Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 7

‫رواية «أقفاص فارغة»‪ :‬الكتابة كتحديق في وجه ميدوسا‬

‫‪/ida2at.com/empty-cages-writing-like-staring-into-medusas-face‬‬

‫‪ 21‬يونيو ‪2023‬‬

‫يؤكد «بورخيس» أن الشعر ُيفلت منا حين ُنحاصره بالسؤال ألنه غير معني بالحقيقة‪ ،‬إنما بالمجاز الُمناسب لتسكنه الحقيقة‪،‬‬
‫نحن نختبر العالم المادي بطريقة واحدة أما كل منا يحمل بداخله عالم خاص قوامه االستعارة التي اختارها ليستنطق هذا العالم‪.‬‬

‫في «أقفاص فارغة» ُتعلن الشاعرة «فاطمة قنديل»أنها تكتب سيرتها بلغة ال ترتدي ما يستر عورتها من المجازات‪ ،‬سردية‬
‫تخرج من حرم الشعر‪ ،‬لكنها يصعب أن ُتسمي نفسها سردية‪ ،‬فالكاتبة أكاديمية توظف خبرتها وموهبتها وقدرة الخيال كمهندس‬
‫حنين على ترميم ثقوب الذاكرة بتخييله‪.‬‬

‫تقول فاطمة‪:‬‬

‫الحضور الكامل هو كل ما أحلم به‪ ،‬اليقظة التي ال تفوت ضوًءا واحًد ا في جوفي إال حدقت فيه حتى يتالشى‪.‬‬

‫الحضور الكامل يعني حضور الشاعرة‪ ،‬األكاديمية‪ ،‬الطفلة والشابة والعجوز‪ .‬تتبارى تلك األصوات جميعها لتقديم رواية واحدة‪.‬‬

‫على الرغم من مخاطرة تسمية السرد برواية‪ُ ،‬تخبرك فاطمة من البداية‪ ،‬أن فكرة وجود قارئ لتلك األوراق مرعبة‪ ،‬لكنها‬
‫الضريبة الالزمة لمن ُيريد أن يحضر كاماًل ‪ ،‬وبينما القارئ كالحياة‪ ،‬ذئب مسعور ال يروي ظمأه إال الحكاية‪ ،‬تحذرنا من البحث‬
‫عن عبرة في تلك الحكاية‪ ،‬تراه ابتذال مثير للغثيان ألنها نعم تقدم نًص ا أرسطًيا له بداية‪/‬وسط‪/‬نهاية‪ ،‬لكنه ال يهدف للوصول‬
‫للحظة تنوير وحكمة إنما تهدف منه‪:‬‬

‫كشط قشرة جرح كي يندمل في الهواء أو ال يندمل‪ ،‬ويظل ينز دًما‬

‫ال تبحث فاطمة عن انتصار في النص أو انحياز شعري لمعنى ما‪ ،‬إنما ُتحدق في جرحها‪ ،‬كما تحدق في وجه ميدوسا (الحارسة‬
‫اليونانية التي لو نظرت لها تحولك لحجر)‪ ،‬مع كل تبعات أن يلتفت المرء للخلف‪ ،‬لينَك أ الجروح التي ضمدها سابًقا ليواصل‬
‫المسير‪.‬‬

‫لكن ألم يكن ممكًنا لشعرها أن يحمل على عاتق أبياته تلك الُمهمة؟‬

‫‪1/7‬‬
‫في روايتها ُتجيب فاطمة عن سؤال‪:‬‬

‫لماذا نكتب الشعر؟‬

‫«ال لشيء إال لكي نحتال على العقبات الصغيرة في حياتنا»‬

‫تتذكر هذا التعريف في اللحظة التي كانت تنشغل فيها عن حقيقة احتضار أمها في الفراش بجوارها‪ ،‬بانتصارها في تغيير محلول‬
‫الجلوكوز‪ ،‬كأن المشهد المأساوي تم اختزاله في هذا االنتصار الصغير‪ ،‬حسب تعريف فاطمة ُيجيد الشعر اإلبحار بنا من انتصار‬
‫صغير آلخر‪ ،‬لكن ماذا لو كانت العقبة كبرى‪ ،‬بحجم الحياة ذاتها؟ ماذا لو فرغت جعبة الشاعر من االكتفاء بانتصارات الشعر‬
‫وبقي وحيًد ا في خريف عمره وجًها لوجه مع المقبرة‪ ،‬التي تضم أحباءه وأعداءه‪ ،‬وتفغر فاها لضمه في النهاية ضمن حكاية لم‬
‫يبذل جهده بعد لتمييز نفسه عنها؟‬

‫الكتابة تبدأ من المقبرة‬


‫ولدت فاطمة من أم أربعينية وأب خمسيني وإلحاح جدة سبعينية على فراش الموت أن تستبقي أمها هذا الجنين وال ُتجهضه‪ ،‬يولد‬
‫الجنين إرضاًء للجدة ويحمل إسمها‪ ،‬تتطلع فاطمة من رحم أمها على وجه جدتها الموشك على الزوال‪ُ ،‬تعرف نفسها‪:‬‬

‫سألعب الدور نفسه المكتوب لي منذ أن ولدت‪ ،‬دور الشاهدة على الموت‪.‬‬

‫تبدو استعارة شعرية لكنها تتحول لحقيقة راسخة عندما ُندرك أن كل شخوص الحكاية التي ترويها موتى‪ ،‬ومثلما تقول عنايات‬
‫الزيات‪« :‬الرواية تبدأ من المقبرة»‪.‬‬

‫تؤكد فاطمة أنها ال تكتب عمن ظلوا أحياًء بقلبها‪ ،‬ألن الكتابة لديها صنوان للموت‪ ،‬في طيف من النص ُتحيي فاطمة موتاها‬
‫وتستجوبهم‪ ،‬تدينهم‪ ،‬تعذرهم‪ ،‬لكن في قلب النص هي تريد تحويل موتهم الفيزيقي ومقابرهم الموجودة فعلًيا لموت شعري للشجرة‬
‫التي كانت فرًع ا منها‪ ،‬موت ُيحررها هي من المقبرة‪:‬‬

‫وأنا أكتب عنهم ألنهم ماتوا فيزيقًيا أو ماتوا بالفعل في قلبي‪..‬عن هذا الجذر البعيد لتطيره أوراًقا في الهواء‪ ،‬كي ال يظل‬
‫يخادعك بأنه شجرة! عن هذا الجذر المعطوب فقط‪ ،‬لتتخلص من عفنه حتى ال يصير إلى نهاية حياتك ممتزًج ا بأنفاسك‪،‬‬
‫حتى ال تعتاد رائحته وال تستطيع أن تميز بين رائحته ورائحة حياتك!‬

‫فهي كتابة لقتل الوهم وتمييز الذات‪ ،‬كل البشر سيموتون لكن الدور الذي صنع قوس البداية لفاطمة هو أنها شاهدة الموت في‬
‫عائلتها‪ ،‬ولكن ماذا يتبقى عندما تموت العائلة بأكملها؟ يصير لزاًما على الذات أن تشهد على نفسها‪ ،‬مثل راٍو خفي يخرج أخيًر ا‬
‫لخشبة المسرح‪ ،‬بكل ما يحمله األمر من انكشاف وتعٍر ‪ ،‬يفك أواصر الوهم‪ ،‬وُيخبرهم أن وراء الستار كان هو ذاًتا منفصلة وليس‬
‫ُج زًءا من العرض‪.‬‬

‫لم تحَي الكاتبة قصة حياة سعيدة في أسرة متوسطة‪ ،‬ولم يتشكل شعرها من العدم‪ ،‬فتلك الحكاية هي ظالل الشعر‪ ،‬ما لم ترِو ه‬
‫فاطمة قنديل‪ ،‬تلك الحكاية ليست شعًر ا‪ ،‬بل كيف ُص نع الشاعر؟ رحلة لآلبار والمعين الذي نهلت منه أبياتها طوال ُع مرها‪ ،‬رحلة‬
‫للمقبرة التي ولد منها كل سطر كتبته‪ ،‬المجاز ُيجمل أو ُيقرب مفهوم الحقيقة‪ ،‬وبتعريته تتبقى المقبرة‪.‬‬

‫فخ االبتذال‬
‫تخبرنا فاطمة أنها ال تتذكر البقعة التي ولدت فيها‪:‬‬

‫رأيت صورة أن أولد مباشرة على البحر تليق بشاعرة‬

‫تفرق بين ما حدث وتأويلها الشعري لما حدث‪ ،‬تفرقة ستحضر طوال النص لتبرز يقظتها لفخ االبتذال‪ ،‬أن تكتب سيرتك يعني أن‬
‫تسير على حافة االبتذال‪ ،‬فما تظنه الحقيقة قد ال يعدو أن يكون ميلودراما ُمبتذلة الستجالب التعاطف‪ ،‬وما تظنه الُمعجزة القدرية‬
‫في قصتك ال يعدو أن يكون تخياًل تصطنع به خصوصية لحكايتك‪.‬‬

‫‪2/7‬‬
‫تبدأ قصتها بدفن قطها «ميشو» في فناء المنزل‪ ،‬تسخر الطبيعة من رقتها وُتنبت زهرة خشخاش في البقعة نفسها‪ ،‬تختفي الطفلة‬
‫وتأتي االمرأة الثالثينية المنكوبة بموت أمها‪ ،‬تحمل بحنان ما يليق بضمادة جرح أمها‪ ،‬ما تبقى من الفقيدة‪ ،‬لتدفنها في البقعة‬
‫نفسها‪ ،‬لكن تفسد شعرية اللقطة ديدان بيضاء لزجة تتغذى على ما تبقى من دم الضمادة‪.‬‬

‫تموت حديقة المنزل بموت األب‪ ،‬ال يشم أحد الياسمين بعد موته؛ ألنه الوحيد الذي أولى النبات رعايته‪ ،‬لكن حوض النباتات‬
‫يتحول لمطفأة لسجائرها وسط حرج أصدقائها من ابتذال الذكرى باستخدامها كساحة ُمخلفات‪.‬‬

‫ُتخبر األم فاطمة في لحظات احتضارها أن أخاها راجي الذي هاجر إلى ألمانيا منذ عقود قد مات‪ُ ،‬تصدقها االبنة وتحيا لسنوات‬
‫بنبوءة األم التي أتت بها من خلف األستار لكنه يعود لُيفسد النبوءة‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫لألسف كانت نائمة تحلم‪ ،‬نائم يحلم بكابوس بعد أن تناول طعاًما ثقياًل ‪ ،‬طعام ثقيل ربما يكون هو حياتها نفسها‪ ،‬هكذا بكل‬
‫االبتذال وبكل اإلهانة لهواجسنا‪ ،‬ألدوارنا‬

‫تراقب فاطمة سطورها بعناية خوًفا من أسر نفسها والقارئ في كنف شعرية كاذبة ُتضفي خصوصية على قصتها‪ ،‬ألن النص‬
‫ليس شعًر ا‪ ،‬ربما في القصيدة‪ ،‬تحرس الزهور جثة القط‪ ،‬وينبت الياسمين ُح زًنا على األب‪ ،‬بينما تصدق نبوءة األم وهي في‬
‫برزخها‪ ،‬لكن الحقيقة قاسية قسوة ديدان تتغذى على الذكرى‪ ،‬والنص ُمخلص المرأة تتطلع لميدوسا‪ ،‬ال النعكاسها على مرآة‬
‫شعرية‪.‬‬

‫فخ األدوار‬

‫ما إن نلعب أدواًر ا حتى تصير جزًءا منا‪ ،‬يقسمها علينا القدر كما أردنا تماًما فنصير ضحايا بالفعل‪.‬‬

‫في أكثر من موضع تستعيد فاطمة ثيمة «الدور»‪ ،‬أن ُيصدق المرء فكرة عن نفسه ثم يسقط أسيًر ا لها‪ ،‬وتتولى تلك الفكرة توليد‬
‫مشاعره وقراراته فيما بعد‪ ،‬مثل غيمة تلون الوجود بلونها‪.‬‬

‫تولد أدوار الحياة مثل أدوار المسرحية‪ ،‬من نصوص وعبارات ومواقف بعينها‪ ،‬فقد ولد دور أبيها كرمز للعار في حياتها من‬
‫لحظة مقابلتها إياه وهو سكير أمام صديقاتها‪ ،‬تصفها باللحظة األبدية للعار‪.‬‬

‫بينما تصف جملة أخيها راجي لألب بأنه لن يغفر له ُمعايرته‪ ،‬بأنها جملة تؤطر مصيًر ا‪ ،‬كأنها سطر من اإللياذة اإلغريقية‪.‬‬

‫ُندرك أن األب ضحية الجد الذي كان يضربه بالحزام في عمود السرير‪ ،‬ثم حاصره بفخ الذنب عندما ادعى الشلل لُيجبره على‬
‫ترك حلم االلتحاق بكلية الهندسة لصالح تعليم متوسط ينهيه سريًعا ويتولى اإلنفاق على العائلة‪.‬‬

‫يورث األب دور الضحية بنجاح لالبن راجي‪ ،‬يراه امتداًد ا له‪ ،‬وبينما ُيسخر كل شيء إللحاقه بكلية الهندسة‪ ،‬يرسب االبن‬
‫باستهتار‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫كان أبي يحمل حلمه كجثة في أعماقه بينما حمله راجي برعونة من يتناول طفاًل حديث الوالدة من يد أمه ويؤرجحه‬
‫بعنف أمام عيني أبي المكلوم‬

‫تصف فاطمة أبويها‪:‬‬

‫«كانا زوجين جيدين جمعت بينهما الهزائم»‬

‫جاءت األم من طالق سريع وجاء األب من انفصال وصمته خيانة زوجته له‪.‬‬

‫كان اقتراًنا لضحايا رسم مصائر األبناء لألبد‪ ،‬فاالبن رمزي سينحاز لمظلومية األب‪ ،‬وستنحاز فاطمة لمظلومية األم‪ ،‬بينما‬
‫راجي بوجدان ممزق استعذب دور الضحية كاماًل سيحيا شبابه في قتال إلثبات الذات مع صورة األب وسيحيا شيخوخته في‬
‫إدانة لألم ليمنح فشله معنى‪.‬‬

‫َل‬
‫‪3/7‬‬
‫تدرك فاطمة بذكاء أن األدوار فخ‪ ،‬وأنها لم تتعاَل عنه‪ ،‬فكثير من قرارات حياتها كانت رهينة دور لعبته في مرحلة من ُع مرها‪،‬‬
‫فهي لم ُتدخن إال نكاية بأخيها الُمقرب الذي أهمل أخته وأمه وسلم إرادته لزوجته الجديدة‪ ،‬كان يشعل لها السيجارة ويتودد لها‬
‫بفعل كل شيء‪.‬‬

‫بينما اللحظة التي قررت فيها شرب الخمر‪ ،‬وهي التي وصفت رؤيتها لُس كر أبيها أمام صديقاتها باعتباره اللحظة األبدية للعار‪،‬‬
‫كانت ذروة إدراكها للعبة األدوار التي يقوم عليها هذا العالم‪ ،‬ال يمثل شرب البيرة ألول مرة فعل تمرد أو استسالم‪ ،‬إنما إنتقال‬
‫واٍع منها من دور الضحية لدور الجالد‪ ،‬وكان الجالد في روايتها أباها‪ ،‬فتقول‪:‬‬

‫ولماذا أرث كراهية أمي للشراب؟ ال تجارة لدي ألخسرها كأبيها وكجدي ألبي وال أبناء ينبغي أن أضحي من أجلهم كما‬
‫ظللت أصم أبي وال أجد له مبرًر ا‪ ،‬لماذا ال أقبل إرًثا آخر‪ ،‬إرث هؤالء الذين أضاعوا كل شيء‪ ،‬إرث المتعة الخالصة‪،‬‬
‫النشوة‪ ،‬تقبل أن تكون مداًنا وموصوًما من الجميع وأن يكونوا جميعهم ضحاياك‬

‫تكرر تأكيدها على فخ األدوار الذي يستعمرنا لألبد حتى لو أدركناه فتتذكر شهور أمها األخيرة عندما أفقدها السرطان حيويتها‬
‫وطمس معالم روحها‪ ،‬غضبت عليها مرة لرفضها السهر معها أمام التلفاز‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫أدركت أنني كنت أريد أن أستعيدها‪ ،‬لم تكن تلك السيدة النائمة طوال الوقت تشبه أمي‪ ،‬حتى حين كنت أضع رأسي على‬
‫صدرها أللعب دور طفلتها‬

‫يتوقف نجاح الرواية على إدراك القارئ للعبة األدوار‪ ،‬في أقفاص فارغة تأخذنا فاطمة خلف الكواليس‪ ،‬لنرى لعبة كراٍس‬
‫موسيقية‪ ،‬ال يمنحنا النص كل مرة إال نصف نظرة مع تأكيد الراوية أن هناك نصًفا آخر‪ ،‬كل ما نفعله في كل مرحلة من حياتنا‬
‫رهين دور يقبع في مؤخرة رؤوسنا يخلق محدودية في رؤية المشهد‪ .‬يخلق جالدين ُك ثر وضحية واحدة هي نحن‪.‬‬

‫قبل عودة أخيها من ألمانيا‪ ،‬كان قد سكن حكايتها في صورة األخ التراجيدي الذي قدمها لعالم القراءة‪ ،‬على يده عرفت بودلير‬
‫وديكنز وكل ربات اإللهام الالئي صاغوا حياتها كشاعرة وكاتبة وأكاديمية‪ ،‬سلب راجي عائلتها استقرارها لكنه منحها هاجسها‬
‫وتحققها‪ ،‬لكن بعد عودة أخيها وعندما صارحته بدوره في حكايتها‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫بدا لي تافًها ال عالقة له باألدب ولم يعد يعرف عنه شيًئا حتى ما كان يقرؤه نسيه تماًما‪ ،‬غريًبا تماًما كأنه قصة من بين‬
‫القصص‪ ،‬قصة اختلقتها أنا نفسي في ذاكرتي‬

‫كانت تدرك جيًد ا في آخر العمر عندما تبادلت حكايتها بأدوارها التي كان فيها األب جالد واألم ضحية مع أخيها الذي وجد في‬
‫أبيه بعد سنوات رحمة وفي أمه شر أن الُمكاشفة قد تخاطر بكسر إطار حكايتها الخاصة‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫الرعب من أن يكون ثمن الحكاية التي يدفعني مراًر ا وتكراًر ا إلى حكيها من جديد هو أن تحطم إطارها‪ ،‬وتنزاح‬
‫وتتالشى إلى األبد‬

‫كانت المكاشفة تقذفها من أمان حكاية اتخذتها موطًنا لسنوات‪ ،‬لرؤية الحكاية خارج لعبة األدوار‪:‬‬

‫كنت أكتشف بمرور الوقت أنني ال أعرف أًيا منهم حتى أمه التي كان يحكي عنها بنفور لم أتوقعه‪ ،‬هي أم أخرى‪ ،‬لم‬
‫أعرفها‪ ،‬كلما تكلم شعرت أنني مهددة بحكاياته‪ ،‬بآرائه‪ ،‬بنفوره‪ ،‬كنت أشعر بتهديد أن تتحول حكاياتي التي عشتها‬
‫وأحببتها‪ ،‬إلى مجرد غابة من الصور‪ ،‬أسير فيها وحدي‬

‫‪4/7‬‬
‫لوحة للرسام جان أنطوان تيودور جيروست (‪)1788‬‬

‫تمنح فاطمة فخ األدوار ثقاًل بطبع النص بطابع المآسي اإلغريقية األوديبية‪ ،‬خطأ طفيف في قراءة سطر واحد بأدوارنا يكفي‬
‫لتغيير المسرحية بأكملها‪ ،‬توقن أن أباها مات ألنها طلبت من الرب موته‪ ،‬وأن أمها ماتت ألن أخاها ادعى احتضارها ليتركه‬
‫الكفيل يعود لمصر‪ ،‬في المآسي اإلغريقية يكفي خطأ لفظة في الدور المرسوم لنا لننال عقاًبا أبدًيا‪.‬‬

‫فخ الذاكرة‬

‫الذكريات السعيدة حقيقة ال ُتطيل المكوث‪.‬‬

‫حرصت فاطمة أن تغلب الحقيقة في نصها على الشعرية‪ ،‬فتتحول ضمادة األم األخيرة لمرتع ديدان وياسمين األب لحديقة‬
‫تستضيف أعقاب السجائر وأقفاًص ا فارغة‪ ،‬فالذكريات السعيدة ال ُتطيل المكوث بل تسري عليها عوارض الزمن وتنتهي ألقبح‬
‫مما بدأت به‪.‬‬

‫تختار على الرغم من ذلك أن تبدأ حكايتها بتأمل علبة شوكوال قديمة باستغراب جمالية نجت من التداعي وعوارض الزمن‪:‬‬

‫أخمن أن سعادة ما ظلت تسكن هذه العلبة‪ ،‬أخمن أنها تفوح منها وربما لهذا عاشت طوال تلك السنين وربما تظل في‬
‫مكان ما حتى بعد أن أموت‬

‫تبدو أقفاص فارغة بأكملها محاولة للنجاة بالتخفف من األثقال‪ ،‬مثلما نجت علبة شوكوال بجمالية ما من فعل الزمن‪ ،‬واألثقال في‬
‫تلك الحكاية هي الذكريات‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫كل ما كتبته على هذه األوراق كان مؤلًما‪ ،‬لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي‪ ،‬أشعر أنني تحررت من ذكرى‬
‫وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى فتتالشى كأنها تبخرت فور أن كتبتها‬

‫تعرف فاطمة جيًد ا متى ولدت الذاكرة لديها؟ كانت في اللحظة التي اعترفت فيها ألمها بما فعله آخرون بجسدها‪ ،‬كان رد فعل‬
‫أمها قوًيا‪ ،‬تعاهدا أن تخبرها بذلك لو حدث مرة أخرى وأدخلت األم الرب في العهد بحلفانها على المصحف‪ ،‬فاكتسبت اللحظة‬
‫ُبعد تستدعاء المطلق ذاته لوجدان طفلة لم تدر بعد الخطأ في ما حدث‪ ،‬تقول‪:‬‬

‫شيء جديد ينمو في قلبي‪ ،‬شيء ثقيل‪ ،‬أسميته في ما بعد مولد الذاكرة‬

‫‪5/7‬‬
‫تكتسب الذكرى في أقفاص فارغة استعارة الثقل وترتبط بفقدان البراءة‪ ،‬فالبراءة رهينة الفردوس‪ ،‬والفردوس ال نحمل عنه‬
‫ذاكرة‪ ،‬إنما لحظة هبوطنا لألرض توثق بدء الذاكرة بلحظة السقوط نفسها كأول ذكرى‪.‬‬

‫عبر النص تستعيد فاطمة ذكريات ميكروسكوبية صغيرة مثل اشتهائها كطفلة للبسطرمة‪ ،‬بينما أمها ال تملك ثمنها‪ ،‬لذلك اقترن‬
‫االشتهاء طوال حياتها برائحتها‬

‫في طفولتها عندما جف ثدي األم األربعينية صنعت لها الزبادي على ضوء لمبة صغيرة‪ ،‬تلك الذكرى الصغيرة صنعت فاطمة‬
‫الخمسينية التي أدمنت بدء يومها بالزبادي وتحسست دوًما من الضوء الساطع مكتفية بلمبة صغيرة‪.‬‬

‫التحدي األكبر في أقفاص فارغة أنها عملية تخفف من عبء الذاكرة لكن هويتنا منسوجة بعناية من ثوب الذاكرة ذاته‪ ،‬خيوطه‬
‫األولى البكر صنعت الثوب الذي نرتديه اآلن‪ ،‬لذلك التخفف قد يسحب خيوًط ا تنحل معها عروة كينونتنا بأكملها‪ ،‬تعي فاطمة‬
‫المخاطرة‪:‬‬

‫ال أريد سوى أن أمسخ الذكريات إلى أصنام‪ ،‬ثم أكسرها ثم أكنس التراب المتبقي منها وحتى ولو كنت أنا نفسي صنًما‬
‫من بين كل تلك األصنام‬

‫فخ الذاكرة هو أن التحرر منها يعني قبول أننا قد نفقد أنفسنا في خضم العملية نفسها‪.‬‬

‫وبعد قبولها الُمخاطرة نصل للمحطة األخيرة‪ ،‬وهي بيع منزلها‪ ،‬مسرح الدراما بأكملها‪ ،‬االنسالخ التام من الفضاء المكاني الذي‬
‫يحمل بجماداته وجدرانه ثقل الذكرى‪ ،‬هنا يحضر الشعر لنص روائي في صورة استعارة القط ماالرميه‪.‬‬

‫بدأ النص بطفلة تدفن قطها لتنبت مكانه زهرة خشخاش ساخرة‪ ،‬وينتهي األمر بسيدة خمسينية‪ ،‬يموت بجوارها قطها متأوًه ا‬
‫ومنكفًئا على ذاته بال حول والقوة مثلما مات أبوها مكشوف العورة في حمام المنزل‪ ،‬عندها دعت اهلل أال تموت في هذا المنزل‪،‬‬
‫أال تموت في كنف الذكرى‪ ،‬كان ماالرميه رسواًل شعرًيا‪ ،‬حمل األمنية للرب واصطنع لها من االستعارة منزاًل بدياًل ‪ ،‬فتقول‪:‬‬

‫ماالرميه تعويذتي…أكاد أوقن أنه حمل ردائي الذي دثرته به بعد موته وألقاه بحركة تمثيلية ركيكة كأي كومبارس أمام‬
‫اهلل ليبلغه الرسالة‪:‬‬
‫هي ال تريد أن تموت هنا‪ ،‬هل هذا مطلب عسير على إله؟‬

‫الشاعرة فاطمة قنديل في حديقة بيتها‬

‫‪6/7‬‬
‫تصف فاطمة سفر الخروج من شبكة عائلتها القديمة مثل عنكبوت يخرج أخيًر ا عارًيا‪ ،‬وفي فمه كل ذباب العالم‪ ،‬يجري به‪،‬‬
‫الهًثا ومذعوًر ا‪.‬‬

‫في نص بديع تحرس فاطمة بأكاديميتها حكايتها من فخ ابتذال شعري يفسد صدق النص بخصوصية ُمصطنعة‪.‬‬

‫في نص بديع تجرد فاطمة بحذق لعبة السرد من التخيل الروائي فتكشف فخ األدوار وكيف تصنع سجون األدوار الخفية قراراتنا‬
‫وحكايتنا الظاهرة‪.‬‬

‫في نص بديع يبدأ بطفلة تقرأ الفاتحة بسذاجة بريئة لقط يموت‪ ،‬وينتهي بسيدة خمسينية ُترسل بشعرية قًط ا للرب برسالة استغاثة‬
‫تقايض فيها ثقل الذكرى بحياة جديدة‪ ،‬فتأتي الشاعرة أخيًر ا لتغلق باستعارة قوس حكاية بدأت كتحرر من الشعر وانتهت بمجاز‪.‬‬

‫يصعب أن نلوي عنق النص بحًثا عن عبرة‪ ،‬عظة‪ ،‬اقتباس‪ ،‬هذا االختزال الكريه هو آخر ما تريده فاطمة‪ ،‬أتذكر خالل قراءتي‬
‫لكتاب «كلبي الهرم» سرد «أسامة الدناصوري» لنص كتابه على فاطمة قنديل‪ ،‬لتخبره أنها تراه اآلن بصورة جديدة لم تتخيلها‬
‫أبًد ا‪ ،‬يمكننا أن نقول أننا نرى فاطمة وهي تخرج من المقبرة بصورة جديدة‪ ،‬تعلن فردانيتها مثل فرع وحيد يرفض خدعة‬
‫االنتماء لشجرة اقتلعت منذ زمن طويل‪ ،‬فردانية روح نظرت لميدوسا لكنها لم تتحول لحجر وعادت لتروي الحكاية‪.‬‬

‫‪7/7‬‬

You might also like