الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 23

‫الحرب الروسية‪-‬األوكرانية ومستقبل النظام‬

‫الدولي‬

‫عصام عبد الشايف*‬


‫‪ 3‬مايو ‪ /‬آيار ‪2022‬‬
‫التحوالت والتطورات التي تحدث يف بينة النظام الدولي تنعكس سلبًا وإيجابًا ىلع كل األنظمة اإلقليمية والفرعية التي‬
‫يقوم عليها (وكالة الصحافة الفرنسية)‬

‫مقدمة‬

‫تعود أصول القضية األوكرانية املعاصرة إلى العام ‪ 1991‬مع تفكُّك االتحاد السوفيتي‪ ،‬وحصول أوكرانيا ىلع استقاللها‬
‫يف نفس العام‪ .‬ويف العام ‪ ،1994‬جرى توقيع "مذكرة بودابست" التي تعهَّدت بموجبها روسيا االتحادية باحترام حدود‬
‫أوكرانيا يف مقابل تخلِّي كييف عن ترسانتها النووية املوروثة عن االتحاد السوفيتي لصالح روسيا‪ .‬لكن سرعان ما‬
‫فرضت الحسابات الجيوبوليتيكية نفسها ىلع شرق أوروبا‪ ،‬مع اتجاه حلف الناتو للتمدد شرقًا‪ .‬فانضمَّت جمهوريات‬
‫التشيك واملجر وبولندا للحلف‪ ،‬عام ‪ ،1999‬وبين عامي ‪ 2004‬و‪ ،2009‬انضمت ‪ 9‬دول من شرق أوروبا‪ ،‬بعضها من‬
‫الجمهوريات السوفيتية السابقة (بلغاريا‪ ،‬إستونيا‪ ،‬التفيا‪ ،‬ليتوانيا‪ ،‬رومانيا‪ ،‬سلوفاكيا‪ ،‬سلوفينيا‪ ،‬ألبانيا‪ ،‬كرواتيا)‪ ،‬ثم‬
‫لحقت بها بعد ذلك كل من الجبل األسود ومقدونيا الشمالية‪ .‬وأصبح إجمالي عدد الدول التي انضمت للحلف بين ‪1999‬‬
‫و‪ 2020‬نحو ‪ 14‬دولة‪ ،‬تشكِّل نحو نصف الدول األعضاء يف الحلف الذي تأسس عام ‪.1949‬‬

‫ولم يعد متبقيًا من الدول العازلة بين روسيا والناتو سوى بيالروسيا وأوكرانيا‪ ،‬وترى روسيا أن انضمام هاتين الدولتين‬
‫إلى الناتو يعني حصارها داخل حدودها‪ ،‬وتصاعدت مخاوفها مع مخرجات قمة الناتو التي عُقدت يف العاصمة‬
‫الرومانية‪ ،‬بوخارست‪ ،‬عام ‪ ،2008‬عندما رحَّب الحلف بتطلع أوكرانيا وجورجيا لنيْل عضويته‪ ،‬وهو ما كان‪ ،‬من وجهة‬
‫النظر الروسية‪ ،‬بمنزلة إعالن لحرب ممتدة بين روسيا والغرب‪ .‬فبدأت روسيا سلسلة من املواجهات العسكرية ملنع‬
‫هاتين الجمهوريتين من االنضمام للحلف‪ ،‬وكانت البداية بالحرب الروسية‪-‬الجورجية‪ ،‬عام ‪ ،2008‬وقيام روسيا بضم‬
‫إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية‪ ،‬ثم الحرب الروسية‪-‬األوكرانية‪ ،‬عام ‪ ،2014‬ثم قيام روسيا بإعالن ضم شبه جزيرة‬
‫القرم األوكرانية‪.‬‬
‫وردًّا ىلع ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم‪ ،‬تسارعت معدالت التعاون العسكري واألمني بين الواليات املتحدة وأوكرانيا‪،‬‬
‫وتُشير بعض التقديرات إلى حصول أوكرانيا خالل الفترة من ‪ 2014‬إلى ‪ 2021‬ىلع نحو ‪ 5.6‬مليارات دوالر من الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬تشمل أسلحة ومعدات تدريب للجيش‪ ،‬ودعم مكافحة التهديدات السيبرانية‪ ،‬باإلضافة إلى الدعم‬
‫االستخباراتي ملواجهة التهديدات الروسية عبر "مبادرة املساعدة األمنية األوكرانية"(‪ .)1‬كما أقرَّ حلف الناتو حزمة من‬
‫املساعدات الشاملة لتعزيز االستراتيجية الدفاعية واألمنية يف أوكرانيا(‪.)2‬‬

‫وأظهرت استطالعات الرأي خالل السنوات ‪ ،2021-2015‬التي أجريت داخل أوكرانيا‪ ،‬تنامي االتجاهات املؤيدة لالنضمام‬
‫إلى االتحاد األوروبي والناتو‪ ،‬حيث كشف استطالع‪ ،‬يف ‪ 17‬ديسمبر‪/‬كانون األول ‪ ،2021‬عن تأييد ‪ %58‬من األوكرانيين‬
‫االنضمام إلى االتحاد األوروبي‪ ،‬وتأييد ‪ %54‬االنضمام إلى الناتو‪ ،‬بينما أيَّد ‪ %21‬فقط االنضمام إلى االتحاد الجمركي‬
‫األوراسي بقيادة روسيا(‪.)3‬‬

‫ويف العشرين من فبراير‪/‬شباط ‪ ،2022‬اعترف الرئيس الروسي‪ ،‬فالديمير بوتين‪ ،‬باستقالل جمهوريتين انفصلتا عن‬
‫أوكرانيا هما "لوغانسك"‪ ،‬و"دونيتسك"‪ .‬ويف الرابع والعشرين من نفس الشهر‪ ،‬قامت القوات املسلحة الروسية بغزو‬
‫عسكري شامل لألراضي األوكرانية بدعوى أن ذلك جاء بناء ىلع دعوة وجهتها هاتان الجمهوريتان االنفصاليتان للنظام‬
‫الروسي للدفاع عنهما‪ ،‬يف مواجهة ما أسماه النظام الروسي‪" :‬حرب اإلبادة التي يشنُّها النازيون الجدد يف أوكرانيا"‬
‫ضد األقليات من أصل روسي يف الجمهوريتين‪.‬‬

‫ويف مقابل السياسات الروسية‪ ،‬توالت ردود األفعال الدولية واإلقليمية ‪-‬سياسية واقتصادية وإعالمية بل وعسكرية‪-‬‬
‫تجاه ما سُمِّي بـ"الغزو الروسي ألوكرانيا"‪ ،‬أو "العدوان الروسي ىلع أوكرانيا"‪ ،‬خاصة مع حجم التدمير الذي شهدته‬
‫األراضي األ وكرانية يف فترة زمنية وجيزة بعد بدء الحرب مباشرة‪ .‬ومع تشابك األطراف وتعقُّد املشهد الدولي أمام‬
‫التداعيات التي ترتبت ىلع األزمة يبدو مهمًّا البحث يف مدى تأثير األزمة األوكرانية‪ ،2022 ،‬ىلع بنية النظام الدولي‪.‬‬

‫‪ .1‬اعتبارات منهجية ونظرية‬

‫أ‪ -‬إشكالية الدراسة‬

‫يف سياق تداخل قوى دولية يف األزمة األوكرانية‪ ،‬تسعى الدراسة إلى اإلجابة عن السؤال اإلشكالي اآلتي‪ :‬إلى أي مدى‬
‫يمكن أن تؤثر األزمة األوكرانية ىلع بنية النظام الدولي‪ ،‬خاصة من حيث أنماط التفاعالت الدولية بعد الحرب‪ ،‬وتوازنات‬
‫النظام الدولي القائم ومساراته املستقبلية‪ ،‬واحتماالت إعادة تشكيل دوائر ومناطق نفوذ الوحدات الدولية‪ ،‬وصياغة‬
‫األنساق األمنية اإلقليمية والدولية‪ ،‬وخاصة يف أوروبا والشرق األوسط؟‬

‫ب‪ -‬منهج الدراسة‬

‫اعتمد الباحث ىلع اقتراب "النسق الدولي" يف العالقات الدولية‪ ،‬وهو أحد االقترابات الفرعية‪ ،‬من منهج تحليل النظم‪،‬‬
‫ويقوم ىلع أن النسق يتكوَّن من مجموعة من العناصر التي ترتبط فيما بينها بنمط معين من العالقات‪ ،‬وهو يف‬
‫حالة اتصال دائم مع بيئته من خالل آلية لضخِّ املدخالت إليه‪ ،‬ودفع املخرجات منه‪ .‬ويسمح هذا االقتراب بالتعرف‬
‫بدقة ىلع الديناميكية السياسية‪ ،‬ومن ثم محاولة فهم القوانين التي تحكم أو تتحكَّم يف حركتها‪.‬‬

‫كما يسمح االقتراب بتتبُّع مسار التفاعالت بين النظام القائم ووحداته األساسية وبيئته الداخلية والخارجية‪ ،‬والتعرف‬
‫ىلع ما قد يطرأ ىلع عناصر هذا النظام وتلك البيئة من تغيرات بسبب هذه التفاعالت‪ .‬وينطلق هذا االقتراب من‬
‫التفكيك واملقارنة وإدراك طبيعة العالقات وأنماط املتغيرات‪ ،‬ثم يساعد ىلع إعادة تركيبها مرة أخرى بطريقة تسمح‬
‫بفهم أكثر منطقية لكيفية عمل النسق موضوع الدراسة‪.‬‬

‫وإذا انطلقنا من فرضية أن العالقات الدولية تشكِّل "نَسَقًا"‪ ،‬فإن هذا يتطلب أن نميز بين النظام وبيئته‪ ،‬وهذا يفترض‬
‫أن بيئة النظام قد جرى تحديدها وحصر مكوناتها من وحدات‪ ،‬وبنيان و ُمؤَسَّسِية وتفاعالت‪ ،‬مع بيان أنماط العالقات‬
‫بين هذه املكونات من ناحية‪ ،‬وبينها وبين بيئتها من ناحية ثانية(‪.)4‬‬

‫ج‪ -‬اإلطار النظري للدراسة‬

‫ينطلق الباحث يف تحليل الظاهرة محلَّ الدراسة من مقوالت املنظور الواقعي‪ ،‬الذي أثبت صالبة فكرية خالل القرن‬
‫املاضي‪ ،‬وخاصة مع تعدد املدارس الفكرية والنظريات التكوينية والتحليلية والتفسيرية التي ظهرت يف إطار هذا‬
‫املنظور‪.‬‬

‫فبعد نهاية الحرب العاملية األولى (‪ ،)1918-1914‬وتوقيع صلح فرساي‪ ،1919 ،‬هيمن املنظور املثالي ىلع دراسة وتحليل‬
‫العالقات الدولية‪ .‬واتجه املثاليون إلى تأكيد مكانة القيم واألعراف واملؤسسات الدولية بوصفها أدوات ملنع الحروب‬
‫والصراعات‪ ،‬ودعوا إلى عقد والء البشر ملصالح جماعية شاملة‪ ،‬كما شجبوا ما يسمى بسياسة األمر الواقع‪ ،‬وسياسة‬
‫توازن القوى التي لم تحل دون اندالع الحروب األوروبية‪ ،‬والحرب العاملية األولى(‪ .)5‬وكانت مبادئ الرئيس األميركي‬
‫توماس وودرو ويلسون أحد أهم الركائز التي استند إليها منظِّرو املنظور املثالي(‪ ،)6‬كما برز يف إطار املنظور العديد‬
‫من اآلراء املستوحاة من تعاليم األديان السماوية واملوروث الثقايف واألخالقي لفلسفات إنسانية عامة(‪.)7‬‬

‫لكن انهارت آمال املثاليين باندالع الحرب العاملية الثانية (‪ ،)1945-1939‬وظهور نظريات مناقضة بدأت التأسيس الجديد‬
‫للمذهب الواقعي‪ .‬وكان ظهور كتاب "السياسة بين األمم‪ :‬الصراع من أجل القوة والسلم"(‪ ،)8‬لهانز مورجانثو ( ‪Hans‬‬
‫‪ )Morgenthau‬بمنزلة البداية الصلبة لتأسيس نظريات جديدة هيمنت ىلع دراسة العالقات الدولية‪ ،‬وكان لها تأثيرها‬
‫يف مؤسسات صنع قرارات السياسة الخارجية يف الدول الغربية كافة(‪ .)9‬وهيمن املنظور الواقعي ‪-‬بنظرياته‬
‫املتعددة (التقليدية‪ ،‬الدفاعية‪ ،‬الهجومية‪ ،‬البنائية) وكذلك مراحل تطوره املختلفة‪ -‬ىلع توجهات واستراتيجيات‬
‫العالقات الدولية فكرًا وحركة‪.‬‬

‫ويف إطار املنطلقات التأسيسية للمنظور الواقعي يف العالقات الدولية‪ ،‬يتفق الباحث مع ما انتهى إليه ستيفن‬
‫والت (‪ ،)Stephen Walt‬وهو أحد أهم مؤسسي تيار الواقعية الكالسيكية الجديدة‪ ،‬من أن ما يحدث يف أوكرانيا يدعم‬
‫ويؤكد القدرة التفسيرية للمنظور الواقعي يف العالقات الدولية‪ ،‬وذلك استنادًا إلى عدد من الحجج األساسية‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ يتفق الواقعيون ىلع أن العالم ال توجد فيه هيئة أو مؤسسة يمكنها حماية الدول من بعضها البعض؛ ما يجعل‬
‫الدول قلقة بشأن إمكانية تعرضها العتداء خطير قد يهددها يف وقت ما يف املستقبل‪ ،‬وهذا الوضع يُجبِر الدول‪،‬‬
‫وخاصة القوى العظمى‪ ،‬ىلع القلق بشأن أمنها والتنافس ىلع القوة‪ .‬وتدفع هذه املخاوف الدول أحيانًا إلى القيام‬
‫بأشياء مروعة‪ ،‬فبالنسبة للواقعيين فإن الغزو الروسي ألوكرانيا (وكذلك الغزو األميركي للعراق‪ ،‬عام ‪ )2003‬يؤكد أن‬
‫القوى العظمى تتصرف أحيانًا بطرق تتسم بـ"الفظاعة والحمق" عندما تعتقد أن مصالحها األمنية األساسية معرضة‬
‫للخطر‪ ،‬وهنا يرى الواقعيون أن اإلدانة األخالقية وحدها لن تمنع هذه املمارسات‪.‬‬

‫‪ .2‬توضح الحرب يف أوكرانيا أيضًا مفهومًا واقعيًّا كالسيكيًّا آخر هو فكرة "املعضلة األمنية"‪ ،‬التي تنشأ بسبب أن‬
‫الخطوات التي تتخذها دولة ما لزيادة وتعزيز أمنها غالبًا ما تجعل اآلخرين أقل أمانًا‪ .‬فعندما تشعر الدولة (أ) بأنها غير‬
‫آمنة وتسعى إلى خلق تحالفات أو زيادة تسلحها‪ ،‬فإن ذلك يؤدي إلى انزعاج وتحسس الدولة (ب) من هذه الخطوة‬
‫التي تعتبرها تهديدًا لها‪ ،‬ما يجعلها تتصرف بنفس النهج؛ األمر الذي يؤدي لتعميق الشكوك‪ ،‬وينتهي األمر بافتقاد‬
‫األمن بالنسبة لكلتا الدولتين‪ .‬من هذا املنطلق يمكن تقديم تفسير منطقي لرغبة دول أوروبا الشرقية يف االنضمام‬
‫إلى حلف الناتو‪ ،‬نظرًا ملخاوف ها طويلة املدى بشأن روسيا‪ ،‬ومن ثم يُتَفهَّم سبب اعتبار القادة الروس لهذا التطور أمرًا‬
‫مقلقًا‪.‬‬

‫‪ . 3‬إن رؤية األحداث يف أوكرانيا من منظور الواقعية ال تعني تأييد أفعال روسيا يف أوكرانيا‪ ،‬فالواقعية ال تدعو إلى‬
‫الحرب خيارًا وحيدًا أو مرغوبًا فيه‪ ،‬بل ترى أن اللجوء إليها شر البد منه بحكم قانون الصراع املوضوعي الذي يحكم‬
‫ويضبط سلوكيات الدول‪ .‬وهو ما يعني االعتراف موضوعيًّا بما يقع يف أوكرانيا باعتباره سلوكًا متكررًا يف الشؤون‬
‫الدولية بالرغم من تداعياته السلبية‪ .‬وإذا كان الواقعيون قد أدانوا الطبيعة املأساوية للسياسة العاملية‪ ،‬فإنهم حذَّروا‬
‫من أنه ال يمكن إغفال املخاطر التي يبرزها املنظور الواقعي‪ ،‬بما يف ذلك املخاطر التي تنشأ عندما تهدد ما تعتبره‬
‫دولة أخرى مصلحة حيوية‪.‬‬

‫‪ . 4‬إن الليبرالية عجزت‪ ،‬كأحد منظورات العالقات الدولية‪ ،‬عن تقديم تفسيرات ملا يحدث يف أوكرانيا؛ فقد أثبت‬
‫القانون الدولي واملؤسسات الدولية أنها تشكِّل حاجزًا ضعيفًا وعاجزًا أمام ممارسات وطموحات القوى العظمى‪ .‬كما‬
‫أن الترابط االقتصادي وفلسفة االعتماد املتبادل لم تمنع موسكو من شنِّ غزوها ىلع أوكرانيا‪ ،‬ىلع الرغم من التكاليف‬
‫الباهظة التي ستتكبدها نتيجة لذلك‪ .‬ولم تستطع القوة الناعمة إيقاف الدبابات الروسية‪ ،‬كما أن أصوات الجمعية‬
‫العامة لألمم املتحدة التي أدانت الغزو (‪ 141‬مقابل ‪ 5‬مع امتناع ‪ 35‬عن التصويت) لم يكن لها تأثير كبير ىلع مسار‬
‫الصراع‪ ،‬وتأكدت مقوالت الواقعية القائمة ىلع القوة كأساس للعالقات الدولية‪.‬‬

‫‪ . 5‬ولئن كان الواقعيون يقلِّلون من أهمية دور املعايير والقواعد القانونية كقيود قوية ىلع سلوك القوى العظمى‪،‬‬
‫فإن وجودها لعب دورًا مهمًّا يف تفسير االستجابة العاملية للغزو الروسي ألوكرانيا‪ ،‬وكانت ركيزة استندت إليها الدول‬
‫والشركات واألفراد يف معظم أنحاء العالم يف إصدار األحكام وفرض العقوبات ضد روسيا‪ ،‬معتبرين سلوكها خرقًا واضحًا‬
‫وانتهاكًا للمعايير العاملية‪ ،‬وتهديدًا لألمن والسلم الدوليين(‪.)10‬‬
‫وتأتي الدراسة الختبار تلك الفرضيات التي خلص إليها ستيفن والت‪ ،‬من حيث بيان تداعيات الحرب الروسية‪-‬األوكرانية‬
‫ىلع مستقبل النظام الدولي املعاصر‪.‬‬

‫‪ .2‬الحرب الروسية‪-‬األوكرانية‪ :‬األبعاد والتداعيات‬

‫أعلن الرئيس الروسي‪ ،‬فالديمير بوتين‪ ،‬بدء عملية عسكرية ضد أوكرانيا‪ ،‬يف ‪ 24‬فبراير‪/‬شباط ‪ ،2022‬ودعا جيشها‬
‫إللقاء السالح والسيطرة ىلع الحكم‪ .‬وقد تعددت السياقات والتفسيرات لهذه العملية العسكرية‪ ،‬كما تعددت‬
‫التداعيات التي ترتبت عليها‪ ،‬سياسيًّا واقتصاديًّا واستراتيجيًّا‪ ،‬وهو ما يمكن تناوله يف هذه املحاور‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬السياقات واملبررات‬

‫ترتبط الحرب الروسية‪ -‬األوكرانية بالعديد من السياقات واألبعاد التي كان لها أهميتها يف تطورات وتداعيات الحرب‪،‬‬
‫ومن ذلك‪:‬‬

‫‪ .1‬التحوالت السياسية يف شرق أوروبا بعد ‪1991‬‬

‫تُعد املواجهة الروسية‪-‬الغربية بعد الغزو الروسي ألوكرانيا مجرد فصل من فصول مواجهة ممتدة‪ ،‬وكانت بدايات هذا‬
‫الفصل مع انهيار االتحاد السوفيتي‪ ،1991 ،‬وتحولت معظم الجمهوريات املستقلة عن االتحاد السوفيتي أو تلك التي‬
‫كانت تنتمي إلى الكتلة الشرقية خالل الحرب الباردة إلى املعسكر الغربي‪ ،‬سواء باالنضمام إلى حلف "الناتو"‪ ،‬أو‬
‫االنضمام إلى االتحاد األوروبي‪ .‬وكان عام ‪ 2004‬لحظة فارقة يف تاريخ االتحاد؛ حيث انضمت إليه عشر دول دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬كان معظمها من دول الكتلة الشرقية‪ ،‬وخالل الفترة من ‪ 1999‬إلى ‪ 2020‬انضمت ‪ 14‬دولة من الجمهوريات‬
‫السوفيتية ودول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو‪.‬‬

‫ويف املقابل‪ ،‬ومع وصول الرئيس‪ ،‬فالديمير بوتين‪ ،‬إلى السلطة‪ ،‬عام ‪ ،1999‬ثم فوزه بانتخابات ‪ 2000‬و‪ ،2004‬سعى‬
‫إلى فرض هيمنته الكاملة ىلع كل مقدرات الدولة السوفيتية‪ ،‬السياسية واالقتصادية والعسكرية واألمنية‪ ،‬واتجه‬
‫للحفاظ ىلع ما أسماه حدود "االتحاد الروسي"‪ ،‬ولو بالقوة إذا لزم األمر‪ .‬وخالل واليتيْه‪ :‬األولى والثانية‪ ،‬انفجرت "الثورات‬
‫امللونة" يف عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة (جورجيا‪ ،‬أوكرانيا‪ ،‬قرغيزستان)‪ ،‬وأعقبتها انتخابات أفرزت نخبة‬
‫سياسية وفكرية جديدة أقرب إلى الفكر الليبرالي الغربي‪ .‬وهو ما اعتبره بوتين "مؤامرة أميركية" للنفاذ إلى مناطق‬
‫النفوذ الروسي‪ ،‬وتعامل معها ب اعتبارها تهديدًا خطيرًا ليس للدولة الروسية فقط من الناحية االستراتيجية‪ ،‬ولكن‬
‫بنفس القدر له شخصيًّا ولنظامه‪ ،‬الذي أسَّس شرعيته عبر قدرته ىلع فرض النظام داخليًّا‪ ،‬ومحاولة إعادة االحترام‬
‫خارجيًّا لروسيا‪ ،‬وإعادة دورها كقوة عاملية كبرى‪ .‬لذلك بدأ بوتين يف إثارة القالقل الداخلية يف أوكرانيا‪ ،‬عام ‪،2004‬‬
‫ودخل يف حرب ضد جورجيا‪ ،‬عام ‪ ،2008‬ودعم انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن أراضيها(‪.)11‬‬

‫وترتبط هذه التحوالت يف الجانب األكبر منها بـ"عقيدة بوتين" العسكرية؛ حيث أكد الرئيس الروسي أنه لن يسمح‬
‫لحلف شمال األطلسي "الناتو" بالوجود ىلع حدوده وتهديد موسكو مباشرة‪ .‬لذلك طلب يف "الوثيقة األمنية" توقيع‬
‫اتفاقيتين منفصلتين بين موسكو وواشنطن والناتو لوضع نظام ضمانات أمنية من أجل خفض التوترات األمنية يف‬
‫أوروبا‪ ،‬وتخلي الحلف عن أي نشاط عسكري يف جورجيا وأوكرانيا‪ ،‬وعدم انضمامهما للحلف‪ ،‬ووقف نشر أنظمة أسلحة‬
‫هجومية يف الدول املحاذية لروسيا‪ ،‬لكن واشنطن رفضت ذلك‪ .‬فكان قرار اللجوء للعمل العسكري‪ ،‬ألنه يمثِّل ‪-‬وفقًا‬
‫لعقيدته العسكرية‪" -‬اللحظة املثالية" للضغط ىلع "الناتو" واالتحاد األوروبي إلعادة هيكلة البنية األمنية األوروبية‪،‬‬
‫بما يتناسب ومكانة روسيا اآلن‪ ،‬التي تختلف عنها يف عام ‪.1991‬‬

‫ولذلك‪ ،‬وبداية من منتصف عام ‪ ،2021‬بدأت روسيا يف حشد قواتها العسكرية ىلع حدودها الغربية بالتزامن مع حشد‬
‫عسكري أميركي‪-‬أوروبي يف أوكرانيا؛ حيث قدمت واشنطن لكييف ‪ 2.5‬مليار دوالر من املساعدات العسكرية منذ ‪،2014‬‬
‫بما يف ذلك ‪ 450‬مليون دوالر‪ ،‬عام ‪ .2021‬كما شاركت كييف يف مناورات أميركية وسمحت بنشر صواريخ أميركية ىلع‬
‫أراضيها واستقبلت اآلالف من الجنود األميركيين‪ .‬وهو ما دفع بوتين للمطالبة عدة مرات بضرورة تخفيف الحشد‬
‫العسكري األميركي بأوكرانيا لعدم وجود مبرر له‪ ،‬كما أعلنت كييف عدة مرات رغبتها يف االنضمام لحلف "الناتو"؛ األمر‬
‫الذي وصفه بوتين "بالخط األحمر" الذي لن يسمح بتجاوزه‪.‬‬

‫وقدمت روسيا‪ ،‬نهاية العام ‪ ،2021‬وثيقة "الضمانات األمنية" التي رفضتها واشنطن‪ ،‬فبدأت روسيا يف التلويح باستخدام‬
‫األداة العسكرية عبر تنفيذ مناورات عسكرية أشرف عليها بوتين شخصيًّا‪ ،‬يف ‪ 19‬فبراير‪/‬شباط ‪ ،2022‬ثم أعلن بوتين‬
‫االعتراف رسميًّا بجمهوريتي "لوغانسك" و"دونيتسك" ‪-‬املعروفة باسم "إقليم دونباس"‪ -‬االنفصاليتين‪ ،‬يف ‪22‬‬
‫فبراير‪/‬شباط ‪ .2022‬كما أعلن تدخله ملساعدة االنفصاليين يف تلك املنطقة‪ ،‬فجرى اإلعالن عن العملية العسكرية‬
‫الروسية "املحدودة" كما وصفها بوتين‪ ،‬يف ‪ 24‬فبراير‪/‬شباط ‪ ،2022‬باسم "الدفاع عن دونباس"(‪.)12‬‬

‫‪ .2‬التحوالت الكبرى يف استراتيجية األمن القومي الروسية‬

‫خالل الفترة من ‪ 2008‬إلى ‪ ،2021‬تبنَّى بوتين ما أسماه "استراتيجية استرداد النفوذ واملكانة"‪ ،‬التي تقوم ىلع شنِّ‬
‫حرب هجينة شاملة ىلع كل الجبهات‪ ،‬وقامت هذه االستراتيجية ىلع عدة مستويات‪ ،‬برز يف إطارها‪:‬‬

‫أ‪ -‬حرب سيبرانية هجومية واسعة النطاق‪ ،‬حيث كوَّنت روسيا جيش إنترنت وكتائب إلكترونية لبثِّ رسائل ومضامين‬
‫تتفق والتوجه ات الروسية عبر وسائل التواصل االجتماعي‪ ،‬وشنِّ حمالت إلكترونية سرية وكثيفة ضد بعض الدول‬
‫الغربية‪ .‬وهو ما تطلَّب العمل ىلع تطوير القدرات الروسية يف مجاالت عمل وتكنولوجيا التنصت والرقابة واالعتراض‬
‫واالختراق اإللكتروني‪ ،‬وغيرها من قطاعات ذات صلة‪.‬‬

‫ب‪ -‬التدخالت العسكرية الروسية املباشرة أو غير املباشرة‪ ،‬كما يف جورجيا ‪ ،2008‬ويف أوكرانيا ‪ ،2014‬ثم يف سوريا‬
‫‪ ، 2015‬سواء باستخدام القوات العسكرية الروسية أو عناصر من الشيشان‪ ،‬أو عناصر شركة "فاغنر" الروسية‪.‬‬

‫ج‪ -‬تعزيز التحالفات‪ ،‬ويجري ذلك سواء من خالل تفعيل معاهدة األمن الجماعي؛ حيث تدخلت القوات الروسية لقمع‬
‫االحتجاجات الشعبية ضد رئيس كازاخستان‪ ،‬قاسم جومرت توكاييف‪ ،‬يف يناير‪/‬كانون الثاني ‪ ،2022‬أو عقد التفاهمات‬
‫االستراتيجية مع القوى الكبرى من خصوم الواليات املتحدة‪ ،‬مثل الصين عبر منظمة شنغهاي للتعاون‪ .‬كما يجرى تعزيز‬
‫هذه التحالفات عبر االرتباط بمصالح متبادلة قوية مع حلفاء الواليات املتحدة يف التحالف الغربي‪ ،‬مثل أملانيا وفرنسا‪،‬‬
‫وتبادل التكنولوجيا العسكرية والتفاهمات امليدانية يف سوريا مع إسرائيل‪ ،‬وتقاسم النفوذ مع تركيا يف عدد من‬
‫ملفات الحوار املشترك‪ ،‬ومساندة إيران يف ملفاتها اإلقليمية والنووية‪ ،‬والتوغل يف مساحات استراتيجية جديدة يف‬
‫إفريقيا من خالل قوات فاغنر‪ ،‬واتباع دبلوماسية التسليح مع مصر وبعض دول الخليج العربية‪.‬‬

‫د‪ -‬التطوير املتسارع للتكنولوجيات التسليحية والرقمية‪ ،‬وذلك من خالل العمل ىلع دمج التقنيات الجديدة ملضاعفة‬
‫ال قوة يف أنظمتها القديمة للتسلح‪ ،‬واإلعالن عن مجموعة برامج ألسلحة ذات قدرة نووية رئيسية لضمان قدرتها‬
‫ىلع اختراق أنظمة الدفاع الصاروخي األميركية‪ ،‬وتطوير مجموعة من األنظمة التي يمكنها مهاجمة األقمار الصناعية‬
‫أو تعطيل عملياتها‪ .‬ويشمل التطوير أيضًا تعزيز القدرات الروسية يف مجاالت تكنولوجيا الذكاء االصطناعي‪ ،‬وتعطيل‬
‫وتدمير أنظمة القيادة والتحكُّم الخاصة بالخصم وقدرات االتصال‪ ،‬وتبنِّي استراتيجية تعدين ضخمة لعملة البيتكوين‬
‫يف كازاخستان‪ ،‬للحدِّ من سيطرة الدوالر األميركي ىلع االقتصاد العاملي(‪.)13‬‬

‫‪ .3‬سياسات إعادة االنتشار األميركية‬

‫أعادت إدارة بايدن التفكير يف خطط االنتشار العسكري األميركي يف العالم‪ ،‬وخاصة يف املناطق التي يمكن من‬
‫خاللها احتواء كل من روسيا والصين‪ ،‬وذلك ىلع النحو التالي‪:‬‬

‫أ‪ -‬إعادة االنتشار يف أوروبا واملتوسط‪ :‬يف ‪ 8‬مارس‪/‬آذار ‪ ،2021‬دخلت مجموعة سفن أميركية للبحر املتوسط عبر‬
‫مضيق جبل طارق‪ ،‬تنتمي ألسطول العمليات السادس األميركي‪ .‬ويف نهاية فبراير‪/‬شباط ‪ ،2021‬أنزلت أميركا وحدات‬
‫من القسم األول مشاة‪ ،‬ضمن فرقة الطيران القتالي‪ ،‬يف ميناء إليكساندربوليس شمالي اليونان‪ ،‬للمشاركة ضمن عمل‬
‫القوات األمي ركية الجوية املوجهة ملساندة أوروبا وإفريقيا‪ ،‬واملسؤولة عن األصول املرتبطة بالطيران األميركي يف‬
‫املنطقة‪ ،‬تنفيذًا للقرار األميركي‪/‬األوروبي املشترك بخصوص الوجود الروسي يف أوكرانيا‪ ،‬والذي يحمل اسم "عملية‬
‫الحل األطلسي" (‪ .)Resolve operation Atlantic‬ويتضمن اإلنزال ‪ 30‬مروحية تشارك يف تدريبات لصالح رومانيا يف‬
‫مارس‪/‬آذار ‪.2021‬‬

‫كما نشرت واشنطن عشرات املروحيات العسكرية‪ ،‬وقررت توسيع أربع قواعد عسكرية لها يف اليونان‪ ،‬وخصصت قواعد‬
‫بحرية للقوات األميركية كجزء من اتفاقيات دفاعية بين البلدين‪ ،‬واستخدمت ‪ 145‬مروحية ومئات املركبات العسكرية‬
‫يف مناورات "املدافع عن أوروبا ‪ ،" 2021‬عالوة ىلع الترتيبات املرتبطة بما تم من تدريبات مشتركة مع اليونان يف‬
‫تراقيا الغربية‪ .‬ويف نفس اإلطار‪ ،‬شرعت الواليات املتحدة يف فتح مسار للوجود يف البحر األسود؛ حيث أجرت تدريبات‬
‫مشتركة مع تركيا يف البحر األسود‪ ،‬واليونان يف بحر إيجه‪ ،‬يف سياق االستعدادات لتأمين منطقتي البلقان والبحر‬
‫األسود(‪ ،)14‬بجانب تطوير الرؤية األميركية للمنطقة بعد اللقاء الثالثي الذي ضمَّ بولندا ورومانيا وتركيا لتطوير القدرات‬
‫القتالية لرومانيا عبر املروحيات القتالية‪ ،‬والتي سبق إنزالها يف إليكساندربوليس‪.‬‬

‫وشاركت واشنطن مع اليونان وعدد من أعضاء "الناتو" يف تدريبات كريت‪ ،‬خالل يناير‪/‬كانون الثاني ‪)15(2021‬؛ وتدريبات‬
‫"شرق تراقيا"‪ ،‬يف ‪ 22‬فبراير‪/‬شباط ‪ ،2021‬وتدريبات "بحر إيجه"‪ ،‬يف ‪ 13‬مارس‪/‬آذار ‪ ،2021‬وتدريبات "إينيكوس"‪ ،‬يف‬
‫أبريل‪/‬نيسان ‪ ،)16(2021‬كما أجرت تدريبات مع تركيا يف البحر األسود‪ ،‬يف ‪ 10‬فبراير‪/‬شباط ‪ ،2021‬ويف شرق املتوسط‪،‬‬
‫يف ‪ 17‬مارس‪/‬آذار ‪.)17(2021‬‬

‫ب‪ -‬إعادة االنتشار يف املحيطين الهادي والهندي‪ :‬حيث جاء قرار انضمام املدمرة األميركية "يو إس إس رافائيل بيرالتا"‬
‫(‪ )USS Rafael Peralta‬إلى حاملة الطائرات "يو إس إس رونالد ريغان" (‪ )USS Ronald Reagan‬وسفينة القيادة‬
‫باألسطول السابع األميركي "يو إس إس بلو ريدج" (‪ )USS Blue Ridge‬يف ميناء "يوكوسوكا" الياباني مؤشرًا ىلع أن‬
‫الواليات املتحدة تولي اهتمامًا كبيرًا ملنطقة التقاء املحيطين الهادئ والهندي؛ حيث تواجه الواليات املتحدة الصين‬
‫يف صراع نفوذ ىلع املنطقة‪ .‬وتتجه أوروبا لزيادة وجودها يف منطقة املحيط الهادئ كذلك عبر إرسال اململكة‬
‫املتحدة حاملة طائراتها "كوين إليزابيث" (‪ ،)Queen Elizabeth‬فيما تبحث أملانيا إرسال فرقاطة حربية إلى اليابان‪ ،‬ما‬
‫يعني أن االهتمام باحتواء الصين يتصاعد يف دوائر القرار الغربية(‪.)18‬‬

‫ج‪ -‬إعادة االنتشار يف الخليج العربي‪ :‬فقد أمر جو بايدن بسحب بعض القوات األميركية من منطقة الخليج‪ ،‬وإعادة‬
‫تنظيم تركيز القوات األميركية يف مناطق أخرى‪ ،‬وكانت أهم القطع التي جرى سحبها ‪ 3‬بطاريات لصواريخ "باتريوت"‬
‫بأطقمها من منطقة الخليج‪ ،‬أُعيد نشرها يف القوقاز‪ .‬وأعلن البنتاغون أن عملية إعادة االنتشار هذه تهدف إلى‬
‫املساهمة يف جهود احتواء كل من روسيا والصين دون أن تضطر الواليات املتحدة إلى تحويل قوات من مناطق أكثر‬
‫حيوية بالنسبة للمصالح األميركية‪ .‬فيما أبقت ىلع منظومات الدفاع الجوي ( ‪Terminal High Altitude Area‬‬
‫‪ )Defense‬املعروفة اختصارًا باسم "ثاد" (‪ )THAAD‬لضمان الدفاع عن السعودية ضد "الصواريخ الباليستية"‪ .‬كما أعلنت‬
‫اإلدارة األميركية عن خططها لسحب أكثر من ثلث قواتها املوجودة يف العراق‪ ،‬مع اإلبقاء ىلع قوات لتقديم املشورة‬
‫واملساعدة لقوات األمن العراقية(‪.)19‬‬

‫‪ .4‬تمدد حلف الناتو وتوسعه يف شرق أوروبا‬

‫مع سقوط جدار برلين‪ ،1989 ،‬وانهيار االتحاد السوفيتي‪ ،‬عام ‪ ،1991‬ثم إعالن تأسيس االتحاد األوروبي يف نوفمبر‪/‬تشرين‬
‫الثاني ‪ ،1993‬أصبح الطريق ممهدًا إلنشاء نظام أمني أوروبي جديد‪ ،‬وبعد خروج عدد من دول حلف وارسو من الهيمنة‬
‫السوفيتية‪ ،‬انضمت هذه الدول إلى حلف الناتو‪ ،‬ففي عام ‪ ،1999‬انضمت دول مجموعة فيشغراد (املجر‪ ،‬بولندا‪ ،‬التشيك)‬
‫إلى الناتو‪ .‬ويف عام ‪ ،2004‬انضمت إلى الحلف دول مجموعة فيلنيوس (بلغاريا وإستونيا والتفيا وليتوانيا ورومانيا‬
‫وسلوفاكيا وسلوفينيا)‪ .‬ويف عام ‪ ،2009‬وافق حلف الناتو ىلع انضمام ألبانيا وكرواتيا‪ ،‬وبلغ عدد أعضائه ‪ 30‬عضوًا‪،‬‬
‫مع انضمام الجبل األسود‪ ،‬عام ‪ ،2017‬ومقدونيا الشمالية‪ ،‬عام ‪ .2020‬كما أدرجت ثالث دول‪ ،‬هي‪ :‬البوسنة والهرسك‬
‫وجورجيا وأوكرانيا تحت فئة الدول الطامحة لالنضمام للحلف‪.‬‬

‫ومع تحوالت األزمة الروسية‪-‬األوكرانية منذ ‪ ،2004‬تجددت رغبة أوكرانيا يف االنضمام إلى حلف الناتو‪ ،‬ويف عام ‪2008‬‬
‫وخالل قمة الناتو التي استضافتها العاصمة الرومانية‪ ،‬بوخارست‪ ،‬رحَّب الحلف رسميًّا بتطلعات أوكرانيا وجورجيا‬
‫لالنضمام إليه‪ .‬لكن لم تُفعَّل خطط انضمام الدولتين عمليًّا‪ ،‬يف الوقت الذي ترى فيه روسيا أن انضمام أوكرانيا إلى‬
‫الناتو خط أحمر ال يمكن تجاوزه(‪.)20‬‬
‫ثانيًا‪ :‬تداعيات الحرب الروسية‪-‬األوكرانية‬

‫يمكن التمييز يف إطار تداعيات األزمة بين عدة محاور أساسية‪:‬‬

‫‪ .1‬الخسائر الروسية واألوكرانية‬

‫تعرضت روسيا لخسائر متنوعة من جرَّاء تدخلها العسكري يف أوكرانيا‪ ،‬وتنوعت هذه الخسائر بين بشرية (يف العمليات‬
‫القتالية‪ ،‬مع طول الفترة الزمنية للحرب وعدم القدرة ىلع الحسم وصالبة املقاومة األوكرانية‪ ،‬مدعومة بقوات وسالح‬
‫وخبرات غربية)‪ ،‬واقتصادية (بسبب كثافة العقوبات الغربية‪ ،‬والتي طالت العديد من القطاعات االقتصادية الروسية‪،‬‬
‫بما فيها قطاع النفط والغاز‪ ،‬وتجميد األرصدة‪ ،‬وانهيار البنوك التجارية وسالسل التوريد‪ ،‬وإلزام العديد من حلفاء الواليات‬
‫املتحدة بتنفيذ العقوبات ووقف التعامل مع روسيا)‪ ،‬وسياسية (مع عزلة روسيا عن املجتمع الدولي؛ حيث تضررت‬
‫صِالت روسيا بالعالم الخارجي)‪ .‬وأضحت روسيا أكثر عزلة مما كانت عليه حتى إبَّان الحرب الباردة‪ ،‬وقُطِع التبادل التجاري‬
‫والثقايف والسياسي‪ ،‬وأُغلِق املجال الجوي أمام الطيران الروسي يف العديد من الدول األوروبية‪ ،‬ومُنع الرياضيون‬
‫والفنانون والسياسيون الروس من املشاركة يف العديد من الفعاليات‪ ،‬وكذلك حُظِرت حركة السفن الروسية من دخول‬
‫موانئ العديد من دول العالم(‪.)21‬‬

‫ويف املقابل‪ ،‬ومع استمرار الحرب الروسية‪-‬األوكرانية‪ ،‬تضخمت خسائر االقتصاد األوكراني؛ حيث توقفت معظم‬
‫األنشطة االقتصادية يف البالد‪ ،‬كما لحقت بالبنية التحتية األساسية من الطرق والجسور واملوانئ أضرار كبيرة‪ .‬فالحرب‬
‫الروسية لم تستهدف تدمير املواقع العسكرية األوكرانية فقط‪ ،‬بل أيضًا األهداف املدنية‪ ،‬كما جرى استهداف البنية‬
‫التحتية لالتصاالت يف أوكرانيا‪ .‬وأغلقت معظم املوانئ واملطارات األوكرانية نتيجة األضرار التي لحقت بها‪ ،‬كما أن‬
‫كثيرًا من الطرق والكباري إما تضررت أو دُمِّرَت‪.‬‬

‫وتسبب إغالق املوانئ األوكرانية املُطلَّة ىلع البحر األسود يف عرقلة حركة النقل البحري‪ ،‬وحاولت الحكومة‬
‫األوكرانية استبدال نقل البضائع الزراعية عبر السكك الحديدية إلى دول الجوار األوروبي‪ ،‬قبل أن تحظر تصدير العديد‬
‫من السلع الزراعية‪ .‬وىلع الرغم من صعوبة حصر األضرار املادية يف أوكرانيا بشكل نهائي حاليًّا‪ ،‬فإن التقديرات األولية‬
‫تشير إلى أن ما ال يقل عن ‪ 100‬مليار دوالر من البنية التحتية واملباني واألصول املادية األخرى جرى تدميرها‪.‬‬

‫وقبل الحرب الروسية‪ ،‬بلغت االحتياطيات النقدية ألوكرانيا ‪ 31‬مليار دوالر يف العام ‪ ،2021‬لكن الحرب تسببت يف دمار‬
‫واسع النطاق للقدرة اإلنتاجية ألوكرانيا‪ ،‬وتدهور تجارتها الخارجية‪ ،‬وتضاؤل قدرة الحكومة ىلع تحصيل الضرائب‪ ،‬عالوة‬
‫ىلع زيادة تدهور األوضاع املالية‪ ،‬وارتفاع الضغوط التضخمية يف أوكرانيا مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء واملعادن‪،‬‬
‫واالنكماش االقتصادي بنسبة تتراوح بين ‪ 25‬و‪ ،%35‬وفق صندوق النقد الدولي‪ ،‬وكذلك تصاعد فجوة التمويل الخارجي‬
‫إلى نحو ‪ 5‬مليارات دوالر(‪.)22‬‬
‫‪ .2‬الخسائر االقتصادية األوروبية‬

‫واجهت الدول األوروبية العديد من األضرار والتحديات بسبب تداعيات الحرب‪ ،‬ومن صور ذلك‪ ،‬خالل الفترة محلَّ الدراسة‬
‫(‪ 24‬فبراير‪/‬شباط ‪ 15 -2022‬أبريل‪/‬نيسان ‪:)2022‬‬

‫‪ -‬تباطؤ النمو االقتصادي‪ :‬فقد خفَّض "بنك باركليز" من توقعاته ملعدل نمو الناتج املحلي للقارة األوروبية إلى ‪%3.5‬‬
‫بعد األزمة‪ ،‬مقارنة بـ‪ %4.1‬قبلها‪ ،‬وتوقع بنك "جي بي مورجان" معدل نمو ‪ ،%3.2‬فقط‪.‬‬

‫‪ -‬حجم التبادل التجاري‪ :‬حيث يُعد االتحاد األوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا‪ ،‬وتشكِّل موسكو خامس أكبر شريك تجاري‬
‫لالتحاد األوروبي‪ ،‬وستؤثر العقوبات الغربية املفروضة ىلع روسيا بشدة يف العالقات التجارية بين موسكو واالتحاد‬
‫األوروبي‪ ،‬خاصة مع قرار الدول الصناعية السبع الكبرى بإلغاء وضع "الدولة األولى بالرعاية" املمنوح لروسيا بموجب‬
‫قواعد منظمة التجارة العاملية‪.‬‬

‫‪ -‬تهديد االستثمارات واألصول األوروبية يف روسيا وتعرضها لخطر املصادرة أو التأميم بسبب الحرب والعقوبات الغربية‪،‬‬
‫حيث يصل رصيد استثمارات بلدان االتحاد األوروبي يف السوق الروسي نحو ‪ 311.4‬مليار يورو (ما يعادل ‪ 340‬مليار دوالر)‬
‫حتى عام ‪ .2020‬وبلغت االستثمارات الروسية يف دول االتحاد األوروبي نحو ‪ 136‬مليار يورو خالل ‪ .2020‬كما أن هناك‬
‫حوالي ‪ 60‬مليار دوالر مستحقة لبنوك االتحاد األوروبي ىلع كيانات روسية يمكن تجميدها‪ ،‬وقد يتعرض أيضًا حاملو‬
‫السندات السيادية األوكرانية من أوروبا (نحو ‪ 23‬مليار دوالر) ملخاطر عدم القدرة ىلع السداد‪.‬‬

‫‪ -‬تهديد أمن الطاقة األوروبي‪ :‬حيث تُعد روسيا أكبر مورِّد للطاقة لالتحاد األوروبي‪ ،‬فحوالي ‪ %40‬من واردات االتحاد‬
‫من الغاز الطبيعي‪ ،‬ونحو ‪ %33‬من وارداتها من النفط‪ ،‬مصدرهما روسيا‪.‬‬

‫‪ -‬تهديد األمن الغذائي‪ :‬حيث تُعد روسيا أكبر مصدِّر للقمح يف العالم‪ ،‬وتوفر كل من روسيا وأوكرانيا معًا أكثر من ثلث‬
‫صادرات الحبوب العاملية‪ .‬ويف ضوء تطورات األزمة‪ ،‬ارتفعت أسعار املواد األساسية بما يف ذلك السلع الزراعية‪ ،‬خاصة‬
‫القمح والذرة بنسب تفاوتت بين ‪ %40‬إلى ‪ .%60‬وتشير التوقعات إلى أن اإلمدادات العاملية من املنتجات الزراعية‬
‫الرئيسية (القمح‪ ،‬الشعير‪ ،‬الذرة‪ ،‬زيت عباد الشمس) ستنخفض بنسبة تتراوح بين ‪ %10‬و‪.%50‬‬

‫‪ -‬أزمة الالجئين األوكرانيين‪ :‬حيث غادر نحو ‪ 4‬ماليين شخص أوكرانيا منذ بدء الحرب يف أوكرانيا‪ ،‬وفقًا لتقديرات األمم‬
‫املتحدة‪ .‬وهي أرقام مرشحة للزيادة كلما طال أمد الحرب‪ ،‬وتشير التقديرات إلى أن جهود إغاثة الالجئين األوكرانيين‬
‫تتطلب نحو ‪ 30‬مليار يورو (‪ 32.7‬مليار دوالر) خالل العام األول فقط‪.‬‬

‫‪ -‬تضرر قطاع الطيران والسياحة مع حظر الرحالت الجوية بين روسيا والدول األوروبية‪ ،‬كما تُعد روسيا ثالث أكبر مصدر‬
‫للسياحة يف أوروبا بجانب تضرر العديد من قطاعات التصنيع‪ ،‬والبنوك والخدمات املالية(‪.)23‬‬

‫‪ .3‬تداعيات الحرب ىلع السياسات الدفاعية األوروبية‬


‫بعد اندالع أزمة أوكرانيا ‪ ،2022‬أعاد الهولنديون النظر يف خطة التخلص من الدبابات الثقيلة‪ ،‬وأعلن األملان رفع‬
‫ميزانيتهم العسكرية إلى ‪ 100‬مليار يورو‪ ،‬وذكر املستشار األملاني‪ ،‬أوالف شولتز‪ ،‬أمام البرملان األملاني‪" :‬لقد دخلنا‬
‫مرحلة جديدة بعد غزو أوكرا نيا"‪ .‬ولخَّص التحدي الجديد بقوله‪" :‬هل علينا السماح لبوتين بإعادة عقارب الساعة إلى‬
‫الوراء أو أن نحشد من القوة ما يكفي لوضع حدود لتجار الحروب من أمثال بوتين؟"(‪.)24‬‬

‫وميدانيًّا‪ ،‬تخلَّت أملانيا عن نهج "التريث يف تعزيز قدراتها العسكرية" ردًّا ىلع الغزو الروسي ألوكرانيا‪ ،‬وبالرغم من‬
‫الحظر الذي تفرضه أملانيا ىلع تصدير األسلحة الفتاكة إلى مناطق النزاع‪ ،‬أعلنت الحكومة األملانية‪ ،‬يف ‪27‬‬
‫فبراير‪/‬شباط ‪ ،2022‬أنها بصدد تسليم أوكرانيا ألف صاروخ مضاد للدبابات و‪ 500‬صاروخ "ستنجر" من مخزون الجيش‬
‫األملاني‪ .‬واتجهت لتعزيز قواتها املنتشرة شرقًا يف إطار حلف شمال األطلسي‪ ،‬السيما يف سلوفاكيا‪ .‬وال يقتصر األمر‬
‫يف هذا التحول االستراتيجي ىلع نظرة أملانيا لذاتها‪ ،‬ولكن أيضًا ىلع نظرة األوروبيين للقوة األملانية‪ ،‬ففي عام‬
‫‪ ،2011‬قال رادوسالف سيكورسكي‪ ،‬وزير الدفاع والخارجية السابق لبولندا‪ :‬إن خويف من قوة أملانيا أقل كثيرًا من خويف‬
‫من بقاء أملانيا يف حالة من الخمول"‪ .‬لكن غزو بوتين ألوكرانيا يمثِّل اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها أوروبا تشعر‬
‫باالرتياح تجاه القوة العسكرية األملانية(‪.)25‬‬

‫وتكمن املعضلة األمنية األوروبية يف كون االرتدادات العكسية الناتجة عن فرض العقوبات ىلع روسيا كبيرة‪ ،‬مقارنة‬
‫مع ارتداداتها ىلع واشنطن بحكم االرتباطات الجغرافية والديمغرافية واالقتصادية واألمنية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬إذا كانت األزمة‬
‫األوكرانية قد تحقق لواشنطن العديد من األهداف االستراتيجية‪ ،‬مثل تأزيم العالقات بين موسكو ودول االتحاد األوروبي‪،‬‬
‫وإعادة تقييم العالقات الروسية‪-‬األوروبية‪ ،‬ووضع حدٍّ لطموحات الرئيس الروسي‪ ،‬فالديمير بوتين‪ ،‬يف التمدد الخارجي‬
‫والهيمنة ىلع أوروبا عبر استراتيجية دبلوماسية الغاز‪ ،‬فإن هذه األزمة يمكن أن تشكِّل منعطفًا فاصالً لألمن األوروبي‪،‬‬
‫وتؤدي إلى تغيير جذري يف االستراتيجيات األمنية األوروبية‪ .‬وكلما طال أمد األزمة واستمر تدفق الالجئين األوكرانيين‬
‫إلى دول االتحاد األوروبي‪ ،‬استمر استنزاف موارد وقدرات االتحاد األوروبي‪ ،‬خاصة أن أوروبا ليست مستعدة لتداعيات‬
‫استمرار الحرب يف مجالي الطاقة واالقتصاد وكذلك الالجئين(‪.)26‬‬

‫‪ .4‬الحرب الروسية‪-‬األوكرانية ومأزق الشرق األوسط‬

‫تمثِّل الحرب الروسية‪ -‬األوكرانية يف أحد أبعادها تعبيرًا عن تنافس بين إمبراطوريتين‪ ،‬األولى تفكَّكت (االتحاد‬
‫السوفيتي) وتخشى وريثتها (روسيا االتحادية) من استمرار التفكُّك‪ ،‬والثانية تتراجع (الواليات املتحدة)(‪ ،)27‬وكل منهما‬
‫تسعى لتوظيف األقاليم الجيوستراتيجية لصالحها‪ :‬رُوسِيًّا‪ ،‬ملنع استمرار التفكُّك يف الداخل‪ ،‬وأميركيًّا‪ ،‬ملنع تسارع‬
‫التراجع وتعزيز الحضور يف أوروبا‪.‬‬

‫ولكن يف املقابل‪ ،‬يتنامى الشعور بين النظم السياسية يف إقليم الشرق األوسط بتراجع السياسة األميركية‪ ،‬كما برز‬
‫يف الخطة االستراتيجية إلدارة جو بايدن‪ ،)28(2021 ،‬ومن شأن استمرار األزمة األوكرانية تعميق هذا التراجع‪ ،‬مما سيؤثر‬
‫ىلع عالقات الوحدات داخل اإلقليم‪ ،‬وكذلك ىلع درجة استجابة بعض هذه الوحدات للمطالب األميركية بخصوص‬
‫األزمة األوكرانية(‪.)29‬‬
‫وإذا كان هذا بشأن التحدي الذي يواجه الواليات املتحدة يف املنطقة‪ ،‬فإن السياسة الروسية تواجه تحديًا من نوع‬
‫مختلف‪ ،‬يتمثَّل يف مدى قدرتها ىلع التوفيق بين تناقضات األطراف اإلقليمية يف الشرق األوسط‪ ،‬ومن ذلك "التناقض‬
‫بين املصالح الروسية واملصالح اإليرانية واإلسرائيلية"‪ ،‬و"التناقضات الخليجية‪-‬اإليرانية"‪ ،‬و"املتطلبات األمنية‬
‫اإلسرائيلية‪ ،‬واملتطلبات األمنية السورية"‪ ،‬و"االلتزامات الروسية تجاه فلسطين وإسرائيل"‪.‬‬

‫هذا بجانب التناقض يف خريطة العالقات الروسية‪-‬العربية‪ ،‬فالدول العربية‪ ،‬من حيث هذه العالقات‪ ،‬تتوزع إلى‬
‫مجموعتين‪ :‬األولى هي تلك الدول األكثر استيرادًا للسلع املدنية الروسية (وهي بالترتيب‪ :‬مصر‪ ،‬واملغرب‪ ،‬واإلمارات‪،‬‬
‫والسعودية‪ ،‬وتونس‪ ،‬واألردن‪ ،‬و قطر)‪ ،‬والثانية هي األكثر استيرادًا للسلع العسكرية الروسية (وتأتي سوريا ىلع رأس‬
‫قائمة الدول املستوردة للسالح الروسي بنسبة ‪ %95‬من أسلحتها‪ ،‬تليها الجزائر بنسبة ‪ ،%81‬ثم العراق بمعدل ‪،%44‬‬
‫تليها مصر ‪ ،%41‬ثم اإلمارات العربية املتحدة بنسبة ‪ .)%3‬ويبلغ حجم مبيعات الروس من السالح للدول العربية بين‬
‫‪ 2021-2017‬نحو ‪ %21‬من إجمالي مبيعاتها(‪ ،)30‬وإذا كانت العقوبات االقتصادية ىلع روسيا ستشمل السلع املدنية‬
‫أكثر من السلع العسكرية‪ ،‬فإن حاجة روسيا للدول العربية املستوردة للسلع املدنية ستكون أكبر من حاجتها للدول‬
‫املستوردة للسلع العسكرية‪ ،‬وهو ما قد يؤثر ىلع بعض توجهاتها املستقبلية يف املنطقة(‪.)31‬‬

‫‪ .3‬املسارات املستقبلية للنسق الدولي بعد الحرب الروسية‪-‬األوكرانية‬

‫يمكن التمييز يف إطار هذه املسارات بين مجموعة مستويات أساسية‪ ،‬بناء ىلع األركان األربعة التي يقوم عليها‬
‫النسق الدولي (الوحدات الدولية‪ ،‬البنيان الدولي‪ ،‬املؤسسية الدولية‪ ،‬العمليات الدولية)‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬الحرب الروسية‪-‬األوكرانية ومستقبل الوحدات الدولية‬

‫جاءت الحرب الروسية‪-‬األوكرانية لتضع مستقبل روسيا أمام العديد من االحتماالت‪ ،‬فعلى الرغم من الخسائر الواسعة‬
‫التي تلحق بها بسبب قرار الرئيس بوتين التدخل يف أوكرانيا‪ ،‬فإن احتمال سقوط النظام الروسي‪ ،‬رغم أنه قائم‪ ،‬قد‬
‫يكون صعبًا يف املدى القصير الستبعاد اإلطاحة بـبوتين بانقالب يف القصر‪ ،‬ولصعوبات إزاحة النخبة الحالية‬
‫باالحتجاجات الجماهيرية‪ ،‬يف ظل السياسات القمعية التي تبناها بوتين داخليًّا وخارجيًّا يف دعم حلفائه يف‬
‫بيالروسيا وكازاخستان وسوريا(‪.)32‬‬

‫ومن ناحية ثانية‪ ،‬عن روسيا الدولة وليس النظام‪ ،‬يرى جون ميرشايمر (‪ )John Mearsheimer‬أن روسيا قوة عظمى‪،‬‬
‫وبالرغم من أنها منحازة اآلن إلى الصين‪ ،‬فمن املحتمل أن تُحوِّل جانب االنحياز مع الوقت وتتحالف مع الواليات املتحدة‪،‬‬
‫ألن قوة الصين املتزايدة‪ ،‬تعتبر أعظم تهديد لروسيا نظرًا لتقاربهما الجغرايف‪ .‬وإذا ما ذهبت موسكو وواشنطن إلى‬
‫صياغة عالقات متقاربة‪ ،‬بسبب خوفهما املتبادل من الصين‪ ،‬فسيتم إدماج روسيا ىلع نحو سهل يف النظام املحدود‬
‫الذي تقوده الواليات املتحدة‪ .‬أما إذا ما استمرت موسكو يف الحفاظ ىلع عالقات ودية مع الصين بسبب خوفها من‬
‫الواليات املتحدة أكثر من خوفها من الصين‪ ،‬فسوف يحدث إدماج روسيا ىلع نحو سهل يف النظام املحدود الذي‬
‫تقوده الصين‪ .‬ولكن يبقى احتمال آخر يتمثَّل يف أن روسيا لن تصطف إلى أحد الطرفين وتبقى ىلع الهامش‪ ،‬وتعمل‬
‫ىلع االستفادة من تنافسهما معًا يف اكتساب نقاط تعزز من قدراتها التنافسية والتفاوضية معهما معًا‪ ،‬سعيًا نحو‬
‫استكمال بنيتها القطبية(‪.)33‬‬

‫هنا‪ ،‬سيكون م ن املهم التفكير يف سيناريو نظام عاملي تسيطر فيه روسيا بشكل فعال ىلع جزء كبير من أوروبا‬
‫الشرقية‪ ،‬وتسيطر الصين ىلع جزء كبير من شرق آسيا وغرب املحيط الهادئ‪ .‬وسيتعين ىلع األميركيين وحلفائهم‬
‫يف أوروبا وآسيا أن يقرروا‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬ما إذا كان هذا العالم مقبوالً‪ ،‬ألن هذا يعني نهاية النظام العاملي الحالي و"بداية‬
‫حقبة من الفوضى والصراع العامليين؛ حيث تتكيف كل منطقة يف العالم بشكل غير مستقر مع التكوين الجديد‬
‫للقوة"(‪.)34‬‬

‫وفيما يتعلق بمسارات مستقبل الدور الروسي‪ ،‬تبرز قضية موقع روسيا يف مجلس األمن‪ ،‬بعد أن هدَّد الغرب بتجريدها‬
‫من عضويتها الدائمة يف مجلس األمن‪ .‬وإذا كان طرد روسيا أو تجميد عضويتها يف مجلس األمن أو حقها يف التصويت‬
‫يواجه صعوبات حقيقية‪ ،‬فإن هناك مسارات بديلة ال تعني بالضرورة تجميد عضويتها‪ ،‬منها إمكانية الطلب من روسيا‬
‫االمتناع عن التصويت ىلع قرار مجلس األمن‪ ،‬ألنه متعلق بعدوانها(‪.)35‬‬

‫وقد أشارت أوكرانيا إلى أن الجمهوريات املكوِّنة التحاد الجمهوريات السوفيتية أعلنت يف عام ‪ 1991‬أن االتحاد‬
‫السوفيتي لم يعد موجودًا‪ ،‬وكان ينبغي أن يكون معها الحق القانوني ألي من هذه الكيانات‪ ،‬بما يف ذلك روسيا‪ ،‬يف‬
‫الحصول ىلع املقعد وليس فقط روسيا‪ .‬ولم يُعرض ىلع الجمعية العامة أي قرار بالسماح لروسيا بعضوية مجلس‬
‫األمن‪ .‬ولم يجرِ تعديل ميثاق األمم املتحدة أبدًا بعد تفكُّك االتحاد السوفيتي‪ .‬وال تزال املذكِّرة تشير إلى االتحاد‬
‫السوفيتي‪ ،‬وليس روسيا‪ ،‬كأحد األعضاء الدائمين يف مجلس األمن التابع لألمم املتحدة(‪.)36‬‬

‫وبالنسبة ألوكرانيا‪ ،‬باعتبارها أهم الوحدات الدولية‪ ،‬املرتبطة بهذه األزمة‪ ،‬فإن أحد املسارات املستقبلية املطروحة‬
‫لها هو التقسيم‪ ،‬ويقوم هذا املسار ىلع استمرار العملية العسكرية وتصعيد الهجمات‪ ،‬والتفاوض حول تقسيم‬
‫أوكرانيا أو تغيير نظام الحكم لـ"حكم فيدرالي"‪ ،‬واقتطاع مدن استراتيجية لضمها لدونباس‪ ،‬مثل مدينتي ماريوبول يف‬
‫أقصى الجنوب ىلع بحر أزوف‪ ،‬ومدينة أوديسا ىلع البحر األسود‪ ،‬ألنهما ‪-‬وفق القناعة الروسية‪ -‬جزء من التقسيم‬
‫اإلداري إلقليم دونباس(‪.)37‬‬

‫وبالنسبة ملستقبل أوروبا‪ ،‬يرى ميرشايمر أنه من املرجَّح أن تصير أغلب البلدان يف أوروبا‪ ،‬السيما القوى األساسية‪،‬‬
‫جزءًا من النظام املحدود بقيادة الواليات املتحدة‪ ،‬رغم أنه من غير املرجَّح أن تلعب دورًا عسكريًّا جديًّا يف احتواء‬
‫الصين‪ .‬فليس لها القدرة ىلع تصدير قوة عسكرية جوهرية تجاه شرق آسيا‪ ،‬كما أن الصين ال تُمثِّل تهديدًا مباشرًا‬
‫ألوروبا‪ ،‬وألن األمر يبدو أكثر منطقية بالنسبة ألوروبا يف ترحيل املسؤولية إلى الواليات املتحدة وحلفائها اآلسيويين‬
‫إال أن صنَّاع السياسة األميركية سوف يريدون األوروبيين داخل نظامهم املحدود ألسباب اقتصادية وأمنية واستراتيجية؛‬
‫حيث ت حرص الواليات املتحدة ىلع منع البلدان األوروبية من بيع التكنولوجيات ذات االستخدام املزدوج للصين‬
‫واملساعدة يف فرض ضغوط اقتصادية عليها حينما يتطلب األمر ذلك‪ .‬يف املقابل‪ ،‬سوف تبقى القوات العسكرية‬
‫األميركية يف أوروبا‪ ،‬محافظة ىلع الناتو حيًّا ومستمرة يف العمل باعتبارها صانع السالم يف املنطقة(‪.)38‬‬
‫ثانيًا‪ :‬الحرب الروسية‪-‬األوكرانية ومستقبل النظام الدولي‬

‫جاءت األزمة األوكرانية‪ ، 2022 ،‬وسط صراع متعدد الجبهات عبر العديد من األقاليم‪ ،‬سعت فيه روسيا إلى إعالن تحدي‬
‫الغرب والتصدي الستراتيجية الناتو يف شرق أوروبا‪ ،‬ومحاولة فرض ذلك بالقوة العسكرية‪ ،‬لتعزيز مكانتها يف ظل‬
‫إعادة تموضع استراتيجي أميركي وانسحابات عسكرية أميركية من عدة مناطق‪ ،‬مقابل تمدد الصين التي باتت تمثِّل‬
‫مركز االهتمام االستراتيجي للواليات املتحدة وحلفائها الغربيين أمام سعيها الحثيث خالل العقد األخير نحو تحصين‬
‫موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها ووضع أسس لنظام دولي جديد تكون لها فيه مساهمة أكبر يف إدارة املشهد‬
‫الدولي‪ ،‬وخاصة مع مركزية دور الصين يف التحركات الروسية ضد الغرب(‪.)39‬‬

‫وقد ذهب ميرشايمر إلى أنه من املرجَّح أن تكون هناك ثالثة أنظمة واقعية مختلفة يف املستقبل املنظور‪ :‬نظام‬
‫دولي هزيل ونظامان محدودان قويان‪ ،‬أحدهما يُقاد من طرف الصين‪ ،‬واآلخر يُقاد من طرف الواليات املتحدة‪ .‬وسوف‬
‫يكون النظام الدولي الهزيل مهتمًّا أساسًا باإلشراف ىلع اتفاقيات الحد من التسلح وجعل االقتصاد العاملي يعمل‬
‫بفعالية‪ ،‬ويمنح اهتمامًا جديًّا بمشكالت متعلِّقة بالتغيُّر املناخي‪ ،‬وسوف تركِّز املؤسسات التي تشكِّل النظام الدولي‬
‫بتسهيل التعاون البيني بين الدول‪.‬‬

‫وسوف يكون هناك ملمحان أساسيان للعالم الجديد متعدِّد األقطاب يشكِّالن ىلع نحو عميق األنظمة الصاعدة‪:‬‬

‫‪ -‬امللمح األول‪ :‬أنه بافتراض استمرار الصين يف صعودها‪ ،‬فإنها ستنخرط يف منافسة أمنية شديدة مع الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬وسيكون ذلك بمنزلة السمة املركزية للسياسة الدولية ىلع مدار القرن الحادي والعشرين‪ ،‬وسيقود هذا‬
‫التنافس إلى خلق أنظمة محدودة يُهيمَن عليها من طرف الصين والواليات املتحدة‪ .‬وستكون التحالفات العسكرية‬
‫املركَّب املركزي لهذين النظامين‪ ،‬وهما اآلن بصدد التشكُّل وسيشبه ذلك النظامين اللذين قادهما االتحاد السوفيتي‬
‫والواليات املتحدة خالل مرحلة الحرب الباردة‪ .‬إال أن الصين والواليات املتحدة سوف يكون لهما يف بعض األحيان‬
‫أسباب تدفعهما للتعاون يف مسائل عسكرية بعينها‪ ،‬وهو مسعى سوف يقع يف نطاق اختصاص النظام الدولي‪،‬‬
‫كما كان من قبل أثناء الحرب الباردة؛ حيث سيكون التركيز بالدرجة األولى ىلع اتفاقيات الحد من األسلحة‪ ،‬وستنخرط‬
‫روسيا يف هذا املسعى كما ستفعل الصين والواليات املتحدة‪ .‬ومن املرجَّح أن تظل املعاهدات واالتفاقيات املوجودة‬
‫التي تتعامل مع مسألة االنتشار النووي يف مكانها‪ ،‬نظرًا ألن كل القوى العظمى الثالث تريد الحد من انتشار األسلحة‬
‫النووية‪ .‬لكن سيكون ىلع األطراف الثالثة التفاوض ىلع معاهدات جديدة تحد من ترسانتهما العسكرية‪ ،‬مثلما فعلت‬
‫القوتان العظميان أثناء الحرب الباردة‪.‬‬

‫‪ -‬امللمح الثاني‪ :‬وجود قدر ضخم من التواصل االقتصادي بين الصين والواليات املتحدة‪ ،‬وبين الصين وحلفاء الواليات‬
‫املتحدة يف شرق آسيا‪ ،‬كما أن الصين والواليات املتحدة أيضًا تُتاجران وتستثمران عبر كل أنحاء العالم‪ .‬وليس من‬
‫املرجَّح أن تُقلِّص املنافسة األمنية بين النظامين املحدودين هذه التدفقات االقتصادية‪ ،‬فاملكاسب املتأتية من‬
‫التجارة املستمرة مهمة ومطلوبة‪ ،‬حتى لو حاولت الواليات املتحدة الحد من تجارتها مع الصين‪ ،‬فبإمكان األخيرة أن‬
‫تُعوِّض ذلك من خالل تجارتها مع الشركاء اآلخرين‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬ذهب ميرشايمر إلى القول‪ :‬إنه من املرجَّح أن يشبه املستقبل الوضع يف أوروبا قبل الحرب العاملية األولى؛‬
‫حيث كان هناك تنافس أمني شديد بين الحلف الثالثي (النمسا‪-‬املجر وأملانيا وإيطاليا) والوفاق الثالثي (بريطانيا‬
‫العظمى وفرنسا وروسيا)‪ ،‬لكن كان هناك قدر هائل من التفاعل االقتصادي بين هذه البلدان بشكل عام‪.‬‬

‫والنتيجة النهائية أن التنافس بين النظامين املحدودين اللذين تقودهما الصين والواليات املتحدة‪ ،‬سوف يُورِّط كليهما‬
‫يف منافسة اقتصادية وعسكرية تامة‪ ،‬مثلما كانت الحال مع النظامين املحدودين اللذيْن هيمنت عليهما موسكو‬
‫وواشنطن أثناء الحرب الباردة‪ .‬ويكمن االختالف الكبير هنا يف أن النظام الدولي سوف يكون منخرطًا بعمق يف إدارة‬
‫جوانب التنافس يف االقتصاد العاملي‪ ،‬وهو األمر الذي لم يكن موجودًا أثناء الحرب الباردة(‪.)40‬‬

‫ثالثًا‪ :‬الحرب الروسية‪-‬األوكرانية ومستقبل املؤسسية الدولية‬

‫كشف الغزو ا لروسي ألوكرانيا عن العديد من نقاط الضعف يف النظام الدولي القائم‪ ،‬وخاصة يف مجلس األمن التابع‬
‫لألمم املتحدة ودوره يف اإلشراف ىلع النظام الدولي القائم؛ حيث أظهرت األزمة األوكرانية أن حق النقض لألعضاء‬
‫الخمسة الدائمين يف مجلس األمن يمثِّل عائقًا كبيرًا أمام السالم‪ ،‬وكان منذ البداية عقبة رئيسية أمام استكمال‬
‫الهيئة ملهمتها‪ .‬وذلك راجع لكون الدول الخمس غالبًا ما تنقسم إلى كتل جيوسياسية متنافسة‪ ،‬فيمارس عضو يف‬
‫كتلة واحدة حق النقض (الفيتو) ىلع العديد من القرارات الحاسمة‪ .‬ففي سياق الصراع الحالي يف أوكرانيا‪ ،‬يعني حق‬
‫النقض الروسي يف مجلس األمن أن الواليات املتحدة وحلفاءها ال يمكنهم فرض عقوبات إال من خالل "تحالف‬
‫الراغبين"‪ .‬صحيح أن كُبر عدد البلدان وانتشار نظام املدفوعات القائم ىلع الدوالر خارج الحدود اإلقليمية ألميركا يمنح‬
‫العقوبات التي تفرضها الواليات املتحدة نفوذًا هائالً‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يف هذه الحالة كما يف حاالت أخرى‪ ،‬سيزيد نظام‬
‫العقوبات العاملية الذي يفرضه مجلس األمن من تقويض االقتصاد الخاضع للعقوبات‪.‬‬

‫ومن جانب آخر‪ ،‬إذا كان مجلس األمن يقع يف قلب النظام متعدد األطراف اليوم‪ ،‬فإنه يواجه تحديات حقيقية‪ ،‬بالنظر‬
‫إلى النطاق املتزايد ل لتهديدات التي يواجهها السالم واألمن‪ .‬وال تقتصر هذه التهديدات ىلع األعمال العدوانية‬
‫التقليدية من النوع الذي يشهده العالم يف أوكرانيا‪ ،‬والتي يمكن أن تتصاعد إلى تبادالت نووية‪ ،‬بل تشمل أيضًا‬
‫التهديدات األمنية األخرى التي تشكِّلها التقنيات الجديدة‪ .‬لذلك يبرز ‪-‬ضمن مقترحات تغيير طريقة عمل مجلس‬
‫األمن‪ -‬اقتراح إمكانية ردِّ حق النقض لعضو دائم عن طريق إضافة بند إلى املادة (‪ )27‬من شأنه أن يسمح بأغلبية‬
‫كبيرة‪ ،‬تمثِّل ثلثي البلدان األعضاء‪ ،‬تتجاوز حق النقض(‪.)41‬‬

‫رابعًا‪ :‬الحرب الروسية‪-‬األوكرانية ومستقبل العمليات الدولية‬

‫بناء ىلع التداعيات التي أفرزتها الحرب الروسية‪-‬األوكرانية‪ ،‬تبرز عدة مسارات مستقبلية ألنماط العمليات الدولية‪ ،‬من‬
‫بينها‪:‬‬

‫‪1‬ـ تعزيز الوحدة بين جانبي األطلسي‬

‫فقد عمل الغرب ىلع توظيف التدخل العسكري الروسي يف أوكرانيا‪ ،‬واستفاد منه جماعيًّا ىلع عدة مستويات؛ منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬تذكير طريف األطلسي بأهدافهما املشتركة‪ :‬فقد ساعدت العملية الروسية يف أوكرانيا ىلع تذكير الواليات‬
‫املتحدة وأوروبا بأهدافهما العاملية املشتركة‪ ،‬وبلورة هذه األهداف مجددًا يف إطار إعالء القيم الديمقراطية‪ ،‬التي‬
‫مثَّل التدخل الروسي تحديًا لها‪ ،‬وهو ما كان حافزًا ملظاهر عدة من التضامن بين القوى الغربية والدولية‪ .‬وجاء يف إطار‬
‫ذلك موافقة أملانيا ىلع زيادة اإلنفاق الدفاعي إلى ‪ %2‬من الناتج املحلي اإلجمالي‪ ،‬وتعهُّد اليابان بقبول الالجئين‬
‫األوكرانيين‪ ،‬وتحرُّك بريطانيا إلخضاع ثروات املغتربين من األوليغارشية الروسية لرقابة جادة‪ .‬وعملت الواليات املتحدة‬
‫واالتحاد األوروبي جنبًا إلى جنب لفرض عقوبات متصاعدة ىلع روسيا‪.‬‬

‫ب‪ -‬تحفيز الغرب ىلع حماية قواعد النظام الدولي‪ :‬كان التدخُّل سببًا كذلك لتحفيز الغرب‪ ،‬وبشكل فعَّال‪ ،‬ىلع الدفاع‬
‫عن قواعد وقيم ومؤسسات نظام الحرب العاملية الثانية‪ ،‬التي عرَّف بوتين نفسَه بأنه معارض لها؛ ذلك أن التدخُّل‬
‫الروسي مثَّل تحديًا لنظام األمم املتحدة التي يقوم ميثاقها ىلع احترام السيادة‪ ،‬وتحديًا ألوروبا التي يسعى بوتين‬
‫إلى إعادة ترسيم حدودها‪ ،‬وتهديدًا لحكم القانون‪.‬‬

‫ج‪ -‬اتجاه "الناتو" نحو تعزيز جناحه الشرقي‪ :‬فتدخل روسيا يف أوكرانيا دفع الحلف إلى االتجاه نحو تقوية جناحه‬
‫الشرقي؛ ونظرًا إلى أن تدخل بوتين يف دولة مستقلة ذات سيادة لم يكن متوقعًا من قبل؛ ومع احتمال تحول مركز‬
‫األزمة مستقبالً من أوكرانيا إلى دول البلطيق‪ ،‬وكذلك إلى بولندا والدول األخرى التي ستشكِّل الحدود الجديدة للغرب‬
‫يف مواجهة روسيا‪ ،‬فسيمثِّل ذلك حافزًا للواليات املتحدة وحلفائها يف "الناتو" ىلع إرسال املزيد من القوات‬
‫واملعدات العسكرية إلى تلك الدول الواقعة ىلع خط املواجهة‪.‬‬

‫د‪ -‬التضامن لتوثيق "جرائم الحرب" املحتملة‪ :‬حيث أطلقت إدارة جو بايدن حملة جديدة لتوثيق "جرائم الحرب"‬
‫املحتملة التي ارتكبتها القوات الروسية التي دخلت أوكرانيا‪ ،‬ونجحت يف إطار ذلك يف تحقيق التوافق بين ‪ 45‬دولة‬
‫من أصل ‪ 57‬دولة عضوًا يف "منظمة األمن والتعاون يف أوروبا" )‪ (OSCE‬ضد روسيا وحليفتها بيالروسيا‪ ،‬عندما جرت‬
‫املوافقة‪ ،‬يف ‪ 3‬مارس‪/‬آذار ‪ ،2022‬ىلع خطط إلرسال فريق من خبراء املنظمة لتوثيق جرائم الحرب املحتملة‪ .‬وهذا‬
‫العدد الكبير يمثِّل توافقًا لم يسبقه مثيل؛ فعدد الدول التي دعمت إنشاء هذه اآللية بعد االنتهاكات املروعة لحقوق‬
‫اإلنسان يف بيالروسيا‪ ،‬يف أغسطس‪/‬آب عام ‪ ،2020‬كانت ‪ 17‬دولة‪ ،‬وشكَّل ذلك حينها توافقًا كان هو األكبر‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن االنتقال من ‪ 17‬إلى ‪ 45‬يوضح مدى انعزال روسيا وبيالروسيا ىلع املسرح الدولي(‪.)42‬‬

‫‪ .2‬بناء املنظومة األمنية األوروبية‬

‫إن الحرب يف أوكرانيا تُظهِر أن تحمُّل أوروبا مسؤولية أكبر عن أمنها ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب‪ ،‬بل ممكنًا أيضًا‪ .‬لقد‬
‫كانت الحرب بمنزلة جرس إنذار لألوروبيين الذين اعتقدوا أن نشوب حرب كبيرة يف قارتهم أصبح مستحيالً بسبب‬
‫القواعد ضد الغزو واملؤسسات الدولية واالعتماد االقتصادي املتبادل والضمانات األمنية األميركية‪ .‬إن تصرفات روسيا‬
‫تمثِّل تذكيرًا بأن القوة التي ال تُقهر ال تزال شديدة األهمية‪ ،‬وأن دور أوروبا الذي تنسبه لنفسها باعتبارها "قوة مدنية"‬
‫ليس كافيًا‪ ،‬غير أن استجابة الحكومات األوروبية بقوة للدفاع عن أمنها يدحض التنبؤات بأن التنافر االستراتيجي داخل‬
‫أوروبا قد يمنع القارة من االستجابة ىلع نحو فعَّال للتهديد املشترك‪.‬‬
‫إن أوروبا يمكنها التعامل مع التهديد الروسي املستقبلي بمفردها‪ ،‬ولدى أعضاء الناتو األوروبيين إمكانات قوة كامنة‬
‫تفوق التهديد الذي يواجه شرقهم‪ ،‬ولديهم ما يقرب من أربعة أضعاف عدد سكان روسيا وأكثر من ‪ 10‬أضعاف ناتجها‬
‫املحلي اإلجمالي‪ .‬وحتى قبل الحرب‪ ،‬كان األعضاء األوروبيون يف الناتو ينفقون بين ثالثة وأربعة أضعاف ما تنفقه‬
‫روسيا ىلع الدفاع كل عام‪ .‬ومع الكشف عن قدرات روسيا الحقيقية‪ ،‬يجب أن تزداد الثقة يف قدرة أوروبا ىلع الدفاع‬
‫عن نفسها زيادة كبيرة‪ .‬لذلك تُعد الحرب يف أوكرانيا لحظة مثالية للتحرُّك نحو تقسيم جديد للعمل بين الواليات‬
‫املتحدة وحلفائها األوروبيين‪ ،‬وأيضًا لحظة تكرِّس فيها الواليات املتحدة اهتمامها آلسيا بينما يتحمل الشركاء‬
‫األوروبيون املسؤولية األساسية يف الدفاع عن أنفسهم‪ .‬لذا يجب ىلع الواليات املتحدة التخلي عن معارضتها طويلة‬
‫األمد لالستقالل األوروبي‪ ،‬ومساعدة شركائها ىلع تحديث قواتهم‪ ،‬وأن يكون القائد األىلع لحلف الناتو القادم جنراالً‬
‫أوروبيًّا‪ ،‬ويجب ىلع قادة الواليات املتحدة أال ينظروا إلى دورهم يف الناتو ىلع أنهم أول املستجيبين‪ ،‬ولكن‬
‫باعتبارهم خط الدفاع األخير‪.‬‬

‫م ع لزوم تسليم مسؤولية أمن أوروبا إلى األوروبيين تدريجيًّا‪ ،‬وىلع املدى الطويل‪ ،‬ستسعى الواليات املتحدة وحلف‬
‫شمال األطلسي واالتحاد األوروبي أيضًا إلى بناء نظام أمني أوروبي ‪-‬قد ال يستبعد روسيا‪ -‬لتعزيز االستقرار يف أوروبا‬
‫وإلبعاد موسكو عن االعتماد املتزايد ىلع الصين‪ .‬وينتظر هذا التطور وجود قيادة جديدة يف موسكو(‪.)43‬‬

‫‪ .3‬أولوية التركيز األميركي ىلع الصين‬

‫إن حرب روسيا يف أوكرانيا ستُغيِّر التصورات الجيوسياسية أكبر بكثير من تغييرها للواقع الجيوسياسي‪ ،‬ويف حين أن‬
‫روسيا تحت حكم الرئيس‪ ،‬فالديمير بوتين‪ ،‬تُشكِّل تحديًا قصير املدى‪ ،‬ستظل الصين تمثِّل التهديد الكبير ىلع املديين‬
‫املتوسط والطويل‪ .‬فالتهديد القادم من الصين جذري‪ ،‬ألن الصين تعمل ىلع تضييق فجوة القوة مع الواليات املتحدة‪،‬‬
‫وستحاول الصين التصرف باعتبارها دولة أكثر مسؤولية حتى يف الوقت الذي تتقرب فيه من روسيا‪ ،‬وقد تؤكد الصين‬
‫أنها ليست دولة خارجة عن القانون‪ ،‬مثل روسيا‪ ،‬بينما تضاعف من جهودها يف إنشاء مجال نفوذ من خالل اإلكراه غير‬
‫العسكري‪ ،‬كما تفعل يف الواقع‪.‬‬

‫ويف الوقت الذي يجب أن تعطي فيه الواليات املتحدة األولوية ملواجهة الصين‪ ،‬يجب كذلك أن تهتم بالجبهة‬
‫األوروبية يف مواجهة محاولة روسيا إعادة إنشاء دائرة نفوذها من خالل استخدام القوة‪ ،‬وليس أمام الواليات املتحدة‬
‫خيار سوى مواجهتها بالقوة‪ .‬وحتى أوروبا‪ ،‬التي حاولت االبتعاد خالل السنوات املاضية عن الواليات املتحدة‪ ،‬أعادت‬
‫اكتشاف حقيقة أن القوة األميركية ال يمكن االستغناء عنها‪.‬‬

‫وإذا كانت الواليات املتحدة ال تملك حاليًّا القدرات العملياتية اللتزام كامل طويل األمد بقضيتين كبيرتين يف مواجهة‬
‫روسيا والصين‪ ،‬فإن الواقع الجيوسياسي يفرض عليها ذلك‪ ،‬ولن يكون أمام حلفائها وشركائها ىلع جبهتي أوروبا‬
‫والهند واملحيط الهادئ خيار سوى إلزام أنفسهم بنشاط أكبر يف إدارة هاتين القضيتين‪ ،‬وخاصة يف ظل وجود دعم‬
‫مشترك بين الصين وروسيا إلعادة رسم الخرائط اإلقليمية وإعادة كتابة قواعد النظام الدولي بدالً من العمل ىلع كسب‬
‫النفوذ من داخل املؤسسات القائمة‪.‬‬
‫وإذا كانت واشنطن تواجه اآلن تحديات صين ية وروسية‪ ،‬فإنه يجب عليها بالضرورة تمكين حلفائها وتجديد ترتيبات‬
‫تقاسم األعباء يف آسيا وأوروبا‪ .‬وتساعد استراتيجية إدارة بايدن الكبرى ىلع القيام باألمرين من خالل تركيزها الخاص‬
‫طورت الواليات املتحدة‬
‫ىلع بناء العمل الشبكي للشراكات املرنة واملؤسسات والتحالفات ومجموعات الدول؛ حيث َّ‬
‫تشكيالت (خمسة‪ -‬أربعة‪ -‬ثالثة‪ -‬اثنان) يف آسيا بدأت بتعزيز التحالف االستخباراتي "خمس أعين" (‪ )FVEY‬إلى نشر‬
‫الحوار األمني الرباعي‪ ،‬وتوقيع االتفاقية األمنية الثالثية "أوكوس" (‪ )AUKUS‬ثم تعزيز التحالفات العسكرية الثنائية‬
‫تعزيزًا للعمل الشبكي إلدارة بايدن يف آسيا‪.‬‬

‫وإذا كانت األطراف اآلسيوية واألوروبية ال تستطيع تحقيق التوازن يف مواجهة الصين وروسيا بمفردها يف املستقبل‬
‫املنظور‪ ،‬فإنها تساعد يف تعزيز الدعم السياسي املحلي للواليات املتحدة من أجل استمرار االلتزام العسكري يف‬
‫املنطقتين‪ .‬ومن خالل تعزيز دور أكبر لحلفائها وزيادة تفعيل موقفهم السياسي‪ ،‬يمكن لواشنطن بناء توازنات إقليمية‬
‫دائمة للقوى يف آسيا وأوروبا‪ ،‬مدعومة بالقوة العسكرية األميركية‪ .‬وهذا قد يجبر بكين وموسكو ىلع تبنِّي نهج أكثر‬
‫منطقية مع جيرانهما(‪.)44‬‬

‫خاتمة‬

‫يف إطار امل حاور التي تناولتها الدراسة‪ ،‬ويف ظل تطورات ومعطيات وسياقات األزمة األوكرانية ‪ ،2022‬يمكن الوقوف‬
‫ىلع عدد من الخالصات األساسية‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬فيما يتعلق بالوحدات الدولية‪ ،‬كشفت األزمة األوكرانية عن حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به األطراف‬
‫األساسية يف النظام الحالي‪ ،‬مثل روسيا االتحادية التي حركت األحداث وكانت املبادر بالفعل يف الكثير من تحوالتها‪،‬‬
‫سواء يف مرحلة ما قبل الحرب أو أثناء الحرب‪ .‬ويف املقابل‪ ،‬برز دور الواليات املتحدة األميركية وحلفائها؛ حيث وجدت‬
‫يف الحرب تهديدًا كبيرًا للكثير من قيمها ومبادئها ونموذجها الحضاري‪ ،‬بل ويف مرحلة من مراحل الحرب‪ ،‬وجدت‬
‫فيها تهديدًا حقيقيًّا لوجود العديد من الدول واألطراف يف املعسكر الغربي‪ ،‬ويف مقدمتها دول أوروبا الشرقية سواء‬
‫التي انضمت إلى االتحاد األوروبي أو إلى حلف الناتو بعد تفكك وانهيار االتحاد السوفيتي‪.1991 ،‬‬

‫ويف إطار الوحدات الدولية يف مرحلة ما بعد األزمة األوكرانية‪ ،‬يمكن القول‪ :‬إن هناك احتماالت قوية بظهور دول‬
‫جديدة‪ ،‬وقد تختفي دول بحدودها التي كانت قائمة قبل األزمة‪ ،‬وقد نشهد اتجاهًا نحو بناء تحالفات جديدة قد تصل‬
‫يف بعضها إلى درجة االندماج‪ ،‬وخاصة بين بعض دول شرق أوروبا (بولندا‪ ،‬إستونيا‪ ،‬التفيا‪ ،‬ليتوانيا) التي قامت بتفعيل‬
‫املادة (‪ )4‬من ميثاق حلف الناتو فيما بينها‪ ،‬أمام ما وجدته من تهديدات وجودية ألمنها واستقرارها‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬فيما يتعلق بالبنيان الدولي‪ ،‬قد تدفع تداعيات األزمة إلى تغير جذري يف بنية النظام الدولي الراهن‪ ،‬ولكن من‬
‫وجهة نظر الباحث‪ ،‬باتجاه نظام غربي أكثر هيمنة وأحادية‪ ،‬يف ظل األضرار الكبيرة التي ستطول روسيا وحلفاءها يف‬
‫املواجهة الحالية إذا طال أمد الحرب يف أوكرانيا‪ .‬فالعقوبات االقتصادية التي فُرضت ىلع روسيا يمكن أن تعود بها‬
‫ملا كانت عليه عام ‪ ، 1999‬ولن يساعدها االرتفاع الكبير يف أسعار النفط والغاز‪ ،‬أهم مصادر دخلها القومي‪ ،‬يف ظل‬
‫العقوبات املفروضة عليها‪ ،‬من الدول والشركات العمالقة واملؤسسات املالية واالقتصادية الضخمة‪ .‬وال يعتقد الباحث‬
‫أن الصين يمكن أن تتورَّط يف تقديم دعم عسكري مباشر لروسيا‪ ،‬يف حال تمددت الحرب خارج املسرح األوروبي‪ ،‬ألنها‬
‫أكثر حرصًا ىلع الحفاظ ىلع مقدراتها وتأمين نموذجها ىلع األقل مرحليًّا‪ ،‬حتى تحتوي التداعيات املباشرة لألزمة‬
‫األوكرانية‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬فيما يتعلق باملؤسسية‪ ،‬سواء التنظيمية أو القانونية واملعيارية‪ ،‬واتساقًا مع املالحظة السالفة‪ ،‬يُمكن القول‪:‬‬
‫إن العالم بعد األزمة األوكرانية‪ ،‬سيتجه نحو مزيد من هيمنة املؤسسات الغربية‪ ،‬وهذا ما اتضح جليًّا يف األزمة؛ حيث‬
‫تحركت معظم املؤسسات السياسي ة واالقتصادية واألمنية والعسكرية بل والصحية والرياضية والشركات الفنية‬
‫واإلعالمية ‪-‬بدرجة كبيرة من التنسيق يف توجهاتها وممارساتها وإجراءاتها‪ -‬ضد روسيا وسياساتها وحلفائها‪ .‬وجرى‬
‫حشد األغلبية العظمى من الهيئات واملؤسسات والشركات التابعة للمنظومة الغربية يف مواجهة السياسات‬
‫الروسية‪ ،‬وكان يف مقدمة هذه املؤسسات منظومة األمم املتحدة‪ ،‬والناتو واالتحاد األوروبي ومحكمة العدل الدولية‪،‬‬
‫واملحكمة الجنائية الدولية‪ ،‬واملؤسسات املالية الدولية‪ ،‬بل وتوجيه رسائل نصية وخطابات رسمية ملعظم النظم‬
‫السياسية يف العالم‪ ،‬بتحديد مواقفها من الغزو الروسي ألوكرانيا‪.‬‬

‫رابعًا‪ :‬فيما يتعلق بالعمليات الدولية يف مرحلة األزمة األوكرانية وما بعدها‪ ،‬فإنها تقوم ىلع الجمع بين أقصى أشكال‬
‫التعاون داخل املنظومة الغربية (وحدات ومؤسسات)‪ ،‬وأقصى أشكال الصراع بين املنظومة الغربية ومن يدور يف‬
‫فلكها من ناحية‪ ،‬وروسي ا االتحادية ومن يدور يف فلكها من ناحية ثانية‪ .‬وستستمر هذه الثنائية (التعاون‪+‬الصراع)‬
‫عدة سنوات حتى تعود بنية النسق الدولي إلى حالة من االستقرار املؤقت قبل أن تبدأ موجة صراعية جديدة مع‬
‫بقايا روسيا االتحادية أو مع الصين التي تنتظر الفرصة للقفز ىلع قمة النظام الدولي‪.‬‬

‫خامسًا‪ :‬التأكيد ىلع أن التحوالت والتطورات التي تحدث يف بنية النظام الدولي تنعكس بالتبعية‪ ،‬سلبيًّا وإيجابيًّا‪،‬‬
‫ىلع كل األنظمة اإلقليمية الفرعية التي يقوم عليها هذا النظام‪ ،‬ومن بينها النظام اإلقليمي للشرق األوسط‪ .‬وهذا‬
‫يرتبط بطبيعة الحال بدرجة السيولة والتداخل الكبيرين بين الدولي واإلقليمي‪ ،‬بل والدولي واملحلي يف العديد من‬
‫األزمات اإلقليمية‪ ،‬كما يرتبط بأنماط التفاعالت التي تربط بين األطراف املحلية واإلقليمية والدولية‪ ،‬وطبيعة هذه‬
‫التحالفات ومتانتها‪ ،‬واألطر والضوابط الحاكمة لها‪ .‬وهو ما يعني إمكانية تعرُّض بعض األطراف اإلقليمية لضغوط‬
‫وعقوبات سياسية واقتصادية وأمنية إذا حاولت أو فكرت يف تجاوز األدوار الوظيفية املرسومة لها سلفًا من جانب‬
‫الواليات املتحدة‪ ،‬واملستقرة من عقود واقعًا‪.‬‬

‫نشرت هذه الدراسة يف العدد الرابع عشر من مجلة لباب‪ ،‬لالطالع ىلع العدد كامالً (اضغط هنا)‬

‫*عصام عبد الشايف‪ ،‬باحث سابق بمركز الجزيرة للدراسات‪.‬‬

‫مراجع‬

‫‪(1) Congressional Research Service, “Ukraine: Background and U.S. Policy,” congress.gov, November 1, 2017, “accessed‬‬
‫‪March 26, 2022”. https://bit.ly/3vpsKH8.‬‬
(2) North Atlantic Treaty Organization, “Comprehensive Assistance Package for Ukraine,” nato.int, July 9, 2016, “accessed
March 26, 2022”. https://bit.ly/3NKhmOm.

(3) International Republican Institute, “Ukraine Poll Shows Support for EU/NATO Membership, Concerns over Economy
and Vaccines for COVID-19,” iri.org, December 17, 2021, “accessed March 26, 2022”. https://bit.ly/3NHgY3g.

‫ ج‬،)2002/2001 ،‫ كلية االقتصاد والعلوم السياسية‬،‫ (القاهرة‬،‫ الدولة والعالقات الدولية‬:‫ مقدمة يف علم السياسة‬،‫ وآخرون‬،‫) حسن نافعة‬4(
.224-221 ‫ ص‬،2

‫ "عصبة‬:‫ وألفريد زيمرن صاحب كتاب‬،‫ صاحب اقتراح إنشاء عصبة األمم‬،‫ ودرو ويلسون‬،‫) أبرز مفكري املثالية هو الرئيس األميركي األسبق‬5(
( "‫األمم وسيادة القانون‬The League of Nations and The Rule of Law.1936 ‫ الصادر يف‬،)

.204- 201 ‫ ص‬،)2007 ‫ شتاء‬،17 ‫ العدد‬،‫ وزارة األوقاف والشؤون الدينية‬،‫ مجلة التسامح (مسقط‬،‫ الحوار بين األديان واألمم‬،‫ هانز كينج‬:‫) انظر‬6(

(7) Chris Brawn, International Relations Theory: New Normative Approaches (New York: Simon & Schuster International
Group, 1992), 223-227.

:‫ الكتاب األول بعنوان‬،‫ ولكن سبقه كتابان مهَّدا لظهوره‬،1948 ‫) ظهر الكتاب يف‬8(

- Nicholas John Spykman, America’s Strategy in World Politics: The United States and the Problem of Power (New
York: Harcourt, Brace and Company, 1942).

:‫أما الكتاب الثاني فهو بعنوان‬

- Hans J. Morgenthau, Scientific Man Vs. Power Politics (Chicago: University of Chicago Press, 1946).

‫ "حتى عقد السبعينات كانت التقاليد البحثية للمدخل الواقعي تهيمن هيمنة كاملة ىلع كل الكتب‬:‫) يف تقدير كالفي هولستي‬9(
‫ انظر‬،‫ للتوسع‬."‫الدراسية يف العالقات الدولية يف الجامعات األميركية‬:

- Kalevi J. Holsti, The Dividing Discipline: Hegemony and Diversity in International Theory (Boston: Unwind Hyman,
1985), 11.

‫ ىلع األقل من الدراسات التي تنجز يف حقل العالقات الدولية يف الواليات املتحدة تستخدم‬% 90 ‫هذا بينما يؤكد جون فاسكويز أن‬
‫ انظر‬،‫ للتوسع‬.‫مسلَّمات املدخل الواقعي وتقاليده ومناهجه‬:

- John A. Vasquez, The Power of Power Politics: An Empirical Evaluation of the Scientific Study of International Relations,
(New Jersey: Rutgers University Press, 1983), 162-170.

(10) Stephen M. Walt, “An International Relations Theory Guide to the War in Ukraine-A consideration of which theories
have been vindicated—and which have fallen flat,” Foreign Policy, March 8, 2022, “accessed March 26, 2022”.
https://bit.ly/3qZhBve.

،)2022 ‫آذار‬/‫ مارس‬26 :‫ (تاريخ الدخول‬،2022 ‫شباط‬/‫ فبراير‬23 ،‫ فيسبوك‬،"‫ السياق وأصوله‬:‫ "األزمة األوكرانية‬،‫) أحمد مجاهد‬11(
https://bit.ly/3OfbUDu.
‫(‪ )12‬منى سليمان‪" ،‬التداعيات واملسارات املحتملة للعملية العسكرية الروسية يف أوكرانيا"‪ ،‬مجلة السياسة الدولية (القاهرة‪ ،‬مركز األهرام‬
‫‪https://bit.ly/3tG3Lji.‬للدراسات السياسية واالستراتيجية)‪ 26 ،‬فبراير‪/‬شباط ‪( ،2022‬تاريخ الدخول‪ 27 :‬مارس‪/‬آذار ‪،)2022‬‬

‫(‪ )13‬مجاهد‪ ،‬األزمة األوكرانية‪ :‬السياق وأصوله‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪(14) John Grady, “Massive U.S. Army Exercise Will Focus on Black Sea, Balkans,” USNI Network, February 9, 2021,‬‬
‫‪“accessed March 26, 2022”. https://bit.ly/3dXbz8n.‬‬

‫”‪(15) Monique O’Neill, “Greece, Cyprus and the U.S. join forces for naval SOF exercise in the Mediterranean Sea,‬‬
‫‪dvidshub.net, January 29, 2021, “accessed March 26, 2022”. https://bit.ly/3eCaK3S.‬‬

‫‪(16) “F-16 aircraft arrive in Greece for INIOCHOS 21,” usafe.af.mil, April 6, 2021, “accessed March 26, 2022”.‬‬
‫‪https://bit.ly/3npeMk9.‬‬

‫(‪ )17‬وسام فؤاد‪" ،‬التح والت يف منهج الحضور العسكري األميركي يف الشرق األوسط"‪ ،‬املعهد املصري للدراسات‪ 6 ،‬مايو‪/‬أيار ‪( ،2021‬تاريخ‬
‫‪https://bit.ly/3x0sP6w.‬الدخول‪ 3 :‬أبريل‪/‬نيسان ‪،)2022‬‬

‫‪(18) Tsuyoshi Nagasawa and Ken Moriyasu, “Biden reviews US global military presence with eye on China,” Nikkei Asia,‬‬
‫‪February 7, 2021. “accessed March 26, 2022”. https://s.nikkei.com/3gKJa7h.‬‬

‫(‪ )19‬فؤاد‪" ،‬التحوالت يف منهج الحضور العسكري األميركي يف الشرق األوسط"‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬

‫‪ 13 ،‬فبراير‪/‬شباط ‪( ،2022‬تاريخ الدخول‪ 22 :‬مارس‪/‬آذار ‪" )20(DW ،)2022‬حلف الناتو‪ :‬ملاذا تم تأسيسه وكيف توسع يف شرق أوروبا؟"‪،‬‬
‫‪https://p.dw.com/p/46kVK.‬‬

‫(‪ )21‬إيمان أحمد عبد الحليم‪" ،‬هل تتحول الحرب األوكرانية إلى كارثة استراتيجية ملوسكو؟"‪ 10 ،‬مارس‪/‬آذار ‪( ،2022‬تاريخ الدخول‪25 :‬‬
‫‪https://bit.ly/3KIfDXP.‬مارس‪/‬آذار ‪،)2022‬‬

‫(‪ )22‬ماهيناز الباز‪" ،‬آليات أوكرانيا إلدارة اقتصاد الحرب مع روسيا"‪ ،‬مركز املستقبل‪ 23 ،‬مارس‪/‬آذار ‪( ،2022‬تاريخ الدخول‪ 25 :‬مارس‪/‬آذار ‪،)2022‬‬
‫‪https://bit.ly/37oCwkT.‬‬

‫(‪" )23‬تداعيات األزمة األوكرانية ىلع االقتصادات األوروبية يف األمد القصير"‪ ،‬مركز املستقبل لألبحاث والدراسات املتقدمة‪ 17 ،‬مارس‪/‬آذار‬
‫‪( ،2022https://bit.ly/3tW0H2D.‬تاريخ الدخول‪ 1 :‬أبريل‪/‬نيسان ‪،)2022‬‬

‫(‪ )24‬كيفين كونولي‪" ،‬غزو روسيا ألوكرانيا‪ :‬كيف كشف "هشاشة" السالم يف أوروبا؟"‪ ،‬بي بي سي‪ 10 ،‬مارس‪/‬آذار ‪( ،2022‬تاريخ الدخول‪26 :‬‬
‫‪https://bbc.in/3OfBKqV.‬مارس‪/‬آذار ‪،)2022‬‬

‫”‪(25) Sudha David-Wilp and Thomas Kleine-Brockhoff, “A New Germany: How Putin’s Aggression Is Changing Berlin,‬‬
‫‪Foreign Affairs, March 1, 2022, “accessed April 3, 2022”. https://fam.ag/3u31hLS.‬‬

‫(‪" )26‬تداعيات األزمة األوكرانية ىلع سياسات أوروبا الدفاعية"‪ ،‬املركز األوروبي لدراسات مكافحة اإلرهاب واالستخبارات‪ 7 ،‬مارس‪/‬آذار ‪،2022‬‬
‫‪(https://bit.ly/3JNegGl.‬تاريخ الدخول‪ 15 :‬مارس‪/‬آذار ‪،)2022‬‬

‫‪(27) National Intelligence Council, “Global Trends 2025: A Transformed World,” (Cosimo Reports, 2008): 92–98.‬‬
(28) The White House, “Interim National Security Strategic Guidance,” whitehouse.gov, March 2021, “accessed April 3,
2022”. https://bit.ly/3rxtVTY.

(29) “U.S. Diplomatic Push for Ukraine Falters in a Middle East Influenced by Russia,” The Wall Street Journal, March 3,
2022, “accessed April 3, 2022”. https://on.wsj.com/38J4MPp.

(30) Russia’s share in arms imports 2017–2021, Statista.com, March 15, 2022, “accessed April 3, 2022”.
https://bit.ly/38J4Yy7.

31 ،‫ مركز الزيتونة للدراسات واالستشارات‬،"‫ "انعكاسات األزمة األوكران ية ىلع العالم العربي والقضية الفلسطينية‬،‫) وليد عبد الحي‬31(
،)2022 ‫نيسان‬/‫ أبريل‬3 :‫ (تاريخ الدخول‬،2022 ‫آذار‬/‫مارس‬https://bit.ly/3uT2TXQ.

.‫ مرجع سابق‬،"‫ "هل تتحول الحرب األوكرانية إلى كارثة استراتيجية ملوسكو؟‬،‫) عبد الحليم‬32(

(33) John J. Mearsheimer, “Bound To Fail: The Rise and Fall of the Liberal International Order,” International Security, Vol.
43, no. 4 (Spring 2019): 48-49

(34) Robert Kagan, “What we can expect after Putin’s conquest of Ukraine,” Washington Post, February 21, 2022. “accessed
April 3, 2022”. https://wapo.st/3DcwEqs.

‫ (تاريخ‬،2022 ‫آذار‬/‫ مارس‬2 ،‫ "هل يمكن حرمان روسيا من عضوية مجلس األمن وحق استخدام الفيتو؟" العربي الجديد‬،‫) ابتسام عازم‬35(
،)2022 ‫نيسان‬/‫ أبريل‬2 :‫الدخول‬https://bit.ly/3hW3J01.

29 ،‫ املعهد املصري للدراسات السياسية واالستراتيجية‬،"2022 ‫األوكرانية‬-‫ "اإلشكاليات القانونية للحرب الروسية‬،‫) محمد بوبوش‬36(
،)2022 ‫نيسان‬/‫ أبريل‬2 :‫ (تاريخ الدخول‬،2022 ‫آذار‬/‫مارس‬https://bit.ly/3Lyjzuq.

.‫ مرجع سابق‬،‫ مجلة السياسة الدولية‬،"‫ التداعيات واملسارات املحتملة للعملية العسكرية الروسية يف أوكرانيا‬،‫) سليمان‬37(

(38) Mearsheimer, “Bound To Fail,”: 49.

29 :‫ (تاريخ الدخول‬،2022 ‫شباط‬/‫ فبراير‬27 ،‫ الجزيرة نت‬،"‫ "هل تكون الحرب يف أوكرانيا بداية نظام دولي جديد؟‬،‫) عبد الله العقرباوي‬39(
،)2022 ‫آذار‬/‫مارس‬https://bit.ly/3IRuKfU.

(40) Mearsheimer, “Bound To Fail,”: 44-48

(41) Kemal Derviş and José Antonio Ocampo, “Will Ukraine's Tragedy Spur UN Security Council Reform?,” Project-
Syndicate.org, March 3, 2022. “accessed April 1, 2022”. https://bit.ly/3wFZxtO.

.‫ مرجع سابق‬،"‫ "هل تتحول الحرب األوكرانية إلى كارثة استراتيجية ملوسكو؟‬،‫) عبد الحليم‬42(

(43) Anne-Marie Slaughter et al., U.S. Grand Strategy After Ukraine: Seven thinkers weigh in on how the war will shift U.S.
Foreign Policy,” March 21, 2022. “accessed April 1, 2022”. https://bit.ly/3j3906j.

(44) Ibid.

‫انتهى‬

You might also like