Professional Documents
Culture Documents
رواية أقفاص فارغة الكتابة كتحديق في وجه ميدوسا
رواية أقفاص فارغة الكتابة كتحديق في وجه ميدوسا
رواية أقفاص فارغة الكتابة كتحديق في وجه ميدوسا
/ida2at.com/empty-cages-writing-like-staring-into-medusas-face
21يونيو 2023
يؤكد «بورخيس» أن الشعر ُيفلت منا حين ُنحاصره بالسؤال ألنه غير معني بالحقيقة ،إنما بالمجاز الُمناسب لتسكنه الحقيقة،
نحن نختبر العالم المادي بطريقة واحدة أما كل منا يحمل بداخله عالم خاص قوامه االستعارة التي اختارها ليستنطق هذا العالم.
في «أقفاص فارغة» ُتعلن الشاعرة «فاطمة قنديل»أنها تكتب سيرتها بلغة ال ترتدي ما يستر عورتها من المجازات ،سردية
تخرج من حرم الشعر ،لكنها يصعب أن ُتسمي نفسها سردية ،فالكاتبة أكاديمية توظف خبرتها وموهبتها وقدرة الخيال كمهندس
حنين على ترميم ثقوب الذاكرة بتخييله.
تقول فاطمة:
الحضور الكامل هو كل ما أحلم به ،اليقظة التي ال تفوت ضوًءا واحًد ا في جوفي إال حدقت فيه حتى يتالشى.
الحضور الكامل يعني حضور الشاعرة ،األكاديمية ،الطفلة والشابة والعجوز .تتبارى تلك األصوات جميعها لتقديم رواية واحدة.
على الرغم من مخاطرة تسمية السرد بروايةُ ،تخبرك فاطمة من البداية ،أن فكرة وجود قارئ لتلك األوراق مرعبة ،لكنها
الضريبة الالزمة لمن ُيريد أن يحضر كاماًل ،وبينما القارئ كالحياة ،ذئب مسعور ال يروي ظمأه إال الحكاية ،تحذرنا من البحث
عن عبرة في تلك الحكاية ،تراه ابتذال مثير للغثيان ألنها نعم تقدم نًص ا أرسطًيا له بداية/وسط/نهاية ،لكنه ال يهدف للوصول
للحظة تنوير وحكمة إنما تهدف منه:
ال تبحث فاطمة عن انتصار في النص أو انحياز شعري لمعنى ما ،إنما ُتحدق في جرحها ،كما تحدق في وجه ميدوسا (الحارسة
اليونانية التي لو نظرت لها تحولك لحجر) ،مع كل تبعات أن يلتفت المرء للخلف ،لينَك أ الجروح التي ضمدها سابًقا ليواصل
المسير.
لكن ألم يكن ممكًنا لشعرها أن يحمل على عاتق أبياته تلك الُمهمة؟
1/7
في روايتها ُتجيب فاطمة عن سؤال:
تتذكر هذا التعريف في اللحظة التي كانت تنشغل فيها عن حقيقة احتضار أمها في الفراش بجوارها ،بانتصارها في تغيير محلول
الجلوكوز ،كأن المشهد المأساوي تم اختزاله في هذا االنتصار الصغير ،حسب تعريف فاطمة ُيجيد الشعر اإلبحار بنا من انتصار
صغير آلخر ،لكن ماذا لو كانت العقبة كبرى ،بحجم الحياة ذاتها؟ ماذا لو فرغت جعبة الشاعر من االكتفاء بانتصارات الشعر
وبقي وحيًد ا في خريف عمره وجًها لوجه مع المقبرة ،التي تضم أحباءه وأعداءه ،وتفغر فاها لضمه في النهاية ضمن حكاية لم
يبذل جهده بعد لتمييز نفسه عنها؟
سألعب الدور نفسه المكتوب لي منذ أن ولدت ،دور الشاهدة على الموت.
تبدو استعارة شعرية لكنها تتحول لحقيقة راسخة عندما ُندرك أن كل شخوص الحكاية التي ترويها موتى ،ومثلما تقول عنايات
الزيات« :الرواية تبدأ من المقبرة».
تؤكد فاطمة أنها ال تكتب عمن ظلوا أحياًء بقلبها ،ألن الكتابة لديها صنوان للموت ،في طيف من النص ُتحيي فاطمة موتاها
وتستجوبهم ،تدينهم ،تعذرهم ،لكن في قلب النص هي تريد تحويل موتهم الفيزيقي ومقابرهم الموجودة فعلًيا لموت شعري للشجرة
التي كانت فرًع ا منها ،موت ُيحررها هي من المقبرة:
وأنا أكتب عنهم ألنهم ماتوا فيزيقًيا أو ماتوا بالفعل في قلبي..عن هذا الجذر البعيد لتطيره أوراًقا في الهواء ،كي ال يظل
يخادعك بأنه شجرة! عن هذا الجذر المعطوب فقط ،لتتخلص من عفنه حتى ال يصير إلى نهاية حياتك ممتزًج ا بأنفاسك،
حتى ال تعتاد رائحته وال تستطيع أن تميز بين رائحته ورائحة حياتك!
فهي كتابة لقتل الوهم وتمييز الذات ،كل البشر سيموتون لكن الدور الذي صنع قوس البداية لفاطمة هو أنها شاهدة الموت في
عائلتها ،ولكن ماذا يتبقى عندما تموت العائلة بأكملها؟ يصير لزاًما على الذات أن تشهد على نفسها ،مثل راٍو خفي يخرج أخيًر ا
لخشبة المسرح ،بكل ما يحمله األمر من انكشاف وتعٍر ،يفك أواصر الوهم ،وُيخبرهم أن وراء الستار كان هو ذاًتا منفصلة وليس
ُج زًءا من العرض.
لم تحَي الكاتبة قصة حياة سعيدة في أسرة متوسطة ،ولم يتشكل شعرها من العدم ،فتلك الحكاية هي ظالل الشعر ،ما لم ترِو ه
فاطمة قنديل ،تلك الحكاية ليست شعًر ا ،بل كيف ُص نع الشاعر؟ رحلة لآلبار والمعين الذي نهلت منه أبياتها طوال ُع مرها ،رحلة
للمقبرة التي ولد منها كل سطر كتبته ،المجاز ُيجمل أو ُيقرب مفهوم الحقيقة ،وبتعريته تتبقى المقبرة.
فخ االبتذال
تخبرنا فاطمة أنها ال تتذكر البقعة التي ولدت فيها:
تفرق بين ما حدث وتأويلها الشعري لما حدث ،تفرقة ستحضر طوال النص لتبرز يقظتها لفخ االبتذال ،أن تكتب سيرتك يعني أن
تسير على حافة االبتذال ،فما تظنه الحقيقة قد ال يعدو أن يكون ميلودراما ُمبتذلة الستجالب التعاطف ،وما تظنه الُمعجزة القدرية
في قصتك ال يعدو أن يكون تخياًل تصطنع به خصوصية لحكايتك.
2/7
تبدأ قصتها بدفن قطها «ميشو» في فناء المنزل ،تسخر الطبيعة من رقتها وُتنبت زهرة خشخاش في البقعة نفسها ،تختفي الطفلة
وتأتي االمرأة الثالثينية المنكوبة بموت أمها ،تحمل بحنان ما يليق بضمادة جرح أمها ،ما تبقى من الفقيدة ،لتدفنها في البقعة
نفسها ،لكن تفسد شعرية اللقطة ديدان بيضاء لزجة تتغذى على ما تبقى من دم الضمادة.
تموت حديقة المنزل بموت األب ،ال يشم أحد الياسمين بعد موته؛ ألنه الوحيد الذي أولى النبات رعايته ،لكن حوض النباتات
يتحول لمطفأة لسجائرها وسط حرج أصدقائها من ابتذال الذكرى باستخدامها كساحة ُمخلفات.
ُتخبر األم فاطمة في لحظات احتضارها أن أخاها راجي الذي هاجر إلى ألمانيا منذ عقود قد ماتُ ،تصدقها االبنة وتحيا لسنوات
بنبوءة األم التي أتت بها من خلف األستار لكنه يعود لُيفسد النبوءة ،تقول:
لألسف كانت نائمة تحلم ،نائم يحلم بكابوس بعد أن تناول طعاًما ثقياًل ،طعام ثقيل ربما يكون هو حياتها نفسها ،هكذا بكل
االبتذال وبكل اإلهانة لهواجسنا ،ألدوارنا
تراقب فاطمة سطورها بعناية خوًفا من أسر نفسها والقارئ في كنف شعرية كاذبة ُتضفي خصوصية على قصتها ،ألن النص
ليس شعًر ا ،ربما في القصيدة ،تحرس الزهور جثة القط ،وينبت الياسمين ُح زًنا على األب ،بينما تصدق نبوءة األم وهي في
برزخها ،لكن الحقيقة قاسية قسوة ديدان تتغذى على الذكرى ،والنص ُمخلص المرأة تتطلع لميدوسا ،ال النعكاسها على مرآة
شعرية.
فخ األدوار
ما إن نلعب أدواًر ا حتى تصير جزًءا منا ،يقسمها علينا القدر كما أردنا تماًما فنصير ضحايا بالفعل.
في أكثر من موضع تستعيد فاطمة ثيمة «الدور» ،أن ُيصدق المرء فكرة عن نفسه ثم يسقط أسيًر ا لها ،وتتولى تلك الفكرة توليد
مشاعره وقراراته فيما بعد ،مثل غيمة تلون الوجود بلونها.
تولد أدوار الحياة مثل أدوار المسرحية ،من نصوص وعبارات ومواقف بعينها ،فقد ولد دور أبيها كرمز للعار في حياتها من
لحظة مقابلتها إياه وهو سكير أمام صديقاتها ،تصفها باللحظة األبدية للعار.
بينما تصف جملة أخيها راجي لألب بأنه لن يغفر له ُمعايرته ،بأنها جملة تؤطر مصيًر ا ،كأنها سطر من اإللياذة اإلغريقية.
ُندرك أن األب ضحية الجد الذي كان يضربه بالحزام في عمود السرير ،ثم حاصره بفخ الذنب عندما ادعى الشلل لُيجبره على
ترك حلم االلتحاق بكلية الهندسة لصالح تعليم متوسط ينهيه سريًعا ويتولى اإلنفاق على العائلة.
يورث األب دور الضحية بنجاح لالبن راجي ،يراه امتداًد ا له ،وبينما ُيسخر كل شيء إللحاقه بكلية الهندسة ،يرسب االبن
باستهتار ،تقول:
كان أبي يحمل حلمه كجثة في أعماقه بينما حمله راجي برعونة من يتناول طفاًل حديث الوالدة من يد أمه ويؤرجحه
بعنف أمام عيني أبي المكلوم
جاءت األم من طالق سريع وجاء األب من انفصال وصمته خيانة زوجته له.
كان اقتراًنا لضحايا رسم مصائر األبناء لألبد ،فاالبن رمزي سينحاز لمظلومية األب ،وستنحاز فاطمة لمظلومية األم ،بينما
راجي بوجدان ممزق استعذب دور الضحية كاماًل سيحيا شبابه في قتال إلثبات الذات مع صورة األب وسيحيا شيخوخته في
إدانة لألم ليمنح فشله معنى.
َل
3/7
تدرك فاطمة بذكاء أن األدوار فخ ،وأنها لم تتعاَل عنه ،فكثير من قرارات حياتها كانت رهينة دور لعبته في مرحلة من ُع مرها،
فهي لم ُتدخن إال نكاية بأخيها الُمقرب الذي أهمل أخته وأمه وسلم إرادته لزوجته الجديدة ،كان يشعل لها السيجارة ويتودد لها
بفعل كل شيء.
بينما اللحظة التي قررت فيها شرب الخمر ،وهي التي وصفت رؤيتها لُس كر أبيها أمام صديقاتها باعتباره اللحظة األبدية للعار،
كانت ذروة إدراكها للعبة األدوار التي يقوم عليها هذا العالم ،ال يمثل شرب البيرة ألول مرة فعل تمرد أو استسالم ،إنما إنتقال
واٍع منها من دور الضحية لدور الجالد ،وكان الجالد في روايتها أباها ،فتقول:
ولماذا أرث كراهية أمي للشراب؟ ال تجارة لدي ألخسرها كأبيها وكجدي ألبي وال أبناء ينبغي أن أضحي من أجلهم كما
ظللت أصم أبي وال أجد له مبرًر ا ،لماذا ال أقبل إرًثا آخر ،إرث هؤالء الذين أضاعوا كل شيء ،إرث المتعة الخالصة،
النشوة ،تقبل أن تكون مداًنا وموصوًما من الجميع وأن يكونوا جميعهم ضحاياك
تكرر تأكيدها على فخ األدوار الذي يستعمرنا لألبد حتى لو أدركناه فتتذكر شهور أمها األخيرة عندما أفقدها السرطان حيويتها
وطمس معالم روحها ،غضبت عليها مرة لرفضها السهر معها أمام التلفاز ،تقول:
أدركت أنني كنت أريد أن أستعيدها ،لم تكن تلك السيدة النائمة طوال الوقت تشبه أمي ،حتى حين كنت أضع رأسي على
صدرها أللعب دور طفلتها
يتوقف نجاح الرواية على إدراك القارئ للعبة األدوار ،في أقفاص فارغة تأخذنا فاطمة خلف الكواليس ،لنرى لعبة كراٍس
موسيقية ،ال يمنحنا النص كل مرة إال نصف نظرة مع تأكيد الراوية أن هناك نصًفا آخر ،كل ما نفعله في كل مرحلة من حياتنا
رهين دور يقبع في مؤخرة رؤوسنا يخلق محدودية في رؤية المشهد .يخلق جالدين ُك ثر وضحية واحدة هي نحن.
قبل عودة أخيها من ألمانيا ،كان قد سكن حكايتها في صورة األخ التراجيدي الذي قدمها لعالم القراءة ،على يده عرفت بودلير
وديكنز وكل ربات اإللهام الالئي صاغوا حياتها كشاعرة وكاتبة وأكاديمية ،سلب راجي عائلتها استقرارها لكنه منحها هاجسها
وتحققها ،لكن بعد عودة أخيها وعندما صارحته بدوره في حكايتها ،تقول:
بدا لي تافًها ال عالقة له باألدب ولم يعد يعرف عنه شيًئا حتى ما كان يقرؤه نسيه تماًما ،غريًبا تماًما كأنه قصة من بين
القصص ،قصة اختلقتها أنا نفسي في ذاكرتي
كانت تدرك جيًد ا في آخر العمر عندما تبادلت حكايتها بأدوارها التي كان فيها األب جالد واألم ضحية مع أخيها الذي وجد في
أبيه بعد سنوات رحمة وفي أمه شر أن الُمكاشفة قد تخاطر بكسر إطار حكايتها الخاصة ،تقول:
الرعب من أن يكون ثمن الحكاية التي يدفعني مراًر ا وتكراًر ا إلى حكيها من جديد هو أن تحطم إطارها ،وتنزاح
وتتالشى إلى األبد
كانت المكاشفة تقذفها من أمان حكاية اتخذتها موطًنا لسنوات ،لرؤية الحكاية خارج لعبة األدوار:
كنت أكتشف بمرور الوقت أنني ال أعرف أًيا منهم حتى أمه التي كان يحكي عنها بنفور لم أتوقعه ،هي أم أخرى ،لم
أعرفها ،كلما تكلم شعرت أنني مهددة بحكاياته ،بآرائه ،بنفوره ،كنت أشعر بتهديد أن تتحول حكاياتي التي عشتها
وأحببتها ،إلى مجرد غابة من الصور ،أسير فيها وحدي
4/7
لوحة للرسام جان أنطوان تيودور جيروست ()1788
تمنح فاطمة فخ األدوار ثقاًل بطبع النص بطابع المآسي اإلغريقية األوديبية ،خطأ طفيف في قراءة سطر واحد بأدوارنا يكفي
لتغيير المسرحية بأكملها ،توقن أن أباها مات ألنها طلبت من الرب موته ،وأن أمها ماتت ألن أخاها ادعى احتضارها ليتركه
الكفيل يعود لمصر ،في المآسي اإلغريقية يكفي خطأ لفظة في الدور المرسوم لنا لننال عقاًبا أبدًيا.
فخ الذاكرة
حرصت فاطمة أن تغلب الحقيقة في نصها على الشعرية ،فتتحول ضمادة األم األخيرة لمرتع ديدان وياسمين األب لحديقة
تستضيف أعقاب السجائر وأقفاًص ا فارغة ،فالذكريات السعيدة ال ُتطيل المكوث بل تسري عليها عوارض الزمن وتنتهي ألقبح
مما بدأت به.
تختار على الرغم من ذلك أن تبدأ حكايتها بتأمل علبة شوكوال قديمة باستغراب جمالية نجت من التداعي وعوارض الزمن:
أخمن أن سعادة ما ظلت تسكن هذه العلبة ،أخمن أنها تفوح منها وربما لهذا عاشت طوال تلك السنين وربما تظل في
مكان ما حتى بعد أن أموت
تبدو أقفاص فارغة بأكملها محاولة للنجاة بالتخفف من األثقال ،مثلما نجت علبة شوكوال بجمالية ما من فعل الزمن ،واألثقال في
تلك الحكاية هي الذكريات ،تقول:
كل ما كتبته على هذه األوراق كان مؤلًما ،لكنني كنت أتعافى منه في اليوم التالي ،أشعر أنني تحررت من ذكرى
وأحاول أن أتذكرها مرة أخرى فتتالشى كأنها تبخرت فور أن كتبتها
تعرف فاطمة جيًد ا متى ولدت الذاكرة لديها؟ كانت في اللحظة التي اعترفت فيها ألمها بما فعله آخرون بجسدها ،كان رد فعل
أمها قوًيا ،تعاهدا أن تخبرها بذلك لو حدث مرة أخرى وأدخلت األم الرب في العهد بحلفانها على المصحف ،فاكتسبت اللحظة
ُبعد تستدعاء المطلق ذاته لوجدان طفلة لم تدر بعد الخطأ في ما حدث ،تقول:
شيء جديد ينمو في قلبي ،شيء ثقيل ،أسميته في ما بعد مولد الذاكرة
5/7
تكتسب الذكرى في أقفاص فارغة استعارة الثقل وترتبط بفقدان البراءة ،فالبراءة رهينة الفردوس ،والفردوس ال نحمل عنه
ذاكرة ،إنما لحظة هبوطنا لألرض توثق بدء الذاكرة بلحظة السقوط نفسها كأول ذكرى.
عبر النص تستعيد فاطمة ذكريات ميكروسكوبية صغيرة مثل اشتهائها كطفلة للبسطرمة ،بينما أمها ال تملك ثمنها ،لذلك اقترن
االشتهاء طوال حياتها برائحتها
في طفولتها عندما جف ثدي األم األربعينية صنعت لها الزبادي على ضوء لمبة صغيرة ،تلك الذكرى الصغيرة صنعت فاطمة
الخمسينية التي أدمنت بدء يومها بالزبادي وتحسست دوًما من الضوء الساطع مكتفية بلمبة صغيرة.
التحدي األكبر في أقفاص فارغة أنها عملية تخفف من عبء الذاكرة لكن هويتنا منسوجة بعناية من ثوب الذاكرة ذاته ،خيوطه
األولى البكر صنعت الثوب الذي نرتديه اآلن ،لذلك التخفف قد يسحب خيوًط ا تنحل معها عروة كينونتنا بأكملها ،تعي فاطمة
المخاطرة:
ال أريد سوى أن أمسخ الذكريات إلى أصنام ،ثم أكسرها ثم أكنس التراب المتبقي منها وحتى ولو كنت أنا نفسي صنًما
من بين كل تلك األصنام
فخ الذاكرة هو أن التحرر منها يعني قبول أننا قد نفقد أنفسنا في خضم العملية نفسها.
وبعد قبولها الُمخاطرة نصل للمحطة األخيرة ،وهي بيع منزلها ،مسرح الدراما بأكملها ،االنسالخ التام من الفضاء المكاني الذي
يحمل بجماداته وجدرانه ثقل الذكرى ،هنا يحضر الشعر لنص روائي في صورة استعارة القط ماالرميه.
بدأ النص بطفلة تدفن قطها لتنبت مكانه زهرة خشخاش ساخرة ،وينتهي األمر بسيدة خمسينية ،يموت بجوارها قطها متأوًه ا
ومنكفًئا على ذاته بال حول والقوة مثلما مات أبوها مكشوف العورة في حمام المنزل ،عندها دعت اهلل أال تموت في هذا المنزل،
أال تموت في كنف الذكرى ،كان ماالرميه رسواًل شعرًيا ،حمل األمنية للرب واصطنع لها من االستعارة منزاًل بدياًل ،فتقول:
ماالرميه تعويذتي…أكاد أوقن أنه حمل ردائي الذي دثرته به بعد موته وألقاه بحركة تمثيلية ركيكة كأي كومبارس أمام
اهلل ليبلغه الرسالة:
هي ال تريد أن تموت هنا ،هل هذا مطلب عسير على إله؟
6/7
تصف فاطمة سفر الخروج من شبكة عائلتها القديمة مثل عنكبوت يخرج أخيًر ا عارًيا ،وفي فمه كل ذباب العالم ،يجري به،
الهًثا ومذعوًر ا.
في نص بديع تحرس فاطمة بأكاديميتها حكايتها من فخ ابتذال شعري يفسد صدق النص بخصوصية ُمصطنعة.
في نص بديع تجرد فاطمة بحذق لعبة السرد من التخيل الروائي فتكشف فخ األدوار وكيف تصنع سجون األدوار الخفية قراراتنا
وحكايتنا الظاهرة.
في نص بديع يبدأ بطفلة تقرأ الفاتحة بسذاجة بريئة لقط يموت ،وينتهي بسيدة خمسينية ُترسل بشعرية قًط ا للرب برسالة استغاثة
تقايض فيها ثقل الذكرى بحياة جديدة ،فتأتي الشاعرة أخيًر ا لتغلق باستعارة قوس حكاية بدأت كتحرر من الشعر وانتهت بمجاز.
يصعب أن نلوي عنق النص بحًثا عن عبرة ،عظة ،اقتباس ،هذا االختزال الكريه هو آخر ما تريده فاطمة ،أتذكر خالل قراءتي
لكتاب «كلبي الهرم» سرد «أسامة الدناصوري» لنص كتابه على فاطمة قنديل ،لتخبره أنها تراه اآلن بصورة جديدة لم تتخيلها
أبًد ا ،يمكننا أن نقول أننا نرى فاطمة وهي تخرج من المقبرة بصورة جديدة ،تعلن فردانيتها مثل فرع وحيد يرفض خدعة
االنتماء لشجرة اقتلعت منذ زمن طويل ،فردانية روح نظرت لميدوسا لكنها لم تتحول لحجر وعادت لتروي الحكاية.
7/7