Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 60

‫آداب طلب العلم‬

‫اآلداب لغةً ‪:‬‬

‫من األدب بمعنى الدّعوة ‪ ،‬كما يُقال في الوليمة الّتي يُدعى إليها ال ّناس ( مأدبة ) ‪ ،‬فاآلداب هي = ما‬
‫تدعو إليه العقول من مكارم األخالق ومحاسن ال ّ‬
‫شيم (‪. )1‬‬

‫ألن اآلداب طباع فهي خصال دائمة أو ّ‬


‫ألن محاسن‬ ‫وقيل هي من الدّأب وأصلها أدآب ‪ ،‬وذا إ ّما ّ‬
‫األخالق إ ّنما تحصل في الغالب مع ترويض ال ّنفس عليها ومداومة المجاهدة‪.‬‬

‫ث ّم استُعملت اآلداب لما يُستحسن تعلّمه وروايته من ال ّ‬


‫شعر والقصص واألخبار ونحو ذلك ‪...‬‬

‫ولذا جاء في "الموسوعة األدبيّة العالميّة" ‪ ( :‬الكلمة مختلفٌة في أصولها وتطورها‪ ،‬قيل إنها من‬
‫األدب بمعنى الدعوة إلى الوالئم‪ ،‬أو مفرد اآلداب – جمع دأب – بعد قلبها إلى آداب‪ ،‬وتدل على‬
‫رياضة النفس على ما يستحسن من سيرة وخلق‪ ،‬وعلى التعليم برواية الشعر والقصص واألخبار‬
‫واألنساب‪ ،‬وعلى الكالم الجيد من النظم والنثر وما اتصل بهما ليفسرهما وينقدهما ‪. )1( ) ...‬‬

‫ي‪:‬‬ ‫اآلداب في االصطالح ال ّ‬


‫شرع ّ‬
‫ّ‬
‫المنظمة لعالقات ال ّناس فيما‬ ‫شرع‪ ،‬وسواء في ذلك المبادئ والقيم‬ ‫هي األخالق الّتي يدعو إليها ال ّ‬
‫بينهم أو لعالقة اإلنسان مع سائر المخلوقات أو أخالقه مع خالقه ‪.‬‬

‫والرضا والتّعظيم والخوف ّ‬


‫والرجاء ونحو ذلك من‬ ‫ّ‬ ‫فاألخالق مع الخالق هي كاإلخالص والحبّ‬
‫أعمال القلوب الّتي تفصيل القول فيها هو موضوع ( علم ال ّ‬
‫سلوك والتّ ّ‬
‫صوف ) ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬في "لسان العرب" ‪ :‬أدب ‪ :‬األدب ‪ :‬الذي يتأدب به األديب من الناس ; سمي أدبا ألنه يأدب الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح ‪ .‬وأصل‬
‫األدب الدعاء ‪ ،‬ومنه قيل للصنيع يدعى إليه الناس ‪ :‬مدعاة ومأدبة ‪ .‬ابن بزرج ‪ :‬لقد أدبت آدب أدبا حسنا وأنت أديب ‪ ،‬وقال أبو زيد ‪ :‬أدب الرجل‬
‫يأدب أدبا ‪ ،‬فهو أديب ‪ ،‬وأرب يأرب أرابة وأربا ‪ ،‬في العقل ‪ ،‬فهو أريب ‪ .‬غيره ‪ :‬األدب ‪ :‬أدب النفس والدرس ‪ .‬واألدب ‪ :‬الظرف وحسن التناول‬
‫‪ .‬وأدب ‪ ،‬بالضم ‪ ،‬فهو أديب ‪ ،‬من قوم أدباء ‪ .‬وأدبه فتأدب ‪ :‬علمه ‪...‬‬

‫(‪ )2‬وتمام ال ّنصّ في "الموسوعة" ‪ ( :‬فكانت العلوم اللغوية تندرج تحت االسم‪ ،‬ثم أخذت تستقل بنضج كل منها ‪.‬فابن األنباري في "نزهة األلبا‬
‫في طبقات األدبا" يترجم للنحاة وللغويين والشعراء والكتاب‪ .‬وأطلق بعضهم األدب على التأليف عامة‪ ،‬فترجمياقوت الحموي في ((معجم‬
‫األدباء)) للمؤلفين في جميع أنواع المعرفة‪ .‬وأطلقه بعضهم على النظم والثقافات الضرورية لفئة من المجتمع‪ ،‬كما في كتب أدب الكتاب والوزراء‬
‫والقضاة وغيرها‪ ،‬وأدخل بعضهم فيه المهارات الخاصة‪ ،‬كالبراعة في اللعب بالشطرنج والعزف على العود‪ .‬ولألدب اآلن معنيان‪:‬‬
‫عام يدل على اإلنتاج العقلي عامة مدونا ً في كتب‪،‬‬
‫وخاص يدل على الكالم الجيد الذي يحدث لمتلقيه لذة فنية‪ ،‬إلى جانب المعنى الخلقي‪ .‬وكان األدب في الجاهلية شعراً‪ ،‬وخطباً‪ ،‬وانضم إليهما في‬
‫أواخر العصر األموي الكتابة الفنية ‪.‬وكان القدماء يصنفون الشعر‪ ،‬تبعا ً لموضوعاته‪ ،‬إلى فخر‪ ،‬وغزل‪ ،‬ومدح‪ ،‬وهجاء‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫والكتابة إلى رسائل ديوانية‪ ،‬وإخوانية‪ ،‬ومقامات‪ .‬واختلفوا في القصص‪ .‬وخضعت هذه التقسيمات كلها لتغيرات كبيرة‪ ،‬تبعا ً لالتصال العربي‬
‫باألدب الغربي‪ ،‬واتخاذ المفاهيم الغربية أساسا ً للتصنيف )‪.‬‬
‫والرقائق البن المبارك ووكيع وأحمد بن حنبل‬ ‫وهذا قد ألّف فيه علماء اإلسالم كتبًا ككتب ّ‬
‫الزهد ّ‬
‫سالكين وغيره البن القيّم والحكم العطائيّة‬
‫ي ومدارج ال ّ‬
‫ي وغيرهم ث ّم اإلحياء للغزال ّ‬
‫سر ّ‬‫وه ّناد بن ال ّ‬
‫ونحو ذلك ‪...‬‬

‫والرحمة والعفو واإلحسان ونحو ذلك من أعمال‬‫صدق ّ‬ ‫واألخالق مع المخلوقات هي كالكرم وال ّ‬
‫القلوب في معاملتها مع ال ّناس والدّوابّ ونحو ذلك م ّما تفصيل القول فيه هو موضوع ( علم اآلداب‬
‫واألخالق )‪.‬‬

‫ي ومكارم األخالق‬ ‫ضا ككتاب األدب المفرد للبخار ّ‬ ‫وهذا قد ألّف فيه علماء اإلسالم كتبًا مستقلّة أي ً‬
‫ي والمروءة البن المرزبان وكأدب‬ ‫ي وغيرهم وكاآلداب للبيهق ّ‬ ‫ّ‬
‫وللطبران ّ‬ ‫ي‬‫البن أبي الدّنيا وللخرائط ّ‬
‫خاص‬
‫ّ‬ ‫شرعيّة البن مفلح الحنبلي ‪ ،‬وألّف بعضهم في باب‬ ‫ي واآلداب ال ّ‬ ‫شافع ّ‬‫الدّنيا والدّين للماوردي ال ّ‬
‫لآلجري والتبيان في آداب‬
‫ّ‬ ‫صلة البن المبارك وأخالق حملة القرآن‬ ‫البر وال ّ‬‫من أبواب اآلداب ككتاب ّ‬
‫ضا وأدب المفتي والمستفتي للصيمري والخطيب‬ ‫ي أي ً‬
‫لآلجر ّ‬
‫ّ‬ ‫ي وكذا أخالق العلماء‬ ‫حملة القرآن لل ّنوو ّ‬
‫ضا وغيرهم الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع للخطيب وأدب‬ ‫ي أي ً‬ ‫صالح وال ّنوو ّ‬ ‫البغدادي وابن ال ّ‬
‫ي وغيرهم ‪...‬‬ ‫سمعان ّ‬ ‫اإلمالء واالستمالء البن ال ّ‬
‫‪...‬‬

‫ويقابل هذه األخالق القلبيّة ‪ :‬أحكام الفقه العمليّة الّتي موضوعها (علم الفقه والفروع ) ‪...‬‬

‫المجردة عن‬
‫ّ‬ ‫ألن موضوعه التّصديقات‬
‫ويقابل الجميع من جهة أخرى ‪ ( :‬علم االعتقاد واألصول ) ّ‬
‫األعمال المبنيّة عليها ‪...‬‬

‫صرف والبالغة وأصول الفقه وأصول التّفسير‬ ‫ويقابل ك ّل ذلك ( علوم اآلالت ) كاللّغة وال ّنحو وال ّ‬
‫صحيحة في األصول والفروع‬ ‫ألن موضوع هذه هو معرفة طرق الوصول إلى ال ّنتائج ال ّ‬ ‫ونحو ذلك ّ‬
‫واآلداب ‪ ،‬فعلوم اآللة = الوسائل ‪ ،‬وعلم األحكام في األصول والفروع واآلداب = الغاية‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫شرعيّة إلى علوم اآلالت وعلوم ال ّنتائج؛ أ ّما علوم اآلالت فتتعلّق بمعرفة األدوات‬ ‫تنقسم العلوم ال ّ‬
‫صل إلى فهم الوحي فهي تؤدّي إلى بيان مراد هللا ورسوله‪ ،‬وأ ّما‬ ‫ال ّنقليّة والعقليّة واللّغويّة الّتي بها يُتو ّ‬
‫علوم ال ّنتائج فهي المتعلّقة بمراد هللا ورسوله أي بفهم الوحي في ذاته وبيان األحكام‪ ،‬وهذه يمكن‬
‫تقسيمها بحسب متعلّقها؛ إذ ث ّمة أحكام ونتائج متعلّقة باالعتقاد وأخرى متعلّقة بالعمل‪ ،‬أ ّما المتعلّقة‬
‫باالعتقاد فهي =‬
‫‪ 1‬ـ علم العقيدة ‪ ،‬ويُس ّمى علم التّوحيد وعلم أصول الدّين والفقه األكبر ونحو ذلك من التّسميات‪ ،‬وهو‬
‫تُقابله ‪:‬‬
‫العلوم المتعلّقة بالعمل؛ وهذه منها ما يتعلّق بالعمل ّ‬
‫الظاهر وهو =‬
‫‪ 2‬ـ علم الفقه أو الفقه األصغر أو علم الفروع أو األحكام أونحو ذلك من التّسميات‪.‬‬
‫وهو منه =‬
‫‪ 3‬ـ علم الفقه المقارن و =‬
‫‪ 4‬ـ فقه ال ّنوازل والفتاوى و =‬
‫‪ 5‬ـ علم الفرائض‪.‬‬
‫ومنها ما يتعلّق بالعمل الباطن سواء مع الخالق وهذا =‬
‫صوف ـ وال مشا ّحة في االصطالح ـ ويس ّمى هو نفسه علم الباطن‪،‬‬ ‫الرقائق أو التّ ّ‬
‫سلوك أو ّ‬ ‫‪ 6‬ـ علم ال ّ‬
‫ونحو ذلك‪.‬‬
‫أو مع المخلوق وهذا =‬
‫صلة وآداب طلب العلم وآداب‬ ‫والبر وال ّ‬
‫ّ‬ ‫‪ 7‬ـ علم األخالق واآلداب‪ ،‬ومن ذلك اآلداب ال ّ‬
‫شرعيّة العا ّمة‬
‫المفتي والمستفتي ونحو ذلك ‪.‬‬
‫وم ّما يدخل في جميع هذه العلوم لحاجتها إليه =‬
‫‪ 8‬ـ علم التّفسير ‪ ،‬و =‬
‫‪ 9‬ـ علم شرح الحديث‪.‬‬
‫وأ ّما علوم اآلالت فمنها ما يتعلّق بأدوات ال ّنقل والثّبوت وهي علوم القرآن وعلوم الحديث‪ ،‬فعلوم‬
‫القرآن =‬
‫‪ 10‬ـ علم التجويد و =‬
‫‪ 11‬ـ علم القراءات و =‬
‫‪ 12‬ـ علم الوقف واالبتداء و =‬
‫‪ 13‬ـ علم أصول التّفسير و =‬
‫الرسم وضبط المصاحف و =‬ ‫‪ 14‬ـ علم ّ‬
‫علوم الحديث وهي ‪:‬‬
‫‪ 15‬ـ علم المصطلح و =‬
‫الرواية و =‬ ‫‪ 16‬ـ علم ّ‬
‫‪ 17‬ـ علم غريب الحديث و =‬
‫‪ 18‬ـ مختلف الحديث ومشكل اآلثار و =‬
‫‪ 19‬ـ علل الحديث و =‬
‫الرجال و =‬‫‪ 20‬ـ علم الجرح والتّعديل وتواريخ ّ‬
‫‪ 21‬ـ علم التّخريج ودراسة األسانيد ‪.‬‬
‫هذا مع علوم اللّغة العربيّة وهي‬
‫‪ 22‬ـ علم ال ّنحو و =‬
‫صرف و =‬ ‫‪ 23‬ـ ال ّ‬
‫‪ 24‬ـ البالغة و =‬
‫‪ 25‬ـ البيان و =‬
‫‪ 26‬ـ البديع و =‬
‫‪ 27‬ـ المعاني و =‬
‫‪ 28‬ـ العروض و =‬
‫‪ 29‬ـ القافية و =‬
‫‪ 30‬ـ االشتقاق و =‬
‫‪ 31‬ـ قواعد اللّغة و =‬
‫يو=‬ ‫‪ 32‬ـ األدب العرب ّ‬
‫‪ 33‬ـ المحاضرة والتّواريخ و =‬
‫شعر و =‬ ‫‪ 34‬ـ قرض ال ّ‬
‫‪ 35‬ـ اإلنشاء و =‬
‫‪ 36‬ـ الخط والهجاء‪.‬‬
‫يُضاف إلى ذلك العلوم العقليّة مثل =‬
‫‪ 39‬ـ علم الكالم‬
‫‪ 40‬ـ علم الفرق والمقاالت‬
‫‪ 41‬ـ علم الجدل‬
‫‪ 42‬ـ علم المنطق‬
‫‪ 43‬ـ علم المناظرة وآداب الخالف‬
‫كثيرا منها =‬
‫وم ّما يجمع علوم اآلالت أو ً‬
‫‪ 44‬ـ علم أصول الفقه وهو منه =‬
‫‪ 45‬ـ علم تخريج الفروع على األصول و =‬
‫شريعة و =‬ ‫‪ 46‬ـ علم مقاصد ال ّ‬
‫‪ 47‬ـ القواعد الفقهية و =‬
‫شرعيّة والحسبة والقضاء و =‬ ‫سياسة ال ّ‬‫‪ 49‬ـ ال ّ‬
‫‪ 50‬ـ تاريخ التّشريع ونشأة المذاهب‪.‬‬
‫ويُضاف إلى ذلك علوم التّاريخ كـ =‬
‫سير والمغازي و =‬ ‫‪ 51‬ـ علم ال ّ‬
‫‪ 52‬ـ فتوح األمصار و =‬
‫‪ 53‬ـ علم األنساب و =‬
‫ي‪.‬‬‫‪ 54‬ـ علم التّاريخ اإلسالم ّ‬
‫مصدريّة اآلداب ‪:‬‬

‫العقل يحكم بالتّحسين والتّقبيح لألشياء في المجمل ويتوقّف في التّفاصيل من ذلك حكمه في المبادئ‬
‫صدق وقبح الكذب في المجمل ويتوقّف في التّفاصيل كما في التّعريف‬ ‫والقيم ‪ ،‬فإ ّنه يحكم بحسن ال ّ‬
‫صدق وكذا هو ال‬‫ي للكذب مثال وكما في المواضع التي يجوز فيها الكذب أو يجب ويُمنع ال ّ‬ ‫التّفصيل ّ‬
‫صدق واجب أو‬ ‫صل إلى معرفة رتبة الذّ ّم بال ّنسبة للكذب هل هي الحرمة أو الكراهة فقط وهل ال ّ‬ ‫يتو ّ‬
‫مستحبّ فقط وهكذا ‪...‬‬

‫بمجرد العقل (‪ )1‬مع‬ ‫ّ‬ ‫ولذا يختلف الفالسفة في هذه التّفاصيل وغيرها ـ لخوضهم في منطقة التّفاصيل‬
‫أن العقول تشهد على نفسها بالقصور في هذه المنطقة ‪ ،‬وسواء ذلك في محور الكون أو محور‬ ‫ّ‬
‫بمجرد العقل أحكامه في محور المعرفة لكون الكالم هناك في مجمالت‬ ‫ّ‬ ‫المبادئ والقيم ‪ ،‬وإ ّنما يُستفاد‬
‫وكلّيّات وأ ّما تفاصيل األمور ومن ذلك في باب اآلداب واألخالق فال يفصل الخالف فيها ّإال الوحي‬
‫الر ُج ُل ا ْم َرأَتَهُ‬ ‫ي صلى هللا عليه وسلم‪ ( :‬ال َي ِحل ْال َكذ ُ‬
‫ِب إِال فِي ثَالث ‪ :‬يُ َح ِد ُ‬
‫ّث َّ‬ ‫وال ّنقل ‪ ،‬كما قال ال ّنب ّ‬
‫اس ) ‪ ،‬وكما كون المعاريض ليست من‬ ‫ص ِل َح َبيْنَ ال َّن ِ‬ ‫ب ‪َ ،‬و ْال َكذ ُ‬
‫ِب ِليُ ْ‬ ‫ِب فِي ْال َح ْر ِ‬‫ض َي َها ‪َ ،‬و ْال َكذ ُ‬
‫ِلي ُْر ِ‬
‫الرسول صلى هللا عليه وسلم وما ذكره من ال ّنصوص‬ ‫الكذب ‪ ...‬ولم يُعرف ذلك ّإال بال ّنقل وبيان ّ‬
‫الدّالّة عليه ‪ ،‬فإ ّنها (( ليحكم بين ال ّناس فيما اختلفوا فيه )) ‪ ،‬وهذا معنى قوله صلى هللا عليه وسلم ‪( :‬‬
‫إ ّنما بُعثت ألت ّمم مكارم األخالق ) ‪.‬‬

‫أن العرب كانوا يستحسنون مجمالت األخالق الحسنة كما هو األصل في العقالء‪ ،‬ولذا قال أبو‬ ‫وذلك ّ‬
‫صالة والصدق والعفاف والصلة ‪ ...‬ث ّم أت ّم‬ ‫ي صلى هللا عليه وسلم ‪ :‬يأمرنا بال ّ‬ ‫سفيان في وصف ال ّنب ّ‬
‫الوحي بيان تفاصيل ذلك وغيره م ّما ينفع المكلّفين العلم به من األخبار واألحكام الغيبيّة‪.‬‬

‫بالرأي والذّوق ‪،‬‬


‫مجرد العقل واالستحسان ّ‬
‫ّ‬ ‫أن المح ّكم في التّفاصيل هو ال ّنقل ال‬
‫صل هو ّ‬‫والمح ّ‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم مع المخالفين في مواضع الشدّة ورفقه بهم في‬ ‫ويظهر ذلك في تشدّد النب ّ‬
‫الرفق (‪ ،)2‬وال سبيل إلى معرفة هذا من هذا إال بنصوص شرعيّة وأصول توقيفيّة ‪ ،‬ولذا‬ ‫مواضع ّ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫أن هذا من‬ ‫الحق مع قصد الخداع كذبا مثل دريدا مثال‪ ،‬مع ّ‬ ‫ّ‬ ‫(‪ )1‬ولذا فمنهم من يشترط في الكذب قصد الخداع‪ ،‬ومنهم من يجعل قول‬
‫أن اعتقادنا صواب ما نقول ينفي الكذب ولو كان ما نقول خطأ مخالفا للحقيقة‬ ‫شرع‪ ،‬وأغسطين يذهب إلى ّ‬ ‫المعاريض المباحة في ال ّ‬
‫ألنّه يمنع أن يكذب اإلنسان على نفسه‪ ،‬وروسو يقسّم تقسيما على هذا النحو‪ :‬الكذب لصالح نفسه وهو مستحيل‪ ،‬الكذب لصالح غيره‬
‫ّ‬
‫تدليس‪ ،‬الكذب قصد إلحاق األذى بغيره وهو االفتراء‪ ،‬والكذب دون قصد جلب مصلحة أو إلحاق أذى به أو بغيره أو إخفاء حقيقة ال‬
‫يلزم التّصريح بها ال يعتبر كذبا بل هو تخيّل‪ ،‬فوفق تعاريف روسو لو أعطينا ماال مزيّفا لمن ليس له في ذ ّمتنا شيء فنحن لسنا كاذبين‬
‫أن كانط كان سيجعل هذا الخداع كذبا‪...‬‬ ‫برغم أنّنا خدعناه‪ ،‬في حين ّ‬
‫ي ﷺ على قومه وتح ّمل أذيّتهم وأمر هللا‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫وصبر‬ ‫جهة‪،‬‬ ‫من‬ ‫الجميل‬ ‫الهجر‬ ‫وهجرهم‬ ‫الجاهلين‬ ‫عن‬ ‫باإلعراض‬ ‫(‪ )2‬ولذا أمر هللا تعالى‬
‫أن لك ّل مقام مقام‪ ،‬لكون الحكمة هي وضع األمور في موضعها‪ ،‬ولذا‬ ‫تعالى بالدّفع بالّتي هي أحسن من جهة أخرى‪ ،‬والجمع يقتضي ّ‬
‫الحق‪ ،‬ويكون األقرب لذلك في حال آخرين هو العفو‬ ‫ّ‬ ‫الحق أو أقرب لرجوعهم هم إلى‬ ‫ّ‬ ‫يكون اإلعراض في ح ّق قوم أقرب إلعزاز‬
‫وحق هللا مقدّم‪ ،‬ولهذا قال اإلمام‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ألن ذكر هللا ووحيه معظم لذاته‪،‬‬ ‫الحق وصيانة العلم ّ‬ ‫ّ‬ ‫عنهم وتح ّمل أذاهم‪ ،‬والمطلب ال ُمقَدَّم هو ‪ :‬إعزاز‬
‫طأ" ‪ ،8‬ث ّم يليه ‪ :‬مطلب هداية‬ ‫طى في فضل المو ّ‬ ‫الرشيد ‪ِ " :‬إ َّن ْالع ِْل َم يُؤْ ت َى َو َال يَأْتِي" أخرجه ابن عساكر في "كشف المغ ّ‬ ‫مالك لهارون ّ‬
‫كرمنا بني آدم )) ‪ ،‬وفي‬ ‫النّاس ورجوعهم للحق‪ ،‬ث ّم يليه ‪ :‬مطلب حفظ الدّاعية لكرامته هو ‪ ،‬فهذا مطلوب أيضًا؛ قال تعالى ‪ (( :‬ولقد ّ‬ ‫ّ‬
‫ي ﷺ ‪ " :‬يَا‬ ‫أن إذالل النّفس والتّسبّب لها في األذى ليس ً‬
‫أمرا مطلوبًا لذاته؛ قال النّب ّ‬ ‫الحديث ‪ " :‬ال يح ّل للمؤمن أن يُذ ّل نفسه " ‪ ،‬وذلك ّ‬
‫ّ‬
‫صبر والتح ّمل‬ ‫ّ‬
‫صبِ ُروا "‪ ،‬وهذا الترتيب يقتضي استعمال طريقة ال ّ‬ ‫َّللاَ ْالعَافِيَةَ ‪ ،‬فَإِذا لقِيت ُموه ْم فا ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اس َال تَت َ َمنَّ ْوا ِلقَا َء ْالعَدُ ّ ِو َوا ْسأَلُوا َّ‬
‫أَي َها النَّ ُ‬
‫الردّ أو الهجر والتّباعد م ّمن ال يُرجى منه ذلك أو‬ ‫للحق‪ ،‬وطريقة ّ‬‫ّ‬ ‫ً‬
‫إعزازا‬ ‫المرجوة أيضًا‬
‫ّ‬ ‫فإن في هدايته‬ ‫مع من تُرجى هدايته بذلك ّ‬
‫العز بن عبد السّالم رحمه هللا ـ كما في (طبقات الشافعية البن السّبكى ‪ )8/245‬ـ ‪" :‬‬ ‫للحق‪ ،‬ولهذا قال ّ‬ ‫ّ‬ ‫صبر عليه إذال ٌل‬ ‫يُتوقّع من ال ّ‬
‫صواب أن يبذل جهده فى نصرهما ‪,‬وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما ‪ْ ,‬‬
‫وإن عز‬ ‫ً‬
‫ينبغى لكل عالم إذا أ ِذ ّل الحق وأخمِ ل ال ّ‬
‫الحق فظهر الصواب أن يستظل بظلهما وأن يكتفى باليسير من رشاش غيرهما " اهـ‪.‬‬
‫الميزان األكبر‪ ،‬وعليه تُعرض األشياء‬ ‫ُ‬ ‫سفيان بن عيينة ‪ :‬إن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم هو‬ ‫ُ‬ ‫قال‬
‫‪ -‬على ُخلُقه و ِسيرته وهديه ‪ -‬؛ فما وافقها فهو الحق‪ ،‬وما خالفَها فهو الباطل‪.‬‬
‫وأ ّما ما يسكت عنه ال ّنقل ويحيل فيه إلى العرف كما قال تعالى ‪ (( :‬خذ العفو وامر بالعرف )) ‪(( ،‬‬
‫عاشروهن بالمعروف )) وكما في حديث عائشة أن هند بنت عتبة قالت يا رسول هللا إن أبا‬ ‫ّ‬ ‫و‬
‫سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إال ما أخذت منه وهو ال يعلم فقال صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ ( :‬خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ) ‪ ...‬ونحو ذلك م ّما يد ّل على تحكيم العرف في‬
‫شرع إليه فيها ال لذات حكم العرف‪ ،‬فهو كما سكت العقل وأحال على‬ ‫بعض التّفاصيل هو إلحالة ال ّ‬
‫ضا من هذه الجهة‪ ،‬فكذا األحكام‬ ‫ال ّنقل في أصل التّفاصيل فتكون األحكام التّفصيليّة = عقليّة أي ً‬
‫شرع قد جاء إلبطال‬ ‫شرع عليها‪ّ ،‬‬
‫وإال فال ّ‬ ‫ضا من هذه الجهة إلحالة ال ّ‬ ‫العرفيّة هنا هي = شرعيّة أي ً‬
‫شرك والوأد ونحو ذلك ‪ ،‬قال تعالى ‪َ (( :‬وإِذَا قِي َل لَ ُه ُم اتَّ ِبعُوا َما‬ ‫سائد من ال ّ‬ ‫األحكام العرفيّة الفاسدة كال ّ‬
‫شيْئا ً َوالَ َي ْهتَدُونَ )) ‪ ،‬وقال‬ ‫َّللاُ قَالُواْ َب ْل َنتَّ ِب ُع َما أ َ ْلفَ ْينَا َ‬
‫علَ ْي ِه آ َباءنَا أ َ َولَ ْو َكانَ آ َبا ُؤ ُه ْم الَ َي ْع ِقلُونَ َ‬ ‫أَنزَ َل ّ‬
‫سبحانه ‪ (( :‬وإذا بشر أحدهم باألنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر‬
‫به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب أال ساء ما يحكمون )) (‪... )2‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــ‬
‫وإال فكم ترى ال ّن ُ‬
‫فوس‬ ‫الحق والباطل هو = منظار العلم والوحي‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫ويفرق به بين عموم‬
‫َّ‬ ‫سن األخالق من سيّئها‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫ّز‬ ‫ي‬‫يم‬ ‫الذي‬ ‫(‪ )2‬وعليه ف‬
‫ً‬ ‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مطلوب ال ّشرع فيما تطلبه لحظها‪ ،‬وكم تظن الح َسنَ فيما ترائي به ‪ ،‬وال ّسيّئ فيما يضادّ رغبتها‪ ،‬وكم تجعل االعتداء الظالم حقا وعدال ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫وجورا‪ ،‬وكم ت َـعُدّ الذلّة المذمومة تواضعًا محمودًا ‪ ،‬وكم يشتبه عليها العفو الذي يُرجى معه اإلصالح بالعفو‬ ‫ً‬ ‫كبرا‬
‫واالنتصار العدل ً‬
‫طغيان ‪ ،‬وكم تستبدل الشدّة في‬ ‫الذي يُمِ دّ صاحبه في ال ّ‬
‫بـالرفق واللّين في ذاك المكان ‪ ،‬وكم تقدّم ما ينبغي تأخيره وتؤ ّخر ما ينبغي له التّقديم ‪ ،‬وكم تجهل دقائق المعايير وتُعرض‬ ‫موضعها ّ‬
‫ي من شهواتها ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫والجل‬ ‫أهوائها‬ ‫إلى‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫بالر‬ ‫ّاتها‬ ‫ي‬‫بخف‬ ‫والعالم‬ ‫خالقها‬ ‫إلى‬ ‫االحتكام‬ ‫عن‬ ‫تستعيض‬ ‫ذلك‬ ‫في‬ ‫فهي‬ ‫‪،‬‬ ‫الموازين‬ ‫بمعايير‬ ‫عن العلم‬
‫شارع لم يكِلها إلى اضطراب ذلك فيها حتّى أتى بما يت ّمم مكارم األخالق ويُميّز معاليها من سفسافها ‪...‬‬ ‫فإن ال ّ‬
‫وإال ّ‬ ‫ّ‬
‫وأ ّما قوله تعالى ‪ ( :‬خذ العفو وامر بالعرف ) ـ أي ‪ُ :‬م ْر بما هو معروف عند النّاس وما يتّفقون على حسنه كما قال في اآلية األخرى (‬
‫س ٌن من العفو ومن سائر األخالق والعادات هو = العُرف ‪ ،‬لكن مح ّل ذلك هو‬ ‫أن ال ُمح ّكم لمعرفة ما هو ح َ‬‫وامر بالمعروف ) ـ فمعناه ّ‬
‫ألن الوحي هو المعصوم‪ ،‬وهو م ّما جاء به ‪ :‬تقويم أخطاء األعراف‬ ‫في المجمالت ال في التّفاصيل إذا خالف العُرف فيها الدّليل ‪ ،‬وهذا ّ‬
‫والعادات ؛ ومن ذلك تتميمه مكارم األخالق ‪...‬‬

‫صاص في سلوكهم وقبل ذلك في اعتقادهم هو استعمال اللّين‬ ‫الرائجة على كثير من عوام الوعّاظ والقّ ّ‬ ‫شائعة ّ‬ ‫وعليه فمن األخطاء ال ّ‬
‫وال لَهُ قَ ْوالً لَيِّنا ً‬
‫والرفق في الدّعوة في ك ّل األحوال ‪ ،‬وأشهر ما يحتجّون به على مطلق ذلك هو = قوله تعالى لموسى وفرعون (( ‪ :‬فَقُ َ‬ ‫ّ‬
‫حق غيره أولى كما قال بعض السّلف ل ّما أُغلظ عليه في النّصح فقال‬ ‫حق فرعون ففي ّ‬ ‫لَ َعلَّهُ َيتَذَ َّك ُر أ َ ْو َي ْخشَى )) فإذا كان هذا في ّ‬
‫وإال فاألمر‬ ‫وال لَهُ قَ ْوالً لَيِّنا )) ‪ّ ،‬‬
‫للنّاصح ‪ :‬لقد أرسل هللا من هو خير منك إلى من هو شر مني‪ ،‬أرسل موسى إلى فرعون فقال‪ ﴿ :‬فَقُ َ‬
‫ت‬‫س َم َاوا ِ‬ ‫ع ِلمْتَ َما أَنزَ َل هَـؤُالء ِإالَّ َرب ال َّ‬ ‫سى َم ْس ُحورا ً ‪ :‬قَا َل لَقَدْ َ‬ ‫ظنكَ َيا ُمو َ‬ ‫عو ُن ِإنِّي َأل َ ُ‬‫يختلف باختالف األحوال ؛ فإنّه ل ّما قال (( ف ِْر َ‬
‫عونُ َمثْبُورا )) والثبور = الهالك ‪ ،‬أي "إنّي أراك يا فرعون هال ًكا" ‪ ،‬فأين اللين ؟‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫صآئ َِر َوإِنِّي َأل َ ُ‬
‫ظنكَ يَا ف ِْر َ‬ ‫َواأل َ ْر ِ‬
‫ض بَ َ‬
‫ب الَنفَضواْ مِ ْن َح ْولِكَ فَاع ُ‬
‫ْف‬ ‫ظ ْالقَ ْل ِ‬ ‫ظا ً َ‬
‫غلِي َ‬ ‫َّللا لِنتَ لَ ُه ْم َولَ ْو ُكنتَ فَ ّ‬
‫ونحو ذلك يُقال في استداللهم بـ = قوله تعالى ‪ (( :‬فَ ِب َما َرحْ َمة ِ ّمنَ ّ ِ‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم للشدّة أيضًا في محلها والتغليظ على من يقتضي المقام اإلغالظ عليه‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ع ْن ُه ْم )) إذ معلوم بالضّرورة استعمال النّب ّ‬ ‫َ‬
‫الرحمة المطلقة والنّقمة‬ ‫‪ ...‬وك ّل ذلك متغيّر بحسب الحاجة إليه والمصلحة منه ‪ ...‬وذلك هو نهج العدل والحكمة المتوسّط بين نهجي ّ‬
‫والرفق هما األصل‬ ‫إن رحمتي سبقت غضبي ) ‪ ،‬واللّين ّ‬ ‫ي ‪ ( :‬أال ّ‬ ‫الرحمة هو سبقها كما في الحديث القدس ّ‬ ‫المطلقة ‪ ،‬وإنّما اإلطالق في ّ‬
‫وهما ما يُبدأ به قبل العناد والكبر‪...‬‬

‫ولذا قال ابن تيمية رحمه هللا ‪ ( :‬وأئمة السنة والجماعة‪ ،‬وأهل العلم واإليمان‪ ،‬فيهم العلم و العدل والرحمة ‪ ...‬كما قال تعالى‪ (( :‬كونوا‬
‫قوامين هلل شهداء بالقسط وال يجرمنكم شنآن قوم على أن ال تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )) ويرحمون الخلق‪ ،‬فيريدون لهم الخير‬
‫والهدى والعلم‪ ،‬ال يقصدون الشر لهم ابتدا ًء‪ ،‬بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم و جهلهم وظلمهم؛ كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة‬
‫الخلق واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪...‬‬

‫وكذا ما يُنسب لإلمام مالك رحمه هللا من قوله‪":‬إذا رأيت الرجل يدافع عن الحق فيشتم ويسبّ ويغضب‪ ،‬فاعلم أنه معلول النية؛ ألن‬
‫الحق ال يحتاج إلى هذا" هو = كالم مشتهر يتناقله العوا ّم‪ ،‬لكن ال يُعلم له أصل عن اإلمام وال عن غيره من العلماء وال هو في شيء‬ ‫ّ‬
‫شتم والسبّ إنّما يُنهى عنهما في غير محلّهما ؛‬
‫فإن ال ّ‬
‫من كتب أصحابه المعروفة وال غيرهم‪ ،‬وهو فيه نظر من جهة المعنى أيضًا ‪ّ ،‬‬
‫صحيح" من حديث عائشة قالت‪ :‬دخل على رسول هللا‬ ‫قال تعالى ‪ (( :‬ال يحبّ هللا الجهر بالسّوء من القول ّإال من ُ‬
‫ظلم )) ‪ ،‬وفي "ال ّ‬
‫ضا من حديث‬ ‫صحيح" أي ً‬ ‫ش ْيء َال أَد ِْري ما هو‪ .‬فأغضباه‪ .‬فلعنهما وسبّهما ‪ ...‬الحديث‪ ،‬وفي "ال ّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم َر ُج َال ِن فَ َكلَّ َماهُ بِ َ‬
‫صة عين تبوك ل ّما نهاهم صلى هللا عليه وسلم أن يمسّوا من مائها شيئا حتى يأتي قال ‪ :‬فجئناها وقد سبقنا إليها‬ ‫معاذ بن جبل في ق ّ‬
‫رجالن ‪ ...‬فسألهما رسول هللا صلى هللا عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئا ؟ قاال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فسبّهما النبي صلى هللا عليه وسلم وقال‬
‫صحيح" أيضًا عن ابن عمر عن النبي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ :‬إذا استأذنت أحدكم‬ ‫لهما ما شاء هللا أن يقول‪ ...‬الحديث‪ ،‬وفي "ال ّ‬
‫امرأته إلى المسجد فال يمنعها ‪ .‬قال ‪ :‬فقال بالل بن عبد هللا ‪ :‬وهللا لنمنعهن ‪ .‬قال ‪ :‬فأقبل عليه عبد هللا فسبه سبا سيئا ‪ ،‬ما سمعته سبه‬
‫ي بن كعب عنه‬ ‫مثله قط ‪ ،‬وقال ‪ :‬أخبرك عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وتقول ‪ :‬وهللا لنمنعهن ؟ وفي "المسند" من حديث أب ّ‬
‫صلى هللا عليه وسلم أنّه قال ‪" :‬من سمعتموه يدعو بدعوى الجاهلية فأعضوه بهن أبيه وال تكنوا" !!! وفي ذلك أيضًا قول أبي بكر‬
‫ظ َر الالَّتِ" وقول ابن عباس في نوف البكالي ‪ :‬كذب عدو هللا ‪ ...‬وهذا بك ّل حال = سبّ ‪ ،‬وفي‬ ‫ص بَ ْ‬ ‫ص ْ‬
‫لعروة بن مسعود ‪ ":‬ا ْم ُ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األحاديث غير ذلك كثير ‪ ،‬وإنما التحقيق أن ذلك مستعم ٌل في موضعه وما يُناسب المقام ‪ ،‬فإن الكالم وسيلة لمقصود‪ ،‬والمقصود قد ال‬
‫ألن ال ّ‬
‫ظالم‬ ‫يتأتّى ّإال بالتّغليظ والتّشديد‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ (( :‬وال تجادلوا أهل الكتاب إال بالتي هي أحسن إال الذين ظلموا منهم ))‪ ،‬فهذا ّ‬
‫للحق كما قال ال ّ‬
‫شاعر‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫المتجرد‬
‫ّ‬ ‫يغره في األكثر حلم الحليم عليه بخالف المنصف‬ ‫المتكبّر م ّما ّ‬

‫إن أ ْنتَ أ ْك َرمتَ اللّ َ‬


‫ئيم تَ َم ّردَا‬ ‫َريم َملَ ْكتَهُ‪َ ,‬و ْ‬
‫إذا أنتَ أ ْك َرمتَ الك َ‬

‫الحق كما قال تعالى ‪ (( :‬ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون ومإليه‬ ‫ّ‬ ‫ظلم والكبر إنّما يظهران في األكثر بعد إيضاح‬ ‫وال ّ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫فظلموا بها )) ‪ ،‬ولهذا أمر تعالى موسى وهارون قبل ذلك بأن يقوال له (( قَ ْوال ليِّنا لعَلهُ يَتَذَك ُر أ ْو يَ ْخشَى )) ‪ ،‬وإنّما هذا خطابهما قبل‬
‫ت‬ ‫ع ِلمْتَ َما أَنزَ َل هَـؤُالء ِإالَّ َرب ال َّ‬
‫س َم َاوا ِ‬ ‫سى َم ْس ُحوراً ‪ :‬قَا َل لَقَدْ َ‬ ‫عو ُن ِإنِّي َأل َ ُ‬
‫ظنكَ َيا ُمو َ‬ ‫مالحظة الكبر والعناد ‪ ،‬ولذا ل ّما قال (( ف ِْر َ‬
‫ألن ال ّرفق أدعى أن يردّ‬ ‫بالرفق به ّ‬ ‫مأمور ّ‬ ‫ٌ‬ ‫عو ُن َمثْبُورا ))‪ ،‬وفرعون قبل ذلك كسائر بني آدم‬ ‫ً‬ ‫صآئ َِر َوإِنِّي َأل َ ُ‬
‫ظنكَ يَا ف ِْر َ‬ ‫َواأل َ ْر ِ‬
‫ض بَ َ‬
‫للحق‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ (( :‬ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة‬ ‫ّ‬ ‫ضالّهم إلى أصل ما فُطر عليه من الخير وما ُجبل عليه من الخضوع‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) فهذا هو األصل قبل إيضاح الحق والحجّة ألنه ال يتبيّن قبل المحاقة والمحاجّة في‬
‫ظلم والكبر فالمأمور به غير ذلك م ّما هو مقتضى العدل والحكمة‪ ،‬وهو‬ ‫األكثر ظلم وال كبر وال عدل وال خضوع ‪ ،‬وأ ّما إذا تبيّن ال ّ‬
‫ألن الحكمة‬ ‫متغيّر بحسب الحال والحاجة ‪ ،‬وهذا المسلك لمن تأ ّمله = أعدل م ّما عليه أهل الكتاب من مطلق الخضوع أو مطلق االنتقام ّ‬
‫في هذا الباب هي اإلصالح مع حفظ حدود هللا وذلك ال يتأتّى بطريقة العفو دائ ًما وال بطريقة االنتقام دائ ًما‪ ،‬بل بما يكون مظنّة للحفظ‬
‫مع اإلصالح‪ ،‬وذلك من معاني تقييد العفو باإلصالح في مثل قوله تعالى ‪ (( :‬وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على هللا‬
‫إنه ال يحب الظالمين ))‪.‬‬

‫ي صلى هللا عليه وسلم في آخر حديث عائشة ‪" :‬اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجرا "‬ ‫وأ ّما قول النّب ّ‬
‫أن الفاعل لم يكن مستأهالً ّ‬
‫للردّ ‪ ،‬وإن كان‬ ‫فاألقوى أنّه مقول خوفًا من المبالغة في العقوبة وتوقّيًا من تسلّل ح ّ‬
‫ظ النّفس في ّ‬
‫الردّ ال ّ‬
‫الرواية األخرى فقال ‪" :‬فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل ‪ ، "...‬فإنّه نفى أن‬ ‫صلى هللا عليه وسلم قد نفى ذلك في ّ‬
‫الرواية من قوله ‪ " :‬انما أنا بشر‬‫ي أصل االستئهال واالستحقاق ‪ ،‬ويؤيّده ما وقع في ذات ّ‬ ‫ّ‬ ‫المنف‬ ‫يكون مستأهال للعقوبة بتمامها ‪ ،‬وليس‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ارضى كما يرضى البشر واغضب كما يغضب البشر ‪ " ...‬الحديث‪ ،‬فدل أنه للتوقي من حظ النفس‪ ،‬وإال فإنه صلى هللا عليه وسلم ما‬
‫كان يغضب إال هلل في األصل كما قالت هي أيضًا في الحديث اآلخر ‪ :‬كان خلقه القرآن‪ ،‬يسخط لسخطه‪ ،‬ويرضى لرضاه‪ ،‬ال ينتقم‬
‫لنفسه‪ ،‬وال يغضب لها إال أن تنتهك حرمات هللا‪ ،‬فيغضب هلل‪.‬‬

‫أن الغضب ال يُذ ّم بإطالق‪ ،‬بل الغضب هلل = مأمور به‪ ،‬وهو عالمة على حبّ هللا ورسوله وما جاء به من‬ ‫وهذا وغيره يد ّل أيضًا ّ‬
‫بوب البخاري في صحيحه‪ ( :‬باب ما يجوز من الغضب والشدة ألمر هللا ) وذكر فيه قول هللا تعالى ‪ ((:‬جاهد الكفار‬ ‫الحق ‪ ،‬ولذا ّ‬‫ّ‬
‫والمنافقين واغلظ عليهم )) [التوبة‪ .]73 :‬وأسند فيه أحاديث‪ ،‬منها‪ :‬عن عائشة أيضًا قالت‪ :‬دخل علي النبي صلى هللا عليه وسلم وفي‬
‫البيت قرام فيه صور‪ ،‬فتلون وجهه ثم تناول الستر فهتكه ‪ ،‬وعن أبي مسعود قال‪ :‬أتى رجل النبي صلى هللا عليه وسلم فقال‪ :‬إني‬
‫ألتأخر عن صالة الغداة‪ ،‬من أجل فالن مما يطيل بنا‪ ،‬قال‪ :‬فما رأيت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه‬
‫يومئذ‪.‬‬
‫ي قوله ‪ ” :‬من‬‫ّ‬ ‫افع‬ ‫ّ‬
‫ش‬ ‫ال‬ ‫عن‬ ‫يؤثر‬ ‫ولهذا‬ ‫‪،‬‬ ‫ورسوله‬ ‫هللا‬ ‫أمر‬ ‫مخالفة‬ ‫من‬ ‫إليه‬ ‫ّي‬ ‫د‬ ‫يؤ‬ ‫ما‬ ‫بحسب‬ ‫ّ‬
‫إال‬ ‫ًا‬
‫ض‬ ‫أي‬ ‫لذاته‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫ُذ‬ ‫ي‬ ‫ال‬ ‫فس‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫لل‬ ‫الغضب‬ ‫بل‬
‫ب ولم يغضب فهو حمار ”‪ .‬وفي األثر ‪ " :‬ثالثة من كن فيه استكمل اإليمان ‪ :‬من إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق ‪،‬‬ ‫غض َ‬
‫است ِ‬‫ُ‬
‫ومن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظلم‪...".‬‬

‫ّ‬
‫للحق‬ ‫ّ‬
‫للحق هو االنتقام‬ ‫للحق على فساد النيّة واعتاللها = خطأ محض‪ّ ،‬‬
‫فإن قصارى ما يؤدّي إليه الغضب‬ ‫ّ‬ ‫وكذلك االستدالل بالغضب‬
‫حق‪ ،‬وذلك معصية ‪ ،‬لكنّه ال يد ّل على فساد النيّة الحتمال الجهل أو اإلغالق وما أشبه‪...‬‬
‫بغير ّ‬

‫أن هذا الكالم المنقول عن اإلمام رحمه هللا بعيد عن أصوله وأصول غيره من العلماء ّإال أن يوجّه بـ = جعل السبّ في‬ ‫وبهذا يتبيّن ّ‬
‫ّ‬
‫مجرد قرينة على ذلك بحيث إذا احتفت‬
‫ّ‬ ‫غير محلّه مع الغضب المبالغ فيه = عالمة على الخلل في النيّة ‪ ،‬فيكون المقصود كون ذلك =‬
‫بها قرائن أخرى ـ كتعيير الخصم بمظلمة ( شخصيّة ) له عليه ونحو ذلك ـ قد يد ّل مجموعها على ذلك الخلل كاالنتصار للنّفس‬
‫شتم والغضب فال يبلغان أن يكونا ً‬
‫دليال عليه كما تقدّم ‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬ ‫مجرد ال ّ‬
‫ّ‬ ‫وكالرياء ونحو ذلك ‪ ،‬أ ّما‬
‫ّ‬
‫أولويّة اآلداب ‪:‬‬

‫ألن ّ‬
‫الطلب‬ ‫الطلب‪ ،‬وذا ّ‬ ‫ي ههنا ـ إ ّنما تكون بتعلّمه آداب ّ‬ ‫البداية للمتعلّم ـ الّذي هو طالب العلم ال ّ‬
‫شرع ّ‬
‫تحرى له أحسن‬ ‫هو = البحث ‪ ،‬والعلم = أمر نفيس بمثابة = الكنز ‪ ،‬والبحث عن الكنز ال بدّ أن ت ُ ّ‬
‫الطالب إلى مبتغاه أو ال يقدّر األمر‬‫وإال وقع في فوضى فال يصل ّ‬ ‫الخطط ‪ّ ،‬‬ ‫الطرق وتُرسم له أفضل ِ‬ ‫ّ‬
‫قدره فيضيع الكنز‪.‬‬

‫ّ‬
‫والطرق ّأوال ّ‬
‫وإال وضع كنزه‬ ‫وكذا على المعلّم الّذي هو باذل العلم أن يكون على علم بتلك اآلداب‬
‫في غير موضعه أو بذله لمن ال يستحقّه وفي ذلك إهـانة للعلم أو إضاعة له أصال‪.‬‬

‫شجر ال بدّ أن يبدأ بمعرفة مكان الغرس ووقته‬ ‫شجرة ‪ ،‬وغارس ال ّ‬


‫أن العلم هو كال ّ‬
‫ضا ّ‬
‫يبيّن ذلك أي ً‬
‫وطريقته وما يتبع ذلك من ظروف الغرس ‪ّ ،‬‬
‫وإال لم يُنتفع بثمار شجرته أو لم تُثمر أو لم تنبُت أصال‬
‫‪...‬‬

‫ولذا جاء في "سنن ابن ماجه" ‪ 224‬من حديث أنس بن مالك قال قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫" ‪ ...‬وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب‪." .‬‬

‫لكن معناه صحي ٌح ثابتٌ‬ ‫سند ألجل حفص بن سليمان وشيخه كثير بن شنظير‪ّ ،‬‬ ‫وهذا الحديث واهي ال ّ‬
‫سالم بمعناه بلفظ ‪" :‬‬ ‫شريعة ‪ :‬وقد جعله الغزالي في اإلحياء " ج‪1‬ـ‪ 49‬من كالم عيسى عليه ال ّ‬ ‫في ال ّ‬
‫ال تعلقوا الجواهر في أعناق الخنازير فإن الحكمة خير من الجوهر ومن كرهها فهو شر من‬
‫الخنازير " ‪ ،‬ث ّم استد ّل على ص ّحة المعنى المذكور بقوله تعالى‪َ ( :‬وال تُؤْ تُوا السفَ َها َء أ َ ْم َوالَ ُكم ) فحفظ‬
‫ضا الحديث اآلخر الّذي فيه ‪ " :‬ال‬ ‫ويضره أولى‪ ،‬قلتُ ‪ :‬ويُغني عن هذا الحديث أي ً‬ ‫ّ‬ ‫العلم م ّمن يُفسده‬
‫ار " ‪ ،‬وهذا قد‬ ‫ار ال َّن َ‬‫سفهاء) ‪ ...‬فَ َم ْن فَعَ َل ذَلِكَ فَال َّن َ‬
‫تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ‪ ،‬وال تماروا به (ال ّ‬
‫سنه األلباني في صحيح ابن ماجه رقم ‪.208 :‬‬ ‫ح ّ‬

‫ي ‪ " :‬فال ينبغي أن يفشي العالم كل ما يعلم إلى كل أحد هذا إذا كان يفهمه المتعلّم ولم‬ ‫ولهذا قال الغزال ّ‬
‫سالم ‪ ،‬وهو قد رواه‬ ‫يكن أهال لالنتفاع به فكيف فيما ال يفهمه؟ " ‪ ،‬ث ّم ذكر كالم عيسى عليه ال ّ‬
‫سالم قال ذلك كما في "جامه بيان العلم" ‪ 1،450‬وغيره ‪ ،‬وفي‬ ‫أن عيسى عليه ال ّ‬ ‫عكرمة ّ‬
‫"إن لهذا العلم ثم ًنا‪ ،‬قيل‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬أن‬
‫ضا لكن من قوله هو ‪ّ :‬‬ ‫"اإلحياء"‪1‬ـ‪ 11‬منسوبًا لعكرمة أي ً‬
‫ضعَه في َمن يُحسن َح ْملَه وال يض ِّيعه‪".‬‬
‫تَ َ‬

‫إذالال للعلم وإهانة له؛ فلذا قال الشافعي‪" :‬من إذالل العلم أن‬ ‫ً‬ ‫وألن في بذل العلم لمن ال يستحقّه‬ ‫ّ‬ ‫قلتُ ‪:‬‬
‫تناظر كل من ناظرك‪ ،‬وتقاول كل من قاولك" كذا في "مناقبه" للبيهقي(‪ .)151/2‬وقال ابن وهب‬
‫الرجل بالعلم عند من ال يُطيعه " ذكره الخطيب في‬ ‫سمعت مالكا ً يقول ‪ " :‬ذ ٌّل و إهانةٌ للعلم ‪ ،‬إذا تكلّم ّ‬
‫"إن من إذالة العالم أن يجيب ك ّل‬ ‫"الفقيه و المتفقّه" ( ‪ )53/2‬وغيره‪ .‬وذكر في ‪ : 418/2‬قال مالكٌ ‪ّ :‬‬
‫الراوي" ‪ 298/1‬عن مح ّمد بن قدامة‬ ‫يجيب ك ّل من سأله" وذكر في "الجامع ألخالق ّ‬ ‫َ‬ ‫من كلَّمه ‪ ،‬أو‬
‫قال ‪ " :‬سمعتُ أبا أسامة يقول ‪" :‬إ ّني ألغار على الحديث كما يُغار على الجارية الحسناء‪" .‬‬
‫مرة قال‪" :‬ال تحدِّث الباطل لل ُح َك َماء فيمقتوك‪ ،‬وال‬
‫ي ‪1‬ـ‪ 1177‬عن كثير بن َّ‬ ‫وفي "سنن" الدّارم ّ‬
‫لح ْك َمة للسفهاء فيكذِّبوك‪ ،‬وال تمنع العلم أهله فتأثم‪ ،‬وال تضعه في غير أهله فتجهل‪َّ .‬‬
‫إن عليك‬ ‫تحدِّث ا ِ‬
‫إن عليك في مالك حقًّا‪" .‬‬‫في علمك حقًا‪ ،‬كما َّ‬

‫وعليه فمن األخطاء الشائعة = تدريس العلم قبل تدريس آداب طلبه ‪ ،‬إذ ال بدّ ّأوال من معرفة‪:‬‬
‫ـ آداب التّعلّم والتعريف بالقصد منه ومعرفة شأنه وشأن حملته وحقوقهم وطرق األخذ عنهم ونحو‬
‫صحيح له من دونه ‪ ،‬ولذا‪:‬‬ ‫ذلك م ّما ال يمكن التّحصيل المثمر للعلم وال التّناول ال ّ‬

‫علَ ْي ِه ‪ ،‬فَقَا َل لَهُ زَ ْيدٌ ‪:‬‬ ‫ش ْيء فَ َخلَ َ‬


‫ط َ‬ ‫سأَلَهُ َ‬
‫ع ْن َ‬ ‫عجْ النَ إِلَى زَ ْي ِد ب ِْن أ َ ْسلَ َم فَ َ‬ ‫قال َما ِلك رحمه هللا ‪َ :‬جا َء اب ُْن َ‬
‫ا ْذهَبْ فَتَ َعلَّ ْم َكي َ‬
‫ْف تَ ْسأ َ ُل ‪ ،‬ث ُ َّم تَ َعا َل فَ َ‬
‫س ْل‪.‬‬
‫سامع ‪. 2133 /1‬‬ ‫الراوي وآداب ال ّ‬ ‫الجامع ألخالق ّ‬

‫وقال مالك لفتًى من قريش ‪ " :‬يا ابن أخي ! تعلَّم األدب قبل أن تتعلَّم العلم"‬
‫الحلية ‪. 3300/6‬‬

‫ـ وقال مالك ‪" :‬كانت أمي تعممني وتقول لي‪ :‬اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه"‪.‬‬
‫ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض ‪. 45/1‬‬

‫أكثر مما تعلّمنا من علمه‪" .‬‬ ‫ـ وقال عبد هللا بن وهب رحمه هللا‪" :‬ما تعلَّمنا من أد ِ‬
‫ب مالك ُ‬
‫سير أعالم النبالء ‪1133/8‬‬
‫‪.‬‬
‫ـ وقال عبد هللا بن المبارك رحمه هللا‪" :‬طلبت األدب ثالثين سنة‪ ،‬وطلبت العلم عشرين سنة‪ ،‬وكانوا‬
‫يطلبون األدب قبل العلم‪".‬‬
‫غاية النهاية في طبقات القراء البن الجزري ‪.4466/1‬‬

‫ـ وقال أيضا ‪" :‬كاد األدب يكون ثلثي العلم" ‪.‬‬


‫صفة الصفوة ‪.1455/4‬‬

‫ـ وقال أيضا ‪" :‬نحن إلى قليل من األدَب أحو ُج منا إلى كثير من العلم‪".‬‬
‫مدارج السالكين ‪. 3766/2‬‬

‫ـ وقال الزهري رحمه هللا ‪ُ " :‬كنا نَأ ِتي ال َعا ِلم ‪ ،‬فَ َما َنتَعل ُم ِمن أدَب ِه أ َحب إلينَا ِمن ِع ِلمه "‪.‬‬
‫اإلسالم ‪.240/8‬‬
‫ِ‬ ‫ت َِاري ُخ‬

‫وعن علي بن جعفر قال‪ :‬أخبرنا إسماعيل ابن بنت السدي‪ ،‬قال‪ :‬كنت في مجلس مالك أكتب عنه‪،‬‬
‫ي وابن مسعود ؟ فأومأ إلى‬ ‫سئل عن فريضة‪ ،‬فأجاب بقول زيد بن ثابت‪ ،‬فقلتُ ‪ :‬ما قال فيها عل ّ‬ ‫ف ُ‬
‫ص ْرتُهم وحاصروني‬ ‫ال َح َجبة‪ ،‬فلما ه ّموا بي عدَوتُ وأعجزتهم ( أي هربت )‪ ،‬وفي رواية ‪َ :‬حا َ‬
‫ي مالك ‪ ،‬فَلَ َّما أراد أن ينصرف ‪ ،‬قَا َل لَهُ ال َح َجبةُ ‪ :‬ما نعم ُل‬ ‫ت ِمحْ َبرتي ب ُكت ُ ِبي َبيْنَ َيدَ ْ‬
‫فأ ْع َج ْزتُهم‪ ،‬و َب ِق َي ْ‬
‫ْ‬
‫سوء َحتَّى تُأتُوني ِب ِه‬ ‫ومحْ برته ‪ ،‬فَقَا َل ‪ :‬اطلبوه برفق‪ ،‬وفي رواية ‪ :‬اطلبوه َوال تهيجوه ب ُ‬ ‫الر ُجل ِ‬ ‫ب ُكتب َّ‬
‫ي فرفقوا بي َحتَّى جئت معهم ‪ ،‬فَقَا َل لي ‪ :‬من أَيْنَ أ َ ْنت ؟ فقلتُ ‪ :‬من أهل ْال ُكوفَة ‪ ،‬فَقَا َل لي‬ ‫‪ ،‬فجاءوا ِإلَ َّ‬
‫خلفت األدب ؟ قَا َل ‪ :‬قُ ْلتُ ‪ِ :‬إ َّن َما ذا َك ْرتُك‬ ‫‪ :‬إن أهل ْال ُكوفَة قوم معهم معرفة بأقدار العلماء ‪ ،‬فأين َّ‬
‫علَى قول زَ يْد ‪َ ،‬و ِإذَا كنتَ َب ْينَ‬ ‫ألستفيد ‪ ،‬فَقَا َل ‪ :‬إن عليًّا ‪ ،‬وعبد َّ‬
‫َّللا ال يُن َك ُر فضلهما ‪ ،‬وأه ُل بلدنا َ‬
‫ظ ْه َرا َن ْي قوم فال تبدأهُم بما ال يعرفون فيبدأَك منهم ما تكرهه‪.‬‬ ‫َ‬
‫تاريخ دمشق ‪ ، 317/71‬سير أعالم ال ّنبالء ‪.1777/11‬‬
‫وقال الحسين بن إسماعيل ‪ :‬سمعت أبي يقول‪ :‬كنا نجتمع في مجلس اإلمام أحمد زهاء على خمسة‬
‫آالف أو يزيدون‪ ،‬أقل من خمسمائة يكتبون‪ ،‬والباقي يتعلمون منه حسن األدب‪ ،‬وحسن السمت‪.‬‬
‫اآلداب الشرعية ‪.122/2‬‬

‫للطالب تكون بتعلّم اآلداب‪ ،‬لكون اآلداب هي = مبادئ وأصول وكلّيات فيكون‬ ‫أن البداية ّ‬
‫صل ّ‬ ‫والمح ّ‬
‫سائر على غير طريق ‪ ،‬فالتّنظير يسبق التّطبيق وإال فهل تجاوزنا‬ ‫سائر إلى الهدف من دونها كال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫الغرب إال بالتّنظير وتقديم الحسابات ولو لما بعد سنين؟‬

‫الحق تعالى ‪ (( :‬فاعلم أ ّنه ال إله ّإال هللا )) ‪ ،‬فبدأ‬


‫ّ‬ ‫وهذا األصل هو في ديننا أصال ففي القرآن قول‬
‫بالعلم‪ (( ،‬وقال الّذين أوتوا العلم واإليمان )) فقدّم العلم وهكذا ‪...‬‬

‫بل هذا ما يقتضيه العقل قبل ك ّل ذلك ّ‬


‫وإال فالعالم باألمر يمكنه محاولة العمل والتّطبيق بخالف العامل‬
‫فإن هذا في ظلمة وفوضى فال يصل ما دام هكذا‪ ،‬بل هو‬ ‫بدون علم وال تأصيل وال تنظير صحيح؛ ّ‬
‫ي أصل يسير ؟‬‫وإال فأين مصباحه وما طريقه وعلى أ ّ‬ ‫يهلك قبل ذلك ّ‬

‫ي واالزدهار رغم كفره ؟‬


‫للرق ّ‬
‫فصل ‪ :‬لماذا وصل الغرب ّ‬

‫جعل هللا تعالى اتّخاذ األسباب موصال لل ّنتائج‪ ،‬فلل ّنتائج أسباب معقولة يتوقّف وجودها على وجودها‬
‫ويترتّب على عدم وجود األسباب عدم وجود تلك ال ّنتائج‪ ،‬وهذا كما جعل تعالى ال ّنار سببا لإلحراق‬
‫سعي واتّخاذ األسباب نفسه سبب الوصول وبلوغ‬ ‫والماء سببا لإلرواء ونحو ذلك‪ ،‬فكذا هو قد جعل ال ّ‬
‫سليم ووضع األسس وتحديد أسباب الوصول‬ ‫وأول األسباب ههنا هو التّخطيط ال ّ‬ ‫األهداف والغايات‪ّ ،‬‬
‫نفسها وحسن تنظيمها وترتيبها‪ ،‬وهذا قد بلغ فيه الغرب الغاية كما يُرى في حساباتهم المستقبليّة‬
‫واستباقهم األوضاع وقراءتهم لألحداث وعنايتهم بالدّراسات لغاية رسم األسباب المناسبة لك ّل وضع‬
‫محتمل مع قدر كبير من األمانة والعدل في ك ّل ذلك بحيث تتوافر ال ّنزاهة وتضعف األنانيّة وتق ّل‬
‫فإن الغالب عليهم تغليب المصلحة العليا‬ ‫ي ونحوه لدى هؤالء ّ‬ ‫شخصيّة ويندر الفساد المال ّ‬ ‫الحسابات ال ّ‬
‫وتحكيم العقل واالستناد إلى التّجارب واالنتفاع بالتّاريخ وكذا بسائر العلوم مع ازدهارها لديهم‪ ،‬هذا‬
‫ضا في التّطبيق والتّنفيذ بخالف من يغيب لديه األمران فال هو صاحب تخطيط‬ ‫مع نزاهة مماثلة أي ً‬
‫وتنظيم وال هو صاحب نزاهة وأمانة كحال المسلمين اليوم إذ حال المسلمين اآلن = فوضى عارمة‬
‫مع أنانيّة بالغة‪ ،‬والحال قبل ذلك = إعراضهم عن مثل هذا التّشخيص جهال وتجاهال‪ ،‬وذا لضعف‬
‫سعي للتّشخيص وحسن‬ ‫صدق واإلخالص واإليثار واألمانة ونحو هذه المعاني الّتي تبعث على ال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫يحث على‬ ‫ّ‬ ‫التّخطيط ث ّم تحدو للقيام باإلصالح وحسن التّنفيذ‪ ،‬ومعلوم ّ‬
‫أن دين اإلسالم هو أكثر من‬
‫تلك المعاني بل هي روحه ولبّه لكون المنطلق فيه هو توحيد هللا وطاعته واالستسالم ألمواره‬
‫صرفة عن تلك المعاني‪ ،‬ولذا فبقدر اإليمان والعمل باإلسالم تحصل تلك األسباب‬ ‫ومجاهدة األهواء ال ّ‬
‫سك بالدّين يتخلّف‬‫ي في الدّنيا مع فوز أعظم في اآلخرة‪ ،‬وبقدر ضعف اإليمان وقلّة التّم ّ‬‫للرق ّ‬
‫فيوصل ّ‬
‫ضا‪ ،‬ولذا‬‫المسلمون ويضعف شأنهم في الدّنيا مع عقاب على عصيانهم وتفريطهم في اآلخرة أي ً‬
‫سك بتلك المعاني ويتّخذ تلك األسباب يفوز في الدّنيا فقط وهو في اآلخرة من‬ ‫فالكافر الّذي يتم ّ‬
‫الخاسرين ‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫سك بالدّين خالفًا لما يعتقده عوا ّم المتديّنين‬ ‫سبب انحطاط المسلمين ليس هو نفس عدم التّم ّ‬
‫واإلسالميين وإ ّنما الخلل أعمق من ذلك والمرض أخطر‪ ،‬فإ ّنه كائن في = مبادئ األمور وطرق‬
‫سبب الّذي‬ ‫صرف وأساليب التّنظيم والتّفكير أصال‪ ،‬فهنا جذور المسألة وعروقها وهو ال ّ‬ ‫التّعايش والتّ ّ‬
‫نتج عنه الفساد الموجود‪ ،‬كما يد ّل على ذلك شمول اإلشكال جميع المجاالت الّتي مجال التّديّن =‬
‫المشوه لدى البعض وظاهرة ترك التّديّن أصال لدى‬ ‫ّ‬ ‫مجال منها فقط ‪ ،‬وهذا مثل ظاهرة التّديّن‬
‫فإن الخلل غير قاصر على ذلك كما يُرى في انتشار الفساد العا ّم واالنحطاط في أمور‬ ‫آخرين‪ّ ،‬‬
‫ي ونحو‬ ‫ي والص ّحي والبيئ ّ‬ ‫ي والثّقاف ّ‬
‫ي واالجتماع ّ‬ ‫ي واالقتصاد ّ‬ ‫سياس ّ‬ ‫ضا كما في الجانب ال ّ‬ ‫المعاش أي ً‬
‫سبب العميق واألصل المتجذّر الّذي هو = الخلل في التّفكير‬ ‫ذلك م ّما كلّه ناج ٌم ع ّما ذكرت من ال ّ‬
‫ساذجة واألمراض القلبيّة المزمنة ‪ ،‬فالقضيّة = قضيّة عقليّة وروحيّة قبل‬ ‫وسوء التّنظير والعقليّات ال ّ‬
‫أن تكون دينيّة شرعيّة ‪ ،‬ولذا ع ّمت فروعها شتّى المجاالت وطالت آثارها أدنى األمور كما يُرى‬
‫صور ذلك وتش ّكلها في مثل إخالف المواعيد والفوضى العارمة في حركات المرور واالنتصاب‬
‫شوارع وغير ذلك كثير إلى أن يصل األمر إلى‬ ‫ي للباعة وإلقاء القمامات واألوساخ في ال ّ‬ ‫العشوائ ّ‬
‫يستحق التّنصيب وطرق المحاورات‬ ‫ّ‬ ‫الراقية إلى غير أهلها وتنصيب من ال‬ ‫توسيد األمور ّ‬
‫سليم ونحو ذلك كثير م ّما حاله‬ ‫والمشاورات والفوضى الفكريّة والتّ ّلوث الثّقافي وغياب التّخطيط ال ّ‬
‫أن ما يأخذه عا ّمة‬ ‫لدى الغرب على ال ّنقيض من حاله ذلك لدى المسلمين‪ ،‬ث ّم إذا زاد اللّبيب تأ ّمال يرى ّ‬
‫ي‬ ‫ي لديهم من ال ّنفعيّة والبراغماتيّة والفراغ ّ‬
‫الروح ّ‬ ‫سلب ّ‬‫المسلمين من الغرب اآلن هو الجانب اآلخر ال ّ‬
‫أن أصل الدّاء = علّة مر ّكبة من ذهاب العقل وفساد‬ ‫واإلسراف في تعظيم المادّة ونحو ذلك ‪ ،‬فيعلم ّ‬
‫الظلم والفساد العا ّم وهو الّذي بسببه طال‬ ‫وأن تداخل األمرين هو الّذي تولّد عنه ذلك ّ‬ ‫القلب ‪ّ ،‬‬
‫إن هللا ينصر الدولة‬ ‫ي على حدّ سواء‪ ،‬لتعلم صدق قول من قال ‪ّ " :‬‬ ‫ي والدّنيو ّ‬‫االنحطاط المجالين الدّين ّ‬
‫العادلة وإن كانت كافرة‪ ،‬وال ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة" اهـ ‪ ،‬كيف إذا اجتمع الظلم مع‬
‫االنسالخ من اإليمان ؟‬

‫فصل ‪:‬‬

‫والغلو ‪ :‬اإلسراف في الحسابات وما ينافي االقتصاد في اتّخاذ األسباب؛‬


‫ّ‬ ‫وفي المقابل؛ فمن الجهل‬
‫بأن المسبّب هو هللا تعالى ْ‬
‫وأن ال‬ ‫ألن المقصود = عمل باألسباب على وجه ال ينافي علم القلب ّ‬ ‫وذا ّ‬
‫قوة ّإال به سبحانه كما هو = معنى الجمع بين ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ) ‪ّ ،‬‬
‫وإال لما كان لالستعانة‬ ‫ّ‬
‫باهلل معنى وال مطلوبيّة ‪ ،‬ولكان يكفي اتّخاذ األسباب‪ ،‬هذا فضال ع ّما ينتجه الجهل بذلك من تجاوز‬
‫ي في اتّخاذها كمتخيّل اإلكراه لجبن لديه دون تحقيق صارم يترك معه نوازع ال ّنفس واألهواء‬ ‫عمل ّ‬
‫سا‪ّ ،‬‬
‫وإال فمثل هذا يُحْ جم أبدًا وال يُقدم حتّى يقع به حذره ويحيق به خوفه بل يحصل له في الدّارين‬ ‫رأ ً‬
‫أو أحدهما ما يزيد على ما يخشاه؛ كـ ( الذي جمع ماال وعدّده ‪ .‬يحسب أن ماله أخلده ‪ .‬كال لينبذن في‬
‫الحطمة ‪. ) ...‬‬
‫شرع ومعاييره العلميّة الدّقيقة هو أبدًا = باطل؛ كالمخلوط‬ ‫ولهذا فالتّقدير غير المنضبط بضوابط ال ّ‬
‫شرع من ذلك كما قال ‪ ( :‬ومن‬ ‫بجبن ال ّنفس أو خوفها أو ش ّحها أو نحو ذلك من مقادير ال يعتبرها ال ّ‬
‫يوق ش ّح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ‪ ( ،‬وأوجس في نفسه خيفة موسى ‪ .‬قلنا ال تخف إ ّنك أنت‬
‫ص فمن نفسه أتي ‪ّ ،‬‬
‫وإال لما‬ ‫األعلى ) ‪ ...‬فإذا اعتدّ اإلنسان بما يجده بعد ذلك م ّما هو في عرض ال ّن ّ‬
‫قط‪ ،‬ولكان المطلوب دائ ًما = التّأ ّخر عن ك ّل خير‬ ‫أقدم أحد على فعل خير يعارض نوازعه وهواه ّ‬
‫شر ‪ ،‬ولجاز إقرار الجبان الخائف من ظلّه‪ ،‬وكذا صاحب أدوإ األدواء ‪ :‬البخيل‪،‬‬ ‫واإلقدام على ك ّل ّ‬
‫فتأ ّمل قوله تعالى ‪ ( :‬الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء وهللا يعدكم مغفرة منه وفضال وهللا‬
‫ضا قوله سبحانه ‪ ( :‬وقالوا إن نتبع الهدى‬ ‫واسع عليم ) ‪ ،‬بل لجاز إقرار الكافر على كفره فتأ ّمل أي ً‬
‫معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن‬
‫أكثرهم ال يعلمون) ‪ ،‬بل لجاز إقرار المرتدّ أصال والمنافق فتأ ّمل قوله ‪ ( :‬ومن الناس من يعبد هللا‬
‫على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا واآلخرة ذلك‬
‫هو الخسران المبين ) ‪ ( ،‬ومن الناس من يقول آمنا باهلل فإذا أوذي في هللا جعل فتنة الناس كعذاب هللا‬
‫ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس هللا بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن هللا‬
‫الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ) ‪...‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫شائعة اآلن تدريس العلم نفسه قبل تدريس آداب تحصيله وطرق نيله وبثّه ونحو‬ ‫ولذا فمن األخطاء ال ّ‬
‫مجردًا عن أصول‬ ‫ّ‬ ‫أن من األخطاء الشائعة تدريس الفقه ( أي المسائل الفروعية )‬ ‫ذلك‪ ،‬وهذا كما ّ‬
‫الفقه وما ال يمكن حصول الفقه بدونه من اآلالت ‪ ،‬ذلك ّ‬
‫أن الفقه في اللغة هو = الفهم ‪ ،‬وهو أدناه في‬
‫االصطالح = فهم الفروع والمسائل على وجهها ‪ ،‬وهذا ال يمكن من دون معرفة األصول الّتي يمكن‬
‫ي أصال‬‫ضا من أدوات الفهم لمطلق الكالم العرب ّ‬‫بها فهم تلك األقوال والتفريعات ومن دون ما قبلها أي ً‬
‫‪ ،‬ولذا ‪:‬‬

‫سرد المحض للكلمات‬ ‫المجرد لأللفاظ وال ّ‬


‫ّ‬ ‫سرد واإللقاء الّتي هي بمعنى الحفظ‬
‫فمرحلة الحفظ وال ّ‬
‫وإلقائها كما هي ‪ ،‬هي = مرحلة ما قبل البداية في التّفقّه‪ ،‬فليست هي بداخلة في جنس التّفقّه ونفس‬
‫مجرد الحفظ ـ كما تقدّم ـ ‪ ،‬وإ ّنما بداية الفقه هي ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫مستوياته ّ‬
‫ألن الفهم هو = الفهم ال‬

‫‪ 1‬ـ بتعلّم المجزئ من علوم اآلالت من لغة ونحو وصرف وبالغة وأصول ومصطلح ونحو ذلك‬
‫ي أصال ‪.‬‬
‫ليُمكن فهم المسائل والفروع ومعرفة معاني الكالم الفقه ّ‬

‫ث ّم ‪:‬‬
‫شرح ‪،‬‬ ‫‪ 2‬ـ تعلّم المسائل المنصوص عليها والفروع المذكورة ‪ ،‬وهذا بالتّ ّ‬
‫عرض للمتون الفقهيّة بال ّ‬
‫والغاية من ذلك ليست نفس تلك المسائل وصور الفروع وإ ّنما تحصيل ملكة الفهم لجنس ال ّنتائج‬
‫ضا كما فُ ِهم المنصوص ‪ ،‬ومن ثَ ّم يُمكن فهم جميع‬ ‫واألحكام ليمكن فهم غير المنصوص عليه منها أي ً‬
‫الفروع ويُقدر على نقلها وكذا يُقدر على نقل الفتاوى والمستجدّات للمقلّد المحض على وجه سالم من‬
‫سوء الفهم والتّحريف‪.‬‬

‫وأ ّما تمام التّفقّه بعد ذلك فيكون‪:‬‬


‫‪ 3‬ـ بتعلّم األصول الّتي تقوم عليها تلك ال ّنتائج واألقوال والتفريعات ‪ ،‬وهذا بالتّع ّمق في دراسة‬
‫مجرد‬
‫ّ‬ ‫األصول لغاية تحصيل ملكة التّفريع والقدرة على االستنتاج واالستدالل وصناعة الفتوى دون‬
‫نقل ذلك واالكتفاء بحفظه أو سرده بال تمحيص‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫للطالب تكون بالقرآن الكريم وحفظه؛ وأصل هذا حديث‬ ‫أن البداية ّ‬
‫وتقديم مرحلة الحفظ يقتضي ّ‬
‫حذيفة رضي هللا عنه قال ‪ :‬حدثنا رسول هللا صلي هللا عليه وسلم ‪ ...‬أن األمانة نزلت في َج ْذر قلوب‬
‫ي في "صحيحه" ‪.‬‬ ‫الرجال ‪ ،‬ثم علموا من القرآن ‪ ،‬ثم علموا من الس ّنة ‪ ...‬الحديث ‪ ،‬أخرجه البخار ّ‬

‫قال الحافظ ابن حجر رحمه هللا في ( الفتح ‪ : ) 39 / 13‬وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن‬
‫قبل أن يتعلموا السنن ‪ ،‬والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي صلى هللا عليه وسلم واجبا كان أو مندوبا‬
‫اهــ ‪.‬‬

‫ولهذا قال الوليد بن مسلم ‪":‬كنا إذا جالسنا األوزاعي فرأى فينا حدثا فقال ‪:‬ياغالم قرأت القرآن ؟فإن‬
‫قال ‪:‬نعم ‪,‬قال ‪:‬اقرأ ‪..‬وإن قال ‪:‬ال ‪,‬قال اذهب تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم"‪ .‬كذا في ( الجامع‬
‫ألخالق الراوي وآداب السامع" للخطيب البغدادي ‪.) 108/1‬‬

‫وفي ( اآلداب الشرعية البن مفلح ‪ : ) 33 /2‬قال الميموني ‪ :‬سألت أبا عبدهللا ( يعني اإلمام أحمد‬
‫رحمه هللا ) أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث ؟ قال ‪ :‬ال ‪ ،‬بالقرآن ‪ ،‬قلت ‪ :‬أ ُ َ‬
‫ع ِلّ ُمهُ ُكلَّهُ ؟‬
‫اإل َم ِام أَحْ َمدَ إلَى زَ َما ِننَا‬ ‫س َر ‪ ،‬فَتُعَ ِلّ َمهُ ِم ْنهُ ‪ ،‬قال ابن مفلح رحمه هللا ‪َ :‬و َ‬
‫علَى َهذَا أ َ ْت َباعُ ْ ِ‬ ‫قَا َل ‪َّ :‬إال أ َ ْن َي ْع ُ‬
‫َهذَا " اهــ ‪.‬‬

‫ضا ‪:‬‬
‫وقال الخطيب البغدادي رحمه هللا في ( الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع ‪ ) 106/1‬أي ً‬
‫سبق والتقديم اهــ‪.‬‬
‫ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب هللا عز وجل إذ كان أجل العلوم وأوالها بال ّ‬

‫سلف ال يعلمون الحديث والفقه إال لمن حفظ القرآن ‪...‬‬


‫وقال النووي في ( المجموع ‪ : )38/1‬وكان ال ّ‬

‫قلتُ ‪ :‬سبب تقديم ( القرآن ) على ما سواه أ ّنه هو أصل ما سواه والدّليل عليه‪ ،‬فهو أصل العلم‪ ،‬وكذا‬
‫هو أصل باعتبار اشتماله على أ ّمهات مسائل اإليمان وأدلّتها ‪ ،‬وهذه بال ّنسبة لغيرها من التّفاصيل =‬
‫أصول ‪ ،‬واألصل يقدّم على الفرع ‪ ،‬ولهذا قال ابن جماعة‪" :‬يبتدئ أوالً بكتاب هللا عز وجل فيتقنه‬
‫حفظاً‪ ،‬ويجتهد على إتقان تفسيره وسائر علومه‪ ،‬فإنه أصل العلوم وأمها وأهمها"‪.‬‬

‫سو ِل ت ََر ٰى أ َ ْعيُ َن ُه ْم تَ ِف ُ‬


‫يض‬ ‫نز َل ِإلَى َّ‬
‫الر ُ‬ ‫س ِمعُوا َما أ ُ ِ‬ ‫فالقرآن هو دليل ( اإليمان ) كما قال تعالى ‪َ (( :‬و ِإذَا َ‬
‫ق ۖ َيقُولُونَ َر َّبنَا آ َم َّنا ‪ ، ))...‬ث ّم هو أعظم ما يجدّد به ( اإليمان ) كما قال‬ ‫ع َرفُوا ِمنَ ْال َح ّ ِ‬ ‫ِمنَ الدَّ ْم ِع ِم َّما َ‬
‫علَ ْي ِه ْم آ َ َياتُهُ زَ ادَ ْت ُه ْم ِإي َمانا ً ‪، )) ...‬‬ ‫ت قُلُو ُب ُه ْم َو ِإذَا ت ُ ِل َي ْ‬
‫ت َ‬ ‫تعالى ‪ِ ﴿( :‬إ َّن َما ْال ُمؤْ ِمنُونَ الَّذِينَ ِإذَا ذُ ِك َر َّ‬
‫َّللاُ َو ِجلَ ْ‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم ( لإليمان )‬ ‫فـعلى ذلك ال يُترك ( القرآن ) في بدء وال انتهاء ‪ ،‬وأ ّما تقديم ال ّنب ّ‬
‫على ( القرآن ) في حديث جندب الب َجلي رضي هللا عنه ‪" :‬كنا مع رسول هللا صلى هللا عليه و سلم و‬
‫نحن فتيان حزاورة ـ أي ‪ :‬قاربنا البلوغ ـ فتعلّمنا اإليمان قبل أن نتعلم القرآن ‪ ،‬ثم تعلمنا القرآن ‪،‬‬
‫سره أثر أبي عبد الرحمن السلمي قال ‪ :‬حدثنا‬ ‫ي ـ فيف ّ‬ ‫فازددنا به إيمانا " ـ أخرجه ابن ماجه بسند قو ّ‬
‫ع ْشر آيات‬ ‫يستقرئون من النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬فكانوا إذا تعلَّموا َ‬ ‫ِ‬ ‫ُقرئوننا أنهم كانوا‬ ‫الذين كانوا ي ِ‬
‫يخلّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل‪ ،‬فتعلَّمنا القرآن والعمل جميعًا‪.‬‬ ‫لم ِ‬

‫وأن المقصود بذلك = التّوفيق تطبيقيّا ‪ ،‬والمعنى‬ ‫فبيّن هذا األثر معنى البدء باإليمان قبل القرآن‪ّ ،‬‬
‫صله فيكون لدى المبتدئ من اإليمان والقرآن ما ينبغي أن‬ ‫ي هو = تقديم مجمل الدّين على مف ّ‬ ‫ال ّنظر ّ‬
‫صل لحروف القرآن ‪ّ ،‬‬
‫فإن ذلك‬ ‫يطلبه قبل طلبه تفاصيل الدّين ومن ذلك تفاصيل المسائل والحفظ المف ّ‬
‫ال يثمر ‪ ،‬ويمكن أن يُعبّر عن معنى تقديم اإليمان على القرآن فيُقال هو = تقديم آيات اإليمان على‬
‫آيات األحكام ؛ وذا بأن يُبدأ بترسيخ ( اإليمان ) وتقويته في نفوس القوم ‪ ،‬كما جاء في الحديث ‪" :‬‬
‫سولُهُ أ َ َحبَّ ِإلَ ْي ِه ِم َّما ِس َوا ُه َما ‪ ، "...‬حتّى إذا‬ ‫ان ) أ َ ْن َي ُكونَ َّ‬
‫َّللاُ َو َر ُ‬ ‫ث َم ْن ُك َّن فِي ِه َو َجدَ َح َال َوة َ ( ْ ِ‬
‫اإلي َم ِ‬ ‫ثَ َال ٌ‬
‫ذكرت لهم أوامر ( القرآن ) بعد ذلك انقادوا لها وسارعوا في العمل بها ؛ فعبّر عن ذلك أ ّنه كان‬
‫يعلّمهم ( اإليمان ) قبل ( القرآن ) ‪ ،‬كما قالت عائشة رضي هللا عنها ‪" :‬إنما نزل أول ما نزل منه‬
‫سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى اإلسالم نزل الحالل والحرام ولو‬
‫نزل أول شيء ال تشربوا الخمر لقالوا ال ندع الخمر أبدا ولو نزل ال تزنوا لقالوا ال ندع الزنا أبدا ‪...‬‬
‫ي‪.‬‬ ‫" أخرجه البخار ّ‬

‫مجردًا عن ذلك كما قال‬


‫ّ‬ ‫ضا أن يسبق التّدبّر والعمل على حفظ القرآن حف ً‬
‫ظا‬ ‫فمن تقديم ( اإليمان ) أي ً‬
‫تعالى ‪ ﴿( :‬الذين آتيناهم الكتاب َي ْتلُو َنهُ َح َّق ِت َال َو ِت ِه أُولَئِكَ يُؤْ ِمنُونَ ِب ِه )) ‪ ،‬وفي ذلك قول ابن عمر‬
‫رضي هللا عنهما ‪" :‬تعلمنا اإليمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا ً ‪ ،‬وأنتم تتعلمون القرآن ثم تتعلمون‬
‫اإليمان " وفي لفظ ‪ " :‬لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى اإليمان قبل القرآن ‪ ،‬وتنزل السورة‬
‫على محمد صلى هللا عليه وسلم فنتعلم حاللها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده‬
‫منها كما تعلمون أنتم اليوم القرآن ‪ ،‬ثم لقد رأيت اليوم رجاال يؤتى أحدهم القرآن قبل اإليمان فيقرأ ما‬
‫بين فاتحته إلى خاتمته ما يدرى ما آمره وال زاجره وال ما ينبغي أن يقف عنده منه " أخرجه الحاكم‬
‫‪.‬‬
‫فصل ‪:‬‬

‫شيطان لإلنسان = أن يُخيّل له التّزاحم بين المشاغل واألعمال والمها ّم في ّ‬


‫ُصور له أ ّنه‬ ‫من وساوس ال ّ‬
‫وأن عليه اختيار بعضها وترك الباقي كما يفعل ذلك من يريد حفظ القرآن مثال‬ ‫ال يمكنه التّوفيق بينها ّ‬
‫البر بداعي ضيق الوقت فتجده‬‫كثيرا ما يز ّهد هذا فيما سوى حفظ القرآن من أعمال ّ‬ ‫شيطان ً‬ ‫فإن ال ّ‬
‫ّ‬
‫سنن وال ّنوافل أو نحو ذلك ‪ ،‬وكذا من يحفظ‬‫يعتزل مجالس الذّكر والعلم والتّفقّه أو يترك األذكار وال ّ‬
‫يخوف هذا من نسيان القرآن إلى درجة يز ّهده معها فيما سوى التّكرير‬ ‫شيطان ّ‬ ‫فإن ال ّ‬
‫القرآن فيختمه ّ‬
‫والمراجعة ونحو ذلك ‪...‬‬

‫وال ّناس منهم من يكون التّعارض بين المها ّم لديه حقيقيّا كالّذي يضيق وقته عن أداء مه ّمتين معًا‬
‫صالة المفروضة ولم يؤدّها فهذا إ ّنما عليه االنشغال بها عن‬ ‫فعال؛ كمن يخشى أن يخرج وقت ال ّ‬
‫ي واشتغال بمعاش يستغرق أكثر وقته ويخشى من تضييع عياله إن‬ ‫غيرها ‪ ،‬أو كالّذي له عمل دنيو ّ‬
‫ضا هو م ّما يعجز عن التّوفيق فله االنشغال بما ال بدّ منه إلى حين‪،‬‬ ‫لم يؤدّ ذلك العمل فمثل هذا أي ً‬
‫الزواج والجهاد في‬ ‫ي كمن يُخيّر بين ّ‬ ‫وكذا من يكون التّعارض بين المها ّم في حقّه حكميّا فهو كالحقيق ّ‬
‫حال يخشى فيه من تضييع حقوق أحدهما مع عدم تعيّنهما عليه معًا وهكذا ‪...‬‬

‫ومنهم من يكون التّعارض بين المها ّم في حقّه خياال موهو ًما كحال من نتكلّم في شأنه من كثير من‬
‫أن التّحقّق ّ‬
‫بفن‬ ‫بفن منها أو بالقليل وال يحرصون على الفضل والكمال مع ّ‬ ‫طلبة العلوم حيث يكتفون ّ‬
‫صص‬ ‫فن‪ ،‬والمعضلة هي في التّخ ّ‬ ‫واحد هو أصال ال يحصل ّإال باألخذ بدرجة مجزئة من ك ّل ّ‬
‫المب ّكر‪ ،‬ومن ذلك في قراءة القرآن وحفظه من دون فهم واهتمام بالتّفسير والتّدبّر‪ ،‬أو االهتمام‬
‫بصور الفهم والتّفسير من دون اهتمام باكتساب أدوات ذلك وعلوم اآللة ‪ ،‬وكذا االهتمام بالفقه‬
‫وال ّنتائج دون اشتغال بعلم األصول واآلالت ‪،‬‬

‫وأسوأ من ذلك هو القلب لألولويّات أصال كمن يبدأ بالفقه ّ‬


‫الظاهر ـ سواء األكبر أو األصغر ـ ويترك‬
‫سلوك وأعمال القلوب‪ ،‬وكذا من يحرص على حفظ سور القرأن وآياته‬ ‫الفقه الباطن وهو علم ال ّ‬
‫وحروفه ويلهيه ذلك عن القيام به والتّدبّر والعمل وهكذا ‪...‬‬

‫واألصل هو = الجمع والموازاة والتّوفيق واالرتفاع باله ّمة ومحاولة ابتغاء الكمال ما استطاع المرء‬
‫اجدا ً َو قَا ِئما ً‬
‫س ِ‬ ‫حث عليه القرآن كما في قوله تعالى‪( :‬أ َ َّم ْن ه َُو قَا ِنتٌ آنَا َء اللَّ ْي ِل َ‬ ‫إلى ذلك سبيال‪ ،‬وهذا ما ّ‬
‫َيحْ ذَ ُر ْاآل ِخ َرة َ َو َي ْر ُجو َرحْ َمةَ َر ِّب ِه قُ ْل ه َْل َي ْستَ ِوي الَّذِينَ َي ْعلَ ُمونَ َو الَّذِينَ ال َي ْعلَ ُمونَ إِ َّن َما َيتَذَ َّك ُر أُولُو‬
‫غي ُْر أُو ِلي الض ََّر ِر َو‬ ‫ب) (الزمر‪ )9:‬و كما في قوله ‪ ( :‬ال َي ْستَ ِوي ْالقَا ِعدُونَ ِمنَ ْال ُمؤْ ِمنِينَ َ‬ ‫ْاأل َ ْل َبا ِ‬
‫علَى ْالقَا ِعدِينَ‬ ‫َّللاُ ْال ُم َجا ِهدِينَ ِبأ َ ْم َوا ِل ِه ْم َوأ َ ْنفُ ِس ِه ْم َ‬ ‫َّللا ِبأ َ ْم َوا ِل ِه ْم َو أ َ ْنفُ ِس ِه ْم فَ َّ‬
‫ض َل َّ‬ ‫ْال ُم َجا ِهدُونَ فِي َ‬
‫س ِبي ِل َّ ِ‬
‫ع ِظيماً) (النساء‪ )95:‬ونحو‬ ‫علَى ْالقَا ِعدِينَ أَجْ را ً َ‬ ‫َّللاُ ْال ُم َجا ِهدِينَ َ‬
‫ض َل َّ‬ ‫َّللاُ ْال ُح ْسنَى َو فَ َّ‬ ‫عدَ َّ‬‫دَ َر َجةً َو ُك ّالً َو َ‬
‫ذلك ‪...‬‬

‫غب في الج ّنة ذكر أفضل صفات أهلها العاملين لها وأفضل أعمالهم وكلّما ذكر‬ ‫وهو تعالى كلّما ر ّ‬
‫ال ّنار ذكر أسوء أهلها وأسوأ أعمالهم كما قال مجاهد ‪ :‬دعا أبو بكر عمر رضي هللا عنهما ‪ ،‬فقال له ‪:‬‬
‫إني أوصيك بوصية أن تحفظها ‪ :‬إن هلل في الليل حقا ال يق بله بالنهار ‪ ،‬وبالنهار حقا ال يقبله بالليل ‪،‬‬
‫إنه ليس ألحد نافلة حتى يؤدي الفريضة ‪ ...‬إلى أن قال ‪ " :‬ألم تر أن هللا ذكر أهل الجنة بأحسن‬
‫أعمالهم ‪ ،‬فيقول قائل ‪ :‬أين يبلغ عملي من عمل هؤالء ؟ وذلك أن هللا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬تجاوز عن أسوأ‬
‫أعمالهم فلم يبده ‪ ،‬ألم تر أن هللا ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم حتى يقول قائل ‪ :‬أنا خير عمال من‬
‫هؤالء ‪ ،‬وذلك بأن هللا رد عليهم أحسن أعمالهم ‪ ،‬ألم تر أن هللا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أنزل أية الشدة عند آية‬
‫الرخاء ‪ ،‬وآية الرخاء عند آية الشدة ؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا ‪ ،‬لئال يلقي بيده إلى التهلكة ‪ ،‬وال‬
‫يتمنى على هللا أمنية يتمنى على هللا فيها غير الحق "‪.‬‬

‫ي ﷺ أ ّنه قال ‪« :‬المؤمن القوي خير‬


‫س ّنة في أحاديث كحديث أبي هريرة عن ال ّنب ّ‬
‫وهذا األصل في ال ّ‬
‫وأحب إلى هللا من المؤمن الضعيف وفي كل خير‪ .‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن باهلل وال‬
‫تعجز‪ »...‬الحديث رواه مسلم‪.‬‬

‫ضا عنه ﷺ أ ّنه قال ‪ « :‬إذا سألتم هللا فسلوه‬


‫ي" من حديث أبي هريرة أي ً‬
‫وفي "صحيح البخار ّ‬
‫الفردوس ‪ ،‬فإنه أوسط الجنة ‪ ،‬وأعلى الجنة ‪ ،‬وفوقه عرش الرحمن ‪ ،‬ومنه تفجر أنهار الجنة »‪.‬‬

‫ألن الّذي يبتغي الدّرجات العالية نظريّا ستعوقه عوائق واقعيّة تطبيقيّا إذ ليس الخبر كالمعاينة‪،‬‬
‫وهذا ّ‬
‫فستعترض سبيله إذن عوارض وموانع من وساوس وضعف ونحو ذلك‪ ،‬فإذا هو طمع في الدّرجات‬
‫العالية وحالت دونه تلك الحوائل والعوارض تحقّقت له درجة دون ذلك‪ ،‬لك ّنه لو ابتغى مباشرة هذه‬
‫الدّرجة ولم يع ُل به ّمته فستسقطه تلك الموانع إلى درجة أسفل وهكذا حتّى ال يحصل الّذي يبتغي‬
‫الدّرجة الوسطى المجزئة على المطلوب والحدّ المجزئ وهو = دخول الج ّنة فيدخل ال ّنار والعياذ‬
‫الرضا بالقليل = مقام خطر ‪.‬‬ ‫باهلل‪ ،‬فتبيّن بهذا ّ‬
‫أن مقام ّ‬

‫ولذا قيل ‪:‬‬


‫ولم أر في عيوب الناس عيبا ‪ ،‬كعيب الناقصين عن التمام ‪.‬‬

‫فوتها‪.‬‬
‫ضا ‪ :‬وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة األنبياء ثم ّ‬ ‫وفي هذا قول ال ّنوو ّ‬
‫ي رحمه هللا أي ً‬

‫العلو‬
‫ّ‬ ‫أن ك ّل ما تقدّم بحثه إ ّنما يُقال بال ّنسبة لمن يُرجى في حقّه‬
‫لكن ال بدّ من التّنبيه مع هذا في ّ‬
‫والعلو وأخذ نصيب كبير من‬ ‫ّ‬ ‫ي الّذي يُخشى إن ِأمر باالرتفاع‬ ‫ّ‬
‫والزيادة‪ ،‬وأ ّما الضّعيف والعا ّم ّ‬
‫األعمال والمها ّم بما يفوق المتوقّع من حاله فيُخشى مع أمره بذلك من أن يترك تلك األعمال جميعًا‬
‫ي صلّى هللا عليه‬‫فهذا ال ينبغي ّإال حثّه على األولى فاألولى واأله ّم فاأله ّم في حقّه‪ ،‬ولذا كان ال ّنب ّ‬
‫وسلّم يأمر األعراب والمبتدئين ونحوهم بالفرائض ويُعرض عن ترغيبهم في ال ّنوافل كما في حديث‬
‫صحيحين" من حديث طلحة بن عبيد هللا قال ‪ :‬جاء رجل إلى رسول هللا صلى‬ ‫صحيحين" في "ال ّ‬ ‫"ال ّ‬
‫هللا عليه وسلم فإذا هو يسأله عن اإلسالم فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ( :‬خمس صلوات في‬
‫اليوم والليلة ) فقال هل علي غيرها ؟ قال ‪ ( :‬ال إال أن تطوع ) فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫‪ ( :‬وصيام شهر رمضان ) قال هل علي غيره ؟ قال ‪ ( :‬ال إال أن تطوع ) قال ‪ :‬وذكر له رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم الزكاة قال هل علي غيرها ؟ قال ‪ ( :‬ال إال أن تطوع ) فأدبر الرجل وهو يقول‬
‫وهللا ال أزيد على هذا وال أنقص قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ( :‬أفلح إن صدق )‪.‬‬
‫سنن" عن ابن مسعود قال ‪ :‬قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪( :‬أوتروا يا أهل القرآن فإن‬ ‫وفي "ال ّ‬
‫هللا وتر يحب الوتر) فقال أعرابي ‪ :‬ما يقول رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ؟ فقال صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬إنها ليست لك وال ألصحابك)‪.‬‬
‫معنى العلم لغةً ‪:‬‬

‫العلم يرد في اللّغة ‪:‬‬

‫بمعنى الفهم كما قال تعالى ‪ (( :‬وهللا أخرجكم من بطون أ ّمهاتكم الَ تَ ْعلَ ُمونَ َ‬
‫ش ْيئًا )) أي ال تفقهون‬
‫شيئًا ‪.‬‬

‫وبمعنى التصديق كما قال تعالى ‪ (( :‬أَتَ ْعلَ ُمونَ أ َ ّن َ‬


‫صا ِلحا ً ّم ْر َ‬
‫س ٌل ّمن ّر ّب ِه )) أي أتصدّقون ؟‬

‫وبمعنى العمل كما قال تعالى ‪ (( :‬إ ّنما يخشى هللا من عباده العلماء )) أي العاملون ّ‬
‫ألن الخشية هي‬
‫أصل العمل واالنقياد ‪.‬‬

‫وأ ّما العلم في االصطالح ‪:‬‬

‫فهو بال ّنظر إلى المعنى اللّغوي مسا ِو للمعنى اللّغوي ّ‬


‫األول أعني الفهم والفقه ‪ ( ،‬وهو أمر عقلي) ‪،‬‬
‫ضا وسيلة ال غاية ‪ ،‬إذ الغاية من ذلك الفهم والفقه هو ‪ :‬التصديق والعمل ( وكالمهما أمر‬
‫وهو أي ً‬
‫ّ‬
‫قلبي ‪ ،‬لكن يلزم من وجوده وجود التّصديق الظاهر والعمل الظاهر)‪.‬‬

‫شرع ؛ فلفظ ( العلم ) في االصطالح الشرعي معناه العلم‬ ‫وهو بال ّنظر إلى موضوعه مقيّد بال ّ‬
‫سنة دون تقييد ‪ :‬ينصرف إلى العلم‬
‫ذكر ( العلم) في نصوص القرآن وال ّ‬ ‫ي ؛ فإذا أُطلق ُ‬‫شرع ّ‬‫ال ّ‬
‫ي؛ وهو العلم بالوحي والشريعة ‪.)1( ...‬‬ ‫شرع ّ‬‫ال ّ‬

‫ي صلّى هللا عليه‬


‫أن العلم في االصطالح هو الفقه في الدّين؛ وهو الذي قال ال ّنب ّ‬ ‫صل من هذا ّ‬ ‫ويتح ّ‬
‫وسلّم ‪ " :‬من يرد هللا به خيرا ً يفقهه في الدّين" ‪...‬‬

‫وهذا العلم هو أفضل العلم باعتبار المعلوم أل ّنه علم بالخالق ودينه ‪ّ ،‬‬
‫لكن ذلك العلم بالخالق والفهم‬
‫لوحيه هو وسيلة إلى التّصديق والعمل بدينه إذ غايته االنقياد والعبادة بمعناها العام ؛ فالمقصود لذاته‬
‫هو عبادة الخالق كما قال تعالى ‪ (( :‬وما خلقت الجن واإلنس إال ليعبدون )) ‪ ،‬وما يسبق ذلك من‬
‫الفهم والفقه مطلقًا هو وسيلة إليه ‪.‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬فإذا وجدت في آية أو أو في حديث نسبة أحد إلى ( العلم ) أو ( العلماء ) أو كونه ( يعلم ) دون دون تقييدها بنوع معيّن من العلم ‪ ،‬فاعلم ّ‬
‫أن‬
‫ي ) ‪ ،‬فال يُقال لعلوم الدّنيا ( علم ) وال ألصحابها ( علماء ) إالّ بالتّقييد كأن يُقال ( علم الطبّ ) أو ( علماء الحساب‬ ‫شرع ّ‬ ‫المقصود بـذلك ‪ ( :‬العلم ال ّ‬
‫ي ؛ قال تعالى ‪(( :‬‬ ‫) ‪ ( ،‬علماء الذّ ّرة ) وهكذا ‪ ...‬كلها ال يُقال لها ( علم ) فقط أو ( علماء ) فقط باإلطالق ‪ ،‬فإطالقها ينصرف إلى العلم الشرع ّ‬ ‫ّ‬
‫َّللاُ أ َ َّنهُ ال إِلهَ إِال ه َُو‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ش ِهدَ َّ‬
‫ي ‪ ،‬وكذلك في قوله تعالى ‪َ (( :‬‬ ‫شرع ّ‬ ‫َّللاُ الَّذِينَ آ َمنُوا مِ ن ُك ْم َوالَّذِينَ أُوتُوا ْالع ِْل َم د ََر َجات )) أي الذين أوتوا العلم ال ّ‬ ‫َي ْرفَ ِع َّ‬
‫ْ‬
‫اس َو َما َي ْع ِقل َها إِال العَا ِل ُمونَ )) ‪ ،‬والمعنى في جميعها ‪ :‬العلماء بالدّين ‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َو ْال َم َال ِئ َكةُ َوأُولُو ْالع ِْل ِم قَا ِئما ً ِب ْال ِقسْطِ )) وقوله ‪َ (( :‬وت ِْلكَ ْاأل َ ْمثَا ُل َنض ِْربُ َها لِل َّن ِ‬
‫لقوله صلّى هللا عليه وسلّم ‪ " :‬أنتم أعلم بشؤون دنياكم" وقوله " العلماء ورثة األنبياء وإن األنبياء لم يورثوا دينارا وال درهما ورثوا العلم فمن‬
‫ورثه األنبياء لهؤالء هو علم الدّين والوحي ‪ ،‬وكذلك فقد حصر هللا تعالى‬ ‫أن الذي ّ‬ ‫أخذه أخذ بحظ وافر » ‪ ،‬فذكر ( العلماء ) هنا مطلق ‪،‬ومعلو ٌم ّ‬
‫أن طريق ذلك عند الحصر ‪ :‬العلم باهلل وأسمائه‬ ‫الخشية في ( العلماء ) مطلقًا قي قوله تعالى ‪ (( :‬إ ّنما يخشى هللا من عباده العلماء )) ‪ ،‬ومعلو ٌم ّ‬
‫ع ِن ْاآلَخِ َرةِ هُ ْم غافلون )) ‪ ،‬والمعنى‬ ‫ظاه ًِرا مِ نَ ْال َح َياةِ الد ْن َيا َوهُ ْم َ‬ ‫وصفاته ودينه ‪ ،‬مع ذ ّم هللا سبحانه لل ُمكتفين عنه بعلوم الدّنيا في قوله ‪َ (( :‬ي ْعلَ ُمونَ َ‬
‫كما قال ابن عبّاس رضي هللا عنهما أ ّنهم يعلمون متى يزرعون ‪ ،‬متى يغرسون ‪ ...‬وأشباه هذا ‪.‬‬
‫تقسيم العلم ‪:‬‬

‫سم في االصطالح باعتبار نوع الكالم الذي يُراد فهمه ( أهو‬


‫العلم باهلل ( الذي هو الفهم والفقه ) مق ّ‬
‫خبر أم إنشاء ؟) وباعتبار الغاية من هذا الفهم ( هل هي التصديق فقط أم التصديق والعمل م ًعا؟) إلى‬
‫نوعين ‪:‬‬

‫فقه أكبر وفقه أصغر ‪.‬‬

‫فاألكبر هو المسائل الخبريّة التّصديقيّة ( وهي مسائل االعتقاد ) ‪.‬‬

‫واألصغر هو مسائل األحكام العملية ( وهي الفقه ) (‪. )1‬‬

‫وأ ّما باعتبار درجته لدى العالم فالعلم درجتان ؛ فهو ‪:‬‬

‫إ ّما يقين ؛ وذلك حين يكون مع الفهم ‪ :‬جز ٌم بص ّحته وقط ٌع به (وهذا أعلى الدّرجات ) ‪ ،‬وهذا اليقين‬
‫ّ‬
‫وحق اليقين‪.‬‬ ‫باعتبار ّ‬
‫الطريق إليه ثالث درجات ‪ :‬علم اليقين ‪ ،‬وعين اليقين ‪،‬‬

‫الراجح كاف‬ ‫ظن راجح ؛ وذلك حين تتر ّجح ص ّحة الفهم مع احتمال ضدّ مرجوح ‪ ،‬وهذا الظن ّ‬ ‫وإ ّما ّ‬
‫ي ‪ ،‬بل هو ال يجوز فيه قطع ‪ ،‬ولذا كان مالك رحمه هللا أ َّنه كان يقرأ في بعض‬ ‫ُمجزئ فيما دليله ظ ّن ّ‬
‫ما يفتي به ‪ (( :‬إن نظن إالَّ ظ َّنا ً وما نحن بمستيقنين)) (‪ ، )2‬كذا ُروي عن بعض الفقهاء ـ قيل أ ّنه‬
‫ي ـ أ ّنه كان يقول في هذه الظ ّنيّات ‪ :‬قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل‬ ‫ال ّ‬
‫شافع ّ‬
‫صواب ‪.‬‬ ‫ال ّ‬

‫وأ ّما سائر الدّرجات دون ذلك كالشك الذي ـ يكون معه تساوي االحتماالت وكالوهم الذي يكون معه‬
‫احتمال ضدّ راجح وكالجهل بنوعيه ـ البسيط والمر ّكب ـ فهذه ال تدخل في العلم بمعناه االصطالح ّ‬
‫ي‬
‫الظن على‬‫ّ‬ ‫‪ ،‬بل هي م ّما نعاه هللا تعالى على المشركين ونهى عن اتّباعه والعمل عليه ‪ ،‬فالمذموم من‬
‫ذلك هو الّذي بمعنى ّ‬
‫الظ ّن المرجوح واألوهام أل ّنه ال دليل عليها ؛ وهي التي قال تعالى ‪ (( :‬إن‬
‫الظن وما تهوى األنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى )) ‪ ،‬وقال ‪ (( :‬وما يتّبع أكثرهم ّإال‬‫ّ‬ ‫يتّبعون ّإال‬
‫ّ‬
‫الشك في مثل قوله سبحانه ‪ (( :‬بل‬ ‫ّ‬
‫الحق شيئا )) (‪ ، )3‬وكذا نعى تعالى‬ ‫ّ‬
‫الظن ال يُغني من‬ ‫ظ ّنا ّ‬
‫إن‬
‫هم في شك يلعبون )) ‪ ،‬وقوله ‪ (( :‬وال يزال الذين كفروا في مرية منه )) ‪ ،‬وكذا الجهل في مثل قوله‬
‫ّ‬
‫تكونن من الجاهلين )) ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ولكن أكثرهم يجهلون )) ‪ ،‬وقوله ‪ (( :‬فال‬ ‫ج ّل وعال ‪(( :‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أن التّصديق مجزئ خالفًا للمرجئة ‪ ،‬وإنّما هو تقسيم واصطالح ‪ ،‬وال مشاحّة في االصطالح‪ .‬فالمشاحّة هي في‬ ‫(‪ )1‬وهذا ال يعني ّ‬
‫إلغاء قسم العمل أو إلغاء وجوبه ال في جعله قس ًما آخر ‪.‬‬
‫(‪" )2‬جامع بيان العلم وفضله" ‪. 146/2‬‬
‫فالظن لغةً يرد بمعنى الوهم كما في هذه اآليات ‪ ،‬ويرد بمعنى اليقين كما قال تعالى ‪ (( :‬إنّي ظننت أنّي مالق حسابيه )) أي أيقنتُ‬ ‫ّ‬ ‫(‪)3‬‬
‫ّ‬
‫الظن‬ ‫ي وهو‬‫ّ‬ ‫االصطالح‬ ‫بمعناه‬ ‫يرد‬ ‫وهو‬ ‫‪،‬‬ ‫))‬ ‫ّهم‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫مالقوا‬ ‫هم‬‫ّ‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫ون‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫يظ‬ ‫ذين‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫((‬ ‫‪،‬‬ ‫))‬ ‫اه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫فت‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫داود‬ ‫ّ‬
‫وظن‬ ‫((‬ ‫‪،‬‬ ‫))‬ ‫الفراق‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫ّ‬
‫وظن‬ ‫((‬ ‫‪،‬‬
‫ّ‬
‫والظن لفظان إذا اجتمعا افترقا فيُعبّر بهما عن‬ ‫أن اليقين‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫المرجوح كما في قوله ‪ (( :‬إن نظن إال ظنَّا وما نحن بمستيقنين )) ‪ ،‬وفيها ّ‬
‫ّ‬
‫الظن بمعنى اليقين أيضًا كما في اآليات المتقدّمة هنا ‪.‬‬ ‫تينك الدرجتين المتفاوتتين من العلم ‪ ،‬وأ ّما إذا افترقا فقد يجتمعان فيرد‬
‫درجات العلم ‪:‬‬

‫ً‬
‫جاهال بال ّنسبة‬ ‫شخص عال ًما بال ّنسبة لشخص ثان ‪ ،‬ويكون‬
‫ي ؛ فيكون ال ّ‬ ‫العلم في اللّغة ‪ٌ :‬‬
‫أمر نسب ّ‬
‫لشخص ثالث‪ ،‬وسواء ذلك في عدد المعلومات أو في نفس مرتبة العلم بالمسألة الواحدة أو في القدرة‬
‫العا ّمة على الفهم والتّحصيل والذّكر ؛ فال ّناس في ك ّل ذلك درجات ال تحصى ؛ قال تعالى ‪ (( :‬وفوق‬
‫كل ذي علم عليم )) ‪...‬‬

‫ّرعي فالعلم باعتبار ( آلة االجتهاد ) التي يحصل بها االستنباط = درجة‬ ‫وأ ّما العلم في االصطالح الش ّ‬
‫صلها اإلنسان فيصير ( عال ًما ) كما قال تعالى ‪ ... (( :‬لعلمه الذين يستنبطونه منهم‬ ‫واحدة ؛ إ ّما أن يُح ّ‬
‫)) ‪ ،‬وإ ّما أن ال يصل إلى تلك الدّرجة فيكون من عوا ّم ال ّناس الذين فرضهم التّقليد وردّ األمر إلى‬
‫الرسول ـ وهذا في حياته ـ وإلى‬ ‫العلماء في جميع مسائل االجتهاد كما قال تعالى ‪ (( :‬ولو ردّوه إلى ّ‬
‫سره بعد ذلك بقوله ‪ :‬ـ لعلمه الذين‬‫أولي األمر منهم ـ وهم أهل االجتهاد من ورثته بعده كما ف ّ‬
‫يستنبطونه منهم )) ‪ ،‬وقال تعالى ‪ (( :‬فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم تعلمون )) ‪ ،‬وهذا من الضّروريّات‬
‫بيب فيسأله (‪)1‬‬ ‫المريض ّ‬
‫الط َ‬ ‫ُ‬ ‫فن أهل الذّكر فيه واالختصاص كما يأتي‬ ‫‪ :‬أن يسأل اإلنسان في ك ّل ّ‬
‫وال يعالج نفسه بنفسه فيما يحتاج طبيبًا إذ في ذلك المخاطرة والهالك ّإال من بلغ هو نفسه درجة‬
‫الزاد الذي ال يص ّح في اصطالح أهل‬ ‫الطبيب ‪ ،‬وتلك الدّرجة المجزئة إ ّنما تُنال بمجموع المدارك و ّ‬ ‫ّ‬
‫فن اسم العلم لصاحبه بدونه ‪ ،‬إذ هو ما يتحقّق به أصل الحذق والقدرة لديهم على أصل البناء‬ ‫ك ّل ّ‬
‫صحيح ال ُمحكم وهو ( اآللة ) الّتي ال تتفاوت بل ال بدّ أن تتوافر لدى جميعهم ّ‬
‫وإال وقع البناء فاسدًا‬ ‫ال ّ‬
‫صل أن تتفاوت ‪.‬‬ ‫أصال ‪ ،‬وإ ّنما المتفاوت هو درجة حذقهم وخبرتهم وهي (ال َملَكة) التي يح ُ‬ ‫ً‬ ‫أو سقط‬

‫فصل ‪:‬‬
‫فالفساد ـ إن حصل ـ سببه هو (التّعالم ) ‪ ،‬و(التّعالم ) ‪ :‬خوض ( العلوم ) قبل اكتمال ( اآللة )‬
‫صل ‪ ،‬ولو أن ال يدّعي أ ّنه عالم! فإ ّنما‬
‫وحصول األهليّة التا ّمة ‪ ،‬فالمتعالم يخوض في العلم ويقول ويؤ ّ‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أن الذي ينبغي ( في علم األبدان ) على ك ّل مريض ليس الطب صناعته = أن يسأل طبيبًا‬ ‫(‪ )1‬فالفرض على العوا ّم تقليد العلماء كما ّ‬
‫ّ‬
‫حاذقًا ثقة عنده ويعمل بما يصفه له بال مراء وال جدال إال في األمور الظاهرة إذ دخوله فيما دون ذلك من دقائق الطبّ وما ال يدرك‬
‫عبث وسفهٌ ّإال أن يصير طبيبًا مثله ‪ ،‬فكذا الفرض ( في علم األديان ) على ك ّل من ليس العلم صناعته = أن يسأل من يثق‬ ‫ٌ‬ ‫غوره =‬
‫ّ‬
‫صة نفسه بال مراء والجدال وال إنكار على غيره إال في المسائل الظاهرة ‪ ،‬إذ دخوله فيما دون ذلك‬ ‫في دينه وعلمه ويعمل بذلك في خا ّ‬
‫ليس له فيه إال األوزار واآلثام حتّى يصير عال ًما مثله ‪...‬‬
‫فن هو واحد شامل‬ ‫فاألطبّاء درجة واحدة في أصل صحّة المكَنة من التّطبّب وغلبة صوابهم على الخطإ ‪ ،‬وكذا اسم ( العالم ) في كل ّ‬
‫صناعة القادرين على تحقيق ثمرتها وإحكام البناء فيها ‪:‬‬ ‫ألهل ال ّ‬
‫مثال ‪ :‬ال َبنّـاء ‪ ...‬هو القادر على ال ِبناء ‪ ...‬فمن كانت له قدرة جزئية فقط ومع ذلك بنى أوشك أن يسقط بناؤه أو يظهر فساد ذلك البناء‪،‬‬
‫مرة لم يُؤمن في بناء آخر أن يرفعه فاسدًا لعدم إحكامه ألصول‬ ‫هذا إن قدر أن يرفعه أصال ‪ ،‬فإن تيسّر له أن يرفع بنا ًء صحي ًحا ّ‬
‫صنعة ) هو اآللة ‪ ،‬و ( العالم ) هو صاحب هذه اآللة ‪ ...‬من بلغ أن يتقن مناهج البحوث ويُحكم البناء‬ ‫صتعة ‪ ...‬فـ ( إحكام أصول ال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫مثل العلماء ‪ ،‬فهو منهم‪.‬‬
‫صيد أو يقدر عليه جزئيّا يقول له ‪ ( :‬ال تعطني سمكة ولكن‬‫مثال آخر ‪ :‬الصيّاد ‪ ...‬هو القادر على االصطياد ‪ ،‬ومن ال يقدر على ال ّ‬
‫علّمني كيف أصطاد)‪.‬‬
‫الحالق ‪ ...‬والذي الذي يكون معه يتعلّم عنه وهو الذي نس ّميه ال ّ‬
‫صانع ‪ ...‬طالب العلم هو مثل هذا النّاظر الذي يمعن النّظر‬ ‫ّ‬ ‫مثال آخر ‪:‬‬
‫يتكون لديه إلمام بتلك األصول مع دُربة عليها إلى أن يصير قادرا على إتقان‬‫صنعة فه ًما صحي ًحا ث ّم ّ‬ ‫الحالق ويفهم أصول ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫في فعل‬
‫شريعة المعجز المتكامل‬ ‫الحالق فيكون حينئذ صاحب ( آلة ) ‪ ...‬وهذا المثال وغيره هو للتّقريب ال أكثر ّ‬
‫وإال فأين علم ال ّ‬ ‫الحالقة مثل ّ‬
‫الدّقيق من مثل العلوم البشريّة ؟؟!‬
‫العبرة هي بحقيقة فعله ونتيجته ‪ ،‬وحقيقة ذلك ‪ :‬قفوه ما ليس له به علم وبناؤه تلك األقوال على غير‬
‫صحيحين"‬ ‫أسس متكاملة ‪ ،‬فيكون نتيجة ذلك فساد البناء الذي يبنيه أو سقوطه (‪ ، )2‬ولذا جاء في "ال ّ‬
‫ض ْال ِع ْل َم‬ ‫َّللا الَ َي ْق ِب ُ‬
‫عن عبد هللا بن عمرو بن العاص أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ( :‬إِ َّن َّ َ‬
‫عا ِل ًما اتَّ َخذَ ال َّن ُ‬
‫اس‬ ‫ق َ‬ ‫اء ‪َ ،‬حتَّى ِإذَا لَ ْم يُ ْب ِ‬ ‫ْض ْالعُلَ َم ِ‬ ‫ض ْال ِع ْل َم ِبقَب ِ‬
‫عهُ ِمنَ ْال ِع َبا ِد ‪َ ،‬ولَ ِك ْن َي ْق ِب ُ‬ ‫عا ‪َ ،‬ي ْنت َِز ُ‬ ‫ا ْن ِتزَ ا ً‬
‫ضلوا ) ‪ ،‬فبدعة الضّالل التي هي خرو ٌج متيقَّ ٌن أو‬ ‫ضلوا َوأ َ َ‬ ‫س ِئلُوا فَأ َ ْفت َْوا ِبغَي ِْر ِع ْلم فَ َ‬
‫سا ُج َّهاالً فَ ُ‬ ‫ُر ُءو ً‬
‫قريبٌ من المت َيقَّن عن إجماعات العلماء قليل صدورها من عالم متأ ّهل لص ّحة آلته ‪ ،‬وكثير صدورها‬
‫أن (التّعالم ) في الدّين هو سبب ك ّل شذوذ وبناء‬ ‫من المتعالمين بل هم مظ ّنتها لعدم أهليّتهم ‪ ...‬فـتبيّن ّ‬
‫شرك وسبب وجوده هو هذا‬ ‫فإن أصل ال ّ‬ ‫شرك ‪ّ ،‬‬ ‫فاسد منسوب إليه ؛ وهي البدع التي منها مكفّرة كال ّ‬
‫التّعالم (( وأن تشركوا باهلل مالم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على هللا ماال تعلمون )) ‪ ،‬قال ابن القيم‬
‫رحمه هللا في " إعالم الموقعين " (‪ " : )38/1‬وقد حرم هللا سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا‬
‫والقضاء ‪ ،‬وجعله من أعظم المحرمات ‪ ،‬بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى ‪ (( :‬قُ ْل ِإ َّن َما‬
‫ق َوأَن ت ُ ْش ِر ُكوا ِباهللِ َما لَ ْم يُن ِ َّز ْل ِب ِه‬ ‫ي ِبغَي ِْر ْال َح ّ ِ‬‫اإل ْث َم َو ْال َب ْغ َ‬
‫طنَ َو ِ‬ ‫ظ َه َر ِم ْن َها َو َما َب َ‬
‫ش َما َ‬ ‫اح َ‬ ‫ي ْالفَ َو ِ‬ ‫َح َّر َم َر ِّب َ‬
‫المحرمات أربع مراتب ‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫هللا َما الَ تَ ْعلَ ُمونَ )) [األعراف‪ . ]33/‬قال ‪ :‬فرتب‬ ‫علَى ِ‬ ‫طا ًنا َوأَن تَقُولُوا َ‬ ‫س ْل َ‬‫ُ‬
‫وبدأ بأسهلها وهو الفواحش‪.‬‬
‫ثم ثَ َّنى بما هو أشد تحريما منه وهو اإلثم والظلم ‪.‬‬
‫ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه ‪.‬‬
‫ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بال علم ‪ ،‬وهذا يعم القول عليه سبحانه بال‬
‫علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه " انتهى (‪. )3‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الزاد أ ّنه يتفاوت في واقع األمر ؛ إذ كالمنا عن القدر المجزئ الذي يص ّح معه اسم ( العالم )‬ ‫)‪ )1‬وال يقدح في ما ذكرناه من عدم التّفاوت في هذا ّ‬
‫الزاد يستغرق زما ًنا‬ ‫أن تحصيل ذلك ّ‬ ‫وإال فمعلوم ضرورة ً ّ‬‫في االصطالح ‪ ،‬وهو الذي يحقّق لصاحبه األهليّة والقدرة على الفتيا والقول في العلم ‪ّ ،‬‬
‫يتجزأ ؛ ومثّلتُ ذلك ـ لتقريب المعنى أكثر ‪ :‬بسيّارة‬
‫ّ‬ ‫فهو في واقع األمر درجات وأجزاء ‪ ،‬وهو من حيث القدر المجزئ منه درجة واحدة وك ٌّل ال‬
‫صنع ؛ فإ ّنها تبقى وقتًا ليكتمل صنعها‪ ...‬فهي في بداية ال ّ‬
‫صنع وفي أثنائه ال يُطلق عليها اسم ( السيّارة ) بمعنى ‪ :‬تلك العربة التي‬ ‫في أطوار ال ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تصلح لوظيفة السّير وال ّنقل ونحو ذلك ‪ ...‬بل هي ال تكون كذلك ولو في آخر األطوار مثل أن يصل صانعها إلى تركيب العجلة الثالثة مثال إال بأن‬
‫صنع ؛ فتكون حينها سيّارة صالحة لتلك الوظيفة‪.‬‬ ‫يكتمل ال ّ‬

‫(‪ )2‬وهذا الفساد المترتّب على (التّعالم ) يكون في بعض العلوم أشدّ وأخطر منه في بعض‪ ،‬كالتّعالم في مجال الكهرباء مثال وكذا في علم الطبّ‬
‫وغيرها من العلوم وأخطر من ذلك كلّه في (علوم الدّين) ّ‬
‫ألن الدّين هو الغاية‪ ،‬وعلوم الدّنيا هي وسائل ‪ ،‬فالخطأ فيه أشنع وأض ّل سبيال‪.‬‬

‫شرك هو أ ّنه سببه وسبب ك ّل بدعة وتحريف للدّين إذ السّبب الجامع لك ّل بدعة وضاللة في الفهم هو القول على‬ ‫(‪ )3‬والوجه في كون ذلك فوق ال ّ‬
‫صحيحة لكن‬ ‫محرفة لصورته ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫مضرة بمصلحة الدّين‬ ‫ّ‬ ‫ألن جميع البدع‬ ‫شرك في نفسه ّ‬ ‫فإن أعظم بدعة في نفسها هي ال ّ‬ ‫هللا بغير آلة العلم ‪ ،‬وإالّ ّ‬
‫شرك متعلّق بأعظم حقوق هللا ‪ ،‬وأعظم األبواب في دينه ‪ ،‬وهو توحيده تعالى في ربوبيّته وألوهيّته فذلك هو غاية الغايات‪ ،‬ويلي ذلك بدعة‬ ‫ال ّ‬
‫اإلرجاء أل ّنها مفضية لالنسالح من العمل بالدّين وذريعة لوقوع الكفر والفسوق والعصيان ‪ ،‬وأعظم البدع من حيث تعلّقها بحقوق العباد هي‬
‫شرائع من الكلّيات األخرى الكبرى كحفظ‬ ‫صى هللا به في جميع ال ّ‬ ‫الخارجيّة أل ّنها مع إخاللها بمصلحة الدّين كسائر البدع هي أيضًا مهدرة لما و ّ‬
‫ال ّنفس والعرض والمال التي هي من أعظم حقوق العباد‪ ...‬والبدع عمو ًما فيها أيضا نوع شرك وكبر يص ُل إلى الكفر ـ وهذا ل َمن نوى بذلك أن‬
‫الظالِمِ ينَ )) ‪ .‬فإن لم ينو‬ ‫َّللا ال َي ْهدِي ْالقَ ْو َم َّ‬ ‫اس ِبغَي ِْر ع ِْلم إِ َّن َّ َ‬
‫ُض َّل ال َّن َ‬ ‫َّللا َكذِبا ً ِلي ِ‬
‫علَى َّ ِ‬‫ظلَ ُم مِ َّم ِن ا ْفت ََرى َ‬ ‫ُحرفه كما قال تعالى ‪ (( :‬فَ َم ْن أ َ ْ‬ ‫يشين الدّين أو ي ّ‬
‫ذلك فهو آثم على ك ّل حال ‪ ،‬ولهذا قال ابن تيمية رحمه هللا (‪ " : )449 / 10‬من تكلم في الدين بال علم كان كاذبًا‪ ،‬وإن كان ال يتعمد الكذب‪ ...‬وقد‬
‫وَّللا‬
‫َّللا‪ ،‬وإن يكن خطأ فهو مني ومن الشيطان‪ّ ،‬‬ ‫قال أبوبكر وابن مسعود وغيرهما من الصحابة ـ فيما يفتون فيه باجتهادهم ‪" :‬إن يكن صوابًا فمن ّ‬
‫ورسوله بريئان منه‪ .‬فإذا كان خطأ المجتهد المغفور له هو من الشيطان‪ ،‬فكيف بمن تكلم بال اجتهاد يبيح له الكالم في الدين؟ فهذا خطؤه أيضًا من‬
‫الشيطان‪ ،‬مع أنه يعاقب عليه إذا لم يتب‪ ،‬والمجتهد خطؤه من الشيطان وهو مغفور له‪ ،‬كما أن االحتالم والنسيان وغير ذلك من الشيطان وهو‬
‫مغفور له بخالف من تكلم بال اجتهاد يبيح له ذلك‪ ،‬فهذا كاذب آثم في ذلك ‪ ، " ...‬وقال ابن القيم رحمه هللا ‪" :‬ومما يد ّل أيضا على أنه من كبائر‬
‫علَى هللاِ ْال َكذ َ‬
‫ِب الَ‬ ‫ِب إِ َّن الَّذِينَ َي ْفت َُرونَ َ‬‫علَى هللاِ ْال َكذ َ‬ ‫ف أ َ ْل ِس َنت ُ ُك ُم ْال َكذ َ‬
‫ِب َهذَا َحالَ ٌل َو َهذَا َح َرا ٌم ِلّتَ ْفت َُروا َ‬ ‫َص ُ‬ ‫اإلثم قول هللا تعالى ‪َ (( :‬والَ تَقُولُوا ِل َما ت ِ‬
‫عذَابٌ أَلِي ٌم )) [النحل‪ ، ]117-116/‬فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ‪ ،‬وقولهم لما لم يحرمه ‪:‬‬ ‫يُ ْف ِلحُونَ * َمتَاعٌ قَلِي ٌل َولَ ُه ْم َ‬
‫هذا حرام ‪ ،‬ولما لم يحله ‪ :‬هذا حالل ‪ ،‬وهذا بيان منه سبحانه أنه ال يجوز للعبد أن يقول هذا حالل وهذا حرام إال بما علم أن هللا سبحانه وتعالى‬
‫أحله وحرمه " انتهى‪.‬‬
‫فصل ‪:‬‬

‫فالعلم باعتبار (اآللة ) درجة واحدة ال تتفاوت ‪ ،‬وإ ّنما ال ّناس بحسب اآللة صنفان ال ثالث لهما ‪:‬‬
‫ي فرضه التّقليد‪.‬‬
‫عام ّ‬
‫وعالم فرضه االجتهاد‪.‬‬
‫وأ ّما ما يُذكر من رتبة بينهما يُس ّمونها (االتّباع) فال أصل لها عند األئ ّمة وإ ّنما اخترعها ابن حزم‬
‫ي لمنعه من التّقليد في الفروع كما منعته المعتزلة في األصول (‪. )1‬‬ ‫الظاهر ّ‬‫ّ‬

‫صه في كتابه "اإلحكام" قال ‪ ( :‬فاجتهاد العامي إذا سأل العالم عن امور دينه فأفتاه ‪ -:‬ان يقول له‬
‫ون ّ‬
‫‪ :‬هكذا أمر هللا و رسوله ‪ :‬فإن قال نعم ‪ ,‬أخذ بقوله و لم يلزمه أكثر من هذا البحث‪ ,‬و إن قال له ‪:‬ال‬
‫أو قال له ‪ :‬هذا قولي ‪ ,‬أو قال له ‪ :‬هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة أو أبي يوسف أو‬
‫الشافعي أو أحمد أو داود أو سم ى له أحدا من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبي صلى هللا عليه‬
‫و سلم أو انترهه أو سكت عنه ‪ ,‬فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه و فرض عليه أن يسأل غيره من‬
‫العلماء ‪ ,‬أو يطلبه حيث كان إذ إنما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليخبره بحكم‬
‫هللا تعالى و حكم محمد صلى هللا عليه و سلم في ذلك و ما يجب في دين اإلسالم في تلك المسألة )‪.‬‬
‫أن المقلّد يقلّد في الحقيقة‬ ‫فشبهته ‪ :‬هي األمر باتّباع الوحي وأدلّته دون آراء ّ‬
‫الرجال ‪ ،‬وجوابها ّ‬
‫أدلّتهم ال أشخاصهم وإ ّنما هو عاجز بنفسه عن معرفة الدّالالت ووجوهها ومراتبها وطرائق‬
‫االستدالل واالجتهاد فكان فرضه التّقليد كما د ّل على ذلك الوحي نفسه ؛ قال تعالى ‪ (( :‬فاسألوا أهل‬
‫الرسول وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذين‬ ‫الذّكر إن كنتم ال تعلمون )) ‪ ،‬وقال ‪ (( :‬ولو ردّوه إلى ّ‬
‫يستنبطونه منهم )) وهم العلماء‪.‬‬

‫سرنا القرآن للذّكر )) ‪،‬‬ ‫ومن شبه من تابعه هنا ‪ :‬ما فهموه من ظاهر قول هللا تعالى ‪ (( :‬ولقد ي ّ‬
‫سر إالّ باتّخاذ أسبابه وهي‬ ‫سرنا القرآن للذّكر)) أي للتّالوة‪ ،‬وأ ّما الفهم فال يتي ّ‬ ‫أن معنى‪ (( :‬ي ّ‬ ‫والجواب ّ‬
‫أن من ال يتعلّم‬
‫وإال فمعلوم ّ‬ ‫صبر عليه كما جاء في الحديث ‪ ( :‬إ ّنما العلم بالتّعلّم )‪ّ ،‬‬ ‫طلب العلم وال ّ‬
‫سر ّإال بالتّعلّم‪.‬‬ ‫صحيحة نفسها ال تتي ّ‬ ‫سر له الفهم ‪ ،‬بل التّالوة ال ّ‬‫اللّغة العربيّة مثال ال يتي ّ‬

‫وقد قيل في الذّكر هنا أ ّنه بمعنى التّدبّر وقيل أ ّنه بمعنى الحفظ وقيل غير ذلك وليس شيء من تلك‬
‫المعاني بمنافية التّخاذ أسبابها مهما كانت‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(‪ )1‬شبهة المعتزلة في منع التّقليد في األصول هي قولهم في باب التّحسين والتّقبيح العقليين ؛ فإ ّنهم أبطلوا به إيمان من لم يستد ّل على التّوحيد‬
‫أن اآليات هي ‪ (( :‬لقوم يعقلون )) و (( يتف ّكرون )) ونحو ذلك ‪ ،‬وأثبت‬ ‫صل إليه تقليدًا ولم يسبقه بتف ّكر ونظر إذ قد ذكر تعالى ّ‬ ‫بعقله كمن تو ّ‬
‫الرسل من األفعال القبيحة والسيّئة كما في قوله تعالى ‪ (( :‬اذهبا إلى فرعون إ ّنه طغى )) ‪ ،‬وقوله ‪ (( :‬أن‬ ‫ّ‬ ‫إرسال‬ ‫قبل‬ ‫اس‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫فعله‬ ‫لما‬ ‫صفات القبح‬
‫أن المناط هو ال ّنقل ألنّ‬
‫صحيح ّ‬ ‫ّ‬
‫الرسل ‪ ،‬وهذا عند أهل السنة باطل ‪ ،‬وال ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ائت القوم الظالمين قوم فرعون )) ‪ ،‬فدل أن مناط الذ ّم هو العقل ال إرسال ّ‬
‫الرسل )) ‪ ،‬وقال ‪(( :‬‬ ‫شرين ومنذرين ّ‬
‫لئال يكون لل ّناس على هللا حجّة بعد ّ‬ ‫الرسل وال ّنقل عنهم كما قال تعالى ‪ (( :‬رسال مب ّ‬
‫الذين جعلهم هللا حجّة هم ّ‬
‫ي فال يقتضي حكما دينيا‬ ‫ي نقل ّ‬
‫ي ال شرع ّ‬‫ي عقل ّ‬‫وما ك ّنا معذّبين حتّى نبعث رسوال )) ‪ ،‬وجواب شبهة المعتزلة فيما ذكروه من الذّ ّم أ ّنه ذ ّم لغو ّ‬
‫وجزاء أخرويا‪.‬‬
‫صحابة والتّابعين ونحوهم في العلم ‪ ،‬وجوابه ّ‬
‫أن أولئك‬ ‫ومن شبه من منع التّقليد أيضًا ‪ :‬خوض ال ّ‬
‫كانوا علماء فإ ّنهم عرب فصحاء بلغاء عارفون باللغة وأساليبها وبمقاصد الكالم ومراميه مع قلوب‬
‫تقيّة وورع وديانة وقد ز ّكاهم هللا ربّ العالمين ‪ ،‬فال يستوي حالهم بحال من أتى بعدهم في زمن‬
‫العجمة ورقّة الدّيانة من عموم أهل القرون الموالية ّإال من اصطفاه هللا منهم وآتاه آلة االجتهاد من‬
‫خلف عدول يت ّم بهم نوره ويظهر بهم دينه إلى يوم القيامة ‪ ،‬فإ ّنما العلم بالتّعلّم ‪...‬‬

‫ومن الشّبه أيضًا ‪ :‬ظاهر كالم بعض الفقهاء في منعهم التّقليد وأمرهم باتّباع ذات الدّليل ‪ ،‬والجواب‬
‫أن كالمهم ذلك هو مو ّجه لتالمذتهم ومن هو مثلهم في معرفة أصول االستدالل وقواعده وطرائقه‬ ‫‪ّ :‬‬
‫ضا ومن ذلك قول الشافعي رحمه هللا ‪" :‬إذا‬ ‫ال إلى عوا ّم ال ّناس م ّمن ال يُحسن ذلك ؛ ومن ذلك أي ً‬
‫وجدتم في كتابي خالف سنة رسول هللا فقولوا بسنته ودعوا ما قلت" فإ ّنه خطاب للمجتهدين من‬
‫أصحابه ‪ ،‬ومثله ما روى أبو داود قال ‪" :‬قلت ألحمد‪ :‬األوزاعي أتبع أم مالكاً؟ قال‪" :‬ال تقلد دينك‬
‫أحدا ً من هؤالء‪ ،‬ما جاء عن النبي صلى هللا عليه وسلّم فخذ به"‪ ،‬وقال أي ً‬
‫ضا ‪" :‬ال تقلدني‪ ،‬وال تقلد‬
‫ي وخذ من حيث أخذوا" (‪ . )1‬وقال زفر‪" :‬كنا نختلف‬ ‫مالكاً‪ ،‬وال الشافعي‪ ،‬وال األوزاعي‪ ،‬وال الثور ّ‬
‫إلى أبي حنيفة ومعنا أبو يوسف ومحمد بن الحسن‪ ،‬فك ّنا نكتب عنه‪ ،‬فقال يوماً‪ :‬ويحك يعقوب! ال‬
‫تكتب كل ما تسمعه م ّني‪ .‬فإ ّني قد أرى الرأي اليوم فأتركه غداً‪ ،‬وأرى الرأي غدا ً فأتركه بعد غد"‪...‬‬
‫ولهذا قال ابن تيمية رحمه هللا ـ كما في " مجموع الفتاوى " (‪ " : )226/20‬وأما مثل مالك‬
‫والشافعي وسفيان‪،‬ومثل إسحاق بن راهوية وأبي عبيد‪ ،‬فقد نص ( يعني‪ :‬أحمد بن حنبل ) في غير‬
‫موضع على أنه ال يجوز "للعالم القادر على االستدالل" أن يقلدهم ‪ ، ...‬ويأمر "العامي" أن يستفتي‬
‫إسحاق وأبا عبيد وأبا ثور وأبا مصعب‪ ،‬وينهى "العلماء من أصحابه" كأبي داود وعثمان بن سعيد‬
‫وإبراهيم الحربي وأبي بكر األثرم وأبي زرعة وأبي حاتم السجستاني ومسلم وغيرهم أن يقلدوا أحدا‬
‫من العلماء‪ ،‬ويقول‪ :‬عليكم باألصل بالكتاب والسنة " ‪.‬‬

‫أن نهي األئ ّمة عن التّقليد وأمرهم بالدّوران مع الدّليل هو = متو ّجه إلى من كان ً‬
‫قادرا‬ ‫صل ّ‬ ‫والمح ّ‬
‫على االجتهاد ـ وهم العلماء ـ وليس هو إلى من لم يبلغ رتبتهم من العوا ّم فإ ّنه يجب على هؤالء‬
‫التّقليد‪.‬‬

‫ومن الشّبه أيضًا ‪ :‬سوء فهم لكالم بعض األئ ّمة م ّمن تكلّم في هذه المسألة كابن القيم وشيخه في باب‬
‫تجزئ آلة االجتهاد قوله ‪ " :‬االجتهاد حالة تقبل التجزؤ‬ ‫التّقليد واالجتهاد ‪ ،‬فمن كالم األول في ّ‬
‫تتجزأ عند الجميع ّإال‬ ‫ّ‬ ‫واالنقسام ‪ " ...‬وهو قصد بذلك في المسائل واألبواب ال في أصل اآللة فإ ّنها ال‬
‫متجزئة ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أن اآللة‬ ‫أن مذهب بعضهم ّ‬ ‫خالفات لفظيّة قد تشبّه على من ال علم عنده ّ‬
‫سا ِئ ِل‬‫ض ْال َم َ‬ ‫وكذا ابن تيمية ل ّما قال في "الفتاوی" ‪َ : 204/20‬و َكذَلِكَ ْال َعا ِ ّمي إذَا أ َ ْم َك َنهُ ِاالجْ ِت َهادُ فِي َب ْع ِ‬
‫ام فَ ْال ِعب َْرة ُ ِب ْالقُد َْرةِ َو ْالعَجْ ِز َوقَ ْد َي ُك ُ‬
‫ون‬ ‫س َ‬ ‫َصبٌ َي ْق َب ُل التجزي َو ِاال ْن ِق َ‬ ‫َجازَ لَهُ ِاالجْ ِت َهادُ فَإِ َّن ِاالجْ ِت َهادَ ُمن ِ‬
‫علُوم ت ُ ِفيدُ‬‫صو ِل ُ‬ ‫ون َّإال ِب ُح ُ‬ ‫علَى ِاالجْ ِت َها ِد َال تَ ُك ُ‬ ‫اج ًزا فِي َب ْعض لَ ِك َّن ْالقُد َْرة َ َ‬ ‫ع ِ‬ ‫الر ُج ُل قَاد ًِرا فِي َب ْعض َ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س ْب َحا َنهُ أ ْعل ُم‪.‬‬ ‫َّللاُ ُ‬‫احدَة ٌ ِم ْن فَ ّن فَ َي ْبعُدُ ِاالجْ ِت َهادُ فِي َها َو َ َّ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب فَأ َّما َم ْسألة َو ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َم ْع ِرفَة ال َمطلو ِ‬
‫ي العلماء‪ ،‬وهذا له أصل آلة االجتهاد ودرجته الدّنيا الّتي يمكنه معها‬ ‫ي ههنا هو عا ّم ّ‬ ‫فإن مراده بالعا ّم ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫يتجزأ ـ‬ ‫االجتهاد في بعض المسائل م ّما ال يحتاج إلى تخريج وال توجيه وال ترجيح‪ ،‬فالمقصود بما‬
‫على ذلك ـ هو = المسائل االجتهاديّة ال نفس آلة االجتهاد وأصل القدرة عليه‪ ،‬ولذا قال ‪ْ :‬‬
‫"القُد َْرة َ‬
‫ب"‪ ،‬أي بحصول اآللة‪.‬‬ ‫علُوم ت ُ ِفيدُ َم ْع ِرفَةَ ْال َم ْ‬
‫طلُو ِ‬ ‫صو ِل ُ‬ ‫ون َّإال ِب ُح ُ‬
‫علَى ِاالجْ ِت َها ِد َال تَ ُك ُ‬
‫َ‬

‫ّ‬
‫الحق واحدٌ فيكون تقليدهم مفضيًا‬ ‫ومن الشبه ‪ :‬عدم عصمة العلماء وأ ّنهم يخطئون ويصيبون إذ‬
‫أن الخطأ في المسائل االجتهاديّة ال يعرفه ّإال أهل االجتهاد‬
‫التّباعهم على الخطأ ‪ ،‬وجواب ذلك ‪ّ :‬‬
‫ومن هم مثلهم ال العوا ّم ‪ ،‬وكون العلماء يُخطئون هو ح ّجة عليهم ال لهم أل ّنهم يخطئون مع علمهم‬
‫ي مع جهله ؟!‬‫فكيف حال العا ّم ّ‬
‫للحق الذي عند هللا في ذاته ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫صل‬‫أن الذي كلّف به الجميع هو التّو ّ‬
‫الظن ّ‬
‫ّ‬ ‫شبهة ‪ :‬هو‬‫وأصل هذه ال ّ‬
‫ّ‬
‫الحق‬ ‫صل لذلك‬ ‫صواب أن ليس عليهم ذلك في تلك المسائل ‪ ،‬وإ ّنما هم مأمورون فيها بمحاولة التو ّ‬ ‫وال ّ‬
‫بأن قوله هو‬ ‫محاولةً واتّقاء هللا ما استطاعوا لكونها مسائل ظ ّنيّة ال يقدر أحد المختلفين أن يقطع فيها ّ‬
‫التحري‬
‫ّ‬ ‫للحق إذ هو فيها غيب (( وما كان هللا ليطلعكم على الغيب )) ‪ ،‬وإ ّنما غاية ذلك هو‬ ‫ّ‬ ‫المطابق‬
‫ي الذي ليست له اآللة‬ ‫والمحاولة التي طريقها للعالم الذي له آلة االجتهاد ‪ :‬أن يجتهد ‪ ،‬وطريقها للعا ّم ّ‬
‫ّ‬
‫والحق الذي عند هللا ‪ ،‬لك ّنه‬ ‫ّ‬ ‫صواب‬
‫األول فيخطئ ويجانب ال ّ‬‫‪ :‬أن يقلّده لحال الضّرورة ‪ ،‬وقد يجتهد ّ‬
‫سا إال وسعها‬ ‫مع حسن قصده وبذله ُوسعه ال يأثم وال يُالم لكونه قد أدّى ما عليه و (( ال يُكلّف هللا نف ً‬
‫)) بل هو في الحالين محسن مأجور كما قال صلى هللا عليه وسلم ‪ " :‬إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم‬
‫أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " متّفق عليه ‪ ،‬فأولى منه بالعذر وعدم اللّوم‬
‫هو العا ّمي الذي يقلّده أو يقلّد غيره من العلماء (‪ ،)1‬فإ ّنه فاقدٌ لآللة التي بها يقدر على االجتهاد بنفسه‬
‫بما جعل الفرض في حقّه هو ‪ :‬سؤال أهل الذّكر وتقليد العالم ولو كان في نفس األمر مخطئًا ‪،‬‬
‫للحق فإ ّنه إ ّنما يصادفه‬ ‫ّ‬ ‫والحظر هو ‪ :‬قوله في دين هللا بغير علم وآلته ولو كان في نفس األمر مصيبًا‬
‫إذّاك مصادفةً ‪ ...‬فصار على ذلك الذّي يتكلّم في مسائل االجتهاد تصويبًا وتخطئةً نوعان ‪:‬‬

‫ـ عالم ‪ :‬يتكلّم في صناعته ؛ فهذا يُؤجر على ك ّل حال ولو أخطأ لما تقدّم في الخبر أ ّنه "إذا حكم‬
‫فاجتهد ثم أخطأ ؛ فله أجر " ‪.‬‬
‫ـ وجاهل ‪ :‬يخوض فيما ال يُحسنه ؛ فهذا يُؤزر على ك ّل حال ولو أصاب كما في الخبر عنه صلى هللا‬
‫ضا أ ّنه قال ‪ " :‬من قال في القرآن برأيه فأصاب ؛ فقد أخطأ " ‪ ،‬ومن كالم العلماء في‬‫عليه وسلّم أي ً‬
‫ذلك قول ابن تيمية رحمه هللا في "المجموع" (‪ " : )449 / 10‬من تكلم في الدين بال علم كان‬
‫كاذبًا‪،‬وإن كان ال يتعمد الكذب" وقال ‪ " :‬من تكلم بال اجتهاد يبيح له ذلك فهذا كاذب آثم في ذلك "‬
‫ي الذي يحفظ القرآن أو‬‫‪.‬وقول الذهبي في " سير أعالم النبالء" (‪ " : )191/18‬الفقيه المبتدئ العا ّم ّ‬
‫كثيرا ً منه ال يسوغ له االجتهاد أبدا ً ‪ ،‬فكيف يجتهد ؟ وما الذي يقول ؟ وعال ًم يبني ؟ وكيف يطير‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫الزنى وقتل ال ّنفس‬
‫صبه له أو إيجابه تقليدَه بعينه وإنكاره على من يأخذ بغير قوله ـ إال اإلنكار في المسائل الظاهرة كتحريم ّ‬ ‫(‪ )1‬والمنكَر هو تع ّ‬
‫ي ال يُنكر في غيرها هو‬‫ي كالهما فيُنكران على من يُخالف فيها‪ ،‬وكون العا ّم ّ‬ ‫ّ‬
‫المعصومة ونحوها م ّما يشترك في معرفة الحق فيه العالم والعا ّم ّ‬
‫فرض على ال ُمنكَر‬
‫ٌ‬ ‫لكون فرض العوا ّم جميعًا في ذلك الغير هو تقليدهم أهل الذّكر ؛ فإذا أنكر أحدُ منهم على آخر فيها فقد أنكر عليه إ ّما ما هو‬
‫صب وال خالف في المسائل الظاهرة ‪...‬‬ ‫عليه وهو أصل التّقليد أو ما هو رخصةٌ له وهي تقليده المعيّن الذي وثق في علمه ودينه دون تع ّ‬
‫ولما يريّش ؟! " بل قال أبو حامد في "اإلحياء" (‪ّ " : )36/3‬‬
‫حق العوام أن يؤمنوا ويسلموا‪،‬‬
‫ويشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم ويتركوا العلم للعلماء ‪ ،‬فالعامي لو يزني ويسرق كان خيرا له من أن‬
‫يتكلم في العلم " انتهى ‪.‬‬

‫صالة وتحريم‬ ‫الظاهرة المعلومة لجميع المسلمين كوجوب ال ّ‬ ‫ي في المسائل ّ‬ ‫وهم يستثتون كالم العا ّم ّ‬
‫أصال ونحو ذلك م ّما ال‬ ‫ً‬ ‫الروافض ‪ ،‬وكذا تكفير اليهود ومن لم يدخل في اإلسالم‬ ‫الخمر وكتبديع ّ‬
‫جائز أن يتكلّم فيه العوا ّم بخالف مسائل االجتهاد ‪ ،‬قال تعالى ‪ (( :‬ها أنتم‬ ‫ٌ‬ ‫يختص بدركه العلماء فذلك‬ ‫ّ‬
‫هؤالء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم )) ‪ ، ،‬وقال سبحانه ‪ (( :‬نبئوني‬
‫ِب َهذَا‬ ‫ف أ َ ْل ِس َنت ُ ُك ُم ْال َكذ َ‬ ‫َص ُ‬ ‫بعلم إن كنتم صادقين )) ‪ ،‬وقال سبحانه ‪َ (( :‬وال تَقُولُوا ِل َما ت ِ‬
‫ِب ال يُ ْف ِل ُحونَ )) وقال تعالى ‪:‬‬ ‫َّللا ْال َكذ َ‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫ِب إِ َّن الَّذِينَ َي ْفت َُرونَ َ‬ ‫َّللا ْال َكذ َ‬
‫علَى َّ ِ‬ ‫َحال ٌل َو َهذَا َح َرا ٌم ِلتَ ْفت َُروا َ‬
‫ق َوأ َ ْن ت ُ ْش ِر ُكوا ِب َّ ِ‬
‫اَّلل َما‬ ‫ي ِبغَي ِْر ْال َح ّ ِ‬ ‫اإل ْث َم َو ْال َب ْغ َ‬
‫طنَ َو ْ ِ‬
‫ظ َه َر ِم ْن َها َو َما َب َ‬‫ش َما َ‬ ‫اح َ‬‫ّي ْالفَ َو ِ‬
‫(( قُ ْل ِإ َّن َما َح َّر َم َر ِب َ‬
‫َّللا َما َال تَ ْعلَ ُمونَ )) واآليات في هذا المعنى كثيرة ‪ ،‬بل قد قال‬ ‫علَى َّ ِ‬ ‫س ْل َ‬
‫طا ًنا َوأ َ ْن تَقُولُوا َ‬ ‫لَ ْم يُن ِ َّز ْل ِب ِه ُ‬
‫ألن الجدال في العلم م ّمن‬ ‫ي صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬المراء في القرآن كفر » متّفق عليه ؛ وهذا ّ‬ ‫ال ّنب ّ‬
‫ليس من أهله موق ٌع في الكذب على هللا تعالى مفض لتبديل شرعه واالبتداع فيه ‪.‬‬

‫ي على وجه المباحثة والمدارسة والسؤال ونحو تلك الوجوه في جميع‬ ‫وكذا يستثنون كالم العا ّم ّ‬
‫المسائل فذلك م ّما ال بأس به بل قد يتعيّن عليه ‪ ،‬فبقي المقصود بالمنع = كالمه في مسائل االجتهاد‬
‫ألن ذلك ليس من دركه وال من وظيفته‪ ،‬وأعظم‬ ‫على وجه التّخطئة والتّصويب واإلنكار والتّثريب ّ‬
‫سنن"‬ ‫صة نفسه دون إنكار وال جدال ؛ وهذا كما جاء في ّال ّ‬ ‫ذلك التّبديع والتّكفير‪ّ ،‬إال ما يعتقده في خا ّ‬
‫من حديث عيوب األضاحي عن عبيد بن فيروز أ ّنه قال للبراء بن عازب رضي هللا عنه ‪ :‬إِ ِّني أ َ ْك َرهُ‬
‫ص ‪َ ،‬وأ َ ْن َي ُكونَ فِي ال ّ‬
‫س ِِّن َن ْق ٌ‬
‫ص ‪ .‬فقَا َل البراء ‪َ " :‬ما َك ِر ْهتَهُ فَدَ ْعهُ ‪َ ،‬و َال ت ُ َح ِ ّر ْمهُ‬ ‫أ َ ْن َي ُكونَ فِي ْالقَ ْر ِن َن ْق ٌ‬
‫علَى أ َ َحد‪" .‬‬‫َ‬
‫صواب (‪ )1‬ـ‬‫الراجح وال ّ‬ ‫ّ‬
‫الحق واحدًا عند هللا ـ إذ ذلك هو ّ‬ ‫وعليه فال ّنزاع مع هؤالء ليس هو في كون‬
‫وإ ّنما ال ّنزاع هو في الجزم بتخطئة المخالف والقطع بذلك فيما ال سبيل إلى الجزم فيه والقطع وهي‬
‫المسائل االجتهاديّة الظ ّنيّة التّي كان مالك رحمه هللا يقول في مثلها ‪ (( :‬إن نظن إالَّ ظ َّنا ً وما نحن‬
‫ي وغيره من الفقهاء أ ّنهم كانوا يقولون في ذلك ‪ " :‬قولنا صواب‬ ‫بمستيقنين)) ‪ ،‬وكذا نُسب لل ّ‬
‫شافع ّ‬
‫صواب " ‪.‬‬
‫يحتمل الخطأ وقول غيرنا خطأ يحتمل ال ّ‬
‫ق هو واح ٌد باعتبار النّظر إليه في ذاته‪ ،‬وأ ّما باعتبار محاولة المجتهدين جمي ًعا إصابته‬ ‫وذلك ّ‬
‫أن الح ّ‬
‫وأن كلّهم مأجور فيكون ك ّل مجتهد أو مقلد‬
‫فهم جميعًا ُمحقّون ؛ على معنى أ ّنهم مؤدّون ما عليهم ّ‬
‫للحق على معنى أ ّنه فاع ٌل لما ينبغي عليه من االجتهاد أو التّقليد بشروطه أي مصي ًبا‬‫ّ‬ ‫بشروطه مصي ًبا‬
‫لألجرعلى ك ّل حال ولو لم يوصله اجتهاده أو تقليده إلصابة الحق الذي هو حكم هللا في تلك المسألة‬
‫بعينه (‪.)1‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ّ‬
‫الحق في ذاته واحدٌ ‪:‬‬ ‫(‪ )1‬ومن األدلّة على‬

‫اب فَلَهُ أَجْ َر ِ‬


‫ان َوإِذَا‬ ‫ص َ‬‫َّللا صلّى هللا عليه وسلّم قَا َل ‪ :‬إِذَا َحك ََم ْال َحا ِك ُم فَاجْ تَ َهدَ ث ُ َّم أَ َ‬
‫سو َل َّ ِ‬
‫س ِم َع َر ُ‬ ‫ع ْم ِرو ب ِْن ْالعَ ِ‬
‫اص أَنَّهُ َ‬ ‫‪ 1‬ـ حديث َ‬
‫صحيحين*‪.‬‬ ‫ي ومسلم في *ال ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫َحك ََم فَاجْ تَ َهدَ ث َّم أخطأ فلهُ أجْ ٌر‪ .‬أخرجه البخار ّ‬

‫صتِ ِه بِتَ ْق َوى َّ‬


‫َّللاِ‬ ‫س ِريَّة أَ ْو َ‬
‫صاهُ فِي خَا َّ‬ ‫علَى َجيْش أَ ْو َ‬ ‫سلَّ َم ِإذَا أَ َّم َر أَ ِم ً‬
‫يرا َ‬ ‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫َّللا َ‬ ‫‪ 2‬ـ حديث ب َُر ْيدَةَ قَا َل ‪َ :‬كانَ َر ُ‬
‫سو ُل َّ ِ‬
‫اَّلل ا ْغ ُزوا َو َال تَغُلوا َو َال تَ ْغد ُِروا َو َال ت َْمثُلُوا‬ ‫َّللا قَاتِلُوا َم ْن َكف ََر بِ َّ ِ‬
‫سبِي ِل َّ ِ‬ ‫َو َم ْن َمعَهُ ِم ْن ْال ُم ْس ِل ِمينَ َخي ًْرا ث ُ َّم قَا َل ‪ :‬ا ْغ ُزوا بِاس ِْم َّ ِ‬
‫َّللا فِي َ‬
‫علَى‬ ‫َّللا فَ َال ت ُ ْن ِز ْل ُه ْم َ‬ ‫صن فَأ َ َرادُوكَ أَ ْن ت ُ ْن ِزلَ ُه ْم َ‬
‫علَى ُح ْك ِم َّ ِ‬ ‫ص ْرتَ أَ ْه َل ِح ْ‬ ‫َو َال تَ ْقتُلُوا َو ِليدًا ‪ ....‬الحديث بطوله ‪ ,‬وفي آخره‪ :‬و ِإذَا َحا َ‬
‫َّللا فِي ِه ْم أَ ْم َال‪ .‬أخرجه مسلم‪.‬‬ ‫يب ُح ْك َم َّ ِ‬
‫ص ُ‬ ‫علَى ُح ْك ِمكَ فَإِنَّكَ َال تَد ِْري أَت ُ ِ‬‫َّللا َولَ ِك ْن أَ ْن ِز ْل ُه ْم َ‬
‫ُح ْك ِم َّ ِ‬

‫ار َوقَاض فِى ْال َجنَّ ِة رجل علم الحق‬


‫ان فِى النَّ ِ‬
‫اضيَ ِ‬ ‫ى ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قَا َل ‪ْ :‬القُ َ‬
‫ضاةُ ثَالَثَةٌ قَ ِ‬ ‫‪ 3‬ـ حديث ب َُر ْيدَةَ أيضا أَ َّن النَّبِ َّ‬
‫فقضى به فهو فى الجنة ورجل قضى للناس على جهل فهو فى النار ورجل عرف الحق فجار فى الحكم فهو فى‬
‫النار‪.‬أخرجه أصحاب السّنن‪.‬‬

‫سلَّ َم ‪ :‬لَقَ ْد‬


‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫‪ 4‬ـ ول ّما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ‪ :‬أن يُ ْقتً َل ُمقاتلُ ُه ْم وت ُ ْسبَى ذُ ّريّت ُ ُه ْم ‪ ,‬قَا َل لَهُ َر ُ‬
‫سو ُل َّ ِ‬
‫َّللا َ‬
‫ي‪ .‬وأخرجه مسلم من‬ ‫َّللا ‪ ,‬وفي رواية ‪ :‬لَقَ ْد َحك َْمتَ ِب ُح ْك ِم ْال َم ِل ِك‪ .‬متّفق عليه من حديث أبي سعيد الخدر ّ‬ ‫َحك َْمتَ ِفي ِه ْم ِب ُح ْك ِم َّ ِ‬
‫حديث عائشة‪.‬‬

‫َان َمعَ ُه َما ا ْبنَا ُه َما َجا َء ال ِذّئْ ُ‬


‫ب فَذَه َ‬
‫َب بِاب ِْن‬ ‫ام َرأَت ِ‬
‫سلَّ َم قَا َل ‪ :‬بَ ْينَ َما ْ‬ ‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫يِ َ‬ ‫ع ْن النَّبِ ّ‬ ‫‪ 5‬ـ وفي حديث أبي ه َُري َْرةَ َ‬
‫ضى ِب ِه ِل ْل ُكب َْرى‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫د‬‫او‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ى‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫َا‬
‫َ َ ِ‬ ‫ت‬‫م‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ب‬
‫َ ِ‬‫َب‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫َّ‬
‫َ ِ َ‬‫ن‬‫إ‬ ‫ى‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫خ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫األ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫َب‬
‫َ ِ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫َّ‬
‫اح َبتِ َها ِإ َ‬
‫ن‬ ‫ص ِ‬ ‫ت َه ِذ ِه ِل َ‬‫ِإحْ دَا ُه َما فَقَالَ ْ‬
‫ت الص ْغ َرى َال يَ ْر َح ُمكَ َّ‬
‫َّللاُ ه َُو‬ ‫شقهُ بَ ْينَ ُك َما فَقَالَ ْ‬ ‫َ‬ ‫س ِ ّك ِ‬
‫ين أ ُ‬ ‫َ‬
‫علَ ْي ِه َما الس ََّالم فَأ ْخبَ َرتَاهُ فَقَا َل ائْتُونِي ِبال ِ ّ‬ ‫سلَ ْي َمانَ ب ِْن دَ ُاودَ َ‬ ‫علَى ُ‬ ‫فَخ ََر َجتَا َ‬
‫الحق في جهة واحدة ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ضى بِ ِه ِللص ْغ َرى‪ .‬متفق عليه ‪ .‬قال الحافظ ‪ :‬فيه ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬ ‫ا ْبنُ َها فَقَ َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ًّ‬
‫سل ْي ًمان َوكال آتينا ُحك ًما َو ِعل ًما ))‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫قلتُ ‪ :‬وفيه من ذلك ما في قول هللا عز وجل ‪ (( :‬فف ّه ْمنَاهَا ُ‬

‫‪ 6‬ـ وفي حديث عبد هللا بن عمرو بن العاصرضي هللا عنهما عن رسو ِل هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم ‪ « :‬أَن سليمان لما َبنى‬
‫ِف حكمه‪ ،‬فأُوتيه ‪ ...‬الحديث »‪ .‬أخرجه النسائي‪.‬‬‫عز وج َّل ُح ْكما يُصاد ُ‬
‫بيتَ المقدس سأل هللا عز وج َّل ِخالال ثالثة‪ :‬سأل هللا َّ‬

‫‪ 7‬ـ وحديث أبي بكرة الثقفي قال ‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يقول ‪ :‬ال يقضين أحد في قضاء بقضاءين ‪.‬‬
‫أخرجه النسائي أيضا وترجم عليه باب النهي عن أن يقضي في قضاء بقضاءين وهو حديث صحيح ‪.‬‬
‫قال ابن حزم في "اإلحكام" ‪ :‬وقد ذكر قوله تعالى (( يحلونه عاما ويحرمونه عاما)) ومن هذا نهي رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم عن أن يقضي أحد في أمر واحد بقضائين ‪ ...‬وهو شرع عام ال خطاب لواحد‪.‬‬

‫‪ 8‬ـ حديث عائشة أم المؤمنين كان نبى هللا صلّى هللا عليه وسلّم إذا قام من الليل افتتح صالته « اللهم رب جبرائيل وميكائيل‬
‫وإسرافيل فاطر السموات واألرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدنى لما اختلف فيه‬
‫من الحق بإذنك إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم »‪ .‬أخرجه مسلم وأهل السنن‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ وحديث أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه قال ‪ :‬خرج رجالن في سفر فحضرت الصالة وليس معهما ما ًء فتيمما صعيداً‬
‫طيبا ً فصليا ثم وجد الماء في الوقت ‪ ،‬فتوضأ أحدهما وأعاد اصالة ولم يعد اآلخر ‪ ،‬ثم أتيا الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫سنّة وأجزأتك صالتك ‪ ،‬وقال للذي أعاد لك األجر مرتين ‪.‬أخرجه أبو داود‬ ‫فذكرا ذلك له ‪ ،‬فقال ‪ :‬للذي لم يعد أصبت ال ّ‬
‫ٌ‬
‫حديث صحيح‪.‬‬ ‫والنسائي وهو‬

‫صحابة المفهوم من تخطئة بعضهم لبعض فيما اختلفوا فيه من المسائل ‪ ...‬بل‬‫‪ 10‬ـ إلى غير ذلك من األدلّة الكثيرة كاتّفاق ال ّ‬
‫قال ابن القيّم في*أحكام أهل الذمة* البن القيّم ص ‪ : 8‬وعلى هذا أكثر من أربعين دليالً قد ذكرناها في كتاب مفرد‪.‬‬
‫فصل ‪:‬‬

‫أن المأمور به من اتّباع الدّليل والدّوران معه هو دوران العالم معه باالستنباط واالجتهاد ‪،‬‬ ‫فتبيّن بهذا ّ‬
‫وأ ّما دوران العا ّمي مع الدّليل فإ ّنما يكون بسؤال العالم وتقليده ال باستنباطه هو واجتهاده فإ ّنه ال‬
‫ي في ذلك كحقيقة عا ّمة مذاهب أهل البدع‬ ‫المسوي بين العلم والعام ّ‬‫ّ‬ ‫يُحسن ذلك ‪ ،‬وحقيقة هذا المذهب‬
‫سلف وعالم الخلف ( إن س ّميناه عال ًما ) ‪ ،‬ور ّبما نطقوا بتلك التّسوية فقالوا ‪" :‬‬ ‫هو تسويتهم بين عالم ال ّ‬
‫سلف ال يجوز‬ ‫ظاهرا وباط ًنا ‪ ،‬إذ ك ّل قول يخرج عن إجماع ال ّ‬
‫ً‬ ‫هم رجال ونحن رجال "‪ ،‬وهذا باطل‬
‫األول الذي هو فهمه أو ذريعة لذلك‬ ‫أن يكون من العلم الذي يُتّبع أل ّنه من تغيير الدّين وتبديل الفهم ّ‬
‫تغييرا صري ًحا للدّين‬
‫ً‬ ‫كفرا أل ّنه يكون‬
‫ي كان ً‬ ‫التّغيير التّبديل ‪ ،‬بل هو إذا كان قوالً مخالفًا لقطع ّ‬
‫واستدرا ًكا عليه ‪ ،‬وإ ّنما قال أبو حنيفة ‪ " :‬هم رجال ونحن رجال " في قوم من أقرانه من التّابعين‬
‫وإال فاألصل في العالم أن ال يخرج عن دائرة اإلجماع إلى خالف ال‬ ‫وهو عالم مثلهم وفي طبقتهم ‪ّ ،‬‬
‫ي أن ال يخرج عن تقليد العلماء إلى اجتهاد ال يقدر عليه ‪ ،‬ليعتصم ك ّل‬ ‫ُقر عليه ‪ ،‬واألصل في العا ّم ّ‬ ‫ي ّ‬
‫منهما بذلك عن المناهج البدعيّة ‪...‬‬
‫االصطالحي للعالم ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫التّعريف‬

‫ي هو صاحب ( آلة االجتهاد ) ؛ وهي المعلومات األساسيّة الّتي ال تُعرف‬ ‫العالم بالمعنى األصول ّ‬
‫األحكام والفتاوى بدون اإللمام بها‪ ،‬ويُضاف إلى ذلك أصل القدرة على تطبيق تلك المعلومات‬
‫ألن ثمرة علم الفقه هي معرفة األحكام العمليّة ‪ ،‬فالفقيه هو القادر على‬ ‫لمعرفة تلك األحكام؛ وهذا ّ‬
‫فن هو القادر على تحقيق ثمرة‬ ‫معرفة تلك األحكام ثابتها ومتغيّرها كالفتاوى‪ ،‬وهكذا العالم في كل ّ‬
‫فإن ثمرة علم الحديث هي معرفة المقبول والمردود‪ ،‬فـ (‬ ‫الفن ‪ ،‬كما في علم الحديث ً‬
‫مثال؛ ّ‬ ‫ذلك ّ‬
‫المحدّث ) هو القادر على تمييز صحيح الحديث من ضعيفه وحسنه من واهيه وموضوعه ومحفوظه‬
‫صلوا أصل القدرة على القول واالجتهاد‬ ‫أن العلماء ـ وهم الّذين ح ّ‬‫من شاذّه ومنكره ونحو ذلك‪ ،‬غير ّ‬
‫في ف ّنهم ـ يتفاوتون في كمال تلك القدرة ؛ وهي الخبرة الّتي يعبّرون عنها بـ ( ال َملكة ) حتّى يبلغ قو ٌم‬
‫سا‪ ،‬كما هو شأن من بلغ رتبة ( ال ّناقد ) في علم‬ ‫عا من أدلّته رأ ً‬ ‫مرتبة القدرة على الحكم المباشر انتزا ً‬
‫الطرق واألحاديث رفعًا‬ ‫فإن ( ال ّناقد ) هناك هو ( المحدّث ) الّذي بلغ أن يعرف صواب ّ‬ ‫الحديث؛ ّ‬
‫ووصال وإرساال وص ّحة وضعفًا ويعلم عللها ومن ذلك دقائق العلل الخفية؛ فيقول ‪ :‬أخطأ فالن‬ ‫ً‬ ‫ووقفًا‬
‫صواب هو قول فالن‪ ،‬وهذا الحديث يُشبه حديث فالن وليس هو من حديث فالن‪،‬‬ ‫في حديث كذا وال ّ‬
‫سند محفوظ وهذا الوجه أو المتن باطل وهكذا ‪ ...‬فقيل لهؤالء ( نقّاد ) تشبيها لهم بناقد‬ ‫وهذا ال ّ‬
‫أن يعرف الدّرهم الجيّد من المغشوش بنفسه مباشرة ً ‪ ،‬وهكذا ( المجتهد‬ ‫ي الذي يبلغ ّ‬ ‫ّ‬ ‫صيرف ّ‬‫الدّراهم وال ّ‬
‫فإن ذلك ال‬ ‫المطلق ) في الفقه هو الّذي يبلغ أن ينتزع األحكام من األدلّة مباشرة ً لسعة آلته األصوليّة‪ّ ،‬‬
‫يُسلّم ّإال لمن كملت آلته بأن أل ّم بال ّنقليّات وأنواعها ودرجاتها‪ ،‬والعقليّات ووجوهها ومسالكها‪،‬‬
‫ي متكامل َيترك‬ ‫واللّغويّات وأضربها وفنونها حتّى يحيط بعلوم شتّى يمكنه معها تأسيس بناء أصول ّ‬
‫سا‪ ،‬ث ّم المجتهدون من بعد درجة هذا ( المجتهد المطلق ) درجات؛ منها ‪ ( :‬مجتهد‬ ‫معه التّقليد رأ ً‬
‫مستق ّل ‪ ،‬ومجتهد الفتوى‪ ،‬والتّخريج‪ ،‬ومجتهد التّرجيح‪ ،‬ومجتهد التّوجيه‪ ،‬وحافظ المذهب )‪ ،‬وجميع‬
‫هؤالء مجتهدون لما لهم من أصل ( آلة االجتهاد )؛ وهي المعلومات الّتي أدناها ما يمكن به نقل كالم‬
‫فإن المقصود‬ ‫العلماء على وجهه كما هي وظيفة صاحب الدّرجة األخيرة؛ وهو ( حافظ المذهب )‪ّ ،‬‬
‫بحافظ المذهب = ناقل فتاوى مجتهدي المذهب م ّمن هم فوقه رتبةً كما تقدّم‪ ،‬ووصف هذا بالعالم‬
‫أن التّفصيل يقتضي وصف هؤالء‬ ‫ضا‪ ،‬غير ّ‬ ‫أن ال ّنق َل = رتبة اجتهاديّة‪ ،‬كما تقدّم أي ً‬ ‫صحيح من جهة ّ‬
‫بـ ( عوا ّم العلماء ) لقصورهم عن مرتبة الفتوى وكذا قصورهم عن مرتبة التّخريج ومرتبة التّرجيح‬
‫صل لهم هو األولى في مقام التّفصيل‪ ،‬ولذا وصفهم به كثير‬ ‫بأنفسهم ونحو ذلك‪ ،‬وهذا الوصف المف ّ‬
‫من أهل األصول فإ ّنه يُخشى من الوصف المطلق بأ ّنهم ( علماء ) ‪ :‬أن تُت ََو َّهم لهم القدرة على‬
‫صناعة الفتوى والتّخريج والتّرجيح‪ ،‬وأسوأ من ذلك أن يُتو ّهم استقاللهم باالجتهاد‪ ،‬وأسوأ منه أن‬
‫تُعتقد لهم القدرة على انتزاع األحكام من األدلّة بأنفسهم‪ ،‬كما هو واقع من ألحق هؤالء بالعلماء على‬
‫ي العلماء‬ ‫معنى التّسوية لهم بمن هو فوقهم من المجتهدين‪ ،‬وهذا كتسوية كثير من سلفيّة العصر لعا ّم ّ‬
‫ضا أن ير ّجحوا وينتزعوا الفتاوى من األدلّة‬ ‫فجوزوا لهم هم أي ً‬‫وحفّاظ األقوال بأهل التّرجيح والفتوى ّ‬
‫بأنفسهم‪ ،‬بل هم قد أباحوا لهم استنباط األحكام من األدلّة مباشرة ً كما يفعل المجتهد المطلق !!! مع ّ‬
‫أن‬
‫ي ال يبلغ بهم أكثر من يقدروا على الفهم وال ّنقل عن أولئك إلعراضهم عن‬ ‫آلتهم وتحصيلهم األصول ّ‬
‫العلوم العقليّة وفقرهم في ال ّنقليّات واللّغويّات وما ال يحصل أدنى اجتهاد االستنباط ّإال به‪ ،‬بل هم قد‬
‫ً‬
‫أصال‪.‬‬ ‫أجازوا مثل ذلك لعوا ّم ال ّناس الّذين ال آلة لهم‬

‫وأصل هذا الخطأ البالغ والتّخليط الفاحش هو ‪ :‬من سوء الفهم لمصطلحات العلماء كما يقع ذلك لمن‬
‫ليس عال ًما ولم يتّصل بالعلماء ليعرف مقاصدهم؛ ّ‬
‫فإن ّأول ما ينتجه ذلك هو سوء الفهم لنفس لفظ (‬
‫العالم ) في عبارات من تقدّم ! حيث يصف المتقدّمون أدنى المجتهدين بالعالم‪ ،‬وإ ّنما يعنون بذلك أ ّنه‬
‫من عوا ّم العلماء ال أ ّنه كغيره من المجتهدين‪ ،‬وال أ ّنه بوجد انفكاك بين رتبة العلم ومنصب االجتهاد‪.‬‬
‫وكذا لفظ ( المجتهد ) في كثير من إطالقات أهل األصول معناه = المجتهد المطلق أو المستق ّل ‪ ،‬ولم‬
‫أصال وتكلّم مع ذلك في دين هللا؛ وهذا كما قالوا ‪:‬‬ ‫ً‬ ‫يقصدوا بذلك ّ‬
‫أن من العلماء من لم يكن مجتهدًا‬
‫مجرد كونه عال ًما‬
‫ّ‬ ‫فإن المقصود بذلك ادّعاء أ ّنه مجتهد مستق ّل ال‬
‫سيوطي مرتبة االجتهاد‪ّ ،‬‬ ‫ادّعى ال ّ‬
‫ي‪.‬‬ ‫وإال فكونه مجتهدًا مق ّيدًا بالمذهب = تحصيل حاصل بال ّنسبة لل ّ‬
‫سيوط ّ‬ ‫كسائر علماء المذهب‪ّ ،‬‬

‫فتبيّن بذلك أ ّن حقيقة المراد من أحد اللّفظين إذا اجتمعا هو التّقييد ؛ فـ ( العالم ) هو من ال تنزل رتبته‬
‫عن رتبة االجتهاد الدّنيا؛ وهي مرتبة نقل الفتوى وحفظ األقوال ‪ ،‬وكذا ( المجتهد ) هو من ال ينزل‬
‫عن مرتبة العالم تلك‪ ،‬لكن المقصود بوصفه بالعالم أ ّنه ‪ِ :‬من عوا ّم العلماء‪ ،‬وكذا بوصفه بالمجتهد أ ّنه‬
‫صل آلة التّخريج‬‫فإن هذه = رتبة من أوتي آلة الفهم وال ّنقل‪،‬دون من ح ّ‬ ‫‪ :‬ناقل الفتاوى واألقوال ؛ ّ‬
‫جزؤ في اآللة؛ وذلك من‬ ‫ضا توهم التّ ّ‬
‫والتّرجيح وما فوق ذلك‪ ،‬وهذه العبارة األخيرة إذا أطلقوها أي ً‬
‫فإن َمن قال ذلك من أهل األصول قصد به‪ :‬تفاوت‬ ‫ضا؛ ّ‬ ‫مزالق من ال يفهم كالمهم على وجهه أي ً‬
‫المجتهدين في القدرة على القيام بوظيفة ك ّل مرتبة من مراتب االجتهاد ال تفاوتهم في تحصيل القدر‬
‫سلف‬ ‫األدنى ألدنى مراتبه الّتي لم ّ‬
‫يتبوؤوا رتبة االجتهاد قبلها‪ ،‬وفه ُم غير ذلك من عبارات األئ ّمة وال ّ‬
‫هو من سوء الفهم‪ ،‬وهو نفسه ناتج عن الفهم المباشر لكالمهم دون أدوات معرفة وأصول فهم‪،‬‬
‫وأوله في باب التّقليد واالجتهاد‪ ،‬بما آل بكثير من أصحاب ذلك‬ ‫ي‪ّ ،‬‬ ‫ويتل ّخص ذلك في الفقر األصول ّ‬
‫إلى توسيد أمانة العلم لكثير م ّمن ليس من أهلها‪ ،‬وإلى سحبها عن كثير م ّمن هو من أهلها‪ ،‬وهللا‬
‫تعالى أعلم‪.‬‬

‫درجات النّاس في االجتهاد والتّقليد ‪:‬‬

‫مراتب ال ّناس تتراوح بين االجتهاد بإطالق وبين التقليد بإطالق‪ ،‬والتّقليد بمعناه العام هو مالزم لكل‬
‫أحد غير ‪ 1‬ـ المجتهد المطلق فإن هذا هو الذي له من اآلالت ما يقدر به على فهم نصوص الوحي‬
‫مباشرة دون أن يقلّد أحدا ّإال المعص وم نفسه ولذا يكون لهذا أصول مستقلة في االجتهاد واالستدالل‬
‫وفهم مقاصد الوحي مع تكامل في تلك األصول وانتظام للفروع في سلكها‪ 2 ،‬ـ وأ ّما من هو دونه في‬
‫الرتبة فغايته أن يكون مجتهدا في الفروع مع تقليده لهذا وأمثاله في األصول أو في أكثرها ولذا تكون‬
‫أكثر اختالفات هذين في الفروع دون األصول ‪ 3‬ـ ث ّم يليهما من يقلّد المجتهد المطلق في األصول‬
‫ضا فيكون عامة اجتهاده في فهم نصوص اإلمام ومقاصده للتّخريج عليها وذكر‬ ‫وأكثر الفروع أي ً‬
‫ضا ‪ 4‬ـ ث ّم يلي هذا من له‬ ‫الوجوه المحتملة في فهمها مع أصول عنده في التّرجيح بين تلك الوجوه أي ً‬
‫آالت التّوجيه دون التّرجيح ‪ 5‬ـ ث ّم من له آالت فهم الفروع والمسائل فقط وهؤالء هم عوا ّم العلماء‬
‫م ّمن ليس لهم اجتهاد ّإال في فهم نصوص المجتهدين فوقهم على وجهها ‪ ،‬فإذا قصرت اآللة عن بلوغ‬
‫ي من ك ّل وجه وال آلة له على الحقيقة والواجب عليه التّقليد مطلقًا أل ّنه ال‬‫الرتبة فصاحبها عا ّم ّ‬
‫هذه ّ‬
‫ي العلماء من األقوال نفسها واألحكام في ذاتها ‪...‬‬‫يقدر أن يفهم أكثر م ّما ينقله له عام ّ‬

‫ولهذا قال ابن رشد في "الضروري في أصول الفقه ـ وهو مختصر المستصفى" ص ‪ : 144‬ال ّناس‬
‫صنفان ‪:‬‬
‫‪ .1‬صنف فرضه التقليد‪ .‬وهم العوام الذين لم يبلغوا رتبة االجتهاد ‪...‬‬
‫‪ .2‬وصنف ثان وهم المجتهدون الذين ك ُملت لهم شروط االجتهاد‪.‬‬
‫‪ .3‬و‪ ...‬ههنا طائفة تشبه العوام من جهة‪ ،‬والمجتهدين من جهة‪ ،‬وهم المس ّمون في زماننا هذا ‪...‬‬
‫ي الصنفين أولى أن نلحقهم ؟‬ ‫بالفقهاء‪ ،‬فينبغى أن ننظر في أ ّ‬
‫وظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام‪ ،‬وأنهم مقلدون ‪ .‬والفرق بين هؤالء وبين العوام‪ ،‬أنهم‬
‫يحفظون اآلراء التي للمجتهدين فيخبرون عنها العوام‪ ،‬من غير أن تكون عندهم شروط االجتهاد‪،‬‬
‫فكأن مرتبتهم في ذلك مرتبة الناقلين عن المجتهدين‪ .‬ولو وقفوا في هذا لكان األمر أشبه‪ ،‬لكن يتعدّون‬
‫فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن مقلّديهم حكم على ما نقل عنه في ذلك حكم فيجعلون أصال ما ليس‬
‫بأصل ويصيّرون أقاويل المجتهدين أصوأل الجتهادهم‪ ،‬وكفى بهذا ضالال وبدعة ‪.‬‬

‫مثال يوضّح فرق ما بين المجتهد والمقلّد ‪:‬‬


‫قرروه في كتب‬ ‫يقرأ ك ّل أحد ـ مجتهدًا كان أو مقلّدًا ـ ما كتبه الفقهاء األوائل في كتاب الجهاد وما ّ‬
‫صائل على أهل البلد ومجاهدتهم له بحسب القدرة ‪ ،‬وأ ّنه إذا‬ ‫الفروع ـ عمو ًما ـ من تعيّن وجوب دفع ال ّ‬
‫لم تتحقّق الكفاية لدفعه شمل الوجوب من يليهم من المسلمين في البالد المجاورة ‪ ،‬فإن لم تتحقّق‬
‫الكفاية شمل الوجوب من يلي من يليهم ‪ ...‬وهكذا حتّى يع ّم الوجوب جميع المسلمين في جميع‬
‫األمصار من ك ّل قادر على ال ّنفير ‪ ...‬لكن المقلّد يجهل مورد هذا الكالم ومناط حكم الوجوب فيه‬
‫وينزلها بحروفها على ك ّل واقعة فيها صولة‬ ‫ّ‬ ‫فيحصل أن يردّد ألفاظه كما هي في ك ّل ظرف وحين ‪،‬‬
‫عدو على بلدة من بالد المسلمين ‪ ...‬أ ّما المجتهد العالم صانع الفتوى وصاحب اآللة فيُدرك آللته ّ‬
‫أن‬ ‫ّ‬
‫تصنيف القوى في هذا العصر يُقدّم فيه العتاد على العدد ؛ إذ كانت الحرب قدي ًما يتكافأ فيها العتاد‬
‫الطرفين على اآلخر من‬ ‫سيف ونحوه فكان الذي يصنع الغلبة ألحد ّ‬ ‫ألن الك ّل يستعمل ال ّ‬ ‫غالبًا ‪ّ ،‬‬
‫األسباب هو عدد المقاتلين ‪ ،‬ولهذا نظروا آنذاك إلى العدد ‪ ،‬فنقلوا الوجوب ـ عند عدم كفاية عدد أهل‬
‫البلد ـ إلى مقاتلين من أهل البلد المجاور ‪ ،‬وأ ّما في هذا العصر فمجتهدوه عالمون ّ‬
‫بأن المقدّم من‬
‫سالح إذ صار يمكن للعدد القليل من األعداء أن يبيدوا بأسلحتهم الحديثة بالدًا‬ ‫وسائل الغلبة اآلن هو ال ّ‬
‫شاسعةً وجميع ساكنيها إال إذا كانوا ذوي سالح حديث مثله ليصدّه ‪ ،‬فلذلك قدّم مجتهدو العصر العتاد‬
‫على العدد فلم يوجبوا ال ّنفير على أعيان المسلمين المجاورين ابتدا ًء ‪ ،‬وإ ّنما أوجبوا عليهم مدّهم‬
‫صولة ومن ثَ َّم بوسيلة ذلك ‪ ،‬والوسائل هي م ّما تختلف من وقت‬ ‫ألن العبرة هي بدفع ال ّ‬ ‫بالعتاد (‪ّ ، )1‬‬
‫الرمي ) ! وترك لورثته أصوالً بها‬ ‫القوة ّ‬‫إن ّ‬ ‫ي صلّى هللا عليه وسلّم في وقته ‪ ( :‬أال ّ‬ ‫آلخر كما قال ال ّنب ّ‬
‫الرسول وإلى‬ ‫يستنبطون األحكام المناسبة لك ّل ظرف إلى يوم القيامة ؛ قال تعالى ‪ (( :‬ولو ردّوه إلى ّ‬
‫شريعة وصالحها إلى يوم الدّين‪.‬‬ ‫أولي األمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )) لتعلم كمال هذه ال ّ‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬بل نفير المجاورين هو زيادة معلومة في خسائر المسلمين في العدد‪.‬‬
‫فصل ‪:‬‬

‫سابقة كان يأتى من جهة علمائهم الذين قصدوا تحريف دين األنبياء‪ ،‬وأ ّما فساد هذه‬ ‫فساد األمم ال ّ‬
‫ي العلماء‬ ‫ي بز ّ‬ ‫حرفوا كالم العلماء‪ ،‬وهذا يحصل بتزيّى العا ّم ّ‬ ‫األ ّمة فهو آت من جهة عوا ّمهم الذين ّ‬
‫قبل التّأ ّهل فيسيئ فهم كالمهم كما قال ابن القيم رحمه هللا في "المدارج" (‪" : )431 /2‬ما َ‬
‫أكثر ما‬
‫المذاهب الباطلة عن العلماء باألفهام القاصرة‪" ....‬‬ ‫َ‬ ‫ينقُل ال ّن ُ‬
‫اس‬
‫شاذّ من األحوال‬ ‫برؤون من التّبديل ّإال في ال ّ‬ ‫أ ّما نفس علماء هذه األمةّ ـ م ّمن له األهليّة وآلة العلم ـ ف ُم ّ‬
‫التي يُنبّه فيها بعضهم على ما ال يسوغ من شذوذات قد تقع من بعض‪ ،‬فيعود األمر من جهتهم هم‬
‫نزلنا الذّكر وإ ّنا له لحافظون ))‬ ‫ألن هللا تعالى قد قال ‪ (( :‬إ ّنا نحن ّ‬ ‫إلى الحفظ ال التّبديل ‪ ...‬وهذا ّ‬
‫سرين ‪ ...‬يحفظ‬ ‫القراء والمحدّثين وعلماء الدّاللة من الفقهاء والمف ّ‬ ‫وسبب الحفظ هم علماء الثّبوت من ّ‬
‫لقراء ويحفظ س ّنة نبيّه ﷺ من‬ ‫شاذّة والباطلة وعموم األلحان ببيان ا ّ‬ ‫تعالى كتابه من القراءات ال ّ‬
‫الروايات المنكرة واألحاديث الباطلة والموضوعات ببيان المحدّثين ويحفظ الوحيين جمي ًعا في ناحية‬ ‫ّ‬
‫شريعة قد حفظ هللا تعالى بهم حروف‬ ‫سرين‪ ...‬فهؤالء ونحوهم من علماء ال ّ‬ ‫الدّاللة ببيان الفقهاء والمف ّ‬
‫صمتها من الضّالل والبدع ال‬ ‫كتابه قراءة ً وفه ًما أل ّنه قد عصم هذه األ ّمة أن تجتمع على ضاللة‪ ،‬وع ْ‬
‫تكون ّإال بعصمتهم هم أن يجتمعوا على ذلك‪...‬‬
‫والفرق بينهم وبين علماء بني إسرائيل ونحوهم م ّمن أُخذ (( عليهم ميثاق الكتاب ّأال يقولوا على هللا‬ ‫ُ‬
‫أن هللا تعالى لم يعصم‬ ‫قليال )) بأن خانوا وغيّروا وبدّلوا ّ‬ ‫الحق )) فـ (( اشتروا بآيات هللا ثم ًنا ً‬‫ّ‬ ‫ّإال‬
‫سابقة من التّغيير والتّبديل فلم يكن ث ّمة عصمة لمجموع علمائهم أن يجمعوا على ضاللة‬ ‫شرائع ال ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ظها فلم‬ ‫سابقة بأن أُوصوا أن يتولَّوا هم حف َ‬ ‫ويتواطؤوا على الخطأ فـإ ّنهم (( استُحفظوا )) َ‬
‫كتب هللا ال ّ‬
‫فإن هللا تولّى حفظه بنفسه بأن عصم ح َملتَه قراءة ً وفه ًما (‪.)1‬‬ ‫يفعلوا بخالف القرآن ّ‬
‫ُقوم الجديد التّحريف الواقع‬ ‫ضا في ّ‬
‫سابقة كان بعضها يتلو بع ً‬ ‫شرائع ال ّ‬ ‫والحكمة من هذا التّخصيص ّ‬
‫أن ال ّ‬
‫فيما قبله مع تجديد مناسب لظرف ك ّل أ ّمة ومقتضيات طبيعتها ومكانها وزمانها ‪ ...‬وأ ّما هذه األ ّمة‬
‫ظها هللا من عبث‬ ‫شرائع التي تصلح إلى يوم القيامة ‪ :‬حف َ‬ ‫فأل ّنها خاتمة األمم وشريعتها خاتمة ال ّ‬
‫تقوم ذلك التّحريف واالبتداع وتصلجه بعدها لو حصل‬ ‫علمائها وتحريفهم أل ّنه ال شريعة تأتي بعدها ّ‬
‫‪ ...‬فد ّل أ ّنه إ ّنما يحصل م ّمن ال ح ّجة في قولهم وهم العوا ّم الذين ال قيمة لكالمهم في العلم ‪.‬‬
‫ولهذا قال الشعبي‪" :‬كل أمة علماؤها شرارها إال المسلمين‪ ،‬فإن علماءها خيارها " ‪ ،‬ووضّح ذلك‬
‫ابن تيمية فقال في الفتاوى (‪" : )284/7‬وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون‪ ،‬وإنما يُضلهم‬
‫علماؤهم‪ ،‬فعلماؤهم شرارهم‪ ،‬والمسلمون على هدى‪ ،‬وإنما يتبين الهدى بعلمائهم‪ ،‬فعلماؤهم خيارهم‪.‬‬
‫وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار األمة‪ ،‬وأئمة أهل البدع أضر على األمة من أهل الذنوب‪ " ...‬انتهى ‪،‬‬
‫صحيحين" أن النبي صلى هللا عليه وسلم قال‪ " :‬إن هللا ال يقبض العلم‬‫ويد ّل على هذا ما في "ال ّ‬
‫انتزاعا ينتزعه من الناس‪ ،‬ولكن يقبضه بقبض العلماء‪ ،‬حتى إذا لم يبق عالم؛ اتخذ الناس رؤوسا‬
‫جهاال‪ ،‬فسئلوا‪ ،‬فأفتوا بغير علم‪ ،‬فضلوا وأضلوا " ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ي‪ ،‬وسمى من بلغ د ََر َجة ِاالجْ ِت َهاد‪ ،‬فَقَا َل‪َ :‬ولم تحصل‬ ‫اج ّ‬‫اضي أَبُو ْال َولِيد ْال َب ِ‬
‫(‪ )1‬قال أبو الحسن المالقي في "تاريخ قضاة األندلس" ‪ 1‬ـ ‪ : 33‬قَا َل القَ ِ‬
‫عن قالون؛ َوله فِي ِه حرف‪.‬‬ ‫ط َبقَات ْالقُ َّراء فَقَا َل‪ :‬أَخذ ْالق َِرا َءة َ‬ ‫ع ْمرو الداني فِي َ‬ ‫اضي‪َ .‬وذكره ْال ُم ْق ِرئ أَبُو َ‬ ‫َهذِه الدر َجة بعد َمالك ِإ َّال إلسماعيل القَ ِ‬
‫اضي قَا َل‪ :‬كنت ِع ْند ِإ ْس َماعِيل َي ْو ًما؛ فَسئ َل لم َجازَ التبديل على أهل التَّ ْو َراة‪َ ،‬ولم يجز على أهل ْالقُ ْرآن؛‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫ال‬ ‫عن أبي المثاب‬ ‫ع ْمرو أَيْضا َ‬ ‫َوحكى أَبُو َ‬
‫فَقَا َل‪ :‬قَا َل هللا تَ َعالَى فِي أهل التَّ ْو َراة‪ِ " :‬ب َما استحفظوا من كتاب هللا "‪ .‬فَوكل ْالحِ ْفظ ِإلَ ْي ِهم‪َ .‬وقَا َل فِي ْالقُ ْرآن‪ِ " :‬إ َّنا نَحن نزلنَا الذّكر َو ِإ َّنا لَهُ لحافظون‪.‬‬
‫عن َهذِه ْال َم ْسأَلَة؛‬
‫سأ َ َل ُم َح َّمد بن وضاح َ‬ ‫كالما أحسن من َهذَا‪َ .‬وقد روى أَن َنص َْرا ِنيّا َ‬ ‫سمِ عت َ‬ ‫علَ ْي ِهم‪ .‬فَذكر ذَلِك ْالم َحامِ لِي فَقَا َل‪َ :‬ما َ‬
‫" فَلم يجز التبديل َ‬
‫فَأ َجاب ِبمثل َهذَا ْال َجواب‪.‬‬
‫ي في"الحوادث والبدع" ص ‪" : 77‬فتدب َّْر هذا الحديث؛ فإنه يد ّل على أنه ال‬ ‫الطرطوش ّ‬‫قال أبو بكر ّ‬
‫يؤتى الناس قط من قبل علمائهم‪ ،‬وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم؛ أفتى من ليس بعالم‪،‬‬
‫فيؤتى الناس من قبله‪.‬‬
‫وقد صرف عمر هذا المعنى تصريفا‪ ،‬فقال‪ " :‬ما خان أمين قط‪ ،‬ولكنه اؤتمن غير أمين فخان "‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ونحن نقول‪ :‬ما ابتدع عالم قط ( يعني في األغلب ) ‪ ،‬ولكنه استُفتي من ليس بعالم؛ فض ّل‬
‫وأض ّل‪.‬‬
‫وكذلك فعل ربيعة؛ قال مالك‪ " :‬بكى ربيعة يوما بكاء شديدا‪ ،‬فقيل له‪ :‬أمصيبة نزلت بك؟ فقال‪ :‬ال‪،‬‬
‫ولكنه استفتي من ال علم عنده "‪ " .‬انتهى‪.‬‬
‫البر ( رقم ‪ ، ) 1459‬فيه ‪ :‬قال ربيعة‪ :‬وبعض من يفتي‬ ‫وتمام خبر مالك في "جامع العلم " البن عبد ّ‬
‫س َّراق‪.‬‬
‫ههنا أحق بالسجن من ال ُ‬
‫صالح [ وهو متوفي سنة ‪ 643‬هـ] في "فتاويه" (‪ )20‬وعلّق عليه فقال‪" :‬رحم هللا ربيعة‬ ‫ونقله ابن ال ّ‬
‫كيف لو أدرك زماننا؟!! "‪.) .‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫أن الخطأ في تعريف ( العلم ) و ( العالم ) هو ‪ :‬من أكبر ما شاع به الفساد في باب‬ ‫صل هذا ّ‬ ‫ومح ّ‬
‫شقاقات والتّناحر واالقتتال هو = التّعالم‬‫العلم وظهرت بظهوره البدع والضّالالت وكذا الخالفات وال ّ‬
‫تبوأ به قوم ج ّهال مرتبة العلماء وأُس ِقط به قوم من العلماء عن رتبتهم التي هم أهل لها ‪،‬‬ ‫‪ ،‬فهو الّذي ّ‬
‫الرئيس هو = التّخليط بين معنى العالم بالمعنى االصطالح ّ‬
‫ي والعالم‬ ‫وأصل هذا التّعالم وسببه ّ‬
‫أن العالم هو صاحب المعلومات مطلقًا‪ ،‬أو‬ ‫فإن كثيرا من ال ّناس يظ ّنون ّ‬ ‫بالمعنى اللّغو ّ‬
‫ي العا ّم ‪ّ ،‬‬
‫يعاملون صاحب المعلومات مطلقًا معاملة العالم بحيث يسألونه ويستفتونه‪ ،‬وكثير من المسؤولين‬
‫يغتر بتلك المعاملة وبما لديه من معلومات فيجنح إلى‬ ‫والمستفتَين ممن لم يبلغ رتبة العالم اصطال ًحا ّ‬
‫اإلفتاء والجواب‪ ،‬وهذا هو الّذي يولّد الفتاوى الباطلة واألقوال الشاذّة والبدع المغلّظة بل والكفر‬
‫وإال فكثير من أصحاب الكفر البيّن يحت ّجون على أقوالهم الكفريّة بظواهر أدلّة فهموها بفهم‬ ‫البواح‪ّ ،‬‬
‫ي عن فهم أهل الذّكر والعلماء اصطال ًحا‪ ،‬فأساس ك ّل ذلك الفساد إذن هو = التّخليط بين معنى‬ ‫أجنب ّ‬
‫ي والعالم بالمعنى اللّغو ّ‬
‫ي العا ّم‪ ،‬فما هو سبب هذا التّخليط ؟‬ ‫العالم بالمعنى االصطالح ّ‬

‫شرعيّة حيث جاء العلم في‬ ‫الظاهر لهذا التّخليط هو = التّخليط بين إطالقات ال ّنصوص ال ّ‬ ‫سبب ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ي‬
‫ي العا ّم في مواضع وجاء في أحيان أخرى بالمعنى االصطالح ّ‬ ‫القرآن والس ّنة بالمعنى اللّغو ّ‬
‫الخاص‪ ،‬ففي قوله تعالى ‪ (( :‬وما يعقلها ّإال العالمون )) مثال ذكر العلم بالمعنى العا ّم فدخل فيه‬ ‫ّ‬
‫العوا ّم أل ّنهم داخلون في أصل اإليمان عاقلون لألمور الواضحة الّتي يأمر بتعقّلها القرآن ‪ ،‬وكذا في‬
‫قوله تعالى ‪ (( :‬وقال الّذين أوتوا العلم واإليمان )) ‪ ،‬وقوله ‪ (( :‬وقال الّذين أوتوا العلم ويلكم ثواب‬
‫هللا خير ‪ ، )) ...‬وقوله ‪ (( :‬شهد هللا أ ّنه ال إله ّإال هو والمالئكة وأولو العلم قائ ًما بالقسط ‪، )) ...‬‬
‫يخرون لألذقان س ّجدا )) ‪ ...‬ك ّل هذا م ّما ورد‬ ‫إن الّذين أوتوا العلم من قبله إذا يُتلى عليهم ّ‬‫وقوله ‪ّ (( :‬‬
‫ي ‪ ،‬فالعلم بالمعنى اللّغو ّ‬
‫ي العا ّم يُمكن نسبته لعا ّمة‬ ‫خاص بالعلم االصطالح ّ‬ ‫ّ‬ ‫فيه العلم عا ّما وغير‬
‫فإن اإلنسان الواحد نفسه يتفاوت علمه باختالف األوقات وهو ال‬ ‫المؤمنين مع تفاوتهم في مقداره ّ‬
‫ويتدرج في طلب العلم حتّى يزداد منه ويرتفع في سلّمه درجات فباألولى تفاوت الدّرجات‬ ‫ّ‬ ‫يزال يتعلّم‬
‫بين أفراد ال ّناس‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪ (( :‬وفوق ك ّل ذي علم عليم ))‪.‬‬
‫لكن قد ورد العلم في مواضع أخرى من القرآن ومن الس ّنة منسوبًا لطبقة معيّنة ال يشترك غيرها‬
‫معها في تلك ال ّنسبة كما في قوله تعالى ‪ (( :‬أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل )) وقوله ‪:‬‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ " :‬العلماء‬ ‫(( بل هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتو العلم )) ‪ ،‬وقول ال ّنب ّ‬
‫ي وبين‬ ‫ورثة األنبياء " ونحو ذلك ‪ ،‬فما هو الفرق بين هؤالء العلماء بحسب المعنى االصطالح ّ‬
‫العلماء بالمعنى اللّغو ّ‬
‫ي العا ّم؟‬

‫كون ال ّناس تتفاوت علومهم وكون اإلنسان ال يزال يتعلّم ويطلب العلم ال يعني أ ّنه ليس ث ّمة حدّ إذا‬
‫بلغه صاحبه صار عال ًما وإذا لم يبلغه بقي في عداد العوا ّم الّذين فرضهم ردّ األمر للعلماء‪ ،‬فالعلم في‬
‫االصطالح هو = حدّ معيّن فما فوقه‪ ،‬والعالم في االصطالح هو = صاحب ذلك الحدّ المعيّن فما‬
‫يختص في اللّغة بما عند العالم‬
‫ّ‬ ‫ي العا ّم في معنى العلم إذ هو ال‬ ‫فوقه‪ ،‬خالفًا لما يقتضيه البحث اللّغو ّ‬
‫ي يدخل في معنى العالم لغةً؛ إذ العوا ّم = علماء بأمور‬ ‫اصطال ًحا وإنما هو عا ّم ‪ ،‬حتّى ّ‬
‫أن العا ّم ّ‬
‫الظاهرة وهي = القطعيّات المعلومات بالضّرورة‪ ،‬أو هم عليهم أن يكونوا‬ ‫كثيرة‪ ،‬وهي = األمور ّ‬
‫علماء بها ‪ ،‬إذ ال يسعهم الجهل بذلك ‪ ،‬لك ّنهم إذا علموها ال يص ّنفون ـ مع ذلك ـ ضمن العلماء‬
‫ي؛ وإ ّنما العلماء في االصطالح هم = العلماء باألمور الخفيّة وهي = الظ ّنيّات‬ ‫بالمعنى االصطالح ّ‬
‫المعلومات بال ّنظر واالستدالل‪.‬‬

‫ي لهؤالء العلماء إلى ههنا يبقى فيه غموض وإجمال ينبغي تجليته‬ ‫ث ّم هذا التّعريف االصطالح ّ‬
‫ضا ولو على قدر متفاوت‪ ،‬فما هي الظ ّنيّات الّتي‬
‫أن العوا ّم يكون لهم علم بالظ ّنيّات أي ً‬
‫وتفسيره‪ ،‬ذلك ّ‬
‫يختص بدركها العلماء؟‬
‫ّ‬

‫يختص بدركه العلماء من الظ ّنيّات ـ وهي المعلومات بال ّنظر واالستدالل ـ‬
‫ّ‬ ‫الجواب ّ‬
‫أن المقصود بما‬
‫هو = طرق ذلك ال ّنظر وقواعد االستدالل ‪ ،‬وليس هو = المعلومات وال ّنتائج في ذاتها‪ ،‬فالعالم في‬
‫االصطالح إذن هو صاحب األساسيّات الّتي يقدر بها على الوصول إلى تلك المعلومات وال ّنتائج‬
‫بنفسه وليس هو من يمكنه أن يتلقّن تلك ال ّنتائج واألحكام كما هي ويقلّد أصحابها‪ّ ،‬‬
‫فإن ذلك التّلقّن‬
‫والتّقليد ال يعجز عنه أحد ّ‬
‫وإال لكان ك ّل ال ّناس علماء ولم يص ّح طلب وال سؤال‪.‬‬

‫صة به إذن هي = األساسيّات واألصول الّتي تمك ّنه من توليد ال ّنتائج والوصول‬ ‫فمعلومات العالم الخا ّ‬
‫ألن العلم غايته عمليّة‪ ،‬فإ ّنه يعالج الوقائع‪ ،‬والوقائع م ّما تتغيّر وتختلف‪ ،‬فالعاجز‬
‫إليها بنفسه ‪ ،‬وهذا ّ‬
‫عن التّكيّف معها ال يجد الحلول العمليّة لها إذا اختلفت األحوال فال يكون له فضل على الجاهل‬
‫فالطبيب في علم الطبّ مثال هو القادر على وصف الدّواء وإيجاد الحلول‬ ‫ّ‬ ‫العاجز بدايةً‪ّ ،‬‬
‫وإال‬
‫وإال الستوى حاله بمن ال يقدر على شيء من ذلك‪ ،‬فكذا األمر في سائر الفنون‬ ‫لألمراض المختلفة ّ‬
‫شريعة = صالحة إلى يوم القيامة فال بدّ أن‬ ‫ألن هذه ال ّ‬ ‫والعلوم‪ ،‬وهو في علم ال ّ‬
‫شريعة أولى وأولى ّ‬
‫يوجد أصحابها الحلول فيمثّلون مظهر صالحها ذلك إلى يوم القيامة ‪.‬‬

‫ي رجل منهم يفتي ‪ ،‬فجاءته امرأة‬ ‫ومن ال ّنوادر في هذا المقام ما في نثر الد ّّر ص‪ ... 903‬وكان ّ‬
‫بالر ّ‬
‫وسألته عن مسألة في الحيض فأخرج لها دفترا وجعل يتصفّحه ورقة ورقة ال يهتدي منه إلى شيء ‪،‬‬
‫إلى أن بلغ إلى ورقة مخرمة فقال للمرأة ‪ -‬وعرض عليها الخرق ـ ‪ :‬أيش يمكنني أن أفعل؟ وموضع‬
‫مخرق ‪.‬‬
‫ّ‬ ‫حيضك‬

‫فالعالم في االصطالح إذن هو = صاحب تلك القواعد العلميّة واألصول والقدرة على الوصول بها‬
‫إلى معالجة األمثلة والفروع ‪ ،‬فنقول هو = صاحب آلة االجتهاد والملكة‪.‬‬

‫األصولي‪:‬‬
‫ّ‬ ‫طلب وال ّ‬
‫طالب في االصطالح‬ ‫معنى ال ّ‬

‫ضا حاصل في فهم المرتبة الوسطى بين العلماء والعوا ّم‪ ،‬وهي =‬ ‫ث ّم االشتباه والتّخليط لدى ال ّناس أي ً‬
‫ي لطالب العلم يدخل فيه العلماء‬ ‫فإن التّعريف اللّغو ّ‬
‫ي العلماء‪ّ ،‬‬ ‫مرتبة طالب العلم والدّاعية وعام ّ‬
‫والعوا ّم أو هكذا ينبغي للجميع أن يكونوا ‪ ،‬أعني أن يتزيّدوا من طلب العلم‪ ،‬فقد قال هللا لنبيّه وهو‬
‫سالم من أولي‬ ‫سالم ‪ (( :‬وقل ربّ زدني علما )) ‪ ،‬وكان موسى عليه ال ّ‬ ‫سيّد العلماء واألنبياء عليه ال ّ‬
‫صتهما‬‫الرسل وسعى مع ذلك في طلب العلم واالزدياد منه فارتحل إلى الخضر كما في ق ّ‬ ‫العزم من ّ‬
‫في القرآن‪ ،‬وفي "المسند" من حديث صفوان بن عسال المرادي رضي هللا عنه قال‪ :‬أتيت النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر‪ ،‬فقلت له‪ :‬يا رسول هللا إني جئت‬
‫اطلب العلم‪ ،‬فقال‪« :‬مرحبا بطالب العلم ‪،‬إن طالب العلم تحفه المالئكة وتظله بأجنحتها‪ ،‬ثم يركب‬
‫بعضها بعضا‪ ،‬حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب »‪ .‬لكن من ال ّناس إذا سمع مثل هذا لم‬
‫ساعي في تحصيل العلم ‪ ،‬فيدخل في معنى‬ ‫ي العا ّم لطالب العلم وهو = ال ّ‬ ‫يفرق بين هذا المعنى اللّغو ّ‬‫ّ‬
‫ذلك العلماء والعوا ّم سواء‪ ،‬وبين معنى طالب العلم في االصطالح ‪ ،‬فطالب العلم في االصطالح هو‬
‫صل من‬ ‫ي العلماء ‪ ،‬وناقل الفتوى ‪ ،‬وهو الّذي له آلة ال ّنقل عن العلماء ‪ ،‬فهو يكون قد ح ّ‬ ‫= عا ّم ّ‬
‫األصول واألدوات ما يمكنه به نقل الفتوى على وجهها بال تحريف وال خروج بها عن محلّها في‬
‫ي‬ ‫شراح المتون وفاهمي كالم العلماء على وجهه‪ ،‬ذلك ّ‬
‫أن للكالم العلم ّ‬ ‫التّنزيل وهي = رتبة ّ‬
‫أن في كالم‬ ‫صة مع أبعاد وأغوار يحتاج فهمها إلى أصول وأدوات ‪ ،‬وهذا كما ّ‬ ‫اصطالحات خا ّ‬
‫ضا ألفاظ وأبعاد وأغوار وأمور يحتاج فهمها إلى أصول وأدوات‪ ،‬فآالت فهم‬ ‫الوحي قبل ذلك أي ً‬
‫الوحي وأدلّته هي = آلة االجتهاد‪ ،‬فهذه اآللة واألصول واألدوات الّتي تم ّكن من فهم نصوص الوحي‬
‫يمتلكها المجتهدون من العلماء‪ ،‬وأ ّما آلة الفهم وال ّنقل الّتي ت ّمكن طالّب العلم من فهم كالم المجتهدين‬
‫وال ّنقل عن العلماء فهي ال تم ّكنهم من فهم نصوص الوحي مباشرة وال االستدالل زال االستنباط وال‬
‫ف أَذَا ُ‬
‫عوا ِب ِه ۖ َولَ ْو َردوهُ‬ ‫التّرجيح وال اإلفتاء‪ ،‬ولهذا قال تعالى ‪َ (( :‬وإِذَا َجا َء ُه ْم أ َ ْم ٌر ِ ّمنَ ْاأل َ ْم ِن أ َ ِو ْالخ َْو ِ‬
‫أن القادرين على‬ ‫"م ْن ُه ْم" ۗ )) ‪ ،‬فبيّن ّ‬ ‫طو َنهُ ِ‬ ‫سو ِل َو ِإلَ ٰى أُو ِلي ْاأل َ ْم ِر ِم ْن ُه ْم لَ َع ِل َمهُ الَّذِينَ َي ْستَن ِب ُ‬ ‫ِإلَى َّ‬
‫الر ُ‬
‫ي‪.‬‬ ‫االستنباط ونحوه = نخبة من أولئك ال جميعهم‪ ،‬فالبقيّة هم = طلبة للعلم بالمعنى االصطالح ّ‬

‫الطالب في االصطالح = عا ّميا من وجه وعالما من وجه‪ ،‬فهو عا ّمي لفقده آلة‬ ‫ولهذا يكون هذا ّ‬
‫االستنباط والتّرجح واإلفتاء‪ ،‬وهو عالم المتالكه آلة الفهم وال ّنقل عن العلماء‪ ،‬واإلشكال إ ّنما هو في‬
‫أن يتعدّى هذا مرتبته فيخوض بنفسه فيما ال يحسنه من االستدالل والتّرجح واإلفتاء‪ ،‬ولهذا قال‬
‫عرف‬‫"الروضة"(‪ 1 " : )114/4‬ـ ويشترط فيه ( أي في من يُفتي ) أهلية االجتهاد ؛ فلو َ‬ ‫ي في ّ‬ ‫ال ّنوو ّ‬
‫ي مسألة أو مسائل بدليلها لم يكن له أن يفتي بها وال لغيره أن يقلّده ويأخذ بقوله فيها ‪ ...‬و ( هو‬ ‫العا ّم ّ‬
‫صحيح "‪.‬‬ ‫ي في أ ّنه ال يجوز تقليده على ال ّ‬‫صحيح‪ 2 .‬ـ والعالم الذي لم يبلغ غاية االجتهاد كالعا ّم ّ‬ ‫) ال ّ‬

‫وقال ابن رشد في "الضروري في أصول الفقه " ص ‪ 144‬في مرتبة العوا ّم ال ّناقلين عن المجتهدين‬
‫ـ كما تقدّم ـ ‪ :‬ولو وقفوا في هذا لكان األمر أشبه‪ ،‬لكن يتعدّون فيقيسون أشياء لم ينقل فيها عن‬
‫مقلديهم حكم على ما نقل عنه في ذلك حكم فيجعلون أصال ما ليس بأصل ويصيّرون أقاويل‬
‫المجتهدين أصوأل الجتهادهم‪ ،‬وكفى بهذا ضالال وبدعة ‪.‬‬

‫ولذا قال الماوردي في "األحكام السلطانية" ص‪ " : 401‬وإذا وجد من يتصدى لعلم الشرع وليس‬
‫من أهله من فقيه أو واعظ ولم يأمن اغترار الناس به في سوء تأويل أو تحريف جواب ‪ :‬أنكر عليه‬
‫التصدي لما ليس هو من أهله وأظهر أمره لئال يغتر به ‪ ،‬ومن أشكل عليه أمره لم يقدر عليه باإلنكار‬
‫إال بعد االختبار ‪." ...‬‬

‫سط فيتو ّهم بما يتلقاه‬


‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية في آخر "الفتوى الحموية " ص‪ " : 90‬وأما المتو ّ‬
‫من المقاالت المأخوذة تقليدًا لمعظم هؤالء‪ .‬وقد قال بعض الناس‪ :‬أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم‪،‬‬
‫ونصف متفقه‪ ،‬ونصف متطبب‪ ،‬ونصف نحوى‪ ،‬هذا يفسد األديان‪ ،‬وهذا يفسد البلدان‪ ،‬وهذا يفسد‬
‫األبدان‪ ،‬وهذا يفسد اللسان"‪.‬‬

‫وقال أبو حيان التوحيدي في "البصائر والذخائر" (‪ " :)455/1‬وكان القاضي أبو حامد يقول‪ ( :‬من‬
‫نحوي‬
‫ّ‬ ‫المحرم‪ ،‬ومن كان نصف‬
‫ّ‬ ‫كان نصف طبيب فإ ّنه يقتل العليل‪ ،‬ومن كان نصف فقيه فإ ّنه يحلّل‬
‫لغوي فإنه يص ّحف أبدا ً ) هذا قوله وليس الكمال مأموالً للخلق‪ّ ،‬‬
‫لكن‬ ‫ّ‬ ‫فإ ّنه يلحن أبداً‪ ،‬ومن كان نصف‬
‫الحكم للغالب األكثر‪ ،‬والشائع األفشى "‪.‬‬
‫فصل ‪:‬‬

‫زروق في ‪ /‬قواعده ‪ / 40 :‬حيث قال رحمه هللا ‪:‬‬ ‫قال العالّمة ّ‬


‫‪ -‬التقليد ‪ :‬أخذ القول من غير استناد في القائل ‪ ،‬وال حجة في المقول ‪.‬‬
‫‪ -‬واالقتداء ‪ :‬االستناد في أخذ القول لديانة صاحبه وعلمه ‪ ،‬وهذه رتبة أصحاب المذاهب مع أئمتها‪.‬‬
‫صر ‪ :‬أخذ القول بدليله الخاص به من غير استبداد بالنظر ‪ ،‬وال إهمال للقول ‪ ،‬وهي رتبة‬‫‪ -‬والتب ّ‬
‫مشائخ المذاهب وأجاويد طلبة العلم "‪.‬‬

‫فقوله رحمه هللا " "التقليد = أخذ القول من غير استناد في القائل ‪ ،‬وال حجة في المقول" ‪.‬‬
‫أن ‪ 1‬ـ هذا المقلّد ال يستند لكون القائل عالما فتكون له ح ّجة عا ّمة في أخذ قوله وال يعرف‬ ‫يعني ّ‬
‫الرتبة = متم ّحض لعدم الح ّجتين العا ّمة‬
‫صة على قوله ‪ ،‬زلذا فتقليد أصحاب هذه ّ‬ ‫الح ّجة الخا ّ‬
‫الرتبة الثّانية ‪ 2‬ـ الّذين لهم ح ّجة عا ّمة وهي ما قدروا عليه به من اجتهادهم‬
‫صة ال كأصحاب ّ‬ ‫والخا ّ‬
‫في تعيين المجتهد الّذي يمكن تقليده‪ ،‬فهم أصحاب ح ّجة عا ّمة فقط وال كأصحاب ّ‬
‫الرتبة الثّالثة ‪ 3‬ـ‬
‫صة فهما صحي ًحا فقط بدليل قوله ‪ " :‬من غير استبداد بالنظر ‪ ،‬وال إهمال‬ ‫الّذين يفهمون الح ّجة الخا ّ‬
‫للقول ‪.‬‬

‫الرتب الثّالثة في‬‫ولذا تقسيمه ـ رحمه هللا ـ هو كتقسيمات غيره من العلماء يفيد اشتراك أصحاب ّ‬
‫عدم قدرتهم على ال ّنظر فيلجئهم ذلك إلى أخذ القول كما هو وعدم إهماله ‪ ،‬فالجنس المعدوم في‬
‫الجميع هو = عدم القدرة على ال ّنظر واالستدالل أي = عدم امتالك اآللة إ ّما كلّيّا كما في أصحاب‬
‫األول وإ ّما جزئيّا كما في أصحاب القسم الثّاني أو لعدم اكتمالها كما في القسم الثّالث ‪ ،‬الّذين‬
‫القسم ّ‬
‫بلغوا أن يفهموا األقوال ويعرفوا أدلّة من يقلّدون دون لم يبلغوا هم أنفسهم رتبة انتزاع األقوال‬
‫وال ّنظر في األدلّة ‪ ،‬ففرق بين فهم القول وحفظ دليله وما يبيح ال ّنقل وبين رتب االجتهاد من التّخريج‬
‫والتّوجيه والتّرجيح والفتوى واالستقالل الكلّ ّ‬
‫ي بال ّنظر‪.‬‬

‫األول بتسميته مقلّدا عند بعض‬‫وأن اختصاص ّ‬ ‫زروق = مقلّدون ّ‬ ‫جميع المذكورين في كالم ّ‬
‫ي فقط‪ ،‬وهم قد س ّموا هذا مقلّدا لتم ّحض تقليده ال أكثر‪ ،‬ومعناه = عدم‬ ‫األصوليين هو شأن اصطالح ّ‬
‫درك هذا لجنس الح ّجة أصال بخالف من فوقه م ّمن يقدر على درك الح ّجة العا ّمة الّتي هي علم من‬
‫صة لذلك المجتهد بحيث يبلغ أن‬ ‫يقلّده وديانته ـ وهو المجتهد ـ وبخالف درك من فوق هذا للح ّجة الخا ّ‬
‫الرتبة الثالثة الّتي ال مشا ّحة في تسمية أصحابها ( طلبة علم ) لمن ال ّ‬
‫يجوز لها‬ ‫يفهمها صاحب هذه ّ‬
‫االستدالل وال ّنظر لكون أصحابها ليسوا من أهل ال ّنظر‪.‬‬

‫تجزؤ آلة االستدالل في نفسها وإ ّنما هو ما تقدّم من‬


‫إن ثمرة ذكر قسم ( طلبة العلم ) ليس هو ّ‬
‫ث ّم ّ‬
‫درجات لدى المقلّدة في معرفة ما األدلّة ؟ ومن ذلك ما وقع فيه الخالف بين األصوليين من سواغ‬
‫فإن منهم‬ ‫صة م ًعا ‪ّ ،‬‬‫األول وهو عدم جنس الدّليل وانتفاء الح ّجة العا ّمة والخا ّ‬ ‫صرف ّ‬ ‫التّقليد بالمعنى ال ّ‬
‫ليفرق بين الممنوع والجائز ‪ ،‬ومن هؤالء‬ ‫عا‪ّ ،‬‬ ‫من يمنع هذا التّقليد بالكلّيّة ‪ ،‬ولذا يس ّمي ما فوقه اتّبا ً‬
‫البر في "الجامع" من قوله ـ ‪ " :‬التقليد معناه في الشرع‬ ‫ابن خويز منداد ـ كما نقله عنه ابن عبد ّ‬
‫الرجوع إلى قول ال حجة لقائله عليه وذلك ممنوع منه في الشريعة‪ ،‬واالتباع ما ثبت عليه حجة‪".‬‬
‫وقال في موضع آخر من كتابه‪" :‬كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك‬
‫فأنت مقلده‪ ،‬والتقليد في دين هللا غير صحيح‪ ،‬وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه‪،‬‬
‫أن مقصودهم بالمتّبع أ ّنه = العارف بجنس الدّليل‬ ‫واالتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع " ‪ .‬فبان ّ‬
‫ً‬
‫جائزا‬ ‫صرف معرفة الدّليل المأخوذة منه المسألة ‪ ،‬وذلك ال يجعله مستدالّ وال‬ ‫فهو يزيد على المقلّد ال ّ‬
‫له االستدالل بله الفتوى لعدم قدرته على االستدالل بنفسه وتوليد المسائل ‪ ،‬وهو = عدم اآللة‪.‬‬

‫الفقهي ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫معنى طالب العلم في االصطالح‬

‫طالب العلم عند الفقهاء هو = الّذي يُتوقّع أن يصل إلى رتبة العالم ‪ ،‬بأن يظهر منه ذكاء وقابليّة‬
‫حرم بعضهم‬ ‫للطلب‪ ،‬وكذا هو من ّ‬‫متفرغا ّ‬ ‫الزكاة إذا كان ّ‬ ‫ونجابة‪ ،‬فهذا الّذي ّ‬
‫جوزوا أخذه من ّ‬
‫انقطاعه عن التّعلّم بعد شروعه فيه (‪ ،)1‬وأ ّما من كان بليد الذّهن قليل الفهم فال تشمله هذه األحكام‬
‫وال غيرها‪ ،‬ولذا أوجب جماعة على من ال قابليّة فيه وكانت له ديون ال يقدر على تسديدها أن يبيع‬
‫كتبه ليسدّد بها الدّيون‪.‬‬
‫كتب فقه قيمتها أكثر من نصاب فإ ّنه يُعطى ـ‬‫قال المواق في "شرحه على خليل" ‪ .." :‬ولو كانت له ُ‬
‫الزكاة ـ ألنه ال غنى له عنها ـ أي عن الكتب ـ ‪ ،‬ابن عرفة‪ :‬هذا إن كانت فيه قابليةٌ‪ ،‬وإال فال‬ ‫أي من ّ‬
‫صةً فتُلغى‪ .‬وهذا على القول بجواز بيعهاـ يعني‬ ‫يُعطى منها شيئا ً إال أن تكون كتبُه على قدر فهمه خا َّ‬
‫في الدَّيْن‪".‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫الطلب فال يجوز له االنقطاع عنه في مذهب مالك وكذا هو مقتضى أصول أبي حنيفة وبعض‬ ‫(‪ )1‬من كان ذا ذهن ف ِهم وقابليّة للتّعلّم وشرع في ّ‬
‫شروع فيه إلى فرض عين مثل الجهاد وصالة الجنازة‪ ،‬ولهذا ذكر المواق في "شرح‬ ‫يتحول بال ّ‬
‫ّ‬ ‫أن فرض الكفاية‬ ‫ي م ّمن رأوا ّ‬ ‫شافع ّ‬ ‫أصحاب ال ّ‬
‫خليل" (‪ )155 /1‬عن ابن رشد أن من كان فيه موضع لإلمامة واالجتهاد فطلب العلم واجب عليه يعني أنه فرض عين على من ظهرت فيه‬
‫ي‬
‫القابلية ‪ ،‬وهذا قول سحنون ‪ .‬ونقل عن ابن ناجي ‪ :‬والنفس إليه أ ْم َيل‪ ،‬قال ‪ :‬وجعله شيخنا أبو مهدي المذهب قائال ‪ :‬ال أعرف خالفه‪ .‬قال الشأطب ّ‬
‫في "الموافقات" (‪ " : )139/1‬وعلى هذا ال َم ْه َيع جرى العلماء في تقرير كثير من فروض الكفايات؛ فقد جاء عن مالك أنه سئل عن طلب العلم‪:‬‬
‫أفرض هو؟ فقال‪" :‬أما على كل الناس؛ فال"‪ ،‬يعني به الزائد على الفرض العيني‪ ،‬وقال أيضا‪" :‬أما من كان فيه موضع لإلمامة؛ فاالجتهاد في‬
‫طلب العلم عليه واجب‪ ،‬واألخذ في العناية بالعلم على قدر النية فيه"؛ فقسّم كما ترى‪ ،‬فجعل من فيه قبولية لإلمامة مما يتعين عليه‪ ،‬ومن ال جعله‬
‫مندوبا إليه‪ ,‬وفي ذلك بيان أنه ليس على كل الناس‪ ،‬وقال سحنون‪ :‬من كان أهال لإلمامة وتقليد العلوم؛ ففرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى‪(( :‬‬
‫ع ِن ْال ُم ْنك َِر )) "‪.‬ونقل نحوه القرافي في "الفروق" ‪ 145/1‬وقال ‪ " :‬العلم وضبط‬ ‫َو ْلتَ ُك ْن مِ ْن ُك ْم أ ُ َّمةٌ َيدْعُونَ إِلَى ْال َخي ِْر َو َيأ ْ ُم ُرونَ ِب ْال َم ْع ُروفِ َو َي ْن َه ْونَ َ‬
‫ورق فهمهم ‪ ،‬وحسنت سيرتهم ‪ ،‬وطابت سريرتهم ‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشريعة وإن كان فرض كفاية ؛ غير أنه يتعين له طائفة من الناس ‪ ،‬وهي من جاد حفظهم ‪،‬‬
‫فهؤالء هم الذين يتعيّن عليهم االشتغال بالعلم … وصار طلب العلم عليهم فرض عين"‪ .‬وقال ابن الشاط في حاشيته على "الفروق" ‪ " : 145/1‬إذ‬
‫النافلة والمندوبات المتأكدة مما يجب عندنا وعند السادة األحناف خالفا للشافعية‪ .‬وكذا فرض الكفاية يصير فرض عين بالشروع فيه على األصح‪،‬‬
‫حتى تطلب العلم لمن ظهرت فيه قابلية من نجابة قاله سحنون" اهـ‪.‬‬
‫ي خالفه كما في‬ ‫ّ‬ ‫وو‬‫ن‬‫ّ‬ ‫وال‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫افع‬‫الر‬
‫ّ‬ ‫ّح‬
‫ح‬ ‫وص‬ ‫‪،‬‬ ‫القطع‬ ‫عليه‬ ‫يحرم‬ ‫أنه‬ ‫النجابة‬ ‫نفسه‬ ‫أن المتعلّم إذا أنس من‬ ‫شافعيّة؛ فحكي عن القاضي الحسين‪ّ :‬‬ ‫وأ ّما ال ّ‬
‫ي ‪ " :‬فرض الكفاية هل يتعيّن بالشروع أو ال ؟ فيه خالف‪ ،‬رجّح في المطلب‬ ‫ّ‬
‫"البحر المحيط" (‪ ،)294/1‬وفي في "األشباه والنظائر" للسّيوط ّ‬
‫األول‪ ،‬والبارزي في التمييز الثاني ‪ ...‬ث ّم قال ‪ :‬ومنها العلم‪ ،‬فمن اشتغل به وحصل منه طرفا وآنس منه األهلية ‪ ،‬هل يجوز له تركه أو يجب عليه‬
‫ووجّه بأن كل مسألة مستقلة برأسها منقطعة عن غيرها‪.‬‬ ‫االستمرار؟ وجهان‪ .‬األص ّح األول‪ُ .‬‬
‫الظاهرة لقصد األمر بالمعروف وال ّنهي عن المنكر‪ ،‬والكالم هنا إ ّنما هو ع ّمن‬ ‫قلتُ ‪ :‬وإ ّنما يستقيم هذا في الدّاعية الّذي غايته من التّعلّم فهم المسائل ّ‬
‫ّ‬
‫يتجزأ‬ ‫الطلب بال ّنسبة لهذا إ ّنما هي تحصيل منصب االجتهاد الذي هو منصب ال‬ ‫صل رتبة العالم‪ ،‬وغاية ّ‬ ‫برزت نجابته وفطنته م ّمن يُطمع أن يُح ّ‬
‫شروع‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬ ‫ي بال ّ‬
‫ّ‬ ‫الكفائ‬ ‫الوجوب‬ ‫ّن‬‫ي‬ ‫تع‬ ‫في‬ ‫الخالف‬ ‫على‬ ‫ّا‬
‫ي‬ ‫مبن‬ ‫هذا‬ ‫في‬ ‫الخالف‬ ‫يبقى‬ ‫فال يحصل مع تفريق المسائل‪ ،‬وعليه‬
‫وقال في موضع آخر ‪" :40/11‬ويقدم في القراءة من فيه قابلية على غيره لتحصيل كثرة المنافع‬
‫ي يقول الطالب الذي ال قابلية له ينبغي أن يقدم عليه غيره‪ .‬وفي‬‫على قلتها‪ ،‬وكان الشيخ األب ّ‬
‫الموافقات في الطالب الذي ال قابلية له أن تعلقه بالتعليم من باب العبث بالنسبة إلى المصلحة المجتلبة‬
‫ومن تكليف ما ال يطاق في حقه‪ ،‬وكالهما باطل شرعا‪ ،‬والذي فيه قابلية قد يكون التعلم فرض عين‬
‫عليه" ‪.‬‬
‫شافعيّة‪ " :‬لو كان مشتغال بعلم شرعي ويرجى منه النجابة‬ ‫وفي "إعانة الطالبين" ‪ 98/4‬من كتب ال ّ‬
‫والكسب يمنعه فتجب كفايته حينئذ وال يكلف الكسب "‪.‬‬
‫ي ‪ 171،172 / 6‬وأما من ال يتأنى منه التحصيل فال تحل له الزكاة إذا قدر‬ ‫وفي "المجموع " لل ّنوو ّ‬
‫على الكسب وإن كان مقيما بالمدرسة‪ ،‬هذا الذي ذكرناه هو الصحيح المشهور‪ ،‬وذكر الدارمي في‬
‫المشتغل بتحصيل العلم ثالثة أوجه ‪ ...‬الثالث‪ :‬إن كان نجيبا يُرجى تفقهه ونفع المسلمين به استحق‬
‫وإال فال‪.‬‬
‫المعنى العا ّم لل ّ‬
‫طلب ‪:‬‬

‫الطلب هو = محاولة وجدان الشيء وأخذه كما في "لسان العرب"‪ ،‬ولذا فطلب العلم هو ‪ :‬السّعي في تحصيله‬ ‫ّ‬
‫واتّخاذ أسباب حوزته ونيله‪ ،‬وهذا السّعي مسبوق بإرادة ونيّة ؛ قال تعالى ‪ ( :‬ومن أراد اآلخرة وسعى لها سعيها‬
‫‪. ) ...‬‬

‫أو يُقال ‪ّ :‬‬


‫الطلب = السّعي ‪ ،‬وذا منه باطن وظاهر‪ ،‬فالباطن = النيّة ‪.‬‬

‫ومبدأ النّيّة = ه ّم ‪ ،‬ومنتهاها = ه ّمة ‪:‬‬

‫واله ّم = بداية القصد وترجيح التّوجّه إلى المقصود‪.‬‬

‫واله ّمة = غاية التّوجّه والتّطلّع إلى أعلى المقامات ‪:‬‬

‫والعلو بالنّفس وتسلّق سلّم الهمم تضمن به ّ‬


‫الراحة ؛ كما قيل في الحكمة ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫أوجد لنفسك مكانا في الق ّمة ‪ ،‬ففي القاع ازدحام شديد!!‬
‫ي‪:‬‬ ‫وقال ال ّ‬
‫شاب ّ‬
‫ومن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر‪.‬‬

‫قال ابن القيم رحمه هللا تعالى في "مدارج السالكين" (‪ :)147/3‬ومتى صحّت الهمة ‪ :‬علت وارتفعت‪ ،‬فإن سقوطها‬
‫ودناءتها من علتها وسقمها وإال فهي كالنار تطلب الصعود واالرتفاع ما لم تُمنع ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وأعلى الهمم = همة اتصلت بالحق سبحانه طلبا وقصدا وأوصلت الخلق إليه دعوة ونصحا وهذه همة الرسل‬
‫وأتباعهم ‪ ،‬وصحّتها = بتمييزها من انقسام طلبها وانقسام مطلوبها وانقسام طريقها ؛ بل توحد مطلوبها باإلخالص‬
‫وطلبها بالصدق وطريقها بالسلوك خلف الدليل الذي نصبه هللا دليال ال من نصبه هو دليال لنفسه ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وهلل الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها؛ فه ّمة متعلقة بمن فوق العرش‪ ،‬وه ّمة حائمة حول األنتان والحش‬
‫‪،‬والعامة تقول‪ :‬قيمة كل امرئ = ما يُحسن‪ ،‬والخاصة تقول‪ :‬قيمة المرء = ما يطلبه‪ ،‬وخاصة الخاصة تقول‪ :‬قيمة‬
‫المرء = إلى مطلوبه‪.‬‬

‫ومن أمثلة الهمم العالية ‪:‬‬

‫‪ – 1‬ربيعة بن كعب األسلمي الذي قال لـه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪" :‬سل" فقال‪ :‬أسألك مرافقتك في الجنة‪...‬‬

‫‪ – 2‬عكاشة بن محصن بادر فقال ‪" :‬ادع هللا أن يجعلني منهم ‪."...‬‬

‫‪ – 3‬أبو بكر الذي قال‪" :‬ما على من دعي من تلك األبواب من ضرورة فهل يدعي أحد من تلك األبواب كلها ‪ ،‬قال‬
‫نعم وأرجوا أن يكون منهم ‪."...‬‬

‫تسألن من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك؟ فقلت‪:‬‬


‫ِ‬ ‫‪ – 4‬أبو هريرة قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم لـه‪" :‬أال‬
‫أسألك أن تعلمني مما علمك هللا فنَزع ن َِم َرة ً كانت على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى نمل يدب‬
‫عليها فحدثني حتى إذا استوعب حديثه قال اجمعها فصرها إليك فأصبحت ال أسقط حرفا ً مما حدثني" ‪...‬‬
‫السّعي ّ‬
‫الظاهر ‪:‬‬

‫مبدأ األمر = نيّة وه ّمة‪ ،‬ومنتهاه التّوفيق والوصول‪ ،‬وبين ذلك اتّخاذ األسباب الح ّ‬
‫سيّة ‪:‬‬

‫فوجود النّيّة يلزم منه حصول السّعي واتّخاذ األسباب‪ ،‬وبقدر عزم المرء وصدق نيّته ‪ :‬يقوى نشاطه وينهض في‬
‫األول بالكلّيّة ‪...‬‬ ‫األول ‪ :‬يضعف الثّاني‪ ...‬حتّى يكون انتفاء الثّاني بالكلّيّة = ً‬
‫دليال على انتفاء ّ‬ ‫السّعي‪ ،‬وبقدر ضعف ّ‬
‫صحيح؛ قال تعالى ‪ (( :‬ولو أرادوا الخروج ألعدّوا له عدّة ))‪ ،‬وفي الحديث ‪ ( :‬والذي‬ ‫ّإال مع وجود المانع التّا ّم ال ّ‬
‫نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء ) أي لعزم ونوى ومن ثَ ّم يشهدها‪.‬‬

‫إن هللا تعالى قد جعل اتّخاذ األسباب موصال للنّتائج‪ ،‬فللنّتائج أسباب معقولة يتوقّف وجودها على وجودها‬ ‫ث ّم ّ‬
‫ويترتّب على عدم وجود األسباب عدم وجود تلك النّتائج‪ ،‬وهذا كما جعل تعالى النّار سببا لإلحراق والماء سببا‬
‫لإلرواء ونحو ذلك‪ ،‬فكذا هو قد جعل السّعي واتّخاذ األسباب نفسه سبب الوصول للألهداف وبلوغ الغايات‪ّ ،‬‬
‫وأول‬
‫األسباب ههنا هو التّخطيط السّليم ووضع األسس وتحديد أسباب الوصول نفسها وحسن تنظيمها وترتيبها ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬وهذا قد بلغ فيه الغرب الغاية كما يُرى في حساباتهم المستقبليّة واستباقهم األوضاع وقراءتهم لألحداث‬
‫وعنايتهم بالدّراسات لغاية رسم األسباب المناسبة لك ّل وضع محتمل مع قدر كبير من األمانة والعدل في ك ّل ذلك‬
‫فإن الغالب‬‫ي ونحوه لدى هؤالء ّ‬ ‫شخصيّة ويندرالفساد المال ّ‬ ‫بحيث تتوافر النّزاهة وتضعف األنانيّة وتق ّل الحسابات ال ّ‬
‫عليهم تغليب المصلحة العليا وتحكيم العقل واالستناد إلى التّجارب واالنتفاع بالتّاريخ وكذا بسائر العلوم مع‬
‫ضا في التّطبيق والتّنفيذ بخالف من يغيب لديه األمران فال هو صاحب‬ ‫ازدهارها لديهم‪ ،‬هذا مع نزاهة مماثلة أي ً‬
‫تخطيط وتنظيم وال هو صاحب نزاهة وأمانة كحال المسلمين اليوم إذ حال المسلمين اآلن = فوضى عارمة مع‬
‫صدق واإلخالص‬ ‫أنانيّة بالغة‪ ،‬والحال قبل ذلك = إعراضهم عن مثل هذا التّشخيص جهال وتجاهال‪ ،‬وذا لضعف ال ّ‬
‫واإليثار واألمانة ونحو هذه المعاني الّتي تبعث على السّعي للتّشخيص وحسن التّخطيط ث ّم تحدو للقيام باإلصالح‬
‫يحث على تلك المعاني بل هي روحه ولبّه لكون المنطلق فيه‬ ‫ّ‬ ‫أن دين اإلسالم هو أكثر من‬ ‫وحسن التّنفيذ‪ ،‬ومعلوم ّ‬
‫صرفة عن تلك المعاني‪ ،‬ولذا فبقدر اإليمان والعمل‬ ‫هو توحيد هللا وطاعته واالستسالم ألمواره ومجاهدة األهواء ال ّ‬
‫ي في الدّنيا مع فوز أعظم في اآلخرة‪ ،‬وبقدر ضعف اإليمان وقلةّ‬ ‫للرق ّ‬
‫باإلسالم تحصل تلك األسباب فيوصل ّ‬
‫ضا‪،‬‬‫التّمسّك بالدّين يتخلّف المسلمون ويضعف شأنهم في الدّنيا مع عقاب على عصيانهم وتفريطهم في اآلخرة أي ً‬
‫ولذا فالكافر الّذي يتمسّك بتلك المعاني ويتّخذ تلك األسباب يفوز في الدّنيا فقط وهو في اآلخرة من الخاسرين ‪.‬‬

‫ولذا روى أبو نعيم في الحلية ابن أبي الزناد ‪ ،‬عن أبيه ‪ ،‬قال ‪ :‬اجتمع في الحجر ‪ :‬عبد هللا ‪ ،‬ومصعب ‪ ،‬وعروة ‪-‬‬
‫بنو الزبير ‪ -‬وابن عمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬تمنوا ؛‬
‫فقال ابن الزبير ‪ :‬أتمنى الخالفة ‪.‬‬
‫وقال عروة ‪ :‬أتمنى أن يؤخذ عني العلم ‪.‬‬
‫وقال مصعب ‪ :‬أتمنى إمرة العراق ‪ ،‬والجمع بين عائشة بنت طلحة ‪ ،‬وسكينة بنت الحسين ‪.‬‬
‫فقال ابن عمر ‪ :‬أما أنا فأتمنى المغفرة ‪.‬‬
‫فنالوا ما تمنوا ‪ ،‬ولع ّل ابن عمر قد غفر له ‪.‬‬

‫البر في "جامع بيان العلم" (‪ 98‬ط ابن حزم ) بسند صحيح معلّق عن الحلواني قال ‪ :‬حدثنا يزيد بن‬ ‫وذكر ابن عبد ّ‬
‫هارون ‪ ،‬قال حدثنا جرير بن حازم ‪ ،‬قال سمعت يعلى بن حكيم ؛ يحدث عن عكرمة عن ابن عباس رضي هللا عنه‬
‫قال‪:‬‬
‫لما قبض رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وأنا شاب ‪ ،‬قلت لشاب من األنصار‪:‬‬
‫يا فالن ؛ هلم فلنسأل أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬ولنتعلم منهم فإنهم كثير‪.‬‬
‫قال ‪ :‬العجب لك يا ابن عباس ! أترى الناس يحتاجون إليك وفي األرض من ترى من أصحاب رسول هللا صلى هللا‬
‫عليه وسلم !‬
‫قال ‪ :‬فتركت ذلك ‪ ،‬وأقبلت على المسألة وتتبع أصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬فإن كنت آلتي الرجل في‬
‫الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأجده قائال ؛ فأتوسد ردائي على بابه تسفي الريح على‬
‫وجهي حتى يخرج ‪ ،‬فإذا خرج ؛ قال‪:‬‬
‫يا ابن عم رسول هللا صلى هللا عليه وسلم مالك !؟‬
‫فأقول‪ :‬بلغني حديث عنك أنك تحدثه عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأحببت أن أسمعه منك‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فيقول فهال بعثت إلي حتى آتيك ؟‬
‫فأقول‪ :‬أنا أحق أن آتيك‪.‬‬
‫فكان الرجل بعد ذلك يراني وقد ذهب أصحاب الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬واحتاج الناس إلي فيقول ‪ :‬كنت‬
‫أعقل مني‪.‬‬

‫وروى الخطيب في *تاريخ بغداد* أن اإلمام ابن جرير الطبري رحمه هللا تعالى قال يوما ألصحابه‪ :‬أتنشطون‬
‫لتفسير القرءان (أي الستمالئه)‪ ،‬فقالوا‪ :‬كم يكون قدره قال‪ :‬ثالثون ألف ورقة ( ‪ 200‬مجلد تقريبا ) فقالوا‪ :‬هذا مما‬
‫يُفني األعمار قبل تمامه‪ ،‬فاختصره في نحو ثالثة ءاالف ورقة ( ‪ 20‬مجلدا تقريبا وهو الكتاب المعروف اآلن‬
‫بتفسير ابن جرير الطبري واسمه «جامع البيان عن تأويل ءاي القرءان» ) ‪ ،‬ثم قال‪ :‬هل تنشطون لتاريخ العالم من‬
‫ءادم إلى وقتنا؟ أي لكتابة تاريخ العالم إلى زمانه قالوا‪ :‬كم قدره؟ فذكر الطبري نحو ثالثين ألف ورقة‪ ،‬فقالوا‪ :‬هذا‬
‫مما تفنى األعمار قبل تمامه‪ ،‬فقال الطبري‪ :‬إنَّا هلل ماتت الهمم‪ ،‬فاختصر كتاب التاريخ في نحو ثالثة ءاالف ورقة‪.‬‬
‫( وهو المعروف اآلن ب«تاريخ األمم والملوك» ويُعرف أيضا بتاريخ الطبري )‪.‬‬

‫في كتاب الهمة طريقك إلى القمة ص ‪" : 22 – 21‬وترى اليوم من تفاوت الهمم أمرا ً عجباً‪ ... ،‬فإذا اطلع المرء‬
‫على أحوال الخاصة من المسلمين وهم طالب العلم والدعاة وباقي الملتزمين بشرع هللا الحريصين عليه سيصاب‬
‫بالدهشة لما يراه من فتور الهمم ‪ ...‬فمنهم من إذا اطلع ساعة أو ساعتين في اليوم ظن أنه قد أتى بما لم يأت به‬
‫األوائل ومنهم من إذا خرج لزيارة فالن من الناس بقصد الدعوة يظن أنه قد قضى ما عليه من حق يومه ‪ ،‬ومنهم‬
‫من تتغلب عليه زوجه وعياله فيقطع عامة وقته في مرضاتهم ‪ ،‬ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم على سماع‬
‫بعض األشرطة ‪ ،‬وحضور محاضرة أو اثنتين في األسبوع أو الشهر ‪ ،‬ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا‬
‫والتمتع بمباحاتها تمتعا ً يفضي به إلى نسينا المعاني العلية ‪ ،‬ومنهم من يقضي عامة وقته متشبعا ً لقطات إخوانه‬
‫ومطلعا ً على ما يزيد علمه رسوخا ً في هذا المجال ‪ ...‬وال أزعم أن جمهور الصحوة قد فاتهم أن يكونوا ممن يجمع‬
‫الشمل ويقصر االعتذار والشكاية ويصبح نموذجا ً يحتذى به ‪ ،‬ولكن أقول جازما ً بأنهم – إال القليل – لم يستثمروا‬
‫هممهم حق االستثمار ‪ ،‬ولم يحاولوا أن يرتقوا بأنفسهم حق االرتقاء"‪.‬‬
‫فصل ‪:‬‬

‫وخاص ‪:‬‬
‫ّ‬ ‫تصورالنّتيجة والهدف‪ ،‬والنّتيجة والهدف منهما عا ّم‬
‫ّ‬ ‫علو اله ّمة ووجود النّيّة أصال ‪:‬‬
‫يسبق ّ‬

‫الراحة والسّعادة والسّرور والفرح والغبطة واالنشراح واالنتشاء ونحو ذلك من المعاني الّتي هي اله ّم‬
‫فالمجمل‪ّ :‬‬
‫األقصى لإلنسان‪.‬‬

‫صراط‬ ‫صل ‪ :‬ما يوصل إلى ذلك من اتّباع أمر هللا وما شرعه لعباده من الدّين القويم ونصبه لهم من ال ّ‬ ‫والمف ّ‬
‫ض َح ٰى ‪ ...‬إلى قوله ‪ :‬فَإِ َّما‬ ‫َظ َمأ ُ فِي َها َو َال تَ ْ‬
‫ع فِي َها َو َال تَ ْع َر ٰى ❂ َوأَنَّكَ َال ت ْ‬
‫المستقيم ؛ قال تعالى ‪ (( :‬إِ َّن لَكَ أَ َّال تَ ُجو َ‬
‫ضن ًكا ❂‬ ‫شة ً َ‬‫عن ِذ ْك ِري فَإِ َّن لَهُ َم ِعي َ‬ ‫ض َ‬ ‫ضل َوالَ َي ْشقَى❂ َو َم ْن أَع َْر َ‬ ‫َيأتِ َينَّ ُكم ِمنِّي ُهدًى ❂ فَ َم ِن ات َّ َب َع ُهدَ َ‬
‫اي فَالَ َي ِ‬
‫ش ُرهُ َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة أَ ْع َمى ‪)) ..‬‬
‫َونَحْ ُ‬

‫وهذا يشمل سعادتين وجنّتين ‪:‬‬

‫صا ِل ًحا ِ ّمن ذَكَر أَ ْو أُنثَ ٰى َوه َُو ُمؤْ ِم ٌن‬ ‫سعادة الدّنيا وجنّتها ‪ ،‬وسعادة اآلخرة وجنّتها ؛ قال تعالى ‪َ (( :‬م ْن َ‬
‫ع ِم َل َ‬
‫طيِّبَةً ‪. )1( )) ...‬‬
‫فَلَنُحْ يِيَنَّهُ َحيَاة ً َ‬

‫قال ابن القيم في الوابل الصيب‪ :‬واإلقبال على هللا تعالى‪ ،‬واإلنابة إليه‪ ،‬والرضا به وعنه‪ ،‬وامتالء القلب من محبته‬
‫واللهج بذكره‪ ،‬والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل‪ ،‬وجنة وعيش ال نسبة لعيش الملوك إليه البتة‪ ،‬وسمعت شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا يقول‪ :‬إن في الدنيا جنة من لم يدخلها ال يدخل جنة اآلخرة‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫قلتُ ‪ :‬وم ّما جعل هللا سبحانه ألجله لذّات الدنيا بأنواعها ‪ :‬أن يكون ك ّل نوع منها عيّنة على نظيره من لذّات الجنّة ‪،‬‬
‫قرة أعين ))‬‫فيحصل للنّاس فهم أصل المعنى ‪ ،‬وأ ّما كيف النّعيم و ُكنهه فمجهول ؛ (( فال تعلم نفس ما أخفي لهم من ّ‬
‫‪ ،‬إذ " ال عين رأت وال أذن سمعت وال خطر على قلب بشر " إال أصل المعنى الذي علموه في الدّنيا ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وأعظم ما هنالك أن جعل سبحانه حالوة اإليمان به وذكره وكونها تنسي المؤمن سائر ما يكون فيه من اللذات ‪:‬‬
‫تنبيها على لذّة النظر إلى وجهه في الجنّة وكونه يُنسي المنعّمين به سائر لذّات الجنّة ؛ ال يلتفتون إلى شيء من‬
‫النّعيم ما داموا ينظرون إليه تبارك وتعالى ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫الطيّبة هي = السّعادة‪ ،‬وهذا بأن يرزق هللا من كان كذلك سعادة تغمر "قلبه"‪ ،‬وتكون بقدر إيمانه وصالحه‪ ،‬وال‬ ‫أن الحياة ّ‬ ‫(‪ )1‬ذكرت في التفسير الماتع ّ‬
‫ب دِي ِن ِه ؛ فَإِ ْن كَانَ‬ ‫س ِ‬ ‫علَى َح َ‬ ‫يتعارض هذا القانون مع القانون الّذي جاء في الحديث من كون أشدّ ال ّناس بال ًء " األ ْن ِب َيا ُء‪ ،‬ثُ َّم األ ْمثَ ُل فَاأل ْمثَ ُل ؛ فَيُ ْبتَلَى َّ‬
‫الر ُج ُل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فإن البالء والشدّة هما = حال األخيار من‬ ‫الظاهر فقط‪ّ ،‬‬ ‫ألن هذا األخير هو قانون ّ‬ ‫ب دِي ِن ِه " ّ‬ ‫س ِ‬‫علَى َح َ‬ ‫ِي َ‬ ‫ص ْلبًا ا ْشتَدَّ َبال ُؤهُ‪َ ،‬وإِ ْن كَانَ فِي ِدي ِن ِه ِرقَّةٌ ا ْبتُل َ‬ ‫دِينُهُ ُ‬
‫ّ‬
‫شكل‪ ،‬كما يُرى من كثرة ما يصيبهم من الفقر واآلفات وتسلّط األشرار عليهم بالظلم ونحو ذلك‪ ،‬وأ ّما من حيث القانون الباطن فإ ّنهم =‬ ‫صورة وال ّ‬ ‫حيث ال ّ‬
‫فإن ال ّنصيب من ذلك هو = سبب السّعادة الحقيقيّة الباطنة أل ّنه يعلّق القلب باهلل ويمأله‬ ‫مع ذلك طيّبو ال ّنفس سعداء‪ ،‬وهذا بقدر درجاتهم في العلم واإليمان‪ّ ،‬‬
‫تعظي ًما له وشوقًا إلى لقائه ويحشوه يقي ًنا بجزائه في اآلخرة‪ ،‬ومن ثَ ّم يزهد المبتلى فيما يُبتلى بفقده ويصبر ويرضى لعلمه بحقارة الدّنيا وبقاء اآلخرة حتّى‬
‫صا ِلحُونَ ‪ ،‬لَقَدْ كَانَ أ َ َحدُهُ ْم يُ ْبتَلَى ِب ْالفَ ْق ِر َحتَّى‬ ‫حق كثير من هؤالء = لذّات‪ ،‬كما جاء في الحديث اآلخر في أشدّ ال ّناس بال ًء ‪ " :‬األ َ ْن ِب َيا ُء َوال َّ‬ ‫تستحيل اآلالم في ّ‬
‫طاءِ " ‪ ،‬فهذا هو لزهد هؤالء في أسباب السّعادة‬ ‫شدَّ فَ َر ًحا ِب ْالبَالءِ مِ ْن ُك ْم ِب ْالعَ َ‬‫س َها‪َ ،‬ويُ ْبتَلَى ِب ْالقُ َّم ِل َحتَّى َي ْقتُلَهُ‪َ ،‬وأل َ َحدُهُ ْم كَانَ أ َ َ‬ ‫َما َي ِجدُ ِإال ْالعَ َبا َءة َ َيحْ وي َها فَ َي ْل َب َ‬
‫ساءِ َو ْال َبنِينَ َو ْالقَنَاطِ ِ‬
‫ير‬ ‫ت مِنَ ال ِّن َ‬ ‫اس ُحب ال َّ‬
‫ش َه َوا ِ‬ ‫الظاهرة وشدّة تعلّقهم بالمسبّب تعالى فيكونون في أدنى درجات حبّ الدّنيا الّتي قال تعالى ‪ُ (( :‬ز ِيّنَ لِل َّن ِ‬ ‫ّ‬
‫ب )) فهذه المحابّ تعذّب القلوب الّتي تغلب‬ ‫َّللاُ ِع ْندَهُ ُح ْسنُ ْال َمآ ِ‬ ‫ث ٰذَلِكَ َمتَاعُ ْال َح َياةِ الد ْن َيا َو َّ‬ ‫س َّو َم ِة َو ْاأل َ ْن َع ِام َو ْال َح ْر ِ‬
‫ض ِة َو ْال َخ ْي ِل ْال ُم َ‬ ‫ب َو ْال ِف َّ‬
‫ط َرةِ مِنَ الذَّ َه ِ‬ ‫ْال ُمقَ ْن َ‬
‫ضره ف ْقد ما يُمنع‪ ،‬ويبقى‬ ‫الزهد في ذلك فال ي ّ‬ ‫الزاهد الّذي يخلق هللا في قلبه ّ‬ ‫الراغب باألسباب يجعله ال يقنع بما يُعطى وال يشبع‪ ،‬بخالف ّ‬ ‫ألن تعلّق ّ‬ ‫عليها ّ‬
‫الرضا والتّسليم ‪...‬‬ ‫يعوضه هللا بذلك من حالوة اإليمان والتّعظيم ولذّة ّ‬ ‫لديه ما ّ‬

‫يستمر عليه أولياء هللا على تفاوت درجاتهم إلى أن يدخلوا الج ّنة وينالوا أسباب السّعادة الحقيقيّة الباقية ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫إن هذه الحياة ّ‬
‫الطيبة والقانون الباطن م ّما‬ ‫ث ّم ّ‬
‫ويعوضهم هللا لذّة باطنة فيسعدون‪ ،‬حتّى‬ ‫ّ‬ ‫الزهد فيها فتطيب نفوسهم ويرضون‪،‬‬ ‫فمهما ابتُلوا بفقد أسباب سعادة منقطعة باطلة قبل ذلك ‪ :‬خلق هللا في قلوبهم ّ‬
‫ي" ‪ " :‬يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة‪ ،‬وعلى وجه آزر قترة‬ ‫الرحمن‪ ،‬كما جاء في "صحيح البخار ّ‬ ‫إن ذلك ليحصل يوم القيامة قبل دخول الج ّنة لخليل ّ‬ ‫ّ‬
‫وغبرة‪ ،‬فيقول له إبراهيم‪ :‬ألم أقل لك ال تعصني‪ ،‬فيقول أبوه‪ :‬فاليوم ال أعصيك‪ ،‬فيقول إبراهيم‪ :‬يا رب إنك وعدتني أن ال تخزيني يوم يبعثون‪ ،‬فأي خزي‬
‫أخزى من أبي األبعد؟ فيقول هللا تعالى‪ :‬إني حرمت الجنة على الكافرين‪ ،‬ثم يقال‪ :‬يا إبراهيم‪ ،‬ما تحت رجليك؟ فينظر‪ ،‬فإذا هو بذيخ متلطخ‪ ،‬فيؤخذ‬
‫صحيح فقال ‪" :‬إن إبراهيم يقول يوم القيامة‪ :‬رب‪ ،‬والدي! رب‪ ،‬والدي! فإذا كان الثالثة‪ ،‬أخذ بيده‪ .‬فيلتفت‬ ‫بقوائمه فيلقى في النار " ورواه بعضهم خارج ال ّ‬
‫فيتبرأ منه"‪ .‬وفي لفظ ‪" :‬يقول إبراهيم ألبيه‪ :‬إني كنت آمرك في الدنيا وتعصيني‪ ،‬ولست تاركك اليوم‪ ،‬فخذ بحقوي‪ .‬فيأخذ بضبعيه‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫إليه‪ ،‬وهو ضبعان‪،‬‬
‫فُيمسخ ضبعاً‪ .‬فإذا رآه إبراهيم مسخ‪ ،‬تبرأ منه"‪.‬‬
‫ي = سعادة ذاتيّة لتعلّقها بالمحبوب لذاته سبحانه وتعالى‪ّ ،‬‬
‫فإن العلم سبيل معرفة أخباره‬ ‫شرع ّ‬‫وسعادة الدّنيا بالعلم ال ّ‬
‫ّ‬
‫ودينه وأحكامه (‪ ،)1‬وذلك م ّما يتنعّم به المحبّ زيادة على قدر الفضول العا ّم الذي لديه ‪...‬‬

‫ومأجورا عليه دينيّا ‪ ،‬وهو = االشتياق ألخبار هللا وحبّ‬


‫ً‬ ‫أمرا ذاتيًّا‬
‫ضا = ً‬ ‫فداعية تعلّم علم ال ّ‬
‫شرع بالذّات يكون أي ً‬
‫يكون نيّة زائدة على نيّة الفضول المحض فتكون حاصلة لطالب العلم‬ ‫عرف على كالمه ومراده ودينه‪ ،‬وذا ّ‬ ‫الت ّ ّ‬
‫مجرد الفضول‪ ،‬ولذا فهو قد يزهد في أصل التّعلمّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ي دون طالب سائر العلوم‪ ،‬إذ طالبها قد يدفعه للطلب‬ ‫شرع ّ‬ ‫ال ّ‬
‫شرع‪ ،‬ومن ث ّم‬ ‫ّ‬
‫ي فيجد نفسه في البدء معظ ًما لقيمة ال ّ‬ ‫شرع ّ‬ ‫لضعف قيمة المعلوم في نظره‪ ،‬وأ ّما قاصد طلب العلم ال ّ‬
‫ي أنّه قال ‪ :‬ما أعلم اليوم شئيا ً أفضل من طلب‬ ‫ّ‬
‫ي عن سفيان الثور ّ‬ ‫سر المرو ّ‬
‫متقربا‪ ،‬بخالف العامل‪ ،‬وهذا هو ّ‬ ‫ّ‬
‫العلم‪ ،‬قيل ‪ :‬إنه ليس لهم فيه نية ؟ قال ‪ :‬طلبهم له = نيّة ‪.‬‬

‫وهذا ّ‬
‫ألن داعي الفضول يوقفه الكسل فيبقى الحبّ ‪.‬‬

‫شره وهوايته هوايةَ‬


‫شغف به والنّهمة وال ّ‬‫وعالج دافع عموم الفضول وحبّ العلم حبّا فطريّا وحرص النّفس عليه وال ّ‬
‫ونحو ذلك من األحوال والدّوافع والنّيّات الّتي ال يؤجر طالب العلم عليها هو = تجديد الحبّ واستذكار المحبوب‬
‫قرب إليه بذلك وطلب‬ ‫وجعل دافع ّ‬
‫الطلب معرفة أخباره لغاية تصديقها وأحكامه لغاية تطبيقها واستحضار الت ّ ّ‬
‫اآلخرة واحتساب األجر وذكر الثّواب ‪.‬‬

‫تصور الغاية والنّتيجة أو في النّيّة أو في اتّخاذط‬


‫ّ‬ ‫وعالج التّواني والتّكاسل في ال ّ‬
‫طلب هو البذل والمجاهدة سواء في‬
‫أن األصل فيه هو الفضول والتّطلّع لالستكشاف والعلم من أجل‬ ‫فإن اإلنسان يتكاسل في طلب العلم مع ّ‬‫األسباب ّ‬
‫التركيب والتعقيد في النفس فإنها مجبولة أيضا على الكسل والتّهاون في العمل‪ ،‬فالعلم يحتاج بحثا وتقييدا وحفظا‬
‫ونحو ذلك ‪ ،‬وكل هذه = أعمال فهي تحتاج إلى بذل ومجاهدة للنّفس‪ ،‬فمنهم من يجاهدها ويُغالب فيبلغ‪ ،‬ومنهم َمن‬
‫ال ‪.‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫للرؤية‬ ‫شوق ّ‬ ‫الروحيّة ـ كالوالد ـ هو = ‪ 1‬ـ ال ّ‬ ‫(‪ )1‬ولذا كان من أقوى األدلة على الحبّ = الشوق‪ ،‬وأقوى ذلك بالنسبة لمن كملت معه المناسبة ّ‬
‫األبوة الدّينيّة أل ّنها‬ ‫ّ‬ ‫صاحب‬ ‫لدى‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫هو‬ ‫الواحد‬ ‫ي وتل ّمس البدن واحتضانه ونحو ذلك‪ ،‬وأكمل شيء من هذا في بني الجنس‬ ‫الجسديّة واللّقاء المادّ ّ‬
‫ي ﷺ لمن لم يلق من أ ّمته ولذا قال ﷺ‪" :‬وددت أني لقيت‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫تكون أخلص شيء من الشوائب وأبعده عن حظوظ النفس الدّنويويّة‪ ،‬وهذا = شوق النب ّ‬ ‫ّ‬
‫ولكن إخواني الذين آمنوا بي ولم يروني"‪ .‬ويُقابل هذا شوق األ ّمة لنبيّها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫إخواني " فقال أصحابه‪ :‬أو ليس نحن إخوانك ؟‪ ،‬قال ‪" :‬أنتم أصحابي‬
‫ناس َيكونونَ َبعدي‪ ،‬يود أحدُهُم لَو رآني‪ ،‬بأ َ ْه ِل ِه وما ِلهِ"‪ ،‬وأكمل شوق حادث هو = شوق العبد لإلله‪،‬‬ ‫وهو الّذي قال ﷺ ‪" :‬مِ ن أش ِدّ أ َّمتي لي حبَّا‪ٌ ،‬‬
‫ش ْوقَ ِإلَى ِلقَائِكَ "‪ ،‬وقال موسى ‪ (( :‬ربّ أرني أنظر إليك )) فل ّما أعلمه‬ ‫ظ ِر ِإلَى َوجْ ِهكَ ‪َ ،‬وال َّ‬ ‫ي ﷺ يقول في دعائه ‪ " :‬أسألك لَذَّة َ ال َّن َ‬ ‫ولهذا كان ال ّنب ّ‬
‫تعالى بعدم إمكان ذلك في هذه‪ ،‬قال له ‪ (( :‬يا موسى إ ّني اصطفيتك على ال ّناس برساالتي وبكالمي ))‪ ،‬وقد جعل في هذا ما ينوب مناب ذلك ويلبّي‬
‫شوق األكبر هو = ‪ 3‬ـ الشوق إلى‬ ‫ي لكالم المحبوب‪ ،‬وحيث ال رؤية وال سماع يبقى عنوان ال ّ‬ ‫الروية الحقيقيّة هو = ‪ 2‬ـ السّماع الحقيق ّ‬ ‫الحاجة بعد ّ‬
‫صيه )) أي استكشفي أخباره وتت ّبعيها وكذا‬ ‫معرفة أخبار المحبوب والتطلع إلى تفاصيل حاله كأنه يُسمع ويُرى‪ ،‬ولهذا قالت أ ّم موسى (( ألخته ق ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ي اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه )) ‪ ،‬ولذا فمن أعظم أدلّة حبّ هللا = طلب العلم لما في ذلك من = طلب معرفة تفاصيل‬ ‫قال يعقوب ‪ (( :‬يا بن ّ‬
‫أخبار الوحي وما فيها من الخبر عن هللا تعالى وأسمائه وصفاته ومعاني كالمه ومراده وأحكامه* ‪...‬‬
‫شوق‬ ‫ي ‪ ،‬فإ ّنه بقدر ذلك ال ّ‬ ‫وأ ّما أكمل شوق على اإلطالق فهو = شوق اإلله للعبد أل ّنه يكون على وجه المقابلة والمكافأة مع تمام الغنى والكمال الذّات ّ‬
‫الروحيّة والعلم‬ ‫َّللاُ ِلقَا َءهُ "‪ ،‬والعبد يشتاق لإلله شوقًا ذاتيّا لما به من الحاجة ّ‬ ‫َّللا أ َ َحبَّ َّ‬‫من العبد هلل تعالى يشتاق له هللا وفاقًا ؛ إذ " َم ْن أ َ َحبَّ ِلقَا َء َّ ِ‬
‫ويعريه من ذنبه ويك ّمل نقصه ويبلّغه تمام حاجاته ويجبر له الكسر ّإال‬ ‫ّ‬ ‫جهله‬ ‫من‬ ‫صه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ُخ‬ ‫بكمال اإلله ‪ ،‬واإلله يشتاق للعبد ليُطلعه على حقيقة العلم وي‬
‫َّللاُ ِلقا َءهُ " ومعنى ذلك بالنسبة للمؤمن ليس هو كراهته للموت واالنتقال‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َّللا ك َِرهَ َّ‬‫كسر من ال يقبل كسره الجبر م ّمن ال خير فيه إذ " َم ْن ك َِرهَ ِلقا َء َّ ِ‬
‫َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ع ْن َنف ِس ال ُمؤْ مِ ِن َيك َرهُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ش ْيء أنَا فَا ِعلهُ تَ َرددِي َ‬ ‫ع ْن َ‬‫وإ ّنما هي الكراهة من هللا تعالى إليذائه من أجل التّزاحم‪ ،‬ولهذا قال سبحانه ‪ " :‬و َما ت ََردَّدْتُ َ‬
‫سا َءتَهُ " ‪.‬‬ ‫ْال َم ْوتَ َوأَنَا أ َ ْك َرهُ َم َ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ب ِإلَ ْيهِ‪،‬‬ ‫طلُبُ التَّ َحب َ‬ ‫س ِّيدَهُ‪َ ،‬ي ْ‬
‫ضي َ‬‫ش ْيء ي ُْر ِ‬ ‫طلُبُ ُك َّل َ‬ ‫طلُبُ ْالع ِْلم َي ْنتَ ِف ُع ِب ِه ِب َم ْن ِزلَ ِة ْال َع ْب ِد َي ْ‬ ‫ع َي ْي َنةَ‪ ،‬رحمه هللا ‪ِ « :‬إ َّن َما َم ْن ِزلَةُ الَّذِي َي ْ‬ ‫س ْف َيا ُن ْب ُن ُ‬ ‫* ولهذا قال ُ‬
‫ش ْيئًا َي ْك َرهُهُ »‪.‬‬ ‫ب ِإلَ ْي ِه َو ْال َم ْن ِزلَةَ ِع ْندَهُ؛ ِلئ ََّال َي ِجدَ ِع ْندَهُ َ‬
‫َوالتَّقَر َ‬
‫فصل ‪:‬‬
‫الطالب داعية الفضول المجبول عليه اإلنسان إذ‬‫أن اللّذّة الذّاتيّة في طلب العلم هي = في كونه يشبع لدى ّ‬
‫قد تقدّم ّ‬
‫هو مجبول على حبّ االستزادة م ّما يتمتّع بأصل تحصيله وأه ّم ذلك المتع ّ‬
‫الروحيّة كمتعة العلم هنا‪،‬‬

‫ي من‬ ‫ي بخصوصه هي ـ زيادة على ذلك ـ = فيما يجده طالب العلم ال ّ‬


‫شرع ّ‬ ‫شرع ّ‬ ‫أن اللّذّة الذّاتيّة في طلب العلم ال ّ‬
‫و ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫حالوة اإليمان الذي نواته = حبّه هللا بحيث يُشبع العلم باهلل داعية ال ّ‬
‫شوق الذي دعا إليه الحبّ ‪،‬‬

‫الربّ له كذلك‪ ،‬وأعظم‬ ‫ث ّم أعظم ما تك ّمل لذّة الحبّ هذه هي = لذّة مقابلة الحبّ بمثله وهي لذّة استشعار العبد لحبّ ّ‬
‫ذلك هو ما يك ّمله من لذّة التّخصيص واالصطفاء الّتي تتعلّق بأصل اإليمان كيف بالعلم الّذي يتعلق بدرجات اإليمان‬
‫ّ‬
‫وتفاصيله ؟! ولهذا قال تعالى ‪ ( :‬يرفع هللا الّذين آمنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات )‪،‬‬
‫هللا يُعطي الدنيا من يُحب ومن ال يحب ‪ ،‬وال يُعطي اإليمان إال ٓمن يُحب »‬‫وفي الحديث ‪ « :‬إن ٓ‬
‫وقال سبحانه ‪ ( :‬هللا يصطفي من المالئكة رسال ومن النّاس ) وفي الحديث ‪ « :‬العلماء ورثة األنبياء» ولذا ‪:‬‬
‫فالعلم = اصطفاء من اصطفاء ‪.‬‬

‫ولذا قال عبد هللا بن عمرو بن العاص رضي هللا عنهما ‪ " :‬من قرأ القرآن فكأنما استدرجت النبوة بين جنبيه إال أنه‬
‫ّ‬
‫وعظم ما حقر هللا‬ ‫ال يُوحى إليه ‪ ،‬ومن أُعطي القرآن فظن أن أحدا أُعطي أفضل مما أُعطي فقد حقر ما ّ‬
‫عظم هللا ‪،‬‬
‫‪ ،‬وليس ينبغي لحامل القرآن أن يحد فيمن يحد وال يجهل فيمن يجهل ‪ ،‬ولكن ليعف وليصفح لحق القرآن " ‪.‬‬

‫وتظهر المقابلة مع االصطفاء في ‪:‬‬

‫ي ﷺ ‪ « :‬يقو ُل هللاُ ‪ :‬أنا عند‬ ‫‪ 1‬ـ ذكر هللا بنفسه لمن يذكره كما في قوله تعالى ‪ ( :‬فاذكروني أذكركم )‪ ،‬وقول النّب ّ‬
‫ذكرنِي في مأل ذكرتُه في مأل‬ ‫وإن َ‬ ‫ذكرنِي في نفسِه ذكرتُه في نفسِي ‪ْ ،‬‬‫فإن َ‬ ‫ذكرنِي ‪ْ ،‬‬ ‫ِّ‬
‫ظن عبدِي بِي ‪ ،‬وأنا َمعَه إذا َ‬
‫وإن أتانِي يمشِي أتيتُه‬ ‫عا ‪ْ ،‬‬‫تقربتُ إليِه با ً‬
‫عا َّ‬
‫ي ذِرا ً‬
‫ب إل َّ‬
‫تقر َ‬ ‫عا ‪ْ ،‬‬
‫وإن َّ‬ ‫تقربْتُ إليِه ذِرا ً‬
‫برا َّ‬
‫ي ِش ً‬
‫ب إل َّ‬
‫تقر َ‬ ‫خير ِمنهم ‪ْ ،‬‬
‫وإن َّ‬
‫هرولةً »‪.‬‬

‫ي بن كعب‪ّ « :‬‬
‫إن هللا أمرني أن أقرأ عليك (لم يكن الذين كفروا)»‪،‬‬ ‫ولذا ل ّما قال النبي ﷺ ألُب ّ‬
‫قال‪ :‬وس َّماني؟ قال‪« :‬نعم»‪ ،‬فبكى أُب ٌّ‬
‫ي‪.‬‬

‫ومثل هذا هو أحد معاني قول هللا تعالى ‪ ( :‬ولذكر هللا أكبر ) (‪.)1‬‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫أن قوله تعالى ‪َ (( :‬ول ِذك ُر ه ِ‬
‫َّللا أكبَ ُر )) [ العنكبوت ‪ : ] 45 :‬فيه معنيان كبيران ‪:‬‬ ‫ّ‬
‫(‪ )1‬ذكرت في "التفسير الماتع" ّ‬

‫أن هللا تعالى يقابل ذكر من يذكره بأن يذكره هو تعالى‬ ‫أن ذكر هللا تعالى لكم إذا ذكرتموه أكبر شأنًا من ذكركم أنتم إيّاه‪ ،‬وذلك ّ‬ ‫األول ‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫ع ْبدِي بِي َوأنَا َمعَهُ إِذَا ذَك ََرنِي فَإِ ْن‬ ‫َ‬
‫َّللاُ تَعَالَى‪ :‬أنَا ِع ْندَ َ‬
‫ظ ِّن َ‬ ‫ـر ُك ْم ) ‪ ،‬وفي الحديث الصحيح ‪ ( :‬يَقُو ُل َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫كما قال تعالى ‪ ( :‬فَاذ ُك ُرونِي أذ ُك ْ‬
‫ذَك ََرنِي فِي نَ ْف ِس ِه ذَك َْرتُهُ فِي نَ ْفسِي َو ِإ ْن ذَك ََرنِي فِي َم َإل ذَك َْرتُهُ فِي َم َإل َخيْر مِ ْن ُه ْم ) ‪ .‬فقال تعالى هنا ‪ (( :‬ولذكر هللا أكبر )) ‪ ،‬وهذا ّ‬
‫ألن‬
‫أن هللا يسّره له وألهمه إيّاه وهداه إليه فمجازاته تعالى له على ذكره إيّاه بعد ذلك أكبر لكونه =‬ ‫ذكر العبد لربّه ّأوال ما كان يتيسّر لوال ّ‬
‫ي لعبده الفقير فهو أكبر لكونه = أشرف وأعجب أيضًا لغناه تعالى عن عبده وحاجة‬ ‫ّ‬ ‫ذكرغن‬ ‫هو‬ ‫ألن ذكره تعالى لعبده‬ ‫منّة وتفضّل ‪ ،‬ث ّم ّ‬
‫عبده الفقير إليه‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه هللا ‪ " :‬ليس العجب من مملوك يتذلل هلل ويتعبد له وال يمل من خدمته مع‬
‫حاجته وفقره إليه ‪ ...‬وإنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه" ‪.‬‬

‫ألن الذّكر غاية ومقصد في ذاته أيضًا لما فيه من‬ ‫أن ذكركم هلل تعالى أكبر من كونه ينهى عن الفحشاء والمنكر ّ‬ ‫والمعنى الثّاني ‪ّ :‬‬
‫صالة والذّكر وسيلتان يُستعان بهما على ترك العصيان‪ ،‬وما فيهما من ذكر هللا والخشوع له تعالى‬ ‫الخشوع والتّذلّل هلل‪ ،‬فالمعنى ّ‬
‫أن ال ّ‬
‫يرة ٌ‬ ‫ص َالةِ ۚ َوإِنَّ َها لَ َكبِ َ‬ ‫أكبر من ذلك ألنّها مقصد ومصلحة في ذاتها‪ ،‬وقد جمع هللا األمرين في مثل قوله تعالى ‪َ (( :‬وا ْستَعِينُوا بِال َّ‬
‫صب ِْر َوال َّ‬
‫ع ِن ْالفَحْ شَاءِ َوا ْل ُم ْنك َِر ۗ َولَ ِذ ْك ُر َِّ‬ ‫ي ِإلَيْكَ مِ نَ ْال ِكت َا ِ‬ ‫ُ‬
‫َّللا‬ ‫ص َالة َ ت َ ْن َه ٰى َ‬ ‫ب َوأَق ِِم ال َّ‬
‫ص َالةَ ۖ ِإ َّن ال َّ‬ ‫علَى ْالخَا ِشعِينَ ))‪ ،‬فكذا قال هنا ‪ (( :‬اتْ ُل َما أوحِ َ‬
‫ِإ َّال َ‬
‫أ َ ْكبَ ُر ))‪.‬‬
‫س فِي ِه ِع ْل ًما ‪َ ،‬‬
‫س َّه َل هللاُ لَهُ‬ ‫ط ِريقًا يَ ْلت َِم ُ‬
‫سلَكَ َ‬
‫ضا كما في قوله ﷺ ‪َ « :‬م ْن َ‬
‫‪ 2‬ـ ث ّم في تسخيره أشرف خلقه أن يذكروه أي ً‬
‫ط ِريقًا إِلَى ْال َجنَّ ِة ‪،‬‬
‫َ‬
‫ب ْال ِع ْل ِم ‪،‬‬
‫طا ِل ِ‬ ‫ضا ِل َ‬ ‫ض ُع أَجْ نِ َحتَ َها ِر ً‬‫َو ِإ َّن ْال َمالَئِ َكةَ لَتَ َ‬
‫َان فِي ْال َم ِ‬
‫اء ‪،‬‬ ‫ض ‪َ ،‬حتَّى ْال ِحيت ِ‬ ‫اء َواأل َ ْر ِ‬ ‫ب ْال ِع ْل ِم يَ ْستَ ْغ ِف ُر لَهُ َم ْن فِي ال َّ‬
‫س َم ِ‬ ‫َو ِإ َّن َ‬
‫طا ِل َ‬
‫ب‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫علَى َ‬
‫سائِ ِر الك ََوا ِك ِ‬ ‫ْ‬
‫ض ِل القَ َم ِر َ‬ ‫ْ‬
‫علَى ال َعا ِب ِد ‪َ ،‬كفَ ْ‬ ‫ْ‬
‫ض َل ال َعا ِل ِم َ‬‫َو ِإ َّن فَ ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َارا َوالَ د ِْر َه ًما ‪ِ ،‬إنَّ َما َو َّرثوا ال ِعل َم ‪ ،‬فَ َم ْن أ َخذَهُ أ َخذَ ِب َحظ َوافِر»‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِإ َّن ْالعُلَ َما َء ُه ْم َو َرثَة األ ْن ِبيَ ِ‬
‫اء ‪ِ ،‬إ َّن األ ْن ِبيَا َء لَ ْم ي َُو ِ ّرثوا دِين ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬

‫ب ْال ِع ْل ِم لَتَ ُحفهُ‬ ‫ب ْال ِع ْل ِم ِإ َّن َ‬


‫طا ِل َ‬ ‫ب ْال ِع ْل َم ‪ ،‬فَقَا َل ‪َ « :‬م ْر َحبًا ِب َ‬
‫طا ِل ِ‬ ‫طلُ ُ‬ ‫َّللا‪ِ ،‬إنِّي ِجئْتُ أَ ْ‬
‫سو َل َّ‬‫وقال صفوان بن عسال‪:‬يَا َر ُ‬
‫ب »‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫س َما َء الد ْنيَا ِم ْن ُح ِبّ ِه ْم ِل َما يَطل ُ‬ ‫ُ‬
‫ضا َحتَّى يَ ْبلغُوا ال َّ‬
‫ض ُه ْم بَ ْع ً‬
‫َب بَ ْع ُ‬ ‫ْال َمالئِ َكةُ ِبأَجْ نِ َحتِ َها َ‬
‫‪،‬ويَ ْرك ُ‬

‫س في ِه ِع ْل ًما َ‬
‫س َّه َل هللاُ ب ِه طريقًا إلى الجنَّة ‪ ،‬وما اِجْ تَم َع قو ٌم في بيت ِم ْن بيُو ِ‬
‫ت‬ ‫وكذا قوله ﷺ ‪ « :‬من سلكَ طريقًا ْيل ِ‬
‫تم ُ‬
‫ت عليهم السكينة وغ ِش َيتْهم ّ‬
‫الرحْ مة ‪ ،‬وذَكَرهم هللا‬ ‫سونهُ بينهم إال حفّتْهم المالئكة ‪ ،‬ونزلَ ْ‬ ‫هللا يتْلونَ ِك َ‬
‫تـاب هللا ‪ ،‬ويتَدَار ُ‬
‫في َمن عندهُ »‪.‬‬

‫ض ًال يتتبعون مجالس الذكر ‪ ،‬فإذا‬‫وفي حديث المالئكة السّيأرة‪ ،‬قال ﷺ ‪ « :‬إن هلل تبارك وتعالى مالئكة سيَّارة ً ‪ ،‬فُ ُ‬
‫وحف بعضهم بعضا بأجنحتهم ‪ ،‬حتى يملئوا ما بينهم وبين السماء الدنيا ‪ ،‬فإذا‬ ‫َّ‬ ‫وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم ‪،‬‬
‫عرجوا وص ِعدوا إلى السماء‪،‬‬ ‫تفرقوا َ‬
‫قال ‪ :‬فيسألُ ُهم هللا عز وجل‪ ،‬وهو أعلم بهم‪ :‬من أين جئتم ؟‬
‫فيقولون ‪ :‬جئنا من عند ِعباد لك في األرض‪ ،‬يسبحونكَ ويكبرونكَ ويُهلِّلونكَ ويحمدونكَ ويسألونكَ ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬وماذا يسألوني ؟‬
‫قالوا ‪ :‬يسألونك جنَّتكَ ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬وهل رأَ ْوا جنَّتي ؟‬
‫قالوا ‪ :‬ال ‪ ،‬أي ربّ ِ ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬فكيف لو رأَ ْوا جنَّتي ؟‬
‫قالوا ‪ :‬ويَستجيرونَكَ ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬وم َّم يستجيرونني ؟‬
‫ناركَ يا ربّ ِ ‪،‬‬ ‫قالوا ‪ :‬من ِ‬
‫َ‬
‫قال ‪ :‬وهل رأ ْوا ناري ؟‬
‫قالوا ‪ :‬ال ‪،‬‬
‫َ‬
‫قال ‪ :‬فكيف لو رأ ْوا ناري ؟‬
‫قالوا ‪ :‬ويستغفرونك‪،‬‬
‫ُ‬
‫قال ‪ :‬فيقول ‪ :‬قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا‪ ،‬وأ َجرتهم م َّما استجاروا‪،‬‬
‫مر فجلس معهم‪،‬‬ ‫فالن عبدٌ َّ‬
‫خطا ٌء ‪ ،‬إنَّما َّ‬ ‫ٌ‬ ‫قال ‪ :‬فيقولون ‪ :‬ربّ ِ فيهم‬
‫س ُهم »‪.‬‬ ‫قال ‪ :‬فيقول ‪ :‬وله غفرتُ ‪ ،‬ه ُم القو ُم ال يَشقَى بهم جلي ُ‬

‫أن «األعمال بالنّيّات» وهذا ح ّ‬


‫صل هذا األجر دون نيّة‬ ‫ومثل هذا لم تأت النّصوص بمثله ّإال في العلم ّ‬
‫ألن األصل ّ‬
‫صل مع ذلك األجر بسبب بركة المجلس والجلساء‪ ،‬ولذا يُرجى لمن دُفن وسط قوم‬ ‫تقرب حيث جلس لحاجة وح ّ‬ ‫ّ‬
‫ّ‬
‫صالحين أن ينتفع بجوارهم كما يُخشى على من دُفن بين قوم سوء أن يتأذى بعذابهم ‪.‬‬

‫ث ّم إذا كان هذا في العلم غير المقترن بنيّة فكيف مع النّيّة؟‬

‫فصل‪:‬‬
‫ي ـ هي = عموم الثّواب‪ ،‬وثواب العلم عظيم لتعدّي نفعه مع تعلّقه بأصل‬‫ث ّم الغاية في العلم ـ مع هذا الثّواب الحين ّ‬
‫األصول الّذي ينبثق منه ك ّل عمل خير؛ ولذا جاء ‪:‬‬

‫عن الحسن قال ‪ :‬سئل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل أحدهما كان عالما يصلي‬
‫المكتوبة ثم يجلس فيعلم الناس الخير واآلخر يصوم النهار ويقوم الليل أيهما أفضل ؟ قال رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪ ( :‬فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبه ثم يجلس فيعلم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم‬
‫الليل كفضلي على أدناكم ) ‪.‬‬
‫رواه الدارمي ‪ ، ١٠٩/ ١‬وله شاهد من حديث أبى أمامة رضى هللا عنه قال‪ :‬ذكر لرسول هللا صلى هللا عليه وآله‬
‫وسلم رجالن‪ :‬أحدهما‪ :‬عابد‪ ،‬واآلخر‪ :‬عالم‪ ،‬فقال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ( :‬فضل العالم على العابد‬
‫كفضلى على أدناكم )‪ ،‬ثم قال رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ( :‬إن هللا ومالئكته‪ ،‬وأهل السموات واألرض‪،‬‬
‫حتى النملة فى جحرها‪ ،‬وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير ) رواه الترمذي وقال‪ :‬حديث حسن‬
‫[صحيح غريب ]‪.‬‬

‫نبوة النّب ّ‬
‫ي‬ ‫قلتُ ‪ :‬وهذا على عكس من تعلّم العلم فكتمه كما فعل أحبار بني إسرائيل حيث كتموا ما عندهم من أدلّة ّ‬
‫فإن هللا ومالئكته‪ ،‬وأهل السموات واألرض‪ ،‬حتى الدّوابّ والبهائم ليلعنونهم كما قال تعالى ‪:‬‬ ‫صلّى هللا عليه وسلّم ّ‬
‫َّللاُ َو َي ْل َعنُ ُه ُم‬ ‫ٰ‬ ‫ُ‬
‫ب ۙ أولَئِكَ َي ْل َعنُ ُه ُم َّ‬
‫اس فِي ْال ِكتَا ِ‬
‫ت َو ْال ُه َد ٰى ِمن َب ْع ِد َما َبيَّنَّاهُ ِللنَّ ِ‬
‫(( ِإ َّن الَّذِينَ َي ْكت ُ ُمونَ َما أَنزَ ْلنَا ِمنَ ْال َب ِّينَا ِ‬
‫الال ِعنُونَ )) قال مجاهد ‪ :‬تلعنهم دواب األرض‪ ،‬وما شا َء هللا من الخنافس والعقارب ‪ ،‬تقول ‪ُ :‬منعنا الغيث والمطر‬ ‫َّ‬
‫بسببكم‪.‬‬

‫قال ابن كثير ‪ :‬وقد جاء في الحديث ‪ ،‬أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان ‪ ،‬وجاء في هذه اآلية ‪ :‬أن كاتم‬
‫العلم يلعنه هللا والمالئكة والناس أجمعون ‪ ،‬والالعنون أيضا ‪ ،‬وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال ‪ ،‬أو الحال‬
‫‪ ،‬أو لو كان له عقل ‪ ،‬أو يوم القيامة ‪ ،‬وهللا أعلم‪. .‬‬

‫يستمر عند موت المعلّم كذلك لتعدّي نفع تعليمه بعد الموت أي ً‬
‫ضا كما في حديث ‪ « :‬إذا‬ ‫ّ‬ ‫ومن عظم هذا الثّواب أنّه‬
‫مات اإلنسان انقطع عمله إال من ثالث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» ‪.‬‬

‫ولذا قال المنذري رحمهُ هللا ‪ ":‬ناسخ العلم النافع ‪ :‬له أجره وأجر من قرأه أو كتبه أو عمل به ما بقي خطه ‪،‬‬
‫وناسخ ما فيه إثم ‪ :‬عليه وزره ووزر ما عمل به ما بقي خطه "‪.‬‬

‫وجا َء في الدر الفريد ج ‪ 1‬ص ‪: 180‬‬

‫وما من كاتب إال ستبقى ** كتابته وإن بليت يداه‬


‫فال تنسخ بخطك غير شيء ** يسرك في العواقب أن تراه ‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬
‫سلَّ َم َف َكانَ أَ َحدُ ُه َما يَأْتِي النَّبِ َّ‬
‫ي‬ ‫ع َل ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫يِ َ‬ ‫ع َلى َ‬
‫ع ْه ِد ال َّنبِ ّ‬ ‫√ ما جاء في حديث أَن َِس ب ِْن َما ِلك َقا َل َكانَ أَخ ََو ِ‬
‫ان َ‬
‫سلَّ َم فَقَا َل « لَ َعلَّكَ ت ُ ْرزَ ُق ِب ِه » ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫يِ َ‬ ‫ف أَخَاهُ ِإلَى النَّ ِب ّ‬‫شكَا ْال ُمحْ ت َِر ُ‬ ‫سلَّ َم َو ْاآلخ َُر يَحْ ت َِر ُ‬
‫ف فَ َ‬ ‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫َ‬
‫هذا فيه احتماالن ‪:‬‬

‫أن المعنى = كونك تُرزَ ق بسبب تكفّلك بأخيك هذا ونفقتك عليه؛ فتكون تلك الكفالة والنفقة على طالب العلم‬ ‫األول ‪ّ :‬‬
‫ّ‬
‫يمن على المنفق في حاجة غيره‬ ‫فإن هللا تعالى ّ‬
‫من أسباب إنفاق هللا تعالى على كافله ورزقِه إيّاه وزيادته له فيه‪ّ ،‬‬
‫الرزق لكون الجزاء عنده من جنس العمل كما قال تعالى ‪ (( :‬وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه )) وقال في‬ ‫بمزيد ّ‬
‫الحديث القدسي ‪ « :‬يا ابن آدم أنفق أنفق عليك » وهي إذا كانت نفقة دينيّة كانت أولى بالدّخول في المقابلة هنا ‪.‬‬

‫ي‬‫أن ذلك األخ الّذي كان يأتي النّب ّ‬ ‫واالحتمال الثّاني هو = أنّك تُرزَ ق بسبب أخيك نفسه لصالحه فيكون المقصود ّ‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم ويشغله طلبه للعلم عن االحتراف = من الضّعفاء الّذين يُرزق الغير ـ ومنهم األخ المشتكي ـ‬
‫َّللاُ َه ِذ ِه األ ُ َّمةَ ِب َ‬
‫ض ِعي ِف َها‬ ‫ص ُر َّ‬ ‫ص ُرونَ َوت ُ ْرزَ قُونَ ِإال ِب ُ‬
‫ض َعفَائِ ُك ْم» وحديث ‪ِ « :‬إنَّ َما َي ْن ُ‬ ‫بسببهم كما في حديث ‪« :‬ه َْل ت ُ ْن َ‬
‫الص ِه ْم» ‪.‬‬ ‫صالتِ ِه ْم َو ِإ ْخ ِ‬
‫ِبدَع َْوتِ ِه ْم َو َ‬

‫صالحين المخلصين‬ ‫مرجو أن يكون من ال ّ‬


‫ّ‬ ‫المتفرغ ّ‬
‫للطلب‬ ‫ّ‬ ‫أن االحتمالين مرادان لعدم التّنافي بينهما إذ‬
‫واألقرب ّ‬
‫ضا هي من النّفقة‬‫الزاهدين لتفريغه وقته هلل فيكون ذلك من أسباب رزق هللا لغيره مع كون النّفقة عليه أي ً‬ ‫والضّعفاء ّ‬
‫في سبيل هللا وهي يُرجى معها الخلف من هللا فتكون هي نفسها من أسباب رزق هللا لغيره‪ ،‬وهللا تعالى أعلم‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬
‫√ ما جاء في الحديث ‪ « :‬من سلك طريقا يلتمس فيه علما س ّهل هللا له به طريقا إلى الجنة » ‪:‬‬

‫هذا الفضل للعلم في هذه الجملة من الحديث منه ‪:‬‬


‫بمجرد السّعي في طلب العلم مع صحّة النّيّة في ذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ي وهو ما يحصل‬ ‫‪ 1‬ـ أجر ذات ّ‬
‫و منه ‪:‬‬
‫ي وهو ما يحصل لكون العلم هو سبب دخول الجنّة‪ّ ،‬‬
‫فإن العلم يُفضي إلى العمل والعمل يُفضي إلى‬ ‫‪ 2‬ـ أجر سبب ّ‬
‫دخول الجنّة فيكون طلب العلم بذلك وسيلة دخول الجنّة ولذا عبّر عن ذلك بكونه = طريقها فهو = طريق معنو ّ‬
‫ي‪.‬‬

‫الطريق = جزاء ّ‬
‫الطريق المسلوك إلى العلم نفسه ومن ث ّم العمل‬ ‫وهي جملة استعمل فيها المقابلة ـ حيث جعل هذا ّ‬
‫أن الجزاء من جنس العمل‪.‬‬ ‫به ـ ليشير إلى ّ‬

‫إن هذا ّ‬
‫الطريق المسلوك إلى العلم منه ‪:‬‬ ‫ث ّم ّ‬

‫مظان العلم فيقصد المساجد والمدارس ومحالّت‬


‫ّ‬ ‫ألن طالب العلم يسلك في الغالب طريقًا فعليّا إلى‬
‫ي ّ‬ ‫س ّ‬
‫‪ 1‬ـ طريق ح ّ‬
‫ّ‬
‫العلماء وال يزال يسلك الطرق إلى ذلك ويتّخذ األسباب وتتعدّد مساعيه حتّى يصل‪.‬‬
‫ومنه ‪:‬‬
‫ألن طلب العلم هو = طريق من طرق الخير‪ ،‬وهو ألمح إلى كثرة طرق الخير بتنكيره طريق‬ ‫ي ّ‬ ‫‪ 2‬ـ طريق معنو ّ‬
‫ّ‬
‫العلم فقال ( طريقا ) ولم يقل ( طريق الجنّة ) ليبيّن أنّه ال يجب على ك ّل النّاس سلوك هذا الطريق مع أنّه من جهة‬
‫فإن العامل بغير علم يكون من الضّالّين كالدّاعية على غير بصيرة والمجادل‬ ‫أخرى هو = ّ‬
‫الطريق الوحيد للجنّة ّ‬
‫في الدّين بغير علم وال هدى وال كتاب منير‪ ،‬لكنّه من الجهة المقصودة هنا هو = طريق واحد من ضمن طرق‬
‫الجنّة الكثيرة فيكون المراد بـ ‪:‬‬

‫( التماس العلم ) على هذا التّقدير = طلب ما ال يجب على األعيان؛ هو = محاولة الوصول إلى درجة العلماء بـ =‬
‫السّعي والنّفير الّذي في قوله تعالى ‪ (( :‬وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلوال نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا‬
‫مجرد السّؤال الّذي يتعيّن على الجميع‬‫ّ‬ ‫في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )) وليس هو =‬
‫تعرضوا لما يوجب السّؤال كما في قوله تعالى ‪ (( :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون )) ّ‬
‫فإن هذا ـ وإن‬ ‫كلّما ّ‬
‫كان يندرج في عموم ( التماس العلم ) في الحديث ومن ث ّم في رجاء تحصيل األجر المذكور فيه على تقدير آخر‬
‫صل إليه منه ولو عل ًما على وجه التّقليد ـ‬
‫ضا وذلك يقتضي عموم ما يُتو ّ‬ ‫ألن لفظ ( العلم ) مستعمل فيه بالتّنكير أي ً‬
‫ّ‬
‫ي‪،‬‬
‫األول الكفائ ّ‬
‫األول هنا هو = السّعي ّ‬ ‫فإن المقصود ّ‬ ‫ّ‬

‫ضا لبيان ما يحتاجه الوصول إلى درجة العلماء‬ ‫والتّنكيران ـ أعني تنكير ّ‬
‫الطريق والعلم ـ على هذا التّقدير هما أي ً‬
‫ي من كثرة‬ ‫الطرق‪ ،‬وهما على التّقدير الثّاني لبيان ما يحتاجه العا ّم ّ‬‫من كثرة المحاولة وإدامة اتّخاذ األسباب وسلوك ّ‬
‫السّؤال عن دينه لكثرة ما يُبتلى به في واقعه من المسائل‪ ،‬وهو مقصود اإلمام أحمد رحمه هللا بقوله ‪ " :‬الناس‬
‫محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب ألن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين‬
‫والعلم يُحتاج إليه بعدد األنفاس"‪.‬‬

‫قال ابن الجوزي في التذكرة في الوعظ (‪ « :)١/٥٥‬من أحبّ أن يكون لألنبياء وارثًا وفي مزارعهم حارثًا فليتعلم‬
‫العلم النافع وهو علم الدين ففي الحديث ‪ « :‬العلماء ورثة األنبياء » ‪ ،‬وليحضر مجالس العلماء فإنها رياض الجنة ‪،‬‬
‫ومن أحب أن يعلم ما نصيبه من عناية هللا فلينظر ما نصيبه من الفقه في دين هللا ففي الحديث ‪ « :‬من يرد هللا به‬
‫إلى مجلس العلم ففي الحديث ‪ « :‬من سلك طريقاً‬ ‫خيرا يفقهه في الدين » ‪ ،‬ومن سأل عن طريق تبلغه الجنة فليمش ٰ‬ ‫ً‬
‫إلى الجنة » ‪ ،‬ومن أحب أال ينقطع عمله بعد موته فلينشر العلم بالتدوين والتعليم‬ ‫يلتمس فيها عل ًما سلك هللا به طريقًا ٰ‬
‫ففي الحديث ‪ « :‬إذا مات اإلنسان انقطع عمله إال من ثالث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» ‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫ألن ذلك هو الغاية وهو الّذي في نفسه‬ ‫ي وما يتعلّق به ّ‬ ‫شرع ّ‬ ‫شرعيّة هو = العلم ال ّ‬ ‫المقصود بالعلم في النّصوص ال ّ‬
‫خير بك ّل حال ‪ ،‬وأ ّما العلوم الدّنيوية محضا فهي تكون وسائل سواء لتلك الغاية والخير‬ ‫عبادة والسّعي فيه = ٌ‬
‫شرع أصال كالمعاصي والكفر ‪ ،‬ولذا تراه يشترك‬ ‫والعبادة ‪ ،‬أو لغايات أخرى مباحة ‪ ،‬أو لغايات سيّئة ال يرضاها ال ّ‬
‫في طلب نوع العلوم الدّنيويّة المسلم والكافر سواء والكافر ال تستغفر له المالئكة وال ترضى ما يصنع‪ ،‬فد ّل ّ‬
‫أن‬
‫الطاعة والعبادة أجرا‬ ‫ي ‪ ،‬وإنّما هي م ّما يُؤجر عليها من يتوسّل بها إلى ّ‬ ‫العبادة في هذه ليست ذاتيّة واألجر غير ذات ّ‬
‫طارئا على خالف األصل ‪ ،‬وهذا ال يكون هو نفسه ذلك األجر المذكور في األحاديث‪ ،‬وكذا يدلّ" على ذلك قول‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم ‪ " :‬من يرد هللا به خيرا ً يفقهه في الدّين" ‪ ،‬وكذا قوله صلّى هللا عليه وسلّم ‪ " :‬العلماء‬ ‫النّب ّ‬
‫أن الذي‬ ‫ورثة األنبياء وإن األنبياء لم يورثوا دينارا وال درهما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر » ‪ ،‬إذ معلو ٌم ّ‬
‫أن حملته هم المقصودون بـلفظ ( العلماء ) عند اإلطالق ‪ ،‬وكذا حصر‬ ‫ورثه األنبياء هو علم الدّين والوحي ‪ ،‬فد ّل ّ‬ ‫ّ‬
‫أن طريق ذلك‬ ‫هللا تعالى الخشية في ( العلماء ) قي قوله تعالى ‪ (( :‬إنّما يخشى هللا من عباده العلماء )) ‪ ،‬ومعلو ٌم ّ‬
‫عند الحصر ‪ :‬العلم باهلل وأسمائه وصفاته ودينه ‪ ،‬ألنّه تعالى قد ذ ّم ال ُمكتفين عنه بعلوم الدّنيا في مثل قوله ‪(( :‬‬
‫ع ِن ْاآلَ ِخ َر ِة ُه ْم غافلون )) ‪ ،‬والمعنى كما قال ابن عبّاس رضي هللا عنهما أنّهم‬ ‫ظاه ًِرا ِمنَ ْال َح َيا ِة الد ْن َيا َو ُه ْم َ‬
‫َي ْعلَ ُمونَ َ‬
‫"يعلمون متى يزرعون ‪ ،‬متى يغرسون ‪ ...‬وأشباه هذا "‪.‬‬
‫َّللاُ الَّذِينَ آ َمنُوا ِمن ُك ْم َوالَّذِينَ‬
‫شهادة هلل بالوحدانيّة في قوله تعالى ‪َ (( :‬ي ْرفَ ِع َّ‬ ‫ونحو ذلك حصر رفعة الدّرجات عنده وال ّ‬
‫ْط )) وقوله ‪(( :‬‬ ‫َّللاُ أَنَّهُ َال ِإلَهَ ِإ َّال ه َُو َو ْال َم َال ِئ َكةُ َوأُولُو ْال ِع ْل ِم قَا ِئما ً ِب ْال ِقس ِ‬
‫ش ِه َد َّ‬‫أُوتُوا ْال ِع ْل َم َد َر َجات )) وقوله تعالى ‪َ (( :‬‬
‫اس َو َما َي ْع ِقلُ َها ِإ َّال ْال َعا ِل ُمونَ )) ‪ ،‬فالمقصود في الجميع ‪ :‬أولو العقل والنّقل م ًعا وهم ‪:‬‬ ‫َو ِت ْلكَ ْاأل َ ْمثَا ُل نَض ِْربُ َها ِللنَّ ِ‬
‫ضا العلم بأمور من علوم الدّنيا م ّما ال يمكن للعالم الفتوى دون‬ ‫العلماء بالدّين‪ ،‬وإن كان يدخل في العلم بالدّين أي ً‬
‫شيء‬ ‫معرفة بها كالضّروريّات في العلوم اإلنسانيّة وعلوم السّياسة واالقتصاد والطبّ ونحو ذلك إذ الحكم على ال ّ‬
‫تصوره‪ ،‬لكن مثل ذلك م ّما يُمكن أن يرجع فيه العالم عند الفتوى لغيره من أصحاب تلك العلوم فيجزئه‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فرع عن‬

‫فصل ‪:‬‬
‫ت‬‫س َم َاوا ِ‬‫ور ال َّ‬‫َّللاُ نُ ُ‬
‫للحق؛ قال تعالى ‪َّ (( :‬‬ ‫ّ‬ ‫ي ـ مع السّعادة الذّاتيّة ـ كونه النّور الكاشف‬ ‫شرع ّ‬ ‫ومن ثمرات العلم ال ّ‬
‫ش َج َرة‬‫ي يُوقَدُ ِمن َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫صبَا ُح فِي ُز َجا َجة ۖ الز َجا َجة َكأنَّ َها ك َْو َكبٌ د ِ ُّر ٌّ‬ ‫ْ‬
‫صبَا ٌح ۖ ال ِم ْ‬ ‫ور ِه ك َِم ْشكَاة فِي َها ِم ْ‬ ‫ض ۚ َمثَ ُل نُ ِ‬ ‫َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫ور ِه َمن يَشَا ُء ۚ‬ ‫علَ ٰى نُور ۗ يَ ْهدِي َّ‬
‫َّللاُ ِلنُ ِ‬ ‫ور َ‬ ‫َار ۚ ن ٌ‬ ‫س ْسهُ ن ٌ‬ ‫اركَة زَ ْيتُونَة َّال ش َْرقِيَّة َو َال غ َْر ِبيَّة يَكَادُ زَ ْيت ُ َها ي ِ‬
‫ُضي ُء َولَ ْو لَ ْم ت َْم َ‬ ‫مبَ َ‬
‫ع ِلي ٌم ))‪.‬‬
‫ش ْيء َ‬ ‫َّللاُ ِب ُك ِّل َ‬
‫اس ۗ َو َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َّللاُ األ ْمثَا َل ِللنَّ ِ‬
‫ب َّ‬ ‫َويَض ِْر ُ‬

‫ع ِن العلم ألن العلم =‬ ‫علَى الناس = صدّهم َ‬ ‫قال ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" ‪ : 285‬اعلم أن أول تلبيس إبليس َ‬
‫نور فَإِذَا أطفا مصابيحهم خبطهم فِي الظالم كيف شاء ‪.‬‬
‫وقال في "صيد الخاطر" ‪ : 495‬رأيت إبليس قد احتال بفنون الحيل على الخلق‪ ،‬وأمال أكثرهم عن العلم الذي هو‬
‫الحس] ‪ ،‬وال‬
‫ّ‬ ‫مصباح السالك‪ ،‬فتركهم يتخبطون في ظلمات الجهل‪ ،‬وشغلهم بأمور الحس‪[ ،‬فهم يحسّنون ما يحسنه‬
‫يلتفتون إلى مشورة العقل‪.‬‬
‫ضا ‪ :‬ولقد دخل إبليس على طائفة من المتزهدين بآفات‪ ،‬أعظمها أنه صرفهم عن‬ ‫وقال في "صيد الخاطر" ‪ 355‬أي ً‬
‫العلم‪ ،‬فكأنه شرع في إطفاء المصباح ليسرق في الظلمة‪.‬‬
‫ضا ‪ :‬قد سبق القول بأن العلم نور وأن إبليس يحسن لإلنسان إطفاء النور ليتمكن‬ ‫وقال في "تلبيس إبليس" ‪ 289‬أي ً‬
‫ِم ْنهُ فِي الظلمة وال ظلمة كظلمة الجهل‪.‬‬
‫عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح‬ ‫ضا ‪ :‬وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدّهم َ‬ ‫وقال فيه ‪ 147‬أي ً‬
‫العلم عندهم تخبطوا فِي الظلمات‪.‬‬
‫ضا ‪ :‬فهم يقولون المقصود العمل وال يفهمون أن العلم نور القلب ولو عرفوا مرتبة العلماء ِفي‬ ‫وقال فيه ‪ 142‬أي َ‬
‫حفظ الشريعة وأنها مرتبة األنبياء لعدوا أنفسهم كالبُكم عند الفصحاء والعمي عند البُصراء والعلماء أدلة الطريق‬
‫والخلق وراءهم وسليم هؤالء يمشي وحده ‪ ...‬ومما يعيبون به العلماء تفسّح العلماء ِفي بعض المباحات التي‬
‫علَى دراسة العلم ‪.‬‬ ‫يتقوون ِب َها َ‬
‫ّ‬
‫عن طلب‬ ‫َ‬ ‫اس‬ ‫َّ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ّطون‬ ‫ب‬ ‫يث‬ ‫ِي‬
‫ذ‬ ‫َّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫وهم‬ ‫األرض‬ ‫ي‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ابليس‬ ‫نواب‬ ‫‪:‬‬ ‫)‬ ‫‪160‬‬‫‪/‬‬ ‫‪1‬‬ ‫(‬ ‫ّعادة"‬ ‫س‬‫ال‬ ‫دار‬ ‫في"مفتاح‬ ‫ّم‬ ‫ي‬‫الق‬ ‫ابن‬ ‫وقال‬
‫علَ ْي ِهم من شياطين ْال ِج ّن فإنّهم يحولون َبين ْالقُلُوب َو َبين هدى هللا َو َ‬
‫ط ِريقه‪.‬‬ ‫أضر َ‬
‫ّ‬ ‫ْالعلم والتفقه ِفي الدّين فَ َهؤ َُال ِء‬
‫العلم منهم إلى الطعام والشراب؛‬ ‫"الناس أحوج إلى ِ‬ ‫ُ‬ ‫ونقل في "إعالم الموقعين" (‪ )256 /2‬عن اإلمام أحمد قوله ‪:‬‬
‫ّ‬
‫والعلم يحتاج إليه في ك ِل وقت" ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثالثًا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الطعام‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ألن‬

‫فصل ‪:‬‬

‫والمتصوفة وسائر أهل البدع ‪:‬‬


‫ّ‬ ‫ولذا فمن عواقب اإلعراض عن العلم وأهله ‪ :‬ما ترى من ضالل الخوارج‬

‫ي ‪" :‬العامل على غير علم كالسّائر على غير طريق ‪ ،‬والعامل على غير علم ما يفسد أكثر‬ ‫♦ قال الحسن البصر ّ‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مما يصلح ‪ ،‬فاطلبوا العلم طلبا ال يضر بترك العبادة ‪ ،‬واطلبوا العبادة طلبا ال يضر بترك العلم ‪ ،‬فإن قوما طلبوا‬
‫العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد ﷺ ‪ ،‬ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا" قال‬
‫ي ‪ :‬يعني الخوارج ‪.‬‬ ‫ال ّ‬
‫شاطب ّ‬
‫ي (‪.)457/1‬‬ ‫"االعتصام" لل ّ‬
‫شاطب ّ‬

‫♦ وعن ضرار بن عمرو ـ وقيل عن ضرار عن ابن سيرين ـ قال ‪ " :‬إن قوما تركوا العلم ومجالسة أهل العلم‬
‫واتخذوا محاريب فصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم على عظمه وخالفوا السنة فهلكوا فوهللا الذي ال إله غيره‬
‫ما عمل عامل قط على جهل إال كان ما يفسد أكثر مما يصلح " ‪.‬‬
‫" الفقيه والمتفقه " للخطيب البغدادي ( ‪" ، ) 19/1‬الترغيب والترهيب" لقوام السنة األصبهاني(‪،)2151‬‬
‫البر (‪" ، ) 616/8‬لطائف المعارف" البن رجب (ص ‪.)183‬‬ ‫"االستذكار" البن عبد ّ‬

‫♦ وقال ابن القاسم ‪ :‬سمعت مالكا ً يقول ‪ " :‬إن أقواما ً ابتغوا العبادة وأضاعوا العلم‪ ،‬فخرجوا على أمة محمد ﷺ‬
‫بأسيافهم ولو ابتغوا العلم لحجزهم عن ذلك" ‪.‬‬
‫"مفتاح دار السعادة " البن القيّم ( ‪. ) 120-119/1‬‬

‫ف شيئا ً أَ َ‬
‫شدَّ ِمن ال َجه ِل؟‬ ‫تعر ُ‬
‫أعظم ِمن ال َجه ِل‪ ،‬قيل‪ :‬فهل ِ‬
‫َ‬ ‫ي هللاُ تعالى بمعصية‬
‫ص َ‬
‫ع ِ‬
‫♦ وقال سهل التستري ‪َ " :‬ما ُ‬
‫قال‪ :‬نَ َعم‪ ،‬الجه ُل بالجه ِل "‪.‬‬
‫ي (‪.)369/4‬‬ ‫"اإلحياء" للغزال ّ‬

‫♦ وقال أبو عمرو بن نجيد ‪" :‬كل حال ال يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعهّ"‪.‬‬
‫"االعتصام" (‪. )457/1‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫ألن‬ ‫للحق ال لذّة ذاتيّة فيه وإنّما هي لذّة منف ّكة ال تتحقّق ّإال بعد مدافعة الهوى والت ّ ّ‬
‫جرد التّا ّم‪ ،‬وهذا ّ‬ ‫ّ‬ ‫وكون العلم كاشفًا‬
‫أن اللّذّة الحقيقية هي فيما يمليه‬
‫الحق كثيرا ما يأتي مخالفًا لهوى النّفس بل ذلك هو األصل الغالب‪ ،‬لكن من علم ّ‬ ‫ّ‬
‫الحق هان عليه األمر ونال تلك اللّذّة ‪.‬‬‫ّ‬ ‫الوحي ويبيّنه النّقل والعلم‬

‫* معاداة العلماء ‪:‬‬


‫َّللاَ‬ ‫أن النّب ّ‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم قال ‪ِ « :‬إ َّن َّ‬ ‫ي" (‪ )341-340/11‬من حديث أبي هريرة ّ‬ ‫ثبت في "صحيح البخار ّ‬
‫ب »‪.‬‬ ‫ْ‬
‫عادَى ِلى َو ِليًّا فَقَ ْد آذَ ْنتُهُ ِبال َح ْر ِ‬
‫قَا َل َم ْن َ‬

‫وقد روى الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (‪ )55/1‬عن أبي حنيفة أنّه قال ‪:‬‬
‫"إن لم يكن أولياء هللا في الدنيا واألخرة = الفقهاء والعلماء‪ ،‬فليس هلل ولي"‪.‬‬
‫ضا عن الشافعي قال ‪ " :‬إن لم يكن الفقهاء = أولياء هللا في اآلخرة فما هلل ولي" ‪ ،‬وفي "المجموع"‬ ‫وروى أي ً‬
‫للنووي (‪ )20/1‬وفي كالم الشافعي ‪" :‬الفقهاء العاملون" ‪.‬‬

‫ولهذا قال الحافظ في " الفتح" (‪" : )342/11‬المراد بولي هللا = العالم باهلل المواظب على طاعته"‪.‬‬
‫وقال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"(‪" : )262/1‬ورثة األنبياء = سادات أولياء هللا ّ‬
‫عز وجلّ"‪.‬‬

‫وفي "المجموع" (‪ : )20/1‬قال ابن عباس رضي هللا عنهما ‪ " :‬من آذى فقيها فقد آذى رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم ومن آذى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فقد آذى هللا عز وج ّل "‪.‬‬

‫استخف بالعلماء ذهبت آخرته " ‪.‬‬


‫َّ‬ ‫وفي " السّير» للذهبي (‪ )8/405‬عن ابن المبارك أنّه قال‪ " :‬من‬

‫ولذا قال الحافظ في " الفتح" (‪ )342/11‬أيضا ‪ " :‬ال يحكم بإنسان آذى وليا ثم لم يعاجل بمصيبة في نفسه أو ماله‬
‫أو ولده بأنه سلم من انتقام هللا له ‪ ،‬فقد تكون مصيبتة في غير ذلك مما هو أشد عليه ‪ ،‬كالمصيبة في الدين مثال "‪.‬‬

‫ي صلّى هللا عليه وسلّم قد شدّد فأخرج فاعل‬ ‫قلتُ ‪ :‬ونفس أذيّة العلماء = مصيبة في الدّين وجرم عظيم حتّى ّ‬
‫أن النّب ّ‬
‫صامت‬ ‫ذلك أو َمن هو دونه أ َيصا من عداد األ ّمة ‪ ،‬وذلك فيما رواه اإلمام أحمد في "المسند" من حديث عبادة بن ال ّ‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم أنّه قال‪ « :‬ليس من أ ّمتي من لم يج ّل كبيرنا ‪ ،‬ويرحم صغيرنا ‪ ،‬ويعرف لعالمنا حقّه‬‫عن النّب ّ‬
‫»‪.‬‬

‫حكم طلب العلم ‪:‬‬


‫صل ‪:‬‬
‫يختلف حكم طلب العلم بحسب نوعيه المجمل والمف ّ‬
‫سعي لتعلّمها = فرض عين على ك ّل مسلم ومسلمة‪ ،‬وهذا‬ ‫‪ 1‬ـ أ ّما المجمل ‪ :‬فهي األصول الّتي ال ّ‬
‫ي بأ ّنه ‪ ( :‬علم عامة ال يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله ‪ ..‬مث ُل‬ ‫شافع ّ‬‫القدر هو ما عبّر عنه ال ّ‬
‫صوم ش ْهر رمضانَ ‪ ،‬وح َّج البيت إذا استطاعوه‪ ،‬وزكاة ً في‬
‫َ‬ ‫ت الخمس‪ ،‬وأن هلل على الناس‬ ‫صلَ َوا ِ‬
‫ال َّ‬
‫س ِرقة والخ ْمر‪ ،‬وما كان في معنى هذا ‪.) ..‬‬‫الزنا والق ْتل وال َّ‬
‫حر َم عليهم ِ ّ‬
‫أموالهم‪ ،‬وأنه َّ‬
‫سعي لتعلّمها = فرض على الكفاية بحيث إذا تعلّمها عدد‬ ‫صل ‪ :‬فهي التّفاصيل الّتي ال ّ‬ ‫‪ 2‬ـ وأ ّما المف ّ‬
‫كاف يسدّ الغرض ‪ :‬سقط اإلثم عن البقيّة‪ ،‬كما قال تعالى ‪ (( :‬وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلوال‬
‫نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون )) ‪،‬‬
‫والفرض على البقيّة إ ّنما هو = أن يسألوا من تعلّمها حين يقعون فيما يوجب ال ّ‬
‫سؤال‪ ،‬وهذا أل ّنه ال‬
‫يجوز لهم وال ألحد من المكلّفين العمل بغير علم كما قال تعالى ‪ (( :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال‬
‫تعلمون )) ‪ ،‬ولهذا قال ابن المبارك في حديث ‪« :‬طلب العلم فريضة على كل مسلم»‪ .‬قال ‪ ( :‬ليس‬
‫هو الذي يطلبونه‪ ،‬ولكن فريضة على من وقع في شئ من أمر دينه أن يسأل عنه حتى يعلمه )‪ .‬اهـ‪.‬‬
‫وقال إسحاق بن راهويه ‪ ( :‬طلب العلم واجب‪ ،‬ولم يصح فيه الخبر ـ يعني حديث ‪« :‬طلب العلم‬
‫فريضة على كل مسلم» ـ إال أن معناه ‪ :‬أن يلزمه طلب علم ما يحتاج إليه من وضوئه وصالته‬
‫وزكاته إن كان له مال وكذلك الحج وغيره ‪ ،‬قال ‪ :‬وما وجب عليه من ذلك لم يستأذن أبويه في‬
‫الخروج إليه وما كان منه فضيلة لم يخرج إلى طلبه حتى يستأذن أبويه ) ‪ ،‬قال ابن عبد البر في‬
‫"جامع بيان العلم وفضله" (‪ ( :)53-52/1‬يريد إسحاق ‪ ،‬وهللا أعلم ‪ ،‬أن الحديث في وجوب طلب‬
‫العلم في أسانيده مقال ألهل العلم بالنقل ‪ ،‬ولكن معناه صحيح عندهم ‪ ،‬وإن كانوا قد اختلفوا فيه‬
‫اختالفا متقاربا )‪.‬‬

‫ي طلب العلم وسؤال أهل الذّكر في حالين ‪:‬‬


‫ولهذا يجب على العا ّم ّ‬
‫األول ‪ :‬إذا تعلّق العلم باالعتقاد الفرض وهو = األصول العا ّمة الّتي ال يص ّح اإليمان بدونها في‬
‫ّ‬
‫وشره‪ ،‬فتعلّم هذه =‬
‫ّ‬ ‫األصل من = اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم اآلخر والقضاء خيره‬
‫فرض عين على ك ّل مسلم ومسلمة‪.‬‬
‫صالة بال ّنسبة للجميع ‪،‬‬ ‫يتعرض لها المسلم دائ ّما = كا ّ‬
‫لطهارة وال ّ‬ ‫والثّاني ‪ :‬إذا تعلّق باألعمال الّتي ّ‬
‫وكالزكاة بال ّنسبة لألغنياء وكالبيع بال ّنسبة للتّ ّجار فتعلّم أحكام هذه = فرض عين على ك ّل من‬
‫ّ‬
‫يتعرض لها‪.‬‬‫ّ‬
‫يتعرض له أحيانا دون أحيان كالهبة وكاللّقطة واليمين وال ّنذر فهذا ال يحصل معه بانتظام فال‬
‫وأ ّما ما ّ‬
‫يتعرض له فيسأل أهل الذّكر عنه حينئذ‪.‬‬ ‫يكون تعلّمه فرض عين عليه ّإال ل ّما ّ‬
‫ّأول آداب طلب العلم هو ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ اإلخالص هلل ‪:‬‬

‫ي ] = نيل ما عند هللا تعالى‬


‫ومعنى اإلخالص = أن يكون الغالب على قصد العامل من عمله [ الدّين ّ‬
‫ي فتكون غايته تلك أرجح من إرادته أعراض الدّنيا وزينتها بذلك‪.‬‬
‫من أجر غيب ّ‬

‫مركوز في ال ّنفس فال تقدر على تركه‬


‫ٌ‬ ‫ألن حبّ الدّنيا والتّعلّق ّ‬
‫بالظواهر والمتاع العاجل = أمر‬ ‫وذا ّ‬
‫وإال لما رغبت في الدّنيا مع كون الدّين وأعماله ال تقوم ّإال بالعيش فيها‪ ،‬فالمطلوب هو أن‬‫بالكلّيّة ّ‬
‫ي ال أن تكون تلك الوسيلة هي الغاية منه ‪ ،‬ولذا يتحقّق اإلخالص‬ ‫تكون الدّنيا = وسيلة للعمل الدّين ّ‬
‫بأن يكون الباعث األكبر على الدّين هو = إرادة اآلخرة والتّصديق بما عند هللا سواء ذلك عند‬
‫االجتماع أو التّزاحم‪.‬‬

‫سيّة‬
‫ي أو مصلحة ح ّ‬ ‫هوى للعامل أو أجر دنيو ّ‬
‫ي ً‬‫أ ّما عند االجتماع ‪ :‬ففي مثل أن يكون في العمل الدّين ّ‬
‫كذلك لكن يكون الغالب على نيّته من وراء العمل = طلب مصلحة غيبيّة وأجر من هللا فيكون فذلك‬
‫هو الباعث المؤثّر في فعله بحيث لواله لما أقدم على ذلك العمل‪.‬‬

‫وأ ّما عند التّزاحم ‪ :‬ففي مثل أن يتعارض الباعثان بحيث يكون ترك العمل هو الّذي تتحقّق به اللذّة‬
‫عا رغم ذلك؛ وهذا كما جاء في الحديث ‪ ( :‬أال‬ ‫العاجلة؛ فيمضي العامل في عمله المأمور به شر ً‬
‫أنبئكم بما يرفع هللا به الدرجات ويمحو به الخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ‪ ،‬وكثرة الخطى‬
‫إلى المساجد‪ ،‬وانتظار الصالة بعد الصالة فذلكم الرباط ‪. ) ...‬‬

‫واألول كما في حديث ‪ ( :‬ال تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء وال تماروا به السفهاء وال لتتخيروا به‬
‫ّ‬
‫المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار ) ‪.‬‬
‫وحديث ‪ ( :‬إن اخوف ما أخاف عليكم الشرك األصغر )‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬ما الشرك األصغر يا رسول هللا ؟‬
‫قال ‪ ( :‬الرياء يقول هللا عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون فى الدنيا‬
‫فانظروا هل تجدون عندهم جزاء )‪.‬‬

‫ي في الغالب وهو إلغاء وجود المشاهد من‬ ‫فتمام اإلخالص وكماله في حال االجتماع = أمر نظر ّ‬
‫الخلق أو ال ّنفع العاجل‪ ،‬وهذا كما قال الغزالي رحمه هللا؛ قال ‪ " :‬اإلخالص = أن تكون مشاهدة‬
‫البهائم لصالته ومشاهدة الخلق ؛ على وتيرة واحدة ‪. )1( " ...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬اإلحياء ‪ 4‬ـ ‪. 383‬‬
‫سل بها للعمل‪ ،‬فذلك م ّما ال يبطل العمل كما تقدّم؛ ويد ّل عليه‬ ‫وأدناه بقاء اللّذّة العاجلة مع ضعف التّو ّ‬
‫من حيث ال ّنقل قوله تعالى في الح ّج ‪ (( :‬ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضال من ربكم )) ففي ذلك‬
‫سلَّ َم ‪ِ « :‬إ َّن أ َ َح َّق َما أ َ َخ ْذت ُ ْم َ‬
‫علَ ْي ِه أ َجْ ًرا‬ ‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫إباحة نيّة التّجارة مع الح ّج‪ ،‬وكذا قول ال ّنب ّ‬
‫ي َ‬
‫َّللا » ونحو ذلك‪.‬‬ ‫َاب َّ ِ‬
‫ِكت ُ‬

‫ولذا قال ابراهيم الحربي ‪ :‬قال رجل ألحمد ‪ :‬هذا العلم تعلمتَه هلل ؟ فقال له أحمد ‪ :‬هذا شرط شديد ‪،‬‬
‫ي شيء فجمعتُه (‪. )1‬‬
‫ولكن ُحبّب إل ّ‬

‫وأ ّما تمام اإلخالص وكماله في حال التّزاحم فـ = ممكن إلمكان انتفاء اللّذّة العاجلة بالكلّيّة في بعض‬
‫شوائب تما ًما‪.‬‬ ‫ي من ال ّ‬
‫األعمال في بعض األحوال فتخلص حينئذ نيّة األجر الغيب ّ‬

‫فصل ‪:‬‬

‫الرياء ليس هو غلبة حبّ الدّنيا وزينتها في ذاتها بل هو غلبة حبّ‬ ‫ث ّم القادح في اإلخالص ال ُموقِع في ّ‬
‫الحس والعادة دون أن يتوقّف العلم بذلك على وعد هللا‬ ‫ّ‬ ‫ذلك على وجه يظفر به اإلنسان به في قوانين‬
‫يضر كما تد ّل عليه نصوص كثيرة‬ ‫ّ‬ ‫ي الموعود به من هللا ال‬‫فإن طلب األجر الدّنيو ّ‬‫ضا‪ّ ،‬‬ ‫بالغيب مح ً‬
‫ّأولها نصوص جواز الدّعاء بمالذّ الدّنيا مع ّ‬
‫أن الدّعاء هو = العبادة‪.‬‬
‫ضا‬ ‫والحث على طلب أعمال كثيرة ألجلها أي ً‬ ‫ّ‬ ‫وكذا ال ّنصوص الّتي تتض ّمن ترتيب أجور عاجلة‬
‫مدرارا‬
‫ً‬ ‫سماء‬
‫صلة ألجل إطالة العمر واالستغفار ألجل رسال ال ّ‬ ‫والبر وال ّ‬
‫ّ‬ ‫صدقة ألجل ال ُخلف‬
‫كال ّ‬
‫وألجل اإلمداد باألموال والبنين وغير ذلك ‪...‬‬

‫ولهذا قال العالّمة المعلّمي اليماني رحمه هللا ‪ ( :‬تحرير العبارة في تعريف العبادة أن يُقال‪ :‬خضوع‬
‫اختياري يُطلَب به نفع غيبي ) (‪. )2‬‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫ي (ص‪ ،)367/‬البداية والنهاية البن كثير (‪.)330/10‬‬ ‫(‪ )1‬مناقب اإلمام أحمد للبيهق ّ‬
‫(‪ )2‬كتاب العبادة للمعلّمي ص ‪.733‬‬
‫فصل ‪:‬‬

‫الرياء كما يقع في نيّة أصل العمل يقع في ّ‬


‫الزيادة في مقداره كما جاء في حديث ‪ ( :‬أال أخبركم‬ ‫إن ّ‬‫ث ّم ّ‬
‫بأخوفني عليكم من الدجال‪ ،‬الشرك الخفي‪ ،‬يقوم الرجل يزين صالته‪ ،‬لما يرى من نظر رجل إليه )‪.‬‬

‫الزيادة يكون حينها بتصحيح النيّة فيها وتجديدها ال بإلغائها‪ ،‬وتجديد ال ّنيّة يكون‬
‫أن تصحيح ّ‬ ‫لكن يُنبّه ّ‬
‫قرب وتغليب طلب اآلخرة واحتساب األجر وذكر الثّواب ‪.‬‬ ‫باستحضار دافع التّ ّ‬

‫وأ ّما إلغاءها فقد يكون خوفًا من االتّهام ّ‬


‫بالرياء فيكون = ريا ًء‪ ،‬وهذا كما قال الفضيل بن عياض‬
‫رحمه هللا ‪ " :‬ترك العمل ألجل الناس = رياء ‪ ،‬والعمل ألجلهم = شرك "‪.‬‬

‫وهو إن لم يكن ريا ًء فأق ّل ما فيه ترك زيادة مستقبلة مع اإلخالص فيها‪ ،‬وذلك ليس مطلوبًا لذاته‪،‬‬
‫فيُكره ههنا التّرك واإللغاء‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫قرب به إلى هللا وطلب األجر‬ ‫ونيّة أصل العمل بال ّنسبة لطلب العلم تحصل باستحضار مجمل التّ ّ‬
‫ي بتعلّم‬‫سل به إلى إسقاط الفرض العين ّ‬ ‫ي كما في سائر األعمال؛ والكمال نيّة تفصيليّة ّأولها التّو ّ‬
‫الغيب ّ‬
‫ي عنه وعن غيره‪ ،‬وذا بنيّة تعلّم سائر العلم‬ ‫ما يجب على عين ّ‬
‫الطالب ث ّم إلى إسقاط الفرض الكفائ ّ‬
‫لنفع الخلق به وتقريبهم إلى ربّهم ومن ث ّم إلحياء اإلسالم واستمراره وإعالء كلمة هللا تعالى ‪.‬‬

‫وهذا هو معنى قول اإلمام أحمد رحمه هللا ‪ " :‬العلم ال يعدله شيء لمن ص َّحت نيَّته‪ ،‬قالوا‪ :‬كيف‬
‫تصح النيَّة يا أبا عبد هللا؟ قال‪ :‬ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره " (‪. )1‬‬

‫وقول ابن القيم رحمه هللا ‪ " :‬فمن طلب العلم ليحيى به اإلسالم فهو من الصديقين ودرجته بعد درجة‬
‫النبوة " (‪. )2‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫دليل إخالص طالب العلم هو = عمله بالعلم بأن يطابق قوله فعله في الغالب ويسبق فعله القول كذلك‬
‫حظ لها‪ ،‬وأ ّما‬‫ضا فيكون في ذلك ّ‬ ‫بالحق ودعوة ال ّناس إليه إشارة إلى ال ّنفس أي ً‬
‫ّ‬ ‫‪ ،‬وذا ّ‬
‫ألن في القول‬
‫ضا‪ ،‬ومن ثَ ّم يد ّل على‬
‫ي مح ً‬ ‫اطالع ال ّناس فيكون مبنيّا على ّ‬
‫حظ دين ّ‬ ‫بالحق قبل الدّعوة فليس فيه ّ‬
‫ّ‬ ‫العمل‬
‫كمال التّعظيم واإلخالص‪.‬‬
‫ولهذا قال أبو قالبة أليوب السختياني ‪ « :‬يا أيوب إذا أحدث هللا لك عل ًما فأحْ دِث هلل عبادة ‪ ،‬وال‬
‫يكونن ه ّمك أن تحدّث به الناس » (‪. )3‬‬

‫ي ‪ :‬بت ليلةً عند أحمد بن حنبل رحمه هللا ‪ ،‬فجاء بالماء فو َ‬


‫ض َعه‪،‬‬ ‫وقال أبو عصمة بن عاصم البيهق َّ‬
‫فل َّما أصبح نظر إلى الماء‪ ،‬فإذا هو كما كان ‪.‬‬
‫فقال‪ :‬سبحان هللا‪ ،‬رج ٌل يطلب ال ِعلم ال يكون له ِوردٌ من الليل!! (‪. )4‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬المقصد األرشد (‪. )3/44‬‬
‫(‪ )2‬مفتاح دار السعادة (‪. )121/1‬‬
‫(‪" )3‬الجامع لبيان العلم" (‪" )755‬اقتضاء العلم العمل" (‪.)37‬‬
‫(‪" )4‬صفة الصفوة" ‪" ، 605/2‬مناقب اإلمام أحمد" ص‪.273‬‬

‫مسودة ‪:‬‬
‫آداب طلب العلم ‪:‬‬

‫عن سعيد بن جبير قال‪ :‬قلت البن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل إنما هو موسى آخر‪ ،‬فقال‪ :‬كذب عدو هللا‪ ،‬حدثنا أبي بن كعب عن النبي صلى هللا‬
‫الناس أعل ُم ؟‬ ‫ِ‬ ‫عليه وسلم ‪( :‬أنَّ موسى قام خطيبًا في بني إسرائي َل ‪ ،‬فسُئِ َل أي‬
‫فقال‪ :‬أنا‪,‬‬
‫فعتب هللا عليه إذ لم يرد العلم إليه فقال له‪ :‬بلى لي عبد بمجمع البحرين هو أعلم منك‪,‬‬
‫قال‪" :‬أي رب ومن لي به؟ ‪-‬وربما قال سفيان‪ :‬أي رب وكيف لي به؟‪-‬‬
‫قال‪ :‬تأخذ حوتا فتجعله في مكتل حيثما فقدت الحوت فهو ث ّم ‪ ،‬وربما قال ‪ :‬فهو ثَ َّمهُ ‪،‬‬
‫البحر سربًا ‪ ،‬فأمسكَ هللاُ‬
‫ِ‬ ‫البحر فاتَّخذَ سبيلَهُ في‬
‫ِ‬ ‫واضطرب الحوتُ فخرج ‪ ،‬فسقط في‬ ‫َ‬ ‫وأخذ حوتًا فجعلَهُ في مِ ْكتَل ‪ ،‬ثم انطلقَ هو وفتاهُ يوش ُع بنُ نون ‪ ،‬حتى أتيا الصخرةَ وضعا رؤوسهما ‪ ،‬فرقدَ موسى‬
‫يمشيان بقيةَ ليلتهما ويومهما ‪ ،‬حتى إذا كان من الغ ِد قال لفتاهُ ‪ (( :‬آتنا غداءنا ‪ ،‬لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا )) ‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫ق ‪ ،‬فانطلقا‬ ‫طا ِ‬ ‫ق ‪ ،‬فقال ‪ :‬هكذا مثل ال َّ‬ ‫طا ِ‬ ‫ت جريةَ الماءِ ‪ ،‬فصار مثل ال َّ‬ ‫عن الحو ِ‬
‫ع َجبًا ))‪،‬‬ ‫طانُ أَنْ أَذْكُ َرهُ َواتَّ َخذَ َ‬
‫سبِيلَهُ فِي البَحْ ِر َ‬ ‫أمرهُ هللاُ ‪ ،‬قال لهُ فتاهُ ‪ (( :‬أَ َرأَيْتَ إِذْ أَ َو ْينَا إِلَى الص َّْخ َرةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ َو َما أَ ْن َ‬
‫سانِي ِه إِ َّال ال َّ‬
‫ش ْي َ‬ ‫حيث َ‬ ‫ُ‬ ‫ب حتى جاوزَ‬ ‫ص َ‬ ‫ولم يجد موسى النَّ َ‬
‫فردَّ عليهِ‪،‬‬ ‫َّان آثارهما ‪ ،‬حتى انتهينا إلى الصخرةِ ‪ ،‬فإذا رج ٌل ُم ْسجًى بثوب ‪ ،‬فسلَّم موسى َ‬ ‫صا ))‪ ،‬رجعا يَقُص ِ‬ ‫ص ً‬ ‫ار ِه َما قَ َ‬ ‫علَى آثَ ِ‬ ‫فكان للحوت سربًا ولهما عجبًا ‪ ،‬قال لهُ موسى ‪ (( :‬ذَلِكَ َما كُنَّا نَ ْبغِي فَارْ تَدَّا َ‬
‫فقال ‪ :‬وأَنَّى بأرضكَ السال ُم ؟‬
‫قال ‪ :‬أنا موسى ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬موسى بني إسرائي َل ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬أتيتُكَ لتُعلِّمني مما عُلّ ِْمتَ رشدًا ‪،‬‬
‫علم هللاِ علَّم َكهُ هللاُ ال أعل ُمهُ ‪،‬‬ ‫علم هللاِ علَّمنِي ِه هللاُ ال تعل ُمهُ ‪ ،‬وأنت على علم من ِ‬ ‫قال ‪ :‬يا موسى إني على علم من ِ‬
‫قال ‪ :‬هل أتَّبِعُكَ ؟‬
‫َض َر فحملوهُ‬ ‫البحر‪ ،‬فمرَّ تْ بهما سفينةٌ كلَّموهم أن يَحملوهم ‪ ،‬فعرفوا الخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫يمشيان على ساح ِل‬ ‫ِ‬ ‫فانطلقا‬ ‫‪.‬‬ ‫))‬ ‫ا‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫إ‬
‫ِ‬ ‫‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫إلى‬ ‫‪...‬‬ ‫ا‬ ‫ر‬
‫ً‬ ‫ب‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫خ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ط‬ ‫حِ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ى‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ص‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْف‬
‫َ‬ ‫ي‬‫ك‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ا‪.‬‬ ‫ْر‬
‫ً‬ ‫ب‬‫ص‬‫َ‬ ‫ِي‬ ‫ع‬
‫َ َ َ‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫َطِي‬ ‫ت‬‫س‬‫ْ‬ ‫قال ‪ِ (( :‬إنَّكَ لَنْ تَ‬
‫نقرتين ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫البحر نقرةً أو‬ ‫ِ‬ ‫فنقر في‬ ‫عصفور ‪ ،‬فوق َع على حرفِ السفين ِة َ‬ ‫ٌ‬ ‫بغير ن َْول ‪ ،‬فلما ركبا في السفين ِة جاء‬ ‫ِ‬
‫البحر ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بمنقار ِه من‬
‫ِ‬ ‫العصفور‬
‫ُ‬ ‫هللا إال مث َل ما نقص هذا‬ ‫علم ِ‬ ‫نقص علمي وعل ُمكَ من ِ‬ ‫َ‬ ‫ض ُر ‪ :‬يا موسى ما‬ ‫قال لهُ ال َخ ِ‬
‫الفأس فنزع لوحًا ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫إذ أخذ‬
‫وم ‪،‬‬ ‫قال ‪ :‬فلم يفجأْ موسى إال وقد قل َع لوحًا بِالقَد ِ‬
‫فقال لهُ موسى ‪ :‬ما صنعتَ ؟‬
‫إمرا )) ‪،‬‬ ‫بغير ن َْول عمدتَ إلى سفينتهم فـ (( خرقتها لتُ ْغ ِرقَ أهلها ‪ ،‬لقد جئتَ شيئًا ً‬ ‫قو ٌم حملونا ِ‬
‫صب ًْرا )) ‪،‬‬ ‫ِي َ‬ ‫قال ‪ (( :‬أَلَ ْم أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَ ْستَطِي َع َمع َ‬
‫قَالَ‪ (( :‬الَ تُ َؤاخِ ذْنِي ِب َما نَسِيتُ َوالَ تُرْ ِه ْقنِي مِ نْ أَ ْم ِري عُس ًْرا )) ‪،‬‬
‫فكانت األولى من موسى نسيانًا ‪،‬‬
‫ف شيئًا ‪،‬‬ ‫َض ُر برأ ِس ِه فقلعَهُ بي ِد ِه هكذا ‪ ،‬وأومأ َ سفيانُ بأطرافِ أصاب ِع ِه كأنَّهُ يقطِ ُ‬ ‫الصبيان ‪ ،‬فأخذ الخ ِ‬ ‫ِ‬ ‫البحر َمروا بغالم يلعبُ مع‬ ‫ِ‬ ‫فلما خرجا من‬
‫ش ْيئًا نُ ْك ًرا ))‪،‬‬ ‫فقال لهُ موسى ‪ (( :‬أَقَت َْلتَ نَ ْفسًا زَ ِكيَّةً ِبغَي ِْر نَ ْفس‪ ،‬لَقَدْ ِجئْتَ َ‬
‫صب ًْرا ))‪ ،‬ق‬ ‫ِي َ‬ ‫قَالَ‪ (( :‬أَلَ ْم أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَ ْستَطِي َع َمع َ‬
‫صاحِ ْبنِي قَدْ بَلَ ْغتَ مِ نْ لَدُنِّي عُذْ ًرا ))‪،‬‬ ‫ش ْيء بَ ْعدَهَا فَالَ تُ َ‬ ‫عنْ َ‬ ‫سأ َ ْلتُكَ َ‬
‫قالَ‪ (( :‬إِنْ َ‬
‫مائال ‪ ،‬أومأ َ بي ِد ِه هكذا ‪ ،‬وأشار سفيانَ كأنَّهُ يمس ُح شيئًا إلى فوقَ ‪ ،‬فلم أسمع سفيانَ يذكر مائ ًال‬ ‫ارا ي ُِريدُ أَنْ يَ ْنقَضَّ )) ‪ً ،‬‬ ‫ض ِيّفُوهُ َما‪ ،‬ف ََو َجدَا فِي َها ِجدَ ً‬ ‫َط َع َما أَ ْهلَ َها‪ ،‬فَأَبَ ْوا أَنْ يُ َ‬ ‫طلَقَا‪َ ،‬حتَّى ِإذَا أَتَيَا أَ ْه َل قَرْ يَة ا ْست ْ‬ ‫(( فا ْن َ‬
‫إال مرةً ‪،‬‬
‫علَ ْي ِه أَجْ ًرا ))‪،‬‬ ‫قال ‪ :‬قو ٌم أتيناهم فلم يُطعمونا ولم يُضيفونا ‪ ،‬عمدتَ إلى حائطهم ‪ (( ،‬لَ ْو ِشئْتَ الَتَّ َخذْتَ َ‬
‫صب ًْرا ))‪.‬‬ ‫علَ ْي ِه َ‬ ‫سأُنَبِّئُكَ بِتَأْ ِوي ِل َما لَ ْم تَ ْستَطِ ْع َ‬ ‫قَالَ‪َ (( :‬هذَا ف َِراقُ بَ ْينِي َوبَ ْينِكَ ‪َ ،‬‬
‫صبر فقصَّ هللاُ علينا من خبرهما ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫قال النبي صلَّى هللاُ علي ِه وسلَّ َم ‪ :‬وددنا أنَّ موسى كان‬
‫قال سفيانُ ‪ :‬قال النبي صلَّى هللاُ علي ِه وسلَّ َم ‪ :‬يرح ُم هللاُ موسى ‪ ،‬لو كان صبر لقُصَّ علينا من أمرهما ) ‪.‬‬
‫صبًا )) َوأَ َّما الغُالَ ُم فَكَانَ كَاف ًِرا َو (( كَانَ أَبَ َواهُ ُمؤْ مِ نَي ِْن )) ‪...‬‬ ‫غ ْ‬ ‫صا ِل َحة َ‬ ‫سفِينَة َ‬ ‫وقرأ ابنُ عباس ‪ :‬أَ َما َم ُه ْم (( َم ِلكٌ يَأْ ُخذُ كُ َّل َ‬

‫ولذا سئل سهل التستري‪" :‬أي شيء أشد على النفس؟!"‬


‫قال‪" :‬اإلخالص؛ ألنه ليس لها فيه نصيب"‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫ضى َي ْو َم ْال ِق َيا َم ِة َ‬


‫علَ ْي ِه َر ُج ٌل‬ ‫اس ُي ْق َ‬ ‫سلَّ َم َيقُولُ‪ِ " :‬إنَّ أَ َّو َل النَّ ِ‬ ‫علَ ْي ِه َو َ‬ ‫صلَّى َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫َّللا َ‬‫ع ْنهُ‪َ ،‬قالَ‪ :‬سَمِ ْعتُ َرسُو َل َّ ِ‬ ‫ي َّ‬
‫َّللاُ َ‬ ‫ض َ‬ ‫ومن أشدّ ما ورد في وعيد المراءاة بالعلم ما في "صحيح مسلم" من حديث أَ ِبي ه َُري َْرةَ َر ِ‬
‫ار‪َ .‬و َر ُج ٌل‬ ‫ِي فِي النَّ ِ‬ ‫ق‬‫ل‬‫ْ‬ ‫علَى َوجْ ِه ِه َحتَّى أُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ُحِ‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫مِ‬‫ا ْستُ ْش ِهدَ‪ ،‬فَأُتِي بِ ِه فَعَرَّ فَهُ نِعَ َمهُ فَعَ َرفَ َها‪ ،‬قَالَ‪ :‬فَ َما عَمِ ْلتَ فِي َها؟ قَا َل قَات َْلتُ فِيكَ َحتَّى ا ْستُ ْش ِهدْتُ ‪ ،‬قَالَ‪َ :‬كذَبْتَ ‪َ ،‬ولَ ِكنَّكَ قَات َْلتَ ِأل َنْ يُقَالَ‪َ :‬ج ِري ٌء‪ ،‬فَقَدْ قِيلَ‪ ،‬ثُ َّم أُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عا ِل ٌم‪َ ،‬وقَ َرأْتَ ْالقُرْ آنَ ِليُقَالَ‪ :‬ه َُو‬ ‫علَّ ْمتُهُ‪َ ،‬وقَ َرأْتُ فِيكَ ْالقُرْ آنَ‪ ،‬قَالَ‪َ :‬كذَبْتَ ‪َ ،‬ولَ ِكنَّكَ تَعَلَّ ْمتَ ْالع ِْل َم ِليُقَا َل‪َ :‬‬ ‫ِي بِهِ‪ ،‬فَعَرَّ فَهُ نِعَ َمهُ فَعَ َرفَ َها‪ ،‬قَالَ‪ :‬فَ َما عَمِ ْلتَ فِي َها؟ قَالَ‪ :‬تَعَلَّ ْمتُ ْالع ِْل َم َو َ‬ ‫ُ‬
‫علَّ َمهُ َوقَ َرأَ ْالقُرْ آنَ‪ ،‬فَأت َ‬ ‫تَعَلَّ َم ْال ِع ْل َم َو َ‬
‫س ِبيل‬ ‫نْ‬
‫َ َ مِ َ‬ ‫تُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫َر‬ ‫ت‬ ‫ا‬‫م‬ ‫َ‪:‬‬‫ل‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫ا؟‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ِي‬ ‫ف‬ ‫تَ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ع‬
‫َ َمِ‬ ‫ا‬‫م‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‪:‬‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫ا‪،‬‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ُ‬
‫َرَّ ِ َ َ َ َ َ‬ ‫ه‬‫م‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ِ‪،‬‬
‫ه‬ ‫ب‬
‫َ ِ‬ ‫ِي‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫َأ‬ ‫ف‬ ‫ِ‪،‬‬‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬‫م‬ ‫ْ‬
‫ال‬
‫ْ َافِ َ ِ ِ‬ ‫ن‬ ‫ص‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫نْ‬ ‫ُ مِ‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ِ‪،‬‬
‫ه‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َّ‬
‫َّللا‬ ‫ع‬‫س‬‫َّ‬ ‫و‬
‫ِ َ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫ج‬ ‫ر‬‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ار‬ ‫َّ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫ِي‬ ‫ف‬ ‫ِي‬‫ق‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ى‬‫َّ‬ ‫ت‬‫ح‬ ‫ه‬ ‫ه‬ ‫جْ‬ ‫و‬ ‫ى‬‫َ‬ ‫ل‬
‫ُحِ َ َ َ ِ ِ َ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ِ‪،‬‬
‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫َّ مِ َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ث‬ ‫َ‪،‬‬
‫ل‬ ‫ارئٌ‪ ،‬فَقَدْ قِي‬ ‫قَ ِ‬
‫َ‬
‫ار"‪.‬‬ ‫ِي فِي النَّ ِ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫علَى َوجْ ِههِ‪ ،‬ثُ َّم أُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ُحِ‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫مِ‬ ‫تُحِ ب أَنْ يُ ْنفَقَ فِي َها إِ َّال أَ ْنفَ ْقتُ فِي َها لَكَ ‪ ،‬قَالَ‪َ :‬كذَبْتَ ‪َ ،‬ولَ ِكنَّكَ فَعَ ْلتَ ِليُقَالَ‪ :‬ه َُو َج َوادٌ‪ ،‬فَقَدْ قِيلَ‪ ،‬ثُ َّم أُ‬
‫َ‬

‫وهذا الحديث يبيّن أنّ الرّ ياء موعود عليه بالعقاب بل بالعقاب الشّديد ال بحبوط العمل وانعدام األجر فقط‪.‬‬

‫ي رحمه هللا ‪:‬‬


‫المقولة المشهورة للشّعب ّ‬

‫" العلم ثالثة أشبار ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ فمن نال شبراً منه شمخ بأنفه ‪ ،‬وظن أنَّه ناله ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ومن نال منه الشبر الثاني صغرت إليه نفسه ‪ ،‬وعلم أن لم ينله ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ وأما الشبر الثالث فهيهات ال يناله أحدٌ أبداً " اهـ‬

‫األول من العلم هو كحصيلة مطأطئ رأسه فهو ينظر إلى مستوى قدميه فيرى من هم دونه وال يرى من هم فوقه في المستوى‪ ،‬ولذا هو يتكبّر ‪.‬‬
‫الشّبر ّ‬
‫ي‪ ،‬فيتواضع‪ ،‬ولهذا جاء في‬ ‫والشّبر الثّاني هو كحصيلة ذلك المطأطئ رأسه لو رفعه إلى أن نظر أمامه فأبصر تساويه مع سائر النّاس في ذات األمر فيعلم أنْ ال حول له وال ّ‬
‫قوة وال فضل وال علم ذات ّ‬
‫ي أن تواضعوا حتى ال يفخر أحد على أحد وال يبغي أحد على أحد " ‪.‬‬
‫الحديث ‪ " :‬إن هللا أوحى إل ّ‬

‫وأ ّما الشّبر الثّالث فهو حصيلة من رفع رأسه فوق ذلك فنظر إلى مستوى من آتاهم هللا فوق ما آتاه ث ّم إلى من هم فوق هؤالء أيضًا وهكذا إلى حدّ ال يدرك مداه وال يبلغ منتهاه؛ قال هللا تعالى ‪ ( :‬وفوق‬
‫ك ّل ذي علم عليم ) ‪ ( ،‬وال يحيطون بشيء من علمه إال بما شاء )‪.‬‬

‫ولذا فتمام التّواضع هو لدى هذا األخير‪ ،‬فإ ّنه لم يعد يالحظ مجرّ د التّساوي وأصل الصّغر‪ ،‬بل صار يرى تفاصيل في ذلك ودرجات فوقه فهو يستد ّل بمجمل التّفاوت على جهله بتفاصيل أخرى وبعلمه‬
‫األول شيئا من‬ ‫بالقليل منها على جهله بأكثر تفاصيل التّفاصيل وهكذا إلى ما ال ينحصر فهو يُدرك بذلك تمام العجر‪ ،‬من حيث يُدرك صاحب الشّبر الثّاني أصل العجز فقط‪ ،‬وال يدرك صاحب الشّبر ّ‬
‫وإال كذّب‬‫وتصور معًا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫العجز أصال‪ ،‬ألنّه ال يرى ّإال مقدار علمه‪ ،‬وال يبصر قدر الجهل عنده‪ ،‬وذا ألنّ سبب العلم هو ما يثيره القدْر المعلوم من التّطلّع إلى مقدار المجهول فهو مر ّكب من إرادة‬
‫ش ْيئًا ) ‪ ،‬وذا ألنّ أصل العلم هو علم‬ ‫ون أُ َّم َهاتِكُ ْم َال تَ ْعلَ ُمونَ َ‬
‫َّللاُ أَ ْخ َر َجكُ ْم مِ نْ بُطُ ِ‬
‫األول فقط‪ ،‬وعدم الثّاني وما بعده هو المراد بقوله تعالى ‪َ ( :‬و َّ‬
‫يتصوره أصال فتوقّف عند علمه ّ‬ ‫ّ‬ ‫الجاهل بالمعلوم الثّاني أو لم‬
‫يتصور المبصر ّأوال ّإال مجمل ما يراه فقط فهو ال يزداد شيئا ّإال إذا دقّق وفتح زاوية النّظر فيبني‬ ‫ّ‬ ‫يتصور أفراد معلومات فيه وتفاصيلها كما أنّ أصل البصر هو اإلبصار وال‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان بأنّه يعلم فقط وال‬
‫ي بفتح باب التّطلّع إلى مزيد العلم وهذا‬ ‫على ذلك في المرحلة الثّانية علمه بأصل جهله ث ّم يؤدّيه ك ّل جهل بشيء بعد ذلك في المرحلة الثّالثة إلى علمه بجهله بتفاصيل أخرى‪ ،‬فيحصل علمه الحقيق ّ‬
‫بمالحظة أصل النّقص والعجز إلى أن يؤول به العلم والتّواضع إلى إدراك غاية العجز ومنتهى الجهل ‪ ،‬فذلك هو = سقف العلم وكماله‪ ،‬وهو = منتهى التّواضع وغايته؛ قال تعالى ‪َ ( :‬والرَّ ا ِس ُخونَ فِي‬
‫ب)‪.‬‬‫ْالع ِْل ِم يَقُولُونَ آ َمنَّا بِ ِه كُ ٌّل مِ نْ ِع ْن ِد َربِّنَا ۗ َو َما يَذَّ َّك ُر إِ َّال أُولُو ْاأل َ ْلبَا ِ‬

‫[ مجمع البحرين ] ‪:‬‬

‫* ينبغي لإلنسان أن يداوم على قوله ‪ ( :‬ربّ زدني عل ًما ) ألنّ هللا تعالى أمر نبيّه بذلك‪ ،‬وألنّ هذا الدّعاء = استزادة ‪ ،‬واالستزادة تحقّق زيادة‪ّ ،‬‬
‫والزيادة يكون فوقها زيادة أخرى وهكذا ‪ ،‬فيُدعى با ّ‬
‫لزيادة‬
‫دائ ًما ‪...‬‬

‫عصفورا جاء فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر‬


‫ً‬ ‫ي لنفد البحر ) ‪ ،‬وفي قصّة موسى والخضر أنّ‬ ‫وألنّ هللا تعالى قال ‪ ( :‬وما أوتيتم من العلم ّإال ً‬
‫قليال ) ‪ ،‬وقال ‪ ( :‬قل لو كان البحر مدادا لكلمات رب ّ‬
‫نقرة‪ ،‬فقال له الخضر‪ :‬وهللا ما علمي وعلمك في جنب علم هللا إال كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر !!‬

‫وإذا تبيّن أنّ العلم = بحر؛ تبيّن أنّه ال يشرب منه أحد إال ازداد عطشا‪ ،‬فمن شرب فشعر أنّه ارتوى واكتفى فليعلم أنّه لم يشرب من البحر‪ ،‬وإنّما هو م ّمن ( فرحوا بما عندهم من العلم ) !!‬

‫يتصور النّقص وخطورته فيسعى في تداركه أصال‪ ،‬وفي ذلك سبب ارتحال موسى للخضر بعد أن نبّهه هللا تعالى لعلم زائد‬
‫ّ‬ ‫ولذا ال تنطلق مسيرة المتعلّم ّإال = عندما يعلم أنّه يجهل ! وهذا ليمكنه أن‬
‫عنده فمضى إلى [ مجمع البحرين ] !!‬

‫علَّ َمنِي ِه َال تَ ْعلَ ُمهُ أَ ْنتَ ‪،‬‬ ‫علَى ع ِْلم مِ نْ ع ِْل ِم َّ ِ‬
‫َّللا َ‬ ‫سى ! ِإنِّي َ‬
‫و [ مجمع البحرين ] هذا = حقيقة ومجاز فإنّ موسى قد سعى هناك ليجمع بين علمه وعلم الخضر ويتدارك ما ال يعلمه أيضًا ‪ ،‬ولذا قال ‪ " :‬يَا ُمو َ‬
‫َّللاُ َال أَ ْعلَ ُمهُ "‪.‬‬
‫علَّ َم َكهُ َّ‬ ‫علَى ع ِْلم مِ نْ ع ِْل ِم َّ ِ‬
‫َّللا َ‬ ‫َوأَ ْنتَ َ‬

‫وقال ابن عبّاس ‪ :‬سأل موسى عليه السّالم ربّه ّ‬


‫عز وج ّل فقال ‪ :‬أ ّ‬
‫ي عبادك أعلم ؟ قال ‪ " :‬الذي يبتغي علم الناس إلى علمه " (‪. )1‬‬

‫ب ع ّمن هو فوقَهُ ‪ ،‬وع َّمن هو مثلُه ‪ ،‬وع َّمن هو دونَه "‪.‬‬


‫وقال وكي ٌع ‪ " :‬ال ينب ُل الرّ ج ُل من أصحاب الحديث حتَّى يكتُ َ‬

‫ي ‪ " :‬أَنَا علمتك السنن" ‪ ,‬قَا َل أَحمد ‪ :‬وكان صالح صاحب شعر وغريب‪.‬‬
‫وقَا َل صالح بْن كيسان للزهري ‪ " :‬أَنَا أطلقت لسانك "‪ ،‬فَقَا َل له الزه ِْر ّ‬

‫َوقَا َل الثَّ ْو ِري ‪َ :‬ال نَزَ ا ُل نَتَعَلَّ ُم َما َو َجدْنَا َمنْ يُعَ ِلّ ُمنَا‪.‬‬

‫ع ِة نَتَ َعلَّ ُم‪.‬‬


‫َوقَا َل أَحْ َمدُ ‪ :‬نَحْ نُ إلَى السَّا َ‬

‫وقال ابن الجوزي ‪ " :‬أفضل األشياء التّزيد من العلم؛ فإنه من اقتصر على ما يعلمه فظنه كافيا ‪ :‬استبدّ برأيه‪ ،‬فصار تعظيمه لنفسه مانعًا من االستفادة" (‪. )3‬‬

‫ولذا فأكبر موانع االستزادة ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ الكبر ‪.‬‬


‫و‬
‫‪ 2‬ـ الحياء ‪،‬‬
‫وفي "صحيح البُخاري" باب ْال َحيَاءِ فِي ْالع ِْل ِم ‪ :‬قال " َوقَا َل ُم َجا ِهدٌ الَ يَتَعَلَّ ُم ْالع ِْل َم ُم ْستَحْي َوالَ ُم ْستَ ْكبِ ٌر‪.‬‬
‫ِين "‪.‬‬‫ار لَ ْم يَ ْمنَ ْع ُهنَّ ْال َحيَا ُء أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدّ ِ‬ ‫سا ُء األ َ ْن َ‬
‫ص ِ‬ ‫شةُ ‪ :‬نِع َْم النِّ َ‬
‫سا ُء نِ َ‬ ‫َوقَالَتْ َ‬
‫عائِ َ‬

‫ي أن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثالثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم وذهب واحد‬‫وفي "الصّحيحين" من حديث أبي واقد اللّيث ّ‬
‫فوقفا على رسول هللا صلى هللا عليه وسلم فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما اآلخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال ‪ ( :‬أال أخبركم عن‬
‫النفر الثالثة؟ أما أحدهم فأوى إلى هللا فآواه هللا وأما اآلخر فاستحيي فاستحيي هللا منه وأما اآلخر فأعرض فأعرض هللا عنه ) !!!‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫(‪ )1‬رواه ابن جرير في التّفسير‪،‬‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم أنّه قيل له ‪ :‬أ ّ‬
‫ي النّاس أعلم ؟‬ ‫ورواه عبد الرّ ّزاق من حديث عبيد بن عمير مرسال والدّارمي من حديث عمرو بن دينار عن طاووس مرسال أيضًا عن النّب ّ‬
‫فقال ‪ :‬من جمع علم النّاس إلى علمه ‪.‬‬
‫وقد وصله أبو يعلى من حديث عمرو بن دينار عن جابر مرفوعًا ‪ ،‬والصّواب المرسل ‪ ،‬ورواه ابن حبّان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا في سؤال موسى لربّه‪ ،‬واألشبه أنّه من‬
‫رواية ابن عبّاس موقوفًا كما صدّرنا به‪.‬‬
‫(‪" )2‬صيد الخاطر" ‪. 158‬‬
‫من عالمة إخالص ال ّ‬
‫طالب أن يكون ه ّمه العمل‬

‫فإذا دليل أنّه ال يعتبر النّاس‬

‫ي ] وقصده منه = نيل ما عند هللا تعالى [ وحده ] فال يبتغي من وراء عمله أعراض الدّنيا وزينتها وال يلتفت إلى شيء من ذلك ّإال بمقدار ما ال تكاد‬
‫ومعنى هذا أن تكون غاية العامل من عمله [ الدّين ّ‬
‫نفس (‪،)1‬‬
‫تسلم منه ٌ‬

‫ولذا فتمام اإلخالص وكماله هو = ما ذكره الغزالي رحمه هللا في "اإلحياء" ‪ 4‬ـ ‪ 383‬؛ قال ‪ " :‬اإلخالص = أن تكون مشاهدة البهائم لصالته ومشاهدة الخلق ؛ على وتيرة واحدة ‪." ...‬‬

‫ظ العاجل ] أو وجود‬‫وأدنى اإلخالص والحدّ المجزئ منه هو = حدّ الغلبة؛ وهذا بأن تكون طلب اآلخرة في القلب أكبر من طلب الدّنيا بذلك العمل؛ وأوضح ما يُعرف به هذا هو = حال [ انتفاء الح ّ‬
‫المشقّة وهو = [ حال التّزاحم ] وتعارض المطلبين بحيث يكون ترك العمل هو الّذي تتحقّق به اللذّة العاجلة؛ فيمضي العامل في عمله المأمور به شرعًا رغم ذلك؛ وهذا كما جاء في الحديث ‪ ( :‬أال‬
‫أنبئكم بما يرفع هللا به الدرجات ويمحو به الخطايا ؟ إسباغ الوضوء على المكاره ‪ ،‬وكثرة الخطى إلى المساجد ‪ ،‬وانتظار الصالة بعد الصالة فذلكم الرباط ‪. )...‬‬
‫واألول كما في حديث ‪ ( :‬ال تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء وال تماروا به السفهاء وال لتتخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار ) ‪.‬‬
‫ّ‬
‫وحديث ‪ ( :‬ان اخوف ما اخاف عليكم الشرك االصغر ‪.‬قالوا ما الشرك االصغر يا رسول هللا ؟ قال الرياء يقول هللا عز وجل اذا جزى الناس باعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون فى الدنيا فانظروا‬
‫هل تجدون عندهم جزاء )‪.‬‬
‫ُ‬
‫تي به فعرَّ فه نع َمه فعرفها‪ ،‬قال فما عملت فيها؟ قال‪ :‬قاتلت فيك حتى استشهدت‪ ،‬قال كذبت‪ ،‬ولكنك قاتلت ألن يقال هو جريء‪ ،‬فقد قيل‪،‬‬ ‫وحديث ‪ ( :‬إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رج ٌل استشهد فأ َ‬
‫ُحب على وجهه حتى ألقي في النار‪ ،‬ورج ٌل تعلَّم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرَّ فه نع َمه فعرفها‪ ،‬قال فما عملت فيها؟ قال‪ :‬تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن‪ ،‬قال كذبت‪ ،‬ولكنك‬ ‫ثم أمر به فس َ‬
‫ُحب على وجهه حتى ألقي في النار‪ ،‬ورج ٌل وسع هللا عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها‪ ،‬قال فما عملت‬ ‫تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ‪ ،‬فقد قيل ثم أمر به فس َ‬
‫ُحب على وجهه ثم ألقي في النار ) ‪.‬‬
‫فيها؟ قال‪ :‬ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إال أنفقت فيها لك‪ ،‬قال كذبت‪ ،‬ولكنك فعلت ليقال هو جواد‪ ،‬فقد قيل ثم أمر به فس َ‬

‫وهذا الحديث األخير يبيّن أنّ الرّ ياء موعود عليه بالعقاب بل العقاب الشّديد ال بمجرّ د حبوط العمل وانعدام األجر‪.‬‬

‫الزيادة في مقداره كما جاء في حديث ‪ ( :‬أال أخبركم بأخوفني عليكم من الدجال‪ ،‬الشرك الخفي‪ ،‬يقوم الرجل يزين صالته‪ ،‬لما يرى من نظر رجل إليه‬ ‫ث ّم إنّ الرّ ياء كما يقع في نيّة أصل العمل يقع في ّ‬
‫)‪.‬‬
‫لكن يُنبّه أنّ تصحيح ّ‬
‫الزيادة يكون حينها بتصحيح النيّة فيها وتجديدها ال بإلغائها ‪.‬‬

‫وتجديد النّيّة يكون باستحضار دافع التّقرّ ب وتغليب طلب اآلخرة واحتساب األجر وذكر الثّواب ‪.‬‬

‫فصل ‪:‬‬

‫ونيّة أصل العمل بالنّسبة لطلب العلم تحصل باستحضار مجمل التّقرّ ب به إلى هللا؛ قال اإلمام أحمد ‪ -‬رحمه هللا ـ ‪ " :‬العلم ال يعدله شيء لمن صحَّت نيَّته‪ ،‬قالوا‪ :‬كيف تصح النيَّة يا أبا عبد هللا؟ قال‪:‬‬
‫ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره " ‪.‬‬

‫وقال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (‪" :)121/1‬فمن طلب العلم ليحيى به اإلسالم فهو من الصديقين ودرجته بعد درجة النبوة "‪.‬‬

‫اجعلها في أيدينا وال تجعلها قلوبنا‬

‫قصة موسى والخضر ‪:‬‬

‫عدو هللا ) ونحوها ال يلزم منها التّكفير فإنّها تقال أيضًا في المسلم فتكون مما يُتلفّظ به دون أن يُقصد معناه كما قال ابن عباس في نوف البكالي ( كذب ّ‬
‫عدو هللا ) وذلك من باب ( تربت يمينه )‬ ‫عبارة ( ّ‬
‫و( ثكلته أمه ) و( ويله ) ونحو ذلك م ّما يطلقه العرب وال يقصدون حقيقة المعنى فيه ‪.‬‬

‫سئل عن أعلم الناس * تنطلق مسيرة المتعلّم = عندما يعلم أنّه يجهل ‪.‬‬

‫أعلم الناس من جمع ‪...‬‬

‫تفاوت علم العلماء ‪...‬‬

‫سعة علم هللا ‪...‬‬

‫أدب التّعلّم ‪...‬‬

‫ل ّما سئل موسى عليه السّالم عن أعلم الناس فقال ‪ :‬أنا‪ ،‬عتب هللا عليه أن لم يردّ العلم إليه تعالى مع أنّه عليه السّالم كان قد أجاب بما انتهى إليه علمه واستعمل ظنا راجحا مع عدم التقصير في النظر‪،‬‬
‫ي فلم يفعل فكان تاركَ يقين لظنّ‪ ،‬وهذا ال يع ّكر على أحد القولين بجواز اجتهاد النّب ّ‬
‫ي ألنّ مح ّل جواز ذلك باب األحكام‪،‬‬ ‫وإنّما وجه العتب هو في كونه كان ً‬
‫قادرا على سؤال هللا فيُجاب بالوحي القطع ّ‬
‫واجتهاد موسى ههنا كان في باب األخبار‪ ،‬وباب األخبار ال اجتهاد فيه باتّفاق‪.‬‬

‫طالب بعد اإلخالص هلل هو = أن يعلم أنّه هو المتعلّم وأنّ العالم هو المعلّم ‪.‬‬
‫ّأول آداب ال ّ‬

‫العلم = بحر ؛ ال يشرب منه أحد إال ازداد عطشا ‪ ،‬فإذا شربت فشعرت أنّك ارتويت واكتفيت فاعلم أنّه من غير البحر شربت ‪ (( ،‬وقل ربّ زدني علما )) ‪ (( ،‬قل لو كان البحر مدادا لكلمات رب ّ‬
‫ي لنفد‬
‫البحر )) ‪...‬‬

‫عصفورا جاء فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة‪ ،‬فقال له الخضر‪ :‬وهللا ما علمي وعلمك في جنب علم هللا إال كما أخذ هذا‬
‫ً‬ ‫(( وما أوتيتم من العلم ّإال ً‬
‫قليال )) ‪ ،‬وفي قصّة موسى والخضر أنّ‬
‫الطائر بمنقاره من البحر‪.‬‬

‫ينبغي لإلنسان أن يداوم على قوله ‪ ( :‬ربّ زدني عل ًما ) ألنّ هللا تعالى أمر نبيّه بذلك‪ ،‬وألنّ هذا الدّعاء = استزادة ‪ ،‬واالستزادة تحقّق زيادة‪ّ ،‬‬
‫والزيادة يكون فوقها زيادة أخرى وهكذا ‪ ،‬فيُدعى ّ‬
‫بالزيادة‬
‫دائ ًما ‪...‬‬
‫ـ إذا استصعبت تفاصيل العلم على المتكبّرين كذّبوا به ؛ (( بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه )) ‪.‬‬

‫ـ وإذا استصعبت على المخلصين ردّوه إلى علمائهم ؛ (( ولو ردّوه إلى الرّ سول وإلى أولي األمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )) ‪.‬‬

‫ـ وإذا استصعبت على العلماء ردّوه إلى من أحاط بك ّل شيء عل ًما ؛ (( والرّ اسخون في العلم يقولون آمنّا به ك ّل من عند ربّنا )) ‪.‬‬

‫عن ابن عبّاس قال ‪ :‬سأل موسى عليه السّالم ربّه ّ‬


‫عز وج ّل فقال ‪ :‬أ ّ‬
‫ي عبادك أعلم ؟ قال ‪ " :‬الذي يبتغي علم الناس إلى علمه "‪.‬‬

‫ب ع ّمن هو فوقَهُ ‪ ،‬وع َّمن هو مثلُه ‪ ،‬وع َّمن هو دونَه " ‪.‬‬
‫وقال وكي ٌع ‪ " :‬ال ينب ُل الرّ ج ُل من أصحاب الحديث حتَّى يكتُ َ‬

‫ي ‪ " :‬أَنَا علمتك السنن" ‪ ,‬قَا َل أَحمد ‪ :‬وكان صالح صاحب شعر وغريب‪.‬‬
‫وقَا َل صالح بْن كيسان للزهري ‪ " :‬أَنَا أطلقت لسانك "‪ ،‬فَقَا َل له الزه ِْر ّ‬

‫ي عبادك أعلم ؟‬‫عن ابن عبّاس قال ‪ :‬سأل موسى ربّه فقال ‪ :‬أ ّ‬
‫قال ‪ :‬الّذي يبتغي علم النّاس إلى علمه ‪...‬‬
‫رواه ابن جرير في التّفسير‪،‬‬
‫ي صلّى هللا عليه وسلّم أنّه قيل له ‪ :‬أ ّ‬
‫ي النّاس أعلم ؟‬ ‫ورواه عبد الرّ ّزاق من حديث عبيد بن عمير مرسال والدّارمي من حديث عمرو بن دينار عن طاووس مرسال أيضًا عن النّب ّ‬
‫فقال ‪ :‬من جمع علم النّاس إلى علمه ‪.‬‬
‫وقد وصله أبو يعلى من حديث عمرو بن دينار عن جابر مرفوعًا ‪ ،‬والصّواب المرسل ‪ ،‬ورواه ابن حبّان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا في سؤال موسى لربّه‪ ،‬واألشبه أنّه من‬
‫رواية ابن عبّاس موقوفًا كما صدّرنا به‪.‬‬

‫س ‪ /‬لماذا يكثر اعتراض المبتدئ في العلم على ما لم يألفه من كالم العلماء؟‬

‫ج‪ /‬أكثر َمن يكون مبتدئًا في طلب العلم يحصره في مقدار ما حصّله منه م ّما هو في أحسن األحوال = نبذة يسيرة من العلم ‪،‬‬
‫يسيرا ث ّم عاد ‪،‬‬
‫ً‬ ‫إذ حال (قاصر) النّظر على ذلك المقدار هو كحال من زار ناحيةً من بالد شاسعة وأقام بتلك النّاحية‬
‫يتصور سائر أنحاء البلد ّإال على شاكلة ما رآه في تلك النّاحية في تلك المدّة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫فإنّ هذا ال‬
‫ولذا إذا أتى شخصٌ آخر م ّمن جاب أنحاء البالد وأقام بها طويالً فرأى فيها خالف ما رآه (القاصر) فحدّثه بما رآه ‪ :‬لم يكد يح َ‬
‫ضى منه بتصديق! وحجّته أنّه قد زار هو البلد بنفسه ولم َ‬
‫ير ذلك!!‬
‫ومن هذا الباب قوله تعالى‪ (( :‬بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ول ّما يأتهم تأويله ))‪.‬‬
‫وحكى عن الكفّار أيضًا قولهم‪ (( :‬ما سمعنا بهذا في الملّة اآلخرة إن هذا ّإال اختالق )) ‪..‬‬

‫كلّما أعرضت عن طلب العلم ؛ ق ّل صبرك (( وكيف تصبر على ما لم تُحط به خُبرا )) ؟‬

‫بحر‪ ،‬فدواؤه الثّاني ‪ 2 :‬ـ أنْ يذكر أنّه يوجد في النهر ما ال يوجد‬
‫متفو ًقا عليهم وأ ّنه = ٌ‬
‫المتعالم يزدري العلماء لكونهم يخطئون فمبدأ عالجه ‪ 1 :‬ـ أن يذكر أ ّنه هو أيضًا يخطئ‪ ،‬ث ّم يبقى كونه يرى نفسه ّ‬
‫وأول ذلك أصل كونه لم يكن‬‫ووزعهما على فكره بانتظام دعاه ذلك لـ ‪ 3‬ـ أن يصغي للعلماء ومن ثَ ّم ‪ 4 :‬ـ يقبل منهم أصوال عظيمة كان يجهلها فيتعلّمها ويطبّقها؛ ّ‬ ‫في البحر‪ ،‬فإذا تناول هذين الدّواءين ّ‬
‫في زمان إعراضه عنهم بعالم‪ ،‬وأنّه اآلن حين بدأ يتعلّم ‪...‬‬
‫* العلم هو الفقه العميق والفهم الدّقيق ‪ ،‬وأما الجريان على الظواهر فال يعجز عنه أحد ؛ سئل موسى عليه السّالم عن أعلم النّاس ؟ فقال ‪ :‬أنا ‪ ،‬فدلّه هللا تعالى على من هو أعلم منه؛ فإذا هو الخضر‬
‫يعلّمه من الخفايا ما كان ينكر ظاهره‪.‬‬

‫ال يص ّح التّملّق ّإال في طلب العلم ‪:‬‬

‫و ( التملق ) أو ( الملق ) هو = الزيادة في التودد والتضرّ ع فوق ما ينبغي ليستخرج من اإلنسان مراده ‪ ،‬قاله المناوي في "فيض القدير" (‪ ، )383/5‬ونقل عن ال َحليمي ‪ :‬الملق لغير المعلّم من أفعال‬
‫أهل الذلة والضعة وما يزري بفاعله ويدل على سقاطته وقلة مقدار نفسه وليس ألحد أن يهين نفسه كما ليس لغيره أن يهينه‪.‬‬

‫قلتُ ‪ :‬وأ ّما التّم ّلق في طلب العلم فهو من التّواضع هلل ‪ ،‬ومن " تواضع هلل رفعه هللا" ‪ ،‬ذلك أنّ التّواضع للمعلّم يكون من أجل حمله للعلم ؛ قال تعالى ‪ (( :‬بل هو آيات بيّنات في صدور الّذين أوتوا العلم‬
‫)) ‪ ،‬فليس هو من التّواضع لذات المعلّم ‪ ،‬قال في "الفيض" أيضًا ‪ :‬فإن المتعل م ينبغي له التملق لمعلمه وإظهار الشرف لخدمته وأن يلقى إليه زمام أمره ويذعن لنصحه إذعان المريض الجاهل للطبيب‬
‫المشفق الحاذق‪ .‬صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت له بغلته ليركب فأخذ ابن عباس بركابه فقال زيد ‪ :‬خ ِّل عنه يا ابن عم رسول هللا فقال ‪ :‬هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا ‪ ،‬فقبل زيد يده وقال ‪ :‬هكذا‬
‫أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا ‪.‬‬

‫* " لعلّه خير إن شاء هللا " ‪:‬‬

‫كان ث ّمةَ وزير صالح يتوكل على هللا في جميع أموره ‪ ،‬وكان يالزم الملك وينصح له ‪ ،‬ويكثر من قوله ‪ " :‬لعلّه خير إن شاء هللا " حتّى سئم الملك قوله ذلك ‪ ...‬فحصل يو ًما أن قُطع إصبع يد الملك ‪،‬‬
‫فقال الوزير كعادته ‪ " :‬لعلّه خير إن شاء هللا " !!!!! فغضب عليه فصاح به ‪ :‬أين الخير وأنت ترى ما بي وما أصاب إصبعي ؟ وأمر بسجنه ‪ ،‬فساقه األعوان إلى السّجن وهو يقول ‪ " :‬لعلّه خير إن‬
‫شاء هللا " !!!!!‬
‫وكان هذا الملك مول ًعا بالصّيد ‪ ،‬فيو ًما من األيّام تلى ذلك بمدّة خرج للصّيد في غابة شاسعة حتّى تجاوز أعوانه بمسافة بعيدة داخل الغابة ذاهال عن مخاطرها لولعه بما هو فيه حتّى لقيه قو ٌم َ‬
‫ع َبدة أصنام‬
‫صا ليذبحوه ويقرّ بوه قربانًا آللهتهم في ذلك اليوم الذي كان يوم عيدهم ‪ ،‬فأمسكوه ليكون هو قربانهم ‪ ...‬فذكر أنّه ملك واستغاثهم وبكى طويالً فلم يرحموه ‪...‬فل ّما أضجعوه للذّبح رأى‬ ‫كانوا يتصيّدون شخ ً‬
‫أحدهم القطع الذي بإصبعه ‪ ،‬فنادى أنْ بهذا الشّخص عيبٌ فانظروا ‪ ...‬فإنّه ال يُجزئ في نسُككم أن تذبحوا مثله ‪ ...‬فأطلقوه ‪.‬‬
‫قط ُع إصبعي يومها خيرا‬ ‫فذكر الملك حينها في نفسه قول الوزير له ل ّما قُطع أصبعه ‪ " :‬لعلّه خير إن شاء هللا " !!!!! وعاد فأمر بإطالقه من السّجن واعتذر له وأخبره خبره وقال ‪( :‬صدقت قد كان ْ‬
‫لي‪ ..‬ولوال ذاك لكانوا ذبحوني ‪ ،‬لكن ما بقي لم أفهمه هو قولك ل ّما أمرت بسجنك أيضًا ‪ " :‬لعلّه خير إن شاء هللا " !!!!! فأين الخير وأنت تُقاد للسجن؟ )‬
‫فقال الوزير ‪ :‬أنا مالز ٌم لك ال أتخلّف عن صحبتك فلو لم تأمر بسجني لكنت معك في الغابة وفي مجاوزتك األعوان وإذًا لقبضوا علينا معًا ‪ ،‬ولقدّموني أنا قربانا آللهتهم لسالمة أصابعي !!!!!‬

‫قال ابن أبي الدنيا في الرضا عن هللا بقضائه ‪ - 28‬حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا أبو أسامة ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا األعمش ‪ ،‬عن مسلم ‪ ،‬عن مسروق ‪ ،‬قال ‪ « :‬كان رجل بالبادية له كلب‬
‫وحمار وديك فالديك يوقظهم للصالة والحمار ينقلون عليه الماء ويحمل لهم خباءهم والكلب يحرسهم قال ‪ :‬فجاء ثعلب فأخذ الديك فحزنوا لذهاب الديك وكان الرجل صالحا فقال ‪ :‬عسى أن يكون خيرا‬
‫ثم مكثوا ما شاء هللا ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار فقتله فحزنوا لذهاب الحمار فقال الرجل الصالح ‪ :‬عسى أن يكون خيرا ثم مكثوا ما شاء هللا بعد ذلك ثم أصيب الكلب فقال الرجل الصالح ‪ :‬عسى أن‬
‫يكون خيرا ثم مكثوا بعد ذلك ما شاء هللا ‪ ،‬فأصبحوا ذات يوم فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم قال ‪ :‬وإنما أخذوا أولئك بما كان عندهم من الصوت والجلبة ولم يكن عند أولئك شيء يجلب ‪ ،‬قد‬
‫ذهب كلبهم وحمارهم وديكهم » ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫استفاض عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ‪ -‬وهو من الفقهاء العشرة ‪ -‬قوله ‪ :‬لو رفقتُ بابن عباس الستخرجتُ منه علما كثيرا ‪.‬‬

‫قال الشعبي والزهري ‪ :‬كان أبو سلمة يماري ابن عباس ؛ فحرم بذلك علما كثيرا ‪.‬‬

‫وقال ميمون بن مهران الرقي ‪ :‬ال تمار من هو أعلم منك؛ فإنك إن ماريته خزن عنك علمه ولم يبال ما صنعت ‪.‬‬

‫وقال ابن جريج ‪ :‬لم أخرج الذي قد استخرجت من عطاء إال برفقي به ‪.‬‬

‫عن عمر بن حفص األشقر قال ‪ :‬كنا مع البخاري بالبصرة نكتب ‪ ،‬ففقدناه أياما ‪ ،‬ثم وجدناه في بيت وهو عريان ‪ ،‬وقد نفد ما عنده ‪ ،‬فجمعنا له الدراهم ‪ ،‬وكسوناه ‪.‬‬
‫وقال البخاري ‪ :‬خرجت إلى آدم بن أبي إياس ‪ ،‬فتخلفت عني نفقتي ‪ ،‬حتى جعلت أتناول الحشيش ‪ ،‬وال أخبر بذلك أحدا ‪ .‬فلما كان اليوم الثالث ‪ ،‬أتاني آت لم أعرفه ‪ ،‬فناولني صرة دنانير ‪ ،‬وقال ‪ :‬أنفق‬
‫على نفسك ‪.‬‬
‫وعن صالح بن أحمد بن حنبل قال‪ :‬شهدت ابن الجروي وقد جاء بعد المغرب فقال ألبي ( أي أحمد ) أنا ر جل مشهور وقد أتيتك في هذا الوقت وعندي شيء قد اعتدته لك وهو ميراث فأحب أن تقبله فلم‬
‫يزل به فلما أكثر عليه قام ودخل قال صالح فأخبرت عن ابن الجروي انه قال قلت له يا أبا عبد هللا هي ثالثة آالف دينار فقام وتركني‪.‬‬
‫وعن عبد الرزاق ـ وذكر أحمد ـ فدمعت عينه ‪ .‬وقال ‪ :‬قدم وبلغني أن نفقته نفدت ‪ ،‬فأخذت عشرة دنانير ‪ ،‬وعرضتها عليه ‪ ،‬فتبسم ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا أبا بكر ‪ ،‬لو قبلت شيئا من الناس ‪ ،‬قبلت منك ‪ .‬ولم يقبل‬
‫مني ‪ ،‬شيئا ‪.‬‬
‫وقال أبو حاتم الرازي‪ :‬بقيت ثمانية أشهر بالبصرة‪ ،‬وكان في نفسي أن أقيم سنة‪ ،‬فانقطعت نفقتي‪ ،‬فجعلت أبيع ثيابي حتى نفدت‪ ،‬وبقيتُ بال نفقة‪ ،‬ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وطلب‬
‫ي رفيقي‪ ،‬فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد‪ ،‬وانصرفت‬ ‫الحديث‪ ،‬وأظل كذلك إلى المساء‪ ،‬فانصرف رفيقي‪ ،‬ورجعت إلى بيتي‪ ،‬فجعلت أشرب الماء من الجوع‪ ،‬ثم أصبحت فغدا عل ّ‬
‫جائعاً‪ ،‬فلما كان من ا لغد غدا علي‪ ،‬فقال‪ :‬مر بنا إلى المشايخ‪ ،‬فقلت له‪ :‬أنا ضعيف ال يمكنني‪ ،‬قال‪ :‬ما ضعفك؟ قلت‪ :‬ال أكتمك أمري‪ ،‬قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئاً‪ ،‬فقال‪ :‬قد بقي معي دينار‪،‬‬
‫فنصفه لك‪ ،‬ونجعل النصف اآلخر في الكراء‪ ،‬فخرجنا من البصرة‪ ،‬وأخذت منه نصف الدينار‪.‬‬
‫عنْ َو ِكيْع‪ ،‬قَالَ‪ :‬قَالَتْ أُم سُ ْفيَانَ ( الثّوري ) ِلسُ ْفيَانَ ‪ :‬يَا بن ّ‬
‫ي اطلب ْالعلم َوأَنا أَعُولَكَ بِمِ ْغزَ لِي‪.‬‬ ‫َو َ‬
‫ارةِ التَّ ْم ِر‪.‬‬‫ص‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫و‬
‫ِ َ َ َ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫َّ‬
‫الز‬ ‫نَ‬ ‫مِ‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ِي‬
‫د‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫ل‬ ‫ب‬
‫َ ِ ِ َ‬‫ا‬ ‫زَ‬ ‫م‬ ‫ى‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َى‬ ‫ق‬ ‫ْ‬
‫ُل‬ ‫ي‬ ‫ا‬‫م‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫أ‬‫ي‬
‫َ‬ ‫ك‬
‫َانَ‬ ‫ى‬‫َّ‬ ‫ت‬‫ح‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ِل‬ ‫ع‬ ‫ْ‬
‫ال‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫ِي‬ ‫ف‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ُب‬ ‫ش‬‫خ‬‫ُ‬ ‫باع‬ ‫ى‬ ‫َّ‬ ‫ت‬‫ح‬ ‫الفقر‪،‬‬ ‫من‬ ‫بيعة‬ ‫بر‬
‫َ‬ ‫نزل‬ ‫ما‬ ‫وذكر‬ ‫وقال مالك‪ :‬ال يُنال هذا العلم حتى يُذاق فيه طعْم الف ْقر‪،‬‬
‫وقال ابن القاسم ‪ :‬أفضى بمالك طلب العلم إلى أن نَقَض سقف بيته‪ ،‬فباع خشبه‪ ،‬ثم مالت عليه الدنيا بعدُ‪.‬‬

‫واقنع تعز‪ ،‬فقد قيل‪ :‬من قنع بالخبز والبقل لم يستعبده أحد‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ي في صيانة عرضك من التّعرّ ض لطلب الدنيا والذ ّل ألهلها‪،‬‬ ‫قال ابن الجوزي ‪ :‬اجتهدْ يا بن ّ‬
‫ومرّ أعرابي على البصرة فقال‪ :‬من سيد هذه البلدة ؟ قيل له‪ :‬الحسن البصري‪،‬‬
‫وبم سادهم؟‬
‫قال‪َ :‬‬
‫قالوا‪ :‬ألنه استغنى عن دنياهم‪ ،‬وافتقروا إلى علمه‪.‬‬
‫صيد الخاطر ص ‪509‬‬
‫وعن عيسى بن يونس قال‪ :‬ما رأينا في زماننا مثل األعمش ؛ ما رأينا األغنياء والسالطين في مجلس قط أحقر منهم في مجلس األعمش [ مع فقره وحاجته ] وهو محتاج إلى درهم‪.‬‬
‫حلية األولياء (‪ ،)47/5‬سير أعالم النبالء ‪.235/6‬‬
‫بقاال؟ كان يقذرني الناس أن يشتروا مني‪.‬‬ ‫فروا مقلوبًا‪ ،‬وقبا ًء تسيل خيوطه على رجليه‪ ،‬ثم قال‪ :‬أرأيتم لوال أني تعلمت العلم‪ ،‬من كان يأتيني لو كنت ً‬ ‫وقال سفيان بن عيينة‪ :‬رأيت األعمش لبس ً‬
‫‪ .‬تاريخ بغداد ‪5/10‬‬
‫وقال بعض الحكماء‪ :‬من أعطي العلم والقرآن ينبغي أن يعرف نفسه‪ ،‬وال يتواضع ألهل الدنيا ألجل دنياهم‪ ،‬فإنما أعطي أفضل ما أعطي أصحاب الدنيا‪ ،‬ألن هللا تعالى سمى الدنيا متاعا قليال‪ ،‬فقال‪(( :‬‬
‫قل متاع الدنيا قليل )) ‪ ،‬وسمى العلم والقرآن (( خيرا كثيرا )) ‪)) .‬‬
‫ي ‪331 /3‬‬ ‫‪ .‬تفسير القرطب ّ‬

‫هألنتطالب علم ؟‬

‫قال النووي رحمه هللا ‪ ( :‬وينبغي أن يكون حريصا على التعلم‪ ،‬مواظبا عليه في جميع أوقاته ليال ونهارا ‪ ،‬حضرا أو سفرا ‪ ،‬وال يذهب من أوقاته شيئا في غير العلم ‪ ،‬إال بقدر الضرورة ‪ ،‬ألكل ونوم‬
‫قدرا ال بد منه‪ ،‬ونحوهما كاستراحة يسيرة إلزالة الملل‪ ،‬وشبه ذلك من الضروريات‪،‬‬
‫وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة األنبياء ثم فو‪µ‬تها‪.‬‬
‫وقد قال الشافعي رحمه هللا في رسالته ‪ :‬حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في االستكثار من علمه ‪ ،‬والصبر على كل عارض دون طلبه ‪ ،‬وإخالص النية هلل تعالى في إدراك علمه نصا واستنباطا‪،‬‬
‫والرغبة إلى هللا تعالى في العون عليه " ‪.‬‬
‫وفي صحيح مسلم ‪1421‬عن يحيى بن أبي كثير قال ‪ " :‬ال يستطاع العلم براحة الجسم " )‪.‬‬
‫📖 "المجموع شرح المهذب" (‪.)37-1‬‬

‫طل دُكانه ‪ ،‬وخرّ ب بستانه ‪ ،‬وهجر إخوانه ‪ ،‬ومات أقرب أهله إليه فلم‬‫⬅ ونقل الخطيب البغدادي رحمه هللا عن أبي أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي قوله ‪ " :‬ال ينال هذا العلم إال من ع ّ‬
‫يشهد جنازته "‪.‬‬
‫قال القاضي بدر الدين ‪" :‬وهذا كله وإن كانت فيه مبالغة‪ ،‬فالمقصود أنه ال بد فيه من جمع القلب واجتماع الفكر وقيل‪ :‬أمر بعض المشايخ طالبا ً له بنحو ما رواه الخطيب فكان آخر ما أمره به أن قال‪:‬‬
‫اصبغ ثوبك كي ال يشغلك فكر غسله" ‪.‬‬
‫📖 الجامع ألخالق الراوي وآداب السامع (‪.)174/2‬‬

‫⬅ وقال ابن القيم رحمه هللا ‪ ... ( :‬وأما سعادة العلم فال يورثك إياها إال بذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية ‪ ...‬وقال مسلم في صحيحه ‪ :‬قال يحيى بن أبي كثير ‪ " :‬ال يُنال العلم براحة الجسم " ‪.‬‬
‫وقد قيل ‪ " :‬من طلب الراحة ترك الراحة " ‪ .‬ولوال جهل األكثرين بحالوة هذه اللذة وعظم قدرها لتجالدوا عليها بالسيوف ولكن ُحفَّت بحجاب من المكاره وحُجبوا عنها بحجاب من الجهل ليختصّ هللا‬
‫لها من يشاء من عباده وهللا ذو الفضل العظيم ) ‪.‬‬
‫📖 "مفتاح دار السعادة" (‪.)108/ 1‬‬

‫عن أبي يوسف أنه قال‪" :‬العلم شيء ال يعطيك بعضه حتى تعطيه كلّك‪ ،‬وأنت إذا أعطيته كلّك من إعطائه البعض على غرر"‪.‬‬

‫الجامع ألخالق الراوي (‪.)174/2‬‬

You might also like