Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 87

‫بسم هللا الرمحن الرحيم‪.

‬‬

‫مقدمة‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم األمتان األكمالن على املبعوث رمحة للعاملني‪ ،‬وعلى آله‬

‫وصحبه أمجعني‪ ،‬وعلى التابعني هلم إبحسان إىل يوم الدين‪.‬‬

‫أما بعد؛ فمن كمال هدي الشريعة أن سنت للناس ما به تنتظم حياهتم‪ ،‬وتتحقق به مصاحلهم‪ ،‬مبا‬

‫يقيم مقصد العمران على وفق املنهج اإلهلي‪ ،‬واملراد الرابين يف سائر اجلوانب اليت تعلق فيها التكليف‬

‫بذمتهم؛ ومن ذلك ما يرتبط بفقه املعامالت يف خمتلف امتداداهتا وأبعادها‪ ،‬فسعت إىل حفظها يف حياهتم‬

‫على أكمل وجه‪ ،‬مبا أحاطتها به من التشريعات الكلية واجلزئية الرامية إىل قطع دابر النزاع والفوضى يف‬

‫طريق حتصيلهم للمصاحل اليت رصدهتا الشريعة يف مدرج التكليف هبذا الشرع احلنيف‪ ،‬حىت يكون هلم شرع‬

‫يرجعون إليه يف أحوال السالمة‪ ،‬وأحوال املنازعات واخلصومة‪.‬‬

‫ولعل الدعوة إىل توثيق العقود واملعامالت‪ ،‬وكتابة ما جيري بني املتعاملني من احلقوق والواجبات؛‬

‫فشرع توثيق العقود حفظا للحقوق‪ ،‬وعوان‬


‫أحد السبل املفضية إىل انتظام حياة العباد يف ابب املعامالت‪ُ ،‬‬

‫للوفاء ابلعهود‪ ،‬وااللتزام ابلوعود‪ ،‬وكان من سابغ عناية الشريعة أن أحاطت ذات القضية بتشريعات‬

‫تفصيلية‪ ،‬أفصحت عنها نصوص القرآن‪ ،‬ونصوص السنة البيان‪ ،‬وزكاها عمل الصحب‪ ،‬ودأب األمة يف‬

‫كل زمان‪ ،‬فكان أن اختص الوحي القرآيني املوضوع أبطول آية يف الكتاب املبني‪ ،‬ليتضح املراد ويستبني‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫مث ما لبث املوضوع أن أصبح قبلة للفقهاء والعلماء‪ ،‬فطفقوا يثورون معاين الفقه شيئا فشيئا؛ حىت‬

‫وضعوا له علما خاصا؛ هو علم الشروط‪ ،‬أو علم التوثيق‪ ...‬واملستقري للرتاث اإلسالمي عموما‪ ،‬وللفقه‬

‫اإلسالمي خاصة‪ ،‬تفجأه تلكم الثروة الفقهية اهلائلة اليت خطتها ميني الفقهاء والشروطيني يف علم التوثيق؛‬

‫بياان لشروطه وضوابطه وآدابه وخمتلف أحكامه‪ ،‬وإحكاما لصنعته‪ ،‬وحتقيقا ملقاصده واحلكم املرتبطة به‪،‬‬

‫فكان عنواان على حركية الفقه وقيوميته بقضااي األمة يف كل زمان‪ ،‬وكل ذلك سعيا لتحقيق مقاصد الشرع‬

‫يف اخللق من وراء تسييج أحكام املعامالت هبدي الشريعة‪ ،‬حىت ال تصدر عن األهواء‪ ،‬فيكثر التالحي‬

‫واخلصام يف أمر ال يصلح للناس فيه إال الضبط واإلحكام‪ ،‬بشرائع امللة وتعاليم اإلسالم‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫التوثيق‪:‬‬

‫مفهومه‪ ،‬مشروعيته – حكمه – أمساؤه‪ ،‬موضوعه‪ ،‬أمهيته‪ ،‬الحكمة من مشرعيته)‪.‬‬

‫أوال – مفهوم التوثيق‪.‬‬

‫‪ -1‬التوثيق لغة‪.‬‬

‫ترجع دالالت التوثيق يف أصل اللغة إىل معىن العقد واإلحكام‪ ،‬وما يستصحبه من معاين اإلتقان‬

‫والتثبت‪ ،‬قال اب فارس يف مقاييسه‪(« :‬وثق) الواو والثاء والقاف‪ :‬كلمة تدل على عقد وإحكام‪ .‬ووثقت‬

‫الشيء‪ :‬أحكمته‪ .‬وانقة موثقة اخللق‪ .‬وامليثاق‪ :‬العهد احملكم‪ .‬وهو ثقة‪ .‬وقد وثقت به»‪ ،1‬ووثُق الشيء‬

‫يق؛ َثبت حمكم و أ ْوث ْقتُهُ جعلته وثيقا ووث ْقتُبه ( أث ُق ) بكسرمها ( ثقةً‬
‫ابلضم وَثقةً قوي و ثبت فهو وث ٌ‬
‫) و ُوثُوقًا؛ ائتمنته‪ .‬يقال‪ :‬وثق فالن األمر توثيقا ‪ :‬أحكمه‪ ،‬ووثقت الدابة‪ :‬أحكمت وَثقتها بشدة‪،‬‬

‫وتوثق‪ :‬تثبت وتقوى‪ ،‬واستوثق من األموال‪ :‬شدد يف التحفظ عليها»‪.2‬‬

‫هذا وقد وردت بعض مشتقات التوثيق يف القرآن الكرمي ويف السنة النبوية‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬

‫يف القرآن الكرمي‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬

‫ورد لفظا " امليثاق" و" الوَثق" يف القرآن؛ فاألول ورد يف مواضع متعددة من القرآن منها قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪                   ‬‬ ‫‪‬‬

‫‪ - 1‬مقاييس اللغة‪ ،‬ابن فارس‪ ،‬كتاب الواو‪ ،‬ابب الواو والثاء وما يثلثهما‪ ،‬مادة (وثق)‪.85/6 :‬‬
‫‪ - 2‬املصباح‪ ،‬للفيومي‪.947/2 :‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ ،  ‬ومنها قوله جل ثناؤه‪   :‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬
‫وأما لفظ‬ ‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪         ‬‬ ‫الوَثق‪ ،‬فقد ورد يف قوله تعاىل‪ :‬‬

‫‪ ، ‬ومعىن قوله تعاىل‪    :‬؛ أي أحكموا قيد األسرى حىت تنظروا ُ‬
‫‪3‬‬
‫بعد يف حاهلم ابلفداء‬

‫أو العفو أو القتل أو االسرتقاق‪ ،‬قال صاحب أضواء البيان‪ «:‬فاإلمام خمري وله أن يفعل ما رآه مصلحة‬

‫للمسلمني من من وفداء وقتل واسرتقاق (‪ )...‬واحلاصل أنه قد ثبت يف جنس أسارى الكفار جواز القتل‬

‫واملن والفداء واالسرتقاق»‪.4‬‬

‫يف السنة النبوية‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬

‫وردت بعض مشتقات " وثق" يف السنة النبوية‪ ،‬ومن ذلك قوله عليه الصالة والسالم كما يف‬

‫الصحيح‪ «:‬قضاء هللا أحق وشرط هللا أوثق»‪ ،5‬ومنه حديث كعب بن مالك يف الصحيحني‪ «:‬لقد شهدت‬

‫مع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم العقبة حني تواثقنا على اإلسالم»‪.6‬‬

‫التوثيق يف االصطالح‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.26:‬‬
‫‪ - 2‬الرعد‪.22:‬‬
‫‪ - 3‬حممد‪.04:‬‬
‫‪ - 4‬أضواء البيان يف تفسري القرآن‪ ،‬الشيخ حممد األمني الشنقيطي‪.349/7:‬‬
‫‪ - 5‬أخرجه البخاري يف صحيحه‪ ،‬كتاب الشروط‪ ،‬ابب الشروط يف الوالء‪ ،‬برقم‪ ،2579:‬ورواه مسلم بلفظ‪ «:‬كتاب اهلل أحق وشرط‬
‫هللا أوثق»‬
‫‪ - 6‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫كثرية هي التعريفات اليت سيجت مفهوم التوثيق؛ وجلها يدور حول كونه علما يبحث يف كيفية‬

‫إثبات االلتزامات والتصرفات والعقود على وجه يصح االحتجاج به عد احلاجة‪ ،‬وهلذا عرفه طاش كربى‬

‫زاده يف مفتاح السعادة أبنه‪ «:‬علم يبحث فيه عن كيفية سوق األحكام الشرعية املتعلقة ابملعامالت يف‬

‫الرقاع والدفاتر ليحتج هبا عند الاجة إليها»‪ ،1‬وعرفه حاجي خليفة يف كشف الظنون أبنه‪ «:‬علم‬

‫ابحث عن كيفية ثبت االحكام الثابتة عند القاضي يف الكتب والسجالت على وجه االحتجاج به‬

‫عند انقضاء شهود الال»‪ ،2‬وعرفه الدكتور حممد الزحيلي أبنه‪ « :‬علم يبحث فيه عن كيفية إثبات‬

‫العقود والتصرفات وغريها على وجه يصح االحتجاج به والتمسك به»‪ ،3‬وعرفه الدكتور عمر اجليدي‬

‫أبنه‪ « :‬علم يبني عناصر كل اتفاقية معقودة بني شخصني أو عدة أشخاص‪ ،‬يضمن استمرارها‪ ،‬وأثر‬

‫مفعوهلا‪ ،‬وحيسم مادة النزاع بني األطراف املتعاقدة‪ ،‬موضحا لكل من العاقد له‪ ،‬واملعقود عليه ما له‪،‬‬

‫وما عليه‪ ،‬والذي يتعاطى هلذا الفن هم الشهود‪ ،‬أو ما يعرب عنهم اصطالحا ابلعدول»‪ ،4‬وعرف‬

‫كذلك أبنه‪ «:‬خطة يتوالها العدول املنتصبون لكتابة العقود وضبط الشروط بني املتعاقدين يف األنكحة‬

‫وسائر البيوع على وجه حيتج به»‪.5‬‬

‫اثنيا – مشروعية التوثيق‪.‬‬

‫‪ - 1‬مفتاح السعادة‪.249/1 :‬‬


‫‪ - 2‬كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون‪.78/1:‬‬
‫‪ - 3‬وسائل اإلثبات يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬د حممد مصطفى الزحيلي‪.27/1:‬‬
‫‪ - 4‬مباحث يف اتريخ املذهب املالكي ابملغرب‪ ،‬د عمر اجليدي‪.113 :‬‬
‫‪ - 5‬مقدمة حتقيق كتاب املنهج الفائق للونشريسي‪ ،‬حملققه د‪ .‬عبد الرمحن األطرم‪.15 :‬‬
‫‪5‬‬
‫يستمد علم التوثيق مشروعيته من الكتاب والسنة واإلمجاع واملعقول‪.‬‬

‫األدلة من الكتاب‪.‬‬ ‫أ‪-‬‬

‫كثرية هي األدلة القرآنية اليت تدل على مشروعية التوثيق‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬

‫‪           ‬‬ ‫قوله تعاىل‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪                   ‬‬

‫‪.1          ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫فورد األمر بكتابة الديْن‪ ،‬بصرف النظر عن إفادته الوجوب أو الندب‪ ،‬كما ورد اإلرشاد إىل منهج الكتابة‬

‫وذلك أبن تكون ابلعدل‪ ...‬قال الشيخ الطاهر بن عاشور رمحه هللا‪ «:‬والتداين من أعظم أسباب رواج‬

‫املعامالت؛ ألن املقتدر على تنمية املال قد يعوزه املال‪ ،‬فيضطر إىل التداين ليظهر مواهبه يف التجارة أو‬

‫ينضب املال من بني يديه وله قبل به بعد حني‪ ،‬فإذا مل يتداين اختل‬
‫الصناعة أو الزراعة‪ ،‬وألن املرتفه قد ُ‬

‫نظام ماله‪ ،‬فشرع هللا تعاىل للناس بقاء التداين املتعارف بينهم؛ كي ال يظنوا أن حترمي الراب والرجوع ابملتعاملني‬

‫إىل رؤوس أمواهلم إبطال للتداين كله‪ ،‬وأفاد ذلك التشريع بوضعه يف تشريع آخر مكمل له وهو التوثق له‬

‫ابلكتابة واإلشهاد‪.‬‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪6‬‬
‫واخلطاب موجه للمؤمنني أي جملموعهم‪ ،‬واملقصود منه خصوص املتداينني‪ ،‬واألخص ابخلطاب هو‬

‫املدين ألن من احلق عليه أن جيعل دائنه مطمئن البال على ماله‪ ،‬فعلى املستقرض أن يطلب الكتابة وإن‬

‫مل يسأهلا الدائن» ‪.‬‬


‫‪1‬‬

‫‪     ‬‬ ‫ومن اآلايت الدالة على مشروعية التوثيق كذلك؛ قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪ ،2     ‬ووجه الداللة أن اآلية ترشد إىل مكاتبة العبيد إذا علم أن‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪   ‬‬ ‫اخلري يف مكاتبتهم وهو أحفظ ملصاحلهم ومصاحل أسيادهم‪ .‬ومن ذلك قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪ ،3 ‬ووجه الداللة أن هللا أمر‬ ‫‪ ‬‬


‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪‬‬

‫ابستشهاد شهيدين على الوصية‪.‬‬

‫ب ‪ -‬األدلة من السنة‪:‬‬

‫كثرية هي األدلة من السنة اليت تشهد مبشروعية أصل التوثيق‪ ،‬وأنه كان معموال به يف املداينات زمن‬

‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وقبل أن نورد بعضا من تلك األدلة ال بد من بيان شدة عناية رسول هللا‬

‫‪ ‬وحرصه على تعلم الصحابة للكتابة‪ ،‬اليت كان يرى فيها عليه الصالة والسالم عمادا من أعمدة قيام‬

‫الدولة احلديثة اليت كان ينشئها ابملدينة‪ ،‬وكان يقول عليه الصالة والسالم كما يف حديث عبد هللا بن عمرو‬

‫‪ - 1‬التحرير والتنوير‪.98/3 :‬‬


‫‪ - 2‬النور‪.33 :‬‬
‫‪ - 3‬املائدة‪.106:‬‬
‫‪7‬‬
‫«قيدوا العلم»‪ ،‬قلت‪ :‬وما تقييده؟ قال‪« :‬كتابته»‪ ،1‬وفيه بيان أن الكتابة وعاء العلم‪ ،‬حتفظه من الضياع‪،‬‬

‫كل أسري‬
‫ومما يدل على عناية رسول هللا ‪ ‬بتعلم الصحابة للكتابة‪ ،‬أنه جعل فداء أسرى بدر أبن يُعلم ي‬

‫عشرةً من غلمان الصحابة القراءة والكتابة‪ ،‬وكان مقدار الفداء ابملال يومئذ أربعة آالف درهم‪ ،‬مما يدل‬

‫على قيمة هذا التعليم يومئذ‪ ،‬كما ثبت قبل غزوة بدر أن النيب عليه الصالة والسالم كان قد أمر بعض‬

‫الصحابة أن يُعلموا املسلمني الكتابة‪ ،‬ومن هؤالء عبد هللا بن سعيد بن العاص‪ ،‬الذي أمره ‪ « ‬أن يعلم‬

‫الكتابة ابملدينة‪ ،‬وكان كاتبا‪ ،‬وقتل يوم بدر شهيدا»‪ ،‬ويرجح بعض العلماء أن يكون النيب ‪ ‬قد أمر عبادة‬
‫‪2‬‬
‫صفَّة القراءة والكتابة‪ ،‬وهو الذي قال ‪«:‬علمت انسا من أهل الصفة الكتاب‬
‫بن الصامت أن يعلم أهل ال ي‬

‫والقرآن»‪.3‬‬

‫وملا جاءت أم سليم أبنس بن مالك ‪ ‬إىل رسول هللا ‪ ‬ليخدمه اقتصرت على ذكر معرفته‬

‫ابلكتابة فقالت‪ «:‬اي رسول هللا هذا ابين‪ ،‬وهو غالم كاتب»‪.4‬‬

‫فانتشرت الكتابة يف عصره عليه الصالة والسالم يف وقت وجيز‪ ،‬وأصبح يف األمة حينها كتبة خمتصون‬

‫يكتبون لرسول هللا ‪ ‬الوحي واملعاهدات والعقود‪ ...‬وبلغ عددهم قرابة اخلمسني‪ ،‬بل ختصص بعض منهم‬

‫يف الكتابة يف جمال بعينه‪.‬‬

‫‪ - 1‬أخرجه احلاكم يف مستدركه‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬برقم‪ ،/372:1 :362:‬وصححه مبجموع طرقه األلباين يف السلسلة الصحيحة‬
‫برقم‪.2026:‬‬
‫‪ - 2‬الكتاب مبعىن الكتابة‪.‬‬
‫‪ - 3‬أخرجه أبو داود يف سننه‪ ،‬كتاب اإلجارة‪ ،‬ابب يف كسب املعلم‪ ،‬برقم‪.3416:‬‬
‫‪ - 4‬مسند اإلمام أمحد‪ ،‬برقم‪.13089:‬‬
‫‪8‬‬
‫‪1‬‬
‫أيب بن‬
‫كاتيب الوحي‪ ،‬فإن غااب؛ كتبه ي‬
‫وتذكر بعض املصادر أن علي بن أيب طالب وعثمان كاان ْ‬
‫كعب وزيد بن َثبت‪ ،‬وكان خالد بن سعيد ومعاوية كاتيب حوائجه ‪ ،‬وكان املغرية بن شعبة واحلصني بن‬

‫منري يكتبان املداينات واملعامالت‪ ،‬وكان زيد بن َثبت يكتب إىل امللوك أيضا مع ما ختصص فيه من كتابة‬

‫الوحي‪ ،‬وكان الزبري بن العوام وجهم بن الصلت يكتبان يف الصدقات‪ ،‬وكان حذيفة يكتب يف خرص‬

‫النخل ‪ ،‬وكان معيقب بن أيب فاطمة الدوسي يكتب يف املغامن‪ ،‬وكان حنظلة بن الربيع خليفة لكل هؤالء‬

‫يف حال غيبتهم‪ ،‬فلقب حبنظلة الكاتب‪.2‬‬

‫وكان الكتاب من أصحاب رسول هللا ‪ ‬ذوي شأن عظيم‪ ،‬وكان ال يتوىل الكتابة إال من ج َّل ق ْد ُره‬

‫يف الناس‪ ،‬وقد عقب القلقشندي بعد ذكره ملن كان يكتب لرسول هللا ‪ ‬من الصحابة بقوله‪« :‬ويف ذلك‬

‫ما يدل على علو خطرها [الكتابة] وارتفاع قدرها»‪ ،3‬وذكر ابن عبد ربه يف العقد الفريد أن مجاعة من‬

‫الكتاب يف عصر الرسالة ارتقوا إىل مناصب عظيمة‪.4‬‬

‫أمثلة على أخذ النيب عليه الصالة والسالم ابلكتابة والتوثيق‪.‬‬

‫– توثيق القرآن‪.‬‬

‫وهو أمر أواله النيب ‪ ‬ابلغ العناية يف الدعوة إىل توثيقه وكتابته‪ ،‬وقد كان لرسول هللا ‪ُ ‬كتاب‬

‫للوحي‪ ،‬حيث كان أيمرهم بكتابة ما نزل عليه من القرآن‪ ،‬ففي صحيح البخاري عن الرباء بن عازب ‪‬‬

‫‪ - 1‬ينظر صبح األعشى للقلقشندي‪ ،68/1:‬والعقد الفريد لشهاب الدين أمحد‪ ،‬ابن عبد ربه‪.8/5:‬‬
‫‪ - 2‬التاريخ الكبري للبخاري‪ ،‬برقم‪.129/3 ،)1039( :‬‬
‫‪ - 3‬صبح األعشى للقلقشندي‪.68/1:‬‬
‫‪ - 4‬العقد الفريد‪.8/5:‬‬
‫‪9‬‬
‫َّيب صلَّى َّ‬
‫اَّللُ علْيه‬ ‫ت ال يستوي القاعدون من املؤمنني واجملاهدون يف سبيل هللا ‪ ،‬قال الن ي‬
‫قال‪ «:‬ل َّما ن زل ْ‬

‫‪  ‬‬


‫وسلَّم‪ْ :‬ادعُ ِل زيْ ًدا ولْيج ْئ ابللَّ ْوح والدَّواة والْكتف‪ ،‬أ ْو الْكتف والدَّواة‪ُ ،‬مثَّ قال ا ْكتُ ْ‬
‫ب‪‬‬

‫‪ ،‬وخلف ظهر النيب صلى هللا عليه و سلم عمرو بن أم مكتوم األعمى قال اي رسول هللا فما أتمرين فإين‬

‫‪          ‬‬ ‫رجل ضرير البصر ؟ فنزلت مكاهنا‪ :‬‬
‫‪2 1‬‬
‫وكان زيد بن َثبت وهو أحد كتبة الوحي يدعوه رسول هللا لكتابة الوحي‬ ‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‬‬‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬

‫فيكتب‪ ،‬فقد روى ابن أيب داود يف املصاحف عن خارجة بن زيد قال ‪ :‬دخل نفر على زيد بن َثبت‬

‫فقالوا ‪ :‬حدثنا بعض حديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فقال ‪ " :‬ماذا أحدثكم؟ كنت جار رسول‬

‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فكان إذا نزل الوحي أرسل إِل فكتبت الوحي» ‪.3‬‬

‫‪-‬توثيق السنة‪.‬‬

‫رغم ورود النهي عن كتابة السنة خمافة اختالطها ابلقرآن‪ ،‬غري أنه ثبت إذن رسول هللا ‪ ‬لبعض‬

‫الصحابة يف الكتابة‪ ،‬ومن ذلك إذنه لعبد هللا بن عمرو بن العاص‪ ،‬فقد قال ‪ ":‬استأذنت النيب ‪ ‬يف‬

‫كتابة ما مسعت منه‪ ،‬قال‪ ":‬فأذن ِل‪ ،‬فكتبته" وكان عبد هللا يسمي صحيفته تلك‪" :‬الصادقة"‪ ،‬كما أذن‬

‫‪ ‬يف الكتابة أليب شاه‪ ،‬فقال «اُكتبوا أليب شاه»‪ ،‬وكان لعلي رضي هللا عنه صحيفة كتبها عن النيب ‪.‬‬

‫‪ - 1‬النساء‪.94:‬‬
‫اَّللُ علْيه وسلَّم‪ ،‬برقم‪.4704:‬‬
‫‪ - 2‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬ابب كاتب النَّيب صلَّى َّ‬
‫‪ - 3‬املصاحف‪ ،‬البن أيب داود‪.03:‬‬
‫‪10‬‬
‫كتابة صحيفة املدينة اليت كانت مبثابة الدستور املنظم لياة أهل املدينة على اختالف‬ ‫‪-‬‬

‫عقائدهم‪.‬‬

‫بعد نزول رسول هللا عليه الصالة والسالم ابملدينة عمد إىل كتابة وثيقة تتضمن احلقوق والواجبات‪،‬‬

‫فكانت مبثابة الدستور املنظم حلياة املسلمني فيما بينهم‪ ،‬ويف عالقتهم بغريهم‪ ،‬وكان ابإلمكان أن يقتصر‬

‫النيب ‪ ‬على جمرد اخلُطبة هبا؛ لكنه عمد ‪ ‬إىل كتابتها حىت يسهل الرجوع إليها عند احلاجة‪ ،‬ومما جاء‬

‫يف الصحيفة بعد البسملة‪ «:‬هذا كتاب من حممد النيب صلى هللا عليه وسلم بني املؤمنني واملسلمني من‬

‫قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق هبم وجاهد معهم‪ ،»...‬وختم ‪ « :‬وإنه ال حيول هذا الكتاب دون ظامل‬

‫وآمث‪.1 »...‬‬

‫توثيق بعض عقود بيعه عليه الصالة والسالم‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫توثيقه عليه الصالة والسالم لبعض بيوعه كتابة‪ ،‬ومن ذلك ما رواه البخاري يف صحيحه‪ ،‬أن النيب‬

‫عليه الصالة والسالم كاتب العداء بن خالد يف عبد ابعه له‪ ،‬فعن العداء بن خالد قال كتب ِل النيب صلى‬

‫صلى اَّلل َعلَْي حه َو َسل َم حم ْن ال َْعد حاء بْ حن َخالحد بَ ْي َع الْم ْسلح حم‬ ‫ح‬
‫َتى ُمَم ٌد َرسول اَّلل َ‬
‫هللا عليه وسلم‪َ :‬ه َذا َما ا ْش ََ‬

‫َتى ال َْعداء بْن َخالح حد بْ حن َه ْو َذةَ‬ ‫ح ‪3 2‬‬ ‫ح‬ ‫ح‬


‫الْم ْسل َم َال َداءَ َوَال خ ْب ثَةَ َوَال غَائلَةَ وعند غري البخاري َه َذا َما ا ْش ََ‬

‫‪ - 1‬سرية ابن هشام‪.503/1:‬‬


‫‪ - 2‬قال قتادة الغائلة الزان والسرقة واإلابق‪ ،‬وقوله‪ :‬ال خبثة‪ ،‬يعين ال حرام‪ ،‬وقوله‪ ( :‬ال داء ) الداء هو العيب الباطن يف السلعة الذي‬
‫مل يطلع عليه املشرتي‪.‬‬
‫‪ - 3‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬اباب السهولة والسماح يف الشراء والبيع‪ ،‬برقم‪.1972:‬‬
‫‪11‬‬
‫ك الَ َداءَ لَه َوالَ غَائحلَةَ َوالَ حخ ْب ثَةَ بَ ْيع الْم ْسلح حم‬
‫َتى حم ْنه َع ْب ًدا أ َْو أ ََمةً َعبا ٌد يَش ُّ‬ ‫حمن ُمَمد رس ح ح‬
‫ول اَّلل ا ْش ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫الْم ْسلح َم »‪.1‬‬

‫ومن األدلة حديثه عليه الصالة والسالم الذي حيمل الدعوة إىل توثيق الوصااي وهي قسم من‬
‫‪2‬‬
‫صي ته َم ْكتوبَةٌ حع ْن َده‬
‫ني إحال وو ح‬ ‫ح حح ح‬ ‫ح‬
‫املعامالت املالية‪َ :‬ما َح ُّق ْام حرئ م ْسلم لَه َش ْيءٌ يوصي فيه يَبيت ل َْي لَتَ ْ ح َ َ‬
‫‪3‬‬
‫ومن السنة كذلك قوله عليه الصالة والسالم‪ :‬ال نكاح إال بويل أو شاهدي عدل‬

‫توثيق معاهدات الصلح‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫مما وثق له النيب ‪ ‬وكتبه ما يتعلق مبا أبرمه من معاهدات الصلح بني املسلمني وغريهم‪ ،‬ويرى بعض‬

‫العلماء أن توثيق هذا النوع من املعاهدات واجب‪ ،‬قال السرخسي‪ «:‬وإذا توادع املسلمون واملشركون سنني‬

‫معلومة؛ فإنه ينبغي أن يكتبوا بذلك كتااب‪ ،‬ألن هذا عقد ميتد‪ ،‬والكتاب يف مثله مأمور به شرعا»‪.4‬‬

‫ومن أشهر ما كتب فيه النيب ‪ ‬الكتاب يف املعاهدات‪ ،‬ما كتب يوم صلح احلديبية يف السنة‬

‫السادسة للهجرة مع كفار قريش‪ ،‬واليت تضمنت مجلة شروط وبنود سرعان ما نقضت بعضها قريش‪ ،‬فكان‬

‫ذلك سببا يف فتح مكة يف العام الثامن للهجرة‪.‬‬

‫توثيق بعض اإلقطاعات‪ 5‬النبوية لبعض الصحابة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ - 1‬السنن الكربى للبيهقي‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬ابب بيع الرباءة‪ ،‬برقم ‪.11098‬‬
‫‪ - 2‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ - 3‬السنن الصغرى للبيهقي‪ ،‬كتاب النكاح‪ ،‬ابب ال نكاح إال بوِل وشاهدي عدل‪ ،‬برقم‪.2487:‬‬
‫‪ - 4‬شرح السري الكبري‪.32/5:‬‬
‫‪ - 5‬اإلقطاع ما يقتطعه اإلمام من املال العام فيعطيه جلهة تستحقه‪ ،‬وقد يتعلق فيه األمر إبقطاع األراضي‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫ومن ذلك أنه أقطع بعضا من أراضي املدينة للداريني حني وفدوا عليه وسألوه أرضا‪ ،‬وكتب هلم بذلك‬

‫كتااب جاء فيه‪ ":‬بسم هللا الرمحن الرحيم ‪ ،‬هذا كتاب من حممد رسول هللا لتميم بن أوس الداري‪ ،‬أن له‬

‫قرية حريون وبيت عينون ‪ ...،‬ال يلجها عليهم أحد بظلم‪ ،‬فمن ظلم وأخذ منها شيئا فإن عليه لعنة هللا‬
‫‪.‬‬
‫واملالئكة والناس أمجعني‪ ،‬وكتب علي»‬

‫وال خيفى أن يف الكتابة هلم ضمان عدم التعرض هلم من املنازع سواء يف منفعة األرض أو ملكيتها‪.‬‬

‫كتابة العهود‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫كانت عهود التولية من مجلة ما كتبه النيب عليه الصالة والسالم لعماله ووالته‪ ،‬فقد وىل عمرو بن‬

‫حزم حني بعثه إىل جنران وكتب له كتااب‪ ،‬وقد ذكر ابن سعد أن رسول هللا كتب إىل عمرو بن حزم عهدا‬

‫حني بعثه على اليمن‪ ،‬يعلمه فيه شرائع اإلسالم وفرائضه وحدوده‪ ،1‬والقصد من كتابة العهد إضفاء صبغة‬

‫الرمسية على التولية‪.‬‬

‫وسار على كتابة العهود للعمال والقضاة الصحابة الكرام كأيب بكر وعمر الذي كتب ألهل‬

‫الكوفة‪«:‬فإين بعثت إليكم عمار بن ايسر أمريا‪ ،‬وعبد هللا (يعين ابن مسعود) قاضيا ووزيرا‪ ،‬فامسعوا هلما‬

‫وأطيعومها فقد آثرتكم هبما »‪.2‬‬

‫إحصاء السكان‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ - 1‬طبقات بن سعد‪.21-20/1 :‬‬


‫‪ - 2‬اتريخ الطربي‪.294/2:‬‬
‫‪13‬‬
‫أمر النيب عليه الصالة والسالم إبحصاء املسلمني ابملدينة‪ ،‬فقد روى البخاري يف صحيحه‪ ،‬ع ْن‬

‫اَّللُ علْيه وسلَّم‪ :‬ا ْكتُبُوا ِل م ْن ت لفَّظ اب ْإل ْسالم م ْن النَّاس‪،‬‬


‫َّيب صلَّى َّ‬
‫اَّللُ عْنهُ قال‪ :‬قال الن ي‬
‫ُحذيْفة رضي َّ‬

‫س مائة‪ ،‬ف لق ْد رأيْتُنا ابْتُلينا ح َّىت إ َّن َّ‬


‫الر ُجل‬ ‫ف وَخْ ُ‬
‫اف و َْن ُن ألْ ٌ‬
‫فكت ْب نا لهُ ألْ ًفا وَخْس مائة ر ُجل‪ ،‬ف ُق ْلنا َن ُ‬

‫ف حدَّث نا عْبدا ُن ع ْن أيب محْزة ع ْن ْاأل ْعمش ف وج ْدان ُه ْم َخْس مائة قال أبُو ُمعاوية‬
‫ليُصلي و ْحدهُ وُهو خائ ٌ‬

‫ما ب ْني ست مائة إىل سْبع مائة»‪.1‬‬

‫وقد كان هذا أساسا إلحصاء اجلنود‪ ،‬وإنشاء دواوين اجلند يف عهد عمر رضي هللا عنه‪.‬‬

‫كتابته ‪ ‬الكتب إىل ملوك وعظماء زمانه يدعوهم فيها إىل اإلسالم‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ج ‪ -‬دليل اإلمجاع‪:‬‬

‫دليل اإلمجاع مفيد ملشروعية التوثيق؛ ذلك أن القرآن أمر به‪ ،‬كما أن النيب عليه الصالة والسالم‬

‫كاتب من عامله‪ ،‬أو صاحله‪ ،‬أو راسله‪ ،‬أو واله‪ ...‬مث جاء الصحابة فكاتبوا من عاملوهم‪ ،‬وبقي األمر‬

‫قائما يف األمة من غري أن يعرف له ُمنكر‪ ،‬فدل ذلك على وقوع اإلمجاع عليه‪.‬‬

‫د – دليل العقل‪.‬‬

‫دليل العقل يزكي مبدأ توثيق العقود‪ ،‬ذلك أنه أدعى حلفظ مصاحل العباد‪ ،‬وأقرب لدفع أسباب‬

‫النزاع واخلالف بينهم‪.‬‬

‫اثلثا‪ -‬حكم التوثيق يف الفقه اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب اجلمعة‪ ،‬ابب كتابة ْاإلمام النَّاس‪ ،‬برقم‪.3060:‬‬


‫‪14‬‬
‫اختلف الفقهاء يف حكم التوثيق‪ ،‬وسبب اختالفهم يف ذلك اختالفهم يف محل داللة األمر الوارد يف‬

‫آية الدين يف قوله تعاىل‪ ،1            :‬هل هو‬

‫للوجوب أم للندب واإلرشاد‪ ،‬وذلك على مذهبني يف املسألة‪:‬‬

‫املذهب األول‪ :‬أن األمر يف اآلية مفيد للوجوب‪ ،‬وال قرينة تصرفه إىل معىن آخر‪ ،‬فيتوجب‬

‫توثيق العقود يف املداينات‪ ،‬وهذا قول الظاهرية وأيب جعفر الطربي‪ ،‬وبعض من التابعني كسعيد بن‬

‫املسيب‪ ،‬والضحاك‪ ،‬وسعيد بن جبري‪ ،‬وعطاء وجماهد‪ ،‬وجابر بن زيد‪ ،‬وهلم يف ذلك سند إىل بعض من‬

‫الصحابة قلة‪ ،‬كابن عمر وأيب موسى األشعري‪ ،‬فإهنما كاان جيعالن الكْتب واجبا إذا وقع ابلديْن‪ ،‬وممن‬

‫قال ابلوجوب من املعاصرين الشيخ حممد عبده‪ ،‬والشيخ رشيد رضا‪.2‬‬

‫ووما احتج به القائلون ابلوجوب؛ أن األمر يف اآلية جاء عاراي عن كل قرينة صارفة‪ ،‬فال يبقى إال‬
‫‪3‬‬
‫محله على الوجوب الذي ال جتوز املخالفة فيه‪ ،‬ومل ير هذا الفريق قرينة ‪    ‬‬

‫قرينة صارفة األمر عن داللة الوجوب‪.4‬‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 2‬تفسري املنار‪.100/3:‬‬
‫‪ - 3‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 4‬ينظر تفسري الطربي‪.51/6:‬‬
‫‪15‬‬
‫املذهب الثاين‪ :‬وهو مذهب اجلمهور من احلنفية واملالكية والشافعية واحلنابلة؛ أن األمر يف اآلية يفيد‬

‫الندب واإلرشاد‪ ،‬لقرائن تصرف داللته من إفادة الوجوب إىل إفادة الندب واإلرشاد‪ ،1‬وجمموع ما استدل‬

‫به اجلمهور على ذلك من القرائن أربعة أمور‪:‬‬

‫األمر األول‪ :‬قوله تعاىل‪ ،     :‬فإنه قرينة نصية صارفة لألمر‬ ‫‪-‬‬

‫عن إفادة الوجوب إىل إفادة الندب واإلرشاد‪ ،‬وقد استدل مجهور الفقهاء واملفسرين على عدم إفادهتا‬

‫الوجوب أبن قوله تعاىل‪      :‬مرتبط بقوله سبحانه‪  :‬‬

‫‪       ‬‬ ‫وبقوله تعاىل‪ ،     :‬وبقوله سبحانه‪ :‬‬

‫‪ ،  ‬فيكون املعىن‪ :‬فإن أمن ُ‬


‫بعضكم بعضا؛ فلم تكتبوا‪ ،‬ومل تُشهدوا‪ ،‬ومل توثقوا ابلرهن؛ فليود‬

‫الذي ائتُمن أمانته‪ .‬قال ابن عاشور يف هذا السياق‪      :‬تعترب تكميالً لطلب‬

‫الكتابة واإلشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين محلوا األمر يف قوله تعاىل ‪ ( :‬فاكتبوه ( على معىن‬

‫الندب واالستحباب‪ ،‬وهم اجلمهور‪ .‬ومعىن كوهنا تكميالً لذلك الطلب أهنا بينت أن الكتابة واإلشهاد بني‬

‫فنعما‪ ،‬وإن اكتفيا مبا يعلمانه‬


‫املتداينني‪ ،‬مقصود هبما حسن التعامل بينهما‪ ،‬فإن بدا هلما أن أيخذا هبما َّ‬

‫من أمان بينهما فلهما تركهما ‪. 2‬‬

‫‪ - 1‬مي ز بعض العلماء بني الندب واإلرشاد‪ ،‬ومن هؤالء السبكيان يف اإلهباج؛ حيث إن املندوب مطلوب لثواب اآلخرة‪ ،‬واإلرشاد‬
‫ملنافع الدنيا وال يتعلق به ثواب البتة؛ ألنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه اإلهباج يف شرح املنهاج‪ .17/2 :‬لكن تُعُقب أبن‬
‫ذلك يبقى خاضعا لنية املكلف‪ ،‬فيثاب إن استصحب نية الثواب‪ ،‬والعكس صحيح‪.‬‬
‫‪ - 2‬التحرير والتنوير‪.123/3 :‬‬
‫‪16‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬لو كان األمر ابلكتابة واجبا لنقل فيها الوجوب عن النيب ‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫إذ ال يتصور يف حقه ‪ ‬خمالفة واجب‪ ،‬ولنقل كذلك عن الصحابة وهم أحرص الناس على‬

‫اقتفاء أثره ‪‬؛ وأعلم األمة أبمر األحكام ومراتبها‪ ،‬ولنقل كذلك عن السلف ما يفيد الوجوب‬

‫وحرمة الرتك؛ وذلك يف كل مدايناهتم وبيوعهم وعقودهم‪ ،‬والتحقيق أهنم مل ينقل عنهم ذلك على‬

‫هذا الوجه املفيد للوجوب‪ ،‬ومن األدلة من السنة على ترك الكتابة واإلشهاد يف بعض عقود‬

‫رسول هللا ‪ ‬متثيال ال حصرا‪:‬‬

‫ابْتاع ف ر ًسا م ْن ر ُجل من األ ْعراب‬ ‫الديث األول‪ :‬حديث خزمية أن النيب ‪‬‬ ‫‪-‬‬

‫ال‬
‫اِب فطفق رج ٌ‬
‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬الْم ْشىي وأبْطأ األ ْعر ي‬
‫ول َّ‬‫است ْت ب عهُ لي ْقضيهُ َثن ف رسه فأ ْسرع ر ُس ُ‬
‫ف ْ‬

‫اِب فساوُموهُ ابلْفرس وال ي ْشعُُرون أ َّن ر ُسول َّ‬


‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قد ابْتاعهُ ح َّىت زاد‬ ‫ضون األ ْعر َّ‬
‫ي ْعرت ُ‬
‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ف ل َّما زادهُ اندى‬
‫ول َّ‬‫الس ْوم على َثن الْفرس الَّذى ابْتاعهُ ر ُس ُ‬
‫اِب ِف َّ‬
‫ض ُه ُم األ ْعر َّ‬
‫ب ْع ُ‬

‫اعا هذا الْفرس فابْت ْعهُ أ ْو ألبيعنَّهُ ف قام‬


‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ف قال ‪ :‬إ ْن ُكْنت ُمْب ت ً‬
‫اِب ر ُسول َّ‬
‫األ ْعر ي‬

‫ت قد ابْت ْعتُهُ‬
‫اِب ف قال لهُ ‪ «:‬أول ْس ُ‬
‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬حني مسع نداء األ ْعراِب ح َّىت أاتهُ األ ْعر ي‬
‫ول َّ‬‫ر ُس ُ‬

‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ «: -‬ب لى قد ابْت ْعتُهُ‬


‫ول َّ‬‫اَّلل ما ب ْعتُك قال‪ :‬ف قال ر ُس ُ‬
‫اِب ‪ :‬ال و َّ‬
‫مْنك »‪ .‬قال األ ْعر ي‬

‫اِب‬
‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وابأل ْعراِب و ُمها يرتاجعان‪ ،‬وطفق األ ْعر ي‬
‫َّاس ي لُوذُون بر ُسول َّ‬
‫مْنك »‪ .‬فطفق الن ُ‬
‫يدا ي ْشه ُد أين ابي ْعتُك فم ْن جاء من الْ ُم ْسلمني قال لأل ْعراِب ‪ :‬ويْلك إ َّن ر ُسول َّ‬
‫اَّلل ‪-‬صلى‬ ‫ول هلُ َّم شه ً‬
‫ي ُق ُ‬

‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه‬


‫ول َّ‬ ‫ول إالَّ حقًّا‪ ،‬ح َّىت جاء ُخزْميةُ ف ْ‬
‫استمع ما يُراج ُع ر ُس ُ‬ ‫هللا عليه وسلم‪ -‬ملْ ي ُك ْن ي ُق ُ‬

‫‪17‬‬
‫ول ‪ :‬هلُ َّم ُشهداء ي ْشه ُدون أين ابي ْعتُك قال ُخزْميةُ ‪ :‬أان أ ْشه ُد‬
‫اِب ي ُق ُ‬
‫اِب وطفق األ ْعر ي‬
‫وسلم‪ -‬ويُراج ُع األ ْعر ي‬

‫صديقك‬
‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬على ُخزْمية قال ‪ِْ «:‬ب ت ْشه ُد؟ »‪ .‬قال ‪ :‬بت ْ‬
‫ول َّ‬‫أنَّك ق ْد ابي ْعتهُ فأقْ بل ر ُس ُ‬

‫اَّلل ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬شهادة ُخزْمية شهادة ر ُجل ْني ‪.1‬‬
‫ول َّ‬‫اَّلل فجعل ر ُس ُ‬
‫اي ر ُسول َّ‬

‫الديث الثاين‪ :‬ع ْن طارق بْن عْبد َّ‬


‫اَّلل الْ ُمحارِب قال فلما ظهر اإلسالم وقدم املدينة أقبلنا يف‬

‫ركب من الربذة وجنوب الربذة حىت نزلنا قريبا من املدينة ومعنا ظعينة لنا قال فبينا َنن قعود إذ أاتان رجل‬

‫عليه ثوابن أبيضان فسلم فرددان عليه فقال من أين أقبل القوم قلنا من الربذة وجنوب الربذة قال ومعنا مجل‬

‫أمحر قال تبيعوين مجلكم قلنا نعم قال بكم قلنا بكذا وكذا صاعا من متر قال فما استوضعنا شيئا وقال قد‬

‫أخذته مث أخذ برأس اجلمل حىت دخل املدينة فتوارى عنا فتالومنا بيننا وقلنا أعطيتم مجلكم من ال تعرفونه‪،‬‬

‫فقالت الظعينة ال تالوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليحقركم ما رأيت وجه رجل أشبه ابلقمر ليلة البدر‬

‫من وجهه فلما كان العشاء أاتان رجل فقال السالم عليكم أان رسول رسول هللا صلى هللا عليه و سلم إليكم‬

‫وأنه أمركم أن أتكلوا من هذا حىت تشبعوا وتكتالوا حىت تستوفوا قال فأكلنا حىت شبعنا واكتلنا حىت‬

‫استوفينا ‪.2‬‬

‫األمر الثالث‪ :‬أن يف إجياب الكتابة واإلشهاد مشقة على املتعاقدين‪ ،‬قال الرازي‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وألن يف إجياهبما أعظم التشديد‪ ...‬ووجه التشديد أن املعامالت تكثربني املسلمني‪ ،‬فإجياب‬

‫التوثيق يف كل عقد عقد مظنة وقوع احلرج‪.‬‬

‫‪ - 1‬رواه البيهقي يف السنن الكربى‪ ،‬كتاب الشهادات‪ ،‬ابب األمر ابإلشهاد‪ ،‬برقم‪.23302:‬‬
‫‪ - 2‬رواه الدارقطين يف سننه‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬برقم‪.186:‬‬
‫‪18‬‬
‫األمر الرابع أن هللا تعاىل أحل البيع وحرم الراب يف القرآن‪ ،‬ومل يشرتط اإلشهاد يف‬ ‫‪-‬‬

‫البيوع لتكون حالال‪.‬‬

‫هبذه القرائن محل اجلمهور األمر على الندب واإلرشاد‪.‬‬

‫واختار بعض العلماء املعاصرين قوال مفاده أن األمر ابلكتابة خيتلف حكمه ابختالف‬

‫نوع املعاملة‪ ،1‬فإن كانت دينا كبريا‪ ،‬وتوقع الدائن حدوث طارئ يتسبب يف ضياع ماله‪ ،‬أو‬

‫طلب االحتياط‪ ،‬أو مل يثق ثقة اتمة ابملدين‪ ،‬فالتوثيق يف مثل هذه احلال واجب‪.2‬‬

‫ويبقى الوجوب كذلك قائما فيما لو تعلق األمر مبا غري البينة اخلطية (الكتابة) إلثبات‬

‫امللك‪ ،‬كاألراضي والدور‪ ،‬أو إلثبات حق الزوجية‪ ،‬أو النسب‪...‬‬

‫أما ما كانت قيمته يسرية فال يتعني يف مثله حكم الوجوب‪ ،‬بل حيمل على الندب واإلرشاد‪.‬‬

‫وهذا الرأي املنسوب لبعض العلماء املعاصرين؛ رأي تظهر احلاجة إليه أكثر يف واقع الناس‬

‫اليوم‪ ،‬خاصة مع تغري كثري من املناطات اليت غلَّب فيها الفقهاء قدميا أصل الندب واإلرشاد‪.‬‬

‫رابعا‪-‬موضوع علم التوثيق‪.‬‬

‫خيتص علم التوثيق من حيث موضوعه بكتابة معامالت الناس يف خمتلف األبواب واجملاالت‪ ،‬ومن‬

‫ذلك‪ :‬عقود املداينات والبيوع وسائر التصرفات املالية سواء كانت على األعيان أو على املنافع‪ ،‬كما خيتص‬

‫‪ - 1‬ينظر التوثيق واإلثبات يف الفقه اإلسالمي‪ :‬د‪ .‬مجيل مبارك‪.95-94:‬‬


‫‪ - 2‬يُنظر بعض هذه األحوال يف التحرير والتنوير‪ ،‬للعالمة ابن عاشور‪.117-116/3:‬‬
‫‪19‬‬
‫بتوثيق عقود األنكحة والطالق والرجعة‪ ،‬واألوقاف والوصااي واهلبات واألعطيات‪ ،‬والصلح والعتق واملكاتبة‬

‫وغريها مما يصنف يف الفقه املتعلق ابملعامالت املالية أو ابألحوال الشخصية‪،‬كما خيتص إبثبات الشهادات‪،‬‬

‫والغرض يف كل؛ إثبات الب ينات اليت ُحيتج هبا يف معرض التنازع عند القضاء‪.‬‬

‫خامسا‪ -‬أمساء علم التوثيق‪.‬‬

‫لعلم التوثيق أمساء متعددة منها‪ :‬علم الشروط‪ ،‬وعلم الوثيقة‪ ،‬وعلم الصك‪ ،‬وعلم فقه الكْتب‬

‫واإلشهاد‪ ،‬وعلم العقود‪ ،‬وعلم احلجة‪ ،‬وعلم اإلثبات‪ ،‬وعلم الكتابة‪.‬‬

‫سادسا‪ -‬أمهية علم التوثيق‪.‬‬

‫حتدث الشروطيون عن أمهية هذا العلم يف إصالح العقود واملعامالت‪ ،‬والتماس احلجج‬

‫والبينات عند وقوع املنازعات واخلصومات اليت تفضي إىل الوقوف أمام القضاء‪ ،‬كما تكمن‬

‫أمهيته يف تنظيم وجوه املعامالت املالية‪ ،‬ويف جمال األحوال الشخصية‪ ،‬مبا يسهم يف حفظ ما‬

‫تتعلق به من الضرورايت يف حياة العباد‪ ،‬وممن حتدث عن أمهية هذا العلم اإلمام الونشريسي يف‬

‫املنهج الفائق‪ ،‬إذ يقول‪ :‬فإين ملا رأيت علم الوَثئق من أجل ما ُسطر يف قرطاس‪ ،‬وأنفس ما‬
‫َّ‬
‫ُوزن يف قُسطاس‪ ،‬وأشرف ما به األموال واألعراض والداء والفروج تستباح وحتمى‪ ،‬وأكرب زكاة‬

‫لألعمال وأقرب ُرمحى‪ ،‬وأقطع شيء تُنبذ به دعوى الفجور‪ ،‬وترمى وتُطمس به مسالكه وتعمى‬

‫‪20‬‬
‫(‪ )...‬واعلم أن علم الوَثئق من أجل العلوم قدرا‪ ،‬وأعالها إانفة وخطرا؛ إذ هبا تثبت احلقوق‪،‬‬

‫ويتميز احلر من الرقيق‪ ،‬ويُتوثق هبا‪ ،‬ولذا مسيت معانيها وَثقا ‪.1‬‬

‫سابعا ‪ -‬الحكمة من األمر بكتابة العقود وتوثيقها‪.‬‬

‫إن الكتابة والتوثيق أعدل عند هللا تعاىل من عدمها‪ ،‬وهللا تعاىل أيمر ابلعدل‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫والكتابة أدعى له‪ ،‬وأنفى للظلم احملتمل الذي قد حيدث عند إنكار من عليه احلق‪.‬‬

‫أهنا أدعى إىل ثبوت الشهادة‪ ،‬وأعون على أدائها‪ ،‬وأقوم لعوجها احملتمل‪ ،‬وذلك‬ ‫‪-‬‬

‫عند نسيان الشهود بعض جزئيات املعاملة بسبب طول املدة‪ ،‬وقد تطرأ على الشهود عوارض‬

‫املوت واحلبس والغيبة‪ ،‬وعدم قبول الشهادة للفسق الطارئ‪ ،‬وكله سبب يف ضياع احلقوق عند‬

‫عدم توثيقها‪.‬‬

‫أهنا أنفى لالرتياب والشك بني املتعاملني يف تفاصيل الدين كجنسه وقدره‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫أهنا أنفى لالرتياب يف أمر الشهادة‪ ،‬إذا نسيها الشاهد‪ ،‬أو أدىل بشهادة ختالف‬ ‫‪-‬‬

‫ما عند املتعاملني يف وثيقتهم‪.‬‬

‫‪ - 1‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.3/1:‬‬


‫‪21‬‬
‫أركان التوثيق وشروطه وآدابه‪.‬‬

‫متهيد‪:‬‬

‫للتوثيق أركان ثالثة يقوم عليها وهي‪ :‬املوثق وهو الكاتب‪ ،‬واملستوثق له واملستوثق منه‪ ،‬ومها طرفا‬

‫العقد أو الوثيقة‪ ،‬والوثيقة وهي الكتاب‪ ،‬وقد شرط الفقهاء رمحهم هللا يف كل شروطاً خاصة كما ذكروا‬

‫بعض ما ينبغي استحبااب‪ ،‬وبعض ما يتحرز منه اتقاء واحتياطا‪ ،‬وكل ذلك يدل على العناية البالغة والرعاية‬

‫السابغة اليت حظي هبا التوثيق لدى السادة الفقهاء‪ ،‬حفظا للحقوق وصوان للمصاحل بني العباد‪.‬‬

‫كما أن بعضا من الشروط كانت حمل اختالف بني فقهاء املذاهب‪ ،‬بسبب االختالف يف أتويل‬

‫بعض النصوص‪ ،‬أو االختالف فيما ينبين عليها من االجتهادات‪.‬‬

‫الركن األول‪ :‬املوثق‪ :‬شروطه وما يتعلق به من األحكام واآلداب‪.‬‬

‫‪ -1‬تعريفه‪:‬‬

‫املوثق هو الكاتب الذي يوثق العقود وَنوها ابلطريق الرمسي‪ ،‬فهو الكاتب الذي يتوىل كتابة الصكوك‬

‫والوَثئق والسجالت‪....‬اليت تصلح أن تكون حجة أمام القضاء عند احلاجة إليها‪.‬‬

‫‪ -2‬حكم اختاذ الكاتب املوثق‪:‬‬

‫ذهب الفقهاء إىل مشروعية اختاذ الكاتب املوثق‪ ،‬واستدلوا لذلك بنصوص من الكتاب والسنة‪ ،‬كما‬

‫احتجوا ابإلمجاع واملعقول على مشروعية هذا األمر‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫أ‪ -‬الدليل من الكتاب‪:‬‬

‫‪          ‬‬ ‫استند الفقهاء إىل قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪.1 ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬

‫ب‪ -‬الدليل من السنة‪:‬‬

‫استدل الفقهاء مبا رواه البخاري معلَّقا‪ ،‬عن خارجة بن زيد بن َثبت عن زيد بن َثبت أن النيب‬

‫صلى هللا عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود‪ ،‬قال زيد‪ :‬حىت كتبت للنيب صلى هللا عليه وسلم كتبه‪،‬‬

‫وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه ‪.2‬‬

‫ويف رواية عند البخاري يف التاريخ الكبري؛ أن النيب صلى هللا عليه وسلم قال له‪ :‬تعلم كتاب يهود‪،‬‬

‫ما آمن يهود على كتايب‪ ،‬فتعلمته يف نصف شهر حىت كتبت له إىل يهود‪ ،‬وأقرأته إذا كتبوا إليه ‪.3‬‬

‫ج‪ -‬الدليل من اإلمجاع‪:‬‬

‫وقد اعتمد فيه الفقهاء على عمل الصحابة وخاصة اخللفاء الراشدين منهم؛ الذين ثبت عنهم أهنم‬

‫اختذوا كتااب يكتبون هلم‪ ،‬وكذلك كان عمل من جاء بعدهم؛ سواء يف األقضية أو سائر أمورهم اليت حيتاجون‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪ - 2‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬ابب ترمجة األحكام وهل جيوز ترمجان واحد‪ ،‬برقم‪.7195 :‬‬
‫‪ - 3‬التاريخ الكبري للبخاري برقم ‪ ،1278‬ومسند اإلمام أمحد برقم‪.21658 :‬‬
‫‪23‬‬
‫إليها‪ ،‬ومل ينكر عليهم أحد من سائر الصحابة‪ ،‬فعد ذلك منهم إمجاعا لعدم وجود املخالف‪ ،‬فثبتت به‬

‫مشروعية اختاذ الكتاب‪.‬‬

‫د‪ -‬دليل املعقول‪:‬‬

‫ومقتضاه أن اختاذ الكتاب ابلنسبة إىل الوالة والقضاة أمر أدعى إىل احملافظة على احلقوق‪ ،‬والبت يف‬

‫اخلصومات عند القضاة‪ ،‬فالقاضي يشتغل ابلنظر يف األقضية‪ ،‬والكاتب يتوىل إثباهتا يف احملاضر والسجالت‪،‬‬

‫كما نص العلماء على أن عدم الكتابة مفض إىل تبادل التهم‪ ،‬ووقوع الريبة بني الذي له احلق والذي عليه‬

‫احلق ومها طرفا التداين‪ ،‬ولذلك أمر هللا سبحانه وتعاىل ابختاذ الكاتب ابلعدل‪ ،‬وأال مييل إىل أحد الطرفني‬

‫عند إثبات احلق الناشئ عن أصل املداينة‪.‬‬

‫فبمجموع هذه األدلة تتأسس مشروعية اختاذ الكاتب حلفظ احلقوق‪.‬‬

‫‪ -3‬حكم كتابة الكاتب (هل جيب على الكاتب الكتابة لزوما)‪:‬‬

‫اختلف الفقهاء يف حكم كتابة الكاتب؛ وذلك على أربعة مذاهب نوردها يف اآليت‪:‬‬

‫أ‪ -‬املذهب األول‪ :‬وفيه اختارت طائفة من العلماء القول أبن الكتابة واجبة على سبيل الكفاية؛‬

‫مبعىن أن الكاتب يُلزم ابلكتابة إذا مل يوجد غريه‪ ،‬وأما إن وجد غريه فال جتب عليه‪ ،‬وممن قال هبذا؛ اإلمام‬

‫الشعيب وعطاء‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ب‪ -‬املذهب الثاين‪ :‬أن الكتابة واجبة عليه يف حال فراغه فقط‪ ،‬وأما يف حال انشغاله مبصاحله فال‬

‫‪ 1   ‬وهو رأي اإلمام ال يسدي‪.‬‬


‫‪  ‬‬ ‫جتب عليه‪ ،‬واستدلوا بقوله تعاىل ‪ ‬‬
‫‪  ‬‬

‫ج‪ -‬املذهب الثالث‪ :‬الكتابة واجبة على الكاتب‪ ،‬وهو مذهب ابن جرير الطربي وابن حزم رمحهما‬

‫‪   ‬‬ ‫هللا؛ وقد محال األمر الوارد يف آية املداينة على الوجوب‪ ،‬والنهي الوارد يف قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪2 ‬؛ على التحرمي‪.‬‬


‫‪ ‬‬

‫د‪ -‬املذهب الرابع‪ :‬وهو مذهب اجلمهور من العلماء؛ وهو أن الكتابة مندوبة وحممولة على سبيل‬

‫‪ ،3   ‬وقد وصف اإلمام ابن العريب رمحه هللا هذا املذهب أبنه‬
‫‪  ‬‬ ‫اإلرشاد بقرينة ‪ ‬‬
‫‪  ‬‬

‫هو الصحيح‪ ،‬وهو متفق مع ما ُرجح يف أن األمر يف قوله تعاىل ‪   ‬للندب واإلرشاد‪.5 4‬‬

‫وقال ابن عطية األندلسي رمحه هللا يف ذات السياق‪ :‬وأما ال َك ْتب يف اجلملة فندب‪ ،‬كقوله تعاىل‬

‫‪‬وافعلوا اخلري‪.7 6‬‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪ - 2‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪ - 3‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪ - 4‬مي ز بعض العلماء بني الندب واإلرشاد‪ ،‬ومن هؤالء السبكيان يف اإلهباج؛ حيث إن املندوب مطلوب لثواب اآلخرة‪ ،‬واإلرشاد‬
‫ملنافع الدنيا وال يتعلق به ثواب البتة؛ ألنه فعل متعلق بغرض الفاعل ومصلحة نفسه اإلهباج يف شرح املنهاج‪ .17/2 :‬لكن تُعُقب أبن‬
‫ذلك يبقى خاضعا لنية املكلف‪ ،‬فيثاب إن استصحب نية الثواب‪ ،‬والعكس صحيح‪.‬‬
‫‪ - 5‬أحكام القرآن‪ ،‬البن العريب‪.500/1 :‬‬
‫‪ - 6‬احلج‪.77 :‬‬
‫‪ - 7‬احملرر الوجيز‪ ،‬ابن عطية األندلسي‪.378/1 :‬‬
‫‪25‬‬
‫‪ ،1 ‬كان أحدهم‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬ ‫وقد روي عن الربيع والضحاك واحلسن أنه ملا نزلت‪  :‬‬
‫‪  ‬‬

‫فانطلق إىل غريي‪ ،‬فيقول‪ :‬إنك‬


‫ْ‬ ‫جييء إىل الكاتب فيقول‪ :‬اُكتب ِل‪ :‬فيقول‪ :‬إين مشغول‪ ،‬أو ِل حاجة‪،‬‬

‫أمرت أن تكتب‪ ،‬فال يدعه‪ ،‬ويضاره بذلك‪ ،‬وهو جيد غريه‪...‬‬

‫‪ ،2   ‬فتكون عندهم انسخة ألمر الكتابة‪ ،‬خاصة عند‬
‫‪  ‬‬ ‫فأنزل هللا تعاىل‪  :‬‬
‫‪  ‬‬

‫من قال إن آية الدين مل تنزل دفعة واحدة‪ ،‬لكن التحقيق أن دعوى النسخ حتتاج إىل دليل‪ ،3‬وال دليل يُنقل‬

‫يف هذا األمر‪.‬‬

‫وملالك رمحه هللا اختيار يف تعني الكتابة على الكاتب‪ ،‬حيث ذهب رمحه هللا إىل أهنا فرض كفاية‬

‫على الكاتب‪ ،4‬وهو األصح عند الشافعية‪ ،‬وهذا القول قال به بعض من يرى أن الكتابة ندب وإرشاد‪،‬‬

‫فيطلق على وجوهبا "وجوب ندب"‪.5‬‬

‫ومعىن ذلك أن التوثيق ابلكتابة مندوب للكاتب‪ ،‬أما إذا مل يوجد غريه فيتوجب عليه حينئذ؛ قال‬

‫ابن عطية رمحه هللا‪ :‬وأما إذا أمكن الكتابة فليس جيب الك ْتب على معني وال وجوب الندب‪ ،‬بل له‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪ - 2‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪ - 3‬ينظر‪ :‬التوثيق واإلثبات ابلكتابة يف الفقه اإلسالمي‪ ،‬د حممد مجيل مبارك‪.87 :‬‬
‫‪ - 4‬ينظر املنهج الفائق للونشريسي‪.4/1 :‬‬
‫‪ - 5‬التوثيق واإلثبات ابلكتابة يف الفقه اإلسالمي‪.102 :‬‬
‫‪26‬‬
‫االمتناع إال إن استأجره؛ وأما إذا عدم [(ف حق َد)] الكاتب؛ فيتوجه وجوب الندب حينئذ إىل الاضر‪،‬‬

‫وأما ال َك ْتب على اجلملة فندب ‪.1‬‬

‫هذه خالصة املذاهب يف املسألة‪ ،‬وقد رجح بعض العلماء املعاصرين أن الكتابة واجب كفائي على‬

‫‪.3   ‬‬ ‫الكاتب؛ إال إذا كان له عذر مينعه من الكتابة لقوله تعاىل‪  :‬‬
‫‪2‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬

‫‪ -4‬حكم أخذ الكاتب األجرة على الكتابة‪:‬‬

‫من القضااي اليت اختلف فيها الفقهاء؛ ما يتعلق حبكم أخذ الكاتب األجرة على الكتابة‪ ،‬وذلك‬

‫على مذهبني كبريين حتت كل منهما تفصيل‪:‬‬

‫املذهب األول‪ :‬وهو مذهب مجهور الفقهاء من احلنفية واملالكية والشافعية واحلنابلة؛ الذين أجازوا‬

‫‪    ‬‬ ‫أخذ الكاتب األجرة على كتابته العقود‪ ،‬واستدلوا لذلك بعموم قوله تعاىل‪ :‬‬

‫‪ ،4‬فالفعل املبين للمجهول يف "يضار" داللته جمملة حتتمل أن يقع الضرر على الكاتب والشهيد (يضارْر‬

‫كاتب وال شهيد)‪ ،‬وحتتمل أن يكون الضرر واقعا منهما على غريمها (يُضارْر كاتب وال شهيد)‪ ،‬ووجه‬
‫ٌ‬
‫االستدالل ابآلية‪ :‬أن من وجوه املضارة ابلكاتب مطالبته ابلكتابة من غري عوض‪ ،‬وقد يستغرق ذلك وقتا‬

‫طويال من حياته إذا كان ميارسها ابستمرار‪.‬‬

‫‪ - 1‬احملرر الوجيز‪.361/2 :‬‬


‫‪ - 2‬التوثيق واإلثبات ابلكتابة يف الفقه اإلسالمي‪.103 :‬‬
‫‪ - 3‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪ - 4‬البقرة‪.282 :‬‬
‫‪27‬‬
‫وقد نُقل عن مالك فتوى يف الباب‪ ،‬أفاد منها املالكية قوله جبواز أخذ الكاتب لألجرة على الكتابة‪،‬‬

‫خاصة أنه ممن يرى أن الكتابة من فروض الكفاية؛ ففي املدونة‪ :‬ولقد سئل مالك عن القوم يكون هلم‬

‫عند الرجل املال فيستأجرون رجال يكتب بينهم الكتاب ويتوثق هلم مجيعا‪ ،‬على من تَرى جعل ذلك؟‬

‫قال‪ :‬أراه بينهم ‪.1‬‬

‫فلم يتعرض حلكم أجرته؛ بل سلم هبا وجعلها بني أطراف العقد‪ .‬ومما ذكره بعض الشافعية يف الباب‬

‫"وال يلزم الشاهد كتابة الصك ورسم الشهادة إال أبجرة فله أخذها"‪.2‬‬

‫‪ -‬تسمية أجرة الكاتب من عدمها‪:‬‬

‫إذا جرى تسمية األجرة بني املوثق (الكاتب) وأطراف املداينة‪ ،‬فهي إجارة جارية على األصل‬

‫الصحيح‪ ،‬وجتوز مبا يُتفق عليه قليال ؛كان أو كثريا‪ ،‬وأما إذا اضطر املكتوب له إىل الكاتب؛ ألنه مل جيد‬

‫غريه‪ ،‬فال جيوز له (املوثق) أن أيخذ فوق ما يستحق؛ فإن غاىل يف األجرة عُد ذلك جرحة يف حقه‪ ،‬ألنه‬

‫قد تعني عليه القيام بذلك من غري إضرار"‪.3‬‬

‫سم األجرة بني الطرفني ففي ختريج ذلك وجهان‪:‬‬


‫أما إذا مل تُ َّ‬

‫‪ - 1‬املدونة الكربى‪.518/5 :‬‬


‫‪ - 2‬مغين احملتاج‪ ،‬اخلطيب الشربيين الشافعي‪.450/4 :‬‬
‫‪ - 3‬تنبيه احلكام‪ ،‬ابن املناصف‪ :‬ورقة ‪.40‬‬
‫‪28‬‬
‫‪ -‬أحدمها‪ :‬أنه إذا جهلت األجرة‪ ،‬فهذا ليس من ابب اإلجارة ألن اإلجارة يكون فيها العوض‬

‫معلوما‪ ،‬وهو كذلك ليس من ابب اهلبة املطلقة‪ ،‬ألن املوثق يقصد أخذ عوض عن عمله؛ فلم يبق إال‬

‫أن يكون ما أيخذه املوثق من ابب هبة الثواب‪ ،‬وهو ختريج ذكره ابن املناصف يف تنبيه الكام‪.1‬‬

‫‪ -‬والوجه الثاين لتخريج املسألة عند عدم تسمية األجرة‪ :‬أهنا إجارة صحيحة‪ ،‬ويرجع يف تقديرها‬

‫إىل هبة املثل‪ ،‬وهو التوجيه الذي اختاره مجهور الفقهاء‪ ،‬وهو راجع إىل حتكيم العادة والعرف فيما مل‬

‫يسم فيه لإلجارة عوض‪ ،‬وإليه نبه سلطان العلماء؛ العز بن عبد السالم رمحه هللا بقوله‪ :‬إن الصناع‬

‫الذين جرت العادة أال يعملوا إال أبجرة إذا صنعوا ألحد شيئا بال تسمية (‪ )...‬فاألصح أهنم يستحقون‬

‫من األجرة ما جرت به العادة لداللة العرف على ذلك ‪.2‬‬

‫وقد حكم الفقهاء أجرة املثل يف أبواب اإلجارة‪ ،‬كما َّ‬


‫حكموا صداق املثل ومتعة املثل‪ ،‬فكل ذلك‬

‫راجع إىل اعتبار العرف اجلاري يف مثل تلك املسائل‪.‬‬

‫* املذهب الثاين‪ :‬وهو القائل بعدم جواز أخذ األجرة على الكتابة‪ ،‬وممن قال هبذا القول بعض‬

‫املالكية –وإن كانوا قلة‪ -‬وعلى وجه التحديد اثنان من فقهاء املالكية ومها اإلمام الرجراجي رمحه هللا (ت‬

‫‪633‬ه ) واإلمام لسان الدين بن اخلطيب املالكي رمحه هللا ولكل منهما أدلته‪.‬‬

‫‪ - 1‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪ - 2‬قواعد األحكام يف مصاحل األانم‪ ،‬العز بن عبد السالم‪.130/2:‬‬
‫‪29‬‬
‫وقد انبىن عندمها القول ابملنع –يف جزء منه‪ -‬على أن ذلك العمل –الكتابة‪ -‬واجب وقربة إىل هللا‬

‫تعاىل‪ ،‬فال جيوز أخذ األجرة عليه؛ بل حيتسب ذلك عند هللا تعاىل "‪.1"     ‬‬

‫فأما اإلمام الرجراجي رمحه هللا فقد َّبني يف مناهج التحصيل القول ابملنع وهو مييز فيه بني أمرين‪:‬‬

‫أ‪ -‬الكتابة اجملردة‪ :‬وهذه عنده إجارة صحيحة ال لبس فيها‪.‬‬

‫ب‪ -‬الكتابة املقرونة ابلشهادة‪ :‬وهي عنده مما ال جيوز أخذ األجرة عليه‪ ،‬ووجه املنع عنده يف بيع‬

‫الشهادة‪ ،‬إذ بيعها ممنوع‪ ،‬ويف امتزاجها ابلكتابة امتزاج املباح ابملمنوع ويف ذلك قال‪" :‬إن كان يكتب‬

‫الوثيقة وال يشهد فيها فال إشكال يف جواز أخذ األجرة على ذلك‪ ،‬وإن كان يكتب الوثيقة ويشهد‬

‫فيها‪ ،‬وقد استمر عملهم يف مشارق األرض ومغارهبا على أخذ األجرة على ذلك‪ ،‬واختذوا لذلك يف‬

‫أمهات البلدان أسواقا جيلسون فيها لبيع الشهادة‪ ،‬ورأوا ذلك من أطيب املباحات‪ ،‬وليت شعري من‬

‫أين أخذوا ذلك؟ هل وجدوا نصا لإلمام أيب عبد هللا مالك بن أنس رضي هللا عنه؟ أو ألحد من‬

‫أصحابه أو غريهم؟ هيهات هيهات لغريق يتعلق أبرجل الضفادع"‪.2‬‬

‫وقد انربى بعض املالكية للرد على اإلمام أيب احلسن الرجراجي فيما ذهب إليه من القول بعدم جواز‬

‫أخذ األجرة على الكتابة يف حال اقرتاهنا ابلشهادة‪ ،‬وممن رد عليه أحد املعاصرين له وهو اإلمام ابن بري‬

‫رمحه هللا ‪ ،‬فيما ذكره الونشريسي يف املنهج الفائق؛ ومما ذكره – أي ابن بري رمحه هللا ‪ -‬أن انتشار املوثقني‬

‫‪ - 1‬القصص‪.60:‬‬
‫‪ - 2‬مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل يف شرح مشكالت املدونة‪ ،‬اإلمام الرجراجي‪( 203/9 :‬بتصرف)‪،‬وينظر مثلى الطريقة يف‬
‫ذم الوثيقة للسان الدين بن اخلطيب‪.86-85 :‬‬
‫‪30‬‬
‫الذين يكتبون ويشهدون –وهو الذي ينكره اإلمام الرجراجي‪ -‬يُعد يف احلقيقة حجة جميزة‪" ،‬ألنه لو كان‬

‫حراما‪ ،‬ملا جاز تواطؤ أهل األرض عليه؛ مع وجود العلماء ومواالة املوثقني للقضاة والفقهاء‪ ،‬وال نكري‬

‫منهم"‪.1‬‬

‫وقد نبه العلماء إىل أن الذي يكتب فقط وال يشهد ال يقصده الناس عادة‪ ،‬وهو راجع إىل ما يرتتب‬

‫عن أمر الكتابة وأمر الشهادة من املشقة عند وجودمها متفرقتني‪ ،‬فالناس عادة تقصد من جيمع بينهما‬

‫وقلما تقصد من يفرق؛ وهو ما فيه ضرر للكتاب املستقلني‪.‬‬

‫على أن بعض املذاهب كالشافعية واحلنابلة مل يروا أبسا أبخذ األجرة على الشهادة وحدها؛ فال‬

‫إشكال عندهم فيما ذكره اإلمام الرجراجي رمحه هللا‪ ،‬وهذا اخلالف غري معنيني به أصال‪.‬‬

‫أما لسان الدين بن اخلطيب رمحه هللا (ت ‪ 776‬ه ) فقد ابلغ يف مسألة املنع من أخذ األجرة على‬

‫الكتابة مطلقا؛ سواء كانت مقرونة ابلشهادة أم ال‪ ،‬واستند يف اختياره إىل ثالثة من األدلة‪:‬‬

‫‪ -‬أوهلا‪ :‬أن بعض العلماء قالوا أبن األمر ابلكتابة واجب؛ سواء وجوب عني أو وجوب كفاية‪،‬‬

‫والواجب ال يؤخذ على أدائه أجر‪ ،‬وخرجها ابن اخلطيب على قاعدة فقهية وهي أن "ما أوجب تعاىل على‬

‫عبده ال جيوز أخذ األجرة عليه" ومن هذا القبيل إنقاذ الغرقى وشبهه"‪.2‬‬

‫‪ - 1‬ينظر املنهج الفائق للونشريسي‪.29/1 :‬‬


‫‪ - 2‬مثلى الطريقة يف ذم الوثيقة‪ ،‬البن اخلطيب‪.86 :‬‬
‫‪31‬‬
‫وقد أجاب العلماء على أن الراجح يف األمر ابلكتابة الوارد يف آية الدين أنه لإلرشاد والندب وليس‬

‫للوجوب "والصحيح أنه أمر إرشاد‪ ،‬وفال يكتب حىت أيخذ حقه"‪ 1‬فيفهم منه أن اجلواز يف أخذ األجرة‬

‫متفرع على كونه أمرا مفيدا لإلرشاد‪ ،‬وأن القول ابلوجوب يرتتب عنه عدم جواز أخذ األجرة على الكتابة‪.‬‬

‫قال إلكيا اهلراس‪" :‬ولو كانت الكتابة واجبة ملا صح االستئجار عليها‪ ،‬ألن اإلجارة على فعل‬

‫الواجبات ابطلة‪ ،‬ومل خيتلف العلماء على جواز أخذ األجرة على كتب الوثيقة"‪.2‬‬

‫ومما تعقب به بعض العلماء قول ابن اخلطيب؛ أن املالكية يفرقون بني الفعل املتعني وغري املتعني‪،‬‬

‫فاملتعني كالفروض العينية؛ فهذا ال جيوز تقاضي األجرة عليه‪ ،‬وكذا املندوابت كالصلوات والصيام‪ ،‬إذ ال‬

‫جيوز اإلجارة عليها‪ ،‬غري أهنم أجازوا اإلجارة على بعض املندوابت من غري الصالة ؛كالقراءة والذكر‪...‬‬

‫وأما غري املتعني فهو فرض كفاية كتغسيل امليت ودفنه وهذا قد أجازوا فيه اإلجارة‪ ،‬ويلحق به تعليم‬

‫القرآن الذي هو من فروض الكفاية‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬من أدلة ابن اخلطيب‪ :‬أن أخذ األجرة على الكتابة دون الشهادة على فرض جوازه‪ ،‬هو‬

‫حمل شبهة المتزاجهما‪ ،‬والورع واالحتياط يقتضيان التنزه عن الشبهات"‪ ،3‬نظرا لعدم متحض الكتابة‪.‬‬

‫‪ - 1‬أحكام القرآن‪ :‬ابن العريب‪.210/2 :‬‬


‫‪ - 2‬أحكام القرآن‪ ،‬إلكيا اهلراس‪.368-367/1 :‬‬
‫‪ - 3‬مثلى الطريقة يف ذم الوثيقة‪ ،‬البن اخلطيب‪.86 :‬‬
‫‪32‬‬
‫والثالث‪ :‬من أدلته‪ :‬أن مفهوم األدلة (أي مفهومها املخالف) دال على أنه ال جيوز أخذ األجرة‬

‫على الكتابة‪...‬لكن عند النظر يف هذا الدليل بني العلماء أنه راجع إىل األول وهو أن الواجب ال‬

‫يؤخذ عنه أجرة‪.1‬‬

‫شروط الكاتب‪:‬‬

‫يطلق مصطلح "كاتب الواثئق" أو العدل" أو املوثق" على من يتوىل كتابة العقود وحتريرها بني‬

‫الناس‪ ،‬وتسمى هذه الوظيفة‪" :‬التوثيق" و "العدالة" "وكتابة الشروط" وهذه الوظيفة اتبعة للقضاء‪ ،‬ألن‬

‫العدل ال يتوىل ذلك إال بعد إذن القاضي‪ ،‬ومسيت الوظيفة ابلعدالة ألن العدالة شرط أساس فيها‪ .‬قال ابن‬

‫خلدون وحقيقة هذه الوظيفة‪ :‬القيام على إذن القاضي ابلشهادة بني الناس فيما هلم وعليهم حتمال عند‬

‫الشهادة‪ ،‬وأداء عند التنازع‪ ،‬وكْتبا يف السجالت‪ ،‬حتفظ به حقوق الناس وأمالكهم وديوهنم وسائر‬

‫معامالهتم ‪.2‬‬

‫شروط املوثق‪:‬‬

‫ميز العلماء يف املوثق بني املوثق املنتصب واملوثق غري املنتصب‪:‬‬


‫ُ‬ ‫ُ‬

‫‪ - 1‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪ - 2‬املقدمة‪.635/8 :‬‬
‫‪33‬‬
‫أ‪ -‬املوثق غري املنتصب‪ :‬وقد نص بعض الفقهاء على جواز كتابة من ليس منتصبا هلا؛ أي من‬

‫ليس خمتصا هبا‪ ،‬ومن هؤالء اإلمام ابن عطية األندلسي رمحه هللا تعاىل إذ يقول‪" :‬وقد يكتبها الصيب والعبد‬

‫واملسخوط إذا أقاموا فقهها"‪.1‬‬

‫ب‪ -‬املوثق ح‬
‫املنتصب‪ :‬نص بعض العلماء على شروط املوثق املنتصب‪ ،‬غري أهنم اختلفوا يف حصرها‬

‫وعدها؛ فذكر ابن الغرانطي أبو إسحاق إبراهيم ابن أمحد (ت ‪ 751‬ه ) يف الغرانطية (وَثئق الغرانطي)‬

‫أهنا عشرة؛ وذلك "أبن يكون مسلما‪ ،‬عاقال‪ ،‬جمتنبا للمعاصي‪ ،‬مسيعا‪ ،‬بصريا‪ ،‬متكلما يقظا‪ ،‬عاملا بفقه‬

‫الوَثئق‪ ،‬ساملا من اللحن‪ ،‬وأن تصدر عنه خبط واضح‪ ،‬يقرأ بسرعة وسهولة‪ ،‬وأبلفاظ نية غري حمتملة‪ ،‬وال‬

‫جمهولة"‪.2‬‬

‫وقال ابن بري‪ :‬وزاد غري الغرانطي أن يكون عاملا ابلرتسيل‪.4 3‬‬

‫وزاد بعضهم‪ :‬أن يكون له علم من اللغة وعلم الفرائض واحلساب والشيات‪ ،5‬ويف تنبيه احلُكام على‬

‫مآخذ األحكام البن املناصف قال‪» :‬وال ينبغي أن ينتصب لكتابة الوَثئق إال العلماء العدول‪ ،‬كما قال‬

‫مالك رمحه هللا تعاىل‪" :‬ال يكتب الوَثئق بني الناس إال عارف مأمون يف نفسه على ما يكتب‪ ،‬لقوله تعاىل‬

‫‪ - 1‬احملرر الوجيز‪.377/1:‬‬
‫‪ - 2‬ينظر املنهج الفائق للونشريسي‪63/1 :‬‬
‫‪ - 3‬الرتسيل العلم الذي يذكر فيه أحوال الكاتب واملكتوب إليه من حيث اآلداب واألحوال واالصطالحات اخلاصة بكل طائفة‪.‬‬
‫‪ - 4‬املنهج الفائق للونشريسي‪.63/1 :‬‬
‫‪ - 5‬الشيات‪(:‬ج شية) كل لون خيالف معظم لون الفرس‪ ،‬وقيل هي بياض يف سواد أو سواد يف بياض‪ ،‬قال ابن منظور يف اللسان‪ ":‬ال‬
‫شية فيها؛ أي ليس فيها لون خيالف سائر لوهنا" لسان العرب‪ .392-391/15:‬وقال ابن عطية عند تفسريه لقوله تعاىل‪:‬ال شية‬
‫فيها‪ " :‬ال شية فيها " أي ال خالف يف لوهنا‪ :‬هي صفراء كلها؛ ال بياض فيها وال محرة وال سوداء" احملرر الوجيز‪.144/1:‬‬
‫‪34‬‬
‫ وال يقف على فقه الوثيقة فال‬،‫ وأما من ال حيسن وجوه الكتابة‬،       

‫ وكذلك إذا كان عاملا‬،‫ لئال يفسد على الناس كثريا من معامالهتم‬،‫ينبغي أن ُمي َّكن من االنتصاب لذلك‬

.1 ‫ فال ينبغي أن ميكن من االنتصاب لذلك‬،‫بوجوه الكتابة إال أنه ُمتهم يف دينه‬

.2‫واختصر بعضهم هذه الشروط يف اإلسالم والعدالة وإتقان الصنعة‬

:‫شروط املوثق على التفصيل‬

‫ وهو شرط يف وجه عند‬،‫ وهو شرط عند مجهور الفقهاء من احلنفية واملالكية واحلنابلة‬:‫ اإلسالم‬-1

.‫ واألثر واملعقول‬،‫ واستدلوا لذلك بنصوص الكتب والسنة‬،‫الشافعية‬

             :‫فأما من الكتاب فقوله تعاىل‬

                    

 
 
 
 
 
  
  
  
  
 
 
 
 
 
 
 
    
  
    :‫ وقوله تعاىل‬،3

.4    

.‫ بتقريبهم واطالعهم على أحوال املسلمني أمر غري جائز‬،‫ووجه الداللة أن اختاذ الكافرين أولياء‬

.75 /1 :‫ راجع املنهج الفائق للونشريسي‬- 1


.131:‫ د حممد مجيل مبارك‬،‫ التوثيق واإلثبات ابلكتابة يف الفقه اإلسالمي‬- 2
.118:‫ آل عمران‬- 3
.01:‫ املمتحنة‬- 4
35
‫وأما الدليل من السنة فما رواه البخاري بسنده إىل أيب سعيد اخلدري رضي هللا تعاىل عنه؛ عن النيب‬

‫صلى هللا عليه وسلم أنه قال‪ :‬ما بعث هللا من نيب وال استخلف من خليفة إال كان له بطانتان‪ ،‬بطانة‬

‫تدعوه إىل اخلري وحتضه عليه‪ ،‬وبطانة تدعوه إىل الشر وحتضه عليه واملعصوم من عصم هللا ‪.1‬‬

‫اَّللُ عْنهُ ‪ :‬أ َّن عُمر رضى َّ‬


‫اَّللُ عْنهُ أمرهُ أ ْن ي ْرفع إلْيه ما أخذ وما‬ ‫ويف األثر ع ْن أِب ُموسى رضى َّ‬

‫اَّللُ عْنهُ وقال إ َّن‬


‫صرانى ي ْرف ُع إلْيه ذلك ف عجب عُم ُر رضى َّ‬
‫بن ْ‬
‫أ ْعطى ِف أدمي واحد‪ ،‬وكان ألِب ُموسى كات ٌ‬
‫ظ‪ ،‬وقال إ َّن لنا كت ًااب ِف الْم ْسجد وكان جاء من الشَّام ف ْادعُهُ ف ْلي ْقرأْ قال أبُو ُموسى ‪ :‬إنَّهُ ال‬
‫هذا حلاف ٌ‬

‫صرانى قال فانْت هرن‬


‫ب ُهو؟ قال ال ب ْل ن ْ‬
‫اَّللُ عْنهُ ‪ :‬أ ُجنُ ٌ‬
‫يع أ ْن ي ْد ُخل الْم ْسجد‪ .‬ف قال عُم ُر رضى َّ‬
‫ي ْستط ُ‬

‫وضرب فخذي وقال أ ْخر ْجهُ وق رأ‪  :‬اي أ يها الَّذين آمنُوا ال ت تَّخ ُذوا الْي ُهود والنَّصارى أ ْولياء ب ْع ُ‬
‫ض ُه ْم أ ْولياءُ‬
‫اَّلل ما ت ولَّْي تُهُ إَّمنا‬ ‫ب ْعض وم ْن ي ت وَّهلُْم مْن ُك ْم فإنَّهُ مْن ُه ْم إ َّن َّ‬
‫اَّلل ال ي ْهدى الْق ْوم الظَّالمني‪ ‬قال أبُو ُموسى و َّ‬

‫اَّللُ وال أتْمنُ ُه ْم إ ْذ أخاهنُُم‬


‫اه ُم َّ‬
‫ب لك ال تُ ْدهن ْم إ ْذ أقْص ُ‬
‫ب قال أما وج ْدت ِف أ ْهل اإل ْسالم م ْن يكْتُ ُ‬
‫كان يكْتُ ُ‬
‫اَّللُ وال تُعَّزُه ْم ب ْعد إ ْذ أذ َّهلُُم َّ‬
‫اَّللُ فأ ْخرجهُ«‪.2‬‬ ‫َّ‬

‫وأما دليل العقل‪ :‬فإن الكاتب املوثق أمني‪ ،‬والبد أن يكتب ابلعدل‪ ،‬والكافر ال يؤمتن على حقوق‬

‫املسلمني خاصة أهنم (أي الكفار) يتحينون كل فرصة ليفسدوا أمور املسلمني‪.‬‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب القدر‪ ،‬ابب من عصم هللا‪ ،‬برقم‪.6237:‬‬


‫‪ - 2‬السنن الكربى للبيهقي‪ ،‬كتاب آداب القاضي‪ ،‬ابب ال يتخذ كاتبا ألمور الناس‪ ،‬برقم‪.20911:‬‬
‫‪36‬‬
‫* املذهب الثاين‪ :‬وهو رأي الشافعية يف الوجه الثاين‪ ،‬إذ مل يشرتطوا يف املوثق اإلسالم‪ ،‬بل جعلوا‬

‫ذلك مستحبا‪ ،‬حيث قالوا‪ :‬إن الكاتب ال يستقل هبذا األمر‪ ،‬بل إن ما يكتبه يطلع عليه القاضي قبل أن‬

‫ميضيه‪ ،‬فعندئذ تؤمن خيانته‪.‬‬

‫لكن أجيب أبن القاضي قد يشتغل عن الكاتب يف مساع القضااي واحلكم بني الناس‪ ،‬مما جيعل‬

‫للكافر فرصة للخيانة والظلم‪ ،‬والراجح ما ذهب إليه اجلمهور‪.‬‬

‫‪ -2‬العقل‪ :‬وقصدهم بذلك عقل التكليف ال عقل التمييز‪ ،‬ألن غري العاقل ليس له والية على‬

‫ماله فكيف له أن يكتب بني الناس؟‬

‫العدالة‪ :‬واملقصود هبا استواء أحوال الكاتب يف دينه‪ ،‬واعتدال أقواله وأفعاله وأحواله‪ ،‬وقيل‬ ‫‪-3‬‬

‫العدل من ال تظهر منه ريبة‪ ،‬وهبذا تكون العدالة صفة حتمل صاحبها عن كل ما يشينه شرعا‪ ،1‬سواء يف‬

‫ذلك ارتكاب الكبائر أو اإلصرار على الصغائر‪.‬‬

‫وقد اختلف الفقهاء يف اشرتاط العدالة يف املوثق على مذهبني‪:‬‬

‫‪ - 1‬ذكر الونشريسي يف املنهج فتوى ابن عتاب رمحه هللا‪« :‬أنه سئل عن رجل ينتمي إىل الفقه‪ ،‬توسل إىل بعض خدمة السلطان راغبا‬
‫أن تُقصر عقود الوَثئق عليه؛ فأجابه السلطان إىل ذلك‪ ،‬وعهد من ببلده أال يقصد أح ٌد وثيقة إال عند هذا الرجل املتفقه؛ فهل جتوز‬
‫شهادته وإمامته؛ إذ هو إمام؟ فأجاب رمحه هللا‪ :‬ال كثَّر هللا أمثال هذا الفقيه‪ ،‬إذ طلب ما ال حيل له فال جتوز شهادته وال إمامته» املنهج‬
‫الفائق‪ ،‬الونشريسي‪.65/1:‬‬
‫‪37‬‬
‫املذهب األول‪ :‬مذهب اجلمهور من النفية واملالكية والشافعية والنابلة ووجه للشافعية؛ أن‬

‫العدالة شرط يف املوثق‪ ،‬وعمدهتم يف ذلك آية الدين يف قوله تعاىل‪:‬‬


‫‪    ‬‬

‫‪ ،‬وألن الكاتب مؤمتن على احلقوق والبينات واإلقرارات فافتقر لزوما إىل ما يشرتط يف الشهود من شرط‬

‫العدالة‪.‬‬

‫املذهب الثاين‪ :‬وهو اختيار بعض الشافعية يف الوجه الثاين‪ ،‬حيث ذهبوا إىل عدم اشَتاط العدالة‬

‫‪ ،‬بل قالوا ابستحباهبا فقط‪ ،‬وحجتهم يف ذلك أن الكاتب ال يكتب إال بعد اطالع القاضي عليه وإمضائه‬

‫لكن أجيب عنه أبن القاضي قد ينشغل عن ذلك ابحلكم بني الناس والنظر يف أقضيتهم‪.‬‬
‫له؛ فتؤمن خيانته‪ْ ،‬‬
‫والراجح ما ذهب إليه اجلمهور من اشَتاط العدالة حفظا لقوق الناس وصوان ملصالهم‪.‬‬

‫الرية‪ :‬والفقهاء يف اشَتاطها على مذهبني‪:‬‬ ‫‪-4‬‬

‫املذهب األول‪ :‬مذهب اجلمهور من النفية واملالكية والشافعية الذين ذهبوا إىل اشَتاطها يف‬

‫املوثق‪ ،‬وعللوا ذلك أبن العبيد حمط احتقار الناس‪ ،‬ورمبا أثر ذلك فيما يثبتونه من احلقوق عند توليهم‬

‫للكتابة‪ ،‬والذي يتوىل الكتابة ينبغي أن يكون حمط تقدير الناس‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫املذهب الثاين‪ :‬وهو مذهب النابلة حيث ذهبوا إىل أهنا ليست شرطا يف الكاتب‪ ،‬غري أهنم قالوا‬

‫ابستحباهبا فيه‪ ،‬فأجازوا اختاذ العبد كاتبا‪ ،‬وقاسوا كتابته على شهادته‪ ،‬فيما ذكره ابن املناصف يف تنبيه‬

‫احلكام‪.1‬‬

‫الفقه يف علم الشروط خاصة‪.‬‬ ‫‪-5‬‬

‫وهو شرط البد منه لتكون العقود صحيحة‪ ،‬ومقتضى هذا الشرط أن يكون فقيها يف الشروط‬

‫خاصة؛ ال يف كل أحكام الفقه عامة‪ ،‬فذلك مستحب‪ ،‬والفرض من ذلك أن حيرر الوَثئق ساملة من‬

‫العيوب والطعون اليت قد تؤدي إىل رفض االحتجاج هبا‪ ،‬وجممل ما حيقق السالمة من العيوب أمور منها‪:‬‬

‫التنبه ملعاين الكلمات اليت يستخدمها املوثق يف الوثيقة‪ ،‬وذلك أبن يكتب بلغة سليمة‬ ‫‪-‬‬

‫مفهومة‪ ،‬بعيدة عن اإلمجال أو االحتمال أو اإلهبام‪.‬‬

‫التحرز مما من شأنه أن يلحق الضرر أبحد األطراف‪ ،‬كتقييد موضع اإلطالق أو اإلطالق‬ ‫‪-‬‬

‫يف موضع التقييد‪.‬‬

‫معرفة الوَثئق وأحكامها‪ ،‬حىت يتمكن من حتقيق الشروط اليت اشرتاطها الشارع احلكيم يف‬ ‫‪-‬‬

‫الكتابة ‪ ،‬وهي أن تكون ابلعدل؛ وألن جهله ابلشروط مفسد ملا يكتبه ال حمالة‪ ،‬مضيع حلقوق الناس‪،‬‬

‫مفض للتنازع بينهم‪ ،‬وهو خالف ما أقيمت الوثيقة لتحقيقيه‪.‬‬

‫عفة النفس والنزاهة عن الرام‪:‬‬ ‫‪-6‬‬

‫‪ - 1‬تنبيه احلكام‪ ،‬ابن املناصف‪ :‬ورقة‪.39:‬‬


‫‪39‬‬
‫اشرتط الفقهاء يف املوثق النزاهة وعفة النفس عن الطمع‪ ،‬حىت ال تقد الرشاوي أو اهلدااي مما من‬

‫‪  ‬‬ ‫شأنه أن يتبب يف ضياع حقوق الناس‪ ،‬واستدلوا يف هذا الباب بقوله تعاىل‪:‬‬

‫‪،1    ‬‬


‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪    ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬

‫فالنهي يف اآلية عن إعطاء احلكام الرشوة ‪ ،‬ويقاس عليهم من يكون هلم عوان على واليتهم يف شىت‬

‫الوظائف كالقضاة والكتاب‪ ...‬كما استدلوا حبديث رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬من استعملناه على‬

‫عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول ‪.2‬‬

‫بعض ما يستحب للكاتب من الصفات والشروط‬

‫استحب الفقهاء للكاتب املوثق أمورا منها‪:‬‬

‫أن يكون وافر العقل‪ :‬ووفور العقل أن يكون جزل الرأي سديد التحصيل‪ ،‬حسن الفطنة‪،‬‬ ‫‪-1‬‬

‫سريع البديهة‪ ،‬حىت ال ُخيدع أو يُدلس عليه‪.‬‬

‫أن يكون فقيها بصفة عامة‪ ،‬واملراد بنوع الفقه ههنا ما يزيد على الفقه املطلوب بعلم‬ ‫‪-2‬‬

‫الشروط املشار إليه سابقا‪ ،‬وذلك حىت يكون له علم بصحة ما يكتب من بطالنه‪.‬‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.188:‬‬
‫‪ - 2‬املستدرك على الصحيحني‪ ،‬للحاكم النيسابوري‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬برقم ‪ ،1472‬وقال عنه هذا حديث صحيح على شرط الشيخني‬
‫ومل خيرجاه‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫أن يكون واضح اخلط جيده‪ ،‬مع ضبطه للحروف‪ ،‬وكان عمر بن عبد العزيز يقول وقد‬ ‫‪-3‬‬

‫كتب لعماله‪ :‬إذا كتبتم فأرقوا األقالم وأقلوا الكالم‪ ،‬واقتصروا على املعاين‪ ،‬وقاربوا بني احلروف‪ ،‬فإن أجود‬
‫‪1‬‬
‫اخلط أبينه‪ ،‬كما أن القراءة أجودها أبينها‬

‫فال يرتك فسحة ميكن إحلاق شيء فيها‪ ،‬ومن ذلك أن مييز بني املتشابه أو املتقارب رمسا‪ ،‬كأن مييز‬

‫بني السبعة والتسعة‪ ،‬ويعني ما قد يتطرق إليه االحتمال‪ ،‬كأن يكون املبلغ مائة‪ ،‬فإهنا يذكر بعدها نصفها‬

‫وهو َخسون‪ ،‬فيقول‪ ":‬مائة اليت نصفها َخسون"‪.‬‬

‫أن يكون ملما ابلعربية حىت ال خيطئ يف الكتابة‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫أن جيلس يف مكان مناسب حىت يتمكن من رؤية ما يكتب بيسر وسهولة‪ ،‬ويكون يف مكان يسهل‬

‫على القاضي أن يراه‪ ،‬كما ينبه على ذلك اإلمام الكاساين رمحه هللا بقوله‪ :‬وينبغي أن يقعد‬
‫‪2‬‬
‫الكاتب حيث يرى ما يكتب وما يصنع فان ذلك أقرب إىل االحتياط‬

‫أن يكون عاملا بلغات اخلصوم‪ ،‬غري مفتقر إىل ترمجان‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫أن يكون ملما ابحلساب ليتمكن من قسمة املواريث‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫أن يتجنب معاشرة األراذل واألسافل من الناس؛ ألن ذلك حيط من قدره‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫أال يكتب يف بلد سافر إليه حديثا حىت يفهم لغة القوم‪ ،‬واصطالحاهتم وأعرافهم يف‬ ‫‪-4‬‬

‫التخاطب والتعامل‪...‬‬

‫‪ - 1‬املنهج الفائق‪ ،‬الونشريسي‪.84/1:‬‬


‫‪ - 2‬بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع‪.31/9:‬‬

‫‪41‬‬
‫وقد نقل اإلمام الونشريسي يف املنهج الفائق أقوال بعض من أمجل ما ينبغي للموثق من اآلداب‪،‬‬

‫فذكر قول ابن عفيون‪ 1‬رمحه هللا‪ :‬اعلم وفقنا هللا وإايك أن املتعرض هلذه الصناعة البد له من آلة جيمعها‪،‬‬

‫وأدوات حيسنها فأوهلا‪ :‬حسن اخلط وإقامة اهلجاء‪ ،‬ووضوح احلرف على أحسن صورها‪ ،‬حىت ال يدخل يف‬

‫ألفاظ الوثيقة إشكال‪ ،‬وال يتصور يف شيء منها احتمال‪ ،‬وال سيما يف التواريخ وعند ذكر األعداد‪ ،‬وهي‬

‫آكدها‪ ،‬وأحوجها إىل البيان‪ ،‬والعرب تقول‪ " :‬اخلط أحد اللسانني وحسنه إحدى الفصاحتني (‪ )...‬وقال‬

‫علي بن عبيد‪ ":‬حسن اخلط لسان اليد وهبجة الضمري ‪. 2‬‬

‫بعض ما ينبغي أن حيَتز منه الكاتب املوثق‪.‬‬

‫نص علماء الشروط على مجلة حماذير‪ 3‬ينبغي للكاتب املوثق االحرتاز منها ومن ذلك‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫أن حيرتز من مواضع زايدة األحرف‪( 4‬كأن يذكر أن له عند ألف درهم‪ ،‬ومل يذكر نصفها‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫ف" التثنية فتصري ضعف العدد املعقود عليه‪ ،‬تصري‬


‫فإنه ميكن أن تزاد يف آخر كلمة "ألْف"‪" ،‬ايء" أو "أل ُ‬
‫"ألفي" أو "ألْفا" درهم‪ ،‬ولذلك يُدفع هذا بذكر نصف األلف وهو َخسمائة‪.‬‬

‫تفقد حواشي الوثيقة فقد يبقى منها ما ميكن أن يُزاد فيه ما يغري حكم ما يف الكتاب كله‬ ‫‪-‬‬

‫أو بعضه‪ ،5‬وقد ذكر القرايف يف اإلحكام يف متييز الفتاوى عن األحكام بعض ما وقع لبعض أهل الفضل‬

‫‪ - 1‬وهو أبو عبد هللا حممد بن أيب بكر ابن عفيون الغافقي الشاطيب أحد علماء الشروط‪ ،‬تويف بعد (‪584‬ه)املنهج الفائق‪،‬‬
‫الونشريسي‪.84/1:‬‬
‫‪ - 2‬ينظر املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.83-82/1 :‬‬
‫‪ - 3‬ذكر مجلة هذه احملاذير الونشريسي يف املنهج الفائق‪.184-164/1:‬‬
‫‪ - 4‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.165/1:‬‬
‫‪ - 5‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.166/1 :‬‬
‫‪42‬‬
‫صلح‪،‬‬
‫بياضا خاليًا أ ْن ي ُسدَّه مبا ي ُ‬
‫من احلرج يف هذا فقال‪ :‬ينبغي للمفيت إذا وجد يف آخر السطر خل ًال أو ً‬
‫بعض العلماء‬
‫صل للباطل والتتميم‪ .‬وقد استُفيت ُ‬
‫فإنه ذريعةٌ عظيمةٌ للطعن على العلماء املفتني‪ ،‬وذريعةٌ للتو ي‬

‫بياضا‪ ،‬مث قال‪ :‬وابن عم‪،‬‬


‫الكاتب يف آخر السطر ً‬
‫ُ‬ ‫أخا ألُم‪ ،‬وترك‬
‫املشهورين عن رجل مات وترك أ ًُّما و ً‬
‫فكتب املفيت‪ :‬لألُم الثلث‪ ،‬ولألخ لألم السدس‪ ،‬والباقي البن العم‪ ،‬فلما أخذ املستفيت ال ُفتيا كتب يف ذلك‬

‫فالان كيف حجب األب اببن العم‪ ،‬فقال له‬


‫البياض‪ :‬و ًأاب‪ ،‬مث د َّور ال ُفتيا على الناس ابل ُكوفة وقال‪ :‬انظروا ً‬

‫هل هذا‪ ،‬فقال‪ :‬هذا خطيه شاه ٌد عليه‪ ،‬فوقع ْ‬


‫ت فتنةُ عظيمةٌ بني فئتني عظيمتني من‬ ‫أصحابُه‪ ،‬مثلُه ما جي ُ‬
‫الفقهاء‪.1‬‬

‫فينبغي للمفيت أن حيذر من مثل هذا‪ ،‬وأن ي ُس َّد البياضات كما يفعل َّ‬
‫الوراقون يف ُكتب األحباس‬

‫انقصا يف آخر ال ُفتيا َّ‬


‫أن يُكمله خبطه مبا يكتبه يف‬ ‫سطرا ً‬
‫حذرا من التتميم‪ ،‬وينبغي له إذا وجد ً‬
‫وغريها ً‬
‫ال ُفتيا»‪.2‬‬

‫أال يرتك يف آخر السطر من الوثيقة فرجة يزاد فيها شيء‪.3‬‬ ‫‪-‬‬

‫أال يكتب طالقا لرجل من امرأة يدعيان أهنما ليس معهما كتاب نكاح‪4‬؛ فإن بعض الناس‬ ‫‪-‬‬

‫جيعل ذلك ذريعة إىل نكاح بال وِل وال شهود‪.‬‬

‫‪ - 1‬ذكر الونشريسي فما عرفوا أنه من زايدة املدعي إال بنوع اخلط الذي ختالف فيه الزايدة األصل‪ ،‬ينظر املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪:‬‬
‫‪.166/1‬‬
‫‪ - 2‬اإلحكام يف متييز الفتاوى عن األحكام‪ ،‬اإلمام شهاب الدين القرايف‪.239-238:‬‬
‫‪ - 3‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.168/1 :‬‬
‫‪ - 4‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.171/1 :‬‬
‫‪43‬‬
‫أال يكتب لرجل جتديد صداق حىت يعلم صدق الزوجية بينهما‪.1‬‬ ‫‪-‬‬

‫أال يهمل سؤال املعتدة على انقضاء عدهتا إذا ارادت النكاح‪.2‬‬ ‫‪-‬‬

‫أن ينص على ما كان شرطا أو طوعا بني املتعاقدين‪.3‬‬ ‫‪-‬‬

‫أن يتجنب الشهادة مبوت غائب بتعريف من عرفه‪ ،‬فقد يكون ذلك بلغه بالغا غري موثوق‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫يقدم فتكون فضيحة‪.4‬‬


‫فيشهد مبوته مث ُ‬

‫ينبغي له إذا شهد يف كتاب فيه ثقب‪ 5‬يف أصل الورق أن ينبه عليه فيقول‪ :‬ويف سطر كذا‬ ‫‪-‬‬

‫من هذا الكتاب ثقب قبله كذا‪ ،‬وبعده كذا‪ ،‬وكذلك يفعل إذا تعددت مواضع الثقب‪ ،‬وإمنا يعني مواضع‬

‫الثقب متييزا له عن السقط الذي قد يطال بعض مواضع الوثيقة إذا أكلتها األرضة أو غريها‪ ،‬فيسقط من‬

‫الوثيقة جزء مما هو مكتوب قد يكون أحياان هو موضوع العقد؛ كأن يسقط مقدار الدين وقيمته‪ ،‬أو شرط‬

‫أساس من شروطه‪.‬‬

‫الركن الثاين‪ :‬املستوثَق له واملستوثَق منه (ومها طرفا العقد)‪.‬‬

‫‪ - 1‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.174/1 :‬‬


‫‪ - 2‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.175/1 :‬‬
‫‪ - 3‬املنهج الفائق‪ ،‬للونشريسي‪.175/1 :‬‬
‫‪ - 4‬تبصرة احلكام‪ ،‬البن فرحون‪.188/1:‬‬
‫‪ - 5‬تبصرة احلكام‪ ،‬البن فرحون‪.186/1:‬‬
‫‪44‬‬
‫يُشرتط يف املستوثق له وهو صاحب احلق‪ ،‬واملستوثق منه وهو الذي عليه؛ شرط سواء كاان أصيلني‪،‬‬

‫أو وكيلني‪ ،‬أو وصيني‪ 1،‬ومجلة ما يشرتط فيهما راجع إىل شرط األهلية وما يتفرع عنه من األحكام‪.‬‬

‫أهلية املتعاقدين‪ :‬وهي عبارة عن صالحية اإلنسان لوجوب القوق املشروعة له أو عليه‪ ،‬فهي‬

‫صفة جتعل الشخص تثبت له القوق‪ ،‬وتثبت عليه الواجبات‪ ،‬وتصح منه التصرفات‪ .‬واألهلية نوعان‪:‬‬

‫أهلية وجوب وأهلية أداء‪:‬‬

‫فأهلية الوجوب‪ :‬هي صالحية اإلنسان لثبوت احلقوق له أو عليه‪.‬‬

‫وأما أهلية األداء‪ :‬وهي صالحية الشخص لصدور التصرفات منه (أو ملمارستها ومباشرهتا) على‬
‫‪2‬‬
‫فهي على نوعني‪ :‬أهلية أداء انقصة وأهلية أداء كاملة‪:‬‬ ‫وجه يعتد به شرعاً‪ ،‬وهي ترادف املسؤولية‬

‫‪ - 1‬أنواع الوالية‪ :‬الوالية إما أن تكون أصلية‪ :‬أبن يتوىل الشخص عقداً أو تصرفاً لنفسه‪ ،‬أبن يكون كامل أهلية األداء (ابلغاً عاقالً‬
‫راشداً)‪ ،‬أو نيابية‪ :‬أبن يتوىل الشخص أمور غريه‪.‬‬
‫والوالية النيابية أو النيابة الشرعية عن الغري‪ :‬إما أن تكون اختيارية أو إجبارية‪.‬‬
‫االختيارية‪ :‬هي الوكالة أي تفويض التصرف واحلفظ إىل الغري‪.‬‬
‫واإلجبارية‪ :‬هي تفويض الشرع أو القضاء التصرف ملصلحة القاصر‪ ،‬كوالية األب أو اجلد أو الوصي على الصغري‪ ،‬ووالية القاضي على‬
‫القاصر‪ .‬فمصدر والية األب أو اجلد أو القاضي هو الشرع‪ .‬ومصدر والية الوصي إما اختيار األب‪ ،‬أو اجلد‪ ،‬أو تعيني القاضي‪.‬‬
‫والوالية النيابية اإلجبارية‪ :‬إما أن تكون والية على النفس أو والية على املال‪.‬‬
‫الوالية على النفس‪ :‬هي اإلشراف على شؤون القاصر الشخصية كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب والتشغيل يف حرفة وَنو ذلك‪.‬‬
‫وليس هنا حمل حبثها‪.‬‬
‫والوالية على املال‪ :‬هي اإلشراف على شؤون القاصر املالية من حفظ املال واستثماره وإبرام العقود والتصرفات املتعلقة ابملال‪ .»..‬الفقه‬
‫اإلسالمي وأدلته‪ ،‬د وهبة الزحيلي‪.2986/4 :‬‬
‫‪ - 2‬الفقه اإلسالمي وادلته‪ ،‬د‪ .‬وهبة الزحيلي‪.2964/4:‬‬
‫‪45‬‬
‫«أهلية األداء الناقصة‪ :‬هي صالحية الشخص لصدور بعض التصرفات منه دون البعض اآلخر‪،‬‬

‫وهي اليت يتوقف نفاذها على رأي غريه‪ ،‬وهذه األهلية تثبت للشخص يف دور التمييز بعد متام سن السابعة‬

‫إىل البلوغ‪ .‬ويعد يف حكم املميز‪ :‬الشخص املعتوه الذي مل يصل به العته إىل درجة اختالل العقل وفقده‪،‬‬

‫وإمنا يكون ضعيف اإلدراك والتمييز‪.‬‬

‫ويفرق ابلنسبة للمميز واملعتوه بني حقوق هللا وحقوق العباد (‪)...‬‬

‫وأهلية األداء الكاملة‪ :‬هي صالحية الشخص ملباشرة التصرفات على وجه يعتد به شرعاً دون‬

‫توقف على رأي غريه‪ .‬وتثبت ملن بلغ احللم عاقالً أي للبالغ الرشيد‪ ،‬فله مبوجبها ممارسة كل العقود‪ ،‬من‬

‫غري توقف على إجازة أحد ‪.1‬‬

‫واألهلية املقصودة يف التوثيق معناها ثبوت األهلية الكاملة للمستوثق له أو منه على وجه يعتد مبا‬

‫يصدر منهما شرعا‪ ،‬ولذلك فإن السفيه واجملنون واحملجور عليه والصيب ليست هلم أهلية أداء كاملة‪ ،‬فليس‬

‫من حقهم اإلمالء للكاتب مبا يثبت يف ذممهم‪ ،‬بل يتوىل اإلمالء عنهم األولياء واألوصياء والوكالء‪ ،‬ويلحق‬

‫هبم من به اخلرس‪ ،‬والبكم‪ ،‬والغيب (قيل هو الذي يعلم مصلحته وال يستطيع التعبري عنها)‪ ،‬وإىل هذه النيابة‬

‫‪    ‬‬ ‫يف اإلمالء عن هؤالء املذكورين وأضراهبم‪ ،‬أشارت آية الدين يف قوله تعاىل‪ :‬‬

‫‪. 2           ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪‬‬

‫‪ - 1‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬د وهبة الزحيلي‪.2967-2964/4 :‬‬


‫‪ - 2‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪46‬‬
‫والواجب على الكاتب املوثق قبل كتابة العقد أن يتثبت من أهلية املتعاقدين ورضامها؛ فإذا اتضح‬

‫احملرر املطلوب ظاهر البطالن؛‬


‫له عدم توافر األهلية أو الرضا لدى املتعاقدين أو أحدمها‪ ،‬أو ظهر له أن َّ‬

‫فعليه أن يرفض التوثيق‪ ،‬ويعيد احملرر إىل ذوي الشأن بكتاب موصى عليه مع إبداء األسباب‪.‬‬

‫واألهلية كما سلف البيان تثبت ابلعقل والبلوغ وعدم وجود عارض من عوارضها‪ ،1‬وسالمتها من‬

‫املوانع القانونية كأن يكون أحد املتعاقدين يباشر وصاية على مال قاصر أو حمجور عليه بال إذن من اجلهة‬

‫املختصة‪.‬‬

‫وأما عن الرضا الذي يتأسس عليه العقد فشرطه أن يكون موجودا‪ ،‬صحيحا‪ ،‬وال يكون صحيحا‬

‫حىت يصدر من ممن هو أهل له‪ ،‬غري مشوب أبي عيب من عيوب الرضا؛ كالغلط‪ ،‬والتدليس‪ ،‬واإلكراه‪،‬‬

‫واالستغالل (الغنب الفاحش)‪ ،‬وإذا كان أحد املتعاقدين ضريرا أو ضعيف البصر أو أبكم وجب على املوثق‬

‫التأكد من استعانته مبعني يوقع معه احملرر‪.‬‬

‫ومما يتعلق ابملوثق؛ وجوب التحقق من شخصية املتعاقدين بشهادة شاهدين عاقلني ابلغني؛ تثبت‬

‫هويتهما‪ ،‬أو مبستند رمسي يثبت شخصيتهما كبطاقة تعريف اهلوية‪.‬‬

‫الركن الثالث‪ :‬الوثيقة‪ ،‬وما يتعلق هبا من الشروط‪.‬‬

‫‪ - 1‬عوارض األهلية أهلية األداء‪ :‬قد يعرتض هذا النوع من األهلية بعض العوارض فتؤثر فيها‪ ،‬والعوارض‪ :‬هي ما يطرأ على اإلنسان‬
‫فيزيل أهليته أو ينقصها‪ ،‬أو يغري بعض أحكامها‪ .‬وهي نوعان عند علماء أصول الفقه‪:‬‬
‫أ‪ -‬عوارض مساوية‪ :‬وهي اليت مل يكن للشخص يف إجيادها اختيار واكتساب‪.‬‬
‫ب‪ -‬وعوارض مكتسبة‪ :‬وهي اليت يكون للشخص دخل واختبار يف حتصيلها‪ )...( .‬وهي اجلنون‪ ،‬واإلغماء والسكر والسفه‪ ،‬والنوم‬
‫والعته »‪ .‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬د وهبة الزحيلي‪.2974 -2971/4 :‬‬
‫‪47‬‬
‫أمساء الوثيقة‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫الوثيقة هي الكتاب الذي يكتب بني الطرفني ويشهد عليه‪ ،‬وقد مساها الفقهاء أبمساء كثرية حبسب‬

‫ما يتعلق هبا من وجوه اإلثبات‪ ،‬وحبسب من يشرف عليها‪ ،‬وقد استعمل بعض الفقهاء كثريا من أمسائها‪،‬‬

‫يف حني اقتصر بعضهم على طائفة من أمسائها‪ ،‬لكن اشتهر من أمسائها َخسة‪:‬‬

‫الوثيقة‪ :‬وقد عرفها ابن عابدين يف حاشيته بقوله‪ :‬الوثيقة ما كتب يف الواقعة وبقي عند‬ ‫‪-‬‬

‫القاضي وليس عليه خطه ‪.1‬‬

‫احملضر‪ :‬عرفه الفقهاء بقوهلم‪ «:‬احملضر هو كتب فيه حضور املتخاصمني عند القاضي‪ ،‬وما‬ ‫‪-‬‬

‫جرى بينهما من اإلقرار من املدعى عليه‪ ،‬أو اإلنكار منه‪ ،‬واحلكم ابلبينة أو النكول على وجه يرفع‬

‫االشتباه»‪ .2‬ومسي احملضر حمضرا حلضور الشهود واخلصوم أمام القاضي‪.‬‬

‫السجل‪ :‬السجل لغة كتاب القاضي‪ ،‬وقد قال املطرزي‪« :‬السجل كتاب احلكم وقد سجل‬ ‫‪-‬‬
‫ُ‬
‫عليه القاضي»‪.3‬‬

‫الصك‪ :‬لغة الكتاب الذي يُكتب فيه املعامالت‪ ،‬واصطالحا‪ :‬ما كتب فيه البيع والرهن‬ ‫‪-‬‬

‫واإلقرار وغريها ‪ ،4‬وقال الشربيين ‪ :‬هو الكتاب ‪.‬‬

‫‪ - 1‬رد احملتار على الدر املختار‪ ،‬ابن عابدين‪.369/5 :‬‬


‫‪ - 2‬مغين احملتاج للشربيين الشافعي‪.389/4:‬‬
‫‪ - 3‬املغرب يف ترتيب املعرب للمطرزي‪.218 :‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫‪ - 4‬رد احملتار على الدر املختار‪ ،‬البن عابدين‪.369/5 :‬‬
‫‪48‬‬
‫الجة‪ :‬لغة الدليل والربهان‪ ،‬واصطالحا‪ :‬ما نُقل من السجل‪ ،‬ومن الوثيقة‪ ،‬وعليه عالمة‬ ‫‪-‬‬

‫القاضي‪ ،‬وخط الشاهدين أسفله‪ ،‬وأُعطي اخلصم ‪.1‬‬

‫واملالحظ أن بعض الفقهاء يستعملون هذه األمساء أحياان مبعىن واحد يف بعضها‪.2‬‬

‫شروط الوثيقة‪.‬‬

‫اشرتط الفقهاء للوثيقة شروطا َخسة وهي‪:‬‬

‫إخراج املتعاقدين ح‬
‫والعوضني عن حد اجلهالة إىل حد العلم واملعرفة‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫ذكر ما مت قبضه من أحد ح‬


‫العوضني‪ ،‬وما مل يقبض حبسب الال‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫ذكر اإلشهاد (أي من شهد على الكتاب من الشهود)‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫كتابة التاريخ الذي كتب فيه الكتاب (الوثيقة)‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫ذكر الشروط اليت اعتاد كتاب الواثئق إثباهتا يف العقود‪.‬‬ ‫‪-5‬‬

‫شروط الوثيقة على التفصيل‪.‬‬

‫إخراج املتعاقدين ح‬
‫والعوضني عن حد اجلهالة إىل حد العلم واملعرفة‪ :‬وذلك بتعريف‬ ‫‪-1‬‬

‫املتعاقدين تعريفا يتميزان به عن غريمها من األشخاص؛ وذلك بذكر امسهما ونسبهما (ويكون بذكر األب‬

‫واجلد)‪ ،‬وإذا كان هلما أو ألحدمها اسم شهرة يعرف به فإنه يكتفى بذكر امسه ونعته كما كان يذكر ذلك‬

‫لرسول هللا ‪‬؛ ففي عقده ‪ ‬مع العداء بن خالد ما يشهد على ما ذكر يف هذا الشرط من القيود‪ ،‬ففي‬

‫‪ - 1‬رد احملتار على الدر املختار‪ ،‬البن عابدين‪.369-368/5 :‬‬


‫‪ - 2‬ينظر رد احملتار على الدر املختار‪ ،‬البن عابدين‪.370 -369/5 :‬‬
‫‪49‬‬
‫صلى اَّلل َعلَْي حه َو َسل َم حم ْن ال َْعد حاء بْ حن َخالحد بَ ْي َع الْم ْسلح حم‬ ‫ح‬
‫َتى ُمَم ٌد َرسول اَّلل َ‬
‫َه َذا َما ا ْش ََ‬ ‫احلديث‪:‬‬

‫َتى ال َْعداء بْن َخالح حد بْ حن َه ْوذَةَ‬ ‫ح ‪1‬‬ ‫ح‬ ‫ح‬


‫الْم ْسل َم َال َداءَ َوَال خ ْب ثَةَ َوَال غَائلَةَ وعند غري البخاري َه َذا َما ا ْش ََ‬
‫ك الَ َداءَ لَه َوالَ غَائحلَةَ َوالَ حخ ْب ثَةَ بَ ْيع الْم ْسلح حم‬
‫َتى حم ْنه َع ْب ًدا أ َْو أ ََمةً َعبا ٌد يَش ُّ‬ ‫حمن ُمَمد رس ح ح‬
‫ول اَّلل ا ْش ََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬

‫الْم ْسلح َم »‪.2‬‬

‫وأما إخراج العوضني عن حد اجلهالة فيكون بذكر صفاهتما ومكاهنما؛ فإن كان أحدمها نقدا يُذكر‬

‫جنسه (درهم‪ ،‬دينار‪ ،)...‬وإن كان أحدمها أرضا؛ تُذكر حدودها ومكاهنا‪ ،‬وإن كان دارا يذكر موضعها‬

‫ومكاهنا وصفاهتا‪...‬‬

‫ذكر ما مت قبضه من أحد ح‬


‫العوضني‪ ،‬وما مل يقبض حبسب الال‪ :‬فيذكر يف الوثيقة ما‬ ‫‪-2‬‬

‫دفعه املتعاقدان‪ ،‬وما بقي يف ذمة كل واحد منهما‪ ،‬ومىت حي يل له املطالبة به حىت ال جيحد أحد الطرفني أو‬

‫ينسى‪ ،‬ووجب أن يكون األجل منصوصا عليه يف الوثيقة‪.‬‬

‫ذكر اإلشهاد (أي من شهد على الكتاب من الشهود)‪ :‬وهو امتثال ألمر هللا تعاىل يف‬ ‫‪-3‬‬

‫اإلشهاد؛ ‪    ‬؛ وهو أدعى لثبوت احلقوق‪ ،‬وحىت ال جيحد من عليه احلق‪.‬‬

‫كتابة التاريخ الذي كتب فيه الكتاب (الوثيقة)‪ :‬وهو من مهام الصكوك؛ إذ به ميتنع‬ ‫‪-4‬‬

‫التزوير‪ ،‬كما أن حتديد اآلجال تنتفي معه اجلهالة‪ ،‬ويقي من التشاحن؛ وقد ُرفع إىل عمر رضي هللا عنه‬

‫صك حمله شهر شعبان‪ ،‬فقال‪ :‬أي شعبان هذا؟ الذي َنن فيه؟ أم املاضي أم الذي أييت؟‪ ،‬وقد قيل إن‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬اباب السهولة والسماح يف الشراء والبيع‪ ،‬برقم‪.1972:‬‬
‫‪ - 2‬السنن الكربى للبيهقي‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬ابب بيع الرباءة‪ ،‬برقم ‪.11098‬‬
‫‪50‬‬
‫هذا كان سببا يف كتابة التاريخ واعتماد التاريخ اهلجري أساسا يف التأريخ عند املسلمني زمن عمر ‪،‬‬

‫وقيل‪ :‬بل سببه أن أاب موسى األشعري كتب إىل عمر أنه أتتينا منك الكتب ليس هلا اتريخ؛ فأرخ لتستقيم‬

‫األحوال فأرخ‪.1‬‬

‫ذكر الشروط اليت اعتاد كتاب الواثئق إثباهتا يف العقود‪ :‬والقصد منه أن يُثبت املوثق يف‬ ‫‪-5‬‬

‫تحرُز عن كل شرط يفسد العقد أو يُبطله‪.‬‬


‫العقد من الشروط ما جيعل العقد صحيحا‪ ،‬وما به يُ َّ‬

‫‪ - 1‬السنن الكربى للبيهقي‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬ابب بيع الرباءة‪ ،‬برقم‪.11098 :‬‬
‫‪51‬‬
‫أقسام التوثيق‪:‬‬

‫التوثيق ابلكتابة‪ ،‬التوثيق ابإلشهاد‪ ،‬التوثيق ابلرهن‪ ،‬التوثيق ابلكفالة (الضمان)‪.‬‬

‫يتم التوثيق للديون واملعامالت مبجموعة من الطرق أشهرها أربعة‪ :‬التوثيق ابلكتابة‪ ،‬والتوثيق‬

‫ابإلشهاد‪ ،‬والتوثيق ابلرهن‪ ،‬والتوثيق ابلكفالة (الضمان)‪.‬‬

‫أوال‪ -‬التوثيق ابلكتابة (البيحنة اخلطية)‪.‬‬

‫التوثيق ابلكتابة أو ما يسمى ابلبيحنة اخلطية؛ وقد سبق الديث عن حكمها ومشروعيتها وما‬

‫يتعلق هبا من األحكام‪ ،‬والقصد يف هذا السياق أن الكتابة أصل تثبت به القوق واملداينات‪ ،‬وهي‬

‫من الجج اليت يستند إليها الاكم أو القاضي عند ترافع اخلصوم إليه‪ ،‬وقد نص الفقهاء على الكمة‬

‫َجلح حه؛ لح َما ي تَ َوقع‬ ‫من الكتابة؛ فقد جعل الصك كما يقول ابن العريب رمحه هللا‪ :‬لحيستذ ح ح‬
‫ْكر بحه ع ْن َد أ َ‬
‫َْ َ‬
‫ول ْاألَج حل‪ ،‬والنحسيان موكل حاب ْحإلنْس ح‬
‫ني حل ح‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫ح‬ ‫ح‬
‫ان‪َ ،‬والش ْيطَان رمبَا‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ َ ٌ‬ ‫م ْن الْغَ ْفلَة حيف الْمدة ال حيت بَْ َ‬
‫ني الْم َع َاملَة َوبَ ْ َ‬

‫ان‬ ‫َ‬ ‫اإل ْش َهاد‪َ ،‬وَكا َن ذَلح َ‬


‫ك حيف الزم ح‬ ‫ْكتَاب َو ْح‬ ‫اإلنْ َكا حر‪َ ،‬وال َْع َوا حرض حم ْن َم ْوت َوغَ ْحريهح تَط َْرأ ؛ فَش حر َ‬
‫ع ال ح‬ ‫َمحَ َل َعلَى ْح‬

‫ْاألَو حل ‪.1‬‬

‫حجية الكتابة وحدها‪.‬‬

‫اختلف الفقهاء يف حجية الكتابة وحدها‪ ،‬هل تقوم هبا البينة أم ال؟ وذلك على مذهبني‪:‬‬

‫‪ - 1‬أحكام القرآن‪.498/1:‬‬
‫‪52‬‬
‫املذهب األول‪ :‬ذهب الشافعي ومالك وأمحد يف رواية عنه ومجاعة من الفقهاء إىل أنه ال يعتمد‬

‫على اخلط وحده إذا مل يقَتن بشهادة الشهود عليه‪ ،‬فالبينة الكاملة إمنا تقوم ابلكتاب املشهود عليه؛‬

‫وحجتهم يف ذلك أن اخلطوط تشتبه والتزوير فيها ممكن‪ ،‬وقد تُكتب أحياان للتجربة واللهو‪ ....‬ومع قيام‬

‫هذه االحتماالت والشبهات ال يبقى للخط اجملرد حجية‪ ،‬وال يصلح لالعتماد عليه وحده‪ ،‬خبالف ما إذا‬

‫أُشهد عليه فاحلجة تقوم به؛ ألن الشهادة ترفع الشك‪ ،‬وتدفع االحتمال‪.‬‬

‫وقد متسك أصحاب هذا املذهب مبا اشرطته آية الدين من أن تكون الكتابة مؤيدة ابلشهادة؛ فقوله‬

‫تعاىل‪ ،  :‬يعتضد بقوله تعاىل‪ ،     :‬واملعىن على ذكر بعض‬

‫الفقهاء؛ واستشهدوا على ما كتبتم‪.‬‬

‫وعلى هذا املذهب ال يقضي القاضي بشيء ملن جاء حبق َثبت له مبجرد الكتابة دون إشهاد؛ ففي‬

‫وَثئق ابن اهلندي " رجل جاء يف يده ضيعة وادعى أهنا وقف‪ ،‬وجاء بصك فيه خطوط عدول وقضاة قد‬

‫انقرضوا‪ ،‬وطلب من القاضي القضاء؛ ليس للقاضي أن يقضي بذلك الصك ‪ ،1‬وقال النووي يف تعليل‬

‫مثل هذا‪« :‬ألن احلق يثبت ابلشهود ال ابلكتاب»‪ ،2‬وقال جنم الدين احللي يف "شرائع اإلسالم"‪ :‬أما‬
‫‪3‬‬
‫الكتابة فال عربة هبا إلمكان التشبيه‬

‫‪ - 1‬وَثئق ابن اهلندي‪.242-241/2:‬‬


‫‪ - 2‬روضة الطالبني‪ ،‬اإلمام النووي‪.139/11:‬‬
‫‪ - 3‬شرائع اإلسالم‪.95/4:‬‬
‫‪53‬‬
‫املذهب الثاين‪ :‬وهو مذهب مجهور الفقهاء من النفية واملالكية والنابلة الذين قالوا بصحة‬

‫توثيق الدين ابلكتابة وحدها‪ ،‬وأهنا تعترب يف اإلثبات إذا كانت صحيحة النسبة إىل كاتبها‪ ،‬ويف ذلك يقول‬
‫‪1‬‬
‫وقال ابن فرحون يف التبصرة‬ ‫ابن تيمية رمحه هللا‪ :‬والعمل ابخلط مذهب قوي؛ بل هو قول اجلمهور‬

‫وإ ْن قال ‪ :‬ل ُفالن عْندي أ ْو قبلي كذا وكذا خبط يده قضى علْيه ؛ ألنَّهُ خرج خمْرج ْاإلقْ رار اب ْحلُُقوق (‪)...‬‬

‫ك أب ْرب عة‬ ‫ويف أ ْحكام ابْن بطَّال قال مال ٌ‬


‫ك ‪ :‬فيم ْن أ ْوصى أ ْن تُ ْقبض ُديُونُهُ ‪ ،‬وأ ْن يُ ْقضى ما علْيه ف ُوجد ص ى‬

‫ف‬
‫ضت مْن ها َثانية داننري ممَّا يف بطْن هذا الْكتاب ‪ ،‬ه ْل ْحيل ُ‬
‫عشر دين ًارا ‪ ،‬ويف أ ْسفله خبط الْميت ق ب ْ‬
‫‪2‬‬
‫وب وي ْربأُ م ْن الثَّمانية ؟ قال ‪ :‬ي ْربأُ مْن ها بال ميني ويُ ْؤخ ُذ مْنهُ ما بقي‬
‫الْمطْلُ ُ‬
‫ومما استدل به القائلون حبجية الكتابة وحدها؛ أن الوصااي تنفذ ابخلطوط املعروفة‪ ،‬واحتجوا مبا رواه‬

‫البخاري ومسلم ومالك يف املوطإ‪ ،‬وبعض أصحاب السنن من حديث ابن عمر ‪ ،‬أن النيب ‪ ‬قال‪َ :‬ما‬

‫فوقع التنصيص على‬ ‫‪3‬‬


‫صي ته َم ْكتوبَةٌ حع ْن َده‬
‫ني إحال وو ح‬ ‫ح حح ح‬ ‫ح‬
‫َح ُّق ْام حرئ م ْسلم لَه َش ْيءٌ يوصي فيه يَبيت ل َْي لَتَ ْ ح َ َ‬
‫الكتابة وحدها‪.‬‬

‫ومن الشواهد يف هذا الباب‪:‬‬

‫‪ - 1‬خمتصر الفتاوى‪.601:‬‬
‫‪ - 2‬تبصرة احلكام‪.241-240/3:‬‬
‫‪ - 3‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪54‬‬
‫أن النيب ‪ ‬كان يكتب الكتب والرسائل إىل ملوك وعظماء زمانه‪ ،‬وتقوم هبا احلجة‪ ،‬ومل‬ ‫‪-‬‬

‫يكن يطلع رسولُه على مضمون الرسالة؛ بل كان يدفعه إليه خمتوما‪ ،‬وسار على مثل ذلك اخللفاء الراشدون‬

‫ومن بعدهم‪.‬‬

‫عمل الصحابة يف هذا الباب‪ ،‬إذ كان عندهم اخلط حجة‪ ،‬وقد حكى الرازي يف احملصول‬ ‫‪-‬‬

‫إمجاعهم الفعلي على العمل ابخلط‪ ،‬وحتكيمه يف معامالهتم‪.‬‬

‫ما درج عليه اخللفاء والعمال والقضاة والوالة من اعتماد كْتب بعضهم لبعض دون أن‬ ‫‪-‬‬

‫يشهدوا حاملها على ما فيها‪ ،‬وعلى هذا سار العمل إىل يوم الناس هذا‪.‬‬

‫إمجاع أهل احلديث على صحة اعتماد الراوي على اخلط احملفوظ عنده‪ ،‬وجاز التحديث‬ ‫‪-‬‬

‫به‪ ،‬ولو مل يُعتمد على ذلك؛ لضاعت من األمة أكثر األحاديث النبوية‪ ،‬ومعها تضيع كثري من األحكام‬

‫الفقهية‪ ،‬واآلداب الشرعية‪...‬؛ ألن الكتابة والنساخة؛ وسيلة حفظها وتناقلها بني األجيال‪.‬‬

‫َّ‬
‫استدل به املانعون من أن اخلطوط تتشابه‪ ،‬وقد يدخلها التزوير واحملاكاة (التقليد)‪،‬‬ ‫إن ما‬ ‫‪-‬‬

‫ب للتجربة أو اللهو؛ فذلك مردود من جهتني‪:‬‬


‫وقد تُكت ُ‬

‫األوىل‪ :‬أن االعتماد على حجية الكتابة ال يكون مع وجود تلك الشبهات واالحتماالت‪،‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫اخلط إىل كاتبه ‪ ،‬فإذا عرف ذلك‬
‫ول الْع ْلم بن ْسبة ْ‬
‫صُ‬ ‫ولذلك فإن القصد كما يقول ابن القيم رمحه هللا‪ُ «:‬ح ُ‬

‫ط د ىال على اللَّ ْفظ ‪ ،‬واللَّ ْفظ د ىال على الْق ْ‬


‫صد و ْاإلرادة ‪،‬‬ ‫اخل َّ‬
‫وت ي قَّن كان كالْع ْلم بن ْسبة اللَّ ْفظ إلْيه ‪ ،‬فإ َّن ْ‬

‫‪55‬‬
‫اَّللُ ُسْبحانهُ‬
‫صوات وق ْد جعل َّ‬
‫صور و ْاأل ْ‬
‫ض م ْن ا ْشتباه ال ي‬
‫اخلُطُوط ‪ ،‬وذلك كما ي ْعر ُ‬
‫وغايةُ ما ي ْقد ُر ‪ :‬ا ْشتباهُ ْ‬
‫‪1‬‬
‫صورته»‪.‬‬
‫صورته وص ْوته ع ْن ُ‬
‫خلط ُكل كاتب ما ي تميَّ ُز به ع ْن خط غ ْريه كتميز ُ‬

‫الثانية‪ :‬أنه كما ميكن تزوير الكتابة واخلط؛ ميكن تزوير الشهادة‪ ،‬ورمبا كان التزوير يف‬ ‫ب‪-‬‬
‫الشهادة أكثر وقوعا‪ ،‬كما أن الكشف عن تزوير اخلط أيسر من الكشف عن تزوير الشهادة؛ ألن األوىل‬

‫قرائنها ظاهرة‪ ،‬والثانية قرائنها خفية‪.‬‬

‫وقد حكى الرازي اإلمجاع من الصحابة على العمل ابخلط‪.‬‬

‫اثنيا‪-‬التوثيق ابلشهادة (البينة الشخصية)‪.‬‬

‫مفهومها‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫وخيرب‪ ،‬قال ابن فارس‬


‫الشهادة لغة مصدر شهد؛ مبعىن حضر‪ ،‬وعاين ما به حيصل علما‪ ،‬وما به يعلم ُ‬

‫يف املقاييس‪( :‬شهد) الشني واهلاء والدال أصل يدل على حضور وعلم وإعالم‪ ،‬ال خيرج شيء من فروعه‬

‫عن الذي ذكرانه؛ من ذلك الشهادة‪ ،‬جيمع األصول اليت ذكرانها من احلضور‪ ،‬والعلم‪ ،‬واإلعالم‪ .‬يقال‬

‫شهد يشهد شهادة‪ .‬واملشهد‪ :‬حمضر الناس ‪ ،2‬ومسي الشاهد شاهدا ألنه حيضر ويعاين الواقعة ليُخرب‬

‫بذلك إذا طلب منه‪ ،‬وقد يرويه من غري طلب‪.‬‬

‫‪ - 1‬الطرق احلكمية‪ ،‬ابن القيم اجلوزية‪.282 :‬‬


‫‪ - 2‬مقاييس اللغة‪ ،‬ابن فارس‪ ،‬كتاب الشني‪ ،‬ابب الشني واهلاء وما يُثلثهما‪ ،‬مادة (شهد)‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫احلاكم مساعُهُ‬
‫ب على ْ‬
‫ث يُوج ُ‬
‫واصطالحا عرفها العلماء منهم؛ ابن عرفة بقوله‪ «:‬الشَّهادة ق ْوٌل ُهو حبْي ُ‬

‫احلُكْم مبُْقتضاهُ إ ْن عُدل قائلُهُ مع ت عديده أ ْو حلف طالبه»‪ 1‬وعرفت أبهنا إخبار صدق إلثبات حق بلفظ‬
‫ْ‬
‫‪2‬‬
‫الشهادة يف جملس القاضي ولو بال دعوى‬

‫مشروعية الشهادة‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫‪‬‬ ‫تُعترب الشهادة من وسائل اإلثبات والبينة إبمجاع الفقهاء‪ ،‬واألصل فيها قوله تعاىل‪ :‬‬

‫‪                   ‬‬

‫‪ ،4‬وقوله‪ ،5      :‬وقوله‬ ‫‪   ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ،3‬وقوله‪:‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪6‬‬
‫عليه الصالة والسالم‪ :‬شاهداك أو ميينه‬

‫كما أمجع العلماء على حجية الشهادة والعمل هبا يف ابب اإلثبات والبينات‪.‬‬

‫‪ - 1‬شرح حدود ابن عرفة (اهلداية الكافية الشافية لبيان حقائق اإلمام ابن عرفة الوافية)‪ ،‬حملمد بن قاسم األنصاري‪ ،‬أبو عبد هللا‪ ،‬الرصاع‬
‫التونسي املالكي‪.445 /1:‬‬
‫‪ - 2‬البحر الرائق يف شرح الوَثئق‪.60/7:‬‬
‫‪ - 3‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 4‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 5‬الطالق‪.02:‬‬
‫اَّللُ عنْهُ م ْن حلف على ميني‬
‫اَّلل رضي َّ‬
‫‪ - 6‬رواه البخاري ومسلم‪ ،‬واللفظ للبخاري‪ .‬ونص احلديث‪ :‬ع ْن أيب وائل قال‪ :‬قال‪ :‬عْب ُد َّ‬
‫صديق ذلك ‪ ‬إ َّن الَّذين ي ْشرتُون بع ْهد َّ‬
‫اَّلل وأ ْمياهن ْم َثنًا قل ًيال ‪‬‬ ‫اَّللُ ت ْ‬
‫ضبا ُن‪ ،‬فأنْزل َّ‬
‫اَّلل وُهو علْيه غ ْ‬
‫ي ْستح يق هبا م ًاال وُهو فيها فاجٌر لقي َّ‬
‫اَّلل‬ ‫اب أل ٌيم ‪ُ ‬مثَّ إ َّن ْاأل ْشعث بْن ق ْيس خرج إلْي نا ف قال ما ُحيدثُ ُك ْم أبُو عْبد َّ‬
‫الر ْمحن قال فحدَّثْناهُ قال ف قال صدق لف َّي و َّ‬ ‫ف قرأ إىل ‪‬عذ ٌ‬
‫ت إنَّهُ‬‫اَّلل شاهداك أ ْو ميينُهُ قُلْ ُ‬ ‫اَّللُ علْيه وسلَّم ف قال ر ُس ُ‬
‫ول َّ‬ ‫اَّلل صلَّى َّ‬
‫اختص ْمنا إىل ر ُسول َّ‬
‫صومةٌ يف بئْر ف ْ‬‫ت ب ْيين وب ْني ر ُجل ُخ ُ‬
‫ت كان ْ‬
‫أُنْزل ْ‬
‫ضبا ُن‬‫اَّلل وُهو علْيه غ ْ‬ ‫اَّللُ علْيه وسلَّم م ْن حلف على ميني ي ْستح يق هبا م ًاال وُهو فيها فاجٌر لقي َّ‬
‫اَّلل صلَّى َّ‬
‫ول َّ‬‫ف وال يُباِل ف قال ر ُس ُ‬
‫إذًا ْحيل ُ‬
‫اب أل ٌيم ‪‬‬ ‫صديق ذلك ُمثَّ اقْرتأ هذه ْاآلية‪  :‬إ َّن الَّذين ي ْشرتُون بع ْهد َّ‬
‫اَّلل وأ ْمياهن ْم َثنًا قل ًيال ‪ ‬ف قرأ إىل ‪‬عذ ٌ‬ ‫اَّللُ ت ْ‬
‫فأنْزل َّ‬

‫‪57‬‬
‫حكم الشهادة‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫اختلف الفقهاء يف حكم الشهادة يف املداينات واملعامالت‪ ،‬وهو اختالف متفرع عن أصل‬

‫االختالف يف حكم الكتابة الوارد يف آية الدين‪ ،‬وذلك على مذهبني كبريين‪:‬‬

‫املذهب األول‪ :‬مذهب الظاهرية والطربي ومجاعة من السلف أهنا واجبة؛ وحجتهم‬ ‫‪-‬‬

‫‪       ‬‬ ‫يف ذلك أن األمر الوارد ابإلشهاد يف آية الدين ‪‬‬

‫‪‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ،1‬وقوله‪:‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪ 2‬حيمل على الوجوب‪.‬‬ ‫‪ ‬‬


‫‪‬‬

‫املذهب الثاين‪ :‬مذهب مجهور الفقهاء من املالكية والنفية والشافعية والنابلة؛ أهنا على سبيل‬

‫الندب واإلرشاد‪ ،‬فاألمر ابإلشهاد يف اآلية فيه إرشاد ملا هو أحوط‪ ،‬وقد صرفوا داللة األمر الوارد يف‬

‫‪            ‬‬ ‫اآلية إىل الندب واإلرشاد بقرينة قوله تعاىل‪:‬‬

‫‪ ‬؛ م ْعناهُ إ ْن أ ْسقط الْكتاب‬


‫‪  ‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪  :‬‬
‫‪  ‬‬ ‫‪ .3‬قال ابن العريب رمحه هللا‪ :‬ق ْوله ت عاىل‬

‫الرْهن ‪ ،‬وع َّول على أمانة الْ ُمعامل ‪ ،‬ف ْليُؤد الَّذي ائْ تُمن ْاألمانة ولْي تَّق َّ‬
‫اَّلل ربَّهُ ‪.‬‬ ‫و ْاإل ْشهاد و َّ‬

‫ني‬
‫إسقاطُهُ ‪ ،‬وهبذا ي ت ب َّ ُ‬
‫اد واجبًا لما جاز ْ‬
‫اخت لف الْعُلماءُ يف ذلك كما ب يَّنَّاهُ ‪ ،‬ول ْو كان ْاإل ْشه ُ‬
‫وق ْد ْ‬
‫ب يف النكاح ‪)...( ،‬‬
‫أنَّهُ وثيقةٌ ‪ ،‬وكذلك ُهو عْندان يف النكاح ‪ ،‬وقال الْ ُمخال ُفون ‪ُ :‬هو واج ٌ‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 2‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 3‬البقرة‪.283:‬‬
‫‪58‬‬
‫و ُمجْلةُ ْاأل ْمر أ َّن ْاإل ْشهاد ح ْزٌم ‪ ،‬واالئْتمان وثيقةٌ اب ََّّلل م ْن الْ ُمداين ‪ ،‬وُم ُروءةٌ م ْن الْمدين ‪ ،‬ويف ْ‬
‫احلديث‬

‫يل َسأ ََل‬‫ذكحر أَن رج ًال حمن ب حين ْ ح‬ ‫الصحيح ع ْن أيب ُهريْرة ق ْوُل النَّيب صلَّى َّاَّللُ علْيه وسلَّم ‪:‬‬
‫إس َرائ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫الثَّابت َّ‬

‫َّلل َش حهي ًدا‬ ‫لش َه َد حاء أ ْش حه ْده ْم ‪ ،‬فَ َق َ‬


‫ال ‪َ :‬ك َفى حابَ ح‬ ‫ال‪ :‬ائْتححين حاب ُّ‬ ‫يل أَ ْن ي َسلح َفه أَل َ‬
‫ْف حدينَار ‪ ،‬فَ َق َ‬ ‫ض ب حين ْ ح‬
‫إس َرائ َ‬ ‫بَ ْع َ َ‬

‫‪،2‬‬ ‫َجل م َس ًّمى‬ ‫ح‬ ‫ال ‪َ :‬ك َفى حابَ ح‬


‫َّلل َك حف ًيال‪ ،‬قَ َ‬ ‫ال ‪ :‬فَأْتححين حابلْ َك حف ح‬
‫ص َدقْت‪ ،‬فَ َدفَ َع َها إل َْيه َإىل أ َ‬
‫ال ‪َ :‬‬ ‫يل‪ ،‬قَ َ‬ ‫قَ َ‬
‫‪1‬‬

‫وقد خرج اجلمهور هذا احلكم على ما محلوا عليه داللة األمر ابلكتابة الوارد قبله يف اآلية‪ ،‬قال اإلمام أبو‬

‫بكر اجلصاص‪ :‬وال خالف بني فقهاء األمصار أن األمر ابلكتابة واإلشهاد والرهن املذكور مجيعه يف هذه‬

‫اآلية ندب وإرشاد إىل مالنا فيه احلظ والصالح واالحتياط للدين والدنيا وإن شيئا منه غري واجب وقد‬

‫نقلت األمة خلفا عن سلف عقود املداينات واألشرية والبياعات يف أمصارهم من غري إشهاد مع علم‬

‫فقهائهم بذلك من غري نكري منهم عليهم ولو كان اإلشهاد واجبا ملا تركوا النكري على اتركه مع علمهم به‬

‫ويف ذلك دليل على أهنم رأوه نداب وذلك منقول من عصر النيب ‪ - ‬إىل يومنا هذا لو كانت الصحابة‬

‫والتابعون تشهد على بياعاهتا وأشريتها لورد النقل به متواترا مستفيضا وألنكرت على فاعله ترك اإلشهاد‬

‫فلما مل ينقل عنهم اإلشهاد ابلنقل املستفيض وال إظهار النكري على اتركه من العامة ثبت بذلك أن الكتاب‬
‫‪3‬‬
‫واإلشهاد يف الديون والبياعات غري واجبني‬

‫نصاب الشهادة‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫‪ - 1‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب الكفالة‪ ،‬ابب الكفالة يف القرض والديون ابألبدان وغريها‪ ،‬برقم‪.2169:‬‬
‫‪ - 2‬أحكام القرآن‪ ،‬البن العريب‪.44/2:‬‬
‫‪ - 3‬أحكام القرآن‪ ،‬أليب بكر اجلصاص‪.206/2:‬‬
‫‪59‬‬
‫األصل املقرر يف آية الدين أن نصاب الشهادة يكون برجلني‪ ،‬أو رجل وامرأتني‪ ،‬والشرط يف‬

‫عتمد عليها القاضي يف إثبات‬


‫كل العالة والثقة‪ ،‬فإذا شهد من توفر فيه ذلك كانت الوثيقة حجة يَ َ‬
‫العدلني بينة يف إثبات القوق والديون واجلناايت والدماء وهلذا‬
‫ْ‬ ‫القوق‪ ،‬وفض املنازعات؛ إذ شهادة‬

‫قال القرايف رمحه هللا‪ :‬ما علمت عندان‪ ،‬وال عند غريان خالفا يف قبول شهادة شاهدين مسلمني‬

‫عدلني يف الدماء والديون ‪.1‬‬

‫فتقرر أن الشهادة األصل فيها أن تقام برجلني عدلني‪ ،‬أو برجل وامرأتني‪ ،‬وذلك يف أمور بعينها‬

‫دون غريها‪ ،‬سيأيت تفصيلها‪ ،‬وهناك أنواع من الشهادات اشَتط فيها الرجال دون النساء‪ ،‬وهناك‬

‫أمور تقبل فيها شهادة النساء منفردات‪ ،‬كما أن مسألة العدد يف الشهادة كان ُمل تفصيل من الفقهاء‬

‫فيما هو مستثىن من الشهادة األصل وهي اليت تكون بشاهدين عدلني‪.‬‬

‫شهادة الرجلني العدلني‪ :‬وقد اتفق الفقهاء على حجيتها ومشروعيتها وقوهتا يف اإلثبات‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫فهي تلزم القاضي إبصدار احلكم‪ ،‬وهي كافية يف إثبات احلقوق‪ ،‬وال حتتاج إىل شيء آخر‪ ،‬بدليل ما ذكر‬
‫‪2‬‬
‫من النصوص السابقة‪ ،‬وقوله عليه الصالة والسالم‪ :‬ال نكاح إال بويل أو شاهدي عدل‬

‫شهادة الرجل واملرأتني‪ :‬وهي َثبتة بنص القرآن‪ ،‬وتثبت هبا احلقوق املالية وما يلحق هبا‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫وقد تكلم بعض الفقهاء يف علة اشرتاط املرأتني بدل الرجل الواحد‪ ،‬وعدم االقتصار على الواحدة فقط‪،‬‬

‫فعللها بعضهم بعلل منها‪:‬‬

‫‪ - 1‬الفروق‪.86/4:‬‬
‫‪ - 2‬السنن الصغرى للبيهقي‪ ،‬كتاب النكاح‪ ،‬ابب ال نكاح إال بوِل وشاهدي عدل‪ ،‬برقم‪.2487:‬‬
‫‪60‬‬
‫‪       ‬‬ ‫الغفلة والنسيان‪ :‬ومها أمران صرحت به اآلية؛ ‪‬‬ ‫أ‪-‬‬

‫‪ ،1‬فال جيوز التفريق بينهما يف أداء الشهادة‪ .‬قال ابن عاشور رمحه‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫هللا‪ :‬وهذه حيطة أخرى من حتريف الشهادة وهي خشية االشتباه والنسيان؛ ألن املرأة أضعف من الرجل‬

‫أبصل اجلبلة حبسب الغالب ‪ ،‬والضالل هنا مبعىن النسيان ‪. 2‬‬

‫ْن‬ ‫ح ح‬
‫صدق َ‬
‫نقصان العقل والدين‪ :‬وهو أمر صرح به احلديث الشريف‪َ :‬اي َم ْع َش َر الن َساء تَ َ‬ ‫ب‪-‬‬

‫ري َما َرأَيْت حم ْن‬ ‫ح‬ ‫ول ح‬


‫اَّلل قَ َ ح‬
‫ال ت ْكث ْر َن الل ْع َن َوتَ ْكف ْر َن الْ َعش َ‬ ‫ْن َوحِبَ َاي َرس َ‬
‫فَحإحين أ حريتكن أَ ْكثَ َر أ َْه حل النا حر فَ قل َ‬

‫صان حدينحنَا َو َع ْقلحنَا َاي َرس َ‬ ‫ح ح‬ ‫ب لحل ح‬ ‫ح‬ ‫َانقح ح‬


‫ول‬ ‫ب الرج حل ا ْلَا حزم م ْن إح ْح َداكن ق ل َ‬
‫ْن َوَما ن ْق َ‬ ‫صات َع ْقل َودين أَ ْذ َه َ‬
‫َ‬
‫ك حمن ن ْق ح ح‬ ‫ادةح الرج حل ق لْن ب لَى قَ َ ح‬ ‫حح‬ ‫ح‬
‫س‬ ‫ال فَ َذل ح ْ َ‬
‫صان َع ْقل َها أَل َْي َ‬ ‫ََ‬ ‫صح‬
‫ف َش َه َ‬ ‫ادة ال َْم ْرأَة مثْ َل نح ْ‬ ‫ال أَل َْي َ‬
‫س َش َه َ‬ ‫اَّلل قَ َ‬

‫ك حمن ن ْقص ح‬
‫ان حدينح َها‬ ‫ت َمل تص حل وَمل تَصم ق ْلن ب لَى قَ َ ح‬
‫ال فَ َذل ح ْ َ‬ ‫ض ْ ْ َ َْ ْ َ َ‬ ‫إحذَا َحا َ‬
‫‪3‬‬

‫ج‪ -‬قلة خربة املرأة ابلتجارة واألموال عموما‪ ،4‬وتويل املناصب العالية‪ ،‬فلذلك احتاجت‬

‫سندا من بنات جنسها؛ ألن املرأة أضعف من الرجل أبصل اجلبلة حبسب الغالب ‪. 5‬‬

‫فهذه بعض العلل امللموسة يف ضم شهادة املرأتني إىل شهادة الرجل‪.‬‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 2‬التحرير والتنوير‪.109/3:‬‬
‫‪ - 3‬رواه الشيخان واللفظ للبخاري‪.‬‬
‫‪ - 4‬هذا األمر خيرج خمرج الغالب؛ وإال فقد جتد من آحاد النساء من يفقن يف اخلربة املالية كثريا من الرجال؛ لكن احلكم للغالب‪.‬‬
‫‪ - 5‬التحرير والتنوير‪.109/3:‬‬
‫‪61‬‬
‫غري أن بعض العلماء جعلوا العلة يف ذلك تعبدية وأهنا راجعة إىل حكمة احلكيم وتدبريه لشؤون‬

‫اخللق‪ ،‬وهو اختيار اإلمام أيب بكر بن العريب رمحه هللا؛ إذ يقول‪ :‬فإ ْن قيل ‪ :‬ف ه َّال كان ْ‬
‫ت ْامرأةً واحدةً مع‬

‫اب فيه أ َّن َّ‬


‫اَّلل ُسْبحانهُ شرع ما أراد‬ ‫اجلو ُ‬
‫احلكْمةُ فيه ؟ ف ْ‬ ‫الر ُج ُل الَّذي معها إذا نسي ْ‬
‫ت ؛ ف ما ْ‬ ‫ر ُجل ف يُذكرها َّ‬

‫احلكْمة وأنْواع الْمصالح يف‬


‫اخل ْل ُق ُو ُجوه ْ‬
‫صلحة ‪ ،‬ولْيس ي ْلزُم أ ْن ي ْعلم ْ‬
‫‪ ،‬وُهو أ ْعل ُم اب ْحلكْمة وأ ْوِف ابلْم ْ‬

‫ت ْامرأت ْني وذ َّكر ْ‬


‫ت‬ ‫ت شهادةً واحدةً ‪ ،‬فإذا كان ْ‬ ‫ْاأل ْحكام ‪ ،‬وق ْد أشار عُلم ُاؤان أنَّهُ ل ْو ذ َّكرها إذا نسي ْ‬
‫ت لكان ْ‬
‫‪1‬‬
‫الر ُجل ي ْست ْذك ُر يف ن ْفسه ف ي تذ َّك ُر‬
‫ت شهاد ُهتُما شهادة ر ُجل واحد ‪ ،‬ك َّ‬
‫ُخرى كان ْ‬
‫امها ْاأل ْ‬
‫إحد ُ‬
‫ْ‬
‫الَتجيح بني شهادة الرجلني وشهادة الرجل واملرأتني‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫اختلف الفقهاء هل الشهادة الواقعة من الرجلني كالشهادة الواقعة من الرجل واملرأتني؛ فذهب البعض‬

‫منهم إىل أن اآلية حتمل على أهنا من ألفاظ اإلبدال؛ مبعىن ال يُلجأ إىل شهادة الرجل واملرأتني إال عند‬

‫تعذر شهادة الرجلني‪ ،‬قال ابن العريب‪ :‬قال عُلم ُاؤان ق ْوله ت عاىل ‪ :‬فإ ْن ملْ ي ُكوان ر ُجل ْني ف ر ُج ٌل و ْامرأاتن‪ ‬م ْن ألْفاظ‬

‫ْاإلبْدال ‪ ،‬فكان ظاه ُرهُ ي ْقتضي أَّال جتُوز شهادةُ النساء َّإال عْند عدم شهادة الرجال ‪ ،‬ك ُحكْم سائر إبْدال الشَّريعة مع‬

‫ُمْبدالهتا ؛ وهذا لْيس كما زعمهُ ‪ ،‬ول ْو أراد ربينا ذلك لقال ‪ :‬فإ ْن ملْ يُوج ْد ر ُجالن ف ر ُج ٌل ‪ :‬فأ َّما وق ْد قال ‪ :‬فإ ْن ملْ ي ُكوان‬

‫ف هذا ق ْوٌل ي ت ناو ُل حالة الْ ُو ُجود والْعدم ‪ ،‬وا ََّّللُ أ ْعل ُم ‪.2‬‬

‫غري أن اجلمهور على خالفه‪ ،‬كما أن تساوي الشهادة يف الالني تَتتب عليه مقاصد جليلة‬

‫ذكرها العالمة الطاهر بن عاشور فقال‪ :‬وجيء يف اآلية بكان الناقصة مع التمكن من أن يقال فإن‬

‫‪ - 1‬أحكام القرآن‪.21/2:‬‬
‫‪ - 2‬أحكام القرآن‪.11/2:‬‬
‫‪62‬‬
‫يكن رجالن لئال يتوهم منه أن شهادة املرأتني ال تقبل إال عند تعذر الرجلني كما تومهه قوم ‪ ،‬وهو خالف‬
‫مل ْ‬
‫قول اجلمهور ألن مقصود الشارع التوسعة على املتعاملني ‪ .‬وفيه مرمى آخر وهو تعويدهم إبدخال املرأة يف‬

‫شؤون احلياة إذ كانت يف اجلاهلية ال تشرتك يف هذه الشؤون ‪ ،‬فجعل هللا املرأتني مقام الرجل الواحد وعلل‬
‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪‬‬ ‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪   ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬ ‫ذلك بقوله ‪ :‬‬

‫ما تقبل فيه شهادة الرجل واملرأتني‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫شهادة الرجل واملرأتني حجة يف املال‪ ،‬وما يؤول إليه كالبيع واإلجارة والرهن والضمان‪ ،‬ومال السرقة‬

‫واخلُلع‪ ...‬والدليل آية الدين‪ ،‬ويقاس عليها املال وما يُقصد منه املال‪.‬‬

‫وقد اتفق فقهاء املذاهب األربعة على عدم قبول شهادة الرجل واملرأتني يف احلدود والقصاص خالفا‬

‫البن حزم وقلة قليلة من الفقهاء‪.‬‬

‫واختلفوا يف قبول شهادة الرجل واملرأتني فيما ليس مبال وال يؤول إىل املال؛ كأحكام النكاح والطالق‬

‫والرجعة والعدة والوصية والنسب والوقف‪ ...‬وذلك على مذهبني‪:‬‬

‫األول‪ :‬عدم قبول شهادة الرجل واملرأتني فيما ليس مبال وال يؤول إليه‪ ،‬وحجتهم يف‬ ‫‪-‬‬

‫ذلك أن النصوص الشرعية تدل داللة واضحة على اشرتاط الذكورة وعدم إشراك النساء يف نوع الشهادة‬

‫اليت تقوم هبا البينة يف تلك اجملاالت‪ ،‬كما يف قوله تعاىل‪ ،3      :‬وقوله عليه‬

‫‪ - 1‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪ - 2‬التحرير والتنوير‪.109/3:‬‬
‫‪ - 3‬الطالق‪.02:‬‬
‫‪63‬‬
‫الصالة والسالم‪ :‬ال نكاح إال بويل أو شاهدي عدل»‪ ،1‬وغريها من النصوص؛ فإهنا مفيدة عندهم‬

‫احلُ ُدود‪ ،‬فالَّذي علْيه‬


‫اخت ل ُفوا يف ق بُوهلما يف ْ‬
‫قصرها على الرجال دون النساء‪ .‬قال ابن رشد يف البداية‪ : :‬و ْ‬
‫‪2‬‬
‫احلُ ُدود ال مع ر ُجل وال ُم ْفردات‬
‫ور أنَّهُ ال تُ ْقب ُل شهادةُ النساء يف ْ‬
‫اجلُ ْم ُه ُ‬
‫ْ‬

‫الثاين‪ :‬وهو مذهب األحناف الذي يرون فيه قبول شهادة النساء مع الرجال فيما ليس‬ ‫‪-‬‬

‫مبال وال يؤول إىل املال‪ ،‬ومل يروا يف النصوص ما يدل على قصرها على الرجال دون النساء‪ ،‬واستثنوا من‬

‫احلُ ُدود م ْن أ ْحكام‬


‫ذلك احلدود‪ ،‬قال ابن رشد يف البداية‪ :‬وقال أبُو حنيفة‪ :‬تُ ْقب ُل يف ْاأل ْموال وفيما عدا ْ‬

‫ْاألبْدان مثْل الطَّالق و َّ‬


‫‪3‬‬
‫الر ْجعة والنكاح والْعْتق‬

‫أقسام الشهادة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ليس كل البينات يف الشريعة تثبت ابلشاهدين العدلني‪ ،‬فهناك استثناءات منها‪:‬‬

‫إثبات الزان‪ :‬فإن الشرع اشرتط له أربعة شهود عدول من الذكور‪ ،‬وال يقبل غري هذا؛ اللهم‬ ‫‪-1‬‬

‫إال اإلقرار من جهة مرتكب الفاحشة‪ ،‬وقد نبه العلماء على بعض احلكم من ذلك‪ ،‬ومن أجلها مقصد‬

‫السرت على العباد‪ ،‬وصون األعراض عن ْلوك األلسنة‪ ،‬وشدة االحتياط والتثبت يف هذا املوضوع ملا له من‬

‫عظيم اخلطر على النفس واجملتمع‪ ،‬وهلذا شرع احلد على من رمى حمصنة أو حمصنا ابلزن ومل أيت ابلبينة‬

‫‪             ‬‬ ‫وهي أربعة شهود ‪‬‬

‫‪ - 1‬السنن الصغرى للبيهقي‪ ،‬كتاب النكاح‪ ،‬ابب ال نكاح إال بوِل وشاهدي عدل‪ ،‬برقم‪.2487:‬‬
‫‪ - 2‬بداية اجملتهد وهناية املقتصد‪.248/4:‬‬
‫‪ - 3‬بداية اجملتهد وهناية املقتصد‪.248/4:‬‬
‫‪64‬‬
‫‪ ،1   ‬واستثين من ذلك رمي الزوج زوجته ابلزان؛ فقد شرع له اللعان املوجب‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪  ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬
‫‪‬‬

‫للفراق املؤبد بينها عند وقوعه‪.‬‬

‫إثبات إعسار الرجل بعد يساره‪ :‬فقد اشرتط له بعض الفقهاء ثالثة من الشهود‪ ،‬متسكا‬ ‫‪-2‬‬

‫منهم بظاهر حديث قبيصة الذي رواه مسلم‪ :‬ورجل أصابته فاقة حىت يقوم ثالثة من ذوي الجا من‬

‫قومه لقد أصابت فالان فاقة فحلت له املسألة حىت يصيب قواما من عيش ( أو قال‪ :‬سدادا من‬

‫عيش ) ‪ ، 2‬فعلى هذا عول الشافعية وأمحد يف أنه يشرتط إلثبات اإلعسار ثالثة من الشهود‪ ،‬بينما ذهب‬

‫اجلمهور إىل أنه ال يُشرتط الثالثة؛ بل يُكتفى بعموم األحاديث واآلايت الواردة يف إقامة الشهادة‪.‬‬

‫ميني املدعي مع شهادة الشاهدين‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫ذهب ابن أيب ليلى على اشرتاط ميني املدعي مع وجود الشاهدين‪ ،‬وخالفه يف ذلك مجهور الفقهاء‪،‬‬

‫قال ابن رشد احلفيد يف البداية‪ :‬وكل متفق أن احلكم جيب ابلشاهدين من غري ميني املدعي إال ابن أيب‬

‫‪ - 1‬النور‪.04:‬‬
‫‪ - 2‬صحيح مسلم‪ :‬كتاب الزكاة‪ ،‬ابب من حتل له املسألة‪ ،‬برقم‪ ،1044:‬ونص احلديث كامال‪ « :‬عن قبيصة بن خمارق اهلالِل قال‪:‬‬
‫حتملت محالة فأتيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم أسأله فيها فقال‪ ،‬أقم حىت أتتينا الصدقة فنأمر لك هبا‪ ،‬قال‪ :‬مث قال‪ :‬اي قبيصة‪ :‬إن‬
‫املسألة ال حتل إال ألحد ثالثة‪ :‬رجل حتمل محالة فحلت له املسألة حىت يصيبها مث ميسك‪ ،‬ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت‬
‫له املسألة حىت يصيب قواما من عيش‪ ( ،‬أو قال سدادا من عيش )‪ ،‬ورجل أصابته فاقة حىت يقوم ثالثة من ذوي احلجا من قومه‪ :‬لقد‬
‫أصابت فالان فاقة‪ ،‬فحلت له املسألة حىت يصيب قواما من عيش ( أو قال سدادا من عيش )‪ ،‬فما سواهن من املسألة اي قبيصة سحتا‬
‫أيكلها صاحبها سحتا »‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫‪1‬‬
‫وعضد ذلك بقول شريح ل ْو أثْبت عْندي كذا وكذا شاه ًدا‪ ،‬ما قضْيت‬ ‫ليلى فإنه قال ال بد من ميينه‬
‫‪2‬‬
‫لك ح َّىت ْحتلف‬

‫وملالك رمحه هللا قول ذهب فيه إىل اشرتاط اليمني مع الشاهدين‪ ،‬وذلك إكماال للبينة يف العني‪ ،‬وهو‬

‫أخذ هبذا النوع يف هذا املوضع خاصة‪ ،‬فيحلف املدعي أنه ما ابع وال وهب العني وال خرجت من يده‬

‫أبي وسيلة من الوسائل املزيلة للملك‪ ،‬وهو ما عليه الفتوى والقضاء يف ابب الدعوى يف األعيان‪ ،‬والسبب‬

‫وجود احتمال ذلك فالبد من اليمني‪.‬‬

‫ووقد رجح الفقهاء مذهب اجلمهور يف عدم اشرتاط ذلك‪ ،‬واالقتصار على شهادة الشاهدين‪ ،‬وهو‬

‫الذي تضافرت عليه النصوص؛ فيكون ما ذهب إليه مالك رمحه هللا من ابب الزايدة يف االحتياط عند قيام‬

‫موجباته‪.‬‬

‫القضاء ابلشاهد واليمني‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫إذا تعذر إقامة الشاهدين؛ فإنه يُستعاض عنهما ابلشاهد واليمني‪ ،‬غري أن هذا األمر مل يكن حمل‬

‫إمجاع من الفقهاء‪ ،‬فاختلفوا فيه على مذهبني‪:‬‬

‫املذهب األول‪ :‬مذهب اجلمهور من املالكية والشافعية واحلنابلة والظاهرية‪ ،‬وهو مذهب‬ ‫‪-‬‬

‫الزيدية كذلك‪ ،‬كما أنه مذهب بعض الصحابة كأيب بكر وعمر وعثمان وأيب بن كعب وزيد بن َثبت وأيب‬

‫هريرة وابن عباس‪ ...‬وهو الذي قال به بعض التابعني كعمر بن عبد العزيز‪ ،‬وشريح واحلسن‪ ،‬وفقهاء املدينة‬

‫‪ - 1‬بداية اجملتهد وهناية املقتصد‪.465/2 :‬‬


‫‪ - 2‬املغين البن قدامة‪.246/10:‬‬
‫‪66‬‬
‫السبعة؛ كلهم قالوا حبجية هذا النوع من البينة وعملوا هبا‪ ،‬وحتهم يف ذلك أحاديث كثرية يف الباب‪ ،‬تدل‬

‫على أن النيب ‪ ‬قضى ابلشاهد واليمني من ذلك – متثال ال حصرا‪:‬‬

‫ما رواه مسلم وغريه عن ابن عباس أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قضى بيمني‬ ‫أ‪-‬‬

‫‪1‬‬
‫وشاهد‬

‫ني‬ ‫صلى اَّلل َعلَْي حه َو َسل َم قَ َ‬


‫ضى حابليَ حم ح‬ ‫ح‬
‫مبا رواه الَتمذي من َحديث أحَيب ه َريْ َرةَ أَن النحيب َ‬ ‫ب‪-‬‬

‫اه حد الو ح‬
‫اح حد‬ ‫مع الش ح‬
‫َ‬ ‫ََ‬
‫‪2‬‬

‫صلى هللا‬ ‫ضى النح ُّ‬


‫يب َ‬ ‫ج‪ -‬ما رواه البيهقي ع ْن ع ْمرو بْن ُشعْيب‪ ،‬ع ْن أبيه ‪ ،‬ع ْن جده‪ ،‬قال‪« :‬قَ َ‬
‫ح ح‬
‫اهد وَميحني حيف ا ْلق ح‬
‫وق»‪ .3‬ومثله مروي عن مالك والدارقطين والشافعي وغريهم أبلفاظ‬ ‫ح‬
‫َعلَْيه َو َسل َم ب َش َ‬
‫خمتلفة‪.‬‬

‫‪-‬د ‪ -‬ما رواه البيهقي كذلك من حديث ابن عباس رضي هللا عنهما عن النَّيب صلَّى هللاُ علْيه‬

‫ح‬
‫س حد َماءَ قَ ْوم ‪َ ,‬وأ َْم َوا َهل ْم َولَكن الْيَ حم َ‬
‫ني َعلَى الْمد َعى‬ ‫وسلَّم‪ ،‬قال‪ «:‬ل َْو ي ْعطَى الناس بح َد ْع َواه ْم َالد َعى َان ٌ‬
‫َعلَْي حه»‪.4‬‬

‫والنصوص احلديثية يف هذا أكثر من أن حتصى يف مثل هذا املقام‪.‬‬

‫‪ - 1‬صحيح مسلم‪ ،‬كتاب األقضية‪ ،‬ابب القضاء ابليمني والشاهد‪ ،‬برقم‪.4569:‬‬


‫‪ - 2‬سنن الرتمذي‪ ،‬كتاب األحكام‪ ،‬ابب القضاء ابليمني مع الشاهد‪ ،‬برقم‪.1343:‬‬
‫‪ - 3‬السنن الكربى للبيهقي‪ ،‬كتاب الشهادات‪ ،‬ابب القضاء ابليمني مع الشاهد‪ ،‬برقم‪.20668:‬‬
‫ني على الْ ُمدَّعى علْيه‪ ،‬برقم‪.21197:‬‬
‫ب‪ :‬الْب ينةُ على الْ ُمدَّعي ‪ ،‬والْيم ُ‬
‫‪ - 4‬السنن الكربى للبيهقي‪ ،‬كتاب الدعوى والبينات‪ ،‬اب ُ‬
‫‪67‬‬
‫غري أن القائلني مبشروعية القضاء ابليمني والشاهد اختلفوا على أيهما تبىن احلجة‪ ،‬هل تكون هبما‬

‫احلجة أم أبحدمها فقط؟ وذلك على ثالثة أقوال‪:‬‬

‫األول‪ :‬وهو قول للشافعية وقول املالكية؛ أن اليمني جزء من النصاب ال تتميم‪ ،‬فيكون القضاء هبما‬

‫معاً‪.‬‬

‫والثاين‪ :‬وهو قول َثن للشافعية وللمالكية واحلنابلة أن القضاء ابلشاهد‪ ،‬وأما اليمني فهي للتأكيد‬

‫واالحتياط‪ ،‬فاليمني ليست حجة عندهم‪ ،‬وال جيوز تقدميها على شهادة الشاهد‪.‬‬

‫والثالث‪ :‬القضاء ابليمني‪ ،‬وال عربة ابلشاهد‪ ،‬وإمنا هو لرتجيح جانب املدعي‪ ،‬واختاره بعض مالكية‬

‫خراسان‪ ،‬والشافعية يف قول كذلك‪.‬‬

‫وَثرة هذا اخلالف الفقهي‪ :‬إذا رجع الشاهد يف شهادته؛ فعلى القول األول يُغَّرم النصف‪ ،‬وعلى‬

‫القول الثاين‪ ،‬يغرم ال ُك َّل‪ ،‬وعلى القول الثالث ال يضمن شيئا‪.‬‬

‫املذهب الثاين‪ :‬وهو مذهب األحناف وبه قال بعض التابعني؛ ومفاده أنه ال حجة إال يف‬

‫الشاهدين‪ ،‬أو يف الشاهد واملرأتني‪ ،‬ودليلهم آية الدين‪ ،‬اليت حصرت وجوه الشهادة املقبولة‪ ،‬فيكون قبول‬

‫الشاهد واليمني زايدة‪ ،‬والزايدة عندهم نسخ‪ ،‬ونسخ القرآن ال يكون خبرب الواحد على ما هو مقرر يف‬

‫مذهب األحناف‪.‬‬

‫وأجيب على اعرتاضهم أبن ذلك ال يقتضي النسخ‪ ،‬بل يقتضي العمل فيما سكت عنه الكتاب‪،‬‬

‫وقد عمل األحناف مبثل هذا يف كثري من األحكام‪ ،‬كما أن أحاديث الشاهد واليمني رواها عن رسول‬

‫ف وعشرون صحابيا فاكتسبت الشهرة وجرى عليها العمل يف جيل الصحابة ومن بعدهم‪.‬‬
‫هللا‪ ‬ن ي ٌ‬

‫‪68‬‬
‫القضاء ابملرأتني واليمني‪.‬‬ ‫‪-5‬‬

‫اختلف فيه الفقهاء على مذهبني‪:‬‬

‫املذهب األول‪ :‬أنه حجة وبه قال املالكية والنابلة وابن حزم من الظاهرية يف وجه له‪ ،‬واختاره‬

‫ابن تيمية وابن القيم‪ ،‬ونسبه القرايف إىل أيب حنيفة‪ ،‬وحجتهم يف ذلك القياس على شهادة الرجل‪ ،‬جبامع‬

‫قبول شهادة كل منهما‪ ،‬وألن شهادة الرجل تعدل شهادة امرأتني‪ ،‬فيجوز قبول شهادهتما مع اليمني؛ وألن‬

‫املدعي حيلف مع نكول املدعى عليه‪ ،‬لقوة جانبه ابلنكول‪ ،‬ومع شهادة املرأتني؛ فإن جانبه يصبح أقوى‬

‫من حالة النكول‪ ،‬وليس يف القرينة ما مينع هذا النوع من القياس؛ ألن املعترب يف ذلك العدالة والعدد‪ ،‬قال‬

‫ابن القيم‪ :‬واملرأة العدل كالرجل يف الصدق واألمانة والداينة‪َّ ،‬إال َّأهنا ملا خيف عليها السهو والنسيان‬

‫قُويت مبثلها‪ ،‬وذلك قد جيعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله ‪. 1‬‬

‫املذهب الثاين‪ :‬ال حجة يف القضاء ابملرأتني واليمني‪ ،‬واختاره الشافعية‪ ،‬وهو مذهب الزيدية‬

‫كذلك؛ واحتجوا أبن‪:‬‬

‫شهادة املرأة ضعيفة‪ ،‬وإمنا اجنربت ابنضمام الرجل إليها‪ ،‬كما أن اإلثبات ابليمني ضعيف‪،‬‬ ‫‪-‬‬

‫واإلثبات ابملرأتني واليمني؛ هو ضم ضعيف على ضعيف مثله‪ ،‬فال تقوم به حجة‪.‬‬

‫عدم قبول شهادة أربع نسوة مكان رجلني فيما خيتص به الرجال وتشاركهم يف الشهادة فيه‬ ‫‪-‬‬

‫النساء‪ ،‬وهو حمل اتفاق بني الفقهاء‪ ،‬واليمني حجة ضعيفة تقدم الشهادة عليها دائما يف اإلثبات‪ ،‬وال‬

‫‪ - 1‬الطرق احلكمية‪.430:‬‬
‫‪69‬‬
‫يلجأ إليها إال بعد نكول املدعى عليه‪ ،‬والنتيجة أن يف هذا ضم ضعيف إىل ضعيف‪ ،‬وكما ال تقبل شهادة‬

‫أربع نسوة‪ ،‬وال يقبل ميينان‪ ،‬ال يقبل كذلك شهادة امرأتني وميني‪.‬‬

‫شهادة النساء منفردات‪.‬‬ ‫‪-6‬‬

‫اتفق الفقهاء على قبول شهادة النساء منفردات ليس معهن رجل‪ ،‬فيما ال يطلع عليه الرجال؛‬

‫كالوالدة والبكارة وعيوب النساء اليت ختفى عادة على الرجال‪.‬‬

‫مشروعية شهادة النساء منفردات‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫أفادت اآلَثر املنقولة عن بعض السلف استقرار العمل يف السنة بشهادة النساء منفردات فيما خيتصن‬

‫به مما ال يطلع الرجال عليه غالبا‪ ،‬فقد روى جماهد وسعيد بن املسيب وطاووس ومجع من التابعني قوهلم‪:‬‬

‫‪.1‬‬ ‫قال عليه السالم‪« :‬شهادة النساء جائزة فيما ال يستطيع الرجال النظر إليه‬

‫وز شهادةُ النساء على اال ْست ْهالل»‪ 2‬وع ْن‬


‫وروى ابن أيب شيبة يف املصنف ع ْن عطاء‪ ،‬قال‪« :‬جتُ ُ‬

‫وز فيها إَّال شهاد ُ‬


‫ات النساء»‪ ،3‬وعن ابن شهاب الزهري قال‪:‬‬ ‫عامر‪ ،‬قال‪« :‬من الشَّهادات شهادةٌ ال جيُ ُ‬

‫مضت ال يسنَّةُ أ ْن جتُوز شهادةُ النساء فيما ال يطَّل ُع علْيه غ ْريُُه َّن م ْن والدات النساء وعُيُوهب َّن ‪ ،‬وجتُ ُ‬
‫وز‬

‫شهادةُ الْقابلة و ْحدها يف اال ْست ْهالل ‪ ،‬و ْامرأاتن فيما سوى ذلك‪ ،4 .‬ويف مصنف عبد الرزاق عن ابن‬

‫شهاب قال‪ :‬مضت السنة يف أن جتوز شهادة النساء ليس معهن رجل فيما يلني من والدة املرأة واستهالل‬

‫‪ - 1‬نصب الراية يف ختريج أحاديث اهلداية‪ ،‬للزيلعي‪.27/7:‬‬


‫‪ - 2‬مصنف اإلمام ابن أيب شيبة‪ ،‬كتاب البيوع واألقضية‪ ،‬ابب ما جتوز فيه شهادة النساء‪ ،‬برقم‪.21100:‬‬
‫‪ - 3‬مصنف اإلمام ابن أيب شيبة‪ ،‬كتاب البيوع واألقضية‪ ،‬ابب ما جتوز فيه شهادة النساء‪ ،‬برقم‪.21101:‬‬
‫‪ - 4‬مصنف اإلمام ابن أيب شيبة‪ ،‬كتاب البيوع واألقضية‪ ،‬ابب ما جتوز فيه شهادة النساء‪ ،‬برقم‪.21098:‬‬
‫‪70‬‬
‫اجلنني ويف غري ذلك من أمر النساء الذي ال يطلع عليه وال يليه إال هن فإذا شهدت املرأة املسلمة اليت‬
‫‪1‬‬
‫تقبل النساء فما فوق املرأة الواحدة يف استهالل اجلنني جازت‬

‫والعقل يؤيد هذا؛ إذ لو مل تقبل شهادهتن منفردات فيما خيصهن من األمور‬

‫لسقطت كثري من األحكام الشرعية اليت تقتصر عليهن؛ بل ميتد أثرها إىل غريهن من‬

‫املكلفني والناس عموما‪ ،‬ومن ذلك االستهالل يف اإلرث الذي يثبت به استحقاق‬

‫اإلرث من عدمه‪ ،‬ومثل ذلك يف الرضاع وما يرتتب عليه من األحكام‪.‬‬

‫وقد علل املالكية قبول شهادهتن يف هذا بعدم حضور الرجال معهن غالبا‪ ،‬وعلل‬

‫األحناف ذلك‪ ،‬بعدم مباشرة هذه احلالة إال من النساء غالبا‪ ،‬ومها تعليالن متقارابن‪،‬‬

‫ويظهر أن ما وليه الرجال من ذلك تقبل فيه شهادهتم كما هي احلال يف امتهان طب‬

‫النساء من قبل الرجال‪.‬‬

‫النصاب يف شهادة النساء منفردات‪.‬‬

‫اختلف الفقهاء يف النصاب الذي تقوم به شهادة النساء منفردات وذلك على َخسة أقوال‪:‬‬

‫القول األول‪ :‬أن النصاب امرأة واحدة‪ ،‬والثنتان أحوط‪ ،‬ويشرتط لألخذ بقول الواحدة؛ موافقتها‬

‫ألصل أو مؤكد آخر‪ ،‬وهو مذهب احلنفية وأمحد يف أشهر الرواايت عنه‪ ،‬واألوزاعي‪ ،‬وهو قول بعض‬

‫‪ - 1‬مصنف اإلمام عبد الرزاق‪ ،‬كتاب الشهادات‪ ،‬ابب شهادة املرأة يف الرضاع والنفاس‪ ،‬برقم‪.15427:‬‬
‫‪71‬‬
‫الصحابة؛ كعثمان وابن عباس وابن عمر واحلسن‪ ،‬كما عمل به بعض الصحابة يف بعض األمور‪ ،‬فقد روى‬

‫اخلطَّاب‪ ،‬أجاز شهادة ْامرأة يف اال ْست ْهالل»‪ ،1‬كما أخذ به أشهر القضاة‪ ،‬فقد‬
‫ابْن شهاب‪« ،‬أ َّن عُمر بْن ْ‬
‫‪2‬‬
‫روى عبد الرزاق يف مصنفه عن ُشريْح أنَّهُ أجاز شهادة الْقابلة و ْحدها يف اال ْست ْهالل‬

‫القول الثاين‪ :‬أن نصاب الشهادة امرأاتن‪ ،‬وهو قول مالك والثوري‪ ،‬والزهري وقال ْ‬
‫احلك ُم‪ْ :‬امرأاتن‬

‫ُْجتزاين‪ ،3‬إال يف االستهالل والرضاع عندهم فواحدة‪.‬‬

‫القول الثالث‪ :‬أن النصاب ثالث نسوة‪ ،‬وهو مروي عن أنس وعلي‪.‬‬

‫القول الرابع‪ :‬أن النصاب أربع نسوة‪ ،‬وبه قالت الشافعية والظاهرية؛ إال يف الرضاع عندمها فواحدة‪،‬‬

‫ات الرجال؛‬
‫وز فيه شهاد ُ‬
‫َّعيب فيما ال جتُ ُ‬
‫وهو قول الشعيب والنخعي‪ ...‬ففي مصنف ابن أيب شيبة عن الش ْ‬
‫‪4‬‬
‫أ ْربع نسوة‬

‫القول اخلامس‪ :‬نصاب الشهادة يف الرضاع امرأة واحدة‪ ،‬ومثله يف االستهالل‪ ،‬وقد عمل به بعض‬

‫الصحابة وبعض فقهاء التابعني وقضاهتم وغريهم‪.5‬‬

‫اثلثا‪ -‬التوثيق ابلرهن‪.‬‬

‫تعريفه‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫‪ - 1‬مصنف اإلمام عبد الزاق‪ ،‬كتاب الشهادات‪ ،‬ابب شهادة املرأة يف الرضاع والنفاس‪ ،‬برقم‪.15429 :‬‬
‫‪ - 2‬مصنف اإلمام عبد الزاق‪ ،‬كتاب الشهادات‪ ،‬ابب شهادة املرأة يف الرضاع والنفاس‪ ،‬برقم‪.15430 :‬‬
‫‪ - 3‬مصنف اإلمام ابن أيب شيبة‪،‬كتاب البيوع واألقضية‪ ،‬ابب ما جتوز فيه شهادة النساء‪ ،‬برقم‪.21099:‬‬
‫‪ - 4‬مصنف اإلمام ابن أيب شيبة‪،‬كتاب البيوع واألقضية‪ ،‬ابب ما جتوز فيه شهادة النساء‪ ،‬برقم‪.21100:‬‬
‫‪ - 5‬مصنف اإلمام ابن أيب شيبة‪ ،‬كتاب البيوع واألقضية‪ ،‬ابب ما جتوز فيه شهادة النساء‪ ،‬برقم‪.21100:‬‬
‫‪72‬‬
‫ال قَ ْبضه تَ َوثُّ ٌق بح حه حيف َديْن ‪ ،1‬و ح‬
‫عرف أيضا‬ ‫الرهن قال ابن عرفة يف تعريفه‪ :‬الر ْهن َم ٌ‬

‫ونص‬ ‫‪2‬‬
‫أبنه‪ :‬املال جيعل وثيقة ابلدين ليستوىف من مثنه إن تعذر استيفاؤه ممن هو عليه‬

‫الفقهاء على أن الرهن يكون مبا هو مشروع‪ ،‬فقال عبد العزيز البخاري يف كشف األسرار‪ :‬ال‬

‫خالف أن الرهن عقد وثيقة جلانب االستيفاء حىت ال يصح رهن ما ال يصلح لالستيفاء‬
‫‪3‬‬
‫كاخلمر‬

‫مشروعية الرهن‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫ثبتت مشروعية الرهن ابلكتاب والسنة واإلمجاع‪:‬‬

‫فأما دليل الكتاب‪ :‬فقوله تعاىل‪ ،4           :‬ووجه‬

‫االستدالل على وجه التحديد‪ ،    : :‬وقد فهم بعض العلماء من اآلية أن الرهان ال تكون‬

‫إال يف السفر‪ ،‬وهو خالف السنة‪ ،‬وخالف مذهب اجلمهور‪ ،‬فقد صح عنه ‪ ‬أنه اشرتى من يهودي‬

‫طعاما ورهنه درعه‪ ،‬وكاان ابملدينة‪ ،‬وهي نص يف جواز الرهن ابحلضر؛ لفعله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وهلذا‬

‫اختار مجهور الفقهاء أن ذلك يكون يف السفر واحلضر بوجود الكاتب أو عدمه‪ .‬قال ابن عاشور رمحه‬

‫هللا‪ :‬إذا مل يوجد الشاهد [الكاتب] يف السفر‪ ،‬فال مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة ال‬

‫‪ - 1‬شرح حدود ابن عرفة (اهلداية الكافية الشافية لبيان حقائق اإلمام ابن عرفة الوافية)‪ ،‬حملمد بن قاسم األنصاري‪ ،‬أبو عبد هللا‪،‬‬
‫الرصاع التونسي املالكي‪.126/2:‬‬
‫‪ - 2‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬وهبة الزحيلي‪.4208/6:‬‬
‫‪ - 3‬كشف األسرار عن أصول فخر اإلسالم البزدوي‪ ،‬عالء الدين عبد العزيز بن أمحد البخاري‪.575/3:‬‬
‫‪ - 4‬البقرة‪.283:‬‬
‫‪73‬‬
‫لالحرتاز‪ ،‬وال تعترب مفاهيم القيود إال إذا سيقت مساق االحرتاز‪ ،‬ولذا مل يعتدوا هبا إذا خرجت خمرج‬

‫الغالب‪ .‬وال مفهوم له يف االنتقال عن الشهادة أيضاً؛ إذ قد علم من اآلية أن الرهن معاملة هلم‪ ،‬فلذلك‬

‫أحالوا عليها عند الضرورة على معىن اإلرشاد والتنبيه ‪.‬‬

‫وقد أخذ جماهد‪ ،‬والضحاك‪ ،‬وداود الظاهري‪ ،‬بظاهر اآلية من تقييد الرهن حبال السفر‪ ،‬مع أن السنة‬

‫أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى هللا عليه وسلم ومن أصحابه يف احلضر ‪.1‬‬

‫صلى اَّلل َعلَْي حه‬


‫وأما دليل السنة‪ :‬فما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي هللا عنها أَن النحيب َ‬

‫َجل َوَرَهنَه حد ْر َعه ‪ ،2‬وروى البخاري يف صحيحه ع ْن أيب ُهريْرة‬ ‫ح‬ ‫وسلم ا ْش َ ح‬
‫َتى م ْن يَهودي طَ َع ًاما إح َىل أ َ‬
‫ََ َ َ‬

‫اَّللُ علْيه وسلَّم‪ «:‬الرْهن ي ْرَكب بحنَ َف َقتح حه إحذَا َكا َن َم ْره ً‬
‫وان َول َََب الد حر‬ ‫اَّلل صلَّى َّ‬
‫ول َّ‬‫اَّللُ عْنهُ قال‪ :‬قال ر ُس ُ‬
‫رضي َّ‬

‫وان َو َعلَى ال حذي يَ ْرَكب َويَ ْش َرب الن َف َقة»‪.3‬‬


‫ي ْش َرب بحنَ َف َقتح حه إحذَا َكا َن َم ْره ً‬

‫حكم الرهن‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫مجهور الفقهاء على أن توثيق الدين ابلرهن غري واجب‪ ،‬وأن األمر به يف اآلية على سبيل‬

‫اإلرشاد والندب‪ ،‬وشرطوا له القبض‪.‬‬

‫الرهن ُجعل عوضا عن الكتابة عند فقد الكاتب إذا طلبه صاحب الدين‪ ،‬فهو توثقة‬
‫و ُ‬
‫املتعاملني‪ ،‬قال ابن عاشور‪ :‬ومعىن "فرها ٌن"‪ :‬أي فرهان تعوض هبا‬
‫ْ‬ ‫للدين‪ ،‬زايدة يف الثقة بني‬

‫‪ - 1‬التحرير والتنوير‪.121/3:‬‬
‫‪ - 2‬متفق عليه‪.‬‬
‫‪ - 3‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب الرهن‪ ،‬ابب الرهن مركوب وحملوب‪ ،‬برقم‪.2377:‬‬
‫‪74‬‬
‫الكتابة‪ ،‬ووص ُفها مبقبوضة إما جملرد الكشف‪ ،‬ألن الرهان ال تكون إال مقبوضة‪ ،‬وإما لالحرتاز‬

‫عن الرهن للتوثقة يف الديون يف احلضر؛ فيؤخذ من اإلذن يف الرهن أنه مباح‪ ،‬فلذلك إذا سأله‬

‫رب الدين أجيب إليه فدلت اآلية على أن الرهن توثقة يف الدين ‪.1‬‬

‫رابعا‪ -‬التوثيق ابلكفالة (الضمان)‪.‬‬

‫مفهومها‪.‬‬ ‫‪-1‬‬

‫الكفالة أو الضمان أو الزعامة أو احلمالة كلها ألفاظ ملعىن واحد‪2‬؛ وقد عرفها املالكية أبهنا‪ :‬ضم‬

‫ذمة الكفيل (الضامن) إىل ذمة املكفول (املضمون عنه) يف االلتزام ابلدين»‪ ،3‬غري أهنم نصوا على أنه ليس‬

‫للمكفول أن يطالب الفيل ابلدين إال إذا تعذر عليه االستيفاء من األصيل (املدين)؛ ألن الضمان وثيقة‪،‬‬

‫فال يُستوِف احلق منه إال عند العجز عن استيفائه من املدين‪ .‬قال الشيخ الدردير يف الشرح الكبري‪ :‬إ ْذ ال‬

‫ي ْلزُم م ْن ُحلُول الدَّيْن على الْمدين ُحلُولُهُ على الْكفيل لب قاء ذ َّمته ف يح يل مب ْوت الْمدين وال يُع َّج ُل (وال‬
‫‪4‬‬
‫ب) الضَّام ُن أ ْي ال ُمطالبة لرب الدَّيْن علْيه (إ ْن حضر الْغرميُ ُموسًرا)»‬
‫يُطال ُ‬
‫واختلف الفقهاء هل ذمة الكفيل كاألصيل يف وجوب األداء ووجوب الدين‪.‬‬

‫مشروعيتها‪.‬‬ ‫‪-2‬‬

‫‪ - 1‬التحرير والتنوير‪.121/3:‬‬
‫‪ - 2‬يُنظر شرح التلقني للمازري‪.135/3:‬‬
‫‪ - 3‬يُنظر شرح التلقني للمازري‪.135/3:‬‬
‫‪ - 4‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبري‪ ،‬البن عرفة‪ ،337/3:‬ويُنظر يف تفصيل هذا؛ "شرح التلقني"‪ ،‬للمازري‪.135/3:‬‬
‫‪75‬‬
‫‪         ‬‬ ‫استدل ملشروعية الكفالة بدليل الكتاب؛ يف قوله تعاىل‪ :‬‬
‫ُ‬

‫‪ ،1‬ومن دليل السنة مبا رواه أبو داود عن أيب أمامة الباهلي أن النيب ‪ ‬قال‪ «:‬ال َْعا حريَة م َؤداةٌ‪َ ،‬وال حْم ْن َحة‬

‫ض ٌّى َوالز حعيم غَا حرٌم »‪ ،2‬ومن ذلك أيضا ما رواه البخاري ع ْن سلمة بْن ْاأل ْكوع رضي‬
‫ودةٌ‪ ،‬والديْن م ْق ح‬
‫َ‬ ‫َم ْرد َ َ‬
‫اَّللُ علْيه وسلَّم إ ْذ أُيت جبنازة ف قالُوا‪ :‬صل علْي ها ف قال‪ :‬ه ْل علْيه‬
‫وسا عْند النَّيب صلَّى َّ‬
‫اَّللُ عْنهُ قال‪ُ :‬كنَّا ُجلُ ً‬
‫َّ‬

‫اَّلل صل‬ ‫ديْ ٌن؟ قالُوا ال‪ ،‬قال‪ :‬ف ه ْل ت رك شْي ئًا؟ قالُوا ال‪ ،‬فصلَّى علْيه‪ُ .‬مثَّ أُيت جبنازة أ ْ‬
‫ُخرى ف قالُوا اي ر ُسول َّ‬

‫علْي ها‪ ،‬قال‪ :‬ه ْل علْيه ديْ ٌن؟ قيل‪ :‬ن ع ْم‪ ،‬قال‪ :‬ف ه ْل ت رك شْي ئًا قالُوا‪ :‬ثالثة داننري‪ ،‬فصلَّى علْي ها‪ُ .‬ث أحيتَ‬
‫ح‬ ‫ح‬ ‫حح‬
‫ري‪،‬‬
‫ال فَ َه ْل َعلَْيه َديْ ٌن قَالوا‪ :‬ثََالثَة َد َانن َ‬
‫ال‪َ :‬ه ْل تَ َر َك َش ْي ئًا؟ قَالوا‪َ :‬ال قَ َ‬ ‫حابلثالثَة فَ َقالوا‪َ :‬‬
‫ص حل َعلَْي َها‪ ،‬قَ َ‬

‫صلى َعلَْي حه‬ ‫ادةَ‪ :‬ص حل َعلَي حه اي رس َ ح‬ ‫ال‪ :‬صلُّوا َعلَى ص ح‬


‫احبحك ْم‪ ،‬قَ َ‬
‫ول اَّلل َو َعلَي َديْ نه فَ َ‬ ‫ال أَبو قَتَ َ َ ْ َ َ‬ ‫قَ َ َ‬
‫‪3‬‬
‫َ‬

‫ركنها‪.‬‬ ‫‪-3‬‬

‫شرط الفقهاء لصحة الكفالة رضا الكفيل‪ ،‬كما أنه ال خالف بينهم يف عدم اشرتاط رضا األصيل‬

‫(املكفول عنه)‪ ،‬ولو قضى الكفيل عن األصيل سقط عنه الدين ولو بغري رضاه‪.‬‬

‫بعض وجوه الكمة منها‪.‬‬ ‫‪-4‬‬

‫‪ - 1‬حاشية الدسوقي على الشرح الكبري‪ ،‬البن عرفة‪ ،337/3:‬ويُنظر يف تفصيل هذا؛ "شرح التلقني"‪ ،‬للمازري‪.135/3:‬‬
‫ضمني الْعارية‪ ،‬برقم‪ ،3567:‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫‪ - 2‬سنن أيب داود‪ ،‬كتاب اإلجارة‪ ،‬ابب يف ت ْ‬
‫‪ - 3‬صحيح البخاري‪ ،‬كتاب احلواالت‪ ،‬ابب إن أحال دين امليت على رجل جاز‪ ،‬برقم‪.2168:‬‬
‫‪76‬‬
‫من وجوه احلكمة يف تشريعها‪ :‬توثيق احلقوق‪ ،‬وحتقيق التعاون بني الناس‪ ،‬وتيسري معامالهتم يف‬

‫إقراض الديون واألموال وإعارة األعيان‪ ،‬ليطمئن صاحب احلق يف الدين أو العني املعارة للوصول إىل حقه‬

‫ورعاية مصاحله‪ ،‬ودفع احلرج عن الناس ‪.1‬‬

‫‪ - 1‬الفقه اإلسالمي وأدلته‪ ،‬د‪ .‬وهبة الزحيلي‪.4143/6:‬‬


‫‪77‬‬
‫التوثيق‪ :‬جماالته‪ ،‬وظائفه‪ ،‬مقاصده‪.‬‬

‫أوال‪ -‬جماالت التوثيق (التوثيق العديل‪ ،‬التوثيق القضائي)‪.‬‬

‫التوثيق العديل‪( .‬كتابة الواثئق بني الناس)‬ ‫‪-1‬‬

‫كتابة الواثئق بني الناس ( الكاتب ابلعدل) وهو ما حيرره الكتاب املنتصبون عامة من العقود‬

‫والوَثئق اليت تنظم معامالت الناس يف ابب األموال واألنكحة‪ ،‬والطالق‪ ،‬والرجعة‪ ...‬وتكون حتت إشراف‬

‫القضاء وهي اليت عناها ابن خلدون بقوله‪ :‬وحقيقة هذه الوظيفة‪ :‬القيام على إذن القاضي ابلشهادة بني‬

‫الناس فيما هلم وعليهم حتمال عند الشهادة‪ ،‬وأداء عند التنازع‪ ،‬وكتبا يف السجالت‪ ،‬حتفظ به حقوق الناس‬

‫وأمالكهم وديوهنم وسائر معامالهتم ‪.1‬‬

‫وقد سبق التفصيل فيما يلزم من الشروط واآلداب‪ ،‬وما يتعلق هبا من وجوه األحكام املختلفة‪.‬‬

‫‪ -2‬التوثيق القضائي‪.‬‬

‫ويسمى من ميارسها بكاتب القاضي أو "كتاب القضاء" ويسمون أيضا "بكتاب احلُكم"‪ ،‬وقد ذكر‬

‫ابن البطليوسي يف جواهر العقود ‪ ،‬عدة وظائف يقوم هبا كتاب القضاء فذكر منهم‪ ":‬كاتب القاضي‪،‬‬

‫وكاتب املظامل‪ ،‬وكاتب الديوان‪ ،‬وكاتب أمور اخلراج‪ ،‬وكاتب الشرطة‪ ،‬وكاتب التدبري وهو كاتب السلطان‪" 2‬‬

‫‪ - 1‬املقدمة ‪.635/8‬‬
‫‪ - 2‬جواهر العقود‪.448/2 :‬‬
‫‪78‬‬
‫ومهنة كتابة القضاء مهنة قدمية قدم القضاء يف اإلسالم؛ فقد ثبت أن القضاة من الصحابة كان هلم‬

‫كتاب؛ ومن هؤالء أبو موسى األشعري الذي وِل القضاء زمن عمر‪ ،‬وكان زيد بن َثبت وعثمان بن عفان‬

‫كاتيب عمر‪ ،‬وكان عبد هللا بن رافع‬


‫كاتيب أيب بكر الصديق‪ ،‬وكان زيد وعبد هللا بن األرقم ْ‬
‫رضي هللا عنهما ْ‬
‫كاتبًا لعلي‪.‬‬

‫وميكن أن يستدل أن النيب صلى هللا عليه وسلم بوصفه قاضي كان له كتاب ابلنظر إىل كتابتهم ملا‬

‫كان يصدر عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وهو أمر سبق بيانه‪.‬‬

‫‪-‬حكم اختاذ كاتب القاضي‪.‬‬

‫اختلف الفقهاء يف حكم اختاذ كاتب القاضي؛ غري أن جل ما ذهبوا إليه يرتاوح بني الندب واإلابحة‪،‬‬

‫وقليل منهم من قال ابلوجوب‪ ،‬وعليه يرتجح أنه دائر بني الندب واإلابحة‪.‬‬

‫مذهب مجهور الفقهاء يف حكم اختاذ كاتب القاضي‪.‬‬ ‫أ‪-‬‬

‫ذهب اجلمهور من الفقهاء إىل أن ذلك يرتدد بني الندب واإلابحة‪ ،‬فقد قال الكاساين من األحناف‬

‫يف بدائع الصنائع يف سياق احلديث عن القاضي‪ :‬ومنها أن يتخذ كاتبا؛ ألنه حيتاج إىل حمافظة الدعاوى؛‬

‫والبينات واإلقرارات ال ميكنه حفظها فالبد من الكتابة‪ ،‬وقد يشق عليه أن يكتب بنفسه فيحتاج إىل كاتب‬

‫يستعني به ‪ 1‬وقال السرخسي يف املبسوط‪ :‬وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبًا من أهل العفاف والصالح؛‬
‫‪2‬‬
‫وينبغي ههنا مبعىن يُستحب‪ ،‬بدليل قوله بعد ذلك‪ :‬ورمبا‬ ‫ألنه حمتاج إىل أن يكتب ما جرى يف جملسه‬

‫‪ - 1‬بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع‪ ،‬للكاساين‪.31/9:‬‬


‫‪ - 2‬املبسوط‪.174/16:‬‬
‫‪79‬‬
‫يعجز عن مباشرة مجيع ذلك بنفسه‪ ،‬فيتخذ كاتبًا لذلك ‪ ،1‬وقال ابن قدامة يف املغين‪ :‬يستحب للحاكم‬
‫‪2‬‬
‫وصرح بعض احلنابلة‬ ‫أن يتخذ كاتبا(‪ )...‬وإن أمكنه توِل الكتابة بنفسه جاز‪ ،‬واالستنابة فيه أوىل‬

‫كاملرداوي يف اإلنصاف أبن احلكم يقتصر على أصل واحد وهو اإلابحة فقال‪ :‬اختاذ الكاتب على سبيل‬
‫‪3‬‬
‫لكن الراجح يف املذهب أن ذلك يرتدد بني اإلابحة والندب‪.‬‬ ‫اإلابحة على الصحيح من املذهب‬

‫أما املالكية‪ :‬فقد ذهب بعضهم إىل القول بوجوب اختاذ كاتب القاضي‪ ،‬والبعض اآلخر قال‬

‫ابالستحباب؛ وهو الراجح لعدم وجود النص‪ ،‬وممن ذكر الوجوب الشيخ الدردير يف شرحه الكبري‪ ،‬ومحل‬

‫بعض العلماء القول ابلوجوب على أحوال منها‪:‬‬

‫كثرة القضااي اليت ينظر فيها القضاة‪ ،‬فال ينبغي للقاضي االشتغال أبمر الكتابة وترك ما‬ ‫‪-‬‬

‫هو أهم منها وهو النظر يف قضااي الناس ونزاعاهتم‪ ،‬بل الواجب عليه حينها اختاذ كاتب‪ ،‬وهلذا قال املاوردي‪:‬‬

‫ال يستغين قضاة األمصار والوالة على األعمال عن كاتب ينوب عنهم يف ضبط األمور ليتشاغل الوالة‬

‫ابلنظر ويتشاغل الكاتب ابإلثبات وإنشاء الكتب ‪ ،4‬وهلذا يبقى اختاذه واجبًا تالفيا لتعطيل مصاحل‬

‫املتقاضني أو أتخري البت فيها‪.‬‬

‫‪ - 1‬املبسوط‪.174/16:‬‬
‫‪ - 2‬املغين‪.64/10/64 :‬‬
‫‪ - 3‬اإلنصاف يف معرفة الراجح من اخلالف‪ ،‬عالء الدين أبو احلسن علي املرداوي الدمشقي احلنبلي‪.216/11:‬‬
‫‪ - 4‬أدب القاضي‪ ،‬للماوردي‪.59/2 :‬‬
‫‪80‬‬
‫يكون اختاذه واجبًا يف حال كان القاضي أميًا على قول من ذهب إىل جواز توِل األمي‬ ‫‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫القضاء‪.‬‬

‫وظائف كاتب القاضي‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫لكاتب القاضي وظائف كثرية منها ‪:‬‬

‫‪-‬كتابة احملاضر والسجالت‪ :‬حبيث يكتب إبذن القاضي ما جرى بني اخلصوم أثناء حضورهم أمام‬

‫القاضي‪ ،‬وما أدىل به كل منهما من احلجج يف الدعوى‪ ،‬وفائدة كتابة احملاضر والسجالت تتجلى يف ‪:‬‬

‫ضمان سالمة النظر يف النزاع‪ ،‬وسالمة احلكم فيه أي؛ فيما يبىن على مقدماته من نتائج‬ ‫‪-‬‬

‫وأحكام‪.‬‬

‫احملافظة على احلكم الذي أصدره القاضي حىت ال يُنسى‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫متكني صاحب احلق من اخلصمني من نسخة احملضر والسجل؛ ولذلك فالعادة جرت على‬ ‫‪-‬‬

‫طريف الدعوى معا‪.‬‬


‫كتابة نسختني إحدامها تبقى يف ديوان القاضي واألخرى تسلم لصاحب احلق‪ ،‬ل ْ‬
‫اعتماد القاضي على ما جيده من احملاضر والسجالت يف ديوانه؛ على رأي من يرى جواز‬ ‫‪-‬‬

‫اعتماده عليها‪ ،‬ولذلك ينبغي للقاضي أن ينظم احملاضر والسجالت حبيث يسهل عليه الرجوع إليها‪.‬‬

‫‪ -‬كتاب القاضي إىل القاضي‪ :‬وهو من وظائف كاتب القاضي؛ وذلك أبن يكتب القاضي يف مكان‬

‫كتااب يتعلق ابحلكم بني الناس‪ ،‬وهو ما يسميه الفقهاء‪"( :‬خطاب القاضي"‬
‫قضائه إىل قاضي آخر ببلد آخر ً‬

‫‪ - 1‬يُنظر أدب القاضي‪ ،‬للماوردي‪ ،81/2 :‬واملغين‪ ،‬البن قُدامة‪.39/10 :‬‬


‫‪81‬‬
‫أو "الكتاب احلكمي") وكتاب القاضي إىل القاضي يكون لوجود احملكوم عليه يف بلده أو غيبته عن جملس‬

‫القضاء‪ ،‬أو لغياب الشيء احملكوم به‪.‬‬

‫فأما األول ‪ :‬فكأن يُصدر القاضي حكمه على شخص غائب بعد ثبوت البينة فيسأله صاحب‬
‫‪1‬‬
‫احلق أن يكتب مضمن احلكم إىل القاضي الذي يوجد ببلد احملكوم عليه الغائب‪.‬‬

‫وأما الثاين‪ :‬أن يكتب القاضي ما ثبت عنده من بينة لشخص على آخر‪ :‬كأن يشهد عنده شاهدان‬

‫حبق لشخص على آخر فيكتب القاضي إىل القاضي ابلبلد اآلخر ما ثبت عنده من تلكم الشهادة ليصدر‬

‫القاضي الذي يوجد من عليه احلق ببلده حكمه‪ ،‬ولذلك فالقاضي الذي كتب مل يصدر حكماً وإمنا أثبت‬

‫البينة‪.2‬‬

‫‪-‬كتاب القاضي إىل احملكوم عليه‪ :‬ويكون ذلك واجبًا إذا كان احلكم سارًاي عليه‪ ،‬وإذا كان من أهل‬

‫عمله وإال فال جيب عليه الكتابة إليه‪.‬‬

‫كتاب القاضي إىل األمري ‪ :‬وهو أشبه بكتاب القاضي إىل القاضي‪ ،‬وال يكتب إليه إال إذا كان‬

‫اخلصم احملكوم عليه يف بلده‪ ،‬أو احلق احملكوم به يف بلده كذلك‪ ،‬ويكتب إليه ألجل التنفيذ؛ وليس ألجل‬

‫إصدار احلكم ألن ذلك من اختصاص القاضي‪.‬‬

‫كتاب القاضي إىل الشهود‪ :‬وكتابته هلم تكون بقصد إشهادهم على حكمه ليشهدوا‬ ‫‪-‬‬
‫‪3‬‬
‫لصاحب احلق مبا حكم به القاضي ‪.‬‬

‫‪ - 1‬يُنظر أدب القاضي‪ ،‬للماوردي‪.119/2 :‬‬


‫‪ - 2‬أدب القاضي‪ ،‬للماوردي‪.119/2 :‬‬
‫‪ - 3‬ينظر التوثيق واإلثبات ابلكتابة‪ ،‬د مجيل مبارك‪.130- 127 :‬‬
‫‪82‬‬
‫كتابة القاضي ألي جهة أخرى يرى القاضي الكتابة إليها‪.‬‬

‫‪ -‬وظائف أخرى لكاتب القاضي غري الكتابة‪:‬‬

‫لكاتب القاضي وظائف أخرى؛ تيسر عمل القاضي وتعينه‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬

‫قراءة الوَثئق اليت يدِل هبا اخلصوم للقاضي‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫حتمل الشهادة‪ :‬كأن يشهد أن القاضي حكم يف قضية ما؛ حبكم ما‪ ،‬ويتوىل كتابة حكم‬ ‫‪-‬‬

‫القاضي‪ ،‬وكتابة شهادته أي إثبات أنه ممن شهد على ذلك احلكم‪ ،‬وما فيه من البينات‪ ،‬فيكون كاتبا‬

‫ومتحمال للشهادة‪ .‬فكل ذلك يثبته يف الوثيقة احملررة أو احملضر احملرر‪.‬‬

‫الشهادة على شهادة شهود غابوا وفقدت الوثيقة اليت دونت فيها شهادهتم‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫أن يكون كاتب القاضي أحد الشاهدين اللذين حيضران جملس القاضي ليسمعا ما جيري‬ ‫‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫بني اخلصوم‪ ،‬فيجمع بني مهمة الكتابة والشهادة‪.‬‬

‫‪ -‬شروط كاتب القاضي ‪:‬‬

‫شرط الفقهاء لكاتب القاضي شروطا ال خترج يف جمملها عن شروط الكاتب العدل‪ ،‬قال ابن قدامة‬

‫وز أ ْن ي ْستنيب يف ذلك َّإال ع ْدًال؛ أل َّن الْكتابة م ْوض ُع أمانة‪ .‬ويُ ْستح ي‬
‫ب أ ْن ي ُكون فق ًيها؛‬ ‫يف املغين‪ :‬وال جيُ ُ‬

‫لي ْعرف مواقع ْاأللْفاظ الَّيت ت ت علَّ ُق هبا ْاأل ْحك ُام‪ ،‬ويُفرق ب ْني ْ‬
‫اجلائز والْواجب‪ ،‬وي ْن بغي أ ْن ي ُكون وافر الْع ْقل‪،‬‬
‫‪2‬‬
‫ور ًعا‪ ،‬نزًها؛ لئ َّال يُ ْستمال ابلطَّمع‪ ،‬وي ُكون ُم ْسل ًما‬

‫‪ - 1‬ينظر التوثيق واإلثبات ابلكتابة‪ ،‬د مجيل مبارك‪.131 :‬‬


‫‪ - 2‬املغين‪.64/10:‬‬
‫‪83‬‬
‫فمن شروطه إذا؛ اإلسالم والعدالة‪ ،‬والفقه ابألحكام‪ ،‬وضبطه ملا يكتب‪ ،‬واختلفوا يف احلرية( فاحلنفية‬

‫وجواب وهو ظاهر كالم املالكية‪ ،‬والشافعية اعتربوها شرطًا يف كمال العدالة وأما احلنابلة فأجازوا‬
‫اشرتطوها ً‬
‫كتابة العبد واحلرية عندهم مستحبة‪.‬‬

‫‪ -‬ما يستحب يف كاتب القاضي من الشروط‪:‬‬

‫زايدة الفقه‪ :‬وهو على نوعني( ما تتوقف عليه سالمة ما يكتبه وهو يلحق بضبط املكتوب‬ ‫‪-‬‬

‫فهو واجب‪ ،‬والثاين الفقه الزائد كالقدرة على التصرف يف كالم اخلصمني ابالختصار واحلذف ومها أقران‬

‫حيتاجان إىل معرفة ابلفقه‪ ،‬فإن مل ميتلكها الكاتب أثبت كالم اخلصوم كما هو‪ ،‬يقول اإلمام الكاساين‪:‬‬

‫وأما معرفته ابلفقه فالنه حيتاج إىل االختصار واحلذف من كالم اخلصمني والنقل من لغة وال يقدر على‬

‫ذلك اال من له معرفة ابلفقه فان مل يكن فقيها كتب كالم اخلصمني كما مسعه وال يتصرف فيه ابلزايدة‬

‫والنقصان لئال يوجب حقا مل جيب وال يسقط حقا واجبا الن تصرف غري الفقيه بتفسري الكالم ال خيلو‬
‫‪1‬‬
‫عن ذلك‬

‫وجدير ابلذكر أن الذي كان الذي يتوىل منصب كاتب القاضي هم العلماء‪ ،‬ولذلك أصبح بعضهم‬

‫قاضيا‪ ،‬وهذا كان من جيل الصحابة رضي هللا عنهم ويف سائر األجيال‪ ،‬وهلذا ملا استعفي توبة بن منر‬

‫احلضرمي من القضاء قيل له أشر علينا برجل نوليه القضاء من بعدك فقال‪ :‬كاتيب خري بن نعيم احلضرمي‬

‫فوِل القضاء لسنني طويلة‪َ( .‬ثاين سنوات)‪.‬‬

‫معرفة أحوال أهل البلد الذي يقع حتت حكم القاضي‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ - 1‬بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع‪.31/9 :‬‬


‫‪84‬‬
‫العفة عن الطمع تالفيا لرشوة الراشني‪.1‬‬ ‫‪-‬‬

‫اثنيا‪ -‬مقاصد توثيق العقود‪.‬‬

‫كثرية هي املقاصد اليت ينطوي عليها األمر بتوثيق العقود يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬

‫‪   ‬‬ ‫االستجابة ألمر هللا تعاىل الوارد يف سورة البقرة يف آية الدين‪ ،‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ ،2      ‬سواء محل األمر يف ذلك على الوجوب أو على الندب‬

‫واإلرشاد‪.‬‬

‫التأسي برسول هللا صلى هللا عليه وسلم يف فعله وإن كان فعله ال يدل على الوجوب‬ ‫‪-‬‬

‫يف هذه املسألة‪.‬‬

‫حفظ حقوق الناس وصون مصالهم املالية‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫رفع البينات إىل القضاء عند التنازع والتخاصم‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫محل من عليه الق على الوفاء لصاحب الق حبقه‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫إشاعة األمن االقتصادي يف األمة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫طمأنة ذوي القوق على حقوقهم‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫معاجلة فساد أحوال الزمان عند انتشار اخليانة ونكث العهود واملواثيق‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫دفع أسباب الريبة والشك اليت تتولد عن النسيان عند طول مدة وآجال التعامل‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ - 1‬بدائع الصنائع يف ترتيب الشرائع‪ ،31/9 :‬واملغين‪ ،‬البن قدامة‪.64/10:‬‬


‫‪ - 2‬البقرة‪.282:‬‬
‫‪85‬‬
‫‪ -‬االحتياط للحقوق عند طر حو بعض العوارض املفاجئة كاملوت‪ ،‬واملرض المنسي (الذي يتسبب‬

‫يف النسيان)‪.‬‬

‫احملافظة على الثقة بني الناس يف معامالهتم‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫تشجيع ذوي الفضل واإلحسان على تنفيس كرب املعسرين‪ ،‬ورفع الضائقة عن أهل‬ ‫‪-‬‬

‫الاجة والفاقة‪.‬‬

‫احملافظة على اآلجال آجال السداد وآجال املطالبة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫توقي الشبهات وتطييب املكاسب‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ -‬الدخول على البينة خاصة فيما يتعلق ابستحالل الفروج يف عقود األنكحة‪ ،‬والرجعة‪،‬‬

‫والطالق‪ ،‬وملك اليمني‪.‬‬

‫‪ -‬معرفة ما تصح به العقود وما يفسدها من الشروط‪.‬‬

‫‪86‬‬

You might also like