Professional Documents
Culture Documents
الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي
الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي
الحرب الروسية-الأوكرانية ومستقبل النظام الدولي
الدولي
مقدمة
تعود أصول القضية األوكرانية املعاصرة إلى العام 1991مع تفكُّك االتحاد السوفيتي ،وحصول أوكرانيا ىلع استقاللها
يف نفس العام .ويف العام ،1994جرى توقيع "مذكرة بودابست" التي تعهَّدت بموجبها روسيا االتحادية باحترام حدود
أوكرانيا يف مقابل تخلِّي كييف عن ترسانتها النووية املوروثة عن االتحاد السوفيتي لصالح روسيا .لكن سرعان ما
فرضت الحسابات الجيوبوليتيكية نفسها ىلع شرق أوروبا ،مع اتجاه حلف الناتو للتمدد شرقًا .فانضمَّت جمهوريات
التشيك واملجر وبولندا للحلف ،عام ،1999وبين عامي 2004و ،2009انضمت 9دول من شرق أوروبا ،بعضها من
الجمهوريات السوفيتية السابقة (بلغاريا ،إستونيا ،التفيا ،ليتوانيا ،رومانيا ،سلوفاكيا ،سلوفينيا ،ألبانيا ،كرواتيا) ،ثم
لحقت بها بعد ذلك كل من الجبل األسود ومقدونيا الشمالية .وأصبح إجمالي عدد الدول التي انضمت للحلف بين 1999
و 2020نحو 14دولة ،تشكِّل نحو نصف الدول األعضاء يف الحلف الذي تأسس عام .1949
ولم يعد متبقيًا من الدول العازلة بين روسيا والناتو سوى بيالروسيا وأوكرانيا ،وترى روسيا أن انضمام هاتين الدولتين
إلى الناتو يعني حصارها داخل حدودها ،وتصاعدت مخاوفها مع مخرجات قمة الناتو التي عُقدت يف العاصمة
الرومانية ،بوخارست ،عام ،2008عندما رحَّب الحلف بتطلع أوكرانيا وجورجيا لنيْل عضويته ،وهو ما كان ،من وجهة
النظر الروسية ،بمنزلة إعالن لحرب ممتدة بين روسيا والغرب .فبدأت روسيا سلسلة من املواجهات العسكرية ملنع
هاتين الجمهوريتين من االنضمام للحلف ،وكانت البداية بالحرب الروسية-الجورجية ،عام ،2008وقيام روسيا بضم
إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ،ثم الحرب الروسية-األوكرانية ،عام ،2014ثم قيام روسيا بإعالن ضم شبه جزيرة
القرم األوكرانية.
وردًّا ىلع ضمِّ روسيا لشبه جزيرة القرم ،تسارعت معدالت التعاون العسكري واألمني بين الواليات املتحدة وأوكرانيا،
وتُشير بعض التقديرات إلى حصول أوكرانيا خالل الفترة من 2014إلى 2021ىلع نحو 5.6مليارات دوالر من الواليات
املتحدة ،تشمل أسلحة ومعدات تدريب للجيش ،ودعم مكافحة التهديدات السيبرانية ،باإلضافة إلى الدعم
االستخباراتي ملواجهة التهديدات الروسية عبر "مبادرة املساعدة األمنية األوكرانية"( .)1كما أقرَّ حلف الناتو حزمة من
املساعدات الشاملة لتعزيز االستراتيجية الدفاعية واألمنية يف أوكرانيا(.)2
وأظهرت استطالعات الرأي خالل السنوات ،2021-2015التي أجريت داخل أوكرانيا ،تنامي االتجاهات املؤيدة لالنضمام
إلى االتحاد األوروبي والناتو ،حيث كشف استطالع ،يف 17ديسمبر/كانون األول ،2021عن تأييد %58من األوكرانيين
االنضمام إلى االتحاد األوروبي ،وتأييد %54االنضمام إلى الناتو ،بينما أيَّد %21فقط االنضمام إلى االتحاد الجمركي
األوراسي بقيادة روسيا(.)3
ويف العشرين من فبراير/شباط ،2022اعترف الرئيس الروسي ،فالديمير بوتين ،باستقالل جمهوريتين انفصلتا عن
أوكرانيا هما "لوغانسك" ،و"دونيتسك" .ويف الرابع والعشرين من نفس الشهر ،قامت القوات املسلحة الروسية بغزو
عسكري شامل لألراضي األوكرانية بدعوى أن ذلك جاء بناء ىلع دعوة وجهتها هاتان الجمهوريتان االنفصاليتان للنظام
الروسي للدفاع عنهما ،يف مواجهة ما أسماه النظام الروسي" :حرب اإلبادة التي يشنُّها النازيون الجدد يف أوكرانيا"
ضد األقليات من أصل روسي يف الجمهوريتين.
ويف مقابل السياسات الروسية ،توالت ردود األفعال الدولية واإلقليمية -سياسية واقتصادية وإعالمية بل وعسكرية-
تجاه ما سُمِّي بـ"الغزو الروسي ألوكرانيا" ،أو "العدوان الروسي ىلع أوكرانيا" ،خاصة مع حجم التدمير الذي شهدته
األراضي األ وكرانية يف فترة زمنية وجيزة بعد بدء الحرب مباشرة .ومع تشابك األطراف وتعقُّد املشهد الدولي أمام
التداعيات التي ترتبت ىلع األزمة يبدو مهمًّا البحث يف مدى تأثير األزمة األوكرانية ،2022 ،ىلع بنية النظام الدولي.
يف سياق تداخل قوى دولية يف األزمة األوكرانية ،تسعى الدراسة إلى اإلجابة عن السؤال اإلشكالي اآلتي :إلى أي مدى
يمكن أن تؤثر األزمة األوكرانية ىلع بنية النظام الدولي ،خاصة من حيث أنماط التفاعالت الدولية بعد الحرب ،وتوازنات
النظام الدولي القائم ومساراته املستقبلية ،واحتماالت إعادة تشكيل دوائر ومناطق نفوذ الوحدات الدولية ،وصياغة
األنساق األمنية اإلقليمية والدولية ،وخاصة يف أوروبا والشرق األوسط؟
اعتمد الباحث ىلع اقتراب "النسق الدولي" يف العالقات الدولية ،وهو أحد االقترابات الفرعية ،من منهج تحليل النظم،
ويقوم ىلع أن النسق يتكوَّن من مجموعة من العناصر التي ترتبط فيما بينها بنمط معين من العالقات ،وهو يف
حالة اتصال دائم مع بيئته من خالل آلية لضخِّ املدخالت إليه ،ودفع املخرجات منه .ويسمح هذا االقتراب بالتعرف
بدقة ىلع الديناميكية السياسية ،ومن ثم محاولة فهم القوانين التي تحكم أو تتحكَّم يف حركتها.
كما يسمح االقتراب بتتبُّع مسار التفاعالت بين النظام القائم ووحداته األساسية وبيئته الداخلية والخارجية ،والتعرف
ىلع ما قد يطرأ ىلع عناصر هذا النظام وتلك البيئة من تغيرات بسبب هذه التفاعالت .وينطلق هذا االقتراب من
التفكيك واملقارنة وإدراك طبيعة العالقات وأنماط املتغيرات ،ثم يساعد ىلع إعادة تركيبها مرة أخرى بطريقة تسمح
بفهم أكثر منطقية لكيفية عمل النسق موضوع الدراسة.
وإذا انطلقنا من فرضية أن العالقات الدولية تشكِّل "نَسَقًا" ،فإن هذا يتطلب أن نميز بين النظام وبيئته ،وهذا يفترض
أن بيئة النظام قد جرى تحديدها وحصر مكوناتها من وحدات ،وبنيان و ُمؤَسَّسِية وتفاعالت ،مع بيان أنماط العالقات
بين هذه املكونات من ناحية ،وبينها وبين بيئتها من ناحية ثانية(.)4
ينطلق الباحث يف تحليل الظاهرة محلَّ الدراسة من مقوالت املنظور الواقعي ،الذي أثبت صالبة فكرية خالل القرن
املاضي ،وخاصة مع تعدد املدارس الفكرية والنظريات التكوينية والتحليلية والتفسيرية التي ظهرت يف إطار هذا
املنظور.
فبعد نهاية الحرب العاملية األولى ( ،)1918-1914وتوقيع صلح فرساي ،1919 ،هيمن املنظور املثالي ىلع دراسة وتحليل
العالقات الدولية .واتجه املثاليون إلى تأكيد مكانة القيم واألعراف واملؤسسات الدولية بوصفها أدوات ملنع الحروب
والصراعات ،ودعوا إلى عقد والء البشر ملصالح جماعية شاملة ،كما شجبوا ما يسمى بسياسة األمر الواقع ،وسياسة
توازن القوى التي لم تحل دون اندالع الحروب األوروبية ،والحرب العاملية األولى( .)5وكانت مبادئ الرئيس األميركي
توماس وودرو ويلسون أحد أهم الركائز التي استند إليها منظِّرو املنظور املثالي( ،)6كما برز يف إطار املنظور العديد
من اآلراء املستوحاة من تعاليم األديان السماوية واملوروث الثقايف واألخالقي لفلسفات إنسانية عامة(.)7
لكن انهارت آمال املثاليين باندالع الحرب العاملية الثانية ( ،)1945-1939وظهور نظريات مناقضة بدأت التأسيس الجديد
للمذهب الواقعي .وكان ظهور كتاب "السياسة بين األمم :الصراع من أجل القوة والسلم"( ،)8لهانز مورجانثو ( Hans
)Morgenthauبمنزلة البداية الصلبة لتأسيس نظريات جديدة هيمنت ىلع دراسة العالقات الدولية ،وكان لها تأثيرها
يف مؤسسات صنع قرارات السياسة الخارجية يف الدول الغربية كافة( .)9وهيمن املنظور الواقعي -بنظرياته
املتعددة (التقليدية ،الدفاعية ،الهجومية ،البنائية) وكذلك مراحل تطوره املختلفة -ىلع توجهات واستراتيجيات
العالقات الدولية فكرًا وحركة.
ويف إطار املنطلقات التأسيسية للمنظور الواقعي يف العالقات الدولية ،يتفق الباحث مع ما انتهى إليه ستيفن
والت ( ،)Stephen Waltوهو أحد أهم مؤسسي تيار الواقعية الكالسيكية الجديدة ،من أن ما يحدث يف أوكرانيا يدعم
ويؤكد القدرة التفسيرية للمنظور الواقعي يف العالقات الدولية ،وذلك استنادًا إلى عدد من الحجج األساسية:
1ـ يتفق الواقعيون ىلع أن العالم ال توجد فيه هيئة أو مؤسسة يمكنها حماية الدول من بعضها البعض؛ ما يجعل
الدول قلقة بشأن إمكانية تعرضها العتداء خطير قد يهددها يف وقت ما يف املستقبل ،وهذا الوضع يُجبِر الدول،
وخاصة القوى العظمى ،ىلع القلق بشأن أمنها والتنافس ىلع القوة .وتدفع هذه املخاوف الدول أحيانًا إلى القيام
بأشياء مروعة ،فبالنسبة للواقعيين فإن الغزو الروسي ألوكرانيا (وكذلك الغزو األميركي للعراق ،عام )2003يؤكد أن
القوى العظمى تتصرف أحيانًا بطرق تتسم بـ"الفظاعة والحمق" عندما تعتقد أن مصالحها األمنية األساسية معرضة
للخطر ،وهنا يرى الواقعيون أن اإلدانة األخالقية وحدها لن تمنع هذه املمارسات.
.2توضح الحرب يف أوكرانيا أيضًا مفهومًا واقعيًّا كالسيكيًّا آخر هو فكرة "املعضلة األمنية" ،التي تنشأ بسبب أن
الخطوات التي تتخذها دولة ما لزيادة وتعزيز أمنها غالبًا ما تجعل اآلخرين أقل أمانًا .فعندما تشعر الدولة (أ) بأنها غير
آمنة وتسعى إلى خلق تحالفات أو زيادة تسلحها ،فإن ذلك يؤدي إلى انزعاج وتحسس الدولة (ب) من هذه الخطوة
التي تعتبرها تهديدًا لها ،ما يجعلها تتصرف بنفس النهج؛ األمر الذي يؤدي لتعميق الشكوك ،وينتهي األمر بافتقاد
األمن بالنسبة لكلتا الدولتين .من هذا املنطلق يمكن تقديم تفسير منطقي لرغبة دول أوروبا الشرقية يف االنضمام
إلى حلف الناتو ،نظرًا ملخاوف ها طويلة املدى بشأن روسيا ،ومن ثم يُتَفهَّم سبب اعتبار القادة الروس لهذا التطور أمرًا
مقلقًا.
. 3إن رؤية األحداث يف أوكرانيا من منظور الواقعية ال تعني تأييد أفعال روسيا يف أوكرانيا ،فالواقعية ال تدعو إلى
الحرب خيارًا وحيدًا أو مرغوبًا فيه ،بل ترى أن اللجوء إليها شر البد منه بحكم قانون الصراع املوضوعي الذي يحكم
ويضبط سلوكيات الدول .وهو ما يعني االعتراف موضوعيًّا بما يقع يف أوكرانيا باعتباره سلوكًا متكررًا يف الشؤون
الدولية بالرغم من تداعياته السلبية .وإذا كان الواقعيون قد أدانوا الطبيعة املأساوية للسياسة العاملية ،فإنهم حذَّروا
من أنه ال يمكن إغفال املخاطر التي يبرزها املنظور الواقعي ،بما يف ذلك املخاطر التي تنشأ عندما تهدد ما تعتبره
دولة أخرى مصلحة حيوية.
. 4إن الليبرالية عجزت ،كأحد منظورات العالقات الدولية ،عن تقديم تفسيرات ملا يحدث يف أوكرانيا؛ فقد أثبت
القانون الدولي واملؤسسات الدولية أنها تشكِّل حاجزًا ضعيفًا وعاجزًا أمام ممارسات وطموحات القوى العظمى .كما
أن الترابط االقتصادي وفلسفة االعتماد املتبادل لم تمنع موسكو من شنِّ غزوها ىلع أوكرانيا ،ىلع الرغم من التكاليف
الباهظة التي ستتكبدها نتيجة لذلك .ولم تستطع القوة الناعمة إيقاف الدبابات الروسية ،كما أن أصوات الجمعية
العامة لألمم املتحدة التي أدانت الغزو ( 141مقابل 5مع امتناع 35عن التصويت) لم يكن لها تأثير كبير ىلع مسار
الصراع ،وتأكدت مقوالت الواقعية القائمة ىلع القوة كأساس للعالقات الدولية.
. 5ولئن كان الواقعيون يقلِّلون من أهمية دور املعايير والقواعد القانونية كقيود قوية ىلع سلوك القوى العظمى،
فإن وجودها لعب دورًا مهمًّا يف تفسير االستجابة العاملية للغزو الروسي ألوكرانيا ،وكانت ركيزة استندت إليها الدول
والشركات واألفراد يف معظم أنحاء العالم يف إصدار األحكام وفرض العقوبات ضد روسيا ،معتبرين سلوكها خرقًا واضحًا
وانتهاكًا للمعايير العاملية ،وتهديدًا لألمن والسلم الدوليين(.)10
وتأتي الدراسة الختبار تلك الفرضيات التي خلص إليها ستيفن والت ،من حيث بيان تداعيات الحرب الروسية-األوكرانية
ىلع مستقبل النظام الدولي املعاصر.
أعلن الرئيس الروسي ،فالديمير بوتين ،بدء عملية عسكرية ضد أوكرانيا ،يف 24فبراير/شباط ،2022ودعا جيشها
إللقاء السالح والسيطرة ىلع الحكم .وقد تعددت السياقات والتفسيرات لهذه العملية العسكرية ،كما تعددت
التداعيات التي ترتبت عليها ،سياسيًّا واقتصاديًّا واستراتيجيًّا ،وهو ما يمكن تناوله يف هذه املحاور.
ترتبط الحرب الروسية -األوكرانية بالعديد من السياقات واألبعاد التي كان لها أهميتها يف تطورات وتداعيات الحرب،
ومن ذلك:
تُعد املواجهة الروسية-الغربية بعد الغزو الروسي ألوكرانيا مجرد فصل من فصول مواجهة ممتدة ،وكانت بدايات هذا
الفصل مع انهيار االتحاد السوفيتي ،1991 ،وتحولت معظم الجمهوريات املستقلة عن االتحاد السوفيتي أو تلك التي
كانت تنتمي إلى الكتلة الشرقية خالل الحرب الباردة إلى املعسكر الغربي ،سواء باالنضمام إلى حلف "الناتو" ،أو
االنضمام إلى االتحاد األوروبي .وكان عام 2004لحظة فارقة يف تاريخ االتحاد؛ حيث انضمت إليه عشر دول دفعة
واحدة ،كان معظمها من دول الكتلة الشرقية ،وخالل الفترة من 1999إلى 2020انضمت 14دولة من الجمهوريات
السوفيتية ودول أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو.
ويف املقابل ،ومع وصول الرئيس ،فالديمير بوتين ،إلى السلطة ،عام ،1999ثم فوزه بانتخابات 2000و ،2004سعى
إلى فرض هيمنته الكاملة ىلع كل مقدرات الدولة السوفيتية ،السياسية واالقتصادية والعسكرية واألمنية ،واتجه
للحفاظ ىلع ما أسماه حدود "االتحاد الروسي" ،ولو بالقوة إذا لزم األمر .وخالل واليتيْه :األولى والثانية ،انفجرت "الثورات
امللونة" يف عدد من الجمهوريات السوفيتية السابقة (جورجيا ،أوكرانيا ،قرغيزستان) ،وأعقبتها انتخابات أفرزت نخبة
سياسية وفكرية جديدة أقرب إلى الفكر الليبرالي الغربي .وهو ما اعتبره بوتين "مؤامرة أميركية" للنفاذ إلى مناطق
النفوذ الروسي ،وتعامل معها ب اعتبارها تهديدًا خطيرًا ليس للدولة الروسية فقط من الناحية االستراتيجية ،ولكن
بنفس القدر له شخصيًّا ولنظامه ،الذي أسَّس شرعيته عبر قدرته ىلع فرض النظام داخليًّا ،ومحاولة إعادة االحترام
خارجيًّا لروسيا ،وإعادة دورها كقوة عاملية كبرى .لذلك بدأ بوتين يف إثارة القالقل الداخلية يف أوكرانيا ،عام ،2004
ودخل يف حرب ضد جورجيا ،عام ،2008ودعم انفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن أراضيها(.)11
وترتبط هذه التحوالت يف الجانب األكبر منها بـ"عقيدة بوتين" العسكرية؛ حيث أكد الرئيس الروسي أنه لن يسمح
لحلف شمال األطلسي "الناتو" بالوجود ىلع حدوده وتهديد موسكو مباشرة .لذلك طلب يف "الوثيقة األمنية" توقيع
اتفاقيتين منفصلتين بين موسكو وواشنطن والناتو لوضع نظام ضمانات أمنية من أجل خفض التوترات األمنية يف
أوروبا ،وتخلي الحلف عن أي نشاط عسكري يف جورجيا وأوكرانيا ،وعدم انضمامهما للحلف ،ووقف نشر أنظمة أسلحة
هجومية يف الدول املحاذية لروسيا ،لكن واشنطن رفضت ذلك .فكان قرار اللجوء للعمل العسكري ،ألنه يمثِّل -وفقًا
لعقيدته العسكرية" -اللحظة املثالية" للضغط ىلع "الناتو" واالتحاد األوروبي إلعادة هيكلة البنية األمنية األوروبية،
بما يتناسب ومكانة روسيا اآلن ،التي تختلف عنها يف عام .1991
ولذلك ،وبداية من منتصف عام ،2021بدأت روسيا يف حشد قواتها العسكرية ىلع حدودها الغربية بالتزامن مع حشد
عسكري أميركي-أوروبي يف أوكرانيا؛ حيث قدمت واشنطن لكييف 2.5مليار دوالر من املساعدات العسكرية منذ ،2014
بما يف ذلك 450مليون دوالر ،عام .2021كما شاركت كييف يف مناورات أميركية وسمحت بنشر صواريخ أميركية ىلع
أراضيها واستقبلت اآلالف من الجنود األميركيين .وهو ما دفع بوتين للمطالبة عدة مرات بضرورة تخفيف الحشد
العسكري األميركي بأوكرانيا لعدم وجود مبرر له ،كما أعلنت كييف عدة مرات رغبتها يف االنضمام لحلف "الناتو"؛ األمر
الذي وصفه بوتين "بالخط األحمر" الذي لن يسمح بتجاوزه.
وقدمت روسيا ،نهاية العام ،2021وثيقة "الضمانات األمنية" التي رفضتها واشنطن ،فبدأت روسيا يف التلويح باستخدام
األداة العسكرية عبر تنفيذ مناورات عسكرية أشرف عليها بوتين شخصيًّا ،يف 19فبراير/شباط ،2022ثم أعلن بوتين
االعتراف رسميًّا بجمهوريتي "لوغانسك" و"دونيتسك" -املعروفة باسم "إقليم دونباس" -االنفصاليتين ،يف 22
فبراير/شباط .2022كما أعلن تدخله ملساعدة االنفصاليين يف تلك املنطقة ،فجرى اإلعالن عن العملية العسكرية
الروسية "املحدودة" كما وصفها بوتين ،يف 24فبراير/شباط ،2022باسم "الدفاع عن دونباس"(.)12
خالل الفترة من 2008إلى ،2021تبنَّى بوتين ما أسماه "استراتيجية استرداد النفوذ واملكانة" ،التي تقوم ىلع شنِّ
حرب هجينة شاملة ىلع كل الجبهات ،وقامت هذه االستراتيجية ىلع عدة مستويات ،برز يف إطارها:
أ -حرب سيبرانية هجومية واسعة النطاق ،حيث كوَّنت روسيا جيش إنترنت وكتائب إلكترونية لبثِّ رسائل ومضامين
تتفق والتوجه ات الروسية عبر وسائل التواصل االجتماعي ،وشنِّ حمالت إلكترونية سرية وكثيفة ضد بعض الدول
الغربية .وهو ما تطلَّب العمل ىلع تطوير القدرات الروسية يف مجاالت عمل وتكنولوجيا التنصت والرقابة واالعتراض
واالختراق اإللكتروني ،وغيرها من قطاعات ذات صلة.
ب -التدخالت العسكرية الروسية املباشرة أو غير املباشرة ،كما يف جورجيا ،2008ويف أوكرانيا ،2014ثم يف سوريا
، 2015سواء باستخدام القوات العسكرية الروسية أو عناصر من الشيشان ،أو عناصر شركة "فاغنر" الروسية.
ج -تعزيز التحالفات ،ويجري ذلك سواء من خالل تفعيل معاهدة األمن الجماعي؛ حيث تدخلت القوات الروسية لقمع
االحتجاجات الشعبية ضد رئيس كازاخستان ،قاسم جومرت توكاييف ،يف يناير/كانون الثاني ،2022أو عقد التفاهمات
االستراتيجية مع القوى الكبرى من خصوم الواليات املتحدة ،مثل الصين عبر منظمة شنغهاي للتعاون .كما يجرى تعزيز
هذه التحالفات عبر االرتباط بمصالح متبادلة قوية مع حلفاء الواليات املتحدة يف التحالف الغربي ،مثل أملانيا وفرنسا،
وتبادل التكنولوجيا العسكرية والتفاهمات امليدانية يف سوريا مع إسرائيل ،وتقاسم النفوذ مع تركيا يف عدد من
ملفات الحوار املشترك ،ومساندة إيران يف ملفاتها اإلقليمية والنووية ،والتوغل يف مساحات استراتيجية جديدة يف
إفريقيا من خالل قوات فاغنر ،واتباع دبلوماسية التسليح مع مصر وبعض دول الخليج العربية.
د -التطوير املتسارع للتكنولوجيات التسليحية والرقمية ،وذلك من خالل العمل ىلع دمج التقنيات الجديدة ملضاعفة
ال قوة يف أنظمتها القديمة للتسلح ،واإلعالن عن مجموعة برامج ألسلحة ذات قدرة نووية رئيسية لضمان قدرتها
ىلع اختراق أنظمة الدفاع الصاروخي األميركية ،وتطوير مجموعة من األنظمة التي يمكنها مهاجمة األقمار الصناعية
أو تعطيل عملياتها .ويشمل التطوير أيضًا تعزيز القدرات الروسية يف مجاالت تكنولوجيا الذكاء االصطناعي ،وتعطيل
وتدمير أنظمة القيادة والتحكُّم الخاصة بالخصم وقدرات االتصال ،وتبنِّي استراتيجية تعدين ضخمة لعملة البيتكوين
يف كازاخستان ،للحدِّ من سيطرة الدوالر األميركي ىلع االقتصاد العاملي(.)13
أعادت إدارة بايدن التفكير يف خطط االنتشار العسكري األميركي يف العالم ،وخاصة يف املناطق التي يمكن من
خاللها احتواء كل من روسيا والصين ،وذلك ىلع النحو التالي:
أ -إعادة االنتشار يف أوروبا واملتوسط :يف 8مارس/آذار ،2021دخلت مجموعة سفن أميركية للبحر املتوسط عبر
مضيق جبل طارق ،تنتمي ألسطول العمليات السادس األميركي .ويف نهاية فبراير/شباط ،2021أنزلت أميركا وحدات
من القسم األول مشاة ،ضمن فرقة الطيران القتالي ،يف ميناء إليكساندربوليس شمالي اليونان ،للمشاركة ضمن عمل
القوات األمي ركية الجوية املوجهة ملساندة أوروبا وإفريقيا ،واملسؤولة عن األصول املرتبطة بالطيران األميركي يف
املنطقة ،تنفيذًا للقرار األميركي/األوروبي املشترك بخصوص الوجود الروسي يف أوكرانيا ،والذي يحمل اسم "عملية
الحل األطلسي" ( .)Resolve operation Atlanticويتضمن اإلنزال 30مروحية تشارك يف تدريبات لصالح رومانيا يف
مارس/آذار .2021
كما نشرت واشنطن عشرات املروحيات العسكرية ،وقررت توسيع أربع قواعد عسكرية لها يف اليونان ،وخصصت قواعد
بحرية للقوات األميركية كجزء من اتفاقيات دفاعية بين البلدين ،واستخدمت 145مروحية ومئات املركبات العسكرية
يف مناورات "املدافع عن أوروبا ،" 2021عالوة ىلع الترتيبات املرتبطة بما تم من تدريبات مشتركة مع اليونان يف
تراقيا الغربية .ويف نفس اإلطار ،شرعت الواليات املتحدة يف فتح مسار للوجود يف البحر األسود؛ حيث أجرت تدريبات
مشتركة مع تركيا يف البحر األسود ،واليونان يف بحر إيجه ،يف سياق االستعدادات لتأمين منطقتي البلقان والبحر
األسود( ،)14بجانب تطوير الرؤية األميركية للمنطقة بعد اللقاء الثالثي الذي ضمَّ بولندا ورومانيا وتركيا لتطوير القدرات
القتالية لرومانيا عبر املروحيات القتالية ،والتي سبق إنزالها يف إليكساندربوليس.
وشاركت واشنطن مع اليونان وعدد من أعضاء "الناتو" يف تدريبات كريت ،خالل يناير/كانون الثاني )15(2021؛ وتدريبات
"شرق تراقيا" ،يف 22فبراير/شباط ،2021وتدريبات "بحر إيجه" ،يف 13مارس/آذار ،2021وتدريبات "إينيكوس" ،يف
أبريل/نيسان ،)16(2021كما أجرت تدريبات مع تركيا يف البحر األسود ،يف 10فبراير/شباط ،2021ويف شرق املتوسط،
يف 17مارس/آذار .)17(2021
ب -إعادة االنتشار يف املحيطين الهادي والهندي :حيث جاء قرار انضمام املدمرة األميركية "يو إس إس رافائيل بيرالتا"
( )USS Rafael Peraltaإلى حاملة الطائرات "يو إس إس رونالد ريغان" ( )USS Ronald Reaganوسفينة القيادة
باألسطول السابع األميركي "يو إس إس بلو ريدج" ( )USS Blue Ridgeيف ميناء "يوكوسوكا" الياباني مؤشرًا ىلع أن
الواليات املتحدة تولي اهتمامًا كبيرًا ملنطقة التقاء املحيطين الهادئ والهندي؛ حيث تواجه الواليات املتحدة الصين
يف صراع نفوذ ىلع املنطقة .وتتجه أوروبا لزيادة وجودها يف منطقة املحيط الهادئ كذلك عبر إرسال اململكة
املتحدة حاملة طائراتها "كوين إليزابيث" ( ،)Queen Elizabethفيما تبحث أملانيا إرسال فرقاطة حربية إلى اليابان ،ما
يعني أن االهتمام باحتواء الصين يتصاعد يف دوائر القرار الغربية(.)18
ج -إعادة االنتشار يف الخليج العربي :فقد أمر جو بايدن بسحب بعض القوات األميركية من منطقة الخليج ،وإعادة
تنظيم تركيز القوات األميركية يف مناطق أخرى ،وكانت أهم القطع التي جرى سحبها 3بطاريات لصواريخ "باتريوت"
بأطقمها من منطقة الخليج ،أُعيد نشرها يف القوقاز .وأعلن البنتاغون أن عملية إعادة االنتشار هذه تهدف إلى
املساهمة يف جهود احتواء كل من روسيا والصين دون أن تضطر الواليات املتحدة إلى تحويل قوات من مناطق أكثر
حيوية بالنسبة للمصالح األميركية .فيما أبقت ىلع منظومات الدفاع الجوي ( Terminal High Altitude Area
)Defenseاملعروفة اختصارًا باسم "ثاد" ( )THAADلضمان الدفاع عن السعودية ضد "الصواريخ الباليستية" .كما أعلنت
اإلدارة األميركية عن خططها لسحب أكثر من ثلث قواتها املوجودة يف العراق ،مع اإلبقاء ىلع قوات لتقديم املشورة
واملساعدة لقوات األمن العراقية(.)19
مع سقوط جدار برلين ،1989 ،وانهيار االتحاد السوفيتي ،عام ،1991ثم إعالن تأسيس االتحاد األوروبي يف نوفمبر/تشرين
الثاني ،1993أصبح الطريق ممهدًا إلنشاء نظام أمني أوروبي جديد ،وبعد خروج عدد من دول حلف وارسو من الهيمنة
السوفيتية ،انضمت هذه الدول إلى حلف الناتو ،ففي عام ،1999انضمت دول مجموعة فيشغراد (املجر ،بولندا ،التشيك)
إلى الناتو .ويف عام ،2004انضمت إلى الحلف دول مجموعة فيلنيوس (بلغاريا وإستونيا والتفيا وليتوانيا ورومانيا
وسلوفاكيا وسلوفينيا) .ويف عام ،2009وافق حلف الناتو ىلع انضمام ألبانيا وكرواتيا ،وبلغ عدد أعضائه 30عضوًا،
مع انضمام الجبل األسود ،عام ،2017ومقدونيا الشمالية ،عام .2020كما أدرجت ثالث دول ،هي :البوسنة والهرسك
وجورجيا وأوكرانيا تحت فئة الدول الطامحة لالنضمام للحلف.
ومع تحوالت األزمة الروسية-األوكرانية منذ ،2004تجددت رغبة أوكرانيا يف االنضمام إلى حلف الناتو ،ويف عام 2008
وخالل قمة الناتو التي استضافتها العاصمة الرومانية ،بوخارست ،رحَّب الحلف رسميًّا بتطلعات أوكرانيا وجورجيا
لالنضمام إليه .لكن لم تُفعَّل خطط انضمام الدولتين عمليًّا ،يف الوقت الذي ترى فيه روسيا أن انضمام أوكرانيا إلى
الناتو خط أحمر ال يمكن تجاوزه(.)20
ثانيًا :تداعيات الحرب الروسية-األوكرانية
تعرضت روسيا لخسائر متنوعة من جرَّاء تدخلها العسكري يف أوكرانيا ،وتنوعت هذه الخسائر بين بشرية (يف العمليات
القتالية ،مع طول الفترة الزمنية للحرب وعدم القدرة ىلع الحسم وصالبة املقاومة األوكرانية ،مدعومة بقوات وسالح
وخبرات غربية) ،واقتصادية (بسبب كثافة العقوبات الغربية ،والتي طالت العديد من القطاعات االقتصادية الروسية،
بما فيها قطاع النفط والغاز ،وتجميد األرصدة ،وانهيار البنوك التجارية وسالسل التوريد ،وإلزام العديد من حلفاء الواليات
املتحدة بتنفيذ العقوبات ووقف التعامل مع روسيا) ،وسياسية (مع عزلة روسيا عن املجتمع الدولي؛ حيث تضررت
صِالت روسيا بالعالم الخارجي) .وأضحت روسيا أكثر عزلة مما كانت عليه حتى إبَّان الحرب الباردة ،وقُطِع التبادل التجاري
والثقايف والسياسي ،وأُغلِق املجال الجوي أمام الطيران الروسي يف العديد من الدول األوروبية ،ومُنع الرياضيون
والفنانون والسياسيون الروس من املشاركة يف العديد من الفعاليات ،وكذلك حُظِرت حركة السفن الروسية من دخول
موانئ العديد من دول العالم(.)21
ويف املقابل ،ومع استمرار الحرب الروسية-األوكرانية ،تضخمت خسائر االقتصاد األوكراني؛ حيث توقفت معظم
األنشطة االقتصادية يف البالد ،كما لحقت بالبنية التحتية األساسية من الطرق والجسور واملوانئ أضرار كبيرة .فالحرب
الروسية لم تستهدف تدمير املواقع العسكرية األوكرانية فقط ،بل أيضًا األهداف املدنية ،كما جرى استهداف البنية
التحتية لالتصاالت يف أوكرانيا .وأغلقت معظم املوانئ واملطارات األوكرانية نتيجة األضرار التي لحقت بها ،كما أن
كثيرًا من الطرق والكباري إما تضررت أو دُمِّرَت.
وتسبب إغالق املوانئ األوكرانية املُطلَّة ىلع البحر األسود يف عرقلة حركة النقل البحري ،وحاولت الحكومة
األوكرانية استبدال نقل البضائع الزراعية عبر السكك الحديدية إلى دول الجوار األوروبي ،قبل أن تحظر تصدير العديد
من السلع الزراعية .وىلع الرغم من صعوبة حصر األضرار املادية يف أوكرانيا بشكل نهائي حاليًّا ،فإن التقديرات األولية
تشير إلى أن ما ال يقل عن 100مليار دوالر من البنية التحتية واملباني واألصول املادية األخرى جرى تدميرها.
وقبل الحرب الروسية ،بلغت االحتياطيات النقدية ألوكرانيا 31مليار دوالر يف العام ،2021لكن الحرب تسببت يف دمار
واسع النطاق للقدرة اإلنتاجية ألوكرانيا ،وتدهور تجارتها الخارجية ،وتضاؤل قدرة الحكومة ىلع تحصيل الضرائب ،عالوة
ىلع زيادة تدهور األوضاع املالية ،وارتفاع الضغوط التضخمية يف أوكرانيا مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء واملعادن،
واالنكماش االقتصادي بنسبة تتراوح بين 25و ،%35وفق صندوق النقد الدولي ،وكذلك تصاعد فجوة التمويل الخارجي
إلى نحو 5مليارات دوالر(.)22
.2الخسائر االقتصادية األوروبية
واجهت الدول األوروبية العديد من األضرار والتحديات بسبب تداعيات الحرب ،ومن صور ذلك ،خالل الفترة محلَّ الدراسة
( 24فبراير/شباط 15 -2022أبريل/نيسان :)2022
-تباطؤ النمو االقتصادي :فقد خفَّض "بنك باركليز" من توقعاته ملعدل نمو الناتج املحلي للقارة األوروبية إلى %3.5
بعد األزمة ،مقارنة بـ %4.1قبلها ،وتوقع بنك "جي بي مورجان" معدل نمو ،%3.2فقط.
-حجم التبادل التجاري :حيث يُعد االتحاد األوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا ،وتشكِّل موسكو خامس أكبر شريك تجاري
لالتحاد األوروبي ،وستؤثر العقوبات الغربية املفروضة ىلع روسيا بشدة يف العالقات التجارية بين موسكو واالتحاد
األوروبي ،خاصة مع قرار الدول الصناعية السبع الكبرى بإلغاء وضع "الدولة األولى بالرعاية" املمنوح لروسيا بموجب
قواعد منظمة التجارة العاملية.
-تهديد االستثمارات واألصول األوروبية يف روسيا وتعرضها لخطر املصادرة أو التأميم بسبب الحرب والعقوبات الغربية،
حيث يصل رصيد استثمارات بلدان االتحاد األوروبي يف السوق الروسي نحو 311.4مليار يورو (ما يعادل 340مليار دوالر)
حتى عام .2020وبلغت االستثمارات الروسية يف دول االتحاد األوروبي نحو 136مليار يورو خالل .2020كما أن هناك
حوالي 60مليار دوالر مستحقة لبنوك االتحاد األوروبي ىلع كيانات روسية يمكن تجميدها ،وقد يتعرض أيضًا حاملو
السندات السيادية األوكرانية من أوروبا (نحو 23مليار دوالر) ملخاطر عدم القدرة ىلع السداد.
-تهديد أمن الطاقة األوروبي :حيث تُعد روسيا أكبر مورِّد للطاقة لالتحاد األوروبي ،فحوالي %40من واردات االتحاد
من الغاز الطبيعي ،ونحو %33من وارداتها من النفط ،مصدرهما روسيا.
-تهديد األمن الغذائي :حيث تُعد روسيا أكبر مصدِّر للقمح يف العالم ،وتوفر كل من روسيا وأوكرانيا معًا أكثر من ثلث
صادرات الحبوب العاملية .ويف ضوء تطورات األزمة ،ارتفعت أسعار املواد األساسية بما يف ذلك السلع الزراعية ،خاصة
القمح والذرة بنسب تفاوتت بين %40إلى .%60وتشير التوقعات إلى أن اإلمدادات العاملية من املنتجات الزراعية
الرئيسية (القمح ،الشعير ،الذرة ،زيت عباد الشمس) ستنخفض بنسبة تتراوح بين %10و.%50
-أزمة الالجئين األوكرانيين :حيث غادر نحو 4ماليين شخص أوكرانيا منذ بدء الحرب يف أوكرانيا ،وفقًا لتقديرات األمم
املتحدة .وهي أرقام مرشحة للزيادة كلما طال أمد الحرب ،وتشير التقديرات إلى أن جهود إغاثة الالجئين األوكرانيين
تتطلب نحو 30مليار يورو ( 32.7مليار دوالر) خالل العام األول فقط.
-تضرر قطاع الطيران والسياحة مع حظر الرحالت الجوية بين روسيا والدول األوروبية ،كما تُعد روسيا ثالث أكبر مصدر
للسياحة يف أوروبا بجانب تضرر العديد من قطاعات التصنيع ،والبنوك والخدمات املالية(.)23
وميدانيًّا ،تخلَّت أملانيا عن نهج "التريث يف تعزيز قدراتها العسكرية" ردًّا ىلع الغزو الروسي ألوكرانيا ،وبالرغم من
الحظر الذي تفرضه أملانيا ىلع تصدير األسلحة الفتاكة إلى مناطق النزاع ،أعلنت الحكومة األملانية ،يف 27
فبراير/شباط ،2022أنها بصدد تسليم أوكرانيا ألف صاروخ مضاد للدبابات و 500صاروخ "ستنجر" من مخزون الجيش
األملاني .واتجهت لتعزيز قواتها املنتشرة شرقًا يف إطار حلف شمال األطلسي ،السيما يف سلوفاكيا .وال يقتصر األمر
يف هذا التحول االستراتيجي ىلع نظرة أملانيا لذاتها ،ولكن أيضًا ىلع نظرة األوروبيين للقوة األملانية ،ففي عام
،2011قال رادوسالف سيكورسكي ،وزير الدفاع والخارجية السابق لبولندا :إن خويف من قوة أملانيا أقل كثيرًا من خويف
من بقاء أملانيا يف حالة من الخمول" .لكن غزو بوتين ألوكرانيا يمثِّل اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها أوروبا تشعر
باالرتياح تجاه القوة العسكرية األملانية(.)25
وتكمن املعضلة األمنية األوروبية يف كون االرتدادات العكسية الناتجة عن فرض العقوبات ىلع روسيا كبيرة ،مقارنة
مع ارتداداتها ىلع واشنطن بحكم االرتباطات الجغرافية والديمغرافية واالقتصادية واألمنية .ومن ثم ،إذا كانت األزمة
األوكرانية قد تحقق لواشنطن العديد من األهداف االستراتيجية ،مثل تأزيم العالقات بين موسكو ودول االتحاد األوروبي،
وإعادة تقييم العالقات الروسية-األوروبية ،ووضع حدٍّ لطموحات الرئيس الروسي ،فالديمير بوتين ،يف التمدد الخارجي
والهيمنة ىلع أوروبا عبر استراتيجية دبلوماسية الغاز ،فإن هذه األزمة يمكن أن تشكِّل منعطفًا فاصالً لألمن األوروبي،
وتؤدي إلى تغيير جذري يف االستراتيجيات األمنية األوروبية .وكلما طال أمد األزمة واستمر تدفق الالجئين األوكرانيين
إلى دول االتحاد األوروبي ،استمر استنزاف موارد وقدرات االتحاد األوروبي ،خاصة أن أوروبا ليست مستعدة لتداعيات
استمرار الحرب يف مجالي الطاقة واالقتصاد وكذلك الالجئين(.)26
تمثِّل الحرب الروسية -األوكرانية يف أحد أبعادها تعبيرًا عن تنافس بين إمبراطوريتين ،األولى تفكَّكت (االتحاد
السوفيتي) وتخشى وريثتها (روسيا االتحادية) من استمرار التفكُّك ،والثانية تتراجع (الواليات املتحدة)( ،)27وكل منهما
تسعى لتوظيف األقاليم الجيوستراتيجية لصالحها :رُوسِيًّا ،ملنع استمرار التفكُّك يف الداخل ،وأميركيًّا ،ملنع تسارع
التراجع وتعزيز الحضور يف أوروبا.
ولكن يف املقابل ،يتنامى الشعور بين النظم السياسية يف إقليم الشرق األوسط بتراجع السياسة األميركية ،كما برز
يف الخطة االستراتيجية إلدارة جو بايدن ،)28(2021 ،ومن شأن استمرار األزمة األوكرانية تعميق هذا التراجع ،مما سيؤثر
ىلع عالقات الوحدات داخل اإلقليم ،وكذلك ىلع درجة استجابة بعض هذه الوحدات للمطالب األميركية بخصوص
األزمة األوكرانية(.)29
وإذا كان هذا بشأن التحدي الذي يواجه الواليات املتحدة يف املنطقة ،فإن السياسة الروسية تواجه تحديًا من نوع
مختلف ،يتمثَّل يف مدى قدرتها ىلع التوفيق بين تناقضات األطراف اإلقليمية يف الشرق األوسط ،ومن ذلك "التناقض
بين املصالح الروسية واملصالح اإليرانية واإلسرائيلية" ،و"التناقضات الخليجية-اإليرانية" ،و"املتطلبات األمنية
اإلسرائيلية ،واملتطلبات األمنية السورية" ،و"االلتزامات الروسية تجاه فلسطين وإسرائيل".
هذا بجانب التناقض يف خريطة العالقات الروسية-العربية ،فالدول العربية ،من حيث هذه العالقات ،تتوزع إلى
مجموعتين :األولى هي تلك الدول األكثر استيرادًا للسلع املدنية الروسية (وهي بالترتيب :مصر ،واملغرب ،واإلمارات،
والسعودية ،وتونس ،واألردن ،و قطر) ،والثانية هي األكثر استيرادًا للسلع العسكرية الروسية (وتأتي سوريا ىلع رأس
قائمة الدول املستوردة للسالح الروسي بنسبة %95من أسلحتها ،تليها الجزائر بنسبة ،%81ثم العراق بمعدل ،%44
تليها مصر ،%41ثم اإلمارات العربية املتحدة بنسبة .)%3ويبلغ حجم مبيعات الروس من السالح للدول العربية بين
2021-2017نحو %21من إجمالي مبيعاتها( ،)30وإذا كانت العقوبات االقتصادية ىلع روسيا ستشمل السلع املدنية
أكثر من السلع العسكرية ،فإن حاجة روسيا للدول العربية املستوردة للسلع املدنية ستكون أكبر من حاجتها للدول
املستوردة للسلع العسكرية ،وهو ما قد يؤثر ىلع بعض توجهاتها املستقبلية يف املنطقة(.)31
يمكن التمييز يف إطار هذه املسارات بين مجموعة مستويات أساسية ،بناء ىلع األركان األربعة التي يقوم عليها
النسق الدولي (الوحدات الدولية ،البنيان الدولي ،املؤسسية الدولية ،العمليات الدولية):
جاءت الحرب الروسية-األوكرانية لتضع مستقبل روسيا أمام العديد من االحتماالت ،فعلى الرغم من الخسائر الواسعة
التي تلحق بها بسبب قرار الرئيس بوتين التدخل يف أوكرانيا ،فإن احتمال سقوط النظام الروسي ،رغم أنه قائم ،قد
يكون صعبًا يف املدى القصير الستبعاد اإلطاحة بـبوتين بانقالب يف القصر ،ولصعوبات إزاحة النخبة الحالية
باالحتجاجات الجماهيرية ،يف ظل السياسات القمعية التي تبناها بوتين داخليًّا وخارجيًّا يف دعم حلفائه يف
بيالروسيا وكازاخستان وسوريا(.)32
ومن ناحية ثانية ،عن روسيا الدولة وليس النظام ،يرى جون ميرشايمر ( )John Mearsheimerأن روسيا قوة عظمى،
وبالرغم من أنها منحازة اآلن إلى الصين ،فمن املحتمل أن تُحوِّل جانب االنحياز مع الوقت وتتحالف مع الواليات املتحدة،
ألن قوة الصين املتزايدة ،تعتبر أعظم تهديد لروسيا نظرًا لتقاربهما الجغرايف .وإذا ما ذهبت موسكو وواشنطن إلى
صياغة عالقات متقاربة ،بسبب خوفهما املتبادل من الصين ،فسيتم إدماج روسيا ىلع نحو سهل يف النظام املحدود
الذي تقوده الواليات املتحدة .أما إذا ما استمرت موسكو يف الحفاظ ىلع عالقات ودية مع الصين بسبب خوفها من
الواليات املتحدة أكثر من خوفها من الصين ،فسوف يحدث إدماج روسيا ىلع نحو سهل يف النظام املحدود الذي
تقوده الصين .ولكن يبقى احتمال آخر يتمثَّل يف أن روسيا لن تصطف إلى أحد الطرفين وتبقى ىلع الهامش ،وتعمل
ىلع االستفادة من تنافسهما معًا يف اكتساب نقاط تعزز من قدراتها التنافسية والتفاوضية معهما معًا ،سعيًا نحو
استكمال بنيتها القطبية(.)33
هنا ،سيكون م ن املهم التفكير يف سيناريو نظام عاملي تسيطر فيه روسيا بشكل فعال ىلع جزء كبير من أوروبا
الشرقية ،وتسيطر الصين ىلع جزء كبير من شرق آسيا وغرب املحيط الهادئ .وسيتعين ىلع األميركيين وحلفائهم
يف أوروبا وآسيا أن يقرروا ،مرة أخرى ،ما إذا كان هذا العالم مقبوالً ،ألن هذا يعني نهاية النظام العاملي الحالي و"بداية
حقبة من الفوضى والصراع العامليين؛ حيث تتكيف كل منطقة يف العالم بشكل غير مستقر مع التكوين الجديد
للقوة"(.)34
وفيما يتعلق بمسارات مستقبل الدور الروسي ،تبرز قضية موقع روسيا يف مجلس األمن ،بعد أن هدَّد الغرب بتجريدها
من عضويتها الدائمة يف مجلس األمن .وإذا كان طرد روسيا أو تجميد عضويتها يف مجلس األمن أو حقها يف التصويت
يواجه صعوبات حقيقية ،فإن هناك مسارات بديلة ال تعني بالضرورة تجميد عضويتها ،منها إمكانية الطلب من روسيا
االمتناع عن التصويت ىلع قرار مجلس األمن ،ألنه متعلق بعدوانها(.)35
وقد أشارت أوكرانيا إلى أن الجمهوريات املكوِّنة التحاد الجمهوريات السوفيتية أعلنت يف عام 1991أن االتحاد
السوفيتي لم يعد موجودًا ،وكان ينبغي أن يكون معها الحق القانوني ألي من هذه الكيانات ،بما يف ذلك روسيا ،يف
الحصول ىلع املقعد وليس فقط روسيا .ولم يُعرض ىلع الجمعية العامة أي قرار بالسماح لروسيا بعضوية مجلس
األمن .ولم يجرِ تعديل ميثاق األمم املتحدة أبدًا بعد تفكُّك االتحاد السوفيتي .وال تزال املذكِّرة تشير إلى االتحاد
السوفيتي ،وليس روسيا ،كأحد األعضاء الدائمين يف مجلس األمن التابع لألمم املتحدة(.)36
وبالنسبة ألوكرانيا ،باعتبارها أهم الوحدات الدولية ،املرتبطة بهذه األزمة ،فإن أحد املسارات املستقبلية املطروحة
لها هو التقسيم ،ويقوم هذا املسار ىلع استمرار العملية العسكرية وتصعيد الهجمات ،والتفاوض حول تقسيم
أوكرانيا أو تغيير نظام الحكم لـ"حكم فيدرالي" ،واقتطاع مدن استراتيجية لضمها لدونباس ،مثل مدينتي ماريوبول يف
أقصى الجنوب ىلع بحر أزوف ،ومدينة أوديسا ىلع البحر األسود ،ألنهما -وفق القناعة الروسية -جزء من التقسيم
اإلداري إلقليم دونباس(.)37
وبالنسبة ملستقبل أوروبا ،يرى ميرشايمر أنه من املرجَّح أن تصير أغلب البلدان يف أوروبا ،السيما القوى األساسية،
جزءًا من النظام املحدود بقيادة الواليات املتحدة ،رغم أنه من غير املرجَّح أن تلعب دورًا عسكريًّا جديًّا يف احتواء
الصين .فليس لها القدرة ىلع تصدير قوة عسكرية جوهرية تجاه شرق آسيا ،كما أن الصين ال تُمثِّل تهديدًا مباشرًا
ألوروبا ،وألن األمر يبدو أكثر منطقية بالنسبة ألوروبا يف ترحيل املسؤولية إلى الواليات املتحدة وحلفائها اآلسيويين
إال أن صنَّاع السياسة األميركية سوف يريدون األوروبيين داخل نظامهم املحدود ألسباب اقتصادية وأمنية واستراتيجية؛
حيث ت حرص الواليات املتحدة ىلع منع البلدان األوروبية من بيع التكنولوجيات ذات االستخدام املزدوج للصين
واملساعدة يف فرض ضغوط اقتصادية عليها حينما يتطلب األمر ذلك .يف املقابل ،سوف تبقى القوات العسكرية
األميركية يف أوروبا ،محافظة ىلع الناتو حيًّا ومستمرة يف العمل باعتبارها صانع السالم يف املنطقة(.)38
ثانيًا :الحرب الروسية-األوكرانية ومستقبل النظام الدولي
جاءت األزمة األوكرانية ، 2022 ،وسط صراع متعدد الجبهات عبر العديد من األقاليم ،سعت فيه روسيا إلى إعالن تحدي
الغرب والتصدي الستراتيجية الناتو يف شرق أوروبا ،ومحاولة فرض ذلك بالقوة العسكرية ،لتعزيز مكانتها يف ظل
إعادة تموضع استراتيجي أميركي وانسحابات عسكرية أميركية من عدة مناطق ،مقابل تمدد الصين التي باتت تمثِّل
مركز االهتمام االستراتيجي للواليات املتحدة وحلفائها الغربيين أمام سعيها الحثيث خالل العقد األخير نحو تحصين
موقفها الدولي وتعزيز تحالفاتها ووضع أسس لنظام دولي جديد تكون لها فيه مساهمة أكبر يف إدارة املشهد
الدولي ،وخاصة مع مركزية دور الصين يف التحركات الروسية ضد الغرب(.)39
وقد ذهب ميرشايمر إلى أنه من املرجَّح أن تكون هناك ثالثة أنظمة واقعية مختلفة يف املستقبل املنظور :نظام
دولي هزيل ونظامان محدودان قويان ،أحدهما يُقاد من طرف الصين ،واآلخر يُقاد من طرف الواليات املتحدة .وسوف
يكون النظام الدولي الهزيل مهتمًّا أساسًا باإلشراف ىلع اتفاقيات الحد من التسلح وجعل االقتصاد العاملي يعمل
بفعالية ،ويمنح اهتمامًا جديًّا بمشكالت متعلِّقة بالتغيُّر املناخي ،وسوف تركِّز املؤسسات التي تشكِّل النظام الدولي
بتسهيل التعاون البيني بين الدول.
وسوف يكون هناك ملمحان أساسيان للعالم الجديد متعدِّد األقطاب يشكِّالن ىلع نحو عميق األنظمة الصاعدة:
-امللمح األول :أنه بافتراض استمرار الصين يف صعودها ،فإنها ستنخرط يف منافسة أمنية شديدة مع الواليات
املتحدة ،وسيكون ذلك بمنزلة السمة املركزية للسياسة الدولية ىلع مدار القرن الحادي والعشرين ،وسيقود هذا
التنافس إلى خلق أنظمة محدودة يُهيمَن عليها من طرف الصين والواليات املتحدة .وستكون التحالفات العسكرية
املركَّب املركزي لهذين النظامين ،وهما اآلن بصدد التشكُّل وسيشبه ذلك النظامين اللذين قادهما االتحاد السوفيتي
والواليات املتحدة خالل مرحلة الحرب الباردة .إال أن الصين والواليات املتحدة سوف يكون لهما يف بعض األحيان
أسباب تدفعهما للتعاون يف مسائل عسكرية بعينها ،وهو مسعى سوف يقع يف نطاق اختصاص النظام الدولي،
كما كان من قبل أثناء الحرب الباردة؛ حيث سيكون التركيز بالدرجة األولى ىلع اتفاقيات الحد من األسلحة ،وستنخرط
روسيا يف هذا املسعى كما ستفعل الصين والواليات املتحدة .ومن املرجَّح أن تظل املعاهدات واالتفاقيات املوجودة
التي تتعامل مع مسألة االنتشار النووي يف مكانها ،نظرًا ألن كل القوى العظمى الثالث تريد الحد من انتشار األسلحة
النووية .لكن سيكون ىلع األطراف الثالثة التفاوض ىلع معاهدات جديدة تحد من ترسانتهما العسكرية ،مثلما فعلت
القوتان العظميان أثناء الحرب الباردة.
-امللمح الثاني :وجود قدر ضخم من التواصل االقتصادي بين الصين والواليات املتحدة ،وبين الصين وحلفاء الواليات
املتحدة يف شرق آسيا ،كما أن الصين والواليات املتحدة أيضًا تُتاجران وتستثمران عبر كل أنحاء العالم .وليس من
املرجَّح أن تُقلِّص املنافسة األمنية بين النظامين املحدودين هذه التدفقات االقتصادية ،فاملكاسب املتأتية من
التجارة املستمرة مهمة ومطلوبة ،حتى لو حاولت الواليات املتحدة الحد من تجارتها مع الصين ،فبإمكان األخيرة أن
تُعوِّض ذلك من خالل تجارتها مع الشركاء اآلخرين.
لذلك ،ذهب ميرشايمر إلى القول :إنه من املرجَّح أن يشبه املستقبل الوضع يف أوروبا قبل الحرب العاملية األولى؛
حيث كان هناك تنافس أمني شديد بين الحلف الثالثي (النمسا-املجر وأملانيا وإيطاليا) والوفاق الثالثي (بريطانيا
العظمى وفرنسا وروسيا) ،لكن كان هناك قدر هائل من التفاعل االقتصادي بين هذه البلدان بشكل عام.
والنتيجة النهائية أن التنافس بين النظامين املحدودين اللذين تقودهما الصين والواليات املتحدة ،سوف يُورِّط كليهما
يف منافسة اقتصادية وعسكرية تامة ،مثلما كانت الحال مع النظامين املحدودين اللذيْن هيمنت عليهما موسكو
وواشنطن أثناء الحرب الباردة .ويكمن االختالف الكبير هنا يف أن النظام الدولي سوف يكون منخرطًا بعمق يف إدارة
جوانب التنافس يف االقتصاد العاملي ،وهو األمر الذي لم يكن موجودًا أثناء الحرب الباردة(.)40
كشف الغزو ا لروسي ألوكرانيا عن العديد من نقاط الضعف يف النظام الدولي القائم ،وخاصة يف مجلس األمن التابع
لألمم املتحدة ودوره يف اإلشراف ىلع النظام الدولي القائم؛ حيث أظهرت األزمة األوكرانية أن حق النقض لألعضاء
الخمسة الدائمين يف مجلس األمن يمثِّل عائقًا كبيرًا أمام السالم ،وكان منذ البداية عقبة رئيسية أمام استكمال
الهيئة ملهمتها .وذلك راجع لكون الدول الخمس غالبًا ما تنقسم إلى كتل جيوسياسية متنافسة ،فيمارس عضو يف
كتلة واحدة حق النقض (الفيتو) ىلع العديد من القرارات الحاسمة .ففي سياق الصراع الحالي يف أوكرانيا ،يعني حق
النقض الروسي يف مجلس األمن أن الواليات املتحدة وحلفاءها ال يمكنهم فرض عقوبات إال من خالل "تحالف
الراغبين" .صحيح أن كُبر عدد البلدان وانتشار نظام املدفوعات القائم ىلع الدوالر خارج الحدود اإلقليمية ألميركا يمنح
العقوبات التي تفرضها الواليات املتحدة نفوذًا هائالً .ومع ذلك ،يف هذه الحالة كما يف حاالت أخرى ،سيزيد نظام
العقوبات العاملية الذي يفرضه مجلس األمن من تقويض االقتصاد الخاضع للعقوبات.
ومن جانب آخر ،إذا كان مجلس األمن يقع يف قلب النظام متعدد األطراف اليوم ،فإنه يواجه تحديات حقيقية ،بالنظر
إلى النطاق املتزايد ل لتهديدات التي يواجهها السالم واألمن .وال تقتصر هذه التهديدات ىلع األعمال العدوانية
التقليدية من النوع الذي يشهده العالم يف أوكرانيا ،والتي يمكن أن تتصاعد إلى تبادالت نووية ،بل تشمل أيضًا
التهديدات األمنية األخرى التي تشكِّلها التقنيات الجديدة .لذلك يبرز -ضمن مقترحات تغيير طريقة عمل مجلس
األمن -اقتراح إمكانية ردِّ حق النقض لعضو دائم عن طريق إضافة بند إلى املادة ( )27من شأنه أن يسمح بأغلبية
كبيرة ،تمثِّل ثلثي البلدان األعضاء ،تتجاوز حق النقض(.)41
بناء ىلع التداعيات التي أفرزتها الحرب الروسية-األوكرانية ،تبرز عدة مسارات مستقبلية ألنماط العمليات الدولية ،من
بينها:
فقد عمل الغرب ىلع توظيف التدخل العسكري الروسي يف أوكرانيا ،واستفاد منه جماعيًّا ىلع عدة مستويات؛ منها:
أ -تذكير طريف األطلسي بأهدافهما املشتركة :فقد ساعدت العملية الروسية يف أوكرانيا ىلع تذكير الواليات
املتحدة وأوروبا بأهدافهما العاملية املشتركة ،وبلورة هذه األهداف مجددًا يف إطار إعالء القيم الديمقراطية ،التي
مثَّل التدخل الروسي تحديًا لها ،وهو ما كان حافزًا ملظاهر عدة من التضامن بين القوى الغربية والدولية .وجاء يف إطار
ذلك موافقة أملانيا ىلع زيادة اإلنفاق الدفاعي إلى %2من الناتج املحلي اإلجمالي ،وتعهُّد اليابان بقبول الالجئين
األوكرانيين ،وتحرُّك بريطانيا إلخضاع ثروات املغتربين من األوليغارشية الروسية لرقابة جادة .وعملت الواليات املتحدة
واالتحاد األوروبي جنبًا إلى جنب لفرض عقوبات متصاعدة ىلع روسيا.
ب -تحفيز الغرب ىلع حماية قواعد النظام الدولي :كان التدخُّل سببًا كذلك لتحفيز الغرب ،وبشكل فعَّال ،ىلع الدفاع
عن قواعد وقيم ومؤسسات نظام الحرب العاملية الثانية ،التي عرَّف بوتين نفسَه بأنه معارض لها؛ ذلك أن التدخُّل
الروسي مثَّل تحديًا لنظام األمم املتحدة التي يقوم ميثاقها ىلع احترام السيادة ،وتحديًا ألوروبا التي يسعى بوتين
إلى إعادة ترسيم حدودها ،وتهديدًا لحكم القانون.
ج -اتجاه "الناتو" نحو تعزيز جناحه الشرقي :فتدخل روسيا يف أوكرانيا دفع الحلف إلى االتجاه نحو تقوية جناحه
الشرقي؛ ونظرًا إلى أن تدخل بوتين يف دولة مستقلة ذات سيادة لم يكن متوقعًا من قبل؛ ومع احتمال تحول مركز
األزمة مستقبالً من أوكرانيا إلى دول البلطيق ،وكذلك إلى بولندا والدول األخرى التي ستشكِّل الحدود الجديدة للغرب
يف مواجهة روسيا ،فسيمثِّل ذلك حافزًا للواليات املتحدة وحلفائها يف "الناتو" ىلع إرسال املزيد من القوات
واملعدات العسكرية إلى تلك الدول الواقعة ىلع خط املواجهة.
د -التضامن لتوثيق "جرائم الحرب" املحتملة :حيث أطلقت إدارة جو بايدن حملة جديدة لتوثيق "جرائم الحرب"
املحتملة التي ارتكبتها القوات الروسية التي دخلت أوكرانيا ،ونجحت يف إطار ذلك يف تحقيق التوافق بين 45دولة
من أصل 57دولة عضوًا يف "منظمة األمن والتعاون يف أوروبا" ) (OSCEضد روسيا وحليفتها بيالروسيا ،عندما جرت
املوافقة ،يف 3مارس/آذار ،2022ىلع خطط إلرسال فريق من خبراء املنظمة لتوثيق جرائم الحرب املحتملة .وهذا
العدد الكبير يمثِّل توافقًا لم يسبقه مثيل؛ فعدد الدول التي دعمت إنشاء هذه اآللية بعد االنتهاكات املروعة لحقوق
اإلنسان يف بيالروسيا ،يف أغسطس/آب عام ،2020كانت 17دولة ،وشكَّل ذلك حينها توافقًا كان هو األكبر ،ومن ثم
فإن االنتقال من 17إلى 45يوضح مدى انعزال روسيا وبيالروسيا ىلع املسرح الدولي(.)42
إن الحرب يف أوكرانيا تُظهِر أن تحمُّل أوروبا مسؤولية أكبر عن أمنها ليس أمرًا مرغوبًا فيه فحسب ،بل ممكنًا أيضًا .لقد
كانت الحرب بمنزلة جرس إنذار لألوروبيين الذين اعتقدوا أن نشوب حرب كبيرة يف قارتهم أصبح مستحيالً بسبب
القواعد ضد الغزو واملؤسسات الدولية واالعتماد االقتصادي املتبادل والضمانات األمنية األميركية .إن تصرفات روسيا
تمثِّل تذكيرًا بأن القوة التي ال تُقهر ال تزال شديدة األهمية ،وأن دور أوروبا الذي تنسبه لنفسها باعتبارها "قوة مدنية"
ليس كافيًا ،غير أن استجابة الحكومات األوروبية بقوة للدفاع عن أمنها يدحض التنبؤات بأن التنافر االستراتيجي داخل
أوروبا قد يمنع القارة من االستجابة ىلع نحو فعَّال للتهديد املشترك.
إن أوروبا يمكنها التعامل مع التهديد الروسي املستقبلي بمفردها ،ولدى أعضاء الناتو األوروبيين إمكانات قوة كامنة
تفوق التهديد الذي يواجه شرقهم ،ولديهم ما يقرب من أربعة أضعاف عدد سكان روسيا وأكثر من 10أضعاف ناتجها
املحلي اإلجمالي .وحتى قبل الحرب ،كان األعضاء األوروبيون يف الناتو ينفقون بين ثالثة وأربعة أضعاف ما تنفقه
روسيا ىلع الدفاع كل عام .ومع الكشف عن قدرات روسيا الحقيقية ،يجب أن تزداد الثقة يف قدرة أوروبا ىلع الدفاع
عن نفسها زيادة كبيرة .لذلك تُعد الحرب يف أوكرانيا لحظة مثالية للتحرُّك نحو تقسيم جديد للعمل بين الواليات
املتحدة وحلفائها األوروبيين ،وأيضًا لحظة تكرِّس فيها الواليات املتحدة اهتمامها آلسيا بينما يتحمل الشركاء
األوروبيون املسؤولية األساسية يف الدفاع عن أنفسهم .لذا يجب ىلع الواليات املتحدة التخلي عن معارضتها طويلة
األمد لالستقالل األوروبي ،ومساعدة شركائها ىلع تحديث قواتهم ،وأن يكون القائد األىلع لحلف الناتو القادم جنراالً
أوروبيًّا ،ويجب ىلع قادة الواليات املتحدة أال ينظروا إلى دورهم يف الناتو ىلع أنهم أول املستجيبين ،ولكن
باعتبارهم خط الدفاع األخير.
م ع لزوم تسليم مسؤولية أمن أوروبا إلى األوروبيين تدريجيًّا ،وىلع املدى الطويل ،ستسعى الواليات املتحدة وحلف
شمال األطلسي واالتحاد األوروبي أيضًا إلى بناء نظام أمني أوروبي -قد ال يستبعد روسيا -لتعزيز االستقرار يف أوروبا
وإلبعاد موسكو عن االعتماد املتزايد ىلع الصين .وينتظر هذا التطور وجود قيادة جديدة يف موسكو(.)43
إن حرب روسيا يف أوكرانيا ستُغيِّر التصورات الجيوسياسية أكبر بكثير من تغييرها للواقع الجيوسياسي ،ويف حين أن
روسيا تحت حكم الرئيس ،فالديمير بوتين ،تُشكِّل تحديًا قصير املدى ،ستظل الصين تمثِّل التهديد الكبير ىلع املديين
املتوسط والطويل .فالتهديد القادم من الصين جذري ،ألن الصين تعمل ىلع تضييق فجوة القوة مع الواليات املتحدة،
وستحاول الصين التصرف باعتبارها دولة أكثر مسؤولية حتى يف الوقت الذي تتقرب فيه من روسيا ،وقد تؤكد الصين
أنها ليست دولة خارجة عن القانون ،مثل روسيا ،بينما تضاعف من جهودها يف إنشاء مجال نفوذ من خالل اإلكراه غير
العسكري ،كما تفعل يف الواقع.
ويف الوقت الذي يجب أن تعطي فيه الواليات املتحدة األولوية ملواجهة الصين ،يجب كذلك أن تهتم بالجبهة
األوروبية يف مواجهة محاولة روسيا إعادة إنشاء دائرة نفوذها من خالل استخدام القوة ،وليس أمام الواليات املتحدة
خيار سوى مواجهتها بالقوة .وحتى أوروبا ،التي حاولت االبتعاد خالل السنوات املاضية عن الواليات املتحدة ،أعادت
اكتشاف حقيقة أن القوة األميركية ال يمكن االستغناء عنها.
وإذا كانت الواليات املتحدة ال تملك حاليًّا القدرات العملياتية اللتزام كامل طويل األمد بقضيتين كبيرتين يف مواجهة
روسيا والصين ،فإن الواقع الجيوسياسي يفرض عليها ذلك ،ولن يكون أمام حلفائها وشركائها ىلع جبهتي أوروبا
والهند واملحيط الهادئ خيار سوى إلزام أنفسهم بنشاط أكبر يف إدارة هاتين القضيتين ،وخاصة يف ظل وجود دعم
مشترك بين الصين وروسيا إلعادة رسم الخرائط اإلقليمية وإعادة كتابة قواعد النظام الدولي بدالً من العمل ىلع كسب
النفوذ من داخل املؤسسات القائمة.
وإذا كانت واشنطن تواجه اآلن تحديات صين ية وروسية ،فإنه يجب عليها بالضرورة تمكين حلفائها وتجديد ترتيبات
تقاسم األعباء يف آسيا وأوروبا .وتساعد استراتيجية إدارة بايدن الكبرى ىلع القيام باألمرين من خالل تركيزها الخاص
طورت الواليات املتحدة
ىلع بناء العمل الشبكي للشراكات املرنة واملؤسسات والتحالفات ومجموعات الدول؛ حيث َّ
تشكيالت (خمسة -أربعة -ثالثة -اثنان) يف آسيا بدأت بتعزيز التحالف االستخباراتي "خمس أعين" ( )FVEYإلى نشر
الحوار األمني الرباعي ،وتوقيع االتفاقية األمنية الثالثية "أوكوس" ( )AUKUSثم تعزيز التحالفات العسكرية الثنائية
تعزيزًا للعمل الشبكي إلدارة بايدن يف آسيا.
وإذا كانت األطراف اآلسيوية واألوروبية ال تستطيع تحقيق التوازن يف مواجهة الصين وروسيا بمفردها يف املستقبل
املنظور ،فإنها تساعد يف تعزيز الدعم السياسي املحلي للواليات املتحدة من أجل استمرار االلتزام العسكري يف
املنطقتين .ومن خالل تعزيز دور أكبر لحلفائها وزيادة تفعيل موقفهم السياسي ،يمكن لواشنطن بناء توازنات إقليمية
دائمة للقوى يف آسيا وأوروبا ،مدعومة بالقوة العسكرية األميركية .وهذا قد يجبر بكين وموسكو ىلع تبنِّي نهج أكثر
منطقية مع جيرانهما(.)44
خاتمة
يف إطار امل حاور التي تناولتها الدراسة ،ويف ظل تطورات ومعطيات وسياقات األزمة األوكرانية ،2022يمكن الوقوف
ىلع عدد من الخالصات األساسية:
أوالً :فيما يتعلق بالوحدات الدولية ،كشفت األزمة األوكرانية عن حدود وطبيعة الدور الذي يمكن أن تقوم به األطراف
األساسية يف النظام الحالي ،مثل روسيا االتحادية التي حركت األحداث وكانت املبادر بالفعل يف الكثير من تحوالتها،
سواء يف مرحلة ما قبل الحرب أو أثناء الحرب .ويف املقابل ،برز دور الواليات املتحدة األميركية وحلفائها؛ حيث وجدت
يف الحرب تهديدًا كبيرًا للكثير من قيمها ومبادئها ونموذجها الحضاري ،بل ويف مرحلة من مراحل الحرب ،وجدت
فيها تهديدًا حقيقيًّا لوجود العديد من الدول واألطراف يف املعسكر الغربي ،ويف مقدمتها دول أوروبا الشرقية سواء
التي انضمت إلى االتحاد األوروبي أو إلى حلف الناتو بعد تفكك وانهيار االتحاد السوفيتي.1991 ،
ويف إطار الوحدات الدولية يف مرحلة ما بعد األزمة األوكرانية ،يمكن القول :إن هناك احتماالت قوية بظهور دول
جديدة ،وقد تختفي دول بحدودها التي كانت قائمة قبل األزمة ،وقد نشهد اتجاهًا نحو بناء تحالفات جديدة قد تصل
يف بعضها إلى درجة االندماج ،وخاصة بين بعض دول شرق أوروبا (بولندا ،إستونيا ،التفيا ،ليتوانيا) التي قامت بتفعيل
املادة ( )4من ميثاق حلف الناتو فيما بينها ،أمام ما وجدته من تهديدات وجودية ألمنها واستقرارها.
ثانيًا :فيما يتعلق بالبنيان الدولي ،قد تدفع تداعيات األزمة إلى تغير جذري يف بنية النظام الدولي الراهن ،ولكن من
وجهة نظر الباحث ،باتجاه نظام غربي أكثر هيمنة وأحادية ،يف ظل األضرار الكبيرة التي ستطول روسيا وحلفاءها يف
املواجهة الحالية إذا طال أمد الحرب يف أوكرانيا .فالعقوبات االقتصادية التي فُرضت ىلع روسيا يمكن أن تعود بها
ملا كانت عليه عام ، 1999ولن يساعدها االرتفاع الكبير يف أسعار النفط والغاز ،أهم مصادر دخلها القومي ،يف ظل
العقوبات املفروضة عليها ،من الدول والشركات العمالقة واملؤسسات املالية واالقتصادية الضخمة .وال يعتقد الباحث
أن الصين يمكن أن تتورَّط يف تقديم دعم عسكري مباشر لروسيا ،يف حال تمددت الحرب خارج املسرح األوروبي ،ألنها
أكثر حرصًا ىلع الحفاظ ىلع مقدراتها وتأمين نموذجها ىلع األقل مرحليًّا ،حتى تحتوي التداعيات املباشرة لألزمة
األوكرانية.
ثالثًا :فيما يتعلق باملؤسسية ،سواء التنظيمية أو القانونية واملعيارية ،واتساقًا مع املالحظة السالفة ،يُمكن القول:
إن العالم بعد األزمة األوكرانية ،سيتجه نحو مزيد من هيمنة املؤسسات الغربية ،وهذا ما اتضح جليًّا يف األزمة؛ حيث
تحركت معظم املؤسسات السياسي ة واالقتصادية واألمنية والعسكرية بل والصحية والرياضية والشركات الفنية
واإلعالمية -بدرجة كبيرة من التنسيق يف توجهاتها وممارساتها وإجراءاتها -ضد روسيا وسياساتها وحلفائها .وجرى
حشد األغلبية العظمى من الهيئات واملؤسسات والشركات التابعة للمنظومة الغربية يف مواجهة السياسات
الروسية ،وكان يف مقدمة هذه املؤسسات منظومة األمم املتحدة ،والناتو واالتحاد األوروبي ومحكمة العدل الدولية،
واملحكمة الجنائية الدولية ،واملؤسسات املالية الدولية ،بل وتوجيه رسائل نصية وخطابات رسمية ملعظم النظم
السياسية يف العالم ،بتحديد مواقفها من الغزو الروسي ألوكرانيا.
رابعًا :فيما يتعلق بالعمليات الدولية يف مرحلة األزمة األوكرانية وما بعدها ،فإنها تقوم ىلع الجمع بين أقصى أشكال
التعاون داخل املنظومة الغربية (وحدات ومؤسسات) ،وأقصى أشكال الصراع بين املنظومة الغربية ومن يدور يف
فلكها من ناحية ،وروسي ا االتحادية ومن يدور يف فلكها من ناحية ثانية .وستستمر هذه الثنائية (التعاون+الصراع)
عدة سنوات حتى تعود بنية النسق الدولي إلى حالة من االستقرار املؤقت قبل أن تبدأ موجة صراعية جديدة مع
بقايا روسيا االتحادية أو مع الصين التي تنتظر الفرصة للقفز ىلع قمة النظام الدولي.
خامسًا :التأكيد ىلع أن التحوالت والتطورات التي تحدث يف بنية النظام الدولي تنعكس بالتبعية ،سلبيًّا وإيجابيًّا،
ىلع كل األنظمة اإلقليمية الفرعية التي يقوم عليها هذا النظام ،ومن بينها النظام اإلقليمي للشرق األوسط .وهذا
يرتبط بطبيعة الحال بدرجة السيولة والتداخل الكبيرين بين الدولي واإلقليمي ،بل والدولي واملحلي يف العديد من
األزمات اإلقليمية ،كما يرتبط بأنماط التفاعالت التي تربط بين األطراف املحلية واإلقليمية والدولية ،وطبيعة هذه
التحالفات ومتانتها ،واألطر والضوابط الحاكمة لها .وهو ما يعني إمكانية تعرُّض بعض األطراف اإلقليمية لضغوط
وعقوبات سياسية واقتصادية وأمنية إذا حاولت أو فكرت يف تجاوز األدوار الوظيفية املرسومة لها سلفًا من جانب
الواليات املتحدة ،واملستقرة من عقود واقعًا.
نشرت هذه الدراسة يف العدد الرابع عشر من مجلة لباب ،لالطالع ىلع العدد كامالً (اضغط هنا)
مراجع
(1) Congressional Research Service, “Ukraine: Background and U.S. Policy,” congress.gov, November 1, 2017, “accessed
March 26, 2022”. https://bit.ly/3vpsKH8.
(2) North Atlantic Treaty Organization, “Comprehensive Assistance Package for Ukraine,” nato.int, July 9, 2016, “accessed
March 26, 2022”. https://bit.ly/3NKhmOm.
(3) International Republican Institute, “Ukraine Poll Shows Support for EU/NATO Membership, Concerns over Economy
and Vaccines for COVID-19,” iri.org, December 17, 2021, “accessed March 26, 2022”. https://bit.ly/3NHgY3g.
ج،)2002/2001 ، كلية االقتصاد والعلوم السياسية، (القاهرة، الدولة والعالقات الدولية: مقدمة يف علم السياسة، وآخرون،) حسن نافعة4(
.224-221 ص،2
"عصبة: وألفريد زيمرن صاحب كتاب، صاحب اقتراح إنشاء عصبة األمم، ودرو ويلسون،) أبرز مفكري املثالية هو الرئيس األميركي األسبق5(
( "األمم وسيادة القانونThe League of Nations and The Rule of Law.1936 الصادر يف،)
.204- 201 ص،)2007 شتاء،17 العدد، وزارة األوقاف والشؤون الدينية، مجلة التسامح (مسقط، الحوار بين األديان واألمم، هانز كينج:) انظر6(
(7) Chris Brawn, International Relations Theory: New Normative Approaches (New York: Simon & Schuster International
Group, 1992), 223-227.
: الكتاب األول بعنوان، ولكن سبقه كتابان مهَّدا لظهوره،1948 ) ظهر الكتاب يف8(
- Nicholas John Spykman, America’s Strategy in World Politics: The United States and the Problem of Power (New
York: Harcourt, Brace and Company, 1942).
- Hans J. Morgenthau, Scientific Man Vs. Power Politics (Chicago: University of Chicago Press, 1946).
"حتى عقد السبعينات كانت التقاليد البحثية للمدخل الواقعي تهيمن هيمنة كاملة ىلع كل الكتب:) يف تقدير كالفي هولستي9(
انظر، للتوسع."الدراسية يف العالقات الدولية يف الجامعات األميركية:
- Kalevi J. Holsti, The Dividing Discipline: Hegemony and Diversity in International Theory (Boston: Unwind Hyman,
1985), 11.
ىلع األقل من الدراسات التي تنجز يف حقل العالقات الدولية يف الواليات املتحدة تستخدم% 90 هذا بينما يؤكد جون فاسكويز أن
انظر، للتوسع.مسلَّمات املدخل الواقعي وتقاليده ومناهجه:
- John A. Vasquez, The Power of Power Politics: An Empirical Evaluation of the Scientific Study of International Relations,
(New Jersey: Rutgers University Press, 1983), 162-170.
(10) Stephen M. Walt, “An International Relations Theory Guide to the War in Ukraine-A consideration of which theories
have been vindicated—and which have fallen flat,” Foreign Policy, March 8, 2022, “accessed March 26, 2022”.
https://bit.ly/3qZhBve.
،)2022 آذار/ مارس26 : (تاريخ الدخول،2022 شباط/ فبراير23 ، فيسبوك،" السياق وأصوله: "األزمة األوكرانية،) أحمد مجاهد11(
https://bit.ly/3OfbUDu.
( )12منى سليمان" ،التداعيات واملسارات املحتملة للعملية العسكرية الروسية يف أوكرانيا" ،مجلة السياسة الدولية (القاهرة ،مركز األهرام
https://bit.ly/3tG3Lji.للدراسات السياسية واالستراتيجية) 26 ،فبراير/شباط ( ،2022تاريخ الدخول 27 :مارس/آذار ،)2022
(14) John Grady, “Massive U.S. Army Exercise Will Focus on Black Sea, Balkans,” USNI Network, February 9, 2021,
“accessed March 26, 2022”. https://bit.ly/3dXbz8n.
”(15) Monique O’Neill, “Greece, Cyprus and the U.S. join forces for naval SOF exercise in the Mediterranean Sea,
dvidshub.net, January 29, 2021, “accessed March 26, 2022”. https://bit.ly/3eCaK3S.
(16) “F-16 aircraft arrive in Greece for INIOCHOS 21,” usafe.af.mil, April 6, 2021, “accessed March 26, 2022”.
https://bit.ly/3npeMk9.
( )17وسام فؤاد" ،التح والت يف منهج الحضور العسكري األميركي يف الشرق األوسط" ،املعهد املصري للدراسات 6 ،مايو/أيار ( ،2021تاريخ
https://bit.ly/3x0sP6w.الدخول 3 :أبريل/نيسان ،)2022
(18) Tsuyoshi Nagasawa and Ken Moriyasu, “Biden reviews US global military presence with eye on China,” Nikkei Asia,
February 7, 2021. “accessed March 26, 2022”. https://s.nikkei.com/3gKJa7h.
( )19فؤاد" ،التحوالت يف منهج الحضور العسكري األميركي يف الشرق األوسط" ،مرجع سابق.
13 ،فبراير/شباط ( ،2022تاريخ الدخول 22 :مارس/آذار " )20(DW ،)2022حلف الناتو :ملاذا تم تأسيسه وكيف توسع يف شرق أوروبا؟"،
https://p.dw.com/p/46kVK.
( )21إيمان أحمد عبد الحليم" ،هل تتحول الحرب األوكرانية إلى كارثة استراتيجية ملوسكو؟" 10 ،مارس/آذار ( ،2022تاريخ الدخول25 :
https://bit.ly/3KIfDXP.مارس/آذار ،)2022
( )22ماهيناز الباز" ،آليات أوكرانيا إلدارة اقتصاد الحرب مع روسيا" ،مركز املستقبل 23 ،مارس/آذار ( ،2022تاريخ الدخول 25 :مارس/آذار ،)2022
https://bit.ly/37oCwkT.
(" )23تداعيات األزمة األوكرانية ىلع االقتصادات األوروبية يف األمد القصير" ،مركز املستقبل لألبحاث والدراسات املتقدمة 17 ،مارس/آذار
( ،2022https://bit.ly/3tW0H2D.تاريخ الدخول 1 :أبريل/نيسان ،)2022
( )24كيفين كونولي" ،غزو روسيا ألوكرانيا :كيف كشف "هشاشة" السالم يف أوروبا؟" ،بي بي سي 10 ،مارس/آذار ( ،2022تاريخ الدخول26 :
https://bbc.in/3OfBKqV.مارس/آذار ،)2022
”(25) Sudha David-Wilp and Thomas Kleine-Brockhoff, “A New Germany: How Putin’s Aggression Is Changing Berlin,
Foreign Affairs, March 1, 2022, “accessed April 3, 2022”. https://fam.ag/3u31hLS.
(" )26تداعيات األزمة األوكرانية ىلع سياسات أوروبا الدفاعية" ،املركز األوروبي لدراسات مكافحة اإلرهاب واالستخبارات 7 ،مارس/آذار ،2022
(https://bit.ly/3JNegGl.تاريخ الدخول 15 :مارس/آذار ،)2022
(27) National Intelligence Council, “Global Trends 2025: A Transformed World,” (Cosimo Reports, 2008): 92–98.
(28) The White House, “Interim National Security Strategic Guidance,” whitehouse.gov, March 2021, “accessed April 3,
2022”. https://bit.ly/3rxtVTY.
(29) “U.S. Diplomatic Push for Ukraine Falters in a Middle East Influenced by Russia,” The Wall Street Journal, March 3,
2022, “accessed April 3, 2022”. https://on.wsj.com/38J4MPp.
(30) Russia’s share in arms imports 2017–2021, Statista.com, March 15, 2022, “accessed April 3, 2022”.
https://bit.ly/38J4Yy7.
31 ، مركز الزيتونة للدراسات واالستشارات،" "انعكاسات األزمة األوكران ية ىلع العالم العربي والقضية الفلسطينية،) وليد عبد الحي31(
،)2022 نيسان/ أبريل3 : (تاريخ الدخول،2022 آذار/مارسhttps://bit.ly/3uT2TXQ.
. مرجع سابق،" "هل تتحول الحرب األوكرانية إلى كارثة استراتيجية ملوسكو؟،) عبد الحليم32(
(33) John J. Mearsheimer, “Bound To Fail: The Rise and Fall of the Liberal International Order,” International Security, Vol.
43, no. 4 (Spring 2019): 48-49
(34) Robert Kagan, “What we can expect after Putin’s conquest of Ukraine,” Washington Post, February 21, 2022. “accessed
April 3, 2022”. https://wapo.st/3DcwEqs.
(تاريخ،2022 آذار/ مارس2 ، "هل يمكن حرمان روسيا من عضوية مجلس األمن وحق استخدام الفيتو؟" العربي الجديد،) ابتسام عازم35(
،)2022 نيسان/ أبريل2 :الدخولhttps://bit.ly/3hW3J01.
29 ، املعهد املصري للدراسات السياسية واالستراتيجية،"2022 األوكرانية- "اإلشكاليات القانونية للحرب الروسية،) محمد بوبوش36(
،)2022 نيسان/ أبريل2 : (تاريخ الدخول،2022 آذار/مارسhttps://bit.ly/3Lyjzuq.
. مرجع سابق، مجلة السياسة الدولية،" التداعيات واملسارات املحتملة للعملية العسكرية الروسية يف أوكرانيا،) سليمان37(
29 : (تاريخ الدخول،2022 شباط/ فبراير27 ، الجزيرة نت،" "هل تكون الحرب يف أوكرانيا بداية نظام دولي جديد؟،) عبد الله العقرباوي39(
،)2022 آذار/مارسhttps://bit.ly/3IRuKfU.
(41) Kemal Derviş and José Antonio Ocampo, “Will Ukraine's Tragedy Spur UN Security Council Reform?,” Project-
Syndicate.org, March 3, 2022. “accessed April 1, 2022”. https://bit.ly/3wFZxtO.
. مرجع سابق،" "هل تتحول الحرب األوكرانية إلى كارثة استراتيجية ملوسكو؟،) عبد الحليم42(
(43) Anne-Marie Slaughter et al., U.S. Grand Strategy After Ukraine: Seven thinkers weigh in on how the war will shift U.S.
Foreign Policy,” March 21, 2022. “accessed April 1, 2022”. https://bit.ly/3j3906j.
(44) Ibid.
انتهى