Professional Documents
Culture Documents
1236
1236
1236
ملخص
يهدف هذا البحث إلى تبيين أهمية العلم بتاريخ نزول آيات القرآن الكريم ،وهو أحد
مباحث نزول القرآن التي ينبغي على مفسر القرآن والمتدبر آلياته الكريمة أن يرجع إليها
ويستعين بها على الفهم الصحيح لآلية.
كما يهدف البحث إلى تبيين المصادر والط@رق ال@تي يمكن من خالله@ا التوص@ل إلى تحدي@د
تاريخ نزول اآلية ولو بصورة تقريبية ،فتتبع تاريخ نزول اآليات يهدف إلى تعميق فهم اآلي@ات
وت @@دبر معانيه @@ا والوق @@وف على حكم @@ة الت @@درج في إنزاله @@ا ،وال يع @@ني ذل @@ك بح @@ال من األح @@وال
ال@@دعوة إلى إع@@ادة كتاب@@ة المص@@حف أو كتب التفس@@ير وف@@ق زمن ال@@نزول أو الرض@@ى ب@@ذلك الفع@@ل
الش @@اذ ،ف @@ترتيب س @@ور الق @@رآن وآيات @@ه أم @@ر ت @@وقيفي ومواف @@ق لم @@ا في الل @@وح المحف @@وظ وال يج @@وز
مخالفته مطلقًا.
Abstract
This research aims to highlight the importance of the history of revelation
of the Qur’anic verses as an important topic for any exegesis who wants to
understand the verses of the Noble Qur’an properly.
It aims to explain the resources and methods by which we can specify the
time of revelation of specific verses or specific chapters in the Noble Qur’an.
This should help to strengthen our understanding of the verses. Further
more, it enables us to realise the divine wisdom behind theses verses.
The previous mentioned is not by any means a call for re-writing the
Qur’an or to re-write its traditional authentic interpretations according to the
order of revelation as this matter (the final order of verses and chapters in the
noble Qur’an) is a divine order and no one has the right to disagree with this
consensus..
أستاذ مشارك في التفسير وعلوم القرآن ،قسم أصول الدين ،كلية الشريعة ،الجامعة األردنية. *
باحث في الدراسات القرآنية. *
*
المقدمة:
209 المنارة ،المجلد ،12العدد .2006 ،3
أهمية العلم بتاريخ نزول آيات القرآن ..........................................................أحمد شكري وعمران نزال
الحمد لله منزل القرآن على عبده منجمًا في نحو ثالث وعشرين سنة ليثبت به فؤاد رسوله
األمين وأفئدة الذين آمنوا ،وليكون هدى وبشرى للمسلمين ،والصالة والسالم على النبي األمي
محمد الذي قرأ القرآن على الناس على مكث كلما تنزل عليه القرآن تنزيًال ،وبعد:
فليس من السهل البحث في علم ينتمي إلى مجاٍل الظن فيه أنه اكتمل بأصوله وفروعه،
وهذا الكالم ينطبق على العلوم بصفة عامة وهو ظاهر بصفة خاصة في علوم اإلسالم
وبصفة أخص في مجال علوم القرآن الكريم ،وفي هذا البحث جمع بين واحد من علوم
القرآن وعلم التاريخ.
وإ ن علم التاريخ بصفة عامة ينطوي على جملة وافرة من الفوائد والمنافع للنوع
اإلنساني بالجملة ،ولألمم المتطلعة إلى النهوض والرقي بشكل محدد ،ثم لطائفة
المتخصصين من أصحاب الفكر وأرباب األقالم ذوي المواهب والمبادئ الطامحة إلى
التغيير واإلصالح والنهضة بشكل أكثر دقة وتحديدًا.
وعلم التاريخ يتسع ليشمل من المجاالت والميادين ما يصل بداية كل شيء بنهايته،
ويجمع األوائل إلى األواخر ،والمقدمات مع النتائج والخواتيم ،فكل علم من العلوم والمعارف
البشرية يمكن أن يحدد الباحثون له بداية تاريخية هي نقطة االنطالق وبداية البحث ،ثم يتم
التدرج في معرفة ما ُقّر ر وُأّص ل في المراحل الالحقة ،وذلك مفيد جدا لمعرفة التدرج في
تكامل مباحث العلوم ،وإلدراك أن المعارف اإلنسانية تراكمية ،يستفيد المتأخر من المتقدم
ويبني على ما وصل إليه ،ويتابع رفع البناء المعرفي لبنة لبنة وصوال إلى الكمال ،وسعيا إلى
توسيع دائرة المعرفة واإلفادة من الكشوف والزيادات الجديدة.
ولو نظرنا إلى العلوم اإلسالمية التي انبثقت من نقطة تنزل الوحي بكلمة (اقرْأ) لوجدنا
أن هذه البداية المدهشة وقعت في تاريخ معين ،ومكان جغرافي معين ،ثم بدأت تنداح
كالدوائر ،وتتوسع في جميع اآلفاق واالتجاهات ،دون أن تتالشى ،ألن المؤثر الدافع مستمر
في العطاء ،وألن مجال هذه الدوائر يمتد على صفحة محيط البشرية زمانًا ومكانًا ،تاريخا
وجغرافية.
ال عجب إذًا أن نرى هذا التنوع وتلك الكثرة في العلوم التي استمدت من القرآن
الكريم ،والتي قدم العلماء والباحثون فيها من الجهود ما يستعصي على الحصر ،ورغم
كثرة التدقيق ودقة التحقيق ،بقيت منها جوانب عديدة تحتاج إلى بحوث أعمق ونظرات
أدق ،ال سيما وأن مناهج البحث وآفاق المعرفة والعلوم تتطور بصورة مذهلة ،مما يتطلب
من الباحثين المعاصرين إعادة النظر فيما سبق ،واإلفادة من اإلمكانات والتقنيات المتاحة
لتطوير البحوث وإ غنائها واقتناص المزيد من الفوائد والمنافع التي يمكن أن ترفد البناء
المعرفي ،وتزيد فيه زيادات نوعية متميزة.
وفي علم نزول القرآن الكريم -على سبيل المثال – نجد عشرات من البحوث
والرسائل واألجزاء والمؤلفات ،التي بحثت مسائل هذا العلم وفصلت القول فيها ،حيث
بحثت في أول ما نزل وآخر ما نزل من القرآن الكريم ،وطريقة التنزل ومجيء الوحي،
وأسباب النزول ،وتنجيم نزول القرآن والحكمة من ذلك ،...إال أن جانبا مهما لم ينل من
البحث إال إشارات يسيرة ،ودراسات عارضة ،ربما طرقته من غير قصد إليه ،وتناولت
بعض مسائله في طريقها إلى مباحث ومسائل أخرى ،وهو( :العلم بتاريخ النزول) الذي
يهدف إلى تتبع ترتيب نزول اآليات القرآنية وتحديد تاريخ نزولها أخذا من تسلسل أحداث
السيرة النبوية ،واسترشادًا بما يعرف من حوادث محققة التاريخ معروفة الزمان ،بحيث
يكون ذلك معينا على ترتيب نجوم القرآن النازلة ،ليكون ذلك الترتيب سبيال إلى معرفة
الصلة بين ما نزل من القرآن وبين األحداث الواقعة آنذاك ،ووسيلة إلى تدبر القرآن
وفهمه وفق القالب التاريخي والجغرافي.
( )1
محاولة تسعى إلى معالجة آفاق هذا العلم ومباحثه من خالل تبيين وفي هذا البحث
معناه وأهميته وجهود العلماء فيه ومصادر معرفته ،وطرق التوصل إلى تحديد تاريخ
نزول اآلية ،والله الموفق لكل خير.
الفصل الأول
وأما كلمة التاريخ فمعناها :اإلعالم بالوقت ،وهو في االصطالح علم يدرس وقائع
علميا وماديًا ،وقيل :هو معرفة أحوال الطوائف
ً الزمان الماضية وأعمال البشر فيها
وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم(.)3
والمراد به في بحثنا العلم بالوقائع واألحداث التي تزامنت مع عهد النبوة ونزول القرآن
تحديدا ،أي المدة الزمنية
ً تقريبا( ،)4فالتاريخ يدرس هذه المرحلة
ً وهي في ثالث وعشرين سنة
التي عاشها النبي وهو نبي ينزل القرآن عليه من الله تعالى عن طريق الوحي.
ومعنى كلمة النزول :ما أنزله اهلل تبارك وتعالى في هذه المدة الزمنية من آيات وسور
قرآنية فليس موضوع البحث تاريخ القرآن وإ نما تاريخ نزوله( ،)5وهو متزامن مع حياة
ونبوة محمد .
وقد يكون تاريخ نزول آية في غير تاريخ نزول سورتها ،ولذلك نبحث عن تاريخ
إجماال ،ثم إذا وجد تاريخ خاص لنزول آية ما غير تاريخ نزول سورتها
ً نزول السورة
تبحث منفردة بأدلتها النقلية والعقلية.
وقد يبدو العلم بهذا األمر لبعض القارئين جديدا ،ولعل األمر الجديد فيه هو طريقة
عرضه ،ولفت النظر ألهميته وتبويب مسائله على نحو جديد ،أما حقيقة هذا العلم
ومضمونه فقديم ،وستأتي نصوص متعددة تدل على اهتمام العلماء به.
الفصل الثاني
أهمية العلم بتاريخ نزول القرآن الكريم
(?) أبو بكر الجزائري ،العلم والعلماء ،ط ،1دار الشروق ،جدة1403 ،ه1983 /م ،ص11 2
.
(?) السخاوي ،محمد بن عبد الرحمن (ت 902ه( ،اإلعالن بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ،دار 3
ورد في عدد من آيات القرآن الكريم ما يشير إلى أهمية العلم بالتاريخ ،ومن ذلك آيات
القصص القرآني ،ففيها درس تاريخي أراد القرآن أن يعلمه للمؤمنيـن لفهم دينهم وحياتهـم
وكذلك جاءت في اإلسالم عبادات وتكاليف شرعية مرتبطة بالزمان والمكان ،فالحج
مثًال له زمن في التوقيت ومكان في القصد ،وكذلك الصالة والصيام والزكاة ،بل ال تكاد
توجد عبادة غير مقرونة بتاريخ أو بوقت.
وفي القرآن الكريم إشارات عديدة إلى أهمية مراعاة التاريخ ومعرفة وقت نزول اآلية
أو ما نزل قبلها ،وأنه يعين على فهم اآلية ،وفي األمثلة التالية توضيح لهذا المعنى:
قال تعالىَ :يا َأُّيَه ا اَّلِذ يَن آَم ُنوْا ِإَذ ا َض َر ْب ُتْم ِفي َس ِب يِل الّلِه َفَتَبَّيُنوْا َو َال َتُقوُلوْا ِلَم ْن َأْلَقى
ِإَلْي ُك ُم الَّسَالَم َلْس َت ُم ْؤ ِم ًنا َتْب َتُغوَن َع َر َض اْلَح َياِة الُّد ْن َيا َفِع نَد الّلِه َم َغاِن ُم َك ِثيَر ٌة َك َذ ِلَك ُك نُتم ِّم ن
َقْب ُل َفَم َّن الّلُه َع َلْي ُك ْم َفَتَبَّيُنوْا ِإَّن الّلَه َك اَن ِب َم ا َتْع َم ُلوَن َخ ِب يًر ا.)6(
قال القرطبي محمد بن احمد (ت 671ه(َ" :ك َذ ِلَك ُك نُتم ِّم ن َقْب ُل أي كذلك كنتم تخفون
خوفا منكم على أنفسكم حتى مَنَّ اهلل عليكم بإعزاز الدين وغلبة ً إيمانكم عن قومكم
المشركين ،فهم اآلن كذلك كل واحد منهم في قومه متربص أن يصل إليكم ،فال يصلح إذ
وصل إليكم أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره"(.)7
فقولـه تعالىَ :ك َذ ِلَك ُك نُتم ِّم ن َقْب ُل ،أي كنتم تكتمون إسالمكم وإ يمانكم في مكة قبل
من اهلل عليكم في المدينة بالدولة والقوة والمنعة أظهرتم إيمانكم ،فالمعنى الهجرة ،وبعد أن َّ
التاريخي متضمن في اآلية ويصف كيف كان حال المسلمين في مكة أيضًا.
وقال تعالىَ :و َيْس َتْفُتوَنَك ِفي الِّنَس اء ُقِل الّلُه ُيْفِت يُك ْم ِفيِه َّن َو ا ُيْتَلى َع َلْي ُك ْم ِفي اْلِك َتاِب
َم
ِفي َيَتاَم ى الِّنَس اء اَّلالِت ي َال ُتْؤ ُتوَنُهَّن َم ا ُك ِتَب َلُهَّن َو َتْر َغ ُبوَن َأن َتن ُح وُهَّن َو اْلُم ْس َتْض َع يَن
ِف ِك
ِم َن اْلِو ْلَد اِن َو َأن َتُقوُم وْا ِلْلَيَتاَم ى ِب اْلِق ْس ِط َو َم ا َتْفَع ُلوْا ِم ْن َخ ْي ٍر َفِإ َّن الّلَه َك اَن ِب ِه َع ِليًم ا،)8(
عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي اهلل عنها عن قول اهلل تعالىِ :إْن ِخ ْفُت َأَّال
ْم َو
ُتْقِس ُطوْا ِفي اْلَيَتاَم ى َفانِك ُح وْا َم ا َطاَب َلُك م ِّم َن الِّنَس اء َم ْثَنى َو ُثَالَث َو ُر َباَع )9(قالت" :يا ابن
أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها تشاركه في ماله ،فيعجبه مالها وجمالها فيريد وليها
أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ،فنهوا أن ينكحوهن إال
أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ،وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من
النساء سواهن ،قال عروة :قالت عائشة :ثم إن الناس استفتوا رسول اهلل بعد هذه اآلية
فيهن فأنـزل اهلل َو َيْس َتْفُتوَنَك ِفي الِّنَس اء ُقِل الّلُه ُيْفِت يُك ْم ِفيِه َّن َو َم ا ُيْتَلى َع َلْي ُك ْم ِفي اْلِك َتاِب
ِخ
اآلية ،قالت :والذي ذكر اهلل أنه يتلى عليهم في الكتاب .اآلية األولى التي قال اهلل َو ِإْن ْفُتْم
َأَّال ُتْقِس ُطوْا ِفي اْلَيَتاَم ى َفانِك ُح وْا َم ا َطاَب َلُك م ِّم َن الِّنَس اء .)10(...
فهذا تذكير من القرآن بضرورة معرفة السابق والالحق من آيات القرآن الكريم ،وهذا
ال يتم من غير معرفة بتاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره ،ال بمعنى معرفة التاريخ
اليومي لنزول اآلية فقط ،بل من أجل معرفة نمو وتوسع التشريع في المسألة المعينة ،فقد
نزلت أحكام النساء في أول السورة ثم تعاقبت األسئلة فنزلت األجوبة في آيات متأخرة في
تاريخ النزول عن اآليات السابقة ،فيها أحكام جديدة قد تكون مبينة أو ناسخة أو مقيدة لما
نزل قبلها.
وفي تتبع كلمات األمكنة وكلمات األزمنة في القرآن الكريم فوائد كثيرة كفيلة أن تفرد
في بحث مستقل ألهميتها ،من مثل كلمة اليوم في قوله تعالى :اْلَيْو َم َيِئَس اَّلِذ يَن َك َفُر وْا ِم ن
ِد يِنُكْم َفَال َتْخ َش ْو ُهْم َو اْخ َش ْو ِن اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُك ْم ِد يَنُكْم ،)11(فهذه األمثلة تدل داللة واضحة
على أهمية الفهم التاريخي ومدى الحاجة إليه لتفسير اآلية ومعرفة معاني ألفاظها.
وفي السنة النبوية وما روي عن الصحابة الكرام ما يبين أهمية معرفة تواريخ النزول
لآليات القرآنية ويؤكد اهتمام الصحابة به ،ومن ذلك بكاء عمر بن الخطاب عند نزول
اآلية اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُك ْم ِد يَنُك ْم من سورة المائدة ،وعندما سئل عن سبب بكائه قال" :أبكاني
أنا كنا في زيادة فأما إذ كمل الدين فإنه لم يكمل شيء إال نقص"( ،)12وكان هو وعدد من
الصحابة الكرام ومن التابعين يعلمون زمان ومكان نزول هذه اآلية ،فقد روى الطبري،
محمد بن جرير (ت 310ه( عن السدي في قوله تعالى :اْلَيْو َم َأْك َم ْلُت َلُك ْم ِد يَنُك ْم قال :هذا
نزل يوم عرفة ,فلم ينزل بعدها حالل وال حرام ,ورجع رسول اهلل فمات ,فقالت أسماء
بنت عميس :حججت مع رسول اهلل تلك الحجة ،فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل
على الراحلة ،فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ،فبركت ،فأتيته فسجيت عليه
برداء كان علي ،وعن ابن جريج قال" :مكث النبي بعد ما نزلت هذه اآلية إحدى وثمانين
ليلة"(.)13
واحتج ابن مسعود على المختلفين في عدة المرأة الحامل المتوفى عنها زوجها هل
تنقضي عدتها بأول األجلين أو بآخرهما بأن سورة الطالق التي بينت أن عدة المرأة الحامل أن
تضع حملها نزلت بعد سورة البقرة ،فقطع بهذا البيان الخالف وحسم األمر بقوله" :أتجعلون
عليها التغليظ وال تجعلون عليها الرخصة؟ لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى"(.)14
وكذلك أخرج البخاري قول ابن مسعود" :واهلل الذي ال إله غيره ما أنزلت سورة من
كتاب اهلل إال وأنا أعلم أين نزلت ،وال أنزلت آية من كتاب اهلل إال أنا أعلم فيما نزلت ،ولو
أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب اهلل تبلغه اإلبل لركبت إليه"(.)15
وأخرج عبد الرزاق بن همام الصنهاني (ت 211ه( في تفسيره قول علي بن أبي
طالب" :سلوني عن كتاب اهلل ،فواهلل ما من آية إال وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار ،أم في سهل
أم في جبل"( ،)16وهذا القول يتحدث عن زمن ومكان وتوقيت النزول ،وكلها روافد تاريخية
هامة في هذا العلم.
وقد رويت أقوال مشابهة عن غير واحد من الصحابة ،فقد روي عن أبي بن كعب،
وجابر بن عبدالله ،وزيد بن ثابت ،وعبدالله بن عباس ،وعبدالله بن الزبير روايات عديدة
في تحديد السور واآليات المكية والمدنية ،أخرجها جمع من أهل العلم في مؤلفاتهم( ،)17وكلها
المعني باآليات الكريمة،
ُّ تنبه على أهمية معرفة الزمان والمكان وفيمن وفيم نزلت اآليات ومَن
وقد بدأت بعد عصر الصحابة مرحلة تأليف الكتب المختصة في علم ترتيب التنزيل والمكي
والمدني والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وعلم المناسبة وغيرها.
إن علم تاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره ،ال يقصد حصر فهم آيات القرآن
بالتاريخ الزماني والمكاني الذي نزل به القرآن ،بل يسعى إلى اعتماد هذا العلم قاعدة ينطلق
منها إلى فهم أدق وأوسع وأشمل ،وذلك بتحقيق معرفة حكمة نزول هذه اآليات بسبب حدث
معين أو شخص أو أشخاص معينين ،حيث إن العلم بمن نزل فيهم القرآن أو بسببهم أو
بسبب عالقة اإلسالم بهم يعين قارئ القرآن على تدبره وفهمه وتفسيره.
ونستطيع القول إن هذا المنهج هو المنهج الذي سار عليه المسلمون األوائل في تعلم
القرآن الكريم وتعليمه ،كما قال أبو عبد الرحمن السلمي" :حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن
أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم
والعمل ،قالوا فعلمنا العلم والعمل"( ،)18بل إن تعليم القرآن في العهد النبوي لم يتم إال بهذه
الطريقة ألن التعليم كان لما ينزل من القرآن ،فكلما نزلت آية أو خمس آيات أو عشر آيات
علم الرسول أصحابه هذه اآليات بما فيها من علم وما تطلبه من عمل فردي وجماعي.
أي أن النهج النبوي في تعليم القرآن كان أيضا يساير تاريخ نزول آيات وسور القرآن
الكريم في مكة والمدينة وهذا ما يوضح التالزم بين تاريخ نزول القرآن وبين السيرة النبوية
العطرة وسيرة الذين آمنوا من الصحابة وغيرهم .
ومما يبين أهمية العلم بتاريخ نزول آيات القرآن الكريم أنه يمثل منهجا في تدبر القرآن،
وفي آيات الكتاب الكريم ما يدل على وجود هذا العلم ومقاصده ،قال تعالىَ :و ُقْر آنًا َفَر ْقَناُه
ِلَتْقَر َأُه َع َلى الَّناِس َع َلى ُم ْك ٍث َو َنَّز ْلَناُه َتنِز يًال ،)19(فوجود هذا المنهج التاريخي ثابت بهذا
التوجيه من الله تعالى ،وهو أن القرآن نزل مفرقا على تواريخ مختلفة في مكة والمدينة حتى
يقرأه الرسول على الناس على مكث ،وأما المقصود من ذلك فقد بينته اآلية الكريمةَ :و َقاَل
اَّلِذ يَن َك َفُر وا َلْو الَ ُنِّز َل َع َلْيِه اْلُقْر آُن ُج ْم َلًة َو اِح َد ًة َك َذ ِلَك ِلُنَثِّبَت ِبِه ُفَؤ اَد َك َو َر َّتْلَناُه َتْر ِتيالً * َو الَ
َيْأُتوَنَك ِبَم َثٍل ِإالَّ ِج ْئَناَك ِباْلَح ِّق َو َأْح َس َن َتْفِس يًر ا ،)20(وفي معنى قولهَ :و َر َّتْلَناُه َتْر ِتيالً قال
القرطبي" :ورسلناه ترسيال ،أي شيئا بعد شيء"( ،)21وأصل الترتيل في اللغة :حسن تناسق
الشيء( ،)22والغاية منه تثبيت فؤاد الرسول .
الفصل الثالث
جهود العلماء في علم تاريخ نزول الآيات
كان اهتمام المسلمين بالقرآن الكريم كثيرًا ،كيف ال وهو كالم اهلل تبارك وتعالى المنزل
على رسول اهلل وخاتم النبيين محمد ،بلسان عربي مبين ،رحمة للعالمين ،وقد كان هذا
االهتمام كبيرا لدرجة أننا ونحن اليوم في القرن الخامس عشر الهجري ال نستطيع حصر
عدد أو أسماء الكتب التي صنفت حول القرآن في القرون السابقة.
ولم يكن اهتمام المسلمين محصورًا في مجال واحد من مجاالت البحث في القرآن
الكريم ،بل تنوع وتعدد بقدر تعدد جهود العلماء ،وتنوع أفهامهم واجتهاداتهم واختصاصاتهم،
كتبا كثيرة ،كما
فقد صنف المتقدمون في تفسير القرآن وإ عرابه وأساليبه وإ عجازه وأحكامه ً
صنفوا معاجم لغوية في مفرداته وألفاظه ،وكتبًا في معانيه وبالغته وبيانه ،وكان فيما صنفوا
كتبًا في علومه وتاريخه ،إال أن المصنفات التي جمعت علوم القرآن تحت عنوان واحد لم
تكن كثيرة ،وما صنف في تاريخه كان أقل منها.
وقد لمس قلة ما كتب في علوم القرآن الزركشي ،بدر الدين محمد بـن عبد اهلل (ت
794ه( ،وأشار إلى ذلك في مقدمة كتابه البرهان بقوله" :ومما فات المتقدمين وضع كتاب
()23
وتبعه يشتمل على أنواع علومه ،كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث"
ً
اطالعا السيوطي ،جالل الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911ه( وهو من أكثر العلماء
وكتابة وتصنيفا في شتى أنواع العلوم وخاصة علوم القرآن فقال" :ولقد كنت في زمن
الطلب أتعجب من المتقدمين ،إذ لم يدونوا كتاباً في أنواع علوم القرآن ،كما وضعوا ذلك
بالنسبة إلى علم الحديث"(.)24
وإن علم تاريخ نزول القرآن من العلوم التي لم تأخذ من المتقدمين حظها الذي تستحقه،
فتناثرت بعض أبحاثه بين العلوم الكثيرة ،وتداخلت بعض مباحثه بين كتب علوم القرآن
ً
صعبا والتفسير ،والحديث النبوي والسيرة النبوية والتاريخ وغيرها ،مما جعل التصنيف فيه
وشاقا أكثر من غيره من العلوم.
ً
وسيتم التعرض في هذا الفصل لجهود العلماء في علم تاريخ نزول اآليات من خالل
مبحثين ،تم تخصيص األول منهما لجهود العلماء المسلمين ،في حين اقتصر الحديث في
المبحث الثاني على جهود المستشرقين وأتباعهم ،وال يعني إيراد جهود المستشرقين ضمن
هذا البحث الموافقة لها وتأييدها إنما قد يعني التنبيه إليها والدعوة إلى نقدها وتمحيصها،
خاصة أن عددًا من المؤلفات في تاريخ القرآن كان حافز تأليفها الدفاع عن القرآن والرد
على المستشرقين وأقوالهم الباطلة عن القرآن في هذا الجانب الذي قل اهتمام المسلمين
المتقدمين بالكتابة عنه ،وهو الجانب الذي وجد المستشرقون فيه بحسب ظنهم ميدان تشكيك
وتخريب ،ومن هنا كانت الحاجة إلى الربط بين ما كتب حول تاريخ القرآن عند المحدثين
من المسلمين وما كتبه المستشرقون ،مع االنتباه إلى أن ما كتب من قبل المسلمين حول
تاريخ القرآن لم يكن كله ردا على المستشرقين ،بل كان للدرس الديني أيضا ،وخاصة
الدرس الديني الجامعي الذي أوجد الحوافز والدوافع للتأليف والتصنيف في هذا العلم ،وربما
وجدت حوافز ودوافع أخرى لسنا في مهمة إحصائها.
نظمت على وفق النزول لمن تـال مكيها سـت ثمانـون اعتلـت
()25
والحمد تبت كورت االعلى عال اق ـرأ ونـون مزمـل مدثـر
كما ظهر في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ،العشرين الميالدي ،عدة
دراسات عن تاريخ القرآن وتاريخ المصحف ،ويالحظ من عناوين هذه الكتب أنها تبحث في
أمر عام هو تاريخ المصحف ،وفي بعضها فصول أو دراسات حول ترتيب نزول اآليـات،
ومن هذه الكتب:
-تاريخ القرآن ،ألبي عبداهلل الزنجاني( ،)26نشر دار الحكمة بدمشق.
-تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه ،تأليف محمد طاهر بن عبد القادر الكردي المكي
(ت 1980م) ،طبع سنة 1365ه في جدة.
-تاريخ المصحف الشريف :تأليف عبد الفتاح القاضي (ت 1982م) ،نشر مكتبة
ومطبعة المشهد الحسيني.
-تاريخ القرآن :تأليف إبراهيم اإلبياري (ت 1994م) ،نشر دار القلم1965 ،م.
-تاريخ القرآن الكريم للدكتور محمد سالم محيسن (ت 2001م) ،نشر مؤسسة شباب
الجامعة في اإلسكندرية ،ونشرته رابطة العالم اإلسالمي ضمن سلسلة دعوة الحق
1414ه.
-تاريخ القرآن للدكتور عبد الصبور شاهين ،طبع عدة مرات منها سنة 1966م ،و
1994م.
-القرآن الكريم الوثيقة األولى في اإلسالم مراحل التدوين ،للدكتور محمد قبيسي ،دار
اآلفاق الجديدة ،بيروت1988 ،م.
-تاريخ المصحف في ضبطه ورسمه ،لزيدان محمود سالمه العقرباوي ،نشر سنة 1998م.
كما ظهرت بحوث ومقاالت تتعلق بالموضوع ،منها مقال للدكتور محمد عبد اهلل دراز
(ت 1958م) نشره في مجلة األزهر(.)27
وبحث للدكتور محمد علي الحسن ذكر فيه الروايات المتعلقة بترتيب النزول ونقدها ،وبين
فيه أهمية هذا الموضوع وصعوبته ،حيث قال" :إن ترتيب نجوم القرآن حسب النزول أمر
صعب المنال ولكنه في حيز اإلمكان ،وهو على غاية من الأهمية في التفسير الموضوعي الذي
بدأ االهتمام به في الدراسات اإلسالمية ،والمزلة فيه خطيرة لها آثارها السيئة ونتائجها الوخيمة
في استنباط األحكام ،كما أنه على جانب عظيم من األهمية لبيان حكمة الله التشريعية في البعد
عن الطفرة والمفاجأة ،وأخذ الناس بالسهولة واليسر والرفق .)28("...
وبحث للدكتور إبراهيم خليفة نقد فيه بعمق وتمحيص روايات ترتيب نزول السور
في كتب التفسير على عّالتها ،وبين في بحثه أن على سرد السور مرتبة حسب النزول مآخذ
عديدة ،حيث لم تنزل جميع السور دفعة واحدة ،كما بين إمكان ترتيب نجوم القرآن حسب
النزول إذا توافر لهذا الترتيب أدلته من الرواية الصحيحة(.)29
ومقال لألستاذ حسين أحمد أمين بعنوان :قواعد يستضاء بها في محاولة ترتيب السور
واآليات القرآنية وفق تاريخ النزول( ،)30وفيه بعض األفكار الجيدة ،إال أنه احتوى على
مجموعة من المغالطات غير المقبولة ،وعدد من اآلراء المردودة.
ومجموعة مقاالت للدكتور محمد هالل ،بعنوان :محاولة في ترتيب نزول السور
المدنية ،نشرت في حلقات على صفحات جريدة اللواء األردنية ،ويرى الكاتب أن السور
القرآنية كانت تنزل منجمة متتابعة بتتابع كامل ،وأن كل سورة أثناء فترة نزولها لم تكن
تتقاطع مع سور أخرى إال نادرًا جدًا ،فإذا بدأ نزول سورة لم ينزل شيء من سورة غيرها
حتى يكتمل نزول السورة األولى وهكذا ،وهو بهذا يخالف المشهور من تفرق نجوم السور
وحصول التداخل بينها في النزول ،بنزول آيات من سور أخرى ،خاصة في السور الطويلة
كسورة البقرة وآل عمران والمائدة.
كما ظهرت مجموعة من التفاسير الحديثة مرتبة حسب النزول ،وإ ن كنا نخالف هؤالء
في هذا المنحى ،ونرى أن االلتزام بترتيب المصحف في تفسيره هو األصل ،وأن العلم
بتاريخ نزول اآليات ال يستدعي تغيير ترتيب المصحف ولكنه يعين على الفهم التام لآلية،
ومن هذه التفاسير:
)1بيان المعاني للسيد عبد القادر مال حويش العاني ،في ستة مجلدات ،نشر مطبعة الترقي،
1382ه 1962م ،وفي ظنه أن تفسيره أول تفسير على تاريخ النزول( ،)31وقد اعتمد في
ترتيب السور ما ورد في مصحف فؤاد ،الذي طبع في مصر في عهد الملك فؤاد ،بإشراف
لجنة من علماء األزهر.
)2التفسير الحديث .لمحمد عزة دروزة (ت 1984م) ،في تسع مجلدات ،نشر دار
إحياءالكتب العربية ،القاهرة1381 ،ه 1962م(.)32
(ت )3معارج التفكر ودقائق التدبـر ،تأليف عبد الرحمـن حسن حبنكـة الميداني
1425ه2004 /م) ،نشر منه خمسة عشر مجلدا تحتوي على السور المكية ،وتوفي
المؤلف قبل إتمام العمل(.)33
وقد سبق لمؤلف هذا التفسير وضع كتاب بعنوان :قواعد التدبر األمثل لكتاب اهلل ،
خصص القاعدة التاسعة منه للحديث عن تتبع مراحل التنزيل ،ووسائل التعرف إلى ترتيب
نزول القرآن ،ثم ذكر عدة أمثلة تؤكد أن معرفة ترتيب نزول اآليات يعين المفسر على تبين
معناها ،ويفتح له آفاقا جديدة من التأمل والتدبر فيها(.)34
إال أنه حين وصل إلى ذكر ترتيب النزول اكتفى باعتماد الترتيب المنسوب إلى شيخ
المقارىء المصرية :محمد بن علي الحسيني ،دون أن ينعم النظر فيه ،أو يعمل بالطرق
التي ذكرها في كتابه لمعرفة ترتيب نزول اآليات والسور(.)35
)4تفسير القرآن المرتب منهج لليسر التربوي ،تأليف الدكتور أسعد علي ،نشر دار السؤال
للطباعة والنشر بدمشق ،الطبعة األولى 1399ه1979 /م.
كما اعتنى بعض المفسرين المتأخرين بالبحث في ترتيب النزول ،وممن يشار إليه
بالبنان في هذا المجال سيد قطب (ت 1966م) ،حيث كان أحيانًا يناقش ما قيل في ترتيب
نزول بعض السور لعدم مناسبته ما تناولته السورة من أحكام وموضوعات( ،)36وكان يرى
أن الترتيب الزمني للنزول ال يمكن القطع فيه بشيء وال يكاد اإلنسان يجد فيه شيئًا مستيقنًا
إال في آيات معدودات تتوافر بشأنها الروايات( ،)37وله نظرات سديدة وآراء قيمة في ترتيب
النزول مبثوثة في تفسيره(.)38
وكذلك اعتنى بعض من كتب في السيرة النبوية بذكر تاريخ نزول اآليات ،وما جاء فيه
من الحديث عن أحداث بارزة ،غالبا ما كانت كتب السيرة السابقة قد تناولتها بالرواية
الحديثية أو الرواية التاريخية ومن هذه المؤلفات:
-سيرة الرسول صورة مقتبسة من القرآن الكريـم ،تأليف محمد عـزة دروزة (ت
1984م)(.)39
-السيرة النبوية في القرآن الكريم ،دراسة وتصنيف الدكتور عبد الصبور مرزوق ،نشر
رابطة العالم اإلسالمي1401 ،ه.
-العرض القرآني لسيرة الرسول ،إعداد الدكتور عمر يوسف حمزة ،نشر دار أسامة،
األردن 1996م.
لقد شملت الظاهرة االستشراقية الدراسات اإلسالمية في جوانب عديدة منها في علوم
القرآن وعلوم الحديث والفقه والسيرة النبوية والجهاد ،واألدب العربي وغيرها( ،)41وقد
درس المسلمون مناهج المستشرقين ومؤلفاتهم وحذروا من أوهامهم وردوا عليها(.)42
وفيما يخص تاريخ نزول القرآن فقد كان اهتمام المستشرقين كبيرا حتى ظن بعض الناس
أن البحث في تاريخ القرآن من بدع المستشرقين في علوم القرآن ،وقد أثبتنا في هذا البحث
خطأ ذلك الوهم وبينا أصالة هذا العلم في تاريخ العلوم القرآنية وكتب علماء المسلمين مما ال
يترك للشبهة أثرا إن شاء اهلل.
ولم تخل دراسات المستشرقين في علوم القرآن من اإلخفاقات الكثيرة التي ليس هنا
مجال التوسع فيها ويحتاج بيانها إلى كتب مستقلة(.)43
وكان لعدد منهم محاوالت ومساع عديدة في ترتيب النزول على أسس ومناهج بحـث
قابلة لألخذ والرد وال تسلم من النقد والنقض ،وقد اعتمد المستشرقون في كتابتهم عن تاريخ
()44
واآلراء التحكمية ،وممن اشتهر القرآن ومحاوالتهم ترتيب نزوله على التحليل العقلي
بدراسة القرآن وعلومه :نولدكه ( )Theodore Noldekeوبالشير ( )Blachere. Rوأرثر
جفري ( )Arthur Jefferyوجولد زيهر ( )Ignas Goldziherولهم في ذلك مؤلفات
()45
،وغيرهم مثل رودويل ( )Rodwellوموير ( )William Muirوريتشارد بيـل (R. عديدة
)Bellومونتجومري وات ( ،)Montgomery Wattولعل من أشهر هذه الجهود ترتيب
السور حسب النزول الذي بدأه فيل ( )Gotthold Wailسنة 1844م ،وأكمله نولدكه سنة
1860م ،وصححه صاحبه شفاّلي ( ،1872 )Schwallyوهو المعروف "بترتيب نولدكه"
وقد اعتمده المستشرقون من كل الجنسيات مثل بالشير في ترجمته للقرآن(.)46
وكثيرًا ما يمتدح المستشرقون بحوثهم ويصفونها بالعقالنية والتنويرية ،ونحن نتحفظ من
وصف دراسات المستشرقين بالعقالنية فقط( ،)50إذ ال بد من تقييدها بالغربية ،ألن األصل في
إطالق صفة العقل أنها صحيحة ،وهذا ما لم يثبت في دراسات المستشرقين التي تمثلت
بدراسات وقراءات ناقصة لتاريخ نزول القرآن والسنة والسيرة النبوية( ،)51وهذا ما أدى إلى
انكسار االستشراق في نظر علماء المسلمين وبعض المستشرقين المنصفين.
وقد تابع المستشرقين في الكتابة التاريخية لنزول القرآن عدد من الكتاب من نصارى
العرب منهم:
-1يوسف درة الحداد( ،)52له سلسلة من الكتب بعنوان :دروس قرآنية ،القسم األول منها
في بيئة القرآن الكتابية ،والثاني :القرآن والكتاب :أطوار الدعوة القرآنية ،بحث فيه
ترتيب النزول وقسمه إلى أطوار ،ولم يأت فيه بجديد يستحق الذكر ،وربما قصد من
عمله التأكيد على متابعة قساوسة الشرق لقساوسة الغرب في التهكم والسباب والكذب
واالفتراء ضد القرآن واإلسالم والمسلمين ومقدساتهم.
-2أبو موسى الحريري ،تلميذ الحداد في كتبه ،له كتاب اسمه عالم المعجزات (بحث في
تاريخ القرآن)( ،)53فاق فيه أساتذته الحداد والمستشرقين في كرهه الفاضح للقرآن ،بل
والكذب واالفتراء على القرآن الكريم وعلى الرسول محمد عليه الصالة والسالم(.)54
وما قلناه عن انتهاك يوسف درة الحداد لمصداقيته الشخصية والطائفية والدينية يصدق
أيضا على أبي موسى الحريري ،ونتمنى أن ال يصدق على غيرهما من كتبة أهل الكتاب،
فحبذا لو أيقن أهل الكتاب أن القرآن ناداهم حتى يكونوا من أهل الكتاب األخير من اهلل
تعالى وهو القرآن الكريم ،وأن ما كتبه الغربيون المستشرقون عن القرآن وتاريخه ليس
جديرا بالتقليد ،وأنهم إن قلدوهم فلن ينظروا إليهم إال على أنهم شرقيون سواء أكانوا يهودا
أو نصارى أو مسلمين ،ألن نظرة الغربي العلمية رهينة للمشروع السياسي وليس العكس
كما بين ذلك عدد من الباحثين(.)55
وبعد هذه اإلشارة إلى جهود المستشرقين وأتباعهم نود التنبيه إلى أن وجود دراسات
اهتمت بهذا العلم ألغراض غير علمية وال منصفة – كما رأينا في جهود المستشرقين ومن
تبعهم( –)56يدعونا إلى أن نبحث في هذا العلم بمنهج علمي متجرد من التعصب والهوى
وبدراسة علمية ترد على المغرضين وتزيل اللبس واإلشكال عن طلبة العلم ،فهذا العلم واحد
من علوم القرآن التي تعين على فهمه وتدبره ،وال ينبغي إخالء ساحته لهم وال لغيرهم ،بل
يجب الرد عليهم وتبيين موضع خطئهم وسلوك المنهج األمثل في البحث العلمي.
الفصل الرابع
224 المنارة ،المجلد ،12العدد .2006 ،3
أهمية العلم بتاريخ نزول آيات القرآن ..........................................................أحمد شكري وعمران نزال
وقد بذل العلماء جهودا عديدة في تحديد اآليات والسور المكية والمدنية ،وفي الترجيح
بين السور المختلف فيها هل هي مكية أو مدنية بمرجحات عدة ،عن طريق الرواية أو عن
طريق االجتهاد من خالل النظر في مدى انطباق ضوابط ومميزات كل من اآليات المكية
والمدنية عليها(.)58
كما وردت روايات عديدة تحدد ترتيب نزول السور ،وهي مروية عن عدد من الصحابة
والتابعين( ،)59وبين هذه الروايات اختالفات في عدد من السور ،ومنها ما روي بأسانيد غير
صحيحة ،ولذا فإن هذه الروايات ال تعد يقينية وال يجزم بما فيها دون عرضه على مرجحات
أخرى تؤكد ما في هذه الروايات أو تنفيه ،ومن األمثلة على رد ما في هذه الروايات أن
معظمها يذكر أن ثاني ما نزل بعد صدر سورة العلق :صدر سورة القلم ،وهو مردود لمخالفته
الحديث الصحيح المصرح بأن ثاني ما نزل هو صدر سورة المدثر(.)60
كما بحث العلماء في تحديد أول ما نزل وآخر ما نزل من اآليات ،وذكروا في ذلك
روايات عديدة ،وبالنسبة ألول ما نزل فإن األمر يكاد يكون متفقا عليه لصحة الرواية
وصراحتها في تحديد أول ما نزل مطلقا وأنه صدر سورة العلق ،وأن ما تبعه بالنزول كان
صدر سورة المدثر ،أما تحديد آخر ما نزل فقد اختلف فيه على أقوال عديدة وأرجحها أن
آخر ما نزل قوله تعالىَ :و اَّتُقوْا َيْو ًم ا ُتْر َج ُعوَن ِفيِه ِإَلى الّلِه ُثَّم ُتَو َّفى ُك ُّل َنْفٍس َّم ا َك َس َبْت
َو ُهْم َال ُيْظَلُم وَن .)62()61(
)2علم أسباب النزول :معرفة أسباب النـزول من أنواع علوم القرآن المهمة للمفسر والمتدبر
والباحث في علم تاريخ نزول القرآن الكريم ،لما ورد فيها من أخبار كثيرة عن الصحابة الذين
عايشوا النزول والتابعين الذين سمعوا من الصحابة مباشرة عن قصة اإلسالم في أيامـه األولى
وما فتح الله تعالى على المؤمنيـن من نصر مبين ،ومن أوائل ما صنف في هذا الموضوع
كتاب أسباب النزول ألبي الحسـن علي بن أحمد الواحدي النيسابـوري (ت 468ه( ،الذي قال:
"فآل األمر بنا إلى إفادة المبتدئين المتسترين بعلوم الكتاب ،إبانة ما نزل فيه من األسباب ،إذ
هي أوفى ما يجب الوقوف عليها ،وأولى ما تصرف العناية إليها ،المتناع معرفة تفسير اآلية
وقصد سبيلها ،دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها ،وال يحل القول في أسباب نزول
الكتاب إال بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل ووقفوا على األسباب ،وبحثوا عن علمها
وجُّد وا في الطالب ...وذلك الذي حدا بي إلى إمالء هذا الكتاب الجامع لألسباب لينتهي إليه
طالبو هذا الشأن ،والمتكلمون في نزول القرآن ،فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه
ويجدوا في تحفظه بعد السماع والطلب"(.)63
ُّ والكذب،
وقال ابن تيمية ،تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت 728ه(" :ومعرفة سبب النزول
تعين على فهم اآلية ،فان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ،ولهذا كان أصح قولي الفقهاء
أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها"(.)64
وفي عدد من المؤلفات في أسباب النزول محاولة االقتصار على ما صح منها فقط
وهو توجه جيد ،كما وجدت دراسات وبحوث تؤصل لهذا العلم وتبين موقف الباحث من
تعدد روايات أسباب النزول وتعارضها وتباعدها زمنيا ونحو ذلك من إشكاالت هذا
العلم( ،)65وفي كثير من روايات أسباب النزول النص على وقت نزول اآلية أو التلميح إليه،
مما يعين الباحث في ترتيب النزول على تلمس طريقه ومحاولة تحديد وقت نزول اآلية،
وقد يتطلب األمر من الباحث التدقيق في الرواية الستخراج قرائن تعينه على تحديد وقت
نزول اآلية كذكر مكان ما فيها ،أو من خالل اسم الصحابي راوي سبب النزول وما أشبه
ذلك.
)3علم المناسبات بين اآليات :هو "علم شريف ،تحزر به العقول ،ويعرف به قدر القائل فيما
يقول ،والمناسبة في اللغة :المقاربة ...وكذلك المناسبة في فواتح اآلي وخواتمها ،ومرجعها
والله اعلم إلى معنى رابط بينهما :عام وخاص ،عقلي أو حسي أو خيالي ،وغير ذلك من أنواع
العالقات ،أو التالزم الذهني ،كالسبب والمسبب ،والعلة والمعلول ،والنظيرين ،والضدين،
ونحوه .أو التالزم الخارجي ،كالمرتب على ترتيب الوجود الواقع في باب الخبر ،وفائدته جعل
أجزاء الكالم بعضها آخذ بأعناق بعض ،فيقوى بذلك االرتباط ،ويصير التأليف حاله حال البناء
قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته ،وممن أكثر منه اإلمام فخر
المحكم ،المتالئم األجزاء ،وقد َّ
الدين الرازي وقال في تفسيره :أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"(.)66
فعلم المناسبة هو علم ترابط القرآن بعضه ببعض ،وله جوانب عديدة ،منها ترابط
اآليات في السورة الواحدة ،وترابط السور كلها من حيث توافق خاتمة السورة مع فاتحة
التي تليها ،ومن حيث توافق موضوعات كل سورة وتناسبها ،وإ ذا كانت اآلية مرتبطة
ارتباطا وثيقا مع ما حولها فإنه يترجح نزولها معا في نجم واحد وهو ما يعبر عنه:
بالمناسبة التنزيلية ،إال إذا دلت رواية أو ترجيح آخر على غير هذا الترجيح.
كما أن الروايات المتعلقة بوقت نزول اآلية قد تحدد وقت نزولها ،وهو ما يسمى:
المناسبة التاريخية لها ،ومن األمثلة على ذكر المناسبة التاريخية ما رواه ابن إسحـاق (ت
151ه(" :وكان مما أنـزل اهلل من القـرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا لهَ :و ِإْذ َيْم ُك ُر
ِب َك اَّلِذ يَن َك َفُر وْا ِلُيْثِب ُتوَك َأْو َيْقُتُلوَك َأْو ُيْخ ِر ُج وَك َو َيْم ُك ُر وَن َو َيْم ُك ُر الّلُه َو الّلُه َخ ْي ُر اْلَم اِك ِر يَن
.)68()67(
وكان قصد ابن إسحاق بذلك اليوم يوم الهجرة من مكة إلى المدينة ،فالمناسبة التاريخية
لهذه اآلية مكر قريش في دار الندوة بالنبي بهدف قتله حتى ال يهاجر وتقوى دعوته ،وتاريخ
نزول سورة األنفال بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد أي بعد السابع عشر من رمضان للسنة
الثانية من الهجرة ،أي أن هذه اآلية تتحدث عن حادث وقع يوم الهجرة ،فالمناسبة التنزيلية هنا
متأخرة عن المناسبة التاريخية ألن تاريخ نزول سورة األنفال بعد معركة بدر بحكم المناسبة
التنزيلية لسورة األنفال ،إن كانت هذه اآلية نزلت في ذلك الوقت.
ويقصد بالمناسبة التاريخية أيضًا نزول اآليات في أحداث وقصص تاريخية مثل ما
نزل من القرآن في الغزوات والفتوحات في العهد النبوي كما في صلح الحديبية ثم فتح
مكة ،فالمناسبة التاريخية لنزول اآلية تتزامن مع الحدث التاريخي الذي تتحدث عنه أو مع
تاريخ الغزوة إال إذا وجد دليل قوي ومرجح يحول دون ذلك.
ويقصد بالمناسبة التاريخية أيضًا معرفة تاريخ نزول اآلية أو السورة من خالل معرفة
وقت نزول آية أخرى قبلها أو بعدها أو من تاريخ قصة اآلية التي قبلها أو بعدها ،فإذا عرفنا
أو رجحنا تاريخ نزول آية ما فإن تاريخ نزول اآلية التي تليها في نفس السورة لها نفس
التاريخ إال إذا وجد لآلية تاريخ آخر ثبت بالنقل أو بالعقل.
فالمناسبة التاريخية بهذا المعنى تلتقي مع المناسبة التنزيلية في سياق النزول في السورة
الواحدة وفي سياق الحدث التاريخي للقصة الواحدة ،إال إذا وجد مانع من ذلك ،من
حديث صحيح أو تعليل عقلي قاطع.
ومما يجدر التنبيه له أن علم المناسبة بين اآليات بجميع فروعه قائم على االجتهاد ،ولذا
فيمكن أن تختلف المناسبة التاريخية بين باحث وآخر ،وإ ن كانت في الغالب مشتركة ،في
كتب التفسير والسيرة والتاريخ ،وبما أن تحديد تاريخ النزول من مسائل االجتهاد فإنها
تنسب لقائلها وتعزى لمصدرها.
أما محاولة تحديد وقت نزول اآلية من خالل البحث في ما نزل في موضوعها فهو:
المناسبة الموضوعية وهي معرفة موضع اآلية بالنسبة لما نزل في موضوعها من القرآن
الكريم قبلها أو بعدها ،ومثاله مراحل تحريم الخمر أو الربا أو تشريع القتال وغيرها ،فلم
ينزل تشريع واحد دفعة واحدة بل كان يتواصل النزول في القضية الواحدة في أكثر من
مناسبة تنزيلية وتاريخية ،إن علم المناسبة الموضوعية مفتاح للتفسير الموضوعي ألنه
يدرس الوحدة الموضوعية للسورة الواحدة وللموضوع الواحد في سياق الوحدة
الموضوعية للقرآن كله بحسب ترتيب النزول.
وإ ذا بحثنا عن الصلة بين علم المناسبة وعلم أسباب النزول نجد أنهما علمان يكمالن
بعضهما ،أي أن علم المناسبة هو المكمل لعلم أسباب النزول فإن لم يوجد سبب نزول
وجدت مناسبة نزول ،فآيات القرآن كلها موزعة بين أسباب النزول ومناسباته.
)4علم الناسخ والمنسوخ :أكثر المتقدمون من التصنيف في الناسخ والمنسوخ ،وهو العلم
الذي ال يثبت إال بالتاريخ ،سواء أكان ثبوته رواية أم دراية ،أي نقليًا أو عقليًا ،فال يسبق
الناسخ المنسوخ في التاريخ ،وأكثر روايات الناسخ والمنسوخ آثار موقوفة أو مقطوعة.
ومن أوائل المصنفين في هذا العلم أبو عبيد القاسم بن سالم الهروي (224ه( ،الذي
ذكر في الباب األول من كتابه فضل علم ناسخ القرآن ومنسـوخه ،وروى فيه عن أبي عبد
الرحمن السلمي أن علي بن أبي طالب مَّر بقاص يقـص فقال" :هل علمت الناسخ
والمنسوخ؟ قال :ال ،قال :هلكت وأهلكت"(.)69
وذكر ابن الجوزي ،عبد الرحمن بن علي (ت 579ه( ،خمسة شروط معتبرة في ثبوت
النسخ ،قال في الشرط الثاني منها" :أن ُيعلم بطريق التاريخ ،وهو أن ينقل بالرواية بأن
يكون الحكم األول ثبوته متقدما على الآخر"(.)70
والخالف بين العلماء في عدد اآليات المنسوخة كبير وذلك بسبب اختالفهم في تعريف
النسخ لغة واصطالحاً من جهة( ،)71وبسبب طرق إثبات النسخ من جهة أخرى ،فمنهم من
يثبت النسخ بالدليل النقلي مما ورد في روايات النسخ عن النبي أو آثار الصحابة أو
التابعين ،ومنهم من يثبته دراية وعقًال ،والصواب أن يكون لكال الطريقين ضوابط علمية
معتمدة من أهل العلم ،فال بد من صحة الرواية وال بد من صحة الدراية ،وال بد أن تخضع
الطريقتان لعلم تاريخ النزول ،أي ال بد من التأكد من الفوارق الزمنية للمناسبات التاريخية
والمناسبات التنزيلية والمناسبات الموضوعية حتى يصح وقوع النسخ.
لذا فإن علم الناسخ والمنسوخ علم مطرد مع علم تاريخ نزول القرآن ،فإذا ثبت النسخ،
فاآلية المنسوخة متقدمة في النزول ،والناسخة متأخرة في النزول حتمًا ،وال يثبت خالف
ذلك قطعًا.
ومما ينبغي االلتفات إليه مراعاة أن تكون اآلية الناسخة متأخرة في الترتيب عن
المنسوخة لذا فما قاله بعضهم" :ليس في القرآن ناسخ إال والمنسوخ قبله في الترتيب إال
آيتين :آية العدة في البقرة ،وقوله تعالى :الَ َيِح ُّل َلَك الِّنَس اء )72(نسختها اآلية ( )50من
السورة نفسها"( ،)73يحتاج إلى تأمل ،ومما يرجح القول بنفي النسخ فيهما أن المناسبة
التنزيلية لآلية الناسخة قبل المنسوخة في السورتين.
فبالنسبة آلية العدة فقد ورد عن عدد من الصحابة القول بنسخها( ،)74وورد عن عدد من
التابعين والمفسرين والعلماء القول بعدم نسخها ،خاصة إذا حملنا معنى اآلية األولى وهي
قولـه تعالىَ :و اَّلِذ يَن ُيَتَو َّفْو َن ِم نُك ْم َو َي َذ ُر وَن َأْز َو اًج ا َيَتَر َّبْص َن ِب َأنُفِس ِه َّن َأْر َبَعَة َأْش ُهٍر َو َع ْش ًر ا
ِف ِس ِف ِف
َفِإ َذ ا َب َلْغ َن َأَج َلُهَّن َفَال ُج َناَح َع َلْي ُك ْم يَم ا َفَع ْلَن ي َأنُف ِه َّن ِب اْلَم ْع ُر و َو الّلُه ِب َم ا َتْع َم ُلوَن َخ ِب يٌر
()75
، على أنها في تبيين عدة الزوجة المتوفى زوجها وهي أن تتربص أربعة أشهـر وعشرًا
فال تتزوج قبل انتهائها ،واآلية الثانية وهي قولـه تعالىَ :و اَّلِذ يَن ُيَتَو َّفْو َن ِم نُك ْم َو َي َذ ُر وَن
َأْز َو اًج ا َو ِص َّيًة َأِّلْز َو اِج ِه م َّم َتاًع ا ِإَلى اْلَح ْو ِل َغ ْي َر ِإْخ َر اٍج َفِإ ْن َخ َر ْج َن َفَال ُج َناَح َع َلْي ُك ْم ِفي َم ا
َفَع ْلَن ِفَي َأنُفِس ِه َّن ِم ن َّم ْع ُر وٍف َو الّلُه َع ِز يٌز َح ِك يٌم )76(على أنها تتكلم عن الوصية في النفقة
على الزوجة بعد وفاة الزوج وليس عن عدة الوفاة للزوجة( ،)77فينتفي على هذا التفسير
كون اآلية األولى ناسخة للثانية ،وهو قول عدد من أهل العلم( ،)78ورواه البخاري عن
مجاهد(.)79
وبالنسبة لموضع األحزاب ،رجح الطبري بعد أن أورد األقوال في معنى اآلية عدم
النسخ فيها ،وأشار إلى عدم وجود نص بتقدم نزول اآلية المتأخرة على المتقدمة(.)80
ورجح السخاوي عدم النسخ واحتج بتقدم اآلية التي قيل إنها ناسخة على المنسوخة،
ونقل مكي بن أبي طالب احتمال عدم النسخ عن عدد من العلماء ،كما ذكره القرطبي ونقله
عن بعض فقهاء الكوفة اعتمادا على المناسبة التنزيلية(.)81
كما رد القرطبي وغيره القول بأن آية الفيء وهي قوله تعالىَّ :م ا َأَفاء الَّلُه َع َلى
وِلِه ِم ْن َأْه ِل اْلُق ى ،)82(...منسوخة بآية الغنائم وهي :اْع َل وْا َأَّن ا َغ ِن ُتم ِّم ن َش ٍء
ْي َو ُم َم ْم َر َر ُس
َفَأَّن ِلّلِه ُخ ُم َس ُه ، ...بقوله" :وقد قيل إن سورة "الحشر" نزلت بعد األنفال ,فمن المحال
()83
)5األحاديث النبوية وأقوال الصحابة :قد يرد في عدد من األحاديث النبوية وأقوال الصحابة
الداللة على الزمان والمكان ،فإذا كان للحديث ارتباط باآلية كان مصدرا لتحديد وقت نزولها،
ومن ذلك ما ورد أن اْبَن َم ْسُعوٍد َ قالَ" :م ا َك اَن َبْيَن ِإْس الِم َنا َو َبْيَن َأْن َع اَتَبَنا الَّلُه ِبَهِذِه اآلَيِة
َأَلْم َيْأِن ِلَّلِذ يَن آَم ُنوا َأن َتْخ َش َع ُقُلوُبُهْم ِلِذ ْك ِر الَّلِه ِ )85(...إَّال َأْر َبُع ِس ِنيَن "( ،)86ففي هذا النص
تحديد تاريخ النزول صراحة وأنه أربع سنين بعد إسالمه.
وعن عبد الله بن مسعود قال" :لما نزلت اَّلِذ يَن آَم ُنوْا َو َلْم َي ْلِبُسوْا ِإيَم اَنُهم ِبُظْلمٍُأْو َلِئ َك
ِإ
َلُهُم اَألْم ُن َو ُهم ُّم ْه َتُد وَن قال الصحابة :وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت َّ ن الِّش ْر َك َلُظْلٌم
()87
َع ِظ يٌم ،)89()88(وهذه الرواية تجعل تاريخ نزول آية سورة لقمان بعد تاريخ نزول آية سورة
األنعام(.)90
وفي كتب الحديث كثير من الروايات التي فيها تفسير أو سبب نزول أو تشير إلى صلة،
أو تتضمن معلومة تاريخية عن زمن النزول.
)6علوم المغازي والسير والتراجم :أول من نبه إلى دور علم المغازي والسير بتاريخ نزول
القرآن عالمة السيرة ابن إسحاق (ت 151ه( ومهذبها وشارحها ابن هشام (ت 213ه
( رحمهما اهلل تعالى ،فقد بين ابن هشام منهجه في شرحه وتهذيبه كتاب السيرة وموقفه من
سيرة ابن إسحاق فقال" :وأنا إن شاء اهلل مبتدىء هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم ومن
ولد رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم من ولده وأوالدهم ألصالبهم األول فاألول من
إسماعيل إلى رسول اهلل وما يعرض من حديثهم وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل
على هذه الجهة لالختصار إلى حديث سيرة رسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم ،وتارك
بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب:
-1مما ليس لرسول اهلل صلى اهلل عليه وآله وسلم فيه ذكر.
-2وال نزل فيه من القرآن شيء.
-3وليس سببًا لشيء من هذا الكتاب وال تفسيرا له وال شاهدا عليه لما ذكرت من االختصار.
-4وأشعارًا ذكرها لم أر أحدًا من أهل العلم بالشعر يعرفها وأشياء بعضها يشنع الحديث به
وبعض يسوء بعض الناس ذكره وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته.
-5ومستقص إن شاء اهلل تعالى ما سوى ذلك منه بملبغ الرواية له والعلم به"(.)91
فقولـه" :وال نزل فيه من القرآن شيء" ،يوضح اهتمام علماء السيرة الكبار مثل ابن
إسحاق وابن هشام وهما من أوائل من كتب في السيرة النبوية الشريفة بما نزل من القرآن
متزامنًا مع تواريخ السيرة وأحداثها.
وروايات علم المغازي والسير كثيرة ومتقدمة في التأليف عن تاريخ نزول آيات وسور
القرآن بأسبابه ومناسباته وعن كتب علوم القرآن ،فليست محصورة بما هو متعلق بالشمائل
النبوية وأخالق رسول اهلل وصفاته فقط ،بل ال يخلو كتاب في السيرة من معرفة متعلقة
بالقرآن الكريم ومن هذه الكتب :الشمائل النبوية والخصائل المصطفوية للمحدث الترمذي (
279ه( ،وأخالق النبي وآدابه لألصبهاني (369ه( وغيرها.
وأما الكتب التي تركز على السير والمغازي واألحداث الدعوية الفكرية والعسكرية والتي
تمثل المناسبات التاريخية لنزول آيات القرآن فمنها :مغازي ابن إسحاق ( 151ه( وتهذيبها لابن
هشام (213ه( والمغازي للواقدي (207ه( وغيرها.
ومن الكتب المفيدة أيضًا كتب الطبقات وأهمها الطبقات الكبرى البن سعد ( 230ه(،
ومنها كتب التاريخ وأهمها كتاب تاريخ األمم والملوك البن جرير الطبري (310ه(،
والمنتظم في تاريخ الملوك واألمم البن الجوزي (597ه( ،والبداية والنهاية البن كثيـر (
774ه( ،ففي هذه الكتب روايات كثيرة متصلة بتاريخ نزول آيات القرآن الكريم.
ومن المصادر التي يمكن اإلفادة منها في علم تاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره،
الكتب التي صنفت للتعريف بالذين آمنوا من الصحابة والتابعين وتابعيهم ،فقد كان تاريخ
المسلمين في العهد النبوي حافًال باألحداث العظام والتضحيات الجسام ،وتزامن ذلك مع
نزول آيات القرآن الكريم ،فلما صنفت كتب الرجال ومن أهمهم الصحابة وفيها تاريخ
والدتهم وقصة إسالمهم ووفاتهم وما كان ألحدهم من دور في األحداث في العهد النبوي بل
وقبله وبعده أيضًا ،اقترن مع ترجمة بعضهم ذكر ما نزل من القرآن في حقه من أسباب
ومناسبات وفيما نزل وفيمن نزل القرآن.
وألن الصحابة رضوان الله عليهم هم أوائل الذين آمنوا وهم الذين عاينوا التنزيل وشهدوا
على زمانه ومكانه كما نقل عن غير واحد منهم ،فإن شهادتهم هي شهادة المشارك ألحداث
التاريخ في العهد النبوي المكي والمدني لذا فهي مصدر مهم لمعرفة ما نزل من القرآن الكريم.
نزل في العاص بن وائل السهمي( ،)97وهذا األثر مما يرجح القول بمكية ()96
اَألْب َتُر
السورة.
-االستيعاب في معرفة األصحاب ،ألبي عمر يوسف بن عبداهلل بن محمد بن عبد البر (
463ه(.
-أسد الغابة في معرفة الصحابة ،لعزالدين بن األثير أبي الحسن علي بن محمد الجزري
(630ه(.
-سير أعالم النبالء ،لشمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (748ه(.
-اإلصابة في تمييز الصحابة ،لشهاب الدين أحمد بن علي ،ابن حجر العسقالني ( 852ه(.
وغير هذه الكتب كثير فقد ال تخلو كتب تراجم الصحابة من روايات ومعلومات مفيدة
في علم تاريخ نزول القرآن ،وقد أكثر ابن إسحاق من ذكر أسماء من نزل فيهم القرآن،
وعقد له السيوطي بابا في اإلتقان(.)98
وكما أن ترجمة الصحابي تفيد في معرفة التاريخ فقد تكون عامال مهما في نقد الرواية
التي قد يرد اسم الصحابي فيها إن لم يكن عاصر القصة ،إما لصغر سنه أو عدم إسالمه أو أن
وفاته كانت قبل وقوع القصة التي قيل بنزول القرآن فيها ،لذا تعد هذه الكتب مصدرًا ال يجوز
تجاهله في معرفة تاريخ نزول بعض آيات القرآن الكريم ،كما أنها مصدر مهم في معرفة
رواة الحديث النبوي الشريف ،ومعرفة علم علل الرواية في سندها ومتنها.
الفصل الخامس
طرق التوصل إلى تحديد تاريخ نزول اآلية
لم يذكر القرآن الكريم صراحة تاريخ نزول آية أو سورة قرآنية ،بل لم يذكر صراحة
تاريخ حادثة واحدة من يوم خلق الله تعالى السماوات واألرض إلى قصة آدم ومن أتى بعده
من األنبياء والرسل حتى حادثة نزول القرآن في غار حراء وإ لى تاريخ انتهاء نزوله على
النبي ،ألن القرآن قصد العبرة وليس المعرفة التاريخية نفسها.
وكذلك فإن علم تاريخ نزول آيات وسور القرآن ال يهدف إلى المعرفة التاريخية إال من
أجل العبرة التشريعية في تتابع معاني القرآن ومعرفة أسبابه ومناسباته ومتقدمه ومتأخره
وناسخه ومنسوخه وذلك ال يكون دراسة متكاملة إال بمعرفة تواريخ نزوله على النبي .
وما كتبه المؤرخون في تحديد التواريخ باأليام واألشهر والسنين والعقود والقرون
اجتهاد منهم وليس على القطع واليقين ،وفيما يخص تاريخ النبوة المحمدية والسيرة العطرة
ذكر المحدثون والمؤرخون روايات كثيرة فيها تحديد بعض أحداث السيرة ومن نزل فيهم
قرآن ،وبالنظر إلى أهمية هذه الروايات فإنها ُتَعُّد من أهم مصادر علم تاريخ نزول آيات
القرآن ،ألنها شهادات شخصية رويت عمن شاهدوا األحداث والمناسبات وشاركوا فيها
وكانوا من أهلها ،ولكن هذه الشهادات التاريخية ليست المصدر الوحيد لمعرفة تواريخ
النزول ،ألن في اآليات القرآنية نفسها ألفاظًا تفيد المعنى التاريخي ،كما جاء في صيغ
العبارات الجدلية التي دحضها القرآن في رده على الكفار والمشركين والمنافقين وأهل
الكتاب ،فكل هذه العبارات تستنبط منها المعاني التاريخية التي الزمت وزامنت الحدث
ووقعت فيه ،وفيما يلي بعض الطرق التي يمكن أن يستنبط منها تحديد تاريخ النزول:
وكذلك قولـه تعالىَ :شْهُر َر َمَض اَن اَّلِذ َي ُأنِز َل ِفيِه اْلُقْر آُن ُهًدى ،)101( ...فيه النص على
الشهر واسمه وليس فيه تعيين السنة ومعلوم أن ذلك كان قبل الهجرة بثالث عشرة سنة.
وقولـه تعالىَ :و َع َلى اَّلِذ يَن َهاُدوْا َح َّر ْم َنا َم ا َقَصْص َنا َع َلْيَك ِم ن َقْب ُل َو َم ا َظَلْم َناُهْم َو َلِكن
َك اُنوْا َأنُفَسُهْم َيْظِلُم وَن ،)103(فاآلية تشير إلى ما قصه تعالى على نبيه محمد قبل تاريخ
نزول هذه اآلية ،وهو قوله تعالىَ :ع َلى اَّلِذ يَن َهاُدوْا َح َّر َنا ُكَّل ِذ ي ُظُفٍر ِم َن اْلَبَقِر اْلَغَنِم
َو َو ْم َو
ٍم
َح َّر ْم َنا َع َلْيِه ْم ُشُح وَم ُهَم ا ِإَّال َم ا َح َم َلْت ُظُهوُر ُهَم ا َأِو اْلَح َو اَيا َأْو َم ا اْخ َتَلَط ِبَعْظ ، كما
() 104
وقولـه تعالىَ :فَم ْن َح آَّج َك ِفيِه ِم ن َبْع ِد َم ا َج اءَك ِم َن اْلِع ْلِم َفُقْل َتَعاَلْو ْا َن ْدُع َأْب َناءَنا
َو َأْب َناءُك ْم َو ِن َس اءَنا َو ِن َس اءُك ْم َو َأنُفَس َنا وَأنُفَس ُك ْم ُثَّم َنْب َتِه ْل َفَنْج َع ل َّلْع َنُة الّلِه َع َلى
اْلَك اِذ ِب يَن ،)107(أي أن الرسول لم يدع أهل الكتاب إلى المباهلة إال من بعد ما نزل عليه
قرآن في حقيقة عيسى .
وقولـه تعالىَ :و اَّلِذ يَن آَم ُنوْا ِم ن َبْع ُد َو َهاَج ُر وْا َو َج اَهُد وْا َم َع ُك ْم َفُأْو َلِئَك ِم نُك ْم َو ُأْو ُلوْا
اَألْر َح اِم َبْع ُض ُهْم َأْو َلى ِب َبْع ٍض ِفي ِك َتاِب الّلِه ِإَّن الّلَه ِب ُك ِّل َش ْي ٍء َع ِليٌم ،)108(اآلية تتحدث عن
الذين هاجروا بعد غزوة بدر التي نزلت بشأنها سورة األنفال ،وتتحدث عن الهجرة وكالهما
معنيان تاريخيان.
تاريخ نزول سورتها وكذلك تاريخ نزول السورة هو تاريخ نزول آياتها إال بمانع راجح دراية
ورواية ،فاآليات في سياقها منزلة معها في نجم واحد بحكم المناسبة التنزيلية.
فالنص يبين أهمية معرفة ما نزل من قبل وما يتلى عليهم من الكتاب قبل نزول هذه
اآلية ،وهذا ال يتم من غير معرفة بتاريخ نزول آيات القرآن الكريم وسوره ،ال بمعنى
معرفة التاريخ اليومي لنزول اآلية فقط ،بل من أجل معرفة ما نزل في الموضوع الواحد
وكيف نما وتوسع في التشريع ،فقد نزلت أحكام النساء في أول السورة ثم تعاقبت األسئلة
عليها فنزلت األجوبة في آيات متأخرة في تاريخ النزول عن اآليات السابقة ،فيها أحكام
جديدة قد تكون مبينة أو ناسخة أو مقيدة لما نزل قبلها.
وقولـه تعالىَ :و َقْد َنَّز َل َع َلْيُكْم ِفي اْلِكَتاِب َأْن ِإَذ ا َس ِم ْعُتْم آَياِت الّلِه ُيَكَفُر ِبَها َو ُيْس َتْه َز ُأ ِبَها
َفَال َتْقُعُدوْا َم َعُهْم َح َّتى َيُخ وُض وْا ِفي َح ِد يٍث َغ ْيِر ِه ِإَّنُكْم ِإًذ ا ِّم ْثُلُهْم ِإَّن الّلَه َج اِم ُع اْلُمَناِفِقيَن
َو اْلَكاِفِر يَن ِفي َجَهَّنَم َج ِم يًعا ،)112(قال القرطبي" :الخطاب لجميع من أظهر اإليمان من محق
ومنافق; ألنه إذا أظهر اإليمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله .فالمنزل قوله تعالىَ :و ِإَذا
َر َأْيَت اَّلِذ يَن َيُخ وُض وَن ِفي آَياِتَنا َفَأْع ـِر ْض َع ْنُهْم َح َّتى َيُخ وُض وْا ِفي َح ِد يٍث َغ ْي ـِر ِه،)113( ...
وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن .)114("...
قال ابن كثير" :وقولهَ :و َقْد َنَّز َل َع َلْي ُك ْم ِفي اْلِك َتاِب َأْن ِإَذ ا َس ِم ْع ُتْم آَياِت الّلِه ُيَك َفُر ِبَها
َو ُيْس َتْه َز ُأ ِبَها َفَال َتْقُعُدوْا َم َعُهْم َح َّتى َيُخ وُض وْا ِفي َح ِد يٍث َغ ْيِر ِه ِإَّنُك ْم ِإًذ ا ِّم ْثُلُهْم أي إنكم إذا
ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله
ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه فلهذا قال تعالى
ِإَّنُك ْم ِإًذ ا ِّم ْثُلُهْم في المأثم كما جاء في الحديث "من كان يؤمن بالله واليوم اآلخر فال يجلس
على مائدة يدار عليها الخمر"( )115والذي أحيل عليه في هذه اآلية من النهي في ذلك هو قوله
تعالى في سورة األنعام وهي مكية َو ِإَذ ا َر َأْيَت اَّلِذ يَن َيُخ وُض وَن ِفي آَياِتَنا َفَأْع ِر ْض َع ْن ُهْم
اآلية"(.)116
وجه الداللة هنا أن ما أحال عليـه القرآن كان قرآنا أيضًا نزل من قبل ،وقـالَ :و َقْد
َنَّز َل َع َلْي ُك ْم أي الذي نزل عليكم في اآلية ( )68من سورة األنعام المكية ،المنزلة قبل سورة
النساء المدنية.
الخاتمة
قصد هذا البحث إلى تبيين معنى العلم بتاريخ نزول اآليات ،وأهمية هذا العلم للمفسر
والمتدبر ،مع تبيين المصادر والطرق التي يمكن من خاللها تحديد وقت نزول اآلية بصورة
مؤكدة أحيانا أو تقريبية أحيانا أخرى.
وهذا العلم يشكل مبحثا من مباحث علم نزول القرآن ،ويظهر جانبا من الحكم الجليلة
العديدة لنزول القرآن مفرقا منجما ،ويعين المفسر والمتدبر لآليات على فهمها فهما صحيحا
يربط من خالله اآليات بالجو الذي نزلت فيه أو تحدثت عنه ،إلى غير ذلك من فوائد هذا
المبحث الجليل.
وال يعني تتبع مراحل التنزيل والبحث في فوائده وثمراته وال بأي حال من األحوال وال
بأية صورة من الصور الدعوة إلى إعادة ترتيب القرآن وفق نزوله أو الرضى بذلك ،كما
فعل بعض المفسرين المتأخرين ،وكما دعا إليه عدد من المستشرقين الماكرين ،فهذا فعل
غير مقبول ومخالف لما أجمع عليه المسلمون من وجوب التزام ترتيب المصحف واحترامه،
وهو ترتيب توقيفي بأمر الله تعالى كما يرى معظم العلماء ،وموافق لما هو عليه في اللوح
المحفوظ ،فهدف هذا البحث ال يتعدى الدعوة إلى العلم بتاريخ نزول اآليات لالستعانة به على
فهمها وتدبرها ،ولالقتداء بالصحابة الكرام الذين كانوا يعلمون كل ما يتعلق باآلية ،ومن ذلك
معرفة وقت نزولها ومكانه بدقة تامة تدل على اعتنائهم بهذا الكتاب العزيز الذي ال يأتيه
الباطل من بين يديه وال من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
الهوامش: