Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 21

‫ التمفصل املعريف والتمثل اجلديل‬:‫هيغل والعالقات الدولية‬

1
‫ حممد أمني بن جياليل‬.‫أ‬
‫جامعة بومرداس‬
:‫ملخص‬
‫ افرتضت أن النشاط الدويل‬،‫ هو نظرية سياسية للحقل‬.‫هيغل يف العالقات الدولية؛ منظور جديل للظواهر الدولية‬
‫ السري حنو توليف وتركيب‬،‫ أبكثر دقة‬.‫ ال ينفي النظرية الوضعية‬،‫ لكن يف نفس الوقت‬،‫ال بد أن خيضع للنظرية املعيارية‬
‫ وذلك من منطلق واحد هو توليد االعرتاف من رحم‬،‫يطرح البديل االبستيمولوجي واملنهجي يف دراسة السلم واحلرب‬
.‫ يف دميومة لالرتقاء حنو رؤية شاملة للعالقات الدولية يف العامل املعاصر‬،‫ والعكس ابلعكس‬،‫الصراع‬
.‫ االعرتاف‬،‫ الصراع‬،‫ الرتكيب‬،‫ اجلدل‬،‫ العالقات الدولية‬،‫ النظرية السياسية‬،‫ هيغل‬:‫الكلمات املفتاحية‬
Abstract:
Hegel in international relations; dialectical perspective of international
phenomena. Is a political theory of the field, it assumed that the international activity
must be subject to the Normative theory, but at the same time, it does not negate The
Positivism theory. More precisely, to move towards the synthesis and installation of
alternative poses Epistimological and methodical in the study of peace and war, And so
out of one is generating recognition from the womb of the conflict, and vice-versa, In
continuity to rise toward a comprehensive vision of international relations in the
contemporary world.
Keywords : Hegel, political theory, international relations, Dialectic, synthesis, conflict,
recognition.

:‫ الربيد االلكرتوين‬.‫ ابحث وأكادميي يف الفلسفة السياسية املعاصرة‬،‫بومرداس‬- ‫أستاذ العلوم السياسية والعالقات الدولية جبامعة أحممد بوقرة‬-1
amine.bendjilali@yahoo.fr

1
‫مدخل تيليولوجي‪:2‬‬
‫انزاحت وجهة هيغل حنو ضبط عالقة نسقية مع علم العالقات الدولية بعد إشتغاله على الفكر السياسي وفلسفاته‬
‫النظرية‪ ،‬وهذا بدايته ومآله طبيعة النظرية اهليغيلية القائمة على منهج اجلدل الذي المس كل أقاليم التفكري العلمي‬
‫والفلسفي‪ .‬إ ّن تركيز أطروحة هيغل يف السياسة والدولة والقانون برز يف إجتاهني عالئقيني؛ السياسة الداخلية (عالقة‬
‫املتأمل جيد نفسه ضمن متاهة إبستيمية يف‬
‫الدولة ابجملتمع املدين) والسياسة اخلارجية (عالقة دولة بدولة أخرى)‪ .‬لكن ّ‬
‫دراسته للنظرية السياسية عند هيغل أل ّّنا حتمل بُعد «بني‪-‬ختصصي»‪ُ ،‬متع ّذرة عن املوضعة والتصنيف‪ ،‬فاقدة للهوية واحملل‬
‫يف خارطة املعرفة السياسية‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس نسعى للكشف عن الوجه اآلخر املتواري هليغل من مخسة مناطق أساسية متثل بؤر التماس‬
‫اإلشكالية واإللتماس املعريف بني هيغل والعالقات الدولية‪ّ :‬أوالا‪ ،‬إرحتال هيغل من الفكر السياسي إىل النظرية السياسية‬
‫للعالقات الدولية‪ .‬ويربز ذلك جليّا يف حبث هيغل عن تصور جديد للقانون الدويل؛ منتقدا آراء كانط الواردة يف رسالته‪:‬‬
‫ٍ‬
‫األولية‪ 3‬اليت قام هبا بعض رجال القانون يف أواخر القرن الثامن عشر‬ ‫«من أجل سالم دائ ٍم»‪ ،‬كما ّ‬
‫وجه نقده للمحاوالت ّ‬
‫وأوائل القرن التاسع عشر من أجل تكوين قانون دويل عام ينظّم العالقات بني الدول املستقلة‪4‬؛ اثنيا‪ ،‬املفارقة البارزة بني‬
‫الواقعية (‪ )Realism‬والطوابوية (‪ )Utopianism‬يف التفكري السياسي عند هيغل املتصل ابلعالقات الدولية‬
‫وقضاايها‪5‬؛ اثلثا‪ ،‬السؤال النظري عن اإلضافة املنهجية اليت ق ّدمها «الدايليكتيك» (‪ )Dialectic‬للدارس يف‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬وماذا عن «فلسفة احلق» يف حتليل هذا احلقل؟؛ رابعا‪ ،‬إستنتاج أهم الروابط النقدية بني الفكرة‬

‫‪ -2‬التيليولوجيا (‪ ) Teleologie‬مصطلح إبتكره "وولف"‪ ،‬قصد به علم الغائيات‪ ،‬وظف يف هذا السياق لتحديد غاية البحث ووجهتها ضمن نسق عالئقي‬
‫طالع‪ :‬أندريه الالند‪ ،‬موسوعة الالند الفلسفية‪ ،‬اجمللد الثالث‪ ،‬ترةمة خليل أدمد خليل‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2001 ،2‬ص‪1430.‬‬
‫‪3‬‬
‫وحّت قيام هيئة األمم املتحدة سنة ‪ 1945‬غداة احلرب العاملية الثانية وهذا ما‬
‫حّت قيام عصبة األمم سنة ‪ ،1919‬بل ّ‬
‫‪ -‬هذه احملاوالت ابءت ابإلخفاق ّ‬
‫قائم فعالا‪ .‬أنظر‪ :‬عبد الردمن بدوي‪ ،‬فلسفة القانون والسياسة‬
‫يتوافق مع رؤية هيغل‪ ،‬حني إعترب أ ّن القانون الدويل هو إطار ملا جيب أن يكون‪ ،‬وليس ملا هو ٌ‬
‫عند هيغل‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1996 ،1‬ص‪.220‬‬
‫‪ -4‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.220‬‬
‫‪5‬‬
‫‪-Tony Burns, «Realism and Utopianism in Hegel’s Political Thought: National Sovereignty,‬‬
‫‪International Relations and the Idea of a ‘World State’», Working Paper Series, Centre for the Study‬‬
‫‪of Social and Global Justice, School of Politics & International Relations, University of Nottingham,‬‬
‫‪P 17. See Link:‬‬
‫‪www.nottingham.ac.uk/cssgj/documents/working-papers/wp006.pdf‬‬
‫‪2‬‬
‫اهليغيلية حول «ّناية التاريخ» من جهة (يرتبط هذا املفهوم إرتباطا وثيقا بفرانسيس فوكوايما الذي نشر كتابه «ّناية‬
‫التاريخ والرجل األخري« عام ‪ ،)1991‬والدولة العاملية من جهة أخرى؛ خامسا‪ ،‬نقد املفهوم املطلق للحرب؛ ابعتبارها‬
‫شرا مطلق ا»؛ وأيض ا مشكلة اآلخر و«الصراع من أجل اإلعرتاف» (‪)The Struggle For Recognition‬‬
‫« ّ‬
‫فيما يتعلّق بتاريخ العامل‪.‬‬

‫يتطلب تناول هذه املناطق احلساسة يف التفكري السياسي للعالقات الدولية عند هيغل أن نبحث عن اخليط الناظم‬
‫ويرسم هيغل كمفكر له ابع طويل يف إثراء وتطوير علم العالقات‬
‫الذي يوحد احلدود بني هاته االستفهامات الفكرية‪ّ ،‬‬
‫الدولية على املستوى األنطولوجي‪ ،‬االبستيمولوجي واملنهجي‪ .‬قبل ذلك جيب أن نقرأ هيغل يف سياقه «األكسيموري»‬
‫(من كلمة أكسيمور‪ ،oxymore‬واملقصود هبا التناقض الظاهري) املتولد من بيئته الشخصية‪ ،‬ويف مناجزته لتوازانت‬
‫وإختالالت الظرف الدويل خالل عصر التنوير يف أملانيا وأورواب عامة‪.‬‬

‫‪-1‬البيو‪-‬ثقافة الدولية يف الزمن اهليغيلي‪ :‬اإلشرتاطات اجلدلية والتوازانت الدولية‬

‫غيورغ فلهم فريدريش هيغل ‪( Georg Wilhelm Friedrich Hegel‬شتوجتارت‪- 1770‬‬


‫برلني‪ ،)1831‬فيلسوف املثالية األملانية يف القرن التاسع عشر‪ ،‬حبرية عظمى تفرعت عنها‪ :‬املاركسية‪ ،‬الوجودية‪ ،‬اهليغيلية‬
‫كون إمرباطورية عقلية كربى مبذهبه الفلسفي‪ ،6‬الذي ميكن‬
‫املتحررة‪ ،‬لُقب بنابوليون الفلسفة الذي ّ‬
‫اجلديدة‪ ،‬الربوتستانتية ّ‬
‫نعته ابلنسق الشامل املنفتح إبستمرار على القراءات املتعددة‪ ،‬متكامل ومنسجم يف وحدته‪ ،‬متعدد يف آفاق وأعماق‬
‫فكرته األساس (العقل الكلي أو الروح املطلق)‪ .‬خاصة عندما يطرق التحليل اهليغيلي مشكالت وقضااي العالقات‬
‫الدولية‪ ،‬كالسلم‪ ،‬احلرب‪ ،‬العدالة واحلرية‪...‬إخل‪.‬‬

‫إ ّن حياة هيغل وعصره مها «نسيج من التناقضات» )‪ ،)Contradiction‬فقد كان التنوير املوغل يف اإلميان‬
‫ُ‬
‫ابلعقل على وشك األفول‪ ،‬يف اآلن نفسه‪ ،‬الرومانسية الغارقة يف العاطفة واخليال ابدئةا يف البزوغ‪ .‬لقد عاش هيغل يف‬
‫وسط جمتمع إقطاعي تسوده رجعية النبالء الذين يعتصرون الطبقة الوسطى إعتصارا‪ ،‬لكنّه أيض ا مييل مع رايح الثورة‬
‫هتب عاتيةا مناديةا بتحرير اإلنسان وإنطالقه‪.7‬‬
‫الفرنسية اليت ُّ‬

‫‪ -6‬هيغل‪ ،‬أصول فلسفة احلق‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬ترةمة إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬القاهرة‪ ،1996 ،‬ص‪.4‬‬
‫‪ -7‬هيغل‪ ،‬حماضرات يف فلسفة التاريخ ‪ :‬العقل يف التاريخ ‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬ترةمة وتقدمي ومراجعة إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪ ،2007 ،3‬ص‪.9‬‬
‫‪3‬‬
‫إذن؛ كان الطابع العام ل لعصر الذي نشأ فيه هيغل‪ ،‬هو فكرة التناقض اليت ميكن أن جند هلا أصول فلسفية عند‬
‫اإلغريق مع هرييقليطس يف العود األبدي املحتضن للثبات والتغري‪ ،‬أو مع أفالطون يف جدله الصاعد والنازل‪ ... ،‬إخل‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪8‬‬
‫هذا ما حرر لنا ما يعرف عند هيغل «ابألوفبوغونية» املتأسسة على احلوار بني السلب (‪ )Negation‬واإلجياب‪ ،‬يف‬
‫شكل جتاذب أو تنافر‪ ،‬نفي وإثبات‪ .‬األمر الذي سنالحظه يتكرر يف قانون اجلدل املاركسي املتمحور حول فكرة «نفي‬
‫النفي‪ ،‬ووحدة األضداد وصراعها»‪.‬‬
‫ّأما عن السياق الدويل الذي احتك به هيغل خالل ّناية القرن الثامن عشر فقد تب ّدى يف إنتظام الدول األوروبية‬
‫داخل مبدأ توازن القوى ألجل الصاحل العام‪ .‬وغالبا ما كانت املصلحة الذاتية‪ ،‬حافز للدول على إنشاء حتالفات لكبح‬
‫القوى املنافسة‪ .‬لكن واقع السعي وراء مبدأ توازن القوى ّروج لفكرة «الصاحل العام» اليت كانت أكرب من «املصلحة‬
‫الذاتية للدولة»‪ ،‬وابلتايل العمل وفق اإلمتثال آللية نظام واحد‪ُ ،‬حتّركه مؤسسات وممارسات متكاملة هي‪ :‬القانون الدويل‬
‫(والذي ُع َّد تدوينا قانونيا ملمارسات عرفية راسخة)؛ واإلعرتاف بشرعية السلطة السيادية الداخلية؛ وقبول مبدأ عدم‬
‫حرب حمدودةٍ‪ 9‬كوسيلة لتعديل اإلختالل يف‬
‫التدخل؛ واحلضور الديبلوماسي الدائم واحلوار املتواصل؛ وأخريا اللجوء إىل ٍ‬
‫التوازن‪ .‬إذن مل يكن هناك نظام يقي من احلرب‪ ،‬لكنّها كانت حرابا حمدودةا هدفها تقليص ّقوة الدولة املقصودة ال تدمريها‬
‫كلي ا‪.10‬‬

‫مثلت هذه اإلشرتاطات اجلدلية والتوازانت الدولية النابعة من صميم الواقع‪ ،‬حتدي قوي هليغل ملناظرة العقل املفكر‬
‫يف السياسات الدولية والداخلية على ح ّد سواء‪ ،‬ومن هنا نبتت النظرية السياسية عند هيغل واليت كانت منبثقة عن‬

‫‪8‬‬
‫تعرب‬
‫‪ -‬تعين هذه الكلمة يف أصلها الفعل )‪ :(Aufheben‬يُلغي وحيتفظ ويرفع‪ .‬ما يبحث عنه هيغل يف مسار التاريخ هو «ألفغوهوابن»؛ كلمة أملانية تقنية ّ‬
‫عن إرتفاع شيء ما إىل املستوى التايل‪ ،‬أن ترتفع فوق املعضلة احلالية وتن تقل إىل املرحلة التالية من التطور حيث تسمو فوق الصعوبة احلالية وحتلها من خالل‬
‫فرضية جديدة ذاك هو اإلختبار‪ ،‬التوليفة هي إختبار «ألفغوهوابن»‪ .‬العبارة العصية (‪ )Das Aufheben‬وتصريفاهتا يف النص اهليغيلي اإلشتقاق من‬
‫«نسخ»‪ ،‬مّت تعلق األمر مبصدر (‪ )Die Aufhebung‬واإلنتساخ‪ ،‬مّت تعلق ابلفعل املنعكس على الذات (‪ ،]...[ )Das Sichaufheben‬النسخ‬
‫ُ‬
‫يتضمن دالالت النفي واإللغاء‪ ،‬اإلحتفاظ واإلبقاء على شيء مما يُنفى‪ ]...[ ،‬التضاد بني زوال شيء يف املنسوخ وبقاء شيء منه‪ .‬أنظر‪ :‬هيغل‪ ،‬فينومينولوجيا‬
‫الروح‪ ،‬ترةمة وتقدمي انجي العونلي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬املنظمة العربية للرتةمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2006 ،1‬ص‪.106-105‬‬
‫‪ -9‬احلرب احملدودة (‪)Limited War‬؛ يعود هذا املفهوم إىل املنظرين العسكريني "كالوزفيتز" يف القرن التاسع عشر وخليفته يف القرن العشرين "ليدل‬
‫هارت" على العالقة احلامسة بني الغاايت السياسية والوسائل العسكرية‪« .‬ينبغي أن تكون األهداف السياسية‪ ،‬والدوافع األصلية للحرب‪ ،‬معيارا لتحديد كل من‬
‫هدف القوة العسكرية وحجم اجلهد لتحقيقها»‪ .‬يف منتصف احلرب العاملية الثانية جاء مفهوم احلرب الشاملة كبديل بعد تطور األسلحة النووية‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪-Khurshid Khan, «Limited War Under the Nuclear Umbrella and its Implications for South Asia»,‬‬
‫‪P.3, See Link:‬‬
‫‪http://www.stimson.org/images/uploads/research-pdfs/khurshidkhan.pdf.‬‬
‫‪ -10‬دافيد ابوتشر‪ ،‬النظرايت السياسية يف العالقات الدولية‪ :‬من ثيوسيديدس حىت الوقت احلاضر‪ ،‬ترةمة رائد القاقون‪ ،‬املنظمة العربية للرتةمة‪ ،‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،2013 ،1‬ص‪.592-591‬‬
‫‪4‬‬
‫متفصل املعرفة الفلسفية ابملعرفة السياسية‪ ،‬حيث برزت يف احملصلة ضمن قالب جديل )‪.)modèle dialectique‬‬
‫إن النموذج اجلديل يستمد أصله من فلسفة التاريخ عند هيغل‪ ،‬اليت ميكن أن متنحنا مسوغا أنطولوجيا اترخييا للبحث يف‬
‫عالقة هيغل بعلم العالقات الدولية‪.‬‬

‫‪-2‬األركيولوجيا التارخيية للعالقات الدولية عند هيغل‪ :‬بناء منطق اترخيي )‪(Historical Reason‬‬

‫لقد اقرتح دافيد ابوتشر وجود ثالث تقاليد نظرية (الواقعية التجريبية‪ ،‬النظام األخالقي العاملي واملنطق التارخيي)‪،‬‬
‫ترتبط فيما بينها جدلي ا وتوفر معايري خمتلفة لسلوك الدولة‪ .11‬واملنطق التارخيي هو اآلخر يتضمن جدل رسم معامله هيغل‬
‫يف رؤية العامل (‪ )weltanschauung‬حنو تغريه‪ .‬يف تقديري أن مفهوم «العامل» عند هيغل يوازي كينونة العالقات‬
‫ظل «إنوجادها» متيّزت بطابع العالقات الثقافية واحلضارية والتارخيية اليت تستوجب التفاعل يف‬
‫الدولية‪ ،‬أل ّن الشعوب يف ّ‬
‫إطار احلرب أو السلم‪ ،‬وعليه هذا العامل له «اتريخ» ينشد التحقق الفعلي للروح اهليجيلي‪ ،‬وُمتيّزه «جيو‪-‬سياسة»؛ املناطق‬
‫اليت ح ّددها هيغل حسب أولياهتا الزمنية واملنطقية (الشرق‪ ،‬اليوانن‪ ،‬اجلرمان‪ ،‬الرومان)‪ .‬إذن اتريخ العامل هو التحقق‬
‫الفعلي للروح داخليا وخارجيا على ح ٍّد سواء‪ .‬كما يبدو أن الروح الكلي هو الوعي الذايت الذي يبدو يف ضرورته متصالا‬
‫يف املوضوعي الذي ُجيّزء الكل املطلق للروح‪ ،‬وعليه فتاريخ العامل ضروري من منطلق أنه «حمكمة التاريخ» (إختبار حقيقة‬
‫الكلي يف اجلزئي)‪ ،‬وهذه تُوافق اإلعتبار املنهجي الذي يسري ُوفقه الباحث يف العالقات الدولية؛ «التاريخ خمرب علم‬
‫العالقات الدولية»‪ .‬إرتكزت اهلندسة اهليغيلية للعامل الكالسيكي على مبدأ التطور التارخيي املستند بدوره على العقل أو ما‬
‫يعرف عنده ب«العقل يف التاريخ»‪ ،‬حيث شكلت هذه املقاربة الواردة يف «حماضرات يف فلسفة التاريخ»‪ ،‬تشكيل جديد‬
‫للتناول االبستيمولوجي ملواضيع الفكر السياسي والنظرية السياسية عند هيغل جعلت الباحث يتعاطى مع الظواهر‬
‫والشخصيات الفكرية السياسية‪ ،‬مبنهجية حتليلية نقدية‪ ،‬ال اترخيية فقط تركز على كرونولوجيا األحداث‪ ،‬دون الربط‬
‫السبيب والتحليل املنطقي واحلجاج الفلسفي‪.‬‬

‫فإذا كان التاريخ يف نظر هيغل هو تطور الروح يف الزمان‪ ،‬كما أ ّن الطبيعة هي تطور الفكرة يف املكان‪ .‬فإ ّن نتيجة‬
‫‪12‬‬
‫سوغ ضرورة تواجد كينونة للعالقات الدولية‪ ،‬واحدة يف‬
‫ذلك تتعدد الثقافات واحلضارات واألمم ‪ .‬وابلتايل هذه الفكرة تُ ّ‬
‫جوهرها‪ ،‬متعددة يف تعيّنها‪ .‬من هنا تنبجس للعيان عند هيغل مناذج وبراديغمات متقابلة تسعى إىل اقتفاء الصورة‬
‫احلقيقية لعامل العالقات الدولية‪ ،‬بعيدا متاما عن الرؤية الكومسوبوليتانية اليت تراعي األخالق العاملية‪ ،‬ألن كل منوذج يعرب عن‬

‫‪ -11‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.97‬‬


‫‪ -12‬مونيس خبضرة‪ ،‬اتريخ الوعي‪ :‬مقارابت فلسفية حول جدلية إرتقاء الوعي ابلواقع‪ ،‬منشورات اإلختالف‪-‬الدار العربية للعلوم‪ ،‬اجلزائر‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪ ،2009‬ص‪.264-263‬‬
‫‪5‬‬
‫رؤية حضارية معينة يريد فرض منطقه على األمم األخرى‪ .‬لفهم املآل التارخيي ينبغي العودة إىل التكوين اجلينيالوجي‬
‫للعالقات الدولية عند هيغل‪ ،‬حبيث سنقرتح على هذا النحو منذجة هيغيلية للعالقات الدولية تسري ُوفق مترحل وتدرج‬
‫اترخيي‪ ،‬وعليه طبعت العالقات الدولية يف تصور هيغل أربع مناذج‪ ،‬نقتصر على ذكرها يف التايل‪:‬‬
‫أ‪-‬الرباديغم الشرقي‪ :‬يتمظهر يف هذا النموذج جمتمعات طبيعية حيكمها نظام أبوي «بطريركي وثيوقراطي»‪ ،‬يفتقد‬
‫العرف‪،‬‬
‫للتقسيم الداخلي‪ ،‬وحيتكم للدين الذي يع ّد دستورا وتشريع ا‪ ،‬يف نفس الوقت‪ .‬فاألوامر الدينية واألخالقية أو ُ‬
‫واملعامالت هي القانون اإلجيايب الطبيعي‪ .‬يف هذه املرحلة تتالشى الشخصية الفردية وتفقد حقوقها وسط أتلّق هذا النظام‬
‫بوصفه كالا‪ ،‬أما عامل الطبيعة اخلارجي فهو إالهي‪ .‬تتطور هذه اخلصائص إىل عادات وحكومة ودولة يف جوانبها املتعددة‬
‫وتصبح يف حالة عدم وجود القانون‪ ،‬وبساطة العرف‪ ،‬طقوسا مضطربة وحمشوة ابخلرافات‪ ،‬وألواانا من املصادفات حلكم‬
‫اثبت‬
‫تعسفي‪ ،‬كما تتبلور اإلختالفات الطبقية لتصبح طبقات ُمغلقة وراثية‪ .‬ومن مثّ ال يوجد يف الدولة الشرقية شيء ٌ‬
‫حم ّدد‪ ،‬فهذه الدولة ال تستمر إالّ يف حركة خارجية‪ ،‬هي يف النهاية إكتساح وخراب أساسيني‪ ،‬وليس سالمها الداخلي‬
‫سوى سالم ٍ‬
‫حياة غري سياسية وإنغماس يف الضعف واإلجهاد‪ .13‬بنظرة خاطفة حول جوهر العامل الشرقي نرسم خارطته‬
‫السياسية واإلجتماعية ُوفق معامل ميّزت بنائه وعالقاته‪ ،‬فالنظم الالهوتية هي دستور للنظم السياسية‪ ،‬واجلماعة هي بوتقة‬
‫تسري يف ثناايها حياة الفرد‪ ،‬وعالقة الشرق ابألمم األخرى حيكمها النظام اإلالهي‪ .‬إذن؛ العالقات الدولية يف العامل‬
‫الشرقي حسب هيغل هي انعكاس إلنعدام صورة الفرد يف اجملتمع‪ ،‬فالدولة الشرقية تتحرك ككتلة أخالقية ودينية وعرفية يف‬
‫مواجهة التحدايت اليت تفرضها الشعوب األخرى‪.‬‬
‫ب‪-‬الرباديغم اإلغريقي‪ :‬تعددت أوصاف اليوانن للعامل الرببري أبنّه مهجي وقدمي ومتوحش‪ ،‬والدليل على ذلك‬
‫هو عامل تنعدم فيه الدميقراطية على خالف العامل اليوانين املنظم‪ ،‬املتماثل‪ ،‬واحملدود ابلبحر‪ ،‬الذي يتمتع ابحلرية‬
‫والدميقراطية‪ .‬إعتقد اليوانن أب ّن الربابرة هم ابلطبيعة عبيد وأ ّن األساليب الرببرية يف احلياة غري مقبولة كليا لدى اليوانن‬
‫والفرس‪ ،‬لذلك كان من املستحيل تصور عالقات وثيقة بني اليوانن والفرس‪ ،‬فقد إعتربت احلرب ضد الفرس حرابا مق ّدسةا‬
‫املفضلة على السالم‪ ،‬هنا إشارة واضحة من هيغل إاىل نبذ احلروب اليت‬
‫أي أ ّن اآلهلة ابركتها‪ ،‬وأب ّّنا احلرب الوحيدة ّ‬
‫فإّنا‬
‫كانت تندلع بني احلني واآلخر‪ ،‬بني املدن اليواننية‪ ،‬بينما عندما تصبح هذه احلروب ضد الفرس الذي ميثل اآلخر ّ‬
‫تُفضل عن السالم‪ .‬يف ظل هذا املناخ املشحون واملشبع ب ُكره اآلخر‪ ،‬نشأت الفلسفة السياسية الكالسيكية اليواننية‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫لكل ما كان شرقي ا‪ .‬وعليه فقد كان الرتكيز اهليغلي على عبقرية اليوانن كإفرتاض ُمسبق أب ّن الشرق ميثل‬ ‫ٍ ٍ‬
‫كمناوئ عنيد ّ‬

‫‪ -13‬هيغل‪ ،‬أصول فلسفة احلق‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.606‬‬


‫‪6‬‬
‫نفيا أو مصدرا للخطر‪ ،‬ويف هذا السياق إبتدع كل من أفالطون وأرسطو نوعا من السياسة تكاد تكون فيها فكرة اجملال‬
‫احليوي‪ 14‬مق ّدسةا حيث إستلزمت تلك الفكرة إقامة معامل للتمييز بني الداخل واخلارج‪.15‬‬
‫ج‪-‬الرباديغم الروماين‪ :‬يُشبّه "جون كريسوف روفان" ‪ Jean Christophe Rufin‬يف كتابه «اإلمرباطورية‬
‫والربابرة اجلدد» الوضع الدويل السائد ما بعد احلرب الباردة بنظريه املثال يف العصر الروماين‪ ،‬ال سيما بعد إنتصار‬
‫اإلمرباطورية الرومانية يف حروهبا ضد القرطاجيني خالل القرن الثاين قبل امليالد‪ .‬فاإلمرباطورية األمريكية اليوم أضحت بعد‬
‫تتبوأُ نفس املنزلة اليت كانت حتتلها اإلمرباطورية الرومانية ابألمس البعيد‪:‬‬
‫إنتصارها التارخيي على اإلحتاد السوفيايت (سابق ا) ّ‬
‫إذا كانت روما جتسد السلم واإلستقرار‪ ،‬وتتميز بوحدة السلطة والثقافة وتتقيد ابلقانون وجتسد العدالة (إمرباطورية‬
‫قانونية)‪ ،‬عكس الربابرة الذين كانوا مشتّتني‪ُ ،‬مولعني ابلقوة والعنف وال يفكرون إالّ يف احلروب‪ .‬فإ ّن واشنطن بوصفها‬
‫الوريث الشرعي لروما ومن ورائها الغرب الرأمسايل أصبحت حاليا هي األخرى مصدرا لإلستقرار واألمن‪ ،‬سيادة القانون‬
‫املتطرفة‪ ،‬اجملاعة‪ ،‬األوبئة‪،‬‬
‫واإلشعاع احلضاري العاملي‪ ،‬يف حني ما زال اآلخرون (بقية العامل) يعانون من مآسي األصولية ّ‬
‫‪...‬إخل‪ ،‬حتت نري أنظمة إستبدادية فاسدة‪ .‬من حيث الشكل تبدو الوالايت املتحدة االمريكية يف النظام الدويل اجلديد‬
‫إبعتبارها متثّل املركز الرئيسي املؤثر يف العالقات الدولية والقطب األوحد املهيمن على حركة التفاعل الدويل مبثابة‬
‫ُ‬
‫«الشمس» يف «النظام الشمسي»‪ّ ،‬أما الدول الكربى (األطراف) فهي تشبه «السيارات» الرئيسية احمليطة «ابلشمس»‪.‬‬
‫يف حني أ ّن بقية الدول األخرى (أطراف األطراف) فهي مبنزلة «األجرام والتوابع» املرافقة لبعض «السيارات» يف «النظام‬
‫الشمسي» ككل‪ .16‬هذا التوصيف‪17‬؛ يزحينا إىل فينومينولوجيا للعالقات الدولية الراهنة حينما نقارّنا بسابقتها لدى‬
‫الرومان‪ ،‬روما=الوالايت املتحدة االمريكية‪ ،‬كالمها شيء نفسه له قصد واحد هو بناء إمرباطورية عظمى تسري يف نسق‬
‫جديل حموره السلم واحلرب يف أقنوم مصلحة ذاتية للدولة املركز تغيب مصلحة الدولة اهلامش‪.‬‬
‫د‪-‬الرباديغم اجلرماين‪ :‬قيل أ ّن هيغل ُمي ّجد الدولة الربوسية اليت ينتهي عندها التاريخ يف نظره‪ ،‬مع أنّه من املفروض‬
‫أ ّن هيغل توقّف عند الدولة الربوسية أل ّّنا «احلاضر» الذي تصادف أن عاش فيه الفيلسوف األملاين‪ ،‬وهذا احلاضر هو‬

‫‪ -14‬اجملال‪ ،‬يعين موقع ومساحة يف لغة اجلغرايف‪ ،‬أهداف إقليمية يف لغة اجليوبوليتيكي‪ ،‬وبذلك يصبح حيوايا‪ .‬أنظر‪ :‬ظاهر عبد الزهرة الربيعي‪« ،‬الوزن‬
‫اجليوبوليتيكي للمساحة يف إسرائيل‪ :‬دراسة تطبيقية»‪ ،‬جملة آداب البصرة‪ ،‬العدد‪ ،56 :‬كلية الرتبية‪ ،‬جامعة البصرة‪ ،2011 ،‬ص‪.264‬‬
‫‪ -15‬عبد هللا بوقرن‪« ،‬اآلخر يف جدلية التاريخ عند هيغل»‪ ،‬أطروحة دكتوراه العلوم يف الفلسفة‪ ،‬كلية العلوم االجتماعية واإلنسانية‪ ،‬قسم الفلسفة‪ ،‬جامعة‬
‫قسنطينة‪ ،‬السنة اجلامعية‪ ،2007 – 2006 :‬ص‪.20-19‬‬
‫‪ -16‬بلخرية حممد‪« ،‬براديغمات العالقات الدولية املعاصرة‪ :‬املركزية الغربية منوذج ا»‪ ،‬أكادمييا للدراسات االجتماعية واإلنسانية ‪ ،‬قسم العلوم االقتصادية‬
‫والقانونية‪ ،‬جامعة الشلف‪ ،‬العدد العاشر‪ ،‬جوان ‪ ،2013‬ص‪.82‬‬
‫‪ -17‬جند هذا الوصف الفينومينولوجي عند هيغل يف حماضراته عن فلسفة التاريخ‪ ،‬ملا أشار إىل العامل الفلكي األملاين يوهانس كبلر‪Johannes Keppler‬‬
‫(‪ )1630 – 1571‬املتأثر مببادئ كوبرنيكوس وكذلك لتيكو براهي ‪ ،Tycho Brahe‬من ابرز القوانني اليت توصل إليها هو العالقة الرايضية بني الزمن‬
‫الالّزم لدوران كوكب ما حول الشمس دورةا كاملةا‪ .‬أنظر‪ :‬هيغل‪ ،‬حماضرات يف فلسفة التاريخ ‪ :‬العقل يف التاريخ‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.‬ص‪.139-138‬‬
‫‪7‬‬
‫‪18‬‬
‫ؤرخ للعالقة بني الشعب اجلرماين والشعب‬ ‫القمة اليت يبلغها تطور التاريخ البشري‪ ،‬لكنّه ليس ّنايته ‪ .‬هو منوذج يُ ّ‬
‫اليهودي‪ ،‬األول له رسالته السياسية احملتمية بقوة العقل‪ ،‬والثاين يبحث عن مصريه يف العامل احملتذية ابالميان واالعتقاد‬
‫مبقولة «شعب هللا املختار»‪.‬‬
‫حلل التناقض املوجود بني احلداثة العقالنية واإلميان وذلك من‬
‫من مث‪ ،‬تعترب فلسفة التاريخ عند هيغل املرحلة املثالية ّ‬
‫خالل إحالل مفهوم املطلق لفهم سياق الدولة احلديثة‪ .‬يف هذا الصدد يرى هابرماس أ ّن الوعي اهليغلي بقضااي احلداثة‬
‫أصبح اليوم حاضرا بوضوح‪ ،‬حيث أ ّن هذا الوعي رسم املبادئ التوجيهية املتواجدة حاليا يف مناقشات ما بعد احلداثة‪.‬‬
‫بكل بساطة أل ّن احلداثة عند هابرماس «مشروع مل يكتمل بعد»‪.19‬‬
‫هذا ّ‬

‫ترتيبا على ما تقدم تتبلور رؤية هيغل للعالقات الدولية مبنظور اترخيي جديل‪ ،‬خيتزل فيه حركة الطبيعة واجملتمع‪ ،‬اليت‬
‫تعود يف األصل اىل حركة الفكر ذاته‪ ،‬ونشاطه حنو التقدم والنشوء واالرتقاء‪ .‬االرتقاء من أدىن الطبقات التارخيية وهي‬
‫الشرق إىل أعالها وهو اجلرمان‪ ،‬من هنا األركيولوجيا التارخيية‪ .‬نصبو من العنصر الالحق إىل نسج روابط نقدية بني‬
‫الفكرة عند هيغل وعامل السياسة والعالقات الدولية حتديدا‪ ،‬هذا يف إعتبار أن أبرز املشكالت السياسية والدولية اليت‬
‫عاجلها هيغل يف نظريته السياسية هي حمك جدل وحمل مقاربة‪.‬‬

‫‪-3‬الفكرة اهليغيلية‪ :‬التمفصالت والتمثالت‬

‫ينبين متفصل )‪ )articulation‬الفلسفي ابلسياسي عند هيغل يف جانبه «الب ْني – تفاعلي» للدولة‪ ،‬عند‬
‫اإلنطالق من الفكرة اليت تشكل نواة نظرية صلبة من فلسفته للتاريخ وهي «الوعي الذايت» ( ‪Conscience de‬‬
‫‪ ،)soi‬لنصل إىل مرحلة َمتثلها )‪ )représenter‬للواقع أبشكاله الفردية واجلماعية‪ .‬فنرى كيف تتمفصل اآلاثر‬
‫الفلسفية اهليغيلية يف ممارسة العلم داخل الوحدة السياقية واملنهجية للعالقات الدولية‪.‬‬
‫قبل ذلك؛ ال يسعنا أن نفهم كلّيا نظرية هيغل يف العالقات الدولية من دون اإلحاطة مبشروعه الفلسفي األمشل‪.‬‬
‫فقد كان مهتما ابلتغلب على ةميع «الثنائيات» (‪ )dualisms‬اليت تعوق إحراز املعرفة األصلية‪ ،‬وسعى هيغل إىل أن‬
‫قوض منهجيا اإلبستيمولوجيا التقليدية (رونيه ديكارت وإميانويل كانط)‪ ،‬وأخضع املقدمات املنطقية التجريبية والعاملية‬
‫يُ ّ‬

‫‪ -18‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.166 – 165‬‬


‫‪19‬‬
‫‪- André-Marie Yinda Yinda, »Penser les relation internationales Africaines des problèmes aux‬‬
‫‪philosophèmes politiques aujourd’hui», Polis, R.C.S.P. / C.P.S.R. Vol. 8, Numéro Spécial, 2001,‬‬
‫‪p.1‬‬
‫‪8‬‬
‫لتمحيص نقدي تفكيكي‪ .20‬يف البداية ينبغي إستحضار أمهية التصور الفلسفي الكانطي يف تشكيل الفكرة اجلدلية‬
‫وامتدادها إىل حقل العالقات الدولية عند هيغل؛ ففي املادة الثالثة)‪ )article 3‬من «القانون العاملي وشروط الضيافة‬
‫العاملية‪le droit cosmopolitique doit se borner aux conditions d une hospitalite ،‬‬
‫»‪d universelle‬؛ الواردة يف وثيقة إميانويل كانط ‪) Immanuel Kant‬كونيغسربغ ‪ -1724‬كونيغسربغ‬
‫‪«: (1804‬من أجل سالم دائم»‪« :‬ترهتن متانة أو واثقة العالقات بني الشعوب‪ ،‬بوجود فكرة القانون العاملي ( ‪l'idée‬‬
‫‪ )d'un droit cosmopolitique‬اليت ستبقى خيالية ورمزية إن مل تبين القانون املدين وقانون األمم‪ ،‬جيب أن‬
‫ترتقي هذه الفكرة إىل قانون إنساين عام‪ ،‬الذي حيقق السالم األبدي)‪ُ .21 «(la paix perpétuelle‬وصف هيغل‬
‫أبنّه أحد النقاد الكومونتاريني (‪ )Communitarians‬ملفهوم السالم الدائم‪ .22‬حيث ّنض هذا األخري ض ّد دميومة‬
‫السالم عند كانط إبفرتاضه لتغري السالم إىل حرب‪ ،‬واحلرب إىل سالم‪ ،‬يف عود أبدي‪ .‬إذن كانت هذه املقاربة النقدية‬
‫عند هيغل يف رؤية كانط للسالم العاملي مفتاح للولوج إىل حتليل العالقات الدولية ابملنهج اجلديل‪ ،‬وهناك ما يؤكد أ ّن‬
‫للهيغيلية امتدادات وإشارات يف احلقل‪ ،‬نذكر منها على سبيل املثال‪:‬‬
‫أوالا؛ أ ّن النظرايت املعيارية يف العالقات الدولية تعود جذورها إىل فالسفة ابرزين من أفالطون‪ ،‬أرسطو‪ ،‬كانط‪،‬‬
‫هيغل وماركس‪ .‬فحسب براون ‪ )1992( Brown‬متثل هذه النظرايت –وعلى رأسها نظرية هيغل‪ -‬تقاليد عريقة يف‬
‫الفكر‪ ،‬وإطار نظري شامل يف دراسة حقل العالقات الدولية‪ ،‬يرتكز على فلسفة أخالقية ونظرية سياسية‪ ،‬حيث مت‬
‫التخلي عن هذا اإلطار مؤقتا عندما احنرف احلقل حنو االجتاه السلوكي (‪ .23)behaviouralist direction‬وهذا‬
‫ابلرغم من أ ّن الفهم احلداثي هلانس مورغونتو ‪( Hans Morgenthau‬كوبورغ ‪-1904‬نيويورك ‪1980‬؛ عامل‬
‫سياسة أمريكي من أصل أملاين‪ ،‬مؤسس املدرسة الواقعية يف العالقات الدولية‪ ،‬له مؤلف «السياسات بني‬
‫قوضا للقيم واملعايري اليت كانت مقيدة لسلوك الفرد‬
‫األمم‪ ،)1948 »Politics Among Nations ،‬كان م ّ‬
‫والدولة‪ .‬حيث أزاح مورغونتو أفكار هيغل الواردة يف فينومينولوجيا الروح (‪ ،)1807‬وفلسفة احلق (‪ )1821‬وح ّذر‬
‫منها‪ ،‬أل ّّنا أغفلت خماطر جتانس اجملتمع )‪ )homogenization of society‬الناةمة عن املساواة واملشاركة‬

‫‪ -20‬دافيد ابوتشر‪ ،‬النظرايت السياسية يف العالقات الدولية‪ :‬من ثيوسيديدس حّت الوقت احلاضر‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.637-636‬‬
‫‪21‬‬
‫‪-Essai Philosophique, «sur la paix perpétuelle Immanuel Kant avec préface de ch.L emonnier»,‬‬
‫‪G.Fischbacher Libraire éditeur, Paris, 1880, P27.‬‬

‫‪ -22‬مارتن غريفيثس وتريي أوكاالهان‪ ،‬املفاهيم األساسية يف العالقات الدولية‪ ،‬مركز اخلليج لألحباث‪ ،‬ديب‪ ،2008 ،‬ص‪.250‬‬
‫‪23‬‬
‫‪- Tim Dunne, Milja Kurki , and Steve Smith, International Relations Theories:Discipline and‬‬
‫‪Diversity Oxford University Press, United Kingdom, Third Edition, 2013, P41.‬‬
‫‪9‬‬
‫العاملية يف اجملتمع‪ ،‬والتنكر للمجتمعات التقليدية ألّنا مل توفر مصدر بديل للهوية‪ .24‬اثنيا؛ ترت ّد أصول النظرية النقدية‬
‫ملدرسة فرانكفورت إىل النظرايت احلديثة للوعي والدايلكتيك فرتة التنوير‪ .25‬فالبعد األخالقي لنظرية الفعل التواصلي عند‬
‫يورغن هابرماس مستوحى من‪ /‬متجذر يف نظرية هيجل عن الوعي الذايت واإلعرتاف أو تشكيل اهلوية‪ ،‬والنضال من أجل‬
‫وحدة الوعي الذايت‪ ،‬واإلعرتاف الداخلي وأثره يف األحداث اخلارجية‪ ،‬وعالقة اجملتمع احمللي ابلعامل‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬يشري‬
‫هابرماس مقتفي ا هبيغل إىل أن النضال من أجل اإلحرتام والشرف والكرامة ميكن أن يؤثر على تفاعلنا مع اآلخرين‪.26‬‬

‫فعالا؛ لقد كان هيغل أصل معريف يندرج يف فصل ثقايف هو ثقافة النظر والتحليل‪ ،‬اليت تعد ثقافة أكادميية نسقية‬
‫متنح الباحث يف احلقل أدوات منهجية وتكتيكات معرفية واسرتاتيجيات حتليلية‪ .‬فالنظرية املعيارية ‪(théorie‬‬
‫)‪ normatif‬اليت كان هيغل من مؤسسيها استوعبت النطاق النظري للعالقات الدولية؛ إذ‪ ،‬أ ّن املثالية متثل بداية‬
‫للتنظري املعياري‪ ،‬والنظرية النقدية ترمز إىل العودة حنو املعيارية والقيم يف حتليل العالقات الدولية‪ .‬وكل ذلك رغم هيمنة‬
‫الرباديغم الواقعي يف احلقل‪ ،‬الشيء الذي فرض سياق جديل بني االجتاهات الوضعية واملعيارية‪ ،‬التفسريية والتكوينية‪ ،‬وما‬
‫انتهى عن ذلك هو تشكل إجتاه توليفي وتركييب يف حقل العالقات الدولية‪.‬‬

‫‪-4‬إنعكاس التوليفة اهليغيلية عل التطور املنهجي والنظري لعلم العالقات الدولية؛‬

‫تتصل مناقشة ُوجهات نظر هيغل حول العالقات الدولية على وجه اخلصوص ابملناقشة اليت جرت مؤخرا بني‬
‫«اجملتمعيني» و«العامليني» داخل حقل النظرية السياسية‪ .27‬ومنذ أن برز هيغل إبعتباره فيلسوف ا ومنظرا سياسي ا يف نظرية‬
‫العالقات الدولية خالل تفسريه ألسباب احلرب‪ ،‬ونتيجة للجدل احلاصل حول هذه الظاهرة‪ ،‬بدأت تظهر «معامل احلل‬
‫الوسط يف احلقل للتوفيق والتوليف بني احلجج البنائية واحلساابت العقالنية املادية‪Middle Ground ،‬‬
‫‪.28»Between Constructivist Accounts And The Rational-Material Accounts‬‬
‫إ ّن اإلعتبارات اهليغلية حول العنف هامة‪ ،‬أل ّن هلا عالقة ابألسباب اإلجتماعية والثقافية والعقالنية للحرب‪ ،‬وابملوازاة وعن‬

‫‪24‬‬
‫‪- ibid, P.68‬‬
‫‪25‬‬
‫‪- ibid, P.172‬‬
‫‪26‬‬
‫‪- ibid , P.176‬‬
‫‪27‬‬
‫‪-Tony Burns, Realism and Utopianism in Hegel’s Political Thought: National Sovereignty,‬‬
‫‪International Relations and the Idea of a ‘World State’, Op. cit., P.3‬‬
‫‪28‬‬
‫‪- Joseph Mackay and Jamie Levin, «The case for Hegel in International Relation Theory: Making‬‬
‫‪War and Making States», Departement of Political Science, University of Toronto, p1. See link:‬‬
‫‪www.cpsa-acsp.ca/papers-2010/MacKay-Levin.pdf.‬‬
‫‪10‬‬
‫كثب‪ ،‬أضافت البنائية مؤخرا هذه العوامل يف حتليلها للعالقات الدولية دون حتييد األسباب املادية‪ .‬أيضا الدولة عند‬
‫هيغل يف «حتققها هي الفكرة األخالقية‪ »29 «his actuality of the ethical Idea ،‬إستمر هذا التعريف‬
‫لدى مدارس العالقات الدولية لكنه شهد إضطراابا‪ .‬مثالا؛ الوطنية (‪ ،(patriotism‬اعتربت سبب ونتيجة للحرب على‬
‫ح ٍّد سواء‪ ،‬هذه األخرية اليت تؤدي بدورها إىل نزاعات بني الدول‪ ،‬وحالة حب الوطن هي أحد اآلاثر اجلانبية هلا‪ .‬على‬
‫خطى هيغل‪ ،‬يشري ألكسندر ويندت ‪( Alexander Wendt‬ماينز‪ ،‬أملانيا الغربية ‪ -1958‬؟ على يديه أتسست‬
‫النظرية البنائية االجتماعية يف العالقات الدولية‪ ،‬له كتاب «النظرية االجتماعية للسياسة الدولية‪Social Theory ،‬‬
‫‪ )»of International Politics‬عام ‪ 1999‬إىل أن التفاعالت بني الدول‪ ،‬وبني الوكاالت واهلياكل‪ ،‬تساعد‬
‫على متايز وتباين طبيعة النظام الدويل‪.30‬‬
‫إ ّن حجج املدرسة البنائية عام ‪ 1992‬هي أ ّن الدول كانت حتدد هويتها‪ :‬من هي؟ وما هي مصلحتها؟ فيما‬
‫يتعلق ابلدول األخرى داخل النظام الدويل‪ ،‬وتنص على وضع توقعات وهوايت بناءا على التفاعالت‪ .‬هذه األخرية ميكن‬
‫أن تتغري مع مرور الوقت «من حرب هوبز إىل سالم كانط‪ ،‬والعكس ابلعكس‪from a hobbesian war to ،‬‬
‫‪ ،31»kantian peace and vice-versa‬حسب ويندت هذا يتوقف على طبيعة التفاعل بني الدول‪ :‬صراع أو‬
‫تعاون (‪ .)conflict or cooperation‬إذن؛ فقد إرتبطت األسباب الفكرية للحرب عند هيغل ابلنقاش املتعلق‬
‫ينم عن حضور احلجج املعيارية )‪)normative argument‬‬
‫ابلعالقات الدولية يف املدرسة البنائية‪ ،‬هذا التقاطع‪ُّ ،‬‬
‫والتفسري العلمي االجتماعي (‪ )social scientific explanation‬للصراع جنبا إىل جنب‪ ،‬مما جيعل التأكيد‬
‫اهليغلي أب ّن دماية إستقرار اهلوايت الوطنية ميكن أن يكون مبثابة تفسري للعنف املنظم يف غياب تفسري ألساس املصلحة‬
‫الذاتية‪ .32‬بوقفة حتليلية للتقاطعات املوجودة بني هيغل والنظرية البنائية؛ نالحظ أ ّن نسقية هيغل حاضرة داخل الصرح‬
‫البنائي‪ ،‬أل ّن اجلدل اهليغيلي يف ح ّد ذاته بنائي‪ ،‬يهدف اىل تركيب قضية جديدة تستأنف وتستكمل الرهاانت النظرية‬
‫والواقعية للظاهرة حمل الدراسة يف العالقات الدولية‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫‪- Georg W.F Hegel, Hegel’s Philosophy of Right, Trans. T .M .Knox. Oxford University Press,‬‬
‫‪London, 1942, P.228‬‬
‫‪30‬‬
‫‪- Joseph Mackay and Jamie Levin, «The case for Hegel in International Relation Theory: Making‬‬
‫‪War and Making States», Op. cit.,, p14-15.‬‬
‫‪31‬‬
‫‪- ibid.‬‬
‫‪32‬‬
‫‪- ibid.‬‬
‫‪11‬‬
‫يف إعادة تقييم هيغل ميكن أن نُدقق يف بعض اإلشكاليات املركزية لعلم العالقات الدولية‪ .‬من هنا فإنّنا سنؤكد‬
‫على أسباب احلرب يف الوقت الذي ال يزال اجلدل بني النظرايت البنائية )‪ (Constructivism‬والنظرايت العقالنية‬
‫)‪ 33(rationalism‬يهيمن على الدراسات األمنية ‪34‬؛‬
‫البنائية؛‬ ‫إتصال ‪convergence‬‬ ‫النقاش الرباديغمي ‪ 35:Paradigmatic Debate‬العقالنية‬
‫البنائية؛‬ ‫تنافر ‪Estrengement‬‬ ‫العقالنية‬
‫= تصور بديل ‪Aleternative View‬؛‬
‫يقدم هيغل أساسه إلعتبار احلرب من خالل السياسة الداخلية واهلوية الوطنية‪ .‬واحلرب بدورها مرتبطة حسب‬
‫هيغل بتكوين الدولة (‪ ،)State Formation‬أي الرتابط السبيب بني صناعة الدولة وصناعة احلرب‪ .‬وهذا كذلك عند‬
‫هيغل ميكن أن يساعد على شرح أمهية القومية (‪ )Nationalism‬واحلرب القومية (‪ )Nationalistic War‬جنبا‬
‫إىل جنب مع أسباب اإلمربايلية من وجهة نظ ٍر عقالنية‪.36‬‬
‫إ ّن مقاربة هيغل لقضااي العالقات الدولية يف «فلسفة احلق» ُمتاثل مقاربته لفهم العالقات البينية لألفراد‪ .‬ويعترب‬
‫عرب عن احلكم‪ ،‬هذا الشخص يسعى إىل اإلعرتاف «ابآلخرين»‪ ،‬ويف حالة الفرد‬ ‫«الفرد» يف كل حالة بوصفه الكيان املُ ّ‬
‫أطروحة الدولة هي دول أخرى‪ .‬أبلغ صاحب أطروحة «الصراع من أجل اإلعرتاف» يف «فينومينولوجيا الروح»‪ ،‬أنّه البد‬
‫حل هذا الصراع‪ ،‬فحسب هيغل ال‬ ‫يتم أبدا ُّ‬
‫من إعادة معرفة األسباب األصلية للصراع الدويل‪ ،‬ويف نفس الوقت‪ ،‬لن ّ‬
‫يوجد على املستوى العاملي حالة املعاملة ابملثل‪ .‬إذا كان النضال من أجل اإلعرتاف‪ ،‬بني األسياد والعبيد‪ ،‬له نتائج على‬
‫املستوى األدىن يف إنشاء نوع من الدولة‪ ،‬يعيش ضمنها املواطنون أحرارا ومتساوين‪ ،‬يف إطار واحد هو القانون السامي‪،‬‬
‫فإن هذا ‪-‬مع إصرار هيغل‪ -‬مل ولن حيدث دوليا‪ .37‬هذا التدابر والتقابل بني إمكانية اإلعرتاف واحتمال الصراع‪ ،‬يضع‬
‫هيغل يف خانة املنظرين لظواهر التعاون والصراع الدوليني‪ ،‬إذ حياول هيغل أن خيرج إبمكاانت حتليلية جتعل الباحث ابرعا‬
‫يف تفكيك مثل هذه التناقضات النظرية اليت يف جوهرها حتمل توافقات واقعية‪.‬‬

‫‪ -33‬البنائية والعقالنية؛ مصدر تسمية البنائية هو أن املعىن هو مبىن إجتماعي”‪ that meaning is “socially constructed.‬مثال السيادة هي‬
‫مؤسسة إجتماعية‪ .‬أما العقالنية فهي منظور جاء لفهم الواقع الدويل على صورته احلقيقية‪ ،‬تبنت هذا املنظور كل من الواقعية والليبريالية‪ .‬أنظر‪:‬‬
‫‪-Ian‬‬ ‫‪hurd,‬‬ ‫‪«Constructivism»,‬‬ ‫‪Chapitre‬‬ ‫‪17:‬‬
‫‪http://faculty.wcas.northwestern.edu/~ihu355/Home_files/17-Smit-Snidal-c17.pdf, P300‬‬
‫‪34‬‬
‫‪- Joseph Mackay and Jamie Levin, Op. cit., P14-15.‬‬
‫‪ -35‬اعتمدان يف إجناز هذا املخطط البسيط على األفكار الواردة يف املرجع التايل‪:‬‬
‫‪- Andrew Bradley Phillips, «Constructivism», in Griffiths, M. (ed.), International Relations Theory‬‬
‫‪for the 21st Century: An Introduction, London: Routledge, 2007, p .61‬‬
‫‪36‬‬
‫‪- Joseph Mackay and Jamie Levin, Op. cit., P.01.‬‬
‫‪37‬‬
‫‪- Tony Burns, Op. cit., P12.‬‬
‫‪12‬‬
‫القوة الغامشة‬
‫لقد أُخذ على فلسفة هيغل أ ّّنا ّبررت إخضاع مصاحل الفرد ملصاحل الدولة‪ ،‬واليت تستند سلطتها إىل ّ‬
‫كليا‪ ،‬واليت تُقيم عالقاهتا مع الدول األخرى ضمن خو ٍاء أخالقي وتنظّمها عرب مبدأ «اجلربوت هو احلق»)‪is Right‬‬
‫‪ ،)Might‬لكن تشديد هيغل كان على اجلربوت «الروحي» أو املعنوي ال املادي للدولة‪ .‬فهو يرى أ ّن للحرب بعض‬
‫مروج ا شريرا عدمي اإلحساس ملذهب «اجلربوت‬
‫قر بشرورها الواضحة يف آن واحد‪ ،‬وبدالا من أن يكون ّ‬
‫الفوائد اإلجيابية ويُ ّ‬
‫متحسرا على أن مثل تلك القيود الرمسية مل تعد كما ينبغي أن‬
‫ّ‬ ‫هو احلق»‪ ،‬ومزدرايا ل«القانون الدويل»‪ ،‬أخذ هيغل يبدو‬
‫تكون عليه‪ .‬وتتطلع عوضا من ذلك إىل األعراف واألشكال املختلفة من اإلعرتاف املستندة إىل األسرة‪ ،‬واجلماعة‪،‬‬
‫‪38‬‬
‫فوفقا هليغل‪ ،‬يكمن سبب احلرب الرئيس يف طبيعة الدولة‬
‫واجملتمع املدين‪ ،‬والدول يف عالقاهتا املتبادلة كتأثريات مقيّدة ‪ُ .‬‬
‫الفريدة املمثلة يف ُحكم ذايت حيمي اهلوية اجملتمعية لسكاّنا‪ .‬فالشعب وليد وسط معني‪ ،‬وهو ميلك اترخيا‪ ،‬لغةا مشرتكةا‪،‬‬
‫عادات‪ ،‬أهواء وقواعد سياسية وإجتماعية حم ّددةٌ‪ ،‬وال ميكن هلويته أن تشمل البشرية ةمعاء‪ .‬فبالنسبة هليغل‪ ،‬تندلع‬
‫احلروب نتيجة نزاع بني طريقتني متضاربتني للحياة‪ .‬وحّت عندما تتعاون الدول‪ ،‬تبقى أهدافها ومصاحلها نُصب عينيها‪.‬‬
‫فيمكن توقيع املعاهدات وإقامة التحالفات‪ ،‬لكنّها تدوم بدوام املنفعة اليت جتلبها على رفاه األطراف املتعاقدة‪.39‬‬
‫إذن؛ ينبين تصور هيغل لثنائية السلم واحلرب على طبيعة الرؤية اإلدراكية للدولة‪ ،‬فالرؤية القائمة على إدراك مبدأ‬
‫التعاون تشكل منطق السلم يف العالقات الدولية‪ ،‬أما الرؤية املرتكزة على إدراك مفهوم الصراع فهي منطق احلرب يف‬
‫العالقات الدولية‪ .‬وأصل التعاون والصراع عند هيغل فلسفة احلياة لكل شعب‪ ،‬أي طريقة العيش معا‪ ،‬إذا حدث توافق‬
‫يف طريقة احلياة أو تضارب‪ ...‬وهذا راجع كلّه إىل أهداف ومصاحل كل طرف‪ .‬لفهم هذه الفكرة الب ّد من الرجوع إىل‬
‫السياق التارخيي الذي ُولدت فيه الفكرة اهليغيلية حول الدولة‪.‬‬

‫سوغات الطرح‬
‫وسع أ ّن هناك أبعاد نظرية ومنهجية على العالقات الدولية إحدى ُم ّ‬
‫نستنتج من هذا التحليل املُ ّ‬
‫كمنجز هيجيلي يف‬
‫املؤسسة للحقل‪ ،‬بينما ال أحد خيتلف يف أ ّن العمل النظري ُ‬
‫الداعي إلدراج هيغل يف املناقشات ّ‬
‫العالقات الدولية ال يُصنّف ضمن املكانة التحتية‪ .40‬من هنا ميكن التعويل على النظرية اهليغيلية ّ‬
‫ألّنا ترتقي إىل أتسيس‬
‫براديغم معياري ينافس ويناجز الرباديغم الوضعي يف حقل العالقات الدولية‪ .‬رغم أ ّن هيغل يف نظريته السياسية ينطلق‬
‫أفالطوني ا (مثالي ا) وينتهي أرسطي ا (واقعي ا) يف تفسريه لنشأة الدولة احلديثة‪.‬‬

‫‪-5‬الدولة اهليغيلية (‪ :)L' Etat hégélien‬حقيقة الدولة والقانون الدويل؛ احلرب صريورة وضرورة‬

‫‪ -38‬دافيد ابوتشر‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.633-631‬‬


‫‪ -39‬مارتن غريفيثس وتريي أوكاالهان‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪250.‬‬
‫‪40‬‬
‫‪- Joseph Mackay and Jamie Levin, Op. cit., P.01‬‬
‫‪13‬‬
‫إ ّن الدولة عند هيغل تقوم على أساس القانون‪ ،‬الذي ميثل العقالنية‪ ،‬وجيب الرتكيز هنا على‪« :‬أ ّن ماهية الدولة‬
‫هي القانون‪ ،‬فإنّنا ال نقول قانون األقوى‪ ،‬أو قانون الرغبة‪ ،‬أو قانون املروءة الطبيعية‪ ،‬بل قانون العقل‪ ،‬الذي به ميكن‬
‫صحيح أ ّن الدولة تظهر لدوائر احلق الفردي‪ ،‬والعائلة‪ ،‬وحّت دائرة جمتمع‬
‫ٌ‬ ‫يتعرف على إرادته العاقلة‪،‬‬
‫عاقل أن ّ‬‫لكل كائ ٍن ٍ‬
‫ّ‬
‫وقوهتا تكمن يف وحدة‬
‫كقوة عليا‪ ،‬لكن من جهة أخرى‪ ،‬الدولة هي الغاية املُالزمة هلذه الدوائر‪ّ ،‬‬
‫العمل‪ ،‬كضرورة خارجية‪ّ ،‬‬
‫هدفها النهائي الكلي‪ ،‬واملصاحل اخلاصة ألفرادها»‪ .41‬كما أ ّن الدولة عند هيغل‪ ،‬تقوم على احلرية كمبدأ وعمل‪ ،‬وذلك‬
‫أل ّّنا تتش ّكل على أساس اإلرادة‪ ،‬ضمن فلسفة احلق‪ ،‬واليت ماهيتها األساسية احلرية‪ ،‬والدولة ال ُفضلى بنظر هيغل هي‬
‫امللكية الدستورية‪ ،‬أل ّّنا مركزية وقوية من جانب إرادهتا‪ ،‬والمركزية من جانب املصاحل االقتصادية‪ ،‬وهي دولة بال تدخل‬
‫ديين‪ ،‬وهي ذات سيادة مطلقة يف الداخل واخلارج‪ ،‬وهذه هي الدولة احلديثة‪ .‬ويفهم هيغل الدولة يف مرحلتها هذه‪ ،‬واليت‬
‫قرر السيادة ال ميكن أن يكون‬
‫تُع ّد مرحلة إنتقالية إىل الدولة العاملية‪ ،‬على شكل دولة ملكية دستورية‪ ،‬أل ّن املبدأ الذي يُ ّ‬
‫أي أسلوب آخر‪ .42‬يف فلسفة احلق (‪)Philosophy of Right‬‬ ‫إالّ يف ُملك‪ ،‬وميكن قبول تعيينه ابلوالدة أو ّ‬
‫يتحدث هيغل عن «فكرة الدولة» مبنطق «تكاملي ثالثي»‪ ،‬يف كثري من األحيان يُعتقد (صواابا أو خطأا) أن تكون‬
‫«اهليغلية» املتقدمة‪« :‬أطروحة»‪« ،‬نقيض» و«الرتكيب« منهج جديل ُمطبّق على الظواهر‪« :‬مثالا‪ ،‬الدولة بوصفها الفرد‬
‫الكائن اليت تعتمد على الذات والدستور‪ ،‬العالقة بني دولة ودول أخرى حيكمها قانون دويل»‪.43‬‬
‫يف حتديده ملعىن احلرب وضرورهتا‪ ،‬يُفنّد هيغل أن احلرب تُناقض مفهوم الدولة‪ ،‬بدعوى أ ّن مهمة الدولة هي‬
‫احملافظة على أرواح املواطنني واحلرب تدمر أمواهلم‪ ،‬ويرد هيغل على هذا القول أبن يقول‪« :‬ال ينبغي أن نعد احلرب شرا‬
‫مطلقا‪ ...،‬ابحلرب ُحيافظ على الصحة األخالقية للشعوب يف عدم إكرتاثها لألمور غري املح ّددة ويف مواجهة العملية اليت‬
‫ُ‬
‫تستقر عادات وتُصبح اثبتةا‪ ،‬مثلما أ ّن حركة الرايح ُحتافظ على املياه يف البحريات من خطر‬
‫هبا هذه األمور غري املُح ّددة ّ‬
‫التع ّفن الذي يُصيبها به السكون املستمر‪ ،‬وهذا هو ما حيدثه للشعوب السالم املستمر‪ ،‬وابألحرى السالم الدائم»‪.44‬‬
‫ويُستفاد من هذا املوضع أ ّن هيغل يرى يف احلرب‪ّ :‬أوالا؛ ّأّنا حالة طبيعية‪ ،‬تنسف ابألمور العرضية‪ ،‬والعرضي مآله حتم ا‬
‫إىل الزوال‪ .‬اثني ا؛ احلرب دافع إىل التطور والتغيري‪ ،‬فلو ال احلرب ألصاب الشعوب العفن والفساد‪ .‬اثلث ا؛ كلّما طالت فرتة‬
‫السالم إزدادت أسباب إحنالل الشعوب‪ ،‬والسالم الدائم – إن ُوجد – سيؤدي إىل فناء اإلنسانية‪.45‬‬

‫‪ - 41‬علي عبود احملمداوي‪ ،‬الفلسفة السياسية‪ :‬كشف ملا هو كائن‪ ،‬وخوض يف ما ينبغي للعيش معاً‪ ،‬منشورات ضفاف‪-‬االختالف‪ ،‬اجلزائر‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪،1.‬‬
‫‪ ،2015‬ص‪.171‬‬
‫‪ -42‬املرجع نفسه‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫‪-Tony Burns, Op. cit., P .17‬‬
‫‪ --44‬عبد الردمن بدوي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.215-214‬‬
‫‪ -45‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.215-214‬‬
‫‪14‬‬
‫أمام هذا التحليل‪ ،‬نستدعي حتليلنا اخلاص يف إعتبار فردنة الدولة تتويج للنواة النظرية اليت اعتمدها هيغل داخل‬
‫نسقه الفلسفي الشامل وهي «جدل الفكرة»؛ القضية األوىل‪ ،‬الفرد؛ القضية الثانية‪ ،‬الدولة؛ الرتكيب‪ ،‬فردنة الدولة‪ .‬حييلنا‬
‫هذا الرتكيب إىل معىن أساسي مرتبط بنزع القداسة عن اهليئات السياسية اليت تدير شؤون الدولة‪ ،‬فالدولة تفتقد‬
‫شخصيتها املعنوية حينما تتحول إىل فرد هلا سلوك سياسي معني‪ ،‬خصوص ا وأ ّن اجلهاز املفاهيمي عند هيغل يفرق بني‬
‫احلق والقانون‪ ،‬فاحلق هو نسيج من العادات واألخالق واألعراف والدين حتقق الفعل‪ ،‬والقانون خيط رفيع من هذا‬
‫النسيج‪ .‬فالقانون هو الذي يضمن التحقق الفعلي هلذه األنسجة‪ ،‬سواء ابلنسبة للسيادة الداخلية أو السيادة اخلارجية‪.‬‬
‫وال ميكن أن نضع الدولة واحلرب يف صورة متناقضة‪ ،‬أل ّن احلرب هي وقود العملية البنائية للدولة يف نظر هيغل‪ .‬ويف هذه‬
‫االملاحة أيضا نشري إىل أنّه ميكن أن يتكرر منوذج الفردنة يف املدرسة السلوكية‪ ،‬عندما إختزلت هذه األخرية سلوك الدولة‬
‫يف سلوك الفرد وبرز عندها ما يسمى «السلوك السياسي» كوحدة حتليلية‪.‬‬
‫إ ّن هيغل يف نظرية العالقات الدولية‪ ،‬على الرغم من أمهيته املركزية يف النظرية السياسية‪ ،‬كثريا ما ينفتح على قانون‬
‫العالقات الدولية‪ .46‬ينطلق هيغل يف أتسيسه للقانون الدويل على فكرة بسيطة‪ ،‬كما أشران سابق ا‪ ،‬وهي «ف ْردنةُ الدولة»‪،‬‬
‫ألنّه يعترب أ ّن الفرد يتماثل ويتشاكل مع الدولة يف مسألة احلرية واإلستقاللية‪.‬‬
‫يقول هيغل‪« :‬إ ّن للدولة فردية‪ ،‬وهذه الفردية توجد جوهرايا بوصفها فردا‪ ،‬ويف احلاكم بوصفها فردا واقعي ا‬
‫مباشرا‪the state has individuality, and individuality is in essence an individual, ،‬‬
‫‪( »and in the sovereign an actual immediate individual‬البند ‪ .47)321‬والفردية‪ ،‬بوصفها‬
‫وجودا – من أجل ذاته مستبعدا للغري‪ ،‬تتجلّى يف عالقتها مع الدول األخرى‪ ،‬اليت كل واحد منها مستقلة ابلنسبة إىل‬
‫سائر الدول‪ .‬ومعىن هذا أ ّن اإلستقالل هو جوهر أيّة دولة‪ ،‬وأنّه من الوهم أن حتاول دولة إدماج دولة أخرى يف داخلها‬
‫الوّدي‪ ،‬أل ّن هذا اإلندماج سيؤدي إىل فقدان الدولتني روحهما وكياّنما احلقيقي اجلوهري‪ .‬ومن‬
‫سواءا ابلغزو أو ابلتفاهم ُ‬
‫هنا فإ ّن التاريخ شهد حماوالت إلدماج دولة يف أخرى‪ ،‬بيد ّأّنا أخفقت إخفاق ا ذريع ا ولو مبرور فرتة طويلة من الزمن‪.‬‬
‫وهذا هو ما يفسر إحنالل اإلمرباطورايت‪ :‬املصرية القدمية‪ ،‬اليواننية اليت خلفها اإلسكندر املقدوين‪ ،‬إمرباطورية شارلكان‬
‫(كارل اخلامس)‪ ،‬إمرباطورية انبوليون‪ ... ،‬اإلمرباطورية الروسية اليت تفككت يف عامي (‪.48)1991 – 1990‬‬
‫إذن يشري هيغل إىل سبب عدم واقعية القانون الدويل العام حينما يقول‪« :‬إ ّن القانون الدويل العام ينتج عن‬
‫العالقات بني دول مستقلة‪ ،‬وما هو يف ذاته وبذاته يتّخذ شكل ما جيب أن يكون‪ ،‬أل ّن وجوده الواقعي يقوم على إرادات‬

‫‪46‬‬
‫‪- Joseph Mackay and Jamie Levin, Op. cit., P.01‬‬
‫‪47‬‬
‫‪- Georg W.F Hegel, Hegel’s Philosophy of Right, Op. cit , P.309‬‬

‫‪ -48‬عبد الردمن بدوي‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪213-212 .‬‬


‫‪15‬‬
‫خمتلفة ذات سيادة‪International law springs from the relations between ،‬‬
‫‪autonomous states. It is for this reason that what is absolute in it retains the‬‬
‫‪form of an ought-to-be, since its actuality depends on different wills each of‬‬
‫‪( »which is sovereign‬البند ‪.49)330‬‬

‫احلديث عن تنازع اإلرادات‪ ،‬يقودان إىل تدقيق مفهوم احلرب الباردة اليت اعتربت يف التحديد القاموسي‬
‫واالصطالحي «صراع أيديولوجي»‪ ،‬بيد أنّه يوجد إلتباس وغموض يف فهم هذا املصطلح‪ ،‬خاصة يف حقل العالقات‬
‫الدولية‪ .‬يف تقديري أ ّن هذا الصراع ليس بني القوى الكربى اليت متثّل قُطيب الصراع وهي الوالايت املتحدة األمريكية‬
‫كل وحدة سياسية يف مواجهة‬ ‫صنّاع القرار داخل ّ‬
‫واإلحتاد السوفيايت‪ ،‬بل هو صراع بني ُمدركات وقيم ومعتقدات وإرادات ُ‬
‫الوحدة السياسية اجملاهبة‪ .‬إذن الصراع األيديولوجي أطرافه أفراد وليس دول‪ .‬فالسلوك السياسي للدولة ما هو يف احلقيقة‬
‫إالّ متثّل أنطولوجي (‪ )Representation Ontological‬إلرادات األفراد املتنازعة حول مصاحل حيوية معينة‪.‬‬
‫ُ‬
‫لقد كان للفلسفة اهليغيلية حضور يف احدى كتاابت املنظرين املعاصرين خالل فرتة ما بعد ّناية احلرب الباردة‪ ،‬حيث‬
‫وظفت يف تفسري الدميقراطية كآخر نظام سياسي للحكم‪ ،‬وهبا يُسدل الستار على التاريخ‪.‬‬

‫‪-6‬هيغل‪ ،‬كوجيف وفوكوايما‪ :‬اثلوث النهاية يف العالقات الدولية‬

‫كان أللكسندر كوجيف ‪( Alexendre Kojève‬موسكو ‪ -1902‬بروكسل‪1968‬؛ فيلسوف سياسي‬


‫روسي‪ ،‬جمدد اهليغيلية يف فرنسا) يف ثالثينيات القرن العشرين‪ ،‬إسهام متثّل يف حماضراته ابملدرسة التطبيقية للدراسات العليا‬
‫(الدورة اخلامسة) حول فلسفة الدين عند هيغل‪ ،‬خالل هذه الفرتة أجرى قراءة لفينومينولوجيا الروح‪ ،‬اليت كانت مبثابة‬
‫مقدمة لقراءة هيغل اليوم‪ .50‬يعتقد األستاذ كوجيف أ ّن هيغل كان ينتظر من انبوليون أن يُرسي «دولة كلّية ومتجانسة»‬
‫يتطابق قيامها مع إكتمال الفلسفة األملانية يف النسق اهليغيلي‪ ،‬وهذا يعين الداللة على «ّناية التاريخ»‪ .51‬انطالقا من‬
‫هذه الفكرة يدعو فرانسيس فوكوايما ‪( Francis Fukuyama‬شيكاغو‪- 1952‬؟ فيلسوف‪ ،‬إقتصادي وابحث‬
‫يف العلوم السياسية األمريكية) إىل إعتماد مفهوم اإلعرتاف الذي أطلقه الفيلسوف األملاين هيغل‪ ،‬ابإلضافة إىل نظرية‬
‫ظل األنظمة السياسية‬
‫يتعزز يف ّ‬
‫تفوق الدميقراطية الليربالية يف الساحة السياسية‪ .‬فالنمو اإلقتصادي ّ‬
‫التاريخ الغائي لتفسري ُّ‬

‫‪49‬‬
‫‪-Georg W.F Hegel, Op. cit., P.316‬‬
‫‪50‬‬
‫‪- Alexendre Kojève, Introduction à La lecteur de hegel, Bibliothèque nationale, Galimard, Paris,‬‬
‫‪p.07‬‬
‫سرو‪ ،‬هيغل واهليغيلية‪ ،‬ترةمة أدونيس العكره‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪ ،1993 ،1‬ص ‪.69-68‬‬
‫‪ -‬رينيه ّ‬
‫‪51‬‬

‫‪16‬‬
‫املتنوعة واملتعددة مبا فيها الفاشية والشيوعية‪ ،‬لكن الدميقراطية الليربالية وحدها تلتقي مع حاجات اإلنسان األساسية‬
‫كاإلعرتاف واحلرية السياسية واملساواة‪ .‬إ ّن هيغل هو من إفرتض أ ّن ّناية التاريخ ستحل عندما ينجز البشر نوع احلضارة‬
‫الذي يرضي رغباهتم األساسية‪ .‬ابلنسبة إىل هيغل‪ ،‬نقطة النهاية هذه هي الدولة الدستورية‪ .‬ويف نصه‪ ،‬يشري هيغل إىل أن‬
‫انبليون كان الرائد يف هذا اجملال بداية القرن التاسع عشر‪ .‬ويصرح فوكوايما قائالا‪« :‬إنّنا حباجة إىل اعتماد مثالية هيغل‬
‫الفلسفية من جديد والتخلي عن فلسفة ماركس املادية وأتباعها‪ ،‬اليت تقول إ ّن اإلشرتاكية ضرورية لتخطّي الالّمساواة يف‬
‫اجملتمعات الرأمسالية»‪ .52‬وعليه‪ ،‬جيد فوكوايما يف نظرايت هيغل ُّ‬
‫تفهما عميقا لطبيعة اإلنسان‪ ،‬ال توحي به أفكار فالسفة‬
‫كتوماس هوبز وجون لوك‪.‬‬

‫يف هذا االجتاه‪ ،‬ينطلق فوكوايما من شبكة مفاهيمية أفالطونية‪ ،‬فيعرض ل»تيموس»‪ ،‬والذي ترجم إىل الروحانية‪،‬‬
‫الشجاعة والرغبة‪ .‬أما »امليغالوثيميا« فهي تيموس الرجال العظماء حمركي التاريخ كقيصر وستالني‪ .‬وأخريا؛ »إيزوثيميا‬
‫التفوق‪ ،‬بناءا على ذلك يعد التاريخ صراع بني هذين الشغفني‪.‬‬
‫«وهي املطالبة املتواضعة ابإلعرتاف بواسطة املساواة ال ّ‬
‫ومن ينهي هذا الصراع هو عبقرية الدميقراطية الليربالية الرأمسالية‪ .‬إ ّن جدلية السيد والعبد هي حمرك أول للتاريخ الذي ال‬
‫ميكن أن يشهد اإلستقرار ما دام البشر منقسمني إىل سادة وعبيد‪ .‬فلن يقبل هؤالء إطالقا بصفة التبعية املنسوبة إليهم‪،‬‬
‫فتحل املساواة السياسية يف‬
‫وهنا تظهر عبقرية الدميقراطية يف قدرهتا على املصاحلة بني أنواع الرغبة اليت ذكرها أفالطون؛ ُّ‬
‫وح ّجة هؤالء الذين يناضلون من أجل السيطرة هي فكرة إجياد الثروة التابعة للفكر‬
‫التفوق والسيطرة‪ُ .‬‬
‫اجملتمع بدالا من ّ‬
‫الرأمسايل وةمعها‪ .‬ويعتمد فوكوايما أيض ا على تفسري فلسفة هيغل الذي ق ّدمه كوجييف‪ ،‬عن أ ّن دولة الرفاه قد حلّت‬
‫مشكالت الرأمسالية اليت طرحها ماركس‪ .‬وقد جنحت الرأمسالية يف إزالة تناقضاهتا الداخلية‪ .‬ابإلضافة إىل ذلك‪ ،‬هي ال‬
‫تؤمن اإلزدهار املادي فقط‪ّ ،‬إمنا أيض ا األفكار والقيم املتجانسة وتُضعف إصطدام األيديولوجيات بني الدول‪ ،‬لذا فهي‬
‫ّ‬
‫تُقلّل من خطر احلرب والتهديد هبا‪ .‬إ ّن هيغل نفسه مل يعتقد أ ّن ّناية احلرب بني الدول قد تكون ُحمتملة على الصعيد‬
‫جتانس القيم بني القوى العظمى عملية السالم يف‬
‫ُ‬ ‫عزز‬
‫الدويل‪ .‬إتفق كوجييف وفوكوايما على أنّه فيما تستمر احلروب‪ ،‬يُ ّ‬
‫الدول الكربى‪ ،‬وهي األهم على املدى البعيد‪.53‬‬

‫يف كتابه «ّناية التاريخ والرجل األخري» (‪ ،)1992‬يدرس فوكوايما الدميقراطية الليربالية دراسة نقدية يف بلدان‬
‫أمريكا الالتينية عام ‪ ،1980‬كمظهر من مظاهر النهاية بعد مسار أطول‪ ،‬واليت نشأت من رحم الثورات الفرنسية‬
‫واألمريكية‪ .‬يشري فوكوايما أ ّن إ نتشار وتطوير الدميقراطيات الليربالية يف ةميع أحناء العامل ميكن فهمه وفق مفهوم هيغل‬

‫‪ -52‬مارتن غريفيثس‪ ،‬تريي أوكاالهان‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪.447– 446‬‬


‫‪ -53‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.447 – 446‬‬
‫‪17‬‬
‫ل«اإلعرتاف»‪ .‬وردا على تصور فوكوايما‪ ،‬إقرتح براين ويلكوس ‪ Bryan Wilcox‬من جامعة نيوميكسيكو يف مقاله‪:‬‬
‫«أشكلة فوكوايما‪ :‬القولبة اهلايدجرية كبديل لإلعرتاف عند هيغل يف معاجلة الدميقراطية يف العامل»‪ ،54‬ميكن االستعانة برؤية‬
‫هايدجر لشرح صعود وإستمرار الدميقراطية الليربالية يف العامل أبكثر دقة‪ ،‬فقد متيزت ّناية العصر احلديث أساس ا ما قبل‬
‫«النيتشوية»‪ ،‬إبرادة قوية للتحرر من قيود امليتافيزيقا‪ ،‬وعليه الدميقراطية الليربالية يف الدول هي نتيجة لرفض امليتافيزيقا‪،‬‬
‫وليس الرغبة يف اإلعرتاف الذايت‪ ،‬على النحو الذي اقرتحه فوكوايما من خالل تفسريه هليجل‪ ،‬خاصة وأن هايدجر كان‬
‫يسعى إىل تدمري امليتافيزيقا وتفجريها من خالل مشروعه األنطولوجي‪ ،‬وأشكلة أطروحة فوكوايما كانت ضمن هذا املسار‬
‫عند براين حيث أ ّن أطروحة فوكوايما وصلت سقف امليتافيزيقا‪ ،‬أل ّن التاريخ البشري أثبت تناقضها كليا‪.‬‬

‫خامتة‪:‬‬

‫يقتضي األمر إعادة التفكري يف هيغل واالنفتاح على فكره‪ ،‬لقد أضاف هيغل املنهج اجلديل يف حتليل ظواهر‬
‫العالقات الدولية‪ ،‬خاصة السلم واحلرب؛ فهم العالقات الدولية مبنظور جديل يفرتض أ ّن احلرب ظاهرة طبيعية والسلم‬
‫ظاهرة إنسانية ‪ ،‬واالنسان والطبيعة كالمها ينتميان إىل حركة اجلدل‪ ،‬فاالنسان دائما يف صراع مع الطبيعة‪ ،‬لكن هيغل‬
‫يبحث عن قانون يف اجلدل هو قانون التغري األبدي والنشوء واالرتقاء‪ ،‬هدفه إبقاء الصراع لكن يف اآلن ذاته‪ ،‬إخراجه من‬
‫دميومته‪ .‬إ ّن الدولة يف نظر هيغل ترتكز على العقالنية بيد أ ّّنا متناقضة يف مواجهتها للحرب ويف دخوهلا ضمن اعتبارات‬
‫القانون الدويل الذي هو يف األصل غري واقعي يشهد اخرتاقات وجتاوزات‪ ،‬لذلك ال بد من طرح بديل إنساين يتجاوز‬
‫صنمية القانون‪ ،‬هذا البديل هو االعرتاف الذي يستمد أصوله من السوسيولوجيا احلديثة‪ .‬إن براديغم االعرتاف يف‬
‫العالقات الدولية ذو أمهية نظرية كبرية ألنه خيفف من حدة الصراع الدويل‪ ،‬يف الوقت الذي جنده مفارقا ملقولة النهاية اليت‬
‫حتضى مبكانة هامة يف فلسفة التاريخ البشري اليت جاء هبا هيغل ونقلها تيار ما بعد اهليغيلية (‪)Post-hégélienne‬‬
‫متمثالا يف كوجيف من خالل اكتمال النسق وفيما بعد طورها فوكوايما إىل ّناية التاريخ‪ ،‬وقد استمر هذا الرباديغم مع‬
‫النظرية االجتماعية النقدية يف العالقات الدولية‪ ،‬والذي اجته حنو التنظري لظاهرة التعاون الدويل‪.‬‬
‫إ ّن الدميقراطيات املعاصرة املبنية على دولة احلق والقانون يف العالقات الدولية متتد أبصوهلا إىل اهليغيلية‪ .‬إذ ال ميكن‬
‫دراستها بشكل حقيقي إالّ ابلرجوع إىل النظرايت املعيارية‪ ،‬وعليه فقد أسهم هيغل يف تطوير االجتاه الرتكييب أو التكويين‬

‫‪54‬‬
‫‪-Bryan Wilcox, «Problematizing Fukuyama: Heidegger's 'Enframing' as an Alternative to Hegel's‬‬
‫‪'Recognition' in Studies of Global Democratization», Conference Papers - New England Political‬‬
‫‪Science Association, 2012, p1-9.‬‬
‫‪18‬‬
‫(‪ )Constitutive Trend‬يف العالقات الدولية والتوليف بني النظرايت العقالنية والنظرايت البنائية لطرح رؤية‬
‫شاملة يف تفسري الظواهر الدولية‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫املصادر واملراجع‬
‫‪ -‬ابوتشر‪ ،‬دافيد‪ ،‬النظرايت السياسية يف العالقات الدولية‪ :‬من ثيوسيديدس حىت الوقت احلاضر‪ ،‬ترةمة رائد‬
‫القاقون‪ ،‬املنظمة العربية للرتةمة‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2013 ،1‬‬
‫‪ -‬خبضرة‪ ،‬مونيس‪ ،‬اتريخ الوعي‪ :‬مقارابت فلسفية حول جدلية إرتقاء الوعي ابلواقع‪ ،‬منشورات اإلختالف‪-‬الدار‬
‫العربية للعلوم‪ ،‬اجلزائر‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪2009 ،1.‬‬
‫‪ -‬بدوي‪ ،‬عبد الردمن‪ ،‬فلسفة القانون والسياسة عند هيغل‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1996 ،1‬‬
‫‪ -‬غريفيثس‪ ،‬مارتن وتريي أوكاالهان‪ ،‬املفاهيم األساسية يف العالقات الدولية‪ ،‬مركز اخلليج لألحباث‪ ،‬ديب‪2008 ،‬‬
‫‪ -‬بوقرن‪ ،‬عبد هللا‪« ،‬اآلخر يف جدلية التاريخ عند هيغل»‪ ،‬أطروحة دكتوراه العلوم يف الفلسفة‪ ،‬كلية العلوم‬
‫االجتماعية واإلنسانية‪ ،‬قسم الفلسفة‪ ،‬جامعة قسنطينة‪ ،‬السنة اجلامعية‪2007 – 2006 :‬‬
‫‪ -‬الربيعي‪ ،‬ظاهر عبد الزهرة‪« ،‬الوزن اجليوبوليتيكي للمساحة يف إسرائيل‪ :‬دراسة تطبيقية»‪ ،‬جملة آداب البصرة‪،‬‬
‫العدد‪ ،56 :‬كلية الرتبية‪ ،‬جامعة البصرة‪2011 ،‬‬

‫‪ّ -‬‬
‫سرو‪ ،‬رينيه‪ ،‬هيغل واهليغيلية‪ ،‬ترةمة أدونيس العكره‪ ،‬دار الطليعة للطباعة والنشر‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1993 ،1‬‬

‫‪ -‬الالند‪ ،‬أندريه‪ ،‬موسوعة الالند الفلسفية ‪ ،‬اجمللد الثالث‪ ،‬ترةمة خليل أدمد خليل‪ ،‬منشورات عويدات‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫ط‪2001 ،2‬‬
‫‪ -‬حممد‪ ،‬بلخرية‪« ،‬براديغمات العالقات الدولية املعاصرة‪ :‬املركزية الغربية منوذج ا»‪ ،‬أكادمييا للدراسات االجتماعية‬
‫واإلنسانية‪ ،‬قسم العلوم االقتصادية والقانونية‪ ،‬جامعة الشلف‪ ،‬العدد العاشر‪ ،‬جوان ‪2013‬‬
‫‪ -‬احملمداوي‪ ،‬علي عبود‪ ،‬الفلسفة السياسية‪ :‬كشف ملا هو كائن‪ ،‬وخوض يف ما ينبغي للعيش معاً‪ ،‬منشورات‬
‫ضفاف‪-‬االختالف‪ ،‬اجلزائر‪-‬بريوت‪ ،‬ط‪2015 ،1.‬‬
‫يش‪ ،‬أصول فلسفة احلق‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬ترةمة إمام عبد الفتاح إمام‪ ،‬مكتبة مدبويل‪ ،‬القاهرة‪،‬‬ ‫‪ -‬هيغل‪ ،‬غ ْ‬
‫يور ْغ فله ْم فر ْيدر ْ‬
‫‪1996‬‬
‫‪ ،‬فينومينولوجيا الروح‪ ،‬ترةمة وتقدمي انجي العونلي‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬املنظمة‬ ‫‪-‬‬
‫العربية للرتةمة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2006 ،1‬‬
‫‪ ،‬حماضرات يف فلسفة التاريخ ‪ :‬العقل يف التاريخ‪ ،‬اجمللد األول‪ ،‬ترةمة وتقدمي ومراجعة إمام‬ ‫‪-‬‬
‫عبد الفتاح إمام‪ ،‬التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪2007 ،3‬‬
‫‪20‬‬
- Burns, Tony, «Realism and Utopianism in Hegel’s Political Thought: National
Sovereignty, International Relations and the Idea of a ‘World State’», Working
Paper Series, Centre for the Study of Social and Global Justice, School of Politics
& International Relations, University of Nottingham, P 17. See Link :
www.nottingham.ac.uk/cssgj/documents/working-papers/wp006.pdf
- Dunne, Tim, Milja Kurki , and Steve Smith, International Relations
Theories:Discipline and Diversity Oxford University Press, United Kingdom,
Third Edition,2013
- Essai Philosophique, «sur la paix perpétuelle Immanuel Kant avec préface de
ch.L emonnier», G.Fischbacher Libraire éditeur, Paris, 1880

- Hegel, Georg W.F, Hegel’s Philosophy of Right, Trans. T .M .Knox. Oxford


University Press, London, 1942. Phillips, Andrew Bradley, «Constructivism», in
Griffiths, M. (ed.), International Relations Theory for the 21st Century: An
Introduction London: Routledge, 2007
- Hurd, Ian, «Constructivism», Chapitre 17:
http://faculty.wcas.northwestern.edu/~ihu355/Home_files/17-Smit-Snidal-c17.pdf

- Khan, Khurshid, «Limited War Under the Nuclear Umbrella and its Implications
for South Asia», See Link: www.stimson.org/images/uploads/research-
pdfs/khurshidkhan.pdf
- Kojève, Alexendre, Introduction à La lecteur de hegel, Bibliothèque nationale,
Galimard, Paris
- Mackay, Joseph and Jamie Levin, «The case for Hegel in International Relation
Theory: Making War and Making States», Departement of Political Science,
University of Toronto, p1. See link:www.cpsa-acsp.ca/papers-2010/MacKay-
Levin.pdf
- Wilcox, Bryan, «Problematizing Fukuyama: Heidegger's 'Enframing' as an
Alternative to Hegel's 'Recognition' in Studies of Global Democratization»,
Conference Papers - New England Political Science Association, 2012
- Yinda, André-MarieYinda, »Penser les relation internationales Africaines des
problèmes aux philosophèmes politiques aujourd’hui», Polis, R.C.S.P. / C.P.S.R.
Vol. 8, Numéro Spécial, 2001

21

You might also like