شرح زبدة البلاغة 11

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 8

‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬

‫الر ِحيمِ‪.‬‬
‫حم ِن َّ‬ ‫بِس ِم اهللِّ َّ‬
‫الر َٰ‬

‫المادة‪ :‬شرح من ُظومة زُبدة البالغة‪.‬‬

‫الدرس‪ _11 :‬تابع المجاز‪.‬‬

‫رب العالمين والصال ُة والسال ُم على خاتم األنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه‬
‫هلل ِّ‬
‫الحمدُ ِّ‬
‫أجمعين‪.‬‬

‫وكنا مع البيت الثاين واألربعين‪ ،‬وهو متصل بشيء من البيت السابق له‪ ،‬ففي البيت السابق‬
‫ب ا ْل ِف ْع ِل" ثم قال‪:‬‬
‫"ون ْس ُ‬

‫س لِ ْل ِف ْع ِل‪.‬‬
‫كزم ٍن ُمالبِ ٍ‬ ‫=لِغ ْيرِ ما ُي ْبنى ل ُه ُق ْل‪ :‬ع ْق ِلي‬

‫ب ا ْل ِف ْع ِل" أي إسناده‪ ،‬والفعل يف األصل إن كان مبن ًيا للمعلوم أن يسند لمن قام بالفعل‪،‬‬
‫"ون ْس ُ‬
‫وإن كان مبن ًيا للمجهول فاألصل أن يسند إلى المفعول‪ ،‬فمثالً‪َ :‬سال‪ ،‬هذا الفعل أصله أن يسند إلى‬
‫الشيء الذي سال‪ ،‬فتقول‪ :‬سال الدمع‪ ،‬أو سال الماء يف الوادي‪ ،‬أو تقول‪ :‬سال السيل‪ ،‬أو جرى السيل يف‬
‫الوادي‪ ،‬أما الفعل المبني للمجهول فحقه وأصله أن يسند إلى ما كان يف األصل مفعو ً‬
‫ال‪ ،‬فإذا كنت تقول‪:‬‬
‫يف َض َرب زيد الطاولة‪ ،‬ضرب فعل مبني للمعلوم‪ ،‬فأسندته إلى من قام بالضرب‪ ،‬فإذا قلت‪ُ :‬ض ِر َب‬
‫وبنيت الفعل للمفعول‪ ،‬أو بتعبير آخر بنيت الفعل للمجهول‪ ،‬فإنك يف هذه الحالة تسنده إلى المفعول‬
‫وض ِرب يستحق نائب فاعل‪ ،‬وكل منهما له أصل هو هذا‬ ‫فتقول‪ُ :‬ض ِر َبت الطاولة‪َ ،‬‬
‫فض َرب يستحق فاعالً‪ُ ،‬‬
‫مجازا عقل ًّيا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الذي ذكرته‪ ،‬فإذا حصل تغيير بأن نسب الفعل لغير ما حقه أن يسند إليه فهذا مجاز‪ ،‬ويسمى‬
‫وبأمثلته التي تأيت يتضح أكثر مثالً الفعل َس ِعدَ ‪ ،‬أصله أن يسند إلى من حصلت له السعادة‪ ،‬فتقول مثالً‪:‬‬
‫س ِعدَ زيدٌ هذه األيام بكثرة الوالئم والطعام‪ ،‬ولكننا نجد الشاعر أسند السعادة والفعل ِ‬
‫َسعدَ إلى األيام‬ ‫َ‬
‫لس ِعدَ ‪ ،‬فأسند السعادة يف الفعل َس ِعدَ إلى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نفسها‪ ،‬فقال‪َ :‬سعدَ ت بِ ُغ َّرة وجهك األيا ُم‪ ،‬الحظ األيام فاعل َ‬

‫(‪)1‬‬
‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬
‫األيام‪ ،‬وحق السعادة أن تسند إلى من تحصل منه السعادة كما بينت‪ ،‬وهذا ما عرب عنه يف النظم بـ "كزم ٍن‬
‫س لِ ْل ِف ْع ِل"‪.‬‬
‫ُمالبِ ٍ‬

‫ب ا ْل ِف ْع ِل‪ ،‬لِغ ْيرِ ما ُي ْبنى ل ُه" يعني إسناد الفعل إلى غير الشيء الذي يستحق أن يسند إليه‪.‬‬
‫"ون ْس ُ‬

‫س لِ ْل ِف ْع ِل" يعني كأن تنسب الفعل‬


‫مجازا عقل ًّيا‪ ،‬ومن أمثلته "كزم ٍن ُمالبِ ٍ‬
‫ً‬ ‫" ُق ْل‪ :‬ع ْق ِلي" أي سمه‬
‫إلى الزمن‪ ،‬كما يف المثال الذي ذكرته َس ِعدَ ت بِ ُغ َّرة وجهك األيام‪.‬‬

‫ول او ف ِ‬
‫از ش ْر ٌط ث ِ‬
‫ان‪.‬‬ ‫قرِين ُة ا ْلمج ِ‬ ‫اع ٍل ْاو مك ِ‬
‫ان‬ ‫م ْف ُع ٍ ْ‬

‫ب ا ْل ِف ْع ِل"‬
‫والبيت متصل بما قبله من ذكر ما يسند إليه الفعل على سبيل المجاز‪ ،‬قال‪" :‬ون ْس ُ‬

‫س لِ ْل ِف ْع ِل‪.‬‬
‫كزم ٍن ُمالبِ ٍ‬ ‫=لِغ ْيرِ ما ُي ْبنى ل ُه ُق ْل‪ :‬ع ْق ِلي‬

‫فالفعل قد يسند إلى الزمن‪ ،‬كما أنه قد يسند إلى المفعول‪ ،‬أو الفاعل‪ ،‬أو المكان‪ ،‬كما يف هذا‬
‫ول او ف ِ‬
‫اع ٍل ْاو مك ِ‬
‫ان " ويالحظ وهذا أمر فاتني التنبيه عليه‪ ،‬أن الفعل عندما ينسب‬ ‫البيت الذي معنا "م ْف ُع ٍ ْ‬
‫ويسند لغير ما حقه أن يسند إليه؛ فإنه ال يسند إلى أي شيء‪ ،‬بل يسند إلى شيء ُيالبس الفعل‪ ،‬فالزمن‪،‬‬
‫والمكان‪ ،‬والمفعول‪ ،‬والفاعل‪ ،‬كلها مالبسات للفعل‪ ،‬كما أننا كنا يف المجاز المرسل نقول‪ :‬هناك عالقة‬
‫غير المشاهبة‪ ،‬الذي عالقته المشاهبة نسميه استعارة‪ ،‬يعني يف االستعارة ويف المجاز المرسل كانت عندنا‬
‫عالقة‪ ،‬وعندنا هنا مالبسة‪ ،‬والعالقة‪ ،‬والمالبسة شرط يف المجاز‪ ،‬شرط المجاز اللغوي وجود العالقة‪،‬‬
‫وشرط المجاز العقلي وجود المالبسة‪ ،‬والمالبسة‪ ،‬والعالقة‪ ،‬متقاربتان جدً ا يف المعنى‪.‬‬

‫نرجع إلى هذا البيت وإلى أمثلته‪ ،‬قد ينسب الفعل إلى المفعول‪ ،‬فمثالً تقول‪ِ :‬‬
‫رض َي زيد عيشته‪،‬‬
‫هنا أسند الفعل َر ِض َي إلى زيد‪ ،‬وهو الفاعل فاإلسناد حقيقي‪ ،‬وليس من المجاز بل هو حقيقة عقلية‪،‬‬
‫لكن إذا قلت‪َ :‬ر ِض َيت الحظ بالتأنيث َر ِض َيت عيشتي‪ ،‬العيشة كأهنا هي التي رضيت هكذا جاء الرتكيب‪،‬‬
‫وهو أسلوب معروف عند العرب‪َ ،‬ر ِضيت عيشتي‪ ،‬فالعيشة يف الحقيقة هي المفعول‪ ،‬وقلنا‪ :‬أن الفعل‬
‫المبني للمعلوم يسند إلى الفاعل‪ ،‬والفعل المبني للمجهول هو الذي يسند إلى المفعول‪ ،‬وهنا جاءت‬

‫(‪)2‬‬
‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬
‫َر ِضيت الفعل جاء مبني للمعلوم‪ ،‬ولكنه أسند إلى المفعول من باب المجاز العقلي‪ ،‬أسند الفعل إلى‬
‫مجازا؟ عندما يكون‬
‫ً‬ ‫المفعول‪ ،‬وقد يسند إلى الفاعل‪ ،‬قال‪" :‬او ف ِ‬
‫اع ٍل" متى يسند إلى الفاعل ونعتربه‬ ‫ْ‬
‫الفعل مبن ًيا للمجهول‪ ،‬فحقه أن يسند إلى المفعول‪ ،‬فإذا به يسند إلى الفاعل‪ ،‬وبالمثال يتضح المقال‪ ،‬إذا‬
‫قلت‪ :‬مأل السيل الوادي‪ ،‬فهذا أسلوب حقيقي ما الذي مأل الوادي؟ السيل‪ ،‬فالسيل فاعل‪ ،‬وأسند الفعل‬
‫ال يقولون لو قلت‪َ :‬أف َعم السيل الوادي‪ ،‬أفعم بمعنى مأل‪،‬‬
‫إليه‪ ،‬وهناك فعل يستخدمه البالغيون هنا مثا ً‬
‫فعم‪ ،‬بنيته للمجهول‪ ،‬فماذا ينبغي أن اقول إذا‬‫أفعم السيل الوادي‪ ،‬هذا أسلوب حقيقي‪ ،‬وإذا قلت‪ُ :‬أ ِ‬
‫فعم الوادي أي ملِئ‪ ،‬ولكنهم قالوا‪ُ :‬أ ِ‬
‫فعم السيل‪ ،‬هذا فعل‬ ‫أردت أن يكون األسلوب حقيقيا؟ أقول‪ُ :‬أ ِ‬
‫ُ‬ ‫ًّ‬
‫مبني للمجهول‪ ،‬ولكنه أسند إلى الفاعل الذي هو السيل‪ ،‬إذن أسند الفعل إلى الفاعل‪ ،‬الحظ إسناد‬
‫الفعل إلى الفاعل حقيقة‪ ،‬لكن هذا إذا كان مبنيا للمعلوم‪ ،‬وهو هنا مبني للمجهول ُأ ِ‬
‫فعم‪ ،‬لو قال‪َ :‬أف َعم‬ ‫ًّ‬
‫السيل‪ ،‬لكان أسلوبا حقيقيا‪ ،‬لكنه قال‪ُ :‬أ ِ‬
‫فع َم السيل فكان أسلو ًبا مجاز ًّيا‪.‬‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬

‫ان" فقد يسند الفعل إلى مكان الحدث ووقوع‬ ‫المالبسة الرابعة التي ذكرها هو قوله‪ْ " :‬او مك ِ‬

‫ال من أن يسند إلى الفاعل كما قلنا‪ ،‬ومنه قوله تعال‪َ ﴿ :‬ف َسا َل ْت َأ ْو ِد َي ٌة بِ َقدَ ِر َها﴾ ما الذي يسيل؟‬
‫الفعل‪ ،‬بد ً‬
‫اء َما ًء َف َسا َل ْت َأ ْو ِد َيةٌ﴾ الحقيقة أن الذي يسيل هو الماء‪ ،‬ولو قال‪ :‬فسالت مياه‪ ،‬أو‬ ‫قال‪َ ﴿ :‬أ َنز َل مِن السم ِ‬
‫َ َّ َ‬
‫سال الماء‪ ،‬لكان األسلوب حقيق ًّيا‪ ،‬لكنه قال‪َ ﴿ :‬ف َسا َل ْت َأ ْو ِد َيةٌ﴾ فأسند ونسب الفعل َسال إلى مكان‬
‫الفعل‪ ،‬إذ السيالن يكون يف مكان والبد والمكان هنا هو األودية‪ ،‬وهذا كما قلت‪ :‬من المجاز العقلي‪.‬‬

‫از ش ْر ٌط ث ِ‬
‫ان" وهذا يفهم منه أن هناك‬ ‫أما الشطر الثاين فنبه على شرط للمجاز‪ ،‬قال‪" :‬قرِين ُة ا ْلمج ِ‬

‫شر ًطا أول‪ ،‬والشرط األول لم يصرح به وإنما أشير إليه‪ ،‬فالشرط هناك شرط للمجاز اللغوي وهو وجود‬
‫عالقة‪ ،‬وهناك شرط للمجاز العقلي وهو وجود مالبسة‪ ،‬ثم هناك شرط ٍ‬
‫ثان للمجاز اللغوي‪ ،‬وللمجاز‬
‫العقلي‪ ،‬وهو وجود قرينة تدل على أن المتكلم ال يريد الحقيقة‪.‬‬

‫إذن المجاز اللغوي الذي يدخل فيه المجاز المرسل‪ ،‬واالستعارة له شرطان‪ :‬وجود عالقة‪،‬‬
‫ول او ف ِ‬ ‫ووجود قرينة‪ ،‬والمجاز العقلي له شرطان‪ :‬المالبسة "كزم ٍن مالبِ ٍ ِ ِ‬
‫اع ٍل ْاو مك ِ‬
‫ان"‪،‬‬ ‫س ل ْلف ْع ِل‪ ،‬م ْف ُع ٍ ْ‬ ‫ُ‬

‫(‪)3‬‬
‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬
‫والقرينة كذلك‪ ،‬فالقرينة شرط لكل مجاز سواء كان لغو ًّيا أو عقل ًّيا‪ ،‬ولو الحظتم األمثلة السابقة فإنكم‬
‫تجدون فيها سواء يف هذا الدرس أو يف الدروس السابقة‪ ،‬تجدون أن هناك شي ًئا يصرف حمل الكالم عن‬
‫ظاهره‪ ،‬فمثالً‪ :‬رأيت أسدً ا يحمل سي ًفا‪ ،‬حمل األسد للسيف قرينة دلتك على أننا ال نريد الحقيقة‪،‬‬
‫َر ِضيت عيشتي أنت تعرف أن العيشة ال ترضى‪ ،‬وإنما يرضى صاحبها‪ ،‬وهكذا يف كل مثال تجد شي ًئا‬
‫يقارن اللفظ‪ ،‬وقد يكون هو يف نفسه لف ًظا‪ ،‬وقد يكون قرينة حال‪ ،‬أو غير ذلك مما ال يعرف يف هذا‬
‫المختصر‪ ،‬وإنما فيما هو أطول منه‪ ،‬بل قد أفردت فيه كتب مطولة يف القرائن يف علم المعاين مثالً هذا‬
‫عنوان كتاب‪ ،‬وهناك عن القرائن يف المجاز أو كذا‪ ،‬والدراسات يف مثل هذا يتوسع فيها بعد دراسة أكثر‬
‫من كتاب يف البالغة‪.‬‬

‫وبعد أن انتهى الكالم على المجاز اللغوي أو ً‬


‫ال ثم المجاز العقلي ثان ًيا‪ ،‬حسن التنبيه على الفرق‬
‫بينهما وإن كانا قد يفهمه الدارس مما سبق‪ ،‬ولكن يحسن التنبيه؛ لحصول لبس عند بعض من يدرس‬
‫البالغة يف التفريق بين المجاز اللغوي‪ ،‬والمجاز العقلي‪ ،‬قال‪:‬‬

‫ف‪.‬‬ ‫ِاالسن ِ‬
‫اد‪ ،‬منْع أص ِل هذي ِن ا ْقت ِ‬ ‫ظ وا ْلع ْق ِل ُّي فِي‬
‫فال ُّلغ ِوي فِي ال َّل ْف ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ظ‪ ،‬وا ْلع ْق ِلي فِي ِاالسن ِ‬
‫اد" هذا هو الضابط‪ ،‬إن كان المجاز يف األلفاظ فهو مجاز‬ ‫"فال ُّلغ ِوي فِي ال َّل ْف ِ‬
‫ْ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬
‫لغوي‪ ،‬وقد مر معنا الحديث عنه أنه لفظ يستعمل يف غير ما وضع له‪ ،‬وإذا كان يف اإلسناد فإنه مجاز‬
‫عقلي‪ ،‬وقد مر معنا أنه نسب الفعل وإسناده إلى غير ما هو له‪ ،‬ومما يوضح هذا أكثر أنك إن استطعت يف‬
‫المجاز الذي تراه؛ أن تضع خ ًّطا تحت اللفظة التي استعملت يف غير ما وضعت له فهذا مجاز لغوي‪ ،‬وإذا‬
‫لم تستطع وضع خط تحت لفظة معينة‪ ،‬وإنما فهمت من الكالم التجوز فهذا مجاز عقلي‪ ،‬فمثالً‪ :‬رأيت‬
‫أسدً ا يحمل سي ًفا‪ ،‬هذا مجاز لغوي أم عقلي؟ هل تستطيع أن تضع خ ًّطا تحت الكلمة التي حصل فيها‬
‫المجاز؟ نعم كلمة أسدً ا‪ ،‬استعملت يف غير ما وضعت له تضع تحتها خ ًّطا‪ ،‬إذن هذا مجاز لغوي‪ ،‬ثم هو‬
‫عالقته المشاهبة فيكون من االستعارة‪.‬‬

‫(‪)4‬‬
‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬
‫﴿ َف َسا َل ْت َأ ْو ِد َيةٌ﴾ ما هي الكلمة التي استخدمت يف غير ما وضعت له؟ الحظ َسال استخدمت‬
‫فيما وضعت له‪ ،‬واألودية هي التي تكون وسط الجبال بصفتها المعروفة‪ ،‬فاألودية استخدمت بمعناها‪،‬‬
‫والسيالن استخدم بمعناه‪ ،‬وإنما حصل المجاز يف إسناد ونسب السيالن إلى الوادي؛ ولذلك لو وضعت‬
‫خ ًّطا تحت سال تكون مخط ًئا؛ ألن سالت استخدمت يف معناها األصلي‪ ،‬وكذلك لو وضعت الخط‬
‫تحت أودية‪ ،‬وإنما ال يمكن وضع خط؛ ألن وضع الخط إنما يكون على الشيء الملفوظ‪ ،‬واإلسناد أمر‬
‫معنوي ال يدرك‪ ،‬فال يمكن وضع خط يحدد موقع المجاز‪ ،‬وإنما هي العالقة والنسبة بين الفعل وما أسند‬
‫إليه‪.‬‬

‫أيضا من البيت السابق‬


‫ثم قال يف هناية البيت‪ ،‬وهو أمر مهم ينبغي التنبه له‪ ،‬وقد يفهمه السامع ً‬
‫از ش ْر ٌط ث ِ‬
‫ان" فقلنا‪ :‬أن قرينة المجاز أي األمر الذي يمنع من حمل‬ ‫القريب عندما قال‪" :‬قرِين ُة ا ْلمج ِ‬

‫الكالم عن الحقيقة شرط يف المجاز‪ ،‬سواء كان لغو ًّيا أو عقل ًّيا‪ ،‬قال هنا‪:‬‬

‫ف‬ ‫ِاالسن ِ‬
‫اد‪ ،‬منْع أص ِل هذي ِن ا ْقت ِ‬ ‫ظ وا ْلع ْق ِل ُّي فِي‬
‫فال ُّلغ ِوي فِي ال َّل ْف ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫"منع أص ِل هذي ِن ا ْقت ِ‬
‫ف" طبعا منع منصوب على اقتف‪ ،‬يعني اقتف منع أصل هذين‪ ،‬يعني أثبت‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫امتناع المعنى األصلي سواء يف المجاز اللغوي‪ ،‬أو يف المجاز العقلي‪ ،‬فقوله‪" :‬هذ ْي ِن" يعود إلى‬
‫المجازين‪ ،‬رأيت أسدً ا يحمل سي ًفا‪ ،‬يمتنع الحمل على المعنى األصلي‪ ،‬وهو أن يحمل األسد الحقيقي‬
‫سي ًفا‪َ ﴿ ،‬ف َسا َل ْت َأ ْو ِد َيةٌ﴾ ال يمكن حمل الكالم على حقيقته‪ ،‬يمتنع حمله على الحقيقة وهذا االمتناع قد‬
‫يكون بسبب العقل مانع عقلي‪َ ﴿ ،‬ف َسا َل ْت َأ ْو ِد َيةٌ﴾ العقل يقول لك‪ :‬األودية ال تسيل‪ ،‬وقد يكون المانع‬
‫مجرد العادة كما يف الحديث «حلق النبي ﷺ رأسه» من الذي قام بالحلق؟ من المعلوم أن العادة عند‬
‫الناس أن الذي يقوم بالحلق ليس نفس الشخص‪ ،‬وإنما شخص آخر‪ ،‬فنحمله على هذه العادة‪ ،‬فإذا‬
‫قلت‪ :‬حلقت رأسي اليوم‪ ،‬فإننا أو يف هذا الحديث «حلق النبي ﷺ رأسه» فاألصل أن يكون الحالق غير‬
‫النبي ﷺ‪ ،‬وغير من حلق رأسه‪ ،‬ويكون هذا من باب المجاز‪ ،‬وقرينته ليست االمتناع العقلي‪ ،‬إذ ال يمتنع‬
‫عقالً أن يحلق اإلنسان رأسه‪ ،‬لكن العادة أال يفعل اإلنسان ذلك إال يف ظروف معينة قد تضطره إلى ذلك‪،‬‬

‫(‪)5‬‬
‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬
‫أما األصل أنه ال يحلق رأسه بنفسه‪ ،‬فالقرينة قد تكون امتنا ًعا عقل ًّيا‪ ،‬وقد تكون امتنا ًعا يف العادة‪ ،‬وكما‬
‫قلت من قبل‪ :‬أمر القرينة طويل‪.‬‬

‫وهذه الخاتمة لهذا البيت "منع أص ِل هذي ِن ا ْقت ِ‬


‫ف" ممهدة للكالم عن الكناية الذي يأيت يف البيت‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫القادم وهو قوله‪:‬‬

‫وف ْاو ع ْن نِ ْسب ِة‪.‬‬


‫عن ِصف ٍة موص ٍ‬
‫ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫=وجاز ق ْصدُ ْاْل ْص ِل فِي ا ْلكِناي ِة‬

‫وهذا البيت يتكلم عن الكناية‪ ،‬وهو متعلق بالبيت السابق‪ ،‬ففي آخر البيت السابق "منع أ ْص ِل‬
‫ف" قلنا أن الحديث هناك عن امتناع المعنى األصلي يف المجاز‪ ،‬فنحمل الكالم على المجاز‪،‬‬ ‫هذي ِن ا ْقت ِ‬
‫ْ‬
‫وهذا يقودنا إلى الحديث عن الكناية‪ ،‬فإن الكناية يجوز فيها أن يراد المعنى األصلي‪ ،‬وهذا هو الفرق‬
‫الجوهري بين المجاز‪ ،‬والكناية‪ ،‬ففي المجاز يمتنع المعنى األصلي ونحمل على معنى آخر الزم له‪ ،‬ويف‬
‫الكناية نحمل الكالم على معنى آخر الزم للفظ‪ ،‬ولكن المعنى األصلي جائز‪ ،‬وبالمثال يتضح المقال‪،‬‬
‫إذا قلت‪ :‬زيد ال يغلق بابه‪ ،‬فاطلب منه ما شئت‪ ،‬أنا أقصد أنه كريم‪ ،‬ولكنني أتيت هبذا األسلوب للتدليل‬
‫كريما وليس هناك دليل على كرمه‪،‬‬
‫ً‬ ‫على صدقي‪ ،‬لو قلت له‪ :‬زيد كريم فاطلب منه‪ ،‬قد تتوهم أنني أظنه‬
‫فإذا قلت‪ :‬زيد ال يغلق بابه فاطلب منه‪ ،‬فإنني أتيت بالدليل على كرمه مع اإلشارة إلى كرمه‪ ،‬والحظ أن‬
‫الكرم هو المقصود‪ ،‬ولكن المعنى األصلي وهو عدم إغالق الباب غير ممتنع عقالً‪ ،‬فيمكن لرجل كريم‬
‫مفتوحا؛ ليدخل الطالب‪ ،‬والسائلون‪ ،‬واألضياف ونحوهم‪ ،‬ولذلك قال هنا‪:‬‬ ‫ً‬ ‫أن يفتح بابه ويظل بابه‬
‫"وجاز ق ْصدُ ْاْل ْص ِل فِي ا ْلكِناي ِة" يف المجاز يمتنع المعنى األصلي‪ ،‬يف الكناية يجوز‪ ،‬ال يجب ولكن‬
‫يجوز قصد األصل يف الكناية‪.‬‬

‫ثم أشار يف الشطر الثاين إلى أنواع الكناية‪ ،‬وهنا نالحظ أن الكناية يف اللغة تأيت بمعنى السرت‪،‬‬
‫والكناية التي نتكلم عنها عند البالغيين فيها سرت‪ ،‬إذ فيها إخفاء لشيء‪ ،‬واظهار لشيء ليس هو المقصود‪،‬‬
‫وإنما ذلك المخفي هو المقصود‪ ،‬فمثالً كما مر معنا زيد ال يغلق بابه‪ ،‬المقصود الكرم‪ ،‬وقد أخفيت صفة‬

‫(‪)6‬‬
‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬
‫الكرم وأتيت بشيء يدل عليها‪ ،‬وهو أنه ال يغلق بابه‪ ،‬فسرتت الصفة التي هي الكرم‪ ،‬فهذه تسمى كناية‬
‫المكنَى عنه المستور‪.‬‬
‫عن صفة وهي أحد أقسام الكناية باعتبار ُ‬
‫أما الحالة الثانية‪ :‬فهي أن أسرت الموصوف كما قال سبحانه وتعالى‪﴿ :‬وحم ْلنَاه َع َلى َذ ِ‬
‫ات َأ ْل َواحٍ‬ ‫َ َ َ ُ ٰ‬
‫َو ُد ُس ٍر﴾ أي حملناه على سفينة كما ذكر يف آيات متعددة‪ ،‬الفلك والسفينة التي ركبها نوح ومن آمن معه‪،‬‬
‫فقال هنا يف سورة القمر‪﴿ :‬وحم ْلنَاه َع َلى َذ ِ‬
‫ات َأ ْل َواحٍ َو ُد ُس ٍر﴾ لم يصرح والحظ أن الكناية سرت‬ ‫ٰ‬ ‫َ َ َ ُ‬
‫والتصريح إظهار‪ ،‬فعكس الكناية التصريح‪ ،‬لم يصرح باسم السفينة وإنما أتى بوصفها‪ ،‬فسرت الموصوف‬
‫وهو السفينة‪ ،‬وأتى بصفتها وهي أهنا ﴿ َذ ِ‬
‫ات َأ ْل َواحٍ َو ُد ُس ٍر﴾ لنكتة لطيفة جدً ا‪ ،‬وهي إظهار أن نجاة نوح‬
‫عليه الصالة والسالم ومن معه ليست لقوة السفينة‪ ،‬فالسفينة إنما هي ألواح ودسر أي مسامير‪ ،‬فكيف‬
‫تكون سببا للنجاة؟ وإنما كانت سببا للنجاة لما جاء بعد ذلك قال‪﴿ :‬وحم ْلنَاه َع َلى َذ ِ‬
‫ات َأ ْل َواحٍ َو ُد ُس ٍر •‬ ‫َ َ َ ُ ٰ‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫َت ْج ِري بِ َأ ْع ُينِنَا﴾ فألهنا جرت برعاية من اهلل وحفظه نجا من فيها‪ ،‬وإال فما تغني األلواح والدسر عن‬
‫طوفان كان يجري هبم يف موج كالجبال‪.‬‬

‫وهنا نوع ثالث أخير ختم به قال‪ْ " :‬أو ع ْن نِ ْسب ِة" قلنا هناك كناية عن صفة‪ ،‬وهناك كناية عن‬
‫موصوف‪ ،‬وبقيت الكناية عن النسبة‪ ،‬إذ الكالم صفة‪ ،‬وموصوف‪ ،‬ونسبة‪ ،‬إذا قلت‪ :‬زيد كريم‪ ،‬فزيد‬
‫موصوف‪ ،‬وكريم صفة‪ ،‬وقد أسندت إليه الكرم؛ ألن هذا خرب وهذا مبتدأ‪ ،‬أسندت إليه الكرم وهذه هي‬
‫كريما‪ ،‬فتكون نسبة النفي‪ ،‬نفيت النسبة‪.‬‬
‫النسبة‪ ،‬قد تكون النسبة مثبتة‪ ،‬وقد تكون منفية‪ ،‬أقول‪ :‬ليس زيد ً‬

‫نرجع إلى بعد هذا إلى النوع الثالث من الكناية‪ ،‬قلنا كناية عن صفة ذكر فيها الكرم مثالً يف زيد ال‬
‫يغلق بابه‪ ،‬وكناية عن موصوف كما يف ﴿وحم ْلنَاه َع َلى َذ ِ‬
‫ات َأ ْل َواحٍ َو ُد ُس ٍر﴾ وكناية عن نسبة نذكر الصفة‪،‬‬ ‫َ َ َ ُ ٰ‬
‫والموصوف‪ ،‬ولكن ال نسند أحدهما إلى اآلخر‪ ،‬فأقول لك‪ :‬إذا جاء زيد يف المجلس جاء العلم واألدب‪،‬‬
‫هذا يعني أن زيدً ا عالم ذو أدب‪ ،‬ولو قلت‪ :‬زيدٌ عالم‪ ،‬فهذا تصريح ليس فيه إخفاء ذو أدب كذلك‪ ،‬فإذا‬
‫قلت‪ :‬إذا جاء زيد جاء العلم واألدب‪ ،‬فقد سرتت العالقة بين زيد‪ ،‬والعلم واألدب‪ ،‬مع أنني ذكرت العلم‬
‫واألدب‪ ،‬وذكرت زيدً ا‪ ،‬فذكرت الصفة والموصوف‪ ،‬وسرتت وأخفيت النسبة‪.‬‬

‫(‪)7‬‬
‫خاص بمعهد اإلمام ابن مالك للتأسيس اللغوي‪ ،‬وال ُيسمح بتداوله ونشره‬
‫يف هذا القدر كفاية إن شاء اهلل‪ ،‬وبه ينتهي الكالم على علم البيان‪.‬‬

‫نسأل اهلل والمدد والتوفيق للجميع‪ ،‬وصلى اهلل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪،‬‬
‫رب العالمين‪.‬‬
‫والحمدُ هلل ّ‬

‫(‪)8‬‬

You might also like