Professional Documents
Culture Documents
TQZBP
TQZBP
TQZBP
الثقاف��ة واإلقص��اء
نجيب محفوظ وال��رواي��ة الذهنية ■
الثقافة واإلقصاء
ً
خطرا تمثل «ال��ع��ص��اب��ات الثقافية» ◄ د .ج�������م�������ال ح�����س�����ي�����ن ع���ل���ي
على الثقافة أكبر من الدكتاتوريات
أي شخص آخر؟ هل املثقف مثل ّ
المستبدة والقيود المفروضة على أي شخص أي شخص آخر ،لكين لست مثل ّ نلجأ إىل جان جاك روسو لإلجابة على هذا السؤال ،فقد كتب الفيلسوف واالجتماعي« :أان مثل ّ
الحريات والنشر ..ألنه ال حدود لها.. آخر».
وغياب األط��ر لقياس انتهاكاتها أو املعريف.
ّ املادي ،بل
ّ موجودا» .وهنا ال نقصد الوجود
ً كل شخص فريد من نوعه ...ونضيف من هيغل« :ما دام عند قراءة هذه السطور ،سنفهم أن ّ
فكل شخص لديه فكرته اخلاصة عن مجيعا نفهم بورخيس ابلطريقة نفسهاّ . ويف اإلطار نفسه ،أتيت املعايري الثقافية اليت متيّز ذائقتنا وفهمنا ،فلسنا ً
ّ
الرد عليها ظاهري ليسوا متشاهبني فحسب ،بل يف حقيقة أهنم يدركون الواقعاً األمل ،واجلميع مهتم أبشياء خمتلفة؛ ذلك ألن فردية الناس ال تنحصر يف أهنم
من حوهلم بطرق خمتلفة ،ألن لكل شخص أصله وتربيته ،والظروف اليت رافقته يف احلياة .وأعتقد أن الشخص ملزم ابحلفاظ على فرديته ،ألن
ل��م��اذا ساهم المثقفون أنفسهم ◄ ذلك جيعله على ما هو عليه.
في نشر «ثقافة اإلقصاء» ،بد ً
ال من
أمثلة اإلقصاء اإلنساني
المساعدة في تعزيز التواصل ما بين
س�لام» ،حيث س��وف أنتقل إل��ى ال�خ�ي��ال ...ف��ي عمل «ال �ح��رب وال �
تمثل الشخصية الرئيسية ناتاشا روستوفا م�ث��الاً ً
األسرة البشرية والمجتمع الكوني؟ حيا على
حقيقة أن الفردانية تصنع الشخص بنفسه ،وتمكن اآلخرين
أفضل ،ال يكاد أي شخص يخلط بني ناتاشا من فهمه بشكل ّ
وهيلني كوراجينا .كل هذا يرجع إلى فردية كلتا البطلتني ،ناتاشا
ل����م����اذا؟ وك���ي���ف؟ وب�����أي ط����رق تم ◄ ليست مثل هيلني األنانية ،امرأة بال روح ،إنها مبتهجة ومبهجة،
وعائلتها ه��ي ال�ش��يء الرئيسي ف��ي حياتها .مثال واض��ح على
«اس��ت��ب��ع��اد» األف������راد وال��ج��م��اع��ات أهمية الحفاظ على الفردية ه��و رواي��ة جنكيز إيتماتوف «اآلل��ة
املمزقة» التي تحكي أسطورة مانكورت .الرجل ال��ذي ُح� ِ�رم من
اج��ت��م��اع��ي ً��ا؟ ه��ل المظهر الجسدي ذاكرته من أجل تحويله إلى عبد ،فأصبح ُمثل «مخلوق مجهول
أو ال��س��ل��وك ..ال��م��ه��ن��ة ..ال��دي��ن.. ال��وج��ه» ،يلبي أوام ��ر س� ّ�ي��ده حتى عندما قتلت أم��ه ،وه��ذا مثال
اإلنساني الذي يتحول فيه املرء إلى كائن مسخ ّ صارخ لإلقصاء
العرق ..الجنس ..المكان ..القناعات أو حيوان ،بعد أن تتوقف الصفات اإلنسانية عن العمل لديه.
وف��ي ت��راج�ي��دي��ا آرث��ر ميلر« ،م��وت ب��ائ��ع م�ت�ج� ّ�ول» ،ي��وض��ح بطل
المسبقة؟ ال��رواي��ة ويلي لومان مفهوم اإلق�ص��اء ،حيث ح��اول ط��وال حياته
ناجحا وأن يثبت قدرته على توفير حياة ً أن يصبح رجل أعمال
ً
أفضل ألبنائه ونفسه .كان مترددا في أخذ نقود من جاره وأخذ
نصيحة زوج�ت��ه بالتقاعد .ك��ان ل��دى ويلي معتقدات قوية بأنه
يجب أن يعمل حتى اليوم ال��ذي دف��ع فيه فاتورته األخ�ي��رة .لقد
الشعراء والعلماء المنبوذون رف��ض امل�س��اع��دة م��ن األش �خ��اص املحيطني ب��ه ،ألن األميركيني
متربون على االكتفاء الذاتي ويقدرونه .وعلى الرغم من أن هذه
وف��ي تراثنا العربي ،ال يوجد مصطلح «ثقافة اإلق �ص��اء» ،يمكن أن قصة م��أس��اوي��ة ل��رج��ل فشل ف��ي السيطرة على ح�ي��ات��ه ،فإنها
نعتبرها تسمية حديثة بالرغم من كثرة الشعراء والعلماء املنبوذين تغرس فكرة أن الفردية التي تؤدي إلى اإلقصاء ،قيمة رئيسية
والناس العاديني الذين أطلقوا عليهم الخلعاء وغيرها من املسميات، في الثقافة.
خصوصا الشعراء الصعاليك. مثال آخر على ذلك رواية مارك توين «مغامرات هكلبيري فني»
وذك ��ر ل�ن��ا ال��دك �ت��ور ش��وق��ي ض�ي��ف ف��ي ك�ت��اب��ة «ال �ع �ص��ر ال�ج��اه�ل��ي» املنشورة عام .1884وتعد صورة هاك وصديقه جيم الذي كان
ال�ص��ادر في القاهرة عن «دار امل�ع��ارف» بطبعاته املتعددة ،الشعراء عبدًا هاربًا من سيده في رحلتهما على نهر امليسيسيبي أحد
املنبوذين الذين عانوا االقصاء الشديد بسبب دفاعهم عن مبادئهم موضوعات الصراع بني املجتمع والفرد .في بداية الرواية ،نرى
أمثال :عنترة بن ش��داد ال��ذي أوق��ف القسم األكبر من شعره بسبب عمليا ويعتمد على فطرته لتوجيهه خالل ً أن هاك يرفع نفسه
قضية ت�ح��رره م��ن ال��رق واالع �ت��راف ب��ه م��ن قبل أبيه وأق��ارب��ه وأبناء حياته على األرض .يمكننا تحديد ت�ط� ً�ور ال�ف��رد ال��ذي تعرض
قبيلته .وابن هانئ األندلسي الذي أوقف شعره على الترويج ملذهبه إلى اإلقصاء من املجتمع ،لنكتشف الحقا في واحدة من أجمل
العقائدي والدولة التي تمثل هذا املذهب .ولكن أكثر الذين تعرضوا روايات القرن التاسع عشر املكتوبة بالعامية ،أن الفطرة السليمة
للخلع واالقصاء ُهم الشعراء املنبوذون ..والصعاليك تسمية تطلق تميل إل��ى وض��ع ال�ف��رد ف��ي مستوى أخ�لاق��ي أع�ل��ى م��ن معايير
على جماعة من العرب في عصر ما قبل اإلس�لام ،عاشوا وأطلقوا املجتمع .وب��رز ذل��ك عندما ق��رر هكلبيري املساعدة في تحرير
حركتهم في الجزيرة العربية ،وينتمون لقبائل مختلفةُ ،عرفوا ُ بعدم جيم ،وه��و عبد معروف ،وه��ذه أح��د األمثلة العديدة التي تجعل
انتمائهم لسلطة قبائلهم وواجباتها ،حيث انشقوا عنها أو ط��ردوا هاك يتخذ خياراته الخاصة ويحافظ على شخصيته ...وتحيلنا
منها .ومعظم أفراد هذه الجماعة من الشعراء املجيدين ،وقصائدهم هذه النهاية إلى رواية «الطيران فوق عش الوقواق» لكني كيسي،
تعد من عيون الشعر العربي. ّ مع الفارق في خيار التحرر من اإلقصاء.
03 تمهيد
CULTURAL
ال�����ح�����ق�����وق ال���ث���ق���اف���ي���ة ال ي����وج����د ف�����ي ت���راث���ن���ا ◄
في ظل هذه الظروف الكونية املريضة ،كيف للفرد أن يحصل على حقوقه
ّ العربي مصطلح «ثقافة
الثقافية؟ ما املؤشرات التي ينبغي استخدامها لقياس وصول األفراد إلى اإلق���������ص���������اء» ..ف��ه��ي
هذه الحقوق؟ كيف يمكن بناء وتقوية حياة ثقافية تساهم في االندماج
االجتماعي واملشاركة؟ وه��ل لعبت املكتبات واملقاهي الثقافية ً
دورا في ت���س���م���ي���ة ح���دي���ث���ة م��ع
عملية الدمج الثقافي ما بني املثقف والجمهور؟ وهل تم إنشاء بيئة ثقافية
مواتية تعزز وصول األفراد إلى حقوقهم والشعور باملسؤولية االجتماعية. ك��ث��رة ال��ش��ع��راء والعلماء
لقد ك��رس ال�ق��ان��ون ال��دول��ي تقليديا الحقوق الثقافية ،وق��د حمى بشكل المنبوذين الذين أطلقوا
خاص مبدأ عدم التمييز بني الثقافات املختلفة ،وحرية الجماعات الفردية،
وال سيما األق�ل �ي��ات ،ف��ي م�م��ارس��ة أنشطتها ال�ث�ق��اف�ي��ة .ول�ك��ن ت��م تطبيق عليهم تسمية الخلعاء
«الحياة الثقافية» بشكل متزايد ليس على التعبير الفني أو حقوق األقليات
فحسب ،بل على مشاركة املجتمعات في تشكيل السياسات وحريتها في والصعاليك ..وغيرها
القيام بعمل جماعي.
ل ه���ذه ال��ظ��روف
ف��ي ظ��� ّ ◄
البيئة الصح ّية للعدالة الثقافية
الكونية المريضة ..كيف
الصحية للعدالة الثقافية ل�لأف��راد ،يجب أن ّ ولكي ننجح ف��ي خلق البيئة
ً ً ل��ل��ف��رد أن ي��ح��ص��ل على
معززا لإلبداع الحقيقي ومعبرا عن استقاللية الذات يكون النشاط الثقافي
ومكر ًسا مبدأ تكافؤ الفرص للجميع بال تمييز ،وليس كما يجري ً
حاليا، ّ ح��ق��وق��ه ال��ث��ق��اف��ي��ة؟ ما
وسط ترسيخ «ثقافة الشللية» التي طالت املؤسسات الرسمية واملشاريع
يقرب إليه املتملقني واملتزلفني الثقافية الخاصة ...فصاحب ّأي مشروعّ ، ال��م��ؤش��رات ال��ت��ي ينبغي
وي��دع��و ب�ين ال�ح�ين واآلخ ��ر وج��وه��ًا م�ع��روف��ة وم�ح��اي��دة م��ن ال �خ��ارج ل�ي��ذرّ
اس���ت���خ���دام���ه���ا ل��ق��ي��اس
بهم الرماد على العيون ،من جيوب العامة التي تهدر أموالهم املؤسسات
الثقافية الضعيفة ...ويظهر باعتباره املكافح األول في بناء الثقافة وراعي وص��ول األف���راد إل��ى هذه
اإلدم��اج الثقافي والتماسك االجتماعي ،من خ�لال ف��رض قيمه وفضائه
الثقافي املرتبط بخدمة سياسته ومصالحه الثقافية واملالية. الحقوق؟
هذه واحدة من أخطر انتهاكات الحقوق الثقافية لألفراد ،بتهميش وإقصاء
املنافسني والخصوم في حرب غير عادلة ،وتقريب املنافقني واملحسوبني
�ادي��ا ،وخ ��داع ال�ج�م�ه��ور ب�م�ش��روع ظ��اه��ره ثقافي وإب��رازه��م وتنفيعهم م� ً ال��ف��ط��رة السليمة تميل ◄
ً
ماليا واجتماعيا وفكريا .وتمثل هذه العصابات الثقافية ً وباطنه مشبوه ً
خطرا على الثقافة أكبر من الدكتاتوريات املستبدة والقيود املفروضة على ً إل�����ى وض�����ع ال����ف����رد ف��ي
الحريات والنشر ،ألنه ال حدود لها ،وغياب األطر لقياس هذه االنتهاكات م��س��ت��وى أخ�لاق��ي أعلى
أو ّ
الرد عليها.
ي�ج��ب أن ت�س�ت��وع��ب امل��ؤس �س��ات ال�ث�ق��اف�ي��ة م��ؤش��رات امل �ش��ارك��ة الثقافية من معايير المجتمع
للمثقفني وامل �ف �ك��ري��ن ال�ح�ق�ي�ق�ي�ين وال ت�ق�ت�ص��ر ع�ل��ى اب� ��راز ودع ��م ال��ذي��ن لغات التفاعل
صنعتهم بنفسها ،ف�ه��ذا األس�ل��وب ينبغي أال ي�ك��ون م��ن ص�ف��ات اإلدارة
الرشيدة وينسف األولويات الثقافية لألفراد واملجتمعات. ك��ان ه�ن��اك إح�س��اس ع��ام أن ظ�ه��ور ون�م��و وس��ائ��ل ال�ت��واص��ل االج�ت�م��اع��ي س�ت�ق� ّ�رب م��ا ب�ين ال�ب�ش��ر ،لشمولها ف��ردي��ة ال��ن��اس ال تنحصر
مساحات جديدة و«لغات» تفاعل متنوعة ،كي ال تصبح الشعوب غريبة ،ويلتقي الجميع على مائدة التطبيقات
◄
كـ«أصدقاء» ،غير أن غربة الفرد ازدادت ،فيما أصبح اآلخ��رون «أع��داء» .كيف حدد الناس من هو الصديق أو ً
ظاهريا ليسوا في أنهم
دور ال��ص��ح��اف��ة ال��ث��ق��اف��ي��ة الحليف أو العدو املحتمل؟ ملاذا؟ وكيف؟ وبأي طرق تم «استبعاد» األفراد والجماعات اجتماعيًا؟ هل املظهر
الجسدي أو السلوك ،املهنة ،الدين ،العرق ،الجنس ،املكان ،القناعات املسبقة؟ ما الذي حدث لجمهور وسائل م��ت��ش��اب��ه��ي��ن ف��ح��س��ب..
وتجب على الصحافة الثقافية مراقبة هذه الخروقات والتجاوزات والكتابة التواصل في «الداخل» أو في «الخارج»؟ ب���ل ف���ي ح��ق��ي��ق��ة أن��ه��م
عنها وتوضيح املعايير الدنيا لالستحقاقات الثقافية األس��اس�ي��ة التي العديد م��ن امل��ؤرخ�ين الحديثني للعالقات االجتماعية ،وت��اري��خ ال�ن��وع االجتماعي ،وت��اري��خ الجسد ،وال�ح��واس
يجب على الدول احترامها ،بغض النظر عن املوارد املتاحة .وتشمل هذه والعواطف ،خبراء عديدون من بينهم أدباء ومفكرون وعلماء ،تطرقوا إلى هذه القضايا ،ومع ذلك ،ال تزال هناك ي�����درك�����ون ال�����واق�����ع م��ن
املعايير حماية التراث واملمتلكات الثقافية ،وحرية استخدام لغات األقليات العديد من األسئلة األساسية حول طرق فهم الناس لتفاعالتهم االجتماعية وإدارتها .وملاذا انتشرت «ثقافة
وأفكارها ،وتنوع البرامج التعليمية وحماية الفنانني .ويمكن أن تستند اإلقصاء» على نطاق واسع حتى في غضون مناقشة قضايا بسيطة كالرياضة والتعصب لألندية والالعبني حولهم بطرق مختلفة
جزئيا إل��ى تصديق ال ��دول على التشريعات ال��دول�ي��ة املتعلقة ً القياسات وغيرها .كيف سيضع االجتماعيون الجدد نظرياتهم لبناء العالقات االجتماعية ،وكيف؟ وملاذا تم استبعاد
ّ
بحماية الحياة الثقافية واملشاركة فيها .فهناك فئات مختلفة مهمشة مجموعات وأفراد معينني من تفاعالت ومساحات اجتماعية معينة؟ وملاذا ساهم املثقفون أنفسهم في نشر
ً ه���ن���اك ف���ئ���ات مختلفة
ت�م� ً�ام��ا وال تستطيع امل�ش��ارك��ة ف��ي ال�ح�ي��اة الثقافية ،واع�ت�م��اد نهج جديد «ثقافة اإلقصاء» ،بدال من املساعدة في تعزيز التواصل ما بني األسرة البشرية واملجتمع الكوني؟ ◄
وديناميكي للحقوق الثقافية ،على عكس املنظور التقليدي من أعلى إلى ً
أسفل. ت���م���ام���ا وال ّ
م���ه���م���ش���ة
وضمن السياق الثقافي ،يجب على صانعي السياسات تشجيع املشاركة األسئلة المتعبة تستطيع المشاركة في
واإلح �س��اس باملكان واالن�ت�م��اء ف��ي فضاء امل��دي�ن��ة .ألن مشاركة املجتمع
املدني أم��ر أساسي لتعزيز التسامح واملشاركة املتساوية في املجتمع، كاف بنظريات الشمول واإلقصاء والعالقات االجتماعية ال تمكن اإلجابة عن هذه األسئلة املتعبة ،من دون إملام ٍ الحياة الثقافية ..لذلك
ال�ت��ي تحددها ال�ح��ري��ات الثقافية وتنوعها امل�س�ت��دام ف��ي الحياة الثقافية وتشكيل الهوية ،التواصل االجتماعي ومساحات للقاءات االجتماعية« ،االنطباعات األولى» في اللقاءات األولى،
واملستندة إلى خمسة عناصر أساسية :التعددية اللغوية ،والتعليم باللغة
ّ
املرئيات الخطابية للغرباء واملنبوذين من مجتمعاتهم وكمية الحق الذي يمتلكونه ضد الجماعة التي همشتهم، ينبغي اعتماد نهج جديد
ثقافيا ،والحريات الدينية ،والهويات املتعددة ...فهذه األم ،واملناهج املتنوعة ً التنمر وشن الحمالت التي تعزز سياسة القطيع إزاء قضية العناصر اإلقصائية ،املادية واملعنوية بما فيها ّ
العناصر غير قابلة ّ ودي��ن��ام��ي��ك��ي ل��ل��ح��ق��وق
للمس من أجل ضمان الحرية الثقافية .ولألسف قلة يتفق عليها الجميع بال نقاش.
ّ ً ال��ث��ق��اف��ي��ة ..على عكس
من الدول وحتى الكثير من الناس ،خاصة املشرعني ،يؤمنون بمقاييس ولدينا أيضا الحواس واملشاعر التي تراجعت مع العواطف اإلنسانية األخرى ،وتم استبدالها بالتنكر والخداع
الحقوق الثقافية القائمة على سن االلتزامات القانونية ،مع أن املجتمعات واملظهر ،الجمال ،القبح ،املرض ،والعجز ،الصراع واملشاجرات ،اإلشاعات ،الثرثرة ،االفتراء ،التشهير ...وغيرها
الحضارية تعطي األولوية لتكافؤ الفرص وصيانة التراث الثقافي وحماية من املوبقات املستندة إل��ى االنتماء الديني واملعتقد ،واالنتماء وال�ص��راع بني الطوائف واإلدم��اج واالستبعاد المنظور التقليدي من
ثقافات األقليات وحق الفرد في املشاركة في األنشطة الثقافية بعدالة. القومي والعرقي والتمثيل الجنساني في صراعه مع «اآلخر» ومن ثم يأتي دور املنحرفني واملجرمني الرسميني. أعلى إلى أسفل
الثقافي 04حوار
مخاضات الحداثة
* «الحداثة املنشودة هي تلك التي تضرب بجذورها عميقًا في البنيان
ّ ّ ً ّ قافيّ ،
الث ّّ ّ
قليدية املحافظة التي ياسي ،بديال للبنى الت الس االجتماعي،
ّ ّ ّ
ثقافيًا واجتماعيًا ،وتكف عن االتكاء على ما زالت تعيد إنتاج نفسها، الثقافة االستهالكية
الحائط» ،إلى أي حد تحققت الحداثة في دول الخليج؟
ّ ّ ّ ّ
النفط ،التي ترافقت مع ّ * تقول في كتابك «حداثة ظهرها إلى الجدار»ّ :
-في مدخل«حداثة ظهرها إلى الجدار» واملعنون بـ«مخاضات الحداثة» العاملية أساسية له في األسواق مصدرة تحول مجتمعات الخليج إلى «أدت طفرة أسعار
ّ ّ
تتوسل ّ ّ ّ ّ ّ ّ ّ
أش ��رت إل��ى م��ا ذه��ب إل�ي��ه م�ف�ك��رون وم�ث�ق�ف��ون ع��رب ك�ث��ر ،ف��ي امل�ش��رق واالتكالية» ،هل السهولة واالسترخاء استهالكية األعم ثقافة وثقافية فيها الكثير من مظاهر التشوه ،بوصفها في الغالب سلوكية إلى شيوع أنماط
واملغرب ،من تفريق بني الحداثة والتحديث ،وشخصيًا أتبنى هذا الرأي ما زال هذا التأثير السلبي مستمرًا؟
وأراه مهمًا لفهم ما مرت به مجتمعاتنا العربية كافة ،وليست مجتمعات -نمط الثقافة االستهالكية لم يعد حصرًا على مجتمعات الخليج العربي .مجتمعاتنا العربية جميعها ومن دون استثناء تعاني منه ،وإن بنسب متفاوتة ،وطبيعي
ّ
الخليج العربي وح��ده��ا ،من تحوالت في اتجاه التحديث ،ال��ذي يشمل أني تحدثت في ّ كتابي عن شيوعه في الخليج ،ألن موضوع الكتاب هو قراءات في التحوالت الثقافية في مجتمعات الخليج العربي ،وأشرت في الكتاب إلى أنه ليس
ً ّ لكن ّ الثرواتّ ،ّ ّ ّ
والت ّ من العدل أن نقلل من حجم ّالت ّ
إنجاز بنى تحتية حديثة ،بل ومتطورة للغاية ،كما هي فعال في بلدان الهوة بني هذه النهضة وبني وسع املستمر في الخدمات التي شهدتها مجتمعات الخليج بعد تدفق حوالت الكبرى
الخليج أو بعضها على األقل ،ومن تأمني الخدمات االجتماعية الضروية التحول االجتماعي -الثقافي التراكمي ما زالت شاسعة ،وقد أوردت هذا النمط االستهالكي من الثقافة كأحد التحديات التي تواجهها الثقافة في مجتمعاتنا، ّ
ّ ّ ّ
من تعليم وصحة وسواها ،وال شك في أن وفرة عوائد النفط ساعدت في فباإلضافة إليه تناولت جملة من التحديات األخرى ،ذلك أن الثقافة في بلدان الخليج العربي هي أحد روافد الثقافة العربية ،وهي في مرجعياتها وآفاق تطورها
ّ ّ ّ ّ ّ
إنجاز ذلك ،وكل ما أنجز مهم ،وال يجب التقليل من أهميته وانعكاساته العربية في لحظتنا الراهنة، التحديات التي تجابهها الثقافة العربية ،وهي بذلك تواجه -من حيث الجوهر -كل مرجعيات وآفاق الثقافة ليست منفصلة عن سياق
االيجابية على عيش الناس كما ذكرنا ،لكن من دون أن يدفعنا ذلك إلى ّ ّ
التطور الخاصة التي مرت وتمر بها هذه املنطقة ،من العزلة الطويلة إلى االنفتاح املفاجئ على العالم الذي جاء مع عائدات النفط ،أضافت تعقيدات ّ ّ
لكن ظروف
ّ ّ ّ تطور ّ أخرى بوجه ّ
القول إننا بلغنا الحداثة أو أنجزناها ،فهذا التحديث مهم لكونه يضع الريعية» في املنطقة ،حيث اعتاد االستهالكية» إال أحد املظاهر التي ترتبت على تشكل ما وصف بـ«الدولة ونمو هذه الثقافة ،وليست «الثقافة
مقدمات ضرورية للحداثة املنشودة ،التي ما زال دون بلوغها طريق ّ ّ
الناس ،أو قطاعات كبيرة منهم ،على «مغريات» ما أتاحته هذه الدولة من يسر ظاهري في العيش ،الناجم عن وفرة العائدات النفطية ،لكننا اليوم إزاء تحديات
طويل يتطلب تحديث البنى االجتماعية والثقافية والسياسية ،ولذلك ّ
الريعي الذي ساد لعقود آثاره، ّ
النفطية ،ما يجعل مجتمعات الخليج أمام مرحلة جديدة ،وكما كان للنمط جديدة ،تحديات ما بعد الدولة الريعية ،مع تراجع العوائد
شروطه ومستلزماته التي يجب الوفاء بها. فإنه ستكون ملا يليه آثار أيضًا.
05 حوار
CULTURAL
المدينة والريف ل��ي��س م��ن ال��ع��دل أن ن��ق ّ��ل��ل من ◄
وسع
والت ّ ّ حوالت الكبرى الت ّحجم ّ
* كيف لنا أن نتحدث عن الحداثة ونحن أخفقنا في تحقيق نهضة
عربية؟ ال��م��س��ت��م��ر ف���ي ال��خ��دم��ات ال��ت��ي
حوالت التي العربية علينا ّالنظر في طبيعة ّالت ّ ّ -لفهم انتكاسة الحداثة شهدتها مجتمعات الخليج بعد
ّ
ج��رت وتجري في البلدان العربية ،بما فيها ّالتحوالت الديمغرافية، تدفق ّ
حيث ّ الثروات ّ
الريف الذين يظلون يشعرون بالغربة يتكدس املهاجرون من ّ
ّ ّ ّ
ومعيشية صعبة ،وستشكل األجيال سكنية في املدينة وسط ظروف
ّ ّ
الجديدة من أبناء أحزمة الفقر وقودًا للحركات االحتجاجية الرافضة، ّ
ّ ي
الثقافة في بلدان الخليج العرب ّ ◄
الحقيقي ،كونها نتاج مجتمعات غير ّ التي تفتقد إلى برامج التحديث
مؤسسات املجتمع مدينية في األس��اس ،وه��ي لن تنخرط في بناء ّ ّ هي أحد رواف��د الثقافة العربية
والجوهر -نتاج املدينة، ّ وه���ي ف��ي مرجعياتها وآف���اق
السياسيةّ تنظم ّالنخب ّ املدني الحديث ،فهذه األخيرة هي -في األصل ّ
وهي بمنزلة األطر أو الهياكل التي من خاللها
وال� ّ�ث�ق��اف� ّ�ي��ة وس��واه��ا أن�ش�ط�ت�ه��ا ،لكنها ظ� ّ�ل��ت ف��ي ح� ّ�ي��زه��ا ال� ّ�ن�خ�ب� ّ
�وي
ّ
ت��ط��وره��ا ل��ي��س��ت منفصلة عن
املحدود ،رغم ما يتمتع به القائمون عليها من وعي وخبرة ،وإذا كانت
ّ ّ
سياق مرجعيّ ات وآف��اق الثقافة
ّ ّ ّ ّ
املعنية، العربية هذه النخب هي من أطلق ش��رارة ّالتغيير في البلدان العربيّ ة
ّ
أقلية وسط الطوفان الش ّ فإنها وجدت نفسها ّ ّ
عبي الغاضب ،اآلتي من
ّ ّ
مدينية ،والذي وجد مالذه في األفكار والتيارات املحافظة جذور غير
ّ ّ
واملتطرفة ،إزاء هشاشة وضعف البدائل الحديثة ،أو حتى ضعفها. تراجع وتقهقر ف��ض��اءات التنوير ◄
ّ ُ ّ
هذه بعض املداخل الضرورية التي تعني في التعرف إلى أسباب الكثير
ورثته من جينات في ُ من أوجه الخلل في مجتمعاتنا الحائرة بني ما ّ
نمو التيارات والحداثة لمصلحة
جبرة على التعامل معه بفعل جبروت الحداثة ،فال ُ تعمق المأزقّ المحافظة التي
السلوك ،وما هي م ّ
هي ق��ادرة على التخلص من تلك الجينات والقطع مع السلوك الذي ي القائم
�زج بنفسها في أت��ون الحداثة تأخذه إليها ،وال هي ق��ادرة على أن ت� ّ البنيو ّ
ّ ّ ّ
كلية مع ما يترتب على ذلك من أكالف -ال بد من دفعها -إن أرادت
ّ
هذه املجتمعات تجاوز حالة القلق والتذبذب بني قطبني ،أحدهما يجرّ
بالقوة إل��ى الخلف ،وال� ّ�ث��ان��ي ال يظهر م��ا ه��و الزم م��ن حسم ّ ّ نمط الثقافة االستهالكية لم ◄
لجرها ً
نحو األمام. التحوالت المهمة حصرا على مجتمعات الخليج يعد
ال��ع��رب��ي ..فمجتمعاتنا العربية
الجيل الحالم * على الرغم من سهولة العيش املادي في دول الخليج وتيسر التعليم ،فإن عددًا ال بأس به
ج��م��ي��ع��ه��ا وم���ن دون اس��ت��ث��ن��اء
من الشباب الخليجي انخرط في صفوف جماعات متشددة كالقاعدة وغيرها ،هل من تفسير
* هل تعتبر نفسك من جيل الهزيمة (هزيمة )67؟ لذلك؟ تعاني منه
-نعم أن��ا انتمي للجيل ال��ذي تفتح وعيه على الدنيا مع نشوء هذه -لنشوء ظاهرة التطرف واالتجاهات اإلرهابية أكثر من سبب ،بينها بالتأكيد العامل االقتصادي
الهزيمة ،ورغ��م ذل��ك ،ف��إن جيلنا ك��ان ح��امل��ًا باملعنى الدقيق للكلمة، الذي يحفز قطاعات من الشباب العرب في البيئات الفقيرة لاللتحاق بها ،ولكن هناك عوامل يجب النظر إلى ّ
فالسبعينيات كانت بداية العد العكسي للنهوض الوطني والقومي، ّ تعبئة فكرية وسياسية اضطلعت بها دول كبرى وإقليمية بما يخدم مصالحها ،فكيف لنا الثقافة بوصفها ◄
لنكتشف الحقًا أننا ،كجيل ،كنا نعيش ما يشبه صحوة املوت من أن ننسى أن تنظيم القاعدة إنما نشأ ،أول مرة ،في أفغانستان التي جرى إرسال الشبان من صناعة ثقيلة تحتاج إل��ى بنية
دون أن ندرك ،حيث أوهمنا أنفسنا بأن الهزيمة التي حدثت في 1967 مختلف البلدان العربية ،بما فيها بلدان الخليج ،إليها لالنخراط في ميليشيات ممولة ملواجهة
ّ ِّ
مؤقتة ،وأنها قد تشكل قاعدة أو منطلقًا إلعادة الثقة بالنفس وإحراز الوجود السوفيتي يومها ،وعن «القاعدة» تفرعت تنظيمات عديدة بينها «داعش» نفسها ،في أس���اس���يّ ���ة ق���ويّ ���ة وأن يتجلى
ّ
العربي العامَّ .أما على الصعيد الخليجي، ّ النصر .هذا على الصعيد ظروف ما بعد عام ،2011وترافق ذلك ما مع أطلق عليه «الصحوة» ،التي هي في الجوهر ردة ذل��ك في اإلن��ف��اق على الثقافة
ُّ ّ
السبعينيات هي مرحلة االستقالل وتشكل الدول الحديثة وبناء فإن عن منجزات كثيرة بلغتها مجتمعاتنا ،ونحن محظوظون أننا بلغنا املرحلة الراهنة التي يجري ً
استثمارا في المستقبل بوصفها
م��ؤس�س��ات�ه��ا ،م��ا وض��ع ع�ل��ى ع��ات��ق جيلنا م �ه��ام ال�ع�م��ل ف��ي سبيل فيها إعادة النظر في هذه السياسات ،من خالل التحوالت املهمة جدًا الجارية في اململكة العربية
استكمال هذه املهام ،ولم تكن تلك مهمة سهلة على كل حال. السعودية والتي ستكون لها ،بالتأكيد ،انعكاسات على بقية بلدان املنطقة.
ال يمكن فصل الثقافة عن كامل ◄
الفلسفة والحياة
الثورة الثقافية هذه المنظومة من الشروط التي
* ما الذي يمكن أن تضيفه الفلسفة إلى حياة املواطن العربي؟ تتطلب إع���ادة النظر ف��ي أنظمة
ّ
وأن ّ ّ ّ
-إه �م��ال ت��دري��س الفلسفة ،أو ض�ع��ف ه��ذا ال�ت��دري��س ف��ي م��دارس�ن��ا ثمة حاجة لجهود ليست يتنحى من مواقعه من تلقاء نفسه، * تقول «ألن هذا القديم لن
التعليم وال��م��ق��ررات ال��دراس��ي��ة
وجامعاتنا أدى إل��ى م��ا وصفه أح��د األس��ات��ذة م��ن امل�غ��رب بالفساد قليلة إلزاحته -بدل االحتماء بالجدار» ،هل هي الحاجة إلى ثورة ثقافية؟
املعرفي ،وما زال متعينًا إعادة االعتبار للفلسفة كمادة ومنهج سواء « -ال �ث��ورة الثقافية» مطلوبة بالتأكيد ،ولكنها ج��زء م��ن منظومة كاملة للتغيير ،اجتماعية لتواكب العصر
محصن ضد ّ لتطوير فكر نقدي وعقالني ،أو لتكوين إنسان جديد واقتصادية وسياسية ،فال يمكن فصل الثقافة عن كامل هذه املنظومة من الشروط التي تتطلب
ال�ت�ط��رف وال�ت��زم��ت ،ورغ��م أن بعض ال�ب�ل��دان العربية ،خصوصًا في إع��ادة النظر في أنظمة التعليم واملقررات الدراسية لتواكب العصر ،بتحرير هذه املقررات من
ً ع��دم ج��واز الحديث المبالغ فيه ◄
املغرب العربي ،كتونس واملغرب مثال ،اللذين عرفا بعد ّاالستقالل حشو الخزعبالت املعشعشة فيها منذ عقود ،وتمكني مؤسسات املجتمع املدني الحديثة من أن
تكون شريكًا ّ
اهتمامًا بتدريس الفلسفة في الثانويات ،لكن سرعان ما قل االهتمام يعتد به في البناء املجتمعي الذي نتطلع إليه. ح��ول «الخصوصية» الخليجية..
ب��ذل��ك ،م��ا أض�ع��ف ال ��دور ال�ن�ق��دي وامل�ع��رف��ي ال��ذي ك��ان��ت ت�ق��وم ب��ه في * إذا أردنا فهم العقلية الخليجية مقارنة بما هو موجود في املنظومة العربية؟
ّ
الستينيات ،وال ��ذي م��ث��ل ح�ص��ان��ة للمجتمع ب��وج��ه ال�ت�ط��رف ،وخلق -أك��رر القول بعدم ج��واز ه��ذا الحديث املبالغ فيه ح��ول «الخصوصية» الخليجية .نحن جزء
ن��ح��ن ج���زء ال ي��ت��ج��زأ م���ن ال��وط��ن
تقاليد طيبة في الوعي الفلسفي في األوس��اط األكاديمية والثقافية، ال يتجزأ من الوطن العربي ومن ثقافته وعاداته ،وآن األوان للكف عن النفخ في موضوع هذه العربي ومن ثقافته وعاداته
نجد آثارها واضحة في املساهمة النقدية للمغرب في الجدل الثقافي «الخصوصية» سواء من أبناء املنطقة أنفسهم أو من أشقائهم العرب .الخليج شهد ّ
تحوالت
وال�ف�ك��ري ف��ي العالم العربي جدير بأمة قدمت ف��ي تاريخها للعالم مهمة خالل العقود املاضية ،فيها إيجابيات وفيها سلبيات ،يجب النظر إليها باهتمام ودراستها
النخب هي من أطلق شرارة ّ
التغيير ّ
أسماء بوزن ابن باجة وابن طفيل وابن رشد وابن عربي ،ونحو دائرة
ُ
وتحليلها ،ومغادرة الصورة النمطية املأخوذة عن هذه املجتمعات ،ليس ألننا ننفي بعض مظاهر ◄
أوسع من املعرفة يمكن أن نشير إلى ابن خلدون ،أن تواصل التقاليد
ّ
التطور الخاصة باملنطقة ،ولكن ه��ذه الخصوصية تنطبق على كامل املجتمعات العربية من في البلدان العربيّ ة المعنيّ ة..
املضيئة التي أرسى قواعدها هؤالء الكبار ،وأن تكف عن الخشية أو دون استثناء ،فاملؤكد أن لبلدان املغرب العربي بعض الخصائص في التطور مختلفة عن تلك
التردد في إث��ارة أسئلة الفلسفة في مدارسها وجامعاتها ،وتعويد املوجودة في بلدان املشرق العربي ،التي علينا فهمها ،لكن ال لكي نبالغ في حجمها ،ونغفل لكنها وجدت نفسها أقليّ ة وسط
ي الغاضب اآلتي ّ ّ
أذهان الناشئة على التفاعل مع هذه األسئلة ،لكي تتحول منظوماتنا املشتركات وأوج��ه التشابه الكثيرة وف��ي مختلف امل�ج��االت التي تكاد تحتكم لنفس القوانني الطوفان الشعب ّ
التعليمية إلى منظومات لتحرير العقل ،ال إلى قهره. واآلليات. من جذور غير مدينيّ ة
الثقافي 06قراءات
■ التنمية القائمة على أسس ثقافية ■ إذا ك��ان التاريخ هو حركة الزمن
ووع���ي قيمي وف��ض��اءات إبداعية داخ�������ل ال��م��ج��ت��م��ع وم���وض���وع���ه
تجعل من الحضارة حركة اجتماعية اإلن�����س�����ان ..ف��م��ا ال�����ذي ي��دف��ع��ه
متكاملة اإليقاع للنهوض؟
شخصية غامضة
طالب الرفاعي
يجد ُد بريق الرواية الواقعية ويعيدها إلى الواجهة
ّ
د .جعفر الهدي
ما إن تنهي قراءة الصفحة األوىل من رواية «خطف احلبيب» للكاتب الكوييت طالب الرفاعي ،حىت تشعر أبن جلدك قد تلطخ
تتحسس الدم الساخن .تبدأ هذه الرواية مبشهد ضارب اجلذور يف الواقعية جيعلك
يشم رائحة زخنة من ذلك ّ
أنفك صار ُّ ابلدمَّ ،
وأن َ ّ
ُ
الدم
ّ أن الصفحة بنهاية تكتشف
ُ أنك رغم وجسدك، مالبسك إىل يصل مل الورقة تلك على تفجر الذي مدّ ال أن لتتأكد جلدك،
املتفجر ليس إال مشهداً يف حلم.
«خطف الحبيب» أم «أبواب الجنة»؟ بهذه البداية ،يدير الرفاعي الدفة ليعيد الرواية الواقعية إلى واجهة املشهد
السردي العربي ،ففي الصفحة األول��ى من الرواية التي تنافس هذا العام
بني العنوان العربي للرواية« :خطف الحبيب» وهو األصل ،وبني العنوان املترجم للفوز بجائزة األدب العربي في فرنسا ،بعد وصولها إلى القائمة القصيرة
عن الفرنسية« :أبواب الجنة» ،نجد أن العنوان الجديد قد حقق الهدف األساسي في نسختها املترجمة للغة الفرنسية تحت عنوان« :أب��واب الجنة» ،يظهر
من الترجمة الروائية ،وهو التعرف على ثقافة اآلخر ،وقد جاء ذلك في سياق �ازم على كتابة نص واقعي ،وسط موجة من رواي��ات بجالء أن الكاتب ع� ٌ
تعزيز واقعية الرواية ،فعنوان خطف الحبيب يلخص خيط الحكاية بهذه الرواية الفانتازيا والرمزية وروايات الخيال التي تغرق املكتبة األدبية العربية.
الشيقة ،وه��و يلخص وي��رم��ز إل��ى اخ�ت�ط��اف الفكر امل�ت�ط��رف ل��ذل��ك ال�ش��اب ابن
املليونير الكويتي الليبرالي ،الذي يغامر بالسفر إلى قلب املناطق التي يسكنها الواقعية والفانتازيا
اإلرهابيون ،حيث ُيختطف من قبل جماعة متحاربة مع جماعته ،حواضنهم
التي تجعل من الصعب اختراقهم ،لكنه وم��ن خ�لال تعرفه على فتاة إيرانية عشرات من رواي��ات الفانتازيا والسحر ،حيث تهرب الكثير من األق�لام
تعمل ف��ي ش��رك�ت��ه ،ي�ق��رر خ��وض امل�غ��ام��رة ،حيث ت��رت��ب ال�ف�ت��اة لسفره ولقائه املبدعة إلى عوالم ُمتخيلة ،أبطالها ليسوا بشرًا ،وال حتى كائنات فضائية،
ُ
باملجموعة اإلرهابية التي تطلب فدية بمبلغ كبير. إنها عوالم غريبة نسجت ببراعة في روايات كثيرة صدرت بالعام نفسه
أما عنوان «أبواب الجنة» ،فهو يأخذنا إلى ما وراء خيط الحكاية ،حيث الجذور الذي صدرت به رواية «خطف الحبيب »2022عن املركز الثقافي للكتاب
ً
الفكرية التي أدت إلى هروب ذلك الشاب ،وتوليه منصب إمارة الجماعة املتطرفة، بالرباط ،فمثال نجد رواية «عصور دانيال في مدينة الخيوط» للكاتب أحمد
ثم اختطافه من قبل جماعة إرهابية أخرى ،حيث يبرز سؤال عميق لدى املتلقي ُّ
ترسم سكان مدينة كاملة من الدمى التي تنفلت من خيوط ُ عبداللطيف
َ
في الثقافة الغربية ،وهو« :ما الذي يحمل ابن مليونير ُمن ّعمًا على الذهاب إلى املاريونيت ،لتتشكل عائالت من الدمى بعيون زجاجية مثيرة للدهشة .أما
أتون املوت؟» .لذا ،أجد في العنوان املترجم ذكاء ،آخذًا املتلقي املختلف للسياق في رواية تماثيل الجن للكاتبة سمر نور ،فنرى األسطورة تتشكل بثوب
ً
الثقافي ال��ذي ُبني النص على أس��اس��ه ،فاملتلقي للرواية سيعرف م��ن العتبة عصري ،حيث ترسم الكاتبة عاملًا متخيال للجن في عوالم ألعاب ّالفيديو،
األولى للنص أنه ليس أمام رواية بوليسية تحكي قصة اختطاف شاب غني. ليبرز قالب فانتازي نرى فيه الجن بأشكال جديدة لم نتخيلها قط.
يعتقد بعض النقاد بأن الواقعية تعني تجسيد الواقع بكل أبعاده :العظيمة
تأويالت النص وال�ت��اف�ه��ة ،وق��د ب��رزت ه��ذه النظرية األدب�ي��ة م��ن خ�لال امل��درس��ة الفرنسية
التي انتفضت على االتجاه الرومانسي ،الذي كان الطابع العام للنصوص
ومن املؤكد أن املتلقي الواعي سيتساءل عن أبواب الجنة التي أشار إليها العنوان، األدبية خالل القرن التاسع عشر .لقد برزت املدرسة الواقعية كمدرسة في
وسينفتح هذا السؤال على أسئلة أكثر تشظيًا ،أهمها :ملاذا لم ّ
يصدر املترجم األعمال ،ومنها رواية« :مدام بوفاري» للكاتب الفرنسيّ فلوبير، الكثير من ّ
الرواية بعنوان« :أب��واب الجحيم»؟ أليس الحقيقة أن اإلرهابيني يطرقون أبواب الذي جسد كل ما هو وضيع وحقير على أرض الواقع ،مقابل كل ما هو
تشرب بالواقعية التي اتصف بها النص الجحيم؟ صحيح ذلك النص املترجم ّ نبيل ورفيع ،وبهذا العمل وغيره تشكلت حركة واعية ق��ادرة على إنتاج
األصلي ،فاقتبس من املرويات ما يشير إلى أبواب الجنة الثمانية ،ومنها باب نصوص تترجم فلسفة الواقع وال تنقله كما يحدث.
الجهاد الذي تتمسك به «داع��ش» ،واملنظمات اإلرهابية ،كباب للقتل واإلره��اب زخ��م الواقعية ال��واع�ي��ة ستجده ح��اض�رًا ف��ي صفحات ه��ذه ال��رواي��ة التي
للعبور للجنة( .راجع كتاب «أبواب الجنة :محمد سعد عبدالدايم). تتحدث عن ه��روب اب��ن مليونير كويتي ليلتحق ب��داع��ش ،ويصبح أميرًا
وم��ن املفارقة أن كاتب ال��رواي��ة طالب الرفاعي اعتبر العنوان املترجم« :أب��واب لجماعة جهادية في س��وري��ا ،وتصبح كنيته أب��و الفتح الكويتي .يضعك
الجنة» أكثر انفتاحًا على ت��أوي�لات النص ،خصوصًا في ما يتعلق بتفسير الكاتب أم��ام ه��ذا املشهد بواقعية صادمة حني يقول :قبل أكثر من سنة
أسباب التحاق الشاب أحمد وهو ابن بطل الرواية «يعقوب» املليونير الكويتي علي عثمان بوجه لم أستطع تفسير نظرته ،لينقل الخبر« :أحمد دخ��ل ّ
باملنظمات اإلرهابية ،ليبني أن التفكك االجتماعي هو السبب األبرز في كل هذه ص��ار أم �ي �رًا ل�ج�م��اع��ة ج�ه��ادي��ة ف��ي س��وري��ا ،وأص�ب�ح��ت كنيته أب��و الفتح
الحاالت. الكويتي!» ص .11
13 مراجعات
CULTURAL
ال���ع���ن���وان ال���ج���دي���د ح���ق���ق ال����ه����دف األس����اس����ي م��ن ■ اشتغال الحوافز السردية
ال��ت��رج��م��ة ال��روائ��ي��ة وه���و ال��ت��ع��رف ع��ل��ى ث��ق��اف��ة اآلخ��ر جاءت بنية النص متماسكة من حيث ترابط عناصر الرواية،
وهي« :الزمان واملكان والحبكة والحوار والخاتمة» ،فزمن الرواية
هو الحاضر الذي نعيشه ،حيث ال تزال املجتمعات العربية ُّ
وج������اء ذل�����ك ف����ي س���ي���اق ت���ع���زي���ز واق���ع���ي���ة ال����رواي����ة تئن
من أثر ظاهرة اإلرهاب ،وال ّ
شك في أن تناول موضوع من هذا
يحتاج إلى جرأة كبيرة ،فاملوضوع يالمس أطرافًا عدة، النوع ِ ُ
أولها الجماعات اإلرهابية ،وقد تمثلت في «أحمد» ابن املليونير،
المتلقي للرواية سيعرف من العتبة األول��ى للنص أنه ■ ثم الفئات أو األف��راد الداعمني لهذه الجماعات من خالل الدعم
امل��ال��ي ،أو النفسي ،أو غيرهما ،وق��د تمثل ف��ي ال��رواي��ة بمدير
ليس أمام رواية بوليسية تحكي قصة اختطاف شاب غني مكتب املليونير «يعقوب» وهو أخو زوجته« :عثمان» ،وأخيرًا
هناك البسطاء الذين تأذوا من الجماعات اإلرهابية ،وقد مثلت
الرواية ذلك بالضرر الذي وقع على أقرب الناس للشاب أحمد
عبر عن ذلك بوصولهما وهم أسرته القريبة( :أمه وأخته) ،وقد ّ
بنية النص متماسكة م��ن حيث ت��راب��ط عناصر ال��رواي��ة، ■ إلى حالة الخوف منه ،فهو يقول حينما سألته أمه عن سبب
رفضه للطعام الذي توصله إلى غرفته إن الخادمة نصرانية،
وه��ي« :ال��زم��ان والمكان والحبكة وال��ح��وار والخاتمة» وق��د ت�ك��ون ك��اف��رة ،وه ��ذا م��ا يتضح ف��ي ال �س��رد ،ح�ي��ث ي�ق��ول:
«أخبرتني شيخة بأنها فوجئت من إجابته ،وأنها تبلبلت ال
«صرتُ حسها وهي تدفع باكية».. تدري ماذا تفعل؟ وتحشرج ُّ
ُ
وأخته نخاف منه» ( -صفحة ،)88ولك أن تتخيل حجم املأساة
حينما يصل الحال في األس��رة الواحدة إلى درج��ة خوف األم
من ابنها.
محفزات الرواية
وق��د ت�ض��اف��رت م�ح�ف��زات ال��رواي��ة ،وأه�م�ه��ا ال�ع�لاق��ة ب�ين البطل
«ي �ع �ق��وب» وال �ش��اب��ة اإلي��ران �ي��ة «ف ��رن ��از» ،ال�ت��ي ج� ّ�س��ده��ا النص
بسؤال يعقوب لنفسه ،بعد أن استعرض عثمان ملفها ،فقال:
«في الرابعة والعشرين من عمرها ،مولودة في الكويت ،عزباء..
إيرانية ،شيعية» ،ليخنس يعقوب بأفكاره ،ويسأل« :ماذا أريد
�ذه ال�ب�ن��ت؟» ( -صفحة ،)40بالرغم م��ن تعلقه الشديد م��ن ه�
وغ�ي��ر ُاملفسر ب�ه��ا« :خ�ي��ال ف��رن��از ممسك ب��ي ،م��ا ع� ُ
�دت ق��ادرًا
ً
على الفكاك منه» ( -صفحة « .)43ظل بالي مشغوال بفرناز»
( -صفحة « .)41معقول يسيل لعابي على فتاة في مثل عمر
ابنتي؟» ( -صفحة ،)37وقد ارتبط هذا املحفز بأهم محموالت
الرواية ،وهو إجابة السؤال املعقد :ملاذا يترك شاب كويتي حياة
ُ
املسكوت عنه، الرفاهية ،ويلتحق بالجماعات اإلرهابية؟ ليظهر
وهو أن جمود العالقات الزوجية في أجواء الثراء يفرض نمطًا
هشًا من العالقة ،حيث يسكن الزوجان في غرفتني منفصلتني،
وت �ت �ح��ول ...ال�ن��ص زاخ � ٌ�ر ب��ال�ف�ق��رات امل��وح�ي��ة ع��ن فلسفة ه��ذه
العالقة الغريبة التي تمتاز بالفتور واملتانة في الوقت نفسه،
تضافر األحداث والحوار القرب والبعد ،الحب والكره ،وسأكتفي بأجمل فقرة في الرواية
ّ
ظل السرد في الرواية يتصاعد مع تصاعد األحداث في عدة مسارات متناغمة ،أبرزها مسار رحلة «أحمد» من الكويت إلى األردن ثم تركيا وحتى وصوله إلى إدلب في تلخص العالقة وهي على لسان «شيخة»« :صباح اليوم لحظة
سوريا ،فتقلده منصب أمير الجماعة ،وما يتعلق بموقف «عثمان» الداعم للجماعات اإلرهابية ،حيث تكشف األحداث تشجيعه ألحمد ،ووقوفه إلى جانب إمام املسجد أن خرج هو إلى الشركة ،ترك رائحة عطره لتحتل غرفتي .فجأة
يشك «يعقوب» بوجود عالقة بينه وبني الجماعة التي اختطفت «أحمد» ،ويكشف ذلك أن الداعمني للجماعات الذي يدرسه ،ثم اطالعه على تفاصيل رحلة أحمد حتى ّ قلت له :عطرك منعش ،لكنه لم كنت قد ُ عليُ . هجم بكاء ثقيل ّ
اإلرهابية كانوا سماسرة من وراء الستار. علي .قبلني كأنه يلعس لقمة ال يشتهيها ،وحني مشيتُ يرد ّ
إلى جانب ذلك مسار العالقة بني «يعقوب» و«فرناز» ،هذه العالقة التي بدأت تتعقد مع تفكك العالقة مع «شيخة» الزوجة الغارقة في الدالل والضجر ،وقد أخذ هذا املسار إلى جانبه كنت أشعر بضيق أنفاسه من وجودي إلى جانبه، ُ
أبعادًا متعددة ،منها تسليط الضوء على املجموعات التي تعيش في الهامش ،وكيف يصبح أفراد هذه املجموعات فرائس لألثرياء ،فـ«فرناز» الجميلة تبحث عن عمل حزن قلبي فتوقفت» ( -صفحة .)19 ولحظتها تحرك ُ
لتتمكن من أن تسند أباها الذي يكاد يسقط من متاعب الحياة ،ووسط تلك العيشة الصعبة تحصل على فرصة عمرها بالعمل في شركة «يعقوب» الذي يغرم بها من ه��ذه العالقة املمتلئة بالترفيه( :ال��رح�ل��ة األسبوعية للشاليه.
النظرة األولى ،ويبقى يالحق خيط العالقة من دون أن يعرف حقيقة شعوره .بهذه األسرة الفقيرة يشتغل األب على سيارة نقل قديمة «بيكب» .ابنته الكبيرة «صافي» الهدايا الكبيرة بعيد ميالد بنت املليونير يعقوب .اإلفطار يصل
باق في إيران ألن السلطات لم تقبل بمنحه اإلقامة.
فتاة مطلقة عادت إلى منزل األب وعلى كتفها طفل رضيع ،وأخوها رضا الذي ولد وعاش في الكويت ٍ إلى السرير من يد الخادمة .قضاء الليالي في الفنادق الفخمة...
يرتبط املساران عندما تصل األحداث للعقدة ،وهي لحظة اختطاف «أحمد» ونقله إلى إيران ،إذ تبرز فكرة سفر «يعقوب» لدفع الفدية وإنقاذ ابنه من براثن اإلرهابيني، مشوهة ،بحيث أصبحت الزوجة إلخ) ،هذا الخليط أوجد عالقة ّ
ُ
فيظهر حافز العالقة بني «يعقوب» و«فرناز» ممن خالل ظهور شخصية «رضا» التي سلطت الضوء على األوضاع في بلدان إيران ،وكيف يتوق شاب من أصول إيرانية ت�ش�ت��اق ل�ل�ق��اء ال ��زوج املنشغل ب��ال�ص�ف�ق��ات ،وال�س�ف��ر ملالحقة
للعيش في الكويت ،وهي مفارقة مع هجرة «أحمد» من الكويت إلى سوريا. «صرت أشتاق إلى وجودي مع يعقوب» ُ أعمال عقود شركاته:
«رضا» يوافق على طلب أخته «فرناز» استقبال يعقوب ،وأخذه إلى اإلرهابيني بمنطقة على الحدود اإليرانية األفغانية ،ويرتبط رضا بيعقوب بحيث يتعجب األخير ( -ص�ف�ح��ة ،)19ل�ي�ت�ف��اج��أ ال ��زوج ��ان ب��ال�ت�ح��اق اب�ن�ه�م��ا أحمد
بأن مجرد توصية «فرناز» هي ما تحمله على ركوب هذه املجازفة الخطرة ،ليكتشف في اللحظات األخيرة أنه ضابط مسلح ،وفي تلك اللحظات الحاسمة يظهر خبراته بجماعة داعش في سوريا.
في التعامل مع اإلرهابيني ،فيوصي يعقوب بأال يحول مبلغ الفدية (عشرة ماليني دوالر) إال بعد أن يترجل أحمد من سيارة الخاطفني ،وأال ينزل هو من السيارة مهما ل��م يتغافل ال�ك��ات��ب ع��ن اإلش� ��ارة ل�لأس�ب��اب امل�ب��اش��رة لظاهرة
ُ ً ً
يسمع دوي صوت رصاصة من بني األشجار خلف حصل ،لكن يعقوب يضعف حينما يرى أحمد وهو بحالة رثة ،فينزل مترجال الحتضان ابنه ،لكنه بدال من ذلك اإلره� ��اب ،وق��د ع� ّ�ب��ر عنها ب�ف�ق��رة ذه ��اب ي�ع�ق��وب إل��ى املسجد
أحمد ،لينكشف أن اإلرهابيني ال يحفظون العهود فقد كانوا عازمني على قتل املخطوف بعد تسلم مبلغ الفدية. بعد صالة املغرب وإمساكه باملعلم املصري ،وحدوث مشادة
لقد كانت األحداث تتصاعد متضافرة مع الحوار الذي كان يدور بني يعقوب ورضا ،وبني يعقوب واإلرهابيني من خالل الرسائل النصية واملكاملات السريعة ،بحيث بينهما اتهمه فيها بإفساد عقول األوالد الصغار ،وكان أحمد
كنت أحاول أن أقرأ الحوار بصوت منخفض ،لئال يسمع اإلرهابيون وصايا «رضا» لـ«يعقوب». أشعر أنني كمتلقي ألهث وأنا أقرأ الحوار ،حتى أنني ُ حينها بعمر الرابعة عشرة ،حيث توقف عن الجلوس واألكل
مع العائلة ( -صفحة .)35
* أكاديمي وكاتب بحريني
الثقافي 14تراث
ت�������م�������ث�������ي�������ل�������ي�������ة ال������ح������ك������ي������م رح��ل�ات ال��ح��ك��ي��م إل���ى ال��ري��ف ما قاله لتوفيق الحكيم
ٌ
وفي ما بعد ذلك تأتي تمثيلية أخرى تضم أقوال حمار الحكيم ،وعنوانها« :حماري والذهب»، وذكر الحكيم رحلة أخرى قام بها إلى الريف بعد زمن ،وقد أحب أن يصطاد توفيق الحكيم
ّ ثالثًا :ونمضي اآلن مع األديب املعروف
َّ
ومن أجل أن نحيط بها ،فإننا ال ُبد أن نذكر َ هذا الجزء الذي ابتدأ به منها: مستأجر ،وكانت له معه حكاية ،فهو من
َ السمك ،فاضطر إلى ركوب حمار ُ وحماره الذي كان يتحدث إليه ،ويقول له كل شيء،
«رأيت حماري ذات يوم مفكرًا مهمومًا ..ف َجل ْس ُت بجواره صامتًا محترمًا ما هو فيه ..إلى أن نوع الحمير التي تنقل األثقالَ ،و ُي َح ِّمل َها أهلها ما ال تطيق من املشقة والجوع، وقد ألف من أجله كتابه« :حماري قال لي».
أحس بوجودي ..فرفع رأسه نحوي ..وجرى بيننا هذا الحديث: ّ فوجده كما توقعه جائعًا متعبًا أشد التعب .ولكن الحكيم بذل من جاهه مع وك ��ان ه ��ذا ال �ك �ت��اب ق��د ط�ب��ع ل�ل�م��رة األول� ��ى ف��ي سنة
الحمار :وأخيرًا؟.. أصحاب الحمار ما جعله يستمتع باألكل والشراب ومغازلة حمارة مثله. 1945م.
الحكيم :وأخيرًا ماذا؟.. ويقول« :فرغت من صيدي ،فركبت الحمار عائدًا ،وهو يركض بي كالريح اب �ت��دأ ال�ح�ك�ي��م ك�ت��اب��ه ه ��ذا ب� َّف�ص��ل ع �ن��وان��ه« :م ��ن هو
َ
الحمار :مستقبلي ..ألم تفكر في مستقبلي؟ بعد أن كان يمشي الهوينى في طريق الذهاب ،وليس هذا بعجيب ،فقد أكل حماري؟» ،فذكر في ُم ْست َهله أن للحمار في حياته
الحكيم :عجبًا ...ألول مرة َ َأسمع حمارًا يتحدث عن مستقبله! سرني وأسعدني أنني قد وتنزه وغ��ازل .إنها لحظة من الهناء قد َّ وش��رب ّ ش��أن��ًا ،وأن��ه ك��ان ي��راه ف��ي طفولته على هيئة جحش
الحمار :ما َو ْج ُه العجب؟ ..أل ْست مخلوقًا حيًا يعيش خاضعًا لقانون الزمن؟ ..أليس لي ماض أتحتها له». صغير وجميل ،وكان أهله قد اشتروا له هذا الجحش
وحاضر ومستقبل مثل جميع املخلوقات والكائنات؟ ..لقد عشت معك حتى اآلن عاريًا ..ال ولقد جرى على هذا الحمار ما جرى على سابقه ،وأتم الحكيم بهذه النهاية رغبة في إسعاده ،وأبقوه في الريف ،فيراه في أوقات
سرج ذهبًا ..وال «رشمة» فضة ...وال برذعة مرصعة ...وال... حديثه عن الجحش القديم ،والحمار الذي أشركه في التمثيل ،والحمار الذي النزهة عند العطالت الرسمية.
الحكيم :شيء جميل! ..أهذا ما يشغلك اآلن؟!.. نقله إلى صيد السمك ،والحمارة الجميلة. جحش ِه هذا حتى َ
بمالع َب ِة وبقي صاحبنا مستمتعًا
ِ
الحمار :ه��ذا م��ا يشغل ال�ي��وم ك��ل إن�س��ان ..إن ال�ن��اس كلهم م��ن حولنا يفكرون ف��ي ال��ذه��ب.. ثم أخذ يقارن بني هذه الحمير األربعة. فرقت األيام بينهما. َّ
ُ َ
ويعيشون للذهب.»... وقال في فصل ثان من كتابه جعله تحت عنوان« :حماري والطوفان» ،إنه َ وعاد الكاتب بعد سنني إلى الريف ليجد جحشه قد
وإذا كان األمر كذلك ،فالحمار -أيضًا -يفكر في العمل السياسي ،وله صالت مع عدد من جال َس حماره يومًا ،وال بد أنه حمار مختلف عن غيره ،ممن سبق له ذكرهم، كبر سنًا ،وتغيرت هيئته لكثرة األعمال التي كانت
ُ َ
عرف به توفيق الحكيم البشر أورد حديثه عنهم أو معهم بعد ذلك ،وفي نهاية الكتاب فصل ّ وقد عرف من نظرة عيني الحمار أنه يقول له: ت�س��ن� ُ�د إل�ي��ه ،وم��ا أن رأى صاحبه العائد م��ن املدينة
وهو عداوة املرأة. « -أخشى أن يثور كبرياؤك -ذات يوم -فتترفع عن مجالسة مثلي». حتى بادره بالقول:
ً ً
وملا كان الحكيم يعمل في سلك القضاء -وقت ذاك – وكيال للنيابة ،فقد كتب عن أحداث فرد الحكيم قائال: -ل�ق��د ذه�ب��ت ال�ط�ف��ول��ة ،وج ��اءت أي ��ام ال�ش�ق��اء ،فحزن
ً صاحبهّ ،
مرتبطة بهذا األمر ،ولها صفة املشاركة مع الحمار ،ومن ذلك: « -وأنا أخشى أن يركبك الوهم ،فتحسب أال فرق بيني وبينك» .ولكن الحمار ووجه قوله إلى من هم حوله ،قائال: ََ
ً
-حماري والقاضية. قال« :إن الوهم ال يركبه ،إنما يركبه الواهمون من أبناء البشر». -أل ْم تجدوا له عمال أكثر سهولة من هذا الذي يقوم
-حماري واملحكمة. ود قديمة .لقد زامناكم ،وركبنا -إن بيننا وبينكم -يا أبناء آدم -صالت ٍّ لكم به هنا؟
-حماري والجريمة. معكم سفينة نوح في عهد الطوفان الشهير. وما إن انتهى من جملته ،حتى قال الحمار:
ً
وينهي الكتاب بأحاديث متنوعة أخرى ال ننسى أن نذكر منها الحديث عن شخصيته هو فاتخذ الكاتب من موضوع الطوفان مجاال لحديث طويل ،إذ لم ُيرد للحمار -ال فائدة ترجى من هذا الكالم ،فهم مصممون على
أو صورته. أن يتخذ م��ن ه��ذه ال�ح��ادث��ة مستندًا تاريخيًا ي��دل على ال�ق��راب��ة ب�ين الحمير ما يريدون مني أن أفعله.
واألناسي. امل�ه��م أن ت��وف�ي��ق الحكيم ب�ق��ي متعلقًا ب�ه��ذا الحمار
ومما ينبغي أن ُيالحظ هو مدى ارتباط اختيارات الحكيم من املوضوعات حتى بعد أن كبر س��ن االث�ن�ين م�ع��ًا ،فلم يهمله في
ً
م������ا ب����ي����ن ال����ح����ك����ي����م وخ���م���ي���ن���ي���ث التي أوردها في كتابه بالحياة العامة التي كان يحياها في أيام كتابته لها.
ً ً
حالتني ،أوالهما :أنه جعله – يومًا -بطال من أبطال
فهو يكتب فصال عن حماره وهتلر ،وفصال آخر عن حماره وموسوليني إحدى رواياته التي اعتاد كتابتها ،وثانيتهما :أنه بقي
ً
وبعد ،فلن نقول إن توفيق الحكيم كان مقلدًا لكتاب «أنا وحماري» ،الذي أوردنا حديثًا شامال «الزعيم اإليطالي امل�ع��روف» ،وقد جاء هذا الفصل على طريقة التمثيليات، متعلقًا به حتى إن��ه وج��ده في أح��د األي��ام معروضًا
لا ع�ن��وان��ه :ح�م��اري وم��ؤت�م��ر ال�ص�ل��ح ،وه��ذا فصل آخ��ر خ� ًٌّ
عنه قبل قليل ،ولكننا نستطيع أن نقول إن الرجل استغل الحمار الذي كتب عنه :خوان رامون �اص بزمن وف�ص� للبيع ،فسارع إلى شرائه ،وأبقاه عنده .ولكن املسكني
خمينيث لكي يجعله محور كتابه ،وه��ذا أم��ر ال غبار عليه .وق��د وجدنا ع��دم وج��ود تشابه الحرب التي كان هو وحماره يعيشانه. تحمل كثيرًا م��ن الجهد، م��ات سريعًا ،ألن��ه ك��ان ق��د َّ
معنوي في مادة ّأي من الكتابني ،ال من حيث الصياغة ،وال من حيث تركيب الحكايات ،ألنها ثم يتساءل :هل للحمار حزب كما هو للبشر؟ وقد تناول هذا املوضوع في َ ّ َ َ َّ
والتعب خالل ماضي أيامه ،فانهد جسده ،وتعرض
عند الكاتب األسباني كانت مختلفة جدًا باملقارنة مع حكايات توفيق الحكيم. صيغة تمثيلية. للمرض فاملوت.
17 تراث
CULTURAL
◄ ك��ان األس��ت��اذ يحيى حقي يستخدم الحمار مثلهم م��ن أجل
ك�����ت�����اب ي����ح����ي����ى ح��ق��ي
أداء عمله ألن ال��وس��ائ��ل األخ����رى ك��ان��ت م��ع��دوم��ة ف��ي وقته َّ
راب�ع��ًا :وأخ�ي�رًا ،ف��إن ه��ذا ه��و حديثنا ع��ن األس�ت��اذ يحيى ح��ق��ي ،والحق
يقال إن هذا األديب النابغة لم يكن خفيًا أثناء حياته ،ولم يعد غائبًا عن
األذهان بعد وفاته ،فهو أديب كبير ،وكاتب له مكانة في دنيا األدب .وقد
تناولنا في «األزمنة واألمكنة» كثيرًا من أنشطتهَّ ،
ال����������ط����������ب����������ائ����������ع واألن������������������������������واع وبينا أنه كان على قمة
الثقافة في وقته من دون نزاع ،ولن نعود هنا إلى الحديث الشخصي عنه
ما لم يكن ذلك بإيجاز شدید.
ُ ِّ َ
ينفك كل حمار عنها ،حتى وهو يؤدي واجبه في العمل الذي كلف به ،ومنها السطو على حموالت غيره من ثم يرجع إلى ذكر طبائع الحمير التي ال َ ْ ُ لعل من أهم ما صدر له -في ما أرى -هو كتاب« :خليها على اهلل» ،وهو
الحمير التي تسير ،وهي تحمل ما يمكن أكل ُه من قبل هذه املخلوقات. كتاب أقرب ما يكون إلى بيان السيرة الذاتية ملؤلفه األستاذ يحيى حقي.
ً
ويفرد فصال يذكر فيه حمير األجرة التي تستعمل من أجل حمل البشر أو األشياء من مكان إلى آخر ،وبينّ كيف يتم التعامل مع ُمالكها ،وأسعار ُ وقد جاء هذا الكتاب من بني كتب عدة صدرت له ،منها الرواية ،والكتابة
أجرتها ،ثم اتجه إلى تبيني طباع العاملني مع الحمير ،وبخاصة أولئك الذين يسيرون خلفها ويدفعون بها إلى سرعة املسير حني تكون محملة. َ ْ األدبية والبحث األدبي ،واملقاالت الصحافية التي كان ينشرها بصورة
إلى منازلهم ،وحمار الفالح العامل في الحقل ،وحمار كبار القوم َ َّ
وقسم الحمير إلى أنواع ،منها حمار املحطة الذي ينقل ركاب القطار من محطته َّ شبه يومية .وقد أجادت شركة نهضة مصر َّ حني قامت بطباعة أعماله
الذي ينقلهم من كان إلى آخر وهو حمار أبيض فاره ،قوي البنية جميل املظهر محلى بزينة له. الكاملة بتعاون تام مع ابنته األستاذة نهى حقي.
وللحمير في الريف مدرسة تدريب تقوم بإعداد حديث العهد بالعمل من صغار الحمير ،لكي تحيلها إلى حمير صالحة للحموالت. وفي كتاب «خليها على اهلل» ،حديث ُم ْس َه ٌب وغريب عن الحمير .ذلك
ً
وال ينتهي من هذا الحديث حتى يقارن بني حمير الريف وحمير القاهرة ،وهم أولئك الذين يعملون َّأيان زمنه ذاك ،وال ينسى لصوص الحمير الذين ألن هذا األديب قد عمل شطرًا من حياته وكيال للنيابة العامة في ريف
يتعرضون في الريف للسرقات ،ولم يترك ذكر ما ورد عن الحمير من نكات وفكاهات شعبية ،ولم ينس استعمال الحمير في السيرك .حني يعمل ب�لاده مصر ،وكانت له مخالطة مع أهل هذه املنطقة :عايشهم ،وعرف
الحمار ضمن غيره من الحيوانات ،وال الحديث عن العناية الصحية بهذا النوع من الحيوانات النافعة ،فذكر العالج الطبي الذي ُي َّ
قدم لها. أساليب حياتهم ،وما كانوا يعتمدون عليه في تلك الحياة .وكان الحمار
ومما ينبغي أن يقال أن أسلوب األستاذ يحيى حقي في الكتابة يتميز ببيان ساحر ،وقدرة تامة على الوصف والتعبير عن املشاهدات التي يراها م��ن أه��م م��ا ك��ان��وا يلجأون إليه ف��ي مواصالتهم .وك��ان األس�ت��اذ يحيى
عبر له بعد أن قرأ كتابه« :خليها ثم يسجلها على الحالة التي رآها عليها ،ومما يؤكد لنا ذلك شهادة شيخنا األستاذ محمود محمد الشاكر الذي َّ حقي يستخدم الحمار مثلهم من أجل أداء عمله ألن الوسائل األخرى
على اهلل» ،عن إعجابه بحديثه عن الحمير ،وأسلوبه في صياغة ذلك الحديث .وأبلغه بأنه شديد اإلعجاب بما قرأ وأن إعجابه هذا ينطبق على الكتاب كانت معدومة في وقته.
بكامله. بدأ الرجل دراسته للحقوق بالجامعة ،وكان مقر هذه الدراسة هو مدرسة
الحقوق ،وقد ذكر بيته ،ورعاية والدته له ،واهتمامه بالنشاط الخارجي،
ُ
فقد كان يحب االستماع إلى الخطب ويلقيها إذا أتيحت له الفرصة.
إيجاد السعادة
وانتقل ف��ي ال�ب��اب الثاني إل��ى ب��داي��ات عمله بعد ال�ت�خ��رج ،ففي ه��ذه الفترة
صار يعمل في النطاق الحقوقي في ريف مصر ،ومن هنا بدأ الباب الثالث
نفصل هذا الباب بعد ان وعنوانه« :وج��دت مع الحمير سعادتي» ،وسوف ِّ
ننتهي من ذكر الباب الرابع ،وهو خاص بحياته في منطقة صعيد مصر،
التي ذكر بعضًا من مدنها وعادات أهلها ،وما يجري فيها من أحداث تتعلق ُّ
كلها بعمل وكيل النيابة الذي يتولى التحقيق ،ومتابعة كل قضية تحدث
بها بما في ذلك حضور جلسات الكشف الطبي على القتلى ملعرفة أسباب
وفاتهم ،باإلضافة إلى كثير من هذه األمور التي وجد ذكرها مهمًا.
أما الباب الثالث الذي نعود إليه اآلن ففي بدايته قوله:
«حني نزلت الصعيد لم أفهم ألول وهلة قول محدثي عن رجل من األعيان
تحول كالعادة إن��ه «ح� َّ�م��ار» -بميم م�ش��ددة .ظننت وال�ك�لام عن غائب قد ّ
م��ن االستفتاح ب��امل��دح إل��ى التثنية ب��ال��ذم وال�س��ب ،فلما تلجلجت ف��ي ال��رد
أردف يقول عن صاحبه إنه أكبر مالك للحمير في املركز وإن ربحه واسع
ف������������������������ي ال�������������ك�������������وي�������������ت «حمار» هي عندهم ترجمة لكلمة مليونير ...وأنها عنوان
مضمون.
أدركت أن كلمة َّ
صناعة من أه��م الصناعات ،أحفادها في الوقت الحاضر شركات النقل
َ
وقديمًا كان الحمار في الكويت من الدواب املهمة التي ال ِغنى عنها ،وكنا نجد الدابة منها في كل مكان :بني البيوت وفي السوق ،وفي موارد باللوريات».
املياه ،وأماكن العمل. الحمار تيسير مهمة نقل الناس ،فاألعمال األخرى كثيرة وال تعني مهنة َّ
ناق ِل املاء ،وللعامل في البناء ،ولناقل البضائع في األسواق ،وهو ينقل بعض الناس من مكان إلى مكان.
كان الحمار يؤدي واجبه ِل ِ في بلد ناشئ تأخذ الزراعة قسطًا كبيرا من حياة أهله .فالحمار إضافة
وللحمير مهمات متعددة ،ولها تسميات بحسب ما تنوء به كواهلها من أحمال ،إذ نرى حمار نقل املاء ،وحمار نقل البرسيم (الجت) ،وحمار إل��ى نقله للناس ،فهو ينقل ك��ل م��ا يحتاج إليه ه��ؤالء ال�ن��اس ،وف��ي الريف
نقل الصخر من البحر إلى مواقع البناء ،وحمار الشاوي (راعي الغنم) ،فلكل حمار من هذه الحمير مهنة ُيعرف بها ،ولكل واحد منها أدوات ي�ك��ون ال�ع�م��دة وه��و رئ�ي��س ال�ب�ل��دة م�س��ؤوال ع��ن تدبير ح�م��ار لكل موظف
تساعد على أداء مهمته مهما كانت ،ولكن مما ينبغي أن يذكر هنا مما انتهى أمره من أعمال الحمير في الكويت مهنة حمار يطلق عليه اسم: حكومي غريب يكون تحت أمره حني يشاء ،وإضافة إلى ذلك فإنه يقول في
برحى كبيرة يديرها الحمار، تسمى اليوم :الطحينة ،وكانت تصنع -قديمًا -عن طريق طحن السمسم املحمص َ حمار الهردة .والهردة هي التي ّ وصف كما هذا النوع من الحمير أنه حمار «غلبان» وبائس ،يبلع اإلهانات
فتذوب هذه املادة
صاحب هذا املكان يضع في وسط الرحى مادة السمسم بعد تحميصها َّ فهو يدور حولها ،وهي تدور بدورانه ،ولقد كان بخس الثمن ،كثير األمراض ،ال تنفتح بطنه على ندى البرسيم كما يحدث
الرحى ،فتجمع الستعمالها .ومن الجدير بالذكر أن اآلالت قد حلت أخيرًا َم َحل الحمار الذي
نتيجة للطحن ،وبذلك تتسرب الهردة من جوانب َ للجاموس ،وال يجر صاحبه إلى الترعة ،بل إنه إذا طلب االستحمام سار
الرحى التي كان ُيديرها.
لم يعد موجودًا ال هو وال َ وح��ده ليتمرغ ب��ال�ت��راب .ث��م يضيف األس�ت��اذ يحيى حقي إل��ى ذل��ك وصفه
ُ
أما الحمير التي تنقل املياه إلى املنازل فلها أهمية كبرى ،وطرق عمل خاصة ،وكانت بلدية الكويت تعنى -قديمًا -بتنظيم أعمال الحمير ،وتؤكد لنفسه حني يمتطي الحمار املخصص له فيقول:
على ضرورة قيام أصحابها برعايتها ،وعدم معاملتها بقسوة ،أو تحميلها فوق ما تطيق. «ال بد لي أن أحمل مظلة وإال انسلقت في الشمس ،ومنشة من ليف النخيل
ومن أمثلة ذلك اإلعالنات التي كانت تبادر البلدية إلى وضعها في بعض األماكن البارزة من العاصمة وفيها َح َّث على تطبيق أنظمة نقل املياه وإال انفلت مني عيار شفتي ولساني وخدي وحاجبي ورمشي ومفصل
وتشغيل الحمير. رق�ب�ت��ي إن أردت -وي ��داي مشغولتان ب��ال�ل�ج��ام وامل�ظ�ل��ة – أن أط ��رد ذب��اب��ًا
*** لحوحًا كالشحاذين يرشق وجهي ويحط عليه ليتخذ منه ساحة للعبة
وكل ما تقدم منذ بداية هذا املقال ،إنما هو إيجاز سريع ملا ينبغي أن يقال .عن الحمير ،فلعل أن يكون في ذلك فائدة ،وداللة على أحوال هذه (االستغماية) .أما العصا فوزرها تركته لصبي يجري ورائ��ي ...بعد قليل
املخلوقات. تنازلت عن الركاب كبقية الناس».
الثقافي 18فلسفة
جنيب محفوظ
والرواية الذهنية
كه يالن محمد
ال يتجاهل حسن حماد البعد النفسي ف��ي آلية ال �ق��راءة ،إذ ي��رى َّأن معاناة عمر
ال�ح�م��زاوي مصدرها ال�ف��راغ الفكري وال�خ��واء ال��روح��ي ،الفتًا إل��ى م��ا يقوله فرويد ال����ل����ام���������ع���������ق���������ول
عن تأثير الفكر في الصحة النفسية« :اإلنسان قوي طاملا يتمسك بفكرة قوية»،
يجد فييقدمه كل من مصطفى التواتي وحسن حماد هو أن كليهما ُ ُ والالفت فيما عزاء للشعور بالتوتر الناشب من خيبات األمل ،ولكنها قد تكون فكرة االنتحار ً
لا وح�ي�دًا ،ف� َّ ً
شخصية عمر الحمزاوي واصطدامه صورة حية ألفكار املفكر الفرنسي ،إذ ينشد �إن اكتشاف الالمعقول وان �ع��دام املنطق ق��د يخففان من ليست ب��دي�
الحمزاوي الهدوء واليقني في املتعة والنشوة الجنسية .كأنه يطبق مبدأ صاحب محنة الوضع اإلنساني .من هنا نفهم ك�لام نجيب محفوظ بعد ص��دور رواي��ة
ً
«كاليغوال»« :ليس في هذا العالم إال حب واح��د ،فعناق جسد امل��رأة هو عناق لهذا «ال�ل��ص وال �ك�لاب»« :ليس أم��ام��ي إال أن أنتحر أو أت�ح��ول إل��ى العبث» ،فعال كانت
الفرح الغريب ،الذي يهبط من السماء إلى البحر» ،يالحظ التواتي ّأن محفوظ ال يقدم الرواية ُمتنفسًا لألفكار التي اختمرت في ذهن الكاتب ،وتعبيرًا واضحًا َّلهشاشة
ُ �إن محفوظ ّ اإلنسان.عليه ف� َّ
شخصية املومس في إط��ار األحكام والقيم االجتماعية ،بل تستشف تعاطفًا مع يحمل طبقة املثقفني مسؤولية التحلل .لعل مشهد
مشاعرها اإلنسانية املتسترة وراء التبهرج السطحي. العوامة في رواي��ة «ثرثرة فوق النيل» ،وما يسود وسط هذا املكان املتأرجح في
يشار إلى َّأن مناقشة دور العلم في الحياة املعاصرة من املواد املكونة ألفكار نجيب الفوضى إدانة قاسية لظاهرة اإلزدواجية الفكرية .إذن تتصدر الهموم الوجودية
عالم يعج باألفكار
محفوظ الروائية ،واملتابع لرواية «ثرثرة فوق النيل» يتفاعل مع ٍ برنامج نجيب محفوظ في مرحلة ما بعد الواقعية .إذا كان املجتمع هو الديكور
والسجاالت الفلسفية ،غير ّأن كل ذلك ال يكون على حساب الصيغة الفنية ،مجمل �ون بمنزلة �إن الفكر ب��رأي غالي شكري ي�ك� ُ
الرئيسي ف��ي املرحلة االجتماعية ،ف� َّ
ً َ
ما يمكن قوله عن النقد ال��روائ��ي ّأن ه��ذا املعترك يتطلب وعيًا مرنًا ومتفاعال مع َّ
العصب الحي في رواي��ات األط��روح��ة ،والحال ه��ذه فمن الطبيعي أن يأخذ البعد
سياقات معرفية متعددة. الفكري األولوية في دراسة روايات نجيب محفوظ الذهنية.
الثقافي 20تشكيل
فيكتور باسمور ف�ق��ط يف ال��وق��ت احل ��اض ��ر ،ول �ك��ن ال
مي�ك�ن�ه��ا االس �ت �غ �ن��اء ع��ن امل��اض��ي؛ إن��ه
حرائق املاء..
غ�ي�ر ج� ��وه� ��ري ،ل �ك �ن��ه ي �ن �ح��رف ع��ن
امل��ادة؛ ويتم اختباره بشكل شخصي
ولكنه مشتق يف األص��ل م��ن اهل��دف؛
إنه مصطلح غامض وعاملي مبا يكفي
للتحدث عمليا ع��ن أي ش ��يء :من
البيئة الطبيعية إىل اإلبداعات اليت من
ً
ص�ن��ع اإلن �س��ان ،م�ث��ل امل��وس�ي�ق��ى .هنا
«كوكبة»..
أك��ب��ر م��ع��رض للفن ال��ع��رب��ي ف��ي لندن
راعي التحف الفنية لندن -فيء ناصر
في حضرة
املتاهة العمياء
أف���راح ال��م��ب��ارك الصباح
ترضب ابلرتاب قدهما… ات عىل «اليال»... والعذارى سامر ٌ والعيس اليت مضت ابحلمل تطوي هتبط درجة احلرارة داخل عظ ٍم بلي ٍد…
لعل األرض تنصت إىل عتاهبا… يغنني العويل والن�شيج… هنار القيظ حرسة… بني الن�سيج والن�سيج
يه اليت… ُ
خمضبة ابحلنة الامينية... كفوفهن يف حرضة املتاهة… ( )٥-درجة مئوية
احتار السؤال يف إجابته... ويه تلفح بشعرها الثائر… رؤاي معياء... يتقلّص ادلم…
يه اليت... حتلق بعينني سامهة /غري واعية توجه نصالً أصيالً… كجزر كئيبينحرس ٍ
اقرتن الشك ابمسها!... بني يدهيا عصاة السالم… عىل الرقاب مصرياً.. دورة دموية ساخطة
واختلج اخلاطر بنعاس قسوهتا…! تمترحج خبفة الن�سمي... وعىل جثث احليارى… هيلك عظمي ابئس
ثوهبا بلون العشب بعد املطر… حلناً عتيقاً! يرصخ بأانت شاسعة األمل!
* ** ال مباالة يف اإلغواء…
اتهت الفكرة بقتا ٍم أمعى… وإغوا ٌء اىل حد املباالة… * ** * **
ل يبحث ع��ن جس ٍد وال��ظ��ل ظ � ّ وك����أن ال����رحي ت��غ��ل��و ابل��ق��ب��ل عىل انتصب الليل… يف القفار…
فارغٍ… جيدها... ة اكملوت…ة داكن ٍ
بزرق ٍ يسكن الوحدة…
يف حرضة املتاهة العمياء… وال��ب��ح��ر ي���ذرف دم���وع ال���وهل عىل بكف شاهق اكملوج… ٍ والوحدة عصاه…
اللك ينتظر دوي السقوط…! جبيهنا… ظل يسكن الشواطئ… ال جيد الرحي إال حادايً…