بيت الرفاعي - قصة قصيرة

You might also like

You are on page 1of 6

‫بيت الرفاعي‬

‫قصة قصيرة‬

‫للكاتب‪ :‬أحمد اإلكيابي‬


‫غرفته المترامية األطراف قد ضاقت عليه‪ ،‬فما من ركن بها يخلو من صندوق‬
‫خشبي أو كيس قماش يحوي حية شاهدة على بطولة صنعها أثلجت صدور‬
‫المذعورين‪ ،‬فداخل هذه الجدران المتهالكة التي هجرها السوس من فقد جدواها‪ ،‬وبقع‬
‫الرطوبة التي ازاحت الطالء ورسمت ديكورا جديدا يليق بجيب صاحبها يكمن كافة‬
‫أنواع األفاعي الزراعية والصحراوية أيضا التي جمعها ضرغام طوال ستون عاما‬
‫هم رحلته في هذه الدنيا يعمل رفاعي لنجدة كل مستغيث‪ ،‬مهدد بالتشرد من منزله‬
‫خشية اللدغ من أفعى استباحته‪ ،‬أو آخر يعتقد أن في فزع زوجته من ثعبانه ترياق‬
‫لبطنها التي تأخر حملها‪ ،‬ليكون مكسبه حفنة ما ِل زهيد يكفي قوت يومه‪ ،‬ومكافئة‬
‫أكبر وهي حصوله على عضو جديد ينضم لعائلته التي يقتنيها داخل صناديق منزله‬
‫الخشبية‪.‬‬
‫ورغم قلة الطلب على هذه المهنة في عصرنا الحديث لم يتخل عم ضرغام عن مبادئه‬
‫ولم يقبل استخدام ما يملكه من أفاعي نادرة في عروض استعراضية أو بيعها‬
‫لشركات تقوم بإجراء تعديالت وراثية عليها من أجل أبحاث تجريها‪ ،‬فقناعة ضرغام‬
‫كانت تنبثق من مبدأ الحفاظ على كل شيء خلقه الله بطبيعته وأن األفعى كائن حي‬
‫يشعر ويتألم كأي مخلوق مسالم‪ ،‬ولكن اللدغ فطرة لها ال ذنب لها فيه كما فطر الله‬
‫األسود على االفتراس والكالب على الوفاء‪.‬‬
‫ها وقد أصابه وهن الشيخوخة وضعفت قواه وبدت مهارته في استخراج الثعابين‬
‫تنحدر دون وريث شرعي لهذه الخبرة سوى فرج فلذة كبده‪ ،‬ابن الخامسة عشر من‬
‫العمر ذو الشعر القصير والجلباب الفضفاض والعمامة الثقيلة ومالمحه الحادة التي‬
‫تخفي بداخله رقة وحنان وطفولة غابت عنها الشمس‪.‬‬
‫في هذا اليوم قدم بكرى ليلقي عليهما بشرى سارة بطلبه لمهمة جديدة في فيال بالتجمع‬
‫الخامس قد تجلب لهما الخير الوفير‪ ،‬فهذه الفيال شاهد ساكنوها أفعى ( طريشة )‬
‫تسعى داخل حديقة منزلهم مترامي األطراف‪ ،‬استعد الطفل فرج للذهاب مع ضرغام‬
‫والده كعادته في خوفه المعهود‪ ،‬كانت خفقات قلبه اليافع تدق آذان المجاورين‪ ،‬ولكن‬
‫عيناه البريئتين تجاهد لطرد أي خوف يحاول اقتحامهما‪ ،‬وزاد هذا الخوف أيضا‬
‫عندما أكتشف فرج أن ضرغام سيعتذر عن هذه المهمة بعدما أصاب الوهن جسده‬
‫النحيل‪ ،‬فضرغام لم يعد يقوى على العمل مثلما كان وبات فرج مهدد بمواجهة مصير‬
‫جوع قد يحين في أي حين‪ ،‬ولكن فرج قرر أال ينتظر‪ ،‬فبالرغم من عوده اليافع إال أنه‬
‫يدرك جيدا أن ويالت األلم القريب أهون كثيرا من قلق انتظاره‪ ،‬نادى فرج على‬
‫بكري قبل انصرافه وأخبره أنه جاهز للذهاب معه بمفرده دون حاجة لمرافقة والده‪،‬‬
‫تعجب بكري من شجاعة فرج الزائدة‪ ،‬ولكن ثقة فرج بنفسه التي تظاهر بها كانت‬
‫تسيطر على أي شعور سلبى قد يراوده‪ ،‬وما كان عليه إال أن التقط كيسه القماشي‬
‫ونعله البالي وتحرك مع بكرى متسلال قاصدان وجهتهما دون أن يشعر به والده‪.‬‬
‫وصل فرج إلى الفيال ليرى أهلها يقفون خارجها بمالبس نومهم‪ ،‬فال أحد منهم يمتلك‬
‫من الجرأة ما يجعله يقوى على التحرك لجلب حتى أبسط أمتعته من الداخل‪ ،‬نظر‬
‫الجميع لفرج وتغيرت مالمحهم إلى االمتعاض‪ ،‬من هذا الطفل الصغير؟‪ ،‬وهل‬
‫يستطيع طفل كهذا القيام بهذه المهمة؟‪ ،‬ثم بدأ حديث المسئول بقسوة ملقيا ً اللوم على‬
‫بكري‪:‬‬
‫‪ -‬مين ده يا بكرى ؟‬
‫‪ -‬ده فرج ابن عم ضرغام ‪ ..‬وما يتخيرش عنه‪.‬‬
‫‪ -‬وضرغام مجاش ليه بنفسه ؟‬
‫‪ -‬هو بس بعافية النهار ده ومش قادر يتحرك‪.‬‬
‫‪ -‬ومشوفتش ليه واحد غيره ‪ ..‬إحنا مش ح نجيب طفل نموته يا بكري‪.‬‬
‫‪ -‬مبقاش حد بيشتغل الشغالنة دي األيام دي يا بيه وعلى أما نجيب حد من‬
‫الصعيد فيها يوم بليلة ‪ ..‬وبعدين ده راضع الشغالنة مع ضرغام من صغره ‪ ..‬جربه‬
‫وعلى ضمانتي‪.‬‬
‫شعر فرج بحالة اللغط هذه ولكنها لم تبدل من ثقته شيئا‪ ،‬دخل إلى حديقة الفيال‬
‫يضرب بعصاه األرض في دقات منتظمة تصدر أنينا كلغة أجنبية غير دارجة ال‬
‫يفهمها سوى هو وصيده‪ ،‬استمر فرج بالتجول داخل أركان الحديقة مستمرا في‬
‫إصدار تلك الدقات بعصاه الرفيع‪ ،‬حتى وجد هذه ( الطريشة ) تخرج له من بين‬
‫فروع شجرة التوت تزحف مستجيبة لنداء يثير غريزتها‪ ،‬فوجئ فرج بنتاج مسعاه‪،‬‬
‫فلقد اعتاد المشاهدة وهذه أول مرة يكون فيها فاعال دون مرشد أو دليل‪ ،‬كلما حاول‬
‫فرج تذكر ما كان يفعله والده ال يستطيع ولكن تصرفاته التلقائية هي من كانت ترشده‬
‫صواب الطريق‪ ،‬فلقد حرص ضرغام على غرس هذه المهارات بداخله منذ الصغر‬
‫دون أن يشعر حتى أصبحت كنقش على الحجر‪ ،‬وهنا وجد فرج نفسه يقوم بزيادة‬
‫سرعة هذه الضربات محاوال االقتراب من ذيلها‪ ،‬بدت األفعى تفهم حيلته وأصرت أال‬
‫تمكنه من ذلك‪ ،‬أصبحت شديدة الحرص على أن تجعل رأسها مواجهة له‪ ،‬وكلما‬
‫استدارت له األفعى استدار فرج في خفة ولياقة ليصبح خلف ذيلها وأعين الساكنين‬
‫تراقب من بين قضبان السور الحديدي ما يفعله في قلق وتوتر ضاعفه سن فرج‬
‫مرتين‪ ،‬بينما أعينهم جميعهم تحوى سؤاال واحداً‪ ،‬هل سينجح هذا الطفل الصغير في‬
‫اإلمساك بهذه األفعى وحمايتهم من شرورها ؟ ‪ ،‬أم سيكون ضحية لمسعاه ؟ ‪ ،‬وربما‬
‫تنتهي رحلة طموحه عند هذه اللحظة ليذهب إلى عالم آخر أقل قسوة من العالم الذي‬
‫دفعه لفعل كهذا‪ ،‬فهذا النوع من األفاعي معروف بسميته الشديدة وسرعة مفعوله‪،‬‬
‫ومن المؤكد أنه لن يفلح في الحصول على مصل ينقذه إذا حظى بأقل اللدغات‪،‬‬
‫واستمر االثنان في صراعهما يحاول كل منهما أن يغلب إرادته على اآلخر‪ ،‬ولكن‬
‫المدهش للجم يع أن إرادة الجنس البشري أثبتت قدرتها على الثبات‪ ،‬فاألفعى أنهكت‬
‫قواها بينما مازال فرج يتحرك في خفة واتزان‪ ،‬استسلمت األفعى وتركته يقف حيث‬
‫أراد وقررت السير مبتعدة عنه‪ ،‬يبدو أنها أيقنت أنه ال أمان لها في مواجهة هذا الطفل‬
‫اليافع‪ ،‬وهنا بدأ فرج في االقتراب من ذيلها‪ ،‬وكلما لمسه بيده حاولت لدغه سريعا‬
‫ولكن حركة ابعاد يده دوما ما تكون أسرع من حركة لدغتها‪ ،‬كرر فرج هذه المحاولة‬
‫مرات ومرات بينما أصحاب الفيال يراقبون ما يحدث من خلف السور ال يتذكرون‬
‫ضرورة ابتالع لعابهم من شدة االنتباه‪ ،‬حتى تمكن فرج من وضع طرف العصا على‬
‫رأ س األفعى لتثبيتها وضمان عدم حركتها المفاجأة‪ ،‬وهنا استطاع االمساك بذيلها‬
‫ليرفعها واضعا إياها داخل أسوار كيسه القماشي المحكم بدبارة مربوطة ال تقوى‬
‫أفعى مهما بلغت سميتها على اختراقه‪ ،‬كان أصحاب الفيال في ذهول يمتزج بالفرحة‬
‫الشديدة‪ ،‬وأخذوا مصفقين ومهللين لنجم لم تطال قدماه أطراف سجادة حمراء من قبل‪.‬‬
‫تقدم الدكتور عزمي صاحب الفيال نحو فرج محيا ً ومرحبا ً وداعيا ً إياه بكارت‬
‫لحضور حفل يقيمه لتكريم المواهب النادرة طالبا ً منه أن يكون هو على رأسهم‪،‬‬
‫ولكن بن الخامسة عشر والذي يتصبب وجهه عرقا لم يكن مكترثا لهذا الكارت بقدر‬
‫اهتمامه بمكافئته الصغيرة كي يسعد بها والده طريح الفراش‪.‬‬
‫وقف فرج داخل غرفته الضيقة يمأله الحيرة والحزن‪ ،‬ينظر للكارت بيده تارة‪ ،‬ثم‬
‫لصورته في بقايا مرآة مكسور تارة أخرى‪ ،‬ثم أخذ يخلع عنه جلبابه وعمامته‬
‫الصعيدية التي تغطى رأسه لتكشف لنا المرآة عن فتاة تختبئ خلف كل هذه المالبس‬
‫الفضفاضة والفعل الجريء‪ ،‬أخذت فرج تتحسس جسدها وكأنها لم تعد تتذكره‪ ،‬وربما‬
‫تريد التأكد أنها مازالت تحتفظ بأنوثتها التي غابت كما غابت عنها طفولتها أيضا‪،‬‬
‫لتتذكر كلمات والدها ضرغام في طفولتها بعد وفاة أمها‪:‬‬
‫‪ -‬يوم ما سميتك فرج يا بت مكانتش مرازية ‪ ..‬كان كيفي أن االسم دايما يفكرك‬
‫أنك في دنيا عفية محتاجة الناشف ‪ ..‬أمك ماتت وهونسها في يوم معلوم ولو سيبتك‬
‫لشوقك عودك هيتكسر مع أول تيار يهفه ‪ ..‬مش عايز الجالبية وال العمة دى تتخلع‬
‫من على راسك طول ما ضهرك مكشوف ‪ ..‬من غادي أنت الصبي بتاعي هعلمك‬
‫أصول الكار‪ ،‬وحسك عينك حد يحس أنك مش دكر صح ‪ ..‬مفهوم ؟‬
‫‪ -‬مفهوم يا آبه‪.‬‬
‫وبينما تحمل فرج كيسها القماشي بما يحوه من صيد جديد وتدخل لغرفة المخزن فإذا‬
‫بها تفاجئ بضرغام يقف مستندا بين الصناديق ينظر لهم وكأنه في حالة وداع محتوم‪،‬‬
‫سألته فرج‪:‬‬
‫‪ -‬إيه اللي قومك من فرشتك يا آبه ؟‬
‫‪ -‬بعمل اللي كان الزم يحصل من زمان‪.‬‬
‫نظرت فرج لعامالن يحمالن صناديق األفاعي الخشبية للخارج ذهابا وإيابا‪ ،‬فتواري‬
‫فرج ما بيدها من كيس قماشي خلف ظهرها‪.‬‬
‫‪ -‬ح تبيع ؟ ‪ ..‬أنت طول عمرك رافض ده‪.‬‬
‫‪ -‬واكتشفت أني كنت غلطان ‪ ..‬صحيح أنا خليتك دراعي اليمين في الكار ده ‪..‬‬
‫لكن محبش أنك تكملي فيه بعدي‪.‬‬
‫فهمت فرج أن ضرغام علم بذهابها مع بكري دون علمه‪ ،‬فرفاعي في خبرته وذكاءه‬
‫ليس ببعيد أن يميز رائحة األفعى التي تحملها في كيسها المخفي‪.‬‬
‫‪ -‬الفلوس اللي هتيجي من بيع الحبال دي هتعملي بيهم مشروع تعيشي منه‪.‬‬
‫‪ -‬لكن أنت مخليتش في إيدي صنعة غير الصيد‪.‬‬
‫‪ -‬وعلشان كدة ببيعهم ‪ ..‬الزم تتعلمي صنعة تانية يا فرج ‪ ..‬ومن غير ما تستخبي‬
‫تحت الجالبية والعمة‪.‬‬
‫جلست فرج في غرفتها تفكر‪ ،‬تنظر إلى الجالبية والعمامة‪ ،‬وكيس الثعبان الوحيد‬
‫الذي تملكه‪ ،‬ثم كارت الحفل الملقى على األرض في حيرة شديدة‪ ،‬إلى أن تلتقط فرج‬
‫كارت الحفل ناظرة إليه‪ ،‬وهي تفكر‪ ،‬ماذا يمكن أن تتعلم غير هذه الحرفة ؟‪ ،‬وهل‬
‫ستقوى على مواجهة المجتمع بحقيقة جنسها المجهول ؟‪ ،‬كيف سيتعاملون معها ؟ ‪،‬‬
‫وما الذي عليها فعله ؟‪ ،‬كل هذا أخذ يراود خيال فرج‪ ،‬وكان الحفل بالنسبة لها‬
‫فرصة ال تعوض لتعلن حقيقتها‪ ،‬فباألمس كانت مجبرة ولكن األن باتت تملك حرية‬
‫االختيار‪ ،‬وقفت أمام المرآة تنظر لنفسها‪ ،‬ثم بدأت بارتداء فستانا يظهر أنوثتها‪،‬‬
‫وتمشيط شعرها المجعد‪ ،‬ثم أخذت تصبغ شفاهها باللون الذي طالما حلمت به‪ ،‬لتأخذ‬
‫في الدوران أمام المرآة وكأنها تنظر إلى شخص جديد ال تعرفه يظهر أمامها للمرة‬
‫األولى‪.‬‬
‫وحان موعد الحفل وفقرة تقديم المواهب‪ ،‬ونودي على فرج كي يقدم موهبته‪ ،‬وسط‬
‫انتظار جميع الحضور في لهفة واهتمام‪ ،‬وإذا بفرج تصعد بهيئتها المعهودة‪ ،‬الجلباب‬
‫والعمامة مقدمة نفسها‪:‬‬
‫‪ -‬فرج ضرغام ‪ ..‬أصغر رفاعي في الدنيا‪.‬‬
‫وأخذت فرج في إخراج األفعى الوحيدة التي باتت تملكها لتصنع استعراضها وعيناها‬
‫الصغيرتان تمالهما الدموع وسط فرحة وتشجيع الحاضرين‪.‬‬

‫النهاية‬

You might also like