بلفقيه الفكر السياسي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 45

‫جامعة سيدي دمحم بن عبد هللا بفاس كلية العلوم القانونية واالقتصادية واالجتماعية فاس الموسم الجامعي ‪0200/0202‬‬

‫حماضرات يف تاريخ األفكار السياسية‬


‫تاريخ الفكر السياسي القديم‬

‫ذ‪ :‬عبد الحق بلفقيه األسدس الخامس‬

‫جرد عام للتمثالت المفاهيمية حول المادة‬

‫ما بني مفاهيم تاريخ األفكار السياسية تاريخ الفكر السياسي‪ /‬الفلسفة السياسية ‪/‬‬

‫تاريخ املؤسسات السياسية النظرية السياسية‬

‫لماذا تدريس مادة تاريخ األفكار السياسية ؟‬


‫‪ ‬فترة ما قبل الفلسفة التحليل األسطوري للظواهر الطبيعية‪← ،‬الفلسفة (الفلسفة الطبيعية)‬
‫‪ ‬منهج التأمل العقلي‪← ،‬الفلسفة السياسية‪ ← ،‬العلوم السياسية ‪ /‬علم السياسة‬
‫‪Idées← La pensé← La Doctrine← Idéologie← pouvoir← Paradigme‬‬
‫توطئة عامة‬
‫اختلفت اآلراء حول مضامين تاريخ الفكر السياسي ومناهجه فالبعض يسعى إلى التركيز على تاريخ المؤسسات‬
‫والوقائع االجتماعية ويخصص لها حيزا واسعا في الكتب والمؤلفات والبعض اآلخر يعطي أهمية قصوى للنظريات‬
‫والمذاهب السياسية التي حاولت رصد مواصفات النظام السياسي األفضل والبعض األخير يرادف تاريخ الفكر السياسي‬
‫بأهم القضايا التي تمت معالجتها‪.‬‬
‫سيبقى الفكر السياسي متطورا في محدداته وتفسيراته بفعل الحركة الدائمة والمتغيرات المتالحقة التي تؤثر في‬
‫اإلنسان والدولة والمجتمع الدولي‪ .‬وسنة التطور هذه متأرجحة بين المادة والفكر‪ ،‬أو بين المادية والمثالية ومتأثرة‬
‫بمتغيرات الواقع االجتماعي‪ ،‬الذي هو نتاج عوامل مادية وإنسانية متشابكة‪ .‬إن أية فكرة سياسية تبدو متالزمة مع‬
‫محيطها‪ ،‬وما يحمله من معطيات ومتغيرات‪ ،‬وأحيانا مفاجآت‪.‬‬
‫‪ ‬فالفلسفة السياسية اإلغريقية ارتبطت أساسا بمناقشة إشكالية تنظيم الدولة ‪ -‬المدينة ‪ ، City State‬أو التنظيم‬
‫السياسي السائد في ذلك العصر والذي كان يعتبر بمثابة التنظيم األرق‪ .‬ولقد دارت مجمل األفكار حول الديمقراطية‬
‫والحرية والسلطة انطالقا من واقع أثينا الديمقراطية‪ ،‬أو إسبارطة األرستقراطية‪ ،‬أو غيرهما من المدن اليونانية القديمة‪.‬‬
‫‪ ‬ثم تفاعلت الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬وفي رحمها الفلسفة السياسية‪ ،‬مع واقع الخالفة‪ ،‬والمعتقدات الدينية بما فيها من‬
‫عبادات وقواعد معامالت بين البشر‪ ،‬وبما أوجدته من متغيرات في عالقات األفراد والجماعات‪ .‬لم تنقطع عن الفكر‬
‫السياسي اليوناني‪ ،‬وبخاصة في المنهج‪ ،‬ولكنها وصلت مع عدد من األعالم وفي طليعتهم عبد الرحمن بن خلدون ‪ .‬إلى‬
‫مفاهيم جديدة حول فلسفة التاريخ‪ ،‬والعمران البشري كأساس محوري لالجتماع اإلنسان ي‪.‬‬
‫في مجمل هذه المراحل التطورية ظل الفكر السياسي يبحث عن تفسيرات وتوقعات للظاهرة السياسية‪ ،‬أو الظاهرة‬
‫المتصلة بالسلطة وشؤون الحكم‪.‬‬
‫ودار البحث‪ ،‬وال يزال دائرا‪ ،‬حول ما هو كائن في المجتمع السياسي‪ ،‬أو حول ما يجب أن يكون سائدا ومطبقا على‬
‫أن هذا الفكر السياسي كان متأثرا بالحضارة الزراعية‪ ،‬أو الثورة الزراعية التي عرفت في مراحل متقدمة أشكال‬
‫اإلقطاع‪ ،‬والتي أفرزت بدورها معطيات سياسية محددة‪.‬‬
‫حتى إذا تفجرت الثورة الثانية أو الثورة الصناعية األوروبية‪ ،‬أخذ الفكر السياسي يتعامل مع ظواهر اقتصادية‬
‫واجتماعية وسياسية جديدة‪ ،‬ليس أقلها تحول المجتمعات األوروبية من مرحلة اإلقطاع إلى مرحلة البورجوازية‬
‫الصناعية‪.‬‬
‫في هذه المرحلة الجديدة‪ ،‬نشأ معطى أساسي في الفكر السياسي هو تنظيم الدولة القومية‪ Etat Nation ،‬أو دولة‬
‫المجموع الشعبي بصرف النظر عن اإلقطاع الديني واالنقسامات الدينية‪.‬‬
‫ثم ارتبطت الدولة القومية بفكرة السيادة التي أطلقها ‪،‬بودان والتي تحولت إلى مبدأ عام في تأسيس الدولة‪ ،‬حتى‬
‫صارت الحقا قاعدة مركزية لقيام الدولة‪ ،‬واالعتراف بها‪ ،‬والتعامل معها‪.‬‬
‫* وبالتزامن انتقال أوروبا من التنظيم اإلقطاعي إلى التنظيم الرأسمالي‪ ،‬تحققت هذه النقلة السياسية النوعية مع‬
‫مكيافللي وهوبز وبودان ولوك ‪،‬وروسو‪ ،‬وبعدما حققت حركة اإلصالح الديني التي قادت إلى البروتستانتية ‪ -‬متغيرا‬
‫جديدا تمثل بانطالقة عصر التنوير‪ ،‬والذي مهد بدوره ‪ ...‬لعلمنة الدولة والمجتمع في أوروبا‪.‬‬
‫عامة‪ ،‬يرمي تاريخ الفكر السياسي" إلى "دراسة اإلطار السياسي واالقتصادي واالجتماعي والتطورات المختلفة التي‬
‫واكبت عملية إنتاج المفاهيم والقوالب النظرية المجردة في مجال الفكر السياسي"‪ .‬وإذا كانت هذه المقتربات الهادفة إلى‬
‫تعريف تاريخ الفكر السياسي متكاملة في بعض جوانبها‪ ،‬فإن ما يلفت االنتباه هو المحور األساسي الذي يدور حوله‬
‫تاريخ الفكر السياسي أال وهو "السلطة" كمجال أوسع من محور "الدولة"‪ ،‬والتي يمكن مقاربتها من زوايا مختلفة ‪:‬‬
‫سياسية وحقوقية ومؤسساتية وفكرية وفلسفية الخ ‪.....‬‬
‫وإذا كان تاريخ الفكر السياسي يكتسح مجاالت واسعة للمعرفة والعلوم؛ وهذا ما يطرح إشكالية منهجية تتعلق بتحديد‬
‫الزمان والمجال وتحديد موضوعه كموضوع قائم بذاته‪ ،‬فإن اإلطار الزمكاني للمادة شاسع جدا‪ ،‬لكن العتبارات‬
‫بيداغوجية ومن أجل إعطاء نظرة شمولية حول تسلسل األفكار السياسية وتحليلها وتطورها من خالل مراحل تطور‬
‫الفكر السياسي في بعدها الزماني خصوص في مرحلة الفكر السياسي القديم وصوال إال ما بعد العصور الوسطى‬
‫وظهور المعالم األولى للدولة الوضعية األقرب إلى المفهوم الحديث للدولة ‪ ....‬أن نميز بين بعض مراحل كل حقبة‬
‫تاريخية بحسب تميزها في مجال الفكر السياسي وذلك قصد إبراز أوجه التداخل وحدود التأثيرات والتفاعل بين مختلف‬
‫األفكار السياسية بدءا من المدينة الفاضلة ووصوال إلى ظهور المحددات األولى للدولة الوضعية مع ماكيافيلي‪.‬‬
‫احملور األول‪ :‬مقدمات حول األسس األوىل لدراسة تاريخ الفكر السياسي القديم‬
‫المقدمة األولى‪ :‬حول مفهوم الفلسفة السياسية‬
‫المقدمة الثانية ما بين مفاهيم الفكر السياسي الفلسفة السياسية النظرية السياسية‬
‫المقدمة الثالثة حول مفهوم السلطة السياسية‬
‫المقدمة الرابعة‪ :‬ارتباط الفكر السياسي بمشكلة عالقة الحرية والسلطة‬
‫المقدمة الخامسة‪:‬‬
‫احملور الثاني‪ :‬رحلة الفكر السياسي القديم‬
‫من الفكر األسطوري إىل التأسيس اإلغريقي للشأن السياسي كمحور أساسي من حماور التفكري الفلسفي‬

‫الفصل األول األطر العامة للفكر السياسي القديم‪.‬‬


‫الفصل الثاني‪ :‬الفكر السياسي في عهد اإلغريق‪ :‬بزوغ حركة فكرية فلسفية مناهضة لديمقراطية آتينا‬
‫المبحث األول‪ :‬الفلسفة السياسية عند أفالطون (فكرة) الدولة الفاضلة‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أرسطو أو المنهج السياسي المعتدل (نظرية الدولة الدستورية عند أرسطو)‬
‫المبحث الثالث ما بعد انهيار فكرة المدينة ‪ -‬الدولة (المدرسة األبيقورية المدرسة الكلبية ‪ /‬المدرسة الرواقية‪.‬‬
‫الفصل ‪ :3‬أرسطو‬
‫الفصل ‪ :4‬اضمحالل فكرة الدولة ‪ -‬المدينة ‪.‬‬
‫احملور الثالث‪ :‬الفكر السياسي الروماني وامتدادات املدرسة الرواقية‬
‫الفصل األول‪ :‬سيشرون ( تمثالت أشكال الحكومات أو بحث الحكومة الصالحة)‪.‬‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬سنيكا ( الحكيم و السياسة)‪.‬‬
‫احملور الرابع‪ :‬الفكر السياسي الديني اإلسالمي واملسيحي‪:‬‬

‫صراع وجدال السلطتني الزمنية والروحية‬


‫الفصل األول ‪ :‬أطروحة القديس أوغسطين وسؤال التمييز بين مدينة هللا والمدينة األرضية‪ :‬الدولة مؤسسة سلبية‬
‫والعدالة مرتبطة بالكنيسة‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬أطروحة القديس األكويني وسؤال التوفيق بين اإليمان والعقل ‪ :‬الكنيسة واحدة والدول متعددة‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الفكر السياسي اإلسالمي‬
‫فكرة الدولة عند ابن خلدون ما بين نظريتي العصبية والدولة‬
‫العقل طوماس األكويني‬
‫احملور اخلامس‪ :‬الفكر السياسي بعد العصر الوسيط‬
‫الفكر السياسي االستبدادي‬
‫الفصل األول ‪ :‬ماكيافيلي (الدولة (المجتمع (واألخالق‬
‫الفصل الثاني ‪ :‬جان بودان (أصل الدولة والسيادة)‬
‫الفصل الثالث ‪ :‬توماس هوبز حالة الطبيعة ونشأة الدولة العقد االجتماعي‬
‫احملور األول‪ :‬مقدمات حول األسس األوىل لدراسة تاريخ الفكر السياسي القديم‬
‫املقدمة األوىل‪ :‬حول مفهوم الفلسفة السياسية‬
‫أصبحت «الفلسفة السياسية»‪ ،‬في الغالب‪ ،‬مرادفة «لأليديولوجيا»‪ ،‬وليس «لألسطورة»‪ .‬وتفهم بالتأكيد في مقابل‬
‫«العلم السياسي»‪ .‬والتمييز بين السياسية والعلم السياسي هو نتيجة للتمييز األساسي بين الفلسفة والعلم ‪.‬‬
‫وحتى هذا التمييز األساسي ذو أصل حديث نسبيا‪ ،‬فالفلسفة والعلم ليسا حسب ما جرت العادة متميزين فقد كان العلم‬
‫الطبيعي جزءا من األجزاء األكثر أهمية للفلسفة‪ .‬وكانت الثورة العقلية العظيمة في القرن ‪ 71‬التي كشفت عن علم‬
‫طبيعي حديث ثورة لفلسفة جديدة أو علما في مقابل فلسفة تقليدية أو علما تقليديا بصفة خاصة فلسفة أرسطو‪.‬‬
‫ظهرت الفلسفة السياسية داخل حياة سياسية معينة في فترة زمنية معينة فترة اليونان‪ ،‬ومن وجهة النظر التقليدية‬
‫فإن سقراط االثني هو مؤسس الفلسفة السياسية وتسمى بالفلسفة السياسية الكالسيكية حيث كانت هي الفلسفة السياسية‬
‫المهيمنة حتى ظهور الفلسفة السياسية الحديثة في القرنين ‪ 71‬و ‪ 71‬م‪.‬‬
‫والحقيقة أن سقراط لم يكن بالتأكيد هو الفيلسوف األول‪ .‬وهذا يعني أن الفلسفة السياسية سبقتها الفلسفة كمجال‬
‫أوسع ومنهج عقلي بحثي يعبر عن التأمالت العقلية‪ ،‬إذ أطلق أرسطو على الفالسفة األوائل « أولئك الذي بحثوا في‬
‫الطبيعة‪ :‬وهو يميزهم عن أولئك الذين بحثوا في اآللهة‪ .‬فما عساها أن تكون الطبيعة‪.‬‬
‫‪ .‬الموضوع األول للفلسفة هو « الطبيعة »‪ ،‬فما عساها أن تكون الطبيعة ؟‪.‬‬
‫« الطبيعة » تعنى هنا طابع شيء ما‪ ،‬أو طابع نوع من األشياء‪ ،‬أي الطريقة التي يبدو فيها شيء ما أو نوع من‬
‫األشياء‪ ،‬وتبدو فيها األفعال‪ ،‬وال يؤخذ الشيء‪ ،‬أو نوع الشيء‪ ،‬على أنه قد خلقته اآللهة أو الناس‪ .‬لكن يبدو أن الكلمة‬
‫اليونانية للطبيعة ) ‪ )physis‬تعنى أساسا « النمو »‪ ،‬ومن ثم فهي تعنى أيضا ما ينمو فيه الشيء‪ ،‬إنها تعنى لفظ «‬
‫النمو » ‪ ،‬أي الطابع الذي يمتلكه شيء ما عندما يكتمل نموه‪ ،‬أي عندما يستطيع أن يفعل ما يستطيع أن يفعله أو يفعله‬
‫بصورة أفضل الشيء الذي ينمو تماما من النوع الذي نتحدث عنه فقط‪.‬‬
‫فاألشياء مثل األحذية أو الكراسي ال « تنمو »‪ ،‬ولكنها تصنع‪ ،‬فهي ليست « بالطبيعة » بل بالصنعة أو « بالفن »‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى هناك أشياء « بالطبيعة » دون أن « تنمو »‪ ،‬وحتى دون أن تخرج إلى حيز الوجود بأية طريقة ‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن الطبيعة إذا فهمت ال تعرف عن طريق الطبيعة ‪.‬‬
‫ـ قبل اكتشاف الطبيعة عرف الناس أن لكل شيء أو نوع شيء (طريقته) أو (عادته)‪ ،‬أي صورته الخاصة من (السلوك المنتظم)‪.‬‬
‫إن هناك طريقة أو عادة للنار‪ ،‬وللكالب‪ ،‬وللنساء‪ ،‬وللمجانين وللموجودات البشرية‪ ،‬إذ إن النار تحرق والكالب تنبح وتهز ذيولها‪،‬‬
‫والنساء يلدن‪ ،‬والمجانين يهذون‪ ،‬والموجودات البشرية تتكلم ‪ .‬ومع ذلك فإن هناك أيضا طرقا وعادات للقبائل البشرية المتنوعة ( أعنى‬
‫المصريين‪ ،‬والفرس‪ ،‬واإلسبرطيين‪ ،‬والمؤابيين ‪ ....‬إلخ ‪.‬‬
‫وقد أصبح االختالف الجذري بين هذه األنواع من« الطرق » أو « العادات » موضع اهتمام عن طريق اكتشاف‬
‫الطبيعة فقد أدى اكتشاف الطبيعة إلى انفصال « الطريقة » أو « العادة » إلى « الطبيعة » بمعنى النمو ‪ physis‬من‬
‫جهة‪ ،‬وإلى اختراع « القانون » أو الناموس ( ‪ ) nomos‬والعرف من جهة أخرى‪.‬‬
‫فالقول؛ مثال‪ ،‬إن الموجودات البشرية تستطيع أن تتكلم هو أمر طبيعي‪ ،‬غير أن القول إن هذه القبيلة المعينة تستخدم‬
‫هذه اللغة المعينة يرجع إلى العرف ويستلزم هذا التمييز أن ما هو طبيعي يسبق ما هو وضعي أو عرف إن التمييز بين‬
‫الطبيعة والعرف أساسي للفلسفة السياسية الكالسيكية‪ ،‬وحتى لمعظم الفلسفات السياسية الحديثة‪ ،‬كما يمكن أن نراه‬
‫ببساطة في التمييز بين الحق الطبيعي والحق الوضعي‪.‬‬
‫عندما تكتشف الطبيعة وتفهم في جوهرها على أنها معارضة للقانون أو العرف‪ ،‬يصبح من الممكن بل من الضروري إثارة هذا السؤال‪:‬‬
‫هل األشياء السياسية طبيعية‪ ،‬وإذا كانت كذلك‪ ،‬فإلى أي حد ؟‬ ‫‪‬‬
‫إن السؤال نفسه يتضمن أن القوانين ليست طبيعية‪ ،‬لكن طاعة هذه القوانين تعد بوجه عام عدالة‪ .‬لذلك يكون المرء‬ ‫‪‬‬
‫مجبرا على أن يتساءل عما إذا كانت العدالة وضعية فقط‪ ،‬أو عما إذا كانت هناك أشياء عادلة بطبيعتها‪،‬‬
‫وهل القوانين وضعية فقط‪ ،‬أو تمتد جذورها في الطبيعة ؟‬ ‫‪‬‬
‫أال يجب أن تكون القوانين « متفقة مع ا الطبيعة » طبيعة اإلنسان بصفة خاصة إذا أريد لها أن تكون قوانين صالحة ؟‬ ‫‪‬‬
‫وإذا كانت القوانين هي أساس المجتمع السياسي أوهي من صنعه‪ ،‬فهل المجتمع السياسي نفسه موجود بالطبيعة ؟‬ ‫‪‬‬
‫أال يجب أن تكون القوانين « متفقة مع ا الطبيعة » طبيعة اإلنسان بصفة خاصة إذا أريد لها أن تكون قوانين صالحة ؟‬ ‫‪‬‬
‫وإذا كانت القوانين هي أساس المجتمع السياسي أوهي من صنعه‪ ،‬فهل المجتمع السياسي نفسه موجود بالطبيعة ؟‬ ‫‪‬‬
‫أما بالنسبة لوجهة النظر المضادة فيكفي هنا أن نقول إن سقراط ‪،‬طورها‪ ،‬وقد جاوزت الفلسفة السياسية الكالسيكية‬
‫بوجه عام وجهات النظر المبكرة إلى حد كبير ‪.‬‬
‫•‪ .‬ما الذي نعنيه إذن بالقول بأن سقراط هو مؤسس الفلسفة السياسية ؟‬
‫لم يكتب سقراط أي كتب وكما تروى التقارير األكثر قدما‪ ،‬فإن سقراط تحول عن دراسة األشياء اإللهية أو الطبيعية‬
‫ووجه أبحاثه كلها نحو األشياء اإلنسانية؛ األشياء العادلة واألشياء النبيلة واألشياء الخيرة بالنسبة لإلنسان من حيث‬
‫هو إنسان؛ إنه كان يتحدث باستمرار عن «من هو التقي‪ ،‬من هو النبيل‪ ،‬ومن هو الوضيع ومن هو العادل‪ ،‬ومن هو‬
‫الظالم‪ ،‬ما هو الوقار‪ ،‬ما هو الجنون‪ ،‬ما هي الشجاعة‪ ،‬وما هو الجبن‪ ،‬وأساسا ما هي المدينة‪ ،‬من هو السياسي‬
‫رجل الدولة‪ ،‬ما الذي يعنيه حكم البشر‪ ،‬ومن هو اإلنسان الذي يستطيع أن يحكم الناس‪ ،‬وأشياء مماثلة» ‪.‬‬
‫وقد تابع سقراط بحوثه عن طريق المحادثات‪ .‬وهذا يعني أنه بدأ من آراء يتمسك بها الناس بوجه عام‪.‬‬
‫ومن بين اآلراء التي يتمسك بها الناس بوجه عام والتي لها سلطة كبيرة تلك اآلراء التي تقرها المدينة وقوانينها أي‬
‫يقرها العرف المقدس بصورة كبيرة‪.‬‬
‫قد يقول المرء إن القانون البشرى يبرهن‪ ،‬بالتالي على أنه يشير إلى القانون اإللهي أو الطبيعي على أنه أصله‬
‫ومصدره‪ .‬ومع ذلك فإن هذا يتضمن أن القانون البشرى‪ ،‬ألنه بدقة ال يتوحد مع القانون اإللهي أو الطبيعي‪ ،‬ال يكون‬
‫صادقا أو عادال بصورة مطلقة‪ ،‬فالحق الطبيعي فقط‪ ،‬أي العدالة ذاتها‪ ،‬أو « فكرة » أو « صورة » العدالة ‪ ،‬هو الذي‬
‫يكون عادال بصورة مطلقة ‪ .‬وعلى الرغم من ذلك فإن القانون البشري ؛ أي قانون المدينة ‪ ،‬ملزم بصورة مطلقة‬
‫للناس الذين يخضعون له شريطة أن يكون لديهم الحق أن يهجروا ملكيتهم ؛ أعنى شريطة أن يكون خضوعهم لقوانين‬
‫مدينتهم عن رضا وبصورة إرادية ‪.‬‬
‫يظهر السبب الدقيق الذي يكمن وراء القول بأن سقراط هو مؤسس الفلسفة السياسية عندما ينظر المرء إلى طابع‬
‫المسائل التي عالجها في محادثاته ‪ .‬لقد أثار التساؤل « ماذا عساه أن يكون ‪ ...‬؟ »‪ ،‬ملتفتا إلى كل شيء ‪ .‬والمقصود‬
‫من هذا السؤال أن يلقى ضواء على طبيعة نوع الشيء الذي يتحدث عنه؛ لقد أخذ سقراط‪ ،‬كما يبدو‪ ،‬المعنى األولى «‬
‫للطبيعة بصورة جدية أكثر من أي واحد من سابقيه ؛ فلقد أدرك أن الطبيعة » هي أساسا صورة » أو « فكرة » ‪ .‬وإذا‬
‫كان ذلك صحيحا‪ ،‬فإنه لم يتحول ببساطة عن دراسة األشياء الطبيعية‪ ،‬لكنه ابتكر نوعا جديدا من دراسة األشياء‬
‫الطبيعية‪ ،‬أعنى نوعا من الدراسة تكون فيها الطبيعة‪ ،‬مثال ‪ ،‬أو فكرة العدالة‪ ،‬أو الحق الطبيعي‪ ،‬وبالتأكيد طبيعة النفس‬
‫البشرية واإلنسان أكثر أهمية من دراسة الشمس مثال ‪ .‬ال يستطيع المرء أن يفهم طبيعة اإلنسان إذا لم يفهم طبيعة‬
‫المجتمع البشرى‪.‬‬
‫ولقد افترض سقراط‪ ،‬وكذلك أفالطون وأرسطو أن الصورة األكثر كماال للمجتمع البشري هي المدينة ‪polis .‬‬
‫وتؤخذ المدينة اليوم عادة لتكون مدينة الدولة اليونانية ‪ .‬بيد أنه ليس ضروريا بالنسبة للفالسفة السياسيين الكالسيكيين أن‬
‫المدينة كانت أكثر شيوعا بين اليونان من غير اليونان وبالتالي؛ يجب على المرء أن يقول إن موضوع الفلسفة السياسية‬
‫الكالسيكية ليس المدينة الدولة اليونانية‪ ،‬وإنما ‪ .‬المدينة ‪ -‬الدولة بصفة عامة وذلك يفترض سلفا أن المدينة الدولة صورة‬
‫خاصة من «الدولة»‪.‬‬
‫إنها تفترض بالتالي مفهوم الدولة من حيث إنه يضم المدينة ‪ .‬الدولة بين صور أخرى من الدولة ومع ذلك فإن‬
‫الفلسفة السياسية الكالسيكية ينقصها مفهوم « الدولة »‪ .‬فعندما يتحدث الناس اليوم عن « الدولة »‪ ،‬فإنهم يفهمون «‬
‫الدولة » عادة في مقابل « المجتمع ‪ .».‬وهذا التمييز كان غريبا على الفلسفة السياسية الكالسيكية‪ .‬وال يكفي القول بأن‬
‫المدينة تضم كال من الدولة والمجتمع‪ ،‬ألن مفهوم « المدينة » يسبق التمييز بين الدولة والمجتمع‪ ،‬ولذلك ال يفهم المرء‬
‫« المدينة » بالقول إن المدينة تشمل الدولة والمجتمع معا‪.‬‬
‫إن المرادف الحديث « للدولة » على مستوى فهم المواطن هو « الوطن ‪ . ».‬ألنه عندما يقول شخص ما مثال إن «‬
‫الوطن في خطر »‪ ،‬فإنه ال يقوم أيضا‪ ،‬مع ذلك بتمييز بين الدولة والمجتمع‪ .‬إن السبب في اهتمام الفالسفة السياسيين‬
‫الكالسيكيين بالمدينة اهتماما رئيسيا هو أنهم لم يتجاهلوا الصور األخرى للمجتمعات بوجه عام والمجتمعات السياسية‬
‫بوجه خاص‪.‬‬
‫إذ إنهم عرفوا القبيلة ) أي األمة ‪ ،‬كما عرفوا بناءات مثل اإلمبراطورية الفارسية ‪ .‬لقد اهتموا أماسا بالمدينة ألنهم‬
‫فضلوا المدينة على الصور األخرى للمجتمع بوجه عام والمجتمعات السياسية بوجه خاص إذ إنهم عرفوا القبيلة ) أي‬
‫األمة ) ‪ ،‬كما عرفوا بناءات مثل اإلمبراطورية الفارسية ‪ .‬لقد اهتموا أساسا بالمدينة ألنهم فضلوا المدينة على الصور‬
‫األخرى للمجتمع السياسي‪ .‬وقد يقال إن أسباب هذا التفضيل هي ‪ :‬أن القبائل ليست لديها مقدرة على حضارة أسمى وال‬
‫تستطيع مجتمعات كبيرة للغاية أن تكون مجتمعات حرة ‪.‬‬
‫املقدمة الثانية ما بني مفاهيم الفكر السياسي الفلسفة السياسية‪ /‬النظرية السياسية‬
‫يعتبر الفكر السياسي من أهم حقول العلوم السياسية‪ ،‬بل ويعتبر أصل وجذر الدراسات السياسية بمعنى أنه ال يمكن‬
‫فهم قضية من القضايا السياسية دون الرجوع إلى النشأة والجذر الفكري األول وكيف تطور‪ .‬ولفهم الفكر السياسي وما‬
‫يدرسه من قضايا وأفكار الزم على الباحث في المجال الرجوع بداية إلى مفهوم السلطة السياسية‪.‬‬
‫الفكر السياسي يدور بشكل أساسي حول ظاهرة السلطة السياسية‪ ،‬بمعنى أن الفكر السياسي هو الفكر الناتج عن‬
‫دراسة وتأمل ظاهرة السلطة السياسية‪ ،‬وهو بذلك يهتم أساسا بتفكيك وتحليل ظاهرة "السلطة السياسية" إما بشكل‬
‫مباشر أو غير مباشر‪ ،‬فكل شيء متعلق بالسلطة كظاهرة سياسية فكريا يدخل في باب الفكر السياسي الذي ابتدأ التفكير‬
‫واالشتغال عليه منذ االنتقال منك حالة الفرد إلى حالة الجماعة‪.‬‬
‫ما بين مفهومي الفكر السياسي والنظرية السياسية‬
‫الفكر السياسي هو فكر عام سواء طبق أو لم يطبق على أرض الواقع‪ ،‬وهنا يختلف مفهوم الفكر السياسي عن مفهوم‬
‫"النظرية السياسية"‪.‬‬
‫من جهة أولى؛ يمكن القول أنه عندما نتحدث عن النظرية السياسية‪ ،‬نتحدث عن األفكار السياسية التي طبقت على‬
‫أرض الواقع‪.‬‬
‫ومن بين األفكار التي تسعى للتمييز بين مفهومي "الفكر السياسي" و"النظرية السياسية"‪ ،‬من وجهة ثانية نجد الفكرة‬
‫القائلة بأن النظرية السياسية تتحدد عندما نرفع معياري الزمان والمكان عن الفكر السياسي‪ ،‬بمعنى مجموعة من‬
‫القواعد المتماسكة بالتطبيق بالحاضر وبالمستقبل‪ ،‬ولعلها أيضا كانت بالماضي‪ ،‬وبالتالي تصبح الفكرة أو النظرية يحملها‬
‫الطابع التجريدي وال يحكمها معياري الزمان والمكان‪.‬‬
‫ما بين الفكر السياسي والفلسفة السياسية‬
‫الفكر السياسي أعم وأشمل من الفلسفة السياسية الفلسفة السياسية يهذا المعنى‪ ،‬هي "منهج عقلي بحثي‪/‬‬
‫الفلسفة السياسية تعبر عن منهج التأمالت العقلية لدراسة الظاهرية السياسية"‪ ،‬بخالف الفكر السياسي الذي يعتبر‬
‫"أعم من اعتماد المنهج العقلي فقط‪ ،‬يمكن مثال في تحليل الظاهرة السياسية اعتماد المقاربة الدينية؛ بمعنى تم إقحام‬
‫بعد نقدي في القضية‪.‬‬
‫املقدمة الثالثة‪ :‬حول مفهوم السلطة السياسية‬
‫من المفاهيم األولية المبسطة للسلطة نجد مثال القول ب "الحق في التصرف الحق في األمر والنهي"‪ .‬لكن من خالل‬
‫الدراسة التي نحن بصددها‪ ،‬نقول بأن "السلطة السياسية هي اإلرادة العليا التي تملك الحق على فرض قدرتها وإرادتها‬
‫على غيرها من اإلرادات داخل المجتمع اإلنسان ي أو المجتمع السياسي‪ .‬فهي االرادة العليا المنفردة التي ال يمكن‬
‫الوقوف ضدها‪.‬‬
‫الحديث عن السلطة السياسية هو تجلي وإعالن عن االنتقال من الحالة الفردية إلى حالة الجماعة‪.‬‬
‫السلطة السياسية نشأت مع ضرورة االنتقال إلى حالة الجماعة كضرورة وحاجة واقعية‪ .‬وعند االنتقال إلى جانب‬
‫الممارسة تنتقل إلى النظريات المؤسسة لهذه السلطة؛ بمعنى مصدر هذه السلطة سواء كان الشعب أو الملك أو القوة‬
‫وغيرها من النظريات الماطرة المصدر السلطة السياسية‪ .‬والقصد؛ أن السلطة السياسية هي المرجع المخول من قبل‬
‫الناس لتطبيق القانون‪ ،‬واإلمساك بالقوة التي تكره العامة كي ينصاعوا الحكم القانون‪.‬‬

‫السلطة السياسية بهذا المعنى ال تتعلق بطبيعة القرار ومن يصدره‪ ،‬وإنما تتعلق بالقدرة على فرض هذا القرار‪ ،‬هنا‬
‫نتحدث عن السلطة السياسية‪ .‬ففي بداية تكون المجتمع اإلنسان ي لم تكن هناك سلطة سياسية‪ ،‬ومن هنا نجد مجموعة‬
‫من التفسيرات والنظريات التي هدفت إلى تفسير نشأة السلطة السياسية؛ ومنها نظرية الحاجة األسرة‪ ،‬نظرية القوة‬
‫نظرية العقد االجتماعي النظريات الدينية النظرية الماركسية وغيرها‪.‬‬
‫املقدمة الرابعة‪ :‬ارتباط الفكر السياسي مبشكلة عالقة احلرية والسلطة‬
‫ما بني قوة اإلكراه اليت متارسها السلطة وميول الناس إىل احلرية يبقى الفكر السياسي جمتهدا يف إطار فكرة العدالة‪ ،‬حبيث‬

‫ال يطغى فرد على فرد أو طبقة على طبقة‪ ،‬أو فئة على فئة إنها جدلية التناقض والصراع الدائم ما بني مفهومي السلطة واحلرية‪.‬‬

‫كان واليزال أهم اهتمامات الفكر السياسي عامة هذا االهتمام الدؤوب بمشكلة الحرية والسلطة؛ ال لشيء إال ألن‬
‫األمر مرتبط أساسا بجوهر اإلنسان ومحيطه‪ .‬وهنا ؛ ساد عبر التاريخ اعتقاد شائع يقول مثال بتصنيف الفكر‬
‫والمفكرين على أساس من هم في جانب الحرية ومن هم ضدها؛ لكن الحقيقة الواقعية واألكيدة هي أن كل واحد أو كل‬
‫صف فهم وتمثل الحرية بمفهومه الخاص؛ مفهوم انعكس عنه تجسيد واقعي وتمثل لكيفية ممارسة السلطة؛ أو إذا أردنا‬
‫القول لنوع معين من األنظمة السياسية‪ .‬في هذا الصدد‪ ،‬نجد من صنف الصنف األول أمثال أرسطو واألكويني ولوك‬
‫وميل‪ ،‬في الصف المدافع عن الحرية بينما في الصنف اآلخر يوجد أمثال أفالطون ومكيافيللي وهوبز وهيغل وبورك‬
‫المعنيين بموضوع النظام‪ .‬وفي اعتقادنا؛ مثل هذا التوجه مضلل إن لم نقل خاطئ؛ فأرسطو واألكويني ولوك وميل‬
‫كانوا معنيين أيضا بموضوع النظام قدر اهتمامهم بموضوع الحرية‬
‫والغريب في األمر والذي يتماشى مع هذا الطرح هو أكثر الفالسفة ليبرالية أخذ يرسم نفسه الحد والحاجز الذي‬
‫يتوجب أن تقف عنده الحرية‪ .‬فعندما تحدث لوك مثال عن القانون باعتباره يوسع مدى الحرية لم يكن يناقض هيغل الذي‬
‫اعتقد بدوره أن الحرية تبلغ كمالها في الدولة (موريس کرانستون)‪.‬‬
‫وبالتالي؛ عاش وال زال يعيش تاريخ الفكر السياسي تمايز عظيم حول مفهوم الحرية؛ لكن ما يميز هذه الرحلة منذ‬
‫المدينة الفاضلة ووصوال إلى مفهوم الدولة الحديثة (دولة (الفانون) هو االهتمام العميق بموضوعي السلطة والحرية‬
‫على صعيدي المفهوم والقيمة‬
‫ومن أهم خالصات هذه الرحلة الطويلة الجدل الذي الزال قائما والذي يدور على التمييز بين مفهوم للحرية يعتبر‬
‫أنها ازالة العوائق من أمام اإلنسان ليفعل ما يشاء‪ ،‬ومفهوم يدعو الى االلتزام بفعل ما يتوجب على اإلنسان فعله‪.‬‬
‫فبعض الفالسفة كأرسطو وروسو وهيغل دافع عن فكرة ان اإلنسان يكون حرا عندما يحقق ما يتوجب عليه تحقيقه‬
‫بينما اآلخرون مثل هوبز ولوك وميل دافعوا عن وجهة نظر تقول بان اإلنسان هو حر ما دام طليقا من القيود‪.‬‬
‫ويبقى أهم القضايا التي اشتغل الفكر السياسي‪ ،‬كتتويج للجدل المتعلق بعالقة السلطة بالحرية‪ ،‬عبر التاريخ قضية‬
‫الدولة؛ نشوء وتطور مفهوم الدولة وتمثالتها عند مختلف الفالسفة‪ .‬الحديث عن "قضية الدولة" هو حديث باألساس عن‬
‫تقاطع مجموعة من المحاور والقضايا؛ فعندما نتحدث عن الدولة نتحدث باألساس عن حدود العالقة بين الحرية والسلطة‪،‬‬
‫نتحدث عن السيادة ومستوياتها‪ ،‬نتحدث عن طبيعة النظام السياسي السائد‪ ،‬نتحدث أيضا عن العدالة والديمقراطية‬
‫والمساواة وحقوق اإلنسان وغيرها من القضايا‪.‬‬
‫منها اتفق المفكرون السياسيون على أن الفكر السياسي يستند إلى فكرة الدولة‪ ،‬حتى قيل عند بعضهم أن علم‬
‫السياسة يكاد يتماهى مع علم الدولة‪.‬‬
‫املقدمة اخلامسة‪ :‬رؤية عامة حول تطور فكرة الدولة كمحور الدراسات السياسية منذ زمن بعيد‬

‫الدولة المدينة الدولة الفاصلة الدولة الدستورية الدولة العالمية اإلمبراطورية‪ ،‬مدينة هللا الخالفة وشروطها الدولة‬
‫الوضعية‪ .‬المصطنعة (الدولة التنين الدولة القومية الدولة األمة وصوال إلى تمثل الدولة الحديثة‪ ...‬مسار طويل أخده الفكر‬
‫السياسي في عالقته بتطور فكرة الدولة‪ ،‬وتحولها تدريجيا إلى مؤسسة تعني في ما تعني االنتظام العام وااللتزام بالقاعدة‬
‫القانونية الضابطة‪ ،‬وتحقيق الخير العام للناس المنضوين في نطاق الدولة أو في إقليمها الجغرافي‬
‫منذ بزوغ الفكر السياسي اليوناني القديم وصوال إلى الفكر السياسي الحديث والمعاصر‪ ،‬ومرورا باألفكار المسيحية‬
‫واإلسالمية تمحورت "الفلسفة السياسية حول الدولة في مبررات نشأتها‪ ،‬وفي وظائفها‪ ،‬وفي أهدافها‪ ،‬وفي بنيتها‬
‫كمؤسسة ‪ .‬وقد قيل بأن الدولة هي مؤسسة المؤسسات أو أنها المؤسسة األكبر في المجتمع اإلنسان ي‪ ،‬أو المؤسسة‬
‫الناظمة للحياة العامة‪.‬‬
‫ومهما تعددت المرجعيات الفكرية التي تؤسس لقيام الدولة سواء كانت أسطورية أو دينية أو وضعية‪ ،‬بيد أن الدولة‬
‫تبقى عامة من صنع اإلنسان في إطار االجتهاد العقلي‪ .‬إنها معطى إرادي لإلنسان بحكم الحاجة والضرورة مهما‬
‫اختلفت وظائفها‪ ،‬وتعددت أشكال نظمها السياسية‪.‬‬
‫من الناحية التاريخية‪ ،‬ظهرت الدولة األقرب إلى المفهوم الحديث نهاية القرون الوسطى‪ ،‬وذلك‬
‫نتيجة تجميع ومركزة السلطة في يد حاكم واحد كرد فعل من جهة ضد النظام اإلقطاعي المتعدد الوالء (فقد كانت‬
‫سلطة السيد المالك على رعاياه سببا في نشأة العديد من الدويالت ومنه إلى المركزية السلطة)‪ ،‬وضد سلطة البابا‬
‫واإلمبراطور من جهة أخرى‪ ،‬أي في وجه ما كان يسمى باإلمبراطورية الجرمانية الرومانية المقدسة‪.‬‬
‫عموما‪ ،‬تميزت نهاية العصور الوسطى في أوروبا باحتدام الصراع داخل الكنيسة وصل ذروته مع « االنشقاق‬
‫الكبير» (‪ ) 8381-8731‬الذي قسم العالم المسيحي بين بابا روما وبابا أفينيون‪ .‬وقد ساهمت عدة عوامل في تثبيت‬
‫السلطة الزمنية وتحررها تدريجيا من قبضة رجال الدين ونشر بذور حركة البعث (النهضة) واإلصالح‪ ،‬منها على وجه‬
‫الخصوص التي كانت توجه من طرف المثقفين والمفكرين االنتقادات ورجال الدين أنفسهم ضد ما أسماه مارسيليو دي‬
‫بادو (‪ )8717-8731‬بـ « نظام االستعمار البابوي» الذي جعل الكنيسة وحدها صاحبة الفصل في كل أمور الفرد‬
‫المسيحي أكانت أخالقية أم سياسية أم اقتصادية والمشرفة على الحكومات المدنية وتوجيهها وفق مشيئتها وتأويالتها‬
‫الالهوتية‪ ،‬فضال عن الدعوات اإلصالحية التي كانت تنادي بإصالح الكنيسة من ذلك حركة مارتن لوتر وجون كالفن‪.‬‬
‫ظهرت اإلرهاصات األولى للدولة القومية" أو «الدولة الوضعية ‪ -‬األمة » في ظل الحكم الملكي المطلق فملكها‪ ،‬كما‬
‫يقول جون جاك شوفا لي هو الذي يجسدها ويحكمها ‪ .".‬وتنقسم هذه المرحلة من زاوية الفكر السياسي إلى حقيبتين‬
‫مختلفتين ‪:‬‬
‫‪ ‬الحقبة األولى التي تمتد إلى حدود بلوغ « الدولة األمة » ذروتها في عهد الملك لويس الرابع عشر ستشهد‬
‫ظهور كتاب « األمير » لـ « ماكيافيلي ‪ ، » 8187‬أب السياسة‪ ،‬سيهيمن على هذه الحقبة بصورة واضحة‬
‫مذهب "السيادة للحكم الملكي وستؤثر بشكل كبير على كل العصور الالحقة‪ ،‬أو ما يسمى أيضا بنظرية «‬
‫الحق اإللهي للملوك» الذي سيجسدها كل من جان بودان في فرنسا في كتابه « الجمهورية ( ‪» ) 8131‬‬
‫وتوماس هوبز » في انجلترا في كتابه « اللفيتان ( ‪. » ) 8118‬‬
‫‪ ‬الحقبة الثانية سيطبعها عصر األنوار حيث اهتدى المفكرون بنور العقل وجعلوه سلطة قائمة بذاتها ال تعلوها‬
‫أية سلطة أخرى‪ ،‬وأخضعوا لنقده كل األفكار التي كانت سائدة في زمانهم وقد واكب الفكر السياسي هذه‬
‫الحقبة التاريخية من خالل وضعه لتصورات جديدة تعيد لإلنسان اعتباره وحقوقه وللمجتمع فضيلته‪ ،‬وتجعل‬
‫حدا للنزعة االستبدادية التي طبعت « الدولة األمة »‪،‬‬

‫وقد جسد هذه الحقبة كل من جون لوك ( ‪ )71347137‬ومونتيسكيو (‪ ) 7111-7161‬وجون جاك روسو (‬
‫‪. )7171 - 7116‬‬
‫وإذا كان مكيا فيل يعتبر أول من استعمل "الدولة" بالمفهوم األقرب إلى المفهوم السياسي الحديث‪ ،‬فإنها في تصوره ال‬
‫تنفصل بتاتا عن األمير وعن سلطته‪ ،‬فهو لم يهتم بأصل الدولة وال بتطورها وشرعيتها كما فعل الفالسفة والمفكرون من‬
‫قبله‪ ،‬بل عالجها ككيان موجود يجب العمل على تقويته وتوسيع نفوذه واالحتفاظ به بجميع الوسائل حتى بوسائل النذالة‬
‫والضغينة‪ ،‬أي اللجوء إلى األعمال الوحشية‪.‬‬
‫وإن مهد مكيافيلي الطريق حين فصل بين السياسي واألخالقي‪ ،‬وحين ركز على فعل القوة في السيادة كما هي مجسدة‬
‫في سلوكها (ميدان عملها‪ ،‬لكنه في الواقع لم يكتشف جوهر السيادة‪ ،‬وهي المهمة التي ستكون من نصيب جان بودان‬
‫(‪0351-0351‬‬
‫اهتم مكيا فيل بالشعب في حين اهتم بودان بالدولة‪ ،‬ولذلك نجح األول في تحليل "القوة التي يجسدها األمير ضد‬
‫شعبه وأعدائه للحفاظ على ملكه‪ ،‬أما بودان فقد "قاده اهتمامه بالدولة وتفسير الدولة ككيان مجرد إلى ا كتشاف جوهر‬
‫السيادة"‪.‬‬
‫من جانبه انطلق طوماس هوبس في معالجة مشكلة الموجبات السياسية من زاوية األفراد ومصالحهم الذاتية‪ ،‬بحيث‬
‫كانت الدولة بالنسبة إلية كائنا مصطنعا أوجده اإلنسان ‪ ،‬ال كال عضويا نما نموا طبيعيا‬
‫عرف الفكر السياسي‪ ،‬إذن‪ ،‬تنظيرا غزيرا حول الدولة القومية في مبرراتها‪ ،‬وقوامها‪ ،‬وكيفيات الدفاع عنها من‬
‫مكيافللي وصوال إلى هيغل الذي رأى فيها ظاهرة قائمة بذاتها‪ ،‬ولها خصوصيتها وثقافتها وشخصيتها السياسية‬
‫والقانونية‪.‬‬
‫بيد أن التنظير في هذا المضمار لم يحل دون نشوء تفاوت اجتماعي بين الطبقات االجتماعية األوروبية خالل القرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬مع تطور الثورة الصناعية‪ .‬وصار الفكر السياسي مطالبا باإلجابة عن سؤال كبير هو ‪ :‬كيف نصون‬
‫الحقوق الطبيعية لألفراد في ظل سيادة الدولة القومية ؟ ثم كيف نرتقي بهذه‬
‫الحقوق الطبيعية لتصير حقوقا اجتماعية مع االشتراكية‪ ،‬أو حقوقا طبقية الماركسية ؟‬
‫جاءت اإلجابات المتعددة مع االشتراكية الطوباوية أو المثالية التي تحفرت لتحسين الواقع االجتماعي للعاملين في‬
‫الحقل أو المصنع‪ .‬وأعطت أفكارا ‪،‬حالمة بعضها رومانسي ‪ -‬شاعري‪ ،‬وبعضها اجتماعي ‪ -‬تنظيمي وصل مرحلة‬
‫المطالبة بإنشاء نقابات العمال‪ ،‬حتى إذا انطلقت الماركسية من خالل البيان الشيوعي ( ‪ ، ) 8111‬راحت تنتقد هذه‬
‫االشتراكية المثالية‪ ،‬وتتحدث عن اشتراكية علمية تقوم على منهج جدلي ‪ -‬مادي ) ديالكتيك ( وتكشف مكامن االستغالل‬
‫الطبقي ‪ .‬االجتماعي في الرأسمالية الصناعية‪ ،‬أو عند الطبقة البورجوازية الحاكمة والمتحكمة ‪ .‬بتعبير آخر‪ ،‬عرف‬
‫الفكر السياسي ثورة معرفية كبرى من خالل التنظير السياسي لالشتراكية بعد الرأسمالية التي هي المحتوى االقتصادي‬
‫للفلسفة الليبرالية ‪.‬‬
‫مع تعاظم الثورة الصناعية‪ ،‬شهد الفكر السياسي نقالت نوعية جديدة خالل القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين‬
‫حصلت مع هيغل وماركس وماكس فيبر ‪ ...‬لقد تطرق ذاك الفكر إلى شرعية السلطة‪ ،‬من حيث مصادرها وطرق‬
‫حمايتها‪ .‬إنها بطبيعة الحال مرتبطة بالمسألة الديمقراطية‪ ،‬التي ما برحت تالزم الفكر السياسي منذ مدينة أفالطون‬
‫المثالية‪.‬‬
‫بعد الحرب العالمية األولى وما تبعها من نشوء دول جديدة بحيث زاد عدد الوحدات المكونة لألسرة الدولية‪ ،‬فتح‬
‫نقاش واسع حول المسألة الديمقراطية من االتحاد السوفياتي في ظل اللينينية إلى الغرب الليبرالي الذي حاول تجديد‬
‫فكره السياسي‪ .‬بل إن الفكر القومي األوروبي الذي عرفته أوروبا في القرن التاسع عشر‪ ،‬امتد في االجتماعية‬
‫والسياسية إلى آسيا وأفريقيا وأميركا الالتينية تأثيراته وانعكاساته إذا كانت الظاهرة االستعمارية ‪ -‬األوروبية ‪ -‬أوجدت‬
‫مقاومات تحررية لها في البالد واألمم المستعمرة فإن عالمات استفهام عدة وضعت حول حقيقة الديمقراطية الليبرالية ؟‬
‫وإذا كانت الفاشية والنازية اللتان نشأتا في مهد الليبرالية ‪ -‬بزرتا حكم القائد والزعيم األوحد‪ ،‬فإن الفكر السياسي راح‬
‫ينشغل بمدى عالقة الديمقراطية بالظاهرة القومية ؟ بتعبير ثم تعمق الفكر السياسي في مضامين الديمقراطية والقومية‬
‫تحت وطأة الحرب الباردة حيث الصراع اإليديولوجي محتدم بين الليبرالية والماركسية ‪ -‬اللينينية‪ ،‬أو بين العالم‬
‫االشتراكي والعالم الحر‪ .‬ومن أبرز أسباب هذا المعطى ‪ :‬قيام « دولة الرفاه » االجتماعي في الغرب كردة فعل على ما‬
‫أوجدته االشتراكية من تقديمات وضمانات اجتماعية لفئات واسعة من الناس‪ .‬ونشوء حركات قومية تحررية في العالم‬
‫النامي ‪ -‬الذي أسمي العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية ‪ -‬ذات محددات سياسية غير فاشية وغير نازية ‪ .‬إضافة‬
‫إلى تضافر الجهود اإلنسان ية ‪ -‬مضمار الكشوفات العلمية والمعرفية الجديدة وما وفرته من معطيات إضافية لمكافحة‬
‫المرض والجهل والتخلف االجتماعي والسياسي‪...‬‬
‫اعتقد بعض المنظرين في الفكر السياسي أن العالم قد التقى حول نقاط مشتركة في احترام حقوق اإلنسان ‪ ،‬وصون‬
‫السلم واألمن الدوليين بعد قيام منظمة األمم المتحدة كمنظمة دولية جامعة‪ ،‬وإعطاء مضامين سياسية واجتماعية مشتركة‬
‫للديمقراطية‪ ،‬وتحقيق تعاون دولي واسع‪ ...‬بيد أن الحرب الباردة بين القوتين العظمتين ( االتحاد السوفياتي السابق‬
‫والواليات المتحدة ومن يدور في فلكهما ) تكفلت بتبديد فكرة استقرار العالم ‪ .‬ثم جاء سقوط جدار برلين في العام‬
‫‪ ،8111‬وسقوط اال تحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية‪ ،‬ليوجه ضربة قوية للفكر الماركسي دون أن يلغي تأثيراته‬
‫وإنجازاته ‪ ،‬وليفتح الباب أمام تطوير ) « ليبرالية جديدة »‪ ،‬اعتقد بعض المنظرين بقدرتها على وضع حد للصراع‬
‫الفكري ‪ .‬وتزامن هذا المتغير مع اتساع ظاهرة العولمة بفعل ثورة المعلومات واالتصاالت الحديثة ‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه أن هذه الحقبة التاريخية عرفت منعطفا كبيرا حيث شكلت الركيزة األساسية لنشأة "الدولة الحديثة"‬
‫التي ستقوم على أسس وقواعد جديدة تحت تأثير الثورات األمريكية سنة ‪ 8331‬والفرنسية سنة ‪ 8311‬من جهة وتحت‬
‫وطأة التحوالت االقتصاد ية واالجتماعية والعلمية الهائلة‪ ،‬من جهة أخرى التي ستمكن العالم األوروبي من السيطرة‬
‫تدريجيا على مناطق شاسعة من العالم‪ .‬وقد هيمنت على الفكر السياسي في ظل الدولة الحديثة والمعاصرة تيارات‬
‫إيديولوجية وفكرية متعارضة‪ ،‬تجسدت بالخصوص في المذهب الليبرالي والمذهب االشتراكي وفي أطروحات «نهاية‬
‫التاريخ » وصراع الحضارات» ‪.‬‬
‫احملور الثاني‪ :‬رحلة الفكر السياسي القديم من الفكر األسطوري إىل التأسيس اإلغريقي للشأن‬
‫السياسي‬
‫ال بد لتاريخ الفكر السياسي من االستهالل بالمعرفة األسطورية التاريخية‪ ،‬ذلك أن األفكار السياسية للشعوب القديمة‬
‫أمثال السومريين والبابليين واآلشوريين والفينيقيين والفراعنة والصينيين والهنود واإلغريق في بداية عهدهم) تمتزج‬
‫بأساطيرها القديمة وتتمثل بها بحيث أن ال يمكن العثور على مفاهيمها في الحكم والسلطة والعدالة والدولة والحرب‬
‫والسالم‪ ،‬إال ضمن األساطير حينا منطوي في سياق بنائها الروائي‪ ،‬وحينا آخر في مرامي مغازيها‪ .‬وهذا لم يمنع في أن‬
‫يكون للحضارات القديمة في الشرقين األدنى واألقصى بصورة خاصة دور في تكوين معطيات ومقومات التفكير‬
‫السياسي واالجتماعي حيث يتجلى ذلك فيما رواه أفالطون في محاورتي طياوس وكريتياس عن نظام الحكم الذي ساد‬
‫أطلنتس القارة المفقودة‪ ،‬قبل أكثر من اثني عشر ألف سنة وما حملته ألواح سومر من محضر جلسة لبرلمان آرك‬
‫انعقدت قبل حوالي خمسة آالف سنة قوانين بيال الما أورك عجينا وأورنمو ) ‪ ،‬وما انطوت عليه أوراق البردى من‬
‫وصايا وتنبؤات في الحكم والدولة أليبوور وبتاح حوتب ونفر روهو وتشريع نصوص شريعة حمورابي " وعهد لقمان‬
‫الملك " وما انطوت عليه مدونات شريعة وما سجلته النفوش من مانو ووثائق دوق تشو "‪.‬‬
‫ولكن إذا كان اإلغريق قد تلقوا معارف شعوب الشرق القديمة وشابت تفكيرهم السياسي المعرفة األسطورية في وقت‬
‫من األوقات‪ ،‬فهذا لم يكن ليحول دون تأكيد الواقع في انه كان لهم الفصل في االرتفاع بالتفكير السياسي إلى مستوى‬
‫التحليل والتأمل العقلي‬

‫الفصل األول‪ :‬األطر العامة للفكر السياسي القديم ما قبل الرحلة إىل املدينة الفاضلة‬
‫يمكن التمييز بين ثالثة أطر أساسية عامة شكلت المادة الدسمة للفكر السياسي في هذا العصر ‪ :‬إطار إجتماعي‬
‫يتمثل في العبودية إطار سياسي يتعلق بالحاضرة وأخيرا إطار مذهبي يتصل بالتمييز بين‬
‫ثالثة أنظمة سياسية‪.‬‬
‫العبودية‬
‫لعبت العبودية دورا مهما في الحياة السياسية للحضارات القديمة‪ ،‬فقد شكلت القاعدة األساسية التي تأسست عليها‬
‫الحياة السياسية‪ .‬كما أنه من الناحية الكمية‪ ،‬يشكل العبيد الشريحة االجتماعية العريضة داخل المجتمع حيث تدل بعض‬
‫اإلحصائيات أن أثينا في القرن الرابع قبل الميالد كانت تضم ‪ 190999‬مواطنا و ‪ 110999‬أجنبيا و ‪، 7110999‬عبدا ‪،‬‬
‫وهذه األرقام تعكس الدور الكبير الذي كانت تلعبه طبقة العبيد في اقتصاديات المجتمع اليوناني والمجتمع الروماني ‪.‬‬
‫كيف كان المفكرون يقاربون موضوع العبودية في هذا العصر ؟‬
‫بالرغم من أن مؤسسة العبودية لم تكن موضوع دراسات وكتابات ولم تكن تشكل مسألة سياسية بذاتها فإن الرأي‬
‫العام السائد والمفكرون والفالسفة كانوا يعتبرونها ظاهرة طبيعية بل حاول البعض تبرير وجودها ‪ .‬هكذا اعتبر‬
‫أرسطو العبد بأنه آلة حية يجب أن تعامل برفق كي ال تعطب ‪ « :‬وكل الكائنات منذ والدتها مطبوعة بخاتم الطبيعة‬
‫البعض خلق ليقود واآلخرون خلقوا ليطيعوا » والعبد هو بمثابة الجسد للروح ‪ ،‬كما أن أفالطون اعتبر أن المجتمع ال‬
‫يمكن له أن يستغني عن عمل وخدمات العبيد‪.‬‬
‫إذا كانت مؤسسة العبيد تعد ظاهرة طبيعية‪ ،‬فإن األسباب التي أنتجتها كانت موضع جدل وتأويالت مختلفة‪ ،‬فإلى‬
‫جانب الرق ( الطبيعي ( هناك العبودية التي يقرها القانون وخصوصا تلك التي تنتج عن الحروب أو عن عدم الوفاء‬
‫بالدين إلخ ‪ ...‬فلقد اعترف الكثير من المفكرين حسب أرسطو بأن العبودية بسبب الحروب غير مقبولة ألن التفوق‬
‫العسكري ليس مبررا السترقاق اآلخرين خصوصا إذا علمنا أن الحرب قد تكون بذاتها جائرة‪.‬‬
‫لم يطرأ تطور مهم حول مسألة العبودية على مستوى الرأي العام والتفكير السياسي في العصر الروماني ‪ .‬فإذا‬
‫كانت المدارس الفلسفية المختلفة في هذا العصر كالمدرسة األبيقورية والمدرسة الرواقية وحتى الديانة المسيحية قد‬
‫دعت إلى المساواة بين الناس‪ ،‬فإن هذه المساواة كان لها طابع خلقي وبالتالي فهي شكلية حيث تقتصر فقط على المجال‬
‫الروحي والعقائدي وال تشمل المجال السياسي واالقتصادي‪.‬‬
‫املدينة ‪ -‬الدولة أو احلاضرة‬
‫تدور الحياة السياسية عند اإلغريق والقدامى بصفة عامة في إطار الدولة ‪ -‬المدينة التي كانت تلعب نفس الدور الذي‬
‫تلعبه الدولة في المجتمعات الحديثة تضم المدينة ‪ -‬الدولة مدينة كبيرة أو عدة مدن واألرياف المحيطة بها‪ ،‬فهي تشكل‬
‫إذن مجاال جغرافيا ووحدة سياسية واجتماعية واقتصادية منظمة ومحددة ومحور الحياة السياسية‪ ،‬والتفكير السياسي‪.‬‬
‫يقول أرسطو في هذا الصدد بأن « اإلنسان حيوان سياسي » أي أنه يتعاطى ويهتم بتدبير شؤون المدينة ‪ -‬الدولة‬
‫وكل المسائل الداخلية والخارجية المتعلقة بها ‪ .‬لقد نجحت صيغة المدينة ‪ -‬الدولة بفضل عناصر مختلفة منها على وجه‬
‫الخصوص ضيق المجال الترابي وقلة عدد السكان واستقاللها االقتصادي ‪ ،‬وقدم المفكرون تعريفات متعددة لها ‪ :‬فإزو‬
‫قراط ‪ Isocrate‬يعرف المدينة ‪ -‬الدولة بالنسبة لدستورها الذي يحمي استقاللها بينما أفالطون يركز في تعريفه على‬
‫عدد السكان أما أرسطو فيرى في عدد السكان واتساع المجال الترابي العنصران األساسيان لقيام الدولة ‪ -‬المدينة‬
‫الناجحة‪.‬‬
‫وقد أدى نشوء المدينة ‪ -‬الدولة إلى بروز مفهوم المواطن والمواطنة ‪،‬‬
‫فالمواطن يعبر عن الشخصية القانونية التي يتمتع بها فهو يشارك في الحياة السياسية أي أنه يساهم في المناقشات‬
‫العمومية وفي التصويت على القوانين والقرارات المختلفة وكذلك في تقلد المناصب العمومية ‪.‬‬
‫األنظمة الثالثة‬
‫يعود الفضل في إبراز األنظمة الثالثة للمؤرخ اليوناني هيرودوت ‪ Herodote‬الذي حاول انطالقا من األحداث‬
‫والوقائع السياسية التي عاشها اإلغريق أن يقدم ثالثة نماذج سياسية تكون أنسب وأكثر مالئمة مع واقعهم ‪ ،‬وتتمثل هذه‬
‫النماذج في النظام الديمقراطي والنظام األرستقراطي وأخيرا النظام الملكي‪ ،‬فقد أورد هيرودوت في إحدى مقاالته‬
‫مناظرة وهمية جرت سنة ‪ 111‬بين المتآمرين الفرس المنتصرين على المجوسي المغتصب حول أفضل نظام يالئم‬
‫بالدهم‪.‬‬
‫وقد دافع ‪ Oranes‬أوتانس في هذه المناظرة على النظام الديمقراطي حيث يرى أن الحكم يجب أن يكون تحت‬
‫تصرف ومراقبة الشعب ‪ ،‬وانتقد النظام الملكي ألنه يعطي سلطة مطلقة للحاكم الذي ال يخضع ألي مراقبة ‪ .‬أما حكم‬
‫الشعب فهو حكم اإليزونوميا ‪ Sonomie‬أي حكم المساواة بين أفراد الشعب ‪ .‬فانتخاب األجهزة الحاكمة عن طريق‬
‫القرعة أو عن طريق رفع األيادي أو عن طريق االقتراع السري يشكل ضانة أساسية الستقرار النظام الديمقراطي‬
‫وأساسا للثقة بين الحكام والشعب الذي يفرض مراقبة مستمرة من داخل المؤسسات التي اختارها ‪ ،‬ويلخص أوتانس‬
‫مضمون الديمقراطية في الصيغة التالية ‪ « :‬في العدد يكمن كل شيء‪.‬‬
‫أما النظام األوليغارشي فيدافع عليه في المناظرة ميغابيس ‪ Megabes‬الذي يتفق مع أوتانس في مجموع االنتقادات‬
‫التي يوجهها للنظام الملكي ولكن على عكس أوتانس ينتقد حكم الشعب بنفسه ولنفسه ‪ .‬فالشعب حسب ميغابيس ال يعرف‬
‫دائما ماذا يفعل ‪ ،‬فهو يتخذ القرارات في أجواء من الحماس واالنفعال ويمكن له أن يغير اختياراته في كل لحظة ‪،‬‬
‫وبالتا لي قد تؤدي سيادته المطلقة إلى الفوضى وإلى نوع آخر من االستبداد ويقترح ميغابيس في األخير نظام‬
‫األوليغارشية كأفضل نظام يناسب اإلغريق ‪ ،‬فاألقوياء واألكفاء بالحكم وهذا من طبيعة األشياء ‪.‬‬
‫أما المناظر الثالث دارويس ‪ Daruis‬فدعا إلى امتياز النظام الملكي ألن سلطة الفرد تمارس بشكل صحيح وتفهم‬
‫بشكل سليم ‪ .‬أما النظام األوليغارشي فعادة ما تتخلل االنقسامات نخبته الحاكمة فينحو إلى النظام الملكي ‪ .‬وكذلك الشأن‬
‫بالنسبة للنظام الديمقراطي الذي تعصف به الفوضى ويتجه حتها نحو ظهور شخصية ذات أوصاف كاريزمية يستولي‬
‫على السلطة ويؤسس للنظام الملكي‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬املقومات األساسية للنظرية السياسية عند أفالطون حول "الدولة" املدينة‬
‫الفاضلة من التأسيس إىل النقد واملراجعة‬
‫ولد أفالطون ونشأ في محيط أرستقراطي‪ ،‬وترعرع على مطمح الزعامة السياسية‪ ،‬إال أن أحداث الثورة والثورة المضادة‬
‫التي شهدتها أثينا في ذلك الزمن‪ ،‬وما تخللها من عنف ومظالم‪ ،‬دفعته بعيدا عن حلبة الممارسة السياسية‪ ،‬فكان أن‬
‫انصرف قبل أ كثر من ثالثة وعشرين قرنا‪ ،‬إلى استشراف أول رؤيا للمدينة الفاضلة التي غدت بصورة او بأخرى‪ ،‬ملهمة‬
‫الكتاب الذين توالوا بعده‪ .‬وقد وضعها في حوار على لسان معلمه سقراط‪ ،‬وأسماها الجمهورية »‪ ،‬وفيها يصف المدينة‬
‫الفاضلة‪ /‬كاليبولس« واستمر ذلك مثاله المطلق في مؤلفاته الالحقة حتى آخر كتبه « القوانين » الذي لم يستطع إنجازه ‪.‬‬
‫وقد ضمن هذا الكتاب طائفة من القوانين التي استنها لدولة نسجها على المنوال االسبارطي‪.‬‬
‫فماذا قصد أفالطون بالجمهورية ؟‬
‫قصد أفالطون من « الجمهورية » أن تكون بحثا في طبيعة العدالة‪ ،‬ومحاولة في تبيان مصلحة اإلنسان العادل في العدل‪.‬‬
‫كما اعتبر الدولة المدينة هي التجسيد الموسع األشمل للمواطن‪ .‬وعلى هذا األساس وجد أنه من األسهل تقصي العدالة‬
‫في هذا اإلطار الموسع‪ .‬نتحدث في هذا المقام عن أهم مقومات النظرية السياسية عند أفالطون والقصد هنا‪ :‬التأسيس‬
‫والنقد والمراجعة لفكرة الدولة الفاضلة‪ .‬وذلك وفق ما يلي‪:‬‬
‫‪ ‬فلسفة الحاجة كضرورة لنشأة ‪ -‬الدولة الحاضرة وتطورها‬
‫‪ ‬البحث في العدالة كركيزة أساسية لقيام الجمهورية‬
‫‪ ‬التربية الصحيحة أساس لتحقيق الدولة الفاضلة‪ /‬الجمهورية‬
‫‪ ‬سؤال الشيوعية األفالطونية‬
‫‪ ‬تطور أنظمة الحكم عند أفالطون‬

‫السياق العام لوالدة فكرة الدولة الفاضلة‬


‫فكرة المدينة الفاضلة لدى أفالطون ( نحو ‪ 713-173‬ق‪.‬م ) ينطوي ظاهرها على مثالية خيالية تلح على تذكيرنا‬
‫بالمصدر األسطوري للتفكير السياسي والبحث عن المدينة الفاضلة فكرة راودت أفالطون يوم أخفق في ممارسة‬
‫السياسة عمليا‪ ،‬وقد عافتها نفسه لما شهد وشهدته أثينا من أحداث الثورة والثورة المضادة‪ ،‬فانصرف إلى األكاديمية‬
‫إلعداد جيل من السياسيين أصحاب المعرفة الحقيقية » مهمتهم كمهمة « أرباب األسر » إذا ما تولوا السلطة السياسية‬
‫« يتبعون الفلسفة عن حق وحقيقة » أو « يصبحوا فالسفة حقيقيين ‪ « .‬ومن هنا انطلق أفالطون يشيد الدعامة األولى‬
‫في التمهيد لنشأة علم السياسة بروائعه السياسية الثالثة ( الجمهورية »‪ « ،‬القوانين »‪ « « ،‬السياسي‪.‬‬
‫وفي الواقع كانت مدينة «كاليبوس» وهي المدينة الفاضلة التي ابتكرها فكر أفالطون‪ ،‬قياسا للمدينة النموذج من‬
‫جهة‪ ،‬ومن جهة ثانية ردا إن لم تكن نقدا لسياسة الدولة ‪ -‬المدينة التي كانت في أثينا زمن أفالطون وكان انطالق‬
‫أفالطون في جمهوريته من فكرة أساسية مصدرها سقراط الفيلسوف ‪ -‬ال سقراط شخصية حوار «الجمهورية» ‪-‬‬
‫تلخصها عبارة «الفضيلة هي المعرفة وتعني أن المجتمع السياسي ال يقوم بدون فضيلة الفضيلة ال يوفرها إال أصحاب‬
‫المعرفة وهم الفالسفة والعلماء‪.‬‬
‫وبالتالي؛ فليس لغير هؤالء سلطة إدارة الحكم‪ ،‬وكان هذا المعنى المعادلة‪ ،‬ينطوي على تجاهل الديمقراطية وإعالن‬
‫عدم صالحيتها‪ ،‬وهذا تأسس على اعتبار أفالطون أن الشعب ال يصلح لحكم نفسه بنفسه‪ ،‬وأن الساسة جهال ضعفاء‪،‬‬
‫وأنه على عاتق النظام الديمقراطي تقع مسؤولية ذلك لما استلزمه هذا النظام من تعدد األحزاب ذات المصالح‬
‫المتضاربة‪!...‬‬
‫املبحث األول‪ :‬حول فلسفة احلاجة كضرورة لنشأة الدولة‪-‬املدينة‪ /‬احلاضرة وتطورها‬
‫اعتبر أفالطون أن الدولة تنهض من انعدام االكتفاء الذاتي عند األفراد‪ .‬وينتقل على عجل من هذه النقطة الى أحد‬
‫مبادئه األساسية ‪ :‬وجوب التخصص الدقيق المرتكز على التفاوت الطبيعي ‪ « :‬على كل امرئ أن يؤدي عمله بنفسه‪،‬‬
‫حسب مواهب الطبيعة بحيث يكون لكل عمل رجل يختص به »‪ .‬ويرسم أفالطون‪ ،‬انطالقا هذه القاعدة‪ ،‬حياة بسيطة‬
‫يحيياها متحد من المزارعين المختصين والحرفيين يتعايشون حسب الطبيعة ويعتبر أن هذا الواقع هو المجتمع السليم‪.‬‬
‫ولكن كان لتفكير أفالطون محتوى آخر ‪ ...‬فهو يعتبر أن نشوء الجماعة كان وليد حاجة التعاون البشرية ونشوء‬
‫المجتمع كان نتاجا لتبادل الخدمات واإلنتاج‪ ،‬وكان ال بد للمجتمع من تأمين وجود واستمرار وتنظيم وحماية هذا التبادل‬
‫فكانت الدولة‪ .‬إن الفرد ال يمكن له تحقيق الحياة الفاضلة واالكتفاء الذاتي ضمن إطار العائلة‪ ،‬وال يمكن تحقيقها أيضا‬
‫ضمن إطار القرية ولذلك كان من الضروري العيش ضمن إطار المدينة ‪ -‬الدولة لما يوفره هذا اإلطار من شروط‬
‫لتحقيق الحياة السعيدة والفاضلة‪.‬‬
‫إن الدولة عند أفالطون تشكل جسما عضويا حيا يتعاون أعضاؤه مع بعضهم البعض لتأمين حياتهم وتحسينها وأي‬
‫خلل يمس أحد األعضاء يؤثر سلبا على الدولة ولذلك ينبغي على األفراد تأدية واجبهم نحو الدولة على الوجه األكمل‬
‫فهي كائن اكمل من الفرد وهي الوجود الحقيقي بواسطتها يتحقق االكتفاء الذاتي لألفراد‪.‬‬
‫وقد تطورت المدينة ‪ -‬الدولة حسب أفالطون عبر مرحلتين أساسيتين‪:‬‬
‫‪ -‬المرحلة األولى تمثل العصر الذهبي للمدينة الدولة وهي كما يقول‪« :‬المدينة األولى مدينة الفطرة مثال البراءة‬
‫البعيدة ليس لها من حاجات إال الضرورية وهي قليلة ترضيها بال عناء‪ ،‬يقنع أهلها بالشعير والقمح والحنطة والثمار‬
‫والخمر الخفيفة‪ ،‬فيعيشون عيشة سليمة ويعمرون ال يعرفون الفاقة وال الحرب» ‪.‬‬
‫‪ -‬المرحلة الثانية وهي نتيجة تكاثر السكان وتطور حاجياتهم وظهور حرف جديدة وإفرازات اجتماعية مختلفة أدت‬
‫إلى خلق طبقات اجتماعية متناحرة‪ ،‬كما هي نتيجة نشوب الحروب وتشكيل الجيوش‪ ،‬فهذه العوامل كلها أدت إلى‬
‫ضرورة قيام سلطة مركزية تحاول التوفيق بين مصالح الجماعات والطبقات المختلفة الجئة إذا اقتضى إلى وسائل‬
‫اإلكراه‪ .‬يقول أفالطون في هذا الصدد ‪ ...« :‬ولكن هذا العصر الذهبي ( المرحلة األولى انقضى يوم فطن الناس إلى‬
‫جمال الترف والغنى فنبتت فيهم حاجات جديدة وصناعات اإلرضائها‪ ،‬وضاقت األرض لمن عليها فنشبت الحروب‬
‫وتألفت الجيوش‪ .‬هذه المدينة الثانية هي المدينة المستحضرة وهي عسكرية‪.‬‬
‫إن التطور الذي عرفته المدينة الدولة أدى في آخر المطاف إلى قيام ثالثة وظائف أساسية‪ :‬وظيفة اإلنتاج وظيفة‬
‫الدفاع واستتباب األمن وأخيرا وظيفة الحكومة واإلدارة‪ ،‬ومن هذا المنطلق شيد أفالطون معالم مدينته الفاضلة على‬
‫أساس فكرة رئيسية أال وهي فكرة العدالة فما هي إذن العدالة؟‬
‫املبحث الثاني‪ :‬العدالة كركيزة أساسية لقيام اجلمهورية‬
‫ثمة مالحظة منهجية تقوم على ضرورة التمييز بين (العدل) و(العدالة)‪ .‬العدل هو في تطبيق الشرع والقانون‪ ،‬أما العدالة‬
‫فهي إلى ذلك تنطوي على االستقرار االجتماعي‪ ،‬وتحقيق السعادة‪ ،‬واحترام قاعدة المساواة بين األفراد‪ ،‬والحقا بين‬
‫المواطنين‪ ،‬ولو أن هذه المساواة تبقى نسبية‪.‬‬
‫العدل‪ ،‬يقتصر في مفهومه على المضمون القانوني في المنطلق والغاية وفي الوسائل المعتمدة على أرض الواقع‪ .‬أما‬
‫العدالة فإنها تتجاوز هذا المضمون القانوني‪ ،‬لتأخذ مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية ‪ .‬إنها ذات جذور دينية واضحة‬
‫ومضامين فلسفية متعددة‬

‫فكرة أفالطون عن العدالة فكرة غريبة في الواقع ألنها ال تتضمن على أية فكرة حقوقية أي أنها ال تدل على القدرة على‬
‫مباشرة تصرفات إرادية في ظل حماية القانون‪ .‬فالعدالة عنده تعني اتحادا يؤلف بين األفراد‪ ،‬يجد فيه كل واحد منهم الدور‬
‫الذي يقوم به في الحياة وفقا الستعداده الفطري ومواهبه وخبرته‪.‬‬
‫ويتساءل أفالطون في بداية كتاب «الجمهورية» عن العدالة هل هي نسبية أم مطلقة هل هي موجودة في الدولة أم في‬
‫الفرد ؟ هل العدالة نسبية أم مطلقة؟‬
‫وما بين فضيلة العدالة عند أفالطون‪ ،‬وتطور مفاهيم العدالة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا في العصر الحديث مسار‬
‫طويل منذ ارتباط الفكر السياسي بفكرة المساواة‪ .‬مسار طويل جدا ابتدأ من فضيلة العدالة (أفالطون)‪ ،‬عدالة التوزيع‬
‫(أرسطو)‪ ،‬العدالة والصراع االجتماعي (القديس أوغسطين العدالة وفكرة المساواة ( من هوبس وصوال إلى روسو‪:‬‬
‫المساواة هي حارية الحرية والعدالة العدالة والعامل االقتصادي (ديفيد هيوم الفلسفة النفعية)‪ ،‬العدالة االجتماعية (القرن‬
‫التاسع عشر)‪ ،‬العدالة الدولية‪.....‬‬
‫لم يجد أفالطون بدا من تصوير العدالة بأنها معطى طبيعي أو هي طبيعية في مواجهته للسفسطائيين في العصر‬
‫اإلغريقي والسفسطائيون لم يتبعوا فلسفة معينة‪ ،‬وإن كان بعضهم قد دعا إلى توجيه المعرفة نحو اإلنسان ‪ ،‬وأن‬
‫اإلنسان هو مرتكزها األول‪ .‬أما النظرة إلى اإلنسان فكانت من خالل الطبيعة‪ ،‬ووجود شيء طبيعي‪.‬‬
‫في معرض تصوره لمدينته المثالية أضاف أفالطون فضيلة العدالة كما يسميها‪ -‬إلى الفضائل الثالث التي طالما‬
‫تحدث عليها‪ ،‬وهي‪ :‬االعتدال والشجاعة والحكمة‪ .‬قال في هذا الصدد‪( :‬أعتقد أن الصفة التي تتيح لهذه الفضائل الثالث‬
‫التي عرضنا لها أي االعتدال والشجاعة والحكمة‪ ،‬أن تحتل مكانها في الدولة وتضمن استمرارها ما دامت قائمة ال بد‬
‫أن تكون هي الصفة الباقية ونحن قد ذكرنا أن الفضيلة المتبقية بعد اهتدائنا إلى الثالث األخريات هي العدالة"‪.‬‬
‫وعليه فإن هذه الفضائل األربع هي التي تضمن استمرار الدولة‪ ،‬كما يحدد أفالطون إلى ذلك‪ ،‬ثمة‬
‫إشارة غير مباشرة إلى عالقة المساواة بهذه الفضائل‪ ،‬عندما يدعو أفالطون كل فرد في مدينته إلى المساهمة مع‬
‫غيره على قدم المساواة بين المواطنين كفئة اجتماعية خاصة لتثبيت الفضائل األربع بها يخدم المجتمع والمدينة‪.‬‬
‫ويالحظ أن العدالة شأن سياسي مرتبط بنظريات المعرفة واألخالق والفن والتربية‪.....‬‬
‫الدولة‪ ،‬إذن‪ ،‬تقوم بوظيفتها على أساس تحقيق العدالة وتتحقق العدالة من جهة بوضع المواطنين في مراكزهم‬
‫اال جتماعية وحتى يتوفر ذلك ال بد من إزالة العوائق التي تعترض الطريق إلى بلوغ مرتبة المواطن الصالح‪ ،‬وذلك‬
‫بتحقيق تكافؤ الفرص بين المواطنين‪ ،‬وتأمين هذه النتيجة يكون بفرض قيود على الطبقة الحاكمة لحرمانها من الملكية‬
‫الخاصة‪ ،‬ومن الزواج‪ ،‬وتحديد دخلها بمرتب ثابت ‪.‬‬
‫وإذا كان ال بد للدولة من أساس ‪ -‬العدالة ‪ -‬فال بد لها أيضا من معيار‪ .‬وجاء أفالطون في كتاب «القوانين» يعتبر‬
‫القانون هو المعيار‪ ،‬ذلك أنه يشتمل على قوة تقدمية دافعة‪ ،‬وبدونه ينحط اإلنسان إلى مرتبة الحيوان وبالتالي فإنه‬
‫يقتضي أن يعمل ويتقيد به الحاكم والمواطن على السواء‪ .‬وحدد أفالطون أنظمة الحكم فتباينت بين « الجمهورية » و «‬
‫السياسة » و « القوانين ‪.‬‬
‫إن مفهوم العدالة عند أفالطون ينطبق على الدولة والفرد معا‪ .‬ويتجلى ذلك من خالل عبارته المعروفة «إن الدولة‬
‫ماهي إال الفرد مكتوب بأحرف مكبرة »‪ ،‬فما هي إذن العدالة في الدولة والفرد ؟‬
‫أوال ‪ :‬العدالة في الدولة‬
‫العدالة في الدولة عند أفالطون تكمن في قيام كل فرد بالعمل الذي يناسبه‪ ،‬فاإلنسان قد يكون ذا استعداد خاص ألن‬
‫يكون فيلسوفا أو نجارا أو جنديا فاالتجاه للحرفة التي يجيدها يعد عدال‪ .‬فالعدل هو اإللزام الذي يجعل كل شخص يتجه‬
‫إلى فعل األشياء التي يتوفق ويتألق فيها والتي تؤدي إلى الخير العام‪ .‬وهكذا عندما يقوم كل فرد بالعمل المؤهل له يبلغ‬
‫المجتمع العدالة والهناء ويتم االنسجام بين الطبقات المتعايشة داخله‪.‬‬
‫وا لمجتمع بحكم الطبيعة ينقسم إلى ثالث طبقات متمايزة‪ ،‬فعلى كل طبقة أن تقوم بعملها خير له وفقا الستعداداتها‬
‫الفطرية ومواهبها الطبيعية وهذا اإلفراز الطبقي على أساس مبدأ توزيع العمل والتخصص الطبيعي يقوم على الشكل‬
‫التالي‪:‬‬
‫‪ - 8‬طبقة الحكام التي تتشكل من الملوك الفالسفة وتختص بإدارة الدولة أداء وتتكرس وقيادتها‪.‬‬
‫‪ - 7‬طبقة الجنود وتتولى حماية الدولة والدفاع عنها‪.‬‬
‫‪ - 7‬طبقة المنتجين وتقوم بسد الحاجيات الضرورية للمجتمع وتلبيتها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬العدالة في الفرد‬
‫أما العدالة في الفرد فهي انسجام وتعاون بين أجزاء النفس البشرية الثالث وأعضاء الجسد ‪:‬‬
‫‪ ‬العقل ومركزه الرأس‬
‫‪ ‬العاطفة ومركزها القلب‬
‫‪ ‬الشهوة ومركزها أسفل البطن‪.‬‬

‫هذه العناصر الثالث مالزمة لكل إنسان ولكن بدرجات متفاوتة‪ ،‬ولقد شبه أفالطون النفس اإلنسان ية بعربة يجرها‬
‫حصانان أحدهما أبيض واآلخر أسود‪ ،‬األول يرمز للعاطفة والثاني يرمز للشهوة ويقودها سائق هو العقل‪ .‬كما يسير‬
‫الحاكم الفيلسوف الدولة كذلك العقل يضبط الشهوات ويتحكم في رغبات الفرد‪ ،‬وكما يدافع الجنود عن الدولة فالعواطف‬
‫الشريفة تساعد العقل في عمله وتزود اإلنسان بالقوة واإلقدام كالغضب من اإلهانة والذل والجرأة والبطولة والخجل من‬
‫الكذب والرياء‪ ،‬وكما يقوم العمال بأعمالهم في الميدان االقتصادي فإن الشهوة تقوم بالبحث عن الملذات لدى اإلنسان ‪.‬‬
‫لذا فسلوك اإلنسان يختلف وفقا لسيطرة أحد األجزاء الثالثة على الجزئيين الباقيين‪ .‬ويعتبر الفرد عادال إذا كانت‬
‫عناصره الروحية مرتبة ومتوازنة بعضها البعض وعندئذ يتصرف تصرفا سليما وصحيحا في عالقاته مع ويعيش‬
‫العيشة الجديرة به ومن هنا تبدو مهمة الدولة كعامل أساسي لتوجيه الفرد نحو تحقيق الخير والفضيلة‪ ،‬ولهذا الغرض‬
‫وضع أفالطون نظاما تربويا موجها يهدف إلى تحقيق أغراض العدالة‪.‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬الرتبية الصحيحة أساس لتحقيق الدولة الفاضلة‪ /‬اجلمهورية‬
‫إن أمور الدولة ال تقوم فقط على أساس القوانين والتشريعات وإنما على التربية‬
‫الصحيحة التي تحقق الدولة الفاضلة‪.‬‬
‫اعتمد أفالطون على التربية والتعليم لكشف عباقرة الحكام حتى أن جون جاك روسو قد أشار إلى أن كتاب‬
‫«الجمهورية» لم يكن كتابا سياسيا بل من أعظم ما كتب في مجال التعليم والتربية‪.‬‬
‫قسم أفالطون نظامه التربوي إلى مراحل متعددة كما أنه ربط الدراسات النظرية باألعمال التوجيهية والتطبيقية مما‬
‫جعل نظامه يشكل أول نموذج تربوي متكامل في التاريخ‪.‬‬

‫‪ -‬المرحلة األولى‬
‫تبدأ التربية عند أفالطون منذ الطفولة‪ ،‬ففي السنوات العشر األولى‪ ،‬يشمل البرنامج األلعاب الرياضية والموسيقى‪.‬‬
‫فالرياضة البدنية تعمل على إعداد الجسم إعدادا صحيحا وقويا ‪ ،‬كما أنها تعمل بكيفية غير مباشرة على ضبط النفس‬
‫والسيطرة على الشهوات والغرائز وتعلمها محاسن الشجاعة واإلقدام‪ .‬أما الموسيقى فتهدف إلى صفاء النفس وانسجامها‬
‫وصقلها باآلداب الجميلة‪ ،‬فهي تهذب الخلق وتعلم تذوق الجمال‪ .‬ولكن أفالطون يحذر من اإلسراف في الرياضة‬
‫والموسيقى‪ .‬فاإلسراف في الرياضة يعطي أجساما قوية ال غير أما اإلسراف في الموسيقى فإنه يذيب النفس ويضعف‬
‫شجاعتها‪.‬‬
‫‪ -‬المرحلة الثانية‬
‫تبدأ في سن العشرين حيث يجرى لهم اختبارا أساسيا يتحول على إثره الراسبون إلى طبقة المنتجين أما الفائزون‬
‫فيشرعون في مرحلة جديدة يدرسون خاللها الرياضيات والهندسة وعلم الفلك وغيرها من العلوم األخرى‪.‬‬
‫المرحلة الثالثة‬
‫تبدأ في سن الثالثين حيث تجرى عملية فرز جديدة يتعرضون من خاللها إلى امتحانات أصعب من األولى‪.‬‬
‫فالراسبون يتم توجيههم إلى طبقة الجنود وأما الفائزون وهم قلة في العدد فيباشرون دراسة الفسلفة والجدل والبحث في‬
‫ماهية الكون والحقائق الخالدة وعالم المثل‪.‬‬
‫‪ -‬المرحلة الرابعة‬
‫بعد انتهاء المرحلة الثالثة يخضع الطلبة إلى التطبيق العملي حيث توجهم الدولة إلى الحياة العملية للخدمة في مرافق‬
‫الدولة المختلفة‪ .‬فباختالطهم بالناس وباحتكاكهم بأمور الحياة االجتماعية حتى بلوغ الخمسين من العمر تتكون لديهم‬
‫تصورات قريبة من الواقع‪ .‬ومن ثم ينضم الفاشلون لطبقة الجنود‪ ،‬أما الفائزون فيصبحون حكام الدولة الفاضلة حيث‬
‫يشكلون األساس العقالني المتحلين بالحكمة والمعرفة والعدل والخبرة والحنكة فيحققون االنسجام والهناء‬
‫املبحث الرابع‪ :‬سؤال الشيوعية األفالطونية‬
‫ما أطلق عليه أفالطون بتسمية « الشيوعية » ال يرمي في الواقع إلى تحقيق تكافؤ الفرص أو تساوي المدخول بالمعنى‬
‫الشيوعي العلمي الحديث وكان األحرى أن يطلق عليها تمييزا « الشيوعية األفالطونية "‪.‬‬
‫ينادي أفالطون في جمهوريته بشيوعية النساء واألوالد بالنسبة للطبقة الحاكمة والجنود إذ ينبغي عليهم أن يتنكروا‬
‫لمصالحهم الشخصية وأن يتفرغوا لشؤون الدولة‪ .‬فحياة هذه الطبقات ملك للجميع وبالتالي عليهم أن يوجهوا جهودهم‬
‫وطاقاتهم إلى الدولة ال إلى األسرة ألن األسرة تشكل عبئا ثقيال عليهم‪.‬‬
‫وتنشئ العاطفة العائلية فبسبب حب العائلة يهملون واجباتهم ويفسدون الدولة؛ وبالتالي ال يجوز لهؤالء تكوين أسرة‬
‫معينة واالنصراف إلى رعايتها واالنشغال بأمورها‪ .‬لذا تخصص لهم الدولة عددا من النساء يحق للحكام والحراس‬
‫االتصال بأي امرأة منهن ولكن عند الوالدة ال تتعرف األمهات على أبنائهن بل تتولى النساء رعاية أوالد جميع الحكام‬
‫فيكونون إخوة لبعضهم البعض‪.‬‬
‫من هذا يظهر أن شيوعية أفالطون مقصورة على طبقة األوصياء فهو يحتم عليهم أن يعيشوا معيشة شبه عسكرية‪،‬‬
‫أي أن شيوعيته تشبه شيوعية المعسكر‪ .‬وهكذا ال تشكل الطبقة الحاكمة إال عائلة واحدة‪ .‬كما يقول أفالطون بإشراف‬
‫الدولة على الزواج ومراقبة عدد السكان‪ ،‬وعلى الدولة أن تمنع الزيادة المضطردة في عدد السكان حتى ال يؤثر ذلك‬
‫على توازن المجتمع وسعادة أفراده‪.‬‬
‫كما عالج أفالطون مسألة تحسين النسل وشروطها‪.‬‬
‫ال يفرق مؤلف «الجمهورية» بين الرجل والمرأة فيما يخص الحياة السياسية إذا توفرت فيهن الصفات والشروط‬
‫المطلوبة‪ .‬فاستالم الوظائف والقيام باألعمال يجب أن يقوم على أساس الميل الطبيعي والمقدرة الخاصة ال على أساس‬
‫الجنس‪ .‬وإذا حرمت النساء من تولي المناصب العمومية والمشاركة في الحياة السياسية فإن المدينة تتحول إلى نصف‬
‫مدينة ال إلى مدينة كاملة‪.‬‬
‫املبحث اخلامس‪ :‬تطور أنظمة احلكم عند أفالطون‬
‫ففي كتاب «الجمهورية» يأتي نظام كاليبوس (مدينة) أفالطون (الفاضلة) في الدرجة األولى في الكمال‪ ،‬ثم يليه‬
‫النظام التيمقراطي وهو صورة عن نظامه المثالي حين انحالله‪ .‬ثم يتلو ذلك النظام األوليجاركي أو نظام حكم األغنياء‬
‫وهو يتمثل في النظام التيمقراطي حين فساده‪ ،‬ثم يتطور النظام األوليجاركي إلى النظام الديمقراطي فإذا انحط هذا‬
‫النظام األخير كان نظام الطغيان وهو أسوأ األنظمة‪.‬‬
‫وفي كتاب «السياسة» نجد تقسيا آخر هناك الدولة ذات النظام المثالي يرأسها الحاكم الفيلسوف وتتمتع بالمعرفة‬
‫الكاملة‪ ،‬فال تحتاج إلى القوانين‪ ،‬ولكن هذه الدولة ال يتيسر وجودها في الدنيا‪،‬‬
‫ثم تأتي طائفة الدول الزمنية وهي ستة ثالث منها تتقيد بالقوانين ‪ :‬حكم الفرد المستنير‪ ،‬حكم األقلية األرستقراطية‪،‬‬
‫حكم الديمقراطية المعتدلة‪.‬‬
‫أما التي ال تتقيد بالقوانين فهي حكم الفرد االستبدادي‪ ،‬حكم األقلية األوليجاركية حكم الديمقراطية المتطرفة ‪.‬‬
‫وحبذ أفالطون الدول التي تتقيد بالقوانين ‪.‬‬
‫ويقترح أفالطون في كتاب « القوانين » الدولة المختلفة‪ ،‬وهي تجمع بين حكمة النظام الملكي وحرية النظام‬
‫الديمقراطي‪.‬‬
‫عامة نستطيع أن نعالج فلسفته السياسية من خالل أطوار الحياة التي عاشها‬
‫الطور األول‪ :‬يمثل مرحلة الشباب حيث وقع تحت تأثير سقراط‪ ،‬ألف خاللها كتاب (الجمهورية)‬
‫في هذا الكتاب المشروع األول ألفالطون جاء محاولة لطرح أفكار سقراط الذي تأثر به كثيرا وخصوا بعد‬
‫"استشهاده" بسم الشكران فكرة الجمهورية" انطلقت من فكرة "عدم المساواة"‪ ،‬الناس كالمعادن‪ ،‬وبالتالي فمسؤولياتهم‬
‫يجب أن تكون مختلفة في المجتمع‪ ،‬وهنا ينتقل إلى فكرة "العدالة‪ ،‬فالعدالة بالمفهوم اليوناني‪ ،‬عند سقراط وأفالطون ال‬
‫تتضمن أية فكرة حقوقية‪ ،‬بمعنى أنها ال تدل على القدرة على مباشرة تصرفات إرادية في ظل حماية القانون‪.‬‬
‫العدالة؛ تعني عنده "اتحاد يؤلف بين األفراد" يجد كل واحد منهم الدور الذي يقوم به في الحياة وفقا الستعداده‬
‫الفطري ومواهبه وخبراته‪ .‬وبالتالي فالعدالة تقوم أيضا على التقسيم هناك الجماعة التي أهلتها الطبيعة على الحكم‪ ،‬وهم‬
‫الفالسفة هي من يجب أن تحكم والجماعة التي أهلتها الطبيعة على الحراسة والحرب يجب أن تمثل جماعة الجند‪..... ،‬‬
‫‪ ،‬وطالما تم تقسيم العمل وتخصيصه ستنشأ لدي "سلطة سياسية"‪ ،‬وبالتالي فالسلطة السياسية عند أفالطون نشأت عند‬
‫الحاجة حاجة هذه الجماعات للسلطة‪.‬‬
‫الطور الثاني ‪ :‬يتعلق بمرحلة النضج حيث وضع كتاب (السياسي)‪.‬‬
‫إخفاق أفالطون في تمثل وتنزيل أفكار الجمهورية أو المدينة الفاضلة جعلته يعيد النظر في هذه األفكار‪ ،‬من جديد‬
‫وهو ما عكسه كتابه ومشروعه الجديد كتاب السياسي في هذا المشروع اعتبر أفالطون أن ما طرحه في مشروع‬
‫الجمهورية ينسب إلى مجتمع من اآللهة وبالتالي طرح منطق آخر للتقسيم السياسي‪ .‬وبدأ يتكلم عن مفهوم الدولة‬
‫الزمنية‪ ،‬النظام الملكي واالرستقراطي‪ ،‬بل وحتى النظام الديمقراطي الذي رفضه رفضا تاما من قبل‪ ،‬بدأ يتحدث عن‬
‫الديمقراطية الدستورية لألنظمة الجيدة والديمقراطية غير الدستورية لألنظمة غير الجيدة‪.‬‬
‫‪ -‬الطور الثالث يتناسب مع مرحلة الكهولة حيث كتب فها كتاب (الشرائع)‪.‬‬
‫ويظهر أفالطون في المرحلتين األخيرتين استقالال تاما عن أستاذه سقراط‪ ،‬في مشروعه الجديد سينزل اكثر إلى‬
‫الواقعية والعقالنية إذا أردنا القول وسيطرح فكرة النظام المختلط‪ .‬فبعد رفضه للديموقراطية يطرح الجمع بين‬
‫المفهومين‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬أرسطو معلم اإلسكندر الكبري ‪ :‬األسرة ال احلاجة التي أدت إىل نشأة السلطة‬
‫السياسية والدولة الدستورية املعتدلة هي املثل األعلى‬
‫حصر أرسطو تفكيره في استلهام الماضي‪ ،‬عكس أفالطون‪ ،‬ولم يقم رغم أنه فيلسوف بأية محاولة الستشراف‬
‫المستقبل الفكرة األساسية في فلسفة أرسطو تكمن في عملية الصيرورة التي ينتقل فيها اإلمكان إلى التحقيق في كل‬
‫شيء؛ وكان لمفهوم الصيرورة في األشياء والمخلوقات واألفكار أهمية بالغة في تحليل أرسطو السياسي‪ ،‬فهو خلفيته التي‬
‫أنشأ عليها البنية األساسية لفلسفاته السياسية‪.‬‬
‫الدولة تنشأ نتيجة نمو تدريجي طبيعي عبر مراحل تاريخية مختلفة إلى أن تصل إلى مرحلة دولة ـ (المدينة العائلة‬
‫القرية ‪ -‬المدينة الدولة)‪ .‬فالدولة المثلى عند أرسطو هي جمهورية أرستقراطية يكون فيها المواطنون وحدهم أصحاب‬
‫الحق في المشاركة السياسية؛ وهي باإلضافة إلى ذلك وسيلة لنشر الفضيلة وتحقيق الخير العام‪ ،‬وليس غاية بحد ذاتها‬
‫وبالتالي فالدولة تقوم على الدستور الذي يحضا برضا الجمهور‪.‬‬
‫ولكن ما يثير العجب واالستغراب هو كيف أن أرسطو مؤسس علم المنطق والقياس ومنظر دولة االعتدال والوسط‬
‫الحكيم بين اإلفراط والنقصان واحترام القانون بقي حبيس نظام المدينة – الدولة حيث اعتبرها بمثابة الوحدة السياسية‬
‫والنموذج الخالد في نفس الفترة التاريخية التي كان فيها أحد تالميذ أرسطو اإلسكندر األكبر يؤسس إلمبراطورية ضخمة‬
‫واسعة األطراف ستصبح إطارا لتقدم الحضارة‬
‫انطلق أرسطو من فكرة بسيطة‪ ،‬أن اإلنسان مدني بطبيعته واإلنسان ال يمكن أن يعيش لوحده‪ ،‬ولكي يفعل ذلك‬
‫يجب أن يكون إما إالها أو وحشا‪ ،‬فاإلنسان حيوان سياسي‪ .‬أرسطو بهذا كان يميل إلى الواقعية‪ ،‬وكان يعطي لسيادة‬
‫القانون أهمية كبيرة‪ ،‬وأعطى تقسيمه السداسي لألنظمة السياسية‪.‬‬
‫وجاء أرسطو ( ‪ 777-713‬ق‪.‬م)‪ ،‬ليتجه بالفكر السياسي نحو آفاق جديدة ليست مدنا فاضلة؛ فهو لم يكن يستشرف‬
‫المستقبل‪ ،‬بل استلهم الماضي‪ ،‬ومن هنا كان التحول في منهج التفكير‪.‬‬
‫فبعد أن كان قياسيا عند أفالطون أصبح استقرائيا لدى أرسطو‪.‬‬
‫أما مرد ذلك فهو أن أفالطون كان يعتمد الرياضيات كمقياس للمعرفة‪ ،‬فجاءت تصوراته الرياضيات تجريدات كلية‪.‬‬
‫أما أرسطو فقد كان علم الحياة والفيزياء سبيله‪ ،‬فبلغ تجريدات أفالطون عبر الجزئيات الحسية المحسوسة ولكن الذي‬
‫يعينا لدى أرسطو‪ ،‬فضال عن المنهج‪ ،‬هو مفهومه للدولة المثالية‪.‬‬
‫إن الدولة الدستورية هي المثل األعلى عنده‪ ،‬فهو ال يؤمن وال يثق بالحكم المطلق مها كانت صفات الحاكم حتى ولو‬
‫كان ذلك الحاكم الفيلسوف ‪ .‬ولكن أرسطو يعود ليتفق مع أستاذه أفالطون في أن الدولة المثالية سواء كانت دولته أم‬
‫دولة أفالطون مستحيلة التحقيق والتنفيذ ‪.‬‬
‫لقد كانت الدولة عند أرسطو نتاج تطور تاريخي مرت بعدة مراحل اجتماعية قبل أن تصل إلى مرحلة الدولة‬
‫وتصبح عبارة عن اتحاد أفراد مختلفين يستطيعون بحكم ما بينهم فوارق‪ ،‬سد حاجاتهم عن طريق تبادل السلع والخدمات‬
‫والضمان الوحيد للحكم الصالح هو القانون‪ ،‬وهو البديل الثابت الموثوق به للحاكم الفيلسوف ‪ .‬ومن هنا اعتمد الحكم‬
‫الدستوري على القانون وتميز باستهدافه الصالح العام وبارتكاز إدارته على قواعد عامة ال على أوامر وتأدية حكومته‬
‫معنى المواطنين الراضين عن الحكم ال المرغمين عليه‪.‬‬
‫ويعود أرسطو ليتفق مع أفالطون في تبني الهدف األخالقي للدولة‪ .‬وببحث أرسطو عن أفضل شكل عملي للحكومة‬
‫يجد أنه الشكل الذي يجمع بين العناصر الصالحة في كل من الديمقراطية واألوليجاركية دون تطرف في أي منها‪،‬‬
‫وأطلق عليه اسم «الحكومة الدستورية»‪ ،‬ويتوفر هذا الشكل بوجود طبقة متوسطة قوية تتألف من متوسطي الحال‬
‫المالي‪ ،‬وهي الطبقة التي يمكن أن تتسع لتجعل للدولة قاعدة شعبية ومن هنا نخرج إلى أن ما يرمي إليه أرسطو هو‬
‫التوازن واالعتدال‪.‬‬
‫وألرسطو فضل آخر على التفكير السياسي‪ ،‬فهو الذي صنف السياسة ضمن العلوم‪ ،‬ولكن يقتضي التنبيه إلى أن‬
‫أرسطو لم يتردد أحيانا في دمج علم االقتصاد بعلم السياسة ‪ .‬وهنا يالحظ أيضا ربط أرسطو للسياسة باألخالق ربطا‬
‫محكما‪ ،‬يؤكده لنا ذلك الترابط بين كتابيه « األخالق » و « السياسات»‪.‬‬
‫ولكن ما يثير العجب واالستغراب هو كيف أن أرسطو مؤسس علم المنطق والقياس ومنظر دولة االعتدال والوسط‬
‫الحكيم بين اإلفراط والنقصان واحترام القانون بقي حبيس نظام المدينة ‪ -‬الدولة حيث اعتبرها بمثابة الوحدة السياسية‬
‫والنموذج الخالد في نفس الفترة التاريخية التي كان فيها أحد تالميذ أرسطو اإلسكندر األكبر يؤسس إلمبراطورية‬
‫ضخمة‪ ،‬واسعة األطراف ستصبح إطارا لتقدم الحضارة‪.‬‬
‫نناقش في هذا المحاضرة (الحصة الخامسة ‪ /‬السادسة)‪ ،‬أهم المقومات والركائز األساسية للنظرية السياسية المؤطرة‬
‫ل"فكرة الدولة" كما يلي‪:‬‬
‫اوال المنهج االستقرائي كمنطلق أساسي للدراسة والتحليل‬
‫ثانيا‪ :‬أصل نشأة الدولة األسرة ال الحاجة التي أدت إلى نشأة السلطة السياسية الدولة‬
‫ثالثا؛ خصائص الدولة عند أرسطو ‪" /‬الدولة الدستورية"؛‬
‫رابعا أشكال الدساتير أنواعها وعالجها ؛‬
‫خامسا‪ :‬الجمهورية المعتدلة؛‬
‫سادسا ؛ تفاعل أرسطو مع فكرة المدينة الفاضلة‬

‫‪ ‬المقومات األساسية للنظرية السياسية الدولة ‪ -‬الدستورية ‪.‬‬


‫‪ ‬سؤال المنهج االستقر اني كمنطلق أساسي للدراسة والتحليل عند أرسطو‬
‫أسس أرسطو منهجا جديدا اعتمد فيه على المالحظة ودراسة الحوادث والوقائع التاريخية السالفة وتصنيف دساتير‬
‫المدن والبلدان المختلفة وتحليل أشهر النظريات السياسية السابقة‪ ،‬فكان نمطه تحليليا تاريخيا وتحول من القياسات‬
‫الكلية التي اعتمدها أفالطون إلى المالحظات الجزئيات ‪ -‬أي المنهج االستقرائي بدال من المنهج القياسي الذي اتخذه‬
‫أفالطون ‪ -‬فعمد إلى القيام بجمع المعلومات ومن ثم إلى استنتاج القواعد العامة‪.‬‬
‫إن أول خطوة في المعرفة‪ ،‬حسب منهج أرسطو في التفكير‪ ،‬تكون باإلدراك الحسي لألشياء‪.‬‬
‫ومن ثم تأتي الخطوة الثانية بمقارنة األشياء مع بعضها وتعليلها وتكمن المرحلة األخيرة في التأمل في هذه العلل‬
‫التي حصل عليها الذهن‪ ،‬ثم االنصراف إلى استخراج النتائج وتقديم المقترحات وصياغتها في قالب علمي‪ .‬وهذا‬
‫االنتقال من مرحلة إلى أخرى يتأتى عن طريق المنطق الذي يجسد االنتقال من المقدمات إلى استخراج النتائج‪ .‬وتقديم‬
‫المقترحات وصياغتها في قالب علمي‪.‬‬
‫• أصل نشأة الدولة‪" :‬األسرة" ال "الحاجة" التي أدت إلى نشأة السلطة السياسية‪/‬الدولة‬
‫يرفض أرسطو رفضا قاطعا نظرية السفسطائيين القائلة بأن الدولة تقوم على أساس عقد بين المواطنين إلنهاء الحالة‬
‫الطبيعية والدخول في حالة اجتماعية يسود فيها القانون والنظام‪ .‬إن الدولة عند أرسطو تنشأ نتيجة نمو تدريجي عبر‬
‫مراحل تاريخية مختلفة قبل أن تصل إلى مرحلة دولة المدينة وينقسم هذا التطور التاريخي إلى ثالثة مراحل العائلة‬
‫القرية ثم الدولة ‪ -‬المدينة‪.‬‬
‫أ ‪ -‬مرحلة العائلة التمييز بين العالقة األسرية والعالقة السياسية‬
‫تشكل العائلة التي يرأسها األب الخلية األولى األساسية في الحياة االجتماعية وليس الفرد‪ .‬فقد عاش البشر منذ البداية‬
‫في عائالت منفصلة تحت سيطرة رب العائلة‪ .‬وبنمو عدد أفراد العائلة‪ ،‬ظهرت العالقات االجتماعية المركبة المتصلة‬
‫بالتبعية والرئاسة وهي تضم ثالثة أنواع متميزة من العالقات‪ :‬عالقة الزوج والزوجة عالقة الوالدين والطفل وعالقة‬
‫السيد والخادم‪ ،‬وهنا يميز أرسطو باهتمام كبير بين السلطة السياسية داخل الدولة التي تمارس على المواطنين األحرار‬
‫والمحكومين بصفة عامة‪ ،‬والسلطة داخل العائلة التي يمارسها الزوج على زوجته واألب على أوالده والسيد على عبده‪.‬‬
‫فهناك اختالف بين طبيعة السلطة التي يتمتع بها الرجل على امرأته وأوالده وعبيده وسلطة الحاكم الدستورية على‬
‫المحكومين‪ ،‬ولذا يرى أرسطو أن أفالطون وقع في حطأ فادح عندما شبه الدولة بالعائلة وأنها كتبت بأحرف مكبرة‪،‬‬
‫ونتيجة لذلك لم يميز بين العالقة األسرية والعالقة السياسية‬
‫ب ‪ -‬مرحلة القرية ضرورة تكتل عائالت كثيرة في إطار تنظيم اجتماعي‬
‫تنتقل العائلة تدريجيا إلى مرحلة تجمع القرية بسبب اتحاد عدة عائالت لغرض التعاون المتبادل والحماية المشتركة‬
‫ضد أخطار تواجههم جميعا‪ .‬فالعائلة ال تكفي لسد حاجيات أفرادها ولصد االعتداءات الخارجية‪ .‬فهي ضعيفة إزاء‬
‫متطلبات الحياة اليومية وضعيفة أمام العالم الخارجي‪ ،‬ولذا نشأت الضرورة لتكتل عائالت كثيرة في إطار تنظيم‬
‫اجتماعي أكثر تطورا هو القرية‪ .‬ولكن تحت ضغط التطور االجتماعي‬
‫واالقتصادي يصبح هذين الشكلين من التنظيم االجتماعي‪ :‬شكل العائلة وشكل القرية ال يكفيان إلشباع‬
‫أهم الحاجات الدائمة للطبيعة اإلنسان ية‪.‬‬
‫ج ‪ -‬مرحلة المدينة ‪ -‬الدولة‪ :‬اإلنسان بحكم الطبيعة حيوان سياسي‬
‫تنشأ المدينة الدولة عن تجمع عدة قرى متقاربة‪ ،‬فهي تستطيع االستجابة لكافة احتياجات أعضائها سواء الروحية‬
‫منها أو المادية إن المدينة الدولة في شكلها العام في رأي أرسطو هي غاية التقدم االجتماعي وهي الكلمة األخيرة فيه‪.‬‬
‫ففي إطارها يتعلم اإلنسان مبادئ األخالق والفضيلة‪ ،‬وفي إطارها يتفتح ويبدع وينتج ويعيش بشكل كامل‪.‬‬
‫إن الذي ال يحتاج للعيش في إطار الدولة يكون حسب أرسطو أقل أو أكثر من اإلنسان أي إما أن يكون حيوانا وإما‬
‫أن يكون إلها‪ « :‬هذه االعتبارات تبين إذن أن المدينة تدخل في عداد الوقائع التي توجد بشكل طبيعي‪ ،‬وأن اإلنسان‬
‫بحكم الطبيعة حيوان سياسي؛ وأن اإلنسان الذي يعيش بشكل طبيعي‪ ،‬وليس نتيجة لظروف ما خارج المدينة هو إما‬
‫كائن منحط أو فوق مستوى البشر‪ ...‬إنه إما وحش وإما إله»‪.‬‬
‫إن الدولة ليست ضرورية لتلبية الحاجات المادية لإلنسان فقط وهي الحاجات المتعلقة باإلنسان من حيث هو حيوان‬
‫أو لتنمية طبيعته السفلى كما رأى أفالطون فحسب ولكنها ضرورية لتنمية الطبيعة السامية في اإلنسان التي تميز‬
‫اإلنسان عن الحيوان أي الطبيعة العقلية فاإلنسان يمتاز عن سائر المخلوقات بالعقل المفكر فالدولة تقوم على أساس‬
‫مادي ومعنوي وعلى أساس شعور وجداني يتمثل في الصداقة ‪ . )Philia‬إن إرادة العيش معا يقول أرسطو‪ ،‬تتمثل في‬
‫الصداقة بمعنى أن ارتباطات الزمالة والصداقة هي قوام الدولة»‪.‬‬
‫كما أن الدولة تتألف من األفراد ولكنها ليست مجموعا حسابيا لهم‪ ،‬ألعدادهم بل تتحول إلى وحدة‪ ،‬إلى جماعة إلى‬
‫مجتمع كامل يعتنق أرسطو في هذا الصدد المذهب العضوي‪ ،‬فهو يتصور الدولة كجسم عضوي له حياة شبيهة بالكائن‬
‫الحي‪.‬‬
‫فالدولة لها حياة وغاية خاصة بها كذلك الشأن بالنسبة ألعضائها‪ .‬وغاية الدولة تشمل غاية ‪ .‬األفراد‪ ،‬وقضت الطبيعة‬
‫بأن تكون الدولة سابقة على العائلة وعلى الفرد كذلك‪ ،‬ألن الكل يسبق الجزء بالضرورة‪.‬‬
‫‪ ‬خصائص الدولة عند أرسطو ‪" /‬الدولة الدستورية"؛‬
‫تتجلى أهم الخصائص ومميزات الدولة عند أرسطو على مستويين‪:‬‬
‫مستوى وظائف الدولة مستوى مفهوم المواطنة‪ ،‬واألساس الفلسفي الكالسيكي لنظرية فصل السلط‪.‬‬
‫أ ‪ -‬وظائف الدولة‬
‫تتمثل أهم وظائف الدولة حسب أرسطو في الحرص على وحدة المدينة ‪ -‬الدولة وعلى سمو القانون‪.‬‬
‫‪ - 7‬وحدة المدينة ‪ -‬الدولة‬
‫إذا كانت الوحدة عند أفالطون تشكل غاية الغايات لدرجة أنه في سبيل تحقيقها يجب التضحية بكل شيء‪ ،‬فإن‬
‫أرسطو يحذر من أخطار الوحدة المفرطة في الدولة ويقول بأن إلغاء العائلة والملكية الخاصة قد تؤدي حتما إلى الوحدة‬
‫المفرطة والمزيفة التي تقضي على كيان الدولة‪ .‬إن أفالطون في رأي أرسطو بحرمانه الحراس والجند من حق الملكية‬
‫الخاصة وتحويل هذا الحق للطبقة الثالثة فقط إنما خلق دولتين منفصلتين في دولة واحدة وجعل من الحكام والحراس‬
‫جيش احتالل‪ .‬إن أرسطو يرى أن وحدة المدينة ‪ -‬الدولة ضرورية وكل دولة تسعى لتحقيقها لكن على أساس التوازن‬
‫واالعتدال‬
‫‪ - 7‬سمو القانون‬
‫إن دولة أرسطو المثالية هي جماعة من البشر المتساوين ينشدون أصلح حياة ممكنة في ظل تفوق القانون وسيادته‪،‬‬
‫ولكن القانون ليس مرتبطا فقط بالهدف األسمى للعدالة فهو يعد تعبيرا عن القيم الخالدة لألخالق ومجسدا أيضا حكمة‬
‫العقل وبالتالي‪ ،‬فالقانون يستوجب أن يكون مجردا من األهواء العمياء ومتحررا من الشهوات والرغبات الذاتية وفي‬
‫نفس الوقت يجب أن يكون طبيعيا مثل الدولة‪.‬‬
‫وفي هذا الصدد؛ يرى أرسطو أن المشرع هو الذي يتحمل عبئ زرع مضمون هذه القوانين في روح المواطنين من‬
‫خالل التعليم وال تربية‪ ،‬فال فائدة في امتالك أفضل القوانين إذا لم يخضع المواطنون لعادات ولتربية تجعلهم يحترمون‬
‫قواعدها وروحها ولذا قالقانون األسمى يلزمه بعض الوقت لكي ينغرس في أذهان المواطنين وروح ا المدينة ويصبح‬
‫عادة طبيعية‪ .‬إن الحاكم الذي ال يتقيد بالقانون في رأي أرسطو كالطبيب الذي يعالج المرضى وفقا ألهوائه غير متقيد‬
‫بالمبادئ الطيبة السليمة‪.‬‬
‫وفي هذا الباب؛ انتقد أرسطو أفالطون عندما جعل الحكم بواسطة الفالسفة أفضل حكم‪ .‬إن‬
‫أفضل الحكام عند أرسطو ال يستطيعون االستغناء عن القانون ألن له طابعا موضوعيا مجردا من الميول واألهواء‬
‫والنزعات الفردية إن اإلنسان في غياب حكم القانون‪ ،‬يصبح من أشد الحيوانات افتراسا‪ ،‬فتطبيق القانون وسيادته هو‬
‫الذي يميز في آخر المطاف الدولة الصالحة عن الدولة الفاسدة‪.‬‬
‫وبهذا أيد أرسطو حكم القانون لكونه يمتاز بثالثة عناصر رئيسية إنه حكم يستهدف الصالح العام وذلك عكس الحكم‬
‫الطائفي أو االستبدادي‪ .‬إنه حكم قانوني تديره السلطة‪ ،‬وفقا لقواعد عامة ال بموجب أوامر تحكمية وبالتالي‪ ،‬ال تستطيع‬
‫السلطة أن تتجاهل العادات واألعراف الجاري بها العمل‪ .‬إن حكم القانون يعتمد على رضى المواطنين‪.‬‬
‫ب املواطنة‬
‫يعطي أرسطو تعريفا واسعا لمفهوم المواطن فهو الفرد ذو القدرة على المساهمة في المسائل القضائية وإدالء الرأي‬
‫في شؤون حكم الدولة»‪ .‬فالمواطن هو الذي يساهم في مداوالت الجمعية العمومية وفي سن القوانين وكذلك في مزاولة‬
‫وظيفة القضاء بالطبع ال ينطبق هذا التعريف إال على النظام الديمقراطي‪ ،‬وحتى يتكيف مع كل أشكال الحكم ومنها على‬
‫وجه األنظمة األرستقراطية األليغارشية التي تخول السلطة التشريعية والسلطة القضائية لهيئة من الموظفين‬
‫المتخصصين يرى أرسطو في آخر المطاف أن المواطن هو الذي يحظى بفراغ يمكنه من تكريس جهوده الكاملة‬
‫للمساهمة الخصوص في شؤون الجمعية ومزاولة وظيفة القضاء وعلى هذا األساس‪ ،‬فصفة المواطن ال تشمل الفالحين‬
‫والصناع والتجار‪ .‬إن هؤالء ال يمكن لهم في رأيه أن ينشدوا الفضيلة وأن يتفرغوا لخدمة الدولة ‪ -‬المدينة ومصالح‬
‫المواطنين ألنهم منهمكون في أعمالهم‪.‬‬
‫ج ‪ -‬األصل الفلسفي لنظرية فصل السلط‬
‫ميز أرسطو بين ثالثة أجهزة داخل الدولة‬
‫‪ ‬الجهاز األول يشرع في القضايا المشتركة‪ ،‬يمارس السلطة القانونية العليا في الدولة ويسن القوانين ويختار‬
‫الحكام‪ ،‬يعين السفراء ويراقب المسؤولين عن المعاهدات ويقضي في أمور الحرب والسلم‪.‬‬
‫‪ ‬الجهاز الثاني يقوم بتنفيذ القوانين وتدبير اإلدارة‬
‫‪ ‬الجهاز الثالث فهو الذي يفض في المنازعات ويطبق القانون ويسعى إلى تحقيق العدالة‬
‫ولقد كان هذا التمييز أساسا لما نسميه بمفهومنا المعاصر بنظرية فصل السلط التي طورها جون لوك ومونتيسكيو‪.‬‬
‫يرى أرسطو أن أنظمة الدول ودساتيرها تختلف باختالف قوة هذه السلطات وتنظيمها و تمركزها بيد واحدة او انفصالها‬
‫مع وجود التعاون لتحقيق التوازن في الحكم‪.‬‬
‫‪ ‬أشكال الدساتيرو أنواعها وعالجها‬
‫فضل أرسطو تقسيم الدساتير ال على أساس الحصر الجامد بل على سبيل المثال‪ ،‬ألن الدساتير تختلف باختالف‬
‫الزمان والمكان وقد يصلح دستور لشعب ما وال يصلح لشعب آخر‪ .‬فالدستور الصالح ليس نموذجا ثابتا مطلقا بل عليه‬
‫أن يتالءم مع طبيعة الشعب وأعرافه وتقاليده وعقليته‪ ،‬فثمة عالقة جدلية بين النظام السياسي والوسط االجتماعي ‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬يميز أرسطو كسابقيه (هيرودوت‪ ،‬أفالطون إلخ ‪ )...‬بين ثالثة أنواع من الدساتير بحسب عدد‬
‫الحكام الدستور الملكي والدستور األرستقراطي والدستور الديمقراطي‪ .‬ولكن لكل دستور شكله المنحرف الحكم الفردي‬
‫المستبد والحكم األوليغارشي وأخيرا حكم الديمقراطية المتطرفة أي حكم الديماغوجية وحكم الطبقات الشعبية الجاهلة‬
‫والفوضوية‪ ،‬وينتقد أرسطو هذا التصنيف الذي يقوم على أساس العدد ويقترح تصنيفا آخرا أساسه جوهر ونوعية‬
‫الحكم‪.‬‬
‫فجوهر الحكم األرستقراطي والديمقراطي ال يختلف حسب عدد القائمين عليه فحسب بل يمتد إلى أعمق البنية‬
‫االقتصادية‪ ،‬فاألول هو حكم األغنياء والثاني هو حكم الفقراء‪ .‬ويرى أرسطو أن كال النموذجين خاطئان على السواء‪،‬‬
‫ألن كليها يغفل عن الغاية الحقة للحكم وهي السعي والعمل من أجل الوصول إلى «حياة حسنة طيبة‪ .‬وخير‬
‫الديمقراطيات حسب أرسطو‪ ،‬هي الديمقراطية الزراعية التي يشكل فيها الفالحون المالك الشريحة العريضة في‬
‫المجتمع‪ .‬فهم بحكم انشغالهم اليومي بأعمالهم‪ ،‬ال يتوفرون على الوقت الالزم لممارسة شؤون الدولة‪ .‬وبالتالي فهم‬
‫يميلون إلسناد السلطة إلى لنخبة متنورة من المواطنين تكون منتخبة منهم ومسؤولة أمامهم وأسوأ الديمقراطيات هي‬
‫ديمقراطية المدن التي تكون فريسة للديماغوجيين الذين يسخرون من مبدأ سيادة القانون وينشرون حكم الغوغاء‬
‫والفوضى‪ ،‬حيث تصبح القرارات التي تصدرها الجمعيات السياسية مماثلة ألوامر الحكم الطغياني ويضحى‬
‫الديماغوجيون والمضللون هم أصحاب الحل والعقد ألن الشعب جاهل وينقاد إليهم‪.‬‬
‫‪ ‬عالج الدساتير‬
‫يقدم أرسطو مجموعة من الوصفات تستهدف عالج الدساتير الفاسدة ومنها‪:‬‬
‫أوال‪ :‬ينبغي أن تكون األغلبية الساحقة من المواطنين داخل المدينة حريصة على الحفاظ على الدستور واستمراره‬
‫ثانيا‪ :‬يجب تطبيق مبدأ االعتدال والقياس العادل على كل شكل من أشكال الحكم‬
‫ثالثا‪ :‬العمل على وضع نظام تربوي يتالءم مع شكل الحكم الموجود قصد جعل المواطنين يخضعون لعادات وتربية‬
‫تدخل في روح الدستور‪.‬‬
‫رابعا الحرص على أن ال تكون مناصب الحكم أو الوظائف العامة مصدرا لألرباح وذلك في إطار أي شكل من‬
‫األنظمة السياسية القائمة ألن ذلك يثير سخط الشعب وغضبه؛‬
‫خامسا ‪ :‬عدم السماح ألي مواطن بتحقيق نمو غير متوازن في قوته ومن المناسب المثابرة على إعطاء أمجاد كبيرة‬
‫خالل مدة وجيزة من الزمن والسبب في ذلك أن البشر بطبعه ميالون إلى الفساد وأن القلة القليلة منهم يقاومون الفساد»؛‬
‫لقد فضل أرسطو حكم الملك العاقل وحكم األرستقراطية التي ال تهتم بمصالحها الخاصة ولكن استحالة تحقيق هذا‬
‫الحكم أو ذاك لندرة وجود الملك العاقل وصعوبة العثور على األقلية الممتازة‪ ،‬من الصعب إذن تحقيق هذين الشكلين من‬
‫الحكومات الصالحة‪ ،‬فما هو الشكل األفضل الممكن تحقيقه على أرضية الواقع؟‬
‫‪ ‬الجمهورية المعتدلة مطلب «الدستور المختلط»‬
‫يفضل أرسطو «الدستور المختلط الذي يحقق حال توفيقيا بين شكلين من الحكم الفاسد وهما األوليغارشية‬
‫والديمقراطية المتطرفة‪ .‬ويكون األساس لهذا النظام السياسي هو الطبقة المتوسطة‪ .‬فهذه الطبقة ال يقودها الفقر وال‬
‫يدفعها حب المال والثروة إلى التمرد‪ .‬فهي تضمن توازن واستقرار الدولة‪« .‬وحيث تتفوق الطبقة المتوسطة بعددها‬
‫على الطبقتين المتطرفتين جميعا‪ ،‬أو في األقل على إحداهما‪ ،‬فهناك يحتمل أن تكون السياسة ثابتة فال خوف البتة من أن‬
‫يتحالف األغنياء والفقراء على أهل الطبقة الوسطى‪ ،‬إذ لن يقبل أحد الطرفين أن يستعبد اآلخر‪ ،‬وإن بحثا عن سياسة‬
‫مشتركة بينها‪ ،‬فلن يجدا سياسة أخرى غير تلك التي تعتمد على الطبقة الوسطى دون غيرها» ((أرسطو)‪.‬‬
‫إن الطبقة الوسطى تحترم القانون وتتجنب التجاوزات فهي ال تعمل لصالحها وحدها بل من أجل مصلحة جميع‬
‫الشعب وهي تسعى دائما لتحقيق العدل واإلنصاف للجميع‪ ،‬وبالتالي فهي مؤهلة عن غيرها إلرادة شؤون الدولة‪ .‬وبهذا‪،‬‬
‫طور أرسطو نظرية الدستور القابل للتطبيق تحت اسم نظام الجمهورية المعتدلة ‪ LA POLITIE‬يطبق فيها مبدأ خير‬
‫األمور الوسط‪ .‬فهي دولة معتدلة وسطى ال يحكم فيها األغنياء فقط وال الفقراء فقط بل الطبقات الوسطى وهي ال تطلب‬
‫من المواطنين فضيلة كاملة وال تطمح لتحقيق الخير األعظم لهم أو للمدينة‪ ،‬إن الجمهورية المعتدلة تتوخى أهدافا‬
‫متواضعة وتتبنى غايات واقعية فهي تستهدف باألساس تحقيق التوازن المرن بين الكم والكيف‪.‬‬
‫إن الدولة المختلطة بهذا المفهوم‪ ،‬نظام يحارب بذور التفرقة والحقد بين الطبقات االجتماعية ويعمل على خلق أسس‬
‫االنسجام والصداقة ‪ PHILIA‬بين جميع أفراد المجتمع‪ .‬إن هذا التصور الذي بلوره أرسطو يجد تفسيره أساسا في تنوع‬
‫التجارب السياسية التي احتك بها هذا الفيلسوف وفي منهجه الواقعي وكذلك في إيمانه الراسخ بفضائل االعتدال‪.‬‬
‫‪ ‬تفاعل أرسطو مع فكرة المدينة الفاضلة‬
‫بعيدا عن المثالية المفرطة والنظرة الفلسفية المجردة التي خلفها أفالطون حاول أرسطو رسم معالم مدينة مثالية‬
‫فاضلة مع التركيز على الشروط المادية والمعنوية الضرورية لضمان حسن سيرها وإيجاد التوازن واالنسجام بين‬
‫أفرادها‪.‬‬
‫‪ - 8‬الشروط المادية‬
‫ينبغي على المدينة الفاضلة أن تتميز في رأي أرسطو بالتناسق بين عدد السكان والمساحة والمؤهالت االقتصادية‪.‬‬
‫فعدد سكانها يجب أن يكون معتدال ومنسجها مع مساحة المدينة ‪ -‬الدولة ومالئما لثروتها االقتصادية بحيث تتوافر فيها‬
‫عناصر االكتفاء الذاتي حتى تلبي حاجات مواطنيها ومتطلباتهم‪ .‬تتكون المدينة الفاضلة من شعب وسط يجمع بين ذكاء‬
‫أبناء المناطق الحارة الشرقية وحرية أبناء المناطق الشمالية الباردة وهي تبيح اإلجهاض إذا تكاثر السكان بشكل يهدد‬
‫توازن المجتمع وهي تبيح كذلك قتل األطفال المشوهين‪ .‬وينبغي على الدولة الفاضلة أن تهتم بقضية الزواج ويقترح‬
‫أرسطو في هذا الصدد أن يؤجل زواج الشباب حتى السابعة والثالثين من فتاة ال تتجاوز العشرين تلك التي ينبغي على‬
‫المدينة الفاضلة أن تكون منيعة على األعداء لها منفذ على البحر بحوزتها أسطول قوي لرد العدوان‪ ،‬سهلة المداخل‬
‫والمخارج على المواطنين‪.‬‬
‫ب ‪ -‬الشروط المعنوية‪:‬‬
‫يرى أرسطو أن الدولة الفاضلة ينبغي لها أن تضع نظاما تربويا صالحا إلعداد المواطنين وتربيتهم تربية حسنة كما‬
‫ينبغي للتربية أن تكون عامة وإلزامية وأن تكون موجهة نحو ترسيخ مبادئ وروح الدستور‪ .‬وال تختلف في العمق‬
‫القواعد التربوية التي يوصي بها أرسطو عن ت وضعها أفالطون اختالفا كبيرا‪.‬‬
‫فكالهما يقسم التعليم إلى مراحل تدرجية وكالهما يقول بأن هدف التعليم األولي ينبغي أن يتجه إلى تنمية الجسم‬
‫وتلقين علوم الفن والموسيقى‪ .‬ويختلف أفالطون وأرسطو حول بعض النقط التفصيلية‪ ،‬وهكذا يرى أرسطو مثال بخالف‬
‫مؤلف «الجمهورية» أن العائلة لها دورها في تعليم النشء شريطة مراقبة رسمية من طرف الدولة تحد من تعسف‬
‫الوالدين المحتمل وتؤمن وحدة الرؤى التربوية‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق بالفنون الجميلة‪ ،‬فقد اقترح أفالطون أن تمنع أشكال الموسيقى المثيرة للعواطف بشكل غير مقبول‪ ،‬أما‬
‫أرسطو‪ ،‬فيرى أن الفن المثير للحواس يمكن أن يكون مفيدا جدا لعالج النفس من وقت آلخر‪ .‬ويميل أرسطو إلى اإلبقاء‬
‫على أكثر أشكال الموسيقى إثارة للحواس وذلك على أساس ما يسميه بقدرتها التطهيرية‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يتضح أن أرسطو لم يكن مجددا في هذا المجال بل صار على نهج أستاذه‪ ،‬لقد تطرق أفالطون في كتابه‬
‫«القوانين» للشروط المادية والمعنوية داخل المدينة ‪ -‬الدولة فاستوحى أرسطو منها الكثير‪.‬‬
‫ولكن ما يثير العجب واالستغراب هو كيف أن أرسطو مؤسس علم المنطق والقياس ومنظر دولة االعتدال والوسط‬
‫الحكيم بين اإلفراط والنقصان واحترام القانون بقي حبيس نظام المدينة ‪ -‬الدولة حيث اعتبرها بمثابة الوحدة السياسية‬
‫والنموذج الخالد في نفس الفترة التاريخية التي كان فيها أحد تالميذ أرسطو اإلسكندر األكبر يؤسس إلمبراطورية‬
‫ضخمة‪ ،‬واسعة األطراف ستصبح إطارا لتقدم الحضارة‪.‬‬
‫استلهم أرسطو من الماضي كثيرا ولكنه لم يتأثر بالظروف التي كان يعايشها‪ ،‬وقد يعزي البعض ذلك إلى تأثره‬
‫الكبير بأفالطون وخاصة لما أورده في كتابه «السياسي» و«القوانين» باإلضافة للتعديالت التي أدخلها لجعل نظريته‬
‫أكثر وضوحا وتماسكا‪ .‬بالرغم من ذلك فإن أفكار أرسطو السياسية أثرت على مسار الفكر اإلنسان ي وشكلت مصدر‬
‫إلهام حتى بالنسبة لعصرنا الحاضر‪.‬‬
‫الفصل الرابع ما بعد اضمحالل فكرة املدينة الدولة ووالدة فكرة اإلمرباطورية الدولة ‪ -‬العاملية‬
‫عرف تاريخ الفكر السياسي اإلغريقي بعد أفالطون وأرسطو مرحلة جزر وتقاعس ويعزى ذلك أساسا إلى األحداث‬
‫السياسية واالجتماعية التي اجتاحت المدن اليونانية والتي أدت إلى انهيارها بعد قيام اإلمبراطورية المقدونية‪.‬‬
‫وكان لنتيجة قيام إمبراطورية اإلسكندر اضمحالل دولة المدينة‪ ،‬مما أدى إلى ضعف الشعور القومي الذي كان يميز‬
‫دولة المدينة‪ ،‬وانفصال الفرد عن الدولة‪ .‬ومن هنا كان ال بد أن تحل أوجه للنشاط غير النشاط السياسي‪ ،‬وكان أن انتقلت‬
‫الفلسفة إلى البحث عن وسائل إلسعاد اإلنسان بمعزل عن الدولة‪ .‬وهكذا غابت الفلسفة التي كانت تبحث في سعادة‬
‫الفرد باعتباره مواطنا‪ .‬ولكن كان لهذه الفلسفة أثرا اجتماعيا هاما؛ فقد نشأ عنها تسليم إن لم تكن دعوة إلى المساواة‬
‫ال تامة بين األفراد بما فهم العبيد والبرابرة وأصحاب الحرف اليدوية‪ .‬والواقع أن دولة المدينة كانت تواجه مشاكل سياسية‬
‫كثيرة‪ ،‬فهي ال تستطيع تحقيق االكتفاء الذاتي في اقتصاداتها‪ ،‬وبالتالي أصبحت في حاجة ماسة إلى العالم الخارجي‪ .‬وهذه‬
‫المشكلة الرئيسية التي واجهت دولة المدينة أدت إلى ضعفها وضمها إلى اإلمبراطورية الرومانية‪ .‬كما أن تضارب المصالح‬
‫المختلفة فيها واشتداد الصراعات االجتماعية خصوصا بين الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة نتج عنه عدم االستقرار‬
‫وكانت عاقبته انهيار الدولة المدينة وتجدر اإلشارة أن ضعف الشعور بالوطنية وهو ذلك الشعور الذي كان يميز المدينة ‪-‬‬
‫الدولة كان سببا آخرا أدى إلى ضعف كيانها‪ .‬ساعدت هذه األحداث التي أدت إلى نهاية الدولة ‪ -‬المدينة وحلول امبراطورية‬
‫اإلسكندر على ظهور تيارات فكرية متعددة جعلت من الفرد محور الوجود ومركز الثقل فيه‪ ،‬وقد انتقلت الفلسفة السياسية‬
‫خالل هذه المرحلة‪ ،‬بسبب ضعف الحس الوطني الذي كان يعد من الصفات المتميزة عند اة عند المواطن االثني داخل‬
‫المدينة الدولة من صعيد الدولة والجماعة إلى صعيد الفرد حيث انكمش هذا األخير على ذاته وأخذ يهتم فقط بشؤونه‬
‫الخاصة وكيفية الخالص من آالم وشرور الحياة وتخلى عن البحث في شؤون الحكم‪.‬‬
‫ولقد برزت خالل هذه المرحلة االنتقالية المتأزمة تيارات فكرية جديدة أقل شمولية في التصور وأقل عمقا في التحليل‬
‫تعكس أزمة التحول من نمط سياسي يعتمد على اإلطار الضيق للمدينة الدولة إلى نمط سياسي أخر أوسع مجاال يرتكز‬
‫على الدولة ‪ -‬االمبراطورية وتتمثل هذه التيارات على وجه الخصوص في المدرسة األبيقورية والمدرسة الكلبية والمدرسة‬
‫الرواقية‬

‫‪ ‬املدرسة األبيقورية ‪ :‬سعادة اإلنسان وعدم املشاركة يف احلياة السياسية‬


‫بما أن الغاية األسمى للحياة تحقيق سعادة الفرد بتوفير إشباع الرغبات الروحية والثقافية والمادية لكل فرد وبما أن‬
‫الدولة هي نتاج اإلنسانية‪ ،‬ذلك أن الفرد ما اشترك في تحقيقها إال لتأمين مصالحه الشخصية البحتة‪ .‬وبما أن القانون هو‬
‫اتفاق نفعي أوجده األفراد لتحقيق الطمأنينة في معيشتهم وبما أن الفرد الساعي إلى السعادة ال يشترك في الحياة العام؛‬
‫لذلك فال بأس من خضوع األفراد خضوعا تاما ألية حكومة تعمل على تحقيق السالم والنظام سواء كان النظام استبداديا‬
‫أو ديمقراطيا‪ .‬هذا هو موجز مقومات وكيان تفكير األبيقوريين السياسي‪.‬‬
‫‪ . ‬سعادة الفرد كمنطلق‬
‫حسب المدرسة األبيقورية‪ ،‬اإلنسان أناني بطبعه فهو يبحث دوما عن مصالحه الذاتية والدولة نشأت بصورة‬
‫اصطناعية نفعية لتحمي الظلم والتصدي للعدوان الخارجي على أساس عقد يضمن لهم العدالة ويزيل مصدر اآلالم فيما‬
‫بينهم ويمنع الفوضى ويوفر لهم شروط السعادة والطمأنينة‪ .‬هذه النظرية التي تفسر نشوء الدولة على أساس عقد‬
‫اجتماعي سوف تؤثر فيها بعد على الفالسفة المحدثين وخصوصا منهم الفيلسوف اإلنجليزي هوبس والفرنسي جون‬
‫جاك روسو‪.‬‬
‫كما ترى المدرسة األبيقورية أن القانون التي تضعه الدولة يعتمد أيضا على االتفاق المنفعي الهادف إلى منع إلحاق‬
‫الضرر بين األفراد وتحقيق األمن وكل قانون يحقق هذه المنافع يعتبر عادال بصرف النظر عن طبيعة الدولة أهي‬
‫استبدادية أم ديمقراطية‪.‬‬
‫‪ . ‬مطلب االنعزال وعدم املشاركة عن السياسة‬
‫يعتقد األبيقوريون في ضرورة االنعزال وعدم المشاركة في الحياة السياسية‪ ،‬حيث أنه على المواطن الحكيم أن‬
‫ينسحب من الحياة السياسية وال يشارك في أمور تدبير شؤون الدولة إال إذا دعت مصلحته الشخصية لذلك‪ .‬ويبررون‬
‫هذا الموقف السلبي بكون السياسة شر والعاقل يعمل على تجنبها قدر المستطاع‪ .‬فكلها تجنب المواطن متاهات الحياة‬
‫السياسية كلها تجنب اآلالم ونعم بهدوء البال‪ .‬فضال عن ذلك‪ ،‬فإن الفرد والمجموعة ال يمكن لهم أن يغيروا كثيرا في‬
‫مجرى األمور التي تتحكم فيها الدولة‪.‬‬
‫‪ ‬املدرسة الرواقية وسؤال الدولة العاملية‬
‫الفكر الرواقي اإلغريقي القديم انطلق من فكرة قانون الطبيعة الذي يصح لجميع الكائنات‪ .‬والرواقية من أهم‬
‫المدارس الفكرية التي أسهمت في تطور الفكر السياسي والقانوني من حيث تركيزها على وجود عالقة بين قوانين‬
‫الطبيعة والقوانين العامة التي توجه عمل الفرد وحياته‪.‬‬
‫نشأت الرواقية في عصر اإلغريق بعد مرحلة أرسطو من خالل مؤسسها زينون الرواقي ‪ Zeno 262 - 334‬ق‪.‬‬
‫م‪ ).‬واستندت في فلسفتها إلى الجبرية التي تقول بأن كل شيء يحدث في هذا العالم إنما هو محدد بما هو سابق له‪ .‬امتد‬
‫تأثيرها في اإلمبراطورية الرومانية وخصوصا في مذهب سيشرون ‪ )Cicero 43 - 106‬ق‪.‬م‪ ).‬الخاص بالقانون‬
‫الطبيعي‪ ،‬والممتد الى سائر الشعوب‪ .‬كما تأثرت المدرسة الرواقية كغيرها من المدارس األخرى بالفلسفة السقراطية‪،‬‬
‫ذلك أن حياة سقراط القائمة على الزهد والعزوف التام عن لذائذ الجسم وموقفه الرصين إزاء الموت ودفاعه عن الرأي‬
‫القائل بأن العمل على نشر الظلم يضر نفسه أكثر مما يضر ضحيته ‪ ...‬كل ذلك الءم الرواقية وانسجم مع منهاجها‪.‬‬
‫وصحيح أن الرواقيون هم مثل األبيقوريون من حيث النظر إلى أن الغرض من الحياة تحقيق السعادة لكل فرد‬
‫ولكنهم يخالفونهم في تعريف السعادة فيرون أنها تكمن في السيطرة على االنفعاالت العاطفية‪ ،‬وإخضاع الرغبات غير‬
‫األخالقية لحكم العقل لكن أمام أزمة المدينة ‪ /‬الدولة وضعف الحس الوطني‪ ،‬ركزت المدرسة الرواقية بحثها على‬
‫شؤون الفرد وسعادته وميزت بين عالقة الفرد بالطبيعة وعالقة الفرد بالمجتمع‪.‬‬
‫فالرواقيون يختلفون عن األبيقوريين أساسا في تعريف السعادة فيرون أنها كبت االنفعاالت العاطفية وإخضاع‬
‫الرغبات الالأخالقية لحكم العقل وبذلك فصل الرواقيون األخالق عن السياسة فصال تاما ليؤكدوا مبدأ المساواة التامة‪.‬‬
‫ولكنهم ال يغفلون ما بين األفراد من تباين‪ ،‬لذلك فقد ابتكروا فكرة «العصر الذهبي» إلثبات أن األصل في األفراد هو‬
‫التشابه‪.‬‬
‫ويمكن اختزال األفكار الرواقية في محورين أساسيين‪ :‬الفرد في العصر الذهبي والدولة‪.‬‬
‫‪ . ‬حمور الفرد يف العصر الذهبي‬
‫فكرة «العصر الذهبي تعني أن األفراد قبل اندماجهم في مجتمع الدولة كانوا يعيشون في مجتمع مثالي ال فوارق فيه‪،‬‬
‫ومعيشة األفراد في الدول هي التي أوجدت هذه الفوارق والعصر الذهبي ذلك الزمن الذي وجد فيه المجتمع المثالي‬
‫الخالي من الفوارق ويرتبط العصر الذهبي بمدينة العالم‪ ،‬حيث‬
‫القانون الطبيعي‪ ،‬الذي يعمل على اتحاد جميع األفراد فيها يعيشون المساواة ويحاول كل منهم تنسيقا‬
‫يساير القانون الطبيعي الذي هو أسمى من رغبات اإلنسان وحيث اإلخاء العالمي"‪.‬‬
‫أ ‪ -‬الفرد والطبيعة ترى الرواقية أن كل األشياء أجزاء من نسق واحد يطلق عليه الطبيعة والكائنات البشرية‬
‫كالطبيعة يجب أن تخضع لنظام يتصف بالتناسق واالنسجام ومطابقة العقل ‪ Logos‬إن حياة الفرد تكون سعيدة إذا‬
‫انسجمت مع الطبيعة وتكون تعسة إذا تعارضت مع قوانين الطبيعة المنسجمة‪ .‬كما أن تحقيق الفضيلة ال يمكن أن يتأتى‬
‫إال بالعيش في انسجام تام مع الطبيعة كما يتوقف على إرادة الفرد الذي يجب عليه أن يتحرر من شهوات ولذات الحياة‪،‬‬
‫فسعادة اإلنسان أو شقاؤه مرهونة إذن بإرادته فقط‪ .‬إن اإلنسان الحكيم هو الذي ينفر األشياء المادية واللذة والترف‬
‫والمال والنجاح ويهتم بذات نفسه وكاله األخالقي وعيشه وفقا للطبيعة وبطلبه الفضيلة التي تجسد السعادة الكاملة‪ .‬عليه‬
‫أن يهتم‬
‫ب ‪ -‬الفرد والمجتمع ‪ :‬تبنت المدرسة الرواقية فكرة الفردانية ورأت أن الفرد يجب بشؤونه الخاصة وبذاته من ناحية‬
‫وبترتيب عالقاته مع اآلخرين من ناحية أخرى وال يجب أن يهتم بأمور مدينته الضيقة ألن العالم بأسره هو عالمه‪ ،‬فهو‬
‫عضو في هذا العالم تجمعه مع اآلخرين روابط األخوة اإلنسان ية وتقنن عالقاتهم قواعد القانون الطبيعي‪ .‬إن مفهوم‬
‫المواطن العالمي يستند على مبدأ المساواة ما بين البشر «ألن كل الناس مواطنون‪ ،‬وألن لهم حياة واحدة ونظاما واحدا‬
‫لألشياء‪ ،‬كما هو حال القطيع الموحد في ظل قاعدة قانون مشترك»‪ .‬وعلى عكس المواطن العالمي عند الكلبيين الذي‬
‫كان يتميز بالسلبية والهروب من الواقع فإن المواطن العالمي عند الرواقيين يجب عليه أن يتحمل مسؤولية المشاركة في‬
‫حل مشاكل المجتمع إال في حالة تعذر قصوى‪ .‬إن الفرد هو مواطن عالمي‪ ،‬فهذا المجتمع العالمي أعضاؤه الناس‬
‫واآللهة وما الفرق بين الناس سوى اإلرادة والفضيلة‪ .‬ولقد ميز الرواقيون بين نوعين من المدن األولى هي المدينة التي‬
‫يولد فيها اإلنسان والثانية هي المدينة العالمية التي ال تحدها حواجز مصطنعة وحدود وهمية‪.‬‬
‫‪ ‬حمور الدولة عند الرو اقيني‬
‫عالجت المدرسة الرواقية على المستوى السياسي فكرتين أساسيتين تتعلق بالدولة العالمية والدولة المختلطة‪.‬‬
‫أ ‪ -‬الدولة العالمية‪ :‬انطالقا من مواطنتهم العالمية (‪ ،)Cosmopolitisme‬تعتبر المدرسة الرواقية‬
‫الدولة المثالية هي الدولة العالمية فهي تجعل حدا للدول والكيانات الصغيرة والعديدة وللتشريعات‬
‫المختلفة وتسعى إلى جعل العالم موطنا للجميع بدون تمييز‪.‬‬
‫تقوم الدولة العالمية في منظور الرواقيين على أساس تشريعي موحد يقره المنطق والعقل وال تؤثر فيه األعراف وال‬
‫تتحك م في مساره التقاليد إال في حدود ضيقة‪ .‬إن دستور الدولة العالمية هو القانون الطبيعي أي قانون هللا فهو أزلي ال‬
‫يتغير وال يتبذل حسب الزمان والمكان‪ ،‬ويعد مقياسا للحق والخير تتمثل فيه العدالة خير تمثيل وتنصح المدرسة‬
‫الرواقية الفرد على أن ال يهتم باألمور السياسية لدولته الصغيرة وأن يعمل لصالح المدينة العالمية خصوصا إذا لم تقم‬
‫دولته األصلية على أساس العدالة التي تتمثل في مبادئ القانون الطبيعي‪.‬‬
‫كما يرى الرواقيون أن الدولة العالمية ينبغي عليها أن تستند في حكمها على رضى الشعوب المختلفة التي تعيش‬
‫تحت ظلها ال على أساس اإلكراه والقوة القاهرة‪ .‬وعليها كذلك أن تعمل على تبديد عناصر التفرقة والحقد التي تتمثل في‬
‫التعصب الديني والتفرقة العنصرية والتمييز بين الرجل والمرأة واسترقاق العبيد فالرواقية تناهض الرق لمخالفته قوانين‬
‫الطبيعة‪.‬‬
‫ب الدولة المختلطة‬
‫طرح الرواقيون‪ ،‬كما طرح غيرهم من الفالسفة في العصور السابقة إشكالية الحكم األفضل في المجتمعات السياسية‬
‫واعتبروا أن الملكية هي «عبودية مشهورة‪ ،‬وفضلوا الدولة المختلطة التي هي مزيج من األشكال الصالحة للديمقراطية‬
‫والملكية واألرستقراطية فهي في رأيهم تمكن جميع الطبقات االجتماعية في المساهمة بصورة متوازنة في تسيير شؤون‬
‫الدولة‪ ،‬كما تتيح كل سلطة بالقيام بحق الرقابة على السلطة األخرى‪ .‬كما تعد الدولة المختلطة أقل ضررا للمجتمع‬
‫مقارنة باألنظمة السياسية الصافية‪ .‬فهي تحقق التوازن والعدل‪.‬‬
‫تميزت المدرسة الرواقية بالمثالية فيها يتصل باألخوة البشرية والرعوية العالمية والقانون الطبيعي لكنها استمدت‬
‫مصدر قوتها من إيمانها الراسخ بالقوة العقلية التي اعتبرتها أعظم صفات البشر وأنبلها‪ .‬وحقيقة القول أن المدرسة‬
‫األبيقورية أو مذهب االنغماس في اللذات والمدرسة الكلبية هما كالمدرسة الرواقية أساليب انكماشية يتحصن داخلها‬
‫الحكيم تجاه تفكك «المدن ‪ -‬الدول» ولكن المدرستين األوليتين تهدمان السياسة التي كانت عاد الحضارة اإلغريقية‬
‫وازدهارها‪.‬‬
‫احملور الثالث كيف تفاعل الفكر السياسي الروماني مع الفكر السياسي اليوناني‬
‫رؤية عامة حول أفكار سيشرون وسينيكا‬
‫الواقع أن مصادر التفكير السياسي لدى الرومان تكمن في تشريعاتهم‪ ،‬حيث اكتسب التفكير السياسي مقومات جديدة‪،‬‬
‫لم يعد الفرد مندمجا بالدولة أو الدولة قليلة األهمية‪ ،‬ولكن هناك فصل بين الدولة والفرد لكل منها حقوقه وواجباته‪،‬‬
‫والدولة هي تطور طبيعي لحياة األفراد في المجتمع والفكرة السياسية الجديدة التي جاء بها الرومان هي فكرة السيادة‬
‫وهي العالمة المميزة للمجتمع‪ .‬وأطلقوا على فكرة السيادة المطلقة تسمية ‪.Imperium‬‬
‫وتميز الفكر الروماني أكثر في مجال اإلدارة والقانون حيث أبدع في إرساء قواعد القانون ومناهجه‪ ،‬وإذا وصف‬
‫الرومان بأنهم صانعوا القانون ألروبا الغربية كان ذلك الوصف صادقا حيث مازال التشريع الروماني يدرس في ‪ :‬عدد‬
‫كبير من جامعات العالم ويؤثر بشكل من األشكال في صياغة قوانين كثيرا من دول العالم مما يدل على احتفاظه بقدر‬
‫الطاقة المبدعة مكنه من أن يدوم أكثر من ألفي سنة‪ ،‬وتعزى حيوية التشريع الروماني إلى مرونته وقدرته على التكيف‬
‫مع األحوال االجتماعية واالقتصادية المتغيرة وعلى منطقيته وإقراره لمبادئ العدل واإلنصاف‪.‬‬
‫وكون الرومان نظرية عقد حكومي بموجبه أحال الشعب سلطته إلى الحاكم دون أن يكون للشعب حق انتزاع هذه‬
‫السلطة منه‪ .‬وجاء سيشرون (‪ 18-891‬ق‪.‬م) مؤلف كتابي «الجمهورية» و«القوانين» ليعرض نظرية القانون الطبيعي‬
‫عرضا واضحا وفكرة سيشرون في القانون الطبيعي تقوم على وجود قانون طبيعي عام يستدل عليه بالحقيقة الواضحة‬
‫وهي أن الكون ليس له سوى خالق واحد هو اإلله‪ ،‬وليس لهذا اإلله سوى قانون واحد يسري على الجميع كل تشريع‬
‫يخالفه ال يستحق تسمية قانون‪.‬‬
‫والقانون الطبيعي‪ ،‬حسب سيشرون هو دستور العالم أجمع‪ ،‬يتساوى في ظله جميع األفراد‪ .‬وبذلك كانت الدولة‬
‫مجتمعا أخالقيا أي مجموعة من الناس تملك فيها بينها الدولة‪ ،‬قوانين رابطها الحقيقي األخالق ويطلق على الدولة تسمية‬
‫«ثروة «الشعب» والسلطة السياسية ال تتصف بالشرعية ما لم ترتكز على إرادة الشعب في ثروة الشعب»‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ال يمكن اإلقرار بأن روما لم تساهم في تطوير عجلة الفكر السياسي فقد ساهمت في ذلك بكيفية غير‬
‫مباشرة نتيجة الممارسة السياسية‪ .‬كما أن الفكر السياسي الروماني تفاعل مع الفكر السياسي اليوناني واقتبس منه ما‬
‫يتناسب والحياة السياسية للرومان وتأثر من المدارس الفكرية المختلفة خصوصا منها المدرسة الرواقية التي أخذ منها‬
‫عدة مبادئ كالدولة العالمية والقانون الطبيعي والرعوية العالمية والمساواة بين بني البشر إلخ‪.‬‬
‫و يعود سنيكا‪ ،‬الذي كان يعيش في عهد نيرون إلى العصر الذهبي السابق لعصر المدينة والدولة وهو عصر المجتمع‬
‫المثالي الذي كان يعيش أفراده سعداء وأطهارا يحيون حياة ساذجة ال أثر فيها للترف ومظاهر الحياة المدنية الحديثة‬
‫وكان وجود الحكومة والقوانين لعالج الفساد في األفراد ومن رأي سنيكا أن السياسة لم تعد تصلح ألن تكون وظيفة‬
‫الرجل الفاضل ألن المجتمع صار فاسدا"‪ .‬ويتفق سينكا مع سيشرون في مساواة األفراد جميعا وأهوتهم وانتمائهم إلى‬
‫دولة واحدة هي دولة العالم‪.‬‬
‫الفصل األول‪ :‬الفكر السياسي عند سيشرون كامتداد للفكر الرواقي‬
‫عاش سيشرون خالل عهد الجمهورية الرومانية األخيرة‪ ،‬وكان ينتمي إلى فئة المثقفين حيث يعد من أبلغ خطباء روما‬
‫تأثر بفلسفة أفالطون بوجه عام وبالفلسفة الرواقية بوجه خاص‪ .‬لم يكن مفكرا مجددا وإنما مجمعا لألفكار‪ ،‬ومع ذلك فهو‬
‫يعتبر أول مفكر سياسي في روما‪ .‬الف كتبا كثيرة منها كتابان أساسيان «الجمهورية» و«القوانين سلك فيها منهج الحوار‬
‫كافالطون وحاول من خاللها أن يؤسس لمثالية سياسية مرنة‪ .‬وقد تركزت أفكاره السياسية حول ثالثة محاور أساسية‪:‬‬
‫نظرية القانون الطبيعي‪ ،‬أشكال الحكومات أو الحكومة الصالحة وأخيرا نظرية الحاكم األول‪.‬‬
‫‪ ‬نظرية القانون الطبيعي ‪ :‬القانون الطبيعي بمثابة الدستور العالمي‬
‫معروف أن الرومان طوروا القانون الوضعي عندهم‪ ،‬وكان للرواقيين فضل في طرح نظرية المجتمع الشامل‪ .‬لقد‬
‫سيطرت فلسفة القانون الطبيعي‪ ،‬وفكرة المواطنة الشاملة في حوض المتوسط بعدما تعدى النطاق الجغرافي لفكرة‬
‫الدولة حدود دولة المدينة اإلغريقية القديمة‪ .‬وصار المواطن الذي يعيش خارج‬
‫مدينة روما متمتعا بالحماية من عسف السلطة التي يجسدها حاكم اإلقليم‪ .‬والحقيقة أن زينون ‪ -‬الرواقي ‪ -‬تطلع الى‬
‫المواطنة العالمية‪ ،‬التي هي لجميع البشر المتجانسين‪ ،‬والقادرين على التفكير العقالني‪ .‬إن فكرة حماية المواطن وجدت‬
‫أساسا في فلسفة القانون الطبيعي‪.‬‬
‫في هذا السياق‪ ،‬انطلقت التشريعات الرومانية في إطار المنفعة العامة وتحدثت على القانون المشترك لجميع‬
‫والشعوب حيث أن جميع الناس متساوون بمقتضى الحقوق الطبيعية‪ .‬إذا‪ ،‬حصل تفاعل ما بين الرواقية والقانون‬
‫الروماني‪ .‬أما قانون الطبيعة الذي أشار إليه الرواقيون فهو العقل الصحيح‪ ،‬ألنه مقياس الحق والعدل‪ .‬تأثر سيشرون‬
‫بنظرية الرواقية في القانون الطبيعي وحاول أن يسوغها في قالب جديد‪ .‬ناد شيشرون بقانون طبيعي ‪،‬واحد ‪،‬ابدي خالد‬
‫وصالح لكل زمان ومكان وملزم لجميع الشعوب‪ .‬يقول شيشرون بهذا الخصوص قانون حقيقي هو العقل السليم المطابق‬
‫للطبيعة المنتشر لدى كل الكائنات المتفق دائما مع نفسه‪ ،‬وغير قابل للتلف‪ ...‬هذا القانون ال يسمح بإدخال أي تعديل‬
‫عليه‪ .‬إن من غير الجائز إلغاءه‪ ،‬ال كليا وال جزئيا‪ .‬فال مجلس الشيوخ وال الشعب بإمكانه أن يعفينا من طاعته ‪ ...‬إن‬
‫هذا القانون ال يختلف في أثينا عنه في روما‪ ،‬وال يختلف اليوم عما سيكونه غدا‪ ،‬إنه نفس القانون الواحد األبدي والثابت‬
‫الذي يحكم كل األمم‪ ،‬وفي كل األزمة‪ ،‬إن هناك إلها واحدا من أجل تعليمه ووصفه للجميع ‪ ...‬إن من ال يطيع هذا‬
‫القانون يجهل نفسه»‪ .‬إن القانون الطبيعي‪ ،‬حسب شيشرون هو بمثابة دستور عالمي يهدف إلى تحقيق مصلحة كل‬
‫الناس ويتطابق مع المنطق والعقل السليم‪ .‬وكل تشريع يخالف هذا الدستور ال يستحق اسم القانون بل يصبح مثلة مثل‬
‫القواعد التي تضعها اللصوص‪ ،‬فالقوانين التي نسنها الدولة تستمد قوتها من تطابقها مع قانون الطبيعة وال تستمد قوتها‬
‫من صدورها عن سلطان الدولة‪ .‬كما أن القانون الطبيعي يتميز حسب شيشرون بالعدالة المطلقة‪ ،‬فالعدل عدل والخير‬
‫خير والرذيلة رذيلة منذ األزل وبصورة مطلقة‪ .‬وقد تأثر أيضا سيشرون في هذا الموضوع بأفالطون وأرسطو اللذان‬
‫انتقدا بشدة نسبية العدل والقانون كما أقرها السفسطائيون‪.‬‬
‫كما ناد ستشرون بمساواة جميع الناس أمام القانون الطبيعي كيفما كانت أجناسهم وألوانهم وطبقاتهم‪ .‬فالناس‬
‫مواطنون في المجتمع البشري العالمي‪ ،‬فهم جميعا يخضعون لقانون واحد وينتمون ألصل بشري واحد ويتمتعون بنفس‬
‫المواهب‪ ،‬وال تمايز بين فرد وآخر‪.‬‬
‫يقول سيشرون بهذا الصدد‪« :‬ال يتماثل شيء واحد مع آخر تماثال تاما بيد أن في وسعنا تعريف اإلنسان تعريفا‬
‫ينطبق على الناس جميعا‪ ،‬ويعني هذا أن األفراد وإن لم يتماثلوا في الشكل‪ ،‬إال أنهم يتماثلون في النوع ‪ -‬نوع اإلنسان ‪-‬‬
‫ويرجع ذلك إلى استمتاعهم بالعقل وهو وحده الذي يرفعهم إلى مرتبة أسمى من مرتبة الحيوانات‪ ...‬ويشترك الجميع في‬
‫موهبة العقل وإن اختلفوا في الدرجة »‪ .‬ففي إطار الفكر الرواقي‪ ،‬إذن‪ ،‬صاغ سيشرون أفكاره السياسية على القانون‬
‫الطبيعي وقال في معرض تعريفه له‪:‬‬
‫‪ ‬القانون الصحيح هو العقل السليم المنسجم مع الطبيعة‪ ،‬ال يتغير وال يزول‪.‬‬
‫‪ ‬عن يأمر الناس بواجباتهم‪ ،‬فيمنعهم من ارتكاب الجرائم‪ .....‬ال يستغنى هذا القانون بقانون آخر وال يحق لقانون‬
‫آخر أن يحقر هذا القانون‪ .‬كما وان هذا القانون ال يمكن أن يناقض وال يحق ال للشعب‪ ،‬وال لمجلس الشيوخ أن‬
‫يحررنا من سيطرة هذا القانون‪.‬‬
‫‪ ‬إنه القانون الذي يفسر ذاته وال يكون قانونا في أثينا وغير قانوني في روما‪ ،‬أو قانونا اليوم وغير قانون غدا‪.‬‬
‫‪ ‬إن جميع األمم في جميع العصور يلزمها القانون الواحد األزلي‪ .‬وكما أن هنالك رب واحد مشترك بين جميع‬
‫الناس حاكما وسيدا فهو الذي يسن هذا القانون وإن من يتمرد على هذا القانون فهو خارج على نفسه‪)...‬‬
‫يعكس هذا التعريف أهمية القانون الطبيعي في العصر الروماني‪ ،‬وربما يصعب التمييز بين مفهومه والقواعد‬
‫القانونية المطبقة في حينها‪ ،‬خصوصا وأن الرومان أرجعوا فكرة القانون الجيد إلى القانون الطبيعي‪.‬‬
‫‪ ‬أشكال الحكومات أو الحكومة الصالحة؟‬
‫اعتمد سيشرون نظرية الدورة التاريخية للدساتير التي نادى بها بوليبيوس كما اعتمد فكرة الدستور المختلط الذي‬
‫نادى بها في األصل أفالطون وأرسطو‪ .‬واستند سيشرون في تحليله لنظرية الدورة التاريخية للدساتير على تاريخ الدولة‬
‫المدينة فأعاد الحديث عن أشكال الحكومات وتعاقبها ورأى أن النظام الملكي واألرستقراطي والديمقراطي أنظمة‬
‫صالحة ولكنها بعيدة عن الكمال‪ .‬لقد انتقد هذه األشكال من الحكومات إذ أن النظام الملكي يقصي المواطنين من‬
‫المشاركة السياسية أما النظام الديمقراطي فعيبه الكبير يكمن في المساواة المطلقة بين الناس‪.‬‬
‫ورأى أن انحالل هذه األنظمة يأتي خصوصا من االستعمال السيء للسلطة وانتشار الظلم وهكذا يتحول الحكم‬
‫الملكي إلى حكم استبدادي واألرستقراطي ينقلب إلى أوليغارشي والديمقراطي إلى فوضوي‪ .‬كما يرى سيشرون أن‬
‫الدولة نشأت نشأة طبيعية نتيجة لغريزة اإلنسان االجتماعية وهو يتماشى بهذا مع فكرة الرواقيين المتعلقة بأصل الدولة‪،‬‬
‫ويعرفها بأنها عبارة عن مؤسسة مشتركة بين المواطنين هدفها مد المواطنين بالمساعدات الالزمة مادامت خاضعة‬
‫لقوانين العدالة‪ ،‬وهذه الفكرة يترتب عنها ثالثة نتائج‪:‬‬
‫‪ ‬أن الدولة ملك عام فهي تستمد سلطانها من قوة األفراد مجتمعين‪.‬‬
‫‪ ‬السلطة السياسية ال يمكن لها أن تكون شرعية إال إذا ارتكزت على إرادة الشعب‪.‬‬
‫‪ ‬إن الدولة وقوانينها تخضع للقانون الطبيعي‪.‬‬
‫‪ ‬الدستور المختلط وجد سيشرون الحل لعالج األنظمة الفاسدة في الدستور المختلط الذي يجمع بين محاسن الملكية‬
‫واألرستقراطية والديمقراطية ورأى أن السبيل الوحيد لوقف انحالل الدساتير المختلفة يكمن في وضع دستور‬
‫مختلط تراقب في إطاره كل هيئة الهيئات األخرى وفي إطاره تتحقق الحرية والعدالة للجميع ويحل التكامل مكان‬
‫التناحر الطبقي‪ .‬ويربط بقاء الدولة المختلطة وعدم زوالها بمدى تنفيذها للعدالة واستجابتها لمبادئ الحق‬
‫واإلنصاف‪.‬‬
‫إذا توفر التوازن واالستقرار وتحقق االنسجام والوفاق فإنه لن يكون هناك أي سبب الندالع ثورة باعتبار أن لكل‬
‫عنصر مكانه المالئم في النسق السياسي‪ .‬إن هذا في رأي سيشرون هو الحكم األفضل‪.‬‬
‫‪ ‬نظرية الحاكم األول‬
‫تكمل نظرية الحاكم األول في اختيار النظام المختلط‪ ،‬فالحاكم األول هو المواطن األول في الجمهورية‪ « :‬إنه رئيس‬
‫طيب وحكيم وجدير بالسهر على مصالح المواطنين وكرامتهم‪ ،‬ووصي ومدافع عن الشيء العام» وهو رجل استثنائي‬
‫مكلف بتدبير شؤون الدولة المختلطة وتسيير مؤسساتها‪ .‬ولقد خصص شيشرون القسم الثاني كتابه «الجمهورية »‬
‫للتفكير في مفهوم المواطن األفضل أي رجل الدولة‪.‬‬
‫لقد آمن شيشرون كأفالطون من قبله بأن صورة الحاكم يجب أن تكون أقرب إلى صورة اآللهة فعليه أن يجمع بين‬
‫السلطة العاقلة والعلم والفضيلة وعليه أن يسير شؤون الدولة بحنكة وحكمة فائقتين وأن يطبع العدل واالعتدال تصرفاته‬
‫مع المحكومين‪ .‬أما بالنسبة الختصاصاته‪ ،‬فيرى شيشرون أنها مستمدة من الشعب بموافقة مجلس الشيوخ طبقا للقانون‪،‬‬
‫ولكن شيشرون يعدل عن هذه الفكرة في بعض الفقرات من كتابه «الجمهورية» فيرى أن ضرورة اتخاذ القرارات‬
‫السياسية والتنظيمية بصفة مستعجلة يقتضي من الحاكم أن يتحرر من قيود مجلس الشيوخ وأن يأخذ المبادرة بكيفية‬
‫انفرادية‪ .‬فيقول له‪« :‬كن أنت مجلس الشيوخ»‪.‬‬
‫الحقيقة أن شيشرون عاش مرحلة تاريخية غير قارة حيث كانت روما سائرة نحو إقرار نظام عسكري ديكتاتوري‬
‫مع أوكتافيوس الذي جعل حدا للحرية بهدف الحفاظ على األمن في الجمهورية بعدما عرفت نزاعات سياسية وثورات‬
‫اجتماعية عنيفة على رأسها ثورة العبيد بزعامة سبارتكوس‪ ،‬وبالتالي كان يرى ضرورة زعامة سياسية إلنقاذ روما من‬
‫الفوضى ولو على حساب المؤسسات والقانون‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬الفكر السياسي عند سنيكا‪" :‬السياسة مل تعد تصلح ألن تكون وظيفة الرجل‬
‫الفاضل ألن اجملتمع صار فاسدا"‬
‫عاد سنيكا‪ ،‬الذي كان يعيش في عهد نيرون إلى العصر الذهبي السابق لعصر المدينة والدولة وهو عصر المجتمع‬
‫المثالي الذي كان يعيش أفراده سعداء وأطهارا يحيون حياة ساذجة ال أثر فيها للترف ومظاهر الحياة المدنية الحديثة‪ .‬وكان‬
‫وجود الحكومة والقوانين لعالج الفساد في األفراد ومن رأي سنيكا أن السياسة لم تعد تصلح ألن تكون وظيفة الرجل‬
‫الفاضل ألن المجتمع صار فاسدا"‪ .‬ويتفق سينيكا مع سيشرون في مساواة األفراد جميعا وأهوتهم وانتمائهم إلى دولة‬
‫واحدة هي دولة العالم‪.‬‬
‫يعد سنيكا من ألمع المفكرين الرومان في النصف األول من القرن األول‪ .‬تعاطى السياسية حيث كان مربيا لنيرون‬
‫ووزيرا له عاصر أحداثا قائمة تميزت أساسا بشيوع الظلم والبطش وانحالل األخالق داخل اإلمبراطورية واعتقد أن‬
‫روما بلغت مرحلة الشيخوخة واألفول وقد ركزت أفكاره السياسية التي أوردها على شكل رسائل ومن خالل كتابين‬
‫أساسين ادي كل انسيا « ‪ De Clementia‬ودي أوتيو ‪ De otio‬على محورين أساسيين ‪ :‬العصر الذهبي للطبيعة‬
‫وعالقة الحكيم بالسياسة‪.‬‬
‫‪ ‬العصر الذهبي للطبيعة‬
‫لعل المرحلة التاريخية المتأزمة التي عايشها سنيكا في عهد انحطاط اإلمبراطورية الرومانية جعلته‬
‫يحن إلى الحالة الطبيعية البريئة للمجتمع اإلنسان ي في بدايته‪ ،‬فرأى بأن اإلنسان قد مر بعصر ذهبي سابق للمدينة‬
‫والحضارة حيث كان الناس يعيشون حياة طبيعية نشيطة وسعيدة خالية من مظاهر الظلم واالستبداد‪« :‬إن البشر األوائل‬
‫وأبناء البشر األوائل‪ ،‬يقول سنيكا‪ ،‬كانوا يتبعون الطبيعة ببساطة وكان مرشدهم وقانونهم رجل هو األفضل من بينهم‬
‫والذي إلرادته كانوا يفوضون أمرهم ‪ .....‬إن الحكم لم يكن يعني السيطرة وإنما الخدمة‪ ...‬فالقائد كان يعرف القيادة‪،‬‬
‫والرعايا كانوا يعرفون الطاعة‪ ...‬أي جيل كان أكثر سعادة‪ ،‬إنهم كانوا يتمتعون بالطبيعة بشكل مشترك وهي كالم كانت‬
‫توفر الحماية للجميع‪ .‬هناك كانت تمتلك الثروة العامة بكل أمان ‪ ..‬كلم ذهبوا لحد منع تحديد أو تقسيم الحقول‪ ،‬فكل واحد‬
‫كان يحصد من أجل الجماعة ‪."...‬‬
‫وهكذا؛ لم يكن هناك في ظل هذا النظام الطبيعي أي مؤسسات قمعية وأي استغالل وأي ملكية خاصة وأي عبودية‪.‬‬
‫ولكن مع نمو مظاهر األنانية والطمع وجمع األموال وحب السلطة والسيطرة و«التقدم األصم للفساد»‪ ،‬فقد اإلنسان‬
‫عصر البراءة الذهبي وانتشرت األحقاد والنزاعات بين الناس مما دعا إلى إنشاء الدولة وإقامة وسائل اإلكراه وسن‬
‫القوانين للحد فالدولة أصبحت ضرورية‪ ،‬فهي وليدة الفساد البشري‪ ،‬لقد مجد سنيكا الحالة الطبيعية ورأى في الطبيعة‬
‫كشيشرون محاسن العدل والحكمة‪.‬‬
‫‪ ‬الحكيم والسياسة‬
‫دعا سنيكا الرجل الحكيم لالبتعاد عن السياسة ألن ممارسة السياسة في هذه الظروف القاسية تقضي على العنصر‬
‫الطيب داخل اإلنسان ‪ .‬ولكن هذا ال يعني العزوف عن أي نشاط‪ ،‬فعلى الحكيم أن يعمل على تحقيق الفضيلة والخير‬
‫وذلك بالقيام بواجبه األخالقي المعنوي واالجتماعي فهو يرى أن الحكيم يمكن له أن يؤدي عمال أكبر مما لو كان يدير‬
‫شؤونا عامة ويشغل مناصب الحكم ويقود الجيوش وينشر القوانين وذلك بفضل تأمالته الفلسفية وفضيلته وعمله الصالح‬
‫ووعظه الدائم للناس‪.‬‬
‫إن السياسة أو كما يسميه «الشيء العام في نظر سنيكا قد فسد كثيرا * ال يمكن معالجته‬
‫ويتساءل إذن ‪ ،‬لماذا يضحي الحكيم بنفسه في عملية خاسرة ؟ وهل توضع في البحر سفينة معطوبة»؟ إذا لم يستطع‬
‫الحكم تأدية واجبه في المجتمع السياسي الصغير الذي هو عالم الدولة‪ ،‬فبإمكانه‬
‫أن يكرس جهوده للقيام بواجبه تجاه كل البشر من كل بالد العالم وتجاه األجيال القادمة وأن ينشر فضائل المحبة‬
‫واألخوة اإلنسان ية والعطف بين البشر وهي نفس تعاليم المسيحية التي ستؤثر على مجرى األفكار السياسية‬
‫احملور الرابع‪ :‬الفكر السياسي الديني (املسيحي ‪ /‬إسالمي) وصراع السلطتني الروحية والزمنية‬
‫الفصل األول‪ :‬جدال أطروحتي القديس أوغـسطني والقديس األكويني‬
‫إن فلسفة األكويني السياسية شأنها شأن ما ورائياته وأخالقياته ثمرة تأليفه بين النظريات المسيحية والوثنية‪ .‬وخالل‬
‫عملية التأليف هذه رفض توما األكويني فكرة رئيسية في التفكير المسيحي التقليدي عن الدولة كان قد وضع أسسها‬
‫لتسعة قرون خلت أعظم أسالفه القديس أوغسطين‪ .‬وخالصتها أن بروز المجتمعات السياسية إلى حيز الوجود جاء‬
‫حصيلة سقوط اإلنسان وأنها مظهر اصطناعي عن خطاياه‪ .‬وقد واجه األكويني هذا االعتقاد بالنظرية األرسطوطاليسية‬
‫القائلة بأن اإلنسان حيوان سياسي واجتماعي بحكم الطبيعة ‪.‬‬
‫فالمجتمع‪ ،‬حسب هذه النظرة سابق للفرد واإلنسان بحكم الطبيعة يحيا في المتحد األوسع من العائلة والذي يضمه‬
‫وجيرانه تحت حكم مشترك‪ .‬والمجتمعات لم تقم نتيجة الفتح وال العقد االجتماعي وال قامت لمجرد الحفاظ على‬
‫االستقرار أو لحماية المصالح‪ ،‬بل إنما قامت ألن البشر بالطبيعة هم أعضاء فيها‪ ،‬وعندما يقول توما األكويني بأن البشر‬
‫مرسوم لهم بالطبيعة أن يكونوا في المجتمع‪ ،‬فإن هذا يوازي بالنسبة إليه‪ ،‬وهو المسيحي القول بأن هللا هو الذي رسم‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وإذا كانت األوغسطينية السياسية خالل القرون الوسطى أدت في نهاية األمر إلى اعتبار البابا سيدا فوق ملوك‬
‫وأمراء العالم من حقه عزل األباطرة أنفسهم‪ ،‬فالسلطة الروحية هي مصدر السلطة الزمنية وبالتالي‪ ،‬فإن كل الملوك‬
‫المسيحيين ملزمون بطاعة البابا ألنه يمثل المسيح وهو بإمكانه عزل الحكام والعمل إلى إرجاعهم إلى الطريق المستقيم‬
‫وبالتالي اعتبر أوغسطين أن جميع األرض أفسدها الشر‪ ،‬وإن آمال المسيحيين بقيام المجتمع مرهونة بالعالم اآلخر‪،‬‬
‫اتجه األكويني‪ ،‬بالمقابل‪ ،‬نحو رفض فكرة هذه الفكرة‪ .‬واعتقد عكس ذلك‪ ،‬وقال إن العدالة يمكن أن تشيع وأن‬
‫تنتصر في هذا العالم‪ ،‬وأن للمجتمع السياسي الراهن كرامته وشرفه الذاتيين‪ ،‬وأنه من الممكن التحدث عن نظام مسيحي‬
‫لحكم اإلنسان على األرض‪ .‬إال أن األكويني لم يكن لبعض معاصريه‪ ،‬داعية للثيوقراطية‪ .‬ولم يكن يرغب في أن يرى‬
‫الكهنة وقد نصبوا أمراء زمنيتين أو البابا وقد تربع إمبراطورا زمنيا على مملكة مسيحية‪.‬‬
‫وكانت عضوية الكنيسة عنده أسمى من شراكة المواطنة في الدولة ‪.‬‬
‫إال أنه ميز تمييزا واضحا بين مملكة الدين ومملكة الدنيا‪ ،‬واعتبر أن فنون الحكم والدولة تتطلب مهارات تختلف عن‬
‫العمل في سلك األنظمة الدينية‪.‬‬
‫يضاف إلى ذلك أن الكنيسة عالمية في عضويتها‪ .‬وكان األكويني في هذا المجال يتبع تفكير أرسطو لجهة أن الدولة‬
‫شيء محدود في الحجم والعدد ‪ .‬وعلى هذا األساس فالكنيسة واحدة‪ ،‬إال أن الدول متعددة‪ .‬وكان تفكير األكويني لهذه‬
‫الجهة ال ينحصر في اإلطار األرسطوطاليسي بل ينسجم مع خبرات العصر الحديث التي أكدت تالشي المثال المسيحي‬
‫القديم عن قيام إمبراطورية عالمية مقدسة واحدة واستبداله بحقيقة تعدد الدول القومية المستقلة ذات الحيوية النامية ‪..‬‬
‫ولم يكن األكويني بأية حال مجرد باعث ألرسطو‪ .‬ذلك بأنه طور فكرة أرسطو عن أن الدولة مؤسسة طبيعية‪،‬‬
‫فأدخل عليها فكرة جديدة‪ ،‬هي نظرية القانون الطبيعي التي ولو كانت في األصل مسيحية إال أنها باتت محورا في‬
‫التفكير المسيحي‬
‫فه و‪ ،‬إذ يرى أن الطبيعة جعلت البشر يحيون في ظل الحكومات‪ ،‬يعود فيشترط أن تكون الحكومات عادلة حتى‬
‫تنسجم مع الطبيعة ‪ ،‬ويرى ان معايير العدالة شأن وضعه الخالق وتشاهده عين العقل في اإلنسان وبكالم آخر فان‬
‫القانون الوضعي للدول يجب ان يطابق المبادي االخالقية االساسية المعروفة تقليديا بالقانون الطبيعي ) وقد تحدث‬
‫أرسطو أحيانا عن القانون الطبيعي ولكن بمدلوالت مختلفة عن مدلوالت األكويني‪ .‬ولم يكن عند أرسطو اي مفهوم‪ ،‬كما‬
‫أضحى عند األكويني‪ ،‬عن الحقوق الطبيعية‪ .‬ذلك بأن تفكير أرسطو كان مشدودا الى روح الدولة ‪ -‬المدينة ‪ ،‬فاإلنسان‬
‫الصالح هو المواطن الصالح والقانون األخالقي هو ما يأمر به المجتمع ‪ .‬ووجهة النظار هذه ال تبقي اال حيزا ضئيال‬
‫لتقييم ما اذا كان المجتمع على حق أو باطل ‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬خالصات تطور صراع السلطتني الروحية والزمنية يف الفكر السياسي‬
‫بعد االعتراف بها كدين رسمي سنة ‪373‬م‪ .‬لإلمبراطورية‪ ،‬لم تأت الديانة المسيحية بجديد في الفلسفة السياسية‬
‫السائدة حيث قامت بإضفائها بصبغة تجعلها مالئمة للعقيدة الجديدة‪ ،‬وأهم األفكار التي جاءت بها هي كالتالي‪:‬‬
‫أوال‪ :‬اعتقد المسيحيون بوجود قانون أعلى من القانون الوضعي أطلقوا عليه اسم « القانون اإللهي » وهو ال يختلف‬
‫عن القانون الطبيعي الذي تحدث عنه الرواقيون وسيشرون؛‬
‫ثانيا‪ :‬نادت المسيحية بالمساواة التامة بين األفراد وقالت إن هذه المساواة إن تعذر تحقيقها في العالم الزمني فهي‬
‫حقيقة بالنسبة للعالقة ما بين األفراد والخالق‪ .‬وال فرق بين هذا وبين ما نادى الرواقيون وفالسفة الرومان؛‬
‫ثالثا‪ :‬رأى المسيحيون أن العالم كله يخضع لقانون ‪،‬واحد كما يخضع لحكومة واحدة‪ ،‬وهذه الفكرة تختلف في‬
‫جدورها عن فكرة الرواقيين المتعلقة بخضوع الناس للقانون الطبيعي؛‬
‫أدت الحروب األهلية التي كانت تواجهها اإلمبراطورية الرومانية على جميع الواجهات إلى انقسامها إلى شطرين ‪:‬‬
‫اإلمبراطورية الغربية وعاصمتها روما‪ ،‬واإلمبراطورية الشرقية وعاصمتها بزنس ‪ BYSANCE‬كما أدت الهزائم التي‬
‫لحقت بروما على يد البرابرة واستيالء الملك األريك ‪ ALARICH‬على هذه المدينة سنة ‪ 189‬إلى التجريح في المسيحية‬
‫والتشكيك في صحة معتقداتها واعتبارها مسؤولة عن الويالت والمصائب التي حلت باإلمبراطورية إذ كيف يرضى إله‬
‫المسيحية القوي بتهديم روما وخرابها في هذا اإلطار السياسي المضطرب‪ ،‬طرح بحدة "إشكال العالقات بين السلطات‬
‫الزمنية والكنيسة" والذي سهيمن بثقله على مجرى تاريخ الفكر السياسي المسيحي ‪.‬‬
‫وهكذا ساد في بداية العصور الوسطى تفاهم وتوافق بين السلطة الزمنية والروحية" فميزت الكنيسة بينها ونادت‬
‫بازدواجية السلطة ‪ ،‬كمرحلة أولى لكل منها مجاله واختصاصه إذ قال السيد المسيح « أعط لقيصر ما لقيصر وهللا مال‬
‫له »‪ ،‬وتمكنت الكنيسة في عصر آباء الكنيسة الالتينيين هنة ‪ Age - - patristique‬من تحقيق النجاح واجتنبت التدخل‬
‫في أمور الد ولة‪ ،‬وذهبت إلى أن استقالل الكنيسة عن الدولة كمرحلة ثالثة يساعد كلها على تأدية رسالته التي حددتها‬
‫العناية اإللهية وقد عبر عن ذلك البابا جالس يوس األول في أواخر القرن الخامس الميالدي بنظرية السيفين أو‬
‫السلطتين‪.‬‬
‫أهم خالصات تطور الفكر السياسي المسيحي بعد انتقال الفكر المسيحي إلى أوربا وبسبب عدم وجود حد فاصل بين‬
‫السلطة الزمنية والسلطة الروحية اندلع النزاع بينها وظهرت اتجاهات في الفكر السياسي المسيحي بين‪:‬‬
‫‪ ‬االتجاه األول يدعو إلى خضوع الدولة للكنيسة‪ ،‬وبالتالي يساند تفوق السلطة الروحية على الزمنية ويبرر ذلك‬
‫بأن البابا يعد ممثل هللا فوق األرض فله حق تتويج األمراء والملوك والواجب يدعوه النتزاع السلطة منهم إذا‬
‫أضلوا الطريق المستقيم‪.‬‬
‫‪ ‬االتجاه الثاني‪ :‬فيناصر السلطة الزمنية ويؤكد على أن الدولة ذات أصل إلهي والحاكم هو الرئيس الروحي‬
‫والزمني‪ ،‬فهو مفوض من طرف هللا ومسؤول أمامه فقط وليس مسؤول أمام البابا في مهامه‪.‬‬
‫لقد احتدم الصراع بين االتجاهين حول هذا الموضوع أفضى إلى إلغاء "نظرية جالس يوس وإخضاع السلطة الزمنية‬
‫للكنيسة سنة ‪ 0051‬في نها ية القرن الثالث عشر‪ ،‬ضعفت قوة الكنيسة وأخذت السلطة الزمنية تتفوق تدريجيا وانتهى‬
‫النزاع في بداية العصور الحديثة بانفصال الدين عن السياسة و"قيام الدول على أسس قومية ال على أسس دينية"‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬مقومات األطروحة األوىل للقديس أوغسطني كمرحلة أوىل يف تطور الفكر‬
‫السياسي املسيحي‬
‫"الدولة مؤسسة سلبية والكنيسة أسمى مرتبة منها‪ ،‬والعدالة مقترنة بالكنيسة"‪.‬‬
‫انتصرت الفكرة األوغسطينية السياسية خالل القرون الوسطى‪ ،‬وأدت في نهاية األمر إلى اعتبار البابا سيدا فوق ملوك‬
‫وأمراء العالم من حقه عزل األباطرة أنفسهم‪ ،‬فالسلطة الروحية‪ ،‬بالنسبة لهذه األطروحة هي مصدر السلطة الزمنية‪،‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن كل الملوك المسيحيين ملزمون بطاعة البابا ألنه يمثل المسيح وهو بإمكانه عزل الحكام والعمل إلى إرجاعهم‬
‫إلى الطريق المستقيم‪.‬‬
‫أهم أفكار األوغسطينية السياسية‬
‫‪ . ‬اقتران العدالة بالمسيحية‬
‫‪ ‬محاولة التوفيق بين األفكار المسيحية وفكرة أفالطون عن العدالة وفكرة أرسطو عن الحياة الفاضلة‬
‫‪ ‬ضرورة وجود هيئة على األرض " الكنيسة" تقود اإلنسان إلى فكرة العدالة اإلالهية؛ ‪.‬‬
‫‪ ‬الذهاب نحو التمييز بين مدينة هللا والمدينة األرضية؛‬
‫‪ . ‬التمييز السلطة التجريدية والسلطة الملموسة ‪.‬‬
‫‪ ‬النظرية األوغسطينية التي تكرس فصل الدين والدولة‬
‫تحول في فكرة العدالة اقترنت العدالة عند أوغسطين بالمسيحية‬
‫• التوفيق بين األفكار المسيحية وفكرة أفالطون عن العدالة وفكرة أرسطو عن الحياة الفاضلة‪.‬‬
‫ترتبط فكرة العدالة عند أوغسطين بفكرة دينية‪ ،‬فاإلنسان حيوان اجتماعي وال يمكنه أن يدرك الفضيلة إال في إطار‬
‫نظام سياسي يوفر العدالة‪ .‬اعتبر أوغسطين أن جوهر العدالة يكمن في العالقة بين الفرد واإلله‪ ،‬وتنبثق عنها ‪ -‬بالتأكيد‬
‫‪ -‬العالقات السليمة بين اإلنسان واإلنسان ‪ .‬وهذا مخالف لمن سبقه‪ ،‬فرأي شيشرون‪ ،‬مثال‪ ،‬يقول بأن العدالة هي وظيفة‬
‫أية مجموعة بشرية بغض النظر عن معتقداتها‪.‬‬
‫من هذا المنطلق ؛ الدول التي نشأت قبل ظهور المسيحية لم تكن عادلة إذ أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه‪.‬‬
‫ولهذا اقترنت العدالة عند أوغسطين بالمسيحية ألن الدولة غير قادرة على إعطاء كل ذي حق حقه إذا لم تعط هللا حقه‬
‫في العبادة‪ .‬هذا األمر يملي على اإلنسان الصالح البحث عن الفضيلة الحقة التي ال تتجسد إال عن طريق القانون‬
‫اإلالهي األبدي الذي يجعل اإلنسان ال يتصرف بكيفية عادلة ألسباب أنانية أو نفعية صرفة‪ .‬من هنا‪ ،‬ينادي أوغسطين‬
‫بوجوب التطلع إلى عالم المثل‪« :‬علينا أن نحول أنظارنا من عالم الظواهر الذي هو عالم من ظالل إلى عالم المثل الذي‬
‫هو عالم الجواهر‪ ،‬ومن اضطراب الحياة الدنيا إلى ملكوت السماوات‪.‬‬
‫يميز أوغسطين؛ إذن في كتابه حول اإلرادة الحرة بين القانون األبدي الذي هو مطابق لإلرادة والحكمة اإللهية‬
‫والقانون الزمني الذي يختلف باختالف األزمنة واختالف الدول والمجتمعات ويسعى إلى تكييف مقتضيات القانون‬
‫األبدي مع الحاجيات المتغيرة لكل دولة ومجتمع وجعل الحكم بيد الفضالء من الناس‪.‬‬
‫يعتقد أوغسطين أن الحاكم يستمد سلطته من هللا وبالتالي فطاعته واجبة على جميع األفراد‪ ،‬ولم يكن القديس‬
‫أوغسطين مجددا فيما يخص أشكال الحكم بالنسبة لما كان متعارف عليه عند الفالسفة اليونانيين كأفالطون‬
‫وأرسطو لكن الجديد هو التمييز الذي أقره بين نوعين من السلطات ‪ .‬وهي السلطة التجريدية (‪ abstraite‬تستمد قوتها‬
‫من هللا والسلطة الملموسة الواقعية (‪ )Concrete‬ويقصد بها ممارسة الحكم وطريقة التداول عليه إلخ ‪ ...‬وتستهدف إلى‬
‫استتباب األمن والنظام وتحقيق الوحدة والعدالة‪ .‬ويرى أوغسطين أن السلطة يجب عليها أن تقوم بثالثة وظائف أساسية‬
‫‪ .‬وظيفة الرئاسة‪ :‬تعني سلطة األمر والنهي وتفرض على الحاكم أن يكون حازما في اتخاذ األوامر وأن يتحكم في‬
‫إرادته وأن يتغلب على أهوائه ونزواته‪.‬‬
‫‪ .‬وظيفة التنبؤ ‪ :‬يقصد بها سعي الحاكم إلى نشر األمن والطمأنينة في النفوس وتنبؤه لما هو صالح وغير صالح‬
‫لشعبه وعمله على تحاشي تجميع الثروات بين أفراد طبقة واحدة ومنع شعبه من تعاطي الملذات والفساد‪.‬‬
‫• وظيفة االستشارة‪ :‬تعني أن يكون الحاكم بمثابة مستشار لشعبه فيسدي له النصيحة كلما دعت الضرورة إلى‬
‫ذلك ويوجهه إلى الطريق المستقيم‪ .‬هذه الوظائف الثالثة إذا تم القيام بها وتأديتها على الوجه األكمل فإن السلطة‬
‫الزمنية ستقطع أشواطا كبيرة لالقتراب من حيث األبعاد واألهداف من المدينة اإللهية‪.‬‬
‫يرى أوغسطين أن على األفراد الخضوع للسلطة الزمنية فيما يتعلق بالمسائل المدنية والسياسية ولسلطة الكنيسة فيما‬
‫يتصل بالشؤون الروحية كما يؤكد على ضرورة التعاون بينها‪ ،‬فالكنيسة تعمل على مؤازرة الدولة القائمة عن طريق‬
‫دعواتها اإللهية وتعاليمها األخالقية والدولة بدورها تسعى إلى توفير شروط األمن والسلم لنشر العقيدة المسيحية فعندما‬
‫تلتقى الحكمة المسيحية مع األهداف النبيلة للسلطة الزمنية القائمة تتحقق الوحدة والعدالة‬
‫إن هذه النظرية األوغسطينية التي تكرس فصل الدين والدولة ستكون مثار تأويل وتحريف أدت إلى ظهور ما يسمى‬
‫األوغسطينية السياسية التي انتصرت خالل القرون الوسطى وترتكز هذه الحركة السياسية على إقحام العدالة الطبيعية‬
‫في العدالة فوق الطبيعية وحق الدولة ضمن حق الكنيسة أي أنها تثبت السلطة الروحية فوق السلطة السياسية كما أنها‬
‫ستحاول تبرير الحكم المطلق وإضفاء القدسية عليه وتأسيس ما يسمى بـ «النظام الثيوقراطي» وتكريس الخضوع التام‬
‫إلى األمراء والملوك ولو كانوا غير صالحين‪ « :‬فهؤالء ال يبررون أعمالهم إال أمام هللا فبين ضميرهم وبينه يجري‬
‫النقاش الوحيد الممكن والذي ليس لرعاياهم أي نصيب فيه»‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬مقومات أطروحة القديس توماس األكويني (‪ )8771( - 8731‬كمرحلة ثانية‬
‫يف تطور الفكر السياسي املسيحي حول فكرة الدولة‬
‫"الكنيسة واحدة والدول متعددة"‬
‫كان المجرى الرئيسي للتفكير المسيحي‪ ،‬قبل أن يبدأ األكويني تعليمه في أواسط القرن الثالث عشر‪ ،‬يسير باتجاه معاه‬
‫للعقالنية‪ ،‬هذا إذا لم نقل أنه معاد للفلسفة بصورة عامة‪ ،‬فانطالقا من كون الدين قائما على اإليمان‪ ،‬اعتبر العقل عدوه‬
‫المميت‪ .‬وكان أن شرع القديس األكويني في التوفيق بين اإليمان والعقل عامال على التأليف بين الوحي المسيحي‬
‫والفلسفة اليونانية‪ ،‬وال سيما أرسطو‬
‫يتجلى الجديد المتميز لتوماس األكويني في الفكر السياسي المسيحي على مستويين‪:‬‬
‫أوال مستوى تجديده لفهم الفلسفة السياسية الواقعية ألرسطو التي تمت ترجمتها خالل القرن الثالث عشر من العربية‬
‫إلى الالتينية عن طريق إسبانيا؛‬
‫ثانيا‪ :‬مستوى تجديده وتوفيقه بين اإليمان بالوحي اإللهي والعقل الفلسفي‪.‬‬
‫وتمحورت أهم مقومات وأسس أطروحة توماس األكويني حول ثالثة محاور أساسية‪ :‬التنظيم السياسي‪ ،‬طبيعة‬
‫القانون وأخيرا التوفيق بين اإليمان والعقل‪.‬‬
‫‪ ‬غاية اإلنسان المزدوجة كمنطلق لتأطير نشأة الدولة‬
‫عارض توماس األكويني االعتقاد الذي كان سائدا قبله بين آباء الكنيسة بالنسبة لنشأة الدولة والقائلة بأنها نتيجة‬
‫خطيئة اإلنسان وسقوطه من الجنة إلى األرض واعتمد نظرية أرسطو القائلة بأن اإلنسان بطبيعته كائن سياسي‬
‫واجتماعي‪ ،‬فالفرد غير متكامل وال يقدر على العيش بمفرده وبالتالي ال يستطيع أن ينمي قدراته إال في إطار المجتمع ‪:‬‬
‫فالمجتمع يقوم على أساس تقسيم العمل وتحقيق الخدمات المتبادلة التي تؤدي إلى حياة فاضلة وهكذا فالفالح والعامل‬
‫يقدمان السلع الالزمة للمجتمع ورجل الدين يعمل على بث الواجبات الروحية والجندي يدافع عن المجتمع ضد كل‬
‫عدوان خارجي‪ ...‬فكل طبقة مرتبطة بالطبقات األخرى وتسعى إلى تحقيق التكامل االجتماعي‪ ،‬وقد شبه الطبقات‬
‫االجتماعية بأعضاء الجسم اإلنسان ي وبحث في تأثير المناخ على العادات والتقاليد واألنظمة السياسية‪.‬‬
‫إن توماس األكويني اعتبر مثل أرسطو األسرة هي الخلية األولى التي يجتمع فيها اإلنسان لبلوغ العيش األفضل‬
‫وأن المدينة هي الكيان السياسي بامتياز القادر على توفير شروط الفضيلة وهنا اعتقد بأن غاية اإلنسان مزدوجة‪ ،‬فهناك‬
‫غاية دنيوية وغاية دينية تتمثل في السعادة األزلية‪.‬‬
‫فالغرض األول لإلنسان ترعاه الدولة والغرض الثاني تكفله الكنيسة‪ ،‬فليس هناك تنافس بينهما بل هناك تكامل‬
‫وأوضح القديس توماس األكويني أن المصلحة العامة للمجتمع تقتضي حتما وجود سلطة توكل إليه مهمة تنظيم تبادل‬
‫الخدمات وشبه حاجة المجتمع ‪ .‬كما أوضح أن مصدر السلطة هو هللا وقد وهبها للحاكم والشعب بغية تحقيق الحياة‬
‫السعيدة والفضيلة‪ ،‬ويمكن تفسير هذه الفكرة بالمقولة الشهيرة للقديس بولس‪ :‬إن كل سلطة من هللا ولكن بواسطة الشعب‬
‫أو الجماعة "‪ .‬وهذا ال يتأتى إال إذا تم إقرار السالم وحفظ النظام داخل المجتمع‪ .‬كما اعتقد توماس األكويني أن على‬
‫السلطة الزمنية أن تخضع في آخر المطاف للسلطة الروحية التي تتوخى بلوغ غايات أزلية‪.‬‬
‫‪ ‬حول سؤال أنظمة الحكم‬
‫فضل توماس األكويني النظام الملكي ألنه يضمن الوحدة ويسعى أكثر من غيره لتحقيق الفضيلة ولكي ال يتحول‬
‫النظام الملكي إلى نظام مستبد يفضل الملكية المنتخبة على الوراثية كما ينادي بتقييد سلطات الملوك وممارسة سلطاتهم‬
‫وفقا للقانون ويتعاطف في آخر المطاف مع الدستور المختلط الذي يوفر مزايا الملكية واألرستقراطية والديمقراطية‪ .‬وقد‬
‫استشهد توماس األكويني في هذا السياق بالنظام القديم للعبريين حيث تم تعويض حكم النبي موسى وخلفائه بإقرار‬
‫مجلس للشيوخ يختاره الشعب‪ ،‬ويظهر من آرائه أنه يبغض الحكم االستبدادي ويعطي للشعب حق مقاومة الحاكم المستبد‬
‫ولكن على أساس شرطين‬
‫أساسيين‪:‬‬
‫األول هو أن ال تمارس هذا الحق طائفة بعينها من الشعب‪ ،‬بل يجب أن يمارسه مجموع الشعب‬
‫الثاني ‪ :‬أن ال تتعدى مساوئ القائمين بالمقاومة مساوئ الحاكم المستبد أو تعادلها‪ .‬وبذلك كان أول كاتب عالج مسألة‬
‫اندفاع الثورة وصعوبة كبح جماحها بعد نجاحها‪.‬‬
‫ويبرز مما تقدم أن توماس األكويني بقي وفيا لتصورات أرسطو خصوصا وأنه ألح على دور سيادة القانون في أي‬
‫نظام يهدف إلى ضمان االستقرار‪.‬‬
‫‪ ‬القانون كأساس لصيانة روح العدالة‬
‫يعتبر القانون حسب توماس األكويني األداة األساسية لتهذيب السياسة وصيانة روح العدالة لدى كافة المواطنين‪ ،‬وقد‬
‫عالج موضوع فلسفة القانون في مؤلفه ) ‪ ) Summa Théologia‬ونادى فيه بسيادة القانون‪ ،‬وقد ميز بين أربعة أشكال‬
‫من القانون‬
‫القانون األزلي‪ :‬يمثل حكمة هللا ويجسد الخطة األبدية التي وضعتها الحكمة اإللهية لتنظيم الخليقة بأجمعها وهذا‬
‫القانون وإن كان فوق مستوى العقل اإلنسان ي‪ ،‬فإنه يتطابق مع أوضاع اإلنسان الذي يشارك بتطبيقه بقدر ما تسمح له‬
‫طبيعته‪.‬‬
‫القانون الطبيعي بعد انعكاس الحكمة اإللهية في المخلوقات ويظهر ذلك من خالل ميل اإلنسان الطبيعي لعمل الخير‬
‫وتجنب الشر قدر المستطاع‪.‬‬
‫القانون المقدس هو الوحي أو التنزيل أي كالم هللا كما تضمنته الكتب السماوية‪ .‬ويرى توماس األكويني أن العقل‬
‫والوحي ال يتعارضان مع العلم وأن الوحي يعلو على العقل‪ ،‬فاإلنسان ال يمكن أن يصل إلى جميع الحقائق الدينية عن‬
‫طريق العقل وحده ألنه يعجز عن فهم الحقائق الغيبية‪ ،‬فالوحي يؤيد العقل وال يعد نقيضا له وهما من نسيج واحد ألن‬
‫هللا وهب العقل لإلنسان وأوحى بالوحي على األنبياء‪.‬‬
‫القانون البشري أو الوضعي يعد من صنع اإلنسان ويرمي إلى تحقيق الصالح العام في المجتمع وفقا لمبادئ‬
‫القوانين اإللهية والطبيعة وهو يستمد قوته من الشعب وقد جعل توماس األكويني الحاكم مسؤوال عن جعل القانون‬
‫الوضعي يساير القانون الطبيعي الذي يعد السبيل الوحيد للتمييز بين الخير والشر‪.‬‬
‫‪ ‬التوفيق بين اإليمان والعقل كمطلب أساسي في الفلسفة األكوينية‬
‫حاول توماس األكويني التوفيق بين اإليمان والعقل فهو يرى أنهما ال يتعارضان بل يكمالن بعضهما البعض وإن‬
‫كانا يقومان على منهاجين مختلفين فإنهما يهدفان معا إلى الوصول إلى الحقيقة ومعرفة هللا والعالم‪.‬‬
‫الخطأ يكمن في محاولة رجال الدين إقحام مبادئ الدين في الفلسفة ومحاولة الفالسفة أن يفلسفوا الدين‪ ،‬فاإليمان ال‬
‫يتعارض مع العقل ولكنه أعلى منه ألن اإليمان قريب من مصدر الحقيقة ألنه يقوم على الوحي المباشر من هللا كما أن‬
‫اإليمان بحكم طبيعته الذاتية ال يمكن إثبات حقيقته عن طريق الفكر فما يستطيع اإلنسان اإليمان به يعجز عن معرفته‬
‫وما يمكن معرفته يعجز عن اإليمان به كنتيجة لهذا التوفيق بين االيمان والعقل يرى توماس األكويني أن الكنيسة ال‬
‫تنافس الدولة بل تكملها‪ ،‬و"الدولة خير ال تنحصر وظيفتها في حفظ النظام وتحقيق السالم بل أيضا في توجيه األفراد‬
‫نحو الفضيلة وهذا‪ ،‬حسب رأيه‪ ،‬جزء من اختصاص الكنيسة"‪.‬‬
‫بيد أن محاولة توماس األكويني في التوفيق بين اإليمان والعقل قد تعرضت النتقادات كثيرة وعنيفة من طرف‬
‫الفالسفة والالهوتيين على السواء‪ .‬فهؤالء رفضوا دمج اجتهادات مفكر وثني كأرسطو في المنظومة المسيحية بل عملوا‬
‫على منع تداولها‪ ،‬أما الفالسفة فقد رفضوا تسخير الفلسفة الخدمة المعتقدات الدينية‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬رؤية عامة حول الفكر السياسي اإلسالمي حول فكرة الدولة وتطورها‬
‫يعد القرآن هو المصدر األول واألصلي الثابت لإلسالم والقرآن لم يتعرض لتفاصيل نظام «الدولة اإلسالمية‪ ،‬وال‬
‫لتفاصيل أساليب الحكم‪ .‬وبعبارة أخرى لم يفصل نظام وشكل الحكم‪ ،‬ولم يتطرق إلى أساليب تنظيم السلطات وال لقواعد‬
‫اختيار الحكم‪ ،‬أيكون بطريق االنتخاب (االختيار)‪ ،‬أم بالوصاية‪ ،‬أم بالوراثة وإنما جاء مشتمال على المبادئ العامة التي ينبغي‬
‫أن يقوم عليها كل حكم صالح وهي‪ :‬العدل والشورى والمساواة والحرية ومحاسبة النفس والمعارضة وتقبلها‪.‬‬
‫كما أن النبي لم يضع نظاما سياسيا ثابتا بل ترك لألمة اإلسالمية الحرية في اتخاذ األسلوب المالئم الذي يتفق وواقعها‬
‫وظروفها واختيار أي شكل من أشكال الحكم المعروفة إذا هي أرادت ذلك‪ .‬ويستند فقهاء أهل السنة في تقسيمهم لكثير‬
‫من أحكام الرسول السياسية أنها كانت عن اجتهاد إلى أمور ثالثة ‪:‬‬
‫‪ - 0‬أن الرسول لم يبين األحكام السياسية تفصيال كما بين أحكام الدين؛‬
‫‪ - 2‬أنه لم يستخلف؛‬
‫‪ - 5‬أنه كان يستشير أصحابه بل لقد أمره هللا بذلك » وشاورهم في األمر » (آل عمران (‪ )035‬وكان ينزل عن رأيه في‬
‫كثير من األحيان‪ .‬كما يستند يعض الفقهاء والباحثين إلى صحيفة «المدينة» الذي يعتبرونها أول دستور مدني ينظم‬
‫العالقات بين مكونات وقبائل المدينة (المسلمون اليهود وعبادة األوثان ويصون حقوقهم كحق حرية المعتقد وممارس‬
‫الشعائر والمساواة والعدل‪ ...‬إذا كان اإلسالم دين حق ال مراء فيه‪ ،‬فإن أغلب المسلمين التبس عليهم أمران‪ :‬األمر األول‪:‬‬
‫«الخلط بين الكمال» و «الشمول‪ ،‬فمادام الدين كامال «اليوم أ كملت لكم دينكم‪ .....‬فهو لم يغادر صغيرة وال كبيرة من أمور‬
‫الحياة وال أمرا من أمور السياسة أو االقتصاد إال قد أحصاه‪ .‬ولكنك قلما تجد آية من آيات األحكام متعلقة بالسياسة أو‬
‫باألحرى بنظام الحكم وطريقة تولية الحكم»‪.‬‬
‫وتدل بعض الوقائع ‪ -‬خصوصا تلك التي وقعت للخليفة عمر بن الخطاب عندما وصله مال كثير من عند أحد الوالة فلم‬
‫يعرف كيف يدبر أمرها‪ ،‬فقام إليه رجل زار فارس فقال له‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬قد رأيت هؤالء األعاجم يدونون لهم ديوانا ‪،‬‬
‫فقال لهم ‪ :‬دونوا الدواوين – على أن أبسط شيء من شؤون اإلدارة أو السياسة لم يكن معروفا في العهد األول من اإلسالم‪،‬‬
‫ويدل أيضا على أن عمر لم يجد حرجا أن يقتبس نظاما من األعاجم بدعوى أنه مستورد)‬
‫األمر الثاني‪ « :‬الخلط بين ما هو إلهي وما هو بشري‪ ،‬بين ما هو عن وحي وذلك يتصل بالعقيدة وأحكام الشريعة وبين ما‬
‫هو من إنجازات المسلمين‪ ،‬وما هو إلهي متصف بالكمال‪ .‬أما إنجازات الحضارة اإلسالمية ومنها على وجه الخصوص‬
‫الجانب السياسي فهذه إنجازات بشر ال يفترض فيهم الكمال لمجرد كونهم مسلمين‪.‬‬
‫من أهم اإلشكاالت التي ناقشها الفكر السياسي اإلسالمي‬
‫مفهوم الخالفة وتطورها‬
‫‪ ‬البيعة الدينية ومدى تجسيدها لفكرة العقد السياسي؛ رجل السياسة في اإلسالم‬
‫‪ ‬حدود العالقة بين الدولة والقرآن (الدعوة)؛ من يخدم اآلخر‪ :‬الدعوة في خدمة الدولة أم الدولة في خدمة الدعوة ؟‬

‫ومن أهم السياسات الشرعية حول فكرة الدولة وتطورها المختلفة نجد‪ :‬الفرابي الفيلسوف‪ ،‬الماوردي الفقيه وابن‬
‫خلدون المنظر السياسي‪.‬‬
‫ابن خلدون املنظر السياسي (‪377‬م‪191-‬م)‬
‫ما بني نظريتي العصبية ونشأة الدولة وتطورها‬
‫" إن الدولة مثل الشخص تنتقل‪:‬‬
‫من الطفولة ( طور التأسيس) إلى الشباب ( طور العظمة ) إلى الشيخوخة ( طور الهرم )‬
‫تفاعلت الفلسفة اإلسالمية‪ ،‬وفي رحمها الفلسفة السياسية‪ ،‬مع واقع الخالفة‪ ،‬والمعتقدات الدينية بما فيها من عبادات‬
‫وقواعد معامالت بين البشر‪ ،‬وبما أوجدته من متغيرات في عالقات األفراد والجماعات‪ .‬لم تنقطع عن الفكر السياسي‬
‫اليوناني‪ ،‬وبخاصة في المنهج‪ ،‬ولكنها وصلت مع عدد من األعالم‪ .‬وفي طليعتهم عبد الرحمن بن خلدون إلى مفاهيم جديدة‬
‫حول فلسفة التاريخ والعمران البشري كأساس محوري لالجتماع اإلنساني‪.‬‬
‫في دراسته لفكرة الدولة يرى المؤرخ والمنظر السياسي ابن خلدون أن االجتماع البشري ضروري لحياة اإلنسان ‪،‬‬
‫ونظرا ألن به نزعة طبيعية إلى العدوان فقد احتاج إلى حاكم يقوم بتنظيم المجتمع الذي يطلق عليه اسم الدولة‪.‬‬
‫ويرتبط مفهوم الدولة عند ابن خلدون بنظريته في العصبية ارتباطا عضويا‪ .‬فالعصبية باعتبارها رابطة سيكولوجية‬
‫‪ -‬اجتماعية ال تعدو أن تكون في الحقيقة مجرد إطار تنظيمي تتأطر فيه فاعليات البدو تحت تأثير عوامل موضوعية‬
‫متداخلة ومتشابكة هي المسؤولة عن هرم الدولة القائمة وقيام الدولة الجديدة‪ .‬كما يربط تطور الدولة بعوامل موضوعية‬
‫وذاتية‪.‬‬
‫‪ ‬حول فكرة العصبية‬
‫إن البناء النظري للدولة الخلدونية يرتكز أساسا على مفهوم العصبية ويميز ابن خلدون في‬
‫تحليله بين مفهو م العصبية ما قبل اإلسالم وبعد اإلسالم‪ .‬فالعصبية التي كانت شائعة في الجاهلية كانت تعني التنازع‬
‫واالعتداد باألنساب والجهالة فالعصبية كانت تقوم على تناصر فريق ضد آخر في حالة النزاع‪ ،‬مما يذكي نار الفتنة‬
‫ويشعل فتيل الحروب بين القبائل ولم يكن هذا التناصر العصبي أو النصرة القبلية يستهدف دائما إقرار الحق أو إنصاف‬
‫المظلوم بل كان يستهدف مؤازرة المتعصب له سواء كان ظالما أو مظلوما‪ ،‬وفي هذا المعنى ورد في لسان العرب أن‬
‫العصبية هي‪ :‬أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم على من يناونهم‪ ،‬ظالمين كانوا أو مظلومين‪ ،‬ولما جاء‬
‫اإلسالم وظف العصبية من أجل الوحدة والتآخي وتألف القلوب‬
‫يرجع الفضل إلى ابن خلدون في إعادة االعتبار لهذا المصطلح الذي كان شائعا عند العرب وفي إعطاءه مدلوال‬
‫علميا مكنه من تحليل تطور الدولة في المغرب األقصى منذ نشأتها إلى انقراضها‪ .‬وحسب ابن خلدون‪ « :‬فالعصبية هي‬
‫رابطة اجتماعية ‪ -‬سيكولوجية شعورية وال شعورية معا‪ ،‬تربط أفراد جماعة ما قائمة على القرابة ربطا مستمرا تبرز‬
‫وتشتد عندما يكون هناك خطر يهدد القبيلة أو فخذا منها»‪.‬‬
‫إن مفهوم العصبية عند ابن خلدون معقد جدا إلى درجة أنه أثار تفسيرات متعددة ومختلفة ‪ :‬فهو يعني المركزية‬
‫القبلية‪ ،‬ويعني اإلحساس الوطني والتعاون القبلي» و «تعاون المحارب ويقصد به أيضا «القوة المحركة لتحول الدولة‬
‫وكذلك مرور المجتمع الغير طبقي إلى المجتمع الطبقي‪ ) .‬إيف) الكوست ‪ ...‬إلخ ‪ .‬وتتميز العصبية بالصفات اآلتية‪:‬‬
‫‪ ‬أوال ‪ -‬إن العصبية تميز العمران البدوي فهي ظاهرة خاصة بالبدو وبالمجتمعات البدوية وهي ظاهرة‬
‫تستلزمها المعطيات والظروف الطبيعية واالجتماعية واالقتصادية السائدة في هذا النوع من العمران‪.‬‬
‫‪ ‬ثانيا ‪ -‬إن العدوان الذي يتحدث عنه ابن خلدون والذي يجعل منه الحافز الموقظ للعصبية يستهدف بالدرجة‬
‫األولى شؤون المعاش‪ ،‬وذلك بشهادة ابن خلدون نفسه فسكان البادية‪ ،‬يعيشون في ظروف طبيعية جد صعبة‬
‫فهم منهمكون في تحصيل الضروري من العيش ولذلك نجدهم يختصمون باستمرار على مواطن الرزق‪ ،‬بل‬
‫وال يجدون حرجا في االعتداء على األموال والممتلكات‪ .‬وهكذا فالصراع العصبي‪ ،‬ليس في البداية صراعا‬
‫بين الدماء‪ ،‬وال راجعا إلى مجرد االعتداد باألنساب بل هو صراع من أجل البقاء‪ ،‬صراع من أجل لقمة‬
‫عيش‪.‬‬
‫‪ ‬ثالثا ‪ -‬إن أهل البادية يعيشون أسرا وجماعات منغلقة ومتباعدة يقل االحتكاك بينها‪ ،‬فالصراع مع الطبيعة‬
‫من أجل تحصيل المعاش يستغرق جل النشاط البدوي‪ ،‬والعالقات التي قد تنشأ بينهم في‬
‫صراعهم مع الطبيعة عالقات محدودة ‪.‬‬
‫‪ ‬رابعا ‪ -‬إن البدوي المشغول بتحصيل عيشه طول وقته‪ ،‬خاضع للطبيعة وتحت رحمتها‪ ،‬فهو غني إذا جادت‬
‫الطبيعة بالمياه والعشب وفقير ومهدد بالموت إذا ضنت بذلك‪ .‬عندما تجد الجماعة البدوية نفسها مهددة بالفناء‬
‫تحت وطأة الجدب أو غيره من الظروف الطبيعية القاسية جراد‪ ،‬أمراض ‪ ،‬قحط‪ )....‬فإنها ال تتردد في‬
‫الهجوم على مواطن الجماعات األخرى التي تعيش في ظروف أحسن‪.‬‬
‫‪ ‬خامسا ‪ -‬إن الجماعات البدوية جماعات مسلحة باستمرار «أرزاقها في رماحها ال تفرق بين ما يمكن أن‬
‫تجود به األرض بسخاء وبين ما يمكن أن تسلمه األيدي المغلوبة على أمرها‪ ،‬ومن هنا كانت ظاهرة الغزو‪،‬‬
‫وهكذا نجد أن الظروف المعيشية ألهل البدو تفرض عليهم نوعا من العالقات الخاصة‪ ،‬هي عالقات الحذر‬
‫وعدم الثقة بين المجموعات من هذه المعطيات ننتهي إلى نتيجة هامة‪ ،‬وهي أن فهم نظرية العصبية عند ابن‬
‫خلدون يتطلب استحضار العامل االقتصادي الذي يشكل المحرك لقوة العصبية ولكن ‪ -‬هنا يكمن السؤال‬
‫المهم الذي يجب طرحه ‪ -‬كيف ولماذا تتحول العصبية في اللحظات من مجرد رابطة قبلية معينة إلى قوة‬
‫للمطالبة والسعي وراء السلطة‪ ،‬ومن ثمة تأسيس الدولة؟‬
‫‪ ‬إن هذا المسلسل يصوره لنا ابن خلدون كالتالي‪:‬‬
‫حسب ابن خلدون الغاية التي تجري إليها العصبية هي الرئاسة ثم إن العصبية بدون رئاسة عصبية مهددة بالفناء‬
‫فالبد من وازع داخل العصبية الواحدة‪ ،‬وهذا الوازع يتجسد عموما في شيخ أو كبير القبيلة الذي يتوفر على مؤهالت‬
‫متعددة النسب والشرف والحسب والغلب‪ ...‬الحقيقة أن منصب الرئاسة ليس من األمور التي يطمح فيها كل فرد فعالوة‬
‫على المؤهالت السالفة فالمنصب وراثي‪« ،‬الرئاسة» البد أن تكون موروثة عن مستحقها»‪ ،‬وهكذا فبداخل الديمقراطية‬
‫العصبية‪ ،‬تنمو وتقوى بشكل طبيعي‪ ،‬األرستقراطية القبلية التي تساعد بدورها على خلق تكتالت بدوية عصبية تزيد من‬
‫حدة الصراع العصبي وتوجهه حسب الظروف واألحوال‪ .‬لكن يجب أن ال نغفل حقيقة هامة بصدد الرئاسة‪ ،‬وهي أنها‬
‫رئاسة معنوية أكثر منها سلطة قاهرة‪ ،‬يقول ابن خلدون بهذا الصدد‪« :‬أن الرئاسة هي سؤدد وصاحبها متبوع‪ ،‬وليس له‬
‫عليهم قهر في أحكامه»‪ .‬ومادام األمر كذلك‪ ،‬فإن الطريق من الرئاسة إلى الملك طريق ممهد وسهل فالعصبية بطبعها‬
‫تسعى إلى التغلب والهيمنة على العصبيات األخرى‪ ،‬وإدراجها تحت لوائها حتى الوصول إلى الهدف المتوخى من‬
‫العصبية وهو ا الملك‪ .‬إال أن الرئاسة قد تؤدي أحيانا إلى الملك على الحقيقة وهو ‪ -‬لمن يستبعد الرعية ويجبي األموال‬
‫ويبعث البعوث ويحمي الثغور وال تكون فوق يده يد «قاهرة وأحيانا أخرى‪ ،‬يؤدي فقط إلى الملك األصغر» وهو ملك‬
‫يقتصر فيه صاحبه على مشاركة أهل الدولة في النعيم والكسب وخصب العيش‪.‬‬
‫‪ ‬العوامل املوضوعية لتطور فكرة الدولة‬
‫يقرر ابن خلدون أن الدولة لها أعمار طبيعية كما لألشخاص‪ ،‬والمقصود باألعمار المراحل التي يجتازها الشخص‬
‫في حياته من طفولة وشباب وشيخوخة إن الدولة‪ ،‬مثل الشخص تنتقل من الطفولة (طور التأسيس) إلى الشباب (طور‬
‫العظمة) إلى الشيخوخة ( طور الهرم ( وعمرها ال يتعدى حدود ‪ 879‬سنة‪ ،‬أي ال يتجاوز ثالثة أجيال‪.‬‬
‫‪ ‬الطور األول‪ :‬طور التأسيس والبناء‪" .‬مرحلة المساهمة والمشاركة"‬
‫يتميز الطور األول من أطوار الدولة بخصائص معينة أهمها‪:‬‬
‫‪ .‬إن العصبية الغالبة في هذا الطور‪ ،‬تعتبر الحكم مغنما لها ككل ورئيسه يعتبر نفسه بدوره واحدا منها‪ ،‬بل خادما لها‬
‫وفق التقاليد البدوية القبلية فهو ال ينفرد دونهم بشيء ألن ذلك هو مقتضى العصبية‪ .‬وهكذا فالعالقات السائدة داخل‬
‫العصبية الحاكمة في هذا الطور‪ ،‬تقوم على أساس الديمقراطية القبلية أو ما يسميه ابن خلدون بالمساهمة والمشاركة‪.‬‬
‫• الخاصية الثانية تتعلق بالسياسة المالية للدولة‪ ،‬ففي هذه المرحلة تقوم سياسة الدولة على «سنن الدين‪ ،‬فليست‬
‫تقتضي إال المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية‪ ،‬وهي قليلة الوزائع وبصفة عامة‪ ،‬فإن سياسة الدولة في‬
‫هذا الطور تقوم أساسا على المشاركة والمساهمة وكسب القلوب وإنزال الناس منازلهم واالقتصاد في النفقات‪ ،‬وعدم‬
‫الغلو في فرض الضرائب والجبايات‪.‬‬
‫‪ ‬الطور الثاني طور العظمة والمجد االستبداد واالنفراد بالحكم"‬
‫يتميز من هذا الطور بخصائص تكاد تتناقض مع سابقاتها وهي ذ نتيجة الرخاء الذي ساد الدولة في آخر الطور‬
‫السابق وهكذا فبدال من خشونة البداوة تبدأ رقة الحضارة أي من حياة البساطة واالقتصار على الضروري من العيش‬
‫في الغالب إلى حياة الرفاهية والتفنن في الترف وبدال من المساهمة والمشاركة يبدأ االستبداد واالنفراد بالمجد وعواض‬
‫اعتماد صاحب الدولة على عصبيته وعشيرته يلجأ إلى الموالي والمرتزقة الذين يأخذ في االعتماد عليهم واالستغناء‬
‫تدريجيا عن عصبيته‪.‬‬
‫‪ ‬الطور الثالث طور الهرم واالضمحالل "االنقسام إلى ممالك مستقلة"‬
‫تتفكك عرى العصبية في هذه المرحلة‪ ،‬ويضجر الناس ويتقاعسون عن العمل وتتقلص األنشطة االقتصادية‪ ،‬وتعم‬
‫الفتنة وتنقسم الدولة إلى مماليك مستقلة هذه الوضعية وضعية ضعف السلطة ونشوب أزمة اقتصادية هي ما يقصده ابن‬
‫خلدون بحالة هرم الدولة‪.‬‬
‫‪ ‬العوامل الذائية‬
‫إذا نظرنا إلى الدولة باعتبارها ملوكا متعاقبين على الحكم‪ ،‬نجدها تنتقل في أطوار مختلفة وحاالت متعددة ال تعدو أن‬
‫تكون في الغالب خمسة أطوار ‪ -‬قانون األطوار (الخمسة‬
‫‪ . ‬طور الظفر واالستيالء على الملك وانتزاعه من أيدي الدولة السالفة قبلها ويكون صاحب الدولة‪ .‬في هذا‬
‫الطور أسوة قومه في اكتساب المجد ال ينفرد دونهم بشيء وهذا بمقتضى العصبية‪.‬‬
‫‪ ‬طور االستبداد على قومه واالنفراد دونهم بالملك وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة‪.‬‬
‫‪ ‬طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد اآلثار وبعد‬
‫الصيت‪ ،‬فيستفرغ صاحب الدولة في تشييد واستقبال أشراف األمم ووجوه القبائل ويوسع على صنائعه‬
‫وحاشيته بالمال والجاه وتظهر عالئم الترف‪.‬‬
‫‪ . ‬طور القنوع والمسالمة ‪ -‬ويكون صاحب الدولة في هذه المرحلة قانعا بما بنى أولوه‪ ،‬مقلدا للماضين من‬
‫سلفه ويرى في الخروج عن تقليدهم فسادا ويعتقد أنهم أبصر بما بنوه من مجد‪.‬‬
‫‪ ‬طور اإلسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمع أولوه في سبيل الشهوات والمالذ‬
‫والكرم ‪ ...‬مستفسدا الكبار األولياء من قومه وصنائع سلفه ‪ ...‬فيكون مخرجا لما كان سلفه يؤسسون وهادما‬
‫لما كان يبنوه‪ .‬وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعة الهرم ويستولي عليها المرض فليس لها إال أن‬
‫تفترض‪.‬‬
‫إن نظرية العصبية ونظرية الدولة التي صاغها ابن خلدون تعكس على الوجه األكمل التاريخ السياسي للمغرب‬
‫األقصى منذ األدارسة إلى المرينيين مرورا بالمرابطين والموحدين لكن تحت وطأة وقائع سياسية واقتصادية خارجية‬
‫اكتشاف أمريكا‪ ،‬نهاية األندلس المسلمة تقهقر تجارة القوافل الخ ‪ ...‬وداخلية ( بروز مؤسسة الزاوية والشرفاء ودورهما‬
‫الطليعي في الحياة السياسية إلخ‪ )...‬أصبحت هذه النظريات متجاوزة‪ ،‬وقد عايش ابن خلدون هذه التحوالت السياسية‬
‫العميقة والمسه إحساس رهيف بأن شيئا يتغير على وجه المعمور لكنه لم يحدد مغزاه ولم يستطع التعرف عن أبعاده‬
‫ومقاصده ‪ ،‬وفي هذا يقول‪ :‬وأما لهذا العهد وهو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبذلت‬
‫بالجملة ‪ ....‬وإذا تبذلت األحوال جملة فكأنما تبذل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة‬
‫وعالم محدث‬
‫احملور اخلامس الفكر السياسي االستبدادي عند ماكيافيل‬
‫إذا كان ماكيافيل يعتبر أول من استعمل الدولة بمفهومها السياسي الحديث‪ ،‬فإنها في تصوره ال تنفصل بتاتا عن األمير وعن سلطته‬

‫‪ ‬وجوب االنطالق من واقعية ماكيافيلي ذاته‬


‫ولد ماكيافيل نيقوالي في مدينة (فلورنسا بإيطاليا سنة ‪ 8111‬وتميز عصره بتقلبات وصراعات سياسية مختلفة‬
‫قسمت إيطاليا إلى عدد كبير من الدويالت المستقلة المتناحرة فيها بينها‪ .‬عاش ماكيافيل في عهد األمير المديتشي الذي‬
‫لقبه الفلورنسيون بـ « لورنزو العظيم » نظرا لالزدهار الذي ساد عصره‪ ،‬غير أن حكم ابنه لم يدم طويال حيث رجعت‬
‫فلورنسا إلى عهد الجمهورية‪ ،‬لكن سرعان ما ستسقط مرة أخرى في قبضة الراهب الدومينكي « سافوناروال » الذي‬
‫أسس نظاما تيوقراطيا ما لبث أن انهار بموته‪ ،‬غير أن االضطراب واستمرار الصراعات السياسية سيؤدي إلى استدعاء‬
‫من جديد « آل ماديتشي» الذين جردوا ماكيافيل من كل المناصب الرسمية ونفوه إلى « سان كاسيانو » حيث عاش‬
‫فيها عيشة عوز وفاقة‪.‬‬
‫وفي وحدة المنفى أخذ يتأمل في السياسة بصفة عامة وفي مصير إيطاليا بصفة خاصة‪ ،‬انطالقا من قراءاته لمؤرخي‬
‫العصور القديمة وتجربته الطويلة في الشؤون العامة حيث عمل سكرتيرا للمحكمة العليا لجمهورية فلورنسا التي كانت‬
‫تشرف على الشؤون الخارجية والعسكرية‪ ،‬واختير في أربعة وعشرين بعثة دبلوماسية أكسبته خبرة ومرانا عظيمين‪.‬‬
‫وفي أجواء هذه العزلة الطويلة وتأمله العميق في الظواهر السياسية سيستخلص ماكيافيل مؤلفين ‪ « :‬المطارحات »‬
‫الذي تعرض فيه إلى تاريخ روما العظيمة ومجدها ‪ ،‬و « األمير » الذي يشكل منعطفا في تاريخ التحليل السياسي حيث‬
‫سيؤسس ألولوية « السياسة » واستقاللها عن األخالق‬
‫ماتت العصور الوسطى ويبدو أكثر من ذلك‪ ،‬أنها لم توجد مطلقا‪ ،‬فكل قضاياها ‪ :‬كاهلل والخالص والعالقات بين العالم الماورائي‬
‫والعالم الدنيوي والعدالة واألساس اإللهي للسلطة غير موجودة بالنسبة لماكيافيل‪ ،‬وليس هناك إال حقيقة واحدة هي حقيقة الدولة وواقع‬
‫واحد‪ ،‬هو واقع السلطة إن هناك قضية واحدة هي ‪ :‬كيف يمكن تثبيت وحفظ سلطة الدولة ؟‪.‬‬

‫‪ ‬متثل الدولة الوضعية عند ماكيافيلي‬


‫إذا كان ماكيافيل يعتبر أول من استعمل "الدولة بمفهومها السياسي الحديث‪ ،‬فإنها في تصوره ال تنفصل بتاتا عن‬
‫األمير وعن سلطته‪ ،‬وبالتالي تعد الركيزة األساسية ل "نظرية االستبداد السياسي" التي ستهيمن على هذه الحقبة‬
‫التاريخية لم يهتم ماكيافيل بأصل الدولة وال بتطورها وشرعيتها كما فعل الفالسفة والمفكرون من قبله‪ ،‬بل عالجها‬
‫ك"كيان موجود يجب العمل على تقويته وتوسيع نفوذه واالحتفاظ به بجميع الوسائل حتى بوسائل النذالة والضغينة‪ ،‬أي‬
‫اللجوء إلى األعمال "الوحشية‪.‬‬
‫أوال؛ منطلق النظرية السياسية عند مكيافللي "أولوية السياسة واستقاللها عن األخالق"‬
‫‪ .‬االستقالل عن األخالق؛ بأي معنى ؟‬
‫إذا كان ألرسطو الفضل في منهجية المعرفة التي قامت عليها منهجية التفكير السياسي بوجه عام واعتماد المنهج‬
‫االستقرائي بوجه خاص‪ .‬وإذا كان أفالطون قد أمد التفكير السياسي بطاقة الخيال الخالقة البنائية‪ .‬وإذا كان ابن خلدون‬
‫قد زود الفكر السياسي بالمادة الموضوعية وربطه ربطا محكما باالجتماع واالقتصاد وفلسفة التاريخ؛ فقد حقق مكيافللي‬
‫(‪ )81(73 - 8111‬انفصال التفكير السياسي عن األخالق انفصاال بينا واكتشف اتساق السياسة في قوانين ثابتة ال تتغير‬
‫معتمدا في ذلك المنهج الموضوعي مستمدا مادته من تحليل ومراجعة التاريخ الروماني كتاب المطارحات ومن‬
‫مالحظات سياسات الدول المعاصرة له ( كتاب األمير ‪ .‬والواقع أن كتاب « األمير » يمثل الجانب اإليجابي والعملي‬
‫في تفكير مكيافلي السياسي ويمكن اعتماده وحده كمرجع لفهم تفكيره السياسي‪.‬‬
‫ولعل أكثر اقتراحاته جسارة ‪ -‬حتى ال نقول إبداعا‪ ،‬هي نظرته وفكرته القائلة بنفي وجود أخالقية واحدة (كما علم‬
‫الفالسفة جميعا ) ومناداته بوجود اخالقيتين األخالق الشخصية‪ ،‬واألخالق السياسية‪ .‬وعلى هذا األساس يعتبر ماكيافيللي‬
‫بأن ما يحرم على صعيد األخالق الشخصية كالعنف والباطل والكذب ونكث العهود واالتفاقات الخ احيانا‪ ،‬يصبح على‬
‫صعيد األخالق السياسية مسموحا به‪ ،‬ال بل واجبا لبلوغ الهدف‪.‬‬
‫والمعنى هنا أنه "انطالقا من اعتبار مكيافللي أن غاية السياسة هي المحافظة على الدولة والعمل على ازديادها فقد‬
‫عني في كتاباته بالوسائل التي تحقق "قوة "الدولة" وتمكنها من توسيع سلطانها في الخارج والوسائل التي قصدها‬
‫مكيافلي لم تكن تقوم على المقاييس المسلم بها وسيما المقاييس األخالقية"؛ بمعنى دون مراعاة عدم ارتباط هذه‬
‫الوسائل بالقيم والمسلمات األخالقية‬
‫وهذا ما حمل دوفرجيه عند مقارنته مكيافللي بأرسطو إلى القول ‪ :‬لقد أوجد أرسطو الركن األول في علم السياسة‬
‫وهو اعتماد منهج المالحظة وبعد منه االستقراء وأوجد مكيافللي العنصر الثاني‪ ،‬وهو المنهج الموضوعي المتجرد من‬
‫االهتمامات الخلقية‪.‬‬
‫األخالق‪ ،‬إذن؛ ال تشكل مقياسا إال من خالل الهدف المتوخى منها وهو الحفاظ على قوة ومناعة الدولة‪ ،‬فقد يلجأ‬
‫األمير للنذالة أو الضغينة أي األعمال الوحشية اإلنسانية أو إلى األعمال الجليلة حسب ما تقتضيه الظروف السياسية من‬
‫أجل بقاء الدولة واستمراريتها‪.‬‬
‫ثانيا؛ معوقات قيام الدولة ووحدتها الكنيسة و اإلقطاع‬
‫ـ ماكيافيل لم يكن ضد الدين لكنه ضد المسيحية (المسيحية حسب ماكيافيللي لم تعلم وال رعت الفضائل كما فهمها)‬
‫كان ماكيافيلي واحدا من كثيرين اعتبروا فساد البابوات والكرادلة المفضوح مضرا بمصلحة إيطاليا وخيرها‬
‫وأخالقها‪ .‬كما أنه لم يكن الوطني اإليطالي الوحيد المعترض على البابوية على أسس وطنية باعتبار أن البابا كان‬
‫أضعف من أن يوحد إيطاليا تحت زعامته مع كونه في الوقت نفسه في وضع من القوة يمكنه من الحيلولة دون توحيد‬
‫إيطاليا تحت اية زعامة أخرى ‪.‬‬
‫واألكيد أن ماكيافيلي لم يكن ضد الدين بل كان معارضا شرسا للكنيسة‪ .‬معارضة ماكيافيللي للكنيسة كانت أكثر عمقا‬
‫وجذرية ذلك بأنه في الواقع‪ ،‬لم يكن يأبه كثيرا لفسق أمراء الكنيسة؛ بل كان اعتراضه الحقيقي موجها إلى المسيحية‬
‫الصافية غير المفسدة التي كان يدافع عنها رجال أمناء صادقون أمثال "سافوناروال"‪.‬‬
‫فماكيافيلي كان يعتقد أن المسيحية في أحسن حاالتها ‪ -‬تعلم فضائل مغلوطة‪ .‬فقد كانت تعلم في رأيه الخضوع والذل‬
‫وإنكار الحسد ثم حصر أمل اإلنسان بالفرح والسعادة في ما بعد الموت‪ .‬وكانت فكرة ماكيافيللي عن الفضيلة على‬
‫نقيض كلي مع المناقب المسيحية‪.‬‬
‫ثالثا؛ المقومات األساسية‪ :‬الجيش‪ /‬سلطة "األمير" المطلقة ‪ /‬التحكم بالدين‬
‫قسم مكيافللي أنظمة الحكم إلى صنفين‪ :‬النظام الملكي والنظام الجمهوري ودافع عن نمط الحكم الجمهوري في كتابه‬
‫«المطارحات» بينما تراجع عن هذا الموقف في «األمير» ليدافع عن نمط «اإلمارات» التي قسمها بدورها إلى‬
‫إمارات وراثية » و « إمارات جديدة » و « إمارات دينية ‪ .».‬وهذا ما جعل ماكيافيل يعتقد أن النظام الجمهوري هو‬
‫أفضل النظم ولكنه ال يصلح إال للشعوب المتمسكة باألخالق‪ ،‬أما غيرها فال يصلح لها إال نظام الحكم االستبدادي‬
‫المطلق‪ ،‬وبالتالي فهو يؤمن بضرورة الحكم الملكي المطلق أثناء نشأة الدولة الجديدة‪ ،‬وفي حال ما استقرت هذه الدولة‬
‫وأصلحت من فسادها وتملكت األخالق والفضائل سلوك شعبها‪ ،‬فعندئذ فقط يمكن تطبيق النظام الجمهوري‪.‬‬
‫• التحكم بالدين‬
‫يميز ماكيافيل في هذا اإلطار بين طريقتين الستغالل الدين ‪ :‬هناك دين ‪ -‬سليم‪ ،‬وآخر منحط‪ ،‬فالدين في الحالة‬
‫األولى يشجع على القيام بمشاريع وخدمة ‪ -‬الدولة‪ ،‬أما في الحالة الثانية فإنه يشكل عامال من عوامل االنحطاط والعجز‬
‫ويوصي األمير بحسن استعمال الدين فهو يجبر الشعب على الطاعة في األوقات الصعبة‪ ،‬وال يهم ماكيافيل إذا كان‬
‫الحكام ال يؤمنون بهذا الدين فالمسألة ليست مسألة حقيقة أو بهتان وإنما هي مسألة حكمة سياسية ومعرفة بالطبيعة‬
‫البشرية‪ ،‬فالحكام يجب عليهم أن يتمظهروا بسلوكهم الديني حتى ولو كانوا في قرارة أنفسهم ال يؤمنون بالمسائل الدينية‪،‬‬
‫وهو يقول في هذا السياق ‪ « :‬وخصوصا الدين‪ ،‬فهو األمر األهم الذي يجب أن يكون لألمير ظاهره‪ ،‬إذ أن البشر‬
‫عموما يحكمون بعيونهم أكثر مما يحكمون بأيديهم‪ ،‬فكلهم في مدى الرؤية ال اللمس‬
‫وعموما نكتفي بالقول بأن ماكيافيل يعتبر الدين في عداد القوى التي يجب على األمير التحكم بها للتأثير على الشعب‬
‫أو توجيهه حسب كاإليديولوجية والدعاية‪ ،‬ولذا نراه يعالجه من حيث الدور الذي يلعبه في المجتمع ومن حيث الدور‬
‫الذي يلعبه من أجل تثبيت أسس الدولة وبقائها كذلك األخالق‪ ،‬فإن ماكيافيلي يعتبرها مجموعة من القيم التي يستعملها‬
‫األمير من أجل بقاء سلطته واستمرار قوتها وبالتالي ال إن كانت هذه األخالق حسنة أو العكس فالظروف هي التي تملي‬
‫على األمير أيها أصلح معيار الغاية تبرر الوسيلة‪ ،‬وفي هذا الصدد يقول ماكيافيل‪.‬‬
‫‪ .‬بني اجليش واملرتزقة‪ ..‬خيار السيادة أو االنصياع‬
‫يقول مكيافيلي‪ :‬إذا طلب حاكم من دولة قوية مجاورة أن تتدخل لمساعدته فهذا أمر جيد‪ ،‬ولكنه يكون في غاية‬
‫الخطورة إذا ذهبت قوة هذه الدولة‪ ،‬ألنها ستجره معها إلى الهاوية‪ ،‬وإذا انتصرت فإنه يصبح تحت رحمتها‪ ،‬وباختصار‬
‫فإن سالح الغير إما أن يسقط عن كتفيك‪ ،‬وإما أن يثقل كاهلك ويشل حركتك‪ .‬وهو ما يراه "جورجيني" أيضا إذ يقول‪:‬‬
‫إن خيار الجيش الشعبي للدولة في صد العدوان أفضل بكثير من المرتزقة‪.‬‬
‫‪ .‬سلطة األمري املطلقة من حفظ مصلحة الدولة العليا‬
‫عاصر ماكيافيلي الشاب‪ ،‬وهو بعد موظف صغير في االدارة ‪ ،‬سافوناروال القديس الذي حاول إنشاء جمهورية‬
‫مثالية على نمط آخر في البندقية ‪ .‬وكان سافونا روال مسيحيا مثاليا من «البيورتان المتشددين في إيمانهم وممارستهم ‪،‬‬
‫وحاول أن يجعل البندقية جمهورية الفضيلة التي تسودها األخالق واإلحسان والعمل الصالح‪ ،‬متوسال لتحقيق ذلك نظاما‬
‫الرقابة والضوابط االقتصادية‬
‫ونجح سافو نار وال نجاحا كبيرا إال أن سلطانه اعتمد أكثر مما ادرك هو بالذات‪ ،‬على شهرته في المقدرة السحرية‬
‫فكان أنه لما رفض انجاز أعجوبة من أعاجيبه‪ ،‬انقلب شعب البندقية عليه و اماته حرقا على الوتد ‪ .‬وكانت لماكيافيلي‪،‬‬
‫الشاب البالغ الثامنة والعشرين من عمره يومها عبر متعددة من موت القديس سافوناروال‪ ،‬انعكست على نشاطاته‬
‫وأفعاله‪:‬‬
‫أوال ‪ :‬أيقظ سقوط سافوناروال في نفسه وعيا حادا جدا بعدم فعالية «النبي االعزل من السالح وبوجوب اعتماد‬
‫السياسة على السيف فضال عن الكلمة ‪ -‬أو بتعبير أوضح وأكثر انسجاما مع تعابير ما كماكيافيلي الذي كان يمقت‬
‫العبارات الملطفة المخففة لمعاني األشياء كالسيف مثال ‪ -‬وجوب اعتماد السياسة على العنف ‪.‬‬
‫ثانيا‪ ،‬تركت خبرة سافوناروال المقدسة في نفس ماكيافللي نفورا اشد من ذي قبل من المسيحية روحا ومعتقدا‪،‬‬
‫وكمؤسسة دينية تجسدها الكنيسة‪.‬‬
‫وكان ماكيافيللي واحدا من كثيرين اعتبروا فساد الباباوات والكرادلة المفضوح مضرا بمصلحة إيطاليا وخيرها‬
‫وأخالقها ‪ .‬كما أنه لم يكن الوطني اإليطالي الوحيد المعترض على البابوية على أسس وطنية‪ ،‬باعتبار أن البابا كان‬
‫أضعف من أن يوحد إيطاليا تحت زعامته مع كونه في الوقت نفسه في وضع من القوة يمكنه من الحيلولة دون توحيد‬
‫إيطاليا تحت أية زعامة أخرى ‪.‬‬
‫إال أن معارضة ماكيافيللي للكنيسة كانت أكثر عمقا وجذرية من أي من هذين االعتراضين ‪ .‬ذلك بأنه في الواقع لم‬
‫يكن يأبه كثيرا لفسق أمراء الكنيسة؛ بل كان اعتراضه الحقيقي موجها الى المسيحية الصافية غير المفسدة التي كان‬
‫يدافع عنها رجال أمناء صادقون أمثال سافوناروال ‪.‬‬
‫فماكيافيللي كان يعتقد أن المسيحية في أحسن حاالتها ‪ -‬تعلم فضائل مغلوطة ‪ .‬فقد كانت تعلم ‪ -‬حسب رأيه ‪-‬‬
‫الخضوع والذل وإنكار الجسد‪ ،‬وإعطاء الخد اآلخر للطم‪ ،‬ثم حصر أمل اإلنسان بالفرح والسعادة في ما بعد الموت‪.‬‬
‫وكانت فكرة ماكيافيللي عن الفضيلة على نقيض كلي ي مع المناقب المسيحية‪.‬‬
‫إال أن مثال ماكيافيللي قد صححه حسه بالممكن سياسيا‪ ،‬وهو حس نمته خبرة عمر سلخه في الخدمة المدنية ‪ .‬وهنا‬
‫تقوم المقارنة بين مثاله وحسه العملي على عدد من المفارقات ‪.‬‬
‫فرؤى ماكيافيللي عن المجد الجمهوري هي رؤى سامقة لها تطلعاتها البعيدة‪ ،‬بينما فكرته هو معقول سياسيا بالغة الحذر‪.‬‬
‫ففي رأيه أن الشكل الجمهوري للحكم ال بد أن تمهد لقيامه أهلية الشعب للحياة الجمهورية وسويته المناقبية وهذا في‬
‫رأيه‪ ،‬لم يكن متوفرا في معاصريه وال يمكن جعلهم مؤهلين لذلك في وقت قصير‪ .‬إن الطابع الرئيسي للحياة الجمهورية‬
‫هو الحرية‪ ،‬ولكن من الخطر‪ ،‬في رأي ‪،‬ماكيافيللى إعطاء الحرية فجأة للناس وهم غير معتادين عليها نظرا إلى أن مثل‬
‫هؤالء البشر ال يختلفون أساسا عن البهائم المتوحشة التي وإن كانت بطبيعتها شرسة ومعتادة على حياة الغاب فإنها بعد‬
‫األسر والعبودية‪ ،‬إذا ما أطلق سراحها وأخذت تجوب الريف بإرادتها تصبح بعد أن تكون فقدت عادتها في البحث عن‬
‫طعامها الخاص ولم تعد تجد مكانا تأوي إليه ‪ -‬فريسة اول قادم يريد تقييدها من جديد ‪» .‬‬
‫اال أنه ال يجوز القفز الى االستنتاج ‪ -‬انطالقا من هذه الفقرة ‪ -‬أن ماكيافيللي معارض دائم لألساليب الثورية‪ .‬ذلك‬
‫بأنه كان يعتقد أنه في حاالت معينة تغدو الثورة العنفية الطريق السليم إلقامة الجمهوري وهو يبدي في هذا الصدد‬
‫بعض المالحظات حول ضرورة العنف فهو يقول مثال ان من األهمية بمكان كبير ان يعمد الثوار في اوج المعركة‬
‫الثورية‪ ،‬وبسرعة‪ ،‬الى قتل اعداء الثورة الفعليين والممكنين‪.‬‬
‫ويقول حرفيا بهذا الصدد‪:‬‬
‫إن حكومة دولة حرة تألفت حديثا تثير ردود فعل الجماعات العدوة ال الصديقة ‪ .‬فاذا اراد الحاكم ان يعالج هذه‬
‫الصعوبات وان يداوي االضطرابات التي سببها ‪ ،‬فليس أمامه من طريق أفضل وأضمن وأسلم أو أشد الحاحا من قتل‬
‫جميع «أبناء بروتس »‪.‬‬
‫ويقول ماكيافيللي بانه عنى بعبارة جميع يفضلون العيش في ظل الملكية على الجمهورية‪ ،‬والذين يعتبرون حرية‬
‫الشعب مرادفة للعبودية ‪.‬‬
‫إن هذا الرأي الذي يبديه ماكيافيللي حول موجبات العنف الثوري ال يعني انه ينتمي بفكرة حمام الدم ويرغب فها‪،‬‬
‫فهو ليس كذلك‪ .‬إن فكرته تتلخص في أنه إذا لم يبادر الثوار الى قتل جميع أعداء الجمهورية حاال وبعملية واحدة سريعة‬
‫فعلهم اذ ذاك مواجهة سيل ال ينتهي من التطهيرات والمحاكمات إن أتباع هذا النهج ال يؤدي إلى اتخاذ أسلوب أقل‬
‫فعالية فحسب‪ ،‬بل إلى تقويض مناقب الدولة ومناخ الثقة والهدوء فيها ‪.‬‬
‫وبرغم ان ماكيافيللي يشدد على ضرورة العنف ويعتقد بوجوب ارتكاز الدولة عليه إال أنه شخصيا ال يوده وال‬
‫يرغب في أكثر من القدر األقل منه والضروري لسالمة الدولة ‪ .‬وإن عزوفه عن االعتماد الكلي على العنف هو الذي‬
‫يجعله يدعو في مكان آخر الى اعتماد الحيلة والخداع وتفضيلهما على العنف والقوة ‪ .‬فهو يفضل الديبلوماسية ‪ ،‬مهما‬
‫كانت أساليبها ماكرة‪ ،‬على الحرب ‪.‬‬
‫ذلك ألن الحرب تجلب الموت واأللم واالجتياح فضال عن إمكان الهزيمة أيضا ‪.‬‬
‫يقول مكيافيلي‪" :‬أبرز سمات رجل الدولة أن تتوفر فيه صفات الشجاعة والدهاء معا‪ ،‬وعليه أن يكون أسدا وثعلبا في‬
‫ذات الوقت فاألسد ال يحمي نفسه من المصائد والثعلب ال يقوى على مقاومة ‪ .‬الذئاب"‪ .‬ويقول "مكيافيلي"‪" :‬أعمال مثل‬
‫اغتيال المواطنين‪ ،‬ونقض العهود وغدر األصدقاء‪ ،‬والتجرد من التدين والرحمة قد توصل إلى السلطة ولكنها ال تورث المجد‬
‫‪ ".‬ويشاع عن "ماكيافيلي" أنه قال "الغاية تبرر الوسيلة"‪ ،‬والغاية هنا حفظ مصالح الدولة العليا‬
‫وقد أسيء استخدام هذه العبارة‪ .‬وإن لم تكن ظهرت في أي من كتاباته نصا‪ ،‬بل ورد في الفصل ‪ 01‬ما نصه " إن الحاكم‬
‫يجب أن يكون صالحا‪ ،‬وال يستخدم الشر إال في حالة واحدة أن يحفظ مصالح الدولة ‪.‬‬

‫يقول ميكيافيلي‪ :‬عندما يحتل األمير مستعمرة جديدة تختلف عن دولته في العادات واللغة والتشريعات‪ ،‬فسيجد‬
‫صعوبات لالحتفاظ بها‪ ،‬وتحتاج إلى حظ وكفاءة‪ ،‬فيجيب أن يقيم األمير شخصيا في المستعمرة‪ ،‬ثم‬

You might also like