TQZBP

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 24

‫الثقافي‬

‫العدد الـ ‪ - 34‬سبتمبر ‪ 24 - 2023‬صفحة‬


‫ط����ال����ب ال���رف���اع���ي‬
‫يجد ُد بريق الرواية‬ ‫ّ‬
‫الواقعية ويعيدها‬
‫إل��������ى ال����واج����ه����ة‬ ‫‪ARTs & CULTURE‬‬

‫الثقاف��ة واإلقص��اء‬
‫نجيب محفوظ وال��رواي��ة الذهنية‬ ‫■‬

‫الباحث البحريني د‪ .‬حسن مدن‪:‬‬ ‫■‬

‫مجتمعات الخليج أمام مرحلة جديدة‬

‫إع��ادة التفكير في التنمية الثقافية‬ ‫■‬

‫سامح الجباس يتحدث عن مغامرته الروائية‪:‬‬ ‫■‬

‫رابط��ة كاره��ي س��ليم العش��ي‬

‫«ك�������وك�������ب�������ة»‪ ..‬أك������ب������ر م����ع����رض‬ ‫■‬

‫ل����ل����ف����ن ال�����ع�����رب�����ي ف�������ي ل����ن����دن‬

‫ال������م������ت������خ������ي������ل ال������ت������اري������خ������ي‬ ‫■‬

‫ف���ي س����ردي����ات إدواردو غ��ال��ي��ان��و‬


‫الثقافي‬ ‫‪ 02‬تمهيد‬

‫الثقافة واإلقصاء‬
‫ً‬
‫خطرا‬ ‫تمثل «ال��ع��ص��اب��ات الثقافية»‬ ‫◄‬ ‫د‪ .‬ج�������م�������ال ح�����س�����ي�����ن ع���ل���ي‬
‫على الثقافة أكبر من الدكتاتوريات‬
‫أي شخص آخر؟‬ ‫هل املثقف مثل ّ‬
‫المستبدة والقيود المفروضة على‬ ‫أي شخص‬ ‫أي شخص آخر‪ ،‬لكين لست مثل ّ‬ ‫نلجأ إىل جان جاك روسو لإلجابة على هذا السؤال‪ ،‬فقد كتب الفيلسوف واالجتماعي‪« :‬أان مثل ّ‬
‫الحريات والنشر‪ ..‬ألنه ال حدود لها‪..‬‬ ‫آخر»‪.‬‬
‫وغياب األط��ر لقياس انتهاكاتها أو‬ ‫املعريف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املادي‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫موجودا»‪ .‬وهنا ال نقصد الوجود‬
‫ً‬ ‫كل شخص فريد من نوعه‪ ...‬ونضيف من هيغل‪« :‬ما دام‬ ‫عند قراءة هذه السطور‪ ،‬سنفهم أن ّ‬
‫فكل شخص لديه فكرته اخلاصة عن‬ ‫مجيعا نفهم بورخيس ابلطريقة نفسها‪ّ .‬‬ ‫ويف اإلطار نفسه‪ ،‬أتيت املعايري الثقافية اليت متيّز ذائقتنا وفهمنا‪ ،‬فلسنا ً‬
‫ّ‬
‫الرد عليها‬ ‫ظاهري ليسوا متشاهبني فحسب‪ ،‬بل يف حقيقة أهنم يدركون الواقع‬‫اً‬ ‫األمل‪ ،‬واجلميع مهتم أبشياء خمتلفة؛ ذلك ألن فردية الناس ال تنحصر يف أهنم‬
‫من حوهلم بطرق خمتلفة‪ ،‬ألن لكل شخص أصله وتربيته‪ ،‬والظروف اليت رافقته يف احلياة‪ .‬وأعتقد أن الشخص ملزم ابحلفاظ على فرديته‪ ،‬ألن‬
‫ل��م��اذا ساهم المثقفون أنفسهم‬ ‫◄‬ ‫ذلك جيعله على ما هو عليه‪.‬‬
‫في نشر «ثقافة اإلقصاء»‪ ،‬بد ً‬
‫ال من‬
‫أمثلة اإلقصاء اإلنساني‬
‫المساعدة في تعزيز التواصل ما بين‬
‫س�لام»‪ ،‬حيث‬ ‫س��وف أنتقل إل��ى ال�خ�ي��ال‪ ...‬ف��ي عمل «ال �ح��رب وال �‬
‫تمثل الشخصية الرئيسية ناتاشا روستوفا م�ث��الاً ً‬
‫األسرة البشرية والمجتمع الكوني؟‬ ‫حيا على‬
‫حقيقة أن الفردانية تصنع الشخص بنفسه‪ ،‬وتمكن اآلخرين‬
‫أفضل‪ ،‬ال يكاد أي شخص يخلط بني ناتاشا‬ ‫من فهمه بشكل ّ‬
‫وهيلني كوراجينا‪ .‬كل هذا يرجع إلى فردية كلتا البطلتني‪ ،‬ناتاشا‬
‫ل����م����اذا؟ وك���ي���ف؟ وب�����أي ط����رق تم‬ ‫◄‬ ‫ليست مثل هيلني األنانية‪ ،‬امرأة بال روح‪ ،‬إنها مبتهجة ومبهجة‪،‬‬
‫وعائلتها ه��ي ال�ش��يء الرئيسي ف��ي حياتها‪ .‬مثال واض��ح على‬
‫«اس��ت��ب��ع��اد» األف������راد وال��ج��م��اع��ات‬ ‫أهمية الحفاظ على الفردية ه��و رواي��ة جنكيز إيتماتوف «اآلل��ة‬
‫املمزقة» التي تحكي أسطورة مانكورت‪ .‬الرجل ال��ذي ُح� ِ�رم من‬
‫اج��ت��م��اع��ي ً��ا؟ ه��ل المظهر الجسدي‬ ‫ذاكرته من أجل تحويله إلى عبد‪ ،‬فأصبح ُمثل «مخلوق مجهول‬
‫أو ال��س��ل��وك‪ ..‬ال��م��ه��ن��ة‪ ..‬ال��دي��ن‪..‬‬ ‫ال��وج��ه»‪ ،‬يلبي أوام ��ر س� ّ�ي��ده حتى عندما قتلت أم��ه‪ ،‬وه��ذا مثال‬
‫اإلنساني الذي يتحول فيه املرء إلى كائن مسخ‬ ‫ّ‬ ‫صارخ لإلقصاء‬
‫العرق‪ ..‬الجنس‪ ..‬المكان‪ ..‬القناعات‬ ‫أو حيوان‪ ،‬بعد أن تتوقف الصفات اإلنسانية عن العمل لديه‪.‬‬
‫وف��ي ت��راج�ي��دي��ا آرث��ر ميلر‪« ،‬م��وت ب��ائ��ع م�ت�ج� ّ�ول»‪ ،‬ي��وض��ح بطل‬
‫المسبقة؟‬ ‫ال��رواي��ة ويلي لومان مفهوم اإلق�ص��اء‪ ،‬حيث ح��اول ط��وال حياته‬
‫ناجحا وأن يثبت قدرته على توفير حياة‬ ‫ً‬ ‫أن يصبح رجل أعمال‬
‫ً‬
‫أفضل ألبنائه ونفسه‪ .‬كان مترددا في أخذ نقود من جاره وأخذ‬
‫نصيحة زوج�ت��ه بالتقاعد‪ .‬ك��ان ل��دى ويلي معتقدات قوية بأنه‬
‫يجب أن يعمل حتى اليوم ال��ذي دف��ع فيه فاتورته األخ�ي��رة‪ .‬لقد‬
‫الشعراء والعلماء المنبوذون‬ ‫رف��ض امل�س��اع��دة م��ن األش �خ��اص املحيطني ب��ه‪ ،‬ألن األميركيني‬
‫متربون على االكتفاء الذاتي ويقدرونه‪ .‬وعلى الرغم من أن هذه‬
‫وف��ي تراثنا العربي‪ ،‬ال يوجد مصطلح «ثقافة اإلق �ص��اء»‪ ،‬يمكن أن‬ ‫قصة م��أس��اوي��ة ل��رج��ل فشل ف��ي السيطرة على ح�ي��ات��ه‪ ،‬فإنها‬
‫نعتبرها تسمية حديثة بالرغم من كثرة الشعراء والعلماء املنبوذين‬ ‫تغرس فكرة أن الفردية التي تؤدي إلى اإلقصاء‪ ،‬قيمة رئيسية‬
‫والناس العاديني الذين أطلقوا عليهم الخلعاء وغيرها من املسميات‪،‬‬ ‫في الثقافة‪.‬‬
‫خصوصا الشعراء الصعاليك‪.‬‬ ‫مثال آخر على ذلك رواية مارك توين «مغامرات هكلبيري فني»‬
‫وذك ��ر ل�ن��ا ال��دك �ت��ور ش��وق��ي ض�ي��ف ف��ي ك�ت��اب��ة «ال �ع �ص��ر ال�ج��اه�ل��ي»‬ ‫املنشورة عام ‪ .1884‬وتعد صورة هاك وصديقه جيم الذي كان‬
‫ال�ص��ادر في القاهرة عن «دار امل�ع��ارف» بطبعاته املتعددة‪ ،‬الشعراء‬ ‫عبدًا هاربًا من سيده في رحلتهما على نهر امليسيسيبي أحد‬
‫املنبوذين الذين عانوا االقصاء الشديد بسبب دفاعهم عن مبادئهم‬ ‫موضوعات الصراع بني املجتمع والفرد‪ .‬في بداية الرواية‪ ،‬نرى‬
‫أمثال‪ :‬عنترة بن ش��داد ال��ذي أوق��ف القسم األكبر من شعره بسبب‬ ‫عمليا ويعتمد على فطرته لتوجيهه خالل‬ ‫ً‬ ‫أن هاك يرفع نفسه‬
‫قضية ت�ح��رره م��ن ال��رق واالع �ت��راف ب��ه م��ن قبل أبيه وأق��ارب��ه وأبناء‬ ‫حياته على األرض‪ .‬يمكننا تحديد ت�ط� ً�ور ال�ف��رد ال��ذي تعرض‬
‫قبيلته‪ .‬وابن هانئ األندلسي الذي أوقف شعره على الترويج ملذهبه‬ ‫إلى اإلقصاء من املجتمع‪ ،‬لنكتشف الحقا في واحدة من أجمل‬
‫العقائدي والدولة التي تمثل هذا املذهب‪ .‬ولكن أكثر الذين تعرضوا‬ ‫روايات القرن التاسع عشر املكتوبة بالعامية‪ ،‬أن الفطرة السليمة‬
‫للخلع واالقصاء ُهم الشعراء املنبوذون‪ ..‬والصعاليك تسمية تطلق‬ ‫تميل إل��ى وض��ع ال�ف��رد ف��ي مستوى أخ�لاق��ي أع�ل��ى م��ن معايير‬
‫على جماعة من العرب في عصر ما قبل اإلس�لام‪ ،‬عاشوا وأطلقوا‬ ‫املجتمع‪ .‬وب��رز ذل��ك عندما ق��رر هكلبيري املساعدة في تحرير‬
‫حركتهم في الجزيرة العربية‪ ،‬وينتمون لقبائل مختلفة‪ُ ،‬عرفوا ُ بعدم‬ ‫جيم‪ ،‬وه��و عبد معروف‪ ،‬وه��ذه أح��د األمثلة العديدة التي تجعل‬
‫انتمائهم لسلطة قبائلهم وواجباتها‪ ،‬حيث انشقوا عنها أو ط��ردوا‬ ‫هاك يتخذ خياراته الخاصة ويحافظ على شخصيته‪ ...‬وتحيلنا‬
‫منها‪ .‬ومعظم أفراد هذه الجماعة من الشعراء املجيدين‪ ،‬وقصائدهم‬ ‫هذه النهاية إلى رواية «الطيران فوق عش الوقواق» لكني كيسي‪،‬‬
‫تعد من عيون الشعر العربي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫مع الفارق في خيار التحرر من اإلقصاء‪.‬‬
‫‪03‬‬ ‫تمهيد‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫ال�����ح�����ق�����وق ال���ث���ق���اف���ي���ة‬ ‫ال ي����وج����د ف�����ي ت���راث���ن���ا‬ ‫◄‬
‫في ظل هذه الظروف الكونية املريضة‪ ،‬كيف للفرد أن يحصل على حقوقه‬
‫ّ‬ ‫العربي مصطلح «ثقافة‬
‫الثقافية؟ ما املؤشرات التي ينبغي استخدامها لقياس وصول األفراد إلى‬ ‫اإلق���������ص���������اء»‪ ..‬ف��ه��ي‬
‫هذه الحقوق؟ كيف يمكن بناء وتقوية حياة ثقافية تساهم في االندماج‬
‫االجتماعي واملشاركة؟ وه��ل لعبت املكتبات واملقاهي الثقافية ً‬
‫دورا في‬ ‫ت���س���م���ي���ة ح���دي���ث���ة م��ع‬
‫عملية الدمج الثقافي ما بني املثقف والجمهور؟ وهل تم إنشاء بيئة ثقافية‬
‫مواتية تعزز وصول األفراد إلى حقوقهم والشعور باملسؤولية االجتماعية‪.‬‬ ‫ك��ث��رة ال��ش��ع��راء والعلماء‬
‫لقد ك��رس ال�ق��ان��ون ال��دول��ي تقليديا الحقوق الثقافية‪ ،‬وق��د حمى بشكل‬ ‫المنبوذين الذين أطلقوا‬
‫خاص مبدأ عدم التمييز بني الثقافات املختلفة‪ ،‬وحرية الجماعات الفردية‪،‬‬
‫وال سيما األق�ل �ي��ات‪ ،‬ف��ي م�م��ارس��ة أنشطتها ال�ث�ق��اف�ي��ة‪ .‬ول�ك��ن ت��م تطبيق‬ ‫عليهم تسمية الخلعاء‬
‫«الحياة الثقافية» بشكل متزايد ليس على التعبير الفني أو حقوق األقليات‬
‫فحسب‪ ،‬بل على مشاركة املجتمعات في تشكيل السياسات وحريتها في‬ ‫والصعاليك‪ ..‬وغيرها‬
‫القيام بعمل جماعي‪.‬‬

‫ل ه���ذه ال��ظ��روف‬
‫ف��ي ظ��� ّ‬ ‫◄‬
‫البيئة الصح ّية للعدالة الثقافية‬
‫الكونية المريضة‪ ..‬كيف‬
‫الصحية للعدالة الثقافية ل�لأف��راد‪ ،‬يجب أن‬ ‫ّ‬ ‫ولكي ننجح ف��ي خلق البيئة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ل��ل��ف��رد أن ي��ح��ص��ل على‬
‫معززا لإلبداع الحقيقي ومعبرا عن استقاللية الذات‬ ‫يكون النشاط الثقافي‬
‫ومكر ًسا مبدأ تكافؤ الفرص للجميع بال تمييز‪ ،‬وليس كما يجري ً‬
‫حاليا‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫ح��ق��وق��ه ال��ث��ق��اف��ي��ة؟ ما‬
‫وسط ترسيخ «ثقافة الشللية» التي طالت املؤسسات الرسمية واملشاريع‬
‫يقرب إليه املتملقني واملتزلفني‬ ‫الثقافية الخاصة‪ ...‬فصاحب ّأي مشروع‪ّ ،‬‬ ‫ال��م��ؤش��رات ال��ت��ي ينبغي‬
‫وي��دع��و ب�ين ال�ح�ين واآلخ ��ر وج��وه��ًا م�ع��روف��ة وم�ح��اي��دة م��ن ال �خ��ارج ل�ي��ذرّ‬
‫اس���ت���خ���دام���ه���ا ل��ق��ي��اس‬
‫بهم الرماد على العيون‪ ،‬من جيوب العامة التي تهدر أموالهم املؤسسات‬
‫الثقافية الضعيفة‪ ...‬ويظهر باعتباره املكافح األول في بناء الثقافة وراعي‬ ‫وص��ول األف���راد إل��ى هذه‬
‫اإلدم��اج الثقافي والتماسك االجتماعي‪ ،‬من خ�لال ف��رض قيمه وفضائه‬
‫الثقافي املرتبط بخدمة سياسته ومصالحه الثقافية واملالية‪.‬‬ ‫الحقوق؟‬
‫هذه واحدة من أخطر انتهاكات الحقوق الثقافية لألفراد‪ ،‬بتهميش وإقصاء‬
‫املنافسني والخصوم في حرب غير عادلة‪ ،‬وتقريب املنافقني واملحسوبني‬
‫�ادي��ا‪ ،‬وخ ��داع ال�ج�م�ه��ور ب�م�ش��روع ظ��اه��ره ثقافي‬ ‫وإب��رازه��م وتنفيعهم م� ً‬ ‫ال��ف��ط��رة السليمة تميل‬ ‫◄‬
‫ً‬
‫ماليا واجتماعيا وفكريا‪ .‬وتمثل هذه العصابات الثقافية‬ ‫ً‬ ‫وباطنه مشبوه ً‬
‫خطرا على الثقافة أكبر من الدكتاتوريات املستبدة والقيود املفروضة على‬ ‫ً‬ ‫إل�����ى وض�����ع ال����ف����رد ف��ي‬
‫الحريات والنشر‪ ،‬ألنه ال حدود لها‪ ،‬وغياب األطر لقياس هذه االنتهاكات‬ ‫م��س��ت��وى أخ�لاق��ي أعلى‬
‫أو ّ‬
‫الرد عليها‪.‬‬
‫ي�ج��ب أن ت�س�ت��وع��ب امل��ؤس �س��ات ال�ث�ق��اف�ي��ة م��ؤش��رات امل �ش��ارك��ة الثقافية‬ ‫من معايير المجتمع‬
‫للمثقفني وامل �ف �ك��ري��ن ال�ح�ق�ي�ق�ي�ين وال ت�ق�ت�ص��ر ع�ل��ى اب� ��راز ودع ��م ال��ذي��ن‬ ‫لغات التفاعل‬
‫صنعتهم بنفسها‪ ،‬ف�ه��ذا األس�ل��وب ينبغي أال ي�ك��ون م��ن ص�ف��ات اإلدارة‬
‫الرشيدة وينسف األولويات الثقافية لألفراد واملجتمعات‪.‬‬ ‫ك��ان ه�ن��اك إح�س��اس ع��ام أن ظ�ه��ور ون�م��و وس��ائ��ل ال�ت��واص��ل االج�ت�م��اع��ي س�ت�ق� ّ�رب م��ا ب�ين ال�ب�ش��ر‪ ،‬لشمولها‬ ‫ف��ردي��ة ال��ن��اس ال تنحصر‬
‫مساحات جديدة و«لغات» تفاعل متنوعة‪ ،‬كي ال تصبح الشعوب غريبة‪ ،‬ويلتقي الجميع على مائدة التطبيقات‬
‫◄‬
‫كـ«أصدقاء»‪ ،‬غير أن غربة الفرد ازدادت‪ ،‬فيما أصبح اآلخ��رون «أع��داء»‪ .‬كيف حدد الناس من هو الصديق أو‬ ‫ً‬
‫ظاهريا ليسوا‬ ‫في أنهم‬
‫دور ال��ص��ح��اف��ة ال��ث��ق��اف��ي��ة‬ ‫الحليف أو العدو املحتمل؟ ملاذا؟ وكيف؟ وبأي طرق تم «استبعاد» األفراد والجماعات اجتماعيًا؟ هل املظهر‬
‫الجسدي أو السلوك‪ ،‬املهنة‪ ،‬الدين‪ ،‬العرق‪ ،‬الجنس‪ ،‬املكان‪ ،‬القناعات املسبقة؟ ما الذي حدث لجمهور وسائل‬ ‫م��ت��ش��اب��ه��ي��ن ف��ح��س��ب‪..‬‬
‫وتجب على الصحافة الثقافية مراقبة هذه الخروقات والتجاوزات والكتابة‬ ‫التواصل في «الداخل» أو في «الخارج»؟‬ ‫ب���ل ف���ي ح��ق��ي��ق��ة أن��ه��م‬
‫عنها وتوضيح املعايير الدنيا لالستحقاقات الثقافية األس��اس�ي��ة التي‬ ‫العديد م��ن امل��ؤرخ�ين الحديثني للعالقات االجتماعية‪ ،‬وت��اري��خ ال�ن��وع االجتماعي‪ ،‬وت��اري��خ الجسد‪ ،‬وال�ح��واس‬
‫يجب على الدول احترامها‪ ،‬بغض النظر عن املوارد املتاحة‪ .‬وتشمل هذه‬ ‫والعواطف‪ ،‬خبراء عديدون من بينهم أدباء ومفكرون وعلماء‪ ،‬تطرقوا إلى هذه القضايا‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ال تزال هناك‬ ‫ي�����درك�����ون ال�����واق�����ع م��ن‬
‫املعايير حماية التراث واملمتلكات الثقافية‪ ،‬وحرية استخدام لغات األقليات‬ ‫العديد من األسئلة األساسية حول طرق فهم الناس لتفاعالتهم االجتماعية وإدارتها‪ .‬وملاذا انتشرت «ثقافة‬
‫وأفكارها‪ ،‬وتنوع البرامج التعليمية وحماية الفنانني‪ .‬ويمكن أن تستند‬ ‫اإلقصاء» على نطاق واسع حتى في غضون مناقشة قضايا بسيطة كالرياضة والتعصب لألندية والالعبني‬ ‫حولهم بطرق مختلفة‬
‫جزئيا إل��ى تصديق ال ��دول على التشريعات ال��دول�ي��ة املتعلقة‬ ‫ً‬ ‫القياسات‬ ‫وغيرها‪ .‬كيف سيضع االجتماعيون الجدد نظرياتهم لبناء العالقات االجتماعية‪ ،‬وكيف؟ وملاذا تم استبعاد‬
‫ّ‬
‫بحماية الحياة الثقافية واملشاركة فيها‪ .‬فهناك فئات مختلفة مهمشة‬ ‫مجموعات وأفراد معينني من تفاعالت ومساحات اجتماعية معينة؟ وملاذا ساهم املثقفون أنفسهم في نشر‬
‫ً‬ ‫ه���ن���اك ف���ئ���ات مختلفة‬
‫ت�م� ً�ام��ا وال تستطيع امل�ش��ارك��ة ف��ي ال�ح�ي��اة الثقافية‪ ،‬واع�ت�م��اد نهج جديد‬ ‫«ثقافة اإلقصاء»‪ ،‬بدال من املساعدة في تعزيز التواصل ما بني األسرة البشرية واملجتمع الكوني؟‬ ‫◄‬
‫وديناميكي للحقوق الثقافية‪ ،‬على عكس املنظور التقليدي من أعلى إلى‬ ‫ً‬
‫أسفل‪.‬‬ ‫ت���م���ام���ا وال‬ ‫ّ‬
‫م���ه���م���ش���ة‬
‫وضمن السياق الثقافي‪ ،‬يجب على صانعي السياسات تشجيع املشاركة‬ ‫األسئلة المتعبة‬ ‫تستطيع المشاركة في‬
‫واإلح �س��اس باملكان واالن�ت�م��اء ف��ي فضاء امل��دي�ن��ة‪ .‬ألن مشاركة املجتمع‬
‫املدني أم��ر أساسي لتعزيز التسامح واملشاركة املتساوية في املجتمع‪،‬‬ ‫كاف بنظريات الشمول واإلقصاء والعالقات االجتماعية‬ ‫ال تمكن اإلجابة عن هذه األسئلة املتعبة‪ ،‬من دون إملام ٍ‬ ‫الحياة الثقافية‪ ..‬لذلك‬
‫ال�ت��ي تحددها ال�ح��ري��ات الثقافية وتنوعها امل�س�ت��دام ف��ي الحياة الثقافية‬ ‫وتشكيل الهوية‪ ،‬التواصل االجتماعي ومساحات للقاءات االجتماعية‪« ،‬االنطباعات األولى» في اللقاءات األولى‪،‬‬
‫واملستندة إلى خمسة عناصر أساسية‪ :‬التعددية اللغوية‪ ،‬والتعليم باللغة‬
‫ّ‬
‫املرئيات الخطابية للغرباء واملنبوذين من مجتمعاتهم وكمية الحق الذي يمتلكونه ضد الجماعة التي همشتهم‪،‬‬ ‫ينبغي اعتماد نهج جديد‬
‫ثقافيا‪ ،‬والحريات الدينية‪ ،‬والهويات املتعددة‪ ...‬فهذه‬ ‫األم‪ ،‬واملناهج املتنوعة ً‬ ‫التنمر وشن الحمالت التي تعزز سياسة القطيع إزاء قضية‬ ‫العناصر اإلقصائية‪ ،‬املادية واملعنوية بما فيها ّ‬
‫العناصر غير قابلة ّ‬ ‫ودي��ن��ام��ي��ك��ي ل��ل��ح��ق��وق‬
‫للمس من أجل ضمان الحرية الثقافية‪ .‬ولألسف قلة‬ ‫يتفق عليها الجميع بال نقاش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ال��ث��ق��اف��ي��ة‪ ..‬على عكس‬
‫من الدول وحتى الكثير من الناس‪ ،‬خاصة املشرعني‪ ،‬يؤمنون بمقاييس‬ ‫ولدينا أيضا الحواس واملشاعر التي تراجعت مع العواطف اإلنسانية األخرى‪ ،‬وتم استبدالها بالتنكر والخداع‬
‫الحقوق الثقافية القائمة على سن االلتزامات القانونية‪ ،‬مع أن املجتمعات‬ ‫واملظهر‪ ،‬الجمال‪ ،‬القبح‪ ،‬املرض‪ ،‬والعجز‪ ،‬الصراع واملشاجرات‪ ،‬اإلشاعات‪ ،‬الثرثرة‪ ،‬االفتراء‪ ،‬التشهير‪ ...‬وغيرها‬
‫الحضارية تعطي األولوية لتكافؤ الفرص وصيانة التراث الثقافي وحماية‬ ‫من املوبقات املستندة إل��ى االنتماء الديني واملعتقد‪ ،‬واالنتماء وال�ص��راع بني الطوائف واإلدم��اج واالستبعاد‬ ‫المنظور التقليدي من‬
‫ثقافات األقليات وحق الفرد في املشاركة في األنشطة الثقافية بعدالة‪.‬‬ ‫القومي والعرقي والتمثيل الجنساني في صراعه مع «اآلخر» ومن ثم يأتي دور املنحرفني واملجرمني الرسميني‪.‬‬ ‫أعلى إلى أسفل‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 04‬حوار‬

‫الباحث البحريني د‪ .‬حسن مدن‪:‬‬


‫مجتمعات الخليج أمام مرحلة جديدة‬
‫المثقف والتحوالت الجديدة‬ ‫حواران التايل مع الكاتب والباحث البحريين الدكتور حسن مدن احلاصل على دكتوراه يف التاريخ احلديث واملعاصر‪..‬‬
‫وامل�ث�ق��ف م�ط��ال��ب ق�ب��ل س ��واه ب �ق��راءة ال �ت �ح� ّ�والت ال �ج��دي��دة واس�ت�ش��راف‬
‫أبعادها وتداعياتها املحتملة‪ ،‬وبالعمل على ّ‬
‫والذي عمل يف العديد من املؤسسات الثقافية اخلليجية‪ ،‬وساهم وأدار بعض الدورايت الثقافية‪ ،‬وال يزال يعمل يف‬
‫«تموضع» جديد للثقافة‪،‬‬
‫االستهالكية التي طبعت بعض جوانبها‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يحررها‪ ،‬ما أمكن‪ ،‬من املظاهر‬ ‫هذا اجملال‪.‬‬
‫ّ‬
‫ث� ّ�م��ة ت�ح� ٍّ�د آخ��ر يتمثل ف��ي ت��راج��ع وتقهقر ف�ض��اءات التنوير والحداثة‬
‫البنيوي القائم في هذه‬‫ّ‬ ‫نمو التيارات املحافظة التي ّ‬
‫تعمق املأزق‬ ‫ملصلحة ّ‬ ‫محمد القذافي مسعود‬
‫املنطقة أساسًا بني حداثة في املظاهر في املعمار وبني البنية السياسيةّ‬
‫وحتى لو أقمنا مقارنة بني خطاب ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫رواد التنوير‬ ‫واالجتماعية املحافظة‪،‬‬
‫واإلص�ل��اح ع�ن��د م�ط��ال��ع ال �ق��رن ال�ّع�ش��ري��ن وم�ن�ت�ص�ف��ه‪ ،‬وب�ي�ن ب�ع��ض ما‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأكاديميي اليوم‪ ،‬ألدركنا فداحة‬ ‫يكتبه ويفكر فيه الكثير من مثقفي‬
‫ّ‬
‫الحقيقية التي على‬ ‫ما نحن فيه‪ ،‬فبدل االنشغال على أسئلة اإلصالح‬
‫هذه املجتمعات أن تجابهها نجد انشغاالت بمسائل أبعد ما تكون عن‬
‫روح العصر ومن التحديات التي أتيت على ذكرها في الكتاب‪ :‬التباس‬
‫الثقافي‪ ،‬ففي عالقة‬ ‫ّ‬ ‫الثقافية الرسمية والفضاء‬ ‫ّ‬ ‫املؤسسة‬ ‫العالقة بني ّ‬
‫ّ‬ ‫ينّ ّ‬
‫الحكومات بالثقافة يتع التفريق بني أمرين‪ :‬األول هو أن تنطلق هذه‬
‫ّ‬
‫الحكومات من النظر إل��ى الثقافة بوصفها صناعة ثقيلة تحتاج إلى‬
‫قوية‪ ،‬يجب أن يتجلى في اإلنفاق على الثقافة بوصفها‬ ‫ّ‬
‫أساسية ّ‬ ‫بنية‬
‫مثال‪ ،‬فبمقدار ما أنّ‬ ‫ً‬
‫استثمارًا في املستقبل‪ ،‬تمامًا كما نفعل مع التعليم‬
‫ّ‬
‫والكليات واملعاهد‬‫ّ‬ ‫ّالدولة ملزمة بتأمني التعليم ألبنائها بتشييد املدارس‬
‫ّ‬
‫والجامعات واملختبرات‪ ،‬فإنها مطالبة بأن ّ‬
‫تؤمن لهؤالء األبناء الخدمات‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التحتية للعمل الثقافي من متاحف ومراكز‬ ‫الثقافية عبر تشييد البنية‬
‫ثقافية وص ��االت ل�ل�ع��روض امل�س��رح� ّ�ي��ة وق��اع��ات ل�ل�ع��روض التشكيليةّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومراسم وقاعات للتدريب املسرحي واملوسيقي وس��واه��ا‪ ،‬فمثل هذه‬
‫ّ‬
‫املهام منوطة بالحكومات وحدها‪ ،‬ألنه من صميم واجباتها‪ّ .‬أما األمر‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫اآلخ ��ر‪ ،‬ف�ه��و ض ��رورة أن تضمن األج �ه��زة ال�ح�ك��وم��ي��ة امل�ع�ن��ي��ة بالشأن‬
‫الحريات يتيح الحركة املستقلة للمبادرات‬ ‫ّ‬ ‫الثقافي توفير مناخ مالئم ّمن‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ليس في طاقة ال��دول��ة بلوغها‪،‬‬ ‫الثقافية األهلية‪ ،‬ألنها تغطي ف�ض��اءات ّ‬
‫وليس مطلوبًا منها أن تفعل ذلك‪ ،‬وهذا يتطلب رؤية جديدة لدى الجهات‬
‫سمية تجاه مسألة اإلبداع واملبدعني‪ ،‬فاإلبداع ال ينمو ويزدهر إال في‬ ‫الر ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫مناخ الحرية‪.‬‬

‫مخاضات الحداثة‬
‫* «الحداثة املنشودة هي تلك التي تضرب بجذورها عميقًا في البنيان‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫قافي‪ّ ،‬‬
‫الث ّ‬‫ّ ّ‬
‫قليدية املحافظة التي‬ ‫ياسي‪ ،‬بديال للبنى الت‬ ‫الس‬ ‫االجتماعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ثقافيًا واجتماعيًا‪ ،‬وتكف عن االتكاء على‬ ‫ما زالت تعيد إنتاج نفسها‪،‬‬ ‫الثقافة االستهالكية‬
‫الحائط»‪ ،‬إلى أي حد تحققت الحداثة في دول الخليج؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫النفط‪ ،‬التي ترافقت مع ّ‬ ‫* تقول في كتابك «حداثة ظهرها إلى الجدار»‪ّ :‬‬
‫‪ -‬في مدخل«حداثة ظهرها إلى الجدار» واملعنون بـ«مخاضات الحداثة»‬ ‫العاملية‬ ‫أساسية له في األسواق‬ ‫مصدرة‬ ‫تحول مجتمعات الخليج إلى‬ ‫«أدت طفرة أسعار‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تتوسل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أش ��رت إل��ى م��ا ذه��ب إل�ي��ه م�ف�ك��رون وم�ث�ق�ف��ون ع��رب ك�ث��ر‪ ،‬ف��ي امل�ش��رق‬ ‫واالتكالية»‪ ،‬هل‬ ‫السهولة واالسترخاء‬ ‫استهالكية‬ ‫األعم ثقافة‬ ‫وثقافية فيها الكثير من مظاهر التشوه‪ ،‬بوصفها في الغالب‬ ‫سلوكية‬ ‫إلى شيوع أنماط‬
‫واملغرب‪ ،‬من تفريق بني الحداثة والتحديث‪ ،‬وشخصيًا أتبنى هذا الرأي‬ ‫ما زال هذا التأثير السلبي مستمرًا؟‬
‫وأراه مهمًا لفهم ما مرت به مجتمعاتنا العربية كافة‪ ،‬وليست مجتمعات‬ ‫‪ -‬نمط الثقافة االستهالكية لم يعد حصرًا على مجتمعات الخليج العربي‪ .‬مجتمعاتنا العربية جميعها ومن دون استثناء تعاني منه‪ ،‬وإن بنسب متفاوتة‪ ،‬وطبيعي‬
‫ّ‬
‫الخليج العربي وح��ده��ا‪ ،‬من تحوالت في اتجاه التحديث‪ ،‬ال��ذي يشمل‬ ‫أني تحدثت في ّ كتابي عن شيوعه في الخليج‪ ،‬ألن موضوع الكتاب هو قراءات في التحوالت الثقافية في مجتمعات الخليج العربي‪ ،‬وأشرت في الكتاب إلى أنه ليس‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫لكن ّ‬ ‫الثروات‪ّ ،‬‬‫ّ ّ‬ ‫ّ‬
‫والت ّ‬ ‫من العدل أن نقلل من حجم ّالت ّ‬
‫إنجاز بنى تحتية حديثة‪ ،‬بل ومتطورة للغاية‪ ،‬كما هي فعال في بلدان‬ ‫الهوة بني هذه النهضة وبني‬ ‫وسع املستمر في الخدمات التي شهدتها مجتمعات الخليج بعد تدفق‬ ‫حوالت الكبرى‬
‫الخليج أو بعضها على األقل‪ ،‬ومن تأمني الخدمات االجتماعية الضروية‬ ‫التحول االجتماعي ‪ -‬الثقافي التراكمي ما زالت شاسعة‪ ،‬وقد أوردت هذا النمط االستهالكي من الثقافة كأحد التحديات التي تواجهها الثقافة في مجتمعاتنا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫من تعليم وصحة وسواها‪ ،‬وال شك في أن وفرة عوائد النفط ساعدت في‬ ‫فباإلضافة إليه تناولت جملة من التحديات األخرى‪ ،‬ذلك أن الثقافة في بلدان الخليج العربي هي أحد روافد الثقافة العربية‪ ،‬وهي في مرجعياتها وآفاق تطورها‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إنجاز ذلك‪ ،‬وكل ما أنجز مهم‪ ،‬وال يجب التقليل من أهميته وانعكاساته‬ ‫العربية في لحظتنا الراهنة‪،‬‬ ‫التحديات التي تجابهها الثقافة‬ ‫العربية‪ ،‬وهي بذلك تواجه ‪ -‬من حيث الجوهر ‪ -‬كل‬ ‫مرجعيات وآفاق الثقافة‬ ‫ليست منفصلة عن سياق‬
‫االيجابية على عيش الناس كما ذكرنا‪ ،‬لكن من دون أن يدفعنا ذلك إلى‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫التطور الخاصة التي مرت وتمر بها هذه املنطقة‪ ،‬من العزلة الطويلة إلى االنفتاح املفاجئ على العالم الذي جاء مع عائدات النفط‪ ،‬أضافت تعقيدات‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫لكن ظروف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫تطور ّ‬ ‫أخرى بوجه ّ‬
‫القول إننا بلغنا الحداثة أو أنجزناها‪ ،‬فهذا التحديث مهم لكونه يضع‬ ‫الريعية» في املنطقة‪ ،‬حيث اعتاد‬ ‫االستهالكية» إال أحد املظاهر التي ترتبت على تشكل ما وصف بـ«الدولة‬ ‫ونمو هذه الثقافة‪ ،‬وليست «الثقافة‬
‫مقدمات ضرورية للحداثة املنشودة‪ ،‬التي ما زال دون بلوغها طريق‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الناس‪ ،‬أو قطاعات كبيرة منهم‪ ،‬على «مغريات» ما أتاحته هذه الدولة من يسر ظاهري في العيش‪ ،‬الناجم عن وفرة العائدات النفطية‪ ،‬لكننا اليوم إزاء تحديات‬
‫طويل يتطلب تحديث البنى االجتماعية والثقافية والسياسية‪ ،‬ولذلك‬ ‫ّ‬
‫الريعي الذي ساد لعقود آثاره‪،‬‬ ‫ّ‬
‫النفطية‪ ،‬ما يجعل مجتمعات الخليج أمام مرحلة جديدة‪ ،‬وكما كان للنمط‬ ‫جديدة‪ ،‬تحديات ما بعد الدولة الريعية‪ ،‬مع تراجع العوائد‬
‫شروطه ومستلزماته التي يجب الوفاء بها‪.‬‬ ‫فإنه ستكون ملا يليه آثار أيضًا‪.‬‬
‫‪05‬‬ ‫حوار‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫المدينة والريف‬ ‫ل��ي��س م��ن ال��ع��دل أن ن��ق ّ��ل��ل من‬ ‫◄‬
‫وسع‬
‫والت ّ‬ ‫ّ‬ ‫حوالت الكبرى‬ ‫الت ّ‬‫حجم ّ‬
‫* كيف لنا أن نتحدث عن الحداثة ونحن أخفقنا في تحقيق نهضة‬
‫عربية؟‬ ‫ال��م��س��ت��م��ر ف���ي ال��خ��دم��ات ال��ت��ي‬
‫حوالت التي‬ ‫العربية علينا ّالنظر في طبيعة ّالت ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬لفهم انتكاسة الحداثة‬ ‫شهدتها مجتمعات الخليج بعد‬
‫ّ‬
‫ج��رت وتجري في البلدان العربية‪ ،‬بما فيها ّالتحوالت الديمغرافية‪،‬‬ ‫تدفق ّ‬
‫حيث ّ‬ ‫الثروات‬ ‫ّ‬
‫الريف الذين يظلون يشعرون بالغربة‬ ‫يتكدس املهاجرون من ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ومعيشية صعبة‪ ،‬وستشكل األجيال‬ ‫سكنية‬ ‫في املدينة وسط ظروف‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الجديدة من أبناء أحزمة الفقر وقودًا للحركات االحتجاجية الرافضة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫ي‬
‫الثقافة في بلدان الخليج العرب ّ‬ ‫◄‬
‫الحقيقي‪ ،‬كونها نتاج مجتمعات غير‬ ‫ّ‬ ‫التي تفتقد إلى برامج التحديث‬
‫مؤسسات املجتمع‬ ‫مدينية في األس��اس‪ ،‬وه��ي لن تنخرط في بناء ّ‬ ‫ّ‬ ‫هي أحد رواف��د الثقافة العربية‬
‫والجوهر ‪ -‬نتاج املدينة‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وه���ي ف��ي مرجعياتها وآف���اق‬
‫السياسيةّ‬ ‫تنظم ّالنخب ّ‬ ‫املدني الحديث‪ ،‬فهذه األخيرة هي ‪ -‬في األصل ّ‬
‫وهي بمنزلة األطر أو الهياكل التي من خاللها‬
‫وال� ّ�ث�ق��اف� ّ�ي��ة وس��واه��ا أن�ش�ط�ت�ه��ا‪ ،‬لكنها ظ� ّ�ل��ت ف��ي ح� ّ�ي��زه��ا ال� ّ�ن�خ�ب� ّ‬
‫�وي‬
‫ّ‬
‫ت��ط��وره��ا ل��ي��س��ت منفصلة عن‬
‫املحدود‪ ،‬رغم ما يتمتع به القائمون عليها من وعي وخبرة‪ ،‬وإذا كانت‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫سياق مرجعيّ ات وآف��اق الثقافة‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫املعنية‪،‬‬ ‫العربية‬ ‫هذه النخب هي من أطلق ش��رارة ّالتغيير في البلدان‬ ‫العربيّ ة‬
‫ّ‬
‫أقلية وسط الطوفان الش ّ‬ ‫فإنها وجدت نفسها ّ‬ ‫ّ‬
‫عبي الغاضب‪ ،‬اآلتي من‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫مدينية‪ ،‬والذي وجد مالذه في األفكار والتيارات املحافظة‬ ‫جذور غير‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫واملتطرفة‪ ،‬إزاء هشاشة وضعف البدائل الحديثة‪ ،‬أو حتى ضعفها‪.‬‬ ‫تراجع وتقهقر ف��ض��اءات التنوير‬ ‫◄‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫هذه بعض املداخل الضرورية التي تعني في التعرف إلى أسباب الكثير‬
‫ورثته من جينات في‬ ‫ُ‬ ‫من أوجه الخلل في مجتمعاتنا الحائرة بني ما‬ ‫ّ‬
‫نمو التيارات‬ ‫والحداثة لمصلحة‬
‫جبرة على التعامل معه بفعل جبروت الحداثة‪ ،‬فال‬ ‫ُ‬ ‫تعمق المأزق‬‫ّ‬ ‫المحافظة التي‬
‫السلوك‪ ،‬وما هي م ّ‬
‫هي ق��ادرة على التخلص من تلك الجينات والقطع مع السلوك الذي‬ ‫ي القائم‬
‫�زج بنفسها في أت��ون الحداثة‬ ‫تأخذه إليها‪ ،‬وال هي ق��ادرة على أن ت� ّ‬ ‫البنيو ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫كلية مع ما يترتب على ذلك من أكالف ‪ -‬ال بد من دفعها ‪ -‬إن أرادت‬
‫ّ‬
‫هذه املجتمعات تجاوز حالة القلق والتذبذب بني قطبني‪ ،‬أحدهما يجرّ‬
‫بالقوة إل��ى الخلف‪ ،‬وال� ّ�ث��ان��ي ال يظهر م��ا ه��و الزم م��ن حسم ّ‬ ‫ّ‬ ‫نمط الثقافة االستهالكية لم‬ ‫◄‬
‫لجرها‬ ‫ً‬
‫نحو األمام‪.‬‬ ‫التحوالت المهمة‬ ‫حصرا على مجتمعات الخليج‬ ‫يعد‬
‫ال��ع��رب��ي‪ ..‬فمجتمعاتنا العربية‬
‫الجيل الحالم‬ ‫* على الرغم من سهولة العيش املادي في دول الخليج وتيسر التعليم‪ ،‬فإن عددًا ال بأس به‬
‫ج��م��ي��ع��ه��ا وم���ن دون اس��ت��ث��ن��اء‬
‫من الشباب الخليجي انخرط في صفوف جماعات متشددة كالقاعدة وغيرها‪ ،‬هل من تفسير‬
‫* هل تعتبر نفسك من جيل الهزيمة (هزيمة ‪)67‬؟‬ ‫لذلك؟‬ ‫تعاني منه‬
‫‪ -‬نعم أن��ا انتمي للجيل ال��ذي تفتح وعيه على الدنيا مع نشوء هذه‬ ‫‪ -‬لنشوء ظاهرة التطرف واالتجاهات اإلرهابية أكثر من سبب‪ ،‬بينها بالتأكيد العامل االقتصادي‬
‫الهزيمة‪ ،‬ورغ��م ذل��ك‪ ،‬ف��إن جيلنا ك��ان ح��امل��ًا باملعنى الدقيق للكلمة‪،‬‬ ‫الذي يحفز قطاعات من الشباب العرب في البيئات الفقيرة لاللتحاق بها‪ ،‬ولكن هناك عوامل‬ ‫يجب النظر إلى ّ‬
‫فالسبعينيات كانت بداية العد العكسي للنهوض الوطني والقومي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫تعبئة فكرية وسياسية اضطلعت بها دول كبرى وإقليمية بما يخدم مصالحها‪ ،‬فكيف لنا‬ ‫الثقافة بوصفها‬ ‫◄‬
‫لنكتشف الحقًا أننا‪ ،‬كجيل‪ ،‬كنا نعيش ما يشبه صحوة املوت من‬ ‫أن ننسى أن تنظيم القاعدة إنما نشأ‪ ،‬أول مرة‪ ،‬في أفغانستان التي جرى إرسال الشبان من‬ ‫صناعة ثقيلة تحتاج إل��ى بنية‬
‫دون أن ندرك‪ ،‬حيث أوهمنا أنفسنا بأن الهزيمة التي حدثت في ‪1967‬‬ ‫مختلف البلدان العربية‪ ،‬بما فيها بلدان الخليج‪ ،‬إليها لالنخراط في ميليشيات ممولة ملواجهة‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫مؤقتة‪ ،‬وأنها قد تشكل قاعدة أو منطلقًا إلعادة الثقة بالنفس وإحراز‬ ‫الوجود السوفيتي يومها‪ ،‬وعن «القاعدة» تفرعت تنظيمات عديدة بينها «داعش» نفسها‪ ،‬في‬ ‫أس���اس���يّ ���ة ق���ويّ ���ة وأن يتجلى‬
‫ّ‬
‫العربي العام‪َّ .‬أما على الصعيد الخليجي‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫النصر‪ .‬هذا على الصعيد‬ ‫ظروف ما بعد عام ‪ ،2011‬وترافق ذلك ما مع أطلق عليه «الصحوة»‪ ،‬التي هي في الجوهر ردة‬ ‫ذل��ك في اإلن��ف��اق على الثقافة‬
‫ُّ‬ ‫ّ‬
‫السبعينيات هي مرحلة االستقالل وتشكل الدول الحديثة وبناء‬ ‫فإن‬ ‫عن منجزات كثيرة بلغتها مجتمعاتنا‪ ،‬ونحن محظوظون أننا بلغنا املرحلة الراهنة التي يجري‬ ‫ً‬
‫استثمارا في المستقبل‬ ‫بوصفها‬
‫م��ؤس�س��ات�ه��ا‪ ،‬م��ا وض��ع ع�ل��ى ع��ات��ق جيلنا م �ه��ام ال�ع�م��ل ف��ي سبيل‬ ‫فيها إعادة النظر في هذه السياسات‪ ،‬من خالل التحوالت املهمة جدًا الجارية في اململكة العربية‬
‫استكمال هذه املهام‪ ،‬ولم تكن تلك مهمة سهلة على كل حال‪.‬‬ ‫السعودية والتي ستكون لها‪ ،‬بالتأكيد‪ ،‬انعكاسات على بقية بلدان املنطقة‪.‬‬
‫ال يمكن فصل الثقافة عن كامل‬ ‫◄‬
‫الفلسفة والحياة‬
‫الثورة الثقافية‬ ‫هذه المنظومة من الشروط التي‬
‫* ما الذي يمكن أن تضيفه الفلسفة إلى حياة املواطن العربي؟‬ ‫تتطلب إع���ادة النظر ف��ي أنظمة‬
‫ّ‬
‫وأن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫‪ -‬إه �م��ال ت��دري��س الفلسفة‪ ،‬أو ض�ع��ف ه��ذا ال�ت��دري��س ف��ي م��دارس�ن��ا‬ ‫ثمة حاجة لجهود ليست‬ ‫يتنحى من مواقعه من تلقاء نفسه‪،‬‬ ‫* تقول «ألن هذا القديم لن‬
‫التعليم وال��م��ق��ررات ال��دراس��ي��ة‬
‫وجامعاتنا أدى إل��ى م��ا وصفه أح��د األس��ات��ذة م��ن امل�غ��رب بالفساد‬ ‫قليلة إلزاحته ‪ -‬بدل االحتماء بالجدار»‪ ،‬هل هي الحاجة إلى ثورة ثقافية؟‬
‫املعرفي‪ ،‬وما زال متعينًا إعادة االعتبار للفلسفة كمادة ومنهج سواء‬ ‫‪« -‬ال �ث��ورة الثقافية» مطلوبة بالتأكيد‪ ،‬ولكنها ج��زء م��ن منظومة كاملة للتغيير‪ ،‬اجتماعية‬ ‫لتواكب العصر‬
‫محصن ضد‬ ‫ّ‬ ‫لتطوير فكر نقدي وعقالني‪ ،‬أو لتكوين إنسان جديد‬ ‫واقتصادية وسياسية‪ ،‬فال يمكن فصل الثقافة عن كامل هذه املنظومة من الشروط التي تتطلب‬
‫ال�ت�ط��رف وال�ت��زم��ت‪ ،‬ورغ��م أن بعض ال�ب�ل��دان العربية‪ ،‬خصوصًا في‬ ‫إع��ادة النظر في أنظمة التعليم واملقررات الدراسية لتواكب العصر‪ ،‬بتحرير هذه املقررات من‬
‫ً‬ ‫ع��دم ج��واز الحديث المبالغ فيه‬ ‫◄‬
‫املغرب العربي‪ ،‬كتونس واملغرب مثال‪ ،‬اللذين عرفا بعد ّاالستقالل‬ ‫حشو الخزعبالت املعشعشة فيها منذ عقود‪ ،‬وتمكني مؤسسات املجتمع املدني الحديثة من أن‬
‫تكون شريكًا ّ‬
‫اهتمامًا بتدريس الفلسفة في الثانويات‪ ،‬لكن سرعان ما قل االهتمام‬ ‫يعتد به في البناء املجتمعي الذي نتطلع إليه‪.‬‬ ‫ح��ول «الخصوصية» الخليجية‪..‬‬
‫ب��ذل��ك‪ ،‬م��ا أض�ع��ف ال ��دور ال�ن�ق��دي وامل�ع��رف��ي ال��ذي ك��ان��ت ت�ق��وم ب��ه في‬ ‫* إذا أردنا فهم العقلية الخليجية مقارنة بما هو موجود في املنظومة العربية؟‬
‫ّ‬
‫الستينيات‪ ،‬وال ��ذي م��ث��ل ح�ص��ان��ة للمجتمع ب��وج��ه ال�ت�ط��رف‪ ،‬وخلق‬ ‫‪ -‬أك��رر القول بعدم ج��واز ه��ذا الحديث املبالغ فيه ح��ول «الخصوصية» الخليجية‪ .‬نحن جزء‬
‫ن��ح��ن ج���زء ال ي��ت��ج��زأ م���ن ال��وط��ن‬
‫تقاليد طيبة في الوعي الفلسفي في األوس��اط األكاديمية والثقافية‪،‬‬ ‫ال يتجزأ من الوطن العربي ومن ثقافته وعاداته‪ ،‬وآن األوان للكف عن النفخ في موضوع هذه‬ ‫العربي ومن ثقافته وعاداته‬
‫نجد آثارها واضحة في املساهمة النقدية للمغرب في الجدل الثقافي‬ ‫«الخصوصية» سواء من أبناء املنطقة أنفسهم أو من أشقائهم العرب‪ .‬الخليج شهد ّ‬
‫تحوالت‬
‫وال�ف�ك��ري ف��ي العالم العربي جدير بأمة قدمت ف��ي تاريخها للعالم‬ ‫مهمة خالل العقود املاضية‪ ،‬فيها إيجابيات وفيها سلبيات‪ ،‬يجب النظر إليها باهتمام ودراستها‬
‫النخب هي من أطلق شرارة ّ‬
‫التغيير‬ ‫ّ‬
‫أسماء بوزن ابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن عربي‪ ،‬ونحو دائرة‬
‫ُ‬
‫وتحليلها‪ ،‬ومغادرة الصورة النمطية املأخوذة عن هذه املجتمعات‪ ،‬ليس ألننا ننفي بعض مظاهر‬ ‫◄‬
‫أوسع من املعرفة يمكن أن نشير إلى ابن خلدون‪ ،‬أن تواصل التقاليد‬
‫ّ‬
‫التطور الخاصة باملنطقة‪ ،‬ولكن ه��ذه الخصوصية تنطبق على كامل املجتمعات العربية من‬ ‫في البلدان العربيّ ة المعنيّ ة‪..‬‬
‫املضيئة التي أرسى قواعدها هؤالء الكبار‪ ،‬وأن تكف عن الخشية أو‬ ‫دون استثناء‪ ،‬فاملؤكد أن لبلدان املغرب العربي بعض الخصائص في التطور مختلفة عن تلك‬
‫التردد في إث��ارة أسئلة الفلسفة في مدارسها وجامعاتها‪ ،‬وتعويد‬ ‫املوجودة في بلدان املشرق العربي‪ ،‬التي علينا فهمها‪ ،‬لكن ال لكي نبالغ في حجمها‪ ،‬ونغفل‬ ‫لكنها وجدت نفسها أقليّ ة وسط‬
‫ي الغاضب اآلتي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫أذهان الناشئة على التفاعل مع هذه األسئلة‪ ،‬لكي تتحول منظوماتنا‬ ‫املشتركات وأوج��ه التشابه الكثيرة وف��ي مختلف امل�ج��االت التي تكاد تحتكم لنفس القوانني‬ ‫الطوفان الشعب ّ‬
‫التعليمية إلى منظومات لتحرير العقل‪ ،‬ال إلى قهره‪.‬‬ ‫واآلليات‪.‬‬ ‫من جذور غير مدينيّ ة‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 06‬قراءات‬

‫إعادة التفكي��ر في التنمي��ة الثقافية‬

‫القوانين المح ِّركة للتاريخ‬ ‫مزالق الرؤية‬ ‫ي��رم��ي ك �ت��اب األك��ادمي��ي‬


‫املصري د‪.‬دمحم حممود عبد‬
‫ويذهب األكاديمي د‪.‬عبد العال ال��ى أن البعض قد أوغ��ل في‬ ‫وال يخفى سقوط عدد من الكتابات العربية في مزالق الرؤية البروتستانتية باعتبارها توجهًا عقالنيًا‬ ‫العال حسن ‪-‬عضو هيئة‬
‫تفاؤله بأنه قادر على الكشف عن القوانني املحركة للتاريخ أو‬ ‫أسس للحداثة الغربية وساهم في نهضتها املعاصرة مع إعالئها ملا سمته «الرشد» و«سيادة املنطق»‬ ‫التدريس مبعهد التخطيط‬
‫الفاعلة فيه باعتبارها ساحة شطرنج تمكن إعادة هندستها‬ ‫في أوروبا في تعمية واضحة عن املصالح العسكرية واالقتصادية واألسباب املجتمعية واالكتشافات‬
‫واملناورة بقطعها بالتقديم والتأخير‪ ،‬لكن ما ال يدركه هؤالء‬ ‫العلمية والجغرافية وترويجًا لسردية تبسيطية عن التاريخ األوروبي وشروط نهضته‪.‬‬ ‫ال� � �ق � ��وم � ��ي ابل� � �ق � ��اه � ��رة‪-‬‬
‫أن رق�ع��ة الشطرنج ال�ك�ب��رى للمجتمع ت��أب��ى ك��ل قطعة فيها‬ ‫يحاجج الكاتب الخطاب الثقافوي بشقيه‪ ،‬العلماني والديني على اختالف مسالكهما‪ ،‬والذي يتبنى‬ ‫املوسوم بـ«إعادة التفكري‬
‫إال أن ت�ح��وز كينونة خ��اص��ة بها وق��ان��ون��ًا للحركة وال�ج��ذب‬ ‫رؤية تتسم بالتبسيط والجزمية‪ ،‬حيث يفترضون عدم نجاح ميكانيزمات التنمية وتفاعالتها إال‬ ‫يف ال �ت �ن �م �ي��ة ال �ث �ق��اف �ي��ة‪:‬‬
‫والتفاعل يختلف عما نفرضه عليها من تصورات لقيطة أو‬ ‫عبر إعادة انتاج قيم أو ثقافة بعينها! وهو خطاب يفترض اآللية في العالقة بني الثقافة والتنمية‬ ‫محمد عبد العال‬ ‫الس� � � �ت� � � �ئ� � � �ن � � ��اف وص � � ��ل‬
‫منبتة الصلة عن بيئتها‪.‬‬ ‫باعتبار إحداهما علة لآلخر‪ ،‬أو أن ثمة معطيات سلبية يجب نبذها وأخرى إيجابية علينا االحتذاء‬
‫لذا يعرج الكتاب على اتجاهات فلسفات التاريخ للبحث في‬ ‫بها‪ .‬وهم على حق في جزء من رؤيتهم‪ ،‬فمن الضروري أن تقوم الثقافة والقيم تحديدًا بدور ما‪،‬‬ ‫املؤسسات والسياسات واألخ�ل�اق»‪ ،‬الصادر عن‬
‫اختبار مقولة «ال�ش��رط الثقافي»‪ ،‬أي م��دى وج��ود الشروط‬ ‫لكن ما مقدار هذا الدور؟ وهل يكفي التعويل على القيم كمصدر وحيد للنمو االقتصادي؟ وما تلك‬ ‫ص��ل العالقات‬ ‫دار العبيكان ابل��رايض اىل إع��ادة َو ْ‬
‫ُ‬
‫ال �ث �ق��اف �ي��ة ك� ُ�م �ح��رك ل �ل �ن �ه��وض وام� �ت ��داد ل�ل�ت�ف��اع��ل امل�س�ت�م��ر‬ ‫القيم التي تفعل فعل السحر؟ أهي القيم الغربية التي تروج وفقًا للسردية األوروبية عن التحديث‬ ‫بني القيم واملؤسسات والسياسات واالستعدادات‬
‫الغامض بني الثقافة بتشكيالتها والتنمية أو سجال القيم‬ ‫وانتشال ال�ق��ارة األوروب�ي��ة من وهدتها في ال�ق��رون الوسطى؟ يدعي البعض ذل��ك‪ ،‬في حني ينازع‬ ‫الفردية واألممية كشروط أولية للتنمية‪ .‬ويف حماولته‬
‫الواقع‪ .‬إن ما وراء س��ؤال الثقافة‪ ،‬القيم والتنمية‪ ،‬استبطان‬ ‫آخرون بأن األمر أعقد وأكثر تركيبًا من االعتساف الثقافي املحض‪ .‬إنه جدل عدواني بني األكثر‬
‫قراءة ما لفلسفة التاريخ‪ ،‬والبستمولوجيا كل أمة‪ ،‬وطرائق‬ ‫تفسيرية واألشد استقطابًا‪.‬‬ ‫ل�ت�ح�ق�ي��ق ذل ��ك خي �ت�بر ف��رض �ي��ة أس��اس �ي��ة م ��ن بعض‬
‫للسوسيولوجيا‪.‬‬ ‫املقارابت املعاصرة هلا وجهان س��ادت طويالً ‪-‬وال‬
‫هل نستطيع أن نفهم الثقافة في إطار اقتصادي أو االقتصاد‬ ‫تزال‪ ،-‬وهي الفرضية الثقافوية (سواء كانت خطابية‬
‫في سياق ثقافي‪ ،‬بحيث ينعكس ذلك على تأخر أو تقدم أمة‬ ‫فائض الخطابات‬ ‫دينية أو نشوئية أو جينيتيكية وراثية أو عنصرية) يف‬
‫من األمم‪ ،‬كما ُيفسر الجيولوجي وقوع ال��زالزل أو األرصاد‬
‫الجوية أحوال الطقس؟‬
‫لاً‬
‫ويلحظ أن ثمة فائضًا في خطابات التيار العلماني والديني على السواء في هذا األمر؛ حيث نجد مث‬ ‫فهم وتفسري النهوض‪ ،‬واليت يغذيها طرفان‪ :‬األول‬
‫أليست التنبؤات في االقتصاد والثقافة غامضة وال تقوم على‬ ‫بعض املثقفني العلمانيني‪ ،‬وينساق وراءهم اإلعالميون يخادعون القراء عبر تزويق العبارات إليهامهم‬ ‫استعماري خارجي حياول إثبات صدق قيمه وثقافته‬
‫أسس ثابتة؟ ولكن حتى لو لم نصل لهذه الصرامة كما هو‬ ‫أنه بمجرد تجديد الخطاب الديني أو تبني قيم الحداثة أو نشر ما يسمونه بـ«العقالنية» أو «ممارسة‬ ‫وجناعته يف تشكيل ال�ع��امل احل��دي��ث وتصدير ذلك‬
‫حال القوانني الطبيعية‪ ،‬فإن هذا ال يعني بأنه أمر مستحيل‪.‬‬ ‫القطيعة املعرفية» مع التراث أو عرض ثمار بعض التجارب الغربية أو الشرقية‪ ...‬إلخ من تلك املفردات‪،‬‬ ‫للعامل وفق رؤية أحادية اختزالية ال اترخيية‪.‬‬
‫تجادل هذه األطروحة بحاجتنا النظر الى التنمية باعتبارها‬ ‫عددا من األفكار مسؤولة وحدها عن هذا «التردي»! وعلى الطرف‬ ‫فسوف نحقق التنمية‪ ،‬وأن التراث أو ً‬
‫ِ‬
‫املستعمر اترة أو‬ ‫عول على ثقافة‬
‫تمثالت وش�ف��رات تصف كيفية إدارة ال�ش��أن ال�ع��ام وكنمط‬ ‫اآلخر يظن بعض املنتمني إلى التيار الديني بخطابات تعميمية أنه بمجرد االلتزام ببعض الشعائر أو‬ ‫والثاين داخلي يُ ّ‬
‫للتبصر والتأمل‪ ،‬بحيث توضع التنمية في سياقات تاريخية‬ ‫األخالقيات‪ ،‬فسوف نصل إلى حل كل املشكالت!‬ ‫يُراهن على القيم العربية ُمنفردة‪ .‬ومن بني أظهر هذه‬
‫وثقافية واجتماعية وتكنولوجية أوسع‪ .‬سنهتم بالحفر في‬ ‫تضرب هذه اإلشكالية بجذورها في عمق الجداالت الفلسفية‪ ،‬وتتشابك مع كل من فلسفات التاريخ‬ ‫اجلداالت تتبدى أطروحة مغايرة هلذا الكتاب‪ .‬حيث‬
‫العالئق املعرفية بني التنمية والثقافة‪ ،‬ملحاولة معرفة املضمر‬ ‫ومنطلقات االبستمولوجيا الخاصة بكل حضارة‪ ،‬فإذا كان التاريخ هو حركة الزمن داخل املجتمع‪،‬‬ ‫نقب يف أُفق ُمغاير ألطروحات ماكس فيرب وكارل‬
‫الذي تحمله التنمية للبنية السوسيوثقافية في املجتمع‪ .‬ولن‬ ‫وموضوعه اإلنسان فما الذي يدفعه للنهوض؟ إنه تساؤل ُمربك ُمحير‪ .‬لذا جاءت االستفادة بآراء‬ ‫يُ ُ‬
‫نعتني بالتنمية مقدار اعتنائنا بما تحويه من رؤية وأنساق‬ ‫نفر من الفالسفة‪ ،‬بدءًا من كارل ماركس وماكس فيبر‪ ،‬مرورًا بابن خلدون وانتهاء بهاجوون تشانج‬ ‫شد استمرار ثقافتنا العربية واإلسالمية يف‬ ‫ُ‬ ‫وين‬ ‫كس‬ ‫مار‬
‫وإح��االت ثقافية وقيمية مؤثرة في املجتمع‪ .‬سنتوسل في‬ ‫في محاولة للوصول الى تفسير أكثر جودة وغورًا‪ ،‬وذا صيغ مركبة ال أحادية‪ ،‬سعيًا آلفاق إبداعية‬ ‫إطار مسريهتا التارخيية‪.‬‬
‫سبيل ذلك باختبار مفهوم التنمية الثقافية‪.‬‬ ‫توسع الرؤية وتمدد معرفتنا باملوضوع‪.‬‬
‫‪07‬‬ ‫قراءات‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫■ س��ن��ه��ت��م ب��ال��ح��ف��ر ف���ي ال��ع�لائ��ق‬ ‫■ تضرب اإلشكالية بجذورها في‬
‫المعرفية بين التنمية والثقافة‬ ‫عمق الجداالت الفلسفية وتتشابك‬
‫لمحاولة معرفة المضمر الذي تحمله‬ ‫م���ع ك���ل م���ن ف��ل��س��ف��ات ال��ت��اري��خ‬
‫التنمية للبنية السوسيوثقافية في‬ ‫ومنطلقات األبستمولوجيا الخاصة‬
‫المجتمع‬ ‫بكل حضارة‬

‫■ التنمية القائمة على أسس ثقافية‬ ‫■ إذا ك��ان التاريخ هو حركة الزمن‬
‫ووع���ي قيمي وف��ض��اءات إبداعية‬ ‫داخ�������ل ال��م��ج��ت��م��ع وم���وض���وع���ه‬
‫تجعل من الحضارة حركة اجتماعية‬ ‫اإلن�����س�����ان‪ ..‬ف��م��ا ال�����ذي ي��دف��ع��ه‬
‫متكاملة اإليقاع‬ ‫للنهوض؟‬

‫■ التحليل ال��ت��اري��خ��ي للمفاهيم‬ ‫■ رقعة الشطرنج الكبرى للمجتمع‬


‫بمعنى م��ن ال��م��ع��ان��ي ه��و دراس���ة‬ ‫تأبى كل قطعة فيها إال أن تحوز‬
‫للصراعات والتحوالت األيديولوجية‬ ‫ً‬
‫وقانونا للحركة‬ ‫كينونة خاصة بها‬
‫وسط بيئة متقلبة وما يعقبه من‬ ‫وال��ج��ذب وال��ت��ف��اع��ل يختلف عما‬
‫تغير في دالالتها‬ ‫نفرضه عليها‬

‫دور المؤسسات‬ ‫التنمية الثقافية‬ ‫تكامل اإليقاع‬


‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫وإزاء ذلك تؤدي املؤسسات ً‬
‫محوريا في تقنني السلوكات وفقا للوائح والقوانني‬ ‫دورا‬ ‫وم ��ع أن ت�ع��ري��ف ال�ت�ن�م�ي��ة الثقافية‬ ‫إن التنمية القائمة على أسس ثقافية ووعي قيمي وفضاءات إبداعية تجعل من الحضارة حركة‬
‫وغير املناسب يتم نشرها عبر عقوبات رسمية‬ ‫بوصفها معاييرا للسلوك املناسب‬ ‫ي� ��رك� ��ز ع� �ل ��ى م � ��وض � ��وع ال �ت �غ �ي �ي��ر‬ ‫ً‬
‫خصوصا‬ ‫ً‬
‫عموما والتربية والفنون‬ ‫اجتماعية متكاملة اإليقاع وفق رؤية البعض؛ وذلك ألن الثقافة‬
‫ُ‬
‫أو غير رسمية‪ ،‬إضافة إلى التفاهمات املسلم بها بني العاملني واملتعاملني‪ ،‬ونتيجة‬ ‫الثقافي‪ ،‬فإن التساؤالت املطروحة‬ ‫من وسائل التأثير والدعاية وتشكيل الذوق العام والتحكم فيه وغرس القيم والجماليات الحقيقية‪،‬‬
‫لذلك جاء اهتمام الكتاب بدور الدولة واملؤسسات في التنمية الثقافية‪.‬‬ ‫س�ت�ك��ون ع��ن‪ :‬م��اه�ي��ة ه��ذا التغيير‪،‬‬ ‫وهي قادرة على تبديل مظاهر الحياة اليومية لتكون أداة بناء أو تدمير وفق رؤية ُصناعها‪.‬‬
‫ويرى املؤلف أن البعض مسكون بالظن الخاطئ‪ ،‬الذي مفاده أن تناول التنمية الثقافية‬ ‫وم� �ص ��دره‪ ،‬وأس� �س ��ه‪ ،‬وم�ن�ط�ل�ق��ات��ه‪،‬‬ ‫وتحديدا في ماليزيا واليابان‬‫ً‬ ‫ويستند الكتاب إل��ى كل من دراس��ات الحالة في الخبرة اآلسيوية‬
‫في ظل منظومات الهيمنة يمثل نوعًا من األماني أو الوهم‪ .‬بيد أن ه��ذا ناشئ عن‬ ‫ومضمونه‪ ،‬وفلسفته‪ ،‬وافتراضاته‪،‬‬ ‫والصني وك��وري��ا الجنوبية‪ ،‬التي تمكنت من إيجاد صيغة ما مقبولة للتعامل مع قيم ال��واف��د في‬
‫مقولتني خاطئتني‪ .‬األول ��ى‪ :‬تفترض أن التنمية الثقافية تتضمن االنفصالية عن‬ ‫وإش �ك��االت��ه‪ ،‬وم��راح �ل��ه‪ ،‬وات�ج��اه��ات��ه‬ ‫ُ‬ ‫ثقافتها‪.‬‬
‫املنظومات الثقافية األخ��رى والتقديس للماضي امل��ؤدي للعزلة أو الشيفونية‪ .‬وهو‬ ‫وأزم��ان��ه‪ ،‬وم��دى صالحيته؟ ً‬
‫بعيدا‬ ‫وتاريخية‪ ،‬فهل تمكن املراهنة على‬ ‫ومنطقية‬ ‫وثقافية‬ ‫اجتماعية‬ ‫مصداقية‬ ‫الذاتية‬ ‫لقيمنا‬ ‫كانت‬ ‫وإذا‬
‫ً‬
‫ما يرفضه الكتاب‪ .‬والثاني‪ :‬افتراض أن االندماج في الثقافة العاملية والذوبان فيها‬ ‫ع ��ن ال� �ض� �غ ��وط ��ات األي��دي��ول��وج �ي��ة‬ ‫الدور الذي تقوم به كل من القيم والثقافة والتنمية الذاتية بوصفها آفاقا ومكانز لتحفيز النشاط‬
‫ً‬
‫أمر الزم أو أن ثمة نموذجًا ثقافيًا ناجحًا وجاهزًا وقابال للتشغيل واإلثمار يمكن‬ ‫الدعائية‪.‬‬ ‫وممارسة الفعل‪ ،‬وذلك في إطار ما يسمى «اإلدارة بالقيم»؟‬
‫أن يقود الى تنمية ثقافية‪ .‬وفي الحقيقة كال االفتراضني ُمخادع‪ .‬ذلك أن املضمون‬ ‫وف��ي محاولة لفهم ظ��اه��رة التنمية‬ ‫ويزعم صاحب الكتاب أن املطلوب توفير تكامل بني األطروحات املختلفة بعد تنقيحها لتكون في‬
‫ً‬
‫الحقيقي للتنمية الثقافية رهن بقدرة املنظومة الثقافية على التوطني والتبيئة والهضم‬ ‫الثقافية يميز الباحث بني املنظور‬ ‫صيغ مركبة ال أحادية وذات أوزان نسبية متباينة من سياق آلخر ب��دال من جعل بعضها سببًا‬
‫وعلى القدرات التوليدية الذاتية وبمقدار ذلك يكون مقدار الثراء‪.‬‬ ‫ال �ك �ل��ي ل �ل �ت �ن �م �ي��ة ال �ث �ق��اف �ي��ة‪ ،‬وذل ��ك‬ ‫أو تابعًا لآلخر سعيًا لتوسيع الرؤية وتمديد معرفتنا باملوضوع‪ .‬أي تشكيل توالفات سوسيو ‪-‬‬
‫ب��ال �ت��رك �ي��ز ع� �ل ��ى األط � � ��ر ال �ف �ك��ري��ة‬ ‫اقتصادية – ثقافية ونفسية متتامتني ُمركبتني‪.‬‬
‫وم � �س � ��ائ � ��ل امل � �ن � �ه� ��ج وامل� � ُس� �ل� �م ��ات‬
‫دفاع عن الثقافة‬ ‫وامل� �ف ��اه� �ي ��م وال � �غ� ��اي� ��ات امل �س �ت �م��دة‬
‫م ��ن ال� �ت ��راث وال �خ �ب��رة ال �ح �ض��اري��ة‬ ‫تحليل المفاهيم‬
‫باختصار‪ ،‬فإن الكتاب وفق ُمؤ ِلفه دف��اع عن الثقافة ضد خصومها ومناصريها‪،‬‬ ‫وال �ت �ص��ور ال �ش��ام��ل لعملية إدم ��اج‬
‫فإزاء جدل أسئلة فعالية الثقافة وشروطها ومصير التنمية ًوآفاقها‪ ،‬وكيف تسري‬ ‫ال� �ث� �ق ��اف ��ة ال ��وط� �ن� �ي ��ة ف � ��ي ال �ت �ن �م � لاًي��ة‬ ‫وملا كان هناك اتجاهان لدراسة وتحليل املفاهيم؛ إذ يمنح األول البعد اللغوي األهمية في دراسته‪،‬‬
‫العالقة املتشابكة بينهما‪ ،‬تنوعت مرجعيات الباحثني انطالقا من ثالثة اتجاهات‪:‬‬ ‫االجتماعية واالقتصادية إجما ‪،‬‬ ‫ويستند الثاني إلى األبعاد التاريخية للمفهوم‪ ،‬وذلك أن التحليل التاريخي للمفاهيم بمعنى من املعاني‬
‫األول يرى أن القيم فرضت من مصادر عليا‪ ،‬والثاني يخال أنها تطورت بشكل حر‬ ‫وأم��ا املنظور الجزئي أو العملياتي‬ ‫هو دراسة للصراعات والتحوالت األيديولوجية وسط بيئة متقلبة‪ ،‬وما يعقبه من تغير في دالالت‬
‫وباملصادفة! والثالث يزعم أن القيم يمكن التفاوض بشأنها وعبر ال��وف��اق! وهنا‬ ‫ل �ل �ت �ن �م �ي��ة ال �ث �ق��اف �ي��ة‪ ،‬ف �ي �ق��وم ع�ل��ى‬ ‫املفاهيم‪ ،‬ومن ثم توظيفها؛ لذا يسعى الكتاب إلى قراءة ومناقشة كرونولوجيا (التسلسل الزمني)‬
‫اقتصادا من دون قيم؟ اقتصاد‬‫ً‬ ‫ًّ‬
‫تنمويا أو‬ ‫ً‬
‫حيادا‬ ‫يتساءل‪ :‬هل يمكننا أن نتصور‬ ‫م �ج �م��وع��ة ض �خ �م��ة م ��ن ال �ظ��واه��ر‬ ‫ًّ‬
‫ونظريا وتطوراته ورهاناته‪ ،‬وكذلك مورفولوجيا‬ ‫ًّ‬
‫عمليا‬ ‫مفهوم التنمية الثقافية وأسباب ظهوره‬
‫فارغ‪ ،‬ثم هل هذه املقولة مطلقة؟‬ ‫ال�ج��زئ�ي��ة امل��رك�ب��ة وامل �ت��داخ �ل��ة‪ ،‬وه��و‬ ‫(بنية تشكلها) التنمية الثقافية عبر تعريفاتها املتباينة وتشكالتها وبعض مؤشراتها املقترحة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أهمية فهم االقتصاد‪ ،‬فإن الثقافة تشكل هوية املجتمعات‪ ،‬وتصنع‬ ‫ال��ذي يختص بالجهة أو الهيئة أو‬ ‫ويقدم الكتاب متطلبات إنجاز التنمية الثقافية ‪-‬ويجب التنبيه إلى أنها ليست جميعها وافية أو‬
‫ًّ‬ ‫لاً‬
‫تاريخها‪ ،‬وتميز هويتها‪ ،‬وذلك أن التنمية تصاب بتمزقات أيديولوجية وثقوب فنية‬ ‫ثقافيا‬ ‫املؤسسة التي تمارس عم‬ ‫نهائية‪ -‬وذل��ك عبر بانوراما تصورية ألهدافها وأركانها الثمانية وشروطها األربعة ومقوماتها‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫تحول دون نجاعتها‪ ،‬وإن األمر ليس ً‬
‫نزوعا ًّ‬ ‫لاً‬ ‫ً‬
‫ضميريا‬ ‫أخالقيا وصوتا‬ ‫والتزاما‬ ‫ذاتيا‬ ‫محضا أو عم يتقاطع مع الثقافة‬ ‫الخمسة ودعائمها الثالث‪.‬‬
‫ُ‬
‫بقدر ما هو أهمية للفعل األخالقي والقيمي‪.‬‬ ‫(ك � � ��وزارات ال �ث �ق��اف��ة أو م��ؤس�س��ات‬ ‫وملا كان لكل مفهوم خصائص وسمات تميزه عن غيره تكنى بـ«محتوى املفهوم»‪ ،‬فيما تسمى‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وتمنح القيم التنمية الحرارة الالزمة لتمضي التنمية كيانا نابضا بالحيوية‪ ،‬فالتنمية‬ ‫ال�ت�ن�ش�ئ��ة األخ � � ��رى) وت �ت �ك��ام� ّ�ل مع‬ ‫املفاهيم املشتركة في سمة أو أكثر مع املفهوم وتتقاطع معه‪ ،‬وقد تسفر عن املزج بينهما بـ«مجال‬
‫ُ لاً‬
‫ليست كت صماء أو وسائل محايدة‪ ،‬بل خطابات وممارسات مفعمة بالحياة إذا‬ ‫غ �ي��ره��ا م ��ن امل ��ؤس� �س ��ات ك � ��ل ف��ي‬ ‫املفهوم» التي تمثل سبع شبكات مفاهيمية محيطة بمفهوم التنمية الثقافية‪ ،‬وقد جمعها الباحث‪،‬‬
‫ُ‬
‫نحتت من قيم املجتمع وتراثه وتاريخه وإبداعاته‪.‬‬ ‫وظيفته التي يقوم بها‪.‬‬ ‫ونظمها‪ ،‬وأضاف إليها من األدبيات املختلفة‪.‬‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 08‬نقد‬

‫المتخيل التاريخي في سرديات‬

‫إدواردو غاليانو‬ ‫د‪ .‬نادية هناوي‬

‫يجُ مع أكثر منظري الفلسفة التارخيية املعاصرين على‬


‫أن للتاريخ ت��داخ�لا ابل�س��رد ال��ذي ل��ه صلة ابلفلسفة‪،‬‬
‫يوسع مفهوم الزمانية يف‬ ‫وهذا التداخل والتقارب هو ما ّ‬
‫التأريخ حىت ال تنافر بني زمان العامل املعيش املتعاقب‬
‫الذاكرة والسيرة‬ ‫فيزيقيا وال��زم��ان الكرنولوجي املتخيل اترخي�ي��ا‪ .‬وم��ن مث‬
‫ميكن معاجلة قضااي الزمان مبنظورات جديدة؛ فال تعين‬
‫ومثلما أن القصة القصيرة عابرة على التاريخ فهي عابرة ايضا على املذكرات والسيرة‬
‫الذاتية بوصفهما نوعني سرديني متماهيني داخ��ل قالبها‪ ،‬مما يسهل أمر التجسيد‬ ‫أترخة املوت مثال هناية حياة الفرد وإمنا التلميح ملصلحة‬
‫للزمان الثالث‪ ،‬وقد اجتمع السرد بالتاريخ والذاكرة لينتجا التأريخ الذي يبدأه غاليانو‬ ‫ك �ي��اانت تستعصي ع�ل��ى ال�ف�ن��اء م�ث��ل األم ��ة والشعب‬
‫من أول لحظة تأكد فيها أن للزمان في حياة اإلنسان حضورا «إنها ساعة األشباح‬
‫والطبقة واحلضارة وغري ذلك من القضااي اليت ال ميكن‬
‫أستحضرها‪ ،‬أطاردها‪ ،‬أصطادها‪ ،‬أرسمها بالتراب والدم على سرير الكهف‪ .‬أطل على‬
‫بعيني اإلنسان األول‪ ،‬وأشعر ط��وال االحتفالية بأن ذاكرتي تتسع لكل تاريخ‬ ‫ّ‬ ‫نفسي‬ ‫حموها من اهتمام املؤرخ‪ .‬من هنا وضع املفكر الفرنسي‬
‫العالم منذ أن حك ذلك اإلنسان حجرين ليتدفأ بالنار األولى»‪.‬‬ ‫مارك بلوخ (‪1876‬ـــ‪ )1944‬منهجا جديدا يف التاريخ‬
‫واستحكام التاريخ‪/‬التأريخ كزمان ثالث على غاليانو يتضح بشكل ال ريب فيه في هذا‬
‫يمُ �� ِّك ��ن امل� ��ؤرخ م��ن ت��وث�ي��ق ح �ي��اة اجمل �ت �م �ع��ات‪ .‬واهل ��دف‬
‫النوع من العبور القصصي القصير على الذكريات والسير‪ ،‬فيجتمع األلم باللذة واألسى‬
‫بالفرح حتى كأن (في الجوهر ككل شيء مسألة تاريخ) وهو عنوان لقصة قصيرة‬ ‫االق�ت�راب أكثر م��ن حقيقة ال��زم��ان يف دراس��ة اإلنسان‬
‫جاء فيها «ك��ان االتروسكيون قبل امليالد بقرون عديدة يدفنون موتاهم بني جدران‬ ‫الكلي يف أبعاده املتعددة‪ .‬وإذا كان التاريخ علم دراسة‬
‫تتغنى بفرح الحياة‪ .‬في ع��ام ‪ 1966‬نزلنا برفقة غرالسييال ال��ى املقابر االتروسكية‬
‫التغيري وليس امل��اض��ي‪ ،‬ف��إن ال��زم��ان هو نتاج حركة ال‬
‫وش��اه��دن��ا رس��وم��ات تمثل ع�ش��اق��ا يستمتعون ب��ال�ح��ب ب�ك��ل ال��وض�ع�ي��ات‪ ،‬اشخاصا‬
‫يأكلون ويشربون باإلضافة إلى مشاهد احتفال موسيقية كنت قد ُروضت كاثوليكيا‬ ‫تتوقف بني املاضي واحلاضر ذهااب وإاياب من املاضي إىل‬
‫على األلم‪ .‬وقد اذهلتني هذه املقبرة التي كانت تمثل الفرح»‪.‬‬ ‫احلاضر ومن احلاضر إىل املاضي( )‪ ،‬ولكن إىل أيهما‬
‫فالذكريات هي لوحدها زمان تقويمي ال تأريخ أو تاريخ ينتجانها‪ ،‬بل هي التي تنتجهما‬
‫مييل السرد يف جتسيد التاريخ؟ هل مييل إىل التأريخ مبعناه‬
‫ولهذا يجعل غاليانو للزمان لسانا به يقول ما يريده‪ .‬واقدام الزمان وافواهه هو االنسان‪،‬‬
‫نقرأ في قصة «ال��زم��ن ي�ق��ول»‪« :‬م��ن زم��ن نحن‪ .‬نحن أق��دام الزمن وأف��واه��ه وعاجال أو‬ ‫األرشيفي الذاكرايت أم إىل التاريخ مبعناه الزماين؟‬
‫اجال مثلما هو معروف ستمحو رياح الزمن االثار‪ .‬عبور الالشيء خطوات الال أحد؟‬
‫أفواه الزمن تروي الرحلة‪ .‬قبل املا قبل في أزمنة طفولة العالم عندما لم تكن ثمة الوان‬
‫أو اصوات كانت هي الطحالب الزرقاء موجودة وكانت تطلق اوكسجينا فمنحت لونا‬ ‫المتخيل التاريخي‬
‫للبحر والسماء»‪ .‬وهو يرمز بالطحالب الى الذاكرة‪ ،‬وما ان غ��ادر العالم طفولته حتى‬
‫تحولت ذاكرته الى تاريخ فتغيرت الطحالب من لونها االزرق إلى الوان أخرى‪.‬‬ ‫قد يبدو األول أكثر ندرة من الثاني؛ ذلك أن توظيف التاريخ‬
‫وإذا ك��ان ت��وظ�ي��ف غ��ال�ي��ان��و ل�ل��ذاك��رة ق��د أف�ض��ى إل��ى ترجيحها ع�ل��ى س��ردي��ة ال�ت��اري��خ‬ ‫سرديا يعطي الكاتب اتساعا زمانيا في توظيف املتخيل‬
‫وتأريخيته‪ ،‬فإن هذه الذاكرة تفتح املجال واسعا لسؤال يفرض نفسه أكثر من ذي قبل‬ ‫التاريخي داخل القصص والروايات املعاصرة‪ .‬وقد ّ‬
‫شجع‬
‫ّ‬
‫وهو كيف يمكن للتأريخ أن يكون لوحده سردية تاريخية؟‬ ‫ه ��ذا االت �س ��اع ب�ع��ض ك��ت��اب ال �س��رد ع�ل��ى خ ��وض تجربة‬
‫استثمار املتخيل التاريخي ف��ي ال�س��رد بكل م��ا فيه من‬
‫صعوبات‪ ،‬توكيدا للقدرة على اجتيازها وبكل ما فيها من‬
‫الفهم الطباقي للزمان‬ ‫هينة في التطبيق قصصيا أو روائيا‪.‬‬ ‫معوقات قد ال تكون ّ‬
‫ّ‬
‫ويعد إدواردو غاليانو الكاتب االوروغ��وي��ان��ي سباقا في‬
‫أك��د ميشيل بوتور أن توظيف التأريخ في السرد يعني استحالة العودة إل��ى ماضي‬ ‫هذا التوظيف‪ ،‬مرتكنا الى ذاكرته في تأريخ التاريخ ليغدو‬
‫األشخاص الذين صادفناهم والى الذاكرة وكل ما هو داخلي‪ ،‬بينما ُيفضي توظيف‬ ‫ما هو خاص وشخصي عاما وكليا‪ ،‬وتحديدا في كتابه‬
‫التاريخ في السرد نفسه إلى رؤي��ة األشخاص واألشياء من الخارج من خالل سارد‬ ‫«أش�ب��اح الليل وال�ن�ه��ار»‪ ،‬وعنه ق��ال‪« :‬ك��ل ما روي في هذا‬
‫يخاطب السامعني بشفتيه وي�س��اوي بني سامعيه وأبطاله راوي��ا ال�ح��وادث على وفق‬ ‫الكتاب حدث يكتبه املؤلف كما حفظته ذاكرته ولم يغير‬
‫زمانية سردية (طباق الزمني) فيصبح الوقت ال��ذي تستغرقه القصة كأنه اختصار‬ ‫�ارات ف��ي نص‬‫إال ب�ع��ض االس �م��اء‪ .‬أغ�ل��ب ال�ن�ص��وص ت��ذك� ّ‬
‫الوقت الذي استغرقته املغامرة في األصل‪.‬‬ ‫الريح في وج��ه الحاجة»‪ .‬وف��ي ه��ذا الكتاب وظ��ف غاليانو‬
‫ول�ق��د تمثل غاليانو ه��ذا الفهم الطباقي ل�ل��زم��ان ال��ذي ك��ان��ت ق��د تمثلته ال�ش�ع��وب في‬ ‫القصة القصيرة كجنس أدبي عابر؛ فليست كتابة القصة‬
‫طفولتها االولى (أبناء املايا هم معلمون قدماء في هذه االسرار‪ ،‬لم ينسوا أن من صاغنا‬ ‫بالنسبة إليه سوى إغماضة عني‪ ،‬فتتأمل الذاكرة املشهد‬
‫هو الزمن وأننا مصنوعون من زمن يولد بني موت وموت‪ .‬وهم يعرفون أن الزمن يسود‬ ‫في حاضره وماضيه‪ .‬ولذلك لم يفرق االمر عند غاليانو أن‬
‫ويتحكم ويسخر من املال الذي يريد أن يشتريه ومن الجراحات التجميلية التي تريد‬ ‫يكتب عن اميركا الالتينية كحاضر يعيش فيه أو كماض‬
‫محو آثاره ومن أقراص الدواء التي تريد إسكاته ومن اآلالت التي تريد قياسه)‪.‬‬ ‫غادره منفيا الى أسبانيا‪ ،‬يقول في قصة «أغمض عيني‬
‫وم��ا ك��ان للتقويم أن يكون صيغة ثالثة للزمان إال ألن��ه (أول جسر تنشئه املمارسة‬ ‫فأكون في عرض البحر»‪« :‬فقدت العديد من االشياء في‬
‫التاريخية بني الزمان املعيش وال��زم��ان الكوني وه��و خلق ال يصدر عن أي من هذين‬ ‫بوينس ايرس ال أحد يعرف بسبب العجلة أم بسبب سوء‬
‫املنظورين للزمان‪ ،‬برغم ذلك فقد يشترك مع أحدهما أو اآلخر في تأسيسه الذي يكون‬ ‫الحظ الى أين انتهى بها االم��ر‪ ،‬خرجت ومعي القليل من‬
‫به ابتكار)‪.‬‬ ‫املالبس وحفنة من االوراق»‪.‬‬
‫‪09‬‬ ‫نقد‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫الممازجة بين السرد والتاريخ‬ ‫■ اجتمع السرد بالتاريخ والذاكرة لينتجا‬ ‫زمان العالم‬
‫التأريخ الذي يبدأه غاليانو من أول لحظة‬
‫وب��دال م��ن أن ي�ك��ون ال�ق��اص أو ال��روائ��ي صانعا لتاريخ‬ ‫تأكد فيها أن للزمان في حياة اإلنسان‬ ‫وإذا كان الزمان أسطوريا‪ ،‬فإن زم��ان املواقيت هو زمان‬
‫جديد مما نجده في املمازجة بني السرد والتاريخ‪ ،‬فانه‬ ‫العالم وزماننا الشخصي املحدد من خالل‪:‬‬
‫سيكون مؤرخا يمازج السرد بالتأريخ ملتزما بماضوية‬ ‫حضورا‬ ‫‪1‬ـ حدث مؤسس يتخذ بدءا لحقبة جديدة مثل مولد املسيح‬
‫التصور‪ ،‬مؤمنا بفاعلية التوثيق من جهة وعمل التخييل‬ ‫أو بوذا أو الهجرة النبوية أو بداية حكم ساللة معينة‪ .‬هذه‬
‫من جهة أخرى في إنتاج تقويم زماني تختلط فيه مخيلة‬ ‫■ توظيف ال��ت��اري��خ س��ردي��ا يعطي‬ ‫اللحظة املحورية هي نقطة الصفر التي يدور حولها زمان‬
‫املؤرخ بمخيلة الروائي بطريقة مزدوجة‪ :‬فهي من جانب‬ ‫الكاتب اتساعا زمانيا في توظيف‬ ‫امل��واق�ي��ت‪ .‬وال�ق�ص��ة القصيرة خير وسيلة لتأسيس هذا‬
‫تبني قصة بحبكة متماسكة ذات أحداث وقائعية‪ ،‬ومن‬ ‫الزمان وكلما قصرت عبرت أكثر عن زمان املواقيت‪ .‬وهو‬
‫جانب آخ��ر توصل معاني دال��ة إزاء ما فيها من فواعل‬ ‫ال��م��ت��خ��ي��ل ال��ت��اري��خ��ي داخ����ل ال��ق��ص��ص‬ ‫ما نجده في تعامل غاليانو مع القصة القصيرة بوصفها‬
‫حية وأشياء واقعية‪.‬‬ ‫والروايات المعاصرة‬ ‫ج�ن�س��ا ع��اب��را ع�ل��ى زم ��ان م �س��رود ي �ع��ادل ال �ك��ون ف��ي ال‬
‫وأي تمسك بقواعد عمل املؤرخ ومناهج املطابقة الزمانية‬ ‫نهائيته ويضاهي الحياة في دوريتها‪ ،‬فيكون االنسان‬
‫ستجعل عملية كتابة القصة جزئية كسرد تاريخي فيه‬ ‫■ ت��وظ��ي��ف ال��ت��أري��خ ف���ي ال���س���رد يعني‬ ‫في (مهنة اإليمان) دائ��را بني تأريخ الحياة وتاريخ الكون‬
‫ال تتفق القصة م��ع م��ا وثقه ال�ت��أري��خ ع��ن امل��اض��ي‪ ،‬ومن‬ ‫«نعم بالفعل‪ :‬مهما كان املرء متأملا ومهدوما‪ ،‬يستطيع أن‬
‫ثم يتساوى املتخيل السردي مع املتخيل التاريخي في‬ ‫استحالة ال��ع��ودة إل��ى ماضي األشخاص‬ ‫يعثر على معاصرين في أي مكان في الزمن‪ ،‬وعلى زمالء‬
‫كونهما مخياال مل��اض آخ��ر غير امل��اض��ي ال��ذي حصل‬ ‫الذين صادفناهم والى الذاكرة وكل ما‬ ‫في أي مكان في العالم‪ .‬وأينما حدث هذا وطيلة استمراره‬
‫بالفعل ل�ك��ن ب�لا م�س��اف��ة بينهما‪ ،‬وه�ن��ا ت�ب��رز إشكالية‬ ‫هو داخلي‬ ‫يكون امل��رء محظوظا ب��أن يشعر بأنه ش��يء ما في عزلة‬
‫توظيف الزمان سرديا فيتقاطع زم��ان السرد مع زمان‬ ‫ال�ك��ون‪ :‬ش��يء أه��م م��ن ذرة غبار سخيفة أكثر م��ن لحظة‬
‫التأريخ و«ح�ين نريد أن نشير إل��ى الفرق بني القصص‬ ‫عابرة فحسب»‪.‬‬
‫والتاريخ فنحن نشير بالضرورة إلى فكرة تطابق معني‬ ‫■ تعامل غاليانو م��ع القصة القصيرة‬ ‫‪2‬ـ عند اإلحالة إلى املحور الذي يحدده الحدث التأسيسي‬
‫بني سردنا وما حصل فعال»‪.‬‬ ‫بوصفها جنسا عابرا على زم��ان مسرود‬ ‫من املمكن تحريك الزمان في اتجاهني‪ :‬من املاضي نحو‬
‫وه ��و م��ا ق �ص��ده غ��ال �ي��ان��و ح�ي�ن أل ��ف ك �ت��اب��ه (ال �ش��راي�ين‬ ‫يعادل الكون في ال نهائيته ويضاهي‬ ‫الحاضر ومن الحاضر نحو املاضي‪ ،‬وحياتنا هي جزء‬
‫املفتوحة ألميركا الالتينية) وسعى فيه إل��ى «أن يقدم‬ ‫الحياة في دوريتها‬ ‫م��ن األح� ��داث ال�ت��ي ت�م��ر ب�ه��ا رؤي�ت�ن��ا ف��ي ك�لا االت�ج��اه�ين‪.‬‬
‫س��ردا للنهب ويقص ف��ي ال��وق��ت نفسه آلية االستنزاف‬ ‫واالح��االت في قصص غاليانو ترسم لالنسان بوصفه‬
‫العاملية وميكانيكيتها فيظهر الغزاة في سفنهم الشراعية‬ ‫هو الفاعل السردي صورة واسما وهيئة واتجاها وحدثا‬
‫وبجانبهم التكنوقراطيون في طائراتهم النفاثة»‪.‬‬ ‫■ الحبكة هي مكون أصلي من مكونات‬ ‫يتم تصعيده دوريا في شكل مفارقات محزنة‪ ،‬نقرأ في‬
‫كتابة التاريخ والقصة هي في حد ذاتها‬ ‫(عصفة ال��ري��ح)‪« :‬تصفر الريح في داخلي أن��ا ع��ار‪ .‬سيد‬
‫أداة معرفية تفرض نفسها في نهاية‬ ‫ال�لاش��يء‪ .‬سيد ال أح��د‪ .‬لست حتى سيد معتقداتي‪ .‬أنا‬
‫زمن المواقيت‬ ‫سلسلة من المقاربات‬
‫وجهي في الريح‪ ،‬وأنا الريح التي تهب على وجهي»‪ .‬وقد‬
‫ت �ك��ون امل �ف��ارق��ة ف�ك�ه��ة «ف��ي أم�ي��رك��ا ال�لات�ي�ن�ي��ة أل��ف حرية‬
‫ويظل التأريخ كمفهوم عام للتدوين أوسع مدى وسعة من‬ ‫للتعبير عن حق االحتجاج على بعض اإلذاعات والصحف‬
‫التأريخ الذي هو مفهوم خاص للزمان‪ ،‬أشبه بروزنامة‬ ‫امل�ح�ل�ي��ة‪ .‬أص�ب��ح م��ن غ�ي��ر ال �ض��روري ل��رج��ال ال�ش��رط��ة أن‬
‫فيها الحياة البشرية محسوبة بمقياس (زمن املواقيت)‬ ‫يحظروا الكتب‪ :‬ذلك ان أسعارها كافية ملنعها»‪.‬‬
‫بينما ال�ت��اري��خ ال يتحدد بمقياس أو مقاييس ألن��ه هو‬ ‫‪3‬ـ تحدد شبكة من وحدة القياس‪ :‬اليوم كأساس لقياس‬
‫ال��زم��ان كله‪ .‬وتتعدد مقاييس غاليانو فالعنب والخمر‬ ‫الفترة بني شروق الشمس وغروبها واملسافة بني اللحظة‬
‫مقياس ملتوالية ال ت�ع��رف لها ب��داي��ة س��وى أن�ه��ا كلمات‬ ‫امل�ح��وري��ة وغ�ي��ره��ا‪ .‬ففي قصة (ال�لاع��ب) ي�غ��دو االن�س��ان‬
‫«إن العنب مصنوع من الخمر‪ .‬هذا ما روته لي مارسيال‬ ‫الع��ب ك��رة ق��دم ف��ي حياة ه��ي م�ب��اراة وه��و فيها «يركض‬
‫بيريث سيلبا وبعدها فكرت‪ :‬اذا كان العنب مصنوعا من‬ ‫الهثا على شفير الهاوية في جانب تنتظره سماوات املجد‬
‫الخمر فربما تكون الكلمات التي ت��روي من نحن»‪ ،‬في‬ ‫وفي الجانب االخر هوة الدمار»‪.‬‬
‫إشارة الى دورية الزمان التي فيها البشر‪ ،‬رجاال ونساء‪،‬‬
‫مقياس للتناسل حتى ال نهاية لحكاياتهم «هذا الرجل‪،‬‬
‫أو امل��رأة‪ ،‬حامل بعدد كبير من البشر‪ .‬البشر يخرجون‬ ‫الزمان الثالث‬
‫من مسامه بهذه األشكال الفخارية يعبر هنود بويبلو‬
‫املكسيكيون عن راوي الحكايات ذلك الذي يروي الذاكرة‬ ‫بهذا يكون التأريخ ه��و زم��ان التقويم وامل��واق�ي��ت‪ /‬الزمان‬
‫الجمعية التي تزدهر بفضل عدد قليل من البشر»‪.‬‬ ‫ال�ث��ال��ث ال ��ذي ه��و م �ع��ادل م��وض��وع��ي ل�ل�ت��اري��خ ال ��ذي توقع‬
‫وه��و ما عكسه غاليانو بالبناء القصصي على صيغة‬ ‫ري �ك��ور أن امل ��ؤرخ�ي�ن امل �ح �ت��رف�ين رب �م��ا ل��ن ي�ن�ج�ح��وا في‬
‫التوالي السردي ‪ sequence narrative‬وموضوعها تارة‬ ‫اإلخالص له كما أن التخلص منه غير متاح ما دام األمر‬
‫األط�ف��ال واألح�ل�ام (ف��ن ل�لأط�ف��ال‪ /‬ف��ن األط�ف��ال ال�خ��اص‪/‬‬ ‫يتعلق بإعطاء معنى ل�لأح��داث وال��وق��ائ��ع‪ ،‬مما يستوجب‬
‫أح�لام هيلينا‪ /‬رحلة إل��ى ارض األح�لام‪ /‬ارض األح�لام‪/‬‬ ‫االس�ت�م��رار ض��د القطيعة وال�ت��دوي��ر ض��د الخط املستقيم‬
‫أحالم منسية‪ /‬األحالم تغادر)‪ ،‬وتارة أخرى البيروقراطية‬ ‫ال ��ذي يقتضيه تقسيم ال��زم��ان إل ��ى ف �ت��رات أو ع �ص��ور‪..‬‬
‫وال �ل �ي��ل ب��أرب �ع��ة ن �ص��وص ك��ل واح ��د اق �ص��ر م��ن اآلخ ��ر‪،‬‬ ‫ناهيك ع��ن أن ال�ت��اري��خ ـ وليس ال�ت��أري��خ ـ ال ي��واج��ه الزمان‬
‫مستعمال طريقة السرد غير الطبيعي‪ ،‬يقول األول «ال‬ ‫الحبكة والتاريخ‬ ‫وإنما يواجه نظاما فكريا يجعل معنى الحدود متالشيا‪.‬‬
‫جفني‪ .‬سأقول لها‬ ‫ّ‬ ‫استطيع أن أنام هناك امرأة عالقة بني‬ ‫م��ن هنا وص��ف غاليانو نصوصه بأنها النظر م��ن ثقب‬
‫أن تخرج إن تمكنت لكن هناك امرأة عالقة في حنجرتي»‬ ‫إن من االفتراضات التي تثبت إمكانية تسريد التأريخ‪ ،‬ما طرحه ريكور حول الحل الشعري وأن التأريخ ليس‬ ‫الباب تارة ومن ثقب املفتاح تارة اخرى‪ ،‬مختصرا في هذه‬
‫وي�ق��ول الثاني «ي��ا ام��رأة جرديني م��ن ثيابي وشكوكي‬ ‫معطال سرديا‪ ،‬وأن الزمان التاريخي يسهم في فك االلتباسات وإح��داث مصالحة بني التاريخ والتأريخ من‬ ‫النظرة التي ه��ي ضيقة حسابيا لكنها متسعة رؤيويا‬
‫ع��ري�ن��ي ح��رري�ن��ي م��ن ال �ش��ك»‪ ،‬ويستعمل امل�ج��ازي��ة في‬ ‫ناحية أن (الحبكة) هي مكون أصلي من مكونات كتابة التاريخ‪ ،‬والقصة هي في حد ذاتها أداة معرفية تفرض‬ ‫القصة القصيرة بوصفها هي التاريخ ال��ذي فيه يتجلى‬
‫النصني الثالث والرابع «أنام على حافة امرأة‪ ،‬على حافة‬ ‫نفسها في نهاية سلسلة من املقاربات التي تصبح أدق تدريجيا على حساب اكتشاف استعصاءات تتعلق‬ ‫النهب والقتل‪ .‬وقصده أن يشعر القارئ بمآالت التاريخ‬
‫هاوية» و«أتحرر من العناق أخرج إلى الشارع في السماء‬ ‫باملعرفة التاريخية‪ ،‬ولقد وضح غاليانو هذا الذي تقدم عمليا حني وصف كتابه (الوجوه واالقنعة) ـ الذي هو‬ ‫املدون بالكلمات على التأريخ املعيش باللحظات وأيهما هو‬
‫املتألقة‪ ،‬القمر فضة رائعة عمر القمر ليلتان وأنا عمري‬ ‫الجزء الثاني من ثالثية ذاكرة النار ـ باملوزاييك النه كان يطعمه بتأرخة االحداث زمانيا وبناء حبكاته التاريخية‬ ‫الزائف وأيهما هو الصحيح‪ ،‬وعندها سيتخيل هذا القارئ‬
‫ليلة واحدة»‪ .‬وما زمن املواقيت سوى زمن التقاويم التي‬ ‫سرديا‪ ،‬مختصرا القرنني الثامن عشر والتاسع عشر قائال‪« :‬ليس هذا الكتاب مختارات أدبية بل عمل أدبي‬ ‫«أن التاريخ يهرب م��ن املتاحف ويتنفس م��لء رئتيه‪ .‬أن‬
‫تحددها سردنة التأريخ بالتسجيل والتسلسل املستقيم‬ ‫إبداعي يسرد الكاتب تاريخ أميركا وقبل كل شيء تاريخ أميركا الالتينية‪ ،‬كاشفا أبعاده املتعددة ومخترقا‬ ‫املاضي يصبح حاضرا فاميركا الالتينية لم تعان فقط‬
‫والتوالي غير املتقطع في شكل حلقات أو دوائ��ر تتكرر‬ ‫أسراره‪ ..‬يشمل القرنني الثامن عشر والتاسع عشر على رأس كل نص أشير الى عام ومكان حصول الحادثة‬ ‫من سرقة الذهب والفضة واملطاط والنحاس والنفط‪ ،‬لقد‬
‫بشكل دوري قصير‪ ،‬مثل ساعات ويوم وأسبوع وشهر‬ ‫وتشير االرق��ام التي بني قوسني في االسفل الى االعمال الرئيسة التي رجع اليها املؤلف بحثا عن املعلومات‬ ‫صادروا ذاكرتها اختطفوا ذاكرتها ايضا كي ال تعرف من‬
‫وفصل أو بشكل طويل مثل سنة وعقد وقرن وألفية‪.‬‬ ‫واملراجع»‪.‬‬ ‫أين أتت وكي ال تستطيع أن تعرف الى اين تذهب»‪.‬‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 10‬حوار‬

‫سامح الجباس يتحدث عن مغامرته الروائية‪:‬‬

‫«راب��ط��ة ك��اره��ي سليم العشي»‬


‫سماح ممدوح حسن‬

‫يف رواي ��ة نستطيع أن نطلق عليها‬


‫«غ� �رائ� �ب� �ي ��ة» مل ��ا ت �ق �ص��ه ع �ل �ي �ن��ا م��ن‬
‫ش�خ�ص�ي��ة ع��اش��ت وم ��ات ��ت بشكل‬
‫غامض‪ ،‬حىت ظننا أنه مل يكن أكثر‬
‫م��ن جم��رد طيف عابر على األرض‪،‬‬
‫الدكتور داهش‪ .‬وعنه كتب الروائي‬
‫املصري سامح اجلباس رواية «رابطة‬
‫كارهي سليم العشي» وعن الرواية‬
‫كان لنا هذا احلوار مع كاتبها‪.‬‬

‫شخصية غامضة‬

‫● في البداية‪ ،‬ومن واقع بحثك وراء شخصية‬


‫سليم العشي‪ ،‬وأظ�ن��ك األك�ث��ر بحثا وراء هذه‬
‫الشخصية‪ ،‬فبعد كل شيء برأيك سليم العشي‬
‫كان صاحب عقيدة يوحى إليه بطريقة ما‪ ،‬أم‬
‫أنه كان مجرد دجال أو حتى فيلسوف ّ‬
‫تحدث‬
‫بما لم يأبه له اآلخرون من قبل؟‬
‫‪ -‬ب �ح �ث��ت مل� ��دة ث�ل��اث س� �ن ��وات ع ��ن ش�خ�ص�ي��ة‬
‫د‪.‬داهش محاوال معرفة أكبر كم من املعلومات‬
‫ع��ن ه��ذه الشخصية الغامضة املثيرة للجدل‪،‬‬
‫ّ‬
‫ال�ت��ي ل��م ي�ق�ت��رب منها أح��د م��ن ال�ك��ت��اب روائ�ي��ا‬
‫أو بحثيا‪ .‬بالطبع ال يمكن أن ن�ج��زم بحقيقة‬
‫م��ؤك��دة ب �ع��د م� ��رور ث �م��ان وث�ل�اث�ي�ن س �ن��ة على‬
‫وفاته‪ .‬فالرجل كان يجمع عدة خصال مهمة‪،‬‬
‫قلة المصادر‬ ‫اش��ت��ع��ل��ت رغ��ب��ت��ي ف���ي أن أخ���وض‬ ‫◄‬ ‫غ �ي��ر م ��وض ��وع ال �ع �ق �ي��دة‪ ،‬ف �ه��و ك��ات��ب للشعر‬
‫التحدي بمحاولة البحث ع��ن هذا‬ ‫وال �ن �ث��ر وط � ��ارح أف �ك ��ار ف�ل�س�ف�ي��ة‪ ،‬ع �ل��ى ال��رغ��م‬
‫● ما ال��ذي استهواك للكتابة عن ه��ذه الشخصية خاصة وأن��ا أظ��ن وبسبب قلة املصادر عنه كان‬ ‫م��ن أن��ه ل��م يتعلم ب�ش�ك��ل رس �م��ي‪ .‬ب��ل إن��ه أل��ف‬
‫بحثا مضنيا‪ ،‬فلماذا الكتابة عن سليم العشي بالتحديد؟‬ ‫الرجل الغامض ووجدت في شخصية‬ ‫مئة وخمسني ك�ت��اب��ا‪ ،‬ب��االض��اف��ة لكونه رحالة‬
‫‪ -‬في عام ‪ 2017‬اشتريت كتابا يتعرض ألهم الشخصيات الفلسطينية التي ولدت في بيت لحم‪ ،‬وفي‬ ‫ط��اف ب�لاد العالم من الشرق إل��ى الغرب‪ ،‬وترك‬
‫الكتاب كان يوجد فصل عن «سليم العشي» أو الدكتور داه��ش‪ -‬كما هو االسم املعروف به‪ -‬كانت‬ ‫الدكتور داهش حالة إنسانية غريبة‬ ‫اثنني وعشرين كتابا في أدب ال��رح�لات‪ ،‬حتى‬
‫املعلومات قليلة و(غريبة) مجرد استغراب من املؤلف لهذه الشخصية (الدكتور داهش) ذلك الشاب‬ ‫كتاباته وقتها كان لها سبق وأث��ر كبير أدبيا‪،‬‬
‫الذي يعمل منوما مغناطيسيا‪ ،‬ثم فجأة أسس عقيدة دينية وواجه رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك‪،‬‬ ‫وغامضة تستحق الكشف عنها‬ ‫فمثال قال النقاد عن أشعاره «لقد سبق نازك‬
‫وكانت له تنبؤات وله أتباع آمنوا بدعوته‪ .‬لفتت انتباهي شخصية الدكتور داهش‪ ،‬دون كل شخصيات‬ ‫املالئكة وب��در شاكر السياب ف��ي كتابة شعر‬
‫الكتاب‪ ،‬وبدأت في البحث عن مزيد من املعلومات عنه‪ ،‬وهنا وجدت مفاجأة أمامي‪ :‬ال توجد معلومات‬ ‫النثر»‪ ،‬وعندما نشر قصته امللحمية «مذكرات‬
‫عن هذا الشخص! في تلك اللحظة اشتعلت رغبتي في أن أخ��وض التحدي في محاولة البحث عن‬ ‫دي�ن��ار» كتبت الصحافة وقتها أن�ه��ا «أودي�س��ا‬
‫هذا الرجل الغامض‪ ،‬ووجدت في شخصية الدكتور داهش (حالة إنسانية غريبة وغامضة) تستحق‬ ‫الشيخ عبدالله العاليلي كتب أكثر‬ ‫◄‬ ‫القرن العشرين»‪ .‬بالنظر الى تلك الشخصيات‬
‫الكشف عنها‪ .‬واستغرق هذا البحث ثالث سنوات كاملة حتى استطعت أن أجمع‪ ،‬ما وجدته كافيا‬ ‫م��ن م��ق��دم��ة لكتب داه���ش وك��ان‬ ‫الكثيرة املثقفة والسياسية واألدبية التي عرفت‬
‫من معلومات‪ ،‬للبدء في هذه (املغامرة الروائية) منطلقا من قناعتي الشخصية بأن الكتابة (موقف‬ ‫ال��دك�ت��ور داه��ش شخصيًا ف��أن��ا أستبعد كونه‬
‫ورؤية)‪ .‬إن الكتابة عن شخصية حقيقية هو أصعب من الكتابة عن شخصية متخيلة‪ ،‬فمهما كان‬ ‫ً‬
‫جدا‬ ‫صديقه بدرجة قريبة‬ ‫نصابًا‪ ،‬وإال ما كنت كتبت عنه رواي��ة تتناول‬
‫خيالك جامحًا فسيكون عليك كروائي ترويضه مع الشخصية الحقيقية‪.‬‬ ‫الجوانب املختلفة من شخصيته‪.‬‬
‫‪11‬‬ ‫حوار‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫ال أث�����ر ل��س��ل��ي��م ال��ع��ش��ي‬ ‫ال�������ب�������ح�������ث ع�����������ن خ���ل���اص‬
‫ّ‬
‫مختف تقريبًا‪ .‬فرغم عشرات الكتب التي أصدرها في‬
‫ٍ‬ ‫● سليم العشي‬ ‫● في الحقبة التي عاش وبشر فيها سليم العشي بأفكاره الداهشية‪،‬‬
‫كل األجناس األدبية والفلسفة وغيره‪ ،‬فإننا ال نجد لهذه الكتابات‬ ‫وم��ا قبلها‪ ،‬راج��ت للغاية حتى إنها كانت كما الحمى تجتاح العالم‬
‫أي أثر‪ ،‬وال حتى معلومات كافية شافية عن الرجل وال اعماله‪ ،‬برأيك‬ ‫أجمع من البحث والتجريب والتبشير بمذهب الروحانيات الذي تبناه‬
‫وم��ن ممكن أن يكون طمس معالم حياة الرجل‬ ‫لم كل هذا الغموض َ‬ ‫َ‬ ‫بطل رواي �ت��ك‪ ،‬حتى إن أعظم العقول الفيزيائية انخرطت ف��ي تجارب‬
‫ُ‬
‫هكذا؟‬ ‫كهذه‪ ،‬ت��رى هل ذل��ك بسبب االضطرابات السياسية وال�ح��روب‪ ،‬فكانت‬
‫‪ -‬ك��ان ه��ذا م��ن ض�م��ن ال�ص�ع��وب��ات ال�ت��ي واج�ه�ت�ه��ا‪ ،‬ك�ت��ب ال��دك�ت��ور‬ ‫ال��روح��ان�ي��ات ه��ي سبيل ال�ع��ال��م وط��ري�ق�ت��ه ل�ل�خ��روج م��ن ج�ن��ون ال�ح��رب‬
‫داهش ‪ 150‬كتابًا بني الشعر والنثر والقصة والفلسفة‪ ،‬منها ‪22‬‬ ‫والبحث عن خالص؟‬
‫ك�ت��اب��ًا ف��ي أدب ال��رح�ل�ات‪ ،‬وأس�س��ت ل��ه خصيصا ف��ي ب�ي��روت دار‬ ‫‪ -‬هذا صحيح‪ .‬بالفعل تلك الفترة‪ ،‬فترة الحرب العاملية الثانية‪ ،‬التي مات‬
‫النشر امللحق ال�ت��ي ك��ان��ت تطبع كتبه ه��و ف�ق��ط‪ .‬ث��م ترجمت كتبه‬ ‫فيها ماليني البشر‪ ،‬ك��ان هناك توجه عاملي للبحث عن «خ�لاص» واتجه‬
‫إلى اللغتني اإلنكليزية والفرنسية‪ ،‬وكان ذلك في ثالثينيات القرن‬ ‫كثير م��ن امل�ف�ك��ري��ن إل��ى ال��روح��ان �ي��ات‪ ،‬ول � ِ�ك أن ت�ت�ص��وري أن أه��م روائ��ي‬
‫ً‬
‫الـ‪ ،20‬ثم توقفت الدار‪ ،‬ونشأت بدال منها دار النشر الداهشية التي‬ ‫إنكليزي وهو السير أرثر كونان دويل‪ ،‬مبتكر شخصية شيرلوك هوملز‪،‬‬
‫كانت تشارك في معارض الكتب العربية بما فيها معرض القاهرة‬ ‫كان من مؤسسي جمعية الستحضار األرواح في لندن‪ ،‬وكانت له أبحاث‬
‫الدولي للكتاب‪ .‬وفجأة في عام ‪ 1990‬جاء قرار‪ ،‬ال أحد يعرف من‬ ‫كثيرة ح��ول ه��ذا املوضوع وأل��ف كتبا في ه��ذا الشأن‪ .‬وف��ي العالم العربي‬
‫أص��دره‪ ،‬بمنع مشاركة دار النشر الداهشية ف��ي جميع معارض‬ ‫أيضا كانت هناك كتب ومؤلفات وجمعيات روحانية كثيرة‪ ،‬وكلنا قرأنا‬
‫الكتب العربية‪ ،‬كما تم منع كل كتب الدكتور داهش‪ ،‬على الرغم من‬ ‫مؤلفات د‪.‬مصطفى محمود «الروح والجسد‪ ،‬والخروج من التابوت»‪ .‬وفي‬
‫أنها في مجملها كتب أدبية ورح�لات‪ ،‬ال تروج لألفكار الداهشية‪.‬‬ ‫مصر تكونت أكثر من جمعية الستحضار األرواح ومنها جمعية «األهرام‬
‫وعندما ب��دأت رحلتي في البحث لم أج��د أي��ًا من ه��ذه الكتب حتى‬ ‫الروحية» التي ك��ان يرأسها أه��م علماء الفيزياء املصرية‪ .‬وتصدر مجلة‬
‫بصيغة البي دي أف‪ ،‬وه��ذا املوقف هو ما ألهمني بعنوان الرواية‬ ‫«عالم الروح» للصحافي أحمد فهمي أبو الخير‪.‬‬
‫«رابطة كارهي سليم العشي» وبطرق – ال يمكن االفصاح عنها‬
‫– استطعت الوصول الى بعض هذه الكتب ووثقت أجزاء منها في‬
‫رواي �ت��ي‪ ،‬وب�ه��ذا تصبح رواي�ت��ي – أيضا – ه��ي امل�ص��در (الوحيد)‬ ‫ط��������������روح��������������ات وأدل����������������ة‬
‫لقراءة الكثير من النصوص التي كتبها الدكتور داه��ش والتي تم‬
‫التعتيم عليها ألسباب ال أعرفها‪.‬‬ ‫● فى الحقيقة الرواية مليئة باألسئلة‪ ،‬لكن ما لفت نظري أكثر هو األسئلة‬
‫ً‬
‫املتعلقة بتأثر شخصيات كنجيب محفوظ وت��وف�ي��ق الحكيم م�ث�لا بسليم‬
‫العشي‪ ،‬فلو ك��ان الرجل مجرد «دج��ال» فهل هو أذك��ى من ه��ؤالء ليستطيع‬
‫أح�����������������داث غ�����رائ�����ب�����ي�����ة‬ ‫التأثير فيهم بهذا القدر؟‬
‫‪ -‬في اعتقادي أن هذه األسماء العظيمة وغيرها من الكتاب والسياسيني‬
‫● من أين استمددت معلوماتك عن سليم العشي على ندرة املصادر؟‬ ‫والفنانني هي دليل على أن الدكتور داهش كان لديه من «األفكار» ما أقنعهم‬
‫‪ -‬واجهت صعوبة كبيرة في البحث عن معلومات عن سليم العشي‪.‬‬ ‫وليس مجرد «خوارق» ال تفسير لها‪ .‬فأفكار الدكتور داهش عن «التقمص»‬
‫بحثت بني الكتب واملجالت القديمة ملدة ثالث سنوات‪ ،‬وكانت بداية‬ ‫و«العود األبدي» مثال نجدها بوضوح في مؤلفات نجيب محفوظ وتوفيق‬
‫الخيط اعالنات عن د‪ .‬داهش في مجلة الصرخة التي كانت تصدر‬
‫الكتابة عن شخصية حقيقية أصعب من‬ ‫◄‬ ‫الحكيم ويوسف السباعي وغيرهم في توقيت مدهش ومتزامن مع ما كان‬
‫في مصر ‪ ،1931‬ثم بدأت املعلومات تتجمع ومنها انتقلت العادة‬ ‫الكتابة عن شخصية متخيلة‪ ،‬فمهما‬ ‫يكتبه وينشره د‪ .‬داهش‪ .‬وأنا أعتقد من خالل بحثي أنه مستحيل أن تكون‬
‫ق��راءة ح��وال��ي ثالثمئة كتاب م��ن األدب امل�ص��ري خ�لال الفترة من‬ ‫األف�ك��ار التي طرحوها ف��ي قصصهم ف��ي نفس توقيت اع�لان الداهشية‬
‫‪ 1940‬الى ‪ 1984‬ومنها اكتشفت الكثير من األمور التي طرحتها‬ ‫ك���ان خ��ي��ال��ك ج��ام��ح ً��ا فسيكون عليك‬ ‫وطرحهم لنفس األس��س واألف�ك��ار التي دع��ت لها الداهشية مستحيل أن‬
‫في الرواية‪.‬‬ ‫تكون صدفة‪ ،‬لكن الجزم بانتمائهم صعب جدا بشكل قاطع‪ ،‬وأنا تركت‬
‫● هل ال يزال هناك أتباع لألفكار الداهشية؟‬ ‫كروائي ترويضه مع الشخصية الحقيقية‬ ‫أمام قارئ الرواية طروحات وأدلة – من وجهة نظري – وعلى كل قارئ أن‬
‫‪ -‬ن�ع��م‪ ،‬م��وج��ودون ف��ي ك��ل أن�ح��اء ال�ع��ال��م م��ن لبنان وح�ت��ى أوروب��ا‬ ‫يمعن التفكير فيها وربما ُيعيد البحث بنفسه‪..‬‬
‫وأميركا‪.‬‬
‫● في رحلة بحثك عن سليم العشي‪ ،‬هل واجهتك أي أحداث غرائبية‬ ‫ً‬
‫كتابا بين الشعر‬ ‫كتب الدكتور داهش ‪150‬‬ ‫◄‬
‫على الصعيد الشخصي أو العمل؟‬ ‫ح��������������������������������رب دول������������������������ة‬
‫‪-‬م��ن امل�ع��روف أن س��ور األزبكية يمكن أن نجد كثيرا من الكتب‬
‫وامل�ج�لات القديمة حتى ل��و م��رت عليها مئة سنة‪ ،‬لكن م��ا حدث‬
‫وال��ن��ث��ر وال��ق��ص��ة والفلسفة‪ ..‬ومنها‬ ‫● الهجوم بضراوة على أي فكر جديد مفهوم‪ ،‬لكن ع��ادة يحدث أن تنتصر‬
‫معي أعتبره «غريبا» فقد بحثت كثيرا هناك‪ ،‬ورغ��م توافر ‪150‬‬ ‫كتابا في أدب الرحالت وأسست له‬ ‫ً‬ ‫‪22‬‬ ‫الفكرة وتنتشر‪ ،‬لكن هذا لم يحدث مع سليم العشي‪ ،‬برأيك ملاذا؟‬
‫كتابًا للدكتور داه��ش فإنني عجزت عن إيجاد أي نسخة منها‪،‬‬ ‫‪ -‬لم يتعرض د‪.‬داهش ملجرد هجوم بل واجه حرب دولة مقابل رجل واحد‬
‫رغم أني وجدت مجالت مر عليها حوالي قرن‪ ،‬مثل مجلة اللطائف‬ ‫ً‬
‫خصيصا في بيروت دار النشر‬ ‫أع��زل إال م��ن أف �ك��اره‪ ،‬وعلى ال��رغ��م م��ن أن لبنان بلد تتعدد فيه الطوائف‬
‫املصورة‪ ،‬وكنت أس��أل نفسي‪ :‬كيف اختفت كتب د‪ .‬داه��ش بهذا‬ ‫الدينية‪ ،‬فإن الداهشية قوبلت بحرب شعواء امتدت عشر سنوات‪ ..‬حرب‬
‫الشكل؟‬ ‫مع الكنيسة وحرب هي األخطر‪ ،‬مع رئيس الجمهورية اللبنانية شخصيًا‬
‫● ب��ال�ن�س�ب��ة ل�ل�خ�ط��اب��ات وامل� �ق ��االت ال � ��واردة ف��ي ال ��رواي ��ة خ��اص��ة من‬ ‫في ه��ذا الوقت في األربعينيات‪ ،‬فربما ك��ان من س��وء حظ دكتور داهش‬
‫تخيل فيها؟‬
‫ُ‬
‫وامل ّ‬ ‫الشخصيات اللبنانية‪ ،‬أين حدود الواقعي‬ ‫رواي��ت��ي ه��ي ال��م��ص��در ال��وح��ي��د ل��ق��راءة‬ ‫◄‬ ‫أن من أول وأخطر وأه��م َم��ن آم��ن به هم عائلة م��اري ح��داد‪ ،‬وه��ي شقيقة‬
‫‪-‬جميع املقاالت والنصوص والشهادات في الرواية حقيقية وموثقة‬ ‫لورا حداد السيدة األولى وزوجة رئيس الجمهورية‪ .‬ولوال هذه الحرب التي‬
‫بالتاريخ‪ ،‬لكن أحداث الرواية نفسها هي مزيج من الخيال والواقع‪.‬‬ ‫الكثير من النصوص التي كتبها الدكتور‬ ‫خاضتها «دولة ضد رجل» واحد لكانت الداهشية ستكون مثلها مثل أي‬
‫ً‬
‫عندما ق��ررت أن أب��دأ ف��ي كتابة ال��رواي��ة فكرت ط��وي�لا ف��ي التقنية‬ ‫طائفة أخرى بلبنان‪.‬‬
‫أو التكنيك األنسب لكتابة هذا املوضوع الغريب الشائك‪ ،‬والكتابة‬
‫داهش والتي تم التعتيم عليها ألسباب‬ ‫● ه ��ل ب ��رأي ��ك ه� ��ذه ال �ح �م �ي��ة ه ��ي ال �ت��ي ت�س�ب�ب��ت ف ��ي ق �م��ع أي أف� �ك ��ار تتعلق‬
‫هي فعل هجرة عن الواقع‪ ،‬يقول توماس هاردي في كتابه «نظرية‬ ‫ال أعرفها‬ ‫بالروحانيات أو تتعلق باإليمان بما هو غير م��ادي أم بما لم تنص عليه‬
‫الرواية» إن «الرواية درس في الحياة» لذلك وجدت أن أنسب تقنية‬ ‫الكتب املقدسة صراحة؟‬
‫لكتابة ال��رواي��ة‪ ،‬ونظرا لغرابة شخصية بطلها الحقيقي‪ ،‬أن تكون‬ ‫‪ -‬األفكار األساسية التي كان يطرحها د‪ .‬داهش كانت عن اعالء قيمة الروح‬
‫ايضا الشخصيات املتخيلة مزيجًا من الحقيقي والخيال‪ .‬فأصبح‬ ‫في مقابل امل��ادة‪ ،‬وااليمان بالحياة األخ��رى‪ ،‬والتوحيد بني األدي��ان وقبول‬
‫بطل الرواية هو الروائي سامح الجباس‪ ،‬بالفعل هذا ما فعلته فقد‬ ‫رفعت الواقع إلى مرتبة الخيال وأنزلت‬ ‫◄‬ ‫بعضها لبعض دون خالفات أو ح��روب‪ ،‬وه��و ما تتفق عليه كل األدي��ان‬
‫أوجدت الرابط الروائي بني الشخصيات الحقيقية وبني الشخصيات‬ ‫السماوية‪ .‬وفي روايتي شهادات كثيرة «موثقة» من رجال دين مسلمني‬
‫املتخيلة وصنعت مزيجًا منها بحيث ص��ار غير ممكن الفصل‬ ‫الخيال إلى مرتبة الواقع‪ ..‬فتالقيا في‬ ‫ومسيحيني تؤكد هذه األفكار‪ ،‬وأذكرك أن واحدًا من أشهر أصدقاء دكتور‬
‫بينهما‪ .‬لقد رفعت ال��واق��ع ال��ى مرتبة ال�خ�ي��ال‪ ،‬وأن��زل��ت الخيال الى‬ ‫داهش كان الشيخ عبداهلل العاليلي الذي كتب أكثر من مقدمة لكتب داهش‪،‬‬
‫تماه وامتزجا‪.‬‬‫مرتبة الواقع‪ ،‬فتالقيا في نقطة ٍ‬
‫نقطة تماهٍ وامتزجا‬ ‫كما كان صديقه بدرجة قريبة جدا‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 12‬مراجعات‬

‫بروايته المرشحة لجائزة األدب العربي في فرنسا‪« :‬أبواب الجنة»‬

‫طالب الرفاعي‬
‫يجد ُد بريق الرواية الواقعية ويعيدها إلى الواجهة‬
‫ّ‬
‫د‪ .‬جعفر الهدي‬

‫ما إن تنهي قراءة الصفحة األوىل من رواية «خطف احلبيب» للكاتب الكوييت طالب الرفاعي‪ ،‬حىت تشعر أبن جلدك قد تلطخ‬
‫تتحسس‬ ‫الدم الساخن‪ .‬تبدأ هذه الرواية مبشهد ضارب اجلذور يف الواقعية جيعلك‬
‫يشم رائحة زخنة من ذلك ّ‬
‫أنفك صار ُّ‬ ‫ابلدم‪َّ ،‬‬
‫وأن َ‬ ‫ّ‬
‫ُ‬
‫الدم‬
‫ّ‬ ‫أن‬ ‫الصفحة‬ ‫بنهاية‬ ‫تكتشف‬
‫ُ‬ ‫أنك‬ ‫رغم‬ ‫وجسدك‪،‬‬ ‫مالبسك‬ ‫إىل‬ ‫يصل‬ ‫مل‬ ‫الورقة‬ ‫تلك‬ ‫على‬ ‫تفجر‬ ‫الذي‬ ‫م‬‫د‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫أن‬ ‫لتتأكد‬ ‫جلدك‪،‬‬
‫املتفجر ليس إال مشهداً يف حلم‪.‬‬

‫«خطف الحبيب» أم «أبواب الجنة»؟‬ ‫بهذه البداية‪ ،‬يدير الرفاعي الدفة ليعيد الرواية الواقعية إلى واجهة املشهد‬
‫السردي العربي‪ ،‬ففي الصفحة األول��ى من الرواية التي تنافس هذا العام‬
‫بني العنوان العربي للرواية‪« :‬خطف الحبيب» وهو األصل‪ ،‬وبني العنوان املترجم‬ ‫للفوز بجائزة األدب العربي في فرنسا‪ ،‬بعد وصولها إلى القائمة القصيرة‬
‫عن الفرنسية‪« :‬أبواب الجنة»‪ ،‬نجد أن العنوان الجديد قد حقق الهدف األساسي‬ ‫في نسختها املترجمة للغة الفرنسية تحت عنوان‪« :‬أب��واب الجنة»‪ ،‬يظهر‬
‫من الترجمة الروائية‪ ،‬وهو التعرف على ثقافة اآلخر‪ ،‬وقد جاء ذلك في سياق‬ ‫�ازم على كتابة نص واقعي‪ ،‬وسط موجة من رواي��ات‬ ‫بجالء أن الكاتب ع� ٌ‬
‫تعزيز واقعية الرواية‪ ،‬فعنوان خطف الحبيب يلخص خيط الحكاية بهذه الرواية‬ ‫الفانتازيا والرمزية وروايات الخيال التي تغرق املكتبة األدبية العربية‪.‬‬
‫الشيقة‪ ،‬وه��و يلخص وي��رم��ز إل��ى اخ�ت�ط��اف الفكر امل�ت�ط��رف ل��ذل��ك ال�ش��اب ابن‬
‫املليونير الكويتي الليبرالي‪ ،‬الذي يغامر بالسفر إلى قلب املناطق التي يسكنها‬ ‫الواقعية والفانتازيا‬
‫اإلرهابيون‪ ،‬حيث ُيختطف من قبل جماعة متحاربة مع جماعته‪ ،‬حواضنهم‬
‫التي تجعل من الصعب اختراقهم‪ ،‬لكنه وم��ن خ�لال تعرفه على فتاة إيرانية‬ ‫عشرات من رواي��ات الفانتازيا والسحر‪ ،‬حيث تهرب الكثير من األق�لام‬
‫تعمل ف��ي ش��رك�ت��ه‪ ،‬ي�ق��رر خ��وض امل�غ��ام��رة‪ ،‬حيث ت��رت��ب ال�ف�ت��اة لسفره ولقائه‬ ‫املبدعة إلى عوالم ُمتخيلة‪ ،‬أبطالها ليسوا بشرًا‪ ،‬وال حتى كائنات فضائية‪،‬‬
‫ُ‬
‫باملجموعة اإلرهابية التي تطلب فدية بمبلغ كبير‪.‬‬ ‫إنها عوالم غريبة نسجت ببراعة في روايات كثيرة صدرت بالعام نفسه‬
‫أما عنوان «أبواب الجنة»‪ ،‬فهو يأخذنا إلى ما وراء خيط الحكاية‪ ،‬حيث الجذور‬ ‫الذي صدرت به رواية «خطف الحبيب ‪ »2022‬عن املركز الثقافي للكتاب‬
‫ً‬
‫الفكرية التي أدت إلى هروب ذلك الشاب‪ ،‬وتوليه منصب إمارة الجماعة املتطرفة‪،‬‬ ‫بالرباط‪ ،‬فمثال نجد رواية «عصور دانيال في مدينة الخيوط» للكاتب أحمد‬
‫ثم اختطافه من قبل جماعة إرهابية أخرى‪ ،‬حيث يبرز سؤال عميق لدى املتلقي‬ ‫ُّ‬
‫ترسم سكان مدينة كاملة من الدمى التي تنفلت من خيوط‬ ‫ُ‬ ‫عبداللطيف‬
‫َ‬
‫في الثقافة الغربية‪ ،‬وهو‪« :‬ما الذي يحمل ابن مليونير ُمن ّعمًا على الذهاب إلى‬ ‫املاريونيت‪ ،‬لتتشكل عائالت من الدمى بعيون زجاجية مثيرة للدهشة‪ .‬أما‬
‫أتون املوت؟»‪ .‬لذا‪ ،‬أجد في العنوان املترجم ذكاء‪ ،‬آخذًا املتلقي املختلف للسياق‬ ‫في رواية تماثيل الجن للكاتبة سمر نور‪ ،‬فنرى األسطورة تتشكل بثوب‬
‫ً‬
‫الثقافي ال��ذي ُبني النص على أس��اس��ه‪ ،‬فاملتلقي للرواية سيعرف م��ن العتبة‬ ‫عصري‪ ،‬حيث ترسم الكاتبة عاملًا متخيال للجن في عوالم ألعاب ّالفيديو‪،‬‬
‫األولى للنص أنه ليس أمام رواية بوليسية تحكي قصة اختطاف شاب غني‪.‬‬ ‫ليبرز قالب فانتازي نرى فيه الجن بأشكال جديدة لم نتخيلها قط‪.‬‬
‫يعتقد بعض النقاد بأن الواقعية تعني تجسيد الواقع بكل أبعاده‪ :‬العظيمة‬
‫تأويالت النص‬ ‫وال�ت��اف�ه��ة‪ ،‬وق��د ب��رزت ه��ذه النظرية األدب�ي��ة م��ن خ�لال امل��درس��ة الفرنسية‬
‫التي انتفضت على االتجاه الرومانسي‪ ،‬الذي كان الطابع العام للنصوص‬
‫ومن املؤكد أن املتلقي الواعي سيتساءل عن أبواب الجنة التي أشار إليها العنوان‪،‬‬ ‫األدبية خالل القرن التاسع عشر‪ .‬لقد برزت املدرسة الواقعية كمدرسة في‬
‫وسينفتح هذا السؤال على أسئلة أكثر تشظيًا‪ ،‬أهمها‪ :‬ملاذا لم ّ‬
‫يصدر املترجم‬ ‫األعمال‪ ،‬ومنها رواية‪« :‬مدام بوفاري» للكاتب الفرنسيّ فلوبير‪،‬‬ ‫الكثير من ّ‬
‫الرواية بعنوان‪« :‬أب��واب الجحيم»؟ أليس الحقيقة أن اإلرهابيني يطرقون أبواب‬ ‫الذي جسد كل ما هو وضيع وحقير على أرض الواقع‪ ،‬مقابل كل ما هو‬
‫تشرب بالواقعية التي اتصف بها النص‬ ‫الجحيم؟ صحيح ذلك النص املترجم ّ‬ ‫نبيل ورفيع‪ ،‬وبهذا العمل وغيره تشكلت حركة واعية ق��ادرة على إنتاج‬
‫األصلي‪ ،‬فاقتبس من املرويات ما يشير إلى أبواب الجنة الثمانية‪ ،‬ومنها باب‬ ‫نصوص تترجم فلسفة الواقع وال تنقله كما يحدث‪.‬‬
‫الجهاد الذي تتمسك به «داع��ش»‪ ،‬واملنظمات اإلرهابية‪ ،‬كباب للقتل واإلره��اب‬ ‫زخ��م الواقعية ال��واع�ي��ة ستجده ح��اض�رًا ف��ي صفحات ه��ذه ال��رواي��ة التي‬
‫للعبور للجنة‪( .‬راجع كتاب «أبواب الجنة‪ :‬محمد سعد عبدالدايم)‪.‬‬ ‫تتحدث عن ه��روب اب��ن مليونير كويتي ليلتحق ب��داع��ش‪ ،‬ويصبح أميرًا‬
‫وم��ن املفارقة أن كاتب ال��رواي��ة طالب الرفاعي اعتبر العنوان املترجم‪« :‬أب��واب‬ ‫لجماعة جهادية في س��وري��ا‪ ،‬وتصبح كنيته أب��و الفتح الكويتي‪ .‬يضعك‬
‫الجنة» أكثر انفتاحًا على ت��أوي�لات النص‪ ،‬خصوصًا في ما يتعلق بتفسير‬ ‫الكاتب أم��ام ه��ذا املشهد بواقعية صادمة حني يقول‪ :‬قبل أكثر من سنة‬
‫أسباب التحاق الشاب أحمد وهو ابن بطل الرواية «يعقوب» املليونير الكويتي‬ ‫علي عثمان بوجه لم أستطع تفسير نظرته‪ ،‬لينقل الخبر‪« :‬أحمد‬ ‫دخ��ل ّ‬
‫باملنظمات اإلرهابية‪ ،‬ليبني أن التفكك االجتماعي هو السبب األبرز في كل هذه‬ ‫ص��ار أم �ي �رًا ل�ج�م��اع��ة ج�ه��ادي��ة ف��ي س��وري��ا‪ ،‬وأص�ب�ح��ت كنيته أب��و الفتح‬
‫الحاالت‪.‬‬ ‫الكويتي!» ص ‪.11‬‬
‫‪13‬‬ ‫مراجعات‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫ال���ع���ن���وان ال���ج���دي���د ح���ق���ق ال����ه����دف األس����اس����ي م��ن‬ ‫■‬ ‫اشتغال الحوافز السردية‬
‫ال��ت��رج��م��ة ال��روائ��ي��ة وه���و ال��ت��ع��رف ع��ل��ى ث��ق��اف��ة اآلخ��ر‬ ‫جاءت بنية النص متماسكة من حيث ترابط عناصر الرواية‪،‬‬
‫وهي‪« :‬الزمان واملكان والحبكة والحوار والخاتمة»‪ ،‬فزمن الرواية‬
‫هو الحاضر الذي نعيشه‪ ،‬حيث ال تزال املجتمعات العربية ُّ‬
‫وج������اء ذل�����ك ف����ي س���ي���اق ت���ع���زي���ز واق���ع���ي���ة ال����رواي����ة‬ ‫تئن‬
‫من أثر ظاهرة اإلرهاب‪ ،‬وال ّ‬
‫شك في أن تناول موضوع من هذا‬
‫يحتاج إلى جرأة كبيرة‪ ،‬فاملوضوع يالمس أطرافًا عدة‪،‬‬ ‫النوع ِ ُ‬
‫أولها الجماعات اإلرهابية‪ ،‬وقد تمثلت في «أحمد» ابن املليونير‪،‬‬
‫المتلقي للرواية سيعرف من العتبة األول��ى للنص أنه‬ ‫■‬ ‫ثم الفئات أو األف��راد الداعمني لهذه الجماعات من خالل الدعم‬
‫امل��ال��ي‪ ،‬أو النفسي‪ ،‬أو غيرهما‪ ،‬وق��د تمثل ف��ي ال��رواي��ة بمدير‬
‫ليس أمام رواية بوليسية تحكي قصة اختطاف شاب غني‬ ‫مكتب املليونير «يعقوب» وهو أخو زوجته‪« :‬عثمان»‪ ،‬وأخيرًا‬
‫هناك البسطاء الذين تأذوا من الجماعات اإلرهابية‪ ،‬وقد مثلت‬
‫الرواية ذلك بالضرر الذي وقع على أقرب الناس للشاب أحمد‬
‫عبر عن ذلك بوصولهما‬ ‫وهم أسرته القريبة‪( :‬أمه وأخته)‪ ،‬وقد ّ‬
‫بنية النص متماسكة م��ن حيث ت��راب��ط عناصر ال��رواي��ة‪،‬‬ ‫■‬ ‫إلى حالة الخوف منه‪ ،‬فهو يقول حينما سألته أمه عن سبب‬
‫رفضه للطعام الذي توصله إلى غرفته إن الخادمة نصرانية‪،‬‬
‫وه��ي‪« :‬ال��زم��ان والمكان والحبكة وال��ح��وار والخاتمة»‬ ‫وق��د ت�ك��ون ك��اف��رة‪ ،‬وه ��ذا م��ا يتضح ف��ي ال �س��رد‪ ،‬ح�ي��ث ي�ق��ول‪:‬‬
‫«أخبرتني شيخة بأنها فوجئت من إجابته‪ ،‬وأنها تبلبلت ال‬
‫«صرت‬‫ُ‬ ‫حسها وهي تدفع باكية»‪..‬‬ ‫تدري ماذا تفعل؟ وتحشرج ُّ‬
‫ُ‬
‫وأخته نخاف منه» ‪( -‬صفحة ‪ ،)88‬ولك أن تتخيل حجم املأساة‬
‫حينما يصل الحال في األس��رة الواحدة إلى درج��ة خوف األم‬
‫من ابنها‪.‬‬

‫محفزات الرواية‬
‫وق��د ت�ض��اف��رت م�ح�ف��زات ال��رواي��ة‪ ،‬وأه�م�ه��ا ال�ع�لاق��ة ب�ين البطل‬
‫«ي �ع �ق��وب» وال �ش��اب��ة اإلي��ران �ي��ة «ف ��رن ��از»‪ ،‬ال�ت��ي ج� ّ�س��ده��ا النص‬
‫بسؤال يعقوب لنفسه‪ ،‬بعد أن استعرض عثمان ملفها‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«في الرابعة والعشرين من عمرها‪ ،‬مولودة في الكويت‪ ،‬عزباء‪..‬‬
‫إيرانية‪ ،‬شيعية»‪ ،‬ليخنس يعقوب بأفكاره‪ ،‬ويسأل‪« :‬ماذا أريد‬
‫�ذه ال�ب�ن��ت؟» ‪( -‬صفحة ‪ ،)40‬بالرغم م��ن تعلقه الشديد‬ ‫م��ن ه�‬
‫وغ�ي��ر ُاملفسر ب�ه��ا‪« :‬خ�ي��ال ف��رن��از ممسك ب��ي‪ ،‬م��ا ع� ُ‬
‫�دت ق��ادرًا‬
‫ً‬
‫على الفكاك منه» ‪( -‬صفحة ‪« .)43‬ظل بالي مشغوال بفرناز»‬
‫‪( -‬صفحة ‪« .)41‬معقول يسيل لعابي على فتاة في مثل عمر‬
‫ابنتي؟» ‪( -‬صفحة ‪ ،)37‬وقد ارتبط هذا املحفز بأهم محموالت‬
‫الرواية‪ ،‬وهو إجابة السؤال املعقد‪ :‬ملاذا يترك شاب كويتي حياة‬
‫ُ‬
‫املسكوت عنه‪،‬‬ ‫الرفاهية‪ ،‬ويلتحق بالجماعات اإلرهابية؟ ليظهر‬
‫وهو أن جمود العالقات الزوجية في أجواء الثراء يفرض نمطًا‬
‫هشًا من العالقة‪ ،‬حيث يسكن الزوجان في غرفتني منفصلتني‪،‬‬
‫وت �ت �ح��ول‪ ...‬ال�ن��ص زاخ � ٌ�ر ب��ال�ف�ق��رات امل��وح�ي��ة ع��ن فلسفة ه��ذه‬
‫العالقة الغريبة التي تمتاز بالفتور واملتانة في الوقت نفسه‪،‬‬
‫تضافر األحداث والحوار‬ ‫القرب والبعد‪ ،‬الحب والكره‪ ،‬وسأكتفي بأجمل فقرة في الرواية‬
‫ّ‬
‫ظل السرد في الرواية يتصاعد مع تصاعد األحداث في عدة مسارات متناغمة‪ ،‬أبرزها مسار رحلة «أحمد» من الكويت إلى األردن ثم تركيا وحتى وصوله إلى إدلب في‬ ‫تلخص العالقة وهي على لسان «شيخة»‪« :‬صباح اليوم لحظة‬
‫سوريا‪ ،‬فتقلده منصب أمير الجماعة‪ ،‬وما يتعلق بموقف «عثمان» الداعم للجماعات اإلرهابية‪ ،‬حيث تكشف األحداث تشجيعه ألحمد‪ ،‬ووقوفه إلى جانب إمام املسجد‬ ‫أن خرج هو إلى الشركة‪ ،‬ترك رائحة عطره لتحتل غرفتي‪ .‬فجأة‬
‫يشك «يعقوب» بوجود عالقة بينه وبني الجماعة التي اختطفت «أحمد»‪ ،‬ويكشف ذلك أن الداعمني للجماعات‬ ‫الذي يدرسه‪ ،‬ثم اطالعه على تفاصيل رحلة أحمد حتى ّ‬ ‫قلت له‪ :‬عطرك منعش‪ ،‬لكنه لم‬ ‫كنت قد ُ‬ ‫علي‪ُ .‬‬ ‫هجم بكاء ثقيل ّ‬
‫اإلرهابية كانوا سماسرة من وراء الستار‪.‬‬ ‫علي‪ .‬قبلني كأنه يلعس لقمة ال يشتهيها‪ ،‬وحني مشيتُ‬ ‫يرد ّ‬
‫إلى جانب ذلك مسار العالقة بني «يعقوب» و«فرناز»‪ ،‬هذه العالقة التي بدأت تتعقد مع تفكك العالقة مع «شيخة» الزوجة الغارقة في الدالل والضجر‪ ،‬وقد أخذ هذا املسار‬ ‫إلى جانبه كنت أشعر بضيق أنفاسه من وجودي إلى جانبه‪،‬‬ ‫ُ‬
‫أبعادًا متعددة‪ ،‬منها تسليط الضوء على املجموعات التي تعيش في الهامش‪ ،‬وكيف يصبح أفراد هذه املجموعات فرائس لألثرياء‪ ،‬فـ«فرناز» الجميلة تبحث عن عمل‬ ‫حزن قلبي فتوقفت» ‪( -‬صفحة ‪.)19‬‬ ‫ولحظتها تحرك ُ‬
‫لتتمكن من أن تسند أباها الذي يكاد يسقط من متاعب الحياة‪ ،‬ووسط تلك العيشة الصعبة تحصل على فرصة عمرها بالعمل في شركة «يعقوب» الذي يغرم بها من‬ ‫ه��ذه العالقة املمتلئة بالترفيه‪( :‬ال��رح�ل��ة األسبوعية للشاليه‪.‬‬
‫النظرة األولى‪ ،‬ويبقى يالحق خيط العالقة من دون أن يعرف حقيقة شعوره‪ .‬بهذه األسرة الفقيرة يشتغل األب على سيارة نقل قديمة «بيكب»‪ .‬ابنته الكبيرة «صافي»‬ ‫الهدايا الكبيرة بعيد ميالد بنت املليونير يعقوب‪ .‬اإلفطار يصل‬
‫باق في إيران ألن السلطات لم تقبل بمنحه اإلقامة‪.‬‬
‫فتاة مطلقة عادت إلى منزل األب وعلى كتفها طفل رضيع‪ ،‬وأخوها رضا الذي ولد وعاش في الكويت ٍ‬ ‫إلى السرير من يد الخادمة‪ .‬قضاء الليالي في الفنادق الفخمة‪...‬‬
‫يرتبط املساران عندما تصل األحداث للعقدة‪ ،‬وهي لحظة اختطاف «أحمد» ونقله إلى إيران‪ ،‬إذ تبرز فكرة سفر «يعقوب» لدفع الفدية وإنقاذ ابنه من براثن اإلرهابيني‪،‬‬ ‫مشوهة‪ ،‬بحيث أصبحت الزوجة‬ ‫إلخ)‪ ،‬هذا الخليط أوجد عالقة ّ‬
‫ُ‬
‫فيظهر حافز العالقة بني «يعقوب» و«فرناز» ممن خالل ظهور شخصية «رضا» التي سلطت الضوء على األوضاع في بلدان إيران‪ ،‬وكيف يتوق شاب من أصول إيرانية‬ ‫ت�ش�ت��اق ل�ل�ق��اء ال ��زوج املنشغل ب��ال�ص�ف�ق��ات‪ ،‬وال�س�ف��ر ملالحقة‬
‫للعيش في الكويت‪ ،‬وهي مفارقة مع هجرة «أحمد» من الكويت إلى سوريا‪.‬‬ ‫«صرت أشتاق إلى وجودي مع يعقوب»‬ ‫ُ‬ ‫أعمال عقود شركاته‪:‬‬
‫«رضا» يوافق على طلب أخته «فرناز» استقبال يعقوب‪ ،‬وأخذه إلى اإلرهابيني بمنطقة على الحدود اإليرانية األفغانية‪ ،‬ويرتبط رضا بيعقوب بحيث يتعجب األخير‬ ‫‪( -‬ص�ف�ح��ة ‪ ،)19‬ل�ي�ت�ف��اج��أ ال ��زوج ��ان ب��ال�ت�ح��اق اب�ن�ه�م��ا أحمد‬
‫بأن مجرد توصية «فرناز» هي ما تحمله على ركوب هذه املجازفة الخطرة‪ ،‬ليكتشف في اللحظات األخيرة أنه ضابط مسلح‪ ،‬وفي تلك اللحظات الحاسمة يظهر خبراته‬ ‫بجماعة داعش في سوريا‪.‬‬
‫في التعامل مع اإلرهابيني‪ ،‬فيوصي يعقوب بأال يحول مبلغ الفدية (عشرة ماليني دوالر) إال بعد أن يترجل أحمد من سيارة الخاطفني‪ ،‬وأال ينزل هو من السيارة مهما‬ ‫ل��م يتغافل ال�ك��ات��ب ع��ن اإلش� ��ارة ل�لأس�ب��اب امل�ب��اش��رة لظاهرة‬
‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫يسمع دوي صوت رصاصة من بني األشجار خلف‬ ‫حصل‪ ،‬لكن يعقوب يضعف حينما يرى أحمد وهو بحالة رثة‪ ،‬فينزل مترجال الحتضان ابنه‪ ،‬لكنه بدال من ذلك‬ ‫اإلره� ��اب‪ ،‬وق��د ع� ّ�ب��ر عنها ب�ف�ق��رة ذه ��اب ي�ع�ق��وب إل��ى املسجد‬
‫أحمد‪ ،‬لينكشف أن اإلرهابيني ال يحفظون العهود فقد كانوا عازمني على قتل املخطوف بعد تسلم مبلغ الفدية‪.‬‬ ‫بعد صالة املغرب وإمساكه باملعلم املصري‪ ،‬وحدوث مشادة‬
‫لقد كانت األحداث تتصاعد متضافرة مع الحوار الذي كان يدور بني يعقوب ورضا‪ ،‬وبني يعقوب واإلرهابيني من خالل الرسائل النصية واملكاملات السريعة‪ ،‬بحيث‬ ‫بينهما اتهمه فيها بإفساد عقول األوالد الصغار‪ ،‬وكان أحمد‬
‫كنت أحاول أن أقرأ الحوار بصوت منخفض‪ ،‬لئال يسمع اإلرهابيون وصايا «رضا» لـ«يعقوب»‪.‬‬ ‫أشعر أنني كمتلقي ألهث وأنا أقرأ الحوار‪ ،‬حتى أنني ُ‬ ‫حينها بعمر الرابعة عشرة‪ ،‬حيث توقف عن الجلوس واألكل‬
‫مع العائلة ‪( -‬صفحة ‪.)35‬‬
‫* أكاديمي وكاتب بحريني‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 14‬تراث‬

‫أقوال حمار احلكيم‬


‫ح���ظ���ي���ت ب���اه���ت���م���ام ك���ب���ي���ر ف�����ي ال���ك���وي���ت‬
‫وف����ي غ��ي��ره��ا م���ن ال���ب���ل���دان‪ ،‬وال ي�����زال لها‬
‫دوره���������ا ف�����ي ح����ي����اة ع������دد م�����ن ال���ش���ع���وب‬
‫د‪ .‬يعقوب يوسف الغنيم‬

‫ص���درت ك��ت��ب كثيرة‬


‫ورد ف���ي���ه���ا ذك����ر‬ ‫أقبل علينا أخوان األستاذ إبراهيم دمحم‬
‫الشطي بعد أن ع��اد إىل الوطن من‬
‫ال��ح��م��ار‪ ..‬مثل كتاب‬
‫رحلته الصيفية ال�تي اعتادها‪ ،‬وكان‬
‫«الحيوان» لعمرو بن‬ ‫ذلك يف سنة ماضية من سنواتنا‪..‬‬
‫اجتمعنا يف ليلة م��ن ل�ي��ايل دي��وان�ي��ة‬
‫بحر الجاحظ الذي أورد‬
‫ال �ث�ل�ااثء‪ ،‬وال �ت��ف األص �ح��اب حوله‬
‫كل صفات الحمير وما‬ ‫مرحبني‪ ،‬معربني عن فرحهم بعودته‬
‫يتعلق بحياتها‬ ‫بعد طول غياب بسالمة وصحة‪.‬‬
‫وق��د ف��وج��ئ احل��اض��رون ‪ -‬مجيعاً ‪-‬‬
‫حني أخرج هلم من كيس كان حيمله‬
‫معه مت�ث��االً يمُ �ثِّ��ل مح��اراً صغري احلجم‬
‫وك��ان منظره مدهشاً فقد صنع من‬
‫لعلي ُ‬ ‫ّ‬ ‫اخل�ش��ب‪ ،‬وه��و م�زي��ن أبن ��واع الزينة‪،‬‬
‫أجدها‪ .‬وأنا أعدكم جميعًا بأن أحضرها إليكم لكي‬ ‫بها‬ ‫استغربت من رده‪ ،‬إذ قال لي‪:‬‬ ‫وك��ان السؤال األول طبيعيًا حتى إننا لم نجد له رديفًا ألن‬
‫تعلق هناك على حيطان الديوانية‪.‬‬ ‫‪ -‬حتى تستأجر حمارًا تركبه وتقوده بنفسك ال بد أن تكون‬ ‫اإلجابة شملت كل شيء‪ ،‬سألوه‪:‬‬ ‫وك��ان عليه ما يشبه احلُمولة‪ .‬وأم��ام‬
‫شكرناه ‪ -‬جميعًا ‪ -‬على هبته‪ ،‬وعلى حديثه الطيب‪ ،‬وتمنينا‬ ‫لديك رخصة قيادة حمار فهل معك مثل هذه الرخصة؟‬ ‫‪ -‬من أين أتيت؟ وملاذا أحضرت معك هذا الحمار التمثال؟ فرد‬
‫له رحلة أخرى إلى تلك البالد لعله يحصل على بطاقة قيادة‬ ‫وعندما أجبته بالنفي أشار لي إلى مكتب آخر‪ ،‬وقال‪ :‬إن هذا‬ ‫ضاحكًا كعادته‪:‬‬
‫دهشة اجلميع ابتسم األستاذ‪ ،‬وقال‬
‫الحمار بصفة (بدل فاقد)‪.‬‬ ‫املكتب هو ال��ذي يمنحك الترخيص إن وج��د عندك املقدرة‪.‬‬ ‫‪ -‬أحب أن أمضي َب ْع َض رحالتي الصيفية في مكان هادئ‬ ‫هلم‪:‬‬
‫ومنذ ذلك اليوم فإن األخوة الذين يرتادون الديوانية (ديوانية‬ ‫عدت إليه وفي‬ ‫وبالفعل اتجهت إلى حيث أشار وبعد دقائق ُ‬ ‫جميل‪ ،‬وذلك املكان هو أسبانيا‪ ،‬وفي أحد مواضعها الخالبة‬
‫الثالثاء) يحضرون معهم ما يدل على الحمار عند كل رحلة‬ ‫ي��دي ب�ط��اق��ة ّ ت�خ��ول�ن��ي ق �ي��ادة أي ح �م��ارّ أخ �ت��اره‪ .‬وق��د رح��ب‬
‫ً‬
‫أق �م��ت ص�ي�ف��ًا ك ��ام�ل�ا‪ ،‬ع �ش� ُ�ت خ�ل�ال��ه ف ��ي م�ن�ط�ق��ة ذك��رت�ن��ي‬ ‫‪ -‬ال تعجبوا‪ ،‬فقد أتيت هبذا احلمار‪،‬‬
‫ل�ه��م إل��ى ال �خ��ارج‪ ،‬م��ن أي ب�ل��د ك ��ان‪ .‬واض �ط��ررن��ا إل��ى تعليق‬ ‫الرجل‪ ،‬وتسلم مني األجرة مقدمًا‪ ،‬وسلمني الحمار‪ ،‬فركبته‬ ‫بماضي العرب وتراثهم‪ .‬ولقد كانت املنطقة التي اخترتها‬ ‫هدية لكم‪ ،‬ودليالً على رحليت‪ ،‬فهو‬
‫مجسمات الحمير‪ ،‬وصورها‪ ،‬وكل ما يتعلق بها على جوانب‬ ‫سعيدًا به‪ ،‬وكأني في يوم من أيام العيد في الكويت‪ ،‬حني كنا‬ ‫من األماكن التي تعنى بالسياحة والسائحني‪ .‬وتعد لهم كل‬
‫الحمير‪.‬‬ ‫ي��دل على موقعها‪ ،‬وعلى م��ا رأي��ت‬
‫املكان حتى ص��ارت ه��ذه الديوانية معروفة باحتوائها على‬ ‫نستأجر ُ َ ِّ‬ ‫أسباب الراحة‪ ،‬وكل مجاالت األنس‪ .‬وكان من وسائل أهلها‬
‫هذا الجمع الكبير من مجسمات الحمير وصورها‪.‬‬ ‫وقد أردت أن أخل َد هذه املناسبة‪ ،‬فاشتريت هذا الحمار الذي‬ ‫في جلب السعادة إلى زوارهم‪ :‬استخدام الحمير في رحالت‬ ‫َّ‬ ‫خالهلا وهذا هو «صوغيت» لكم‪.‬‬
‫َْ‬
‫ولعل مما تمكن اإلش��ارة إليه هنا املقال ال��ذي تم نشره في‬ ‫جئت ب��ه إليكم‪ ،‬ه��و ِت��ذك��ار لرحلتي وه��دي��ة لكم ض�ع��وه في‬ ‫َي��ط�ل� ُ�ع ال�ن��اس خاللها على مساحات م��ن أرض تلك املنطقة‬
‫جريدة الوطن في اليوم الحادي عشر من شهر فبراير لسنة‬ ‫الديوانية حتى نراه في كل أسبوع‪.‬‬ ‫ويستمتعون بكل ما فيها من مظاهر الجمال الطبيعي‪.‬‬ ‫وبذا افتتح ابب األسئلة واحملاورة‪.‬‬
‫‪2009‬م‪ ،‬وكان بعنوان‪« :‬كل شيء يصير في دنيا الحمير»‪،‬‬ ‫وعندما أتم حكايته‪ ،‬ردوا عليه بأنها حكاية جميلة‪ ،‬ورحلة‬ ‫وال أك�ت�م�ك��م أن �ن��ي وق �ف��ت ف��ي امل �ك��ان ال ��ذي ك��ان ال�غ��رب��اء‬
‫وكان ضمن مقاالت «األزمنة واألمكنة»‪ ،‬وقد جرى فيه ذكر‬ ‫التنسى ولكننا نريد أن نرى الرخصة الحمارية التي نلتها‬ ‫ي�س�ت��أج��رون ف�ي��ه ال�ح�م�ي��ر م��ن أج��ل ج��والت �ه��م‪ ،‬ف��وج��دت‬
‫كل ما يتعلق بالحمير في الكويت وفي خارجها‪ ،‬ولكننا اليوم‬ ‫من هناك‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫ن�ف�س��ي راغ �ب��ًا ف��ي ال�ق�ي��ام ب�م��ا ي �ق��وم ب��ه ال �ن��اس‪ ،‬وأق�ب�ل��ت‬
‫قد أضفنا إلى ذلك إضافات ال َّبد منها على الرغم من أن ذلك‬ ‫‪ -‬لألسف الشديد أنني في أثناء استعدادي للرحيل من هناك‪،‬‬ ‫ع�ل��ى م�ك�ت��ب ال�ت��أج�ي��ر ال� ��ذي ات �خ��ذ ل��ه م��وق�ع��ًا ف��ي وس��ط‬
‫ّ‬
‫املقال املشار إليه قد ضم كثيرًا من املعلومات وكثيرًا جدًا‬ ‫ولكثرة ما معي من أغ��راض السفر‪ ،‬فقد ضل عني مكانها‬ ‫ساحة خضراء واسعة‪ .‬وقد طلبت من الرجل الذي كان‬
‫ً‬
‫من املصورات‪.‬‬ ‫ولم أهتد إليها‪ .‬وال أزال أبحث بني بقايا األشياء التي عدت‬ ‫مسؤوال عن ذلك أن يقوم بتأجيري حمارًا أركبه‪ ،‬ولكنني‬
‫‪15‬‬ ‫تراث‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫«أنا وحماري»‬ ‫ً‬
‫ذهنيا‬ ‫ً‬
‫ح���وارا‬ ‫◄ خ��وان رام��ون خمينيث كتب‬
‫ثانيًا‪ :‬الكتاب الثاني هو‪« :‬أنا وحماري»‪ ،‬وهو من أشهر كتب األدب العاملي‪ ،‬ألفه األديب الشاعر األسباني‬ ‫بينه وب��ي��ن ح��م��اره المتخيل ودار ح��ول‬
‫الشهير‪ :‬خوان رامون خمينيث‪ ،‬وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية‪ ،‬وتم نشره في سنة ‪1959‬م عن‬
‫طريق دار املعارف بمصر‪ ،‬وقام بالترجمة األستاذ لطفي عبدالبديع‪ ،‬الذي كتب له مقدمة جيدة تناول‬ ‫القرية التي عاش فيها الكاتب األسباني‬
‫فيها هدف مؤلفه من تأليفه‪ ،‬وما كان يدور – ذهنيًا – بينه وبني حماره املتخيل‪.‬‬
‫ولد خوان رامون في سنة ‪1881‬م‪ ،‬في قرية تقع في الجنوب الغربي ألسبانيا‪ ،‬وكانت طفولته في هذه‬
‫القرية‪ ،‬ثم انتقل منها إلى مدريد في سنة ‪1900‬م‪.‬‬
‫ً‬ ‫وقد بدأ حياته شاعرًا ّ‬
‫صداحًا‪ ،‬له عالقة بعدد من شعراء عصره‪ ،‬وظل متنقال بني قريته ومدريد‪ ،‬ثم‬ ‫◄ حامل األث��ق��ال وق��اط��ع المسافات وع��ون‬
‫تزوج في سنة ‪1916‬م‪.‬‬
‫واتسع ذهن هذا الشاعر‪ ،‬وكثر عمله في ميدان الشعر‪ ،‬كما تنوع إنتاجه‪ ،‬ولقد حدثت له ظروف دعته‬ ‫ل��رج��ال ال��س��ي��اح��ة ع��ل��ى أداء مهمتهم‬
‫إلى الهجرة بعيدًا عن وطنه‪ ،‬فحل في أميركا الالتينية‪ ،‬وصار يتنقل بني بلدانها‪ ،‬ويلقي املحاضرات في‬
‫ً‬
‫جامعاتها‪ ،‬ويستقطب الشبان من شعرائها‪ ،‬وقد اعتبروه من جانبهم أستاذًا أصيال في فن الشعر‪ ،‬وقد‬
‫ً‬
‫بقي في تلك البالد متنقال من مكان إلى آخر حتى استقر في بلد من بلدانها هو بورتوريكو‪ ،‬وانقضت‬
‫حياته بها حيث مات في سنة ‪1957‬م‪ .‬ولكنه لم ينتقل إلى العالم اآلخر‪ ،‬إال وقد نال حقه من التكريم‬
‫فحصل على جائزة نوبل لآلداب في سنة ‪1956‬م‪.‬‬
‫وقد وصف كاتب املقدمة (املترجم) هذا الشاعر‪ ،‬فقال‪« :‬إذا كان هناك شاعر استطاع أن يبلغ بشعره‬
‫الكمال الفني‪ ،‬من حيث املوسيقى الداخلية والصفاء الكامل للشعر فهو هذا الشاعر»‪.‬‬
‫ووصف األدباء والنقاد كتاب خمينيث كثيرًا‪ ،‬وأثنوا على عمله‪ ،‬وقام أحدهم بتأليف كتاب عنه ذكر فيه‬
‫«أن أهم حديث في «أنا وحماري» ليس الحديث عن الحمار بالتيرو فقط‪ ،‬بل لقد كان الحديث عن القرية‬
‫التي عاش فيها خوان رامون أيضًا»‪ .‬وأضاف إلى ذلك «إن خمينيث تحدث عن قريته َباعتبارها كائنًا‬
‫ْ‬ ‫ََ‬
‫حيًا‪ ،‬له شخصية ُمتغ ّيرة بحسب الساعات والفصول واملواقف‪ ،‬فالكائنات في القرية‪ ،‬واألش َياء األخرى‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫كأنها حوادث قصة تنبعث بها نفس شاعر حزين َيغ ُم ُره الشوق والحنني»‪.‬‬ ‫◄ ت����ن����اول����ت����ه ال����ع����دي����د‬
‫رقيه وحسن تناول املؤلف ملوضوعه‪ ،‬هي التي جعلت‬ ‫وعندما نبدأ بتصفح الكتاب‪ ،‬فإننا سوف نرى أن َّ‬
‫األهالي يتحدثون إلى أبنائهم عنه‪ ،‬ثم يرددون لهم بعض ما ورد فيه‪.‬‬ ‫م���ن ال��ك��ت��ب القصصية‬
‫ولذلك فإنه يقدم في ص ‪ 10‬من الكتاب أبياتًا ُيوجهها للكبار الذين يقرؤون هذا الكتاب ألطفالهم‪ ،‬وهو‬
‫ُيؤكد ابتداء بأنه ال يعرف عن الكتاب أنه كتب للكبار أم للصغار فالكل أقبل عليه‪ ،‬وهذه ميزة خاصة به‪.‬‬ ‫وال����������ش����������ع����������ري����������ة‬
‫واألدب����������ي����������ة ع����ام����ة‬
‫موجهاً لألطفال‬
‫وجهًا لألطفال ومع ذلك فلن ُي ُّحذف منه سطر واحد»‪.‬‬ ‫يقول الشاعر‪« :‬إن الكتاب اآلن صار ُم َّ‬
‫ثم يأتي الفصل األول وهو عن الحمار بالتيرو الذي انعقد الكتاب كله حوله‪.‬‬
‫◄ ك��ت��ب ت��وف��ي��ق الحكيم‬
‫إنه حمار لطيف جميل ومطيع ُيقبل نحو صاحبه إذا دعاه‪ ،‬ثم يعدو إلى املرج‪ ،‬حيث األعشاب واألشجار‬ ‫وح��م��اره م��ا ت��ح��دث إليه‬
‫وسعادة‪ ،‬متمتعًا بالزهور ذات األلوان الزاهية املتعددة‪.‬‬‫في مرح ٌ‬
‫إنه رقيق‪ ،‬مدلل‪ ،‬ولكنه قوي‪ ،‬وحني يذهب به إلى القرية‪ ،‬فإن الريفيني ينظرون إليه بإعجاب ويقولون‪:‬‬
‫َّ‬ ‫ل ش���يء‬
‫وق������ال ل����ه ك����� ّ‬
‫‪ -‬إنه قوي كالفوالذ‪.‬‬
‫حديث الطبيعة وعالقتها مع الكاتب والحمار بالتيرو‪ ،‬وتمتد فصوله كثيرًا حتى‬ ‫ثم يمضي الكتاب في ً ّ‬
‫ف����ي ك���ت���اب���ه ال��ش��ه��ي��ر‬
‫تصل إلى أربعني فصال كلها من الحجم الصغير الذي تغلب عليه الروح الشاعرية‪ ،‬وتسيطر عليه حاسة‬
‫املتعلق بالطبيعة‪ ،‬ويسيطر فيه ‪-‬أيضًا‪ -‬ذكر األندلس‪ ،‬موطنه األصلي‪ ،‬وما في هذه البالد من أماكن‬ ‫«ح�����م�����اري ق������ال ل���ي»‬
‫ُ‬
‫ومآكل‪ ،‬وعادات يعيش الناس عليها‪ ،‬وطبائع ُع ِرفوا بها منذ أمد بعيد‪ .‬وبني هذا وذاك نجد الشاعر وهو‬
‫يتحدث إلى حماره فيقول‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ص�������ن�������اع�������ة ال������ج������اح������ظ‬ ‫دورها في حياة الشعوب‬
‫إلي‪ ...‬أنعم بالغسل الذي َح َبت َك َإياه ذا الصباح «الما كاريا»‪ ،‬كل ما فيك‬ ‫«ما أجملك اليوم يا بالتيرو‪ :‬هلم ّ‬
‫َ‬
‫كاألنهار وكالليل غ ِّب املطر‪ ،‬ما أجملك يا بالتيرو!»‪.‬‬
‫َ‬ ‫من بياض وكل ما فيك من سواد يتألق ويزدهر‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ّ‬
‫ولكن بالتيرو‪ ،‬وقد غلبه الحياء قليال ألنه ال يتراءى لنفسه كذلك‪ ،‬يأتي إلي على مهل وال يزال مبتال بعد‬ ‫ولقد كان الجاحظ عاملًا واسع العلم قوي اإلدراك‪ ،‬واملعرفة والفهم‪ُ ،‬يجيد كثيرًا من العلوم‪،‬‬ ‫حظيت ه��ذه ال��داب��ة ب��اه�ت�م��ام كبير ف��ي ال�ك��وي��ت وف��ي‬
‫حمامه‪ ،‬وهو من النظافة بحيث يبدو كطفلة عارية‪ ،‬وقد أضاء وجهه كأنه فجر‪ ،‬وملعت عيناه الكبيرتان‬ ‫ويقوم بتعليمها ملن ُيقبل عليه طالبًا االستفادة من علمه الغزير‪ ،‬وقد تنبه له أحد علماء‬ ‫غيرها من البلدان‪ ،‬وال يزال لها دورها في حياة عدد‬
‫كأنما أعارتهما أصغر آلهات الجمال الحماس والبريق‪.‬‬ ‫فعبر عن رأيه فيه َأتم تعبير‪ ،‬إذ قال له أحد أصحابه‪ :‬ليت شعري َّأي شيء كان‬ ‫عصره‪ّ ،‬‬ ‫من الشعوب فهي حاملة األثقال‪ ،‬وقاطعة املسافات‪،‬‬
‫أق��ول له ذل��ك‪ ،‬وآخ��ذ برأسه في حماس أخ��وي أفاجئه ب��ه‪ ،‬ثم أه��زه وأش��د عليه بحنان وأالع�ب��ه‪ ...‬أم��ا هو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫الجاحظ يحسن‪ ،‬فرد عليه‪ :‬ليت شعري أي شيء كان الجاحظ ال يحسن‪.‬‬ ‫وهي ‪ -‬أخيرًا ‪ -‬عون لرجال السياحة على أداء مهمتهم‪.‬‬
‫ً‬
‫فيخفض بصره ويتقيني في رقة بأذنيه دون أن يذهب‪ ،‬أو ينطلق بأن يجري قليال‪ ،‬ثم يعود ويقف‬ ‫وهذه العبارة إنما هي شهادة كافية على مكانة أبي عثمان في علمه وأدبه‪.‬‬ ‫وقد صدرت كتب كثيرة ورد فيها ذكر الحمار‪ ،‬وهي‬
‫فجأة كأنه يلعب‪.‬‬ ‫حقق شيخنا األستاذ عبدالسالم محمد ه��ارون كتاب الجاحظ «الحيوان» تحقيقًا ال‬ ‫كتب متنوعة منها ما هو قديم مثل كتاب «الحيوان»‬
‫وأعيد عليه القول ‪ -‬ما أجملك يا بالتيرو‪.‬‬ ‫مثيل له من حيث اإلجادة واإلتقان‪ ،‬وجعله في سبعة مجلدات‪ ،‬مع فهارس وافية‪ ،‬وحواش‬ ‫لعمرو بن بحر الجاحظ الذي أورد كل صفات الحمير‬
‫ث��م يمضي الشاعر ف��ي أحاديثه الرائعة التي ك��ان يوجهها بصفة مستمرة إل��ى ح�م��اره ال��ذي يرتبط‬ ‫مفيدة ال غنى للقارئ عنها‪ ،‬وأثنى على الجاحظ كثيرًا بصفته عاملًا‪ ،‬وإمامًا من أئمة‬ ‫وما يتعلق بحياتها‪.‬‬
‫به ارتباطًا عاطفيًا‪ ،‬حتى ك��ان حديثه إليه يجري وكأنه حديث إل��ى صديق حميم‪ ،‬فيحكي له بعض‬ ‫البيان العربي‪ ،‬وذك��ر أن��ه ك��ان يعيش في العصر الذهبي لألمة اإلسالمية‪ ،‬وه��و عصر‬ ‫ومنها كتب قصصية وشعرية وأدبية عامة ووصفية‬
‫ُ‬
‫الحكايات‪ ،‬ويصف له طريقهما الذي يسيران فيه كل يوم‪ ،‬وما يكتنف ُه من مظاهر طبيعية‪ ،‬وما تطير‬ ‫هارون الرشيد وابنه املأمون‪ ،‬وكان عصرًا قد نهضت فيه العلوم لكثرة العلماء‪.‬‬ ‫تتحدث عن حياة هذا الحيوان في الوقت الحالي من‬
‫حوله من طيور تلعب بأجنحتها في الفضاء‪ ،‬أو تغرد بني حني وآخر‪.‬‬ ‫ولقد كانت للجاحظ مؤلفات كثيرة‪ ،‬منها ما هو في ع��دة مجلدات‪ ،‬ومنها ما ج��اء في‬ ‫واقع مالحظة الكاتب‪.‬‬
‫هذا هو يقول له‪:‬‬ ‫كراسات‪ .‬وكان شيخنا عبد السالم هارون شديد اإلعجاب بهذا العالم‪ ،‬ولذا حرص على‬ ‫وه��ذا يعطي البيانات املتعلقة بكتب يهمنا عرضها‬
‫«ما أنقى وأجمل وردة الطريق هذه يا بالتيرو! تمر بجوارها ال��دواب ‪-‬الثيران واملعز واألف�لاء والناس‪-‬‬ ‫تحقيق عدد من مؤلفاته إضافة إلى كتاب «الحيوان» هذا‪.‬‬ ‫هنا ملا فيها من فائدة‪:‬‬
‫ً‬
‫وهي في رقتها وضعفها‪ ،‬ال تزال ناهضة رحيمة رشيقة في سياجها الحزين دون أن تشوبها ريبة ما‪.‬‬ ‫ّقدم الشيخ للكتاب بتقديم واسع مفيد‪ ،‬ثم بدأ في عرضه كما صنعه الجاحظ‪ ،‬ولقد‬ ‫أوال‪ :‬لعل من أهم الكتب العربية القديمة – كما أشرنا‬
‫وف��ي كل ي��وم نبدأ الطريق ونختصره وت��راه��ا في مكانها األخ�ض��ر‪ ،‬إم��ا بجانبها طائر ينهض ‪-‬ل��م؟‪-‬‬ ‫كان عرضه متداخال بسبب عرض املؤلف املتداخل كذلك‪ ،‬وكان قد رتب هذه الفهارس‬ ‫فيما سلف ‪ -‬ك�ت��اب ال�ح�ي��وان ألب��ي عثمان ع�م��رو بن‬
‫ليقترب منا‪ ،‬وإما هي مليئة كالكأس الصغيرة‪ ،‬باملاء الصافي لسحابة صيف راضية بأن تسرقها نحلة‬ ‫على أسماء الحيوانات بحسب الحروف الهجائية‪ ،‬وعندما جاء إلى حرف الحاء‪َ ،‬م َّر‬ ‫بحر الجاحظ‪ ،‬الذي تناول ذكر الحيوانات بصفة عامة‬
‫أو تزدان بها فراشة»‪.‬‬ ‫بما يتعلق بمقالنا ه��ذا‪ ،‬وه��و الحديث عن الحمار‪ .‬ولقد وج��دن��اه يخوض في حديث‬ ‫ومنها الحمار‪ ،‬وهو كتاب شامل يبني أوصاف أعداد‬
‫ً‬
‫وإلى هنا ينتهي وصف هذا الكتاب الذي صنف على أنه أفضل كتاب أدبي صدر في وقت من األوقات‪،‬‬ ‫كالبحر متناوال كل الجوانب التي تتعلق بحياة هذا النوع من الحيوان مع وصفه وبیان‬ ‫كبيرة من الحيوانات البرية والبحرية‪ ،‬وأن��واع الطير‪،‬‬
‫ونال به كاتبه شهرة عاملية‪ ،‬وتداوله الكبار والصغار‪.‬‬ ‫سلوكه‪ ،‬وطرق تناسله‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬كما وجدناه يشير إلى مواضع هذه املعلومات في‬ ‫واملشارب‬
‫ِ‬ ‫وما اتصل بذلك من طبيعة الحياة‪ ،‬واملأكل‬
‫كل أجزاء الكتاب‪.‬‬ ‫مع بيان سلوك كل جنس من هذه األجناس‪.‬‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 16‬تراث‬
‫ي من الكتابين ال من حيث‬
‫◄ عدم وجود تشابه معنوي في مادة أ ّ‬
‫الصياغة وال من حيث تركيب الحكايات‪ ..‬ألنها عند خمينيث‬
‫جدا بالمقارنة مع حكايات توفيق الحكيم‬‫ً‬ ‫األسباني مختلفة‬

‫ت�������م�������ث�������ي�������ل�������ي�������ة ال������ح������ك������ي������م‬ ‫رح��ل�ات ال��ح��ك��ي��م إل���ى ال��ري��ف‬ ‫ما قاله لتوفيق الحكيم‬
‫ٌ‬
‫وفي ما بعد ذلك تأتي تمثيلية أخرى تضم أقوال حمار الحكيم‪ ،‬وعنوانها‪« :‬حماري والذهب»‪،‬‬ ‫وذكر الحكيم رحلة أخرى قام بها إلى الريف بعد زمن‪ ،‬وقد أحب أن يصطاد‬ ‫توفيق الحكيم‬
‫ّ‬ ‫ثالثًا‪ :‬ونمضي اآلن مع األديب املعروف‬
‫َّ‬
‫ومن أجل أن نحيط بها‪ ،‬فإننا ال ُبد أن نذكر َ هذا الجزء الذي ابتدأ به منها‪:‬‬ ‫مستأجر‪ ،‬وكانت له معه حكاية‪ ،‬فهو من‬
‫َ‬ ‫السمك‪ ،‬فاضطر إلى ركوب حمار ُ‬ ‫وحماره الذي كان يتحدث إليه‪ ،‬ويقول له كل شيء‪،‬‬
‫«رأيت حماري ذات يوم مفكرًا مهمومًا‪ ..‬ف َجل ْس ُت بجواره صامتًا محترمًا ما هو فيه‪ ..‬إلى أن‬ ‫نوع الحمير التي تنقل األثقال‪َ ،‬و ُي َح ِّمل َها أهلها ما ال تطيق من املشقة والجوع‪،‬‬ ‫وقد ألف من أجله كتابه‪« :‬حماري قال لي»‪.‬‬
‫أحس بوجودي‪ ..‬فرفع رأسه نحوي‪ ..‬وجرى بيننا هذا الحديث‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫فوجده كما توقعه جائعًا متعبًا أشد التعب‪ .‬ولكن الحكيم بذل من جاهه مع‬ ‫وك ��ان ه ��ذا ال �ك �ت��اب ق��د ط�ب��ع ل�ل�م��رة األول� ��ى ف��ي سنة‬
‫الحمار‪ :‬وأخيرًا؟‪..‬‬ ‫أصحاب الحمار ما جعله يستمتع باألكل والشراب ومغازلة حمارة مثله‪.‬‬ ‫‪1945‬م‪.‬‬
‫الحكيم‪ :‬وأخيرًا ماذا؟‪..‬‬ ‫ويقول‪« :‬فرغت من صيدي‪ ،‬فركبت الحمار عائدًا‪ ،‬وهو يركض بي كالريح‬ ‫اب �ت��دأ ال�ح�ك�ي��م ك�ت��اب��ه ه ��ذا ب� َّف�ص��ل ع �ن��وان��ه‪« :‬م ��ن هو‬
‫َ‬
‫الحمار‪ :‬مستقبلي‪ ..‬ألم تفكر في مستقبلي؟‬ ‫بعد أن كان يمشي الهوينى في طريق الذهاب‪ ،‬وليس هذا بعجيب‪ ،‬فقد أكل‬ ‫حماري؟»‪ ،‬فذكر في ُم ْست َهله أن للحمار في حياته‬
‫الحكيم‪ :‬عجبًا‪ ...‬ألول مرة َ َأسمع حمارًا يتحدث عن مستقبله!‬ ‫سرني وأسعدني أنني قد‬ ‫وتنزه وغ��ازل‪ .‬إنها لحظة من الهناء قد َّ‬ ‫وش��رب ّ‬ ‫ش��أن��ًا‪ ،‬وأن��ه ك��ان ي��راه ف��ي طفولته على هيئة جحش‬
‫الحمار‪ :‬ما َو ْج ُه العجب؟‪ ..‬أل ْست مخلوقًا حيًا يعيش خاضعًا لقانون الزمن؟‪ ..‬أليس لي ماض‬ ‫أتحتها له»‪.‬‬ ‫صغير وجميل‪ ،‬وكان أهله قد اشتروا له هذا الجحش‬
‫وحاضر ومستقبل مثل جميع املخلوقات والكائنات؟‪ ..‬لقد عشت معك حتى اآلن عاريًا‪ ..‬ال‬ ‫ولقد جرى على هذا الحمار ما جرى على سابقه‪ ،‬وأتم الحكيم بهذه النهاية‬ ‫رغبة في إسعاده‪ ،‬وأبقوه في الريف‪ ،‬فيراه في أوقات‬
‫سرج ذهبًا‪ ..‬وال «رشمة» فضة‪ ...‬وال برذعة مرصعة‪ ...‬وال‪...‬‬ ‫حديثه عن الجحش القديم‪ ،‬والحمار الذي أشركه في التمثيل‪ ،‬والحمار الذي‬ ‫النزهة عند العطالت الرسمية‪.‬‬
‫الحكيم‪ :‬شيء جميل!‪ ..‬أهذا ما يشغلك اآلن؟!‪..‬‬ ‫نقله إلى صيد السمك‪ ،‬والحمارة الجميلة‪.‬‬ ‫جحش ِه هذا حتى‬ ‫َ‬
‫بمالع َب ِة‬ ‫وبقي صاحبنا مستمتعًا‬
‫ِ‬
‫الحمار‪ :‬ه��ذا م��ا يشغل ال�ي��وم ك��ل إن�س��ان‪ ..‬إن ال�ن��اس كلهم م��ن حولنا يفكرون ف��ي ال��ذه��ب‪..‬‬ ‫ثم أخذ يقارن بني هذه الحمير األربعة‪.‬‬ ‫فرقت األيام بينهما‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ويعيشون للذهب‪.»...‬‬ ‫وقال في فصل ثان من كتابه جعله تحت عنوان‪« :‬حماري والطوفان»‪ ،‬إنه‬ ‫َ‬ ‫وعاد الكاتب بعد سنني إلى الريف ليجد جحشه قد‬
‫وإذا كان األمر كذلك‪ ،‬فالحمار ‪ -‬أيضًا ‪ -‬يفكر في العمل السياسي‪ ،‬وله صالت مع عدد من‬ ‫جال َس حماره يومًا‪ ،‬وال بد أنه حمار مختلف عن غيره‪ ،‬ممن سبق له ذكرهم‪،‬‬ ‫كبر سنًا‪ ،‬وتغيرت هيئته لكثرة األعمال التي كانت‬
‫ُ َ‬
‫عرف به توفيق الحكيم‬ ‫البشر أورد حديثه عنهم أو معهم بعد ذلك‪ ،‬وفي نهاية الكتاب فصل ّ‬ ‫وقد عرف من نظرة عيني الحمار أنه يقول له‪:‬‬ ‫ت�س��ن� ُ�د إل�ي��ه‪ ،‬وم��ا أن رأى صاحبه العائد م��ن املدينة‬
‫وهو عداوة املرأة‪.‬‬ ‫‪« -‬أخشى أن يثور كبرياؤك ‪ -‬ذات يوم ‪ -‬فتترفع عن مجالسة مثلي»‪.‬‬ ‫حتى بادره بالقول‪:‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫وملا كان الحكيم يعمل في سلك القضاء ‪ -‬وقت ذاك – وكيال للنيابة‪ ،‬فقد كتب عن أحداث‬ ‫فرد الحكيم قائال‪:‬‬ ‫‪ -‬ل�ق��د ذه�ب��ت ال�ط�ف��ول��ة‪ ،‬وج ��اءت أي ��ام ال�ش�ق��اء‪ ،‬فحزن‬
‫ً‬ ‫صاحبه‪ّ ،‬‬
‫مرتبطة بهذا األمر‪ ،‬ولها صفة املشاركة مع الحمار‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬ ‫‪« -‬وأنا أخشى أن يركبك الوهم‪ ،‬فتحسب أال فرق بيني وبينك»‪ .‬ولكن الحمار‬ ‫ووجه قوله إلى من هم حوله‪ ،‬قائال‪:‬‬ ‫ََ‬
‫ً‬
‫‪ -‬حماري والقاضية‪.‬‬ ‫قال‪« :‬إن الوهم ال يركبه‪ ،‬إنما يركبه الواهمون من أبناء البشر»‪.‬‬ ‫‪ -‬أل ْم تجدوا له عمال أكثر سهولة من هذا الذي يقوم‬
‫‪ -‬حماري واملحكمة‪.‬‬ ‫ود قديمة‪ .‬لقد زامناكم‪ ،‬وركبنا‬ ‫‪ -‬إن بيننا وبينكم ‪ -‬يا أبناء آدم ‪ -‬صالت ٍّ‬ ‫لكم به هنا؟‬
‫‪ -‬حماري والجريمة‪.‬‬ ‫معكم سفينة نوح في عهد الطوفان الشهير‪.‬‬ ‫وما إن انتهى من جملته‪ ،‬حتى قال الحمار‪:‬‬
‫ً‬
‫وينهي الكتاب بأحاديث متنوعة أخرى ال ننسى أن نذكر منها الحديث عن شخصيته هو‬ ‫فاتخذ الكاتب من موضوع الطوفان مجاال لحديث طويل‪ ،‬إذ لم ُيرد للحمار‬ ‫‪ -‬ال فائدة ترجى من هذا الكالم‪ ،‬فهم مصممون على‬
‫أو صورته‪.‬‬ ‫أن يتخذ م��ن ه��ذه ال�ح��ادث��ة مستندًا تاريخيًا ي��دل على ال�ق��راب��ة ب�ين الحمير‬ ‫ما يريدون مني أن أفعله‪.‬‬
‫واألناسي‪.‬‬ ‫امل�ه��م أن ت��وف�ي��ق الحكيم ب�ق��ي متعلقًا ب�ه��ذا الحمار‬
‫ومما ينبغي أن ُيالحظ هو مدى ارتباط اختيارات الحكيم من املوضوعات‬ ‫حتى بعد أن كبر س��ن االث�ن�ين م�ع��ًا‪ ،‬فلم يهمله في‬
‫ً‬
‫م������ا ب����ي����ن ال����ح����ك����ي����م وخ���م���ي���ن���ي���ث‬ ‫التي أوردها في كتابه بالحياة العامة التي كان يحياها في أيام كتابته لها‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حالتني‪ ،‬أوالهما‪ :‬أنه جعله – يومًا ‪ -‬بطال من أبطال‬
‫فهو يكتب فصال عن حماره وهتلر‪ ،‬وفصال آخر عن حماره وموسوليني‬ ‫إحدى رواياته التي اعتاد كتابتها‪ ،‬وثانيتهما‪ :‬أنه بقي‬
‫ً‬
‫وبعد‪ ،‬فلن نقول إن توفيق الحكيم كان مقلدًا لكتاب «أنا وحماري»‪ ،‬الذي أوردنا حديثًا شامال‬ ‫«الزعيم اإليطالي امل�ع��روف»‪ ،‬وقد جاء هذا الفصل على طريقة التمثيليات‪،‬‬ ‫متعلقًا به حتى إن��ه وج��ده في أح��د األي��ام معروضًا‬
‫لا ع�ن��وان��ه‪ :‬ح�م��اري وم��ؤت�م��ر ال�ص�ل��ح‪ ،‬وه��ذا فصل آخ��ر خ� ٌّ‬‫ً‬
‫عنه قبل قليل‪ ،‬ولكننا نستطيع أن نقول إن الرجل استغل الحمار الذي كتب عنه‪ :‬خوان رامون‬ ‫�اص بزمن‬ ‫وف�ص�‬ ‫للبيع‪ ،‬فسارع إلى شرائه‪ ،‬وأبقاه عنده‪ .‬ولكن املسكني‬
‫خمينيث لكي يجعله محور كتابه‪ ،‬وه��ذا أم��ر ال غبار عليه‪ .‬وق��د وجدنا ع��دم وج��ود تشابه‬ ‫الحرب التي كان هو وحماره يعيشانه‪.‬‬ ‫تحمل كثيرًا م��ن الجهد‪،‬‬ ‫م��ات سريعًا‪ ،‬ألن��ه ك��ان ق��د َّ‬
‫معنوي في مادة ّأي من الكتابني‪ ،‬ال من حيث الصياغة‪ ،‬وال من حيث تركيب الحكايات‪ ،‬ألنها‬ ‫ثم يتساءل‪ :‬هل للحمار حزب كما هو للبشر؟ وقد تناول هذا املوضوع في‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫والتعب خالل ماضي أيامه‪ ،‬فانهد جسده‪ ،‬وتعرض‬
‫عند الكاتب األسباني كانت مختلفة جدًا باملقارنة مع حكايات توفيق الحكيم‪.‬‬ ‫صيغة تمثيلية‪.‬‬ ‫للمرض فاملوت‪.‬‬
‫‪17‬‬ ‫تراث‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫◄ ك��ان األس��ت��اذ يحيى حقي يستخدم الحمار مثلهم م��ن أجل‬
‫ك�����ت�����اب ي����ح����ي����ى ح��ق��ي‬
‫أداء عمله ألن ال��وس��ائ��ل األخ����رى ك��ان��ت م��ع��دوم��ة ف��ي وقته‬ ‫َّ‬
‫راب�ع��ًا‪ :‬وأخ�ي�رًا‪ ،‬ف��إن ه��ذا ه��و حديثنا ع��ن األس�ت��اذ يحيى ح��ق��ي‪ ،‬والحق‬
‫يقال إن هذا األديب النابغة لم يكن خفيًا أثناء حياته‪ ،‬ولم يعد غائبًا عن‬
‫األذهان بعد وفاته‪ ،‬فهو أديب كبير‪ ،‬وكاتب له مكانة في دنيا األدب‪ .‬وقد‬
‫تناولنا في «األزمنة واألمكنة» كثيرًا من أنشطته‪َّ ،‬‬
‫ال����������ط����������ب����������ائ����������ع واألن������������������������������واع‬ ‫وبينا أنه كان على قمة‬
‫الثقافة في وقته من دون نزاع‪ ،‬ولن نعود هنا إلى الحديث الشخصي عنه‬
‫ما لم يكن ذلك بإيجاز شدید‪.‬‬
‫ُ ِّ َ‬
‫ينفك كل حمار عنها‪ ،‬حتى وهو يؤدي واجبه في العمل الذي كلف به‪ ،‬ومنها السطو على حموالت غيره من‬ ‫ثم يرجع إلى ذكر طبائع الحمير التي ال َ ْ ُ‬ ‫لعل من أهم ما صدر له ‪ -‬في ما أرى ‪ -‬هو كتاب‪« :‬خليها على اهلل»‪ ،‬وهو‬
‫الحمير التي تسير‪ ،‬وهي تحمل ما يمكن أكل ُه من قبل هذه املخلوقات‪.‬‬ ‫كتاب أقرب ما يكون إلى بيان السيرة الذاتية ملؤلفه األستاذ يحيى حقي‪.‬‬
‫ً‬
‫ويفرد فصال يذكر فيه حمير األجرة التي تستعمل من أجل حمل البشر أو األشياء من مكان إلى آخر‪ ،‬وبينّ كيف يتم التعامل مع ُمالكها‪ ،‬وأسعار‬ ‫ُ‬ ‫وقد جاء هذا الكتاب من بني كتب عدة صدرت له‪ ،‬منها الرواية‪ ،‬والكتابة‬
‫أجرتها‪ ،‬ثم اتجه إلى تبيني طباع العاملني مع الحمير‪ ،‬وبخاصة أولئك الذين يسيرون خلفها ويدفعون بها إلى سرعة املسير حني تكون محملة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫األدبية والبحث األدبي‪ ،‬واملقاالت الصحافية التي كان ينشرها بصورة‬
‫إلى منازلهم‪ ،‬وحمار الفالح العامل في الحقل‪ ،‬وحمار كبار القوم‬ ‫َ َّ‬
‫وقسم الحمير إلى أنواع‪ ،‬منها حمار املحطة الذي ينقل ركاب القطار من محطته َّ‬ ‫شبه يومية‪ .‬وقد أجادت شركة نهضة مصر َّ حني قامت بطباعة أعماله‬
‫الذي ينقلهم من كان إلى آخر وهو حمار أبيض فاره‪ ،‬قوي البنية جميل املظهر محلى بزينة له‪.‬‬ ‫الكاملة بتعاون تام مع ابنته األستاذة نهى حقي‪.‬‬
‫وللحمير في الريف مدرسة تدريب تقوم بإعداد حديث العهد بالعمل من صغار الحمير‪ ،‬لكي تحيلها إلى حمير صالحة للحموالت‪.‬‬ ‫وفي كتاب «خليها على اهلل»‪ ،‬حديث ُم ْس َه ٌب وغريب عن الحمير‪ .‬ذلك‬
‫ً‬
‫وال ينتهي من هذا الحديث حتى يقارن بني حمير الريف وحمير القاهرة‪ ،‬وهم أولئك الذين يعملون َّأيان زمنه ذاك‪ ،‬وال ينسى لصوص الحمير الذين‬ ‫ألن هذا األديب قد عمل شطرًا من حياته وكيال للنيابة العامة في ريف‬
‫يتعرضون في الريف للسرقات‪ ،‬ولم يترك ذكر ما ورد عن الحمير من نكات وفكاهات شعبية‪ ،‬ولم ينس استعمال الحمير في السيرك‪ .‬حني يعمل‬ ‫ب�لاده مصر‪ ،‬وكانت له مخالطة مع أهل هذه املنطقة‪ :‬عايشهم‪ ،‬وعرف‬
‫الحمار ضمن غيره من الحيوانات‪ ،‬وال الحديث عن العناية الصحية بهذا النوع من الحيوانات النافعة‪ ،‬فذكر العالج الطبي الذي ُي َّ‬
‫قدم لها‪.‬‬ ‫أساليب حياتهم‪ ،‬وما كانوا يعتمدون عليه في تلك الحياة‪ .‬وكان الحمار‬
‫ومما ينبغي أن يقال أن أسلوب األستاذ يحيى حقي في الكتابة يتميز ببيان ساحر‪ ،‬وقدرة تامة على الوصف والتعبير عن املشاهدات التي يراها‬ ‫م��ن أه��م م��ا ك��ان��وا يلجأون إليه ف��ي مواصالتهم‪ .‬وك��ان األس�ت��اذ يحيى‬
‫عبر له بعد أن قرأ كتابه‪« :‬خليها‬ ‫ثم يسجلها على الحالة التي رآها عليها‪ ،‬ومما يؤكد لنا ذلك شهادة شيخنا األستاذ محمود محمد الشاكر الذي َّ‬ ‫حقي يستخدم الحمار مثلهم من أجل أداء عمله ألن الوسائل األخرى‬
‫على اهلل»‪ ،‬عن إعجابه بحديثه عن الحمير‪ ،‬وأسلوبه في صياغة ذلك الحديث‪ .‬وأبلغه بأنه شديد اإلعجاب بما قرأ وأن إعجابه هذا ينطبق على الكتاب‬ ‫كانت معدومة في وقته‪.‬‬
‫بكامله‪.‬‬ ‫بدأ الرجل دراسته للحقوق بالجامعة‪ ،‬وكان مقر هذه الدراسة هو مدرسة‬
‫الحقوق‪ ،‬وقد ذكر بيته‪ ،‬ورعاية والدته له‪ ،‬واهتمامه بالنشاط الخارجي‪،‬‬
‫ُ‬
‫فقد كان يحب االستماع إلى الخطب ويلقيها إذا أتيحت له الفرصة‪.‬‬

‫إيجاد السعادة‬
‫وانتقل ف��ي ال�ب��اب الثاني إل��ى ب��داي��ات عمله بعد ال�ت�خ��رج‪ ،‬ففي ه��ذه الفترة‬
‫صار يعمل في النطاق الحقوقي في ريف مصر‪ ،‬ومن هنا بدأ الباب الثالث‬
‫نفصل هذا الباب بعد ان‬ ‫وعنوانه‪« :‬وج��دت مع الحمير سعادتي»‪ ،‬وسوف ِّ‬
‫ننتهي من ذكر الباب الرابع‪ ،‬وهو خاص بحياته في منطقة صعيد مصر‪،‬‬
‫التي ذكر بعضًا من مدنها وعادات أهلها‪ ،‬وما يجري فيها من أحداث تتعلق‬ ‫ُّ‬
‫كلها بعمل وكيل النيابة الذي يتولى التحقيق‪ ،‬ومتابعة كل قضية تحدث‬
‫بها بما في ذلك حضور جلسات الكشف الطبي على القتلى ملعرفة أسباب‬
‫وفاتهم‪ ،‬باإلضافة إلى كثير من هذه األمور التي وجد ذكرها مهمًا‪.‬‬
‫أما الباب الثالث الذي نعود إليه اآلن ففي بدايته قوله‪:‬‬
‫«حني نزلت الصعيد لم أفهم ألول وهلة قول محدثي عن رجل من األعيان‬
‫تحول كالعادة‬ ‫إن��ه «ح� َّ�م��ار» ‪ -‬بميم م�ش��ددة‪ .‬ظننت وال�ك�لام عن غائب قد ّ‬
‫م��ن االستفتاح ب��امل��دح إل��ى التثنية ب��ال��ذم وال�س��ب‪ ،‬فلما تلجلجت ف��ي ال��رد‬
‫أردف يقول عن صاحبه إنه أكبر مالك للحمير في املركز وإن ربحه واسع‬
‫ف������������������������ي ال�������������ك�������������وي�������������ت‬ ‫«حمار» هي عندهم ترجمة لكلمة مليونير‪ ...‬وأنها عنوان‬
‫مضمون‪.‬‬
‫أدركت أن كلمة َّ‬
‫صناعة من أه��م الصناعات‪ ،‬أحفادها في الوقت الحاضر شركات النقل‬
‫َ‬
‫وقديمًا كان الحمار في الكويت من الدواب املهمة التي ال ِغنى عنها‪ ،‬وكنا نجد الدابة منها في كل مكان‪ :‬بني البيوت وفي السوق‪ ،‬وفي موارد‬ ‫باللوريات»‪.‬‬
‫املياه‪ ،‬وأماكن العمل‪.‬‬ ‫الحمار تيسير مهمة نقل الناس‪ ،‬فاألعمال األخرى كثيرة‬ ‫وال تعني مهنة َّ‬
‫ناق ِل املاء‪ ،‬وللعامل في البناء‪ ،‬ولناقل البضائع في األسواق‪ ،‬وهو ينقل بعض الناس من مكان إلى مكان‪.‬‬
‫كان الحمار يؤدي واجبه ِل ِ‬ ‫في بلد ناشئ تأخذ الزراعة قسطًا كبيرا من حياة أهله‪ .‬فالحمار إضافة‬
‫وللحمير مهمات متعددة‪ ،‬ولها تسميات بحسب ما تنوء به كواهلها من أحمال‪ ،‬إذ نرى حمار نقل املاء‪ ،‬وحمار نقل البرسيم (الجت)‪ ،‬وحمار‬ ‫إل��ى نقله للناس‪ ،‬فهو ينقل ك��ل م��ا يحتاج إليه ه��ؤالء ال�ن��اس‪ ،‬وف��ي الريف‬
‫نقل الصخر من البحر إلى مواقع البناء‪ ،‬وحمار الشاوي (راعي الغنم)‪ ،‬فلكل حمار من هذه الحمير مهنة ُيعرف بها‪ ،‬ولكل واحد منها أدوات‬ ‫ي�ك��ون ال�ع�م��دة وه��و رئ�ي��س ال�ب�ل��دة م�س��ؤوال ع��ن تدبير ح�م��ار لكل موظف‬
‫تساعد على أداء مهمته مهما كانت‪ ،‬ولكن مما ينبغي أن يذكر هنا مما انتهى أمره من أعمال الحمير في الكويت مهنة حمار يطلق عليه اسم‪:‬‬ ‫حكومي غريب يكون تحت أمره حني يشاء‪ ،‬وإضافة إلى ذلك فإنه يقول في‬
‫برحى كبيرة يديرها الحمار‪،‬‬ ‫تسمى اليوم‪ :‬الطحينة‪ ،‬وكانت تصنع ‪ -‬قديمًا ‪ -‬عن طريق طحن السمسم املحمص َ‬ ‫حمار الهردة‪ .‬والهردة هي التي ّ‬ ‫وصف كما هذا النوع من الحمير أنه حمار «غلبان» وبائس‪ ،‬يبلع اإلهانات‬
‫فتذوب هذه املادة‬
‫صاحب هذا املكان يضع في وسط الرحى مادة السمسم بعد تحميصها َّ‬ ‫فهو يدور حولها‪ ،‬وهي تدور بدورانه‪ ،‬ولقد كان‬ ‫بخس الثمن‪ ،‬كثير األمراض‪ ،‬ال تنفتح بطنه على ندى البرسيم كما يحدث‬
‫الرحى‪ ،‬فتجمع الستعمالها‪ .‬ومن الجدير بالذكر أن اآلالت قد حلت أخيرًا َم َحل الحمار الذي‬
‫نتيجة للطحن‪ ،‬وبذلك تتسرب الهردة من جوانب َ‬ ‫للجاموس‪ ،‬وال يجر صاحبه إلى الترعة‪ ،‬بل إنه إذا طلب االستحمام سار‬
‫الرحى التي كان ُيديرها‪.‬‬
‫لم يعد موجودًا ال هو وال َ‬ ‫وح��ده ليتمرغ ب��ال�ت��راب‪ .‬ث��م يضيف األس�ت��اذ يحيى حقي إل��ى ذل��ك وصفه‬
‫ُ‬
‫أما الحمير التي تنقل املياه إلى املنازل فلها أهمية كبرى‪ ،‬وطرق عمل خاصة‪ ،‬وكانت بلدية الكويت تعنى ‪ -‬قديمًا ‪ -‬بتنظيم أعمال الحمير‪ ،‬وتؤكد‬ ‫لنفسه حني يمتطي الحمار املخصص له فيقول‪:‬‬
‫على ضرورة قيام أصحابها برعايتها‪ ،‬وعدم معاملتها بقسوة‪ ،‬أو تحميلها فوق ما تطيق‪.‬‬ ‫«ال بد لي أن أحمل مظلة وإال انسلقت في الشمس‪ ،‬ومنشة من ليف النخيل‬
‫ومن أمثلة ذلك اإلعالنات التي كانت تبادر البلدية إلى وضعها في بعض األماكن البارزة من العاصمة وفيها َح َّث على تطبيق أنظمة نقل املياه‬ ‫وإال انفلت مني عيار شفتي ولساني وخدي وحاجبي ورمشي ومفصل‬
‫وتشغيل الحمير‪.‬‬ ‫رق�ب�ت��ي إن أردت ‪ -‬وي ��داي مشغولتان ب��ال�ل�ج��ام وامل�ظ�ل��ة – أن أط ��رد ذب��اب��ًا‬
‫***‬ ‫لحوحًا كالشحاذين يرشق وجهي ويحط عليه ليتخذ منه ساحة للعبة‬
‫وكل ما تقدم منذ بداية هذا املقال‪ ،‬إنما هو إيجاز سريع ملا ينبغي أن يقال‪ .‬عن الحمير‪ ،‬فلعل أن يكون في ذلك فائدة‪ ،‬وداللة على أحوال هذه‬ ‫(االستغماية)‪ .‬أما العصا فوزرها تركته لصبي يجري ورائ��ي‪ ...‬بعد قليل‬
‫املخلوقات‪.‬‬ ‫تنازلت عن الركاب كبقية الناس»‪.‬‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 18‬فلسفة‬

‫جنيب محفوظ‬
‫والرواية الذهنية‬
‫كه يالن محمد‬

‫ال تستنف ُد ال �ق �راءات النقدية ط��اق��ات زاخ��رة يف األعمال‬


‫اإلب��داع�ي��ة امل �ُت �ف��ردة‪ ،‬إذ ي�ت� ُ�م اك�ت�ش��اف طبقات ج��دي��دة يف‬
‫تركيبتها الفكرية والبنائية م��ع ك��ل ق �راءة فاحصة‪ ،‬الش� َّ‬
‫�ك‬
‫أن ما يضمه أدب جنيب حمفوظ من مرونة يف التفاعل مع‬ ‫َّ‬
‫األفكار والتجدد يف الصياغة واملضمون‪ ،‬يفتح اجملال للنظر‬
‫يف ج ��ودة ن�ص��وص��ه م��ن ع��دة م�س�ت��وايت‪ ،‬ل��ذل��ك ال ت�غ��ادر‬
‫االشتغاالت النقدية كونه اإلب��داع��ي‪ ،‬وه��ذا ال يفسر بقلة‬
‫إصداراته الوفرية فحسب‪ ،‬بل مبا تمُ ثله مغامرته من الرغبة‬
‫يف ارت�ي��اد أرض�ي��ة بكرة يف الكتابة‪ ،‬ه��ذا انهيك ع��ن ضخ‬
‫لغته الشعرية املُقتصدة أبفكار غري ُمستهلكة‪ ،‬األمر الذي‬
‫يكسب عامل صاحب «عبث األقدار» أبعاداً متعددة‪ .‬فإذا‬ ‫ُ‬
‫ك��ان��ت األزم ��ات االجتماعية واهل �م��وم التارخيية واالحن�ل�ال‬
‫القيمي منطلقاً لسلسلة من أعماله الروائية اليت نشرها مواكباً‬
‫للتحوالت اليت كان يفور هبا الواقع‪ ،‬فإنَّه يدير دفة اهتمامه‬
‫أبن شكل الكتابة‬ ‫اإلبداعي حنو منحى خمتلف‪ ،‬مع إدراكه َّ‬
‫يتبدل من مرحلة إىل أخ��رى‪ ،‬وابل�ت��ايل ال يصح االستمرار‬
‫ال��������������ج��������������دل وال��������������خ��������������ط ال��������ف��������ك��������ري‬ ‫على م�ن� ٍ‬
‫ً‬
‫�وال ق��د يكون متنافراً م��ع م�ف��ردات العصر‪ ،‬ومن‬
‫َّإن ما بدا نهاية للعمر األدبي لم ْ‬
‫يكن إال استراحة‪ ،‬فكانت رواية «أوالد حارتنا» فاتحة لجولة إبداعية تؤشر إلى التحوالت في اللغة واالستلهام من الرموز الدينية‪.‬‬ ‫أن فهم االجتاه يف النص األديب يستدعي االلتفات‬ ‫الواضح َّ‬
‫ومن َّثم يختبر محفوظ الكتابة بنفس ملحمي‪ ،‬كما ترى ذلك في «الحرافيش»‪ ،‬لكن ما ُسحب إلى طاولة النقد من بني العناوين التي طبعت في غضون سنوات‬
‫الستينيات هي «اللص والكالب» و«الشحاذ» و«الطريق» التي دار حولها النقاش‪ ،‬هذا إضافة إلى «ثرثرة فوق النيل»‪ .‬تتقاطع اتجاهات هذه األعمال في الخط الفكري‪،‬‬ ‫إىل الشكل الفين واملضمون الفكري يف آن واحد‪ .‬ينقطع‬
‫يشير مصطفى التواتي‪ ،‬في‬‫ُ‬ ‫يعالج إلى جانب ذلك مشكلة الوجود‪ ،‬والعبث‪ ،‬واملصير التراجيدي‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫إذ ال يكتفي املؤلف بمعالجة مأساة املجتمع في هذه املرحلة إنما‬
‫اختالف النقاد في تسمية هذه املرحلة‪ ،‬فمنهم من يرى فيها واقعية جديدة‪ ،‬كما صنفها اآلخرون‬ ‫مقدمة كتابه «دراسة في روايات نجيب محفوظ الذهنية»‪ ،‬إلى‬
‫حمفوظ عن الكتابة مل��دة مخس سنوات بعد التغيرّ ات اليت‬
‫تعد ثورة على مستوى الشكل واملضمون‬
‫ً‬ ‫مرحلة فلسفية أو فكرية أو ذهنية‪ ،‬بقطع النظر عن الجدل حول ُاملصطلح ثمة اتفاق على َّأن األعمال املشار إليها آنفًا‪ُ ،‬‬ ‫شهدهتا مصر يف النظام السياسي‪ ،‬والتطورات اليت تبعت‬
‫بأن األفكار الذهنية املجردة حلت محل الشخصيات‪ ،‬وأخلت العقدة الكالسيكية املكان لألطروحة‬ ‫ويعتقد مصطفى التواتي َّ‬ ‫ُ‬ ‫في منجز نجيب محفوظ اإلبداعي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الفلسفية في معطيات تلك األعمال‪ .‬إذ تبدأ حركتها السردية بلحظة انعتاق أو انفكاك من قيد ما‪ .‬ففي «الطريق» يخرج صابر من طوق ُاألم‪ .‬كما أن سعيد‬ ‫هذا احل��دث على الصعيدين االجتماعي والفكري يعرتف‬
‫مهران ُ‬
‫ينفك من أغالل السجن ويهرب «عمر الحمزاوي» من قيد الرتابة وااللتزامات األسرية في «الشحاذ»‪ ،‬قبل دراسة مكونات السرد يتناول مصطفى التواتي‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حمفوظ قائالً‪« :‬حينما ذهب اجملتمع القدمي ذهبت معه كل‬
‫خصائص هيكلية للروايات الذهنية‪ ،‬مشيرًا إلى تفوق نجيب محفوظ في تحديد البدايات الدرامية‪ ،‬إذ يستبطن سرائر الشخصية الرئيسة‪ ،‬ومن َّثم يتكون بناء‬
‫تشترك فيها شخصيات روائية في هذه املرحلة هي البحث عن املعني‪ ،‬الذي قد ُي ُ‬
‫رمز إليه باألب أو استعادة االبنة والثأر من‬ ‫ُ‬ ‫البعد الدرامي بالتدرج‪ .‬فالظاهرة التي‬ ‫انتهيت أدبياً‪ ،‬ومل يع ْد‬
‫ُ‬ ‫وظننت أنين‬
‫ُ‬ ‫رغبة يف نفسي لنقده‪،‬‬
‫ُ‬
‫الخائن‪ ،‬كما ُيالحظ ذلك في «اللص الكالب»‪ ،‬أو قد يكون املتاح من اللذة تعبيرًا عن الشوق العارم للتعافي من الخواء‪ ،‬مثلما يجسد عمر الحمزاوي هذا املسعى‬ ‫لدي ما أقوله أو أكتبه»‪.‬‬ ‫َّ‬
‫في «الشحاذ»‪.‬‬
‫‪19‬‬ ‫فلسفة‬
‫‪CULTURAL‬‬

‫ال������ب������ط������ل ال����ع����ب����ث����ي‬ ‫■ األزمات االجتماعية والهموم التاريخية‬ ‫ال�������ل������اط��������������ري��������������ق‬


‫واالن���ح�ل�ال ال��ق��ي��م��ي ُم��ن��ط��ل��ق لسلسلة‬
‫لم تختلف العناوين‪ ،‬التي حددها الدكتور حسن حماد الشتغاله النقدي املعنون‬ ‫ً‬
‫مواكبا‬ ‫من أعماله الروائية التي نشرها‬ ‫امللمح األب��رز في املبنى الحكائي لروايات نجيب محفوظ هو ما يسميه الناقد‬
‫بـ«البطل العبثي في روايات نجيب محفوظ»‪ ،‬عن اختيارات مصطفى التواتي‪ ،‬غير‬ ‫عقد عليه الرهان لتجديد الدفع والحركة في‬ ‫باإليهام‪ ،‬الذي يعرفه بانفتاح كاذب ُي ُ‬
‫ً‬
‫َّأن حماد أض��اف «ثرثرة فوق النيل» إلى محترفه ب��دال من «اللص وال�ك�لاب»‪ ،‬وهو‬ ‫للتحوالت التي كان يفو ُر بها الواقع‬ ‫بأن عقدة صابر تنحل عندما يتعرف على إلهام‪ ،‬وتنتهي‬ ‫الرواية‪ ،‬إذ يخيل إليك َّ‬
‫يبحث في مدخل كتابه عن ج��ذور الفكر ال��وج��ودي وم��ا تعني الحياة ألتباعه من‬ ‫أزمة سعيد مهران بعودة سناء‪ ،‬ويتذوق عمر الحمزاوي طعم الهدوء النفسي‬
‫العبث والعدمية‪ ،‬فاإلنسان برأيهم محاصر بالتقاليد واإلك��راه��ات الطبيعية من‬ ‫طريق أشبه بالالطريق على‬ ‫َّ‬
‫■ ال يكتفي ال��م��ؤل��ف بمعالجة م��أس��اة‬ ‫مع وردة‪ ،‬غير أن هذه اللحظات هي منعرجات على ّ ٍ‬
‫الزمان واملكان‪ ،‬صحيح َّأن الفالسفة الوجوديني يلتقون في نظرتهم العدمية للحياة‪،‬‬ ‫حد قول مصطفى التواتي‪ .‬وتقع في سياق املبحث املكرس لدراسة شخصيات‬
‫لكن قد يكون هناك اختالف في التعبير عن هذا الشعور‪ .‬ومن الخطأ أن يفهم من‬ ‫ُ‬
‫يعالج‬ ‫المجتمع في هذه المرحلة‪ ..‬إنما‬ ‫نجيب محفوظ على جملة من اآلراء‪ ،‬التي تؤكد براعة صاحب «أفراح القبة» في‬
‫العبث معنى اليأس واالستسالم أو الركود‪.‬‬ ‫يعبر محفوظ عن الجوانب الخفية في نفس البطل بتجسيدها‬ ‫ترتيب األدوار‪ ،‬إذ ّ‬
‫يناقش حسن حماد في الفصل األول أزمة صابر بطل رواية «الطريق»‪ ،‬تبدأ رحلته‬
‫إل��ى جانب ذل��ك مشكلة الوجود والعبث‬ ‫في شخصيات منفصلة عن كيان البطل‪ .‬إذن على الرغم من وجود شخصيات‬
‫َّ‬ ‫والمصير التراجيدي‬ ‫موزعة على مساحة السرد َّ‬
‫الحافلة باالحتماالت واالنتظار عندما تخبره األم بسيمة قبل موتها بأنه ابن لسيد‬ ‫فإن التواتي يصف الروايات الثالث برواية شخصية‬
‫سيد الرحمي‪ ،‬وهو من الوجهاء‪ ،‬وبذلك ال يشغل صابر سوى التعقيب عن أثر هذا‬ ‫ألن بقية األسماء تنسحب عنها األضواء حني تنفصل عن البطل‪ .‬زيادة‬ ‫واحدة‪َّ ،‬‬
‫ً‬ ‫َّ‬
‫الشخص‪ ،‬بعدما يفقد حاضنته األولى متنقال إلى القاهرة‪ ،‬حيث تتنازعه إرادتان‪،‬‬ ‫على ما سبق فإن الناقد التونسي مصطفى التواتي يجوس في التشكيلة املكانية‬
‫تشده إلى القاع وتذكره بالواقع الذي نشأ فيه‪ ،‬فيما اإلرادة الثانية التي ترمز‬ ‫ُ‬ ‫األولى‬ ‫■ الفالسفة ال��وج��ودي��ون يلتقون في‬ ‫ل��رواي��ات محفوظ معاينًا التصميم وم��ا يعنيه البعد املكاني بالنسبة للبطل‪،‬‬
‫ْ‬
‫إليها شخصية إلهام تومئ نحو تداعي األمل الذي يعيده إلى املاضي‪ .‬قبل أن ينتهي‬ ‫�ان مغلق وآخ��ر منفتح‪ .‬وبالطبع‬
‫نظرتهم العدمية للحياة‪ ..‬لكن قد يكون‬ ‫وي� َّ�رص��د ح��رك��ة الشخصية الرئيسة ب�ين م�ك� ٍ‬
‫املطاف بصابر إلى مصير تراجيدي‪ ،‬ثمة مؤشرات في فضاء الرواية تستدل بها‬ ‫�إن ما يضاعف من املخزون اإليحائي في الرواية هو التفاعل بني عناصرها‬ ‫ف�‬
‫حسب رأي حماد على أن البطل ال يختار بداية جديدة مع إلهام‪ ،‬بل ينجرف مع‬ ‫هناك اختالف في التعبير عن هذا الشعور‬ ‫الهيكلية‪ ،‬لذلك ال يكون الزمن بنوعيه الخارجي والداخلي مجرد وعاء للحدث‪،‬‬
‫أسرها‪ ،‬مع أن كلمات أمه «بسيمة» تتردد في أذنه‬ ‫ْ‬ ‫كريمة‪ ،‬وال يمكن االنفالت من‬ ‫إنما مشارك في بناء املستوى الرمزي وتفعيل الطاقة اإليحائية في النص‪ .‬ومن‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫سلطان عليك»‪ ،‬ما يرشح من‬ ‫ُ‬ ‫من‬ ‫إلحداهن‬ ‫تجعل‬ ‫ال‬ ‫يوم ام��رأة‪ ،‬ولكن‬
‫«اعشق كل ٍ‬ ‫جانبه‪ ،‬ف��رد مصطفى التواتي مساحة من دراس�ت��ه ملفهوم الزمن في الثالثية‬
‫َّ‬
‫مناجاة صابر مع نفسه يختصر حدة مأساته «إنه هو املحتاج إلى الغائب وليس‬ ‫«اللص والكالب‪ ،‬الطريق‪ ،‬الشحاذ»‪ ،‬متتبعًا املفردات التي تؤطر املستوى الزمني‬
‫َّ‬
‫العكس‪ ،‬وأنه ال يحتاج إليه حبًا في الحرية والكرامة والسالم فحسب‪ ،‬وإنما خوفًا‬ ‫في أجواء كل عنوان على حدة‪ .‬ومناقشة تقنية وجهة النظر جزء محوري من‬
‫من التردي في الجريمة»‪.‬‬ ‫دراسة التواتي‪ ،‬إذ يوافق توردروف في قوله َّإن رؤيتني مختلفتني لحدث واحد‬
‫تجعالن منه حدثني مختلفني‪ .‬يضيف املؤلف موضحًا َّأن وجهات النظر تحدد‬
‫ُ‬
‫شكل العالقة بني الراوي والشخصية‪ ،‬كما تحدد الطريقة التي يتلقى بها القارئ‬
‫ال���������ف���������راغ ال�����ف�����ك�����ري‬ ‫املادة املروية‪.‬‬

‫ال يتجاهل حسن حماد البعد النفسي ف��ي آلية ال �ق��راءة‪ ،‬إذ ي��رى َّأن معاناة عمر‬
‫ال�ح�م��زاوي مصدرها ال�ف��راغ الفكري وال�خ��واء ال��روح��ي‪ ،‬الفتًا إل��ى م��ا يقوله فرويد‬ ‫ال����ل����ام���������ع���������ق���������ول‬
‫عن تأثير الفكر في الصحة النفسية‪« :‬اإلنسان قوي طاملا يتمسك بفكرة قوية»‪،‬‬
‫يجد في‬‫يقدمه كل من مصطفى التواتي وحسن حماد هو أن كليهما ُ‬ ‫ُ‬ ‫والالفت فيما‬ ‫عزاء للشعور بالتوتر الناشب من خيبات األمل‪ ،‬ولكنها‬ ‫قد تكون فكرة االنتحار ً‬
‫لا وح�ي�دًا‪ ،‬ف� َّ‬ ‫ً‬
‫شخصية عمر الحمزاوي واصطدامه صورة حية ألفكار املفكر الفرنسي‪ ،‬إذ ينشد‬ ‫�إن اكتشاف الالمعقول وان �ع��دام املنطق ق��د يخففان من‬ ‫ليست ب��دي�‬
‫الحمزاوي الهدوء واليقني في املتعة والنشوة الجنسية‪ .‬كأنه يطبق مبدأ صاحب‬ ‫محنة الوضع اإلنساني‪ .‬من هنا نفهم ك�لام نجيب محفوظ بعد ص��دور رواي��ة‬
‫ً‬
‫«كاليغوال»‪« :‬ليس في هذا العالم إال حب واح��د‪ ،‬فعناق جسد امل��رأة هو عناق لهذا‬ ‫«ال�ل��ص وال �ك�لاب»‪« :‬ليس أم��ام��ي إال أن أنتحر أو أت�ح��ول إل��ى العبث»‪ ،‬فعال كانت‬
‫الفرح الغريب‪ ،‬الذي يهبط من السماء إلى البحر»‪ ،‬يالحظ التواتي ّأن محفوظ ال يقدم‬ ‫الرواية ُمتنفسًا لألفكار التي اختمرت في ذهن الكاتب‪ ،‬وتعبيرًا واضحًا َّلهشاشة‬
‫ُ‬ ‫�إن محفوظ ّ‬ ‫اإلنسان‪.‬عليه ف� َّ‬
‫شخصية املومس في إط��ار األحكام والقيم االجتماعية‪ ،‬بل تستشف تعاطفًا مع‬ ‫يحمل طبقة املثقفني مسؤولية التحلل‪ .‬لعل مشهد‬
‫مشاعرها اإلنسانية املتسترة وراء التبهرج السطحي‪.‬‬ ‫العوامة في رواي��ة «ثرثرة فوق النيل»‪ ،‬وما يسود وسط هذا املكان املتأرجح في‬
‫يشار إلى َّأن مناقشة دور العلم في الحياة املعاصرة من املواد املكونة ألفكار نجيب‬ ‫الفوضى إدانة قاسية لظاهرة اإلزدواجية الفكرية‪ .‬إذن تتصدر الهموم الوجودية‬
‫عالم يعج باألفكار‬
‫محفوظ الروائية‪ ،‬واملتابع لرواية «ثرثرة فوق النيل» يتفاعل مع ٍ‬ ‫برنامج نجيب محفوظ في مرحلة ما بعد الواقعية‪ .‬إذا كان املجتمع هو الديكور‬
‫والسجاالت الفلسفية‪ ،‬غير ّأن كل ذلك ال يكون على حساب الصيغة الفنية‪ ،‬مجمل‬ ‫�ون بمنزلة‬ ‫�إن الفكر ب��رأي غالي شكري ي�ك� ُ‬
‫الرئيسي ف��ي املرحلة االجتماعية‪ ،‬ف� َّ‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ما يمكن قوله عن النقد ال��روائ��ي ّأن ه��ذا املعترك يتطلب وعيًا مرنًا ومتفاعال مع‬ ‫َّ‬
‫العصب الحي في رواي��ات األط��روح��ة‪ ،‬والحال ه��ذه فمن الطبيعي أن يأخذ البعد‬
‫سياقات معرفية متعددة‪.‬‬ ‫الفكري األولوية في دراسة روايات نجيب محفوظ الذهنية‪.‬‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 20‬تشكيل‬

‫ترجمة‪ :‬خنساء العيداني‬

‫ان كلمة ‪ Saudadeh‬واح��دة من‬


‫تلك الكلمات املراوغة والفعالة اليت‪،‬‬
‫جرهبا كما تشاء‪ ،‬فال ميكنك ترمجتها أو‬
‫فهمها بدقة يف أي لغة أخرى إن مل تكن‬
‫اللغة األصلية‪ ،‬أي ابللغة الربتغالية أو‬
‫اجلاليكية‪ .‬مبدئيًا‪ ،‬هي تشري إىل الفقد‬
‫واحلنني الكئيب‪ ،‬واالرتباط ابملاضي‪،‬‬
‫يف ح�ين أن��ه م��ن امل�ف��ارق��ات االعت�راف‬
‫أبن��ه م��اض مل يعد من املمكن التعامل‬
‫م�ع��ه‪ ،‬فهو ي�ش�ير‪ ،‬بشكل أك�ث��ر دق��ة‪،‬‬
‫إىل ال�ع�م��ق ال�ع��اط�ف��ي هل��ذا اإلح�س��اس‬
‫الذي ال مفر منه عند اخلسارة‪ ،‬والذي‬
‫حي�ص��ر امل ��رء ب�ين ح ��دي ان �ق �س��ام مه��ا‪:‬‬
‫«امل �ت �ع��ة ال�ت�ي ي�ع��ان�ي�ه��ا‪ ،‬واالض� �ط� �راب‬
‫الذي يستمتع به»‪ ،‬كما عرب عنه على‬
‫حنو مالئم الكاتب الربتغايل يف القرن‬
‫السابع عشر‪ ،‬فرانسيسكو مانويل دي‬
‫ميلو‪ .‬ميكن أن توجد ‪Saudade‬‬

‫فيكتور باسمور‬ ‫ف�ق��ط يف ال��وق��ت احل ��اض ��ر‪ ،‬ول �ك��ن ال‬
‫مي�ك�ن�ه��ا االس �ت �غ �ن��اء ع��ن امل��اض��ي؛ إن��ه‬

‫حرائق املاء‪..‬‬
‫غ�ي�ر ج� ��وه� ��ري‪ ،‬ل �ك �ن��ه ي �ن �ح��رف ع��ن‬
‫امل��ادة؛ ويتم اختباره بشكل شخصي‬
‫ولكنه مشتق يف األص��ل م��ن اهل��دف؛‬
‫إنه مصطلح غامض وعاملي مبا يكفي‬
‫للتحدث عمليا ع��ن أي ش ��يء‪ :‬من‬
‫البيئة الطبيعية إىل اإلبداعات اليت من‬

‫ً‬
‫ص�ن��ع اإلن �س��ان‪ ،‬م�ث��ل امل��وس�ي�ق��ى‪ .‬هنا‬

‫معا في الفن التجريدي‬ ‫المتناقضات‬ ‫أتخ��ذان الرحلة عرب ‪ saudade‬إىل‬


‫الفن التجريدي‪ ،‬بشكل أكثر حتدي ًدا‪،‬‬
‫إىل العمل التجريدي املتأخر والفلسفة‬
‫األضداد‪ ..‬تجاور وتناغم‬ ‫بيان غير معلن‬ ‫ال�ف�ن�ي��ة لفيكتور ابمس ��ور (‪- 1908‬‬
‫ُ‬ ‫‪ )1998‬الذي عاش وعمل يف جزيرة‬
‫إلى حد ما‪ ،‬يمكن العثور على هذه الفلسفة في صميم اهتمام فكتور باسمور‬ ‫في مقال بعنوان «ما هو الفن التجريدي؟» نشر في صحيفة صنداي تايمز البريطانية في عام‬
‫باألضداد‪ ،‬والتجاور والتناغم؛ وهو ما مكنه من االنفصال‪ ،‬على سبيل املثال‪،‬‬ ‫‪ ،1961‬بلور فيكتور باسمور بيانا مهما ًيدعو كل فنان تجريدي «أن يبني من مركز بسيط‬ ‫عاما املاضية أو‬ ‫مالطا ط��وال الثالثني ً‬
‫عن الخط أو النقطة أو امل��ادة أو اللون‪ ،‬ولكن ليس من التأثير النهائي الذي‬ ‫ً‬
‫شخصيا»‪ .‬فكرة باسمور عن الفن التجريدي‪ ،‬هنا‪،‬‬ ‫ولكنه موضوعي حتى يجد‪ ،‬أو تجد‪ ،‬محيطا‬
‫ً‬
‫أح��دث�ت��ه عند الجمع بينهما‪ .‬أدرك ب��اس�م��ور أن الطبيعة أي��ض��ا تعمل بهذه‬ ‫هي فكرة البناء والتحول ‪ -‬املناظر الطبيعية املبنية‪ ،‬من الناحية املجازية‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬يستلزم‬ ‫حنو ذلك من حياته‪.‬‬
‫الطريقة التي تبدو متضاربة‪ ،‬وبالتالي سعى إلى محاكاة طريقة عملها في‬ ‫الفن التجريدي عملية تتعارض مع ما ُيعتقد عادة‪ .‬إنها عملية بناء‪ ،‬وليست تفكيكا‪ ،‬وليست‬
‫ً‬
‫فنه‪ .‬وقد مكن هذا أيضا باسمور من استخالص مراجعه من املاضي القديم‪،‬‬ ‫مجرد تقشير طبقات ما ُيرى حتى يصل املرء على األرجح إلى أنقى أشكال الطبيعة‪ .‬إذا كان‬
‫مما يجعلها ذات صلة بالحاضر‪ ،‬وحديثة مع احترام جوهرها األصلي في‬ ‫من املمكن أن تكون عملية مدمرة على اإلطالق‪ ،‬فهي فقط في البداية من أجل إتاحة ظهور أشكال‬
‫نفس الوقت‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن ما هو خالد؛ وبالتالي موضوعي‪ ،‬يبقى على حاله‪،‬‬ ‫وصور ورموز جديدة‪ .‬بعبارات أخرى‪ ،‬يجب أن تكون قيمة الكلمة‪ ،‬أو ربما الحرف حتى‪ ،‬معروفة‬
‫لكن تجربة املوضوع‪ ،‬التي هي ذاتية‪ ،‬مختلفة ً‬
‫تماما وفريدة من نوعها ولم‬ ‫الستخدامها باالقتران مع آخر‪ ،‬ثم آخر‪ ،‬حتى يتم تكوين جملة كاملة‪ .‬ولدت اللغة بهذه الطريقة‬
‫يسبق لها مثيل في املاضي‪.‬‬ ‫ألول مرة‪ ،‬ثم صقلت في ما بعد‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫تشكيل‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫ي����س����ت����ل����زم ال�����ف�����ن ال�����ت�����ج�����ري�����دي ع���م���ل���ي���ة ت�����ت�����ع�����ارض م������ع م������ا يُ ����ع����ت����ق����د ع����������ادة‪..‬‬ ‫■‬
‫ف��ي��ك��ت��ور ب��اس��م��ور‬ ‫ً‬
‫ت���ف���ك���ي���ك���ا أو م����ج����رد ت���ق���ش���ي���ر ط����ب����ق����ات م�����ا يُ �����رى‬ ‫إن����ه����ا ع���م���ل���ي���ة ب����ن����اء ول����ي����س����ت‬
‫س����ي����رة ش��خ��ص��ي��ة‬
‫ي��ج��ب أن ت��ك��ون ق��ي��م��ة ال��ك��ل��م��ة أو رب��م��ا ال��ح��رف م��ع��روف��ة الس��ت��خ��دام��ه��ا ب��االق��ت��ران م��ع آخ��ر‬ ‫■‬
‫ولد فيكتور باسمور (‪ )1998 - 1908‬في‬
‫ً‬
‫س��اري بإنكلترا‪ .‬ك��ان م�ع��روف��ا ف��ي البداية‬
‫ب �ك��ون��ه رس � ً�ام ��ا ت�م�ث�ي�ل� ً�ي��ا ن��اج� ً�ح��ا ل�ل�ح�ي��اة‬
‫الساكنة واملناظر الطبيعية‪ ،‬ثم تحول‪ ،‬فيما‬ ‫ت���ف���س���ي���ر ص����������ورة أو م����ه����ن����ة ف����ن����ي����ة أو رؤي����������ة ل����ل����ع����ال����م ه������و ف������ي األس��������اس‬ ‫■‬
‫ب�ع��د‪ ،‬ال��ى ف�ن��ان ت�ج��ري��دي رائ ��د‪ ،‬ح�ي��ث أنتج‬
‫الكوالجات واإلنشاءات واللوحات التي كانت‬
‫م���ج���م���وع���ة م�����ن ع�������دد م�����ن اآلراء ال����ت����ي ت����ك����ون ف�����ي ب����ع����ض األح������ي������ان م���ت���ض���ارب���ة‬
‫من أكثر اللوحات ثورية في بريطانيا في‬
‫دروسا مسائية‬ ‫ً‬ ‫ذلك الوقت‪ .‬حضر باسمور‬
‫ف ��ي امل ��درس ��ة امل ��رك ��زي ��ة ل �ل �ف �ن��ون وال �ح ��رف‬
‫اليدوية من عام ‪ ،1927‬أثناء عمله كمسؤول‬
‫حكومي محلي‪ ،‬حيث ق��ام بتجربة أنماط‬
‫فنية تعكس التطورات في الفن في فرنسا‬
‫منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر‪.‬‬
‫بعد تجارب في التجريد الغنائي في أوائل‬
‫ثالثينيات ال�ق��رن امل��اض��ي‪ ،‬أس��س باسمور‬
‫م ��درس ��ة ي��وس �ت��ون رود م ��ع وي �ل �ي��ام ك��ول��د‬
‫س�ت��ري��م وغ��راه��ام ب�ي��ل وك �ل��ود روج ��رز في‬
‫ع� ��ام ‪ ،1937‬ح �ي��ث ق� ��ام ب �ت��دري��س أس �ل��وب‬
‫الواقعية السيزانية التي التزم بها في صوره‬
‫ومناظره الطبيعية‪ .‬أغلقت املدرسة في عام‬
‫‪ ،1940‬لكن هذه املجموعة انتقلت للتدريس‬
‫ف ��ي م ��درس ��ة ك��ام �ب��روي��ل ل�ل�ف �ن��ون ‪- 1943‬‬
‫‪ ،1949‬على ال��رغ��م م��ن أن ب��اس�م��ور نفسه‬
‫بدأ في تجربة التجريد مرة أخرى من عام‬
‫‪ 1947‬ف�ص��اع� ً�دا ب��دع��م م��ن كينيث ك�لارك‪.‬‬
‫استخدمت أولى تجاربه التجريدية الجديدة‬
‫األش �ك��ال الخطية وال �ك��والج ول�ك��ن ف��ي ع��ام‬
‫‪ 1952‬وبالتوازي مع أعمال كينيث وماري‬
‫مارتن‪ ،‬أصبحت بنائية صارمة‪ ،‬مع بعض‬
‫األعمال كنقوش جدارية ثالثية األبعاد في‬
‫الخشب والبرسبيكس‪ .‬ق��ام بالتدريس في‬
‫امل��درس��ة املركزية منذ ع��ام ‪ ،1949‬وأصبح‬
‫رئيس قسم الرسم في ‪،King’s College‬‬
‫ج��ام�ع��ة دوره� ��ام ف��ي ع��ام ‪ ،1954‬واستمر‬
‫�ادرا على‬‫ح�ت��ى ع��ام ‪ ،1961‬ع�ن��دم��ا ك��ان ق� � ً‬
‫تكريس نفسه للرسم بالكامل‪.‬‬
‫ف��ي الستينيات م��ن ال�ق��رن امل��اض��ي‪ ،‬خففت‬
‫الهندسة‪ ،‬وأدخلت خطوط وحواف منحنية‪،‬‬
‫وازده��رت األل��وان الزاهية في السبعينيات‪،‬‬
‫وف�ي�م��ا ب�ع��د إل��ى ت��رك�ي�ب��ات م �ج��ردة غنائية‬
‫للنقاط‪ ،‬وخ�ط��وط متجولة ومستويات من‬ ‫الجندي المقدس‬ ‫حرائق الماء‬
‫األل� ��وان ال��زاه �ي��ة م�ق��اب��ل خ�ل�ف�ي��ات��ه البيضاء‬
‫امل�ع�ت��ادة وح�ت��ى ب�ع��ض ال�خ�ط��وط العريضة‬
‫امل��رس��وم��ة ل�لأش�ك��ال الطبيعية م��رة أخ��رى‬ ‫وم ��اذا ع��ن ال�ج�ن��دي امل �ق��دس؟ ي�ب��دو أن ال�ف�ن��ان ق��د ت��ول��ى ه��ذا امل�ن�ص��ب ك��وس�ي��ط ي�ق��دم واق�ع�ين‬ ‫أحد األمثلة التي تلخص هذا بشكل جيد إلى حد ما يأخذنا على طول‬
‫ق��رب ن�ه��اي��ة ح�ي��ات��ه‪ .‬ك��ان��ت ه��ذه االن�ت�ق��االت‬ ‫متعارضني ومتشابكني؛ الفنان املنفصل في آن واحد‪ ،‬لكن هويته معلقة في امليزان بني االثنني‪،‬‬ ‫الطريق إل��ى ثقافة أميركا الوسطى القديمة‪ ،‬إل��ى ما يسمى بالرمز ‪atl-‬‬
‫مستوحاة م��ن انتقاله إل��ى مالطا ف��ي عام‬ ‫للمفارقة‪ .‬قرب نهاية مسيرته الفنية‪ ،‬يقدم باسمور ببالغة وجهة النظر هذه في ‪The Two‬‬ ‫‪ ،tlachinolli‬وال ��ذي يعني ح��رف�ي��ًا «ح ��رق امل ��اء»‪ .‬ف��ي ع��ام ‪ ،1988‬نشر‬
‫ً‬ ‫باسمور ً‬
‫‪ ،1966‬ح�ي��ث أق ��ام ح�ت��ى وف��ات��ه‪ .‬ف��ي نفس‬ ‫‪ ،)Faces of the Turning World (1990‬املوجود في معرض فكتور باسمور‪ ،‬في فاليتا‪ .‬في‬ ‫كتابا مؤلفا من قصيدة ومطبوعات بعنوان «املياه املحترقة»‬
‫ً‬
‫ال �ع��ام‪ ،‬ب��دأ أي��ض��ا ت �ج��ارب مكثفة ف��ي عمل‬ ‫هذا العمل‪ ،‬على طرف شبكة من أغصان الزيتون ومعلقة بني عالم مترابط من العنف والدمار‬ ‫حيث أش��اد بهذا الرمز القديم ال��ذي «ي��دل على وح��دة األض��داد واملفارقة‬
‫موقفا ً‬‫ً‬
‫امل �ط �ب��وع��ات ف ��ي م �ط �ب �ع��ة ‪ 2RC‬ف ��ي روم ��ا‬ ‫من جهة‪ ،‬والهدوء والقيادة من جهة أخرى‪ ،‬تعلق هوية الفنان‪ ،‬مختصرة في كلمة ‪ VP‬بسيطة‬ ‫مرئيا للحرب‬ ‫الكونية»‪ .‬في ال��واق��ع‪ ،‬ك��ان الرمز املكسيكي القديم‬
‫ب��ال �ت��وازي م��ع ل��وح��ات��ه‪ .‬أص �ب �ح��ت ص�ن��اع��ة‬ ‫وحازمة‪.‬‬ ‫املقدسة‪ ،‬حيث يتشابك امل��اء مع النار في اتحاد عنصرين متناقضني‪.‬‬
‫�زءا رئ�ي�س� ً�ي��ا م��ن أع�م��ال��ه وعمل‬ ‫ال�ط�ب��اع��ة ج � ً‬ ‫إن تفسير صورة‪ ،‬أو مهنة فنية‪ ،‬أو رؤية للعالم هو‪ ،‬في األساس‪ ،‬مجموعة من عدد من اآلراء‬ ‫ً‬
‫صراعا ال‬ ‫مجازيا طويل األم��د للكون‪ ،‬للخلق‪ ،‬باعتباره‬ ‫ً‬ ‫ك��ان ه��ذا ً‬
‫فهما‬
‫م ��ع ‪ Curwen Press‬و‪Kelpra Studio‬‬ ‫التي تكون‪ ،‬في بعض األحيان‪ ،‬متضاربة‪ .‬تولد االحتماالت الجديدة بهذه الطريقة‪ ،‬في حني يتم‬ ‫ً‬
‫نهاية له بني قوتني متعارضتني‪ .‬غالبا ما ك��ان التعبير ذو الحدين عن‬
‫و ‪ White Ink‬واستوديوهات طباعة أخرى‪.‬‬ ‫تطوير االحتماالت القديمة أو‪ ،‬بشكل شبه مؤكد‪ ،‬يتم تحديها‪ .‬تسعى سلسلة محادثات الثالثاء‬ ‫صور أمام أفواه الشخصيات‪ ،‬أو باألحرى‬ ‫النار واملاء والدمار والحياة ُي َّ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫م�ن��ذ وف��ات��ه ت �ص��اع��دت ش�ع�ب�ي��ة مطبوعاته‬ ‫من املحادثات العامة الشهرية التي تعقد في غاليري فيكتور باسمور‪ ،‬إل��ى تبني ه��ذا النهج‬ ‫جنودا مقدسني‪ ،‬كما لو كان شكال من أشكال البركة أو صرخة معركة‬
‫ً‬
‫أو أغنية‪ ،‬وما يفعله باسمور بدال من ذلك‪ ،‬هو وضع نص وصورة ً‬
‫بشكل كبير‪ ،‬وأصبحت أعماله املبكرة اآلن‬ ‫متعدد األوج��ه في فهم ليس فقط حياة وفن وفلسفة فيكتور باسمور‪ ،‬بل والسياق الثقافي‬ ‫جنبا‬
‫ً‬
‫نادرة للغاية‪.‬‬ ‫العميقة الجذور التي ال تزال‬ ‫الدولي للقرن العشرين‪ ،‬ولكن أيضا لتحديد املفاهيم والحقائق ً‬ ‫إلى جنب في نوع من القصيدة املرئية كتمثيل لـ «مأساة الروح البشرية»‪.‬‬
‫وثيقة الصلة بعصرنا‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن ارتباطنا باملاضي ال ينضب حقا‪ ،‬لكن كل محاولة للقيام‬ ‫هنا‪ ،‬ال تزال طبيعة األضداد قابلة للتطبيق‪ ،‬لكن صرخة الحرب تخاطب‬
‫أيضا بشعور ضائع ً‬ ‫ً‬
‫حتما وال يمكن االستغناء عنه‪.‬‬ ‫بذلك مشوبة‬ ‫اآلن اإلنسان املعاصر واألزمة الوجودية في العصر‪.‬‬
‫الثقافي‬ ‫‪ 22‬متابعات فنية‬

‫أق���ي���م ف����ي دار ك��ري��س��ت��ي��ز ل��ل��ف��ن‬

‫«كوكبة»‪..‬‬
‫أك��ب��ر م��ع��رض للفن ال��ع��رب��ي ف��ي لندن‬
‫راعي التحف الفنية‬ ‫لندن ‪ -‬فيء ناصر‬

‫وقال الشيخ سلطان سعود القاسمي في محاضرة له‬


‫شهدت حضورًا عربيًا كثيفًا‪ :‬إنه بدأ باقتناء األعمال‬ ‫استضافت دار كريستيز العريقة صيف ه��ذا ال�ع��ام معرضاً للفن‬
‫ال�ف�ن�ي��ة ال �ع��رب �ي��ة م �ن��ذ ع ��ام ‪ 2010‬ووص �ل��ت مقتنيات‬ ‫ال�ع��ريب ي��ؤرخ لفرتة زمنية ت�ق��ارب الثمانني ع��ام�اً منذ ب��داي��ة القرن‬
‫املؤسسة إلى ما يقارب ‪ 1200‬عمل فني‪ ،‬ولحبه لهذه‬
‫األعمال واعتزازه بوطنه وقوميته العربية‪ ،‬فهو يريد أن‬ ‫وروجت له إبعالانت مبهرة يف بعض حمطات املرتو وسط‬ ‫العشرين‪ّ ،‬‬
‫يشاركها مع اآلخرين للتعريف بالثقافة العربية في كل‬ ‫العاصمة الربيطانية‪ ،‬بوصفه أك�بر معرض للفن العريب يف لندن‪،‬‬
‫مكان بالعالم‪ .‬كما أنه عمل على خلق التوازن عبر اقتناء‬
‫أعمال الفنانات العربيات‪ ،‬وعبر تنويع االقتناء‪ ،‬ليشمل‬ ‫مغتنمة تواجد أعداد كبرية من السيّاح العرب الذين يعتربون مدينة‬
‫ف �ن��ان�ين م��ن م�خ�ت�ل��ف ال �ع��ال��م ال �ع��رب��ي‪ ،‬ب�ع�ض�ه��م حظي‬
‫بشهرة‪ ،‬وبعضهم انحسرت عنه األضواء‪ .‬واستعرض‬ ‫الضباب وجهتهم املفضلة‪ ،‬وأثبتت أيضاً أن مزاد الفن القائم أساساً‬
‫أيضًا رحلته في التدريس والتعريف بالفنون العربية‬ ‫على االستثمار مببالغ هائلة لألثرايء إبمكانه أن يقدم متعة فنية‬
‫ف��ي جامعات أميركا وأوروب ��ا‪ ،‬وأض��اف أن��ه يفضل أن‬
‫ُيدعى «راعي هذه التحف الفنية وليس مالكها»‪.‬‬ ‫خالصة للجمهور جماانً‪.‬‬
‫محل املعرض عنوان «كوكبة»‪ ،‬ابلتعاون مع مؤسسة ابرجيل للفنون‬
‫م�����س�����ار ت���اري���خ���ي‬ ‫يف دولة اإلمارات العربية املتحدة‪ ،‬اليت أتسست عام ‪ 2010‬إلدارة‬
‫ي�ت�ت�ب��ع امل �ع��رض م �س��ارًا ت��اري �خ �ي��ًا‪ ،‬م��ن ن�ه��اي��ة الحقبة‬
‫وحفظ وع��رض املقتنيات الفنية الشخصية للشيخ سلطان سعود‬
‫االس �ت �ع �م��اري��ة إل ��ى ال��وق��ت ال �ح��ال��ي‪ ،‬م��ع ال �ت��رك �ي��ز على‬ ‫القامسي‪ ،‬اليت تضم أعماالً ولوحات فنية متنوعة من بداية القرن‬
‫ال� ��روح ال��وط�ن�ي��ة ل �ح��رك��ات م��ا ب�ع��د االس �ت �ق�ل�ال‪ ،‬وع�ل��ى‬
‫مكانة الفنان في ضوء التحوالت الثقافية والسياسية‪،‬‬ ‫العشرين إىل الوقت احلاضر‪ .‬وتعد مؤسسة ابرجيل للفنون أكرب‬
‫وي�ت�ن��اول م��وض��وع��ات‪ ،‬م�ث��ل ص�ع��ود ال�ق��وم�ي��ة العربية‪،‬‬ ‫مؤسسة فنية شاملة للفنون يف املنطقة العربية‪.‬‬
‫واالستجابات للعوملة‪ ،‬وديناميكيات التنوع االجتماعي‪.‬‬
‫ويتتبع امل�ع��رض أيضًا امل�ح��اوالت ال�ج��ادة لخلق حداثة‬
‫عربية خالصة ت��زاوج بني التأثر بالنزعات الفنية التي‬
‫راجت في بداية القرن العشرين وبني الثيمات املحلية‪،‬‬ ‫كوكبة عربية‬ ‫عراقة كريستيز‬
‫والتوفيق بني األشكال التاريخية والتقنيات واألفكار‬
‫امل� �ع ��اص ��رة‪ .‬ح �ي �ن �م��ا س ��أل � ُ�ت ال �ش �ي��خ س �ل �ط��ان س �ع��ود‬ ‫يتضمن املعرض قسمني رئيسيني‪« :‬كوكبة» ُوهي مجموعة أعمال فنية لفنانني رواد‬ ‫أسس جيمس كريستيز (‪ )1803 - 1730‬رجل األعمال االسكتلندي دار ومزاد‬
‫القاسمي عن الفكرة وراء هذا املعرض‪ ،‬قال‪« :‬إن فكرة‬ ‫وما بعدهم من مختلف بلدان العالم العربي‪ ،‬اختيرت بعناية شديدة لتمثيل هواجس‬ ‫كريستيز العريقة للفن عام ‪ ،1766‬واليوم ومن خالل مقرها الرسمي واألقدم‬
‫ً‬
‫التعاون مع دار كريستيز بدأت بالتشاور مع املشرف‬ ‫مبدعيها الذاتية أوال‪ ،‬وكونها شاهدًا على زم��ان وبيئة أولئك املبدعني ثانيًا‪ .‬كل عمل‬ ‫ف��ي ح��ي سانت جيمس ال��راق��ي ف��ي قلب العاصمة البريطانية ل�ن��دن‪ ،‬تعد دار‬
‫الفني لقسم ال�ش��رق األوس��ط ف��ي ال��دار ال��دك�ت��ور رضا‬ ‫فني في املعرض هو شهادة على موهبة وبراعة الفنانني في املنطقة‪ ،‬ويعكس رؤاهم‬ ‫كريستيز من أهم دور املزادات الرائدة‪ ،‬ويقترن اسم كريستيز منذ عهد بعيد‬
‫مومني‪ ،‬الذي أبدى ترحيبًا واستعدادًا لعرض األعمال‬ ‫الفريدة والجوهر األصيل لثقافاتهم املنعكس بعمق في أعمالهم‪ .‬وهذه الكوكبة احتلت‬ ‫بتنظيم أهم املزادات الخاصة في العالم‪ ،‬ال سيما ما يتعلق ببيع األعمال الفنية‬
‫أثناء موسم الصيف‪ ،‬وانتهت بأن تحتل أعمال النخبة‬ ‫القاعة الكبرى في مزاد كريستيز وبقية قاعات الطابق األول‪ .‬والقسم الثاني هو «تصور‬ ‫لحقبة ما بعد الحرب العاملية الثانية‪ ،‬واألعمال الفنية املعاصرة واالنطباعية‬
‫من الفنانني العرب قاعات الدار العريقة»‪ .‬وحني سألته‪:‬‬ ‫جديد للفن اإلماراتي‪ ،‬حسن شريف وأصوات معاصرة»‪ ،‬عرض في القاعات األرضية‬ ‫الرابع عشر إلى بداية القرن‬‫والحديثة‪ ،‬وأعمال الفنانني األوروبيني من القرن َّ‬
‫هل يمكن إع��ادة التجربة في العواصم العربية وإتاحة‬ ‫ملبنى الدار‪.‬‬ ‫التاسع عشر‪ ،‬باإلضافة إلى املجوهرات النادرة‪ .‬ووطدت كريستيز حضورها‬
‫الفرصة للشباب العربي للتعرف على أعمال الفنانني‬ ‫وهذه هي املرة األولى التي تعرض فيها دار كريستيز هذا الكم والنوع املذهل من األعمال‬ ‫بافتتاح اثنتي عشرة صالة في أشهر مدن العالم الستضافة مزاداتها‪ ،‬تشمل‬
‫الرواد الذين ربما تعرض إرثهم إلى النسيان أو التخريب‬ ‫العربية الفنية‪ ،‬بما يقارب ‪ 100‬عمل فني‪ ،‬تنوعت بني الرسم والنحت والحياكة واألعمال‬ ‫لندن ونيويورك وباريس وجنيف وميالن وأمستردام ودبي وزي��ورخ وهونغ‬
‫أو ال�ت�ه��ري��ب ب�ف�ع��ل ال �ح��روب وامل �ت �غ �ي��رات ال�س�ي��اس�ي��ة؟‬ ‫املركبة‪ ،‬عبر تعاونها م��ع مؤسسة بارجيل ووزارة الثقافة والشباب ب��دول��ة اإلم��ارات‬ ‫ك��ون��غ وش�ن�غ�ه��اي وم��وم �ب��اي‪ُ .‬‬
‫وع��رض��ت وب�ي�ع��ت ف��ي م ��زاد كريستيز أشهر‬
‫ق��ال الشيخ سلطان القاسمي‪ :‬حاملا يتلقى تسهيالت‬ ‫العربية املتحدة‪ .‬لم تكتف دار كريستيز بالعرض واإلع�لان فقط‪ ،‬بل رافقت املعرض‬ ‫اللوحات في العالم‪ ،‬وآخرها لوحة سلفادور مندي للفنان اإليطالي ليوناردو‬
‫بالعرض‪ ،‬فإنه سيكون سعيدًا بتكرار التجربة في أي‬ ‫املحاضرات التعريفية عن الفن في العالم العربي وعن األعمال املعروضة وعن مؤسسة‬ ‫دافنشي‪ ،‬حيث سجلت أعلى رقم بيعت به لوحة حتى اآلن وبلغ ‪ 450‬مليون‬
‫عاصمة عربية‪.‬‬ ‫بارجيل‪.‬‬ ‫دوالر‪.‬‬
‫‪23‬‬ ‫متابعات فنية‬
‫‪CULTURAL‬‬
‫ام��������������������������رأة وج�����������������دار‬ ‫◄ ل��ل��م��رة األول����ى ت��ع��رض دار‬
‫كريستيز هذا الكم والنوع‬
‫لوحة ام��رأة وج��دار للفنان الجزائري الرائد أحمد أسيخام (‪- 1928‬‬
‫‪ )1985‬تصور امرأة باملالبس األمازيغية التقليدية ومالمح صارمة‪،‬‬ ‫ال���م���ذه���ل م���ن األع���م���ال‬
‫وخلفها ج��دار مكتوب عليه كلمات تمثل احتجاجات أو شعارات‪.‬‬ ‫العربية الفنية‬
‫وتعرض للفنانة املصرية إنجي أفالطون لوحتان‪ ،‬إحداهما «القرية»‪،‬‬
‫وه ��ي ل��وح��ة دي�ن��ام�ي�ك�ي��ة ب �خ�ط��وط ق�ص�ي��رة ت�م�ث��ل ح �ي��اة ال �ف�لاح�ين‪،‬‬
‫سيرية تعبيرية ع��ن حياة‬ ‫واألخ ��رى «أح�ل�ام املعتقلة»‪ ،‬وه��ي ل��وح��ة ّ‬ ‫◄ ما يقارب ‪ 100‬عمل فني‬
‫الفنانة الشخصية حينما اعتقلت في سجن القناطر‪.‬‬
‫تنوعت بين الرسم والنحت‬
‫وال���ح���ي���اك���ة واألع����م����ال‬
‫ال������������ص������������وت األخ��������ي��������ر‬ ‫المركبة‬
‫من األعمال املميزة أيضًا لوحة «الصوت األخير» للفنان السوداني‬
‫إبراهيم الصالحي‪ ،‬التي يصفها راعيها ومقتنيها الشيخ سلطان‬ ‫◄ م��ج��م��وع��ة أع���م���ال فنية‬
‫س�ع��ود ال�ق��اس�م��ي‪« :‬أذك ��ر حينما زرت ن�ي��وي��ورك قبل س�ن��وات ع��دة‪،‬‬
‫وأخبرت مدير أحد املتاحف الكبيرة بأننا اشترينا «الصوت األخير»‪،‬‬ ‫لفنانين رواد وما بعدهم‬
‫من دون اإلش��ارة إل��ى اس��م الفنان‪ ،‬وم��ع ذل��ك فقد عرفها على الفور‬ ‫من مختلف بلدان العالم‬
‫بسبب مكانتها وأهميتها‪ ،‬فهي شهادة على الفن األفريقي‪ ،‬وتمثيل‬
‫لثقافة ق��ارة كاملة‪ ،‬وه��ي برأيي من أه��م األع�م��ال الفنية العربية في‬
‫ال��ع��رب��ي ُاخ��ت��ي��رت بعناية‬
‫القرن املاضي‪ ،‬وم��ن أه��م أعمال الفنان إبراهيم الصالحي وأكثرها‬ ‫كشواهد على زمان وبيئة‬
‫حميمية وإنسانية»‪.‬‬ ‫المبدعين العرب‬

‫ب������������������اب ال�������غ�������ري�������ب�������ة‬ ‫أش�����ع�����ة ال���ت���ك���وي���ن‬ ‫◄ يقترن اسم كريستيز منذ‬


‫الخيول المتعبة‬
‫ت�ت��وس��ط «ب ��اب ال�غ��ري�ب��ة» وه��ي ب��واب��ة ال�ن�ح��ات ال �ع��راق��ي محمد غني‬ ‫عهد بعيد بتنظيم أهم‬
‫حكمت الخشبية قاعة أخ��رى ف��ي دار كرسيتيز‪ ،‬ه��ذه ال�ب��واب��ة التي‬ ‫لوحة «عشرة خيول متعبة ‪،»1965/‬‬ ‫يصعد الزائر للمعرض سلمًا مفروشًا بسجاد مستوحى‬ ‫ال�����م�����زادات ال���خ���اص���ة في‬
‫شهدت بنفسي‬ ‫ُ‬ ‫نحتها الفنان مستوحيًا تعرجات جذع النخلة التي‬ ‫قرأت عنها وعن صاحبها الكثير‪،‬‬ ‫التي ُ‬ ‫من لوحة الفنانة اللبنانية سامية عسيران جنبالط املعنونة‬
‫بيعها ملؤسسة بارجيل ع��ام ‪ ،2018‬في لندن في م��زاد بونهامس‪.‬‬ ‫ال �ف �ن��ان ال �ع��راق��ي ال��رائ��د ك��اظ��م ح�ي��در‬ ‫«أشعة التكوين»‪ ،‬وهي لوحة تجريدية بألوان ساطعة تمثل‬ ‫العالم ال سيما ما يتعلق‬
‫لوحة أخرى مهمة للفنانة العراقية مديحة عمر معنونة «عيون الليل»‪،‬‬ ‫(‪ ،)1985 - 1932‬هي جزء من لوحات‬ ‫ثنائيات ال�ح�ي��اة‪ ،‬ب��ال�ش��روق وال �غ��روب‪ ،‬ال ��والدة وامل ��وت‪ ،‬وك��أن‬ ‫ببيع األعمال الفنية لحقبة‬
‫تبتدع بها أسلوبها الخاص في مزج التجريدية بالحروفية‪ .‬بورترية‬ ‫ملحمة الشهادة التي تستلهم واقعة‬ ‫هذا اللون املتوهج في سلم الدار سيقود الزائر إلى اكتشاف‬ ‫م��ا ب��ع��د ال��ح��رب العالمية‬
‫شخصي بالحجم الكبير معنون «رأس» للفنان ال �س��وري م��روان‬ ‫ك��رب�لاء ب��أس �ل��وب ت�ع�ب�ي��ري ت�ج��ري��دي‬ ‫خالصة الفن العربي‪.‬‬
‫ً‬ ‫الثانية‬
‫يتوسط جدار إحدى القاعات الجانبية‪ ،‬ويشي بتأثر الفنان السوري‬ ‫ي �ق �ت��رب م ��ن ال�ت�ك�ع�ي�ب�ي��ة واالخ � �ت� ��زال‪،‬‬ ‫القاعة الكبيرة تعرض أعماال متنوعة األساليب‪ ،‬منها‪ :‬لوحة‬
‫بالتعبيرية األملانية‪« .‬ام��راة تبيع القماش» لجواد سليم‪ .‬ومنحوتات‬ ‫ع �ش��رة خ �ي��ول ت �ن��وح وت �ن��اج��ي األف��ق‬ ‫الفنان املصري (حامد عويس ‪« )2011 - 1919‬الحارس»‬
‫ملنى سعودي وإسماعيل الشيخلي وسلو رضوى شكير‪ ،‬والكثير‬ ‫امل �ع �ت��م ك �م��ا أرض �ي��ة ال �ل��وح��ة امل�ع�ت�م��ة‪،‬‬ ‫املؤرخة بـ‪ ،1967‬والتي كانت رد فعل الفنان إزاء صدمة حرب‬
‫الكثير من خيرة األعمال الفنية العربية التي ُج ْ‬ ‫ً‬ ‫◄ ع��رض المقتنيات الفنية‬
‫معت في «كوكبة»‪.‬‬ ‫ب�ي�ن�م��ا ق�م��ر أح �م��ر ك��أن��ه ش��اه��د على‬ ‫حزيران‪ ،‬اللوحة الكبيرة تمثل مقاتال أسمر املالمح بذراعني‬
‫ن� ��واح ال �خ �ي��ول‪ ،‬ي��ا ل��ه م��ن م ��زج ف��ري��د‬ ‫مفتولتني يحمل س�لاح��ًا ويستحوذ على مساحة اللوحة‪،‬‬ ‫الشخصية للشيخ سلطان‬
‫لألساليب في تناول املوروث الشعبي‪.‬‬ ‫بينما في أسفل اللوحة مشاهد من الحياة اليومية للناس‪ ،‬بما‬
‫ح�����������س�����������ن ش���������ري���������ف‬ ‫يقول راعي هذه اللوحة الشيخ سلطان‬ ‫في ذلك مشهد زواج وطفل يركب دراجة وفالح وأم وطفلها‪،‬‬ ‫س��ع��ود ال��ق��اس��م��ي ال��ت��ي‬
‫س� �ع ��ود ال� �ق ��اس� �م ��ي إن� �ه ��ا ت �م �ث��ل ل � ّ�ب‬ ‫وخلفية اللوحة تمثل منظرًا يمكن أن يكون ألي مدينة عربية‬ ‫ال ولوحات فنية‬ ‫تضم أعما ً‬
‫ُ‬
‫ه��ذا ال�ق�س��م خ�ص��ص ل�لاح�ت�ف��اء باملشهد ال�ف�ن��ي امل�ع��اص��ر ف��ي دول��ة‬ ‫مقتنيات مؤسسته‪.‬‬ ‫بنهرها وجسرها ومآذنها‪.‬‬
‫متنوعة من بداية القرن‬
‫اإلمارات العربية املتحدة‪ .‬يستكشف املعرض مسيرة الفنان اإلماراتي‬
‫صاحب الرؤية حسن شريف (‪ ،)2016 - 1915‬الشخصية الرائدة في‬ ‫ال��ع��ش��ري��ن إل����ى ال��وق��ت‬
‫الفن املفاهيمي في اإلمارات والخليج العربي‪ .‬تم انتخاب األعمال من‬ ‫الحاضر‬
‫واحدة من أكبر مجموعات حسن شريف الخاصة‪ ،‬الذي درس وعمل‬
‫في لندن في عقد ثمانينيات القرن املاضي‪ ،‬وتمثل هذه املنتخبات‬
‫الفنية انشغاالته املتعددة األساليب‪ ،‬مثل اللوحات والتخطيط والنحت‬ ‫◄ ل��وح��ة ال��ف��ن��ان اإلي��ط��ال��ي‬
‫والنسيج واألع�م��ال التركيبية‪ .‬األع�م��ال متاحة للشراء ال�ف��وري عبر‬
‫«املبيعات الخاصة» لدار كريستيز‪.‬‬ ‫ليوناردو دافنشي سجلت‬
‫أعلى رقم بيعت به لوحة‬
‫أع��م��ال إم��ارات��ي��ة م��ع��اص��رة‬ ‫ح��ت��ى اآلن‪ ..‬وب���ل���غ ‪450‬‬
‫مليون دوالر‬
‫إل��ى ج��ان��ب مجموعة أع �م��ال ال�ف�ن��ان ح�س��ن ش��ري��ف‪ ،‬ي�ق��دم امل�ع��رض‬
‫أع�م��ال الفنانني اإلم��ارات�ي�ين املعاصرين محمد ك��اظ��م‪ ،‬محمد أحمد‬
‫إبراهيم‪ ،‬حسني شريف‪ ،‬فرح القاسمي‪ ،‬عالء إدريس‪ ،‬زهور الصايغ‬ ‫◄ احتفاء بالمشهد الفني‬
‫وتقوى النقبي‪ .‬وهذه األعمال معارة من وزارة الثقافة والشباب بدولة‬ ‫ال��م��ع��اص��ر ف���ي اإلم������ارات‬
‫اإلمارات العربية املتحدة وغاليري لوري شبيبي في دبي‪ .‬أعمال هؤالء‬
‫الفنانني هي شهادة على عمق تأثرهم بإرث حسن شريف‪ ،‬وهو في‬ ‫واس�����ت�����ع�����راض م���س���ي���رة‬
‫ّ‬
‫الوقت نفسه يتحدى األعراف الفنية‪ ،‬ويشكل املشهد اإلبداعي لدولة‬ ‫ح��س��ن ش��ري��ف رائ����د الفن‬
‫اإلمارات العربية املتحدة‪.‬‬
‫استمر املعرض حتى نهاية شهر أغسطس‪ ،‬ويشهد حضورًا عربيًا‬ ‫المفاهيمي في اإلمارات‬
‫ّ‬
‫والسياح العرب‪.‬‬ ‫مدهشًا من قبل الجاليات العربية‬ ‫والخليج العربي‬
‫األخيرة‬
‫ً‬
‫برقيا‪ :‬سبقلا‬ ‫تصدرها شركة دار سبقلا للصحافة والطباعة والنشر‪ ،‬الكويت ص‪.‬ب ‪ 21800‬الصفاة • الرمز البريدي ‪13078‬‬

‫فاكس‪ • 24816941 :‬البدالة‪ ٤/22/24812819 :‬خطوط • التحرير‪ • 24812823 :‬االشتراكات‪1807111 :‬‬

‫‪CULTURAL‬‬ ‫سبقلا الثقافي‪https://alqabas.com/section/64759 :‬‬ ‫• االنترنت‪EMAIL: INFO@ALQABAS.COM • :‬‬

‫رئيس التحرير وليد عبد اللطيف النصف‬

‫في حضرة‬
‫املتاهة العمياء‬
‫أف���راح ال��م��ب��ارك الصباح‬

‫ترضب ابلرتاب قدهما…‬ ‫ات عىل «اليال»‪...‬‬ ‫والعذارى سامر ٌ‬ ‫والعيس اليت مضت ابحلمل تطوي‬ ‫هتبط درجة احلرارة داخل عظ ٍم بلي ٍد…‬
‫لعل األرض تنصت إىل عتاهبا…‬ ‫يغنني العويل والن�شيج…‬ ‫هنار القيظ حرسة…‬ ‫بني الن�سيج والن�سيج‬
‫يه اليت…‬ ‫ُ‬
‫خمضبة ابحلنة الامينية‪...‬‬ ‫كفوفهن‬ ‫يف حرضة املتاهة…‬ ‫( ‪ )٥-‬درجة مئوية‬
‫احتار السؤال يف إجابته‪...‬‬ ‫ويه تلفح بشعرها الثائر…‬ ‫رؤاي معياء‪...‬‬ ‫يتقلّص ادلم…‬
‫يه اليت‪...‬‬ ‫حتلق بعينني سامهة‪ /‬غري واعية‬ ‫توجه نصالً أصيالً…‬ ‫كجزر كئيب‬‫ينحرس ٍ‬
‫اقرتن الشك ابمسها‪!...‬‬ ‫بني يدهيا عصاة السالم…‬ ‫عىل الرقاب مصرياً‪..‬‬ ‫دورة دموية ساخطة‬
‫واختلج اخلاطر بنعاس قسوهتا…!‬ ‫تمترحج خبفة الن�سمي‪...‬‬ ‫وعىل جثث احليارى…‬ ‫هيلك عظمي ابئس‬
‫ثوهبا بلون العشب بعد املطر…‬ ‫حلناً عتيقاً!‬ ‫يرصخ بأانت شاسعة األمل!‬
‫* **‬ ‫ال مباالة يف اإلغواء…‬
‫اتهت الفكرة بقتا ٍم أمعى…‬ ‫وإغوا ٌء اىل حد املباالة…‬ ‫* **‬ ‫* **‬
‫ل يبحث ع��ن جس ٍد‬ ‫وال��ظ��ل ظ � ّ‬ ‫وك����أن ال����رحي ت��غ��ل��و ابل��ق��ب��ل عىل‬ ‫انتصب الليل…‬ ‫يف القفار…‬
‫فارغٍ…‬ ‫جيدها‪...‬‬ ‫ة اكملوت…‬‫ة داكن ٍ‬
‫بزرق ٍ‬ ‫يسكن الوحدة…‬
‫يف حرضة املتاهة العمياء…‬ ‫وال��ب��ح��ر ي���ذرف دم���وع ال���وهل عىل‬ ‫بكف شاهق اكملوج…‬ ‫ٍ‬ ‫والوحدة عصاه…‬
‫اللك ينتظر دوي السقوط…!‬ ‫جبيهنا…‬ ‫ظل يسكن الشواطئ…‬ ‫ال جيد الرحي إال حادايً…‬

‫إخراج‪ :‬خليل حيوك‬ ‫تحرير‪ :‬د‪.‬جمال حسين علي‬

You might also like