مذهبني كبريين:
املذهب األول :مذهب الظاهرية والطربي ومجاعة من السلف أهنا واجبة؛ وحجتهم -
يف ذلك أن األمر الوارد ابإلشهاد يف آية الدين
،1وقوله:
املذهب الثاين :مذهب مجهور الفقهاء من املالكية والنفية والشافعية والنابلة؛ أهنا على سبيل
الندب واإلرشاد ،فاألمر ابإلشهاد يف اآلية فيه إرشاد ملا هو أحوط ،وقد صرفوا داللة األمر الوارد يف
اآلية إىل الندب واإلرشاد بقرينة قوله تعاىل:
الرْهن ،وع َّول على أمانة الْ ُمعامل ،ف ْليُؤد الَّذي ائْ تُمن ْاألمانة ولْي تَّق َّ
اَّلل ربَّهُ . و ْاإل ْشهاد و َّ
ني
إسقاطُهُ ،وهبذا ي ت ب َّ ُ
اد واجبًا لما جاز ْ
اخت لف الْعُلماءُ يف ذلك كما ب يَّنَّاهُ ،ول ْو كان ْاإل ْشه ُ
وق ْد ْ
ب يف النكاح )...( ،
أنَّهُ وثيقةٌ ،وكذلك ُهو عْندان يف النكاح ،وقال الْ ُمخال ُفون ُ :هو واج ٌ
- 1البقرة.282:
- 2البقرة.282:
- 3البقرة.283:
58
و ُمجْلةُ ْاأل ْمر أ َّن ْاإل ْشهاد ح ْزٌم ،واالئْتمان وثيقةٌ اب ََّّلل م ْن الْ ُمداين ،وُم ُروءةٌ م ْن الْمدين ،ويف ْ
احلديث
يل َسأ ََلذكحر أَن رج ًال حمن ب حين ْ ح الصحيح ع ْن أيب ُهريْرة ق ْوُل النَّيب صلَّى َّاَّللُ علْيه وسلَّم :
إس َرائ َ ْ َ َ َ الثَّابت َّ
وقد خرج اجلمهور هذا احلكم على ما محلوا عليه داللة األمر ابلكتابة الوارد قبله يف اآلية ،قال اإلمام أبو
بكر اجلصاص :وال خالف بني فقهاء األمصار أن األمر ابلكتابة واإلشهاد والرهن املذكور مجيعه يف هذه
اآلية ندب وإرشاد إىل مالنا فيه احلظ والصالح واالحتياط للدين والدنيا وإن شيئا منه غري واجب وقد
نقلت األمة خلفا عن سلف عقود املداينات واألشرية والبياعات يف أمصارهم من غري إشهاد مع علم
فقهائهم بذلك من غري نكري منهم عليهم ولو كان اإلشهاد واجبا ملا تركوا النكري على اتركه مع علمهم به
ويف ذلك دليل على أهنم رأوه نداب وذلك منقول من عصر النيب - إىل يومنا هذا لو كانت الصحابة
والتابعون تشهد على بياعاهتا وأشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا وألنكرت على فاعله ترك اإلشهاد
فلما مل ينقل عنهم اإلشهاد ابلنقل املستفيض وال إظهار النكري على اتركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب
3
واإلشهاد يف الديون والبياعات غري واجبني
- 1صحيح البخاري ،كتاب الكفالة ،ابب الكفالة يف القرض والديون ابألبدان وغريها ،برقم.2169:
- 2أحكام القرآن ،البن العريب.44/2:
- 3أحكام القرآن ،أليب بكر اجلصاص.206/2:
59
األصل املقرر يف آية الدين أن نصاب الشهادة يكون برجلني ،أو رجل وامرأتني ،والشرط يف
قال القرايف رمحه هللا :ما علمت عندان ،وال عند غريان خالفا يف قبول شهادة شاهدين مسلمني
فتقرر أن الشهادة األصل فيها أن تقام برجلني عدلني ،أو برجل وامرأتني ،وذلك يف أمور بعينها
دون غريها ،سيأيت تفصيلها ،وهناك أنواع من الشهادات اشَتط فيها الرجال دون النساء ،وهناك
أمور تقبل فيها شهادة النساء منفردات ،كما أن مسألة العدد يف الشهادة كان ُمل تفصيل من الفقهاء
شهادة الرجلني العدلني :وقد اتفق الفقهاء على حجيتها ومشروعيتها وقوهتا يف اإلثبات، -
فهي تلزم القاضي إبصدار احلكم ،وهي كافية يف إثبات احلقوق ،وال حتتاج إىل شيء آخر ،بدليل ما ذكر
2
من النصوص السابقة ،وقوله عليه الصالة والسالم :ال نكاح إال بويل أو شاهدي عدل
شهادة الرجل واملرأتني :وهي َثبتة بنص القرآن ،وتثبت هبا احلقوق املالية وما يلحق هبا، -
وقد تكلم بعض الفقهاء يف علة اشرتاط املرأتني بدل الرجل الواحد ،وعدم االقتصار على الواحدة فقط،
- 1الفروق.86/4:
- 2السنن الصغرى للبيهقي ،كتاب النكاح ،ابب ال نكاح إال بوِل وشاهدي عدل ،برقم.2487:
60
الغفلة والنسيان :ومها أمران صرحت به اآلية؛ أ-
،1فال جيوز التفريق بينهما يف أداء الشهادة .قال ابن عاشور رمحه
هللا :وهذه حيطة أخرى من حتريف الشهادة وهي خشية االشتباه والنسيان؛ ألن املرأة أضعف من الرجل
ْن ح ح
صدق َ
نقصان العقل والدين :وهو أمر صرح به احلديث الشريفَ :اي َم ْع َش َر الن َساء تَ َ ب-
ك حمن ن ْقص ح
ان حدينح َها ت َمل تص حل وَمل تَصم ق ْلن ب لَى قَ َ ح
ال فَ َذل ح ْ َ ض ْ ْ َ َْ ْ َ َ إحذَا َحا َ
3
ج -قلة خربة املرأة ابلتجارة واألموال عموما ،4وتويل املناصب العالية ،فلذلك احتاجت
سندا من بنات جنسها؛ ألن املرأة أضعف من الرجل أبصل اجلبلة حبسب الغالب . 5
- 1البقرة.282:
- 2التحرير والتنوير.109/3:
- 3رواه الشيخان واللفظ للبخاري.
- 4هذا األمر خيرج خمرج الغالب؛ وإال فقد جتد من آحاد النساء من يفقن يف اخلربة املالية كثريا من الرجال؛ لكن احلكم للغالب.
- 5التحرير والتنوير.109/3:
61
غري أن بعض العلماء جعلوا العلة يف ذلك تعبدية وأهنا راجعة إىل حكمة احلكيم وتدبريه لشؤون
اخللق ،وهو اختيار اإلمام أيب بكر بن العريب رمحه هللا؛ إذ يقول :فإ ْن قيل :ف ه َّال كان ْ
ت ْامرأةً واحدةً مع
اختلف الفقهاء هل الشهادة الواقعة من الرجلني كالشهادة الواقعة من الرجل واملرأتني؛ فذهب البعض
منهم إىل أن اآلية حتمل على أهنا من ألفاظ اإلبدال؛ مبعىن ال يُلجأ إىل شهادة الرجل واملرأتني إال عند
تعذر شهادة الرجلني ،قال ابن العريب :قال عُلم ُاؤان ق ْوله ت عاىل :فإ ْن ملْ ي ُكوان ر ُجل ْني ف ر ُج ٌل و ْامرأاتن م ْن ألْفاظ
ْاإلبْدال ،فكان ظاه ُرهُ ي ْقتضي أَّال جتُوز شهادةُ النساء َّإال عْند عدم شهادة الرجال ،ك ُحكْم سائر إبْدال الشَّريعة مع
ُمْبدالهتا ؛ وهذا لْيس كما زعمهُ ،ول ْو أراد ربينا ذلك لقال :فإ ْن ملْ يُوج ْد ر ُجالن ف ر ُج ٌل :فأ َّما وق ْد قال :فإ ْن ملْ ي ُكوان
ف هذا ق ْوٌل ي ت ناو ُل حالة الْ ُو ُجود والْعدم ،وا ََّّللُ أ ْعل ُم .2
غري أن اجلمهور على خالفه ،كما أن تساوي الشهادة يف الالني تَتتب عليه مقاصد جليلة
ذكرها العالمة الطاهر بن عاشور فقال :وجيء يف اآلية بكان الناقصة مع التمكن من أن يقال فإن
- 1أحكام القرآن.21/2:
- 2أحكام القرآن.11/2:
62
يكن رجالن لئال يتوهم منه أن شهادة املرأتني ال تقبل إال عند تعذر الرجلني كما تومهه قوم ،وهو خالف
مل ْ
قول اجلمهور ألن مقصود الشارع التوسعة على املتعاملني .وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم إبدخال املرأة يف
شؤون احلياة إذ كانت يف اجلاهلية ال تشرتك يف هذه الشؤون ،فجعل هللا املرأتني مقام الرجل الواحد وعلل
2 1
ذلك بقوله :
شهادة الرجل واملرأتني حجة يف املال ،وما يؤول إليه كالبيع واإلجارة والرهن والضمان ،ومال السرقة
واخلُلع ...والدليل آية الدين ،ويقاس عليها املال وما يُقصد منه املال.
وقد اتفق فقهاء املذاهب األربعة على عدم قبول شهادة الرجل واملرأتني يف احلدود والقصاص خالفا
واختلفوا يف قبول شهادة الرجل واملرأتني فيما ليس مبال وال يؤول إىل املال؛ كأحكام النكاح والطالق
األول :عدم قبول شهادة الرجل واملرأتني فيما ليس مبال وال يؤول إليه ،وحجتهم يف -
ذلك أن النصوص الشرعية تدل داللة واضحة على اشرتاط الذكورة وعدم إشراك النساء يف نوع الشهادة
اليت تقوم هبا البينة يف تلك اجملاالت ،كما يف قوله تعاىل ،3 :وقوله عليه
- 1البقرة.282:
- 2التحرير والتنوير.109/3:
- 3الطالق.02:
63
الصالة والسالم :ال نكاح إال بويل أو شاهدي عدل» ،1وغريها من النصوص؛ فإهنا مفيدة عندهم
الثاين :وهو مذهب األحناف الذي يرون فيه قبول شهادة النساء مع الرجال فيما ليس -
مبال وال يؤول إىل املال ،ومل يروا يف النصوص ما يدل على قصرها على الرجال دون النساء ،واستثنوا من
إثبات الزان :فإن الشرع اشرتط له أربعة شهود عدول من الذكور ،وال يقبل غري هذا؛ اللهم -1
إال اإلقرار من جهة مرتكب الفاحشة ،وقد نبه العلماء على بعض احلكم من ذلك ،ومن أجلها مقصد
السرت على العباد ،وصون األعراض عن ْلوك األلسنة ،وشدة االحتياط والتثبت يف هذا املوضوع ملا له من
عظيم اخلطر على النفس واجملتمع ،وهلذا شرع احلد على من رمى حمصنة أو حمصنا ابلزن ومل أيت ابلبينة
وهي أربعة شهود
- 1السنن الصغرى للبيهقي ،كتاب النكاح ،ابب ال نكاح إال بوِل وشاهدي عدل ،برقم.2487:
- 2بداية اجملتهد وهناية املقتصد.248/4:
- 3بداية اجملتهد وهناية املقتصد.248/4:
64
،1 واستثين من ذلك رمي الزوج زوجته ابلزان؛ فقد شرع له اللعان املوجب
إثبات إعسار الرجل بعد يساره :فقد اشرتط له بعض الفقهاء ثالثة من الشهود ،متسكا -2
منهم بظاهر حديث قبيصة الذي رواه مسلم :ورجل أصابته فاقة حىت يقوم ثالثة من ذوي الجا من
قومه لقد أصابت فالان فاقة فحلت له املسألة حىت يصيب قواما من عيش ( أو قال :سدادا من
عيش ) ، 2فعلى هذا عول الشافعية وأمحد يف أنه يشرتط إلثبات اإلعسار ثالثة من الشهود ،بينما ذهب
اجلمهور إىل أنه ال يُشرتط الثالثة؛ بل يُكتفى بعموم األحاديث واآلايت الواردة يف إقامة الشهادة.
ذهب ابن أيب ليلى على اشرتاط ميني املدعي مع وجود الشاهدين ،وخالفه يف ذلك مجهور الفقهاء،
قال ابن رشد احلفيد يف البداية :وكل متفق أن احلكم جيب ابلشاهدين من غري ميني املدعي إال ابن أيب
- 1النور.04:
- 2صحيح مسلم :كتاب الزكاة ،ابب من حتل له املسألة ،برقم ،1044:ونص احلديث كامال « :عن قبيصة بن خمارق اهلالِل قال:
حتملت محالة فأتيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أسأله فيها فقال ،أقم حىت أتتينا الصدقة فنأمر لك هبا ،قال :مث قال :اي قبيصة :إن
املسألة ال حتل إال ألحد ثالثة :رجل حتمل محالة فحلت له املسألة حىت يصيبها مث ميسك ،ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت
له املسألة حىت يصيب قواما من عيش ( ،أو قال سدادا من عيش ) ،ورجل أصابته فاقة حىت يقوم ثالثة من ذوي احلجا من قومه :لقد
أصابت فالان فاقة ،فحلت له املسألة حىت يصيب قواما من عيش ( أو قال سدادا من عيش ) ،فما سواهن من املسألة اي قبيصة سحتا
أيكلها صاحبها سحتا ».
65
1
وعضد ذلك بقول شريح ل ْو أثْبت عْندي كذا وكذا شاه ًدا ،ما قضْيت ليلى فإنه قال ال بد من ميينه
2
لك ح َّىت ْحتلف
وملالك رمحه هللا قول ذهب فيه إىل اشرتاط اليمني مع الشاهدين ،وذلك إكماال للبينة يف العني ،وهو
أخذ هبذا النوع يف هذا املوضع خاصة ،فيحلف املدعي أنه ما ابع وال وهب العني وال خرجت من يده
أبي وسيلة من الوسائل املزيلة للملك ،وهو ما عليه الفتوى والقضاء يف ابب الدعوى يف األعيان ،والسبب
ووقد رجح الفقهاء مذهب اجلمهور يف عدم اشرتاط ذلك ،واالقتصار على شهادة الشاهدين ،وهو
الذي تضافرت عليه النصوص؛ فيكون ما ذهب إليه مالك رمحه هللا من ابب الزايدة يف االحتياط عند قيام
موجباته.
إذا تعذر إقامة الشاهدين؛ فإنه يُستعاض عنهما ابلشاهد واليمني ،غري أن هذا األمر مل يكن حمل
املذهب األول :مذهب اجلمهور من املالكية والشافعية واحلنابلة والظاهرية ،وهو مذهب -
الزيدية كذلك ،كما أنه مذهب بعض الصحابة كأيب بكر وعمر وعثمان وأيب بن كعب وزيد بن َثبت وأيب
هريرة وابن عباس ...وهو الذي قال به بعض التابعني كعمر بن عبد العزيز ،وشريح واحلسن ،وفقهاء املدينة
ما رواه مسلم وغريه عن ابن عباس أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قضى بيمني أ-
1
وشاهد
اه حد الو ح
اح حد مع الش ح
َ ََ
2
-د -ما رواه البيهقي كذلك من حديث ابن عباس رضي هللا عنهما عن النَّيب صلَّى هللاُ علْيه
ح
س حد َماءَ قَ ْوم َ ,وأ َْم َوا َهل ْم َولَكن الْيَ حم َ
ني َعلَى الْمد َعى وسلَّم ،قال «:ل َْو ي ْعطَى الناس بح َد ْع َواه ْم َالد َعى َان ٌ
َعلَْي حه».4
األول :وهو قول للشافعية وقول املالكية؛ أن اليمني جزء من النصاب ال تتميم ،فيكون القضاء هبما
معاً.
والثاين :وهو قول َثن للشافعية وللمالكية واحلنابلة أن القضاء ابلشاهد ،وأما اليمني فهي للتأكيد
واالحتياط ،فاليمني ليست حجة عندهم ،وال جيوز تقدميها على شهادة الشاهد.
والثالث :القضاء ابليمني ،وال عربة ابلشاهد ،وإمنا هو لرتجيح جانب املدعي ،واختاره بعض مالكية
وَثرة هذا اخلالف الفقهي :إذا رجع الشاهد يف شهادته؛ فعلى القول األول يُغَّرم النصف ،وعلى
املذهب الثاين :وهو مذهب األحناف وبه قال بعض التابعني؛ ومفاده أنه ال حجة إال يف
الشاهدين ،أو يف الشاهد واملرأتني ،ودليلهم آية الدين ،اليت حصرت وجوه الشهادة املقبولة ،فيكون قبول
الشاهد واليمني زايدة ،والزايدة عندهم نسخ ،ونسخ القرآن ال يكون خبرب الواحد على ما هو مقرر يف
مذهب األحناف.
وأجيب على اعرتاضهم أبن ذلك ال يقتضي النسخ ،بل يقتضي العمل فيما سكت عنه الكتاب،
وقد عمل األحناف مبثل هذا يف كثري من األحكام ،كما أن أحاديث الشاهد واليمني رواها عن رسول
ف وعشرون صحابيا فاكتسبت الشهرة وجرى عليها العمل يف جيل الصحابة ومن بعدهم.
هللا ن ي ٌ
68
القضاء ابملرأتني واليمني. -5
املذهب األول :أنه حجة وبه قال املالكية والنابلة وابن حزم من الظاهرية يف وجه له ،واختاره
ابن تيمية وابن القيم ،ونسبه القرايف إىل أيب حنيفة ،وحجتهم يف ذلك القياس على شهادة الرجل ،جبامع
قبول شهادة كل منهما ،وألن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتني ،فيجوز قبول شهادهتما مع اليمني؛ وألن
املدعي حيلف مع نكول املدعى عليه ،لقوة جانبه ابلنكول ،ومع شهادة املرأتني؛ فإن جانبه يصبح أقوى
من حالة النكول ،وليس يف القرينة ما مينع هذا النوع من القياس؛ ألن املعترب يف ذلك العدالة والعدد ،قال
ابن القيم :واملرأة العدل كالرجل يف الصدق واألمانة والداينةَّ ،إال َّأهنا ملا خيف عليها السهو والنسيان
املذهب الثاين :ال حجة يف القضاء ابملرأتني واليمني ،واختاره الشافعية ،وهو مذهب الزيدية
شهادة املرأة ضعيفة ،وإمنا اجنربت ابنضمام الرجل إليها ،كما أن اإلثبات ابليمني ضعيف، -
واإلثبات ابملرأتني واليمني؛ هو ضم ضعيف على ضعيف مثله ،فال تقوم به حجة.
عدم قبول شهادة أربع نسوة مكان رجلني فيما خيتص به الرجال وتشاركهم يف الشهادة فيه -
النساء ،وهو حمل اتفاق بني الفقهاء ،واليمني حجة ضعيفة تقدم الشهادة عليها دائما يف اإلثبات ،وال
- 1الطرق احلكمية.430:
69
يلجأ إليها إال بعد نكول املدعى عليه ،والنتيجة أن يف هذا ضم ضعيف إىل ضعيف ،وكما ال تقبل شهادة
أربع نسوة ،وال يقبل ميينان ،ال يقبل كذلك شهادة امرأتني وميني.
اتفق الفقهاء على قبول شهادة النساء منفردات ليس معهن رجل ،فيما ال يطلع عليه الرجال؛
أفادت اآلَثر املنقولة عن بعض السلف استقرار العمل يف السنة بشهادة النساء منفردات فيما خيتصن
به مما ال يطلع الرجال عليه غالبا ،فقد روى جماهد وسعيد بن املسيب وطاووس ومجع من التابعني قوهلم:
.1 قال عليه السالم« :شهادة النساء جائزة فيما ال يستطيع الرجال النظر إليه
مضت ال يسنَّةُ أ ْن جتُوز شهادةُ النساء فيما ال يطَّل ُع علْيه غ ْريُُه َّن م ْن والدات النساء وعُيُوهب َّن ،وجتُ ُ
وز
شهادةُ الْقابلة و ْحدها يف اال ْست ْهالل ،و ْامرأاتن فيما سوى ذلك ،4 .ويف مصنف عبد الرزاق عن ابن
شهاب قال :مضت السنة يف أن جتوز شهادة النساء ليس معهن رجل فيما يلني من والدة املرأة واستهالل
لسقطت كثري من األحكام الشرعية اليت تقتصر عليهن؛ بل ميتد أثرها إىل غريهن من
املكلفني والناس عموما ،ومن ذلك االستهالل يف اإلرث الذي يثبت به استحقاق
وقد علل املالكية قبول شهادهتن يف هذا بعدم حضور الرجال معهن غالبا ،وعلل
األحناف ذلك ،بعدم مباشرة هذه احلالة إال من النساء غالبا ،ومها تعليالن متقارابن،
ويظهر أن ما وليه الرجال من ذلك تقبل فيه شهادهتم كما هي احلال يف امتهان طب
اختلف الفقهاء يف النصاب الذي تقوم به شهادة النساء منفردات وذلك على َخسة أقوال:
القول األول :أن النصاب امرأة واحدة ،والثنتان أحوط ،ويشرتط لألخذ بقول الواحدة؛ موافقتها
ألصل أو مؤكد آخر ،وهو مذهب احلنفية وأمحد يف أشهر الرواايت عنه ،واألوزاعي ،وهو قول بعض
- 1مصنف اإلمام عبد الرزاق ،كتاب الشهادات ،ابب شهادة املرأة يف الرضاع والنفاس ،برقم.15427:
71
الصحابة؛ كعثمان وابن عباس وابن عمر واحلسن ،كما عمل به بعض الصحابة يف بعض األمور ،فقد روى
اخلطَّاب ،أجاز شهادة ْامرأة يف اال ْست ْهالل» ،1كما أخذ به أشهر القضاة ،فقد
ابْن شهاب« ،أ َّن عُمر بْن ْ
2
روى عبد الرزاق يف مصنفه عن ُشريْح أنَّهُ أجاز شهادة الْقابلة و ْحدها يف اال ْست ْهالل
القول الثاين :أن نصاب الشهادة امرأاتن ،وهو قول مالك والثوري ،والزهري وقال ْ
احلك ُمْ :امرأاتن
القول الثالث :أن النصاب ثالث نسوة ،وهو مروي عن أنس وعلي.
القول الرابع :أن النصاب أربع نسوة ،وبه قالت الشافعية والظاهرية؛ إال يف الرضاع عندمها فواحدة،
ات الرجال؛
وز فيه شهاد ُ
َّعيب فيما ال جتُ ُ
وهو قول الشعيب والنخعي ...ففي مصنف ابن أيب شيبة عن الش ْ
4
أ ْربع نسوة
القول اخلامس :نصاب الشهادة يف الرضاع امرأة واحدة ،ومثله يف االستهالل ،وقد عمل به بعض
تعريفه. -1
- 1مصنف اإلمام عبد الزاق ،كتاب الشهادات ،ابب شهادة املرأة يف الرضاع والنفاس ،برقم.15429 :
- 2مصنف اإلمام عبد الزاق ،كتاب الشهادات ،ابب شهادة املرأة يف الرضاع والنفاس ،برقم.15430 :
- 3مصنف اإلمام ابن أيب شيبة،كتاب البيوع واألقضية ،ابب ما جتوز فيه شهادة النساء ،برقم.21099:
- 4مصنف اإلمام ابن أيب شيبة،كتاب البيوع واألقضية ،ابب ما جتوز فيه شهادة النساء ،برقم.21100:
- 5مصنف اإلمام ابن أيب شيبة ،كتاب البيوع واألقضية ،ابب ما جتوز فيه شهادة النساء ،برقم.21100:
72
ال قَ ْبضه تَ َوثُّ ٌق بح حه حيف َديْن ،1و ح
عرف أيضا الرهن قال ابن عرفة يف تعريفه :الر ْهن َم ٌ
ونص 2
أبنه :املال جيعل وثيقة ابلدين ليستوىف من مثنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه
الفقهاء على أن الرهن يكون مبا هو مشروع ،فقال عبد العزيز البخاري يف كشف األسرار :ال
خالف أن الرهن عقد وثيقة جلانب االستيفاء حىت ال يصح رهن ما ال يصلح لالستيفاء
3
كاخلمر
فأما دليل الكتاب :فقوله تعاىل ،4 :ووجه
االستدالل على وجه التحديد ، : :وقد فهم بعض العلماء من اآلية أن الرهان ال تكون
إال يف السفر ،وهو خالف السنة ،وخالف مذهب اجلمهور ،فقد صح عنه أنه اشرتى من يهودي
طعاما ورهنه درعه ،وكاان ابملدينة ،وهي نص يف جواز الرهن ابحلضر؛ لفعله صلى هللا عليه وسلم ،وهلذا
اختار مجهور الفقهاء أن ذلك يكون يف السفر واحلضر بوجود الكاتب أو عدمه .قال ابن عاشور رمحه
هللا :إذا مل يوجد الشاهد [الكاتب] يف السفر ،فال مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة ال
- 1شرح حدود ابن عرفة (اهلداية الكافية الشافية لبيان حقائق اإلمام ابن عرفة الوافية) ،حملمد بن قاسم األنصاري ،أبو عبد هللا،
الرصاع التونسي املالكي.126/2:
- 2الفقه اإلسالمي وأدلته ،وهبة الزحيلي.4208/6:
- 3كشف األسرار عن أصول فخر اإلسالم البزدوي ،عالء الدين عبد العزيز بن أمحد البخاري.575/3:
- 4البقرة.283:
73
لالحرتاز ،وال تعترب مفاهيم القيود إال إذا سيقت مساق االحرتاز ،ولذا مل يعتدوا هبا إذا خرجت خمرج
الغالب .وال مفهوم له يف االنتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من اآلية أن الرهن معاملة هلم ،فلذلك
وقد أخذ جماهد ،والضحاك ،وداود الظاهري ،بظاهر اآلية من تقييد الرهن حبال السفر ،مع أن السنة
أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى هللا عليه وسلم ومن أصحابه يف احلضر .1
َجل َوَرَهنَه حد ْر َعه ،2وروى البخاري يف صحيحه ع ْن أيب ُهريْرة ح وسلم ا ْش َ ح
َتى م ْن يَهودي طَ َع ًاما إح َىل أ َ
ََ َ َ
اَّللُ علْيه وسلَّم «:الرْهن ي ْرَكب بحنَ َف َقتح حه إحذَا َكا َن َم ْره ً
وان َول َََب الد حر اَّلل صلَّى َّ
ول َّاَّللُ عْنهُ قال :قال ر ُس ُ
رضي َّ
مجهور الفقهاء على أن توثيق الدين ابلرهن غري واجب ،وأن األمر به يف اآلية على سبيل
الرهن ُجعل عوضا عن الكتابة عند فقد الكاتب إذا طلبه صاحب الدين ،فهو توثقة
و ُ
املتعاملني ،قال ابن عاشور :ومعىن "فرها ٌن" :أي فرهان تعوض هبا
ْ للدين ،زايدة يف الثقة بني
- 1التحرير والتنوير.121/3:
- 2متفق عليه.
- 3صحيح البخاري ،كتاب الرهن ،ابب الرهن مركوب وحملوب ،برقم.2377:
74
الكتابة ،ووص ُفها مبقبوضة إما جملرد الكشف ،ألن الرهان ال تكون إال مقبوضة ،وإما لالحرتاز
عن الرهن للتوثقة يف الديون يف احلضر؛ فيؤخذ من اإلذن يف الرهن أنه مباح ،فلذلك إذا سأله
رب الدين أجيب إليه فدلت اآلية على أن الرهن توثقة يف الدين .1
مفهومها. -1
الكفالة أو الضمان أو الزعامة أو احلمالة كلها ألفاظ ملعىن واحد2؛ وقد عرفها املالكية أبهنا :ضم
ذمة الكفيل (الضامن) إىل ذمة املكفول (املضمون عنه) يف االلتزام ابلدين» ،3غري أهنم نصوا على أنه ليس
للمكفول أن يطالب الفيل ابلدين إال إذا تعذر عليه االستيفاء من األصيل (املدين)؛ ألن الضمان وثيقة،
فال يُستوِف احلق منه إال عند العجز عن استيفائه من املدين .قال الشيخ الدردير يف الشرح الكبري :إ ْذ ال
ي ْلزُم م ْن ُحلُول الدَّيْن على الْمدين ُحلُولُهُ على الْكفيل لب قاء ذ َّمته ف يح يل مب ْوت الْمدين وال يُع َّج ُل (وال
4
ب) الضَّام ُن أ ْي ال ُمطالبة لرب الدَّيْن علْيه (إ ْن حضر الْغرميُ ُموسًرا)»
يُطال ُ
واختلف الفقهاء هل ذمة الكفيل كاألصيل يف وجوب األداء ووجوب الدين.
مشروعيتها. -2
- 1التحرير والتنوير.121/3:
- 2يُنظر شرح التلقني للمازري.135/3:
- 3يُنظر شرح التلقني للمازري.135/3:
- 4حاشية الدسوقي على الشرح الكبري ،البن عرفة ،337/3:ويُنظر يف تفصيل هذا؛ "شرح التلقني" ،للمازري.135/3:
75
استدل ملشروعية الكفالة بدليل الكتاب؛ يف قوله تعاىل :
ُ
،1ومن دليل السنة مبا رواه أبو داود عن أيب أمامة الباهلي أن النيب قال «:ال َْعا حريَة م َؤداةٌَ ،وال حْم ْن َحة
ض ٌّى َوالز حعيم غَا حرٌم » ،2ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري ع ْن سلمة بْن ْاأل ْكوع رضي
ودةٌ ،والديْن م ْق ح
َ َم ْرد َ َ
اَّللُ علْيه وسلَّم إ ْذ أُيت جبنازة ف قالُوا :صل علْي ها ف قال :ه ْل علْيه
وسا عْند النَّيب صلَّى َّ
اَّللُ عْنهُ قالُ :كنَّا ُجلُ ً
َّ
اَّلل صل ديْ ٌن؟ قالُوا ال ،قال :ف ه ْل ت رك شْي ئًا؟ قالُوا ال ،فصلَّى علْيهُ .مثَّ أُيت جبنازة أ ْ
ُخرى ف قالُوا اي ر ُسول َّ
علْي ها ،قال :ه ْل علْيه ديْ ٌن؟ قيل :ن ع ْم ،قال :ف ه ْل ت رك شْي ئًا قالُوا :ثالثة داننري ،فصلَّى علْي هاُ .ث أحيتَ
ح ح حح
ري،
ال فَ َه ْل َعلَْيه َديْ ٌن قَالوا :ثََالثَة َد َانن َ
الَ :ه ْل تَ َر َك َش ْي ئًا؟ قَالواَ :ال قَ َ حابلثالثَة فَ َقالواَ :
ص حل َعلَْي َها ،قَ َ
ركنها. -3
شرط الفقهاء لصحة الكفالة رضا الكفيل ،كما أنه ال خالف بينهم يف عدم اشرتاط رضا األصيل
(املكفول عنه) ،ولو قضى الكفيل عن األصيل سقط عنه الدين ولو بغري رضاه.
- 1حاشية الدسوقي على الشرح الكبري ،البن عرفة ،337/3:ويُنظر يف تفصيل هذا؛ "شرح التلقني" ،للمازري.135/3:
ضمني الْعارية ،برقم ،3567:وصححه األلباين.
- 2سنن أيب داود ،كتاب اإلجارة ،ابب يف ت ْ
- 3صحيح البخاري ،كتاب احلواالت ،ابب إن أحال دين امليت على رجل جاز ،برقم.2168:
76
من وجوه احلكمة يف تشريعها :توثيق احلقوق ،وحتقيق التعاون بني الناس ،وتيسري معامالهتم يف
إقراض الديون واألموال وإعارة األعيان ،ليطمئن صاحب احلق يف الدين أو العني املعارة للوصول إىل حقه
كتابة الواثئق بني الناس ( الكاتب ابلعدل) وهو ما حيرره الكتاب املنتصبون عامة من العقود
والوَثئق اليت تنظم معامالت الناس يف ابب األموال واألنكحة ،والطالق ،والرجعة ...وتكون حتت إشراف
القضاء وهي اليت عناها ابن خلدون بقوله :وحقيقة هذه الوظيفة :القيام على إذن القاضي ابلشهادة بني
الناس فيما هلم وعليهم حتمال عند الشهادة ،وأداء عند التنازع ،وكتبا يف السجالت ،حتفظ به حقوق الناس
وقد سبق التفصيل فيما يلزم من الشروط واآلداب ،وما يتعلق هبا من وجوه األحكام املختلفة.
-2التوثيق القضائي.
ويسمى من ميارسها بكاتب القاضي أو "كتاب القضاء" ويسمون أيضا "بكتاب احلُكم" ،وقد ذكر
ابن البطليوسي يف جواهر العقود ،عدة وظائف يقوم هبا كتاب القضاء فذكر منهم ":كاتب القاضي،
وكاتب املظامل ،وكاتب الديوان ،وكاتب أمور اخلراج ،وكاتب الشرطة ،وكاتب التدبري وهو كاتب السلطان" 2
- 1املقدمة .635/8
- 2جواهر العقود.448/2 :
78
ومهنة كتابة القضاء مهنة قدمية قدم القضاء يف اإلسالم؛ فقد ثبت أن القضاة من الصحابة كان هلم
كتاب؛ ومن هؤالء أبو موسى األشعري الذي وِل القضاء زمن عمر ،وكان زيد بن َثبت وعثمان بن عفان
وميكن أن يستدل أن النيب صلى هللا عليه وسلم بوصفه قاضي كان له كتاب ابلنظر إىل كتابتهم ملا
كان يصدر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم .وهو أمر سبق بيانه.
اختلف الفقهاء يف حكم اختاذ كاتب القاضي؛ غري أن جل ما ذهبوا إليه يرتاوح بني الندب واإلابحة،
وقليل منهم من قال ابلوجوب ،وعليه يرتجح أنه دائر بني الندب واإلابحة.
ذهب اجلمهور من الفقهاء إىل أن ذلك يرتدد بني الندب واإلابحة ،فقد قال الكاساين من األحناف
يف بدائع الصنائع يف سياق احلديث عن القاضي :ومنها أن يتخذ كاتبا؛ ألنه حيتاج إىل حمافظة الدعاوى؛
والبينات واإلقرارات ال ميكنه حفظها فالبد من الكتابة ،وقد يشق عليه أن يكتب بنفسه فيحتاج إىل كاتب
يستعني به 1وقال السرخسي يف املبسوط :وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبًا من أهل العفاف والصالح؛
2
وينبغي ههنا مبعىن يُستحب ،بدليل قوله بعد ذلك :ورمبا ألنه حمتاج إىل أن يكتب ما جرى يف جملسه
كاملرداوي يف اإلنصاف أبن احلكم يقتصر على أصل واحد وهو اإلابحة فقال :اختاذ الكاتب على سبيل
3
لكن الراجح يف املذهب أن ذلك يرتدد بني اإلابحة والندب. اإلابحة على الصحيح من املذهب
أما املالكية :فقد ذهب بعضهم إىل القول بوجوب اختاذ كاتب القاضي ،والبعض اآلخر قال
ابالستحباب؛ وهو الراجح لعدم وجود النص ،وممن ذكر الوجوب الشيخ الدردير يف شرحه الكبري ،ومحل
كثرة القضااي اليت ينظر فيها القضاة ،فال ينبغي للقاضي االشتغال أبمر الكتابة وترك ما -
هو أهم منها وهو النظر يف قضااي الناس ونزاعاهتم ،بل الواجب عليه حينها اختاذ كاتب ،وهلذا قال املاوردي:
ال يستغين قضاة األمصار والوالة على األعمال عن كاتب ينوب عنهم يف ضبط األمور ليتشاغل الوالة
ابلنظر ويتشاغل الكاتب ابإلثبات وإنشاء الكتب ،4وهلذا يبقى اختاذه واجبًا تالفيا لتعطيل مصاحل
- 1املبسوط.174/16:
- 2املغين.64/10/64 :
- 3اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف ،عالء الدين أبو احلسن علي املرداوي الدمشقي احلنبلي.216/11:
- 4أدب القاضي ،للماوردي.59/2 :
80
يكون اختاذه واجبًا يف حال كان القاضي أميًا على قول من ذهب إىل جواز توِل األمي -
1
القضاء.
-كتابة احملاضر والسجالت :حبيث يكتب إبذن القاضي ما جرى بني اخلصوم أثناء حضورهم أمام
القاضي ،وما أدىل به كل منهما من احلجج يف الدعوى ،وفائدة كتابة احملاضر والسجالت تتجلى يف :
ضمان سالمة النظر يف النزاع ،وسالمة احلكم فيه أي؛ فيما يبىن على مقدماته من نتائج -
وأحكام.
متكني صاحب احلق من اخلصمني من نسخة احملضر والسجل؛ ولذلك فالعادة جرت على -
اعتماده عليها ،ولذلك ينبغي للقاضي أن ينظم احملاضر والسجالت حبيث يسهل عليه الرجوع إليها.
-كتاب القاضي إىل القاضي :وهو من وظائف كاتب القاضي؛ وذلك أبن يكتب القاضي يف مكان
كتااب يتعلق ابحلكم بني الناس ،وهو ما يسميه الفقهاء"( :خطاب القاضي"
قضائه إىل قاضي آخر ببلد آخر ً
فأما األول :فكأن يُصدر القاضي حكمه على شخص غائب بعد ثبوت البينة فيسأله صاحب
1
احلق أن يكتب مضمن احلكم إىل القاضي الذي يوجد ببلد احملكوم عليه الغائب.
وأما الثاين :أن يكتب القاضي ما ثبت عنده من بينة لشخص على آخر :كأن يشهد عنده شاهدان
حبق لشخص على آخر فيكتب القاضي إىل القاضي ابلبلد اآلخر ما ثبت عنده من تلكم الشهادة ليصدر
القاضي الذي يوجد من عليه احلق ببلده حكمه ،ولذلك فالقاضي الذي كتب مل يصدر حكماً وإمنا أثبت
البينة.2
-كتاب القاضي إىل احملكوم عليه :ويكون ذلك واجبًا إذا كان احلكم سارًاي عليه ،وإذا كان من أهل
كتاب القاضي إىل األمري :وهو أشبه بكتاب القاضي إىل القاضي ،وال يكتب إليه إال إذا كان
اخلصم احملكوم عليه يف بلده ،أو احلق احملكوم به يف بلده كذلك ،ويكتب إليه ألجل التنفيذ؛ وليس ألجل
كتاب القاضي إىل الشهود :وكتابته هلم تكون بقصد إشهادهم على حكمه ليشهدوا -
3
لصاحب احلق مبا حكم به القاضي .
لكاتب القاضي وظائف أخرى؛ تيسر عمل القاضي وتعينه ،ومن ذلك:
حتمل الشهادة :كأن يشهد أن القاضي حكم يف قضية ما؛ حبكم ما ،ويتوىل كتابة حكم -
القاضي ،وكتابة شهادته أي إثبات أنه ممن شهد على ذلك احلكم ،وما فيه من البينات ،فيكون كاتبا
الشهادة على شهادة شهود غابوا وفقدت الوثيقة اليت دونت فيها شهادهتم. -
أن يكون كاتب القاضي أحد الشاهدين اللذين حيضران جملس القاضي ليسمعا ما جيري -
1
بني اخلصوم ،فيجمع بني مهمة الكتابة والشهادة.
شرط الفقهاء لكاتب القاضي شروطا ال خترج يف جمملها عن شروط الكاتب العدل ،قال ابن قدامة
وز أ ْن ي ْستنيب يف ذلك َّإال ع ْدًال؛ أل َّن الْكتابة م ْوض ُع أمانة .ويُ ْستح ي
ب أ ْن ي ُكون فق ًيها؛ يف املغين :وال جيُ ُ
لي ْعرف مواقع ْاأللْفاظ الَّيت ت ت علَّ ُق هبا ْاأل ْحك ُام ،ويُفرق ب ْني ْ
اجلائز والْواجب ،وي ْن بغي أ ْن ي ُكون وافر الْع ْقل،
2
ور ًعا ،نزًها؛ لئ َّال يُ ْستمال ابلطَّمع ،وي ُكون ُم ْسل ًما
وجواب وهو ظاهر كالم املالكية ،والشافعية اعتربوها شرطًا يف كمال العدالة وأما احلنابلة فأجازوا
اشرتطوها ً
كتابة العبد واحلرية عندهم مستحبة.
زايدة الفقه :وهو على نوعني( ما تتوقف عليه سالمة ما يكتبه وهو يلحق بضبط املكتوب -
فهو واجب ،والثاين الفقه الزائد كالقدرة على التصرف يف كالم اخلصمني ابالختصار واحلذف ومها أقران
حيتاجان إىل معرفة ابلفقه ،فإن مل ميتلكها الكاتب أثبت كالم اخلصوم كما هو ،يقول اإلمام الكاساين:
وأما معرفته ابلفقه فالنه حيتاج إىل االختصار واحلذف من كالم اخلصمني والنقل من لغة وال يقدر على
ذلك اال من له معرفة ابلفقه فان مل يكن فقيها كتب كالم اخلصمني كما مسعه وال يتصرف فيه ابلزايدة
والنقصان لئال يوجب حقا مل جيب وال يسقط حقا واجبا الن تصرف غري الفقيه بتفسري الكالم ال خيلو
1
عن ذلك
وجدير ابلذكر أن الذي كان الذي يتوىل منصب كاتب القاضي هم العلماء ،ولذلك أصبح بعضهم
قاضيا ،وهذا كان من جيل الصحابة رضي هللا عنهم ويف سائر األجيال ،وهلذا ملا استعفي توبة بن منر
احلضرمي من القضاء قيل له أشر علينا برجل نوليه القضاء من بعدك فقال :كاتيب خري بن نعيم احلضرمي
معرفة أحوال أهل البلد الذي يقع حتت حكم القاضي. -
كثرية هي املقاصد اليت ينطوي عليها األمر بتوثيق العقود يف الشريعة اإلسالمية ،ومن ذلك:
االستجابة ألمر هللا تعاىل الوارد يف سورة البقرة يف آية الدين ، -
،2 سواء محل األمر يف ذلك على الوجوب أو على الندب
واإلرشاد.
التأسي برسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف فعله وإن كان فعله ال يدل على الوجوب -
معاجلة فساد أحوال الزمان عند انتشار اخليانة ونكث العهود واملواثيق. -
دفع أسباب الريبة والشك اليت تتولد عن النسيان عند طول مدة وآجال التعامل. -
يف النسيان).
تشجيع ذوي الفضل واإلحسان على تنفيس كرب املعسرين ،ورفع الضائقة عن أهل -
الاجة والفاقة.
-الدخول على البينة خاصة فيما يتعلق ابستحالل الفروج يف عقود األنكحة ،والرجعة،
86