Uluumul Quraan

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 127

‫كلية العلوم الشرعية واإلسًلمية‬

‫مادة علوم القرآن‬


‫مادة علوم القرآن ‪ -‬الفرقة الثاني ــة‬
‫شرح الشيخ‪ /‬سامـي بن بالـي‬ ‫" البداي ــة في علوم القرآن"‬ ‫الفصل الدراسي "األول"‬

‫المحاضرة األولـى‬
‫الحمد هلل رب العالمين وأصلي وأسلم على عبد اهلل ورسوله محمد صلى اهلل عليه وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ،‬وبعد‪:‬‬
‫فأهًل ومرحباا بكم طًلب الفرقة األولى في كلية العلوم الشرعية والعربية مع منهج علوم القرآن‪ ،‬ونتناول إن شاء اهلل تعالى‬
‫ا‬
‫بالدراسة كتاب [البداية في علوم القرآن]‪.‬‬
‫ونبدأ في هذه المحاضرة وهي المحاضرة األولى مع مقدمة الكتاب وأبوابه‪.‬‬
‫قال المصنّف غفر اهلل له‪ :‬مقدمة‪( :‬الحمد هلل الذي أنزل الكتاب تبياناا لكل شيء وهدى للمتقين‪ ،‬وصلى اهلل على المبعوث‬
‫بالقرآن رحمة للعالمين‪ ،‬وآله وصحبه أجمعين‪ ،‬وبعد‪ :‬فهذا مختصر في علوم القرآن‪ ،‬يجمع شتات أبوابه‪ ،‬ويقربه إلى طًلبه‪،‬‬
‫ونشرا لهذا العلم في العالمين‪ ،‬وعوناا على فهم القرآن العظيم وال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬وهو حسبنا‬
‫جعلته تبصرة للمبتدئين‪ ،‬ا‬
‫ونعم الوكيل(‪.‬‬

‫قوله غفر اهلل له‪( :‬الحمد هلل الذي أنزل الكتاب تبياناا لكل شيء وهدى للمتقين(‪:‬‬
‫ْح ْم ُد لِله َر ِّ‬
‫ب‬ ‫قوله (الحمد هلل(‪ :‬األلف والًلم من قوله الحمد هي لًلستغراق كما في قوله تعالى في فاتحة الكتاب‪﴿ :‬ال َ‬
‫الرِح ِيم﴾‪.‬‬
‫الر ْح َم ِن َّ‬
‫ين ۝ َّ‬ ‫ِ‬
‫ال َْعالَم َ‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ :‬أي أن الحمد كله‪ ،‬جميع أنواع المحامد هي هلل تعالى‪.‬‬
‫مدحا‪.‬‬
‫والحمد‪ :‬هو اإلخبار عن محاسن المحمود مع حبّه وتعظيمه‪ .‬فإن تجرد عن الحب والتعظيم كان ا‬
‫ثناء‪.‬‬
‫وإن تكرر الحمد صار ا‬
‫ِ‬
‫الحمد‪ ،‬والمدح‪ ،‬والثناء‪:‬‬ ‫وبهذا تبين لنا الفرق بين‬
‫فالحمد على الصحيح‪ :‬هو اإلخبار عن محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه‪،‬‬
‫مدحا‪،‬‬
‫فإذا تجرد هذا اإلخبار عن المحاسن‪ ،‬إذا تجرد عن الحب والتعظيم صار ا‬
‫ثناء‪.‬‬
‫وإذا اقترن بالحب والتعظيم صار حم ادا‪ ،‬وإذا تكرر الحمد صار ا‬
‫والدليل على أن الثناء تكرار المحامد‪ ،‬ما أخرجه مسلم في صحيحه في الحديث اإللهي أن اهلل جل وعًل يقول‪:‬‬
‫(قسمت الصًلة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل‪ ،‬فإذا قال العبد‪ :‬الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬قال اهلل‪ :‬حمدني‬
‫عبدي‪ ،‬وإذا قال‪ :‬الرحمن الرحيم‪ ،‬قال‪ :‬أثنى علي عبدي)‪.‬‬
‫فلما كرر الحمد هلل أي‪ :‬ذكر محامده مرة بعد مرة‪ ،‬قال اهلل أثنى علي عبدي‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫قوله "الحمد هلل"‪ :‬الًلم هنا لًلستحقاق‪ ،‬أي‪ :‬أن الذي يستحق أن تصرف له جميع أنواع المحامد هو اهلل رب العالمين‪.‬‬
‫وتعظيما‪.‬‬
‫ا‬ ‫وقوله (اهلل)‪ :‬ذو األلوهية الحقة على عباده الذي تألهه القلوب محب اة‬
‫وقوله (الذي أنزل الكتاب)‪ :‬أي الكتاب على الحقيقة الذي اشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬بل هو‬
‫ب فِ ِيه‬ ‫مهيمن على ما أنزل من الكتب من قبله‪ ،‬وهذا الكتاب هو القرآن العظيم‪ ،‬كما قال تعالى‪﴿ :‬الم ۝ ذلِ َ ِ‬
‫تاب َال َريْ َ‬
‫ك الْك ُ‬
‫ين﴾‬ ‫هدى لِّل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ ا ُ‬
‫واضحا شافياا‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ا‬ ‫وقوله (تبيانا لكل شيء)‪ :‬أي توضيحا لكل شيء‪ ،‬أي لكل أمر يحتاج إلى بيان فهو يبيّنه تبياناا‬
‫اب تِْبـيَاناا لِّ ُك ِّل َش ْيء﴾‬ ‫﴿وأَنزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫‪ -‬قال ابن مسعود ‪ :‬قد يبين لنا في القرآن كل علم وكل شيء‪،‬‬
‫‪ -‬وقال مجاهد‪ :‬كل حًلل وحرام‪.‬‬
‫‪ -‬قال ابن كثير ‪ ‬بعدما ساق قول ابن مسعود وقول مجاهد قال‪ :‬وقول ابن مسعود أعم وأشمل‪ ،‬فإن القرآن اشتمل‬
‫على كل علم نافع من خبر ما سبق‪ ،‬وعلم ما سيأتي‪ ،‬وحكم كل حًلل وحرام‪ ،‬وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم‬
‫اب ِمن َش ْيء﴾‬ ‫ودينهم ومعاشهم‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬ما فَـ ْرطْنَا فِي ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫َ ّ‬

‫قوله (وهدى)‪ :‬والهدى ما تحصل به الهداية من الضًلل‪ ،‬وما به الهداية إلى سلوك الطريق النافعة‪ ،‬وقال هدى وحذف المعمول‬
‫يعني لم يبين أنه هدى إلى كذا‪ ،‬هل هو هدى إلى الحق؟‬
‫هل هو هدى إلى الصراط المستقيم؟ أم إلى الجنة؟ أم إلى معرفة اهلل وتوحيده؟‬
‫حذف المعمول هنا إلرادة العموم‪ :‬فيهديهم لما فيه خيرهم وصًلحهم في الدنيا واآلخرة‪.‬‬
‫ويهديهم في الدنيا إلى صراطه المستقيم واتباع مراضيه واجتناب مناهيه‪.‬‬
‫ويهديهم في اآلخرة إلى جنته‪.‬‬
‫والقرآن فيه هداية لجميع مصالح الدارين‪.‬‬
‫قوله (وهدى للمتقين)‪ :‬فاهلل عز وجل أنزل القرآن هداية ألهل تقواه وخشيته‪ ،‬وقد ذكر في القرآن هداية القرآن على مناح‬
‫أوال‪ :‬يأتي القرآن هداية للناس‪ ،‬ثم يأتي هداية للمؤمنين‪ ،‬و يأتي كذلك هداية للمتقين‪.‬‬
‫عدة‪ :‬ف ا‬
‫ضا َن الَّ ِذي أُن ِز َل فِ ِيه الْ ُق ْرآ ُن ُه ادى لِّلن ِ‬
‫َّاس َوبَـيِّـنَات‬ ‫فقد أتى هداية للناس‪ :‬كما في قوله تعالى في سورة البقرة‪َ ﴿ :‬ش ْه ُر َرَم َ‬
‫ان﴾ فالهداية في هذه اآلية هداية القرآن جاءت عامة للناس‪.‬‬ ‫ِّمن الْه َد ٰى والْ ُفرقَ ِ‬
‫َ ُ َ ْ‬
‫اب إَِّال لِتُبَـيِّ َن لَ ُه ُم الَّ ِذي‬ ‫وأتى أيضا هداية ألهل اإليمان‪ ،‬كما في قوله تعالى في سورة النحل‪﴿ :‬وما أَنزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ َ‬
‫فخص المؤمنين من الناس بالهداية‪ ،‬أي بهداية القرآن‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ا ْختَـلَ ُفوا فِ ِيهۙ َو ُه ادى َوَر ْح َمةا لَِّق ْوم يـُ ْؤِمنُو َن﴾‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫ب فِ ِيه‬ ‫ضا هداية للمتقين كما في قوله تعالى في صدر سورة البقرة قال تعالى‪﴿ :‬الم ۝ ذلِ َ ِ‬
‫تاب َال َريْ َ‬
‫ك الْك ُ‬ ‫وجاء أي ا‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫هدى لِّل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ ا ُ‬
‫فكيف نوفق بين هذه اآليات الثًلث؟ هل القرآن هداية للناس؟ أم هداية للمؤمنين فقط؟ أم هداية للمتقين؟‬
‫والجواب على هذا اإلشكال أن نقول‪ :‬إن القرآن مشتمل على الهداية على الصراط المستقيم‪ ،‬وهدايته صالحة لجميع‬
‫أسا‪ ،‬ولم يقبلوا هدى اهلل‪ ،‬فقامت عليهم به الحجة‪ ،‬ولم يستنفعوا به بشقائهم‪ ،‬أما‬
‫الخلق‪ ،‬لكن األشقياء لم يرفعوا به ر ا‬
‫المؤمنون والمتقون الذين أتوا بالسبب األكبر لحصول الهداية وهو التقوى التي حقيقتها أن يجعل العبد بينه وبين ما‬
‫يخشى من سخط اهلل وعذابه وقاية بامتثال أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬فهؤالء اهتدوا وانتفعوا غاية االنتفاع‪.‬‬
‫آمنُوا إِن تَـتَّـ ُقوا اللَّ َه يَ ْج َعل لَّ ُك ْم فُـ ْرقَاناا َويُ َك ِّف ْر َعن ُك ْم َسيِّئَاتِ ُك ْم َويَـ ْغ ِف ْر لَ ُك ْمۙ َواللَّهُ ذُو‬ ‫َّ ِ‬
‫كما قال تعالى‪﴿ :‬يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ض ِل ال َْع ِظ ِيم﴾‪.‬‬
‫الْ َف ْ‬
‫فالمتقون هم المنتفعون باآليات القرآنية يأتمرون بأمره‪ ،‬وينتهون عن نهيه‪ ،‬ويقفون عند حدوده فكانوا في الحقيقة هم‬
‫المهتدون‪.‬‬
‫جميعا وإن لم يستجيبوا لهدايته‪.‬‬
‫أما كون القرآن هداية للناس أي‪ :‬أنه صالح لهداية الناس ا‬
‫جميعا وهو صالح لهم‪ ،‬والمنتفعون بهذه الهداية هم أهل‬
‫فالخًلصة أيها األحباب كما قلنا القرآن أُنزل لهداية الناس ا‬
‫اإليمان والتقوى‪.‬‬

‫قال عفا اهلل عنه‪ :‬وصلّى اهلل على المبعوث بالقرآن رحمة للعالمين‪.‬‬
‫قوله "وصلى اهلل"‪ :‬خبر بمعنى اإلنشاء‪ ،‬أي‪ :‬أن اهلل قد صلى على نبيه وحبيبه وصفيه محم ادا ﷺ وهو خبر بمعنى‬
‫اإلنشاء أي‪ :‬اللهم صل‪ ،‬كأنك تدعو اهلل عز وجل أن يصلي على نبيه ﷺ وقد صلى اهلل عليه‪ ،‬وكذلك صلت عليه‬
‫المًلئكة المقربون‪ ،‬وأمر اهلل عباده بالصًلة عليه‪،‬‬
‫صلُّوا َعلَْي ِه َو َسلِّ ُموا‬
‫آمنُوا َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫فقال تعالى كما في سورة األحزاب‪﴿ :‬إِ َّن اللَّهَ َوَم ًَلئِ َكتَهُ يُ َ ُّ‬
‫صلو َن َعلَى النَّب ِّيۙ يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫يما﴾ ‪ .‬والصًلة‪ :‬اسم جامع للحنو والعطف‪ ،‬فأصل الصًلة في اللغة‪ :‬الحنو والعطف من الصلوتيين‪ ،‬فهي معنى‬ ‫ِ‬
‫تَ ْسل ا‬
‫واسع يشمل الرحمة والمغفرة‪ ،‬ورفع الذكر والثناء والدعاء وغيرها‪.‬‬

‫"وصًلة اهلل على نبيه"‪ :‬أن يفعل به كل ما اقتضى الحنو والرحمة والعطف والمغفرة والثناء‪.‬‬
‫كما ذكرنا لذلك ورد عن بعض السلف تفسير الصًلة على النبي ﷺ أنها ثناء اهلل عليه بالمأل األعلى‪،‬‬
‫كما جاء عن أبي العالية عن البخاري قال‪ :‬صًلة اهلل ثناء عليه عند المًلئكة‪.‬‬
‫ضحاك ‪.‬‬
‫ضا أنها الرحمة كما قال ال ّ‬
‫وجاء أي ا‬

‫‪4‬‬
‫ضا أنها المغفرة كما ورد عن الضحاك في قوله‪ :‬هو الذى يصلي عليكم‪ ،‬قال‪ :‬صًلة اهلل مغفرته‪ ،‬وكل هذا من‬
‫وجاء أي ا‬
‫باب التفسير ببعض أفراد المعنى‪،‬‬
‫مقتضى الحنو والعطف‪.‬‬
‫ا‬ ‫وصًلة العبد هي‪ :‬الطلب من اهلل تعالى أن يفعل بنبيه ﷺ كل ما هو من‬

‫قوله "المبعوث بالقرآن"‪ :‬أي المرسل بالقرآن وهو النبي ﷺ‬


‫ت ِمن قَـ ْبلِ َها أ َُم ٌم لِّتَْتـلُ َو َعلَْي ِه ُم الَّ ِذي أ َْو َح ْيـنَا إِلَْي َ‬
‫ك﴾‪،‬‬ ‫اك فِي أ َُّمة قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ك أ َْر َسلْنَ َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ك َٰذلِ َ‬
‫ك َٰه َذا الْ ُق ْرآ َن﴾‪.‬‬ ‫ص بِ َما أ َْو َح ْيـنَا إِلَْي َ‬
‫ص ِ‬‫س َن الْ َق َ‬ ‫َح َ‬
‫كأْ‬ ‫ص َعلَْي َ‬ ‫وقال تعالى‪﴿ :‬نَ ْح ُن نَـ ُق ُّ‬

‫قوله "رحمة للعالمين"‪ :‬أي أن اهلل أرسل رسوله بالقرآن ليكون رحمة للعالمين‪،‬‬
‫ِّ ِ‬ ‫كما قال سبحانه‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َسلْنَ َ ِ‬
‫اك إ َّال َر ْح َم اة لل َْعالَم َ‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫اب تِْبـيَاناا لِّ ُك ِّل َش ْيء َو ُه ادى َوَر ْح َم اة َوبُ ْش َر ٰى‬ ‫وبين تعالى أن القرآن كذلك أُنزل للرحمة‪ ،‬قال‪﴿ :‬ونَـ َّزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫لِل ِ ِ‬
‫ْم ْسلم َ‬
‫ُ‬

‫قوله "رحمة للعالمين"‪ :‬العالمين جميع الخلق على الصحيح‪.‬‬


‫قوله (وآله)‪ :‬أي آل النبي ﷺ وآل النبي ﷺ في ذكرها حالتان‪:‬‬
‫‪ -‬إذا أفردت‪.‬‬
‫‪ -‬وإذا جمعت إلى الصحب‪.‬‬
‫إذا أُفردت‪ :‬أُري َد بها آل النبي أي‪ :‬المؤمنون من قرابته وأصحاب النبي ﷺ‪.‬‬
‫وإذا قُرنت بالصحب‪ :‬فيكون المراد بها‪ :‬المؤمنون من قرابة النبي ﷺ ‪ ،‬و‪.‬‬

‫الصحب جمع صحابي وهو كل من لقي النبي ﷺ مؤمناا به ومات على ذلك‪.‬‬
‫قوله "وصحبه"‪ّ :‬‬
‫كما قال الحافظ في النخبة‪ :‬قوله (أجمعين) فذكر اآلل والصحب وجمع بينهما‪.‬‬

‫وأكد بعدما جمع بينهما فقال‪ :‬وعلى آله وصحبه‪.‬‬


‫فقال (أجمعين)‪ :‬وأكد هذا الجمع والجمع بين اآلل والصحب في الترضي والصًلة والسًلم عليهم شعار ألهل السنة‬
‫والجماعة خًلفاا للرافضة الذين يصلون ويترضون على اآلل دون الصحب‪ ،‬وذلك ألنهم يتولون اآلل دون األصحاب‪ ،‬أما أهل‬
‫جميعا‪.‬‬
‫السنة والجماعة فإنهم يصلون على اآلل والصحب ا‬

‫قوله " وبعد"‪ :‬هذا أسلوب انتقال من المقدمة إلى الموضوع والشروع في المقصود‪ ،‬وقد استعملها النبي ﷺ واستعملها‬
‫الصحابة في خطبهم‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫قوله "فهذا"‪ :‬أي فهذا الذي بين يديك‪.‬‬
‫مختصر‪ ،‬والمختصر‪ :‬هو ما قل لفظه وكثر معناه‪.‬‬
‫وتكمن أهمية تصنيف المختصرات أنها تجمع أبواب ومسائل العلوم ويسميها العلماء متونا‪ ،‬وهذه المتون تجمع‪:‬‬
‫‪ -‬أركان العلم‪.‬‬
‫‪ -‬وأصول مسائله‪.‬‬

‫فإذا حفظت هذه المتون جمعت ما في هذا العلم من فروع ومسائل ومقاالت‪ ،‬ولذلك كان العلماء ينصحون طًلب العلم‬
‫بحفظ المتون في كافة العلوم فيحفظون في كل علم من العلوم متنا ثم ينتقلون إلى المطوالت والشروح‪.‬‬
‫قوله "في علوم القرآن"‪ :‬أي في علم علوم القرآن‪ ،‬وعلوم القرآن قيل إنها‪ :‬العلوم التي تختص بالقرآن في‪:‬‬
‫‪ -‬أسباب النزول‪.‬‬
‫‪ -‬والناسخ والمنسوخ‪.‬‬
‫‪ -‬والعام والخاص‪.‬‬
‫مختصرا فنقول‪:‬‬
‫ا‬ ‫جامعا‬
‫ويمكن تعريف هذا العلم المبارك تعري افا ا‬
‫منفصًل‪.‬‬
‫ا‬ ‫علما‬
‫هو علم يضم أبحاثاا كلية‪ ،‬تتصل بالقرآن العظيم من نواح شتّى بحيث يصح أن يكون كل منها ا‬
‫فكل علم من علوم القرآن يتم تناوله بالبحث الكلي أي اإلجمالي دون التفصيلي‪،‬‬
‫مثًل‪ :‬في علم المكي والمدني‪ :‬فهو علم من علوم القرآن فيبحثه بحثاا كلياا‪ ،‬فيذكر أصول ذلك العلم‬ ‫‪ -‬فهو يبحث ا‬
‫وضوابطه وقواعده الكلية‪ ،‬وال يتعرض لمسائله الجزئية في ذلك العلم إال على سبيل التمثيل‪ ،‬فًل يتم فيه دراسة سور‬
‫القرآن سورة سورة وما اشتملت عليه اآليات وبيان مكيها ومدنيها‪.‬‬
‫إنما يتناول الدراسة الكلية بذكر القواعد الكلية‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك العام والخاص‪ :‬ال يتناول كل ما جاء فى القرآن من آيات عامة أو خاصة إنما يبين تعريف العام‪ ،‬وتعريف‬
‫الخاص‪ ،‬وألفاظ العموم وأنواعه‪ ،‬والمختصرات‪ ،‬وأمثلة على العام والخاص ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك فى بقية أبواب علوم القرآن‪.‬‬

‫لماذا كتب المصنف هذا الكتاب؟‬


‫أخذ يبين الدافع لديه في كتابة هذا المتن‪.‬‬
‫قال غفر اهلل له‪ :‬هذا مختصر في علوم القرآن يجمع شتات أبوابه وذلك أن أبواب علوم القرآن كثيرة‪:‬‬
‫علما‪،‬‬
‫‪ ‬جعلها اإلمام الزركشي في كتابه [البرهان] سبعة وأربعين ا‬
‫علما‪،‬‬
‫‪ ‬ثم جاء اإلمام جًلل الدين السيوطي ‪ ‬وجعلها ثمانين ا‬

‫‪6‬‬
‫‪ ‬ثم جاء اإلمام ابن عقيلة المكي فجعلها أربعة وخمسين ومائة علم‪ ،‬وكتابه طُبع في عشر مجلدات فجمعنا المسائل‬
‫المترابطة وجعلناها في باب واحد حتى ال يتشتت الدارس المبتدئ‪ ،‬وهذا هو السبب األول الذي جعل المصنف‬
‫يكتب هذه الرسالة‪ :‬أن يجعل أبوابها جامعة لشتات األبواب المتناثرة لعلوم القرآن‪.‬‬

‫قال‪ :‬ويقربه لطًلبه‪ :‬أي‪ :‬ييسره ويسهل دراسته‪ ،‬ويذلل صعابه ليكون قريب المنال لطًلب العلم المبتدئين‪.‬‬
‫وهذا هو السبب األول الذي جعل المصنف يكتب هذه الرسالة‪ :‬أن يجعل أبوابها جامعة لشتات األبواب المتناثرة في علوم‬
‫القرآن‪.‬‬
‫قال‪ :‬ويقربه إلى طًلبه‪ ،‬أي ييسره ويسهل دراسته ويزلل صعابه ليكون قريب المنال لعقول وأفهام طًلب العلم المبتدئين‪.‬‬

‫وهذا هو السبب الثاني‪ ،‬قال‪ :‬جعلته تبصرة للمبتدئين أي كتبت هذا المختصر ألجل‪:‬‬
‫أن يبصر طالب العلم المبتدئ بعلوم القرآن‪ ،‬ويدله على أصول مسائله‪ ،‬ويكون تمهي ادا له لدراسة كتبه الكبار‪ ،‬ثم‬
‫دراسة كل علم من علومه أي من علوم القران دراسة تفصيلية‪.‬‬

‫وهذا هو السبب الثالث‪:‬‬


‫شريف لشرف تعلقه بكًلم اهلل عز وجل‪،‬‬
‫ضا ألجل نشر هذا العلم ال ّ‬
‫ونشرا لهذا العلم في العالمين‪ :‬أي كتبته أي ا‬
‫قال‪ :‬ا‬
‫أي ليكون مساهمة في نشره بين المسلمين وطًلب العلم‪.‬‬

‫وهذا هو السبب الرابع‪ :‬قوله‪ :‬عوناا على فهم القرآن العظيم‪.‬‬


‫أي هذا العلم فيه القواعد التي تعين طالب العلم على فهم كًلم ربه جل وعًل القرآن الذي خطب به ألجل فهمه‬
‫وتدبره‪.‬‬
‫وامتثاال لألمر‪ ،‬واجتنابا للنهي‪.‬‬
‫ا‬ ‫ليتمكن من العمل بما فيه‪ :‬تصدي اقا للخبر‪،‬‬
‫والقرآن ما أنزل إال للفهم والعقل والتدبر الذي يقود للعمل‪،‬‬
‫ك ُمبَ َار ٌك لِّيَ َّدبَّـروا آيَاتِِه َولِيَتَ َذ َّكر أ ُْولُو ْاألَلْبَ ِ‬
‫اب﴾‪.‬‬ ‫َنزلْنَاهُ إِلَْي َ‬
‫اب أ َ‬
‫ِ‬
‫كما قال اهلل تعالى‪﴿ :‬كتَ ٌ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫وقد رغَّبنا ربنا سبحانه وتعالى في فهم القرآن فقال‪﴿ :‬أَفَ ًَل يـتَ َدبَّـرو َن الْ ُقرآ َنۙ ولَو َكا َن ِمن ِع ِ‬
‫ند غَْي ِر اللَّ ِه لََو َج ُدوا فِ ِيه‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ‬
‫كثيرا﴾‪ ،‬وقال سبحانه‪﴿ :‬أَفَ ًَل يَـتَ َدبَّـ ُرو َن الْ ُق ْرآ َن أ َْم َعلَ ٰى قُـلُوب أَقْـ َفالُ َها﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ا ْخت ًَلفاا ا‬

‫وهذا هو السبب الخامس الذي جعل المصنف ودفعه لكتابة هذا المتن‪ :‬درجات فهم القرآن‪:‬‬
‫القرآن وفهمه على درجات‪:‬‬
‫‪ ‬الدرجة األولى‪ :‬فهم معاني اآليات الكريمة ومفرداته الكريمة‪:‬‬
‫وفيه يتعرف المسلم على معاني المفردات التي ال يفهمها‪ ،‬أي من القرآن حتى يتضح المقصود ويفهم المراد‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ ‬المرتبة أو الدرجة الثانية‪ :‬فهم ما ال بد منه من سياق الكًلم‪ :‬وهو المعنى الكلي من القصة أو المشهد أو الصورة‪،‬‬
‫جزءا منه‪ ،‬يعني‪ :‬المفردات جزء من فهم السياق العام‪.‬‬
‫ويعتبر الفهم السابق ا‬
‫‪ ‬المرتبة الثالثة‪ :‬الفهم الدقيق والتأمل العميق للوصول إلى معرفة مقاصد القرآن الكريم ومراميه‪ :‬وهو أثر ونتيجة‬
‫للنوعين السابقين‪ ،‬وهو فهم المقاصد‪.‬‬
‫‪ ‬المرتبة الرابعة‪ :‬الترجيح والموازنة بين أقوال المفسرين المتباينة‪.‬‬
‫أي‪ :‬عند اختًلف المفسرين في فهم آياته وتفسيرها‪ ،‬ويكون هذا الترجيح من خًلل دراسة قواعد التفسير وقواعد‬
‫الترجيح‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪( :‬وال حول وال قوة إال باهلل)‪:‬‬
‫أي‪ :‬ال تحول لنا من حال إلى حال وال قوة لنا على فعل شيء إال بإعانة اهلل وتوفيقه لنا‪ ،‬وفي هذه الجملة تفويض‬
‫األمر إلى اهلل تعالى‪ ،‬والتخلي عن الحول والقوة‪ ،‬وتعلق القلب باهلل واالستعانة به‪.‬‬
‫من استعان به أعانه‪ ،‬ومن اكتفى به كفاه‪ ،‬ومن توكل عليه هداه‪ ،‬وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬
‫أي‪ :‬هو وحده كافينا سبحانه وتعالى وهو نعم الوكيل‪ .‬المفوض إليه تدابير عباده نعم المولى ونعم النصير‪ ،‬ونعم‬
‫ب ونعم الوكيل ربنا جل وعلى‪.‬‬
‫الح ْس ُ‬
‫َ‬

‫ثم انتقل المصنف إلى سرد األبواب التي اشتمل عليها هذا الكتاب وبين أنها ثمانية عشر بابا‪ ،‬فقال‪ :‬علوم القرآن وفيه ثمانية‬
‫عشر بابا‪.‬‬

‫‪ -‬فابتدأ هذه األبواب‪ :‬باب الوحي‪:‬‬


‫ألنه سبيل نزول القرآن على النبي ﷺ ‪ ،‬وبين في هذا الباب‪ :‬الطريقة التي تلقى بها القرآن من رب العالمين إلى‬
‫أمين الوحي جبريل ومن جبريل إلى نبينا ﷺ‪.‬‬
‫والمراتب التي نزل بها الوحي‪.‬‬
‫ومن كان يكتب للنبي ﷺ الوحي بين يديه‪ ،‬من كان يكتب له القرآن‪.‬‬
‫ثم التفريق والتمييز بين القرآن وبين غيره من الوحي من األحاديث اإللهية ومن األحاديث النبوية‪.‬‬

‫‪ -‬ثم انتقل إلى الباب الثاني‪ :‬وهو نزول القرآن‪:‬‬


‫ونزوال مفرقاا‪ :‬على ما يقع من أحداث ويتوافق مع‬ ‫وبين فيه نزول القرآن على النبي ﷺ وأن له نزوالن‪ :‬ا‬
‫نزوال جملياا‪ ،‬ا‬
‫ما يكونون عليه من أحوال‪.‬‬
‫وأول ما نزل عليه من القرآن وآخر ما نزل‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ -‬الباب الثالث‪ :‬المكي والمدني‪:‬‬
‫لما نزل القرآن نزل بعضه في العهد المكي‪ ،‬وبعضه نزل في العهد المدني ولكل منهما خصائصه ومميزاته‪.‬‬

‫‪ -‬الباب الرابع‪ :‬أسباب النزول‪:‬‬


‫أي‪ :‬ما كان يقترن بنزول القرآن من مًلبسات األحداث التي تساعد على فهم القرآن وتبين تفسيره‪ ،‬ومع ذلك هذه‬
‫اآليات تكون صريحة لغير هذه المًلبسات وغير هذه الوقائع‪.‬‬

‫‪ -‬الباب الخامس‪ :‬جمع القرآن وترتيبه‪:‬‬


‫وبين فيه كيف ُجمع القرآن‪ ،‬ومراحل الجمع حتى وصل القرآن إلينا‪.‬‬

‫‪ -‬الباب السادس‪ :‬المحكم والمتشابه‪:‬‬


‫ُخر متشابهات‪ ،‬فعقد باباا للمحكم والمتشابه لبيان اإلحكام‬
‫كان مما نزل من القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب وأ ُ‬
‫والتشابه والتأويل بنوعي كل واح ادا منهما‪.‬‬

‫‪ -‬الباب السابع‪ :‬العام والخاص‪:‬‬


‫بين فيه تعريف العام‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬وصيغته الدالة عليه‪ ،‬وتخصيص العام‪ ،‬وأنواع المخصص‪ ،‬ومتى يخصص العام‪ ،‬ومتى‬
‫يبقى على عمومه‪.‬‬

‫‪ -‬الباب الثامن‪ :‬الناسخ والمنسوخ‪:‬‬


‫واشتمل على تعريفه وأنواعه‪ ،‬وطرق ثبوته‪ ،‬وشروط وقفه‪.‬‬

‫‪ -‬الباب التاسع‪ :‬المطلق والمقيد‪ :‬ويشتمل على‪:‬‬


‫تعريف المطلق والمقيد‪ ،‬الحاالت التي يحمل فيها المطلق على المقيد‪ ،‬ومتى يلجأ إلى تقييد المطلق‪.‬‬

‫‪ -‬الباب العاشر‪ :‬المنطوق والمفهوم‪:‬‬


‫ويشتمل على‪ :‬تعريف المنطوق وتعريف المفهوم‪ ،‬وأنواع داللة المنطوق‪ ،‬وشروط صحة التأويل‪ ،‬وكذلك أنواع داللة‬
‫المفهوم‪.‬‬

‫‪ -‬الباب الحادي عشر‪ :‬إعجاز القرآن‪ ،‬وفيه‪:‬‬


‫بيان معنى اإلعجاز والمراد به‪ ،‬وأن القرآن معجز بلفظه‪ ،‬وكذلك بمعانيه‪ ،‬وأن اهلل تح ّدى به كل األمم‪،‬‬
‫وبيان أنواع اإلعجاز‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ -‬الباب الثاني عشر‪ :‬أمثال القرآن‪ :‬وقد اشتمل على‪:‬‬
‫تعريف المثل‪ ،‬وأنواع األمثال القرآنية‪ ،‬وبيان المقاصد التي من أجلها سيقت األمثال في القرءان‪.‬‬

‫سم في القرآن‪ ،‬ويشمل‪:‬‬


‫‪ -‬الباب الثالث عشر‪ :‬ال َق َ‬
‫تعريف القسم‪ ،‬وتكوين صيغته‪ ،‬وأنواعه‪ ،‬وما يقسم اهلل به في القرآن‪.‬‬

‫‪ -‬الباب الرابع عشر‪ :‬جدل القرآن‪ ،‬وفيه‪:‬‬


‫بيان الجدل‪ ،‬وما يمدح منه وما يذم‪ ،‬وأنواع الجدل والمذموم‪ ،‬وغير ذلك من طرق الجدل القرآني ونحوه‪.‬‬

‫‪ -‬الباب الخامس عشر‪ :‬قصص القرآن‪ :‬ويشتمل على‪:‬‬


‫بيان حقيقة القصص القرآنية‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬والعبرة من تكرار القصة في القرآن‪.‬‬

‫‪ -‬الباب السادس عشر‪ :‬ترجمة‪ ،‬ويشتمل على‪:‬‬


‫تعريف الترجمة‪ ،‬وأنواعها‪ ،‬وحكمها‪ ،‬وشروط من يقوم بالترجمة‪.‬‬

‫‪ -‬الباب السابع عشر‪ :‬اإلسرائيليات‪ :‬وقد اشتمل على‪:‬‬


‫بيان مرويات بني إسرائيل وأنواعها‪ ،‬وحكم األخذ بها في تفسير القرآن العظيم‪.‬‬

‫‪ -‬الباب الثامن عشر‪ :‬أصول التفسير‪:‬‬


‫يفسر بالقرآن‪ ،‬ثم بالسنة‪ ،‬ثم بأحوال السلف‪،‬‬
‫وهي القواعد التي يعتمد عليها المفسرين‪ ،‬وطريقة تفسير القرآن بأن ّ‬
‫وغير ذلك من بيان شروط المفسرين‪.‬‬
‫وآداب التفسير‪ ،‬والتعليق على اختًلف المفسرين‪ ،‬وأسبابه‪ ،‬وطرق التفسير وأساليبه‪.‬‬

‫وبهذا تنتهي المحاضرة األولى‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫المحاضرة الـثـانيــة‬
‫الباب األول‪( :‬باب الوحي)‬
‫والوحي أيها األحباب الكرام‪ :‬هو طريق نزول القرآن ووصوله إلينا‪.‬‬
‫ِ‬
‫ووقوع الوحي دل عليه القرآن الكريم‪ ،‬كما في قوله تعالى من سورة النجم ﴿ َوَما يَنط ُق َع ِن ال َْه َو ٰى ۝ إ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُ َ‬
‫وح ٰى﴾‬
‫ون﴾‬ ‫وحي إِلَْي ِه أَنَّهُ َال إِ ٰلَ َه إَِّال أَنَا فَا ْعب ُد ِ‬‫ك ِمن َّرسول إَِّال نُ ِ‬ ‫وقال سبحانه ﴿ َوَما أ َْر َسلْنَا ِمن قَـ ْب ِل َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ك ِمن ال ِ‬
‫ْح ْك َم ِة﴾‬ ‫ك ِم َّما أ َْو َح ٰى إِلَْي َ‬
‫وقال جل وعًل ﴿ ٰذَلِ َ‬
‫ك َربُّ َ َ‬
‫وجل أثبت وقوع الوحي للنبي ﷺ بل ولكل نبي ورسول أرسله اهلل ّ‬
‫جل وعًل‪،‬‬ ‫عز ّ‬ ‫اهلل ّ‬
‫ين ِمن بَـ ْع ِدهِ﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫كما في قوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّا أ َْو َح ْيـنَا إِلَْي َ‬
‫ك َك َما أ َْو َح ْيـنَا إلَ ٰى نُوح َوالنَّبيِّ َ‬

‫والوحي‪ :‬في اللغة‪ :‬هو اإلعًلم الخفي السريع‬


‫وأما في اصطًلح العلماء‪ :‬فيعرف باعتبارين‪:‬‬
‫ّ‬
‫نعرفه فنقول‪ :‬هو كًلم اهلل المنزل‬
‫عرفناه بهذا االعتبار فإننا ّ‬
‫‪ -‬االعتبار األول‪ :‬باعتبار اسم المفعول وهو الموحى به‪ ،‬وإذا ّ‬
‫على نبي من أنبيائه‪.‬‬
‫جل وعًل وال بكًلم غيره وإنّما ينزل من عند اهلل سبحانه وتعالى على نبي من األنبياء‬
‫فالوحي إنما يكون بكًلم اهلل ّ‬
‫خاصا بالنبي ﷺ بل هو عام لكل نبي أو رسول أرسله اهلل ّ‬
‫جل وعًل‬ ‫وليس الوحي ا‬
‫الوحي هو إعًلم اهلل نبياا من أنبيائه بما أراد‪.‬‬
‫َ‬ ‫ف حينئذ بأ ّن‬
‫عر ُ‬
‫عرف الوحي باعتبار المصدر فيُ ّ‬
‫‪ -‬االعتبار الثاني‪ :‬أ ْن يُ ّ‬

‫إعًلم اهلل أي أ ّن الوحي إعًلم يقع بأي طريقة من الطرق التي سيؤتى ذكرها التي يؤدى بها‪.‬‬
‫اإلعًلم إعًلم اهلل‪.‬‬
‫وقوله (اهلل)‪ :‬قصر للوحي الشرعي ألنه من اهلل ال من غيره سبحانه وتعالى فليس الوحي من جبريل وال من النبي ﷺ‬
‫قوله (إعًلم اهلل نبياا من أنبيائه)‪ :‬قصر للوحي بالمعنى الشرعي على الوحي لألنبياء فالوحي ال ينزل على غير األنبياء‪.‬‬
‫وقوله (بما أراد)‪ :‬بيان للموحى به سواء كان من األخبار أو من االحكام‪.‬‬

‫والوحي أيها الكرام ينقسم إلى قسمين‪:‬‬


‫‪ -‬القسم األول‪ :‬وحي اهلل إلى المًلئكة‪.‬‬
‫‪ -‬والقسم الثاني‪ :‬وحي اهلل إلى رسوله‬

‫‪11‬‬
‫‪ ‬القسم األول‪ :‬وحي اهلل إلى المًلئكة‪:‬‬
‫مباشرا‪.‬‬
‫تكليما ا‬ ‫ويكون بالتكليم فاهلل جل وعًل يكلم مًلئكته‪ ،‬يعني يوحي إليهم ا‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫كما قال تعالى في إثبات وحيه سبحانه إلى المًلئكة قال‪﴿ :‬إِ ْذ ي ِ‬
‫وحي َربُّ َ ِ‬
‫ك إلَى ال َْم ًَلئ َكة أَنِّي َم َع ُك ْم فَـثَبِّتُوا الذ َ‬
‫ين‬ ‫ُ‬
‫آمنُوا﴾‬‫َ‬
‫ض َخ ِلي َفةاۙ قَالُوا أَتَ ْج َع ُل ِف َيها َمن يُـ ْف ِس ُد ِف َيها َويَ ْس ِف ُ‬
‫ك‬ ‫اع ٌل فِي ْاأل َْر ِ‬ ‫ك لِلْم ًَلئِ َك ِة إِنِّي ج ِ‬ ‫وقال سبحانه‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ قَ َ‬
‫َ‬ ‫ال َربُّ َ َ‬
‫ال إِنِّي أَ ْعلَ ُم َما َال تَـ ْعلَ ُمو َن﴾‬ ‫ِ ِ‬
‫كۙ قَ َ‬ ‫س لَ َ‬ ‫سبِّ ُح ب َح ْمد َك َونـُ َق ِّد ُ‬
‫اء َونَ ْح ُن نُ َ‬
‫ِّم َ‬
‫الد َ‬
‫كًلما والمًلئكة تسمع وترد جواباا فهذا يدل على أن وحي اهلل إلى مًلئكته إنما هو بالكًلم‬‫جل وعًل يقول ا‬‫فاهلل ّ‬
‫كًلما تفهمه المًلئكة وتر ّد عليه‪.‬‬
‫والتكليم‪ ،‬يتكلم ا‬
‫ضى اللَّهُ‬
‫النبي ﷺ قال‪( :‬إذا قَ َ‬ ‫وجاء في السنة أيضا ما يدل على ذلك كما عند البخاري من حديث أبي هريرة أ ّن َّ‬
‫ضعاناا لَِقولِ ِه‪ِ ِ ِّ ،‬‬
‫َجنِ َحتِها ُخ ْ‬ ‫الس ِ‬
‫ع عن قُـلُوبِ ِه ْم‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫ص ْفوان حتى إذا فُـ ِّز َ‬
‫كالسلْسلَة علَى َ‬ ‫ْ‬ ‫المًلئِ َكةُ بأ ْ‬ ‫ماء‪ِ َ ،‬‬
‫ض َربَت َ‬ ‫األم َر في َّ‬
‫ْ‬
‫قال َربُّ ُك ْم؟ قالوا‪ :‬الحق وهو العلي الكبير)‪.‬‬
‫ماذا َ‬
‫وجاء عند أبي داود من حديث عبد اهلل بن مسعود أ ّن الحبيب النبي ﷺ قال‪( :‬إذا تكلّم اهلل بالوحي سمع أهل‬
‫السماء للسماء صلصلةا كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فًل يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل‪ .‬حتى إذا جاءهم‬
‫جبريل فزع عن قلوبهم فيقولون‪ :‬يا جبريل‪ ،‬ماذا قال ربك؟ فيقول جبريل‪ :‬الحق‪ .‬فيقولون‪ :‬الحق الحق)‬
‫وصححه األلباني في السلسلة الصحيحة‪.‬‬
‫والحديث أخرجه أبو داود ّ‬
‫فيتبين بهذا أ ّن جبريل يسمع كًلم الرب الجليل سبحانه وتعالى فيبلّغه ‪ ‬كما سمعه إلى الرسول ﷺ‪.‬‬
‫وليس لجبريل وال لمحمد صلى اهلل عليهما وسلم إال البًلغ كما دلت على ذلك النصوص القرآنية‪،‬‬
‫ك لَتُـلَ َّقى الْ ُق ْرآ َن ِمن لَّ ُد ْن َح ِكيم َعلِيم﴾‬
‫كما في قوله تعالى مخاطباا نبيه عليه الصًلة والسًلم‪َ ﴿ :‬وإِنَّ َ‬
‫فألغى واسطة جبريل هنا ببيان مصدر القرآن وأنه الحكيم العليم سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪ ‬القسم الثاني‪ :‬وحي اهلل إلى رسله‪:‬‬


‫فالوحي إلى الرسل يكون بواسطة وبغير واسطة‪ ،‬وهذا ما سيأتي بيانه في الضابط األول‪.‬‬

‫قال غفر اهلل له تحت باب الوحي‪ :‬وفيه ثًلثة ضوابط‪:‬‬


‫‪ ‬الضابط األول‪ :‬مراتب الوحي أربعة‪:‬‬
‫مراتب الوحي جمع مرتبة‪ ،‬والوحي المقصود هنا‪ :‬هو وحي اهلل إلى رسله‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬إلى رسله جمع رسول‪ .‬والمقصود به الرسول البشري‪.‬‬
‫وقوله مراتب الوحي أربعة‪ :‬وهذه األربعة التي ح ّددها جاءت آية الشورى مشتملة عليها‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وال فَـي ِ‬
‫وح َي بِِإ ْذنِِه َما يَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫وهى قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَما َكا َن لِبَ َ‬
‫شاءُۙ‬ ‫شر أَن يُ َكلِّ َمهُ اللَّهُ إَِّال َو ْحياا أ َْو من َوَراء ح َجاب أ َْو يـُ ْرس َل َر ُس ا ُ‬
‫ِ ِ‬
‫إِنَّهُ َعلي َحك ٌ‬
‫يم﴾‪.‬‬
‫وجل بها إلى رسله‪.‬‬
‫عز ّ‬‫فتعالوا بنا تحت هذه اآلية نسترشد لنرى ما هي المراتب األربعة التي يوحي اهلل ّ‬

‫‪ ‬المرتبة األولى‪ :‬الرؤية المنامية‪ ،‬وهي أولى مراتب وحي اهلل إلى رسله‪.‬‬
‫قال ابن الجوزي في قوله تعالى‪( :‬وما كان لبشر أن يكلمه اهلل إال وحيا"‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهو الوحي في المنام‪ ،‬فالنبي ﷺ كان أول وحيه في المنام الرؤية الصالحة‪ ،‬وهذا الوحي كانت مدته ستة‬
‫أشهر‪.‬‬
‫يعنى ظل النبي ﷺ يوحى إليه عن طريق الرؤية الصالحة ستة أشهر‪،‬‬
‫ئ به رسول اهلل ﷺ من الوحي الرؤية‬ ‫وذلك لما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة ‪ ‬أنّها قالت‪ :‬أول ما بُ ِد َ‬
‫الصالحة في النوم‪ ،‬فكان ال يرى رؤيةا إال جاءت مثل فلق الصبح‪ .‬ثم ُحبّب إليه الخًلء‪ ...‬الحديث‬
‫وجاء في حديث أبي سعيد الخدري أنه سمع الحبيب النبي ﷺ (والحديث فى البخاري) يقول‪ :‬الرؤية الصالحة‬
‫جزءا من النبوة‪.‬‬
‫جزء من ستة وأربعين ا‬
‫وتوضيح ذلك أن الرؤية الصالحة كانت هي الوحي الذي ينزل على النبي ﷺ لمدة ستة أشهر‪.‬‬
‫فلو نظرنا إلى مدة البعثة لوجدنا أن مدة البعثة ثًلثةا وعشرين سنة‪ ،‬فلو نظرنا وجعلنا النسبة بين الستة أشهر إلى الثًلثة‬
‫جزءا‪.‬‬
‫جزءا من ستة وأربعين ا‬
‫والعشرين سنة لوجدناها ا‬
‫لكن هنا سؤال‪ :‬هل الرؤية الصالحة كانت خاصة بهذه المرحلة فقط الستة أشهر‪ ،‬ثم بعد ذلك لم ِ‬
‫يأت للنبي ﷺ‬
‫وحي عن طريق الرؤية الصالحة؟ أم أنّه جاءه جبريل بعد ذلك بعد أ ْن خًل في غار حراء وكانت تأتيه الرؤية الصالحة‬
‫ضا؟‬
‫أي ا‬
‫الجواب‪ :‬أ ّن الرؤية الصالحة جاءت للنبي ﷺ بعد هذه المدة‬
‫الرْؤيا بِالْح ِّقۙ لَتَ ْد ُخلُ َّن الْمس ِج َد الْحرام إِن َش َّ ِ ِ‬
‫ين‬
‫اء اللهُ آمن َ‬
‫َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َْ‬ ‫ص َد َق اللَّهُ َر ُسولَهُ ُّ َ َ‬‫كما قال تعالى في سورة الفتح‪﴿ :‬لََّق ْد َ‬
‫ص ِرين َال تَ َخافُو َنۙ فَـعلِم ما لَم تَـ ْعلَموا فَجعل ِمن ُد ِ‬
‫ون ٰذَلِ َ‬ ‫ِ‬
‫ك فَـ ْت احا قَ ِريباا‪﴾.‬‬ ‫َ َ َ ْ ُ ََ َ‬ ‫وس ُك ْم َوُم َق ِّ َ‬ ‫ُم َحلِّق َ‬
‫ين ُرءُ َ‬
‫ومعلوم أن هذا لم يكن في الستة أشهر األولى‪ .‬ومعنى ذلك أ ّن النبي ﷺ اقتصر وحيه بالستة أشهر األولى على‬
‫الرؤية ثم جاءه جبريل بعد ذلك وكانت تأتيه الرؤيا أيضا‪.‬‬
‫وهنا سؤال أخر‪ :‬هل أوحي إلى النبي ﷺ شيء من القرآن عن طريق الرؤية الصالحة؟‬

‫الجواب‪ :‬لم يقع شيء من ذلك البتة‪ ،‬فالقرآن أُنزل كله على النبي ﷺ يقظةا ال ا‬
‫مناما‪.‬‬
‫والنبي ﷺ في حال الوحي مع ما يحل به يكون في تمام الوعي؛‬

‫‪13‬‬
‫وعيت عنه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ألنه ﷺ حينما ذكر نزول جبريل عليه قال‪ :‬فيفصم عنّي وقد‬
‫تماما كل ما ألقى إليه جبريل من الوحي‪.‬‬
‫أي أنّه يكون في تمام الوعي حتى أنه يعي ا‬
‫بشرا متلقياا للوحي وبين كون الملك النازل إليه مل اكا ملقيا للوحي ﷺ‪ ،‬فقال‪ :‬فأعي‬ ‫والنبي ﷺ ّ‬
‫فرق بين كونه ا‬
‫عنه ما يقول فيفصم عنّي وقد وعيت ما قال‪.‬‬
‫ففرق بين أن يكون هو جبريل وجبريل هو كما يزعم البعض أن‬
‫فأعي عنه ما يقول‪ :‬أي يبقى ما يقول غيري وهو جبريل‪ّ ،‬‬
‫حالة الوحي هي حالة اتحاد الرسول الملكي مع الرسول البشر‪ .‬وهذا خطأ‪ ،‬والدليل على خطئه ما ذكرناه من قول‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬
‫سؤال‪ :‬الرؤية الصالحة التي يوحي اهلل بها إلى أنبيائه هل وقعت لغير نبينا ﷺ؟‬
‫الجواب‪ :‬نعم وقعت‪ .‬فقد وقعت إلبراهيم ‪‬‬
‫ال يَا بُـنَ َّي إِنِّي أ ََر ٰى فِي ال َْمنَ ِام أَنِّي أَ ْذبَ ُح َ‬
‫ك فَانظُْر َماذَا‬ ‫لس ْع َي قَ َ‬
‫كما في قوله تعالى في سورة الصافات‪﴿ :‬فَـلَ َّما بَـلَ َغ َم َعهُ ا َّ‬
‫ت افْـ َعل َما تُـ ْؤَمرۙ َستَ ِج ُدنِي إِن َشاء اللَّهُ ِمن َّ ِ‬
‫ال يا أَب ِ‬
‫ين﴾‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫تَـ َر ٰىۙ قَ َ َ َ‬
‫"قد صدقت الرؤيا"‪ :‬أي صدقتها بعملك‪ .‬فإبراهيم ‪ ‬أوحي إليه بذبح ولده إسماعيل عن طريق الرؤية الصالحة‪.‬‬
‫رجًل رأى رؤية في آخر الزمان بعد وفاة النبي ﷺ هل تكون هذه الرؤية وحياا؟ ليست وحيا‪.‬‬
‫وهنا سؤال‪ :‬لو أن ا‬
‫فإن النبي ﷺ قال كما في البخاري‪ :‬ذهبت النبوة وبقيت المبشرات‪ ،‬قالوا‪ :‬وما المبشرات يا رسول اهلل؟ قال‪:‬‬
‫الرؤية الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له)‪.‬‬
‫فهي من المبشرات ولكنها ليست وحيا‪ ،‬فإ ّن الوحي الشرعي قد انقطع بموت خاتم األنبياء وآخر المرسلين محمد‬
‫ﷺ‪.‬‬

‫‪ ‬المرتبة الثانية‪ :‬النفث في الروع‬


‫نفسا لن‬ ‫ودليل هذه المرتبة قول النبي ﷺ كما عند ابن حبّان في صحيحه‪( :‬إن روح القدس َ‬
‫نفث في روعي أ ّن ا‬
‫تموت حتى تستكمل رزقها وتستوفي أجلها)‪.‬‬

‫فقوله ﷺ‪ :‬إ ان روح القدس‪ :‬المقصود هنا جبريل ‪ ،‬ا‬


‫وسمي روح القدس ألنه يأتي بما فيه حياة القلب‪ ،‬فإنه‬
‫المتولي إلنزال الكتب اإللهية التي بها تحيا األرواح الربانية‪.‬‬

‫يما ُن﴾‬ ‫اب َوَال ِْ‬


‫اإل َ‬
‫ِ‬
‫نت تَ ْد ِري َما الْكتَ ُ‬
‫وحا ِّم ْن أ َْم ِرنَاۙ َما ُك َ‬
‫ك ُر ا‬ ‫كما قال جل وعًل عليه‪َ ﴿ :‬وَك َٰذلِ َ‬
‫ك أ َْو َح ْيـنَا إِلَْي َ‬
‫نفث في روعي‪ :‬النفث‪ :‬هو التفل بغير ريق‪ ،‬في روعي‪ :‬أي ألقي الوحي في خلدي أو في نفسي أو في قلبي أو في‬

‫عقلي من غير أن أسمعه وال أن أراه‪ .‬والنفث ما يلقيه اهلل إلى نبيه ﷺ ا‬
‫إلهاما‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪ ‬المرتبة الثالثة‪ :‬التكليم من وراء حجاب‪ ،‬أي بًل واسطة ملك‪.‬‬
‫والدليل قوله تعالى في سورة الشورى‪﴿ :‬أو من وراء حجاب﴾‪.‬‬
‫ومنه تكليم اهلل لموسى ‪ :‬كما قال تعالى ﴿وكلم اهلل موسى تكليما﴾ والتوكيد يدل على وقوع التكليم‪.‬‬
‫أي أنه كلمه كًلما وتكليما حقيقيا وأن المتكلم هنا هو اهلل جل وعًل وأن المكلّم هنا هو موسى عليه وعلى نبينا‬
‫الصًلة والسًلم‬
‫وس ٰى لِ ِمي َقاتِنَا َوَكلَّ َمهُ َربُّهُ﴾‬
‫اء ُم َ‬
‫وقال تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َّما َج َ‬
‫وكلمه ربه‪ :‬أي كلّم اهلل موسى‪ .‬والكًلم هنا كًلم حقيقي أيضا‪ ،‬والمتكلم هنا هو رب العالمين‪ ،‬والمكلّم هو موسى‬
‫عليه وعلى نبينا الصًلة والسًلم‪.‬‬
‫وال يصلح أن يكون المتكلم هنا غير اهلل سبحانه وتعالى‪ ،‬على اعتقاد األشاعرة أ ّن المتكلم هو جبريل‪ ،‬أو المتكلم هي‬
‫الشجرة‪ ،‬وأ ّن الكًلم صدر من الشجرة‪ ،‬إ ّن اهلل ألقى المعنى إلى الشجرة فتكلمت الشجرة‪ .‬كل هذا غير صحيح‪.‬‬
‫وس ٰى إِنِّي أَنَا‬ ‫اط ِئ الْو ِاد ْاألَيم ِن فِي الْبـ ْقع ِة الْمبارَك ِة ِمن َّ ِ‬
‫ودي ِمن َش ِ‬
‫ِ‬
‫الش َج َرة أَن يَا ُم َ‬ ‫ُ َ َُ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫فإن اهلل عز وجل قال‪﴿ :‬فَـلَ َّما أَتَ َ‬
‫اها نُ َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫اللَّهُ َر ُّ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬
‫فلما أتاها‪ :‬أي الشجرة‪ .‬فهل تستطيع الشجرة أو حتى يستطيع جبريل أ ْن يقول لموسى ‪ ‬أني أنا اهلل؟‬
‫جل‬
‫قطعا ال‪ ،‬فالمتكلم هنا على الحقيقة هو اهلل وإنّما أراد األشاعرة بقولهم هذا أن يفروا من إثبات الكًلم الحقيقي هلل ّ‬ ‫ا‬
‫وعًل‪ ،‬وإن كانوا يثبتونه إثباتاا شكلياا صورياا‪.‬‬
‫فإن األشاعرة يقولون في الصفات السبع المثبتة‪ ،‬يقولون‪ :‬له الحياة والكًلم والبصر سمع إرادة وعلم واقتدار‪ .‬فالكًلم‬
‫كًلما نفسياا‬
‫من الصفات السبعة التي اختصروا على إثباتها لكنّهم في الحقيقة يثبتونها إثباتاا صورياا كما قلنا‪ ،‬فيثبتون هلل ا‬
‫كًلما‪ ،‬وكًلم ربنا بل وجميع‬
‫يسمى ا‬ ‫معنى نفسياا ال بلفظ وال بحرف‪ ،‬هو في الحقيقة ال ّ‬ ‫وال بحرف وال بصوت‪ ،‬يعني ا‬
‫جل وعًل‪.‬‬
‫جل وعًل ال تشبه صفات المخلوقين وال يعلم حقيقتها إال اهلل ّ‬ ‫صفات ربنا ّ‬
‫الس ِميع الْب ِ‬
‫ص ُير﴾‬ ‫كما في قوله تعالى‪﴿ :‬لَي ِ ِ ِ‬
‫س َكمثْله َش ْيءٌۙ َو ُه َو َّ ُ َ‬
‫ْ َ‬
‫لكن المعنى‬
‫جل وعًل‪ ،‬لم يخبرنا عن كيفية سمعه وبصره‪ ،‬بل وكيفية صفاته‪ّ ،‬‬ ‫فنحن نعرف ما يخبرنا اهلل عنه واهلل ّ‬
‫معلوم‪ ،‬معنى الكًلم‪ ،‬ومعنى السمع‪ ،‬والبصر معنى معلوم‪ ،‬فمعنى الكًلم أنّه كًلم حقيقي‪ ،‬وكيفيته ال يعلمها إال هلل‪ ،‬فًل‬
‫يعلم كيف صفاته إال هو سبحانه وتعالى‪ ،‬ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‪.‬‬
‫ومما يذكر هنا أيضا أ ّن التكليم بغير حجاب وقع لنبينا ﷺ كما جاء في صحيح مسلم أنّه عليه الصًلة والسًلم‬
‫علي خمسين صًلة في كل يوم وليلة)‪.‬‬
‫إلي ما أوحى‪ ،‬وفرض اهلل ّ‬
‫قال‪( :‬فأوحى اهلل ّ‬
‫مباشرا‪ ،‬من وراء حجاب يعني ال واسطة‬
‫ا‬ ‫تكليما‬
‫ا‬ ‫مباشرا‪ ،‬والتكليم حينئذ‬
‫ا‬ ‫فكان الوحي حينئذ في اإلسراء والمعراج وحياا‬
‫فيه‪ ،‬ال جبريل وال غير جبريل‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ ‬المرتبة الرابعة واألخيرة من مراتب الوحي‪ :‬الوحي بواسطة الملك‬
‫شاءُۙ﴾‬ ‫وال فَـي ِ‬
‫وح َي بِِإ ْذنِِه َما يَ َ‬ ‫ِ‬
‫ودليلها قوله تعالى ﴿أ َْو يـُ ْرس َل َر ُس ا ُ‬
‫فالرسول هنا المقصود به الرسول الملكي وليس الرسول البشري‪.‬‬
‫ينزل جبريل ‪ ‬إلى المرسل إليه فيوحي بإذن ربه‪ ،‬ال بمجرد هواه‪.‬‬
‫رسوال‪ :‬أي أن ّ‬
‫أو يرسل ا‬
‫ما يشاء‪ :‬إيحاء اهلل تعالى إلى نبيه‪.‬‬
‫وجل‪﴿ :‬إِنَّهُ لََق ْو ُل َر ُسول َك ِريم ۝ ِذي قُـ َّوة ِعن َد ِذي ال َْع ْر ِ‬
‫ش َم ِكين﴾‬ ‫عز ّ‬‫وقال ّ‬
‫أي ان القرآن لتبليغ رسول كريم‪ ،‬وهو جبريل ‪ ‬ذي قوة في تنفيذ ما يؤمر به وصاحب مكانة رفيعة عند اهلل تطيعه‬
‫المًلئكة‪ ،‬وهو مؤتمن على الوحي الذي ينزل به من عند اهلل سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫ونتوقف هنا إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬

‫األسئ ـلة‬ ‫واصطًلحا‪.‬‬ ‫عرف الوحي لغةا‬


‫ا‬ ‫السؤال األول‪ّ :‬‬
‫السؤال الثاني‪ :‬مراتب الوحي أربع‪ .‬اذكرها مع الدليل على كل مرتبة من المراتب‪.‬‬

‫خيرا‪،‬‬
‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل ا‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الـمحاضـرة الـثـالث ــة‬
‫كنا قد وصلنا إلى الضابط الثاني من الباب األول (باب الوحي)‪:‬‬
‫َّاب الوحي ستة عشر صحابيا‪:‬‬
‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثاني‪ُ :‬كت ُ‬
‫أبي بن كعب زيد بن ثابت أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب عثمان بن عفان علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان‬
‫عبد اهلل بن أبي السرح الزبير بن العوام المغيرة بن شعبة حنظلة بن الربيع عامر بن فهيرة يزيد بن أبي سفيان خالد بن‬
‫جميعا‪.‬‬
‫الوليد عمرو بن العاص ثابت بن قيس ‪ ‬ا‬

‫َّاب الوحي ستة عشر صحابيا‪ :‬كتاب الوحي هم الذين كتبوا القرآن بين يدي رسول اهلل ﷺ‪ .‬فإن القرآن ُجمع في‬
‫قوله‪ُ :‬كت ُ‬
‫زمنه عليه الصًلة والسًلم في صدور الصحابة وجمع أيضا مكتوبا في السطور‪ .‬واشتهر بعض الصحابة بكتابة الوحي بين يديه‬
‫عليه الصًلة والسًلم‪ ،‬بعضهم بأمر منه ﷺ وبعضهم كان يكتب القرآن لنفسه‪.‬‬

‫وكان هذا من تمام عناية اهلل عز وجل بكتابه أن وجه الهمم ووفر الدواعي إلى تدوينه في السطور كما وجه عناية النبي ﷺ‬
‫وصحابته الكرام إلى حفظه واستظهاره في الصدور‪ ،‬فتحقق باألمرين وعد اهلل عز وجل بحفظه في قوله‪﴿ :‬إِنَّا نَ ْح ُن نَـ َّزلْنَا ِّ‬
‫الذ ْك َر‬
‫َوإِنَّا لَهُ لَ َحافِظُو َن﴾‪.‬‬
‫وكتاب الوحي‪:‬‬
‫‪ -‬منهم من كتب في العهد المدني‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من كتب في العهد المكي‪.‬‬
‫‪ -‬ومنهم من كتب ولم يتميز في أي العهدين كتب‪.‬‬

‫‪ ‬فممن كتب في العهد المكي‪ :‬عبد اهلل بن أبي السرح‪ ،‬وحنظلة بن الربيع‪.‬‬
‫‪ ‬وممن كتب في العهد المدني‪ :‬أُبي بن كعب‪ ،‬وزيد بن ثابت‪ ،‬وثابت بن قيس وغيرهم‪.‬‬
‫‪ ‬وممن كتب في الجملة ولم يتميز‪ :‬كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وغيرهم‪.‬‬

‫قوله غفر اهلل له كتاب الوحي ستة عشر صحابيا‪:‬‬


‫اقتصر هنا على المشتهرين بكتابة الوحي من الصحابة الذين كانوا يكتبون ما ينزل من القرآن العظيم‪ .‬وبعض العلماء زاد عن‬
‫هذا العدد وبعضهم نقص عنه لكنه اقتصر هنا على المشهورين من الصحابة بكتابة القرآن للنبي ﷺ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬أُبَ ُّي بن كعب‪ :‬وأبي بن كعب هو أول ال ُكتّاب وهو من الذين جمعوا القرآن على عهد النبي ﷺ‪.‬‬
‫فعن أنس ‪‬أنه قال‪( :‬جمع القرآن على عهد النبي ﷺ أربعة‪ ،‬كلهم من األنصار‪ :‬أبي ومعاذ بن جبل وأبو زيد‬
‫وزيد بن ثابت ‪ ."‬والحديث في البخاري‪.‬‬
‫فأبي بن كعب جمع القرآن على عهد النبي ﷺ أي حفظا في صدره‪.‬‬
‫وهو القارئ المشهور الذي قال عنه النبي ﷺ‪( :‬أقرؤكم أُبَ ُّي)‪.‬‬
‫وكان أول من كتب الوحي بين يدي رسول اهلل صلى عليه وسلم في المدينة فإن لم يحضر أبي فكان يكتب زيد بن‬
‫ثابت ‪.‬‬

‫‪ -‬الثاني‪ :‬زيد بن ثابت‪.‬‬


‫وهو الكاتب الثاني الذي قال عنه النبي ﷺ أو قال له‪( :‬يا زيد تعلم كتاب يهود فإني واهلل ما آمن يهود على‬
‫كتابي"‪ .‬قال زيد‪( :‬فتعلمت كتابهم ما مرت بي خمس عشرة ليلة حتى حذقته (أي أتقنته) وكنت أقرأ له كتبهم إذا كتبوا‬
‫إليه وأجيب عنه إذا كتب)‪ .‬والحديث أخرجه أبو داود وصححه األلباني‪.‬‬
‫وعند البخاري وأبي داود واللفظ له عنه أيضا قال‪( :‬كنت إلى جنب رسول اهلل ﷺ فغشيته السكينة فوقعت فخذ‬
‫ي عنه فقال‪:‬‬ ‫رسول اهلل ﷺ على فخذي فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول اهلل ﷺ ثم ُس ِّر َ‬
‫يل ِ‬
‫اهلل﴾ إلى آخر اآلية‪ .‬فقام ابن أم‬ ‫اع ُدو َن ِمن الْم ْؤِمنِين والْمج ِ‬
‫اه ُدو َن فِي َسبِ ِ‬ ‫(اكتب(فكتبت في كتف‪َ ﴿ :‬ال يست ِوي الْ َق ِ‬
‫َ ُ ََ َُ‬ ‫َ َْ‬
‫مكتوم وكان رجًل أعمى لما سمع فضيلة المجاهدين فقال‪ :‬يا رسول اهلل فكيف بمن ال يستطيع الجهاد من المؤمنين؟‬
‫فلما قضى كًلمه غشيت رسول اهلل ﷺ السكينة‪.‬‬
‫يقول زيد‪ :‬فوقعت فخذه على فخذي فوجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة األولى‪.‬‬
‫ي عن رسول اهلل ﷺ فقال‪" :‬اقرأ يا زيد"‪.‬‬
‫ثم ُس ِّر َ‬
‫اهلل﴾ فقال رسول اهلل ﷺ‪﴿ :‬غَْي ِر أ ُْولِي‬
‫يل ِ‬ ‫اع ُدو َن ِمن الْم ْؤِمنِين والْمج ِ‬
‫اه ُدو َن فِي َسبِ ِ‬ ‫َ ُ َ َ َُ‬
‫فقرأت‪َ ﴿ :‬ال يست ِوي الْ َق ِ‬
‫َ َْ‬
‫الض ََّرِر﴾‪.‬‬
‫قال زيد‪ :‬فوضعها في مكانها اآلية كاملة‪ ،‬قال زيد‪ :‬فأنزلها اهلل وحدها فألحقتها والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى‬
‫ملحقها عند صدع في كتف (أي عند مكان انحناء أو كسر في الكتف)‪.‬‬

‫وأوضح ابن عبد البر ‪ ‬أن زيدا كان ألزم الصحابة لكتابة الوحي حتى أن زيدا لكثرة تعاطيه للكتابة قد خصه البخاري‬
‫‪ ‬في كتاب النبي ﷺ بوصف الكاتب‪ ،‬فقال‪( :‬باب كاتب النبي ﷺ)‪ ،‬وخصه بذلك دون غيره ممن كتب‪.‬‬
‫وهو أيضا الذي جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ -‬الكاتب الثالث‪ :‬أبو بكر الصديق ‪.‬‬
‫وهو أمير المؤمنين وصاحب النبي األمين أبو بكر ‪‬واسمه عبد اهلل بن عثمان بن عامر ‪.‬‬
‫وأبو بكر فضائله كثيرة مشهورة معلومة وذكره من الكتاب في [عيون األثر]‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب الرابع‪ :‬أبو حفص ‪.‬‬


‫ذكره أيضا من الكتاب في [عيون األثر]‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب الخامس‪ :‬عثمان بن عفان‪.‬‬


‫ذو النورين صاحب الهجرتين وزوج البنتين تزوج رقية وأم كلثوم وهو ثالث الخلفاء الراشدين ‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب السادس‪ :‬علي بن أبي طالب أبو الحسنين حيدرة األبطال وأشجع الشجعان ‪.‬‬
‫وهو ابن عم رسول اهلل ﷺ وكان ممن كتب له عليه الصًلة والسًلم‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب السابع‪ :‬معاوية بن أبي سفيان ‪.‬‬


‫أسلم يوم الفتح وحسن إسًلمه وطلب أبوه من النبي ﷺ في فتح مكة أن يجعله كاتبا بين يديه فكان بعد ذلك‬
‫مًلزما للكتابة بين يدي رسول ﷺ في التنزيل وغيره‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب الثامن‪ :‬عبد اهلل بن أبي السرح ‪.‬‬


‫قال عنه الطبري والحافظ بن حجر‪ :‬هو أول من كتب للنبي ﷺ من قريش في مكة‪.‬‬
‫وقد اتخذه النبي ﷺ كاتبا للتنزيل في أول األمر‪.‬‬
‫وفتح اهلل على يديه شمال إفريقية وبعض بًلد السودان‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب التاسع‪ :‬الزبير بن العوام ‪ ،‬ابن عمة رسول اهلل ﷺ‪.‬‬


‫وأمه صفية بنت عبد المطلب‪.‬‬
‫قال عليه الصًلة والسًلم فيه‪( :‬الزبير ابن عمتي وحواريي من أمتي)‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب العاشر‪ :‬المغيرة بن شعبة ‪ ،‬وكان ممن كتب للنبي ﷺ‪.‬‬


‫‪ -‬الكاتب الحادي عشر‪ :‬حنظلة بن الربيع‪.‬‬
‫ويقال له أيضا)حنظلة الكاتب(ألنه كان يكتب للنبي ﷺ‪.‬‬
‫وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي عثمان النهدي عن حنظلة األسيدي قال‪ :‬وكان من كتاب رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫وهو صاحب الحديث المشهور قال‪ :‬لقيني أبو بكر ‪‬فقال لي‪ :‬كيف أنت يا حنظلة؟ قلت نافق حنظلة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ -‬الكاتب الثاني عشر‪ :‬عامر بن فهيرة‪.‬‬
‫وهو أيضا مولى أبي بكر الصديق ‪‬وهو ممن كتب للنبي ﷺ قبل الهجرة‪.‬‬
‫وكان مع النبي ﷺ في هجرته إلى المدينة‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب الثالث عشر‪ :‬يزيد بن أبي سفيان‪.‬‬


‫وهو أخو معاوية بن أبي سفيان‪ .‬ويقال له يزيد الخير وكان ممن كتب للنبي ﷺ‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب الرابع عشر‪ :‬خالد بن الوليد‪.‬‬


‫فارس اإلسًلم وسيف اهلل المسلول وكان أيضا ممن كتب للنبي عليه الصًلة والسًلم‪.‬‬
‫ذكره ابن عبد البر وابن األثير فيمن كتبوا للنبي ﷺ‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب الخامس عشر‪ :‬عمرو بن العاص ‪.‬‬


‫داهية العالم ومن يضرب به المثل في الفطنة والدهاء والحزم‪.‬‬

‫‪ -‬الكاتب السادس عشر‪ :‬ثابت بن قيس الخزرجي‪.‬‬


‫كان خطيب األنصار ويقال له خطيب رسول اهلل ﷺ كما ذكر ذلك ابن عبد البر‪ .‬وكان ممن كتب للنبي ﷺ‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثالث‪ :‬القرآن الكريم هو كًلم اهلل المنزل على رسوله ﷺ بلفظه العربي‪ ،‬المتعبد‬
‫بتًلوته‪ ،‬المنقول بالتواتر‪ ،‬المكتوب في المصاحف‪.‬‬
‫قوله‪ :‬القرآن‪ :‬القرآن في اللغة‪ :‬مصدر مشتق مهموز من قرأ يقرأ قراءة وقرءاناا‪.‬‬
‫قال تعالى‪﴿ :‬إِ َّن َعلَْيـنَا َج ْم َعهُ َوقُـ ْرآنَهُ ۝ فَِإ َذا قَـ َرأْنَاهُ فَاتَّبِ ْع قُـ ْرآنَهُ﴾‪.‬‬
‫فاتبع قرءانه‪ :‬أي اتبع قراءته‪ .‬وهو مصدر قرءان على وزن فعًلن كغفران وشكران‪.‬‬
‫ُسمي به المقروء تسمية للمفعول بالمصدر‪.‬‬
‫والقرءان اصطًلحا‪ :‬هو كًلم اهلل تعالى المنزل على رسوله ﷺ بلفظه العربي‪ ،‬المتعبد بتًلوته‪ ،‬المنقول بالتواتر‪،‬‬
‫المكتوب في المصاحف‪ ،‬كما ذكر المصنف هنا‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬القرءان هو كًلم اهلل‪.‬‬
‫قوله كًلم اهلل‪ :‬خرج به كًلم غيره من الجن واإلنس والمًلئكة فًل يسمى كل هذا قرءانا أما القرءان فهو كًلم اهلل تكلم‬
‫به على الحقيقة ونسبه لنفسه‪.‬‬
‫َّى يَ ْس َم َع َك ًَل َم اللَّ ِه﴾‪.‬‬ ‫استَجار َك فَأ ِ‬
‫َج ْرهُ َحت ٰ‬ ‫ين ْ َ َ‬
‫ِ‬
‫فقال تعالى في سورة التوبة‪﴿ :‬إِ ْن أ َ‬
‫َح ٌد ِّم َن ال ُْم ْش ِرك َ‬

‫‪20‬‬
‫فأضاف الكًلم إلى نفسه ولم ينسبه لغيره ال لمحمد ﷺ وال لجبريل ‪ ،‬فدل ذلك على أنه تكلم به على‬
‫الحقيقة بحرف وصوت‪.‬‬
‫فليس القرءان معنى نفسياا عبر به جبريل أو عبر به محمد ﷺ‪ ،‬إنما هو كًلم اهلل على الحقيقة تكلم به بحرف‬
‫وصوت‪.‬‬
‫أما كيفية تكلمه فًل يعلمها إال اهلل سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫قوله‪ :‬هو كًلم اهلل المنزل‪ :‬المنزل خرج به الكًلم الذي استأثر اهلل به سبحانه وتعالى فًل يسمى قرءانا‪.‬‬
‫ات َربِّي لَنَ ِف َد الْبَ ْح ُر قَـ ْب َل أَن تَن َف َد َك ِل َما ُ‬
‫ت َربِّي‬ ‫ادا لِّ َك ِلم ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫كما جاء في قوله تعالى في سورة الكهف‪﴿ :‬قُل ل ْو َكا َن الْبَ ْح ُر م َد ا َ‬
‫َولَ ْو ِج ْئـنَا بِ ِمثْلِ ِه َم َد ادا﴾‪.‬‬
‫فكًلم اهلل غير منحصر في القرءان‪ ،‬فمن كًلم اهلل ما استأثر اهلل عز وجل به فلو كان البحر مدادا يكتب به كلمات اهلل‬
‫لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات اهلل تعالى‪.‬‬
‫ات‬ ‫ض ِمن َش َج َرة أَق ًَْل ٌم َوالْبَ ْح ُر يَ ُم ُّدهُ ِمن بَـ ْع ِدهِ َس ْبـ َعةُ أَبْ ُحر َّما نَِف َد ْ‬
‫ت َك ِل َم ُ‬ ‫وقال تعالى في سورة لقمان‪َ ﴿ :‬ولَ ْو أَنَّ َما فِي ْاأل َْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم﴾ ‪ .‬فنخرج من هذا أن القرءان هو الكًلم المنزل‪ ،‬وأما ما استأثر اهلل به عنده فليس من‬ ‫اللَّهۙ إِ َّن اللَّهَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫القرءان‪.‬‬
‫المنزل على رسوله ﷺ‪ :‬والمقصود بالرسول هنا هو محمد عليه الصًلة والسًلم‪ .‬وخرج بقوله‪ :‬على رسوله محمد‬
‫ﷺ ‪ ،‬خرج به ما نزل على غير محمد عليه الصًلة والسًلم‪ ،‬فخرج به ما نزل من الكتب على جميع أنبياء اهلل‬
‫ورسله كالتوراة واإلنجيل والزبور وصحف إبراهيم فكل هذه الكتب ليست قرءانا‪.‬‬
‫قوله‪ :‬بلفظه العربي‪ :‬خرج به ما ترجم إلى غيره أي ما ترجم إلى غير العربية‪ ،‬فإنه أيضا ال يسمى قرءانا إنما يسمى‬
‫سان َع َربِ ٍّي ُّمبِين﴾‪ .‬قال‬ ‫ِِ‬
‫ترجمة لمعاني القرءان ونحو ذلك‪ ،‬لكن ال يسمى قرءانا فإن اهلل عز وجل قال عن القرءان‪﴿ :‬بل َ‬
‫عن القرءان أنه أنزله بلسان عربي مبين‪.‬‬
‫ت آيَاتُهُ قُـ ْرآناا َع َربِيًّا لَِّق ْوم يَـ ْعلَ ُمو َن﴾‪.‬‬
‫صلَ ْ‬
‫اب فُ ِّ‬ ‫ِ‬
‫فقال سبحانه‪﴿ :‬كتَ ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫سا ٌن َع َربِي ُّمبِ ٌ‬
‫ين﴾‪ .‬فما‬ ‫سا ُن الذي يُـلْح ُدو َن إلَْيه أَ ْع َجمي َو َٰه َذا ل َ‬
‫وقال‪َ ﴿ :‬ولََق ْد نَـ ْعلَم أَنـَّ ُه ْم يَـ ُقولُو َن إِنَّ َما يُـ َعلِّ ُمهُ بَ َ ِّ‬
‫ش ٌرۙ ل َ‬ ‫ُ‬
‫كان بغير العربية ال يسمى قرءان‪.‬‬
‫قوله‪ :‬المتعبد بتًلوته‪ :‬خرج به قراءات اآلحاد وخرج به أيضا األحاديث القدسية فًل يسمى هذا وال هذا قرءانا ألنها‬
‫غير متعبد بها‪.‬‬
‫قوله‪ :‬المنقول بالتواتر‪ :‬خرجت به القراءات الشاذة فًل تصح قرءانا لكنها تصح تفسيرا كقراءة ابن مسعود ‪:‬‬
‫ام ثًََلثَِة أَيَّام﴾‪ ،‬قرأها ابن مسعود‪( :‬فصيام ثًلثة أيام متتابعات)‪ .‬فهي من جهة التواتر ومن جهة اإلسناد هي قراءة‬ ‫ِ‬
‫﴿فَصيَ ُ‬
‫شاذة فًل تسمى هذه القراءة قرءانا وإنما تصح تفسيرا‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫قوله‪ :‬المكتوب في المصاحف‪:‬‬
‫فالقرءان هو ما بين دفتي المصحف؛ أوله سورة الفاتحة وآخره سورة الناس هذا هو القرءان بإجماع المسلمين‪ .‬لم‬
‫يخالف ذلك أحد من المسلمين‪.‬‬

‫الفرق بين القرءان والحديث القدسي والنبوي‪:‬‬


‫مما يحسن التنبيه عليه في هذا الموطن بيان أبرز الفروق بين القرءان الكريم وبين الحديث اإللهي وبين الحديث النبوي‪.‬‬
‫الفرق األول‪ :‬أن القرءان يتعبد بتًلوته‪.‬‬
‫أما الحديث القدسي والنبوي فًل يتعبد بتًلوتهما‪.‬‬
‫الفرق الثاني‪ :‬أن القرءان منقول بالتواتر‪.‬‬
‫وأما الحديث النبوي والقدسي فأكثرها آحاد‪.‬‬
‫الفرق الثالث‪ :‬أن القرءان لفظه م ِ‬
‫عجز ومتحدى به‬ ‫ُ‬
‫أما الحديث النبوي والقدسي فغير متحدى به‪.‬‬
‫الفرق الرابع‪ :‬أن القرءان ال يمسه إال طاهر على الصحيح من أقوال أهل العلم‪.‬‬
‫وأما الحديث النبوي والقدسي فيمسه الطاهر وغيره‪.‬‬
‫الفرق الخامس‪ :‬أن القرءان ال تصح الصًلة إال به‬
‫والحديث النبوي والقدسي ال تشرع قراءته في الصًلة‪.‬‬

‫وبهذا تنتهى المحاضرة الثالثة‪ ،‬ونذكر بعض األسئلة‪:‬‬

‫األسئـلة‬
‫السؤال األول‪ :‬اذكر عشرة من كتاب الوحي؟‬
‫السؤال الثاني‪ :‬عرف القرءان لغة واصطًلحا؟‬
‫السؤال الثالث‪ :‬اذكر أبرز الفروق بين القرءان والحديث اإللهي والحديث النبوي‪.‬‬

‫خيرا‪،‬‬
‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل ا‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫المحاضـرة الـرابع ــة‬
‫الباب الثاني‪" :‬نزول القرآن"‬
‫والمقصود بالنزول أيها األحباب الكرام‪ :‬هو االنتقال من األعلى إلى األسفل‪ ،‬يقال‪ :‬نزل عن دابته ونزل في مكان كذا‬
‫أي حط رحله فيه‪.‬‬
‫ورا﴾‪.‬‬ ‫وربنا جل وعًل يقول‪﴿ :‬وأَنزلْنا ِمن َّ ِ‬
‫اء طَ ُه ا‬
‫الس َماء َم ا‬ ‫َ ََ َ‬
‫ض وإِنَّا َعلَى ذَهاب بِ ِه لََق ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويقول‪﴿ :‬وأَنزلْنا ِمن َّ ِ‬
‫اد ُرو َن﴾‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اء بَِق َدر فَأ ْ‬
‫َس َكنَّاهُ في ْاأل َْر ِ َ‬ ‫الس َماء َم ا‬ ‫َ ََ َ‬
‫فالسماء هي العلو واألرض هي األسفل‪.‬‬
‫ين﴾‬ ‫ِ‬ ‫واهلل جل وعًل يقول عن القرآن‪﴿ :‬نَـ َز َل بِ ِه ُّ‬
‫وح ْاألَم ُ‬ ‫الر ُ‬
‫روح‪ :‬هو جبريل ‪ .‬وسماهُ ربه روحا ألنه ينزل بالوحي الذي فيه حياةُ القلوب واألرواح‪ ،‬واألمين‪:‬‬ ‫وال ُ‬
‫صفة جبريل ألن اهلل أمنهُ على ِ‬
‫وحيه أي أن جبريل ينزل بالقرآن من عند الرب الجليل سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫ّ‬
‫وربنا الرحمن على عرشه استوى وعرشه فوق السماوات السبع ينزل به جبريل على النبي ﷺ وهو على األرض‬
‫فهذا نزول حقيقي وهو دليل على علو اهلل سبحانه وتعالى على جميع خلقه‪.‬‬

‫‪ ‬قال غفر اهلل له‪ :‬الضابط األول‪( :‬نزل القرآن جمل اة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر)‪.‬‬
‫قولهُ نزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا في ِ‬
‫ليلة القدر‪ :‬القرآن كان في اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫كما قال ربنا جل وعًل‪﴿ :‬بَ ْل ُه َو قُـ ْرآ ٌن َّم ِجي ٌد ۝ فِي لَ ْوح َّم ْح ُفوظ﴾‪.‬‬
‫وقال ربنا عنه أيضا‪﴿ :‬إِنَّا َج َعلْنَاهُ قُـ ْرآناا َع َربِيًّا لَّ َعلَّ ُك ْم تَـ ْع ِقلُو َن﴾‪.‬‬
‫َنزلْنَاهُ فِي لَْيـلَ ِة الْ َق ْد ِر﴾‬
‫ثم نزل القرآن من اللوح المحفوظ جملةا‪ ،‬والدليل على ذلك قول اهلل تعالى‪﴿:‬إِنَّا أ َ‬
‫إنا أنزلناه‪ :‬أي أنزلنا القرآن كله في ليلة القدر‪.‬‬
‫وعن ابن عباس ‪‬إنه قال‪ :‬نزل القرآن جملة‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬إلى سماء الدنيا‪ :‬أي نزل القرآن مرة واحدة إلى السماء الدنيا وهي التي تلي البشر‪.‬‬
‫َنزلْنَاهُ فِي لَْيـلَ ِة الْ َق ْد ِر﴾‪ :‬قال أنزل القرآن في‬
‫ودليل ذلك كما ثبت عن ابن عباس ‪‬أنه قال في قوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّا أ َ‬
‫ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬في ليلة القدر‪ :‬أي أن القرآن نزل في ليلة واحدة هي ليلة القدر من شهر رمضان‪.‬‬
‫فقد أخرج اإلمام أحمد في مسنده بإسناد حسن عن واثلة بن األسقع ‪‬قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪( :‬أنزلت‬
‫صحف إبراهيم ‪ ‬في أول ليلة من رمضان‪ ،‬وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان‪ ،‬وأنزل اإلنجيل لثًلث عشرة‬
‫خلت من رمضان‪ ،‬وأنزل الفرقان (أي القرآن) ألربع وعشرين خلت من رمضان"‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ين ۝ فِ َيها يُـ ْف َر ُق ُك ُّل أ َْمر َح ِكيم﴾‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأما تحديد الليلة فقد جاء في قوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّا أ َ‬
‫َنزلْنَاهُ في لَْيـلَة ُّمبَ َارَكةۙ إنَّا ُكنَّا ُمنذ ِر َ‬
‫َنزلْنَاهُ فِي لَْيـلَ ِة الْ َق ْد ِر﴾‬
‫وقال‪﴿ :‬إِنَّا أ َ‬
‫وعن مقسم عن ابن عباس ‪ ‬أنه قال حينما سأله عطية بن األسود وقال له‪ :‬إنه وقع في قلبي الشك في قول اهلل‬
‫ص ْمهُ‬ ‫الش ْه َر فَـلْيَ ُ‬‫ان فَ َمن َش ِه َد ِمن ُك ُم َّ‬ ‫َّاس وبـيِّـنَات ِّمن الْه َدى والْ ُفرقَ ِ‬
‫َ ُ َ ْ‬
‫ِِ‬
‫ضا َن الَّذي أُن ِز َل فيه الْ ُق ْرآ ُن ُه ادى لِّلن ِ َ َ‬
‫تعالى‪َ ﴿ :‬ش ْهر رم َ ِ‬
‫ُ ََ‬
‫ُخ َر يُ ِري ُد اللَّهُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوَال يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر َولِتُ ْك ِملُوا ال ِْع َّد َة َولِتُ َكبِّـ ُروا اللَّ َه‬
‫ضا أ َْو َعلَى َس َفر فَ ِع َّدةٌ ِّم ْن أَيَّام أ َ‬
‫َوَمن َكا َن َم ِري ا‬
‫َعلَى َما َه َدا ُك ْم َولَ َعلَّ ُك ْم تَ ْش ُك ُرو َن﴾‪.‬‬
‫َنزلْنَاهُ فِي لَْيـلَ ِة الْ َق ْد ِر﴾‪.‬‬
‫وقولهُ ﴿إِنَّا أ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وقولهُ‪﴿ :‬إِنَّا أ َ‬
‫َنزلْنَاهُ في لَْيـلَة ُّمبَا َرَكة إنَّا ُكنَّا ُمنذ ِر َ‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫قال‪َ :‬أوقد أنزل في رمضان وفي شوال وذي القعدة وذي الحجة والمحرم وربيع؟‬
‫قال (أي ابن عباس مجيبا عليه)‪( :‬إن اهلل أنزل القرآن في رمضان في ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة)‪.‬‬
‫أي‪ :‬هنا انتهى النزول الجملي الذي نزل فيه القرآن جملة واحدة‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الثاني‪( :‬قال‪ :‬ثم نزل على النبي ﷺ مفرقاا حسب األحوال واألحداث في ثًلث وعشرين سنة)‪.‬‬
‫قولهُ‪ :‬ثم نزل‪ :‬أي القرآن على النبي ﷺ تلقاه جبريل من ر ِبه سماعا ثم نزل به على قلب محمد ﷺ‪.‬‬
‫ْح ِّق﴾‪.‬‬‫ك بِال َ‬ ‫س ِمن َّربِّ َ‬ ‫وح الْ ُق ُد ِ‬
‫قال ربنا جل وعًل‪﴿ :‬قُ ْل نَـ َّزلَهُ ُر ُ‬
‫فجبريل تلقاه من الرب جل وعًل سماعا بغير واسطة ثم نزل به على قلب محمد عليه الصًلة والسًلم‪.‬‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ت الَّ ِذين آمنُوا و ُه ادى وب ْشرى لِل ِ ِ‬
‫ْم ْسلم َ‬
‫َُ َ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْح ِّق لِيُثَبِّ َ‬
‫ك بِال َ‬‫س ِمن َّربِّ َ‬ ‫وح الْ ُق ُد ِ‬
‫كما قال ربنا جل وعًل‪﴿:‬قُ ْل نَـ َّزلَهُ ُر ُ‬
‫وكما إنه ال واسطة بين جبريل في سماعه من الرب الجليل سبحانه وتعالى فكذلك ال واسطة بين جبريل وبين النبي‬
‫ﷺ ‪ ،‬واسمع معي إلى هذا الحديث الذي يصور لك تلك اللحظة التي إيماننا بها إيمان بالغيب لحظة تلقي جبريل‬
‫للوحي من اهلل جل وعًل‪:‬‬
‫فقد أخرج البخاري في صحيحه وابن خزيمة في كتاب التوحيد واللفظ له عن النواس بن سمعان ‪‬أنه قال‪ :‬قال‬

‫رسول اهلل ﷺ‪( :‬إذا أراد اهلل عز وجل أن يُ َ‬


‫وحي باألمر تكلم بالوحي فأخذت السماوات منه رجفةا أو قال رعد اة‬
‫صعقوا وخروا هلل سج ادا فيكون أول من يرفع رأسهُ جبريل‬
‫أهل السماوات ُ‬
‫شديدة خوفاا من اهلل‪ ،‬فإذا سمع بذلك ُ‬
‫فيكلمه اهلل من ِ‬
‫وحيه بما أراد‪ .‬ثم يمر جبريل على المًلئكة كلما مر بسماء سأله مًلئكتها‪ :‬ماذا قال ربنا يا جبريل؟‬
‫فيقول جبريل ‪ : ‬قال الحق وهو العلي الكبير‪ .‬فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل‪ .‬فينتهي جبريل بالوحي حيث أمره‬
‫اهلل(أي حيث أمره اهلل عز وجل إلى تأديته إلى النبي ﷺ على األرض"‪.‬‬
‫قوله‪ :‬مفرقا‪ :‬أي أن القرآن نزل مفرقاا على النبي ﷺ‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫ظل يتنزل القرآن مدة البعثة كلها إلى أن أتم اهلل الدين وقبض نبيه إليه‪.‬‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وقُـ ْرآناا فَـ َرقـْنَاهُ لِتَـ ْق َرأَهُ َعلَى الن ِ‬
‫َّاس َعلَى ُم ْكث َونَـ َّزلْنَاهُ تَن ِز ايًل﴾‪.‬‬
‫فرقناه)‪ :‬أي فرقنا تنزيله‪ ،‬نزلناه شيئاا‬
‫وقوله‪ :‬وقرآنا فرقناه (وفي قراءة عن ابن عباس أنه كان يقرأه بتشديد الراء وقرآنا َّ‬
‫بعد شيء‪ ،‬آية بعد آية‪ ،‬قصة بعد قصة‪.‬‬

‫وقال ربنا جل وعًل مبيناا أن الذين كفروا اعترضوا على النبي ﷺ أن كتابه لم ينزل عليه جملة واحدة كما كانت‬
‫الكتب السابقة تنزل على األنبياء من قبل وقال ربنا حاكيا عنهم‪:‬‬
‫اد َك َوَرتَّـلْنَاهُ تَـ ْرتِ ايًل﴾‪.‬‬ ‫ك لِنُثَبِّ َ‬
‫ت بِ ِه فُـ َؤ َ‬
‫ال الَّ ِذين َك َفروا لَوَال نـُ ِّز َل علَي ِه الْ ُقرآ ُن جملَةا و ِ‬
‫اح َدةا َك َذلِ َ‬ ‫َ ْ ْ ُْ َ‬ ‫َ ُ ْ‬ ‫﴿ َوقَ َ‬
‫فرقه‬
‫أرادوا أن ينزل عليه مرة واحدة كاأللواح التي ألقيت إلى موسى وكصحف إبراهيم ونحو ذلك لكن اهلل عز وجل ّ‬
‫عليه وهذا دليل على أنه نزل مفرقا‪.‬‬

‫ثم قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬على حسب األحوال واألحداث‪:‬‬
‫أي على حسب ما تقتضيه حال األمة فتقع الواقعة فينزل القرآن فيه حل لمعضًلتها‪ ،‬ويُسأل السؤال فينزل القرآن‬
‫بالجواب‪ ،‬وينزل القرآن لتربية األمة وتزكيتها في ثًلث وعشرين سنة‪ .‬وهذه الجملة فيها بيان للمدة التي نزل فيها‬
‫القرآن وهي مدة البعثة كاملة وهي ثًلث وعشرين سنة على الصحيح من أقوال أهل العلم‪.‬‬
‫فإن العلماء اتفقوا على أن النبي ﷺ مكث في المدينة عشر سنين‪ ،‬واختلفوا في مكثه في مكة؛ والصحيح أنه‬
‫مكث في مكة ثًلث عشرة سنة والقرآن نزل عليه ﷺ في طول هذه المدة‪.‬‬

‫لكن تعالوا بنا أيها األحباب الكرام اآلن لنفرق بين النزول األول وبين النزول الثاني في مقارنة سريعة‪:‬‬
‫مبتداه من أين بدأ؟‬
‫‪ ‬النزول األول‪ :‬النزول األول بدأ من اللوح المحفوظ‪.‬‬
‫‪ ‬وأما النزول الثاني‪ :‬فبدأ من اهلل تعالى‪ .‬فاهلل تكلم به على الحقيقة‪.‬‬

‫الوجه الثاني منتهاه‪:‬‬


‫‪ ‬منتهى النزول األول‪ :‬إلى السماء الدنيا وقيل إلى بيت العزة من سماء الدنيا‪.‬‬
‫‪ ‬النزول الثاني‪ :‬منتهاه إلى األرض حيث النبي ﷺ في مكة والمدينة فنزل به جبريل على قلب النبي عليه الصًلة‬
‫والسًلم‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬كيفيته‪:‬‬
‫‪ ‬نزل القرآن مكتوبا في النزول األول فهو نزول مكتوب‪.‬‬
‫‪ ‬وفي النزول الثاني‪ :‬هو نزول مسموع سمعه جبريل من اهلل جل وعًل فألقاه إلى النبي ﷺ‪ .‬فالنبي ﷺ سمعه من‬
‫جبريل وجبريل سمعه من رب العالمين‪.‬‬

‫الوجهُ الرابع‪:‬‬
‫‪ ‬النزول األول نزل جملة نزل القرآن جملة أي كله مرة واحدة‪.‬‬
‫‪ ‬النزول الثاني‪ :‬نزل مفرقا أي كانت تنزل اآلية أو بعض آية أو مجموعة من اآليات‪.‬‬

‫الوجه الخامس‪ :‬مدته‪.‬‬


‫‪ ‬مدة النزول األول‪ :‬ليلة واحدة هي ليلة القدر‪.‬‬
‫‪ ‬ومدة النزول الثاني‪ :‬ثًلثا وعشرين سنة هي مدة البعثة كاملة‪.‬‬

‫قال غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثالث‪( :‬أول ما نزل من القرآن " اِقـ َْرأْ")‪.‬‬
‫انتقل في هذا الضابط إلى بيان أول ما نزل من القرآن على اإلطًلق‪.‬‬
‫فما هي أول آية أو أول آيات نزلت من القرآن؟ أول آيات نزلت على النبي ﷺ هي اآليات الخمس‬
‫نسا َن ِم ْن َعلَق ۝ اقـ َْرأْ‬ ‫ك الَّ ِذي َخلَ َق ۝ َخلَ َق ِْ‬ ‫ِ‬
‫اإل َ‬ ‫األولى من سورة العلق وهي قوله تعالى‪﴿ :‬اقـ َْرأْ بِ ْ‬
‫اس ِم َربِّ َ‬
‫نسا َن َما لَ ْم يَـ ْعلَ ْم﴾‪.‬‬
‫اإل َ‬ ‫ك ْاألَ ْك َرُم ۝ الَّ ِذي َعلَّ َم بِالْ َقلَ ِم ۝ َعلَّ َم ِْ‬
‫َوَربُّ َ‬
‫والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري وغيره من حديث أم المؤمنين عائشة ‪ ‬وهي تصور‬
‫حال النبي ﷺ مع الوحي فى بداياته فقالت‪( :‬أول ما بدئ به رسول اهلل ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة‬
‫في النوم‪ .‬فكان ال يرى رؤيا إال جاءت مثل فلق الصبح‪ .‬ثم حبب إليه الخًلء فكان يخلو بغار حراء يتحنث‬
‫فيه وهو التعبد لليالي ذوات العدد قبل أن يرجع الى أهله ويتزود لذلك‪ ،‬ثم يرجع إلى خديجة فيتزود بمثلها‬
‫حتى جاءهُ الحق وهو بغار حراء‪.‬‬
‫فجاءهُ الملك فقال له‪ :‬اقرأ‪ ،‬فقال‪ :‬ما أنا بقارئ‪.‬‬
‫الجه ُد‪ ،‬ثم أرسلني فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬قلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأخذني فغطني ثم بلغ مني َ‬
‫فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬قلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪.‬‬
‫فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال‪﴿ :‬اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق االنسان من علق اقرأ وربك‬
‫األكرم﴾ ‪ .....‬اآليات‪ .‬فرجع بها رسول اهلل ﷺ يرجه فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد ‪ ‬فقال‪:‬‬
‫زملوني زملوني‪ .‬فزملوه حتى ذهب عنه الروع"‪( .‬أي الخوف)‬

‫‪26‬‬
‫لكن هنا إشكال‪:‬‬
‫جاء في البخاري أن النبي ﷺ قال‪( :‬جاورت بحراء فلما خضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم َأر‬
‫شيئا ونظرت عن شمالي فلم َأر شيئا ونظرت من أمامي فلم َأر شيئا ونظرت من خلفي فلم َأر شيئا فرفعت رأسي فرأيت‬
‫باردا‪.‬‬
‫ماء ا‬‫شيئاا‪ .‬فأتيت خديجة فقلت‪ :‬دثروني وصبوا على ا‬
‫قال‪ :‬فنزلت‪﴿ :‬يا أَيـُّها الْم َّدثِّـر ۝ قُم فَأ ِ‬
‫َنذ ْر﴾‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ ُ‬
‫فهذا الحديث ظاهره أن سورة المدثر هي أول ما نزل‪ .‬فحينئذ يكون عندنا تعارض بين حديث عائشة وبين حديث‬
‫جابر ‪‬أنه جاء في حديث عائشة أن أول ما نزل هي الخمس آيات األولى من سورة (اقرأ)‪ ،‬وجاء في حديث جابر‬
‫على ظاهره أنه أول سورة المدثر وصدرها هو أول ما نزل‪.‬‬

‫والتوفيق بين الحديثين‪:‬‬


‫ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي سلمة قال‪( :‬أخبرني جابر بن عبد اهلل ‪‬أنه سمع النبي ﷺ يقول‪:‬‬
‫ثم فتر عني الوحي فترة فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قِبل السماء فإذا الملك الذي جاءني‬
‫بحراء قاعد على كرسي بين السماء واألرض فجئثت منه (أي رعبت) حتى هويت إلى األرض فجئت أهلي فقلت‪:‬‬
‫زملوني زملوني فأنزل اهلل تعالى‪﴿ :‬يا أيها المدثر قم فأنذر‪ ...‬إلى قوله‪ :‬والرجز فاهجر﴾ (انتهى الحديث)‪.‬‬
‫فأثبت له مجيئا بحراء بعد فترة الوحي و"اقرأ(إنما نزلت قبل فترة الوحي في أول نزول لجبريل على النبي ﷺ فتبين‬
‫بهذا‪:‬‬
‫أن (اقرأ) نزلت قبل الفترة‪،‬و (المدثر) نزلت بعد الفترة‪.‬‬
‫قال النووي ‪ :‬وأما (يا أيها المدثر) فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح أو كما صرح به في رواية الزهري عن‬
‫أبي سلمة عن جده والداللة صريحة في مواضع منه في قوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال فأنزل اهلل‬
‫تعالى)يا أيها المدثر(ومنها قوله ﷺ‪ ( :‬فإذا الملك الذي جاءنى بحراء(فأثبت له مجيئا قبل‪ .‬ثم قال‪ :‬فأنزل اهلل‪( :‬يا‬
‫أيها المدثر"‪.‬‬
‫ومنها قوله‪( :‬ثم تتابع الوحي) يعني أن هذا كان بعد فترة الوحي ال بعد ارتداد الوحي‪.‬‬
‫يقول النووي‪ :‬فتبين بهذا أن سورة المدثر نزلت بعد اقرأ‪ .‬قلت فيترجح بهذا‪ :‬أن أول ما نزل هو صدر سورة (اقرأ) وهو‬
‫مذهب الجماهير كما قال شيخ اإلسًلم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما اهلل‪.‬‬

‫﴿واتَّـ ُقوا يَـ ْواما تُـ ْر َجعُو َن ِف ِيه إِلَى اللَّ ِه﴾‬
‫قال غفر اهلل له‪ :‬الضابط الرابع‪( :‬آخر ما نزل من القرآن‪َ :‬‬
‫آخر ما نزل‪ :‬أي آخر ما نزل على اإلطًلق وإال فأحيانا يعبر بآخر ما نزل ويكون اآلخر في أبواب معينة كقولهم‪:‬‬
‫آخر ما نزل في األطعمة‪ ،‬وآخر ما نزل في الجهاد‪ ،‬أو نحو ذلك‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫لكن آخر ما نزل مطلقا على الصحيح من أقوال العلماء هو قوله تعالى‪َ ﴿ :‬واتَّـ ُقوا يَـ ْواما تُـ ْر َجعُو َن فِ ِيه إِلَى اللَّ ِه ثُ َّم تُـ َوفَّى‬
‫ت َو ُه ْم َال يُظْلَ ُمو َن﴾‪.‬‬
‫سبَ ْ‬
‫ُك ُّل نَـ ْفس َّما َك َ‬
‫والدليل على ذلك ما أخرجه النسائي فى التفسير وكذلك ابن جرير والطبراني في الكبير من طريق حسين بن واقد عن‬
‫يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس بإسناد صحيح صححه الشيخ أحمد شاكر ‪ ‬أن ابن عباس قال‪( :‬آخر شيء‬
‫نزل من القرآن ﴿واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اهلل﴾"‪.‬‬
‫ومثله ما جاء عن ابن عباس في رواية أخرى قال‪( :‬آخر آية نزلت على النبي ﷺ آية الربا"‪.‬‬
‫وهذا الحديث األخير أخرجه البخاري والمقصود به اآلية المذكورة فهي تمام آيات الربا ومعطوفة عليها‪.‬‬
‫وهذا هو ما أشار إليه البخاري ‪ ‬حيث أورد أثر ابن عباس السابق في كتاب التفسير فقال‪ :‬باب‪( :‬واتقوا يوما‬
‫ترجعون فيه إلى اهلل"‪ .‬قال‪ :‬حدثنا قبيصة بن عقبة قال حدثنا سفيان عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس ‪‬قال‪:‬‬
‫(آخر آية نزلت على النبي ﷺ آية الربا"‪.‬‬
‫لكن ماذا أراد بآية الربا؟ أراد آية الربا وما بعدها‪( :‬واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اهلل"‪..‬‬
‫اآليات جميعا‪ ،‬فأراد البخاري بإشارته هذه أن يجمع بين قولي ابن عباس‪ ،‬فإنه جاء عنه ذلك من هذا الوجه وجاء عنه‬
‫من الوجه اآلخر أن آخر آية نزلت هي قوله تعالى‪( :‬واتقوا يوما ترجعون فيه إلى اهلل"‪.‬‬
‫وكذلك قال الحافظ بن حجر عن البخاري ‪ ‬قال‪ :‬فجعل بهذه اإلشارة الموضوع واح ادا والروايتين متحدتين غير‬
‫متعارضتين‪.‬‬

‫وبهذا ينتهي هذا الباب‪.‬‬


‫أسئلة الدرس‪:‬‬

‫األسئ ـلة‬
‫السؤال األول‪ :‬ما الدليل على أن القرآن نزل جملة فى ليلة القدر ونزل مفرقا طوال مدة البعثة؟‬
‫السؤال الثاني‪ :‬قارن بين النزولين‪.‬‬
‫السؤال الثالث‪ :‬ما هي أول آيات القرآن نزوال؟ وما هي آخر آيات القرآن نزوال؟ مع الدليل‪.‬‬

‫خيرا‪،‬‬
‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل ا‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫المحاضرة الخـامسـة‬
‫الباب الثالث من أبواب علوم القرآن‪( :‬وهو باب‪ :‬المكي والمدني)‬
‫والمكي والمدني أيها األحباب الكرام يعتني بمعرفة منازل القرآن‪ .‬وقد اهتم الصحابة والتابعون ومن تبعهم من علماء هذه األمة‬
‫المباركة بمعرفة منازل القرآن أي األماكن التي نزل فيها القرآن والزمان الذي نزل فيه القرآن‪.‬‬
‫اهتم الصحابة بضبط منازل القرآن آية آية ضبطا يحدد الزمان وكذلك المكان‪.‬‬
‫فهذا الصحابي الجليل عبد اهلل بن مسعود ‪‬يقول‪( :‬واهلل الذى ال إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب اهلل إال وأنا أعلم أين‬
‫نزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب اهلل تبلغه اإلبل لركبت إليه)‪.‬‬
‫وقد أخرج اإلمام مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب ‪‬أيضا أن رجًل من اليهود قال له‪ :‬يا أمير المؤمنين آية في‬
‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم‬
‫كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت التخذنا ذلك اليوم عيدا‪ .‬قال‪ :‬أي آية؟ قال‪﴿ :‬الْيَـ ْو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫اإل ْس ًَل َم ِديناا﴾‪.‬‬
‫يت لَ ُك ُم ِْ‬
‫ض ُ‬‫ت َعلَْي ُكم نِ ْعمتِي ور ِ‬
‫ْ َ ََ‬ ‫َوأَتْ َم ْم ُ‬
‫قال عمر ‪ :‬واهلل الذي ال إله غيره ألنا أعلم اليوم الذي نزلت فيه والمكان الذي نزلت فيه‪ ،‬نزلت على رسول اهلل ﷺ‬
‫وهو قائم بعرفة يوم جمعة"‪.‬‬
‫فكانوا يضبطون المكان والزمان‪.‬‬
‫ؤوال‪.‬‬
‫عقوال ولسانا َس ا‬
‫وهذا علي ‪‬يقول‪ :‬واهلل ما نزلت آية إال وقد علمت فيم أنزلت وأين أنزلت إن ربي وهب لي قلبا ا‬
‫ثم نجد أعًلم التابعين كذلك قد اهتموا بهذا العلم واعتنوا به عناية فائقة وكيف ال وهم تًلميذ صحابة رسول اهلل ﷺ‬
‫و ‪.‬‬
‫فهذا رجل يسأل عكرمة عن آية من القرآن فيجيبه أنها نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى سلع (إلى جبل سلع)‪ ،‬وهو جبل‬
‫بالمدينة‪.‬‬
‫ثم تتابع العلما ء على العناية بمعرفة منازل القرآن عناية فائقة فتتبعوا القرآن آية آية وسورة سورة ترتيبا وفق نزولها وبذلوا في‬
‫ذلك جهدا كبيرا وراعوا في ذلك الزمان والمكان والخطاب وحددوا األمر تحديدا دقيقا يعطي صورة علمية في التحقيق لهذا‬
‫العلم الشريف‪.‬‬
‫ما هو تعريف المكي والمدني؟‬
‫أوال‪ :‬المكي والمدني في اللغة‪:‬‬
‫‪ -‬المكي‪ :‬نسبة إلى أشرف البقاع على وجه األرض مكة المكرمةزادها اهلل تشريفا وتعظيما وتكريما‪.‬‬
‫‪ -‬والمدني‪ :‬في اللغة نسبة غلبت على مدينة رسول اهلل ﷺ كما في قوله تعالى‪﴿ :‬يَـ ُقولُو َن لَئِن َّر َج ْعنَا إِلَى ال َْم ِدينَ ِة‬
‫ين َال يَـ ْعلَ ُمو َن﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫لَي ْخ ِرج َّن ْاألَ َع ُّز ِم ْنـها ْاألَ َذ َّلۙ ولِلَّ ِه ال ِْع َّزةُ ولِرسولِ ِه ولِلْم ْؤِمنِ ٰ ِ‬
‫ين َولَك َّن ال ُْمنَافق َ‬
‫ََُ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬

‫‪29‬‬
‫اب ُمنَافِ ُقو َنۙ َوِم ْن أ َْه ِل ال َْم ِدينَ ِةۙ‬
‫المدينة المقصود بها هنا هي مدينة رسول اهلل ﷺ طيبة‪َ ﴿ :‬وِم َّم ْن َح ْولَ ُكم ِّم َن ْاألَ ْعر ِ‬
‫َ‬
‫مر ُدوا َعلَى النِّـ َف ِ‬
‫اق َال تَـ ْعلَ ُم ُه ْم﴾‪.‬‬ ‫ََ‬
‫فالمقصود هنا هي مدينة رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫وأما علم المكي والمدني اصطًلحا كعلم منفصل فنقول فى تعريفه‪:‬‬


‫هو علم يبحث في منازل القرآن في العهدين المكي والمدني وما يتعلق بذلك من مًلبسات األحوال‪.‬‬

‫ما هو الضابط الذي حدد العلماء به المكي والمدني؟‬


‫المكي والمدني اصطًلحان متقابًلن وقد اختلف العلماء في بيان حد كل منهما على ثًلثة أقوال‪:‬‬
‫‪ ‬القول األول‪ :‬أن المكي ما وقع خطابا ألهل مكة وأن المدني ما وقع خطابا ألهل المدينة‪.‬‬
‫فكل خطاب في القرآن جاء ألهل مكة فهو مكي وكل خطاب في القرآن ألهل المدينة فهو مدني‪.‬‬
‫لكن هذا القول أوِر َد عليه هذا القول الذي يعتبر الخطاب والمخاطب أورد عليه أنه غير ضابط وال حاصر ألنه ال‬
‫يشمل ما نزل خطابا للرسول ﷺ وال يشمل الكًلم في الغيبيات وقصص األنبياء وغيرها‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى فى سورة األحزاب ﴿يَأَيـُّ َها النَّبِ ُّي اتَّ ِق اهللَ﴾‪.‬‬
‫هذه اآلية غير داخلة في ثنائية الخطاب ألهل مكة المشركين وال ألهل المدينة المؤمنين‪ ،‬هي خطاب للنبي ﷺ‪.‬‬
‫من األمثلة أيضا على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّا أَ ْعطَْيـنَ َ‬
‫اك الْ َك ْوثَـ َر﴾‪.‬‬
‫هذا أيضا خطاب للرسول ﷺ ال يمكن إدخاله في ثنائية الخطاب المكي ألهل مكة المشركين وال الخطاب‬
‫المدني ألهل اإليمان بالمدينة‪.‬‬
‫ض ِع ِيه﴾‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى‪﴿ :‬وأَوح ْيـنَا إِلَى أ ُِّم موسى أَ ْن أَر ِ‬
‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫ََْ‬
‫فهذا من القصص الذي ال يمكن إدخاله في ثنائية الخطاب المذكور المكي ألهل مكة والمدني ألهل المدينة‪ .‬هذا هو‬
‫القول األول‪.‬‬

‫‪ ‬القول الثاني‪ :‬أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة‪.‬‬
‫وأدخلوا في مكة ما حولها كمنى وعرفات والحديبية‪ ،‬وأدخلوا في المدينة ضواحيها كبدر وأحد وسلع‪.‬‬
‫لكن هذا القول أيضا أورد عليه أنه غير ضابط وال حاصر ألنه ال يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيهما‪ ،‬فيخرج‬
‫منه مثًل ما نزل على الرسول ﷺ وهو في أسفاره خارج مكة والمدينة‪.‬‬
‫الش َّقةُ﴾‪ ،‬ذكر‬ ‫وك َوٰلَ ِكن بَـ ُع َد ْ‬
‫ت َعلَْي ِه ُم ُّ‬ ‫ضا قَ ِريبا وس َفرا قَ ِ‬
‫اص ادا َّالتَّـبَـعُ َ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬لَ ْو َكا َن َع َر ا ا َ َ ا‬
‫بعض المفسرين أنها نزلت في تبوك‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وعلى هذا القول فإن هذه اآلية غير داخلة في ثنائية المكان المذكورة‪.‬‬
‫ك ِمن ُّر ُس ِلنَا﴾‪.‬‬
‫اسأ َْل َم ْن أ َْر َسلْنَا ِمن قَـ ْب ِل َ‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة الزخرف‪َ ﴿ :‬و ْ‬
‫قال ابن حبيب‪ :‬نزلت في بيت المقدس ليلة اإلسراء‪.‬‬
‫وعليه فإن هذه اآلية أيضا غير داخلة في ثنائية المكان المذكور‪.‬‬
‫فتبين بهذا انخرام القاعدة في القول األول وانخرامها أيضا وغير ضبطها في القول الثاني‪.‬‬

‫‪ ‬أما القول الثالث‪ :‬فقال أصحابه إن المكي هو ما نزل قبل الهجرة وإن المدني ما نزل بعد الهجرة‪.‬‬
‫قال ابن عطية ‪ :‬كل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي ﷺ فهو مدني سواء نزل بالمدينة أو في سفر من‬
‫األسفار أو بمكة حتى وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة‪.‬‬
‫قال الحافظ بن كثير ‪ : ‬المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعد الهجرة سواء كان بالمدينة أو بغيرها من أي‬
‫البًلد كان حتى ولو كان بمكة أو عرفة‪.‬‬
‫وقال الحافظ بن حجر ‪ : ‬نزل كثير منه‪ ،‬أي من القرآن في غير الحرمين أي مكة والمدينة الحرم المكي والحرم‬
‫المدني حيث كان النبي ﷺ في سفر في حج أو عمرة أو غزاة ولكن االصطًلح أن كل ما نزل قبل الهجرة فهو‬
‫مكي وما نزل بعد الهجرة فهو مدني سواء نزل في البلد حال اإلقامة أو في غيرها حال السفر‪.‬‬

‫وهذا القول األخير القول الثالث هو المعتمد وبه قال جماهير العلماء وإنما وقع اعتماده واختياره لعدة أسباب‪:‬‬
‫‪ ‬السبب األول‪ :‬أنه ضابط وحاصر ومضطرد ال يختلف واعتمده العلماء واشتهر بينهم‪ .‬فهذا ضابط أي أنه يقسم‬
‫على الزمان في العهد المكي والعهد المدني وحتى لو اختلف المكان ما دام داخًل في هذا العهد وفي هذه‬
‫الحقبة فيكون مكيا‪.‬‬
‫وما كان داخًل مما بعد الهجرة إلى وفاة النبي ﷺ يكون مدنيا أيا كان فيه الخطاب‪ ،‬وأيا كان مكان النزول‪.‬‬

‫‪ ‬السبب الثاني‪ :‬أن االعتماد عليه يقضي على معظم الخًلفات التي أثيرت حول تحديد المكي والمدني‪.‬‬
‫‪ ‬السبب الثالث‪ :‬أنه أقرب إلى فهم الصحابة ‪‬حيث إنهم عدوا من المدني سورة التوبة وسورة الفتح وسورة‬
‫المنافقين‪ ،‬ولم تنزل سورة التوبة كلها بالمدينة فقد نزل كثير من آياتها على رسول اهلل ﷺ وهو في طريق عودته‬
‫من تبوك‪.‬‬
‫وسورة الفتح نزلت على رسول اهلل ﷺ وهو عائد من صلح الحديبية‪.‬‬
‫وسورة المنافقون نزلت على النبي ﷺ وهو في غزوة بني المصطلق‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫قال غفر اهلل له‪ :‬الباب الثالث‪( :‬المكي والمدني)‪ ،‬وفيه خمسة ضوابط‪:‬‬

‫‪ ‬الضابط األول‪( :‬المكي ما نزل قبل الهجرة ولو بغير مكة)‬


‫قوله‪ :‬المكي ما نزل قبل الهجرة ولو بغير مكة‪:‬‬
‫أي أن كل ما نزل من ا لقرآن من بدء البعثة إلى الهجرة من مكة إلى المدينة يسمى قرآنا مكيا وتسمى هذه الحقبة الزمنية‬
‫بالعهد المكي‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ولو بغير مكة‪ :‬أي سواء نزل داخل حدود مكة أو خارج حدود مكة ما دام قد نزل في العهد المكي فهو مكي‪.‬‬
‫قال اإلمام السيوطي ‪ :‬وكل آية نزلت على رسول اهلل ﷺ قبل الهجرة فهي مكية فنزلت بمكة أو بغيرها من البلدان‪.‬‬
‫نسا َن ِم ْن‬ ‫ك الَّ ِذي َخلَ َق ۝ َخلَ َق ِْ‬
‫اإل َ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك حتى يتضح األمر‪ :‬صدر سورة العلق قوله تعالى‪﴿ :‬اقـ َْرأْ بِ ْ‬
‫اس ِم َربِّ َ‬
‫نسا َن َما لَ ْم يَـ ْعلَ ْم﴾‪.‬‬ ‫ك ْاألَ ْك َرُم ۝ الَّ ِذي َعلَّ َم بِالْ َقلَ ِم ۝ َعلَّ َم ِْ‬
‫اإل َ‬ ‫َعلَق ۝ اقـ َْرأْ َوَربُّ َ‬
‫نزلت هذه اآليات في غار حراء فهي مكية‪.‬‬
‫الر ْج َز فَ ْاه ُج ْر﴾‬ ‫ك فَ َكبِّـ ْر ۝ َوثِيَابَ َ‬
‫ك فَطَ ِّه ْر ۝ َو ُّ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬يا أَيـُّها الْم َّدثِّـر ۝ قُم فَأ ِ‬
‫َنذ ْر ۝ َوَربَّ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ ُ‬
‫سورة المدثر‪.‬‬
‫هذه اآليات نزلت على النبي ﷺ بمكة بعد فترة الوحي فهي مكية أيضا‪.‬‬
‫ت يَ َدا أَبِي لَ َهب َوتَ َّ‬
‫ب﴾ ‪.‬‬ ‫ومن األمثلة على ذلك أيضا سورة المسد‪﴿ :‬تَـبَّ ْ‬
‫هذه السورة مكية باإلجماع ألنها نزلت على النبي ﷺ بمكة أوائل البعثة‪.‬‬

‫‪ ‬قال وفقه اهلل‪:‬الضابط الثاني‪( :‬المدني ما نزل بعد الهجرة ولو بغير المدينة)‬
‫وقوله‪ :‬المدني ما نزل بعد الهجرة‪ :‬أي أن كل ما نزل من القرآن‬
‫بعد الهجرة إلى وفاة النبي ﷺ يسمى قرآنا مدنيا‪ ،‬وتسمى هذه الحقبة الزمنية بالعهد المدني‪.‬‬
‫قال البقاعي ‪ :‬فإن العبرة في المدني بالنزول بعد الهجرة‪.‬‬
‫وقوله‪ :‬ولو بغير المدينة‪:‬‬
‫فيها بيان أن ما نزل من القرآن خارج المدينة النبوية بعد الهجرة فهو مدني أيضا ولو كان بمكة‪.‬‬
‫قال ابن عطية ‪ :‬ما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني وإن نزل في مكة أو في سفر من أسفار النبي ﷺ‪.‬‬
‫وقال اإلمام السيوطي ‪ :‬وكل آية نزلت بالمدينة بعد الهجرة فإنها مدنية‪ ،‬نزلت بالمدينة أو بغيرها من البلدان‪.‬‬
‫تعالوا بنا لنذكر عدة أمثلة يتضح بها األمر‪:‬‬
‫ات إِلَى أ َْهلِ َها﴾ هذه اآلية نزلت في جوف الكعبة لكنها مدنية‬
‫قوله تعالى من سورة النساء‪﴿ :‬إِ َّن اهلل يأْمرُكم أَن تُـ َؤدُّوا ْاألَمانَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُُ ْ‬
‫ألنها نزلت بعد الهجرة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫اإل ْس ًَل َم ِديناا﴾‪ ،‬هذه اآلية‬
‫يت لَ ُك ُم ِْ‬
‫ض ُ‬ ‫ْ َ ََ‬ ‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأَتْ َم ْم ُ‬
‫ت َعلَْي ُكم نِ ْعمتِي ور ِ‬ ‫من األمثلة أيضا قوله تعالى‪﴿ :‬الْيَـ ْو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫مدنية ألنها نزلت بعد الهجرة مع أنها نزلت على رسول اهلل ﷺ في عرفات في حجة الوداع‪.‬‬
‫سبِّ ْح بِ َح ْم ِد‬
‫اجا ۝ فَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َّاس يَ ْد ُخلُو َن في دي ِن اللَّه أَفْـ َو ا‬ ‫ص ُر اللَّ ِه َوالْ َف ْت ُح ۝ َوَرأَيْ َ‬
‫ت الن َ‬ ‫اء نَ ْ‬ ‫ِ‬
‫من األمثلة أيضا قوله تعالى‪﴿ :‬إذَا َج َ‬
‫استَـغْ ِف ْرهُۙ إِنَّهُ َكا َن تَـ َّواباا﴾‪ .‬سورة النصر مدنية نزلت بعد الهجرة مع أنها نزلت في مكة‪.‬‬ ‫ك َو ْ‬
‫َربِّ َ‬

‫‪ ‬الضابط الثالث‪( :‬السور المدنية عشرون سورة‪ :‬سورة البقرة سورة آل عمران سورة النساء سورة المائدة سورة األنفال سورة‬
‫التوبة سورة النور سورة األحزاب سورة محمد ﷺ سورة الفتح سورة الحجرات سورة الحديد سورة المجادلة سورة‬
‫الحشر سورة الممتحنة سورة الجمعة سورة المنافقون سورة الطًلق سورة التحريم سورة النصر)‪.‬‬
‫‪ ‬الضابط الرابع‪( :‬السور المختلف فيها اثنتا عشرة سورة‪ :‬سورة الفاتحة وسورة الرعد وسورة الرحمن وسورة الصف وسورة‬
‫التغابن وسورة المطففين وسورة القدر وسورة البينة وسورة الزلزلة وسورة اإلخًلص وسورة الفلق وسورة الناس)‪.‬‬
‫‪ ‬الضابط الخامس‪( :‬السور المكية ما دون ذلك)‪.‬‬
‫ففي هذه الضوابط الثًلثة ذكر المصنف غفر اهلل له تعداد سور القرآن وبيان ما أجمع العلماء على أنه مدني وبيان ما أجمع‬
‫العلماء على أنه مكي‪ ،‬وبيان السور التي اختلف العلماء فيها ما بين قائل بأنها مكية وبين قائل بأنها مدنية‪.‬‬
‫قال الحافظ بن كثير ‪ :‬وقد أجمعوا على سور أنها من المكي وأُخر أنها من المدني واختُلف في أُخر‪.‬‬
‫وقال أبو الحسن بن الحصار في كتابه [الناسخ والمنسوخ]‪ :‬المدني باتفاق عشرون سورة‪ .‬والمختلف فيه اثنتا عشرة سورة‬
‫وما عدا ذلك مكي باتفاق‪.‬‬

‫والمصنف هنا اعتمد كًلم ابن الحصار الذي نقله السيوطي ‪ ‬تعالى‪.‬‬
‫ثم نظم ابن الحصار تعداد السور المكية والمدنية الذي ذكره فى أبيات جميلة شائقة رائقة اسمعها فقال‪:‬‬
‫وعن ترتيب ما يُتلى من السوِر‬ ‫يا سائلي عن كتاب اهلل مجتهدا‬
‫صلى اإلله على المختار من مض ِر‬ ‫وكيف جاء بها المختار من مضر‬
‫وما تأخر في بَدو وفي حض ِر‬ ‫ِ‬
‫هجرته‬ ‫وما تقدم منها قبل‬
‫يؤيد الحكم بالتاريخ والنظ ِر‬ ‫ليعلم النسخ والتخصيص مجته ُد‬
‫تؤلت الحجر تنبيها لمعتذ ِر‬ ‫تعارض النقل في أم الكتاب وقد‬
‫ما كان للخمس قبل الحمد من أث ِر‬ ‫أم القرآن وفي أم القرى نزلت‬
‫عشرون من سور القرآن في عش ِر‬ ‫نزلت‬
‫وبعد هجرة خير الناس قد ْ‬
‫وخامس الخمس في األنفال ذي العب ِر‬ ‫بع من طوال السبع أولها‬
‫فأر ٌ‬
‫وسورة النور واألحزاب ذي الذك ِر‬ ‫وتوبة اهلل إن عدت فسادسة‬

‫‪33‬‬
‫والفتح والحجرات الغر في غُرِر‬ ‫وسورة لنبي اهلل محكمةٌ‬
‫والحشر ثم امتحان اهلل للبش ِر‬ ‫ثم الحديد ويتلوها مجادلةٌ‬
‫وسورة الجمع تذكار لمدك ِر‬ ‫وسورة فضح اهلل النفاق بها‬
‫والنصر والفتح تنبيها على العم ِر‬ ‫وللطًلق وللتحريم حكمهما‬
‫لهُ وقد تعارضت األخبار في أخ ِر‬ ‫هذا الذي اتفقت فيه الرواة‬
‫وأكثر الناس قالوا الرعد كالقم ِر‬ ‫فالرعد مختلف فيها متى نزلت‬
‫مما تضمن قول الجن في الخب ِر‬ ‫ومثلها سورة الرحمن شاهدها‬
‫ثم التغابن والتطفيف والنذ ِر‬ ‫وسورة للحواريين قد علمت‬
‫ولم يكن بعدها الزلزال فاعتب ِر‬ ‫وليلة القدر قد خصت بملتنا‬
‫وعوذتان نرد البأس بالقد ِر‬ ‫وقل هو اهلل من أوصاف خالقنا‬
‫آي من السوِر‬
‫ت ٌ‬‫وربما استثنِيَ ْ‬ ‫وذا الذي اختلفت فيه الرواة له‬
‫يعني العلماء‪ :‬اتفقوا على عدد من السور كما ذكرنا أنها عشرون سورة مدنية‪ ،‬واختلفوا في اثنتي عشرة سورة‪.‬‬
‫واتفقوا على أن بقية القرآن مكي‪.‬‬
‫لكن السورة المكية أو السورة المدنية قد يُستثنى منها آيات فتكون السورة مدنية إال هذه اآلية مكية نزلت قبل الهجرة‬
‫والعكس‪ ،‬أن تكون السورة مكية وتأخرت آية فنزلت منها بعد هجرة النبي ﷺ‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫وربما استثنيت آي من السوِر‬ ‫وذا الذي اختلفت فيه الرواة له‬
‫فًل تكن من خًلف الناس في حص ِر‬ ‫وما سوى ذاك مكي تنزله‬
‫خًلف له حظ من النظ ِر‬
‫ٌ‬ ‫إال‬ ‫فليس كل خًلف جاء معتبرا‬
‫ويعني نكتفي بهذا اإلجمال الذي فيه تحديد لتعداد السور المكية وتعداد السور المدنية وتعداد السور التي اختلف‬
‫العلماء فيها‪.‬‬
‫وأما تفصيل ذلك وبيان كل سورة واألدلة على كونها مدنية أو مكية واآليات المستثناة من السورة وما ذكر العلماء فيها‬
‫وما اختلفوا فيه وغير ذلك إنما هو في علم منفصل هو علم (المكي والمدني)‪.‬‬
‫لماذا اختلف العلماء في تعيين المكي والمدني؟‬
‫ذكر ال مصنف هنا أن هناك عدة سور اختلف العلماء في تحديدها هل هي مكية أو مدنية‪ ،‬والعلماء يختلفون في‬
‫تحديد المكي والمدني في القرآن وقد يختلفون في السورة الواحدة والسبب في اختًلفهم عدة أسباب سنذكرها‪:‬‬
‫‪ o‬أوال‪ :‬عدم النص عليه من الرسول ﷺ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫أي أنه لم يرد عن النبي ﷺ نص فيه تحديد السور المكية وفيه تحديد السور المدنية وعدم ورود النص‬
‫أصًل ألن المسلمين في زمانه ﷺ لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان وكيف يحتاجون إليه وهم يشاهدون‬
‫الوحي والتنزيل ويشهدون مكانه وزمانه وأسباب نزوله عيانا وليس بعد العيان بيان‪ ،‬فقد كانت حالهم كما قال‬
‫عبد ا هلل بن مسعود‪ :‬ما نزلت سورة من كتاب اهلل إال وأنا أعلم أين نزلت وما نزلت آية من كتاب اهلل إال وأنا‬
‫فيم نزلت ولو أعلم أن أحدا أعلم مني بكتاب اهلل تبلغه اإلبل لركبت إليه‪.‬‬
‫أعلم َ‬
‫ويقول أيوب‪ :‬سأل رجل عكرمة عن آية من القرآن فقال‪ :‬نزلت في سفح ذلك الجبل وأشار إلى سلع فلم‬
‫يكونوا في حاجة إلى نص يحدد لهم السور المكية والمدنية وهم يرون ذلك‪.‬‬

‫‪ o‬السبب الثاني‪ :‬االختًلف في تحديد مصطلح المكي والمدني‪.‬‬


‫أي اختًلف العلماء في تحديد الضابط الذي يحددون به المكي من المدني وهذا نتج عنه اضطراب‬
‫واختًلف في تعيين السور المكية والمدنية‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬واتَّـ ُقوا يَـ ْواما تُـ ْر َجعُو َن فِ ِيه إِلَى اللَّ ِهۙ ثُ َّم تُـ َوفَّ ٰى ُك ُّل نَـ ْفس َّما َك َسبَ ْ‬
‫ت َو ُه ْم‬
‫َال يُظْلَ ُمو َن﴾‪.‬‬
‫العلماء اختلفوا في هذه اآلية وتباينت أقوالهم بسبب اختًلفهم في مصطلح المكي والمدني‪ ،‬يعني هل هو‬
‫الزمان أم المكان أم الخطاب؟‬
‫فقال بعض العلماء إنها مكية ألنها نزلت في يوم النحر بمنى‪.‬‬
‫وقال آخر بل مدنية ألنها نزلت في آخر حياة الرسول ﷺ فهي قطعا بعد الهجرة فهي في العهد المدني‪،‬‬
‫وإن نزلت فى مكة‪ .‬فيترتب على اختًلفهم هذا في تحديد المصطلح اختًلف في تعيين السور‪.‬‬
‫ات إِلَى أ َْهلِ َها﴾ هذه اآلية اختلف‬
‫من األمثلة أيضا قوله تعالى في سورة النساء‪﴿:‬إِ َّن اهلل يأْمرُكم أَن تُـ َؤدُّوا ْاألَمانَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُُ ْ‬
‫العلماء فيها هل هي من المكي أم من المدني؟‬
‫سبب اختًلفهم أصًل في تحديد المصطلح هل هو الزمان أم المكان أم الخطاب؟‬
‫فقال بعضهم إنها مكية ألنها نزلت في قصة مفتاح الكعبة يوم الفتح‪،‬‬
‫وقال آخرون بل إنها مدنية ألن فتح مكة كان بعد الهجرة بًل شك فهي في العهد المدني فهي مدنية‪.‬‬

‫‪ o‬السبب الثالث‪ :‬االعتماد على الروايات الضعيفة‪.‬‬


‫فقد يكون هناك رواية ضعيفة يعتمد عليها بعض العلماء بينما تكون هناك رواية صحيحة ثابتة تبين نزول‬
‫ين يَ ْدعُو َن َربـَّ ُهم بِالْغَ َداةِ َوال َْع ِش ِّي يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُۙ َما‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫السورة‪ .‬ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى‪َ ﴿:‬وَال تَط ُْرد الذ َ‬
‫ِ َّ ِ ِ‬ ‫سابِ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك ِم ْن ِح ِ‬
‫ين﴾‬ ‫ك َعلَْي ِهم ِّمن َش ْيء فَـتَط ُْر َد ُه ْم فَـتَ ُكو َن م َن الظالم َ‬ ‫ساب ِهم ِّمن َش ْيء َوَما م ْن ح َ‬
‫َ‬ ‫َعلَْي َ‬

‫‪35‬‬
‫ذكر بعض العلماء أن هذه اآلية نزلت بقصة األقرع بن حابس وعيينة بن حصن الذين وفدا على النبي ﷺ‬
‫بالمدينة واعتمدوا ذلك سببا وبنوا عليه أن هذه اآلية مدنية‪.‬‬
‫والحديث الذي اعتمدوا عليه أخرجه ابن ماجة عن خباب ‪‬قال‪ :‬جاء األقرع بن حابس التميمي وعيينة‬
‫بن حصن الفزاري فوجدوا رسول اهلل ﷺ مع صهيب وبًلل وعمار وخباب‪ ،‬قاع ادا في ناس من الضعفاء من‬
‫المؤمنين فلما رأوهم حول النبي ﷺ حقروهم فأتوه فخلوا به وقالوا‪ :‬إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا‬
‫تعرف لنا به العرب فضلنا‪ ،‬فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه األعبُد‪ ،‬فإذا نحن جئناك‬
‫فأقمهم عنك فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت‪ .‬قال‪ :‬نعم‪ .‬قالوا‪ :‬فاكتب لنا عليك كتاباا‪.‬‬
‫ين‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫قال‪ :‬فدعا بصحيفة ودعا علياا ليكتب ونحن قعود في ناحية‪ .‬فنزل جبريل ‪ ‬فقال‪َ ﴿ :‬وَال تَط ُْرد الذ َ‬
‫ك َعلَْي ِهم ِّمن َش ْيء‬ ‫سابِ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ك ِم ْن ِح ِ‬
‫يَ ْدعُو َن َربَّـ ُهم بِالْغَ َداةِ َوال َْع ِش ِّي يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُۙ َما َعلَْي َ‬
‫ساب ِهم ِّمن َش ْيء َوَما م ْن ح َ‬
‫َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِ َّ ِ ِ‬
‫فَـتَط ُْر َد ُه ْم فَـتَ ُكو َن م َن الظالم َ‬
‫وهذا الحديث الذي أخرجه بن ماجة حديث ضعيف ال يصح‪.‬‬
‫بينما ذكر بعض العلماء سببا آخر به تكون النتيجة مختلفة فتكون اآلية مكية‪:‬‬
‫وهو ما أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة أيضا عن سعد بن أبي وقاص ‪‬قال‪ :‬كنا مع النبي ﷺ ستة‬
‫نفر‪ ،‬فقال المشركون للنبي ﷺ‪ :‬اطرد هؤالء ال يجترئون علينا‪.‬‬
‫قال‪ :‬وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبًلل ورجًلن لست اسميهما فوقع في نفس رسول اهلل ﷺ‬
‫ما شاء اهلل أن يقع فحدث نفسه فأنزل اهلل عز وجل)وال تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه‬
‫(فكان االعتماد على الضعيف سبباا في وقوع الخًلف كما رأينا‪.‬‬

‫ِ‬
‫قطعية بعض الضوابط مع أنها أغلبية‪.‬‬ ‫توهم‬
‫السبب الرابع‪ُ :‬‬
‫بعض العلماء ذكروا ضوابط يحددون بها المكي والمدني من جهة الخطاب وغيره وهذه الضوابط أغلبية‬
‫ليست قطعية‪ .‬وخصائص الخطاب المكي وخصائص الخطاب المدني وكذا هذه الضوابط ليست قطعية‬
‫توه ُم أنها قطعية من أسباب االختًلف في تحديد المكي والمدني‪.‬‬
‫وليست مضطردة ال تنخرم‪ ،‬وكان ُ‬
‫ِّ‬ ‫ض ِ‬
‫وب َعلَْي ِه ْم َوَال الضَّال َ‬
‫ين﴾ توهم بعض العلماء أن النصف األخير من الفاتحة نزل‬ ‫مثًل قوله تعالى‪﴿ :‬غَْي ِر ال َْمغْ ُ‬
‫بالمدينة اعتمادا على أنه خطاب ألهل الكتاب وخطاب أهل الكتاب إنما كان في المدينة‪.‬‬
‫غير المغضوب عليهم وال الضالين اليهود والنصارى‪ ،‬وهذا الضابط ضابط الخطاب إنما هو أغلبي يعني على‬
‫األغلب الخطاب يكون لليهود والنصارى ال يكون إال في المدينة ألن مكة لم يكن بها أهل كتاب لكن هذا‬
‫ليس بقطعي بطبيعة الحال‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ونكتفي بهذا القدر ونكمل إن شاء اهلل تعالى بقية باب المكي والمدني في المحاضرة القادمة‪.‬‬
‫أسئلة الواجب‪:‬‬

‫األسئـ ـلة‬
‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬عرف المكي والمدني لغة واصطًلحا‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬هناك ثًلثة اعتبارات في تحديد المكي والمدني‪ .‬اذكرها‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثالث‪ :‬اذكر السور التي أجمع العلماء على مكيتها والسور التى أجمع العلماء على‬
‫مدنيتها والسور التي اختلف العلماء فيها‪.‬‬

‫خيرا‪.‬‬
‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل ا‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫الـمحاضـرة السـادس ــة‬
‫ما زلنا مع (باب المكي والمدني)‪.‬‬
‫ونذكر في هذه المحاضرة إن شاء اهلل تعالى بعض المسائل التي ذكرها العلماء في هذا النوع من علوم القرآن وهو (المكي‬
‫والمدني)‪.‬‬
‫ذكر العلماء هنا بعض المسائل نذكرها إن شاء اهلل تعالى‪:‬‬
‫‪ ‬األول‪ :‬ما ُحمل من مكة إلى المدينة‪ :‬أي ما نزل قبل هجرة النبي ﷺ إلى المدينة لكن حمل هذا القرآن الذي نزل‬
‫على النبي ﷺ في مكة‪ُ ،‬حمل إلى المؤمنين من أهل المدينة قبل أن ينتقل الرسول ﷺ إليها‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬سورة األعلى‪.‬‬
‫فقد أخرج البخاري عن البراء بن عازب ‪‬أنه قال‪( :‬أول من قدم علينا من أصحاب النبي ﷺ مصعب بن عمير‬
‫وابن أم مكتوم‪ ،‬فجعًل يُق ِرئانِنَا القرآن‪.‬‬
‫ثم جاء عمار وبًلل وسعد‪ ،‬ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي ﷺ‪ .‬فما رأيت أهل المدينة فرحوا‬
‫بشيء فرحهم به حتى رأيت الوالئد والصبيان يقولون‪ :‬هذا رسول اهلل ﷺ قد جاء‪.‬‬
‫ك ْاألَ ْعلَى﴾ في سور مثلها"‪.‬‬
‫اس َم َربِّ َ‬
‫فما جاء حتى قُرئت‪َ ﴿ :‬سبِّ ِح ْ‬
‫(وعند أحمد في المسند‪ :‬في سور من المفصل) فلم يذكر السور لكنه ذكر ﴿سبح اسم ربك األعلى﴾‪.‬‬

‫فتبين أنه قرأها في المدينة وحفظها قبل أن يصل الرسول ﷺ إلى المدينة فتبين بهذا أنها نزلت بمكة ُ‬
‫وحملت إلى‬
‫الذين آمنوا في المدينة‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الثاني‪ :‬ما ُحمل من المدينة إلى مكة‪.‬‬

‫فمن القرآن ما نزل على الرسول ﷺ وهو في المدينة بعد أن هاجر إليها ُ‬
‫وحمل هذا النازل من القرآن من المدينة إلى‬
‫المؤمنين في مكة‪ .‬ومن أمثلة ذلك‪ :‬سورة براءة‪.‬‬
‫فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة ‪‬أنه قال‪( :‬بعثني أبو بكر ‪‬في تلك الحجة في المؤذنين‪ ،‬بعثهم يوم النحر‬
‫مشرك وال يطوف بالبيت عريا ٌن‪ .‬قال حميد‪ :‬ثم أردف النبي ﷺ بعلي بن أبي طالب‬
‫ٌ‬ ‫يؤذنون بمنى أال يحج بعد العام‬
‫مشرك وال يطوف‬
‫ٌ‬ ‫فأمره أن يؤذن ببراءة‪ .‬قال أبو هريرة‪ :‬فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة‪ ،‬وأال يحج بعد العام‬
‫بالبيت عريا ٌن‪ .‬فقد َّأمر الرسول صلى اهلل وسلم أبا بكر على الحج في العام التاسع‪.‬‬
‫رسول اهلل ﷺ علي بن أبي طالب ليلحق بأبي بكر حتى يبلغ المشركين به‪ ،‬فأذن فيهم‬ ‫حملَهُ ُ‬
‫ولما نزل صدر سورة براءة َّ‬
‫ْح َر َام بَـ ْع َد َع ِام ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(أي نادى باآليات) وبلغهم أال يحج بعد العام مشرك‪﴿ ،‬إنَّ َما ال ُْم ْش ِرُكو َن نَ َج ٌ‬
‫س فًَل يَـ ْق َربُوا ال َْم ْسج َد ال َ‬
‫َه َذا﴾‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ ‬النوع الثالث‪ :‬ما ُحمل من مكة إلى الحبشة‪.‬‬
‫فمن القرآن ما نزل على الرسول ﷺ وهو في مكة قبل أن يهاجر وحمله بعض الصحابة إلى الحبشة‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬سورة مريم‪.‬‬
‫فقد أخرج اإلمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أم المؤمنين أم سلمة ‪ ‬في حديث الهجرة إلى الحبشة وما دار‬
‫بين جعفر بن أبي طالب والنجاشي‪ ،‬وفيه أنها قالت‪( :‬فقال له النجاشي (أي جعفر)‪ :‬هل معك مما جاء به عن اهلل من‬
‫شيء؟ قالت‪ :‬فقال له جعفر‪ :‬نعم‪.‬‬
‫لي‪.‬‬
‫فقال له النجاشي‪ :‬فاقرأه َع ّ‬
‫فقرأ عليه صدرا من ﴿كهيعص﴾ قالت فبكى واهلل النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم‬
‫لي عليهم‪.‬‬
‫حين سمعوا ما تُ َ‬
‫ثم قال النجاشي‪ :‬إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة‪ِ .‬‬
‫انطلقا فواهلل ال أسلمهم إليكم أبدا"‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الرابع‪ :‬ما ُحمل إلى الروم‪.‬‬


‫فمن القرآن ما نزل على الرسول ﷺ في مكة قبل الهجرة وحمله أصحابه في كتاب إلى عظيم الروم‪،‬‬
‫ك اهلل أجرك‬ ‫كما عند البخاري في الصحيح عن ابن عباس ‪‬أن النبي ﷺ كتب إليه‪( :‬أسلِم تَسلَم‪ِ .‬‬
‫أسل ْم يُؤتِ َ‬ ‫ْ ْ ْ ْ‬
‫اب تَـ َعالَ ْوا إِلَى َكلِ َم ِة َس َواء بَـ ْيـنَـنَا‬ ‫مرتين‪ .‬فإن توليت فإن عليك إثم األريسيين (واألريسيين هم المجوس) ﴿يا أ َْهل ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫َ َ‬
‫َوبَـ ْيـنَ ُك ْم أ ََّال نَـ ْعبُ َد إَِّال اهللَ﴾‪ ..‬إلى قوله ﴿ َوا ْش َه ُدوا بِأَنَّا ُم ْس ِل ُمو َن﴾‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الخامس‪ :‬ما نزل ليًل وما نزل نهارا‪.‬‬


‫أكثر القرآن نزل نهارا لكن هناك بعض اآليات والسور نزلت ليًل‪:‬‬
‫فقد أخرج ابن حبان في صحيحه وابن المنذر وصححه األلباني في السلسلة الصحيحة عن عطاء قال‪( :‬دخلت أنا وعبيد‬
‫بن عمير على عائشة ‪ ‬فقال عبد اهلل بن عمير‪ :‬حدثينا بأعجب شيء رأيتِ ِه من رسول اهلل ﷺ‪.‬‬
‫فبكت وقالت‪ :‬قام ليل اة من الليالي فقال‪ :‬يا عائشة ذريني أتعبد لربي‪.‬‬
‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬واهلل إني ألحب قربك وأحب ما يسرك‪ .‬قالت‪ :‬فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بَ َّل ِحجره ثم‬
‫بكى فلم يزل يبكي حتى بَ َّل األرض‪ .‬وجاء بًلل يؤذن للصًلة فلما رآه يبكي قال يا رسول اهلل تبكي وقد غفر اهلل لك ما‬

‫تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال ﷺ‪ :‬أفًل أكون عبدا شكورا؟ لقد نزلت َّ‬
‫علي الليلة آيات‪ ،‬ويل لمن قرأها ولم يتفكر‬
‫َّها ِر َآليَات ِّأل ُْولِي ْاألَلْبَ ِ‬
‫اب﴾ إلى آخر السورة"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ض َوا ْختِ ًَلف اللَّْي ِل َوالنـ َ‬
‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬
‫فيها‪﴿ :‬إِ َّن في َخل ِْق َّ َ َ‬
‫ومنها أيضا آية الثًلثة الذين ُخلِّ ُفوا كما في الصحيحين من حديث كعب ‪‬أنه قال‪( :‬فأنزل اهلل توبتنا حين بقي ثلث‬
‫ِ‬
‫اع ِة ال ُْع ْس َرةِ من بَـ ْع ِد َما َك َ‬
‫اد يَ ِزي ُغ قُـلُ ُ‬
‫وب‬ ‫ين اتَّـبَـعُوهُ فِي َس َ‬ ‫َّ ِ‬
‫َنصا ِر الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الليل اآلخر‪﴿ :‬لََّقد تَّ َ َّ‬
‫اب اللهُ َعلَى النَّب ِّي َوال ُْم َهاج ِر َ‬
‫ين َو ْاأل َ‬

‫‪39‬‬
‫ض بِ َما َر ُحبَ ْ‬ ‫َّى إِ َذا َ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫فَ ِريق ِّم ْنـهم ثُ َّم تَاب علَي ِهمۙ إِنَّه بِ ِهم رء ٌ ِ‬
‫ت‬ ‫ت َعلَْي ِه ُم ْاأل َْر ُ‬
‫ضاقَ ْ‬ ‫ين ُخلِّ ُفوا َحت ٰ‬‫يم ۝ َو َعلَى الث ًََّلثَة الذ َ‬ ‫وف َّرح ٌ‬ ‫َ َ ْ ْ ُ ْ َُ‬ ‫ُْ‬
‫َّواب َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت َعلَي ِهم أَن ُفسهم وظَنُّوا أَن َّال مل ِ ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫ب َعلَْي ِه ْم ليَتُوبُواۙ إِ َّن اللَّهَ ُه َو التـ َّ ُ‬
‫ْجأَ م َن اللَّه إَِّال إِلَْيه ثُ َّم تَا َ‬
‫َ َ‬ ‫ضاقَ ْ ْ ْ ُ ُ ْ َ‬ ‫َو َ‬
‫نزلت ورسول اهلل ﷺ عند أم سلمة‪.‬‬
‫ومنها أيضا سورة الفتح نزلت ليًل‪ ،‬ففي البخاري عن عمر ‪‬أنه قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪ :‬لقد نزلت علي الليلة‬
‫ك فَـ ْت احا ُّمبِيناا﴾‪.‬‬
‫إلي مما طلعت عليه الشمس‪ ،‬فقرأ ﴿إِنَّا فَـتَ ْحنَا لَ َ‬
‫سورة هي أحب ّ‬

‫‪ ‬السادس‪ :‬ما نزل صيفا وما نزل شتاء‪.‬‬


‫ومن أمثلة ما نزل في الصيف‪ :‬آية الكًللة‪.‬‬
‫راجعت رسول ﷺ في شيء ما‬
‫ُ‬ ‫فقد أخرج اإلمام مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب ‪‬أنه قال‪( :‬ما‬
‫علي في شيء ما أغلظ لي فيه‪ ،‬حتى طعن بإصبعه في صدري وقال‪( :‬يا عمر أال تكفيك‬
‫راجعته في الكًللة‪ ،‬وما أغلظ ّ‬
‫س لَهُ َولَ ٌد َولَهُ‬ ‫ك قُ ِل اللَّهُ يُـ ْفتِي ُك ْم فِي الْ َك ًَللَ ِةۙ إِ ِن ْام ُرٌؤ َهلَ َ‬
‫ك لَْي َ‬ ‫آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟ ﴿يَ ْستَـ ْفتُونَ َ‬
‫ان ِم َّما تَـ َر َكۙ َوإِن َكانُوا إِ ْخ َو اة‬
‫ف ما تَـر َكۙ و ُهو ي ِرثـُها إِن لَّم ي ُكن لَّها ولَ ٌدۙ فَِإن َكانَـتَا اثْـنَتَـ ْي ِن فَـلَهما الثُّـلُثَ ِ‬
‫َُ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ص ُ َ َ َ َ َ َ‬ ‫ت فَـلَ َها نِ ْ‬
‫أُ ْخ ٌ‬
‫يم﴾"‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لذ َك ِر ِمثْل َح ِّ‬
‫ظ ْاألُنثَـيَـ ْي ِنۙ يـُبَـيِّ ُن اللَّهُ لَ ُك ْم أَن تَضلُّواۙ َواللَّهُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬ ‫ِّر َج ااال َونِساء فَِل َّ‬
‫َا‬
‫ُ‬
‫ومن أمثلة ما نزل في الشتاء‪ :‬آيات اإلفك‪.‬‬
‫فقد أخرج البخاري في صحيحه عن أم المؤمنين عائشة ‪ ‬أنها قالت‪( :‬واهلل ما كنت أظن أن اهلل منزل في شأني‬
‫في بأمر‪ ،‬ولكن كنت أرجو أن يرى رسول اهلل ﷺ في‬
‫َو ْحياا يُتلَى‪ ،‬لَشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم اهلل ّ‬
‫مجلسهُ وال خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل‬
‫َ‬ ‫النوم رؤيا تُـبَـ ِّرئُنِي أو يـُبَـ ِّرئُنِي اهللُ بها‪ .‬فواهلل ما ر َام ُ‬
‫رسول اهلل ﷺ‬
‫عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (أي من الشدة) حتى أنه ليتحدر منه العرق مثل الج ِ‬
‫مان وهو في يوم شات من‬ ‫ُ‬
‫ي عن رسول اهلل ﷺ وهو يضحك فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال‪ :‬يا‬ ‫فس ِّر َ‬
‫ثقل القول الذي أنزل عليه‪ .‬قالت‪ُ :‬‬
‫أقوم إليه فإني ال أحمد إال اهلل عز وجل‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عائشة‪ ،‬أما اهللُ فقد برأك‪ .‬قالت‪ :‬فقالت لي أمي‪ :‬قومي إليه‪ .‬فقلت‪ :‬واهلل ال ُ‬
‫صبَةٌ ِّمن ُك ْم﴾ العشر آيات من سورة النور"‪.‬‬
‫ك عُ ْ‬ ‫قالت‪ :‬وأنزل اهلل تعالى‪﴿ :‬إِ َّن الَّ ِذين جاءوا بِ ِْ‬
‫االفْ ِ‬
‫َ َ ُ‬

‫‪ ‬سابعا‪ :‬ما نزل في الحضر وما نزل في السفر‪.‬‬


‫من المقرر أن أكثر القرآن نزل في الحضر ورسول اهلل ﷺ مقيم في المدينة أو قبلها في مكة‪ ،‬لكن نزل بعضه في‬
‫السفر‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪ :‬ما أخرجه البخاري في صحيحه عن كعب بن عجرة قال‪ :‬كنا مع رسول اهلل ﷺ بالحديبية ونحن‬
‫ُم ْح ِرمون وقد حصرنا المشركون‪ .‬قال‪ :‬وكانت لي وفرة (أي وكانت لي وفرة في شعري يعني كان شعره كبيرا أو طويًل) قال‪:‬‬

‫‪40‬‬
‫فجعلت الهوام تساقط على وجهي (والهوام هي حشرات الشعر) قال‪ :‬فمر بي النبي ﷺ فقال‪ :‬أيؤذيك هوام رأسك؟‬
‫قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫سك﴾‪.‬‬
‫ص َدقَة أ َْو نُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫قال‪ :‬فأنزلت هذه اآلية ﴿فَ َمن َكا َن ِمن ُكم َّم ِري ا‬
‫ضا أ َْو بِه أَذاى ِّمن َّرأْسه فَف ْديَةٌ ِّمن صيَام أ َْو َ‬
‫ومن أمثلة ذلك أيضا أول سورة األنفال نزلت ببدر عقب الغزوة‪،‬‬
‫كما أخرج البخاري في صحيحه عن سعيد بن جبير ‪‬أو ‪ ‬قال‪( :‬قلت البن عباس ‪ :‬سورة األنفال‪ .‬قال‪:‬‬
‫نزلت في بدر‪.‬‬
‫يل اللَّ ِه فَـبَ ِّ‬
‫ش ْرُهم‬ ‫ضةَ َوَال يُ ِنف ُقونَـ َها فِي َسبِ ِ‬
‫ب َوال ِْف َّ‬ ‫ين يَ ْكنِ ُزو َن َّ‬
‫الذ َه َ‬
‫َّ ِ‬
‫ومن أمثلة ذلك أيضا‪ :‬قوله تعالى من سورة التوبة‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫بِ َع َذاب أَلِيم﴾‪.‬‬
‫ب‬ ‫ين يَ ْكنِ ُزو َن َّ‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َه َ‬ ‫أخرج الترمذي في سننه وأحمد في المسند بإسناد صحيح عن ثوبان ‪‬أنه قال‪( :‬لما أنزلت ﴿ َوالذ َ‬
‫ش ْرُهم بِ َع َذاب أَلِيم﴾‪ ،‬قال‪ :‬كنا مع رسول اهلل ﷺ في بعض أسفاره"‪.‬‬
‫يل اللَّ ِه فَـبَ ِّ‬
‫ض َة َوَال يُ ِنف ُقونَـ َها فِي َسبِ ِ‬
‫َوال ِْف َّ‬
‫ومن أمثلتها أيضا أول سورة الحج فقد أنزلت عليه ﷺ وهو في سفر‪.‬‬
‫فقد أخرج الترمذي وصححه األلباني عن عمران بن حصين رضي عنه قال‪( :‬كنا مع النبي ﷺ في سفر فتفاوت بين‬
‫الس َ ِ‬
‫َّاس اتَّـ ُقوا َربَّ ُك ْمۙ إِ َّن َزل َْزلَ َة َّ‬
‫اعة َش ْيءٌ‬ ‫أصحابه في السير‪ .‬فرفع رسول اهلل ﷺ صوته بهاتين اآليتين‪﴿ :‬يَا أَيـُّ َها الن ُ‬
‫َع ِظيم﴾ إلى قوله‪﴿ :‬ولَ ِّك َّن َع َذاب ِ‬
‫اهلل َش ِدي ٌد﴾‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬
‫المطي وعرفوا أنه عند قول يقولوه"‪.‬‬
‫َّ‬ ‫فلما سمع ذلك أصحابه حثُّوا‬
‫وكذلك سورة الفتح‪ ،‬كما عند البخاري عن عمر بن الخطاب ‪‬أنه قال‪( :‬كنا عند النبي ﷺ في بعض أسفاره‬
‫فقال‪ :‬يا ابن الخطاب لقد أنزلت هذه الليلة سورة ما أحب أن لي منها ما طلعت عليه الشمس‪﴿ :‬إِنَّا فَـتَ ْحنَا لَ َ‬
‫ك فَـ ْت احا‬
‫ُّمبِيناا﴾‪.‬‬
‫وهنا نتوقف بعد هذا العرض وهذه المسائل التي طوفنا فيها‪.‬‬

‫ما هي فوائد العلم بالمكي والمدني من القرآن؟‬


‫نقول في الجواب على هذا السؤال‪ :‬للعلم بالمكي والمدني فوائد جليلة وعظيمة‪ ،‬نذكر أهمها‪:‬‬
‫‪ ‬أوال‪ :‬االستعانة به في تفسير القرآن‪ :‬فإن معرفة مواقع النزول وزمن النزول يساعد على فهم اآلية وتفسيرها تفسيرا‬
‫صحيحا ويساعد على معرفة مدلوالتها ومناطها وما يراد منها وما حدث في وقت نزولها‪.‬‬
‫‪ ‬ثانيا‪ :‬معرفة الناسخ والمنسوخ‪ :‬فإن معرفة المكي والمدني تفيد في العلم بكون هذه اآلية نزلت بعد تلك اآلية فإن‬
‫كانت معارضة لها فتكون ناسخةا لها‪ .‬وباإلجمال‪( ،‬فالمدني إذا تعارض ينسخ المكي)‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ ‬ثالثا‪ :‬معرفة تاريخ التشريع وتدرجه‪ :‬فإن معرفة مواضع نزول اآليات يدلنا حتما على تاريخ تشريع كل شريعة أنزلها اهلل‬
‫عز وجل‪ .‬وأيضا من خًلل علم المكي والمدني نعرف كيف تدرج الشرع ومن االمثلة على ذلك مما ال يخفى عليكم‬
‫التدرج في تحريم الخمر‪.‬‬
‫‪ ‬رابعا‪ :‬معرفة أسباب النزول‪ :‬فمكان النزول ووقت النزول يظهر المًلبسات التي احتفت بنزول اآلية فيتقرر بذلك سبب‬
‫نزول اآلية‪.‬‬
‫‪ ‬خامسا‪ :‬الثقة بهذا القرآن ووصوله إلينا سالما من التغيير والتحريف‪.‬‬
‫‪ ‬سادسا‪ :‬بيان عناية المسلمين بالقرآن‪ :‬فلم يكتفوا بحفظ الن ص فقط بل تتبعوا أماكن النزول ووقت النزول وعرفوا‬
‫مناطات النزول وأسباب النزول وغير ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬سابعا‪ :‬بيان أساليب القرآن في الدعوة إلى اهلل‪ .‬وكيف كان القرآن ينزل موائما لطبيعة المرحلة التي يعيشونها من مراحل‬
‫الدعوة‪.‬‬
‫وخصائص أسلوب المكي في القرآن والمدني منه تعطي الدارس منهجا لطرائق الخطاب في الدعوة إلى اهلل بما يًلئم‬
‫نفسية المخاطب ويمتلك عليه لبه ومشاعره ويعالج فيه دخيلته بالحكمة البالغة والموعظة الحسنة لكل مرحلة من‬
‫مراحل الدعوة؛ موضوعاتها‪ ،‬وأساليب الخطاب فيها‪.‬‬
‫كما يختلف الخطاب باختًلف أنماط الناس ومعتقداتهم وأحوال بيئاتهم‪ ،‬ويبدو هذا واضحا جليا بأساليب القرآن‬
‫فكل له‬
‫المختلفة في مخاطبة المؤمنين وفي مخاطبة المشركين وفي مخاطبة المنافقين وفي مخاطبة أهل الكتاب‪ٌ .‬‬
‫خطابه وقد راعى القرآن كل ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬ثامنا‪ :‬بيان أحداث السيرة النبوية من خًلل اآليات القرآنية‪ ،‬فمن خًلل معرفة منازل القرآن في مكة والمدينة نعرف‬
‫كثيرا من أحداث سيرة النبي ﷺ‪.‬‬
‫فإن تتابع الوحي على رسول اهلل ﷺ ساير تاريخ الدعوة بأحداثها في العهد المكي والعهد المدني منذ بدأ الوحي‬
‫حتى آخر آية نزلت‪ ،‬والقرآن الكريم هو المرجع األصيل لهذه السيرة الزكية‪.‬‬
‫ومما يجدر لفت االنتباه إليه أن للقرآن العظيم خصائص في بيان أحداث سيرة النبي ﷺ‪ ،‬ال توجد هذه الخصائص‬
‫في غيره‪ .‬نذكر منها‪:‬‬
‫‪ o‬أوال‪ :‬تجلية الحالة النفسية للرسول ﷺ‪.‬‬
‫ك‬
‫ك َعلَْي َ‬ ‫ول لِلَّ ِذي أَنْـ َع َم اللَّهُ َعلَْي ِه َوأَنْـ َع ْم َ‬
‫ت َعلَْي ِه أ َْم ِس ْ‬ ‫كما في قوله تعالى في زواجه من زينب ‪َ ﴿ :‬وإِ ْذ تَـ ُق ُ‬
‫شاهُ﴾‪.‬‬ ‫َح ُّق أَن تَ ْخ َ‬ ‫َّاس َواللَّهُ أ َ‬
‫شى الن َ‬ ‫ك َما اللَّهُ ُم ْب ِد ِيه َوتَ ْخ َ‬
‫ك َواتَّ ِق اللَّهَ َوتُ ْخ ِفي فِي نَـ ْف ِس َ‬
‫َزْو َج َ‬
‫االطًلع على ما في نفس الرسول ﷺ ال يوجد إال في القرآن ألنه ال يعلمه اال العليم الخبير سبحانه‬
‫وتعالى وهذه خصيصة ال توجد في غير القرآن‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪ o‬ثانيا‪ :‬حسرته ﷺ على قومه‪.‬‬
‫كب ِ‬
‫اخ ٌع نَّـ ْف َس َ‬
‫ك‬ ‫كما في قوله تعالى‪﴿ :‬فلعلك باخع نفسك﴾ (أي قاتلها ومهلكها من الحسرة عليهم) ﴿فَـلَ َعلَّ َ َ‬
‫َس افا﴾‪.‬‬ ‫َعلَ ٰى آثَا ِرِهم إِن لَّم يـ ْؤِمنُوا بِ َٰه َذا ال ِ ِ‬
‫ْحديث أ َ‬
‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ْ‬

‫‪ o‬ثالثا‪ :‬ما كان يعتلج في نفوس أصحابه ﷺ و‪.‬‬


‫الدنْـيَا َوِمن ُكم َّمن يُ ِري ُد ْاآل ِخ َرةَ﴾‪ ،‬واإلرادة والنية ال يعلمها إال رب البرية‬ ‫قد قال اهلل فيهم‪ِ ﴿ :‬من ُكم َّمن يُ ِري ُد ُّ‬
‫سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ين لَ َكا ِرُهو َن﴾‪ .‬هذا الكره نفسي‬‫ِِ‬ ‫ك بِال َ ِ‬ ‫ك ِمن بَـ ْيتِ َ‬
‫ْح ِّق َوإ َّن فَ ِري اقا ِّم َن ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫ك َربُّ َ‬ ‫وقوله سبحانه‪َ ﴿ :‬ك َما أَ ْخ َر َج َ‬
‫قلبي ال يطلع عليه إال اهلل جل وعًل‪.‬‬

‫‪ o‬رابعا‪ :‬من خصائص القرآن في بيان أحداث السيرة‪ ،‬بيان ما كان في ضمائر الكافرين ونفسية المنافقين‪.‬‬
‫سى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ش ٰى أَن تُصيبَـنَا َدائ َرةٌۙ فَـ َع َ‬ ‫ض يُ َسا ِرعُو َن فِي ِه ْم يَـ ُقولُو َن نَ ْخ َ‬ ‫ين فِي قُـلُوبِ ِهم َّم َر ٌ‬ ‫َّ ِ‬
‫كما في قوله تعالى‪﴿ :‬فَـتَـ َرى الذ َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫َس ُّروا في أَن ُفس ِه ْم نَادم َ‬ ‫صبِ ُحوا َعلَ ٰى َما أ َ‬ ‫اللَّهُ أَن يَأْتِ َي بِالْ َف ْت ِح أَ ْو أ َْمر ِّم ْن عنده فَـيُ ْ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اء ُه ْمۙ َوإِ َّن فَ ِري اقا ِّم ْنـ ُه ْم لَيَ ْكتُ ُمو َن ال َ‬
‫ْح َّق َو ُه ْم‬ ‫اب يَـ ْع ِرفُونَهُ َك َما يَـ ْع ِرفُو َن أَبْـنَ َ‬
‫اه ُم الْكتَ َ‬
‫ين آتَـ ْيـنَ ُ‬
‫وقوله تعالى‪﴿ :‬الذ َ‬
‫يَـ ْعلَ ُمو َن﴾‪.‬‬

‫‪ o‬خامسا‪ :‬بيان العواقب والمآالت للوقائع‪.‬‬


‫فهذا أيضا ال يعلمه إال اهلل سبحانه وتعالى وال يوجد في غير القرآن ألنه كًلم العليم الخبير‪.‬‬

‫‪ o‬سادسا‪ :‬القرآن يعطيك هيكلة عامة للسيرة النبوية‪.‬‬


‫وهو الكتاب المعصوم والمرجع األصيل لهذه السيرة الذي ال يدع مجاال للشك فيما روي عن أهل السير‬
‫موافقا له ويقطع دابر الخًلف عند اختًلف الروايات‪.‬‬
‫فالقرآن إذا ورد فيه حدث من أحداث السيرة يجعل هذا الحدث مقطوعا بصحته وإن خالفه من خالفه‪.‬‬

‫ونكتفي بهذا القدر ونذكر سؤال الواجب‪ ،‬وهو سؤال واحد في هذه المحاضرة‪:‬‬

‫‪43‬‬
‫سؤال الدرس‪:‬‬

‫ســؤال المحاضـرة‬
‫اذكر مثاال على كل مما يأتي‪:‬‬
‫‪ -‬ما ُحمل من المدينة إلى مكة‪.‬‬ ‫‪ -‬ما ُحمل من مكة الى المدينة‪.‬‬
‫‪ -‬ما نزل نهارا‪.‬‬ ‫‪ -‬ما نزل ليًل‪.‬‬
‫‪ -‬ما نزل شتاء‪.‬‬ ‫‪ -‬ما نزل صيفا‪.‬‬
‫‪ -‬ما نزل في السفر‪.‬‬ ‫‪ -‬ما نزل في الحضر‪.‬‬

‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪،‬‬


‫وأسأله سبحانه لكم التوفيق والسداد والهدى والرشاد‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫المحاضرة السابعـة‬
‫الباب الرابع‪( :‬أسباب النزول)‬
‫نقول وباهلل التوفيق إن القرآن كله أنزل لسبب عظيم وهو تدبره واالهتداء به وليكون بشرى للمؤمنين‪،‬‬
‫َج ارا َكبِ ايرا﴾‪.‬‬ ‫الصالِح ِ‬
‫ات أ َّ‬ ‫شر الْم ْؤِمنِ َّ ِ‬ ‫ِ َِِّ ِ‬ ‫ِ‬
‫َن لَ ُه ْم أ ْ‬ ‫ين يَـ ْع َملُو َن َّ َ‬ ‫كما قال رب العالمين‪﴿ :‬إ َّن َٰه َذا الْ ُق ْرآ َن يَـ ْهدي للتي ه َي أَقـ َْو ُم َويـُبَ ِّ ُ ُ َ‬
‫ين الذ َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ْكتَاب َال ريب فِ ِيه ه ادى لِّل ِ‬ ‫وقال سبحانه في فاتحة سورة البقرة‪﴿ :‬الم ۝ ٰذَلِ َ ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك ال ُ َ ْ َ‬
‫اهلل عز وجل أنزل القرآن هداية وبشرى للمؤمنين وجعل من ِح َك ِم إنزاله إخراج الناس به من ظلمات الجهل والكفر إلى نور‬
‫العلم واإليمان‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫اط الْع ِزي ِز الْح ِم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك لِت ْخرِج الن ِ‬ ‫ِ‬
‫يد ۝﴾‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َّاس م َن الظُّلُ َمات إِلَى النُّوِر بِِإ ْذن َربِّ ِه ْم إِلَ ٰى ص َر َ‬ ‫اب أ َ ِ‬
‫َنزلْنَاهُ إلَْي َ ُ َ َ‬ ‫فقال تعالى‪﴿ :‬الرۙ كتَ ٌ‬
‫هذا هو السبب الرئيس وهذه هي الغاية العظيمة الجليلة التي أنزل القرآن من أجلها لكن هناك بعض آيات من القرآن قد‬
‫أنزلت لغير هذا السبب الجليل العظيم‪ ،‬لغير هذا السبب العام‪ ..‬أنزلت لسبب خاص‪ ،‬لواقعة معينة‪ .‬هذا هو المقصود بهذا‬
‫العلم الشريف‪ ،‬وتعالوا بنا لنزيد األمر إيضاحا فنقول‪ :‬ما معنى أسباب النزول؟‬
‫تعريف أسباب النزول‪ :‬أوال‪ :‬تعريفه باعتباره مركبا إضافيا‪.‬‬
‫مركبا إضافيا يعني يتركب من [مضاف ومضاف إليه]‬
‫فعندنا أسباب النزول نعرف أوال األسباب ثم نعرف النزول‪.‬‬
‫األسباب‪ :‬جمع سبب والسبب في اللغة هو ما يتوصل به إلى غيره وكل شيء يتوصل به إلى شيء فهو سبب ومن ذلك‬
‫سمي الحبل سبباا‪.‬‬
‫وأما النزول‪ :‬فهو في األصل انحطاط من علو‪ ،‬يقال نزل عن دابته ونزل في مكان كذا أي حط رحله فيه‪.‬‬
‫ورا﴾‪.‬‬ ‫ومنه قوله تعالى‪﴿ :‬وأَنزلْنا ِمن َّ ِ‬
‫اء طَ ُه ا‬
‫الس َماء َم ا‬ ‫َ ََ َ‬
‫ضۙ وإِنَّا َعلَ ٰى َذهاب بِ ِه لََق ِ‬ ‫ِ‬ ‫وقال سبحانه وتعالى‪﴿ :‬وأَنزلْنا ِمن َّ ِ‬
‫اد ُرو َن﴾‪.‬‬ ‫َ‬ ‫اء بَِق َدر فَأ ْ‬
‫َس َكنَّاهُ في ْاأل َْر ِ َ‬ ‫الس َماء َم ا‬ ‫َ ََ َ‬
‫هذه األمطار التي تنزل من المزن من السحاب من السماء من العلو ينزل بها اهلل عز وجل أو ينزلها إلى األرض ثم‬
‫يسكنها في األرض هذا معنى النزول نزول من األعلى إلى األدنى‪.‬‬
‫س ُقو َن﴾‪.‬‬ ‫َنزلْنَا َعلَى الَّ ِذين ظَلَموا ِر ْج ازا ِّمن َّ ِ ِ‬
‫الس َماء ب َما َكانُوا يَـ ْف ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫وقوله تعالى‪﴿ ":‬فَأ َ‬

‫ثانيا‪ :‬تعريف أسباب النزول باعتباره لقب لعلم معين مخصوص‪.‬‬


‫فحينئذ نستطيع أن نع ّرف أسباب النزول اصطًلحا فنقول‪:‬‬
‫أسباب النزول‪ :‬هو ما نزل بشأنه قرآن عند وقوعه‪.‬‬
‫لكن تعالوا بنا لنتعرف على مفردات هذا التعريف‪:‬‬

‫‪45‬‬
‫فقول العلماء في تعريف أسباب النزول‪:‬‬
‫هو ما نزل‪ :‬ما تفيد العموم لتشمل كل ما أنزل بشأنه قرآن‪ ،‬تشمل القول والفعل سواء كان هذا القول أو الفعل من‬
‫الرسول ﷺ أو كان من صحابته الكرام أو كان من المشركين الذين أرسل إليهم الرسول ﷺ أو كان من أهل‬
‫الكتاب في المدينة فقولهم "ما" تفيد العموم‪.‬‬
‫ما نزل أي أن يكون النزول حديثا وجديدا ال أن يكون النزول سابقا ويستشهد به على أمر معين‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪:‬‬
‫ما جاء في الصحيحين عن علي بن أبي طالب ‪‬أنه قال إن رسول اهلل ﷺ فرقه وفاطمة أي طرق عليه الباب‬
‫هو وزوجه فاطمة بنت رسول اهلل ﷺ فقال لهم أال تصلون فقال علي‪ :‬فقلت يا رسول اهلل إنما أنفسنا بيد اهلل إذا‬
‫شاء أن يبعثنا بعثنا يعني إذا شاء اهلل أن يوقظنا للصًلة أيقظنا فانصرف رسول اهلل ﷺ حين قال له ذلك ولم يرجع‬
‫إليه شيئا ثم سمعه أي علي ‪ ‬سمعه وهو مدبر يضرب فخذه وهو يقول‪﴿ :‬وكان اإلنسان أكثر شيء جدال﴾‪.‬‬
‫نسا ُن أَ ْكثَـ َر َش ْيء َج َد اال﴾ ألنها كانت نازلة من قبل ثم‬ ‫فهذه الواقعة ال يقال عنها بأنها سبب نزول اآلية ﴿ َوَكا َن ِْ‬
‫اإل َ‬
‫استشهد بها الرسول ﷺ في هذا الموقف‪.‬‬
‫نرجع إلى التعريف‪ :‬هوما نزل بشأنه قرآن‪..‬‬
‫بشأنه‪ :‬أي ألجله فقد اقتضت حكمة اهلل عز وجل البالغة ربط األسباب بالمسببات ورتب على وجودها أثرها فمن‬
‫اآليات ما ال ينزل من السماء حتى يقع السبب في األرض ومنها ما ليس كذلك فليس النزول دائما موقوفا على سبب‬
‫بل يكون أحيانا على سبب وأحيانا بغير سبب‪.‬‬
‫ولذلك المقصود هنا في أسباب النزول‪ :‬اآليات التي أنزلت ألجل واقعة معينة ما نزل بشأنه قرآن‪.‬‬
‫وقولهم‪ :‬قرآن (نكرة تنكيرا) جاءت نكرة لتفيد العموم لتطلق‪:‬‬
‫على اآلية‪ ،‬وتطلق على بعض اآلية أو جزء اآلية‪ ،‬وتطلق على بضعة آيات‪ ،‬أو سورة كاملة‪.‬‬
‫من األمثلة على ذلك قوله تعالى ﴿من الفجر﴾ في سورة البقرة‪ ،‬نزلت وحدها بعد قوله‪َ ﴿ :‬وُكلُوا َوا ْش َربُوا َحتَّى يَـتَبَـيَّ َن‬
‫َس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ط األَبـي ِ‬
‫ض م َن الْ َخ ْيط األ ْ‬
‫لَ ُك ُم الْ َخ ْي ُ ْ َ ُ‬
‫هكذا كانت فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن سهل بن سعد ‪‬أنه قال‪ :‬أنزلت ﴿وكلوا واشربوا حتى‬
‫يتبين لكم الخيط األبيض من الخيط األسود﴾ ولم ينزل "من الفجر" فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في‬
‫رجله الخيط األبيض والخيط األسود ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل اهلل بعد ﴿من الفجر﴾ فعلموا أنه إنما‬
‫يعني الليل والنهار‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة التوبة ﴿غير أولي الضرر﴾ نزلت أيضا بمفردها بعد نزول اآلية كما‬
‫عند البخاري ومسلم عن سهل بن سعد السعدي ‪‬أنه قال‪ :‬رأيت مروان بن الحكم جالسا في المسجد فأقبلت‬

‫‪46‬‬
‫حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول اهلل ﷺ أملى عليه‪﴿ :‬ال يستوي القاعدون من‬
‫المؤمنين والمجاهدون في سبيل اهلل﴾‪.‬‬
‫قال فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي (أي وهو يمليها علي أي يعني يقرأها الرسول ﷺ ويكتبها زيد بن ثابت)‬
‫فقال‪ :‬يا رسول اهلل لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان رجًل أعمى فأنزل اهلل تبارك وتعالى على رسوله ﷺ وفخذه‬
‫على فخذي فثقلت علي"‪.‬‬
‫من القائل؟ القائل زيد بن ثابت‪.‬‬
‫يقول ونعيد مرة أخرى‪ :‬فأنزل اهلل تبارك وتعالى على رسول اهلل ﷺ وفخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت أن‬
‫ترض فخذى يعني تكسرها وتهشمها ثم سري عنه فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬غير أولي الضرر﴾‪.‬‬
‫فقد يكون النازل جزء آية‬
‫وقد يكون النازل أيضا سورة كاملة‪.‬‬
‫كما نزلت سورة الكوثر جملة واحدة‪.‬‬
‫كما عند مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك ‪‬أنه قال‪" :‬بين رسول اهلل ﷺ ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى‬
‫إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول اهلل؟ قال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ‪ :‬بسم اهلل الرحمن الرحيم‪:‬‬
‫ك ُه َو ْاألَبْـتَـ ُر﴾‪.‬‬ ‫ص ِّل لَِربِّ َ‬
‫ك َوانْ َح ْر ۝ إِ َّن َشانِئَ َ‬ ‫﴿إِنَّا أَ ْعطَْيـنَ َ‬
‫اك الْ َك ْوثَـ َر ۝ فَ َ‬
‫ثم قال‪ :‬أتدرون ما الكوثر؟ قلنا اهلل ورسوله أعلم‪.‬‬
‫قال إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم فيختلج العبد‬
‫منهم فأقول ربي إنه من أمتي فيقول ما تدري ما أحدث بعدك"‪.‬‬
‫فهكذا نرى أن النازل من القرآن قد يكون كلمة أو كلمتين‪ ،‬جزء آية أو قد يكون آية أو قد يكون سورة كاملة‪.‬‬
‫نرجع إلى التعريف مرة أخرى‪.‬‬
‫ما نزل بشأنه قرآن عند وقوعه‪.‬‬
‫فقوله عند وقوعه‪ :‬يدل على الزمن‪ ،‬مقاربة الزمن بين اآلية بين نزول اآلية ووقوع الحادثة سواء كان النزول وقت وقوع‬
‫السبب مباشرة أو بعده بقليل أو بعده بمدة لكن تكون الحادثة هي الدافع المباشر لنزول اآلية أو اآليات‪.‬‬

‫وح ِم ْن أ َْم ِر َربِّي﴾‪.‬‬ ‫وحۙ قُ ِل ُّ‬


‫الر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫لنأخذ مثاال على ذلك ليتضح به ما نقول‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫نزلت مباشرة بعد سؤال اليهود له ﷺ‪ ،‬كما عند البخاري ومسلم عن عبد اهلل بن مسعود ‪‬أنه قال‪" :‬بين أنا‬
‫أمشي مع النبي ﷺ في خرب المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه (خرب المدينة األماكن التي هي خارج العمران)‬
‫فمر نفر من اليهود فقال بعضهم لبعض اسألوه عن الروح وقال بعضهم ال تسألوه ال يجيء فيه بشيء تكرهونه‪ .‬فقال‬

‫‪47‬‬
‫بعضهم لنسألنه فقام رجل منهم فقال‪ :‬يا أبا القاسم ما الروح؟ فسكت أي النبي ﷺ‪ .‬فقلت إنه يوحى إليه فقلت‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َربِّي َوَما أُوتِيتُم ِّم َن ال ِْعل ِْم إَِّال قَلِ ايًل﴾‪.‬‬ ‫وحۙ قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫الر ِ‬‫ك َع ِن ُّ‬ ‫فلما انجلى عنه نزلت‪َ ﴿ :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫فتبين بهذا أنه سبب النزول ال بد أن يقع أن تنزل اآلية عند وقوع السؤال أو الواقعة‪.‬‬
‫ات أَبَ ادا َوَال تَـ ُق ْم َعلَ ٰى قَـ ْب ِرِهۙ إِنـَّ ُه ْم َك َف ُروا بِاللَّ ِه َوَر ُسولِ ِه َوَماتُوا‬
‫َحد ِّم ْنـ ُهم َّم َ‬
‫ص ِّل َعلَ ٰى أ َ‬
‫من األمثلة أيضا قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَال تُ َ‬
‫وهم فَ ِ‬
‫اس ُقو َن﴾‪.‬‬ ‫َُ ْ‬
‫نزلت بعد صًلة النبي ﷺ على عبد اهلل بن أ ّ‬
‫ُبي بن سلول بوقت يسير‪.‬‬
‫والحديث في البخاري عن عمر بن الخطاب ‪‬أنه قال‪" :‬لما مات عبد اهلل بن أبي بن سلول دعا له رسول اهلل‬
‫ﷺ ليصلي عليه فلما قام رسول اهلل ﷺ وثبت إليه (يعني لما قام الرسول ﷺ ليصلي يعني لصًلة الجنازة‬
‫صلِّي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ قال‬
‫وثبت إليه يعني قفز له عمر بن الخطاب) فقلت‪ :‬يا رسول اهلل أتُ َ‬
‫أعدد عليه قوله‪.‬‬
‫فتبسم رسول اهلل ﷺ وقال‪ :‬أخِّر عني يا عمر‪.‬‬
‫رت فاخترت‪ .‬لو أعلم أنى إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها‪.‬‬
‫فلما أكثرت عليه قال‪ :‬إني ُخيِّ ُ‬
‫قال‪ :‬فصلى عليه رسول اهلل ﷺ ثم انصرف فلم يمكث إال يسيرا حتى نزلت اآليتان من براءة‪َ ﴿ :‬وَال تُ َ‬
‫ص ِّل َعلَ ٰى‬
‫ات أَب ادا وَال تَـ ُقم َعلَ ٰى قَـب ِرِهۙ إِنـَّهم َك َفروا بِاللَّ ِه ورسولِ ِه وماتُوا وهم فَ ِ‬
‫اس ُقو َن﴾‪.‬‬ ‫ََ ُ ََ َ ُ ْ‬ ‫ُْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َحد ِّم ْنـ ُهم َّم َ َ َ ْ‬
‫أَ‬
‫فالزمن اليسير ال ينخرم به هذا الشرط‪.‬‬

‫ومن األمثلة على ذلك أن الزمن قد يطول ويكون هو أيضا سببا لنزول اآلية ومن أوضح األمثلة على ذلك قصة اإلفك‬
‫فقد تأخرت شهرا كامًل حتى نزلت اآليات من سورة النور ببراءة أم المؤمنين عائشة ‪ ‬فتأخر نزول اآليات شهرا‬
‫والحديث عند البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول اهلل ﷺ مكث شهرا ال يوحى إليه في شأن كما تقول عائشة‬
‫اإلفْ ِ‬
‫ين َجاءُوا بِ ِْ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ك‬ ‫‪ ‬تقول‪ :‬مكث شهرا ال يوحى إليه في شأن شيء حتى أنزل عليه الوحي فأنزل اهلل‪﴿ :‬إ َّن الذ َ‬
‫سبُوهُ َش ًّرا لَّ ُكمۙ بَ ْل ُه َو َخ ْيـ ٌر لَّ ُك ْم﴾ اآليات من سورة النور‪.‬‬
‫صبَةٌ ِّمن ُك ْمۙ َال تَ ْح َ‬
‫عُ ْ‬

‫قال وفقه اهلل‪( :‬باب أسباب النزول)‪ ،‬وفيه ثًلثة ضوابط‪:‬‬


‫الضابط األول‪( :‬نزول القرآن على قسمين‪ ،‬ابتدائي وسببي)‪.‬‬
‫‪ -‬سببي‪ :‬وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه‪.‬‬ ‫‪ -‬ابتدائي‪ :‬وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه‪.‬‬
‫فبين في هذا الضابط أن النازل من القرآن إما أن يكون تقدمه سبب اقتضى نزوله أو أن يكون لم يتقدمه سبب يقتضي نزوله‬
‫وإنما أُنزل للسبب العام المذكور وهو هداية الناس إلى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫قال الجعبري‪ :‬نزول القرآن على قسمين‪ :‬قسم نزل ابتداء وقسم نزل عقب واقعة األوس‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫‪ ‬القسم األول‪( :‬ابتدائي)‪:‬‬
‫وهو ما لم يتقدم نزوله سبب يقتضيه فإن القرآن لم يكن نزوله وقفا على الحوادث والوقائع أو على األسئلة‬
‫واالستفسارات‪ ،‬بل كان القرآن يتنزل ابتداء بعقائد اإليمان وواجبات اإلسًلم وشرائع اهلل عز وجل في حياة الفرد وحياة‬
‫ابتداء من غير سبب‪ .‬وهذا القسم هو أكثر القرآن‪.‬‬
‫ا‬ ‫المجتمع فيتنزل‬
‫فلو نظرنا إلى ما نزل بسبب وما نزل بغير سبب لوجدنا أن ما نزل بغير سبب مباشر أكثر مما له سبب مباشر بكثير‪.‬‬
‫من األمثلة الكثيرة جدا على ذلك‪:‬‬
‫ب‬ ‫ين يـُ ْؤِمنُو َن بِالْغَْي ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين ۝ الذ َ‬
‫ْكتَاب َال ريب ۙ فِ ِيه ۙ ه ادى لِّل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك ال ُ َ ْ َ‬
‫قوله تعالى في صدر سورة البقرة‪﴿ :‬الم ۝ ٰذَلِ َ ِ‬

‫ك‬ ‫ك َوبِ ْاآل ِخ َرةِ ُه ْم يُوقِنُو َن ۝ أُوٰلَئِ َ‬ ‫ك َوَما أُن ِز َل ِمن قَـ ْبلِ َ‬ ‫ين يـُ ْؤِمنُو َن بِ َما أُن ِز َل إِلَْي َ‬ ‫َّ ِ‬
‫اه ْم يُنف ُقو َن ۝ َوالذ َ‬
‫ِ‬ ‫وي ِقيمو َن َّ ِ‬
‫الص ًَلةَ َوم َّما َرَزقـْنَ ُ‬ ‫َُ ُ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْف ِل ُحو َن﴾‪ .‬فهذه اآليات نزلت بغير واقعة وال سبب‪.‬‬ ‫َعلَ ٰى ُه ادى ِّمن َّربِّ ِه ْمۙ َوأُوٰلَئِ َ‬
‫يرا ۝‬ ‫ِ‬
‫ْجنَّةَ َوَال يُظْلَ ُمو َن نَق ا‬
‫ك يَ ْد ُخلُو َن ال َ‬ ‫ات ِمن ذَ َكر أ َْو أُنثَ ٰى َو ُه َو ُم ْؤِم ٌن فَأُوٰلَئِ َ‬ ‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬
‫ومنها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَمن يَـ ْع َم ْل م َن َّ َ‬
‫يم َخلِ ايًل﴾‪.‬‬ ‫َّ ِ ِ‬ ‫َسلَم و ْج َههُ لِلَّ ِه و ُهو م ْح ِسن واتَّـبع ِملَّةَ إِبْـر ِاه ِ‬ ‫ومن أَح ِ‬
‫يم َحني افاۙ َواتَّ َخ َذ اللهُ إبْـ َراه َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ُ ٌ َ ََ‬ ‫س ُن ديناا ِّم َّم ْن أ ْ َ َ‬ ‫ََ ْ ْ َ‬
‫ب فِ ِيهۙ فَ ِري ٌق فِي‬ ‫ْج ْم ِع َال َريْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك قُـ ْرآناا َع َربِيًّا لِّتُنذ َر أ َُّم الْ ُق َر ٰى َوَم ْن َح ْولَ َها َوتُنذ َر يَـ ْو َم ال َ‬ ‫وكذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَك َٰذلِ َ‬
‫ك أ َْو َح ْيـنَا إِلَْي َ‬
‫شاءُ فِي َر ْح َمتِ ِهۙ َوالظَّالِ ُمو َن َما لَ ُهم ِّمن َولِ ٍّي‬ ‫اح َدةا َوٰلَ ِكن يُ ْد ِخ ُل َمن يَ َ‬ ‫الس ِعي ِر ۝ ولَو َشاء اللَّه لَجعلَهم أ َُّمةا و ِ‬
‫َ ْ َ ُ ََ ُ ْ َ‬ ‫ْجن َِّة َوفَ ِري ٌق فِي َّ‬
‫ال َ‬
‫صير﴾ هذه اآليات وغيرها كثير لم تنزل بسبب واقعة وقعت أو لسؤال سئل إنما أنزلت على السبب العام لنزول‬ ‫وَال نَ ِ‬
‫َ‬
‫القرآن كله وهو التدبر واالعتقاد والعمل واالهتداء وامتثال األوامر واجتناب النواهي والوقوف عند الحدود وغير ذلك‪.‬‬

‫‪ ‬القسم الثاني‪( :‬سببي)‪:‬‬


‫وهو ما تقدم نزوله سبب يقتضيه أي ما نزل على سبب خاص فقد كان األمر يحدث فيسكت النبي ﷺ أو يسأل‬
‫السؤال فيسكت النبي ﷺ منتظرا ما يوحى إليه فيه فينزل جبريل على النبي ﷺ بآيات من القرآن تشتمل على‬
‫جواب السؤال أو حل ألمر وقع‪.‬‬
‫وأسباب النزول (توقيفية)‪ :‬ال سبيل إليها إال بالنقل الصحيح بالرواية عن الصحابة الذين شاهدوا التنزيل الذين عرفوا أماكن‬
‫نزول القرآن ووقت نزوله وموضع نزوله وال يدرك سبب النزول أبدا عن طريق االجتهاد ألنه من القول في القرآن بغير علم‪.‬‬
‫ْم﴾‪.‬‬ ‫ف ما لَيس لَ َ ِ ِ ِ‬
‫ك به عل ٌ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬وَال تَـ ْق ُ َ ْ َ‬
‫عن محمد ابن سيرين قال‪" :‬سألت عبيدة عن آية من القرآن فقال‪ :‬اتق اهلل وكل سدادا‪ .‬ذهب الذين يعلمون فيما أنزل‬
‫القرآن وهم الصحابة رضوان اهلل عليهم أجمعين"‪.‬‬
‫قال اإلمام الواحدي ‪ :‬وال يحل القول في أسباب نزول الكتاب إال بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على‬
‫األسباب‪ ..‬انتهى‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫فًل بد من وجود إسناد إلى صحابي ينص على سبب النزول ما ورد عن الصحابة‪.‬‬
‫والوارد عن الصحابة من جهة صيغته ال يخرج عن صيغتين‪:‬‬
‫‪ ‬الصيغة األولى‪ :‬أن يقول الصحابي حدث كذا فنزلت أو فأنزل اهلل‪.‬‬
‫فهذا بإجماع العلماء له حكم المرفوع هو من المسند ألن سبب النزول يحكي حدثا وقع في زمن الرسول ﷺ لذا‬
‫فهو من هذا القبيل‪.‬‬

‫‪ ‬الصيغة الثانية‪ :‬أن يقول الصحابي‪ :‬نزلت أو أنزلت هذه اآلية في كذا‪.‬‬
‫فهو على المختار من قولي العلماء أنه من قبيل غير المسند يعني من قبيل الموقوف على الصحابي لكثرة ورودها‬
‫عنهم وهم يريد ون بذلك أن ما يذكرونه يدخل في معنى اآلية وحكمها أو هو من تفسير اآلية على ما سيأتينا وهذا‬
‫الذي اخترناه‪.‬‬
‫هو ظاهر صنيع اإلمام أحمد واإلمام مسلم‬
‫وذكره عن اإلمام أحمد شيخ اإلسًلم ابن تيمية وعزاه إليهما (يعني إلى اإلمام أحمد ومسلم) ومال إليه أيضا الزركشي‬
‫في الب رهان واستدل ما ذهب إليه بقوله قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال نزلت هذه اآلية في‬
‫كذا فإنه يريد بذلك أن هذه اآلية تتضمن هذا الحكم ال أن هذا كان السبب في نزولها‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقال شيخ اإلسًلم ابن تيمية ‪ :‬وقد تنازع العلماء في قول الصاحب أي الصحابي نزلت هذه اآلية في كذا هل‬
‫يجري مجرى المسند كما يذكر السبب الذي أنزلت ألجله أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟‬
‫فالبخاري يدخله في المسند‪ ،‬وغيره ال يدخله في المسند‪.‬‬
‫وأكثر المساند على هذا االصطًلح كمسند أحمد وغيره بخًلف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه فإنهم كلهم يدخلون مثل‬
‫هذا في المسند‪..‬‬
‫فتبين مما سبق‪ :‬أن الصحابي إذا قال (حدث كذا فنزلت) فهو من قبيل المرفوع‪.‬‬
‫والصحابي إذا قال (أنزلت هذه اآلية في كذا) أو (نزلت هذه اآلية في كذا) اختلف العلماء في هذه الصيغة‬
‫والصحيح الراجح المختار أنها ليست من قبيل المسند إنما من قبيل تفسير اآلية المنسوب للصحابي فهي موقوفة‬
‫عليه‪.‬‬
‫إذا ورد سبب النزول عن أحد التابعين هل يقبل أم ال يقبل؟‬
‫ونقول في الجواب على ذلك‪ :‬إذا ورد سبب النزول عن تابعي فيشترط لقبوله شروط‪:‬‬
‫‪ -‬الشرط األول‪ :‬أن تكون عبارته صريحة في السببية‪ :‬أي أن تكون العبارة صريحة يعني يقول حدث كذا فنزلت أو‬
‫سئل رسول اهلل ﷺ عن كذا فأنزل اهلل عز وجل هذه اآلية أو فنزلت هذه اآلية‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫‪ -‬الشرط الثاني‪ :‬أن يكون اإلسناد صحيحا إليه أو يعتضد بقول تابعي آخر فيتقوى به‪.‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬أن يكون التابعي من أئمة التفسير الذين رووا عن الصحابة‪.‬‬
‫فجهالة الصحابي ال تضر‪.‬‬
‫قال السيوطي ‪ ‬في اإلتقان‪ :‬إذا ورد عن تابعي يعني سبب النزول قد يقبل إذا صح المسند إليه وكان من أئمة التفسير‬
‫اآلخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير‪ ،‬أو اعتضد بمرسل آخر‪.‬‬
‫(يعني اإلمام السيوطي ‪ ‬يرى أن الوارد عن التابعي يقبل إذا توفرت فيه هذه الشروط الثًلثة)‪.‬‬
‫ونكتفي بهذا القدر ونكمل إن شاء اهلل تعالى في المحاضرة التالية‪.‬‬
‫ونذكر هنا سؤالين‪:‬‬

‫األسئ ـلة‬
‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬اذكر تعريف أسباب النزول باعتباره مركبا إضافيا وباعتباره لقبا لعلم معين‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬نزول القرآن على قسمين فما هما؟ واذكر مثاال على كل قسم منهما‪.‬‬

‫خيرا‪،‬‬
‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل ا‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫المحاضـرة الـثـامن ــة‬
‫ما زلنا مع أسباب النزول أيها األحباب الكرام‪:‬‬
‫إن الوارد عن السلف رحمهم اهلل من ألفاظ تبين نزول القرآن يَ ِر ُد على خمس حاالت‪ ،‬أي عبارات النزول الواردة عن السلف‬
‫يقصد بها خمس حاالت‪:‬‬

‫‪ ‬الحالة األولى‪( :‬التفسير)‪.‬‬


‫أي أن يفسروا اآلية بما ذكروا فيجعلون هذا السبب الذي ذكروه وقالوا أنزلت اآلية في كذا يجعلونه تفسيرا لآلية‪.‬‬
‫ت ِمن‬
‫خذ مثاال على ذلك‪ :‬ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة ‪ ‬في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِ ِن ْام َرأَةٌ َخافَ ْ‬
‫اضا﴾ اآلية‪ ،‬قالت عائشة ‪" :‬أنزلت في المرأة تكون عند الرجل فتطول صحبتها فيريد طًلقها‬ ‫وزا أ َْو إِ ْع َر ا‬
‫شا‬ ‫بَـ ْعلِ َها نُ ُ‬
‫فتقول ال تطلقني وأمسكني وأنت في ِح ٍّل مني"‪.‬‬
‫فهذا ليس سببا مباشرا لنزول اآلية فقد ساقه المفسرون دون ذكر كونه سببا خاصا لنزول اآلية بل إن أم المؤمنين عائشة‬
‫‪ ‬أيضا ساقته مساق التفسير ال لكونه سببا لنزول اآلية بدليل أنها ذكرت سببا آخر لنزول هذه اآلية‪:‬‬
‫وهو ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ‪ ‬قالت‪" :‬إن اآلية نزلت في سودة‬
‫وإعطائها يومها لعائشة حتى ال يطلقها النبي ﷺ"‪.‬‬
‫ك‬‫خذ مثاال آخر‪ :‬ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد اهلل بن مسعود ‪‬أنه قال في قوله تعالى‪﴿ :‬أُوٰلَئِ َ‬
‫ين يَ ْدعُو َن يَـ ْبتَـغُو َن إِلَ ٰى َربِّ ِه ُم ال َْو ِسيلَة﴾ قال‪" :‬نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون‪،‬‬ ‫َّ ِ‬
‫الذ َ‬
‫ين يَ ْدعُو َن يَـ ْبتَـغُو َن إِلَ ٰى َربِّ ِه ُم ال َْو ِسيلَةَ﴾"‪.‬‬ ‫واإلنس الذين كانوا يعبدونهم ال يشعرون فنزلت‪﴿ :‬أُوٰلَئِ َ َّ ِ‬
‫ك الذ َ‬
‫وهذا أيضا ليس من قبيل األسباب إنما المراد أن اآلية نزلت متحدثة عن أمر مذموم كان موجودا بين العرب والجن كما‬
‫تحدث القرآن كثيرا عن أحوال العرب في الجاهلية ومن ذلك ما حكاه اهلل في سورة األنعام وسورة الجن وغيرهما من‬
‫األحوال الجاهلية التي كانت بين اإلنس والجن‪ .‬فكًلم ابن مسعود ‪‬سيق مساق التفسير لآلية وليس سببا خاصا‬
‫لنزولها‪.‬‬

‫‪ ‬ثانيا‪( :‬قصة اآلية)‪.‬‬


‫قد يراد عند السلف بقولهم "نزلت في كذا" أن القصة المذكورة هي قصة اآلية فإذا ذكروا حادثة متقدمة على نزول اآلية‬
‫بزمن طويل فيدل هذا على أنها قصة اآلية وليست بسبب النزول‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة ‪‬أنه قال‪" :‬كان موسى ‪ ‬رجًل‬
‫حييًّا‪ .‬قال‪ :‬فكان ال يُرى متجردا فقال بنو إسرائيل إنه آدر (والرجل اآلدر هو المريض بانتفاخ الخصية أعزكم اهلل) قال‪:‬‬

‫‪52‬‬
‫فاغتسل عند ُم َويْه (تصغير ماء) فوضع ثوبه على حجر فانطلق الحجر يسعى واتبعه بعصاه يضربه‪ :‬ثوبي حجر ثوبي حجر‬
‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫وس ٰى﴾"‪ .‬أي بقولهم إنه مريض‬
‫ين آ َذ ْوا ُم َ‬
‫آمنُوا َال تَ ُكونُوا َكالذ َ‬ ‫حتى وقف على مأل من بني اسرائيل ونزلت‪﴿ :‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫به عيب فبرأه اهلل مما قالوا بأن أجراه أمامهم عريانا لعلة‪ ،‬فرأوا أنه ال عيب فيه فبرأه اهلل مما قالوا وكان عند اهلل وجيها‪.‬‬
‫فقصة أخذ ال حجر لثوب نبي اهلل موسى ليست هي السبب المباشر لنزول اآلية وال يقصد أبو هريرة ‪‬أن هذه الحادثة‬
‫هي السبب الذي نزلت ألجله اآلية إنما مراده أن هذه الواقعة هي قصة اآلية ونزل القرآن بذكر هذه القصة‪.‬‬
‫ومن األمثلة الواضحة جدا على ذلك‪:‬‬
‫ما ذكره الواحدي ‪ ‬في سورة الفي ل قال‪" :‬نزلت في قصة أصحاب الفيل وقصدهم تخريب الكعبة وما فعل اهلل تعالى بهم‬
‫من إهًلكهم وصرفهم عن البيت وهي معروفة"‪.‬‬
‫فما وقع في شأن الفيل ليس سببا مباشرا لنزول اآلية أو لنزول السورة وال يقصد الواحدي ‪ ‬بقوله "نزلت في قصة‬
‫أصحاب الفيل" السبب الخاص لنزول اآليات ألن هذا كان قبل نزول القرآن بأكثر من أربعين عاما إنما يقصد أنها قصة‬
‫اآلية‪.‬‬

‫‪ ‬ثالثا‪ :‬يذكر السلف النزول ويقصدون به (االستدالل باآلية على دخول معنى معين فيها)‪.‬‬
‫أي أنهم يستدلون باآلية على معنى معين ويقصدون أن هذا المعنى داخل في هذه اآلية ومندرج تحت معناها العام‪ .‬وقد‬
‫يكون هذا المعنى بعيدا وال يدل عليه ظاهر اآلية ولذلك ينصون عليه‪.‬‬
‫ث لَّ ُك ْم فَأْتُوا َح ْرثَ ُك ْم أَنَّ ٰى‬
‫سا ُؤُك ْم َح ْر ٌ‬ ‫ِ‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما أخرجه البخاري والطبري عن نافع قال‪ :‬قرأت ذات يوم ﴿ن َ‬
‫ِش ْئتُ ْم﴾ فقال ابن عمر‪" :‬أتدري فيما نزلت؟ قلت‪ :‬ال‪.‬‬
‫قال‪ :‬نزلت في إتيان النساء في أدبارهن"‪ .‬فقول ابن عمر ‪‬ليس سببا لنزول اآلية بل هو استنباط منه لدخول هذا‬
‫الحكم في اآلية‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا‪ :‬ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء بن عازب ‪‬عن النبي ﷺ أنه‬
‫ت اهلل الَّ ِذين آمنُوا بِالْ َقو ِل الثَّابِ ِ‬
‫ت﴾ قال‪" :‬نزلت في عذاب القبر"‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫قال في قول اهلل تعالى‪﴿ :‬يُـثَبِّ ُ ُ َ َ‬
‫فعذاب القبر ليس سببا لنزول اآلية إنما قوله ﷺ "نزلت في عذاب القبر" هو استدالل على دخول ذلك المعنى في‬
‫اآلية والمعنى أن من صور التثبيت التي تناولتها اآلية تثبيت المؤمنين في قبورهم عند سؤال الملكين‪.‬‬
‫ك َوَال تُ َخافِ ْ‬
‫ت بِ َها َوابْـتَ ِغ بَـ ْي َن‬ ‫ص ًَلتِ َ‬
‫ومن األمثلة أيضا‪ :‬ما ورد عن عائشة ‪ ‬أنها قالت‪" :‬نزلت هذه اآلية‪َ ﴿ :‬وَال تَ ْج َه ْر بِ َ‬
‫ٰذَلِ َ‬
‫ك َسبِ ايًل﴾ قالت‪ :‬نزلت في الدعاء"‪.‬‬
‫فما ذكرته أم المؤمنين عائشة أن هذه اآلية نزلت في الدعاء ليس معناها أن سبب نزول اآلية هو الدعاء إنما اجتهادا منها‬
‫واستدالال أن الدعاء يطلب فيه التوسط في رفع الصوت كالصًلة تماما‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫وقد ورد سبب نزول اآلية الكريمة في البخاري وهو أن النبي ﷺ كان يرفع صوته بالقرآن فيسمعه المشركون فيسبوا‬
‫القرآن ومن أنزله فلذلك نزلت هذه اآلية ولم تنزل بسبب الدعاء‪.‬‬
‫وأما قول عائشة فمحمول على أنها نزلت في الدعاء أنها استدلت بها على دخول الدعاء في حكم اآلية وإن كان الدعاء‬
‫بعيدا عن ظاهر اآلية ونصها‪.‬‬

‫‪ ‬رابعا‪( :‬تنزيل اآلية على الواقع)‪.‬‬


‫أي أنهم يقولون في اآلية "نزلت في كذا" وهم ال يقصدون السبب المباشر إنما يقصدون تطبيق اآلية وتنزيل اآلية على واقع‬
‫حدث بعد نزول القرآن‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫من األمثلة على ذلك‪ :‬ما ورد في المعجم الكبير للطبراني عن أبي أمامة ‪‬في قوله تعالى‪ُّ ﴿ :‬ربَ َما يَـ َو ُّد الذ َ‬
‫ين َك َف ُروا لَ ْو‬
‫ين﴾‪ .‬قال‪" :‬نزلت في الخوارج"‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫َكانُوا ُم ْسلم َ‬
‫ضو َن َع ْه َد اللَّ ِه ِمن بَـ ْع ِد ِميثَ ِاق ِه﴾‪ .‬قال‪" :‬نزلت في الحرورية"‪.‬‬
‫ين يَن ُق ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫وما ورد عن سعد ابن أبي وقاص في قوله تعالى‪﴿ :‬الذ َ‬
‫وليس المقصود أن هذا سبب النزول ألن مثًل الخوارج الحرورية ما ظهروا إال بعد موت النبي ﷺ وانقطاع الوحي‬
‫فكيف تنزل اآلية في هذه الفرقة؟ وإنما المقصود‪ :‬إنزال اآليات وتطبيقها على واقع معين‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما ذكره محمد بن سيرين وأخرجه الطبري ‪ ‬أنه قال‪" :‬إن لم تكن هذه اآلية نزلت في القدرية‬
‫ادلُو َن فِي آي ِ ِ‬
‫فإنى ال أدري فيمن نزلت‪﴿ :‬أَلَم تَـر إِلَى الَّ ِذين يج ِ‬
‫ات اللَّه أَنَّ ٰى يُ ْ‬
‫ص َرفُو َن﴾"‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ْ َ‬
‫ين ِفي َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ًَلل‬ ‫وعن محمد بن كعب القرضي قا ل‪" :‬لما تكلم الناس في القدر فإن هذه اآلية نزلت فيهم‪﴿ :‬إ َّن ال ُْم ْج ِرم َ‬
‫َو ُسعُر﴾"‪.‬‬
‫القدرية مجوس هذه األمة‪ ،‬لكن ليست فرقة القدرية وظهورها سبب مباشر لنزول هاتين اآليتين ألن القدرية لم تكن موجودة‬
‫وقت نزول اآليات‪ ،‬إنما المقصود أن السلف رحمهم اهلل أنزلوا آيات القرآن على واقع ليس منصوصا عليه في القرآن‬
‫حدث بعد انقطاع الوحي‪ ،‬فأنزلوا هذه اآليات عليها ومقصودهم "نزلت في كذا" أي أن هذه اآلية تنزل على األمر الفًلني‪.‬‬

‫‪ ‬خامسا‪ :‬أن يكون مقصودهم بقولهم "نزلت في كذا" (السبب المباشر لنزول اآلية)‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما ورد عن عائشة ‪ ‬والحديث عند ابن ماجة بإسناد صحيح وهو عند مسلم أيضا أنها قالت‪:‬‬
‫علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول اهلل‬
‫"تبارك الذي وسع سمعه كل شيء‪ ،‬إني ألسمع كًلم خولة بنت ثعلبة ويخفى ّ‬
‫ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو‬
‫ُ‬ ‫ﷺ وهي تقول‪ :‬يا رسول اهلل أكل شبابي‬
‫ك ِفي َزْو ِج َها َوتَ ْشتَ ِكي إِلَى اللَّه﴾"‪.‬‬ ‫إليك‪ .‬فما برحت حتى نزل جبرائيل بهؤالء اآليات‪﴿ :‬قَ ْد س ِمع اللَّهُ قَـو َل الَّتِي تُج ِ‬
‫ادلُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫فهذه الواقعة التي ترويها أمنا عائشة ‪ ‬هي السبب المباشر لنزول اآليات في صدر سورة المجادلة حيث جاءت خولة‬
‫بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت ‪‬تشكو لرسول اهلل ﷺ أن زوجها قد ظاهر منها بعد كبر سنها معه فنزل جبريل‬

‫‪54‬‬
‫بهذه اآليات التي تعالج شكواها وتبين أن من ظاهر زوجته عليه أن يكفر بتحرير رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين‬
‫فإن لم يستطع فيطعم ستين مسكينا وترجع له زوجته مرة أخرى‪.‬‬
‫فهذه واقعة حدثت ثم نزل جبريل على النبي ﷺ هذا هو السبب المباشر‪.‬‬
‫ين﴾ صعد‬ ‫َنذ ْر َع ِش َيرتَ َ‬
‫ك ْاألَقـ َْربِ َ‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما أخرجه البخاري عن ابن عباس ‪‬أنه قال‪" :‬لما نزلت ﴿وأ ِ‬
‫َ‬
‫النبي ﷺ على جبل الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي‪ ،‬لبطون قريش‪ ،‬حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم‬
‫يستطع أن يخرج أرسل رسوال لينظر ما هو ماذا حدث فجاء أبو لهب وقريش فقال‪" :‬أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيًل بالوادي‬
‫مصدقي؟ قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬ما جربنا عليك إال صدقا‪.‬‬
‫ّ‬ ‫تريد أن تغير عليكم أكنتم‬
‫ت يَ َدا أَبِي لَ َهب‬
‫قال‪ :‬فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد قال أبو لهب‪ :‬تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت‪﴿ :‬تَـبَّ ْ‬
‫ب﴾"‪.‬‬
‫سَ‬‫ب ۝ َما أَ ْغنَ ٰى َع ْنهُ َمالُهُ َوَما َك َ‬
‫َوتَ َّ‬
‫فهذا القول الذي يرويه حبر األمة عبد اهلل بن عباس ‪‬أن أبا لهب قال للنبي ﷺ‪ :‬تبا لك حينما صعد على جبل‬
‫الصفا وأخبر قومه أنه نذير لهم بين يدي عذاب شديد حينما قال له أبو لهب ذلك فنزلت اآليات تخبر أن الخسارة‬
‫والشقاء إنما هو من نصيب أبي لهب بسبب إيذائه للنبي ﷺ بقوله ذلك‪.‬‬
‫( فالوارد عن السلف متعدد وليس كله في السبب المباشر؛ إنما السبب المباشر حالة واحدة من خمس حاالت جاء عليها‬
‫لفظ النزول عند السلف)‪.‬‬

‫ننتقل اآلن إلى (شروط صحة أسباب النزول)‪:‬‬


‫أي الشروط أو األركان التي إذا اجتمعت في سبب النزول صح واعتمد سببا ويميز عما ليس كذلك فينضبط باجتماعها‬
‫ويختل باختًللها‪:‬‬
‫‪ ‬الركن األول‪( :‬جدة الحدث)‪ :‬أي أن يكون الحدث والواقعة وقع حديثا سواء كان قوال أو فعًل‪.‬‬
‫ويستوي في ذلك ما كان وقع قديما ثم تكرر وقوعه بعد البعثة أو لم يقع مثله من قبل‪.‬‬
‫يعني لو أن واقعة وقعت قبل ذلك ثم حدثت مرة أخرى أو حدث مقتضى لها ثم نزلت اآليات فيصح حينئذ أن يكون‬
‫سببا للنزول‪.‬‬
‫وخذ مثاال على ذلك‪ :‬ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة بن الزبير أنه قال‪" :‬قلت لعائشة ‪:‬‬
‫(وعائشة هي خالة عروة بن الزبير فعروة بن الزبير ابن أسماء ‪ )‬قال‪" :‬قلت لعائشة‪ :‬أر ِ‬
‫أيت قول اهلل تعالى‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫اح َعلَْي ِه أَن يَطََّّو َ‬
‫ف بِ ِه َما﴾‪.‬‬ ‫الص َفا َوال َْم ْرَو َة ِمن َش َعائِ ِر اللَّ ِهۙ فَ َم ْن َح َّج الْبَـ ْي َ‬
‫ت أَ ِو ا ْعتَ َم َر فَ ًَل ُجنَ َ‬ ‫َّ‬
‫فًل أرى على أحد شيئا أال يطوف بهما‪ .‬قالت عائشة‪ :‬كًل لو كانت كما تقول كانت فًل جناح عليه أن ال يطوف بهما‪،‬‬
‫إنما أنزلت هذه اآلية في األنصار‪ ،‬كانوا يُِهلُّون لمناة وكانت مناة حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا‬

‫‪55‬‬
‫والمروة أي لوجود هذه األصنام بعد اإلسًلم فلما جاء اإلسًلم سألوا رسول اهلل ﷺ عن ذلك فأنزل اهلل عز وجل‪:‬‬
‫اح َعلَْي ِه أَن يَطََّّو َ‬
‫ف بِ ِه َما﴾‪.‬‬ ‫الص َفا َوال َْم ْرَوةَ ِمن َش َعائِ ِر اللَّ ِهۙ فَ َم ْن َح َّج الْبَـ ْي َ‬
‫ت أَ ِو ا ْعتَ َم َر فَ ًَل ُجنَ َ‬ ‫﴿إِ َّن َّ‬
‫فلما تحرجت األنصار من السعي بين الصفا والمروة لوجود هذه األصنام نزلت اآلية لتعالج هذا األمر وترفع عنهم هذا‬
‫الحرج وإن كان هذا الحرج له أصل قديم أنهم كانوا يطوفون بينها وفيها األصنام‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما أخرجه الترمذي بسند صحيح عن عائشة ‪ ‬أنها قالت‪" :‬كان الرجل يطلق امرأته ما شاء‬
‫أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة أو أكثر حتى قال رجل المرأته‪ :‬واهلل ال أطلقك‬
‫فتبيني مني وال آويك أبدا‪ .‬قالت‪ :‬وكيف ذاك؟ قال‪ :‬أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك فذهبت المرأة‬
‫حتى دخلت على عائشة فأخبرتها فسكتت عائشة حتى جاء النبي ﷺ فأخبرته فسكت النبي ﷺ حتى نزل‬
‫سان﴾‪.‬‬ ‫اك بِ َم ْعروف أ َْو تَ ْس ِر ٌ ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ‬
‫يح بإ ْح َ‬ ‫سٌ ُ‬ ‫القرآن‪﴿ :‬الط ًَل ُق َم َّرتَانۙ فَإ ْم َ‬
‫قالت عائشة‪ :‬فاستأنف الناس الطًلق مستقبًل من كان طلق ومن لم يكن طلق"‪.‬‬
‫فلما قال الرجل المرأته واهلل ال أطلقك فتبيني مني وال آويك أبدا فذهبت إلى النبي تسأله عن هذا األمر ﷺ‬
‫فسكت عليه الصًلة والسًلم حتى نزل جبريل بالحل من عند اهلل عز وجل وهذا السؤال جديد وقع بعد بعثة النبي‬
‫ﷺ وفي الوقت الذي كان يأتيه فيه الوحي أي قبل نزوله‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا‪ :‬ما أخرجه البخاري وأحمد ومسلم والترمذي عن عائشة ‪ ‬حين قال لها أهل اإلفك‬
‫ما قالوا فبرأها اهلل مما قالوا فقال أبو بكر ‪‬وكان ينفق على مصبح لقرابته منه‪ ،‬قال‪" :‬واهلل ال أنفق على مصبح‬
‫الس َع ِة أَن يـُ ْؤتُوا أُولِي الْ ُق ْربَ ٰى‬
‫ض ِل ِمن ُك ْم َو َّ‬
‫شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة"‪ .‬فأنزل اهلل عز وجل‪َ ﴿ :‬وَال يَأْتَ ِل أُولُو الْ َف ْ‬
‫يل اللَّ ِهۙ ولْيـع ُفوا ولْيص َفحواۙ أ ََال تُ ِحبُّو َن أَن يـغْ ِفر اللَّه لَ ُكمۙ واللَّه غَ ُف ِ‬
‫ين فِي َسبِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫والْم ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬‫ور َّرح ٌ‬‫َ َ ُ ْ َ ُ ٌ‬ ‫َ َْ َ َ ْ ُ‬ ‫ين َوال ُْم َهاج ِر َ‬
‫ساك َ‬
‫َ ََ‬
‫قال أبو بكر‪" :‬بلى واهلل إني ألحب أن يغفر اهلل لي"‪ ،‬فرجع إلى مصبح النفقة التي كان ينفق عليه وقال‪" :‬واهلل ال أنزعها‬
‫عنه أبدا"‬
‫فهذه اآلية نزلت بعد وقوع هذا الحدث الجديد الذي لم يقع من قبل وإرشادا ألبي بكر وغيره إلى سبيل الفضل‪.‬‬

‫‪ ‬الركن الثاني‪( :‬الموافقة بين اآلية وسببها في اللفظ والمعنى)‪.‬‬


‫أي أن يقع توافق بين اآليات النازلة وبين السبب الوارد فيها‪ ،‬أن يقع التوافق في اللفظ وفي المعنى أيضا أو يكون‬
‫بينهما قدر مشترك في األلفاظ والمعاني وال يصح أن يكون سبب النزول غير موافق ال في األلفاظ وال في المعاني‬
‫المدعى أنها سبب نزوله‪.‬‬
‫لآلية ُ‬
‫وبالمثال الذي نذكره يتضح ذلك‪ :‬أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب ‪‬قال‪" :‬يا رسول اهلل لو‬
‫صلًّى﴾"‪.‬‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اتخذنا مقام إبراهيم مصلى؟ قال فنزلت‪َ ﴿ :‬واتَّخ ُذوا من َّم َقام إبْـ َراه َ‬
‫يم ُم َ‬

‫‪56‬‬
‫موافقة تامة بين السبب واآلية في اللفظ والمعنى‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا‪ :‬ما أخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن ابن عباس ‪‬قال‪ :‬أقبلت يهود إلى النبي‬
‫ﷺ فقالوا‪" :‬أخبرنا من الذي يأتيك من المًلئكة فإنه ليس من نبي إال يأتيه ملك من المًلئكة من عند ربه بالرسالة‬
‫وبالوحي‪ .‬فمن صاحبك؟ (يعني‪ :‬من الملك الذي يأتيك؟) قال ﷺ‪ :‬هو جبريل‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬ذاك الذي ينزل بالحرب وبالقتل؟ ذاك عدونا من المًلئكة‪ .‬لو قلت (ميكائيل) الذي ينزل بالقطر والرحمة‪،‬‬
‫تابعناك‪.‬‬
‫ص ِّدقاا لِّ َما بَـ ْي َن يَ َديْ ِه َو ُه ادى َوبُ ْش َر ٰى‬ ‫فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬قُل من َكا َن َع ُد ًّوا لِّ ِجب ِريل فَِإنَّهُ نَـ َّزلَهُ َعلَ ٰى قَـ ْلبِ َ ِ ِ‬
‫ك بِِإ ْذن اللَّه ُم َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ َ‬
‫ِّ ِ‬ ‫ْم ْؤِمنِين ۝ َمن َكا َن َع ُد ًّوا لِّلَّ ِه َوَم ًَلئِ َكتِ ِه َوُر ُس ِل ِه َو ِج ْب ِريل َوِمي َك َ ِ َّ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ال فَإ َّن الل َه َع ُدو ل ْل َكاف ِر َ‬ ‫َ‬ ‫لل ُ َ‬
‫فيظهر من خًلل هذا السبب موافقة اآلية في األلفاظ والمعاني‪ ،‬أنهم قالوا‪ :‬ذاك عدونا‪.‬‬
‫واهلل عز وجل قال‪﴿ :‬من كان عدوا لجبريل‪.﴾...‬وبهذا يصح أن يكون سبباا‪.‬‬

‫‪ ‬الركن الثالث‪( :‬موافقة السياق)‪.‬‬


‫أي أن يكون سياق اآليات التي تسبق موضع النزول وتتبعه موافقة للسبب في موضوعها وخطابها غير مخالفة له في‬
‫أصله وخطابه؛ فلو كان سياق اآليات في أهل الكتاب ما صح أن يكون السبب في آية منه نازلة في المشركين مثًل‪.‬‬
‫يح ُّجون وال‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما ورد عن ابن عباس ‪‬والحديث في البخاري‪ ،‬أنه قال‪" :‬كان أهل اليمن ُ‬
‫يتزودون يعني ال يأخذون معهم زادا من طعام أو مال ونحو ذلك ويقولون نحن المتوكلون‪ .‬فإذا قدموا مكة سألوا الناس‬
‫الز ِاد التَّـ ْق َوى﴾ هذا السبب يظهر فيه‬
‫(يعني طلبوا منهم سألوهم يعني تسولوا) فأنزل اهلل عز وجل‪َ ﴿ :‬وتَـ َزَّو ُدوا فَِإ َّن َخ ْيـ َر َّ‬
‫الموافقة بينه وبين ما قبله وما بعده من اآليات‪.‬‬
‫والسياق قبل اآلية وبعدها في الحج وموضوع السبب وآياته متوافق تماما مع السياق فهو سبب صحيح‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا‪:‬‬
‫ما أخرج اإلمام مسلم في صحيحه أن مروان قال‪" :‬اذهب يا رافع (لبوابه رافع) إلى ابن عباس ‪‬فقل‪" :‬إن كان كل‬
‫فعل‪ ،‬معذباا‪ ،‬لنعذبن أجمعون" فقال ابن عباس‪ :‬ما لكم ولهذه اآلية؟‬ ‫حم َد بما لم يَ ْ‬
‫امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يُ َ‬
‫ب لَتُبَـيِّـنُـنَّهُ لِلن ِ‬
‫َّاس َوَال‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫إنما أنزلت هذه اآلية في أهل الكتاب‪ .‬ثم تًل ابن عباس‪﴿ :‬وإِ ْذ أ َ َّ ِ‬
‫ين أُوتُوا الْكتَا َ‬
‫َخ َذ اللهُ ميثَا َق الذ َ‬ ‫َ‬
‫تَ ْكتُ ُمونَهُ﴾‪ .‬هذه اآلية‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يَـ ْف َر ُحو َن بِ َما أَتَوا َّويُحبُّو َن أَن يُ ْح َم ُدوا بِ َما لَ ْم يَـ ْف َعلُوا فَ ًَل تَ ْح َسبَـنـ ُ‬
‫َّهم﴾‪ ...‬اآليات‬ ‫سبَ َّن الذ َ‬
‫وتًل ابن عباس‪﴿ :‬ال تَ ْح َ‬
‫قال ابن عباس‪" :‬سألهم النبي ﷺ عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم‬
‫عنه واستُ ِ‬
‫حمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه"‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫ففي هذه اآلية تظهر الموافقة بين السبب وسياق اآليات؛‬
‫فاآلية التي قبلها في أهل الكتاب وقد استدل حبر األمة ‪‬ابن عباس بموافقة الرواية التي ذكرها لسياق اآليات‬
‫التي قبلها أنها في أهل الكتاب‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا‪ :‬ما أخرج اإلمام مسلم في صحيحه عن أنس ‪‬أنه قال‪" :‬سأل أهل مكة النبي ﷺ‬
‫ش َّق الْ َق َم ُر﴾ إلى قوله ﴿سحر‬
‫اعةُ َوان َ‬
‫الس َ‬ ‫آية (يعني طلبوا منه معجزة) فانشق القمر بمكة مرتين فنزلت‪﴿ :‬اقْـتَـرب ِ‬
‫ت َّ‬ ‫ََ‬
‫مستمر﴾‬
‫يقول زاهد‪ :‬فهذا سبب صحيح لموافقته سياق اآليات حيث إن أهل الشرك في مكة طلبوا من النبي ﷺ آية عًلمة‬
‫معجزة دالة على صدقه فأراهم انشقاق القمر فلقتين ومع ذلك أعرضوا ولم يؤمنوا وقالوا إنه سحر أعيننا وبهذا جاءت‬
‫اآليات التي تليها‪.‬‬

‫‪ ‬الرابع‪( :‬معاصرة السبب لنزول اآلية)‪.‬‬


‫يعني قرب التاريخ بين السبب واآلية النازلة أو اآليات النازلة‪ ،‬وهو األصل‪ ،‬أو تأخره قليًل كما سبق في حادثة اإلفك‬
‫وغيرها‪ .‬لكن إذا نزلت اآلية مثًل في السنة الخامسة من الهجرة واد ِ‬
‫ُّع َي بأن سبب نزول اآلية وقع في السنة السابعة من‬
‫الهجرة فًل يصح أن يكون سبباا لوقوع السبب بعد نزول اآلية فًل بد أن يكون السبب حدث ونزول اآلية في نفس‬
‫الوقت أو بعده بوقت يسير كحادثة اإلفك كما ذكرنا‪ .‬فإذا وقعت مباعدة بينهما علمنا أنها ليست مما نحن فيه فًل‬
‫يصح كونها سبباا لنزول اآلية‪.‬‬
‫مثال‪ :‬عن أبي سعيد الخدري ‪‬والحديث عند الترمذي بإسناد صحيح قال‪" :‬لما كان يوم بدر ظهرت الروم على‬
‫ح ال ُْم ْؤِمنُو َن﴾"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫وم﴾ إلى قوله ﴿يَـ ْوَمئذ يَـ ْف َر ُ‬
‫الر ُ‬
‫ت ُّ‬ ‫فارس يعني غلبتهم فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت‪﴿ :‬الم ۝ غُلِب ِ‬
‫َ‬
‫ح المؤمنين بظهور الروم على فارس هل هذا يصح أن يكون سببا؟‬‫ففر ُ‬
‫َ‬
‫تعالوا بنا نقول‪ :‬الحديث المذكور ال يصح أن يكون سبباا لنزول اآليات الخمس األولى من سورة الروم ألن سورة الروم‬
‫مكية بإجماع المفسرين‪.‬‬
‫قال ابن عاشور‪ :‬وهي مكية كلها باالتفاق‪ .‬حكاه ابن عطية والقرطبي ولم يذكرها صاحب اإلتقان في السور المختلف‬
‫في مكيتها وال في بعض آيِها‪ .‬انتهى كًلمه‪.‬‬
‫الم َّد َعى وقع بعد نزول اآلية وهذا يمنع كونها سببا‬
‫وبدر كانت في السنة الثانية بعد الهجرة فتبين بهذا أن السبب ُ‬
‫لنزول اآلية‪.‬‬
‫من األمثلة على ذلك أيضا‪ :‬ما ورد عن أبي بن كعب ‪‬أنه قال‪" :‬لما كان يوم أحد أصيب من األنصار أربعة وستون‬
‫رجًل ومن المهاجرين ستة‪ ،‬منهم حمزة ‪‬عم النبي ﷺ فمثلوا بهم‪ .‬فقالت األنصار فإن أصبنا منهم يوما مثل‬

‫‪58‬‬
‫هذا لنُ ِريَ َّن عليهم‪ .‬قال‪ :‬فلما كان يوم فتح مكة فأنزل اهلل عز وجل‪َ ﴿ :‬وإِ ْن َعاقَـ ْبتُ ْم فَـ َعاقِبُوا بِ ِمثْ ِل َما عُوقِ ْبتُم بِ ِهۙ َولَئِن‬
‫صبَـرتُم لَ ُهو َخ ْيـر لِّ َّ ِ‬
‫لصاب ِر َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫َْ ْ َ ٌ‬
‫الحديث الم ذكور ال يصح أن يكون سببا لنزول اآلية من سورة النحل ألن سورة النحل مكية بإجماع المفسرين‪ .‬نقل‬
‫هذا اإلجماع ابن الحصار كما سبق وقد تتابع المفسرون على القول بمكيتها وفتح مكة وقع في السنة الثامنة بعد‬
‫الم َّد َعى وقع بعد نزول اآلية وهذا يمنع كونه سبباا لنزولها‪.‬‬
‫الهجرة فتبين بهذا أن السبب ُ‬

‫‪ ‬خامسا‪( :‬صحة اإلسناد)‪ :‬أي أن يكون سند الحديث المشتمل على السبب صحيحا وذلك بنقل العدل الضابط عن‬
‫مثله إلى منتهاه من غير شذوذ وال علة‪.‬‬
‫مثال‪ :‬عن أم هانئ ‪ ‬بنت أبي طالب قالت‪" :‬خطبني رسول اهلل ﷺ فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل‪﴿ :‬إِنَّا‬
‫ك وبـنَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك وبـنَ ِ‬ ‫ت ي ِمين َ ِ‬ ‫الًلتِي آتَـ ْي َ‬
‫ات‬ ‫ك َوبَـنَات َع َّمات َ َ َ‬‫ات َع ِّم َ‬ ‫اء اللَّهُ َعلَْي َ َ َ‬ ‫ك م َّما أَفَ َ‬ ‫ورُه َّن َوَما َملَ َك ْ َ ُ‬ ‫ُج َ‬‫تأُ‬ ‫ك َّ‬ ‫اج َ‬‫ك أَ ْزَو َ‬
‫َحلَلْنَا لَ َ‬
‫أْ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س َها لِلنَّبِ ِّي إِ ْن أ ََر َ‬
‫اد النَّبِ ُّي أَن يَ ْستَنك َح َها َخال َ‬
‫صةا لَّ َ‬ ‫ك َو ْام َرأَ اة ُّم ْؤِمنَةا إِن َو َهبَ ْ‬
‫ت نَـ ْف َ‬ ‫اج ْر َن َم َع َ‬ ‫ك َّ ِ‬
‫الًلتي َه َ‬ ‫ات َخ َاالتِ َ‬‫ك وبـنَ ِ‬
‫َخال َ َ َ‬
‫ِ‬

‫جۙ َوَكا َن اللَّهُ‬ ‫ت أَيْ َمانـُ ُه ْم لِ َك ْي ًَل يَ ُكو َن َعلَْي َ‬


‫اج ِه ْم َوَما َملَ َك ْ‬ ‫ينۙ قَ ْد َع ِل ْمنَا َما فَـ َر ْ‬
‫ضنَا َعلَْي ِهم فِي أَ ْزو ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬
‫ك َح َر ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫من ُدون ال ُْم ْؤمن َ‬
‫يما﴾‪.‬‬ ‫غَ ُف ِ‬
‫ورا َّرح ا‬
‫ا‬
‫قالت‪" :‬فلم أكن أحل له ألني لم أهاجر‪ ،‬كنت من الطلقاء"‪.‬‬
‫الحديث المذكور ال يصح سببا لنزول اآلية لعدم ثبوته وضعف سنده فإن الحديث المذكور ضعيف جدا وفيه أربع‬
‫‪ -‬واإلسناد فيه إرسال‪.‬‬ ‫علل‪ - :‬إذ فيه ابن حميد وهو متهم‪.‬‬
‫‪ -‬وفيه نكارة المتن‪.‬‬ ‫‪ -‬وفيه جهالة رجل من قريش‪.‬‬
‫ألن النبي ﷺ سأل اليهود عن بشارة عيسى وهم ال يؤمنون به والحديث سكت عنه الحافظ في العجاب موهناا‬
‫ثبوته حيث جعله يصلح لسبب معاداتهم للنبي ﷺ‬
‫والراجح أن هذه اآلية نزلت بسبب مناظرة جرت بين اليهود وبين الرسول ﷺ في أمر نبوته ألنها ثابتة باألسانيد‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫وأما ما قيل في سبب نزولها من مناظرة جرت بين اليهود وبين عمر ‪‬في أمر النبي صلى اهلل أو غير ذلك فلم‬
‫يثبت فيه شيء صحيح‪.‬‬
‫من األمثلة على ذلك أيضا‪ :‬الحديث المذكور ال يصح أن يكون سببا لنزول اآلية لعدم ثبوته ولضعف سنده‪:‬‬
‫فقد أخرجه عبد ابن حميد في تفسيره وعند الترمذي في جامعه وابن سعد في الطبقات وابن أبي شيبة وإسحاق بن‬
‫راهويه في مسنديهما كما في تخريج الكشاف‪.‬‬
‫ومداره على أبي صالح وهو ضعيف الحديث جدا‪ ،‬بل كذبه بعض أهل العلم حتى اعترف بنفسه أنه كان يكذب‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا‪:‬‬
‫ما ورد عن رجل من قريش قال‪( :‬والحديث في تفسير الطبري) عن رجل من قريش قال‪" :‬سأل النبي ﷺ اليهود‬
‫فقال‪" :‬أسألكم بكتابكم الذي تقرؤون به؛ هل تجدون فيه قد بشر بي عيسى بن مريم أن يأتيكم رسول اسمه أحمد؟‬
‫فقالوا‪ :‬اللهم وجدناك في كتابنا ولكنا كرهناك ألنك تستحل األموال وتريق الدماء‪.‬‬
‫فأنزل اهلل‪َ ﴿ :‬من َكا َن َع ُد ًّوا لِّلَّ ِه َوَم ًَلئِ َكتِ ِه﴾‪ .‬اآلية‬
‫والحديث المذكور ال يصح سببا لنزول اآلية لعدم ثبوته وضعف سنده وعدم موافقته لسياق اآلية ومخالفته للخبر‬
‫الصحيح بأن اآلية نزلت بسبب عداوتهم لجبريل ‪ ‬وقولهم ذلك عدونا من المًلئكة‪.‬‬
‫والحديث فيه أربع علل‪:‬‬
‫‪ -‬والعلة الثانية‪ :‬اإلرسال‪.‬‬ ‫‪ -‬العلة األولى‪ :‬ابن ُحميد متهم‪.‬‬
‫‪ -‬والعلة الرابعة‪ :‬نكارة متنه‪.‬‬ ‫‪ -‬والعلة الثالثة‪ :‬جهالة هذا الرجل من قريش‪.‬‬
‫فًل يصح بحال‪.‬‬
‫وكان الذي مات على القبلة قبل أن تُ َح َّو َل قِبَ َل البيت رجال قُتِلوا لن ندري ما نقول فيهم فأنزل اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬وَما َكا َن‬
‫َّاس لَرء ٌ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫يع إِ َ‬
‫يمانَ ُكمۙ إ َّن اللهَ بالن ِ َ ُ‬ ‫اللَّهُ ليُض َ‬
‫إن سبب نزول اآلية ما ثبت في الصحيح من حديث البراء المذكور لتصريحه بالنزول ولصحة سنده وموافقته للفظ‬
‫اآلية واحتجاج المفسرين به‪.‬‬
‫ِ ِ‬
‫يع إِ َ‬
‫يمانَ ُكم﴾‪ .‬فصرح بالنزول‪.‬‬ ‫فالبراء ‪‬يقول‪" :‬فأنزل اهلل‪َ ﴿ :‬وَما َكا َن اللَّهُ ليُض َ‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة ‪‬أنه قال‪ :‬نزلت هذه اآلية في أهل‬
‫َّروا﴾ قال‪ :‬كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه اآلية‪.‬‬ ‫قباء‪﴿ :‬فِ ِيه ِرج ٌ ِ‬
‫ال يُحبُّو َن أَن يَـتَطَه ُ‬ ‫َ‬
‫هذا السبب المذكور م ن عناية أهل قباء بالطهارة بالماء وعدم اقتصارهم على االستجمار بالحجارة هو سبب نزول اآلية‬
‫للتصريح بالنزول ولموافقته لسياق القرآن وإجماع المفسرين عليه واهلل أعلم‪.‬‬
‫ونكتفي بهذا القدر ونكمل إن شاء اهلل تعالى في المحاضرة القادمة‪.‬‬

‫سـؤال الـمحاضرة‬
‫أركان أسباب النزول ستة‪ .‬اذكرها مع ذكر مثال واحد على كل ركن منها‪.‬‬

‫وفي النهاية أوصيكم ونفسي بتقوى اهلل عز وجل وأوصيكم باالجتهاد في طلب العلم والعمل بما نتعلم‪.‬‬
‫نسأل اهلل عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫الـمحاضـ ــرة الـتــاسعـ ــة‬
‫قال المصنف وفقه اهلل‪ :‬الضابط الثاني‪( :‬العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب)‬
‫انتقل المصنف هنا إلى الكًلم على ما تضمنته اآليات النازلة من أسباب‪:‬‬
‫هل ما تضمنته اآليات من أحكام هل هو خاص بمن أنزلت فيهم أم عام لهم ولغيرهم؟‬
‫فقال‪ :‬العبرة بعموم األلفاظ‪ ،‬فإذا ورد لفظ عام على سبب خاص فإنه يحمل على عمومه وال يختص بالسبب فكل عام ورد‬
‫لسبب خ اص من سؤال أو حادثة أو واقعة فإنه يعمل بعمومه وال عبرة بخصوص سببه ألن الشريعة عامة فلو قصر الحكم فيها‬
‫على السبب الخاص (يعني على من نزلت فيه اآلية) لكان ذلك قصورا في الشريعة‪ .‬والشريعة نزلت لكل العالمين فًل يعقل‬
‫حصر نصوصها في أسباب محدودة أو أشخاص معينة وإنما يكون على األصل وهو العموم‪.‬‬
‫والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن مسعود ‪‬أن رجًل أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي‬
‫ﷺ (يعني رجل قبل امرأة ال تحل له) فأتى النبي ﷺ فأخبره (أي أخبره بما صنع) فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬أَقِ ِم َّ‬
‫الص ًَلةَ‬
‫ات﴾‪.‬‬ ‫ات يُ ْذ ِه ْب َن َّ‬
‫السيِّئَ ِ‬ ‫طَرفَ ِي النَّـها ِر وُزلَافا ِّمن اللَّْي ِل إِ َّن الْحسنَ ِ‬
‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫فقال الرجل‪ :‬يا رسول اهلل (وهنا موطن الشاهد) يا رسول اهلل ألي هذا؟‬
‫(يعني هل هذا خاص بي أنا فقط دون سائر المؤمنين؟)‬
‫قال‪" :‬لجميع أمتي كلهم"‪.‬‬
‫(وعند مسلم‪" :‬فقال رجل من القوم يا نبي اهلل هذا له خاصة؟ فقال ﷺ‪" :‬بل للناس كافة")‪.‬‬
‫فالذي نزل على النبي ﷺ من قوله أقم الصًلة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬أي أن هذه‬
‫الذنوب إنما تكفرها الحسنات من إقامة الصًلة طرفي النهار وزلفا من الليل‪ ،‬تكفرها الصلوات الخمس‪.‬‬
‫وصيام رمضان وغير ذلك من الحسنات تذهب هذه السيئات‪.‬‬
‫فأصل النبي ﷺ وهو يجيب على هذا الصحابي ا‬
‫أصًل عاما‪:‬‬ ‫والرجل قال يا رسول اهلل أهذا لي أنا وحدي أم لألمة عامة؟ َّ‬
‫[أن كل ما نزل بسبب واقعة معينة أنه لألمة كلها]‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن كعب بن عجرة ‪"‬أن رسول اهلل ﷺ وقف عليه‬
‫ورأسه يتهافت قمًل وذلك في الحج‪ .‬فقال‪ :‬أيؤذيك هوامك؟ (الهوام هي الحشرات التي تكون في شعر الرأس من القمل‬
‫وغيره)‬
‫قال‪ :‬فاحلق رأسك‪.‬‬ ‫قال‪ :‬قلت‪ :‬نعم‪.‬‬
‫سك﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ففي نزلت هذه اآلية ﴿فَ َمن َكا َن ِمن ُكم َّم ِري ا‬
‫ضا أ َْو بِه أَذاى ِّمن َّرأْسه فَف ْديَةٌ ِّمن صيَام أ َْو َ‬
‫ص َدقَة أ َْو نُ ُ‬ ‫قال‪َّ :‬‬
‫قال‪ :‬فقال لي رسول اهلل ﷺ‪ :‬صم ثًلثة أيام أو تصدق بفرق بين ستة مساكين أو انسك ما تيسر"‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫هذا الحديث في فدية األذى التي نزلت بها اآليات بعدما وقف النبي صلى اهلل سلم على كعب بن عجرة وما نزل به وقد آذاه‬
‫هوام رأسه‪ ،‬فأمره النبي ﷺ بالحلق واإلفداء الذي جاءت به اآلية وهو أنه يخير بين فعل واحدة من ثًلث‪:‬‬
‫بين صيام ثًلثة أيام‪ ،‬أو إطعام ستة مساكين‪ ،‬أو ذبح شاة‪.‬‬
‫لكن هذا الحكم عام لكعب ولغيره لمجيء لفظ اآلية عاما فيشمله ويشمل غيره ممن فعل مثل فعله وال يقال بأن هذا خاص‬
‫بكعب ‪.‬‬

‫وه َّن‬
‫ضلُ ُ‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا ما ورد في البخاري وغيره عن معقل بن يسار المزني أنه قال في قول اهلل عز وجل ﴿فَ ًَل تَـ ْع ُ‬
‫اضوا بـيـنَـهم بِالْمعر ِ‬
‫وف﴾ أنها نزلت فيه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نك ْحن أَ ْزَو َ ِ‬
‫اج ُه َّن إذَا تَـ َر َ ْ َ ْ ُ َ ْ ُ‬ ‫أَن يَ َ‬
‫قال‪ :‬كنت زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى انقضت عدتها ثم جاء يخطبها فقلت له زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها‬
‫ثم جئت تخطبها ال واهلل ال تعود إليها أبدا‪ .‬قال‪ :‬وكان الرجل ال بأس به يعني كان دينه وخلقه ال بأس به وكانت المرأة تريد أن‬
‫ترجع إليه‪ ،‬قال‪ :‬فأنزل اهلل عز وجل هذه اآلية‪ .‬فقلت‪ :‬اآلن أفعل يا رسول اهلل فزوجتها إياه"‪.‬‬
‫فهل هذا الحكم من رجوع المرأة إلى زوجها إذا طلقها طلقة رجعية وأراد أن يردها في العدة هل هذا الحكم يعني خاص بأخت‬
‫معقل بن يسار وزوجها أم أنه عام لكل المؤمنين؟‬
‫الجواب هو عام لكل األمة‪.‬‬

‫مثال أيضا على ذلك وهو ما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه األلباني ‪ ‬عن جابر بن عبد اهلل األنصاري قال‪" :‬جاءت امرأة‬
‫سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول اهلل ﷺ فقالت يا رسول اهلل هاتان ابنتا سعد بن الربيع قُتل أبوهما معك يوم أحد‬
‫شهي ادا‪ .‬وإن عمهما أخذ مالهما فلم ي َد ْع لهما ماال وال تُن َك ِ‬
‫حان إال ولهما مال‪.‬‬ ‫َ‬
‫قال‪ :‬يقضي اهلل في ذلك‪ .‬فنزلت آية الميراث‪.‬‬
‫وصي ُكم اهلل فِي أَوَال ِد ُكم﴾ فبعث رسول اهلل ﷺ إلى عمهما فقال‪ِ :‬‬
‫أعط ابنتي‬ ‫(وعند أبي داود قال‪ :‬ونزلت سورة النساء ﴿ي ِ‬
‫ْ ْ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ُّم َن وما بقي فهو لك"‪.‬‬ ‫ِ‬
‫سعد الثلثين وأعط َّأمهما الث ُ‬
‫هذه الواقعة التي يظهر فيها أنهم كانوا في الجاهلية أن العم يأخذ ميراث أخيه أو يأخذ مال أخيه إذا مات كله وال يترك ألوالده‬
‫شيئا فذهبت امرأة سعد بن الربيع إلى النبي ﷺ تشكو له ذلك أن بنتي سعد سيفسد أمرهما وال يقبل أحد على الزواج‬
‫منهما فإن الذي يقبل حينئذ على المرأة لزواجها إنما يقبل على الزواج منها لمالها فسكت النبي ﷺ حتى أنزل اهلل عز وجل‬
‫آيات الميراث وفيها أن للبنتين الثلثان وأن لألم الثمن وأن العم (أخو الميت) له ما تبقى‪[ .‬وما بقي فألولى رجل ذكر] كما قال‬
‫النبي ﷺ‪.‬‬
‫فهذه اآليات وهذا القضاء الذي قضاه رسول اهلل ﷺ قضاه بما تضمنته اآليات هل هو لبنات سعد بن الربيع خاصة أم أنه‬
‫لكل األمة عامة؟ الجواب‪ :‬هو لكل األمة عامة [فالعبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب]‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫لكن هنا سؤال‪ :‬لماذا يأتي الحكم العام على سبب خاص؟ لماذا ينزل اهلل عز وجل األحكام العامة التي تصلح لألمة كلها على‬
‫واقعة معينة لشخص معين؟ لعل من الحكم في ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬أوال‪ :‬لفت االنتباه إلى الحكم الشرعي‪.‬‬
‫حينما تقع الواقعة فتنزل اآلية أو اآليات لبيان الحكم الذي اشتملت عليه الواقعة يكون أوقع للفهم ويكون أوضح‬
‫للمستمع فإن اآلية نزلت على واقعة لها أحداث واختلف الناس فيها أو استشكل على الناس األمر أو اختلفوا فيما‬
‫بينهم فيكون هذا أفضل‪.‬‬
‫‪ -‬من الحكم أيضا بيان أخصية السبب في الحكم يعني الصورة المذكورة التي هي الواقعة التي نزلت ألجلها اآليات هي‬
‫أخص بالحكم من غيرها يعني هي أولى بالدخول في اآلية من كل الصور التي تأتي بعد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬من الحكم أيضا معرفة تاريخ الحكم الشرعي‪ ،‬فإنه إذا علم سببه سيعلم متى وقع هذا السبب وهذا فيه بيان تاريخ‬
‫الحكم وفي معرفة التاريخ فائدة جليلة وعظيمة في بيان الناسخ والمنسوخ من األحكام فإن المتأخر ينسخ المتقدم‪.‬‬
‫‪ -‬ومن الحكم أيضا توسعة علم الشريعة بمعرفة األحكام بأسبابها فإن ارتباط الحكم بسببه فيه توسعة للفهم والمدارك‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬التأسي بوقائع السلف فإننا لو أخذنا اآليات من غير أن نعرف من نزلت فيهم اآليات وما الواقع الذي نزلت‬
‫ا‬ ‫‪-‬‬
‫حكما جافاا وال يتسنى لنا أن نتأسى بهم لكن مع ذكر السبب وواقعته وقصته‬
‫فيه وما المناط وماذا حدث فإنه يكون ا‬
‫وحادثته واألسئلة التي سئلت واألجوبة التي أجيبت هذا يجعل المجال فسيحا أمامنا بأن نتأسى بسلفنا الصالح ونتعلم‬
‫من الواقع الذي حصل له وما جرى لهم‪.‬‬

‫يقول في هذا الضابط‪[ :‬العبرة بعموم اللفظ ال بخصوص السبب]‬


‫لكن هنا يستثنى‪ ( :‬إال ما دل دليل على خصوصيته فإنه يقصر على ما جاء خاصا فيه) يعني لو جاء الدليل يدل على أن هذه‬
‫اآلية خاصة بهذا الشخص فإنها حينئذ تقصر عليه فتعالوا بنا نطبق‪ ،‬نرى في الحوادث واألسباب التي وقعت‪:‬‬
‫فنزلت آيات حديث خولة امرأة أوس بن الصامت حينما جاءت لتشكو إلى النبي ﷺ ظهار زوجها منها قالت‪" :‬يا رسول‬
‫اهلل نثرت له بطني وأعطيته شبابي حتى إذا كبرت سني ظاهر مني‪.‬‬
‫ك ِفي َزْو ِج َها﴾ اآليات‪.‬‬ ‫فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬قَ ْد س ِمع اهلل قَـو َل الَّتِي تُج ِ‬
‫ادلُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ْ‬
‫هل الحكم هنا خاص بأوس بن الصامت وزوجته أم أنه عام؟ الحكم هنا عام ألوس ولمن كان على شاكلته‪.‬‬
‫ت به عائشة ‪ ‬في عرضها ونزول آيات سورة النور بتبرئة‬ ‫لكن تعالوا لنرى مثاال آخر‪ :‬حادثة اإلفك وبيان الواقعة وما ُرِميَ ْ‬
‫عائشة ‪ ‬والحديث مر معنا قبل ذلك‪.‬‬
‫هل يقال بأن تبرئة عائشة عامة لكل امرأة من المؤمنات رميت في عرضها أن تنزل عليها هذه اآليات وأن يقال ببراءتها؟‬
‫هذا ال يقوله عاقل‪ .‬فإن هذه البراءة خاصة بأم المؤمنين عائشة ‪ ‬بخًلف النصوص العامة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫قال وفقه اهلل‪ :‬الضابط الثالث‪( :‬قد تتعدد األسباب والنازل واحد‪ ،‬ويتعدد النازل والسبب واحد)‬
‫‪ ‬قد تتعدد األسباب والنازل واحد‪ :‬أي أنه يمكن أن تقع واقعتان فتنزل آية واحدة فيكون لآلية الواحدة أسبابا متعددة‪.‬‬
‫ك تَـ ْبتَ ِغي‬ ‫ِ‬
‫تعالوا بنا لنرى مثاال على ذلك قوله تعالى في صدر سورة التحريم‪﴿ :‬يَا أَيـُّ َها النَّبِ ُّي ل َم تُ َح ِّرُم َما أ َ‬
‫َح َّل اهللُ لَ َ‬
‫ك﴾ ‪.‬‬ ‫ضاةَ أَ ْزو ِ‬
‫اج َ‬ ‫َم ْر َ َ‬
‫اآليات ورد فيها سببان‪:‬‬
‫األول وهو األشهر ما أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة ‪" ‬أن النبي ﷺ كان يمكث عند زينب بنت‬
‫جحش ويشرب عندها عسًل‪ .‬قالت فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي ﷺ فلتقل إني أجد منك ريح‬
‫مغافير (والمغافير له رائحة كريهة) أكلت مغافير‪ ،‬قالت فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال‪ :‬ال‪ ،‬بل شربت‬
‫عسًل عند زينب بنت جحش ولن أعود له‪.‬‬
‫ك﴾ إلى قوله ﴿إِن تَـتُوبا إِلَى ِ‬
‫اهلل﴾ لحفصة‬ ‫ضا َة أَ ْزو ِ‬
‫اج َ‬ ‫فنزلت‪﴿ :‬يا أَيُّـها النَّبِ ُّي لِم تُح ِّرم ما أَح َّل اهلل لَ َ ِ‬
‫َ‬ ‫ك تَـ ْبتَغي َم ْر َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ُ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫وعائشة‪.‬‬
‫اج ِه﴾ لقوله‪ :‬بل شربت عسًل"‪ .‬هذا السبب األول‪.‬‬
‫ض أَ ْزو ِ‬ ‫﴿ ِوإِ ْذ أ َ ِ‬
‫َس َّر النَّب ُّي إِلَى بَـ ْع ِ َ‬

‫السبب الثاني ما أخرجه الضياء المقدسي في المختار بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب ‪‬أنه قال‪" :‬قال النبي‬
‫ﷺ لحفصة ال تحدثي أح ادا وإن أم ابراهيم علي حرام فقالت‪ :‬أتحرم ما أحل اهلل لك؟ قال فواهلل ال أقربها‪.‬‬

‫ض اهللُ لَ ُك ْم تَ ِحلَّةَ أَيْ َمانِ ُك ْم﴾"‬


‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬فلم تقر بها نفسها حتى أخبرت عائشة فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬قَ ْد فَـ َر َ‬
‫قال الحافظ بن حجر ‪ : ‬فيحتمل أن اآلية نزلت في السببين ال مانع حينئذ أن تكون اآلية نزلت على واقعتين مختلفتين‬
‫ولسببين متباينين‪.‬‬
‫ين يَـ ْف َر ُحو َن بِ َما أَتَوا َّويُ ِحبُّو َن أَن يُ ْح َم ُدوا بِ َما لَ ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫سبَ َّن الذ َ‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة آل عمران‪َ ﴿ :‬ال تَ ْح َ‬
‫ابۙ ولَهم َع َذ ِ‬ ‫يَـ ْف َعلُوا فَ ًَل تَ ْحسبَـنـ ُ ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬
‫اب أَل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫َّهم ب َم َف َازة ِّم َن ال َْع َذ ِ َ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ورد فيها أيضا سببان‪:‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬ما أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن أبي مليكة أن علقمة بن وقاص أخبره أن مروان قال لبوابه اذهب‬
‫يا رافع إلى ابن عباس فقل ألن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يُحمد بما لم يفعل معذبا‪ ،‬لنعذبن أجمعون‪ .‬فقال‬
‫ابن عباس‪ :‬وما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي ﷺ يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬ ‫استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم‪ .‬ثم قرأ ابن عباس‪﴿ :‬وإِ ْذ أ َ َّ ِ‬
‫َخ َذ اللهُ ميثَا َق الذ َ‬ ‫َ‬
‫س َما يَ ْشتَـ ُرو َن ۝ َال تَ ْح َسبَ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ‬ ‫اب لَتُبَـيِّـنُـنَّهُ لِلن ِ‬ ‫ِ‬
‫اء ظُ ُهوره ْم َوا ْشتَـ َرْوا به ثَ َمناا قَل ايًلۙ فَب ْئ َ‬
‫َّاس َوَال تَ ْكتُ ُمونَهُ فَـنَبَ ُذوهُ َوَر َ‬ ‫أُوتُوا الْكتَ َ‬
‫ابۙ ولَهم َع َذ ِ‬ ‫الَّ ِذين يَـ ْفر ُحو َن بِما أَتَوا َّويُ ِحبُّو َن أَن يُ ْحم ُدوا بِما لَم يَـ ْف َعلُوا فَ ًَل تَ ْحسبَـنـ ُ ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬
‫اب أَل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫َّهم ب َم َف َازة ِّم َن ال َْع َذ ِ َ ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬

‫‪64‬‬
‫‪ -‬السبب الثاني لهذه اآلية‪" :‬أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري ‪‬أن رجًل من المنافقين‬
‫على عهد رسول اهلل ﷺ كان إذا خرج رسول اهلل ﷺ إلى الغزو تخلف هؤالء الرجال من المنافقين‪ ،‬تخلفوا عنه‬
‫وفرحوا بمقعدهم خًلف رسول اهلل ﷺ‪ .‬فإذا قدم رسول اهلل ﷺ اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم‬
‫َّهم بِ َم َف َازة ِّم َن ال َْع َذ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ابۙ‬ ‫ين يَـ ْف َر ُحو َن ب َما أَتَوا َّويُحبُّو َن أَن يُ ْح َم ُدوا ب َما لَ ْم يَـ ْف َعلُوا فَ ًَل تَ ْح َ‬
‫سبَـنـ ُ‬ ‫يفعلوا فنزلت‪َ ﴿ :‬ال تَ ْح َسبَ َّن الذ َ‬
‫يم﴾ فًل مانع من تكرر السبب أو من تعدد السبب ويكون النازل واحد‪.‬‬ ‫ولَهم َع َذ ِ‬
‫اب أَل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫َ ُْ‬

‫وح ِم ْن أ َْم ِر َربِّي َوَما أُوتِيتُم ِّم َن ال ِْعل ِْم إَِّال قَِل ايًل﴾‪.‬‬ ‫وحۙ قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫ورد فيها أيضا سببان‪:‬‬
‫األول‪ :‬ما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد اهلل بن مسعود ‪‬أنه قال‪" :‬بين أنا مع النبي ﷺ في حرث وهو‬
‫متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض‪ :‬سلوه عن الروح فقال‪ :‬ما رأيكم إليه وقال بعضهم ال يستقبلكم‬
‫بشيء تكرهونه فقالوا سلوه‪ .‬فسألوه عن الروح فأمسك النبي ﷺ فلم يرد عليهم شيئا‪.‬‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر‬ ‫وحۙ قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫قال ابن مسعود‪ :‬فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال‪َ ﴿ :‬ويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫َربِّي َوَما أُوتِيتُم ِّم َن الْ ِعل ِْم إَِّال قَلِ ايًل﴾‪.‬‬

‫والسبب الثاني‪ :‬ما أخرجه الترمذي وصححه الحاكم واأللباني عن ابن عباس ‪‬أنه قال‪ :‬قالت قريش لليهود أعطونا‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َربِّي َوَما‬ ‫وحۙ قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا‪ :‬سلوه عن الروح فسألوه‪ .‬فنزلت ﴿ َويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫أُوتِيتُم ِّم َن ال ِْعل ِْم إَِّال قَلِ ايًل﴾‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬أوتينا علما كثيرا‪.‬‬
‫قال السندي‪ :‬وقد صح أن اليهود سألوه عنه بأنفسهم ويمكن الجواب يعني من ورود السببين للمشركين أو لليهود قال‬
‫بأنه ال منافاة بين تعدد أسباب النزول فيمكن أنها نزلت بعد السؤالين جميعا وقوله قالوا أوتينا أي قالت اليهود قالوا‬
‫كثيرا أو لعدهم أنفسهم‬
‫ذلك أما لحملهم قوله وما أوتيتم من العلم إال قليًل على عموم الخطاب أنهم قالوا أوتينا علما ا‬
‫السائلين وزعموا أن هذا الخطاب مناسب لهم ألن المشركين ليسوا من أهل العلم‪.‬‬

‫لكن هنا سؤال‪ :‬لماذا يتكرر النزول؟‬


‫الجواب‪ :‬يتكرر النزول ألن السؤال تكرر فإذا تكرر السؤال يتكرر النزول‪.‬‬

‫وهنا يأتي إشكال آخر‪ :‬لماذا يسكت النبي ﷺ؟ أال يجيب باآلية األخرى؟ أال يجيب باآليات التي نزلت يعني سئل عن‬
‫وح ِم ْن أ َْم ِر َربِّي َوَما أُوتِيتُم ِّم َن ال ِْعل ِْم إَِّال قَلِ ايًل﴾ طيب لما يسأله‬ ‫وحۙ قُ ِل ُّ‬
‫الر ُ‬ ‫ك َع ِن ُّ‬
‫الر ِ‬ ‫الروح وأتاه الوحي بالجواب ﴿ َويَ ْسأَلُونَ َ‬
‫آخر عن الروح لماذا يسكت النبي ﷺ حتى يأتيه الوحي؟‬

‫‪65‬‬
‫الجواب عن هذا‪ :‬أن سكوت النبي ﷺ في المرة الثانية مع أنه كان نزل عليه الجواب قبل ذلك سكوته لتوقع مزيد‬
‫جواب شاف لمن‬
‫ٌ‬ ‫بيان‪ ،‬عني أن ينتظر النبي ﷺ من ربه أن يزيده في البيان‪ ،‬أن يأتي بشيء زائد فيكون فيه‬
‫يسألون‪ .‬فلما لم يأتِِه زيادة على الجواب األول وأنزلت عليه تلك اآلية مرة ثانية يجيب بها ﷺ‪.‬‬

‫قال غفر اهلل له‪ :‬وقد يتعدد النازل والسبب واحد‪ ،‬أي يمكن أن تحدث واقعة واحدة فينزل اهلل عز وجل فيها على نبيه عدة‬
‫آيات وقد تكون من سور شتى أو من سورة واحدة‪.‬‬

‫من األمثلة على ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه األلباني عن أم المؤمنين أم سلمة ‪ ‬أنها قالت‪" :‬يا رسول اهلل ال‬
‫يع َع َم َل َع ِامل ِّمن ُكم ِّمن ذَ َكر أ َْو‬ ‫ِ‬
‫اب لَ ُه ْم َربُّـ ُه ْم أَنِّي َال أُض ُ‬
‫استَ َج َ‬
‫أسمع اهلل ذكر النساء في الهجرة فأنزل اهلل تعالى‪﴿ :‬فَ ْ‬
‫ض ُكم ِّمن بَـ ْعض﴾"‪.‬‬
‫أُنثَ ٰىۙ بَـ ْع ُ‬

‫وأيضا ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أم سلمة أيضا زوج النبي ﷺ تقول‪" :‬قلت للنبي ﷺ‪ :‬ما لنا ال نذكر‬
‫في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت‪ :‬فلم يرعني منه يومئذ إال نداءه وهو يقول على المنبر أو عند المنبر‪﴿ :‬إِ َّن‬
‫الصابِر ِ‬ ‫ات و َّ ِ‬‫ادقِين و َّ ِ ِ‬
‫ات و َّ ِ‬‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ات‬ ‫الصاب ِر َ‬
‫ين َو َّ َ‬ ‫الصادقَ َ‬ ‫الص َ َ‬ ‫ين َوالْ َقانتَ َ‬
‫ين َوال ُْم ْؤمنَات َوالْ َقانت َ‬ ‫ين َوال ُْم ْسل َمات َوال ُْم ْؤمن َ‬
‫ال ُْم ْسلم َ‬
‫ات والْحافِ ِظين فُـروجهم وال ِ ِ‬
‫ات و َّ ِ‬ ‫الصائِ ِمين و َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات والْمتَ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫الذاك ِر َ‬
‫ين‬ ‫ْحافظَ َ‬ ‫الصائ َم َ َ َ ُ َ ُ ْ َ َ‬ ‫ص ِّدقَات َو َّ َ َ‬ ‫ين َوال ُْمتَ َ‬‫صدِّق َ‬
‫ين َوالْ َخاش َع َ ُ َ‬ ‫َوالْ َخاشع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الذاكِر ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يما﴾" فهذه آية أخرى نزلت لسؤال أم سلمة‪.‬‬ ‫َع َّد اللَّهُ لَ ُهم َّمغْف َراة َوأ ْ‬
‫َج ارا َعظ ا‬ ‫ات أ َ‬ ‫َّ‬
‫اللهَ َكث ايرا َو َ‬
‫أيضا وما أخرجه الترمذي وصححه األلباني عن أم سلمة أيضا أنها قالت‪" :‬يغزو الرجال وال تغزو النساء‪ ،‬وإنما لنا‬
‫سبُواۙ‬
‫يب ِّم َّما ا ْكتَ َ‬
‫ِ‬
‫لر َجا ِل نَص ٌ‬ ‫َّل اللَّهُ بِ ِه بَـ ْع َ‬
‫ض ُك ْم َعلَ ٰى بَـ ْعضۙ لِّ ِّ‬ ‫نصف الميراث‪ .‬فأنزل اهلل عز وجل‪َ ﴿ :‬وَال تَـتَ َمنـ َّْوا َما فَض َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صيب ِّم َّما ا ْكتَسبنۙ واسأَلُوا اللَّهَ ِمن فَ ْ ِ ِ‬ ‫ولِلن ِ ِ‬
‫ضلهۙ إِ َّن اللَّ َه َكا َن ب ُك ِّل َش ْيء َعل ا‬
‫يما﴾‪.‬‬ ‫َْ َ َ ْ‬ ‫ِّساء نَ ٌ‬ ‫َ َ‬
‫ات﴾"‬ ‫وأنزل اهلل‪﴿ :‬إِ َّن الْمسلِ ِمين والْمسلِم ِ‬
‫ُْ ََ ُْ َ‬
‫فهذه اآليات الثًلث نزلت في ذكر النساء يعني على سبب واحد ثًلث آيات نزلت بسبب سؤال أم سلمة ‪.‬‬
‫المثال الثاني‪ :‬ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس ‪‬أنه قال‪" :‬كانت المرأة تطوف البيت وهي عريانة‬
‫فتقول من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها من يعيرني يعني شيئا تستر به عورتها وتقول اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا‬
‫منه فًل أحله فنزلت هذه اآلية ﴿ ُخ ُذوا ِزينَتَ ُك ْم ِعن َد ُك ِّل َم ْس ِجد﴾"‪.‬‬
‫وما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس ‪‬أنه قال‪" :‬كانت المرأة تطوف بالبيت في الجاهلية وهي عريانة وعلى‬
‫فرجها خرقة وهي تقول اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فًل أحله فنزلت هذه اآلية‪﴿ :‬قُل من ح َّرم ِزينَ َة ِ‬
‫اهلل﴾"‪.‬‬ ‫ْ َْ َ َ‬
‫ففي الحديث األول‪ :‬خذوا زينتكم عند كل مسجد‪.‬‬
‫وفي الحديث الثاني‪ :‬قل من حرم زينة اهلل التي أخرج لعباده‪ ،‬نزلت آيتان على سبب واحد‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫ومن األمثلة أيضا ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن سعيد بن المسيب عن أبيه "أنه أخبره أنه لما حضرت‬
‫أبا طالب الوفاة جاءه رسول اهلل ﷺ فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد اهلل بن أبي أمية بن المغيرة‪.‬‬
‫قال رسول اهلل ﷺ ألبي طالب‪ :‬يا عم‪ ،‬قل ال إله إال اهلل كلمة أشهد لك بها عند اهلل‪.‬‬
‫فقال أبو جهل وعبد اهلل بن أمية‪ :‬يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟‬
‫فلم يزل رسول اهلل ﷺ يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم‪ :‬هو على ملة عبد‬
‫المطلب وأبى أن يقول ال إله إال اهلل‪ .‬فقال رسول اهلل ﷺ‪ :‬أما واهلل ألستغفرن لك ما لم أُنْ َه عنك‪ .‬فأنزل اهلل تعالى‬
‫فيه ﴿ما َكا َن لِلنَّبِ ِّي والَّ ِذين آمنُوا أَن يستَـغْ ِفروا لِل ِ‬
‫ْم ْش ِرك َ‬
‫ين﴾"‪.‬‬ ‫َْ ُ ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬
‫وما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة ‪‬أنه قال‪" :‬قال رسول اهلل ﷺ لعمه‪ :‬قل ال إله إال اهلل أشهد لك‬
‫بها يوم القيامة‪ .‬قال لوال أن تعيرني قريش يقولون إنما حمله على ذلك الجزع ألقررت بها عينك"‪.‬‬
‫ت َولَ ِك َّن اهللَ يَـ ْه ِدي َمن يَ َ‬
‫شاءُ﴾"‪.‬‬ ‫َحبَْب َ‬ ‫ِ‬ ‫فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِنَّ َ‬
‫ك َال تَـ ْهدي َم ْن أ ْ‬
‫فهاتان اآليتان نزلتا في واقعة واحدة وهي واقعة موت أبي طالب عم النبي ﷺ وتمني رسول اهلل ﷺ أن تقر‬
‫عينه بأن ينطق عمه الشهادة قبل الوفاة حتى يحاج الرسول ﷺ بها ربه ويدعوه أن يخفف اهلل عز وجل بها عنه أو‬
‫أن يدخله بها الجنة فنزلت هاتان اآلياتان‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد اهلل بن مسعود ‪‬أنه قال‪" :‬إن قريشا لما استعصت‬
‫على النبي ﷺ دعا عليهم بسنين كسنين يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه‬
‫وبينها كهيئة الدخان من الجهد وحتى أكلوا العظام فأتى النبي ﷺ رجل (وعند البخاري أنه أبو سفيان) فقال‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل استغفر اهلل لمضر فإنهم قد هلكوا فقال لمضر إنك لجريء قال فدعا اهلل لهم فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِنَّا‬
‫اب قَلِ ايًل إِنَّ ُك ْم َعائِ ُدو َن﴾‪.‬‬ ‫َك ِ‬
‫اش ُفو ال َْع َذ ِ‬

‫ب يَـ ْو َم تَأْتِي َّ‬ ‫ِ‬


‫الس َماءُ‬ ‫قال فمطروا فلما أصابته م الرفاهية عادوا إلى ما كانوا عليه‪ .‬قال‪ :‬فأنزل اهلل عز وجل‪﴿ :‬فَ ْارتَق ْ‬
‫ش َة الْ ُك ْبـ َرى إِنَّا ُمنتَ ِق ُمو َن﴾ يعني يوم بدر‪.‬‬
‫ش الْبَطْ َ‬ ‫ِ‬ ‫شى النَّاس ه َذا َع َذ ِ‬ ‫بِ ُد َخان ُّمبِين يَـغْ َ‬
‫يم﴾‪ .‬وقوله‪﴿ :‬يَـ ْو َم نَـ ْبط ُ‬
‫اب أَل ٌ‬
‫ٌ‬ ‫َ َ‬

‫فوائد معرفة أسباب النزول‪:‬‬


‫‪ -‬منها‪ :‬معرفة حكمة اهلل تعالى التي دعت إلى تشريع حكم من األحكام فيزداد المؤمن حينما يعلم الحكم من األحكام‬
‫يزداد المؤمن إيمانا وهذه األشياء تسوق الكافر أيضا إلى اإليمان والتصديق‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك التدرج في تشريع تحريم الخمر وكيف أنه نبههم أوال إلى أن فيها خير وفيها شر ثم تدرج بهم‬
‫حتى انتهى إلى تحريمها فمراعاة أحوال الناس وبيان الحكمة في كل حكم يدعو إلى اإليمان باهلل تعالى وفيه زيادة‬
‫إيمان المؤمنين‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ :‬معرفة األسباب يعين على فهم آيات الكتاب ويدفع اإلشكال ويكشف الغموض الذي يكتنف تفسير بعض‬
‫اآل يات فإن معرفة األسباب المحيطة والوقائع التي تحدث بين يدي نزول اآليات يعين على فهمها وتفسيرها‪.‬‬
‫َج ُد فِي ما أ ِ‬
‫ُوح َي إِلَ َّي ُم َح َّراما‬ ‫ومن الحكم أيضا دفع توهم الحصر عما يفيد بظاهره الحصر مثل قوله تعالى‪﴿ :‬قُل َّال أ ِ‬
‫َ‬
‫س أ َْو ِف ْس اقا أ ُِه َّل لِغَْي ِر اللَّ ِه بِ ِهۙ فَ َم ِن ا ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضطَُّر‬ ‫َعلَ ٰى طَاعم يَط َْع ُمهُ إَِّال أَن يَ ُكو َن َم ْيتَةا أ َْو َد اما َّم ْس ُف ا‬
‫وحا أ َْو لَ ْح َم خن ِزير فَإنَّهُ ِر ْج ٌ‬
‫ك غَ ُف ِ‬
‫يم﴾ فذهب اإلمام الشافعي إلى أن هذا الحصر غير مقصود وعلل ذلك بأن اآلية‬ ‫ور َّرح ٌ‬ ‫غَْيـ َر بَاغ َوَال َعاد فَِإ َّن َربَّ َ ٌ‬
‫نزلت بسبب أولئك الكفار الذين أبوا إال أن يحرموا ما أحل اهلل ويحلوا ما حرم اهلل‪.‬‬
‫‪ -‬فمعرفة أسباب النزول تفيد بأن المحرمات ال تنحصر ال أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إال كذا‬
‫المستثنى هذه تفيد العموم وال تفيد أن هذه فقط هي المحرمات فقد اشتمل القرآن على محرمات كثيرة غيرها‬
‫والمقصود هنا هو تحليل الحرام وتحريم الحًلل‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا‪ :‬معرفة من نزلت فيهم اآلية على التعيين حتى ال يشتبه بغيره‪ .‬فيتهم البريء ويبرئ المريض‪.‬‬
‫مثاله ما أخرجه اإلمام البخاري عن يوسف بن ماهر قال‪ :‬كان مروان على الحجاز استعمله معاوية فخطب فجعل يذكر‬
‫يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال‪ :‬خذوه‪.‬‬
‫ال لَِوالِ َديْ ِه أُف لَّ ُك َما أَتَ ِع َدانِنِي﴾‬
‫فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان‪ :‬إن هذا الذي أنزل اهلل فيه‪َ ﴿ :‬والَّ ِذي قَ َ‬
‫اآليات‪ .‬قالت عائشة من وراء حجاب‪ :‬ما أن زل اهلل فينا شيئا من القرآن إال أن اهلل أنزل عذري يعني ردت عليه بأن‬
‫الذي نزلت فيه هذه اآليات ليس هو عبد الرحمن بن أبي بكر"‪.‬‬
‫فمعرفة من نزلت فيهم اآلية على التعيين تجعل تنفي االشتباه أن يشتبه كم به كما في هذه الواقعة‪.‬‬

‫‪ -‬من الفوائد أيضا التي نستفيدها من معرفة أسباب نزول القرآن تيسير الحفظ وتسهيل الفهم وتثبيت الوحي في‬
‫األذهان في كل من يسمع اآلية إذا عرف سببها يثبت القرآن في ذهنه وذلك أن ربط األسباب بالمسببات‬
‫واألحكام بالحوادث والحوادث باألشخاص واألزمنة واألمكنة كل ذلك من دواعي تقرر األشياء وانتقاش اآليات‬
‫في أذهان القراء‪.‬‬
‫أقول قولي هذا واستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وقبل أن ننهي هذه المحاضرة نذكر سؤالين‪:‬‬

‫األسئـ ـلة‬
‫السؤال األول‪ :‬هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ دلل على ما تذكر ‪.‬‬
‫السؤال الثاني‪ :‬اشرح قول المصنف (قد تتعدد األسباب والنازل واحد وقد يتعدد النازل والسبب واحد)‪.‬‬

‫خيرا‪،‬‬
‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل ا‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫المحاضـرة العـاشـرة‬
‫أهًل ومرحبا بكم أيها األحباب الكرام مع المحاضرة العاشرة مع "الباب الخامس" (جمع القرآن وترتيبه)‬
‫كان القرآن ينزل على النبي ﷺ آية آية وكان ينزل في أوقات وأماكن مختلفة على مدار مدة بعثته ﷺ فكيف وصل‬
‫إلينا هذا القرآن مجموعا في مصحف واحد قد اشتمل بين دفتيه على كل ما أنزل اهلل على نبيه ﷺ؟‬
‫ال شك أن ذلك مر بمراحل عدة سنتعرف عليها من خًلل هذا الباب المبارك‪.‬‬

‫يقول المصنف غفر اهلل له‪( :‬جمع القرآن وترتيبه)‬


‫الجمع لغة ‪ :‬مصدر من جمع‪ .‬يقال جمع الشيء يجمعه جمعا‪ .‬فكلمة جمع تدل على الجمع واالجتماع والتأليف وضم‬
‫المتفرق فجمع الشيء استقصاؤه واإلحاطة به‪.‬‬
‫وجمع القرآن اصطًلحا‪ :‬يطلق ويراد به عند العلماء أحد معنيين‪:‬‬
‫‪ -‬المعنى األول‪ :‬جمعه بمعنى حفظه في الصدور عن ظهر قلب‪ .‬ومنه قوله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن َعلَْيـنَا َج ْم َعهُ َوقُـ ْرآنَهُ﴾ أي جمعه‬
‫في صدرك وإثبات قراءته في لسانك‪.‬‬
‫‪ -‬والمعنى الثاني‪ :‬جمع القرآن بمعنى كتابته‪.‬‬
‫ومنه قول عمر بن الخطاب ألبي بكر الصديق ‪‬في قصة جمع القرآن قال‪" :‬وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن‬
‫وقول أبي بكر الصديق لزيد بن ثابت ‪" :‬فتتبع القرآن فاجمعه" أي اكتبه كله‪.‬‬

‫قال المصنف عفا اهلل عنه‪ ( :‬جمع القرآن وترتيبه‪ ،‬وفيه ستة ضوابط أي أن مسائل هذا الباب تجتمع تحت هذه الستة‬
‫الضوابط)‬
‫‪ ‬الضابط األول‪( :‬جمع القرآن في زمن رسول اهلل ﷺ حفظا فى الصدور وكتابة في السطور)‪.‬‬
‫فيتبين لنا من خًلل هذا الضابط أن القرآن جمع في عهد الرسول ﷺ بطريقتين‪:‬‬
‫الطريقة األولى‪ :‬بالحفظ في الصدور‪ .‬فقد كان النبي ﷺ ينزل عليه القرآن الكريم فيقرأه على صحابته على تؤدة وتمهل‬
‫كي يحفظوا لفظه ويفقهوا معناه‪.‬‬

‫وكان النبي ﷺ شديد العناية بحفظ القرآن وتلقفه حتى بلغ من شدة عنايته به ﷺ وحرصه عليه أنه كان يحرك به‬
‫لسانه ويعالجه أشد المعالجة حتى كان يجد من ذلك شدة يقصد بذلك استعجال حفظ القرآن خشية أن تتفلت منه كلمة‬
‫أو يضيع منه حرف من حروف القرآن وما زال كذلك ﷺ حتى طمأنه ربه ووعده أن يحفظه له في صدره وأن يقرأه‬
‫ك لِتَـ ْع َج َل بِ ِه﴾ أي لتتعجل حفظه خشية الضياع‬
‫سانَ َ‬ ‫ِِ ِ‬
‫لفظه ويفهمه معناه كما قال تعالى في سورة القيامة‪َ ﴿ :‬ال تُ َح ِّر ْك به ل َ‬

‫‪69‬‬
‫والتفلت‪﴿ ،‬إِ َّن َعلَْيـنَا َج ْم َعهُ َوقُـ ْرآنَهُ فَِإ َذا قَـ َرأْنَاهُ فَاتَّبِ ْع قُـ ْرآنَهُ﴾ أي فاتبع قراءته‪﴿ .‬ثُ َّم إِ َّن َعلَْيـنَا بَـيَانَهُ﴾‪ .‬فجمع اهلل عز وجل‬
‫لنبيه ﷺ أن حفظه القرآن وجمعه له في صدره ثم علمه بيانه أي بيان القرآن تفسيره ومعناه‪.‬‬

‫وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس قال كان رسول اهلل ﷺ يعالج من التنزيل شدة‪ ،‬فكان يحرك به لسانه وشفتيه‬
‫مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل اهلل عليه ال تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه‪.‬‬
‫فاتبع قرآنه أي فاستمع له‬
‫قال ابن عباس‪" :‬إن علينا أن نجمعه في صدرك ثم نقرأه فإذا قرأناه أي إذا أنزلناه عليك ْ‬
‫وأنصت‪ .‬ثم إن علينا بيانه أي أن نبينه بلسانك‪( .‬وفي لفظ علينا أن نقرأه) فكان رسول اهلل ﷺ بعد ذلك إذا أتاه‬
‫جبريل أطرق (وفي لفظ استمع) فإذا ذهب قرأه كما وعد اهلل‪ .‬وقد كان جبريل ‪ ‬يعرض عليه القرآن في رمضان من كل‬
‫عام حتى كان العام الذي توفي فيه رسول اهلل ﷺ عرض جبريل القرآن عليه مرتين‪.‬‬
‫ففي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال‪" :‬إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا ال يغسله الماء"‪.‬‬
‫قال النووي‪ :‬قوله تعالى في القرآن إنه ال يغسله الماء‪.‬‬
‫قال‪ :‬معناه أنه محفوظ في الصدور ال يتطرق إليه الذهاب بل يبقى على مر األزمان وكذلك الصحابة رضوان اهلل عليهم‬
‫جعلوا القرآن في المحل األول وتنافس وا في حفظ ألفاظه وتسابقوا في فهم معانيه وجعلوه شغلهم الشاغل في نهارهم‬
‫سم َع لهم بقراءته دوي كدوي النحل‪ ،‬كما قال ربهم عنهم‪َ ﴿ :‬كانُوا قَلِ ايًل ِّم َن اللَّْي ِل َما‬
‫ومتعبَّ َدهم في ليلهم حتى لقد كان يُ َ‬
‫َس َحا ِر ُه ْم يَ ْستَـغْ ِف ُرو َن﴾‪.‬‬
‫يَـ ْه َجعُو َن َوبِ ْاأل ْ‬
‫فقد القى القرآن عناية كاملة من النبي ﷺ ومن صحابته فقد ُحفظ القرآن كله في زمن رسول اهلل ﷺ ومات رسول‬
‫اهلل ﷺ والقرآن محفوظ في صدور صحابته الكرام‪.‬‬
‫قال المصنف عفا اهلل عنه جمع القرآن في زمن رسول اهلل ﷺ حفظا في الصدور ثم قال‪:‬وكتابة في السطور‪.‬‬
‫ِ‬
‫يكتف النبي‬ ‫وهذه هي الطريقة الثانية التي حفظ بها القرآن في زمن رسول اهلل ﷺ وهي الكتابة في السطور ‪،‬فلم‬
‫ﷺ بحفظ القرآن وإقرائه أصحابه وحفظهم له بل جمع إلى ذلك كتابته وتقييده في السطور‪.‬‬
‫فكان النبي ﷺ له ُكتَّاب يكتبون الوحي‪ ،‬تنزل عليه اآلية فيأمرهم بكتابتها بل ويرشدهم إلى موضعها من سورتها حتى‬
‫الجمع في الصدور‪.‬‬
‫َ‬ ‫تضاهي الكتابةُ في السطور‬
‫ابتداء ألنفسهم دون أن يأمرهم النبي ﷺ فيخطونه في‬
‫ا‬ ‫كما كان بعض الصحابة أيضا يكتبون ما ينزل من القرآن‬
‫العسب واللخاف والكرانيف والرقاع واألقتاب وقطع األديم واألكتاف‪.‬‬
‫ب‪ :‬جمع َع ِسيب وهي جريدة النخل المستقيمة يكشط خوصها‪.‬‬
‫‪ -‬والعُ ْس ُ‬
‫‪ -‬واللخاف‪ :‬جمع لخفة‪ ،‬ويجمع على لخف‪ ،‬وهي صفائح الحجارة الرقاق‪.‬‬
‫‪ -‬والكرانيف‪ :‬جمع كرنافة وهي أصول تبقى في جذع النخلة بعد قطع السعف‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫‪ -‬والسعف ‪ :‬هو جريد النخل وورقه يعني األصول التي تبقى في جذع النخلة من الجريدة وهي أصول عريضة يسمح‬
‫بالكتابة عليها‪.‬‬
‫‪ -‬والرقاع‪ :‬جمع ُرقعة أو ِرقعة وهي القطعة من الجلد أو القماش أو الورق وهو غالب ما كتب عليه الوحي‪.‬‬
‫‪ -‬واألقتاب‪ :‬جمع قَـتَب وهو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه ويسمى رحل البعير‪.‬‬
‫‪ -‬وأما األكتاف ‪ :‬فجمع كتف وهي العظم العريض الذي يكون في أصل كتف البعير أو الشاة‪ ،‬كانوا إذا جف كتبوا‬
‫عليه‪.‬‬
‫وهذا يدل على مدى المشقة التي كان يتحملها الصحابة ‪‬في كتابه القرآن حيث لم تتيسر لهم أدوات الكتابة إال‬
‫بهذه الوسائل فأضافوا الكتابة إلى الحفظ ليتم وعد اهلل الذي قطعه على نفسه في قوله تعالى‪﴿ :‬إِ َّن َعلَْيـنَا َج ْم َعهُ َوقُـ ْرآنَهُ﴾‪،‬‬
‫الذ ْك َر َوإِنَّا لَهُ لَ َحافِظُو َن﴾‪.‬‬
‫وفي قوله أيضا‪﴿ :‬إِنَّا نَ ْح ُن نَـ َّزلْنَا ِّ‬
‫فتم حفظ القرآن بأعظم وأفضل وسائل الحفظ وهي وسائل مجتمعة؛ الحفظ في الصدور والتقييد والكتابة في السطور‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثاني‪( :‬حفاظ القرآن من الصحابة سبعة)‬
‫نقول أوال أيها الكرام إن رسول اهلل ﷺ كان أول حافظ لكتاب اهلل‪ ،‬ثم كان بعده الصحابة يحفظون القرآن أيضا‬
‫كدوي النحل‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫سم َع لهم دوي‬ ‫ويُ ِّ‬
‫حفظونه ألزواجهم وأوالدهم ويقرأون به في صلواتهم بجوف الليل حتى يُ َ‬
‫وكان رسول اهلل ﷺ يمر على بيوت األنصار ويستمع إلى ِّ‬
‫ندي أصواتهم بالقراءة في بيوتهم‪.‬‬
‫فعن أبي موسى األشعري ‪ ‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه سلم قال له‪" :‬لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك‪ ،‬لقد‬
‫زمارا ِّمن َّمزامير آل داود"‪.‬‬ ‫أ َ ِ‬
‫ُعطيت م ا‬
‫(وعند البيهقي قال‪" :‬فقلت لو علمت واهلل يا رسول اهلل أنك تسمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا")‪.‬‬
‫وع ن عبد اهلل بن عمرو قال‪" :‬جمعت القرآن أي حفظته كله فقرأت به كل ليلة‪ .‬فبلغ النبي ﷺ فقال‪" :‬اِقرأهُ في‬
‫شهر"‪.‬‬

‫وعن أبي موسى األشعري ‪‬أيضا قال‪ :‬قال رسول اهلل ﷺ‪" :‬إني ألعرف رفقة األشعريين بالليل حين يدخلون‬
‫وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل‪ ،‬وإن كنت لم َأر منازلهم حين نزلوا بالنهار"‪.‬‬
‫ومع حرص الصحابة على مدارسة القرآن واستظهاره فإن رسول اهلل ﷺ كان يشجعهم على ذلك ويختار لهم من‬
‫يعلمهم القرآن‪.‬‬

‫فعن عبادة بن الصامت ‪‬قال‪ :‬كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي ﷺ إلى رجل منا يعلمه القرآن‪ .‬وكان يُسمع‬
‫لمسجد رسول اهلل ﷺ ضجة بتًلوة القرآن حتى أمرهم رسول اهلل ﷺ أن يخفضوا أصواتهم لئًل يتغالطوا‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫قال المصنف غفر اهلل له‪( :‬حفاظ القرآن من الصحابة سبعة‪:‬‬
‫‪ -‬وزيد بن ثابت ‪‬‬ ‫‪ -‬أبي بن كعب ‪‬‬
‫‪ -‬ومعاذ بن جبل ‪‬‬ ‫‪ -‬وعبد اهلل بن مسعود ‪‬‬
‫‪ -‬وأبو الدرداء ‪.)‬‬ ‫‪ -‬وأبو زيد بن السكن ‪‬‬ ‫‪ -‬وسالم بن معقل مولى أبي حذيفة ‪‬‬

‫فقد أورد البخاري في صحيحه ثًلث روايات جمع فيها هؤالء السبعة المذكورين‪:‬‬
‫‪ ‬الرواية األولى‪ :‬عن عبد اهلل بن عمرو بن العاص ‪‬أنه قال‪ :‬سمعت رسول اهلل ﷺ يقول‪" :‬خذوا القرآن من أربعة‪:‬‬
‫من عبد اهلل بن مسعود وسالم ومعاذ وأُبَ ّي بن كعب"‬
‫‪ ‬الرواية الثانية‪ :‬عن قتادة ‪‬قال‪" :‬سألت أنس بن مالك ‪ :‬من جمع القرآن على عهد رسول اهلل ﷺ؟ فقال‪:‬‬
‫أربعة كلهم من األنصار‪ :‬أُبَ ُّي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد‪ .‬قلت‪َ :‬م ْن أبو زيد؟ قال‪ :‬أحد عمومتي"‪.‬‬
‫‪ ‬الرواية الثالثة‪ :‬عن ثابت عن أنس كذلك قال‪" :‬مات النبي ﷺ ولم يجمع القرآن غير أربعة‪ :‬أبو الدرداء ومعاذ بن جبل‬
‫وزيد بن ثابت وأبو زيد"‪.‬‬
‫فتجمع لدينا بهذه الروايات الثًلثة سبعة من الصحابة جمعوا القرآن كله‪.‬‬

‫لكن يا ترى هل لم يحفظ أحد من الصحابة القرآن سوى هؤالء السبعة؟‬


‫الجواب‪ :‬نقول إن هذا الحصر للسبعة المذكورين من البخاري ‪ ‬بالروايات الثًلث اآلنفة الذكر محمول على أن هؤالء‬
‫السبعة هم الذين جمعوا القرآن كله‪.‬‬
‫‪ ‬هذا الشرط األول‪ :‬جمعوا القرآن كله في صدورهم‪.‬‬
‫فالصحابة كلهم حفظوا من القرآن وكثير منهم حفظوا أجزاء كثيرة من القرآن لكن الذين جمعوا القرآن كله في‬
‫صدورهم هؤالء السبعة‪.‬‬
‫‪ ‬الشرط الثاني‪ :‬قال وعرضوه على النبي ﷺ أي عرضوه عليه كامًل‪.‬‬
‫‪ ‬والشرط الثالث‪ :‬اتصلت بنا أسانيده أي أنهم أقرأوا َم ْن بَع َد ُهم‪.‬‬
‫أما غيرهم من حفظة القرآن وهم ُكثَّر فلم يتوافر فيهم هذه الشروط الثًلثة التي هي‪:‬‬
‫جمع حفظ القرآن كامًل‪ ،‬عرضه على النبي ﷺ كامًل‪ ،‬اتصال األسانيد بهم إلى األمة‪.‬‬
‫ال سيما وأن الصحابة تفرقوا في األمصار يعنى بقية الحفظة لم يتوافر فيهم هذه الشروط ال سيما وأنهم تفرقوا فى‬
‫األمصار وحفظ بعضهم عن بعض‪.‬‬
‫القراء) وكانوا سبعين رجًل كما في‬
‫فدليًل على ذلك أن الذين قتلوا في بئر معونة من الصحابة كان يقال لهم ( ّ‬
‫الصحيح‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫القراء وقتل في عهد النبي ﷺ ببئر معونة مثل هذا العدد"‪.‬‬
‫وقد قال القرطبي ‪" :‬قد قتل يوم اليمامة سبعون من ّ‬
‫وأولوا به األحاديث الدالة على حصر الحفاظ في‬
‫إذن سبعون وسبعون مئة وأربعون قارئاا‪ .‬وهذا هو ما فهمه العلماء َّ‬
‫السبعة المذكورين‪.‬‬
‫قال الماوردي ‪ ‬معلقا على رواية أنس قال‪" :‬ال يلزم من قول أنس ‪‬لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس‬
‫األمر كذلك‪ ،‬ألن التقدير أنه ال يعلم أن سواهم جمعه‪ ،‬وإال فكيف اإلحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في‬
‫البًلد؟ وهذا ال يتم إال إن كان لقي كل واحد منهم على انفراد وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع في عهد النبي‬
‫ﷺ وهذا في غاية البعد في العادة‪ .‬وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك‪ ،‬يعني هو ال‬
‫يعلم أنه جمعه أحد من الصحابة إال هؤالء وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل ولو‬
‫على التوزيع كفى‪.‬‬
‫فالماوردي بهذا ينفي الشبه التي توهم قلة عدد الحفاظ بأسلوب رصين مقنع ويبين االحتماالت الممكنة لصيغة‬
‫الحصر في حديث أنس ‪‬بيانا شافيا‪.‬‬
‫فقد ذكر أبو عبيد في كتاب [القراءات]‪ :‬القراء من أصحابه النبي ﷺ فعد من المهاجرين الخلفاء األربعة وطلحة‬
‫وسع ادا وابن مسعود وحذيفة وسالم وأبا هريرة وعبد اهلل بن السائب والعبادة األربعة والعبادلة األربعة وهم عبد اهلل بن‬
‫عباس وعبد اهلل بن عمرو بن العاص وعبد اهلل بن عمر وعبد اهلل بن الزبير وعائشة وحفصة وأم سلمة‪ .‬ومن األنصار‬
‫عبادة بن الصامت ومعاذاا الذي يُكنى أبا حليمة ومجمع بن جارية و فضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد‪.‬‬
‫وصرح أن بعضهم إنما كمله بعد النبي ﷺ‪.‬‬
‫وذكر الحافظ الذهبي في [طبقات القراء] أن هذا العدد من القراء أي السبعة هم الذين عرضوه على النبي ﷺ‬
‫واتصلت بنا أسانيدهم‪.‬‬
‫وأما من جمعه منهم ولم يتصل بنا سندهم فكثير‪.‬‬
‫ومن هذه النصوص يتبين لنا أن حفظة القرآن في عهد الرسول ﷺ كانوا جمعا غفيرا فإن االعتماد على الحفظ في‬
‫النقل من خصائص هذه األمة المباركة المنصورة إلى قيام الساعة‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثالث‪( :‬جمع أبو بكر الصديق ‪‬القرآن بعد موقعة اليمامة في مصحف واحد موافق‬
‫للعرضة األخيرة وأجمع عليه الصحابة ‪.)‬‬
‫لما تولى أبو بكر الصديق ‪‬الخًلفة والقيام بأمر المسلمين بعد رسول اهلل ﷺ واجهته أحداث جسام من‬
‫ارتداد العرب فجمع الجيوش وأوفدها لحروب المرتدين فكانت غزوة أهل اليمامة‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫(واليمامة) موقعة جهة نجد وكانت مع مسيلمة الكذاب الذي ادعى النبوة وقد قتل في هذه الموقعة وابتدأت غزوتها‬
‫في أواخر السنة الحادية عشرة من الهجرة وانتهت في ربيع األول للسنة الثانية عشرة من الهجرة‪.‬‬
‫وفي هذه الغزوة قتل من القراء سبعون قارئاا من قراء الصحابة‪.‬‬
‫وقد قتل أيضا مثل هذا العدد في (بئر معونة) قرب المدينة النبوية وكان ذلك في حياة النبي ﷺ كما مر معنا من‬
‫قول القرطبي ‪ ‬تعالى‪ .‬وهذه الغزاة كما قلنا ضمت عددا كبيرا من الصحابة القراء واستشهد في هذه الغزاة سبعين‬
‫فلما حدث ذلك هال ذلك عمر بن الخطاب ‪‬ودخل على أبي بكر ‪‬وأشار عليه بجمع القرآن وكتابته خشية‬
‫الضياع‪ ،‬فإن القتل قد استحر الصحابة يوم اليمامة‪ .‬قال عمر‪" :‬أخشى إن استحر بهم في المواطن األخرى أن يضيع‬
‫القرآن ويُنسى"‪.‬‬
‫فنفر أبو بكر من هذه المقالة وكبر عليه أن يفعل شيئا لم يفعله رسول اهلل ﷺ فظل عمر يراوده حتى شرح اهلل‬
‫صدره لهذا األمر‪.‬‬
‫فوقف أبو بكر في المسجد وقال‪" :‬من عنده شيء من القرآن ِ‬
‫فليأت به"‪.‬‬
‫فأتى الصحابة بما لديهم من اآليات المكتوبة وأرسل للقراء (يعني الذين يحفظون القرآن في صدورهم) لجمع القرآن‪،‬‬
‫فأرسل لزيد بن ثابت لمكانته في القراءة والكتابة والفهم‪ ،‬فقد كان أحد ُكتّاب الوحي الذين كتبوا بين يدي رسول اهلل‬
‫ﷺ وهو رجل ذكي فطن‪ ،‬فالرسول ﷺ أمره أن يتعلم لغة يهود فتعلمها في خمسة عشر يوما‪.‬‬
‫كنت تكتب الوحي لرسول اهلل ﷺ فتتبع القرآن‬
‫فأرسل أبو بكر إليه وقال له‪ :‬إنك شاب عاقل ال نتهمك‪ ،‬وقد َ‬
‫فاجمعه‪.‬‬
‫فقال زيد‪ :‬واهلل لو كلفوني بنقل جبل من الجبال ما كان أثقل مما أمراني به من جمع القرآن‪ ،‬لكنني قلت لهما‪ :‬كيف‬
‫تفعًلن شيئا لم يفعله رسول اهلل ﷺ؟‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬هو واهلل خير‪.‬‬
‫فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اهلل صدري للذي شرح اهلل له صدر أبي بكر وعمر‪.‬‬
‫فتتبعت القرآ َن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال"‪.‬‬
‫ُ‬
‫فجمع زيد بن ثابت القرآن وكان هذا بإجماع الصحابة وحضورهم وموافقتهم وفيهم علي بن أبي طالب ‪.‬‬
‫فقد ورد عن علي أنه قال‪" :‬أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر الصديق ‪ ،‬هو أول من جمع كتاب اهلل"‪.‬‬
‫وكانت هذه الصحف بعدما كتبت وكتبها زيد بن ثابت على مأل من الصحابة واجتماع منهم‪ ،‬كانت هذه الصحف عند‬
‫أبي بكر ‪‬حتى توفاه اهلل في جمادى اآلخرة من السنة الثالثة عشرة من الهجرة‪.‬‬
‫ثم كانت بعد ذلك خًلفة عمر وكان عنده هذه الصحف خًلل فترة خًلفته‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫فلما توفي عمر في ذي الحجة سنة ثًلث وعشرين للهجرة نقلت الصحف إلى حفصة بنت عمر ‪ ‬بوصية من‬
‫أبيها وألنها كانت تحفظ القرآن في صدرها وكانت تكتب أيضا وهي أم المؤمنين وزوج النبي ﷺ‪ .‬ثم إنه أيضا بعد‬
‫وفاة عمر لم يكن قد تعين خليفة للمسلمين بعد فجعلت الصحف عند حفصة بنت عمر‪.‬‬

‫الضابط الرابع‪( :‬جمع عثمان بن عفان ‪‬القرآن على حرف واحد بعد اختًلفهم في أرمينية وأذربيجان)‪.‬‬
‫المرحلة الثالثة من جمع القرءان كانت في عهد عثمان ‪:‬‬
‫لما تولى عثمان الخًلفة في آخر يوم من ذي الحجة لسنة ثًلث وعشرين من الهجرة تولى الخًلفة في هذا التاريخ‬
‫يعني في آخر سنة ثًلثة وعشرين من هجرة النبي ﷺ‪ ،‬بدأ في جمع القرآن في سنة خمس وعشرين من الهجرة‬
‫وظل في الخًلفة حتى سنة خمس وثًلثين من الهجرة فقد قتل في شهر ذي الحجة أيضا لسنة خمس وثًلثين‪.‬‬
‫لكن يا ترى ما السبب في جمع عثمان ‪‬للقرآن بعد أن جمعه أبو بكر؟‬
‫‪ -‬السبب األول‪ :‬رفع االختًلف والتنازع في القرآن وقطع المراء فيه‪.‬‬
‫‪ -‬والسبب الثاني‪ :‬حماية النص القرآني من أي إضافة أو نقص‪ .‬وهذا يذكرنا بالسبب الذي جمع أبو بكر له‬
‫القرآن وهو خشية ضياع القرآن بضياع حملته‪.‬‬

‫أما عثمان فجمعه لسببين‪ :‬لحماية النص ورفع االختًلف فيه‪.‬‬


‫وذلك أنه لما اتسعت الفتوحات اإلسًلمية كان الصحابة إذا اجتمعوا في بعض المواطن في الغزوات ونحوها يختلفون‬
‫في القراءة‪ ،‬فلما كانت غزوة (أرمينية) وغزوة (أذربيجان) من أهل العراق وكان فيمن غزاهما حذيفة بن اليمان ‪،‬‬
‫رأى اختًلفا كثيرا في وجوه القراءة وبعض ذلك مشوب باللحن‪ ،‬يقول بعضهم أقرأنيها شيخي هكذا‪ ،‬ويقول اآلخر‬
‫أقرأنيها شيخي هكذا‪.‬‬
‫فاختلفوا فجاء حذيفة بن اليمان ‪‬وقال لعثمان بن عفان‪ :‬أدرك الناس حتى ال يقتتلوا في القرآن‪.‬‬
‫فوقف عثمان في الناس خطيبا وقال‪ :‬أ يها الناس إن عهدكم بنبيكم منذ ثًلثة عشر عاما وأنتم تمترون في القرآن‪.‬‬
‫فأرسل إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف التي عندك ننسخها في المصاحف ثم نعيدها إليك‪.‬‬
‫ثم دفع المصحف الذي جاء من عند حفصة إلى زيد بن ثابت والقرشيين الثًلثة الذين كانوا معه وهم‪:‬‬
‫عبد اهلل بن الزبير‪ ،‬وسعيد بن العاص‪ ،‬وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام‪.‬‬
‫قال لهم‪ :‬إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء فاكتبوه بلسان قريش‪.‬‬
‫وذلك ألن زيد بن ثابت أنصاري وإذا كان في آية أكثر من قراءة كانوا يكتبونها خالية من النقط لتحتمل جميع‬
‫القراءات‪ .‬وبعدما انتهى زيد والثًلثة القرشيين من الجمع نسخوها في المصاحف وبدأ عثمان ‪‬يرسل نس اخا من‬
‫المصحف الذي جمع على حرف واحد إلى األمصار ويحرق ما دونه من المصاحف‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫فجعل مصحفا عنده في المدينة ُس ِّم َي بالمصحف اإلمام‪ ،‬ثم جعل منه نُس اخا أرسلها إلى األمصار‪.‬‬
‫وقد أجمع الصحابة على المصحف الذي جمعه عثمان ‪‬على حرف واحد بحضورهم ورضاهم بل وموافقتهم‬
‫ومؤازرتهم وإعانتهم لعثمان ‪‬فيما صنع من جمع الناس على مصحف واحد حتى ال يختلف عليه‪.‬‬
‫فعن سويد بن غفلة قال‪ :‬قال علي بن ابي طالب ‪" :‬ال تقولوا في عثمان إال خيرا‪ ،‬فواهلل ما فعل الذي فعل في‬
‫خير من قراءتك‪،‬‬
‫المصحف إال عن مأل منا‪ .‬قال‪ :‬ما تقولون في هذه القراءة؟ قد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي ٌ‬
‫وهذا يكاد يكون كفرا‪.‬‬
‫الناس على مصحف واحد فًل تكون فرقة وال اختًلف‪.‬‬
‫جم َع ُ‬
‫قلنا‪ :‬فما ترى؟ قال‪ :‬أرى أن يُ َ‬
‫قلنا‪ :‬فنعم ما رأيت‪.‬‬

‫لكن هنا سؤال‪ :‬هل هناك فرق بين جمع أبي بكر للقرآن وجمع عمر وجمع عثمان ‪‬؟‬
‫الجواب‪ :‬نعم‪ ،‬هناك عدة فروق بين جمع أبي بكر للقرآن وجمع عثمان ‪‬للقرآن‪:‬‬
‫‪ o‬الفرق األول‪ :‬أن الباعث لدى أبي بكر لجمع القرآن عدم ذهاب القرآن وضياعه بقتل حملته‪.‬‬
‫وأما الباعث عند عثمان ‪‬هو القضاء على التنازع واالختًلف بين الصحابة في قراءة القرآن‪.‬‬
‫‪ o‬الفرق الثاني‪ :‬جمع أبي بكر كان جمعا لِ َما كان متفرقا في االكتاف واللخاف والعسب والرقاع وغير ذلك‪.‬‬
‫أما جمع عثمان فكان نَس اخا من المصحف الذي كتبه أبو بكر ولكنه نسخه على حرف واحد وليس على‬
‫األحرف السبعة كما في مصحف أبي بكر‪.‬‬
‫‪ o‬الفرق الثالث‪ :‬جمع أبي بكر كان مرتب اآليات‪ ،‬وفي ترتيب السور خًلف بين العلماء‪ :‬هل هو بنفس ترتيب‬
‫السور اآلن أم مختلف؟‬
‫أما جمع عثمان فكان مرتب اآليات ومرتب السور على ما هو عليه اآلن‪.‬‬
‫‪ o‬الفرق الرابع‪ :‬جمع أبي بكر كان في مصحف واحد‪.‬‬
‫أما جمع عثمان تم فيه نسخ عدة نسخ وإرسالها إلى األمصار‪.‬‬
‫أما أبو بكر فجمع مصحفا واحدا‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الضابط الخامس‪( :‬ترتيب اآليات والسور توقيفي)‪.‬‬
‫نقول‪ :‬انعقد اإلجماع على أن ترتيب اآليات في السورة كان بتوقيف من النبي ﷺ‪.‬‬
‫وممن حكى اإلجماع اإلمام الزركشي في [البرهان] والسيوطي في [اإلتقان]‪.‬‬
‫قال الزرقاني‪ :‬انعقد اإلجماع على أن ترتيب اآليات في السورة كان بتوقيف من النبي ﷺ عن اهلل تعالى وأنه ال‬
‫مجال للرأي واالجتهاد فيه ولم يعلم في ذلك مخالف‪ ،‬فقد كان جبريل ينزل باآليات على رسول اهلل ﷺ ويرشده‬

‫‪76‬‬
‫إلى موضعها من السورة أو اآليات التي نزلت قبلها فيأمر الرسول ﷺ كتبة الوحي بكتابتها في موضعها‪ ،‬ويقول لهم‬
‫ضعوا هذه اآليات في السورة التي يذكر فيها كذا أو كذا أو ضعوا آية كذا في موضع كذا‪.‬‬
‫كما بلغها أصحابه كذلك‪ ،‬فعن عثمان بن أبي العاص ‪‬قال‪ :‬كنت جالسا عند رسول اهلل ﷺ إذ شخص ببصره‬
‫ثم صوبه (وهذا الوصف هو وصفه ﷺ في بعض أحواله حينما كان يأتيه الوحي) ثم قال (أي بعد مدة) النبي‬
‫ان َوإِيتَ ِاء‬
‫اإلحس ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ﷺ‪" :‬أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه اآلية هذا الموضع من هذه السورة‪﴿ :‬إ َّن اهللَ يَأ ُْم ُر بال َْع ْدل َو ِْ ْ َ‬
‫ِذي الْ ُق ْربَى﴾ إلى آخرها‪.‬‬
‫أما ترتيب السور ففيه خًلف‪.‬‬
‫والراجح أنه كان بتوقيف أيضا ألن العلماء قالوا إن إجماع الصحابة على مصحف عثمان ال يكون إال عن توقيف من‬
‫النبي ﷺ إذ لو كان عن اجتهاد لتمسك كل واحد منهم باجتهاده‪.‬‬
‫وعلى كل حال‪ ،‬سواء كان بتوقيف من النبي ﷺ أو كان من عمل الصحابة فهو عمل عثمان ‪ ،‬وعثمان بن‬
‫عفان ‪‬خليفة راشد‪.‬‬
‫وقد قال رسول اهلل ﷺ‪" :‬عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"‪.‬‬
‫وقد أجمع الصحابة على هذا الترتيب فهو توقيفي ال يسع أحدا مخالفته بالنص واإلجماع‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪( :‬أركان القراءة الصحيحة)‪:‬‬


‫نقل القرآن إلينا أيها األحباب الكرام بالتواتر حيث رواه الجمع من القراء الذين يستحيل تواطؤهم على الكذب عن‬
‫شيوخهم عن شيوخهم ويظل السند متسلسًل متصًل حتى يصل إلى رسول اهلل ﷺ‪ .‬ولذلك العلماء استقرأوا القراءة‬
‫الصحيحة للقرآن فوجدوا أن القراءة ال تُ ُّ‬
‫عد صحيحةا عند أهل األداء والقراءة إال إذا توفرت فيها ثًلثة أركان‪:‬‬
‫‪ -‬الركن األول‪ :‬موافقة العربية‪.‬‬
‫‪ -‬والركن الثاني‪ :‬موافقة الرسم العثماني‪.‬‬
‫‪ -‬والركن الثالث‪ :‬صحة السند‪.‬‬
‫وقد جمع اإلمام ابن الجزري في هذه األركان أبياتا في طيبة النشر فقال‪:‬‬
‫وكان للرسم احتماال يحوي‬ ‫وكل ما وافق وجه نحوي‬
‫فهذه الثًلثة األركا ُن‬ ‫وصح إسنادا هو القرآ ُن‬
‫ِ‬
‫السبعة‬ ‫شذوذه لو أنه في‬ ‫وحيث ما يختل ركن ِ‬
‫اثبت‬

‫‪ ‬الركن األول‪ :‬موافقة القراءة للعربية بوجه من الوجوه سواء أكان هذا الوجه فصيحا أو أفصح‪ .‬ألن القراءة سنة متبعة‬
‫يلزم قبولها والمصير إليها باإلسناد ال بالرأي‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫‪ ‬الركن الثاني‪ :‬أن توافق القراءة أحد المصاحف العثمانية ولو احتماال‪ ،‬ألن الصحابة في كتابة المصاحف العثمانية‬
‫اجتهدوا في الرسم على حسب ما عرفوا من لغات القراءة فكتبوا "الصراط" مثًل في قوله ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾‬
‫بالصاد المبدلة بالسين وعدلوا عن السين التي هي األصل لتكون قراءة السين الصراط وإن خالفت الرسم من وجه فقد‬
‫أتت على األصل اللغوي المعروف فيعتدالن وتكون قراءة اإلشمام التي هي بين السين والصاد محتملة لذلك والمراد‬
‫بالموافقة االحتمالية ما يكون من نحو هذا كقراءة ﴿مالك يوم الدين﴾ فان لفظة "مالك" كتبت في جميع المصاحف‬
‫بحذف االلف وتقرأ "ملك" وهي توافق الرسم تحقيقا وتقرأ "مالك" وهي توافقه احتماال‪ ..‬وهكذا في غير ذلك من‬
‫األمثلة‪.‬‬
‫ومثال ما يوافق اختًلف القراءات الرسم تحقيقا‪" :‬تعلمون" بالتاء والياء‬
‫ويغفر لكم بالياء والنون نغفر لكم‪ ،‬ونحو ذلك مما يدل تجرده عن النقط والشكل في حذفه وإثباته على فضل عظيم‬
‫للصحابة ‪‬في علم الهجاء خاصة وفهم ثاقب في تحقيق كل علم‪.‬‬

‫‪ ‬الركن الثالث‪ :‬أن تكون القراءة مع ذلك صحيحة اإلسناد ألن القراءة سنة متبعة يعتمد فيها على سًلمة النقل وصحة‬
‫الرواية وكثيرا ما ينكر أهل العربية قراءة من القراءات لخروجها عن القياس أو لضعفها في اللغة وال يحفل أئمة القراءة‬
‫بإنكارهم شيئا إال أن القراءة الصحيحة يعني صحيحة السند إن خالفت القراءة المتواترة فإن القراءة المتواترة يؤخذ بها‬
‫وتظل القراءة صحيحة اإلسناد تظل تصح تفسيرا وال تصح قراءةا‪.‬‬

‫(األحرف السبعة والقراءات السبعة)‬


‫هل القراءات السبعة هي األحرف السبعة أم أنها ليست هي األحرف السبعة؟‬
‫الجواب على ذلك يتضح فيما نذكر‪:‬‬
‫أخرج البخاري ومسلم في صحي حيهما عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال‪ :‬سمعت عمر بن الخطاب يقول‪ :‬سمعت‬
‫هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها وكان رسول اهلل ﷺ أقرأنيها فكدت أن أعجل عليه‬
‫ثم أمهلته حتى شرف ثم لببته بردائه فجئت به رسول اهلل ﷺ (أي أمسكته من طوق الثوب وأعًله) فقلت‪ :‬يا‬
‫رسول اهلل إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها‪.‬‬
‫فقال رسول اهلل ﷺ‪ :‬أرسله يا عمر‪ .‬اقرأ فقرأ القراءة التي سمعته يقرأها‪.‬‬
‫فقال رسول اهلل ﷺ‪ :‬هكذا أنزلت‪.‬‬
‫ثم قال‪ :‬اقرأ يا عمر‪ .‬فقرأت فقال‪ :‬هكذا أنزلت‪ .‬إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه"‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء في األحرف السبعة‪:‬‬
‫هل هي سبع لغات؟ أم سبعة أوجه من األمر والنهي والوعد والوعيد؟‬

‫‪78‬‬
‫والصحيح أنها سبع لغات ولهجات للعرب وكان هذا من تيسير اهلل عز وجل لعباده في صدر اإلسًلم أن ينزل القرآن‬
‫باألحرف واللغات واللهجات التي يتكلم بها العرب جميعا حتى يسهل عليهم دخول اإلسًلم وقراءة القرآن‪.‬‬
‫أما القراءات فهي أوجه وطرق لكيفية النطق وطرق األداء من تفخيم وترقيق وإمالة وغيرها‪ ،‬وجميعها في حرف واحد‬
‫وهو حرف قريش‪.‬‬
‫فكل القراءات السبعة وما صح سنده على حرف واحد وهذا على الصحيح من أقوال أهل العلم‪.‬‬

‫أسئلة الدرس‪:‬‬

‫األسئـ ـلة‬
‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬جمع القرآن في عهد رسول اهلل ﷺ بطريقتين فما هما؟‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬كيف جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ‪‬؟‬
‫‪ -‬السؤال الثالث‪ :‬ما السبب في جمع عثمان ‪‬للقرآن؟ وما الفرق بين جمع عثمان‬
‫وبين جمع أبي بكر ‪‬؟‬
‫‪ -‬السؤال الرابع‪ :‬القراءة الصحيحة لها أركان ثًلثة‪ .‬اذكرها‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال األخير‪ :‬ما الفرق بين األحرف السبعة والقراءات السبعة؟‬

‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل خيرا وبارك فيكم وأحسن إليكم‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫المحاضرة الحاديـة عشرة‬
‫الباب السادس (المحكم والمتشابه)‪:‬‬
‫نقول أيها األحباب الكرام تنتظم هذا الباب المبارك جملة من اآليات‪:‬‬
‫ت ِمن لَّ ُد ْن َح ِكيم َخبِير ۝﴾‬
‫صلَ ْ‬ ‫ُح ِك َم ْ‬
‫ت آيَاتُهُ ثُ َّم فُ ِّ‬ ‫اب أ ْ‬
‫ِ‬
‫أولها قول اهلل تعالى في الكتاب ﴿الر كتَ ٌ‬
‫فاهلل عز وجل يبين في هذه اآلية أن القرآن اُحكمت آياته كلها‪،‬‬
‫ات ُه َّن أ ُُّم‬ ‫اب ِم ْنهُ آيَ ٌ‬
‫ات ُّم ْح َك َم ٌ‬ ‫ويقول ربنا جل وعًل في آية أخرى عن القرآن أيضا‪﴿ :‬هو الَّ ِذي أَنز َل َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َُ‬
‫شابِ َه ٌ‬
‫ات﴾‬ ‫ُخ ُر ُمتَ َ‬
‫اب َوأ َ‬ ‫ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫ففي هذه اآلية يبين اهلل عز وجل أن بعض القرآن محكم وبعضه متشابه‪.‬‬
‫ويقول ربنا عز وجل في موطن آخر عن القرآن ﴿كِتَاباا ُّمتَ َ‬
‫شابِ اها﴾‪.‬‬

‫وهنا يأتي اإلشكال‪ :‬فهل القرآن محكم كله؟ أم إنه متشابه كله؟ أم إن بعضه محكم وبعضه متشابه؟ وما المراد بالمحكم‬
‫والمتشابه؟ كل هذه اإلشكاالت وكل هذه التساؤالت نجد جوابها في هذا الباب إن شاء اهلل تعالى‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الباب السادس‪( :‬المحكم والمتشابه)‪ ،‬وفيه ستة ضوابط‪:‬‬
‫‪ ‬الضابط األول‪( :‬القرآن محكم كله بألفاظه ومعانيه)‬
‫فا لقرآن محكم كله بمعنى اإلتقان والجودة في ألفاظه ومعانيه فالقرآن غاية في الفصاحة والبًلغة‪ ،‬أخباره كلها صدق‬
‫نافعة‪ ،‬ليس فيها كذب وال تناقض وال لغو ال خير فيه‪ ،‬أحكامها كلها عدل وحكمة‪ ،‬ليس فيها جور وال تعارض‪.‬‬
‫فالقرآن كله من أوله ألخره محكم متقن‪.‬‬
‫ت ِمن لَّ ُد ْن َح ِكيم َخبِير ۝﴾‬
‫صلَ ْ‬ ‫ُح ِك َم ْ‬
‫ت آيَاتُهُ ثُ َّم فُ ِّ‬ ‫اب أ ْ‬
‫ِ‬
‫قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬الر كتَ ٌ‬
‫فَعيل بمعنى ُم ْف َعل‪ ،‬حكيم بمعنى محكم أي متقن‪.‬‬
‫وقال تعالى‪﴿ :‬إِنَّا َج َعلْنَاهُ قُـ ْرآناا َع َربِيًّا لَّ َعلَّ ُك ْم تَـ ْع ِقلُو َن﴾‬
‫يم﴾‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْكتَ ِ‬ ‫وقال جل وعًل‪﴿ :‬وإِنَّهُ فِي أ ُِّم ال ِ‬
‫اب لَ َديْـنَا لَ َعلي َحك ٌ‬ ‫َ‬
‫أي محكم‪ .‬فالقرآن محكم كله وهذا اإلحكام يسميه العلماء (اإلحكام العام)‬
‫(اإلحكام العام) وهو اإلتقان والجودة في األلفاظ والمعاني وعلى هذا المعنى فالقرآن كله محكم أي كله متقن بألفاظه‬
‫ومعانيه ال شك فيه وال ارتياب‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الثاني‪( :‬القرآن متشابه كله في الكمال والجودة)‬


‫والمتشابه في اللغة مأخوذ من التشابه وهو أن يشبه أحد الشيئين اآلخر‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫(والشبهة) هي أال يتميز أحد الشيئين من اآلخر لما بينهما من التشابه‪ ،‬عينا كان أو معنى‪.‬‬
‫ِ‬ ‫كما في قوله تعالى ﴿ َوأُتُوا بِ ِه ُمتَ َ‬
‫َّرةٌ﴾‬ ‫شابِ اها َولَ ُه ْم ف َيها أَ ْزَو ٌ‬
‫اج ُّمطَه َ‬
‫طعما وحقيقةا‪.‬‬
‫أي أتوا بثمار الجنة يشبه بعضها بعضا لوناا ال ا‬
‫وقيل المتشابه‪ :‬المتماثل في الكمال والجودة‪.‬‬
‫ضا‪.‬‬
‫وتشابه الكًلم هو تماثله وتناسبه بحيث يصدق بعضه بع ا‬
‫يث كِتَاباا ُّمتَ َ‬
‫شابِ اها﴾‬ ‫َحسن الْح ِد ِ‬
‫وقد وصف اهلل القرآن كله بأنه متشابه على هذا المعنى فقال عز وجل‪﴿ :‬اهللُ نَـ َّز َل أ ْ َ َ َ‬
‫فالقرآن كله متشابه‪:‬‬
‫ضا‬
‫يعني متشابه في األحكام‪ ،‬متشابه في الكمال‪ ،‬متشابه في الجودة‪ ،‬متشابه فى الغايات الحميدة‪ ،‬يصدق بعضه بع ا‬
‫في المعنى ويماثله‪.‬‬
‫فإذا أمر اهلل في القرآن بأمر في موضع لم يأمر بنقيضه فى موضع آخر وإنما يأمر به أو بنظيره وكذلك الشأن فى‬
‫نواهيه وأخباره فًل تضاد فيه وال اختًلف‪.‬‬
‫اهلل لََو َج ُدوا فِ ِيه ا ْختِ ًَلفاا َكثِ ايرا﴾‪.‬‬ ‫كما يقول ربنا جل وعًل‪﴿ :‬ولَو َكا َن ِمن ِع ِ‬
‫ند غَْي ِر ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ‬
‫فالعقائد تؤسس لألحكام‪ ،‬واألحكام تتسق مع العقائد وال تختلف وال تتعارض‪ ،‬وكذا األخبار فكله أي القرآن من أوله‬
‫إلى آخره على غاية الكمال ال اختًلف فيه وال اختًلل وهذا هو تشابه القرآن‪.‬‬
‫ضا من أوله إلى آخره على نسق واحد من الكمال والجودة وهذا التشابه الذي مر معنا يسميه‬
‫أي أنه يشبه بعضه بع ا‬
‫العلماء (التشابه العام) أي تشابه القرآن كله في الكمال والجودة‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الثالث‪( :‬من القرآن آيات محكمات ال خفاء في معانيها)‬


‫اب﴾‪.‬‬ ‫ات ه َّن أ ُُّم ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫اب ِم ْنهُ آيَ ٌ‬
‫ات ُّم ْح َك َم ٌ ُ‬
‫قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬هو الَّ ِذي أَنز َل َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َُ‬
‫(واإلحكام) هنا هو وضوح المعنى وعدم خفائه فاآلية المحكمة هي اآلية الواضحة البينة لكل الناس [هو الذي أنزل‬
‫عليك الكتاب منه] أي بعضه [آيات محكمات]‪ ،‬أي واضحات بينات لعموم الناس [هن أم الكتاب] أي هذه اآليات‬
‫هي أصل الكتاب ومعظم الكتاب وهي المرجع الذي يرجع إليه عند االختًلف ويرجع إليه عند التشابه‪.‬‬
‫وهذا اإلحكام يسمى (اإلحكام الخاص) وهو وضوح معاني بعض آيات القرآن بحيث ال يخفى شيء من معانيها على‬
‫عموم الناس‪.‬‬
‫ومن المحكم الخاص على هذا المعنى‪.‬‬
‫َّاس إِنَّا َخلَ ْقنَا ُكم ِّمن ذَ َكر َوأُنثَى َو َج َعلْنَا ُك ْم ُشعُوباا َوقَـبَائِ َل لِتَـ َع َارفُوا إِ َّن أَ ْك َرَم ُك ْم‬
‫أي واضح المعنى‪ :‬كقوله تعالى ﴿يَا أَيـُّ َها الن ُ‬
‫يم َخبِ ٌير﴾‪.‬‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عن َد اللَّه أَتْـ َقا ُك ْم إِ َّن اللَّهَ َعل ٌ‬

‫‪81‬‬
‫هذه اآلية ال تحتاج إلى علماء يفسرونها إنما هي واضحة لعموم الناس‪.‬‬
‫ومن األمثلة أيضا على المحكم الخاص بهذا المعنى‪:‬‬
‫ين ِمن قَـ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَـتَّـ ُقو َن﴾‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬يَا أَيـُّ َها الن ُ‬
‫َّاس ا ْعبُ ُدوا َربَّ ُك ُم الذي َخلَ َق ُك ْم َوالذ َ‬
‫َح َّل اللَّهُ الْبَـ ْي َع﴾‬
‫من األمثلة أيضا على اإلحكام الخاص‪ :‬قوله تعالى ﴿ َوأ َ‬
‫ْخن ِزي ِر َوَما أ ُِه َّل لِغَْي ِر اللَّ ِه بِ ِه﴾‬
‫الدم ولَحم ال ِ‬
‫ت َعلَْي ُك ُم ال َْم ْيتَةُ َو َّ ُ َ ْ ُ‬
‫وكذلك‪ :‬قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ح ِّرَم ْ‬
‫واألمثلة على ذلك كثيرة فمعظم القرآن من هذا القسم‪.‬‬

‫الضابط الرابع‪( :‬من القرآن آيات متشابهات في الفهم يفهمها الراسخون في العلم بردها إلى المحكم)‬
‫وفي هذا الضابط كًلم على (التشابه الخاص)‪.‬‬
‫يوضح المصنف هنا غفر اهلل له معنى التشابه الخاص فى القرآن فتعالوا معنا ليتضح لنا هذا المعنى‪:‬‬
‫شابِ َه ٌ‬
‫ات﴾‬ ‫ُخ ُر ُمتَ َ‬
‫اب َوأ َ‬ ‫ات ه َّن أ ُُّم ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫قال اهلل تعالى عن القرآن‪ِ ﴿ :‬م ْنهُ آيَ ٌ‬
‫ات ُّم ْح َك َم ٌ ُ‬
‫(فالتشابه) هنا بمعنى عدم وضوح المعنى لجميع األمة فيحصل الخلط عند بعض الناس في فهم معانيه‪.‬‬
‫مشتبها خفياا في التشابه الخاص بحيث‬
‫ا‬ ‫وهذا [التشابه الخاص] يقابل [اإلحكام الخاص]‪ ،‬فقد يكون معنى اآلية‬
‫يتوهم منه الواهم ما ال يليق باهلل تعالى أو كتابه أو رسوله ﷺ ويفهم منه العالم الراسخ في العلم خًلف ذلك‪.‬‬
‫مثال فيما يتعلق باهلل تعالى أن يتوهم واهم‪ :‬من قوله تعالى ﴿بل ي َداهُ م ْبسوطَتَ ِ‬
‫ان﴾‪.‬‬ ‫َْ َ َ ُ‬
‫أن هلل يدين مماثلتين أليدي المخلوقين‪.‬‬
‫ك ِم ْن‬ ‫َصابَ َ‬
‫ضا حين يقول‪َ ﴿ :‬ما أ َ‬ ‫ومثاله ما يتعلق بكتاب اهلل تعالى أن يتوهم واهم تناقض القرآن وتكذيب بعضه بع ا‬
‫ك ﴾‪،‬‬ ‫ك ِمن َسيِّئَة فَ ِمن نَّـ ْف ِس َ‬ ‫َصابَ َ‬ ‫ِ ِ‬
‫سنَة فَم َن اهلل َوَما أ َ‬
‫َح َ‬
‫صبـهم سيِّئَةٌ يـ ُقولُوا ه ِذهِ ِمن ِع ِ‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ند َك قُ ْل ُك ٌل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ويقول فى موضع آخر‪َ ﴿ :‬وإِن تُص ْبـ ُه ْم َح َسنَةٌ يَـ ُقولُوا َهذه م ْن عند اللَّه َوإِن تُ ْ ُ ْ َ َ‬
‫ند ِ‬
‫اهلل﴾‬ ‫ِّمن ِع ِ‬
‫ْ‬
‫فيظنون أن القرآن يكذب بعضه بعضا ويعارض بعضه بعضا‪.‬‬
‫ك فَ ِ َّ ِ‬ ‫نت فِي َش ٍّ‬
‫ين‬ ‫َنزلْنَا إِلَْي َ ْ‬
‫اسأَل الذ َ‬ ‫ك ِّم َّما أ َ‬ ‫ومثاله فيما يتعلق بالرسول ﷺ أن يتوهم واهم من قوله تعالى‪﴿ :‬فَِإن ُك َ‬
‫ِ‬ ‫ْح ُّق ِمن َّربِّ َ‬ ‫اب ِمن قَـ ْب ِل َ‬ ‫ِ‬
‫ك فَ ًَل تَ ُكونَ َّن م َن ال ُْم ْمتَ ِر َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫اء َك ال َ‬
‫ك لََق ْد َج َ‬ ‫يَـ ْق َرءُو َن الْكتَ َ‬
‫فيقولون بأن ظاهره أن النبي ﷺ كان شا اكا فيما أنزل إليه‪.‬‬

‫يقول المصنف غفر اهلل له‪" :‬من القرآن آيات مشتبهات في الفهم يفهمها الراسخون في العلم بردها إلى المحكم"‪.‬‬
‫فموقف الراسخين في العلم من المتشابه بينه اهلل عز وجل مع موقف الزائغين منه‪:‬‬
‫اء تَأْ ِويلِ ِه﴾‪.‬‬ ‫شاب َه ِم ْنهُ ابْتِغَ ِ ِ ِ‬ ‫فقال تعالى في الزائغين‪﴿ :‬فَأ ََّما الَّ ِذ ِ‬
‫اء الْف ْتـنَة َوابْتغَ َ‬
‫َ‬ ‫ين في قُـلُوبِ ِه ْم َزيْ ٌغ فَـيَتَّبِعُو َن َما تَ َ َ‬
‫َ‬

‫‪82‬‬
‫اس ُخو َن فِي ال ِْعل ِْم يـ ُقولُو َن آمنَّا بِ ِه ُكل ِّمن ِع ِ‬
‫ند َربِّـنَا﴾‪.‬‬ ‫الر ِ‬
‫وقال في الراسخين في العلم‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فالزائغون يتخذون من هذه اآليات المشتبهات وسيلة للطعن في كتاب اهلل وفتنة الناس عنه وتأويله لغير ما أراد اهلل به‬
‫فيضلون ويضلون‪.‬‬
‫وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بأن ما جاء في كتاب اهلل تعالى فهو حق وليس فيه اختًلف وليس فيه تناقض ألنه من‬
‫عند اهلل فكيف فالمتكلم به هو اهلل جل وعًل‪ ،‬فكيف يكون مصدره واح ادا ويكون فيه تناقض واختًلف؟‬
‫والرب الذي تكلم بالقرآن هو الرب العليم الحكيم سبحانه وتعالى وهو الذي أنزل على عبده ونبيه ورسوله محم ادا‬
‫اهلل لََو َج ُدوا فِ ِيه ا ْختِ ًَلفاا َكثِ ايرا﴾‪.‬‬ ‫ﷺ قوله‪﴿ :‬ولَو َكا َن ِمن ِع ِ‬
‫ند غَْي ِر ِ‬
‫ْ‬ ‫َْ‬
‫فالراسخون في العلم يردون ما جاء مشتبها‪ ،‬يردونه إلى المحكم ليكون الجميع محكما‪.‬‬
‫فيقول الراسخون في العلم في المثال األول الذي اشتبه على الزائغين‪:‬‬
‫يقولون إن اهلل تعالى له يدين حقيقيتين على ما يليق بجًلله وعظمته ويداه ال تماثًلن أيدي المخلوقين كما أن له ذات‬
‫ال تماثل ذوات المخلوقين‪.‬‬
‫وقالوا قولهم هذا حينما ردوا هذه اآلية التي تشتبه على بعض الناس حينما ردوها إلى المحكم فيردون آيات الصفات‬
‫س َك ِمثْلِ ِه‬
‫مثل قوله تعالى ﴿بل يداه مبسوطتان﴾ يردونها إلى اآلية المحكمة من سورة الشورى وهي قوله تعالى ﴿لَْي َ‬
‫الس ِميع الْب ِ‬
‫ص ُير﴾‪.‬‬ ‫َش ْيءٌ َو ُه َو َّ ُ َ‬
‫ويقول الراسخون في العلم أيضا في المثال الثاني‪:‬‬
‫إن الحسنة والسيئة كلتاهما بتقدير اهلل عز وجل لكن الحسنة سببها التفضل من اهلل تعالى على عباده وأما السيئة‬
‫ت أَيْ ِدي ُك ْم َويَـ ْع ُفو َعن َكثِير﴾‪.‬‬ ‫فسببها فعل العبد كما قال تعالى ﴿وما أَصاب ُكم ِّمن ُّم ِ‬
‫صيبَة فَبِ َما َك َسبَ ْ‬ ‫ََ َ َ‬
‫فإضافة السيئة إلى العبد من باب [إضافة الشيء إلى سببه] ال من إضافته إلى مقدره‪.‬‬
‫إما إضافة الحسنة والسيئة إلى اهلل فمن باب [إضافة الشيء إلى مقدره]‪.‬‬
‫واهلل عز وجل تضاف إليه الحسنة والسيئة ألنه هو الذي قدرها سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫أما إضافة السيئة إلى العبد فألنه سبب فيها وبهذا يزول ما يوهم االختًلف بين اآليتين النفكاك الجهة‪.‬‬
‫ويقول الراسخون في العلم في المثال الثالث‪ :‬إن النبي ﷺ لم يقع منه شك فيما أنزل إليه بل هو أعلم الناس به‬
‫َّ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّاس إِن ُكنتُ ْم فِي َش ٍّ‬
‫ك ِّمن ديني فَ ًَل أَ ْعبُ ُد الذ َ‬
‫ين‬ ‫وأقواهم يقيناا فيه كما قال اهلل تعالى في نفس السورة ﴿قُ ْل يَا أَيـُّ َها الن ُ‬
‫تَـ ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫ون اللَّ ِه﴾‬ ‫ُ‬
‫فالمعنى‪ :‬إن كنت إن كنتم فى شك منه فأنا على يقين منه ولهذا ال أعبد الذين تعبدون من دون اهلل بل أكفر بهم‬
‫وأعبد اهلل جل وعًل‪.‬‬

‫َنزلْنَا إِلَْي َ‬
‫ك﴾ أن يكون الشك جائزا على الرسول ﷺ أو واقعا منه‪.‬‬ ‫نت فِي َش ٍّ‬
‫ك ِّم َّما أ َ‬ ‫وال يلزم من قوله‪﴿ :‬فَِإن ُك َ‬

‫‪83‬‬
‫ِِ‬ ‫أال ترى قوله تعالى‪﴿ :‬قُ ْل إِن َكا َن لِ َّ‬
‫لر ْح َم ِن َولَ ٌد فَأَنَا أ ََّو ُل ال َْعابد َ‬
‫ين﴾‬
‫حاصًل؟‬
‫ا‬ ‫جائزا على اهلل تعالى أو‬
‫هل يلزم منه أن يكون الولد ا‬
‫حاصًل وال جائزا على اهلل تعالى‪.‬‬ ‫ا‬ ‫كًل ال يلزم ‪ ،‬فهذا لم يكن‬
‫ض إَِّال آتِي َّ‬
‫الر ْح َم ِن َع ْب ادا﴾‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َو ْاأل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لر ْح َم ِن أَن يَـتَّخ َذ َولَ ادا (‪ )92‬إِن ُك ُّل َمن في َّ َ َ‬ ‫فإن اهلل يقول‪َ ﴿ :‬وَما يَنبَ ِغي لِ َّ‬
‫ِ‬
‫واقعا من الرسول ﷺ ألن النهي عن الشيء‬ ‫ين﴾ أن يكون االمتراء ا‬ ‫وال يلزم من قوله تعالى ﴿فَ ًَل تَ ُكونَ َّن م َن ال ُْم ْمتَ ِر َ‬
‫ع إِلَى َربِّ َ‬
‫ك َوَال‬ ‫ك َوا ْد ُ‬ ‫ات اللَّ ِه بَـ ْع َد إِ ْذ أُن ِزلَ ْ‬
‫ت إِلَْي َ‬ ‫ك َعن آي ِ‬
‫ص ُّدنَّ َ ْ َ‬
‫قد يوجه إلى من لم يقع منه أال ترى قوله تعالى ﴿ َوَال يَ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تَ ُكونَ َّن م َن ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنهم لم يصدوا النبي ﷺ عن آيات اهلل وأن النبي ﷺ لم يقع منه شرك‪.‬‬
‫والغرض من توجيه النهي إلى من ال يقع منه‪ :‬التنديد بمن وقع منهم والتحذير بمنهاجهم‪ .‬وبهذا يزول االشتباه وظن ما‬
‫ال يليق بالرسول ﷺ‪.‬‬

‫وهنا مسألة‪ :‬ما هي أنواع التشابه الواقع في القرآن؟‬


‫الجواب على هذا السؤال التشابه الواقع في القرآن نوعان‪.‬‬
‫وقبل أن نذكر النوعين نؤكد على معنى التشابه المقصود هنا بنوعيه‪:‬‬
‫(فالتشابه) معناه هو عدم وضوح المعنى لنا‪.‬‬
‫فالتشابه بهذا المعنى في القرآن نوعان‪:‬‬
‫‪ ‬النوع األول‪( :‬تشابه حقيقي)‪.‬‬
‫وهو ما ال يمكن أن يعلمه البشر يعني يقع هذا التشابه وعدم وضوح المعنى لنا‪ ،‬يقع فيما ال يمكن أن يعلمه‬
‫البشر كحقائق وكيفيات صفات اهلل فإننا نعلم الصفات التي أعلمنا اهلل إياها في القرآن وأعلمنا إياها نبيه عليه‬
‫الصًلة والسًلم في سنته الصحيحة نعلم معناها لكننا ال نعلم كيفيتها‪.‬‬
‫كما قال إمامنا اإلمام مالك رحمةَ اهلل عليه إمام دار الهجرة حينما قال‪" :‬االستواء معلوم والكيف مجهول"‪.‬‬
‫االستواء معلوم المعنى وكيفية االستواء مجهولة المعنى ال نعلمها فإننا وإن كنا ال نعلم معاني الصفات لكننا ال‬
‫ندرك حقيقتها وكيفيتها فإن ربنا جل وعًل لم يطلعنا عليها ولم يخبرنا عن كيفيتها وليس لنا علم نطلع به على‬
‫كيفية صفات اهلل‪.‬‬
‫كيف واهلل جل وعًل يقول ﴿ َوَال يُ ِحيطُو َن بِ ِه ِعل اْما﴾‬
‫ص َار َو ُه َو اللَّ ِط ُ‬
‫يف الْ َخبِ ُير﴾ سبحانه وتعالى‪.‬‬ ‫ار َو ُه َو يُ ْد ِر ُك ْاألَبْ َ‬
‫صُ‬ ‫ويقول ﴿ َّال تُ ْد ِرُكهُ ْاألَبْ َ‬
‫وهذا النوع ال يسأل عن استكشافه لتعذر الوصول إليه وهو كيفيات الصفات‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫‪ ‬النوع الثاني من التشابه‪ :‬وهو (تشابه نسبي)‪.‬‬
‫مشتبها على بعض الناس دون بعض‪ .‬فيكون معلوما للراسخين في العلم دون غيرهم‪ .‬وهذا النوع‬
‫ا‬ ‫وهو ما يكون‬
‫يُسأل عن استكشافه وبيانه بخًلف النوع األول إلمكان الوصول إليه إذ ال يوجد في القرآن شيء ال يتبين‬
‫َّاس وه ادى ومو ِعظَةٌ لِّل ِ‬
‫ين﴾‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫معناه ألحد من الناس‪ ،‬كما قال تعالى‪َ ﴿ :‬ه َذا بَـيَا ٌن لِّلن ِ َ ُ َ َ ْ‬
‫واضحا مبيناا‪.‬‬ ‫ا‬ ‫فالقرآن أنزله اهلل بيناا‬
‫اب تِْبـيَاناا لِّ ُك ِّل َش ْيء﴾ إيضاحا وبيانا‪.‬‬ ‫وقال جل وعًل ﴿ونَـ َّزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وقال جل وعًل‪﴿ :‬فَِإذَا قَـ َرأْنَاهُ فَاتَّبِ ْع قُـ ْرآنَهُ ۝ ثُ َّم إِ َّن َعلَْيـنَا بَـيَانَهُ﴾‬
‫ورا ُّمبِيناا﴾‬
‫َنزلْنَا إِلَْي ُك ْم نُ ا‬
‫اء ُكم بـُ ْرَها ٌن ِّمن َّربِّ ُك ْم َوأ َ‬ ‫وقال جل وعًل‪﴿ :‬يَا أَيـُّ َها الن ُ‬
‫َّاس قَ ْد َج َ‬

‫وأمثلة هذا النوع كثيرة في القرآن‪:‬‬


‫س َك ِمثِْل ِه َش ْيءٌ﴾‬
‫منها‪ :‬قوله تعالى ﴿لَْي َ‬
‫فهذه اآلية اشتبهت على أهل التعطيل ففهموا منها انتفاء الصفات عن اهلل ألنه ليس كمثله شيء‪ ،‬وغيره أي‬
‫غير اهلل عز وجل من الخلق لهم صفات واهلل ليس كمثله شيء يعنى ليس له صفات‪.‬‬
‫ا ّدعوا أن إثباتهم للصفات يستلزم المماثلة وأعرضوا عن اآليات الكثيرة الدالة على ثبوت الصفات هلل عز وجل‬
‫وإن إثبات أصل المعنى ال يستلزم المماثلة‪.‬‬
‫ب اللَّهُ َعلَْي ِه َولَ َعنَهُ َوأ َ‬
‫َع َّد لَهُ َع َذاباا‬ ‫ِ‬ ‫ومنها‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬ومن يـ ْقتُل م ْؤِمناا ُّمتَـع ِّم ادا فَجزا ُؤهُ جهن ِ ِ‬
‫َّم َخال ادا ف َيها َوغَض َ‬
‫ََ ََ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ ْ ُ‬
‫يما﴾‬ ‫ِ‬
‫َعظ ا‬
‫اشتبه على الوعيدية ففهموا من هذه اآلية أن قاتل المؤمن عم ادا مخلد في النار وأطردوا ذلك في جميع‬
‫أصحاب الكبائر وساووا الكبائر ببعضها وأعرضوا عن اآليات الدالة على أن كل ذنب دون الشرك فهو تحت‬
‫مشيئة اهلل تعالى‪.‬‬

‫ومن األمثلة أيضا على ذلك‪:‬‬


‫ك فِي كِتَاب إِ َّن َذلِ َ‬
‫ك َعلَى اللَّ ِه يَ ِس ٌير﴾‬ ‫الس َم ِاء َو ْاأل َْر ِ‬
‫ض إِ َّن َذلِ َ‬ ‫َن اللَّ َه يَـ ْعلَ ُم َما فِي َّ‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬أَلَ ْم تَـ ْعلَ ْم أ َّ‬
‫اشتبهت هذه اآلية على الجبرية ففهموا منها أن العبد مجبور على عمله وا ّدعوا أنه ليس له إرادة وال قدرة‬
‫عليه‪.‬‬
‫وأعرضوا عن اآليات الدالة على أن للعبد إرادة وقدرة وأن فعل العبد نوعان‪ :‬اختياري وغير اختياري‪.‬‬
‫يخرجون هذه‬
‫وأما الراسخون في العلم أصحاب العقول النيرة التي اهتدت بهدي ربها جل وعًل يعرفون كيف ّ‬
‫اآليات المتشابهة إلى معنى يتًلءم مع اآليات األخرى فيظل ويبقى القرآن كله محكما ال اشتباه فيه‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬ما هي الحكمة من تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه؟‬
‫لماذا لم ينزل اهلل عز وجل القرآن كله محكما واضحا لجميع األمة ال اشتباه فيه وال ارتياب على أحد من أفرادها؟‬
‫وللجواب على هذا السؤال نقول‪ :‬لو كان القرآن كله محكما لفاتت الحكمة من االختبار به تصديقا وعمًل لظهور‬
‫معناه وعدم المجال لتحريفه‪.‬‬
‫ولو كان كله متشابها لفات كونه بيانا وهدى للناس ولما أمكن العمل به وبناء العقيدة السليمة عليه‪ .‬لكن اهلل جل وعًل‬
‫بحكمته جعل منه آيات محكمات يرجع العلماء إليهن عند التشابه وأخر متشابهات امتحاناا للعباد ليتبين صادق‬
‫اإليمان ممن في قلبه زيغ‪ .‬فإن صادق اإليمان يعلم أن القرآن كله من عند اهلل وما كان من عند اهلل فهو حق وال يمكن‬
‫يل ِّم ْن َح ِكيم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ ِ ِ‬
‫أن يكون فيه باطل أو تناقض ألن اهلل الذي أنزله قال‪َ ﴿ :‬ال يَأْتيه الْبَاط ُل من بَـ ْي ِن يَ َديْه َوَال م ْن َخلْفه تَن ِز ٌ‬
‫ح ِميد﴾‪ ،‬وقال‪﴿ :‬ولَو َكا َن ِمن ِع ِ‬
‫ند غَْي ِر اللَّ ِه لََو َج ُدوا فِ ِيه ا ْختِ ًَلفاا َكثِ ايرا﴾‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫سبيًل إلى تحريف المحكم واتباع الهوى في التشكيك في األخبار واالستكبار‬
‫وأما من في قلبه زيغ يتخذ من المتشابه ا‬
‫كثيرا من المنحرفين في العقائد واألعمال يحتجون على انحرافهم بهذه اآليات المتشابهة‪.‬‬
‫على األحكام ولهذا تجد ا‬

‫الضابط الخامس‪( :‬التأويل يأتي على أربعة معان)‪:‬‬


‫التأويل في اللغة‪ :‬هو ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه‪.‬‬
‫واصطًلحا‪ :‬هو رد الكًلم إلى الغاية المرادة منه ببيان معناه أو حصول مقتضاه‪.‬‬

‫والتأويل يأتي في الشرع على أربعة معان‪:‬‬


‫‪ -‬المعنى األول‪( :‬العمل بالنص)‪:‬‬
‫تأويًل‪.‬‬
‫فالعمل بالنص يسمى تأويًل فإذا عمل الرجل بالنص سمي هذا ا‬
‫والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة أم المؤمنين ‪ ‬أنها قالت‪" :‬كان رسول‬
‫اهلل ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"‪ .‬قالت عائشة‪" :‬يتأول‬
‫استَـغْ ِف ْرهُ إِنَّهُ َكا َن تَـ َّواباا﴾‬ ‫سبِّ ْح بِ َح ْم ِد َربِّ َ‬
‫ك َو ْ‬ ‫القرآن" أي يعمل بما أمر به في قوله تعالى ﴿فَ َ‬

‫‪ -‬المعنى الثاني للتأويل في الشرع‪( :‬وقوع الخبر)‪:‬‬


‫تأويًل‪.‬‬
‫تأويًل وجاء في القرآن تسميته ا‬ ‫فإذا وقع األمر الذي أخبر اهلل عز وجل به فهذا أيضا يكون ا‬
‫ول الَّ ِذين نَ ِ‬ ‫كما قال ربنا جل وعًل‪َ ﴿ :‬ه ْل يَنظُُرو َن إَِّال تَأْ ِويلَهُ يَـ ْو َم يَأْتِي تَأْ ِويلُهُ يَـ ُق ُ‬
‫ت ُر ُس ُل َربِّـنَا بِال َ‬
‫ْح ِّق‬ ‫اء ْ‬‫سوهُ من قَـ ْب ُل قَ ْد َج َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ض َّل َع ْنـ ُهم َّما َكانُوا يَـ ْفتَـ ُرو َن﴾‬ ‫اء فَـيَ ْش َفعُوا لَنَا أ َْو نـُ َر ُّد فَـنَـ ْع َم َل غَْيـ َر الذي ُكنَّا نَـ ْع َم ُل قَ ْد َخس ُروا أَن ُف َ‬
‫س ُه ْم َو َ‬ ‫فَـ َهل لنَا من ُش َف َع َ‬
‫ففي هذه اآلية يقول اهلل عز وجل‪ :‬هل ينظرون إال تأويله أي ما ينتظر الكافرون إال تأويله أي إال وقوع ما أُخبروا به من‬
‫العذاب األليم الذي يؤول إليه أمرهم في اآلخرة؟ يوم يأتي تأويله‪ ،‬أي يوم يقع ما أُخبروا به ويأتي ما يؤول إليه األمر من‬

‫‪86‬‬
‫الحساب والثواب والعقاب يوم القيامة يقول الكفار الذين تركوا القرآن وكفروا به في الحياة الدنيا‪ :‬قد تبين لنا اآلن أن‬
‫رسل ربنا قد جاءوا بالحق‪.‬‬
‫فإذا وقعت األخبار مما أخبر اهلل عز وجل بوقوعه قبل قيام الساعة‪ ،‬وغير ذلك ومن أحداث قيام الساعة وأحداث‬
‫اليوم اآلخر الذي هو غيب لنا وقوعه تأويله‪.‬‬
‫يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل‪ ...:‬اآلية‬

‫‪ -‬المعنى الثالث‪( :‬التفسير)‪:‬‬


‫فالتأويل يأتي بمعنى التفسير وهذا المعنى جاء في السنة وكان سائ ادا عند المتقدمين‪.‬‬
‫وأما مجيئه في السنة فمنه قوله ﷺ في ابن عباس ودعائه له‪" :‬اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" أي علمه‬
‫تفسير القرآن وبيان معانيه‪.‬‬
‫وهذا يظهر أيضا جليا فى القرون المتقدمة فإنك حين تنظر مثًل إلى كًلم اإلمام شيخ اإلسًلم اإلمام أبي جعفر محمد‬
‫بن جرير الطبري عليه رحمة اهلل تجد في كًلمه في التفسير يقول‪[ :‬تأويل قوله تعالى كذا وكذا] فتأويله أي تفسيره‪.‬‬

‫‪ -‬المعنى الرابع‪( :‬صرف اللفظ عن ظاهره)‪:‬‬


‫فإذا صرف اللفظ عن المعنى الظاهري إلى معنى خفي آخر فهذا أيضا يسمى تأويًل‪.‬‬
‫وهذا المعنى لم يستعمل إال عند المتأخرين أي صرف اللفظ عن ظاهره لدليل يقتضيه فإننا من جهة الداللة عندنا‬
‫ش َرةٌ َك ِاملَةٌ﴾‬ ‫نصوص قاطعة ليس لها إال معنى واحد وال تحتمل إال معنى واحدا مثل قوله تعالى‪﴿ :‬تِل َ‬
‫ْك َع َ‬
‫فالرقم والعدد [عشرة] ال يحتمل غيره يعني ال يحتمل تسعة وال يحتمل إحدى عشر ال يحتمل إال عشرة‪.‬‬
‫لكن هناك بعض النصوص لها معنيان‪ :‬لها معنى ظاهر قريب إلى الذهن متبادر إليه‪.‬‬
‫ومعنى خفي بعيد‪.‬‬
‫واألصل في حمل األلفاظ أن تحمل على الظاهر وال تحمل على المعنى الخفي إال إذا وجد دليل صحيح يقتضي أن‬
‫يكون المراد هو المعنى البعيد أو الخفي‪ ،‬فحينئذ يتعين حمل اللفظ عليه‪،‬‬
‫احد ِّم ْنـ ُه َما ِمائَةَ َج ْل َدة﴾‬
‫الزانِي فَاجلِ ُدوا ُك َّل و ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫الزانِيَةُ َو َّ‬
‫كما في قوله تعالى‪َّ ﴿ :‬‬
‫حرا أو عب ادا‪.‬‬
‫ظاهر اآلية أن كل زانية وكل زان لم يحصن يجلد كل واحد منهما مئة جلدة حتى ولو كان الزاني والزانية ا‬
‫لكن هذا المعنى غير مراد وهذا المعنى الظاهر مصروف عن ظاهره إلى معنى آخر وهو مصروف بقوله تعالى‪﴿ :‬فَِإ ْن‬
‫ات ِم َن ال َْع َذ ِ‬
‫اب﴾‪.‬‬ ‫ف ما َعلَى الْم ْحصنَ ِ‬
‫ُ َ‬ ‫شة فَـ َعلَْي ِه َّن نِ ْ‬
‫ص ُ َ‬
‫أَتَـين بَِف ِ‬
‫اح َ‬ ‫َْ‬
‫فتبين بهذا أن الجلد هنا لألحرار دون اإلماء‪ ،‬للحرة دون األمة‪.‬‬
‫فإن األمة جاءت آية أخرى صرفتها إلى نصف عذاب وحد الحرة‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الضابط السادس‪( :‬التأويل قسمان فًل يخرج التأويل بهذا المعنى عن قسمين اثنين)‬
‫األول‪ :‬محمود وهو ما دل عليه دليل صحيح التأويل‪.‬‬
‫المقصود في هذا الضابط الخامس هو التأويل على معناه األخير وهو صرف اللفظ عن ظاهر المعنى الذي يستعمله‬
‫المتأخرون‪.‬‬
‫فالتأويل قسمان‪ :‬قسم محمود‪ ،‬وقسم مذموم‪.‬‬
‫‪ ‬القسم المحمود أي الصحيح المقبول يجب العمل به وهو ما دل عليه دليل صحيح أي صحيح من جهة ثبوته‬
‫وصحيح من جهة داللته‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك يتضح معنى التأويل هنا وأنه محمود وأنه مراد‪.‬‬
‫اهلل فَ ًَل تَ ْستَـ ْع ِجلُوهُ﴾ أتى‪ :‬فعل ماض‪.‬‬
‫مثال قوله تعالى في صدر النحل‪﴿ :‬أَتَى أ َْمر ِ‬
‫ُ‬
‫ظاهر اللفظ هذا فعل ماضي يفيد انتهاء الزمن‪ .‬فالمعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن أنه أتى وانتهى أمر اهلل ولكن‬
‫هناك معنى خفيا‪.‬‬
‫فمعنى أتى هنا‪ :‬ليس أتى وانقضى فإن أمر القيامة واليوم اآلخر لم يقع‪.‬‬
‫طيب إذا كان كذلك فما الصارف الذي صرفه عن ذلك؟‬
‫اهلل فَ ًَل تَ ْستَـ ْع ِجلُوهُ﴾‪.‬‬
‫الصارف الذي صرفه عن ذلك في نفس اآلية وفي نفس السياق وهي قوله تعالى‪﴿ :‬أَتَى أ َْمر ِ‬
‫ُ‬
‫فقوله "فًل تستعجلوه" صرف قوله أتى عن ظاهره ألن االستعجال ال يكون إال لما يأتي في المستقبل ولم ِ‬
‫يأت‬
‫بعد‪ ،‬فتبين بهذا أن اهلل عز وجل أتى بهذا اللفظ "أتى أمر اهلل" لبيان أن يوم القيامة آت وأتيانه سريع فًل‬
‫تستعجلوه‪.‬‬

‫الرِج ِيم﴾‪.‬‬
‫ان َّ‬ ‫اهلل ِم َن َّ‬
‫الش ْيطَ ِ‬ ‫استَ ِع ْذ بِ ِ‬ ‫المثال الثاني‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬فَِإ َذا قَـ َرأْ َ‬
‫ت الْ ُق ْرآ َن فَ ْ‬
‫فإذا قرأت القرآن على ظاهر اآلية‪:‬‬
‫قرأت قرأ فعل ماض والتاء تاء الفاعل فظاهر اللفظ أن حينما تقرأ القرآن وتنتهي من قراءته تستعيذ باهلل من‬
‫الشيطان الرجيم عند انتهائك من القراءة وهذا المعنى ليس هو الذي أراده اهلل عز وجل إنما المعنى الذي أراده اهلل‬
‫هو أنك إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ قبل أن تقرأ ال بعد أن تنتهي من القراءة‪.‬‬
‫ودليل ذلك فعل النبي ﷺ الذي امتثل أمر اهلل في هذه اآلية فكان يستعيذ قبل القراءة ال بعد القراءة فكان‬
‫يفعل هذا فى صًلته ﷺ وفى غير صًلته كان يقدم االستعاذة على القراءة‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الثاني أو القسم الثاني من أقسام التأويل‪ :‬المذموم‪.‬‬


‫وهو ما لم يدل عليه دليل صحيح قوله‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫مذموم‪ :‬أي باطل غير مقبول وال يصح العمل به وجدير بأن يسمى تحريفا ال تأويًل‪ ،‬وهو الذي لم يدل عليه دليل‬
‫صحيح سواء من جهة الثبوت أو من جهة الداللة‪.‬‬
‫استَـ َوى﴾‬
‫ش ْ‬‫الر ْح َم ُن َعلَى ال َْع ْر ِ‬
‫مثال قوله تعالى‪َّ ﴿ :‬‬
‫علوا خاصا يليق بجًلله وعظمته‪.‬‬
‫ظاهره أن الرحمن عًل على العرش ا‬
‫أما تأويله‪ :‬أوله بعض المؤولة من األشاعرة وغيرهم والجهمية فقالوا تأويله أن الرحمن على العرش استولى وهذا‬
‫التأويل تأويل باطل وغير صحيح وهو مذموم وهو تحريف للكلم عن مواضعه ألنه ليس عليه دليل صحيح‪.‬‬
‫الس ِميع الْب ِ‬
‫ص ُير﴾ دل ذلك على ثبوت استوائه سبحانه‬ ‫فإذا اجتمع مع ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬لَي ِ ِ ِ‬
‫س َكمثْله َش ْيءٌ َو ُه َو َّ ُ َ‬
‫ْ َ‬
‫استواء يليق بجًلله وعظمته‪ ،‬استواء من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‪.‬‬
‫ا‬ ‫وتعالى على عرشه‬

‫أسئلة الواجب‪:‬‬

‫كًل مما يأتي‪:‬‬


‫السؤال األول‪ :‬عرف ا‬
‫‪ -‬اإلحكام العام والتشابه العام‬
‫‪ -‬اإلحكام الخاص والتشابه الخاص‪.‬‬
‫األسئـ ـلة‬
‫السؤال الثاني‪ :‬اذكر أنواع التشابه في القرآن‪.‬‬
‫السؤال الثالث‪ :‬عرف التأويل لغة واصطًلحا‪.‬‬
‫السؤال الرابع‪ :‬التأويل يأتي على أربعة معان اذكرها‪.‬‬
‫السؤال الخامس‪ :‬التأويل نوعان‪ .‬فما هما؟‬

‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪،‬‬


‫وجزاكم اهلل خيرا وبارك فيكم وأحسن إليكم‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫المحاضرة الثانيـة عشرة‬
‫أقول أيها األحباب الكرام‪ :‬نزل القرآن بلسان عربي مبين واللسان العربي يتميز بقوة بيانه واتساع مادته في تلوين الخطاب‬
‫وبيان المقاصد والغايات ودالالتها على المعاني واألحكام‪.‬‬

‫فمنها ما يكون عاما ومنها ما يكون خاصا وال شك أن لهذا أثر في فهم المعنى فتعالوا بنا لنتعرف على العام والخاص وما هي‬
‫الصيغ الدالة على العموم وما هي الصيغ الدالة على الخصوص وأنواع العموم والخصوص وغير ذلك‪.‬‬
‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الباب السابع‪( :‬العام والخاص)‪ ،‬وفيه ثمانية ضوابط‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط األول‪( :‬العام هو اللفظ المستغرق لجميع أفراده)‪.‬‬


‫‪ -‬العام لغة‪ :‬هو الشامل وهو ضد الخاص وخًلفه‪.‬‬
‫‪ -‬وأما العام اصطًلحا‪ :‬فهو اللفظ المستغرق لجميع أفراده فيشمل كل األفراد التي تدخل في مسمى هذا اللفظ العام‪.‬‬
‫فحينما يقول قائل‪ :‬أكرم الطلبة أو أع ِط الطلبة كتابا‪ ،‬فإكرام الطلبة وإعطاؤهم الكرم والعطاء عام لكل الطلبة غير‬
‫مستثن ألحد‪.‬‬
‫فيقول‪ِ :‬‬
‫أعط الطلبة الكتاب‪ ،‬فينبغي أن يشمل هذا العطاء كل الطلبة ألنه لفظ مستغرق لجميع أفراده‪.‬‬
‫واألصل في األلفاظ العامة أنها تفيد العموم‪.‬‬

‫َح َكم ال ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ال يَا‬
‫ين ۝ قَ َ‬ ‫ْحاكم َ‬
‫َنت أ ْ ُ َ‬ ‫ْح ُّق َوأ َ‬ ‫ب إِ َّن ابْني م ْن أ َْهلي َوإِ َّن َو ْع َد َك ال َ‬ ‫ال َر ِّ‬
‫وح َّربَّهُ فَـ َق َ‬
‫اد ٰى نُ ٌ‬
‫كما في قول اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬ونَ َ‬
‫ك أَن تَ ُكو َن ِمن ال ِ ِ‬ ‫ك بِ ِه ِعلْمۙ إِنِّي أ ِ‬ ‫كۙ إِنَّه َعمل غَيـر ِ‬ ‫نُوح إِنَّه لَي ِ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬‫ْجاهل َ‬‫َ َ‬ ‫َعظُ َ‬ ‫ٌ‬ ‫صالحۙ فَ ًَل تَ ْسأَلْ ِن َما لَْي َ‬
‫س لَ َ‬ ‫س م ْن أ َْهل َ ُ َ ٌ ْ ُ َ‬ ‫ُ ُ ْ َ‬
‫ك﴾‪ ،‬أي احمل أهلك‬ ‫اح ِم ْل فِ َيها ِمن ُك ٍّل َزْو َج ْي ِن اثْـنَـ ْي ِن َوأ َْهلَ َ‬
‫فنوح ‪ ‬توجه بهذا النداء تمسكا منه بقوله تعالى‪﴿ :‬قُـلْنَا ْ‬
‫في السفينة فلما جاء العذاب وجاء عقاب اهلل لهم نادى نوح ربه فقال ربي إن ابني من أهلي أي ال تهلكه واهلل عز وجل‬
‫أقره على هذا النداء وأجابه بما دل على أنه ليس من أهله ولوال أن إضافة األهل إلى نوح للعموم لما صح ذلك‪.‬‬

‫يم بِالْبُ ْش َر ٰى قَالُوا إِنَّا ُم ْهلِ ُكو أ َْه ِل َٰه ِذ ِه الْ َق ْريَِةۙ إِ َّن أ َْهلَ َها‬ ‫ِ ِ‬
‫ت ُر ُسلُنَا إبْـ َراه َ‬
‫اء ْ‬
‫ومن األمثلة على ذلك أيضا‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َّما َج َ‬
‫ِ‬ ‫ال إِ َّن فِيها لُوطااۙ قَالُوا نَحن أَ ْعلَم بِمن ِفيهاۙ لَنـن ِّجيـنَّه وأ َْهلَه إَِّال امرأَتَه َكانَ ْ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ت م َن الْغَاب ِر َ‬ ‫ْ ُ ُ َ َ َُ َ ُ َ ُ ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ين ۝ قَ َ‬
‫َكانُوا ظَالم َ‬
‫ووجه الداللة من اآلية أن إبراهيم ‪ ‬فهم من قول المًلئكة "إنا مهلكو أهل هذه القرية" فهم منه العموم‪ ،‬ولوط من أفراد‬
‫هذه القرية فذكر لوطا وأقره المًلئكة على ذلك وأجابوه بتخصيص لوط وأهله باالستثناء واستثناء امرأته من الناجين وهذا‬
‫كله يدل على العموم‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫‪ ‬قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثاني‪( :‬صيغ العموم سبع)‬
‫وقوله‪ :‬صيغ العموم أي األلفاظ الدالة عليه‪:‬‬
‫‪ -‬أوال‪[ :‬ما دل على العموم بمادته ال بلفظه] مثل‪ :‬جميع وكل وكافة وعامة‪...‬‬
‫كل هذه األلفاظ تدل على العموم‪.‬‬
‫(كل) من األمثلة عليها قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬ك ُّل نَـ ْفس ذَائَِقةُ الْمو ِ‬
‫ت﴾‬ ‫َْ‬
‫لفظ [كل] عام يشمل مستوى عام من شامل مستغرق لجميع أفراده فكل ما له نفس سيموت‪.‬‬
‫﴿اهللُ َخالِ ُق ُك ِّل َش ْيء﴾‪ :‬ال يوجد شيء إال واهلل خالقه‪.‬‬
‫ض ُرو َن﴾‬ ‫(جميع) من األمثلة عليها‪َ ﴿ :‬وإِن ُكل لَّ َّما َج ِم ٌ‬
‫يع لَ َديْـنَا ُم ْح َ‬
‫فكل الخلق سيحشرون إلى ربهم وهم محضرون إليه‪.‬‬
‫َّاس بَ ِش ايرا َونَ ِذ ايرا﴾‪.‬‬
‫اك إَِّال َكافَّةا لِّلن ِ‬
‫(كافة)‪َ ﴿ :‬وَما أ َْر َسلْنَ َ‬
‫فاهلل عز وجل أرسل نبيه ﷺ ليس لقريش فقط وإنما للناس كلهم‪.‬‬
‫(عامة)‪ :‬قال النبي ﷺ‪" :‬كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"‪.‬‬

‫‪ -‬ثانياا‪ :‬أسماء الشرط‪:‬‬


‫اح َعلَْي ِه أَن يَطََّّو َ‬
‫ف بِ ِه َماۙ﴾‬ ‫ت أَ ِو ا ْعتَ َم َر فَ ًَل ُجنَ َ‬
‫مثل (من)‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬فَ َم ْن َح َّج الْبَـ ْي َ‬
‫فمن حج‪ :‬أي أي أحد يحج فًل جناح عليه‪.‬‬
‫ومن أسماء الشرط (ما)‪ :‬قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَما تَـ ْف َعلُوا ِم ْن َخ ْير يَـ ْعلَ ْمهُ اهللُ﴾‬
‫يعني أي خير وكل خير تفعلوه فاهلل يعلمه‪.‬‬

‫ث َما ُكنتُ ْم فَـ َولُّوا ُو ُج َ‬


‫وه ُك ْم َشط َْرهُ﴾‪ :‬أي في أي مكان كنتم فتوجهوا إلى الكعبة‪.‬‬ ‫وقوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َح ْي ُ‬

‫‪ -‬ثالثا‪ :‬أسماء الشرط (أين وما وماذا) ونحو ذلك‪.‬‬


‫( َمن)‪ :‬ومنها قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َمن يَأْتِي ُكم بِ َماء َّم ِعين﴾‪.‬‬
‫[من] عامة فأي أحد يأتيكم بماء معين؟ والجواب‪ :‬ال أحد‪.‬‬
‫ين﴾ أيضا عامة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َج ْبتُ ُم ال ُْم ْر َسل َ‬
‫(ماذا)‪ :‬قال تعالى‪َ ﴿ :‬ماذَا أ َ‬

‫ابعا‪ :‬األسماء الموصولة‪:‬‬


‫‪ -‬را‬
‫مثل (الذي والذين) ونحو ذلك‪.‬‬
‫ت الْ ُقرو ُن ِمن قَـ ْبلِي و ُهما يستَ ِغيثَ ِ‬
‫ان اللَّ َه‬ ‫ُف لَّ ُكما أَتَ ِع َدانِنِي أَ ْن أُ ْخرج وقَ ْد َخلَ ِ‬ ‫منها قوله تعالى‪﴿ :‬والَّ ِذي قَ َ ِ ِ ِ‬
‫َ َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫َََ‬ ‫ال ل َوال َديْه أ ٍّ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ول ما ٰه َذا إَِّال أ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ويـلَ َ ِ‬
‫ين﴾‬ ‫َساط ُير ْاأل ََّول َ‬ ‫َ‬ ‫ك آم ْن إِ َّن َو ْع َد اللَّه َحق فَـيَـ ُق ُ َ َ‬ ‫َْ‬

‫‪91‬‬
‫فليس الحكم في هذه اآلية لشخص بعينه إنما هي عامة فإن قوله (والذي قال لوالديه) عام اسم موصول [الذي]‬
‫ت ِمن قَـ ْبلِ ِهم ِّمن ال ِ‬
‫ْج ِّن‬ ‫ين َح َّق َعلَْي ِه ُم الْ َق ْو ُل فِي أ َُمم قَ ْد َخلَ ْ‬ ‫يدل على العموم بدليل ما جاء بعدها‪﴿ :‬أُوٰلَئِ َ َّ ِ‬
‫َ‬ ‫ك الذ َ‬
‫ِ‬ ‫اإل ِ ِ‬
‫َو ِْ‬
‫نسۙ إنـَّ ُه ْم َكانُوا َخاس ِر َ‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫فلفظ [أولئك] يدل على العموم وكذلك سياق اآلية كذلك يدل على العموم‪.‬‬
‫سائِ ُك ْم إِ ِن ْارتَـ ْبتُ ْم فَ ِع َّدتُـ ُه َّن ثًََلثَةُ أَ ْش ُهر‬ ‫الًلئِي يئِسن ِمن الْم ِح ِ ِ‬
‫يض من نِّ َ‬ ‫ومن األسماء الموصولة قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َّ َ ْ َ َ َ‬
‫ض ْع َن َح ْملَ ُه َّن﴾‪.‬‬
‫َجلُ ُه َّن أَن يَ َ‬ ‫َحم ِ‬
‫ال أ َ‬ ‫ت ْاأل ْ َ‬
‫ُوال ُ‬ ‫الًلئِي لَ ْم يَ ِح ْ‬
‫ض َنۙ َوأ َ‬ ‫َو َّ‬
‫فهذه اآلية عامة في كل النساء المطلقات الًلتي انقطع عنهن دم الحيض لكبر سنهن إن شككتم فلم تدروا ما‬
‫الحكم فيهن فعدتهن ثًلثة أشهر‪.‬‬
‫وهي عامة أيضا في الصغيرات الًلتي لم يحضن فعدتهن ثًلثة أشهر كذلك‪،‬‬
‫وعامة في ذوات الحمل من النساء عدتهن أن يضعن حملهن‪.‬‬

‫‪ -‬خامسا‪ :‬النكرة في سياق النهي أو النفي أو الشرط‪:‬‬


‫ْح ِّج﴾‪.‬‬ ‫ث وَال فُسو َق وَال ِج َد َ ِ‬
‫ال في ال َ‬ ‫ففي سياق النفي‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬فَ ًَل َرفَ َ َ ُ َ‬
‫فاألسلوب هنا أسلوب نفي نكرة أفادت عموم الرفث فًل رفث وال فسوق‪.‬‬
‫كذلك الفسوق والجدال نفي فيه معنى النهي‪.‬‬
‫وفي سياق النهي‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬فَ ًَل تَـ ُقل لَّ ُه َما أ ٍّ‬
‫ُف َوَال تَـ ْنـ َه ْرُه َما﴾‪.‬‬
‫فالنهي هنا [ال تقل] نهي عن األف فالمنهي عنه هنا نكرة‪ .‬فالنكرة هذه أفادت العموم‪.‬‬
‫وكذلك قوله‪َ ﴿ :‬وا ْعبُ ُدوا اهللَ َوَال تُ ْش ِرُكوا بِ ِه َش ْيئاا﴾‪.‬‬
‫النهي هنا نهي عن نكرة‪[ .‬شيئا]‪.‬‬
‫المنهي عنه‪[ :‬اإلشراك به شيئا] نكرة في سياق النهي تفيد العموم أي ال تشرك به أي شيء‪.‬‬
‫والنكرة في سياق الشرط‪:‬‬
‫َج ْرهُ َحتَّ ٰى يَ ْس َم َع َك ًَل َم اللَّ ِه ثُ َّم أَبْلِغْهُ َمأ َْمنَهُ﴾‪.‬‬
‫استَجار َك فَأ ِ‬
‫ين ْ َ َ‬
‫ِ‬
‫مثل قوله تعالى‪﴿ :‬إِ ْن أ َ‬
‫َح ٌد ِّم َن ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫وإن أحد‪[ ،‬أحد] هنا نكرة تفيد عموم المشركين أي أحد من المشركين ألنها جاءت في سياق الشرط‪.‬‬

‫‪ -‬سادسا‪ :‬المعرف باإلضافة‪:‬‬


‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وها﴾‪.‬‬
‫ص َ‬‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬واذْ ُك ُروا ن ْع َمةَ اهلل َعلَْي ُك ْم﴾‪َ ﴿ ،‬وإِن تَـعُ ُّدوا ن ْع َمةَ اهلل َال تُ ْح ُ‬
‫[فنعمة] نكرة لكنها عرفت بإضافتها إلى اهلل تعالى‪ ،‬واذكروا نعمة اهلل عليكم أي اذكروا نَِع َم اهلل عليكم‪.‬‬
‫وإن تعدوا نعمة اهلل ال تحصوها أي وإن تعدوا نَِع َم اهلل عليكم ال تحصوها‪ ،‬فأفادت العموم في النعم‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫‪ -‬سابعا‪ :‬المعرف ب ((ال االستغراقية))‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ْح ْم ُد لِله َر ِّ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫مثل قوله تعالى‪﴿ :‬ال َ‬
‫فهذه تشمل كل المحامد [الحمد] كل المحامد هلل رب العالمين‪.‬‬
‫نسا َن لَِفي ُخ ْسر﴾ فتشمل كل إنسان‪ ،‬تعم الناس جميعا‪.‬‬ ‫ص ِر إِ َّن ِْ‬
‫اإل َ‬ ‫﴿ َوال َْع ْ‬
‫ف[ال] هنا أفادت العموم ودخول االستثناء عليها [إال الذين آمنوا وعملوا الصالحات] دليل على العموم ألن‬
‫االستثناء ال يدخل إال على العموم‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الثالث‪( :‬العام ثًلثة أقسام‪ :‬عام باق على عمومه وعام مراد به الخصوص وعام مخصوص)‬
‫‪ ‬أوال‪( :‬عام باق على عمومه)‪:‬‬
‫فالعام سيق مساق العام وظل على عمومه ولم يدخله التخصيص‪ .‬فهذا العام باق على عمومه وال يدخله‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫التخصيص‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬واهللُ ب ُك ِّل َش ْيء َعل ٌ‬
‫بكل شيء‪[ ،‬كل] من ألفاظ العموم لكن هذا السياق يظل العام على عمومه وال يمكن أبدا أن يدخله التخصيص‬
‫ألنه ال يوجد شيء ال يعلمه اهلل عز وجل أو ليس اهلل به عليم‪.‬‬
‫َح ادا﴾‪.‬‬
‫كأَ‬‫ومنها قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَال يَظْلِ ُم َربُّ َ‬
‫هذا عام ال يدخله التخصيص وال الخصوص فاهلل ال يظلم أح ادا أبدا‪.‬‬

‫‪ ‬الثاني‪( :‬عام مراد به الخصوص)‬


‫عاما والمراد من هذا اللفظ العام فرد واحد مراد به الخصوص‪.‬‬
‫يعني اللفظ يأتي ا‬
‫ش ُر َك بِيَ ْح َي﴾‪.‬‬
‫َن اللَّهَ يُـبَ ِّ‬ ‫صلِّي فِي ال ِْم ْحر ِ‬
‫اب أ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ادتْهُ ال َْم ًَلئ َكةُ َو ُه َو قَائ ٌم يُ َ‬
‫من األمثلة على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬فَـنَ َ‬
‫َ‬
‫[المًلئكة] جمع لكن هذا الجمع الذي يفيد العموم مراد به واحد من المًلئكة وهو جبريل‪ .‬فاللفظ سيق مساق‬
‫العموم لكن يكون المراد به فرد من أفراد العموم‪ ،‬ولذلك جاء في القراءات السبعية المتواترة ﴿فناداه المًلئكة﴾‬
‫وهي قراءة حمزة والكسائي وذلك ألن المنادى واحد وهو جبريل ‪.‬‬

‫‪ ‬الثالث‪( :‬عام مخصوص)‪:‬‬


‫عاما ثم يدخل عليه التخصيص‪،‬‬ ‫وذلك بأن يكون اللفظ ا‬
‫اع إِلَْي ِه َسبِ ايًل﴾‪.‬‬ ‫َّاس ِح ُّج الْبـ ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَطَ َ‬ ‫كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولِلَّ ِه َعلَى الن ِ‬
‫َ‬
‫[فالناس] هنا لفظ عام‪.‬‬
‫ومعنى اآلية‪ :‬هلل على من استطاع إلى الحج سبيًل من الناس حج البيت‪.‬‬
‫فخص بهذا الوجوب من استطاع إلى الحج سبيًل‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫‪ ‬الضابط الرابع‪( :‬يبقى العام على عمومه ما لم يخرجه مخصص)‪.‬‬
‫[كل] لفظ من ألفاظ العموم مستعمل في لسان العرب وخطاب الشرع لًلستغراق والشمول ولم يخرج االستعمال عن‬
‫هذه الحقيقة إال بدليل يخصص ذلك العموم‪ .‬فإذا لم يرد ذلك المخصص بقي النص العام على عمومه‪ .‬هذا معنى هذا‬
‫الضابط‪.‬‬
‫وقد جاء في أدلة الشرع ما يدل على إجراء العموم على ظاهره‪.‬‬
‫يم بِالْبُ ْش َر ٰى قَالُوا إِنَّا ُم ْهلِ ُكو أ َْه ِل َٰه ِذهِ الْ َق ْريَِةۙ إِ َّن أ َْهلَ َها َكانُوا‬ ‫ِ ِ‬
‫ت ُر ُسلُنَا إبْـ َراه َ‬
‫اء ْ‬
‫ومنها ما مر معنا من قول اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ َّما َج َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ظَالم َ‬
‫ففهم الخليل إبراهيم ‪ ‬من مجرد اللفظ العموم وهو لفظ [أهل هذه القرية]‪.‬‬
‫أهل هذه القرية يفيد كل من يسكن هذه القرية‪.‬‬
‫وقولهم [إن أهلها كانوا ظالمين] يفيد أن أهل القرية جميعا كلهم عموما كانوا ظالمين‪.‬‬
‫وإبراهيم ‪ ‬فهم هذا العموم فقال إن فيها لوطا‪ ،‬ليسوا كلهم ظالمين وليسوا كلهم يستحقون الهًلك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫﴿قَالُوا نَحن أَ ْعلَم بِمن فِيهاۙ لَنـن ِّجيـنَّه وأ َْهلَه إَِّال امرأَتَه َكانَ ْ ِ‬
‫ين﴾‬‫ت م َن الْغَاب ِر َ‬ ‫ْ ُ ُ َ َ َُ َ ُ َ ُ ْ َ ُ‬
‫فبينوا له أنهم يعلمون أن لوطا فيها وأن لوطا ليس من أهلها الظالمين فهذا فيه بيان أن العام يظل على عمومه ما لم يخرجه‬
‫مخصص‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الخامس‪( :‬الخاص هو قصر الحكم العام على بعض أفراده)‬


‫الخاص في اللغة‪ :‬هو ضد العام‪ ،‬والعام هو الشامل‪ ،‬فيكون الخاص ضد الشامل‪.‬‬
‫واصطًلحا‪ :‬هو اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد‪ ،‬أو كما قال المصنف هنا هو قصر الحكم العام على بعض‬
‫أفراده فعرف الخاص بالتخصيص‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫ص َن بِأَن ُفس ِه َّن أ َْربَـ َع َة أَ ْش ُهر َو َع ْش اراۙ فَِإ َذا بَـلَ ْغ َن أ َ‬
‫َجلَ ُه َّن‬ ‫ين يُـتَـ َوفَّـ ْو َن من ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزَو ا‬
‫اجا يَـتَـ َربَّ ْ‬ ‫كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫وفۙ َواللَّهُ بِ َما تَـ ْع َملُو َن َخبِ ٌير﴾‪.‬‬ ‫فَ ًَل جنَاح َعلَي ُكم فِيما فَـعلْن فِي أَن ُف ِس ِه َّن بِالْمعر ِ‬
‫َ ُْ‬ ‫ُ َ ْ ْ َ َ َ‬
‫َحم ِ‬
‫ال‬ ‫ت ْاأل ْ َ‬
‫ُوال ُ‬
‫هذه اآلية عامة فيمن توفي عنها زوجها حامًل كانت أو غير حامل لكنها خصصت لقوله تعالى ﴿ َوأ َ‬
‫ض ْع َن َح ْملَ ُه َّن﴾‪.‬‬
‫َجلُ ُه َّن أَن يَ َ‬
‫أَ‬
‫فهذه اآلية قصرت حكم العام على بعض أفراده يعني على من دون الحامل فهذه اآلية قصرت الحكم العام الذي‬
‫اشتملت عليه اآلية األولى من عموم عدة المتوفى عنها زوجها على غير الحال‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫‪ ‬الضابط السادس‪( :‬دليل التخصيص نوعان)‪:‬‬
‫قوله دليل التخصيص‪ :‬أي الدليل المخصص الذي يدخل على العموم‪.‬‬
‫هذه االدلة التي تخصص الحكم العام نوعان‪:‬‬
‫النوع األول‪( :‬دليل متصل) وهو ما ال يستقل بنفسه‪.‬‬
‫س الَّتِي َح َّرَم اللَّهُ إَِّال بِالْ َح ِّق َوَال يَـ ْزنُو َنۙ‬
‫آخ َر َوَال يَـ ْقتُـلُو َن النَّـ ْف َ‬‫ين َال يَ ْدعُو َن َم َع اللَّ ِه إِ ٰلَ اها َ‬ ‫َّ ِ‬
‫مثال قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫اب يَـ ْو َم ال ِْقيَ َام ِة َويَ ْخلُ ْد ِف ِيه ُم َهاناا﴾‪.‬‬
‫ف لَهُ ال َْع َذ ُ‬
‫اع ْ‬
‫ضَ‬ ‫ْق أَثَ ااما ۝ يُ َ‬ ‫َوَمن يَـ ْف َع ْل ٰذَلِ َ‬
‫ك يَـل َ‬

‫دليل التخصيص هنا متصل أم منفصل؟ دليل التخصيص هنا متصل باللفظ العام وفي نفس السياق اللفظ العام‪.‬‬
‫آخر وَال يـ ْقتُـلُو َن النَّـ ْف ِ‬ ‫ِ ٰ‬ ‫َّ ِ‬
‫س الَّتي َح َّرَم اللَّهُ إَِّال بِال َ‬
‫ْح ِّق َوَال يَـ ْزنُو َنۙ َوَمن‬ ‫َ‬ ‫ين َال يَ ْدعُو َن َم َع اللَّه إِلَ اها َ َ َ َ‬ ‫أين هو؟ قوله‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫اب يَـ ْو َم ال ِْقيَ َام ِة َويَ ْخلُ ْد فِ ِيه ُم َهاناا﴾‪.‬‬
‫ف لَهُ ال َْع َذ ُ‬
‫اع ْ‬
‫ضَ‬ ‫ْق أَثَ ااما ۝ يُ َ‬ ‫يَـ ْف َع ْل ٰذَلِ َ‬
‫ك يَـل َ‬
‫هنا الش اهد أن هذه األلفاظ تدل على عموم أن من يفعل األفعال المتقدمة يلقى أثاما‪ ،‬عذابا شديدا‪ ،‬قال‬
‫اب يَـ ْو َم ال ِْقيَ َام ِة َويَ ْخلُ ْد ِف ِيه ُم َهاناا﴾ هذا عموما‪.‬‬
‫ف لَهُ ال َْع َذ ُ‬
‫اع ْ‬
‫ضَ‬ ‫﴿يُ َ‬

‫ِ‬
‫ِّل اللهُ َسيِّئَات ِه ْم َح َ‬
‫سنَات﴾‬ ‫صالِ احا فَأُوٰلَئِ َ‬
‫ك يـُبَد ُ َّ‬ ‫ِ‬
‫آم َن َو َعم َل َع َم اًل َ‬ ‫ثم أتى دليل التخصيص وهو‪﴿ :‬إَِّال َمن تَ َ‬
‫اب َو َ‬
‫فدليل التخصيص هنا متصل‪ ،‬وهو ما ال يستقل بذاته يعني ال يأتي في سياق مستقل عن السياق الذي أتى فيه‬
‫العموم فالسياق هنا كما رأينا سياق واحد متصل‪.‬‬

‫القسم أو النوع الثاني‪( :‬وهو الدليل المنفصل)‬


‫يعني يأتي المخصص في سياق آخر مستقل بنفسه عن سياق العام‪.‬‬
‫ص َن بِأَن ُف ِس ِه َّن ثًََلثَةَ قُـ ُروء﴾‬ ‫من األمثلة على ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وال ُْمطَلَّ َق ُ‬
‫ات يَـتَـ َربَّ ْ‬
‫والمطلقات‪ :‬يعني كل المطلقات يتربصن بأنفسهن ثًلثة قروء فهذا الدليل العام خصص بمخصص منفصل مستقل‬
‫وه َّن فَ َما لَ ُك ْم‬
‫س ُ‬‫وه َّن ِمن قَـ ْب ِل أَن تَ َم ُّ‬ ‫بنفسه وهو قوله تعالى‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنُوا إِ َذا نَ َك ْحتُم الْم ْؤِمنَ ِ‬
‫ات ثُ َّم طَلَّ ْقتُ ُم ُ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫َعلَْي ِه َّن ِم ْن ِع َّدة تَـ ْعتَ ُّدونَـ َها﴾‪.‬‬

‫وه َّن﴾ هذا مخصص منفصل ألنه لم ِ‬


‫يأت في نفس السياق الذي أتى فيه‬ ‫س ُ‬‫فهذه اآلية وقوله‪ِ ﴿ :‬من قَـ ْب ِل أَن تَ َم ُّ‬
‫العموم ولذلك قال في تعريفه هذا النوع الثاني‪( :‬وهو ما يستقل بنفسه) فالمخصص هنا أتى مستقًل بنفسه عن‬
‫سياق العموم‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫‪ ‬الضابط السابع‪( :‬المخصص المتصل خمسة أنواع)‬
‫المخصص المتصل مر معنا تعريفه وهو ما ال يستقل بنفسه وهذا المخصص المتصل الذي ال يستقل بنفسه يعني الذي‬
‫يأتي في نفس السياق الذي الذي أتى فيه الداللة على العموم فهو سياق واحد اشتمل على داللة العموم واشتمل على‬
‫داللة التخصيص المخصص المتصل يقول هو خمسة أنواع‪:‬‬
‫‪ ‬النوع األول‪( :‬االستثناء) يعني أن يأتي السياق العام ثم يدخل عليه استثناء في نفس السياق‬
‫اص ْوا بِالْ َح ِّق‬ ‫اإلنسا َن لَِفي ُخسر ۝ إَِّال الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الصال َحات َوتَـ َو َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ص ِر ۝ إ َّن ِْ َ‬
‫مثال قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وال َْع ْ‬
‫اص ْوا بِ َّ‬
‫الص ْب ِر﴾‪.‬‬ ‫َوتَـ َو َ‬
‫فقوله إن االنسان لفي خسر‪ ،‬اإلنسان كل اإلنسان كل الناس لفي خسر ثم دخل عليها االستثناء في ذات السياق‬
‫فهو مخصص متصل فاستثنى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الخسر الذي حكم به على كل إنسان فيظل‬
‫عاما إال الذين ُخصصوا باألوصاف المذكورة‪.‬‬
‫حكم الخسر ا‬
‫والشاهد هنا أن االستثناء دخل على مخصص متصل بالعام في ذات السياق‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الثاني‪( :‬الصفة)‬


‫يعني من الممكن أن يأ تي االستثناء بسياقه المتصل المستقل بنفسه بصفة معينة تستثنى من العام‪ ،‬صفة معينة‬
‫تخصص عموم اللفظ العام‪.‬‬
‫الًلتِي َد َخلْتُم بِ ِه َّن﴾‪.‬‬
‫سائِ ُك ُم َّ‬ ‫من األمثلة على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬وربائِب ُكم َّ ِ ِ‬
‫الًلتي في ُح ُجوِرُكم ِّمن نِّ َ‬ ‫َ ََ ُ ُ‬
‫هذه اآلية في سياق المحرمات في سورة النساء‪ .‬الربيبة هي بنت الزوجة والزوجة تسمى للرجل زوجة بمجرد أن‬
‫يعقد عليها وليس كل من عقدت عليها يحرم عليك بناتها‪.‬‬
‫فالقاعدة عند الفقهاء أن‪[ :‬العقد على البنات يحرم األمهات والدخول باألمهات يحرم البنات]‬
‫الًلتِي َد َخلْتُم بِ ِه َّن﴾‪ ،‬هذه الصفة الكاشفة المقيدة المخصصة (الًلتي دخلتم بهن)‬
‫سائِ ُك ُم َّ‬
‫ففي قوله ﴿ ِّمن نِّ َ‬
‫استثنت من العموم فصارت الربيبة المحرمة هي بنت الزوجة التي بني بها فقط دون المعقود عليها‪.‬‬
‫وهذا اسمه [استثناء بالصفة]‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الثالث‪( :‬الشرط)‬


‫وه ْم إِ ْن َعلِ ْمتُ ْم فِي ِه ْم َخ ْيـ ارا﴾‪.‬‬ ‫اب ِم َّما َملَ َك ْ‬
‫ت أَيْ َمانُ ُك ْم فَ َكاتِبُ ُ‬
‫ِ‬
‫ين يَـ ْبتَـغُو َن الْكتَ َ‬
‫َّ ِ‬
‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫فجعل الشرط أن تعلم فيهم خيرا‪.‬‬
‫قال العلماء‪ :‬أي أن تعلم منه القدرة على الكسب والثبات حينئذ تكاتبه فهذا الشرط [إن الشرطية] مخصص‪.‬‬
‫وهذا التخصيص تخصيص الشرط متصف بالعموم‪ .‬إذن السياق واحد‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫‪ ‬النوع الرابع‪( :‬الغاية)‬
‫والمقصود بالغاية هنا أي [حتى الغائية]‬
‫وه َّن َحتَّى يَط ُْه ْر َن﴾‪.‬‬
‫ومن األمثلة عليها‪َ ﴿ :‬وَال تَـ ْق َربُ ُ‬
‫يعني ال تقربوا النساء حتى يطهرن أي من الحيض فيظل الحكم النهي عن القربان مستمر وعام في كل هذه المدة‬
‫الحيَّ ِ‬
‫ض يعني خصه بأنه ليس مطلقا‪ ،‬ليس‬ ‫حتى تطهر وتغتسل فهذا يعني أنه خص عموم النهي عن قربان النساء ُ‬
‫عاما‪ ،‬إنما حتى تطهر‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الخامس‪( :‬البدل)‬


‫اع إِلَْي ِه َسبِ ايًلۙ﴾‪.‬‬ ‫َّاس ِح ُّج الْبـ ْي ِ‬
‫ت َم ِن ْ‬
‫استَطَ َ‬ ‫ومن األمثلة على ذلك قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ولِلَّ ِه َعلَى الن ِ‬
‫َ‬
‫جملة من استطاع اليه سبيًل‪" :‬بدل" من "الناس"‪.‬‬
‫(وهلل على الناس)‪ :‬جملة (من استطاع اليه سبيًل) بدل منها‪.‬‬
‫متصًل في ذات السياق‪.‬‬
‫فالبدل من أدوات االستثناء المتصل ألنه يأتي ا‬

‫‪ ‬الضابط الثامن‪( :‬المخصص المنفصل ثًلثة أنواع)‪.‬‬


‫‪ ‬النوع األول‪( :‬الحس)‬
‫ذكرنا فيما سبق أن المخصص المنفصل هو ما يستقل بذاته يعني يأتي العام في سياق ويأتي المخصص‬
‫مستقًل بنفسه يعني في سياق آخر‪.‬‬
‫ا‬ ‫المنفصل‬
‫يقول‪ :‬هو ثًلثة أنواع‪.‬‬
‫النوع األول‪ :‬الحس أي ما يخصص بالحس‪.‬‬
‫ساكِنُـ ُه ْمۙ﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫من األمثلة على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬تُ َد ِّم ُر ُك َّل َش ْيء بِأ َْم ِر َربِّـ َها فَأ ْ‬
‫َصبَ ُحوا َال يـُ َر ٰى إ َّال َم َ‬
‫تدمر كل شيء‪" :‬كل" من صيغ العموم‪.‬‬
‫"شيء" نكرة‪.‬‬
‫وكل ذلك يفيد العموم واللفظ العام شيء مستغرق لكن هل دمرت هذه الريح كل شيء يعني مثًل السماوات‪،‬‬
‫األرض؟ هل دمرت أو لم تدمر؟‬
‫لم تدمر مع أنها شيء‪.‬‬
‫فهنا خصص والتخصيص هنا أتى بالحس؛ أن اهلل عز وجل قال‪ :‬تدمر كل شيء لكنها ما دمرت السماوات وما‬
‫دمرت األرض ونحو ذلك‪ .‬فنجد السماوات واألرض موجودتان اآلن لم تدمر‪.‬‬
‫فهذا تخصيص بالحس‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫‪ ‬النوع الثاني‪( :‬العقل)‬
‫اهلل عز وجل يقول‪﴿ :‬اهللُ َخالِ ُق ُك ِّل َش ْيء﴾‬
‫ادةاۙ قُ ِل اللَّهُۙ َش ِهي ٌد بَـ ْينِي َوبَـ ْيـنَ ُك ْم﴾‪.‬‬
‫َي َش ْيء أَ ْكبَـ ُر َش َه َ‬
‫ويقول‪﴿ :‬قُ ْل أ ُّ‬
‫اهلل خالق كل شيء‪ :‬يعني كل شيء مخلوق‪.‬‬
‫طيب إذا كان اهلل عز وجل قال في هذه اآلية‪" :‬قل أي شيء أكبر شهادة قل اهلل"‪،‬‬
‫‪ -‬فباآلية األولى‪" :‬اهلل خالق كل شيء" بالعموم‪.‬‬
‫‪ -‬وباالية الثانية‪ :‬تدل أيضا على دخول اهلل في هذا العموم؟‬
‫ال‪ ،‬ال تدل ألنه بالعقل اهلل خالق كل شيء‪.‬‬
‫الذي خصص هذا العموم هو العقل‪.‬‬

‫الحكم هنا عقلي ألن اهلل عز وجل جعل كل شيء مخلوق في جهة وجعل الخالق في الجهة األخرى فًل يمكن أن‬
‫يدخل عموم قوله "كل شيء" ال يمكن أن يدخل على الخالق إنما هذا عموم في المخلوقات‪.‬‬
‫فذات اهلل غير مخلوقة‪ ،‬والداللة هنا والتخصيص هنا بالعقل فإن العقل يدل على أن الخالق غير المخلوق ويدل على‬
‫أن الخالق ال يخلق نفسه ألنه الخالق لكل ما دونه‪ .‬فهو خالق كل شيء إال نفسه إال ذاته‪.‬‬
‫وهذا يسميه العلماء [استثناء عقلي]‪.‬‬

‫‪ ‬النوع الثالث‪( :‬الشرع)‬


‫فيأتي الشرع يخصص الشرع‪ ،‬والقرآن يخصص القرآن‪ ،‬والسنة تخصص القرآن وكذلك كل من القرآن والسنة‬
‫يعود بعضه على بعض بالتخصيص‪.‬‬

‫‪ ‬أوال‪[ :‬تخصيص القرآن للقرآن]‪:‬‬


‫َّى يـُ ْؤِم َّنۙ َوَأل ََمةٌ ُّم ْؤِمنَةٌ َخ ْيـ ٌر ِّمن ُّم ْش ِرَكة َولَ ْو أَ ْع َجبَْت ُك ْم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نكحوا الْم ْش ِرَك ِ‬
‫ات َحت ٰ‬ ‫قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَال تَ ُ ُ‬
‫وال تنكحوا المشركات‪ :‬عام في كل ما دون المؤمنين فكل ما دون المؤمنين يعني كل ما دون‬
‫الموحدين مشركون‪ ،‬ونساء هؤالء مشركات‪ ،‬لكن خصصت بقوله تعالى ﴿والمحصنات من الذين‬
‫اوتوا الكتاب من قبلكم﴾ يعني من يجوز نكاحهم ذكر منهم المحصنات من الذين أوتوا الكتاب‪.‬‬
‫فخصص نكاح نساء أهل الكتاب هذا تخصيص للقرآن بالقرآن‪.‬‬
‫وهو تخصيص منفصل‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫‪ ‬الثاني‪[ :‬تخصيص السنة للقرآن]‪:‬‬
‫َح َّل اهللُ الْبَـ ْي َع﴾‪.‬‬
‫قوله تعالى‪﴿ :‬أ َ‬
‫البيع‪ :‬االستغراقية في البيع من صيغ العموم فكل هذا حًلل‪ .‬لكن جاءت السنة تبين أن بعض أنواع‬
‫البيوع محرمة‪ ،‬كما في حديث جابر ‪‬والحديث في الصحيحين‪" :‬نهى النبي ﷺ عن‬
‫المخابرة (وهو نوع من أنواع البيوع) والمحاقلة (وهو نوع من البيوع) والمزابنة وعن بيع الثمر قبل‬
‫بلوغ صًلحه"‪.‬‬
‫فالسنة هنا خصصت القرآن‪.‬‬

‫وبهذا ينتهي هذا الباب باب العام والخاص‪.‬‬

‫األسئـلة‬
‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬عرف العام والخاص لغة واصطًلحا‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬الصيغ الدالة على العموم سبع‪ .‬اذكرها مع مثال على كل صيغة منها‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثالث‪ :‬المخصصات المتصلة خمسة‪ .‬فما هي؟ مع الدليل‪.‬‬

‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪،‬‬


‫وجزاكم اهلل خيرا وبارك فيكم وأحسن إليكم‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫المحاضرة الـثالثـة عشرة‬
‫الباب الثامن‪( :‬الناسخ والمنسوخ)‬
‫مما هو مقرر أن العقائد التي جاءت بها الرسل جميعا متفقة‪ .‬فجاءت هذه العقائد لتقرير عقيدة التوحيد ونبذ الشرك‪،‬‬
‫اجتَنِبُوا الطَّاغُ َ‬ ‫كما في قول اهلل عز وجل‪﴿ :‬ولََق ْد بـعثْـنَا فِي ُك ِّل أ َُّمة َّرس ا ِ‬
‫وت﴾‪.‬‬ ‫وال أَن ا ْعبُ ُدوا اللَّهَ َو ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬
‫اجا﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫لكن الشرائع واألحكام جاءت مختلفة بين شريعة وأخرى‪ ،‬كما قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬ل ُك ٍّل َج َعلْنَا من ُك ْم ش ْر َعةا َوم ْنـ َه ا‬
‫اس ُكوهُ﴾‪.‬‬ ‫وقال سبحانه‪﴿ :‬لِ ُك ِّل أ َُّمة جعلْنَا منس اكا هم نَ ِ‬
‫ََ َ َ ُ ْ‬
‫وجاءت شريعة اإلسًلم ناسخة لما قبلها من الشرائع ومهيمنة عليها‪،‬‬
‫اب َوُم َه ْي ِمناا َعلَْي ِه﴾‪.‬‬ ‫ْكتَاب بِالْح ِّق مص ِّدقاا لِّما بـين ي َدي ِه ِمن ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫كما قال اهلل عز وجل‪﴿ :‬وأَنزلْنَا إِلَي َ ِ‬
‫ك ال َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ ْ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫واقتضت حكمة اهلل ورحمته وعلمه سبحانه أن يشرع أحكاما لحكمة يعلمها ثم ينسخها لحكمة أيضا تستدعي ذلك النسخ‬
‫إلى أن استقرت أحكام الشريعة وأتم اهلل دينه‪.‬‬
‫اإل ْس ًَل َم ِديناا﴾‪.‬‬
‫يت لَ ُك ُم ِْ‬
‫ض ُ‬ ‫ْ َ ََ‬ ‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأَتْ َم ْم ُ‬
‫ت َعلَْي ُكم نِ ْعمتِي ور ِ‬ ‫كما أخبرنا بذلك ربنا سبحانه وتعالى بقوله‪﴿ :‬الْيَـ ْو َم أَ ْك َمل ُ‬

‫النسخ أيها األحباب الكرام في اللغة يأتي على ثًلثة أوجه‪:‬‬


‫‪ -‬األول‪ :‬النقل‪ :‬ومنه قوله‪ :‬نسخت الكتاب إذا نقلت ما فيه إلى كتاب آخر‪.‬‬
‫فهذا لم يتغير المنسوخ منه وإنما صار له نظير مثله في لفظه ومعناه وهما باقيان يعني المنسوخ والناسخ‪.‬‬
‫ومنه قول اهلل عز وجل‪﴿ :‬إِنَّا ُكنَّا نَستَ ِ‬
‫نس ُخ َما ُكنتُ ْم تَـ ْع َملُو َن﴾‪ .‬أي ننقل األعمال إلى الصحف‪.‬‬ ‫ْ‬

‫‪ -‬والمعنى الثاني‪ :‬اإلزالة‪ :‬أي إزالة شيء مع حلول شيء آخر محله‪.‬‬
‫ومنه قولهم‪ :‬نسخت الشمس الظل إذا أزالته وحلت محله‪.‬‬
‫ْت بِ َخ ْير ِّم ْنـ َها أ َْو ِمثْلِ َها﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نسها نَأ ِ‬ ‫ِ‬
‫نس ْخ م ْن آيَة أ َْو نُ َ‬
‫ومنه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما نَ َ‬

‫‪ -‬والمعنى الثالث‪ :‬إزالة الشيء بدون حلول شيء آخر محله‪.‬‬


‫ومنه قولهم‪ :‬نسخت الريح اآلثار إذا أزالتها فلم يبق منها عوض وال حلت الريح محل اآلثار بل زاال جميعا‪.‬‬
‫نس ُخ اهللُ َما يـُل ِْقي َّ‬
‫الش ْيطَا ُن﴾‪.‬‬ ‫ومنه قوله تعالى‪﴿ :‬فَـيَ َ‬

‫وأما النسخ في االصطًلح‪( :‬فهو رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخ)‪.‬‬
‫وقولهم [رفع حكم]‪ :‬فيه تعريف للنسخ على أنه فعل الشارع فالذي يرفع الحكم أو يثبته هو اهلل عز وجل‪.‬‬
‫وتقييد الحكم بأنه [شرعي] خرجت به البراءة األصلية فًل يسمى الحكم الناقل عن البراءة األصلية نس اخا‪.‬‬
‫وقوله [بدليل]‪ :‬يخرج رفع الحكم بالموت والجنون ونحوهما‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫وتقييد الدليل بكونه [شرعياا]‪ :‬أي من الكتاب والسنة ليخرج ما عداهما من األدلة كاإلجماع والقياس فًل ينسخ بهما‬
‫كما سيأتي‪.‬‬
‫وقوله [متراخ] ‪ :‬أي متأخر عن دليل الحكم األول‪ .‬وهذا يخرج رفع الحكم األول أو جزء منه إذا اتصل الدليل الثاني‬
‫اخ عنه‪ ،‬فإنه حينئذ يكون [تخصيصا له وبيانا] وال يكون [نس اخا]‪.‬‬
‫بالدليل األول ولم يتر َ‬
‫فإذا اجتمعت هذه القيود وجدت حقيقة النسخ ومعناه‪.‬‬

‫َّ ِ‬
‫ِّموا بَـ ْي َن‬
‫ول فَـ َقد ُ‬
‫الر ُس َ‬ ‫آمنُوا إِذَا نَ َ‬
‫اج ْيتُ ُم َّ‬ ‫ين َ‬‫ومن األمثلة على النسخ‪ :‬كما في قوله تعالى من سورة المجادلة ﴿يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ك َخيـر لَّ ُكم وأَطْهرۙ فَِإن لَّم تَ ِج ُدوا فَِإ َّن اللَّه غَ ُف ِ‬‫ِٰ‬
‫ور َّرح ٌ‬‫َ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ص َدقَةاۙ ذَل َ ْ ٌ ْ َ َ ُ‬
‫يَ َد ْي نَ ْج َوا ُك ْم َ‬
‫ِ‬
‫الص ًَل َة‬ ‫اب اللَّهُ َعلَْي ُك ْم فَأَق ُ‬
‫يموا َّ‬ ‫ص َدقَاتۙ فَِإ ْذ لَ ْم تَـ ْف َعلُوا َوتَ َ‬ ‫فإنه نُسخ بقوله ﴿أَأَ ْش َف ْقتُ ْم أَن تُـ َقد ُ‬
‫ِّموا بَـ ْي َن يَ َد ْي نَ ْج َوا ُك ْم َ‬
‫َطيعُوا اللَّهَ َوَر ُسولَهُۙ َواللَّهُ َخبِ ٌير بِ َما تَـ ْع َملُو َن﴾‪.‬‬ ‫الزَكاةَ وأ ِ‬
‫َوآتُوا َّ َ‬

‫الضابط األول‪( :‬ينسخ القرآن بالقرآن وبالسنة ال باإلجماع وال بالقياس)‪.‬‬


‫وقوله‪[ :‬ينسخ القرآن بالقرآن]‪ :‬نسخ القرآن للقرآن متفق على جوازه ووقوعه ونقل الشوكاني ‪ ‬االجماع عليه وقد‬
‫أخبرنا اهلل عز وجل بوقوع النسخ في القرآن‪.‬‬
‫ْت بِ َخ ْير ِّم ْنـ َها أ َْو ِمثْلِ َها﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نسها نَأ ِ‬ ‫ِ‬
‫نس ْخ م ْن آيَة أ َْو نُ َ‬
‫وذلك لقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما نَ َ‬
‫ووقع التصريح [بتبديل آية مكان آية]‬
‫في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإِذَا بَ َّدلْنَا آيَةا َّم َكا َن آيَة﴾‪ .‬واهلل أعلم بما ينزل‪.‬‬
‫ْح ْو ِل غَْيـ َر إِ ْخ َراجۙ فَِإ ْن َخ َر ْج َن فَ ًَل‬ ‫قال تعالى‪﴿ :‬والَّ ِذين يـتَـوفَّـو َن ِمن ُكم وي َذرو َن أَ ْزواجا و ِ‬
‫صيَّ اة ِّألَ ْزو ِ‬
‫اعا إِلَى ال َ‬
‫اج ِهم َّمتَ ا‬ ‫َ‬ ‫َ ا َ‬ ‫ْ ََ ُ‬ ‫َ َ َُ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫جنَاح َعلَي ُكم فِي ما فَـعل ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ْن في أَن ُفس ِه َّن من َّم ْع ُروفۙ َواللَّهُ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬ ‫ُ َ ْ ْ َ َ َ‬
‫هذا من األمثلة على وقوع النسخ فكان االعتداد حوال كامًل في بداية األمر ونسخ ذلك بآية االعتداد بأربعة أشهر‬
‫ص َن بِأَن ُف ِس ِه َّن أ َْربَـ َع َة أَ ْش ُهر َو َع ْش اراۙ﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يـُتَـ َوفَّـ ْو َن من ُك ْم َويَ َذ ُرو َن أَ ْزَو ا‬
‫اجا يَـتَـ َربَّ ْ‬ ‫وعشر في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬والذ َ‬
‫ام ِم ْس ِكين﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ومن األمثلة كذلك قوله تعالى‪﴿ :‬و َعلَى الَّ ِذ ِ‬
‫ين يُطي ُقونَهُ ف ْديَةٌ طَ َع ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كان األمر في بداية اإلسًلم أن اإلنسان يخير بين أن يصوم أو يطعم مسكينا فنسخ بقوله ﴿فَ َمن َش ِه َد ِمن ُك ُم َّ‬
‫الش ْه َر‬
‫ص ْمهُ﴾‪.‬‬
‫فَـلْيَ ُ‬
‫فًلم األمر المقترنة بالفعل المضارع للوجوب على كل الناس وبقيت الفدية لغير المستطيع‪.‬‬
‫قوله [وبالسنة] أي ينسخ القرآن بالسنة فالسنة تنسخ القرآن ألن السنة وحي كالقرآن تماما والوحي ينسخ بعضه بعضا‬
‫فمصدره واحد من عند اهلل عز وجل‪.‬‬
‫ِ‬
‫قال تعالى عن نبيه ﷺ‪َ ﴿ :‬وَما يَنط ُق َع ِن ال َْه َوى إِ ْن ُه َو إَِّال َو ْح ٌي يُ َ‬
‫وحى﴾‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫أي أن سنته ﷺ هي وحي أوحاه اهلل إليه‪.‬‬
‫الذ ْك َر لِتُبَـيِّ َن لِلن ِ‬
‫َّاس َما نـُ ِّز َل إِلَْي ِه ْم﴾‪.‬‬ ‫ك ِّ‬‫َنزلْنَا إِلَْي َ‬
‫وقال جل وعًل‪َ ﴿ :‬وأ َ‬
‫والنسخ هو من جملة البيان التي أمر بها النبي ﷺ‪.‬‬
‫ت إِن تَـ َر َك َخ ْيـ ارا‬
‫َح َد ُك ُم ال َْم ْو ُ‬ ‫ب َعلَْي ُك ْم إِذَا َح َ‬ ‫ِ‬
‫ض َر أ َ‬ ‫من األمثلة على نسخ السنة للقرآن ما جاء في قوله تعالى‪ُ ﴿ :‬كت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫صيَّةُ لِلْوالِ َديْ ِن و ْاألَقـْربِ ِ‬
‫الْو ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬‫ين بال َْم ْع ُروفۙ َح ًّقا َعلَى ال ُْمتَّق َ‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كان هذا في بداية األمر ثم نسخ بقوله ﷺ‪" :‬إن اهلل قد أعطى كل ذي حق حقه فًل وصية لوارث"‪.‬‬
‫فقوله [ال وصية لوارث] أخرجت الوصية للوالدين واألقربين الوارثين‪.‬‬
‫قوله [ال باإلجماع] أي وال ينسخ القرآن باإلجماع ألنه ال ينعقد اإلجماع إال بعد وفاة النبي ﷺ وبوفاته عليه‬
‫الصًلة والسًلم قد تم الدين وكمل وانقطع الوحي فًل يمكن أن يكون اإلجماع ناسخا للكتاب والسنة‪ .‬فامتنع النسخ‬

‫ْت لَ ُك ْم ِدينَ ُك ْم َوأَتْ َم ْم ُ‬


‫ت َعلَْي ُك ْم نِ ْع َمتِي‬ ‫فإن اهلل عز وجل أنزل على نبيه ﷺ في حجة الوداع قوله‪﴿ :‬الْيَـ ْو َم أَ ْك َمل ُ‬
‫اإل ْس ًَل َم ِديناا﴾‪.‬‬
‫يت لَ ُك ُم ِْ‬
‫ض ُ‬‫ور ِ‬
‫ََ‬
‫قوله [وال بالقياس] أي أن القياس كذلك ال ينسخ القرآن وذلك ألمرين‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ألنه ال يلجأ إلى القياس إال عند عدم وجود النص من القرآن والسنة‪.‬‬
‫نصا‪ ،‬فإن خالف نصا كان فاسدا فًل يصلح أن يكون القياس ناسخا لنص‬
‫وألن من شروط القياس أال يخالف ا‬
‫من الكتاب والسنة‪.‬‬

‫قال غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثاني‪( :‬يثبت النسخ بثًلث طرائق)‪.‬‬
‫أي يكون النسخ ثابتا ويستدل عليه بثًلث طرق‪:‬‬
‫‪ ‬الطريقة األولى‪ :‬داللة اللفظ عليه‪ :‬أي أن يكون اللفظ نفسه داال على النسخ‪.‬‬
‫ص َدقَةاۙ َٰذلِ َ‬
‫ك‬ ‫ِّموا بَـ ْي َن يَ َد ْي نَ ْج َوا ُك ْم َ‬
‫ول فَـ َقد ُ‬
‫الر ُس َ‬ ‫آمنُوا إِ َذا نَ َ‬
‫اج ْيتُ ُم َّ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫كما في قوله تعالى‪﴿ :‬يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫يم﴾‬ ‫َخيـر لَّ ُكم وأَطْهرۙ فَِإن لَّم تَ ِج ُدوا فَِإ َّن اللَّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬‫َ ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ٌْ ْ َ َُ‬
‫فقوله [وتاب اهلل عليكم] فيها بيان وإشعار وداللة من جهة اللفظ نفسه على نسخ ما قبلها فقد كان‬
‫األمر في صدر اإلسًلم إذا أرادوا أن يكلموا الرسول ﷺ سرا أي بينهم وبينه فًل بد أن يقدموا‬
‫صدقة للمحتاجين‪.‬‬
‫ثم نسخ ذلك باآليات التي تليها بداللة اللفظ على النسخ في قوله [فإذ لم تفعلوا وتاب اهلل عليكم‬
‫فأقيموا الصًلة وآتوا الزكاة]‬
‫قوله [وتاب اهلل عليكم] رخص فيها بأال يفعلوا‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫‪ ‬الطريقة الثانية من طرق ثبوت النسخ‪ :‬قرينة في سياق النص‪.‬‬
‫أي يشتمل السياق على قرينة ظاهرة تدل على النسخ‪،‬‬
‫اح َ ِ‬ ‫الًلتِي يأْتِين الْ َف ِ‬
‫سائِ ُك ْم فَ ْ‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه َّن أ َْربَـ َعةا ِّمن ُك ْمۙ فَِإن‬ ‫شةَ من نِّ َ‬ ‫كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َّ َ َ‬
‫ت أ َْو يَ ْج َع َل اللَّهُ لَ ُه َّن َسبِ ايًل﴾‪.‬‬ ‫َّى يَـتَـ َوفَّ ُ‬
‫اه َّن ال َْم ْو ُ‬ ‫وه َّن فِي الْبـي ِ‬
‫وت َحت ٰ‬ ‫ِ‬
‫َش ِه ُدوا فَأ َْمس ُك ُ‬
‫ُُ‬
‫فالقرينة هنا في اآلية قوله [أو يجعل اهلل لهن سبيًل] مع ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبادة‬
‫‪‬أن النبي ﷺ قال‪" :‬خذوا عني خذوا عني قد جعل اهلل لهن سبيًل الثيب بالثيب والبكر‬
‫بالبكر؛ الثيب جلد مئة ثم رجم بالحجارة والبكر جلد مئة ثم نفي سنة] ففهم من السياق أن الحديث‬
‫نسخ اآلية بقرينة قوله تعالى [أو يجعل اهلل لهن سبيًل] مع قوله ﷺ [قد جعل اهلل لهن سبيًل]‪.‬‬
‫فذلك السبيل اال تمسك النساء في البيوت حتى الموت إنما يقام عليهن الحد‪.‬‬
‫‪ ‬الطريقة الثالثة‪ :‬العلم بتاريخ المتقدم والمتأخر‪.‬‬
‫أي أن يعلم بتاريخ نزول النص المتقدم وتاريخ نزول النص المتأخر‪ ،‬أن يعلم أن هذا نزل بعد هذا فان‬
‫علم ذلك فالنص المتأخر ناسخ للنص المتقدم‪.‬‬
‫ين َك َف ُروا بِأَنـَّ ُه ْم قَـ ْوٌم َّال يَـ ْف َق ُهو َن﴾‪.‬‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫كما في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وإن يَ ُكن ِّمن ُكم ِّمائَةٌ يَـغْلبُوا أَلْ افا ِّم َن الذ َ‬
‫ض ْع افاۙ‬ ‫َن فِي ُك ْم َ‬‫ف اللَّهُ َعن ُك ْم َو َع ِل َم أ َّ‬ ‫فكان المؤمن يصبر أمام مئة من الكفار فقال تعالى‪ْ ﴿ :‬اآل َن َخ َّف َ‬
‫ْف يَـ ْغلِبُوا أَلْ َف ْي ِن بِِإ ْذ ِن اللَّ ِهۙ َواللَّهُ َم َع‬ ‫صابَِرةٌ يَـغْ ِلبُوا ِمائَـتَـ ْي ِنۙ َوإِن يَ ُكن ِّمن ُك ْم أَل ٌ‬‫فَِإن يَ ُكن ِّمن ُكم ِّمائَةٌ َ‬
‫َّ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫الصاب ِر َ‬
‫فكلمة [اآلن] تدل على أن هذه اآلية نزلت اآلن وما قبلها مختلف عنها‪.‬‬
‫صابَِرةٌ يَـغْ ِلبُوا ِمائَـتَـ ْي ِنۙ َوإِن‬ ‫ف اللَّهُ َعن ُك ْم َو َعلِ َم أ َّ‬
‫َن ِفي ُك ْم َ‬
‫ض ْع افاۙ فَِإن يَ ُكن ِّمن ُكم ِّمائَةٌ َ‬ ‫قال‪ْ ﴿ :‬اآل َن َخ َّف َ‬
‫ْف يَـغْ ِلبُوا أَلْ َف ْي ِن بِِإ ْذ ِن اللَّ ِهۙ واللَّهُ َم َع َّ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫َ‬ ‫يَ ُكن ِّمن ُك ْم أَل ٌ‬
‫فجاء التخفيف وصار المؤمن يصبر أمام اثنين من الكفار فقط‪.‬‬

‫قال عفا اهلل عنه‪ :‬الضابط الثالث‪( :‬النسخ في القرآن على ثًلثة وجوه)‪:‬‬
‫أي المنسوخ من آيات القرآن باعتبار بقاء التًلوة والحكم ال يخرج عن ثًلثة وجوه‪:‬‬
‫‪ -‬إما أن ينسخ الحكم وتبقى اآليات تتلى‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن تنسخ التًلوة ويبقى الحكم ثابتا‪.‬‬
‫‪ -‬وإما أن يُنسخا كليهما‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫‪ ‬الوجه األول‪( :‬نسخ الحكم مع بقاء التًلوة)‬
‫وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ بقاء تًلوة اآلية مع ذهاب حكمها ونسخه‪.‬‬
‫وه َّن فِي الْبـي ِ‬ ‫ِ‬ ‫اح َ ِ‬ ‫الًلتِي يأْتِين الْ َف ِ‬
‫وت‬‫ُُ‬ ‫سائِ ُك ْم فَ ْ‬
‫استَ ْش ِه ُدوا َعلَْي ِه َّن أ َْربَـ َعةا ِّمن ُك ْمۙ فَِإن َش ِه ُدوا فَأ َْمس ُك ُ‬ ‫شةَ من نِّ َ‬ ‫قال تعالى‪َ ﴿ :‬و َّ َ َ‬
‫ت أ َْو يَ ْج َع َل اللَّهُ لَ ُه َّن َسبِ ايًل﴾‬ ‫َّى يَـتَـ َوفَّ ُ‬
‫اه َّن ال َْم ْو ُ‬ ‫َحت ٰ‬
‫الزانِيَةُ‬
‫فنسخ الحكم الذي اشتملت عليه هذه اآلية وهو حبس الزانية بحكم الجلد الذي نزل بعد ذلك بقوله‪َّ ﴿ :‬‬
‫ْخ ْذ ُكم بِ ِه َما َرأْفَةٌ فِي ِدي ِن اللَّ ِه إِن ُكنتُ ْم تُـ ْؤِمنُو َن بِاللَّ ِه َوالْيَـ ْوِم ْاآل ِخ ِرۙ‬
‫احد ِّم ْنـ ُه َما ِمائَةَ َج ْل َدةۙ َوَال تَأ ُ‬
‫الزانِي فَاجلِ ُدوا ُك َّل و ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َو َّ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َولْيَ ْش َه ْد َع َذابَـ ُه َما طَائ َفةٌ ِّم َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫وبقيت التًلوة كما نعلم فبقيت تًلوة هذه اآليات ليعلم العباد نعمة اهلل عليهم بالتخفيف فإن القرآن أنما نزل لغايتين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬التعبد بتًلوته ألنه كًلم رب العالمين‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬بيان األحكام الشرعية التي تعبد اهلل بها عباده وتخفيف اهلل عز وجل على عباده في بعض األحكام‪.‬‬

‫‪ ‬الوجه الثاني‪( :‬نسخ التًلوة مع بقاء الحكم)‬


‫جاء في الصحيحين عن عبد اهلل بن عباس ‪‬أنه قال‪ :‬قال عمر بن الخطاب ‪‬وهو جالس على منبر رسول‬
‫اهلل ﷺ إن اهلل قد بعث محمدا ﷺ بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما انزل عليه اية الرجم قرأناها ووعيناها‬
‫وعقلناها فرجم رسول اهلل ﷺ ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل‪ :‬ما نجد الرجم في كتاب‬
‫اهلل فيضلوا بترك فريضة أنزلها اهلل وإن الرجم في كتاب اهلل حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت‬
‫الحبَل أو االعتراف‪ .‬قال‪ :‬وقد قرأتها ﴿والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة﴾‪.‬‬
‫البينة أو كان َ‬
‫رجم رسول اهلل ﷺ ورجمنا بعده"‪.‬‬
‫فبقي حكمها ونسخت تًلوتها‪.‬‬

‫‪ ‬الوجه الثالث‪( :‬نسخ التًلوة والحكم)‬


‫ومما نسخ رسمه وحكمه ما روي في مسلم وغيره عن أم المؤمنين عائشة ‪ ‬أنها قالت‪" :‬كان فيما أنزل من القرآن‬
‫﴿ َعشر رضعات معلومات يحرمن﴾ ثم نسخ [بخمس معلومات] فتوفي رسول اهلل ﷺ وهن فيما يقرأ من القرآن"‪.‬‬
‫أي كان قد نزل من القرآن آية تنص على أن الرضاع المحرم عشر رضعات فأكثر ونسخت هذه اآلية قبل وفاة النبي‬
‫ﷺ بوقت قليل بخمس رضعات فظلت عند بعض الصحابة مما يقرأه هو من القرآن لعدم علمه بنسخه إال بعد‬
‫وفاة النبي ﷺ‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫الضابط الرابع‪( :‬النسخ نوعان)‪ :‬أي باعتبار البدل وعدمه‪.‬‬
‫فهو إما أن يكون إلى بدل‪ ،‬وإما أن يكون إلى غير بدل‪.‬‬
‫‪ -‬األول‪( :‬نسخ إلى بدل)‬
‫ْت بِ َخ ْير ِّم ْنـ َها أ َْو ِمثْلِ َها﴾ صريحة‬ ‫ِ‬
‫نسها نَأ ِ‬ ‫ِ‬
‫نس ْخ م ْن آيَة أ َْو نُ َ‬
‫وهو الموافق لما جاء في آية النسخ في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما نَ َ‬
‫في أن النسخ يكون فيه بدل فوعد اهلل أنه من المنسوخ ما ال بد له من بدل مماثل أو خير مما نسخ‪ .‬فًل يزال‬
‫المؤمنون في نعمة من اهلل ال تنقص بل تزيد فإنه إذا أتى بخير منها زادت النعمة وإن أتى بمثلها كانت النعمة باقية‪.‬‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫ومن األمثلة على النسخ إلى بدل‪ :‬نسخ التخيير بين الصوم واإلطعام المنصوص عليه في قوله تعالى ﴿ َو َعلَى الذ َ‬
‫ص ْمهُ﴾‪.‬‬ ‫ام ِم ْس ِكين﴾ بتعيين إيجاب الصوم في قوله‪﴿ :‬فَ َمن َش ِه َد ِمن ُك ُم َّ‬
‫الش ْه َر فَـلْيَ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يُطي ُقونَهُ ف ْديَةٌ طَ َع ُ‬
‫اس ْب ُكم بِ ِه اللَّهُ﴾‪.‬‬
‫ومن األمثلة كذلك قوله تعالى‪﴿ :‬إِن تُـب ُدوا ما فِي أَن ُف ِس ُكم أَو تُ ْخ ُفوهُ يح ِ‬
‫َُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫سا إَِّال ُو ْس َع َها﴾‪.‬‬ ‫نسخت بقوله تعالى‪َ ﴿ :‬ال يُ َكلِّ ُ َّ‬
‫ف اللهُ نَـ ْف ا‬

‫‪ -‬النوع الثاني‪( :‬نسخ إلى غير بدل)‬


‫ْت بِ َخ ْير ِّم ْنـ َها أ َْو ِمثْلِ َها﴾‬ ‫ِ‬
‫نسها نَأ ِ‬ ‫ِ‬
‫نس ْخ م ْن آيَة أ َْو نُ َ‬
‫وجاء أيضا في قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ما نَ َ‬
‫حيث أفادت اآلية أنه ال بد أن يؤتى مكان الحكم المنسوخ بحكم آخر خير منه أو مثله‪ ،‬وذلك بأن اهلل سبحانه‬
‫وتعالى إذا نسخ حكم اآلية بغير بدل فإن هذا يكون بمقتضى حكمته رعاي اة لمصالح عباده فيكون عدم الحكم خيرا‬
‫من ذلك الحكم المنسوخ في نفعه للناس‪.‬‬
‫وحينئذ يكون قد نسخ حكم اآليات السابقة بما هو خير منه حيث كان عدم الحكم خيرا للناس‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك‪ :‬نسخ تقديم الصدقة عند النجوى بين يدي رسول اهلل ﷺ كما في قوله تعالى‪ ،‬وقد مر معنا‪:‬‬
‫ص َدقَةاۙ َٰذلِ َ‬
‫ك َخ ْيـ ٌر لَّ ُك ْم َوأَط َْه ُرۙ فَِإن لَّ ْم تَ ِج ُدوا فَِإ َّن‬ ‫ِّموا بَـ ْي َن يَ َد ْي نَ ْج َوا ُك ْم َ‬
‫ول فَـ َقد ُ‬ ‫الر ُس َ‬ ‫آمنُوا إِ َذا نَ َ‬
‫اج ْيتُ ُم َّ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫﴿يَا أَيُّـ َها الذ َ‬
‫اب اللَّهُ َعلَْي ُك ْم‬ ‫اللَّه غَ ُف ِ‬
‫ص َدقَاتۙ فَِإ ْذ لَ ْم تَـ ْف َعلُوا َوتَ َ‬ ‫يم﴾‪ ،‬نسخت بقوله‪﴿ :‬أَأَ ْش َف ْقتُ ْم أَن تُـ َقد ُ‬
‫ِّموا بَـ ْي َن يَ َد ْي نَ ْج َوا ُك ْم َ‬ ‫ور َّرح ٌ‬‫َ ٌ‬
‫َطيعُوا اللَّهَ َوَر ُسولَهُۙ َواللَّهُ َخبِ ٌير بِ َما تَـ ْع َملُو َن﴾‪.‬‬ ‫الزَكاةَ وأ ِ‬ ‫ِ‬
‫الص ًَل َة َوآتُوا َّ َ‬ ‫يموا َّ‬ ‫فَأَق ُ‬
‫فنسخت اآلية األولى إلى غير بدل‪.‬‬
‫وقد روى اإلمام الطبري ‪ ‬عن علي قال‪" :‬إن في كتاب اهلل آلية ما عمل بها أحد قبلي وال يعمل بها أحد بعدي‪﴿ :‬يَا‬
‫َّ ِ‬
‫ص َدقَةا﴾‪ .‬قال‪ :‬فرضت ثم نسخت"‪.‬‬ ‫ِّموا بَـ ْي َن يَ َد ْي نَ ْج َوا ُك ْم َ‬
‫ول فَـ َقد ُ‬
‫الر ُس َ‬ ‫آمنُوا إِذَا نَ َ‬
‫اج ْيتُ ُم َّ‬ ‫أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ِ‬
‫الص ًَل َة‬ ‫اب اللَّهُ َعلَْي ُك ْم فَأَق ُ‬
‫يموا َّ‬ ‫ص َدقَاتۙ فَِإ ْذ لَ ْم تَـ ْف َعلُوا َوتَ َ‬ ‫وعن قتادة قال‪﴿" :‬أَأَ ْش َف ْقتُ ْم أَن تُـ َقد ُ‬
‫ِّموا بَـ ْي َن يَ َد ْي نَ ْج َوا ُك ْم َ‬
‫َطيعُوا اللَّهَ َوَر ُسولَهُۙ َواللَّهُ َخبِ ٌير بِ َما تَـ ْع َملُو َن﴾ فريضتان واجبتان ال رجعة ألحد فيهما"‪.‬‬ ‫الزَكاةَ وأ ِ‬
‫َوآتُوا َّ َ‬
‫فنسخت هذه اآلية ما كان قبلها من أمر الصدقة في النجوى‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫قال غفر اهلل له‪ :‬الضابط الخامس‪( :‬لصحة النسخ شرطان)‬
‫يعني يشترط لصحة النسخ وقوع أمرين‪:‬‬
‫‪ ‬األول‪ :‬عدم إمكان الجمع‪.‬‬
‫فإن العلماء يقولون‪ :‬ال نقول بأن هذه اآلية نسخت تلك إال إذا استحال الجمع وإال فالجمع واإلعمال أولى‪.‬‬
‫والقاعدة عند العلماء‪[ :‬أن اإلعمال أولى من اإلهمال]‬
‫فتكون قد عملت بكل ما أنزل اهلل على رسوله ﷺ‪ .‬وهذا بًل شك هو األولى‪ .‬لكن إذا تعارض نصان ولم يكن‬
‫هناك سبيل للجمع بين النصين فيتعين حينئذ القول بالنسخ‪.‬‬
‫ومن األمثلة على ذلك في الجمع‪ :‬آيات الصفح والعفو‪.‬‬

‫ين﴾ مع آيات القتال‪ ،‬ومنها قوله‪َ ﴿ :‬وقَاتِلُ ُ‬


‫وه ْم َحتَّى‬ ‫ِِ‬ ‫اص َف ْح إِ َّن اهللَ يُ ِح ُّ‬
‫ب ال ُْم ْحسن َ‬ ‫ف َع ْنـ ُه ْم َو ْ‬‫منها قوله تعالى‪﴿ :‬فَا ْع ُ‬
‫ِّين لِله﴾‪.‬‬ ‫ِ ِ‬
‫َال تَ ُكو َن ف ْتـنَةٌ َوي ُكو َن الد ُ‬
‫فيمكن الجمع؛ ففي حال ضعف األمة يكون الصفح والعفو ألن مقاتلتها تعني القضاء عليها‪.‬‬
‫وفي حال قوة األمة يكون القتال حتى تكون كلمة اهلل هي العليا ويكون الدين هلل‪.‬‬

‫‪ ‬الشرط الثاني‪( :‬العلم بتأخر الناسخ)‪.‬‬


‫أي أن يثبت تأخر أحد النصين عن اآلخر فإذا علم تأخر أحد النصين على اآلخر صح النسخ‪.‬‬
‫من األمثلة على ذلك ما أخرجه مسلم عن عائشة ‪ ‬أنها قالت‪" :‬كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات‬
‫يحرمن‪ .‬ثم نسخن بخمس معلومات"‪.‬‬
‫معلومات ّ‬
‫فهذا فيه بيان وعلم وثبوت لتأخر الناسخ عن المنسوخ‪.‬‬
‫ض ْع افاۙ فَِإن يَ ُكن‬ ‫ف اللَّهُ َعن ُك ْم َو َع ِل َم أ َّ‬
‫َن فِي ُك ْم َ‬ ‫من األمثلة على ذلك أيضا ما مر معنا في آية األنفال‪ْ ﴿ :‬اآل َن َخ َّف َ‬
‫ين﴾‬ ‫َ‬ ‫صابَِرةٌ يَـغْلِبُوا ِمائَـتَـ ْي ِنۙ َوإِن يَ ُكن ِّمن ُك ْم أَل ٌ‬
‫ْف يَـغْ ِلبُوا أَلْ َف ْي ِن بِِإ ْذ ِن اللَّ ِهۙ واللَّهُ َم َع َّ ِ‬
‫الصاب ِر َ‬ ‫ِّمن ُكم ِّمائَةٌ َ‬
‫فاآلية في قوله‪﴿ :‬اآلن خفف اهلل عنكم﴾ فيها بيان للناسخ المتأخر‪.‬‬

‫فوائد معرفة النسخ مما يستفاد من العلم بالنسخ أمور‪:‬‬


‫‪ -‬أولها‪ :‬االستعانة به في تفسير القرآن الكريم فإنه مما ال شك فيه أن بيان الحكم الشرعي المستنبط من اآليات الذي‬
‫دلت عليه اآليات يدل على بيان المعنى وال بد‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ :‬معرفة تاريخ التشريع وتدرج الحكم‪ ،‬معرفة الن اسخ والمنسوخ والعلم به تجلي لنا تاريخ التشريع وكيف تدرج اهلل‬
‫عز وجل بعباده في إثبات األحكام الشرعية‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫‪ -‬ثالثا‪ :‬إفادة الداعية في دعوته إلى اهلل ومراعاة أحوال الناس في تدرجه بهم واقتدائه بالقرآن بكًلم اهلل عز وجل ألن‬
‫النسخ راعى فيه الشارع مراحل الدعوة اإلسًلمية‪.‬‬
‫المفتون بحكم قد نُسخ‪،‬‬
‫‪ -‬رابعا‪ :‬ضبط الفتوى حتى ال يفتي ُ‬
‫ت ال ِ‬
‫ْح ْك َم َة فَـ َق ْد أُوتِ َي َخ ْيـ ارا‬ ‫شاءُۙ َوَمن يـُ ْؤ َ‬ ‫لما روي عن ابن عباس ‪‬أنه قال في قوله تعالى ﴿يـ ْؤتِي ال ِ‬
‫ْح ْك َمةَ َمن يَ َ‬ ‫ُ‬
‫اب﴾ قال‪" :‬ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحرامه وحًلله فهذه‬ ‫َكثِيراۙ َوَما يَ َّذ َّكر إَِّال أُولُو ْاألَلْبَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ا‬
‫من الحكمة التي يؤتيها اهلل عز وجل من يشاء من عباده"‪ .‬حتى تنضبط فتواهم على ما جاء في القرآن من الناسخ‬
‫والمنسوخ والمحكم والمتشابه والحرام والحًلل‪.‬‬
‫‪ -‬خامسا‪ :‬بيان حكمة الشرع في مراعاة مصالح العباد فإن الشرع راعى مصالح العباد حينما شرع لهم األحكام وكذلك‬
‫راعى مصالحهم حينما خفف عنهم هذه األحكام وألغاها‪.‬‬
‫‪ -‬سادسا‪ :‬في النسخ إظهار نعمة اهلل عز وجل برفعه تكليفا أضيق إلى ما هو أخف‪ ،‬كنقل عدة المتوفى عنها زوجها من‬
‫عام في أول األمر إلى أربعة أشهر وعشر‪ ،‬وغيرها‪ ،‬من المواطن التي تتضح فيها نعمة اهلل عز وجل على عباده بتخفيف‬
‫األحكام‪.‬‬

‫وفي النهاية أسئلة الواجب‪:‬‬

‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬ما الدليل على نسخ القرآن للقرآن وعلى نسخ السنة للقرآن؟ وهل اإلجماع والقياس‬
‫ينسخان القرآن أم ال؟‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬لثبوت النسخ ثًلث طرق‪ .‬اذكرها مع التمثيل‪.‬‬
‫األسئ ـلة‬
‫‪ -‬السؤال الثالث‪ :‬ما هي شروط النسخ؟‬
‫‪ -‬السؤال الرابع‪ :‬المنسوخ من آيات القرآن باعتبار بقاء التًلوة والحكم من عدمه ال يخرج عن ثًلثة‬
‫وجوه‪ .‬اذكرها مع مثال على كل واحدة منها‪.‬‬

‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل خيرا وبارك فيكم وأحسن إليكم‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫الـمحاضـرة الـرابعــة عشـرة‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‪ .‬نحمدك اللهم أنت الذي علمت الناس في دينهم حكما وفي دنياهم أحكاما‪ ،‬وجعلت أمة خاتم‬
‫الرسل المرحومة أكرم األمم كلها منزال ومقاما‪ ،‬وما زلت ألهمت من شئت وتلهم من تشاء منهم في كل قرن استعمال السنن‬
‫المطهرة على وجهها إلهاما‪ ،‬ونهيتهم عن التفرق في الدين وأوضحت لهم سبيل المتقين فأصبحوا بنعمتك بررة كراما‪ ،‬ومن‬
‫فكك عدولهم نفوا عن الدين وينفون عنه انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين حتى عاد علم الحق معتدال قواما‪،‬‬
‫من اهلل علينا باإليمان وهدانا إسًلما‪ ،‬لطفا بنا ورحمة علينا وبركة فينا وإحسانا إلينا‬
‫ونصلي عليك أيها النبي الكريم بك ّ‬
‫وإكراما‪ ،‬فكان ذل ك لزاما‪ ،‬ولوالك ما اهتدينا وال صلينا وال علمنا قرآنا وال أحكاما‪ ،‬فكنت أنت داعينا إلى اهلل سبحانه وتعالى‬

‫وهاديا لنا ورؤوفا بنا وفينا إماما‪ ،‬ورضي اهلل عنكم أصحاب النبي ﷺ بكم انتظم مبتغى األمة األمية ا‬
‫بدءا وختاما‪ ،‬ومنكم‬
‫استتب أمر الملة المكرمة أصًل وفرعا واهتماما‪ ،‬ورحمة اهلل وبركاته عليكم أهل القرآن والحديث أهل السنة أنتم كشفتم للناس‬
‫عن صراح الحق وصحاح السنن وقح الشريعة ظًلما‪ ،‬وعن وجه الدين القويم والصراط المستقيم لثاما‪ ،‬وكيف وقد جعلكم اهلل‬
‫للمتقين إماما وبعد فأهًل ومرحبا بكم أيها األحباب الكرام مع المحاضرة الرابعة عشرة‪ ،‬مع‪ :‬الباب التاسع‪( :‬المطلق والمقيد)‬
‫ترد في القرآن والسنة المطهرة كذلك نصوص مطلقة بأوامر ونواه مختلفة غير مقيدة بصفة معينة أو حال مخصوصة أو غاية‬
‫محددة‪.‬‬
‫وترد في القرآن والسنة أيضا نصوص مقيدة بقيود معتبرة في تقرير الحكم لحكمة سامية ينص عليها الشارع أحيانا ويترك‬
‫التنصيص عليها أحيانا أخرى ليدرب العقول على استنباطها‪:‬‬
‫‪ -‬بالقرائن الملحوظة من سياق الكًلم‪.‬‬
‫‪ -‬أو من العرف اللغوي‪.‬‬
‫‪ -‬أو العرف الشرعي‪.‬‬
‫‪ -‬أو العرف العادي‪.‬‬

‫وفي األحكام المطلقة والمقيدة رعاية لمصالح العباد في العاجل واآلجل بوجه عام‪ .‬وتعالوا بنا لنتعرف على المطلق والمقيد‪.‬‬
‫قال المصنف غفر اهلل له‪( :‬المطلق والمقيد)‪ ،‬وفيه ثًلثة ضوابط‪.‬‬
‫الضابط األول‪( :‬المطلق ما دل على الحقيقة بًل قيد والمقيد ما دل على الحقيقة بقيد)‪.‬‬
‫المطلق في اللغة ‪ :‬تدور مادته على معنى االنفكاك من القيد فهو المنفك من كل قيد حسيا كان القيد أو معنويا تقول‬
‫أطلقت الدابة إذا فككت قيدها وسرحتها وهذا إطًلق حسي‪.‬‬
‫ويقال طلق الرجل امرأته إذا فك قيدها من االرتباط به وهذا إطًلق معنوي‪.‬‬
‫أما المطلق اصطًلحا‪ :‬فقد ذكره المصنف هنا فقال المطلق هو ما دل على الحقيقة بًل قيد‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫فالمطلق ما دل على الحقيقة من غير أن يقيدها بقيد أو بوصف أو نحو ذلك‪.‬‬
‫ومن األمثلة عليه قول‪ :‬رأيت رجًل‪ ،‬أك ِرم طالبا‪ ،‬اكس أرملة‪ ،‬أطعم مسكينا‪ ،‬اعطف على يتيم‪.‬‬
‫فيتيم ومسكين وأرملة وطالب ورجل مطلق من غير أن يقيده بوصف معين‪.‬‬
‫فالرجل مطلق في جنس الرجال‪ ،‬والطالب مطلق في الطلبة‪ ،‬واألرملة والمسكين كذلك‪.‬‬
‫ومن األمثلة في القرآن قوله تعالى‪﴿ :‬إِنَّ َما َح َّرَم َعلَْي ُك ُم ال َْم ْيتَةَ َو َّ‬
‫الد َم﴾‪.‬‬
‫وقوله حرمت عليكم الميتة والدم فالدم في اآليتين مطلق أطلقه ولم يقيده بأي وصف معين‪.‬‬
‫وقوله كذلك من األمثلة في كفارة اليمين أو تحرير رقبة في كفارة اليمين وفي كفارة الظهار فتحرير رقبة من قبل أن‬
‫يتماسا‪ ،‬ولم يقيد الرقبة في الموضعين بالمؤمنة فهو مطلق في الرقاب‪.‬‬

‫قال المصنف غفر اهلل له‪ :‬المقيد اصطًلحا هو ما دل على الحقيقة بقيد‪.‬‬
‫‪ -‬نقول‪ :‬أوال المقيد في اللغة وما يقابل المطلق فالقيد هو الربط حسيا كان أو معنويا تقول قيدت الدابة اذا ربطتها بحبل‬
‫ونحوه وهذا قيد حسي‪.‬‬
‫وفي الحديث‪" :‬اإليمان قيد الفتك‪ ،‬ال يفتك مؤمن"‪.‬‬
‫قال ابن منظور معناه أن االيمان يمنع عن الفتك بالمؤمن‪.‬‬
‫‪ -‬والمقيد اصطًلحا كما ذكر المصنف هو ما دل على الحقيقة بقيد سواء كان هذا القيد حسيا سواء كان بصفة أو نحو‬
‫ذلك‬
‫ص َّدقُواۙ فَِإن‬ ‫سلَّ َمةٌ إِلَ ٰى أ َْه ِل ِه إَِّال أَن يَ َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ومن األمثلة عليه قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وَمن قَـتَ َل ُم ْؤمناا َخطَأا فَـتَ ْح ِر ُير َرقَـبَة ُّم ْؤمنَة َوديَةٌ ُّم َ‬
‫سلَّ َمةٌ إِلَ ٰى أ َْهلِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫َكا َن من قَـ ْوم َع ُد ٍّو ل ُك ْم َو ُه َو ُم ْؤم ٌن فَـتَ ْح ِر ُير َرقَـبَة ُّم ْؤمنَة َوإن َكا َن من قَـ ْوم بَـ ْيـنَ ُك ْم َوبَـ ْيـنَـ ُهم ِّميثَا ٌق فَديَةٌ ُّم َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يما﴾‪.‬‬ ‫يما َحك ا‬ ‫َوتَ ْح ِر ُير َرقَـبَة ُّم ْؤمنَةۙ فَ َمن لَّ ْم يَج ْد فَصيَ ُ‬
‫ام َش ْه َريْ ِن ُمتَتَاب َع ْي ِن تَـ ْوبَةا ِّم َن اللَّهۙ َوَكا َن اللَّهُ َعل ا‬
‫فقيد الشهرين بالتتابع‪.‬‬

‫الضابط الثاني‪( :‬ال يحمل المطلق على المقيد إال في حالة واحدة‪ :‬إذا اتحد السبب والحكم)‪.‬‬
‫األصل في حمل المطلق أن يكون على إطًلقه وأن يعمل به وأن يحمل المقيد على تقييده ويعمل به وال تجوز مخالفة‬
‫هذا األصل إال بدليل يوجب تقييد المطلق أو إطًلق المقدم‪.‬‬
‫ولذلك فحاالت المطلق مع المقيد أربع حاالت‪:‬‬
‫السا ِرقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْ ِديَـ ُه َما﴾‪.‬‬
‫السا ِر ُق َو َّ‬
‫‪ ‬الحالة األولى‪ :‬أن يختلف السبب والحكم إطًلق األيدي‪.‬في قوله‪َ ﴿ :‬و َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫هذا مطلق مع قوله‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنُوا إِذَا قُمتُم إِلَى َّ ِ ِ‬
‫وه ُك ْم َوأَيْديَ ُك ْم إلَى ال َْم َراف ِق َو ْام َ‬
‫س ُحوا‬ ‫الص ًَلة فَا ْغسلُوا ُو ُج َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫بِرء ِ‬
‫وس ُك ْم َوأ َْر ُجلَ ُك ْم إِلَى الْ َك ْعبَـ ْي ِن﴾‪.‬‬‫ُُ‬

‫‪109‬‬
‫هل يصح أن يحمل المطلق في اآلية األولى في آية قطع يد السارق على المقيد في آية الوضوء؟‬
‫هنا الحكم في اآلية األولى وجوب قطع يد السارق‪ ،‬والحكم في اآلية الثانية وجوب غسل أيدي المتوضئ‪.‬‬
‫سبب القطع في اآلية األولى هو السرقة‪ ،‬وسبب الحكم في اآلية الثانية القيام إلى الصًلة‪.‬‬
‫فهنا اختلف الحكم‪ :‬هنا قطع األيدي وهنا غسل األيدي‪.‬‬
‫واختلف السبب‪ :‬هنا السرقة وهنا القيام إلى الصًلة‪.‬‬
‫فحينئذ ال يحمل المطلق على المقيد ألن الحكم مختلف والسبب مختلف‪.‬‬

‫‪ ‬الحالة الثانية‪ :‬أن يتحد الحكم ويختلف السبب‪.‬‬


‫ودو َن لِ َما قَالُوا فَـتَ ْح ِر ُير َرقَـبَة ِّمن قَـ ْب ِل‬ ‫ِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫سائِ ِه ْم ثُ َّم يَـعُ ُ‬ ‫ين يُظَاه ُرو َن من نِّ َ‬ ‫ففي عتق الرقاب في كفارة الظهار جاء مطلقا ﴿ َوالذ َ‬
‫وعظُو َن بِ ِهۙ َواللَّهُ بِ َما تَـ ْع َملُو َن َخبِ ٌير﴾‪.‬‬ ‫اساۙ ٰذَلِ ُك ْم تُ َ‬
‫أَن يَـتَ َم َّ‬
‫سلَّ َمةٌ إِلَ ٰى أ َْهلِ ِه إَِّال أَن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وجاءت في كفارة قتل الخطأ مقيدة باإليمان ﴿ َوَمن قَـتَ َل ُم ْؤمناا َخطَأا فَـتَ ْح ِر ُير َرقَـبَة ُّم ْؤمنَة َوديَةٌ ُّم َ‬
‫ص َّدقُواۙ فَِإن َكا َن ِمن قَـ ْوم َع ُد ٍّو لَّ ُك ْم َو ُه َو ُم ْؤِم ٌن فَـتَ ْح ِر ُير َرقَـبَة ُّم ْؤِمنَة﴾‪.‬‬ ‫يَ َّ‬
‫طيب الحكم في األولى تحرير رقبة والحكم في الثانية أيضا تحرير رقبة‪ .‬الحكم هنا عتق رقبة والحكم هنا عتق رقبة‪.‬‬
‫والسبب في األولى الظهار ﴿والذين يظاهرون من نسائهم﴾‪ ،‬والسبب في الثانية قتل الخطأ‪.‬‬
‫فهنا الحكم متحد متفق والسبب مختلف فًل يحمل المطلق على المقيد‪.‬‬
‫لكن هنا ينبغي أن ينتبه إلى أمر وهو أن المقصود هنا أنه ال يجزئ في كفارة قتل الخطأ إال عتق الرقبة المؤمنة فلو‬
‫أعتق رقبة غير مؤمنة لم تجزئه هذه الكفارة ولزمه أن يعتق رقبة أخرى مؤمنة‪.‬‬
‫أما في كفارة الظهار فتجزئ أي رقبة‪ ،‬إذا أعتق رقبة مؤمنة أجزأه ذلك وإذا أعتق رقبة غير مؤمنة أجزأه ذلك‪.‬‬
‫ولعل من حكمة اهلل عز وجل أال تغيب المرأة على زوجها وأن يسهل وييسر على عباده كفارة الظهار لكن حتى في‬
‫كفارة الظهار وغيرها يستحب عموما عتق الرقبة المؤمنة‪.‬‬
‫والدليل على ذلك ما أخرجه مسلم من حديث أبي معاوية السلمي ‪‬قال‪" :‬كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل‬
‫أحد والجوالية فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم اسف كما يأسفون لكني‬
‫صفقتها صفقة فأتيت رسول اهلل ﷺ (يعني لطمها على وجهها وكأنه يعني احزنه ذلك وندم) قال فأتيت رسول اهلل‬
‫‪ -‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل أفًل أعتقها؟‬ ‫ﷺ فعظم ذلك ّ‬
‫علي‪.‬‬
‫‪ -‬فأتيته بها فقال لها أين اهلل؟‬ ‫قال‪ :‬ائتني بها‪.‬‬
‫‪ -‬قال‪ :‬من أنا؟‬ ‫قالت‪ :‬في السماء‪.‬‬
‫‪ -‬قال‪ :‬أعتقها فإنها مؤمنة"‪ ............‬فهذا هو األصل‪.‬‬ ‫قالت‪ :‬أنت رسول اهلل ﷺ‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫‪ ‬الحالة الثالثة‪ :‬أن يتحد السبب ويختلف الحكم‪.‬‬
‫َح ٌد ِّمن ُكم ِّم َن الْغَائِ ِط أ َْو‬
‫اء أ َ‬
‫ض ٰى أ َْو َعلَ ٰى َس َفر أ َْو َج َ‬ ‫من األمثلة على ذلك إطًلق األيدي في قوله تعالى ﴿إِن ُكنتُم َّم ْر َ‬
‫َالمستم النِّساء فَـلَم تَ ِج ُدوا ماء فَـتـي َّمموا ص ِعي ادا طَيِّبا فَامسحوا بِوج ِ‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِدي ُكم ِّم ْنهُ﴾‪.‬‬ ‫ا ْ َ ُ ُُ‬ ‫َ ا ََ ُ َ‬ ‫َ ُْ ُ َ َ ْ‬
‫الص ًَل ِة فَا ْغ ِسلُوا‬
‫آمنُوا إِذَا قُ ْمتُ ْم إِلَى َّ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫األيدي هنا مطلقة لم يقيدها بشيء وجاءت مقيدة في الوضوء ﴿يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫وجوه ُكم وأَي ِدي ُكم إِلَى الْمر ِاف ِق وامسحوا بِرء ِ‬
‫وس ُك ْم َوأ َْر ُجلَ ُك ْم إِلَى الْ َك ْعبَـ ْي ِن﴾‪.‬‬‫ََ َ ْ َ ُ ُُ‬ ‫ُُ َ ْ َْ َ ْ‬
‫‪ -‬فالحكم في اآلية األولى وجوب التيمم للصًلة عند فقد الماء‪.‬‬
‫‪ -‬والحكم في اآلية الثانية وجوب الوضوء للصًلة‪.‬‬
‫‪ -‬السبب في اآلية األولى القيام للصًلة‪.‬‬
‫‪ -‬والسبب في اآلية الثانية كذلك القيام للصًلة‪.‬‬
‫‪ -‬فالسبب متحد متفق لكن الحكم مختلف فيظل أيضا في هذه الحالة المطلق على إطًلقه والمقيد على تقييده‬
‫فتمسح األيدي للتيمم إلى الرسغين وتغسل األيدي في الوضوء إلى المرفقين ألن هذا حكم وهذا حكم‪.‬‬

‫‪ ‬الحالة الرابعة‪ :‬أن يتحد السبب والحكم فيحمل المطلق على المقيد‪.‬‬
‫ِ‬
‫دما‬‫الد ُم َولَ ْح ُم الْخن ِزي ِر﴾ مطلق ال يقيد بشيء مع تقييده بكونه ا‬ ‫ت َعلَْي ُك ُم ال َْم ْيتَةُ َو َّ‬‫ومنها إطًلق الدم في قوله ﴿ ُح ِّرَم ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫مسفوحا في قوله تعالى ﴿قُل َّال أَج ُد في َما أُوح َي إِلَ َّي ُم َح َّراما َعلَ ٰى طَاعم يَط َْع ُمهُ إَِّال أَن يَ ُكو َن َم ْيتَةا أ َْو َد اما َّم ْس ُف ا‬
‫وحا أ َْو‬ ‫ا‬
‫لَ ْح َم ِخن ِزير﴾ فقيد الدم هنا بكونه مسفوحا‪.‬‬
‫طيب في اآلية األولى جاء تحريم الدم مطلقا وفي اآلية الثانية جاء تحريم الدم مقيدا بكونه مسفوحا‪.‬‬
‫والحكم في اآليتين واحد وهو حرمة الدم‪.‬‬
‫والسبب في اآليتين واحد وهو الضرر واإليذاء فالسبب والحكم في اآليتين متحد‪.‬‬
‫فحينئذ يحمل المطلق على المقيد فيكون المحرم هو الدم المسفوح في جميع اآليات حمًل للمطلق على المقيد‪.‬‬

‫قال المصنف عفا اهلل عنه‪( :‬ال يلجأ إلى المطلق والمقيد إال إذا تعذر الجمع)‪.‬‬
‫فاألصل في النصوص الشرعية اإلعمال فيظل المطلق على إطًلقه والمقيد على تقييده وال يلجأ إلى القول بحمل‬
‫المطلق على المقيد إال في حالة عدم إمكانية الجمع بين النصوص بأن يبقى المطلق على إطًلقه والمقيد على تقييده‪.‬‬
‫أما في حالة عدم إمكانية الجمع فاألمر يختلف‪.‬‬

‫الفرق بين المطلق والعام‪:‬‬


‫يفرق بين العام والمطلق بأن العام هو ما يستغرق جميع أفراده على سبيل العموم والشمول فًل يتحقق العموم حتى‬
‫يشمل ويستوعب كل فرد من أفراده‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫مثال‪ :‬إطعام المساكين‪ ،‬ال بد أن يطعم جميع المساكين حتى يقع فعل اإلطعام عاما بخًلف المطلق فإن المطلق هو‬
‫ما يستغرق جميع األفراد على سبيل البدل فالمطلق تقول‪( :‬أطعم مسكينا) فلو أطعم مسكينا واحدا أجزأه وأي‬
‫مسكين يصلح ألنه على سبيل البدل ويجزئ ويقع فعل اإلطعام بأي مسكين‪.‬‬
‫أسئلة الواجب‪:‬‬

‫األسئـ ـلة‬
‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬عرف المطلق والمقيد لغة واصطًلحا‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬للمطلق مع المقيد أربع حاالت ال يخرج عنها فما هي‬
‫هذه الحاالت؟ وفي أي حالة منها يحمل المطلق على المقيد؟‬
‫‪ -‬السؤال الثالث‪ :‬ما الفرق بين المطلق والعام؟‬

‫وبهذا ينتهي هذا اللقاء‪.‬‬


‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل خيرا وبارك فيكم وأحسن إليكم‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫المحاضرة الخامسة عشرة‬
‫أهًل ومرحبا بكم أيها األحباب الكرام مع المحاضرة الخامسة عشرة ومع [المنطوق والمفهوم]‪.‬‬
‫أيها األحباب الكرام‪ ،‬إن داللة األلفاظ على مدلوالتها‪ :‬إما أن تكون بالمنطوق‪ ،‬وإما أن تكون بالمفهوم‪.‬‬
‫سواء وافق المفهوم في حكمه حكم المنطوق أو خالفه‪ .‬وهذا ما سنتعرف عليه إن شاء اهلل تعالى في هذا الباب‪.‬‬
‫قال غفر اهلل له‪( :‬المنطوق والمفهوم)‪ ،‬وفيه أربعة ضوابط‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط األول‪[ :‬المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق‪ ،‬والمفهوم هو ما أومأ إليه اللفظ ال في محل النطق]‬
‫قوله المنطوق‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المنطوق لغة‪ :‬مفعول فعله نطق أي بين وأوضح‪ .‬ومنه قوله تعالى ﴿ َه َذا كتَابـُنَا يَنط ُق َعلَْي ُكم بِال َ‬
‫ْح ِّق﴾‪.‬‬
‫فنطق الكتاب أي بين وأوضح‪ ،‬والنطق‪ :‬هو التكلم بصوت وحرف يؤدي معنى‪.‬‬
‫وأما المنطوق اصطًلحا ‪ :‬فكما عرفه المصنف هنا بقوله هو ما دل عليه اللفظ في حال النطق أي ما يفهم من اللفظ من‬
‫منطوقة ال من مفهومه‪ .‬فاللفظ نفسه دلنا على الحكم‪.‬‬
‫الًلتِي َد َخلْتُم بِ ِه َّن﴾ على نكاح الربيبة في حجر الرجل‬
‫سائِ ُك ُم َّ‬ ‫مثال داللة قوله تعالى‪﴿ :‬وربائِب ُكم َّ ِ ِ‬
‫الًلتي في ُح ُجوِرُكم ِّمن نِّ َ‬ ‫َ ََ ُ ُ‬
‫من زوجته فإن هذا الحكم تدل عليه اآلية بمنطوقها وربائبكم الًلتي في حجوركم من نسائكم الًلتي دخلتم بهن أي هؤالء‬
‫هن محرمات كما سبق ذكره من المحرمات في اآليات‪.‬‬

‫اها ُسلَْي َما َن﴾‪.‬‬


‫َّمنَ َ‬
‫والمفهوم في اللغة‪ :‬مفعول من فهم الشيء أي أدركه وعلمه وأحسن تصوره‪ .‬ومنه قوله تعالى‪﴿ :‬فَـ َفه ْ‬
‫وأما المفهوم اصطًلحا ‪ :‬فهو كما عرفه المصنف غفر اهلل له بقوله‪ :‬هو ما أومأ إليه اللفظ ال في محل النطق وذلك بأن‬
‫يكون حكما لغير المذكور وحاال من أحواله‪ .‬أن يكون المفهوم حكمه غير المذكور أي المنطوق وحاال من أحواله‬
‫مثال‪ :‬داللة قوله تعالى ﴿فَ ًَل تَـ ُقل لَّ ُه َما أ ٍّ‬
‫ُف َوَال تَـ ْنـ َه ْرُه َما﴾‪،‬‬
‫المنطوق في اآلية النهي عن قول أف للوالدين والنهي عن نهر الوالدين وأما المفهوم فإنه له حكم اآلية يستفاد حكم‬
‫بمفهوم غير مذكور في اآلية هذا الحكم الذي يفهم مثًل حرمة ضرب الوالدين هذا دلت عليه اآلية بمفهومها ال بمنطوقها‬
‫فيفهم من اآلية حكما غير مذكور فيها‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الثاني‪[ :‬داللة المنطوق ثًلثة أقسام]‬


‫وقوله داللة المنطوق ‪ :‬أي باعتبار وضوح معناه فإنه على درجات ثًلث‪ ،‬وضوح المعنى في المنطوق على درجات ثًلث‬
‫ذكرها هنا في ثًلثة أقسام‪:‬‬
‫والمؤول‪.‬‬ ‫والظاهر‬ ‫النص‬

‫‪113‬‬
‫‪ -‬األول‪ :‬النص‪.‬‬
‫والنص في اللغة ‪ :‬هو رفع الشيء ومنه وضعه على المنصة أي على غاية الشهرة والظهور والمنصة هي ما تظهر‬
‫عليها العروس لتُرى‪.‬‬
‫وأما النص اصطًلحا ‪ :‬فكما عرفه المصنف غفر اهلل له بقوله هو ما ال يحتمل إال معنى واحدا‪ .‬فالنص قطعي ال‬
‫يدل إال على معنى واحد وال يدل على غيره كداللته مثًل على شخص معين أو على عدد معين كما قال العمريطي‬
‫‪ ‬في نظم الورقات‪.‬‬
‫والنص عرفا‪ :‬كل لفظ وارد لم يحتمل إال معنى واح ادا فقد رأيت جعفرا وقيل ما تأويله تنزيله فليعلم‪.‬‬
‫‪ ‬مثال حتى يتضح معنى النص‪ :‬داللة لفظ جعفر في قولك [رأيت جعفرا في المسجد] فإنه يدل على‬
‫شخص بعينه يقول رأيت جعفرا في المسجد وجعفر هذا إنسان معين ما يختلط بغيره فإنه يدل على‬
‫الشخص المعروف بهذا االسم‬
‫ضى َزي ٌد ِّم ْنـ َها َوطَارا َزَّو ْجنَا َك َها﴾فإنها تدل على شخص بعينه‬
‫‪ ‬ثانيا داللة لفظ زيد في قوله تعالى ﴿فَـلَ َّما قَ َ‬
‫وهو زيد ‪‬وال يفهم منها أنها تدل على غير زيد‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْح ِّج َو َس ْبـ َعة إِذَا‬ ‫‪ ‬مثال ثالث‪ :‬داللة العدد عشرة في قوله تعالى ﴿فَ َمن لَّ ْم يَج ْد فَصيَ ُ‬
‫ام ثًََلثَة أَيَّام في ال َ‬
‫ش َرةٌ َك ِاملَةٌ﴾‪ ،‬فإن العدد عشرة ال يحتمل إال معنى واح ادا وهو العدد المعروف وهذه‬ ‫َر َج ْعتُ ْمۙ تِل َ‬
‫ْك َع َ‬
‫يسمونها [نص قاطع] يدل على المراد وحده وال يدل على غيره فإن العدد عشرة تلك عشرة كاملة ال‬
‫يمكن أن يفهم منها أحد أنها تسعة وال يمكن أن يفهم منها أحد أنها إحدى عشرة‪.‬‬

‫‪ -‬ثانيا القسم الثاني‪ :‬الظاهر‪.‬‬


‫والظاهر في اللغة‪ :‬هو الواضح البين المنكشف وهو خًلف الباطن‪.‬‬
‫وأما الظاهر اصطًلحا‪ :‬فهو المتبادر إلى الذهن عند سماع اللفظ وقيل في معناه هو ما دل بنفسه على معنى راجح‬
‫مع احتمال غيره فالظاهر هو المعنى الذي يسبق إلى الفهم عند اإلطًلق مع احتمال غيره‪ ،‬احتمال المرجوح‪.‬‬
‫فهو أي الظاهر يشترك مع النص في‪:‬‬
‫أن داللته في محل النطق الظاهر منطوق‪ ،‬والنص منطوق‪.‬‬
‫ويختلف عنه في‪ :‬أن النص يفيد معنى ال يحتمل غيره‪ ،‬وأما الظاهر فيفيد معنى عند اإلطًلق مع احتمال غيره‬
‫احتماال مرجوحا ضعيفا كما قال العمريطي ‪ ‬في [نظم الورقات]‪.‬‬
‫والظاهر الذي يفيد ما سمع معنى أنسي والمعنى الذي له وضع [كاألسد]‪ :‬اسم واحد السباع‪ ،‬وقد يرى للرجل‬
‫الشجاع‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫‪ ‬مثال‪ :‬تقول‪ :‬رأيت األسد وهو يأكل فريسته‪.‬‬
‫لفظ األسد هنا يطلق على الحيوان المعروف‪.‬‬
‫وقد يطلق على الشجاع من الناس لكن المعنى األقرب إلى الذهن الظاهر هو المعنى الظاهر داللة لفظ‬
‫األسد على الحيوان المفترس‪ ،‬فهذا هو الظاهر‪.‬‬
‫‪ ‬المثال الثاني‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬فَ َم ِن ا ْ‬
‫ضطَُّر غَْيـ َر بَاغ َوَال َعاد﴾ الباغي هنا‪ :‬يطلق على الجاهل‪ ،‬ويطلق على‬
‫الظالم‪ .‬لكن إطًلقه على الظالم أظهر وأغلب وأقرب إلى الذهن فهو إطًلق راجح وهو الظاهر‪.‬‬

‫‪ -‬القسم الثالث‪[ :‬المؤول]‪.‬‬


‫والمؤول في اللغة‪ :‬من األول وهو الرجوع من "آل إليه" أي رجع إليه‪.‬‬
‫واما المؤول اصطًلحا‪ :‬فهو ما حمل لفظه على المعنى المرجوح لدليل يقتضيه‪.‬‬
‫ظهورا‪ ،‬المعنى األبعد عن الذهن‪ ،‬المعنى‬
‫ا‬ ‫وقوله‪" :‬هو ما حمل لفظه على المعنى المرجوح" يعني المعنى األقل‬
‫األضعف‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬لدليل يقتضيه" أي دليل يمنع من إرادة المعنى الظاهر الراجح القريب من الذهن‪ ،‬فهو يخالف الظاهر في‬
‫أن الظاهر يحمل على المعنى الراجح حيث ال دليل يصرفه إلى المعنى المرجوح‪.‬‬
‫وأما المؤول فإنه يحمل على المعنى المرجوح لوجود دليل صارف عن إرادة المعنى الراجح وإن كان كل منهما‬
‫يعني الظاهر المؤول يدل عليه اللفظ في محل النطق‪.‬‬
‫وقد قال العمريطي ‪ ‬تعالى في [نظم الورقات]‪" :‬والظاهر المذكور حيث أشكل مفهومه فبالدليل أ ُِّو َل وصار بعد‬
‫ذلك التأويل مقيدا في االسم بالدليل" ( يعني أنه صرف من المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي‪ ،‬من المعنى الراجح‬
‫الى المعنى المرجوح‪،‬‬
‫الذ ِّل ِم َن َّ‬
‫الر ْح َم ِة﴾‬ ‫اح ُّ‬ ‫‪ ‬بدليل مثال قوله تعالى‪َ ﴿ :‬وا ْخ ِف ْ‬
‫ض لَ ُه َما َجنَ َ‬
‫كلمة جناح‪ :‬المعنى الظاهر لها القريب المتبادر إلى الذهن هو جناح الطائر المعروف‪.‬‬
‫والمعنى الخفي البعيد هو التواضع وخفض الجناح وحسن معاملة الوالدين‪.‬‬
‫والمعنى هنا يستحيل حمله على الظاهر الستحالة أن يكون آدمي له أجنحة‪ ،‬فيحمل على الخضوع‬
‫والتواضع وحسن معاملة الوالدين‪ .‬فهنا تحولنا من المعنى الظاهر إلى المعنى المؤول‪ ،‬من المعنى الراجح‬
‫إلى المعنى المرجوح‪ ،‬لقرينة‪.‬‬
‫وهذه القرينة أنه ال يوجد آدمي يكون له أجنحة يطير بها كالطائر الذي يطير بجناحيه فتعين حينئذ أن‬
‫يكون أمر اهلل عز وجل بخفض الجناح للوالدين أي التواضع لهما‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫وه ُك ْم َوأَيْ ِديَ ُك ْم إِلَى‬ ‫‪ ‬المثال الثاني‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬يا أَيُّـها الَّ ِذين آمنُوا إِ َذا قُمتُم إِلَى َّ ِ ِ‬
‫الص ًَلة فَا ْغسلُوا ُو ُج َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ال َْم َرافِ ِق﴾‪ ...‬اآلية‪.‬‬
‫كلمة "قمتم" لها معنيان‪ :‬معنى ظاهر قريب ومعنى خفي‪.‬‬
‫المعنى الظاهر قمتم في الماضي يعني انتهيتم منها‪ ،‬انتهى من الصًلة‪ ،‬انتهى من أداء الصًلة‪.‬‬
‫والمعنى الخفي‪ :‬عزمتم على أداء الصًلة‪ .‬إذا قمتم إلى الصًلة أي عزمتم على أداء الصًلة فإن القيام في‬
‫صرف بداللة السنة النبوية‬
‫هذه اآلية مصروف عن معناه الظاهر إلى معنى العزم على أداء الصًلة وقد ُ‬
‫حيث كان النبي ﷺ يتوضأ قبل الصًلة ال بعدها‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الثالث‪[ :‬األصل حمل اللفظ على ظاهره]‬


‫أي يجب العمل بالظاهر وهو األصل الذي ال ينتقل عنه إال بدليل صحيح يدل على أن المعنى الظاهر غير مراد‪.‬‬
‫ص ًّفا﴾‪.‬‬
‫ص ًّفا َ‬
‫ك َ‬
‫ك َوال َْملَ ُ‬
‫اء َربُّ َ‬
‫مثال قوله تعالى‪َ ﴿ :‬و َج َ‬
‫الظاهر أن اهلل يجيء مجيئاا يليق بجًلله وعظمته‪ .‬أما ادعاء أن المراد "وجاء أمر ربك" تأويل على خًلف الظاهر وهذا‬
‫التأويل يفتقر إلى دليل وليس ثم دليل لصرفه إليه‪.‬‬
‫فعلى هذا يظل المعنى على األصل وهو الظاهر‪.‬‬
‫قال‪[ :‬وال يصح التأويل إال بشروط ثًلثة]‪ ،‬أي ال يصح تأويل اللفظ الظاهر واالنتقال به من المعنى الظاهر الراجح إلى‬
‫المعنى المرجوح إال إذا توفرت ثًلثة شروط مجتمعة‪ .‬فإذا اختل شرط منها لم يصح التأويل وكان تأويًل فاسدا‪.‬‬
‫‪ ‬الشرط األول‪ :‬أن يتعذر حمله على الظاهر أي يتعذر حمل اللفظ على المعنى الظاهر منه‪ ،‬فإن لم يتعذر حمل اللفظ‬
‫على المعنى الظاهر لم يصح التأويل‪.‬‬
‫تعالوا لنأخذ مثاال على ذلك‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬واسأ َِل الْ َقري َة الَّتِي ُكنَّا فِيها وال ِْعير الَّتِي أَقْـبـلْنَا فِيهاۙ وإِنَّا لَص ِ‬
‫ادقُو َن﴾‪.‬‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َْ‬ ‫َ ْ‬
‫المقصود بقوله "واسأل القرية" القرية أول ما يسمع اإلنسان اسم القرية إنما يتبادر إلى ذهنه القرية‪ ،‬يعني المساكن‬
‫والبنيان ونحو ذلك لكن هذا المعنى الظاهر يتعذر حمل لفظ عليه ألن الجدران والحجارة والبناء ال تفهم السؤال وال‬
‫تستطيع الجواب‪ ،‬اهلل عز وجل يقول حكاية عن إخوة يوسف‪ :‬واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها وإنا‬
‫لصادقون‪ ،‬اسأل ا لقرية‪ ،‬القرية جدرانها وعمرانها ال تستطيع الجواب فحينئذ يتعين حمل اللفظ على المعنى المرجوح‬
‫يتعين وهو من يستطيع فهم السؤال ورد الجواب فيكون المعنى "واسأل أهل القرية"‪.‬‬

‫ْج ًَل ِل َو ِْ‬


‫اإل ْك َر ِام﴾‪.‬‬ ‫ك ذُو ال َ‬
‫مثال آخر‪ :‬تأويل قوله تعالى‪َ ﴿ :‬ويَـ ْبـ َقى َو ْجهُ َربِّ َ‬
‫تأويل ه على أن المراد بالوجه "المراد بالوجه الثواب" تأويل فاسد ألنه ال يتعذر حمل اللفظ على المعنى الظاهر وهو‬
‫إثبات الوجه هلل على ما يليق به سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫‪ ‬الشرط الثاني‪ :‬أن تحتمله اللغة العربية أي ال بد أن يكون للتأويل بالمعنى المرجوح وجه في لغة العرب ألن القرآن نزل‬
‫سان َع َربِ ٍّي ُمبِين﴾‪ ،‬فإن لم تدل عليه اللغة العربية كان تأويًل‬ ‫ِِ‬
‫بلسانهم كما قال اهلل عز وجل ﴿بل َ‬
‫فاسدا غير مقبول مثال قوله تعالى ﴿إِ َّن ال ٰلّهَ يَأ ُْم ُرُك ْم أَن تَ ْذبَ ُحوا بَـ َق َرةا﴾‪ ،‬تأولت الرافضة قوله تعالى "بقرة" أن اهلل يأمركم‬
‫أن تذبحوا بقرة قالوا عائشة‪ ،‬وهذا التأويل فاسد ألن اللغة العربية ال تحتمله‪ ،‬ال تقول العرب عن اإلنسان إنه بقرة‪.‬‬

‫ض﴾ تأويل قوله "كرسيه" بأنه العلم تأويل فاسد ألنه ال تحتمله‬ ‫مثال آخر‪ :‬قوله تعالى ﴿و ِسع ُكر ِسيُّهُ َّ ِ‬
‫الس َم َاوات َو ْاأل َْر َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫اللغة العربية إذ ليس في لغة العرب أن من معاني الكرسي العلم‪.‬‬
‫استَـ َوى﴾ تأويل قوله "استوى" بأن المعنى استولى تأويل فاسد ألنه ال‬
‫ش ْ‬‫الر ْح َٰم ُن َعلَى ال َْع ْر ِ‬
‫مثال آخر‪ :‬قوله تعالى ﴿ َّ‬
‫تحتمله اللغة العربية إذ ليس يعرف في لغة العرب استوى بمعنى استولى‪.‬‬

‫‪ ‬الشرط الثالث‪ :‬وجود دليل مرجح‪ ،‬أي ال بد من دليل يدل على إرادة المعنى المرجوح فإن لم يدل عليه دليل صحيح‬
‫كان تأويله حينئذ فاس ادا‪،‬‬
‫الرِج ِيم﴾‪ ،‬ظاهر معنى قوله فإذا قرأت أي انتهيت من‬
‫ان َّ‬ ‫استَ ِع ْذ بِال ٰلَّ ِه ِم َن َّ‬
‫الش ْيطَ ِ‬ ‫مثال قوله تعالى‪﴿ :‬فَِإذَا قَـ َرأْ َ‬
‫ت الْ ُق ْرآ َن فَ ْ‬
‫القراءة‪ ،‬لكن يحمل اللفظ على المعنى المرجوح وهو هنا‪ :‬إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ باهلل‪ ،‬لوجود دليل يرجح‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ما هو الدليل هنا؟ هو أن النبي ﷺ كان يستعيذ بين يدي القراءة ال بعدها وكذلك كان أصحابه ﷺ و‪.‬‬

‫الشجرَة الْملْعونَةَ فِي الْ ُقر ِ‬


‫آن﴾‪ ،‬تأولت الرافضة قوله تعالى والشجرة الملعونة قالوا بأنها بني‬ ‫ْ‬ ‫مثال آخر‪ :‬قوله تعالى ﴿ َو َّ َ َ َ ُ‬
‫أمية‪ ،‬وهذا تأويل فاسد لعدم وجود دليل يرجحه‪.‬‬

‫‪ ‬الضابط الرابع‪[ :‬داللة المفهوم قسمان‪ :‬األول مفهوم الموافقة والثاني مفهوم المخالفة]‪.‬‬
‫أما مفهوم الموافقة فهو ما يوافق حكمه المنطوق‪.‬‬
‫فعندنا منطوق ملفوظ به‪ ،‬وعندنا مفهوم مسكوت عنه‪.‬‬
‫ففي مفهوم ا لموافقة يكون المسكوت عنه موافقا للملفوظ به فيثبت الحكم فيه للمفهوم كثبوته للمنطوق على حد‬
‫سواء أو أن يكون أولى بالحكم منه‪.‬‬
‫ِ َّ ِ‬
‫تعالوا بنا لنأخذ مثاال يوضح كيف يقع التوافق بين المفهوم وبين المنطوق‪ :‬قوله تعالى ﴿إ َّن الذ َ‬
‫ين يَأْ ُكلُو َن أ َْم َو َ‬
‫ال الْيَتَ َام ٰى‬
‫ظُل اْما إِنَّ َما يَأْ ُكلُو َن فِي بُطُونِ ِه ْم نَ اارا﴾ هذه اآلية تدل بمنطوقها على تحريم أكل أموال اليتامى ظلما وتدل بمفهومها‬
‫الموافق لحكم المنطوق على تحريم إحراق أموال اليتامى وعلى تحريم إغراق أموال اليتامى وعلى تحريم إتًلف أموال‬
‫اليتامى بأي نوع من أنواع اإلتًلف ألن هذا مساو لألكل‪ ،‬أي نوع من أنواع اإلتًلف فهو سواء‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫مثال آخر‪ :‬قوله تعالى‪﴿ :‬فَ ًَل تَـ ُقل لَّ ُه َما أ ٍّ‬
‫ُف﴾ يدل بمنطوقه على تحريم األف أي التأفف ويدل بالمفهوم الموافق‬
‫لحكم المنطوق بل هو أولى يدل على تحريم الشتم والضرب ونحو ذلك‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬مفهوم المخالفة‪ :‬وه و ما يخالف حكمه المنطوق فاللفظ يدل على ثبوت حكم للمسكوت عنه وهو مفهوم‬
‫مخالف لما دل عليه المنطوق النتفاء قيد من القيود المعتبرة في الحكم‪.‬‬
‫اك نَـ ْعب ُد وإيَّ َ ِ‬
‫ين﴾‬
‫اك نَ ْستَع ُ‬ ‫مثال‪﴿ :‬إِيَّ َ ُ َ‬
‫تدل بمنطوقها على التوجه إلى اهلل بالعبادة واالستعانة‪،‬‬
‫وتدل بمفهوم المخ الفة لحكم المنطوق على حرمة التوجه بالعبادة واالستعانة لغير اهلل سبحانه وتعالى ألن تخصيصه‬
‫بذلك يدل على انتفائه عن غيره تخصيصه وتوحيده بالعبادة‪ ،‬إياك نعبد‪ :‬ال نعبد إال أنت‪ .‬وإياك نستعين‪ :‬أي ال نستعين‬
‫إال بك فيدل بالمفهوم على حرمة التوجه بالعبادة إلى غيره سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫َّع ِم﴾‪ .‬تدل بمنطوقها على أن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫مثال آخر‪ :‬قوله تعالى في قتل الصيد ﴿ َوَمن قَـتَـلَهُ من ُكم ُّمتَـ َع ِّم ادا فَ َج َزاءٌ ِّمثْ ُل َما قَـتَ َل م َن النـ َ‬
‫من قتل الصيد البري متعمدا قتله فعليه جزاء مماثل لما قتله من اإلبل أو البقر أو الغنم ويدل بالمفهوم المخالف‬
‫لحكم المنطوق على انتفاء الحكم في حق المخطئ فإن اهلل عز وجل قال "ومن قتله منكم متعمدا" فهنا تخلف‬
‫الشرط وهو شرط التعمد تخصيص العمد بوجوب الجزاء به يدل على نفي وجوب الجزاء في قتل الصيد خطأ‪.‬‬
‫ات﴾ تدل بالمنطوق على صحة الحج في األشهر التي حددها اهلل لعباده بالحج وهي‬ ‫ْح ُّج أَ ْش ُه ٌر َّم ْعلُ َ‬
‫وم ٌ‬ ‫قوله تعالى‪﴿ :‬ال َ‬
‫شوال وذو القعدة وذو الحجة وتدل بالمفهوم المخالف لحكم المنطوق على أن الحج في غير هذه األشهر ال يصح‪.‬‬
‫وبهذا ينتهي هذا الباب باب [المنطوق والمفهوم]‪.‬‬

‫أسئلة الواجب‪:‬‬

‫األسئ ـ ـلة‬
‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬عرف ًّ‬
‫كًل مما يأتي‪ :‬المنطوق والمفهوم‪ ،‬النص الظاهر‪ ،‬المؤول لغة واصطًلحا‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬ال يصح تأويل اللفظ عن ظاهره إال إذا توفرت ثًلثة شروط‪ .‬اذكرها مع مثال على كل شرط‪.‬‬
‫‪ -‬السؤال الثالث‪ :‬عرف مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة مع ذكر مثال على كل واحد منهما‪.‬‬

‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل خيرا وبارك فيكم وأحسن إليكم‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫المحاضرة الـسادسة عشرة‬
‫أهًل ومرحبا بكم أيها األحباب الكرام مع المحاضرة السادسة عشرة ومع الباب الحادي عشر [إعجاز القرآن]‪.‬‬
‫اقتضت حكمة اهلل عز وجل أن يظهر على يد كل نبي من أنبيائه معجزة يظهر بها على قومه وتكون دليًل على صدقه في أنه‬
‫مرسل من اهلل تعالى‪ ،‬وقد كانت معجزة كل نبي من جنس ما برع فيه قومه حتى يكون التحدي لهم فيما يعرفون بل فيما يتقنون‬
‫ليكون التحدي أعظم وأشد‪.‬‬
‫‪ -‬فجاءت معجزة عيسى ‪ ‬في إبراء األكمه واألبرص وإحياء الموتى بإذن اهلل وهي من جنس ما برع فيه قومه وهو الطب‬
‫وان لم تكن طباا‪.‬‬
‫‪ -‬وجاءت معجزة موسى ‪ ‬بالعصا واليد وغيرهما وهي من جنس ما برع فيه قومه وهو السحر وإن لم تكن سحرا‪.‬‬
‫‪ -‬وجاءت معجزة نبينا محمد ﷺ وقد تفوق قومه في البيان والفصاحة والبًلغة فجاءت معجزته عليه الصًلة والسًلم من‬
‫جنس ما برع فيه قومه فأنزل اهلل عز وجل عليه القرآن وأعجزهم فلم يستطيعوا اإلتيان بمثله أو بعضه‪.‬‬

‫وقد بين العلماء هذا العجز عن اإلتيان بمثل هذا القرآن بدراسة نصوص التحدي وإثبات العجز وما يتعلق بذلك كله في هذا‬
‫المبحث اللطيف وهو مبحث إعجاز القرآن‪.‬‬
‫اإلعجاز أيها األحباب هو إثبات العجز‪.‬‬
‫والمعجزة في اللغة اسم فاعل مأخوذ من العجز وهو القصور عن فعل الشيء‪.‬‬
‫اب﴾‪.‬‬ ‫ت أَ ْن أ ُكو َن ِمثْل َٰه َذا الْغُر ِ‬ ‫َع َج ْز ُ‬
‫ومنه قوله تعالى ﴿أ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ومنه العجوز سميت كذلك لعجزها عن كثير من األمور‪،‬‬
‫ت يَا َويْـلَتَى َءأَلِ ُد َوأَنَا َع ُجوٌز َو َٰه َذا بَـ ْعلِي َش ْي اخا﴾‬
‫كما قال تعالى‪﴿ :‬قَالَ ْ‬

‫وأما المعجزة اصطًلحا فهي «أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم عن المعارضة»‪.‬‬
‫وقولنا أمر خارق للعادة‪ :‬أي مخالف لألحكام المألوفة المعتادة‪.‬‬
‫مقرون بالتحدي‪ :‬أي يقصد به تحدي القوم لتقوم عليهم به الحجة‪.‬‬
‫سالم عن المعارضة‪ :‬فًل يعارضه أحد باإلتيان بمثله‪.‬‬

‫قال القرآن معجز كله ‪ :‬أي أن القرآن من أوله إلى آخره بكل ألفاظه وشرائعه‪ ،‬بآياته وصوره كله معجز‪ ،‬بل إننا نجد اإلعجاز في‬
‫أصوات حروفه ووقع كلماته كما نجده في اآلية والسورة‪ ،‬ونجده في أسلوبه وعلومه‪ ،‬وفي األثر الذي أحدثه في العالم فغير به‬
‫وجه التاريخ‪ ،‬في كل هذا وغيره نجد اإلعجاز واضحا جليا ألن القرآن كًلم اهلل الذي ال يستطيع أحد أن يأتي بمثله‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫قال‪ :‬وتحدى اهلل به األمم كلها ‪ ،‬اهلل عز وجل تحدى بهذا القرآن كل األمم على مراحل في أسلوب عام يتناول العرب وغير‬
‫العرب من اإلنس والجن تحديا يظهر على طاقتهم مجتمعين‪.‬‬

‫فقد ثبت أن الرسول ﷺ تحداهم جميعا بالقرآن على مراحل ثًلث‪:‬‬


‫آن َال يَأْتُو َن بِ ِمثِْل ِه‬
‫ْج ُّن َعلَ ٰى أَن يأْتُوا بِ ِمثْ ِل َٰه َذا الْ ُقر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫اإلنس وال ِ‬ ‫‪ ‬المرحلة األولى‪ :‬جاءت في قوله تعالى ﴿قُل لَّئِ ِن ْ ِ‬
‫اجتَ َم َعت ِْ ُ َ‬
‫ض ُه ْم لِبَـ ْعض ظَ ِه ايرا﴾‪.‬‬
‫َولَ ْو َكا َن بَـ ْع ُ‬
‫أي لو ظهر الجن لإلنس واجتمعت األمم كلها أولها وآخرها في مكان واحد ودبروا واجتمعت قدراتهم كلها على أن‬
‫يأتوا بمثل هذا القرآن فًل يأتون به ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا‪.‬‬

‫‪ ‬المرحلة الثانية‪ :‬جاءت في قوله تعالى‪﴿ :‬قُل فَأْتُوا بِع ْش ِر سور ِّمثْلِ ِه م ْفتَـريات وا ْدعُوا م ِن استَطَ ْعتُم ِّمن ُد ِ‬
‫ون اللَّ ِه إِن ُكنتُ ْم‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ ََ َ‬ ‫َ َُ‬ ‫ْ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫صادق َ‬
‫َ‬
‫أي بزعمكم أن هذا القرآن مفترى فأتوا بعشر سور مثله تضاهيه ولم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يفعلوا ذلك‪.‬‬

‫ين﴾‪.‬‬ ‫ون اللَّ ِه إِن ُكنتُم ِ ِ‬‫‪ ‬المرحلة الثالثة‪ :‬جاءت في قوله تعالى ﴿قُل فَأْتُوا بِسورة ِّمثْلِ ِه وا ْدعُوا م ِن استَطَ ْعتُم ِّمن ُد ِ‬
‫صادق َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ‬
‫ورة ِّمن ِّمثْلِ ِه َوا ْدعُوا‬
‫سَ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وكرر اهلل عز وجل هذا التحدي في قوله‪َ ﴿ :‬وإن ُكنتُ ْم في َريْب ِّم َّما نَـ َّزلْنَا َعلَ ٰى َع ْبدنَا فَأْتُوا ب ُ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ون اللَّ ِه إِن ُكنتُم ِ ِ‬
‫ُشه َداء ُكم ِّمن ُد ِ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫فكأنه أراد أن يقول لهم إل ن تقاصرت هممكم وقدراتكم أن تأتوا بسورة مماثلة لسوره على التحديد وتطابق فربما سهل‬
‫عليكم أن تأتوا بسورة مماثلة لسوره على سبيل التقريب ولكنهم مع كل هذا لم ولن يستطيعوا ولو بأقصر سورة من‬
‫سوره‪.‬‬

‫قال غفر اهلل له‪ :‬الضابط الثاني‪[ :‬أنواع اإلعجاز في القرآن ثًلثة]‪:‬‬
‫أي أن أوجه اإلعجاز وأنواعه كثيرة لكن مردها إلى هذه الثًلثة‪:‬‬
‫اب َال‬ ‫‪ ‬أوال‪ :‬اإلعجاز اللغوي‪ :‬ومن حسن الطالع أن تبدأ أول سورة في المصحف بحروف مقطعة ﴿الم ۝ ٰذَلِ َ ِ‬
‫ك الْكتَ ُ‬
‫ين﴾‪ ،‬كأن اهلل يقول لهم هذه حروفكم يا معشر العرب هل تستطيعون أن تأتوا بمثل هذا القرآن‬ ‫ريبۙ فِ ِيهۙ ه ادى لِّل ِ‬
‫ْمتَّق َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬
‫المعجز؟ والجواب الذي ال محيص عنه أنه ال‪ ،‬فحتى في بابكم الذي أنتم فيه مبرزون ال تبارون فيه ال تستطيعون‪ .‬وباب‬
‫اللغة معجز في القرآن فبيان القرآن أسمى وأعلى من كل بيان‪ .‬واإلنسان إذا وقف على القرآن ال يزيده العلم به والوقوف‬
‫على أسراره إال إعظاما وإكبارا لهذا القرآن العظيم فعظمته من عظمة المتكلم به ومنزله سبحانه وتعالى وهو العلي العظيم‪.‬‬
‫اب ال ُْم ْب ِطلُو َن﴾‪.‬‬ ‫نت تَـ ْتـلُو ِمن قَـ ْبلِ ِه ِمن كِتَاب َوَال تَ ُخطُّهُ بِيَ ِمينِ َ‬
‫كۙ إِذاا َّال ْرتَ َ‬ ‫قال ربنا جل جًلله‪َ ﴿ :‬وَما ُك َ‬

‫‪120‬‬
‫فلذلك كان النبي ﷺ أمي ا ال يقرأ وال يكتب ونزل عليه هذا القرآن الذي أعجز كل المتعلمين وأعجز أهل البيان‬
‫والشعر والبًلغة والفصاحة‪.‬‬
‫اب﴾‪ .‬في باب اإليجاز‬ ‫اص َحيَاةٌ يَا أُولِي ْاألَلْبَ ِ‬
‫ص ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ومن األمثلة على هذا اإلعجاز اللغوي قول اهلل تعالى‪َ ﴿ :‬ولَ ُك ْم في الْق َ‬
‫فإنهم قارنوه بما استحسنوه من كًلم العرب من قولهم القتل أنفى للقتل‪ ،‬وعند المقارنة يظهر البون شاسعا والتفاوت بعيدا‬
‫في البًلغة واإليجاز كليهما‪ ،‬وذلك من وجوه‪:‬‬
‫‪ -‬أولها أن عبارة القرآن أكثر فائدة مما قاله العرب الشتمالها على ما قالوه مع زيادة معان حسنة منها إبانة العدل‬
‫لذكره القصاص وإبانة الغرض المرغوب فيه لذكر الحياة ومنها االستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم جل جًلله‪.‬‬
‫‪ -‬الثاني‪ :‬أنها أوجز وأقصر فإن عبارة القرآن "القصاص حياة" عشرة أحرف وأما قوله "القتل أنفى للقتل" فأربعة عشر‬
‫حرفا‪.‬‬
‫‪ -‬الثالث‪ :‬بُعد عبارة القرآن عن التكلف والكلفة بالتكرير الشاق على النفس‪.‬‬
‫‪ -‬الرابع‪ :‬حسنها بتأليف الحروف المتًلئمة وهو مدرك بالحس وموجود في اللفظ فإن الخروج من الفاء ولكم في‬
‫القصاص إلى الًلم أعدل من الخروج من الًلم إلى الهمزة القتل أنفى لبعد الهمزة من الًلم‪.‬‬
‫‪ -‬وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء في القصاص حياة أعدل من الخروج من األلف إلى الًلم‪.‬‬
‫فباجتماع هذه األمور كلها كان القرآن أبلغ وأحسن وإن كانت عبارة العرب بليغة‪.‬‬

‫اءهُ لَ ْم يَ ِج ْدهُ َش ْيئاا‬ ‫‪ ‬المثال الثاني‪ :‬قول اهلل تعالى ﴿ َوالَّ ِذين َك َفروا أَ ْع َمالُ ُه ْم َكسراب بِِق َيعة يَ ْحسبُهُ الظَّ ْمآ ُن َماء َحت ٰ ِ‬
‫َّى إ َذا َج َ‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫َ ُ‬
‫اب﴾‪.‬‬ ‫ْحس ِ‬ ‫ووج َد اللَّ َه ِعن َدهُ فَـوفَّاهُ ِحسابهُۙ واللَّهُ س ِر ِ‬
‫يع ال َ‬ ‫ََ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ َ‬
‫فهذه اآلية في باب التشبيه ففيها إخراج ما ال تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه وفيها بطًلن المتوهم مع شدة الحاجة‬
‫ماء ثم يظهر أنه على خًلف ما قدر لكان بليغا لكن لفظ القرآن جاء‬
‫إليه ولو قيل في معنى هذه اآلية يحسبه الرائي ا‬
‫أبلغ ألن الظمآن أشد حرصا على تحقيق حسبانه وتعلق قلبه به ثم بعد هذه الخيبة حصل على الحساب الذي يصيره‬
‫إلى عذاب األبد في النار‪.‬‬
‫وتشبيه أعمال الكفار بالسراب من حسن التشبيه فكيف إذا ضم ذلك مع حسن النظم وعذوبة اللفظ وكثرة الفائدة‬
‫وصحة الداللة؟ ال شك أنه أبلغ وأبلغ وأحسن وأحسن‪.‬‬

‫الرأْ ُ‬
‫س َش ْيباا﴾‪.‬‬ ‫‪ ‬من األمثلة أيضا على إعجاز القرآن في باب اللغة قول اهلل تعالى ﴿ َوا ْشتَـ َع َل َّ‬
‫فهذا في باب االستعارة من أبلغ ما يكون فقد قالوا إن أصل االشتعال للنار لكنه في هذا الموضع أبلغ وحقيقته كثرة‬
‫الشيب في الرأس إال أن الكثرة لما كانت تتزايد تزايدا سريعا صارت في االنتشار واإلسراع كاشتعال النار وله موضع‬
‫في البًلغة عجيب‪ ،‬وذلك أن انتشار الشيب في الرأس ال يُتًلفى كاشتعال النار تماما‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫‪ ‬الثاني‪ :‬اإلعجاز التشريعي‪ :‬اشتمل القرآن على تشريع كله إعجاز فهو تشريع شامل لكافة أوجه التشريع ما يتعلق منها‬
‫بالفرد أو بالمجتمع‪ ،‬بالعقيدة أو بالعبادة أو بالمبادئ واألخًلق‪ ،‬أو االجتماع أو االقتصاد أو السياسة في السلم أو في‬
‫الحرب‪ ،‬في السفر أو الحضر‪ ،‬في الليل أو النهار‪ ،‬هو تشريع كامل مستوف لدقيق المسائل وجليلها وصغيرها وكبيرها‬
‫محكم متقن ال نقص فيه وال عيب وال قصور وال خلل‪ ،‬أحكم تشريع وأكمل نظام عجز البشر وما زالوا عن اإلتيان بمثل‬
‫تشريعه أو اإلتيان بمثل سياسته أو نظامه‪ .‬فحين ننظر في التشريعات البشرية والقوانين الوضعية نرى البون الشاسع بين هذا‬
‫وذاك مما يكشف لنا وجه اإلعجاز التشريعي في القرآن العظيم‪.‬‬

‫فهذا التشريع بشموله وكماله وإحكامه أكبر من أن تحيط به العقول البشرية في جيل واحد أو في مجموعة من األجيال‬
‫فضًل عن أن يحيط به عقل بشري واحد فى جيل واحد‪.‬‬
‫لقد جاء القرآن الكريم بتشريع من الهداية واإلصًلح للخلق أجمعين وإقامتهم على طريق الحق والصًلح والفًلح فلم‬
‫تسم شريعة من الشرائع أن تبلغ ما في شريعة القرآن من أحكام ويسر ودقة‪ ،‬ذلك أنها شريعة اهلل تعالى الذي تنطلق في‬
‫ُ‬
‫تكاليفها من رحمته سبحانه بعباده ومراعاة مصالحهم وقدراتهم البشرية‪.‬‬

‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫ب‬
‫ام َك َما ُكت َ‬
‫الصيَ ُ‬
‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬
‫آمنُوا ُكت َ‬ ‫‪ ‬ومن األمثلة على إعجاز القرآن في تشريعاته‪ ،‬أوال قول اهلل تعالى ﴿يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ين ِمن قَـ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَـتَّـ ُقو َن﴾‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫َعلَى الذ َ‬
‫ففي تشريع الصيام مع فرضيته ضمنه المنافع النفسية والخلقية والمجتمعية‪ ،‬ففيه تهذيب شهوات النفس وتقوية‬
‫للتحكم في رغباتها وترويض لها على ال صبر على الطاعات واالعتدال في الملذات أيضا حتى يسهل انقيادها لصاحبها‬
‫فًل تجمح به إن رام خيرا أو تشرد به إلى اآلفات والشرور وهذا أيضا تذكير للمسلم بحالة إخوانه الفقراء والمحتاجين‬
‫فإن كان المانع له عن األكل والشرب في الصيام هو التعبد فهناك من يمنعهم مانع آخر وهو الفقر والحاجة‪.‬‬

‫اع إِلَْي ِه َسبِ ايًل﴾‪ ،‬وقوله أيضا‪َ ﴿ :‬وأَذِّن فِي الن ِ‬ ‫َّاس ِح ُّج الْبـ ْي ِ‬
‫‪ ‬ثانيا‪ :‬قوله تعالى ﴿ َولِلَّ ِه َعلَى الن ِ‬
‫وك‬ ‫َّاس بِال َ‬
‫ْح ِّج يَأْتُ َ‬ ‫استَطَ َ‬ ‫ت َم ِن ْ‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض ِامر يأْتِ ِ‬
‫ومات َعلَ ٰى َما‬ ‫ين من ُك ِّل فَ ٍّج َع ِميق ۝ لِّيَ ْش َه ُدوا َمنَاف َع لَ ُه ْم َويَ ْذ ُك ُروا ْ‬
‫اس َم اللَّه في أَيَّام َّم ْعلُ َ‬ ‫ِر َج ااال َو َعلَ ٰى ُك ِّل َ َ َ‬
‫س الْ َف ِق َير﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رَزقَـهم ِّمن ب ِه ِ‬
‫يمة ْاألَنْـ َعامۙ فَ ُكلُوا م ْنـ َها َوأَطْع ُموا الْبَائ َ‬
‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫وهذه اآليات فيها تشريع لعبادة عظيمة وركن كبير من أركان اإلسًلم وهو الحج وهو‬
‫عباد ة مالية بدنية وفي االولى بذل للمال لركوبه وزاده وسكنه وهديه وغير ذلك وفي هذا مثل ما في الزكاة تماما وفي‬
‫الثانية تربية للنفس على تحمل المشاق وترك ما اعتادت عليه في إقامتها من دعة أو سكون وتعويد لها على الصبر‬
‫على حرارة الصيف أو برد الشتاء وعلى الحل واالرتحال وتغيير المبيت وكثرة التنقل أشبه ما يكون في جيش‬
‫المجاهدين في سبيل اهلل‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫وال تخفى آثار ذلك من فوائد وهو فوق هذا لقاء سنوي بين جموع المسلمين من شتى أقطار األرض يتفقد فيه بعضهم‬
‫أحوال بعض ويعرف بعضهم بعضا فيشعر المسلم باألخوة اإلسًلمية بأبعادها ويعاني بعض معاناتهم‪.‬‬

‫الش ْيطَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬


‫ان‬ ‫اب َو ْاألَ ْزَال ُم ِر ْج ٌ‬
‫س ِّم ْن َع َم ِل َّ‬ ‫آمنُوا إِنَّ َما الْ َخ ْم ُر َوال َْم ْيس ُر َو ْاأل َ‬
‫َنص ُ‬ ‫‪ ‬المثال الثالث‪ :‬في قوله تعالى ﴿يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫اجتَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُـ ْفلِ ُحو َن﴾‪.‬‬
‫فَ ْ‬
‫فهذه اآلية فيها تحريم للخمر لكن الناظر في القرآن يعل م يقينا أنه معجز تمام اإلعجاز ويزداد اليقين في ذلك إذا‬
‫تمت مقارنة ما جاء في القرآن مع تشريع البشر‪.‬‬
‫ففي عام ألف وتسعمئة وتسعة عشر أصدرت السلطات األمريكية قانونا يحرم الخمر حينما رأت هذه األمة الناشئة‬
‫أضرار تلك العادة الضارة على العمل والتقدم واستمر العمل بهذا القانون أربعة عشر عاما لكن انظر معي إلى‬
‫المحصلة لهذا القانون كانت المحصلة كالتالي‪:‬‬
‫‪ -‬أوال‪ :‬تضاعفت أسعار الخمور أضعافا مضاعفة‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪ :‬بدأ الناس في تصنيع الخمر سرا‬
‫‪ -‬ثالثا‪ :‬افتتاح أكثر من مئة ألف محل لبيع الخمور‪.‬‬
‫‪ -‬رابعا‪ :‬سجن مئات اآلالف والحكم على البعض باإلعدام‪.‬‬
‫‪ -‬خامسا‪ :‬زيادة حوادث الطرق ليًل لتوافد المشترين للخمور سرا‪.‬‬
‫‪ -‬سادسا‪ :‬اضطرار المشرع األمريكي للتراجع عن تحريم الخمر وإباحتها مرة أخرى‪.‬‬

‫هذا قانون البشر وهذه معالجة البشر أما القرآن فقد عالج القضية معالجة مختلفة وتم اقتًلع تلك العادة الضارة‬
‫من األمة اإلسًلمية إلى األبد فأنزل اهلل عليهم‪:‬‬
‫سنااۙ إِ َّن فِي َٰذلِ َ‬
‫ك َآليَةا لَِّق ْوم‬ ‫َوِرْزقاا َح َ‬ ‫َّخ ُذو َن ِم ْنهُ َس َك ارا‬
‫اب تَـت ِ‬
‫يل َو ْاألَ ْعنَ ِ‬
‫َّخ ِ‬ ‫أوال قوله تعالى‪﴿ :‬وِمن ثَمر ِ‬
‫ات الن ِ‬
‫ََ‬ ‫َ‬
‫تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا فالسكر‬ ‫يَـ ْع ِقلُو َن﴾ ‪ ،‬فأشار إليهم أنه ليس من الرزق الحسن‪ ،‬فجعل القسمة ثنائية‬
‫ليس من الرزق الحسن‪.‬‬
‫َّاس َوإِثْ ُم ُه َما أَ ْكبَـ ُر ِمن‬
‫ك َع ِن الْ َخ ْم ِر َوال َْم ْي ِس ِرۙ قُ ْل فِي ِه َما إِثْ ٌم َكبِ ٌير َوَمنَافِ ُع لِلن ِ‬
‫ثانيا‪ :‬ثم أنزل عليهم قوله ﴿يَ ْسأَلُونَ َ‬
‫نـَّ ْف ِع ِه َما﴾ إشارة إلى أن العاقل ال يقدم على فعل شيء ضرره أكبر من نفعه وأن عليه أن يفكر في األمر‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫آمنُوا َال تَـ ْق َربُوا‬ ‫ثالثا‪ :‬ثم نزل التحريم في أوقات معينة فقط وهي أوقات الصلوات في قوله تعالى‪﴿ :‬يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫َّى تَـ ْعلَ ُموا َما تَـ ُقولُو َن﴾‪...........‬كل هذا تدرج‪.‬‬
‫الص ًَلةَ َوأَنتُ ْم ُس َك َار ٰى َحت ٰ‬
‫َّ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب‬ ‫آمنُوا إِنَّ َما الْ َخ ْم ُر َوال َْم ْيس ُر َو ْاأل َ‬
‫َنص ُ‬ ‫ثم نزل التحريم القطعي في كل األوقات في قوله تعالى ﴿يَا أَيـُّ َها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫اجتَنِبُوهُ لَ َعلَّ ُك ْم تُـ ْف ِل ُحو َن﴾‪.‬‬ ‫و ْاألَ ْزَالم ِرجس ِّمن َعم ِل َّ ِ‬
‫الش ْيطَان فَ ْ‬ ‫ُ ْ ٌ ْ َ‬ ‫َ‬

‫‪123‬‬
‫وللمتدبر أن يطيل النظر فيما تحويه هذه اآلية وما بعدها من تهيئة للتحريم ومراعاة لواقع القوم وتمكن الخمر منهم‬
‫فمزج النص القاطع في تحريمها ببيان آثارها وعواقب شربها الخطيرة وآثار طاعة اهلل وعواقب معصيته‪.‬‬
‫النوع الثالث من أنواع اإلعجاز هو‪ :‬اإلعجاز العلمي‪.‬‬
‫القرآن أيها األحباب كًلم ربنا كًلم اهلل جل جًلله والكون كله من خلق اهلل سبحانه وتعالى ومن تمام حكمة الحكيم‬
‫الخبير أن يقع التطابق التام بين كًلم اهلل تعالى وبين حقائق هذا الكون ونظامه‪.‬‬
‫ش يـُغْ ِشي اللَّْي َل‬
‫استَـ َو ٰى َعلَى ال َْع ْر ِ‬ ‫ات و ْاألَر ِ ِ ِ‬
‫ض في ستَّة أَيَّام ثُ َّم ْ‬
‫كما قال ربنا جل وعًل ﴿إِ َّن ربَّ ُكم اللَّهُ الَّ ِذي َخلَ َق َّ ِ‬
‫الس َم َاو َ ْ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ب ال َْعالَم َ‬ ‫َّرات بِأ َْم ِرهِۙ أ ََال لَهُ الْ َخل ُ‬
‫ْق َو ْاأل َْم ُرۙ تَـبَ َار َك اللَّهُ َر ُّ‬ ‫سخ َ‬‫وم ُم َ‬
‫ُّج َ‬
‫س َوالْ َق َم َر َوالن ُ‬ ‫َّه َار يَطْلُبُهُ َحثِيثاا َو َّ‬
‫الش ْم َ‬ ‫النـ َ‬
‫وقد جاء في القرآن ما يزيد على ألف آية تتحدث عن معالم هذا الكون وتذكر مفرداته من السماوات واألرض‬
‫والشمس والقمر والكواكب والنجوم والجبال والبحار واألنهار والمطر والرعد والبرق إلى غير ذلك وإذا كانت هذه‬
‫اآليات قد ذكرت تلك المفردات في سياق لفت األنظار إلى مظاهر قدرة اهلل العزيز الجبار سبحانه وتعالى في خلقه‬
‫استدالال على تفرده سب حانه بالربوبية واإلالهية وقياسا عليها أحقية البعث الذي أنكره الكافرون‪ ،‬فإنها مع ذلك قد‬
‫جاءت في أسلوب وعبارة تفتح أمام العقل البشري آفاقا واسعة للتفكير في دالالتها عبر عصوره المتعاقبة من بعد‬
‫نزول القرآن فيقوم لديه من هذه الدالالت في كل عصر ما يشهد بالحق الذي جاءت به‪.‬‬
‫وفي عصرنا الذي نعيشه وفي غضون عشرات قليلة من السنين وبالقياس إلى تاريخ البشرية الممتد وصلت المكتشفات‬
‫العلمية المتعلقة بالكون في آفاقه وفي أنفس مخلوقاته ما لم تصل إليه من قبل وانطًلقا من اهتمام المسلمين بكتاب‬
‫ربهم تبارك وتعالى فإن علماءهم في هذا المجال بدأوا يمعنون النظر والفكر في هذه اآليات ويلتمسون فيها من‬
‫جوانب القدرة فيما أشارت إليه ما يعد جانبا من جوانب اإلعجاز القرآني يصلح لدعوة الناس إلى دين اهلل سبحانه‬
‫وتعالى ويكون سببا في زيادة إيمان المؤمنين وطمأنينة قلوبهم وهو أمر جليل طلبه نبي اهلل إبراهيم الخليل ‪.‬‬
‫ال‬ ‫ادا ۝ وال ِ‬
‫ْجبَ َ‬ ‫ومن األمثلة على اإلعجاز العلمي في القرآن قول اهلل تعالى في سورة النبأ‪﴿ :‬أَلَم نَجع ِل ْاألَر ِ‬
‫َ‬ ‫ض م َه ا‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َْ‬
‫ادا﴾ فاهلل جل وعًل يخبرنا في هذه اآليات أنه جعل الجبال أوتادا ووصف الجبال بأنها أوتاد هو من أبلغ صور‬ ‫أ َْوتَ ا‬
‫اإلعجاز العلمي في كتاب اهلل وهذه شهادة صدق بأن القرآن الكريم كًلم اهلل العليم الخبير وأن محمدا ﷺ هو‬
‫خاتم أنبيائه ورسله وأنه ﷺ كان مؤيدا موصوال بالوحي معلما من قبل خالق السماوات واألرض ما ينطق عن الهوى‬
‫إن هو إال وحي يوحى‪.‬‬
‫في الوقت الذي يصف فيه القرآن الجبال بأنها أوتاد قبل أربعة عشر قرنا نجد كل المجامع اللغوية والعلمية إلى يومنا‬
‫هذا تعرف الجبل بأنه نتوء أرضي يرتفع بارزا فوق ما يحيط به من األرض بصورة تفوق ارتفاع التل فجاءت الدراسات‬
‫الميدانية في منتصف القرن الثامن عشر الميًلدي وأثبتت أن القشرة األرضية تزداد في السمك تحت كل التضاريس‬
‫المرتفعة فوق سطح البحر مثل الجبال والربى والتًلل والهضاب والقارات ويبلغ سمك القشرة األرضية مداه في‬

‫‪124‬‬
‫المناطق الجبلية حيث تندفع مادة الجبل لتخترق الغًلف الصخري لألرض الذي يبلغ سمكه في المتوسط مئة كيلو‬
‫متر لتطفو في مادة لزجة شبه منصهرة عالية الكثافة توجد تحت الغًلف الصخري لألرض مباشرة وتعرف باسم [النطاق‬
‫الضعيف] وتحكم مادة الجبل الطافية في نطاق الضعف هذا قوانين الطفو التي تؤمن لكتلة الجبل دعما طافيا يعين‬
‫الس َم ِاء َك ْي َ‬
‫ف‬ ‫ف ُخ ِل َق ْ‬
‫ت ۝ َوإِلَى َّ‬ ‫اإلبِ ِل َك ْي َ‬
‫الجبل على االنتصاب فوق سطح األرض وسبحان القائل ﴿أَفَ ًَل يَنظُُرو َن إِلَى ِْ‬
‫ت﴾‬ ‫ف نُ ِ‬
‫صبَ ْ‬ ‫ال َك ْي َ‬ ‫َ‬ ‫ُرفِ َع ْ‬
‫ت ۝ وإِلَى ال ِ‬
‫ْجبَ ِ‬
‫كلما أخذت عوامل التعرية من قمم الجبال ارتفعت تلك الجبال بفعل مادة وشاح األرض‪ .‬وظل األمر كذلك حتى‬
‫تتساوى تلك االمتدادات العميقة للجبال مع سمك الغًلف الصخري لألرض وحينئذ يتوقف الجبل عن االرتفاع وتصل‬
‫االمتدادات العميقة للجبال إلى أضعاف مضاعفة الرتفاعاتها فوق سطح األرض وتتراوح بين عشرة أضعاف وخمسة‬
‫بناء على التباين في كثافة الصخور المكونة للكتلة الجبلية‪.‬‬
‫عشر ضعفا ا‬
‫وعلى ذلك فإن امتدادات الجبال تحت سطح األرض تفوق ارتفاعاتها فوق سطح األرض بأضعاف مضاعفة تصل إلى‬
‫أكثر من خمسة عشر ضعفا كما ذكرنا فقمة إفرست التي يبلغ ارتفاعها فوق سطح البحر حوالي التسعة كيلومترات‬
‫تقريبا لها امتدادات في الغًلف الصخري لألرض يصل إلى حوالي مئة وخمسة وتًلتين كيلو مترا‪.‬‬
‫وهنا تتضح صورة من أروع صور اإلعجاز العلمي فى القرآن الكريم الذي نزل قبل أربعة عشر قرنا ليصف الجبال بأنها‬
‫أوتاد ففي كلمة واحدة "أوتاد" شمل التعبير القرآني وصف كل من الشكل الخارجي للجبال فوق سطح األرض‬
‫وامتداداتها العميقة تحت ذلك السطح كما وصف وظيفة الجبال وهي تثبيت الغًلف الصخري لألرض في مادة‬
‫الوشاح الل دنة الموجودة تحت ذلك الغًلف الصخري مباشرة تماما كالوتد الذي يندس معظمه تحت سطح األرض‬
‫بينما يرتفع الجزء األصغر منه فوق ذلك السطح فسبحان الذي أنزل هذا الوصف الدقيق للجبال قبل أربعة عشر قرنا‬
‫على خاتم أنبيائه ورسله وسبحان الذي حفظ لنا هذا الوصف الدقيق شاهدا على أن القرآن الكريم كًلم اهلل الذي أبدع‬
‫هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته‪.‬‬
‫أسئلة الواجب‪:‬‬

‫األسئ ـلة‬
‫‪ -‬السؤال األول‪ :‬عرف اإلعجاز والمعجزة لغة واصطًلحا؟‬
‫‪ -‬السؤال الثاني‪ :‬اذكر مراحل التحدي بالقرآن اذكر هذه المراحل الثًلثة‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا‪ :‬أنواع اإلعجاز في القرآن ثًلثة‪ ،‬اذكرها مع الدليل والتمثيل‪.‬‬

‫أقول قولي هذا وأستغفر اهلل العظيم لي ولكم‪ ،‬وجزاكم اهلل خيرا وبارك فيكم وأحسن إليكم‪.‬‬
‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل وبركاته‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫الخاتـم ـ ــة‬

‫وهنا تنتهى محاضرات مادة (عل ـوم القرآن)‬


‫من كتاب "البدايـة في علوم القرآن"‬
‫شرح فضيلة الشيخ‪ :‬سامـي بن بالـي (حفظه اهلل)‪ ،‬ونفع اهلل به اإلسـًلم والمسلمين‪،‬‬
‫وجزاه اهلل عنا خير الجزاء‪ ،‬وبهذا تنتهى محاضرات الفصل الدراسي االول (الفرقـة الثـاني ــة)‬
‫العلم‪ ،‬نفع اهلل بكم‪ ،‬وزادكم ِعلم ا‪ ،‬وعمًلا (اللهم آميــن)‬
‫بالتوفيق لجميع طلبة ِ‬

‫نسألكم الدعاء لمن قام بجمع وتنسيق المحاضرات‪ ،‬حتى خرجت إليكم بهذا الشكل البسيط الفريد‪.‬‬

‫أخرجه لكم‪ :‬أخوكم في اهلل (فهد بن عبدالعـزيـ ــز)‬


‫"جمهورية مصـر العربية"‬
‫"نسألكم الدعاء"‬

‫‪126‬‬
‫فهـرس "تفريـغ المحاضرات"‬

‫الصفحـ ــة‬ ‫المحاضـ ــرة‬ ‫م‬


‫‪2‬‬ ‫المـحاض ــرة األولـى‬ ‫‪1‬‬

‫‪11‬‬ ‫المـحاض ــرة الثــاني ــة‬ ‫‪2‬‬

‫‪17‬‬ ‫المـحاض ــرة الثالث ــة‬ ‫‪3‬‬

‫‪23‬‬ ‫المـحاض ــرة الرابعـ ــة‬ ‫‪4‬‬

‫‪29‬‬ ‫المـحاض ــرة الخامس ــة‬ ‫‪5‬‬

‫‪38‬‬ ‫المـحاض ــرة السادس ــة‬ ‫‪6‬‬

‫‪45‬‬ ‫المـحاض ــرة السابع ــة‬ ‫‪7‬‬

‫‪52‬‬ ‫المـحاض ــرة الث ــامن ــة‬ ‫‪8‬‬

‫‪61‬‬ ‫المـحاض ــرة التـاسع ـ ــة‬ ‫‪9‬‬

‫‪69‬‬ ‫المـحاض ــرة الع ــاش ــرة‬ ‫‪10‬‬

‫‪80‬‬ ‫المـحاض ــرة الحـاديــة عشــرة‬ ‫‪11‬‬

‫‪90‬‬ ‫المـحاض ــرة الثــاني ــة عشــرة‬ ‫‪12‬‬

‫‪100‬‬ ‫المـحاض ــرة الثالث ــة عشــرة‬ ‫‪13‬‬

‫‪108‬‬ ‫المـحاض ــرة الرابعـ ــة عشــرة‬ ‫‪14‬‬

‫‪113‬‬ ‫المـحاض ــرة الخامس ــة عشــرة‬ ‫‪15‬‬

‫‪119‬‬ ‫المـحاض ــرة السادس ــة عشــرة‬ ‫‪16‬‬

‫‪127‬‬ ‫فهرس "تفريـغ المحاضرات"‬

‫والسًلم عليكم ورحمة اهلل تعالى وبركاته‪.‬‬

‫(فهد بن عبدالعزيــز)‬

‫‪127‬‬

You might also like