تاريخ الرومان والاغريق س2

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 36

‫شعبة التاريخ‪:‬‬

‫محاضرات وحدة‪:‬‬

‫تاريخ الرومان واإلغريق‬

‫لألستاذ عبد السالم التايب‬

‫‪2020-2019‬م‬

‫‪1‬‬
‫مصادر التاريخ الروماني‬

‫‪ - I‬أصول اإلسطوغرافية الرومانية ‪:‬‬

‫جاء اهتمام الرومان بتاريخهم متأخ ار ‪ ،‬فإذا كانت نشأة روما تؤرخ بالقرن ‪ 8‬ق‪.‬م فإن أولى‬
‫بوادر األدب التاريخي أخذت في الظهور في أواخر القرن ‪ 3‬ق‪.‬م ‪ .‬ومنذ ذلك التاريخ وحتى نهاية‬
‫العصر الجمهوري اشتهر العديد من المؤرخين الذين كتبوا باللغة اإلغريقية أوال ثم بالالثينية والذين‬
‫يشكلون مدرسة الحوليات من أبرز ممثلي هذه المدرسة ‪( Pictor Fabius‬كان عضوا في مجلس‬
‫الشيوخ في نهاية القرن ‪ 3‬ق‪.‬م) إضافة إلى ‪ Porcius Caton‬ثم ‪ Valerius Antios‬وغيرهم ‪.‬‬
‫وقد ضاعت كل الكتابات التي خلفها هؤالء سوى بعض الشذرات التي احتفظ بها المؤرخون‬
‫الالحقون ‪ .‬ثم تابع ممثلوا اإلسطوغرافيا الرومانية في بداية العصر اإلمبراطورية وهم ‪Tite live‬‬
‫و‪ Diodore‬الصقلي و‪ Denyse D'Halicarnasse‬عمل األوائل حيث يمثلون برأي المؤرخين‬
‫نقطة تواصل طبيعية لمدرسة الحوليات ‪ ،‬وسواء تعلق االمر بالمؤرخين السابقين أو المتأخرين‬
‫فإنهم جميعا لم يكونوا معاصرين للفترة األولى لروما التي ينقلون أخبارها لذا نتساءل عن المصادر‬
‫التي اعتمدوها في سرد األحداث ‪ ،‬ويمكن تقسيم هذه المصادر حسب طبيعتها إلى نوعين ‪:‬‬

‫‪ - 1‬مصادر خارجية ( غير رومانية )‪ :‬ويمثلها األدب اإلغريقي الذي سبق بقرون نشأة‬
‫األدب الالثيني والذي اهتم بدرجات متفاوتة األهمية بوقائع إيطالية ‪ .‬في البداية كانت المعلومات‬
‫الجغرافية التي يتوفر عليها اإلغريق حول بالد إيطاليا التزال تتسم بالغموض ‪ ،‬وبعض اإلشارات‬
‫المحدودة المتعلقة ببعض األساطير اإليطالية إلى حدود سنة ‪ 500‬ق‪.‬م حيث أعطى ‪Hécaté‬‬
‫أول وصف لبالد إيطاليا وبعده بنصف قرن ذكر المؤرخ هيرودوت في كتابه ميناء ‪ Agila‬ومدينة‬
‫‪ Crotone‬األثروسكيين ‪ .‬ولن تظهر إيطاليا جليا في الكتابات اإلغريقية إال مع نشأة‬
‫اإليسطوغرافيا اإلغريقية الغربية على الرغم من كون هذه األخيرة قد كرست اهتمامها بالخصوص‬
‫لجزيرة صقلية وجنوب إيطاليا ‪ .‬وكما هو األمر بالنسبة لكتب الحوليات فإن كل الكتابات اإلغريقية‬
‫التي استفاد منها المؤرخون الرومان قد ضاعت ولم يبق سوى أسماء المؤرخين الذين اشتهروا في‬
‫المستوطنات اإلغريقية بصقلية وجنوب إيطاليا باستثناء بعض الشذرات القليلة التي احتفظ بها‬
‫المؤرخون المتأخرون كما ضاعت أيضا حتى الكتابات التاريخية األتروسكية التي نجهل عنها كل‬
‫شيء ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫هذه إذن هي المصادر الخارجية التي ساعدت على نشأة الكتابة التاريخية عند الرومان‪،‬‬
‫لكنها لم تكن كافية لكتابة تاريخ روما مادام أن هذا األخير لم يشكل محورها األساسي بل موضوعا‬
‫هامشيا‪ .‬ثم إن هذه الكتابات كانت تقدم تاريخ روما من وجهة نظر أجنبية قد تختلف عن تصور‬
‫أصحاب مدرسة الحوليات لتاريخهم الوطني ‪ ،‬لذا كان البد من اإلعتماد على نوع آخر من‬
‫المصادر التي يمكن وصفها بالوطنية‪.‬‬

‫‪ - 2‬مصادر قومية رومانية‪ :‬ونميز ضمن هذه المجموعة بين نوعين من الوثائق‪ :‬الوثائق‬
‫الرسمية والوثائق الخاصة‪:‬‬

‫أ ‪ -‬الوثائق الرسمية‪ :‬وفيها نميز بين مجموعتين من الوثائق‪:‬‬

‫‪ +‬الوثائق الدينية‪ ،‬حيث كان لكل مجموعة كهنوتية في روما وثائقها الخاصة والمتنوعة يمكن‬
‫أن نذكر منها على سبيل الصلوات وكتب الطقوس وكتب التفاسير ثم نضيف محاضر أو مجموع‬
‫الق اررات التي اتخذتها الجماعة والتي تعتبر كأحكام قضائية يتم األخذ بها في حالة نشوب صراع‬
‫ما‪ .‬غير أن أهم هذه الوثائق على اإلطالق تلك التي كانت تتوحد فيها كل الجماعات الكهنوتية‬
‫والتي كانت تنجز من طرف أهم جماعة شأنا وهم الكهنة العظام ‪ Pontifices Maximi‬تسمى‬
‫بالتقويم‪ .‬وكان الكاهن األعظم هو الذي يشرف على كتابة التقويم وتنظيمه على لوحة تعلق على‬
‫حائط مقر الملك قديما والذي اصبح مقر الكاهن األعظم باعتباره الوارث النظري المتيازات الملك‬
‫وسلطاته الدينية‪ .‬ولقد اكتسى التقويم في البداية طابعا عمليا‪ ،‬فهو يفرق بين األيام السعيدة أي التي‬
‫يمكن خاللها ممارسة العمل واأليام المشؤومة التي تكرس للعبادات‪ ،‬ومع الوقت أضيفت إلى‬
‫التقويم أسماء القناصل الذين باشروا شؤون الدولة وهي األسماء التي كانت تستعمل للتفريق بين‬
‫السنوات‪ ،‬ثم أهم األحداث التي ميزت السنة خصوصا اإلنتصارات العسكرية وبذلك أصبح للتقويم‬
‫معنى الحوليات الشيء الذي جعله يتطور تدريجيا كي يولد من التاريخ ‪.‬‬

‫‪ +‬الوثائق السياسية‪ :‬لم يكن الرومان يتوفرون في العصر الجمهوري على وثيقة شبيهة‬
‫بجريدتنا الرسمية‪ .‬أما محاضر جلسات مجلس الشيوخ ومجلس الشعب فإنها نشرت ألول مرة في‬
‫فترة متأخرة بمبادرة من قيصر خالل القرن ‪ 1‬ق‪.‬م ‪ ،‬غير أن المؤرخين أشاروا إلى مجموعة من‬
‫الوثائق السي اسية التي تخص القرون األولى من التاريخ الروماني مثل االتفاقيات والتحالفات‬
‫الموقعة في عهد الملك ‪ Servius Tullius‬بين روما والمدن الالثينية األخرى ‪ ،‬ثم أول اتفاقية بين‬
‫روما وقرطاج ذكرها المؤرخ ‪ ، Polybe‬ثم قانون اللوحات اإلثني عشر التي ترجع إلى ‪ 450‬ق‪.‬م‬

‫‪3‬‬
‫‪ ،‬إضافة إلى ذلك كانت هناك وثائق أخرى متفاوتة األهمية محفوظة في مقرات الحكام كالقناصل‬
‫وأمناء المال ‪ ....‬وهي وثائق تضم الحسابات والق اررات وغيرها‪.‬‬

‫ب– الوثائق الخاصة ‪ :‬فلكل عائلة كبرى وثائقها‪ ،‬تتوارثها أجيالها وهي متنوعة مثل شجرات‬
‫النسب والرثاءات‪ .‬هذه إذن هي العناصر المكتوبة والشفوية التي اعتمد عليها الحوليون لكتابة‬
‫تاريخ روما‪ ،‬يبقى التساؤل حول التاريخ الدي تعود هذه الوثائق ؟ فاألمر يتعلق بإدخال الكتابة إلى‬
‫روما‪ ،‬ورغم اختالف المؤرخين في الطريقة التي تم بها إدخال الكتابة إلى روما هل عن طريق‬
‫األتروسكيين أم بواسطة مستعمرة ‪ Cumes‬اإلغريقية‪ ،‬فإنهم متفقون أن ذلك تم في نهاية القرن ‪8‬‬
‫ق‪.‬م‪ .‬غير أن أول وثيقة كتبت بصيغة مطولة نوعا ما كانت هي قانون اللوحات اإلثني عشر في‬
‫منتصف القرن ‪ 5‬ق‪.‬م‪ ،‬ويبدو أنه شرع منذ هذه الفترة في تعميم استعمال الكتابة مما دفع بعض‬
‫المؤرخين إلى القول أن الوثائق الرسمية ال يمكنها أن تعود إلى فترة سابقة عن القرن‪ 5‬ق‪.‬م‪ ،‬وأن‬
‫ما كتب خالل القرن ‪ 6‬ق‪.‬م جد محدود وأتلف معظمها بسبب حريق روما أثناء الغزو الغالي في‬
‫‪ 390‬ق‪.‬م‪ .‬أما الوثائق التي تعود إلى ما قبل الغزو والتي احتفظت بها بعض العائالت الرومانية‬
‫فمشكوك في صحتها وقد اعترف العديد من المؤرخين القدامى أن هذه الوثائق ال تعدو أن تكون‬
‫مزورة‪ .‬وفي الواقع بالنسبة للفترات القديمة وحتى القرن‪ 5‬لم تكن روما تتوفر على الئحة رسمية‬
‫للسجالت القنصلية أو ألديكتاتورية‪ ،‬أما الالئحة التي وصلتنا فقد تم إعدادها في وقت متأخر‬
‫انطالقا من المعلومات التي تم استيقاؤها من الوثائق الرسمية وكذا الوثائق العائلية مما فتح الباب‬
‫أمام المغالطات والتزوير‪.‬‬

‫و في النصف الثاني من القرن‪ 4‬ق‪.‬م‪ ،‬أصبحت روما قوة كبرى في إيطاليا وكان عليها ربط‬
‫عالقات مع العالم اإلغريقي في انتظار االستيالء على مراكزه فكان عليها مواجهة اإلغريق ليس‬
‫عسكريا فقط ولكن ثقافيا أيضا‪ .‬حيث أصبح مفروضا عليهم أن يكونوا ألنفسهم تاريخا يخلد‬
‫أمجادهم الماضية وان كانت تعوزهم الوثائق‪ ،‬وستستمر عملية كتابة التاريخ الروماني إلى نهاية‬
‫العهد الجمهوري وبداية اإلمبراطورية‪.‬‬

‫وبعدما أعد اإلطار التاريخي أصبح الواجب هو تحضير األحداث التاريخية التي‬
‫سيحتضنها‪ ،‬لكن حصيلة القرون األولى لروما كانت هزيلة ومهمة المؤرخين صعبة خاصة الفترة‬
‫القديمة حيث الوثائق نادرة ومشكوك في صحتها‪ ،‬والروايات الشفوية حول العهد الملكي كانت جد‬
‫مضطربة في حين المعلومات التي قدمتها المصادر اإلغريقية جد مقتضبة‪ ،‬فاتجه المؤرخون نحو‬

‫‪4‬‬
‫األسطورة التي اضطلعت األدبيات اإلغريقية بدور هام في تشكيلها‪ ،‬وأخي ار البد أن نشير إلى‬
‫مالحظتين أساسيتين‪:‬‬

‫‪ +‬أن عملية كتابة تاريخ روما القديم دامت فترة طويلة زهاء ثالثة قرون ولم تنته إال في بداية‬
‫العصر اإلمبراطوري وكان الفضل الكبير فيها يعود إلى مدرسة الحوليات الجديدة في النصف‬
‫األول من القرن ‪ 1‬ق‪.‬م‪ ،‬غير أنها لم تستطع تجاوز األخطاء المنهجية التقليدية كنشر األساطير‬
‫وعدم تحقيقها والتأثر بالتوجهات السياسية وغياب النقد بل واللجوء إلى التزوير‪.‬‬

‫‪ +‬أن مفهوم الرومان للتاريخ ال يمكن مقارنته بمفهومنا الذي يجعل منه علما موضوعيا‪،‬‬
‫فكان الرومان يرون فيه مشروعا وطنيا ومدرسة لتعلم الوطنية وأداة للحكم‪.‬‬

‫‪ - II‬مصادر تاريخ روما ‪ :‬فالتاريخ الروماني ليس تاريخ حضارة منقرضة بل هو تاريخ حي‬
‫أي أنه مازال في تطور مستمر‪ ،‬كما ال يجب اإلعتقاد أن مظاهره كلها معروفة إد ال توجد رواية‬
‫لتاريخ روما مثبتة بشكل نهائي وكثي ار ما يعترف المؤرخ بجهله لبعض العناصر‪ ،‬ذلك شأن‬
‫الحضارة األتروسكية التي تعتبر أساس قيام الحضارة الرومانية التي ال زلنا نجهل عنها الكثير‪.‬‬
‫نضيف أيضا المشاكل التي تحيط بالفترة الملكية في روما والغموض الذي يحيط ببداية العهد‬
‫الجمهوري‪ .‬فكثي ار ما يصبح المؤرخ عاج از عن العمل ومرغما على انتظار نتائج األبحاث التي يقوم‬
‫بها علماء اآلثار والتي بإمكانها إبراز معالم حضارة أو تاريخ أو حدث ظل مجهوال‪ .‬فالتاريخ‬
‫الروماني في تطور مستمر بفضل المساهمات الجديدة التي تقدمها العلوم المساعدة كعلم النقوش‬
‫واآلثار والمسكوكات‪ ،‬ومع ذلك يبقى النص األدبي أهم مصدر يبني عليه المؤرخ عمله‪ .‬لكن‬
‫المالحظ هو أنه كلما حاولنا الرجوع إلى الوراء أكثر إال وقلت مصادرنا ووثائقنا وأحيانا تنعدم مما‬
‫يجعل العديد من األحداث التي شهدتها أقاليم الجمهورية الرومانية التزال مجهولة‪.‬‬

‫إن قلة المصادر المتعلقة بالتاريخ الروماني ساهمت في إعطاء قيمة كبرى للمعلومات التي‬
‫وصلت إلينا‪ ،‬فعلى المؤرخ المهتم أن يولي األهمية لدراسة مصادره وعدم إهمال أية معلومة من‬
‫شأنها أن تساعده في تقصي الحقيقة حيث تعتبر كل الوثاق حاملة إلشارات يمكن استغاللها من‬
‫قبل المؤرخ‪ ،‬أي يجب إخضاع المادة التاريخية للتأويل مع التحلي بالحذر دون اإلفراط في التحليل‬
‫لجعل العملية مبنية على قواعد منهجية ثابتة‪.‬‬

‫فمصادر التاريخ الروماني جد متنوعة وكتابة هذا التاريخ تعتمد أساسا على مقارنة ومقابلة‬
‫هذه المصادر‪ ،‬ومن أهم هذه المصادر نذكر‪:‬‬

‫‪5‬‬
‫أ‪ -‬المصادر األدبية‪ :‬وتظل هي المصدر األساسي الذي يستقي منه المؤرخ معلوماته‬
‫باستمرار‪ ،‬وهي تشمل مؤلفات المؤرخين والشعراء ورجال القانون والخطابة والرسائل والمنشورات‬
‫اإلمبراطورية وغيرها من كتابات الرومان واإلغريق‪.‬‬

‫ب‪ -‬المصادر المنقوشة‪ :‬بفضل الكتابات المنقوشة القديمة تطور علم علم المنقوشات الذي‬
‫ساهم وال يزال في إغناء معارفنا عن العديد من مظاهر الحياة عند الرومان ويتعلق األمر بكتابات‬
‫نقشت على أحجار أو على لوحات برونزية أو رخامية ‪.‬‬

‫ج‪ -‬علم المسكوكات‪ :‬غالبا ما تقدم القطعة النقدية معلومات هامة عن الحياة في الدول أو‬
‫المدن التي استعملتها‪ .‬قد تثير مواضيع دينية تتجسد في صور الآللهة الحامية أو أحد المؤسسين‬
‫الخرافيين أو بعض المنشآت الدينية‪ ،‬وقد تثير مواضيع اقتصادية كصور بعض المنتجات الفالحية‬
‫أو رمو از ألنشطة إقتصادية‪ ،‬أما النقود الرومانية فهي تحمل صو ار لبعض الساسة أو لبعض‬
‫األباطرة‪ ،‬هكذا فالكتابات التي تحملها القطع النقدية تسمح بتتبع التاريخ السياسي للدولة‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫اإلطارين الطبيعي والبشري‬
‫‪- I‬اإلطار الطبيعي‪:‬‬

‫‪ - 1‬روما والحوض المتوسطي‪ :‬لقد لعب الموقع دو ار حاسما في التطور الذي عرفته روما‪،‬‬
‫حيث أن امتداد اإلمبراطورية الرومانية وعالقاتها مع باقي مناطق البحر المتوسطي وتحويل هذا‬
‫األخير إلى بحيرة الثينية يعود إلى عامل الموقع الذي جعلها تتوسط البحر المتوسط‪ ،‬ورغم أنها‬
‫أكثر توغال في البحر إال أنها أيضا ملتحمة بالقارة األوربية عبر سهل البو ‪ ،Pô‬كما تقترب من‬
‫الساحل اإلفريقي عبر جزيرة صقلية‪ .‬فشبه ج اإليطالية هي الحد الفاصل بين الحوضين الغربي‬
‫والشرقي للمتوسط‪ ،‬فهي بذلك نقطة وصل ولقاء لكل التيارات الثقافية التي عرفها حوض المتوسط‬
‫ب اإلضافة إلى الثقافات األوربية الشمالية والشمال اإلفريقية الجنوبية‪ .‬فمنذ آالف السنين شهد‬
‫الحوض الشرقي من المتوسط قيام عدة حضارات وامبراطوريات كانت تتنافس من أجل السيطرة‬
‫عليه واحتكار طرق تجارته‪ :‬كامبراطورية الفراعنة في الجنوب ودويالت المدن الفينيقية على‬
‫الساحل الشرقي ثم المملكة الميسينية في كريت وبالد اليونان وبحر إيجي‪ .‬ومنذ القرن ‪ 11‬ق‪.‬م‬
‫أخد الفينيقيون يجوبون البحر المتوسط من شرقه إلى غربه مؤسسين مستوطنات ومراكز تجارية‬
‫بسواحله ثم تبعهم اإلغريق الذين استقروا ابتداء من القرن ‪ 8‬ق‪.‬م جنوب إيطاليا وصقلية‪ .‬أما‬
‫سواحل الحوض الغربي للبحر المتوسط فقد احتلتها منذ أزمنة غابرة شعوب مختلفة اعتمدت على‬
‫االقتصاد الرعوي والزراعي‪ ،‬ورغم أن حضاراتها لم ترق إلى مستوى الحضارات الشرقية فإنها كانت‬
‫تعرف تنظيمات مختلفة تؤطر حياة أفرادها‪ .‬فالمناطق الساحلية إلفريقيا كانت تتقاسمها ثالثة‬
‫شعوب هي الليبيون والنوميديون ثم الموريطانيون‪ .‬وعلى عكس ما قيل أن هذه الشعوب ظلت‬
‫تعيش على هامش التاريخ‪ ،‬فقد أثبثت البحوث أنها ربطت عالقات مكثفة قديمة مع مصر‬
‫الفرعونية وصقلية وشبه الجزيرة اإليبيرية وخاصة مع الفنيقيين‪ .‬وفي شبه الجزيرة اإليبيرية كانت‬
‫تعيش شعوب غلب عليها الطابع العسكري‪ ،‬وقد اتجهت أنظار الفنيقيين إلى هذه المناطق مبك ار‬
‫لتوفرها على المعادن النفسية (القصير)‪.‬‬

‫أ ‪ -‬إيطاليا جغرافية التجزؤ اإلقليمي ‪ :‬فإيطاليا عبارة عن شبه جزيرة ضيقة تخترقها جبال‬
‫االبنان ‪ Apenin‬التي تفصلها إلى عدة أقاليم كما أن هذه القمم تقف حاج از فاصال بين الساحل‬
‫الغربي والساحل الشرقي لشبه الجزيرة هذا التجزؤ التضاريسي عزل العديد من المناطق والشعوب‬

‫‪7‬‬
‫التي اعتادت على المقاومة للحفاظ على استقاللها وأرسى قواعد اإلختالفات العرقية في المناطق‬
‫اإليطالية مما منع قيام وحدة وطنية مبكرة‪.‬‬

‫و نظ ار لكون المناخ اإليطالي يطغى عليه طابع الجفاف فإن اإلمكانيات الفالحية لشبه‬
‫الجزيرة لم تكن متساوية‪ ،‬فرغم وجود بعض السهول التي يمكن أن تساعد على إقامة أنظمة زراعية‬
‫فإن المناخ السائد كان يشجع اإلقتصاد الرعوي‪ .‬ورغم مميزات موقع إيطاليا الذي منحها ثالث‬
‫واجهات بحرية‪ ،‬فإنه لم يقدر لها أن تصبح قوة بحرية يمكن مقارنتها باإلغريق أو بالفنيقيين والسبب‬
‫يعود إلى كون طبيعة السواحل اإليطالية ال توفر الظروف المواتية إلقامة موانئ‪ ،‬إضافة إلى ذلك‬
‫أن ثقافات الشعوب اإليطالية الرعوية والمنطوية على نفسها لم تساعد على توجيه األنظار الى‬
‫استغالل الموارد البحرية أو إلى تشجيع العالقات مع العالم الخارجي‪ .‬لكن رغم كل ذلك فإن هذه‬
‫السواحل خاصة الجنوبية والغربية هي التي ستستقبل مهاجرين بحارة قادمين من بالد اإلغريق‬
‫سيقيمون العديد من المراكز البحرية التي أدت الى خلق مجتمعات بحرية مختلفة تماما عن‬
‫التجمعات القبلية‪.‬‬

‫ب ‪ -‬سهل الالتيوم ‪ :‬في هذا المحيط اإليطالي ستنشأ روما في سهل صغير مفتوح على‬
‫البحر يتوسط إيطاليا‪ ،‬انه سهل الالتيوم الذي بسبب رطوبة مناخه إلنفتاحه على البحر فقد وفر‬
‫الظروف المالئمة لقيام نشاط رعوي ممتاز‪ .‬ومن أهم العناصر الطبيعية في منطقة الالتيوم هي‬
‫نهر ‪Tibre‬الذي يخترق السهل من الشمال ويعرف هذا النهر فيضانات موسمية قوية‪ .‬وقد كان‬
‫مستوى مياه هذا النهر اكثر انتظاما من اليوم الشيء الذي مكنه من استقبال المراكب البحرية‬
‫وبالتالي شكل خطا للمواصالت النهرية يربط بين جبال ‪Appenin‬وسهل‪ . Latium‬ان هذا الموقع‬
‫االستراتيجي ساهم في توجيه خط التطور الذي ستعرفه روما والذي سيجعلها تمثل المركز التجاري‬
‫الذي سيضمن استم اررية العالقات بين المنطقين األكثر تقدما في ايطاليا هما البالد االتروسكية في‬
‫الشمال والمستوطنات االغريقية في الجنوب‪.‬‬

‫‪ - II‬شعوب ايطاليا ما قبل الرومانية ‪ :‬في منتصف القرن ‪ 8‬ق‪.‬م ( تاريخ تأسيس روما‬
‫حسب األسطورة ) كانت ايطاليا تحتضن مجموعة من الشعوب بعضها كان قد استقر منذ فترة‬
‫قديمة وبعضها في طريقه نحو اإلستقرار‪ .‬وسرعان ما ستحتل حضارتان المركز األول ايطاليا هما‬
‫الحضارة االتروسكية في الشمال وحضارة المستوطنات االغريقية في الجنوب‪ .‬وسيكون لهما اكبر‬
‫األثر على حضارة روما الناشئة‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫أ ‪ -‬شعوب ايطاليا البدائية ‪ :‬كباقي مناطق البحر المتوسطي عرفت ايطاليا استق ار ار قديما‬
‫لإلنسان‪ .‬وبالرغم من التقدم الكبير الذي حققته بعض أبحاث فترة ما قبل التاريخ فإن األحداث التي‬
‫عرفتها هذه الفترة مازالت مبهمة‪ ،‬وسنكتفي باإلشارة إلى أن ان العرق الذي سكن ايطاليا قبل‬
‫وصول الشعوب الهندأوربية والذي عرف بالجنس المتوسطي ظلت بقاياه موجودة بإيطاليا ومن أهم‬
‫تلك الشعوب نذكر الليكوريون ‪ Ligures‬ثم السكانيون ‪ Scanes‬الذين استقروا في صقلية ثم‬
‫ابعدوا الى جنوب غرب الجزيرة من طرف السيكول ‪ Sécules‬القادمين من ايطاليا في القرن ‪13‬‬
‫ق‪.‬م ونهاية األلف ‪ 2‬ق‪.‬م‪ .‬وبعد هجومات الشعوب الهنداروبية استقرت بايطاليا امم عبرت جبال‬
‫االلب واستطاعت بقوتها الهيمنة على القبائل األصلية‪ ،‬فأثرت في تشكيل الخريطة اإلثنية اليطاليا‪.‬‬
‫فخالل القرن ‪ 8‬ق‪.‬م كانت هذه الخريطة مشكلة من عدة شعوب اهمها‪:‬‬

‫‪ +‬الفينيت ‪ + . Vénétes‬القبائل الغالية‪ + .‬االمبريون‪ + .‬ثم نحو الجنوب نجد السابنين‬


‫‪ Sabins‬والسامنتيين ‪ Saminites‬وتطلق عليهم تسمية موحدة هي السابليين التي تضم أيضا‬
‫الفولسكيين واألوسكيين وسكان ‪ .Campania‬كما نجد في الجنوب دائما شعوب األبوليين‬
‫واللوكانيين ‪ + .‬وسط تلك الشعوب كلها احتل الالتين السهل الوحيد بإيطاليا الوسطى الواقع بين‬
‫نهر التبر وجبال االبنان هو سهل الالتيوم‪ .‬وحسب االبحاث االثرية يجب انتظار العصر الحجري‬
‫الحديث كي تظهر آثار ساكنة تنتمي إلى العرق المتوسطي ومع العصر الحديدي برزت حضارة‬
‫سميت بالحضارة الفيالنوفية ‪ Villanovia‬التي انتقلت في نهاية األلف‪ 1‬ق‪.‬م من أروبا واستطاعت‬
‫أن تغطي الشمال اإليطالي‪ .‬وابتداء من القرن ‪ 7‬ق‪.‬م يميز المؤرخون مرحلة ثانية في هذه‬
‫الحضارة يعكسها ظهور بعض القبور التي تشهد على بداية عادة الدفن‪ .‬في حين ان المرحلة‬
‫الثالثة التي نميزها في هذه الحضارة تميزت باإلنفتاح على الحضارة األتروسكية في الشمال‪.‬‬
‫ويحاول بعض الباحثين تأكيد أصالة الالتينيين عن طريق دراسة لغتهم‪ ،‬حيث يقول هؤالء أن‬
‫الالتينية هي لغة هندواروبية مختلفة عن اللغة األتروسكية في الشمال‪ ،‬وتختلف عن اللغتين‬
‫اإليطاليتين األومبرية واألوسكية المنتشرتين في وسط وجنوب البالد باعتبار أن الالتينية تبدو أكثر‬
‫بدائية منهما‪ ،‬مما جعلهم يميلون إلى الرجوع بهذه اللغة إلى موجة أولى من الشعوب الهندواروبية‬
‫التي تكون قد سبقت إلى االستقرار في إيطاليا منذ بداية األلف األول ق‪.‬م والتي استطاعت التغلب‬
‫على العرق المتوسطي قبل وصول موجات اخرى من المهاجرين الهندواروبيين‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫غير ان هذا التصور ال يلقى إقباال لدى المؤرخين ألنهم ال يتصورون حدوث هجرة كثيفة‬
‫للشعب الالتيني عبر سهل ‪ Pô‬قبل استق ارره في الالتيوم‪ ،‬وان كانوا الينفون وجود هجرة الشمال‬
‫إلى الجنوب غير انهم يعتبرونها محدودة حيث لم تستطع القضاء على بقايا العناصر المتوسطية‪.‬‬

‫‪ +‬األتروسكيون‪ :‬ييمتد مجالهم من نهر أرنو حتى نهر التبر‪ ،‬وكان لهذا الشعب أثره الحاسم‬
‫في التطور الذي عرفته روما منذ نشأتها‪ .‬وقد ظلت أصول الشعب االوتروسكي لغ از حير العلماء‪.‬‬
‫فانطالقا من القرن ‪ 8‬ق‪.‬م اخدت منطقة ‪ Toscania‬تشهد تحوالت عميقة تجلت في ظهور العديد‬
‫من المظاهر الجديدة التي تنم عن دخول عناصر غيرت مجرى الحياة والى ابراز معالم حضارة‬
‫جديدة (ظهور المدن وتبني الكتابة)‪ ،‬وقد بقي الجدل قائما في ما يهم أصلهم حول نظريتين‬
‫قديمتين‪ :‬االولى تعود للمؤرخ هيرودوت الذي اعتبرهم من المهاجرين القادمين من آسيا الصغرى‪،‬‬
‫في حين أكد دينيس الهاليكارناسي أنهم سكان محليون تكونت حضارتهم وتطورت في أتروريا‬
‫‪ . Etrurie‬وكيفما كان الحال فقد أصبحت نظريات األصل االوتروسكي هذه متجاوزة اليوم‪ ،‬إذ أن‬
‫االتجاه الجديد الذي لقي ترحيبا واسعا لذى المهتمين يعتبر االتروسكيين من الشعوب المتوسطية‬
‫القديمة التي تنتمي إلى هذا المجال الجغرافي واإلثنوغرافي اإليطالي الذي عرف هجومات كاسحة‬
‫للشعوب الهندواروبية‪ .‬وسواء كان رأي دعاة األصل المحلي ام راي دعاة األصل األجنبي هو‬
‫الصائب فإنه من الصعب جدا نفي المؤثرات الشرقية التي برزت آثارها واضحة في الحضارة‬
‫االوتروسكية‪.‬‬

‫أ ‪ -‬ثقافات ايطاليا البدائية‪ :‬رغم التنوع الكبير لشعوب إيطاليا فإن ثقافاتها متقاربة جدا‪ ،‬كما‬
‫ال يمكن التمييز بين ثقافة الشعوب المتوسطية والشعوب الهندواروبية‪ ،‬أي اليجب ان نؤمن بفكرة‬
‫وجود قطيعة بينهما مادام أن العالقات قد تشابكت منذ أمد بعيد وتفاعلت في ما بينها‪ ،‬باستثناء‬
‫جبال األبنان حيث تعيش قبائل تعيش على نمط جبلي قاسي‪ .‬ونتيجة حتمية للظروف الطبيعية (‬
‫غلبة الطبيعة الجبلية) فقد احتل الرعي والترحال موقعا أساسيا في اإلقتصاد القروي‪.‬‬

‫وجدير بالذكر أن اللغة الالتينية التي كانت رسمية في روما احتفظت بالعديد من الكلمات‬
‫الهندواروبية التي تنطبق على جل مظاهر الحياة الدينية والدستورية‪ ،‬وباإلضافة إلى الالتينية كانت‬
‫هناك لغات ولهجات أخرى كالفينيقية واألومبرية ولغات السابنيين والفولسكيين‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫إيطاليا وروما في مرحلة العشائر من القرن ‪ X‬إلى ‪ VII‬ق‪.‬م‬

‫‪ - I‬بقايا النظام األمومي ( ‪ :) Matriarcat‬ففي العصر النحاسي وبداية العصر البرونزي‬


‫خاصة على عهد حضارة ‪ Terramares‬كان اإليطاليون يمرون بمرحلة التجمعات القديمة المبنية‬
‫على نظام األمومة فاقتصادهم البدائي ( القنص والصيد وتربية الماشية الصغيرة والزراعة التي‬
‫ظلت من عمل المرأة ) كان يتطلب تجميع كل المجهودات داخل اتحادات جماعية‪ .‬ويمكننا ضبط‬
‫هذا النوع من النظام األمومي لهذه الجماعات العتيقة منذ أقدم العصور تسمى بالعشائر ‪،Curie‬‬
‫وهكذا في العهد التاريخي كان الشعب الروماني ينقسم إلى ‪ 30‬عشيرة وكل عشيرة كانت تحمل اسم‬
‫الجدة األسطورية المشتركة‪ .‬ورؤساء العشائر كانوا يقومون بدور ديني فهم بمثابة الكهنة المسؤولون‬
‫عن عبادة اإلله‪ ،‬كما كانوا يحرصون على أال يختلط األجانب بعشيرتهم‪ ،‬كما ان استمرار العبادة‬
‫الوثنية يعتبر خاصية للمجتمع األمومي ويتجلى في عبادة بعض الحيوانات التي اعتبرت مقدسة‬
‫مثل الذئب والثعبان ‪...‬في روما‪.‬‬

‫‪ - II‬المرور إلى العشيرة األبوية‪ :‬الالتيوم وأصول روما‪ :‬فالتطورات اإلقتصادية دفعت بهذا‬
‫األخير إلى اإلنتقال التدريجي من القنص والصيد والزراعة بالمجراف وهي من مهام المرأة إلى رعي‬
‫المواشي الضخمة والى الزراعة بالمحراث البسيط التي يمارسها الرجال‪ .‬ساهم هذا اإلنتقال في‬
‫تكوين وحدات اقتصادية محدودة تستلزم مجهودا مشتركا أقل اتساعا من جماعات القناصين‬
‫والصيادين القديمة‪ .‬هكذا مع قمة ازدهار العصر البرونزي سيحل النظام األبوي محل النظام‬
‫األمومي‪ ،‬ونظ ار لوجود ظروف مالئمة بإيطاليا لتربية المواشي والزراعة فإن النظام األبوي قام في‬
‫وقت مبكر واستمر لفترة طويلة‪.‬‬

‫فالالتيوم سهل مليء بالمستنقعات يشغل وسط الساحل الغربي إليطاليا‪ .‬وقدماء الالتين الذين‬
‫استقروا بهذا السهل كانت لهم حضارة تقل عن مستوى حضارة أسالفهم‪ ،‬حيث تم التخلي عن‬
‫عمليات التجفيف‪ ،‬وكان الالتين القدماء يعيشون في أكواخ فوق المرتفعات يتعاطون لتربية المواشي‬
‫والى زراعة عتيقة باألحواض اليابسة‪ .‬لم تكن المدن آنذاك موجودة بل كان السكان مستقرين في‬
‫مرتفعات وعرة‪ ،‬وحسب اآلداب الرومانية فقد كان هناك ‪ 30‬مرك از للتجمعات البشرية أبرزها مركز‬
‫ألب ‪ Abbe‬الذي كان مرك از دينيا حيث يجتمع فيه سكان ‪ 30‬مركز األخرى في يوم عيد اإلله‬
‫‪ .Jupiter‬والبلدة الالتينية الشمالية على الحدود مع بالد األتروسكيين التي تأسست في النصف ‪1‬‬

‫‪11‬‬
‫من األلف ‪ 1‬ق‪.‬م هي التي ستحمل اسم "روما" حيث كانت هناك سبع قرى للرعاة منتشرة وسط‬
‫الغابة والمستنقعات في أعالي التالل الممتدة على طول نهر التبر‪ ،‬وكونوا مبك ار اتحاد التالل‬
‫السبعة ولهم حصن مشترك على تل ‪ ،Palatin‬وفوق تل ‪ Velia‬يوجد مزار لألجداد وكذا معبد‬
‫إلهة النار ‪ .Vesta‬ومن خالل هذه المظاهر األولية تتجلى لنا البدايات األولى لروما‪.‬‬

‫فالقرى التي ستكون فيما بعد مدينة روما‪ ،‬كانت واقعة على ضفاف نهر التبر‪ ،‬المجرى‬
‫النهري الكبير الذي يمر بسهل الالتيوم ويتجه نحو الشمال صالح للمالحة‪ ،‬إضافة إلى طريق‬
‫أخرى مؤدية إلى الساحل الشرقي‪ ،‬وفي هذه الواجهة وعلى نهر التبر ثم وضع قنطرة من الخشب‬
‫منذ أقدم العصور لتسهيل التنقل‪ .‬كما وقع اختيار التجار السابنيين ‪ Sabins‬على تل قريب‬
‫لالستقرار به‪ ،‬وبنوا عليه قلعتهم الحصينة‪ .‬وبفضل هذا الموقع الهام أصبحت أيضا مرك از لالتحاد‬
‫العسكري والديني للشعوب الالتينية كما توسعت حدودها الترابية‪.‬‬

‫‪ - III‬العشيرة الرومانية‪ :‬الباطريسيين وأتباعهم‪ ،‬البليبيون‪ :‬فالتنظيم اإلجتماعي لالتيوم‬


‫القديم اتخذ الشكل األبوي بوضوح‪ ،‬فالشعب الروماني ومنذ القديم كان عبارة عن تجمعات عشائرية‬
‫يطلق عليها ‪ Gentes‬التي تهتم بتربية المواشي‪ .‬واإلستغالل المشترك للمواشي ساهم في توحيد‬
‫هؤوالء الرعاة في إطار تجمعات أبوية مما جعل األرض ملكية جماعية للعشيرة وقوتها األبوية‪.‬‬
‫وفي بداية العهد األبوي كانت الملكية الفردية ال تتعدى عدد قليل من المواشي واألسلحة والحلي‬
‫واألواني المنزلية وحدائق صغيرة‪ .‬أما األراضي البائرة التي لم تكن تملكها أية عشيرة فكانت تعتبر‬
‫ملكا لمجموع الشعب‪ ،‬وكان بإمكان أعضاء أية عشيرة إصالحها واعتبارها ملكية لها‪.‬‬

‫هناك قوة توحيدية أخرى وتتمثل في واجب كل أفراد العشيرة في حمل السالح والمشاركة في‬
‫الحروب التي كانت تعتبر آنذاك شكال خاصا من النشاط اإلقتصادي‪ :‬فالغارات على األقاليم‬
‫المجاورة تمكن من اإلستيالء على المحاصيل الزراعية وعلى المواشي وعلى األسلحة‪.‬‬

‫وعلى غرار ما نجد في التجمع األمومي‪ ،‬هناك عامل إيديولوجي ساهم في التحام العشيرة‬
‫األبوية هي فكرة األخوة المتماسكة التي تجمع كل المنحدرين من جد واحد حيث يكون قبره‬
‫األسطوري مكانا مقدسا من طرف كل أفراد العشيرة ومكانا لممارسة طقوسهم الدينية‪ ،‬وحتى يثبتوا‬
‫أصلهم كان كل أفراد العشيرة يحملون لقبا واحدا يكون مشتقا من اسم الجد المشترك‪.‬‬

‫لكن تطور وسائل اإلنتاج وتزايد أهمية الملكية الخاصة بسبب تجمع غنائم الحروب أدى إلى‬
‫تنوع في الثروات والى تمايز بين العشائر فأصبحت عشائر كبرى وقوية مقابل عشائر صغيرة‬

‫‪12‬‬
‫وضعيفة‪ ،‬كما تم تحطيم المساواة حتى داخل العشيرة نفسها فرؤساء العشيرة وهم الباطريس‬
‫‪ Patres‬واخوانهم وابناؤهم واحفادهم اصبحوا يشكلون ارستقراطية بالمولد واتخذوا اسم الباطريسيين‬
‫‪ Patriciens‬هؤالء يستفيدون من موقعهم الممتاز داخل العشيرة فيستولون على األراضي التي هي‬
‫جماعية في األصل وكذا على باقي الخيرات االخرى وعلى معابد وم ازرات العشيرة‪ ،‬اما باقي افراد‬
‫العشيرة فيتحولون إلى أتباع لهم تحت سلطتهم‪ ،‬والباطريسيون الذين سيصبحون أسيادا لهم‪ ،‬هم‬
‫الذين يوزعون على هؤالء قطع ارضية صغيرة‪ ،‬وعليهم مقابل ذلك خدمة اسيادهم داخل المنازل وان‬
‫يخرجوا الى الحروب تحت قيادتهم‪ ،‬كما أن االسياد كانوا يمثلون األتباع امام المحاكم‪ .‬وكان العبيد‬
‫المحررين واألجانب يعتبرون بدورهم زبناء‪ .‬وكان هذا التمايز أول عالمة تشير الى تفكك النظام‬
‫العشائري‪ ،‬وهناك عالمة اخرى لتفكك هذا النظام هي ظهور فئة ثانية سفلى هي فئة البلييبين‬
‫‪ .Plébes‬وقداختلفت حول أصلهم آراء المؤرخين‪ ،‬وأغلب الظن ان البليين في يمثلون أقدم شعب‬
‫خضع بالالتيوم للمهاجرين وكانت حضارتهم في مستوى أرقى من حضارة الغزاة لكنها تحطمت‬
‫بسبب الغزو‪ ،‬وانضاف بعض المستوطنين الذين قدموا من نقاط مختلفة من ايطاليا‪ .‬لم يكن‬
‫البلبيبون يعيشون في إطار النظام العشائري ولكن في ظل اقتصاد خاص عائلي‪ .‬والمرأة في‬
‫العائالت البليبية كانت نوعا ما مستقلة‪ ،‬مما جعل الزواج بين الباطريسيين والبليبيين ام ار ممنوعا‪،‬‬
‫ولم يكن البليبون يمارسون شعائر األجداد بل معبودهم الرسمي هو إلهة الخصوبة ‪.Cérès‬‬

‫وكان البليبيون يعانون من تبعية مرهقة تجاه الباتريسيين‪ ،‬فكانوا من صغار الفالحين أو‬
‫يشتغلون بالحرف اليدوية البسيطة وببعض األنشطة التجارية المتواضعة‪ ،‬فهم اليملكون ال األراضي‬
‫وال المراعي سوى أنهم يأجرون قطع أرضية صغيرة من طرف الباطريسيين وعندما يكون المحصول‬
‫سيئا أو في حالة غزو فإن البليبي يتحول إلى عبد في يد دائنه‪ .‬وحقيقة كان البليبيون بمثابة أتباع‪،‬‬
‫حيث كان عليهم أداء الضريبة ولم يكن من حقهم أخد أي نصيب من الغنائم‪ .‬وجميع المؤلفين‬
‫القدماء يذكرون بأن البليبيين قد تحولوا إلى عبيد في يد الباطريسيين‪.‬‬

‫هذه إذن الخطوط المميزة للمجتمع الالتيني واإليطالي خالل األلف ‪ 1‬ق‪.‬م‪ ،‬حيث انتقل‬
‫النظام من العشيرة األبوية إلى ظهور الباطريسيين فالفئات اإلجتماعية المرتبطة بهم‪ :‬من عائالت‬
‫مفلسة واتباع ثم البليبيين بدون أسالف وال أجداد‪ ،‬كلهم كانوا مهددين دائما بالعبودية‪.‬‬

‫‪ IV‬المؤسسات السياسية وحضارة روما القديمة‪ :‬يمكننا التأكيد بوجود ثالثة أجهزة للسلطة‬
‫بروما منذ أقدم العصور‪ :‬الملك (‪ )Rex‬ومجلس الشيوخ (‪ )Senex‬ثم الجمعية العمومية‬
‫(‪.)Comice‬‬

‫‪13‬‬
‫‪ - 1-‬الملك‪ :‬لم يكن الملوك الرومان مونارشيين بالمفهوم الحديث للكلمة ألنهم أصال زعماء‬
‫قبائل‪ ،‬ويمثلون المصالح المشتركة للعشائر‪ ،‬ويقودون الجيش في الحروب‪ ،‬كما كانوا يفصلون في‬
‫النزاعات الناشئة عن أفراد العشائر وهم أيضا كبار الكهنة للمعبودات‪ .‬ووظيفة الملك لم تكن وراثية‬
‫بل زعماء العشائر و"الشعب" الروماني هو الذي كان ينتخب الملك‪ ،‬وحسب الروايات الرومانية فقد‬
‫ظل الملوك يحكمون روما حتى سنة ‪ 500‬ق‪.‬م‪ ،‬ومن بين السبعة أسماء التي وصلتنا هناك ‪3‬‬
‫ملوك األخيرين هم الذين اعتبروا شخصيات تاريخية وهم‪ :‬طرقين القديم ‪ Tarquin‬وسرفيوس‬
‫طوليوس ‪ Servius Tullius‬ثم طارقين‪، II‬حيث أسماء هؤالء نجدها في النقوش األتروسكية‪.‬‬

‫‪ -2‬مجلس الشيوخ )‪ :)Senat‬وهو عبارة عن مجلس لزعماء العشائر لذلك كانوا يسمون‬
‫أيضا باآلباء ‪ ،Patres‬وحسب الرواية كانوا في البدء يصلون إلى ‪ 100‬عضو لكن بانضمام‬
‫عشائر جديدة ارتفع عددهم إلى ‪ 300‬عضو واحد عن كل عشيرة‪.‬‬

‫‪ -3‬جمعيات الشعب (‪ :)Comices‬وهي من االجهزة القديمة بروما حيث كان الشعب‬


‫الروماني يجتمع فيها ويوزع إلى عدة جمعيات شعبية والتي كانت تستدعى من طرف الملك الذي‬
‫كان يناقش معها عدة قضايا أساسية‪ ،‬كقضية السلم وقضية الحرب أو إصدار قوانين جديدة أو‬
‫إدماج عشائر جديدة في المجموعة القديمة‪ .‬وكان الباطريسيون وزبناؤهم فقط هم من يشارك في‬
‫االقتراع أما البليبيين الذين ال أسالف لهم فيحرمون من ذلك‪.‬‬

‫ومبدئيا كانت روما قديما مجتمع بدون فئات‪ ،‬وتسيير الشؤون العامة يتم بطريقة أبوية في‬
‫غياب الدولة‪ ،‬ولكن بدأت تظهر نواة أشكال أولى للحكومة موجهة أصال ضد الزبناء والبليبيين‬
‫الذين سيتم استعبادهم مع مرور الوقت‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تفكك المجتمع العشائري بروما‪ .‬القرنين ‪ 8‬و‪ 7‬ق‪.‬م‬

‫‪ - I‬النمو االقتصادي واالجتماعي في الالتيوم وروما‪ :‬أولى التأثيرات اليونانية‪:‬‬

‫دخلت إيطاليا في المرحلة الثانية من العصر الحديدي ابتداء من القرن‪ 7‬ق‪.‬م‪ ،‬حيث أصبح‬
‫معدن الحديد هو الطاغي كما انتشر استعمال الفخار‪ ،‬مما يدل على أن الحرف بدأت تستقل عن‬
‫الفالحة‪ ،‬وظهور نوع من المساكن تحت مستوى سطح األرض يدل على االنتقال الى مرحلة‬
‫االقتصاد الفالحي القار‪ ،‬وأيضا وجود أدوات من صنع اجنبي ( فنيقي خصوصا) يدل على نشاط‬
‫المبادالت مع العالم الخارجي‪ ،‬وبدا جليا أن النظام العشائري بدأ يفقد أهميته لصالح االقتصاد‬
‫العائلي‪.‬‬

‫ومما ساهم في تطوير االقتصاد خالل القرنين ‪ 8‬و‪ 7‬ق‪.‬م‪ ،‬أن الساحل الغربي والجنوبي‬
‫اليطاليا وجزيرة صقلية كان كله عبارة عن مستعمرات يونانية‪ .‬وقد نشر المعمرون اإلغريق بين‬
‫السكان األصليين تقنياتهم المتقدمة وأدواتهم ومعتقداتهم‪ ،‬حيث أن االتروسكيين والالتين سيقتبسون‬
‫عنهم حروف الهجاء وفي القرن ‪ 6‬ق‪.‬م وانطالقا من وجود عدد من القطع الخزفية اآلتيكية (سهل‬
‫أتيكافي بالد اليونان) في عدد من المواقع الرومانية‪ ،‬فإن أثينا قد مارست تأثي ار حضاريا كبي ار على‬
‫سهل الالتيوم‪ .‬وفي القرن ‪ 5‬ق‪.‬م تم إنشاء عدد من المنشآت العمرانية على الطراز العمراني‬
‫اليوناني‪ .‬وهكذا يمكننا القول بأن تأثير المستوى الثقافي الرفيع اليوناني‪ ،‬شكل عامال منشطا للحياة‬
‫اإلقتصادية واإلجتماعية في روما‪.‬‬

‫‪ - II‬االتروسكيون وحضارتهم‪ :‬جيران الشعب الالتيني الشماليون هم االتروسكيون الدين‬


‫مارسوا هم أيضا تأثيرهم على الالتيوم وروما‪ .‬لكن العلم لم يحل إلى اآلن "المسألة األتروسكية"‪:‬‬
‫فإسم هذا الشعب لم يتحدد بشكل قاطع‪ :‬فاإلغريق كانوا يسمونهم ‪ Tyrrhénnes‬والمصريون‬
‫‪Denys‬‬ ‫يسمونهم ‪ Tursch‬اما الرومان فسموهم ‪ Tusci‬وحسب الكاتب اليوناني‬
‫‪ d'halicarnasse‬فهم يسمون انفسهم ‪ ،Raseni‬وعلى الرغم من اكتشاف اكثر من ‪ 10‬آالف‬
‫من النقوش االوتروسكية فإن لغتهم لم يتم فك رموزها الى اليوم‪ .‬وهم ال ينتمون الى مجموعة‬
‫الشعوب اإليطالية ‪ ،‬فقد اعتبر هيرودوت ان اصلهم من آسيا الصغرى وجل المؤرخين المعاصرين‬
‫يتبنون هذا الرأي‪ .‬ومنهم من يرى فيهم معمرين هاجروا من طروادة الى ايطاليا بعد اندحار قوتهم‬
‫بآسيا الصغرى‪ .‬وفعال نجد في حضارتهم عناصر حضارة آسيا الصغرى والعالم اإليجي‪ .‬ومنذ‬
‫‪15‬‬
‫القرنين ‪ 7‬و‪ 6‬ق‪.‬م‪ ،‬ازدهرت االنشطة المهنية االتروسكية وكونوا عددا من المدن مثل طارقيني‬
‫‪ Tarquinie‬وبدأ المجتمع ينقسم إلى فئآت‪ .‬ومايدل على دلك هو أن إقليم ‪ Etrurie‬كانت به فئة‬
‫من االرستقراطيين مالكين للعبيد واالرض‪ ،‬يسكنون في قصور محصنة‪ .‬وشعوب ‪Etrurie‬‬
‫و‪ Ombrie‬والحوض االوسط من نهر البو كانوا خاضعين لالتروسكيين كأتباع ملزمين بدفع‬
‫جبايات والقيام بأعمال شاقة كبرى بناء األسوار الدفاعية للمدن والتحصينات والقصور وحفر قنوات‬
‫الري والتجفيف‪ .‬هذا وأن العبيد كانوا سابقا يشكلون فئة اجتماعية قائمة لها وضعيتها القانونية‬
‫واإلجتماعية الخاصة‪.‬‬

‫و فيما يخص المؤسسات السياسية االتروسكية فمعلوماتنا ضئيلة حاليا‪ ،‬فبعض المدن كانت‬
‫مسيرة من طرف الملوك ‪ ،les lars‬ولكن يوجد على رأسهم من يسمى ‪ Zilat‬أي "ملك الملوك"‬
‫الدي يختار على رأس كونفدرالية المدن اإلثني عشر‪ ،‬ويرأس اجتماعات ممثلي تلك المدن‪ ،‬وهو‬
‫الكاهن األكبر‪ ،‬وكانت شخصيته محاطة بمظاهر االكبار والقدسية‪.‬‬

‫و في الديانة االتروسكية نجد أن اآللهة الثالت هم ‪ :‬إله السماء ‪ ،) Jupiter( Tinia‬والهة‬


‫الزواج )‪ )Junon Uni‬والهة الحكمة ‪ ، )Minervie( Mnerfa‬وعبادة هذه اآللهة السماوية الكبرى‬
‫وغيرها من اآللهة الثانوية كانت تمتزج في الديانة االتروسكية مع عدد من االرواح الشريرة والخيرة‪،‬‬
‫وللحصول على مساعدة اآللهة واتقاء شرور االرواح الشريرة كان الكهنة يلجؤون الى الصلوات‬
‫والتضرعات وتقديم القرابين البشرية الى اآللهة‪.‬‬

‫‪ - III‬روما تحت رحمة الملوك االتروسكيين الغزاة‪ :‬أصبح من المؤكد أنه في القرن‪ 7‬ق‪.‬م‬
‫أسس االتروسكيون امبراطورية شملت الالتيوم وجزءا هاما من إقليم كامبانيا‪ ،‬والقرى القديمة للتالل‬
‫السبعة كانت أيضا تحت نفوذهم لتتحول إلى مدينة على الطراز االتروسكي التي ستصبح عاصمة‬
‫اإلقليم الالثيني" روما "‪ .‬وتحت التأثير االتروسكي تحولت المدينة الى مركز للصناعات الحرفية‬
‫والمبادالت واحيط بها سور‪ ،‬وبالساحة العمومية ‪ Capitole‬تم على الطراز االتروسكي بناء معبد‬
‫اإلله ‪ Jupiter‬الذي أصبح المعبد الرسمي لدى الرومان والالتين الدين اقتبسوا عدة أمور في‬
‫المجال االقتصادي والمعتقدات عن االتروسكيين‪ .‬ساهمت هده المقتبسات في تطور االنتاج المادي‬
‫الروماني خاصة استعمال العربة وصهر المعادن والبناء وحروف الهجاء‪ .‬وحسب االدب الروماني‬
‫فإن ثالث ملوك اتروسكيين حكموا روما في القرن‪ 7‬ق‪.‬م وهم‪ Tarquin‬األول و‪Servius Tullius‬‬
‫ثم ‪ Tarquin‬الثاني الذي تصفه الكتابات الرومانية كمستبد شرس وقامع للشعب‪ .‬لكن الواقع أن‬
‫حكم هؤالء الملوك الثالثة الغزاة االوتروسكيين كان يتسم باالستبداد‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫وفي هذه الفترة صدر ما عرف في األدب الروماني"بإصالح سرفيوس طوليوس" الذي اتخذ‬
‫سلسلة من اإلجراءات التي تم تطبيقها على فترات‪ .‬ذلك انه قبل تحطيم النظام الملكي شرع في‬
‫تكسير النظام االجتماعي القديم المبني على اساس عالقات القرابة والدم بين االشخاص ليحل‬
‫محله دستور حقيقي للدولة الجديدة مبني على اساس توزيع االرض واالختالف في امتالك الثروة‪،‬‬
‫وبدون شك أن سبب هذه التحوالت يكمن في احتدام الصراع بين البليبيين الذين تقووا بسبب نمو‬
‫االنتاج وبين الباطريسيين الذين فقدوا امتيازاتهم تحت الهيمنة االتروسكية‪ ،‬وكانت نتيجة هذا‬
‫الصراع هي الزيادة في تفكيك المجتمع العشائري‪ .‬ومن جهة أخرى فإن مصالح االسياد الجدد‬
‫االتروسكيين ساهمت في وضع حد لألوضاع السائدة قديما ألنهم يعتبرون النبالء الباطريسيين‬
‫أتباعا لهم مثلهم مثل عموم البليبيين‪ .‬وهكذا بدأ التمييز داخل المجتمع ال يتم على اساس االنتماء‬
‫الى العشيرة بل على اساس الثروة‪ .‬وعلى راس كل ‪ 5‬سنوات كان يتم إحصاء السكان وممتلكاتهم‬
‫ليعاد توزيعهم على الفئات الخمسة التي انقسم إليها الشعب‪ ،‬فيصنفون في هذه الفئات حسب‬
‫ثرواتهم‪ ،‬وبما ان الفالحة هي النشاط المهيمن فالملكية االساسية هي االرض ومن يملك ‪5‬‬
‫هكتارات ينتمي الى الفئة االولى النبيلة ومن يملك ‪3.75‬هكتار ينتمي الى الفئة الثانية ومن يملك‬
‫‪2.5‬هكتار ينتمي الى الفئة الثالثة‪ ،‬ومن يملك ‪ 1.25‬هكتار ينتمي الى الفئة الرابعة‪ ،‬ومن يملك‬
‫نصف هكتار ينتمي الى الفئة الخامسة‪ ،‬اما الذين ال يملكون االرض كالحرفيين والتجار فكانوا ال‬
‫ينتمون الى اية فئة ومعهم الفقراء‪.‬‬

‫وهذا التقسيم الجديد المبني على اساس الثروة تم من اجل تسهيل عملية تحصيل الضرائب‬
‫وعلى الخصوص ألداء الخدمة العسكرية‪ ،‬فسكان المدينة ونواحيها كانوا مقسمين الى اربعة‬
‫مقاطعات وكل فرد من الباطريسيين والبليبيين عليه ان يقدم مختلف الجبايات المفروضة وكل‬
‫الخدمات لصالح الدولة وعلى راسها الخدمة العسكرية‪ ،‬وهكذا في اوقات التأهب للحرب كانت كل‬
‫فئة تقدم محاربيها في اطار سنتوريات اي مائة فرد ‪ ،centaines‬وهذا التنظيم كان ال يعير‬
‫اإلهتمام باالختالفات اإلثنية بين الشعب الروماني‪ ،‬ينتمون أو ال ينتمون للعشائر‪ .‬هكذا فإن‬
‫البليبيين ورغم األعباء الجديدة التي فرضتها عليهم واجبات الخدمة العسكرية التي لم يكونوا ميالين‬
‫اليها‪ ،‬اعتبروا اصالح سرفيوس طوليوس الذي يسوي بينهم وبين الباطريسيين‪ ،‬كأحد اهم‬
‫انتصاراتهم ضد الفئة االرستقراطية‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ويمكن ان تكون قد ظهرت في هذه الفترة النواة االولى لما سيسمى "بالجمعيات السنتورية"‬
‫وسوف لن تتخذ في البداية شكل الجمعيات العمومية كما سيكون عليه االمر في ما بعد ولكن فقط‬
‫شكل تجمعات ولقاءات بين العسكريين‪.‬‬

‫‪ - IV‬سقوط الهيمنة االتروسكية ونهاية العصر الملكي‪ :‬أكدت الكتابات الرومانية ان‬
‫سقوط هيمنة االتروسكيين كانت سنة ‪ 510‬ق‪.‬م‪ .‬وبالرغم من ان هذا التاريخ ال يمكن ان يكون‬
‫مضبوطا غير ان المؤكد هو ان االتروسكيين قد غادروا روما في حوالي ‪ 500‬ق‪.‬م‪ .‬فالتمرد بدأ‬
‫على التوالي بين مدن الالتيوم التي كانت تساندها المستعمرات اليونانية المعادية لالتروسكيين الذين‬
‫فشلوا في مواجهة تلك المدن‪ ،‬إال ان الوضع سينفجر بروما حيث قاد الباطريسيون االنتفاضة إال‬
‫انه سرعان ما شارك الشعب برمته‪ ،‬حيث التقى غضب الباطريسيين الذين حرمهم الملوك‬
‫االتروسكيين من امتيازاتهم الوراثية‪ ،‬بغضب الشعب الذي كان يعاني من ثقل الضرائب واألعمال‬
‫الشاقة الكبرى التي فرضها عليهم آخر ملك اتروسكي وهو طرقين ‪ II‬الذي أُجبر على الفرار الى‬
‫اتروريا‪.‬‬

‫وهكذا انتهى العصر الملكي في تاريخ روما ومعه فترة من تطوره االجتماعي‪ ،‬فالمجتمع‬
‫العشائري وصل قمة تفككه لتبدأ مرحلة جديدة‪ ،‬تميزت بهدم بقايا المجتمع القديم وبناء مجتمع‬
‫جديد‪ ،‬مجتمع الفئات‪ ،‬وبموازاة ذلك الظهور التدريجي ألشكال الدولة الرومانية‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫المراحل األولى من استقالل روما ( ‪ 350-500‬ق‪.‬‬

‫إضفاء الطابع العسكري على المجتمع الروماني‬

‫‪ - I‬روما وجبرانها في القرن ‪ 5‬ق‪.‬م‬

‫فبعدما تحررت روما من الهيمنة األتروسكية قامت بسلسلة من الحروب العنيفة ضد‬
‫جيرانها‪ .‬فقد قاوم الرومان زهاء قرن من الزمان (القرن ‪ 5‬ق‪.‬م) ضد األتروسكيين الذين لم‬
‫يستسلموا بالرغم من فقدانهم لالتيوم وروما‪ ،‬وفي نفس الوقت كان على الرومان مواجهة هجومات‬
‫السابنيين ضد الالتيوم من الشمال الشرقي‪ ،‬كما أنه من جهة الشرق والجنوب كانت الشعوب‬
‫الجبلية مثل اإليكيين والفولسكيين ‪ Eques‬و‪ Volsques‬تقوم بغزوات على الالتيوم‪ .‬ولم تتمكن‬
‫روما من حماية نفسها إال بإلقاء القبض على حاملي األسلحة‪ ،‬وانضمت في بداية القرن‪ 5‬ق‪.‬م إلى‬
‫مجموعة المدن المتحالفة باسم الكونفدرالية األريسية‪ ،‬وهو حلف للمدن الالتينية على رأسها مدينة‬
‫‪ Aricia‬وذلك تحت ضغط الخطر األتروسكي‪ ،‬كما تم عقد اتفاق للتعاون المتبادل مع السكان‬
‫الالتين في حالة الحرب‪.‬‬

‫هذه التحالفات التي وحدت بشكل وثيق بين هذه الشعوب‪ ،‬ساعدت روما على تحقيق‬
‫استقاللها ومساهمة في تحقيق االستقرار في عالقات الشعوب المستوطنة لكل إيطاليا الوسطى منذ‬
‫القرن ‪ 4‬ق‪.‬م‪ ،‬ولكن في السنوات األولى من هذا القرن تعرضت إيطاليا الشمالية والوسطى إلى‬
‫كارثة غزو الغاليين الذين كانوا مستقرين في كل من أروبا الغربية والوسطى من المحيط األطلسي‬
‫غربا حتى المجرى األسفل من نهر الدانوب‪ .‬ومنذ نهاية القرن ‪ 5‬ق‪.‬م اخترقت بعض الشعوب‬
‫الغالية سلسلة األلب واستوطنت سهل البو‪ ،‬ومن هنا توجه الغاليون نحو الجنوب محتلين أمبريا‬
‫وعددا من المدن األتروسكية‪ .‬قال المؤرخ الالتيني تيت ليف بأن"هذا العدو لم يسبق لنا رؤيته وال‬
‫السماع عنه يتقدم من سواحل المحيط ومن النهايات القصوى للعالم" وبعد ‪ 3‬أيام من الحروب‬
‫تمكن الغاليون من السيطرة على روما واحراقها وقتل عدد من سكانها وذلك سنة ‪ 390‬ق‪.‬م‪ ،‬ولم‬
‫ينسحب الغاليون من روما وأراضيها إال مقابل غرامة فادحة‪ .‬وتوالت غزوات الغاليين على روما‬
‫لمدة ‪ 40‬سنة‪ ،‬أضعفتها وأفقدتها هيمنتها على الالتيوم وأصبح عليها الصراع الستعادة قوتها‪ .‬والى‬
‫حدود أواسط القرن‪ 4‬ق‪.‬م فقط تمكنت من استعادة قوتها لتواجه الغزاة‪ ،‬وفي ‪ 350‬ق‪.‬م كانت‬
‫هزيمة االيكيين والفولسكيين نهائية كما احتل الرومان مجموعة من المدن األتروسكية‪ ،‬وابتداء من‬

‫‪19‬‬
‫‪ 349‬ق‪.‬م أوقف الغاليون هجومهم على الالتيوم إد أن أراضي روما وحلفاءها اتسعت مساحتها في‬
‫هذه األثناء‪ .‬وعلى طول تاريخ روما ال توجد فترة مليئة بالمخاطر والتهديدات مثل ‪ 150‬سنة‬
‫األولى من استقاللها ولم تنجح في الحفاظ على أراضيها وحماية حريتها إال بمد قواتها إلى أبعد‬
‫حدود البالد‪.‬‬

‫‪ - II‬اإلصالحات العسكرية للقرنين‪ 5‬و‪ 4‬ق‪.‬م وبداية التفوق العسكري الروماني‪:‬‬

‫قطعت الحروب المرهقة التي توالت باستمرار لمدة ‪150‬سنة‪ ،‬العالقات التجارية والثقافية بين‬
‫روما وجيرانها الذين بلغوا مستويات رفيعة من اإلزدهار والتقدم‪ ،‬فمن جهة هناك خصاص في‬
‫المعادن والحبوب كما توقفت الواردات اليونانية‪ ،‬إضافة إلى أن أهمية الحرفيين والتجار التي‬
‫تعاظمت أيام األتروسكيين تقلصت بسبب الحروب‪ ،‬لكن بالمقابل تزايدت أهمية كبار مالكي‬
‫األرض والفئات المزارعة خصوصا من الباطريسيين الذين حولوا إلى ممتلكاتهم الخاصة تلك‬
‫األراضي التي منحت سابقا لألشخاص الرومان‪ .‬وحتى يتمكنوا من استغالل مكثف لألرض‪ ،‬قام‬
‫الرومان بتجفيف المستنقعات التي كانت تمأل سهل الالتيوم الذي تحول إلى بلدة خصبة‪ .‬واذا‬
‫كانت نواة الجيش الروماني قد تكونت سابقا من وحدتين أصبحت اآلن مؤلفة من ‪ 4‬وحدات ألن‬
‫العمليات العسكرية أصبح ضروريا توجيهها في وقت واحد للجهات االربع المهددة‪ ،‬وبما أن البالد‬
‫جبلية ووعرة فإن الحرب ضد عدو يتحرك باستمرار فرضت تقسيم كل وحدة كبيرة إلى مجموعات‬
‫صغرى قادرة على التحرك السريع والمستقل‪ .‬إال ان النقص الكبير لالسلحة المعدنية ساهم في‬
‫جعل الوحدات العسكرية الرومانية كثيرة الحركة وسريعة‪.‬‬

‫‪ - III‬الجمهورية العسكرية والباطريسيين في بداية القرن ‪ 5‬ق‪.‬م‪:‬‬

‫فاالهمية القصوى للقضايا الحربية أدت الى إعادة تنظيم لجهاز الحكومة في اتجاه عسكرة (‬
‫‪ )Militarisation‬وشاملة‪ ،‬فبعد انتهاء السلطة المطلقة للملوك االتروسكيين اصبحت الحكومة‬
‫"ملكا للشعب"‪ ،‬لذا اصبحت الدولة الرومانية تسمى"بالجمهورية"‪ ،‬ولكن بما أن هذه الفترة اتسمت‬
‫بالحروب فال نسمع باسم "الشعب"بل نسمع بعبارة "الشعب العسكري" وعبارة "الجيش الروماني" لهذا‬
‫فإن الجمعيات السنتورية او تجمعات الجيش للنقاش والتقرير في القضايا الحربية وانتخاب األطر‬
‫العليا للجيش‪ ،‬فقد أصبحت هذه الجمعيات السنتورية هي المجلس األعلى للحكومة‪ .‬وقرار اعالن‬
‫الحرب يتخذ فيها عن طريق التصويت لجميع السنتوريات‪ ،‬إال انه ناذ ار ما تتم استشارة سنتوريات‬
‫المواطنين الفقراء‪ ،‬اما تصويت االغنياء فهو الحاسم‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ثم قاضيين ينتخبان سنويا‪ ،‬كانا يختاران من بين الباطريسيين ويأتي مجلسهم في المرتبة‬
‫الثانية في حكومة الجمهورية الرومانية‪ ،‬سميا بالحاكمين يشكالن االطر العليا للجيش الى جانب‬
‫احتكارهما لسلطات مدنية واسعة‪ .‬وإلضعاف القوة العسكرية وتثبيت المشروعية‪ ،‬تم التقليص من‬
‫سلطاتهما الواسعة‪ ،‬فأعطي الحق لكل منهما بالتدخل لتعديل ق اررات اآلخر فأجب ار على التشاور‬
‫بينهما مسبقا‪ ،‬فأصبحا يعينان باسم " القناصل ‪ " Conseilles‬مما سيزيح عنهما ذلك الطابع‬
‫العسكري المستبد‪.‬‬

‫والفئة الثانية من القضاة هم قضاة المالية ‪ ،Questeurs‬كانت اإلختصاصات الواسعة‬


‫لهؤالء القضاة بمثابة انتقال نحو التقليص من سلطات وامتيازات القائدين العسكريين‪ .‬وهؤالء قضاة‬
‫المالية االربعة كانوا بمثابة ضباط للقائدين‪ ،‬وهؤالء كانوا يقررون في بعض القضايا القانونية‬
‫ويسهرون على تسيير الشؤون اإلدارية خاصة اإلقتصادية والمالية‪ ،‬وتوسعت اختصاصاتهم لتشمل‬
‫جمع الضرائب والذعائر وبيع غنائم وأسرى الحروب وكذلك سك العملة‪ ،‬وفي نفس الوقت حافظوا‬
‫على وظيفة ضباط القنصلين حيث يصحبوهما في الحروب‪ .‬لكن اهم إجراء حد فعال من سلطة‬
‫القضاة السامون هو أن كل مواطن حكم عليه باالعدام له الحق في اللجوء إلى الجمعية الشعبية‪،‬‬
‫لكن في حالة ما إذا كان نظام الدولة مهددا بخطر ما فإن القضاء العسكري األعلى سرعان‬
‫مايستعيد سلطته المطلقة وذلك بتعيين دكتاتور من بين الباطريسيين االغنياء لمدة ‪ 6‬أشهر يركز‬
‫خاللها كل السلطات‪ ،‬وعند انتهاء هذا األجل فإذا لم تستمر الظروف التي أدت إلى هذا التعيين‬
‫فإن الدكتاتور يتخلى عن منصبه‪.‬‬

‫كما أن الطابع العسكري للجهاز الحكومي مس أيضا حتى مجلس الشيوخ‪ ،‬ذلك أن قدماء‬
‫القضاة العسكريين قبل إنهاء مدة خدمتهم تُعرض عليهم مقاعد في مجلس الشيوخ‪ ،‬لكن مهمتهم‬
‫كانت منحصرة في االنتخاب واإلدالء بأصواتهم فقط‪ ،‬دون اتخاذ الق اررات او اقتراح اجراءات‬
‫معينة‪ .‬والميزة العسكرية لمجلس الشيوخ جعلته ي ِ‬
‫خضع كل القضاة الذين ينفذون ق ارراته‪ .‬هكذا‬ ‫ُ‬
‫فالجمهورية الرومانية منذ البداية كانت تمثل هيمنة األرستقراطية العسكرية وهيمنة مجلس الشيوخ‪،‬‬
‫مما يعكس حقيقة الواقع االجتماعي في العهود األولى من الجمهورية الرومانية‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫القضاء على بقايا النظام العشائري‬
‫وتكوين مجتمع الفئات والدولة بروما‬

‫‪ - I‬ثورة البليين وبداية تنظيمهم‪:‬‬

‫فالقضاء على النظام العشائري تم في روما بتنظيم ثورة بعد إصالح سرفيوس طوليوس‬
‫بزمن بعيد‪ ،‬فالمصادر التي تحدثت عن هذه الفترة من تاريخ الرومان غير كافية‪ .‬فمؤلفات – ‪Tite‬‬
‫‪ Live‬وغيره تكتظ فيها افتراضات الحوليين وشعراء العصور الالحقة وأخبار القدماء كلها تحكي ما‬
‫حق قه األسالف من انتصارات بروما‪ .‬لكن ما يمكن تأكيده بالنسبة لهذه الثورة هو أن الصراعات‬
‫بين البليبيين والباطريسيين كانت البداية‪ .‬ففئة الباطريسيين المهيمنة على الشعب الروماني كانت‬
‫تحاول الحفاظ على امتيازاتها القديمة‪ ،‬وقد اتيحت لها الفرصة عند سقوط الملكية حيث قامت‬
‫بمركزة السلطة في لدى بعض العائالت الباطريسية‪ .‬كما حاول هؤالء الحفاظ على استم اررية‬
‫االقتصاد الجماعي القديم للعشيرة التي اصبحت اراضيها ومراعيها تتضاءل بسبب توزيع بعض‬
‫القطع االرضية لزبناءها واعضاءها مؤقتا لتتحول إلى ملكية خاصة وراثية‪ .‬لذلك فإن اهتمام‬
‫الباطريسيين باالراضي العمومية الغير موزعة وباالراضي الجديدة التي تم غزوها اصبح متزايدا‬
‫حيث كان هدفهم الدفاع عن حقوقهم القديمة في االحتكار االقتصادي‪ .‬وفي نفس الوقت بدأت‬
‫تتشكل فئة حضرية من البلبيين األغنياء الدين كانوا يطالبون بالمساواة في الحقوق السياسية مع‬
‫الب اطريسيين وكذلك حقهم في ممارسة وظيفة القضاء وبالسماح لهم بالمصاهرة مع الباطريسيين‪.‬‬
‫أما البلبيين الفقراء فكان مطلب إلغاء الديون من أهم مطالبهم خالل القرن ‪ 5‬ق‪.‬م‪ ،‬حيث كان جزء‬
‫منهم قد تحولوا إلى عبيد بضيعات الباطريسيين‪ .‬وبالنسبة للبلبيين كانت قضية األرض من القضايا‬
‫األساسية التي نادوا بتسويتها‪ :‬أي اإلستفادة من األراضي العمومية على قدم المساواة مع‬
‫الباطريسيين‪ ،‬فكان البليبيون األغنياء وحدهم القادرون على الدفاع عن مطالبهم السياسية‪.‬‬

‫فالصراع الذي قادة البليبيون الحضريون قد اتخذ شكل ثورات وتمردات واستقاالت‪ .‬وفعال‬
‫تمردا ت البلبيين في الجيش كانت تهديدا لألرستقراطية الباطريسية الحاكمة‪ ،‬ألن هؤالء البلييين كانوا‬
‫يهددون بحل الجيش عن طريق ثورة عسكرية‪ ،‬فالجيش المتمرد الذي كان مكونا أساسا من البليبيين‬
‫كان يرفض الخروج إلى الحرب او كان يغادر مواقعه ويعود إلى المدينة‪ .‬وخالل فترة الفتن توقفت‬

‫‪22‬‬
‫الحياة االقتصادية داخل المدينة كما هجر الفالحون اراضيهم‪ ،‬واستحوذ الجيش على ضيعات‬
‫الباطريسيين وحاصروا مساكنهم‪ ،‬اما على الحدود الغير محمية كان األعداء يهاجمون األراضي‬
‫الرومانية مما دفع الباطريسيين وقادة الجيش الى القيام بتنازالت ألعادة النظام والمصالحة الوطنية‬
‫مع المتمردين‪ ،‬ولما انتزع البليبيون بعض التنازالت تمكنوا بالتدريج من تحقيق برنامجهم‬
‫االصالحي‪.‬‬

‫‪ - II‬إنشاء الجمعيات البليبية والمحكمة )‪: (Tribrunat‬‬

‫مع بداية القرن ‪ 5‬ق‪.‬م أي بعد أول تمرد بليبي ظهرت الجمعيات البليبية ( ‪Concilia‬‬
‫‪ ، ) Plebis‬وهي عبارة عن تجمعات معترف بها من طرف الباطريسيين الحاكمين‪ ،‬وتضم كل‬
‫األشخاص من وضعية بليبية‪ ،‬وكان لق ارراتها طابع إلزامي بالنسبة لكل الجماعة البلبية‪ ،‬وكانت هذه‬
‫الجمعيات تعقد في الساحة العمومية‪ .‬ومنذ سنة ‪ 471‬ق‪.‬م أي بعد ثاني تمرد بليبي اصبحت كل‬
‫القبائل لها الحق في اإلدالء بأصواتها داخل الجمعية التي اصبحت تسمى بالجمعية العمومية التي‬
‫تضم عموم الشعب‪ .‬وحسب الروايات الرومانية أيضا فإنه مند سنة ‪ 449‬ق‪.‬م اضطر قنصلين‬
‫باطريسيين هما ‪ Horatius‬و‪ Valérius‬إلى إصدار قانون يقضي بأن الق اررات البليبية (‬
‫‪ ) Plébiscites‬لها نفس مفعول القانون الموجه الى كل الشعب الروماني‪ .‬وهكذا فإن عددا من‬
‫ق اررات الجمعيات البليبية دخلت حيز التنفيذ كقانون ‪ Canuleia‬سنة ‪ 445‬ق‪.‬م الذي يسمح‬
‫بالمصاهرة بين الباطريسيين والبليبيين‪.‬‬

‫كما تؤكد المصادر األدبية أنه إبان التمرد األول سنة ‪ 494‬ق‪.‬م انتخب البليبيون ألول مرة‬
‫قضاة الشعب الروماني او بدقة القضاة البليبيين‪ ،‬وكانت شخصية القاضي محترمة ومقدسة‪ ،‬ومنذ‬
‫هذه الفترة كانوا ينتخبون من طرف الجمعيات القضائية‪ ،‬ويتدخلون لصالح البلبيين ضد أية سلطة‬
‫باطريسية باستعمال حق اإلعتراض (‪ )Veto‬في وجه كل اإلجراءات التي تمس بالمصالح البليبية‪.‬‬
‫كما يترأس القاضي اجتماعات الجمعيات البليبية التي يستدعيها للتشاور والنقاش فيما يقترحه من‬
‫ق اررات ومشاريع‪ .‬وقد شكل القضاة حماية للبليبيين ضد الوصاية الباطريسية‪ ،‬فكانوا يتمتعون‬
‫بسلطات خاصة وواسعة لكن بقيود‪ ،‬حيث أن القاضي لم يكن يقود العمليات العسكرية‪ ،‬وكانت‬
‫سلطاتهم محدودة داخل المدينة وال تتعداها إلى البوادي واألرياف‪ .‬وأثناء عمله داخل السنة يمنع‬
‫عليه مغادرة المدينة‪ ،‬وال يقضي أية ليلة خارج بيته الذي يظل مفتوحا‪ .‬وطبعا فإن قوة القضاة ال‬
‫تتوقف إال عند تعيين الديكتاتور‪ .‬كان في البداية عدد القضاة البليبيين ‪ :‬قاضيين ثم ‪ 5‬ليصل‬
‫عددهم إلى عشرة‪ ،‬ثم أخدوا يوسعون اختصاصاتهم بالتدريج حتى أصبحوا يراقبون ق اررات اعضاء‬

‫‪23‬‬
‫مجلس الشيوخ‪ ،‬فكانوا يحضرون جلساتهم ومناقشاتهم ويستمعون لق ارراتهم حتى إذا كانت إحداها‬
‫تتعارض ومصلحة البلبيين فإنهم يستعملون حق اإلعتراض‪.‬‬

‫‪ - III‬المجلس العشائري ‪ Décemvirat‬وقانون اللوحات اإلثني عشر‪:‬‬

‫من بين العوامل التي أعطت قوة لفئة البليبيين هي القانون المكتوب‪ ،‬ذلك أن ما يسمى‬
‫بالعرف كان يشكل سر قوة الباطريسيين حيث كان يفتح المجال للقناصل لممارسة هيمنتهم في‬
‫المجال القضائي والقانوني حتى منتصف القرن ‪ 5‬ق‪.‬م‪ ،‬حيث وجد مجلس الشيوخ نفسه مجب ار من‬
‫المحاكم البليبية على تسجيل ونشر القرانين‪ .‬وطبعا فإن إصالحا كهذا لم يدخل حيز التنفيذ إال بعد‬
‫صراع طويل بين مؤيدي فكرة االصالح وبين فئة من المحافظين الذين يريدون اإلبقاء على الوضع‬
‫دون تغيير‪ .‬وفي سنة ‪ 452‬ق‪.‬م كونت الجمعيات السنتورية لجنة مؤلفة من ‪ 10‬أعضاء يسمون‬
‫بالديسموفيريين ‪ Décemvirs‬يمارسون سلطات ديكتاتورية غايتها هي تسجيل القوانين‪ ،‬استمر‬
‫عملها سنتين‪ .‬في سنة ‪ 451‬ق‪.‬م كان أعضاءها باطريسيون في مجموعهم لكن في سنة ‪450‬‬
‫ق‪.‬م اصبحت مكونة من‪ 5‬بليبيين و‪ 5‬باطريسيين يرأسهم اشهر ممثلي الباطريسيين هو ‪Appius‬‬
‫‪ Claudius‬وكانت نتيجة عمل اللجنة هي نشر قانون مكتوب على ‪ 12‬لوحة من البرونز‪ ،‬هذه‬
‫اللوحات وماكتب عليها لم تصلنا في شكلها األصلي‪ ،‬وما نعرفه هو بعض البنود التي وصلتنا‬
‫مثناترة في مؤلفات العصور الالحقة‪ .‬وما يثير االنتباه هو ان عددا من هذه البنود يتميز بالطابع‬
‫العتيق فهي إعادة لألحكام واالعراف القديمة‪ .‬فالعقوبات كانت في تصور الرومان تأخذ شكل‬
‫سخط ولعنة اآللهة ضد المجرمين‪ .‬ولكن مع ذلك فإن بعض األحكام من قانون ‪ 12‬لوحة مستوحاة‬
‫من تيا ارت تقدمية شيئا ما‪ ،‬كتلك التي تهدف إلى الدفاع عن الملكية الخاصة‪ ،‬او تلك التي تهدف‬
‫إلى إضعاف نفوذ رؤساء العشائر والعائالت األرستقراطية أو تهدف الى جعل التشريعات القديمة‬
‫حول الديون أكثر إنسانية‪.‬‬

‫‪ - IV‬نهاية الصراع البلبي الباطريسي‪ :‬تكوين فئة مالكي العبيد‪ ،‬تنظيم حكومة الدولة ‪:‬‬

‫فبعد تأسيس لجنة الديسموفيريين سيواصل البليبيون وأتباعهم الصراع الدي سينتهي‬
‫بانتصارهم‪ :‬في ‪ 445‬ق‪.‬م أدخل حيز التنفيد قانون كانوليا‪ Canuleia‬الذي سيسمح بالزواج بين‬
‫الباطريسيين والبلبيين وابتداء من ‪ 444‬ق‪.‬م لما بدأ البلبييون يصلون إلى منصب القنصلية‪ ،‬بدؤوا‬
‫ينتخبون قضاة عسكريين بليبيين يتوفرون على سلطات قنصلية ولكن ليس لهم الحق في ولوج‬
‫مجلس الشيوخ‪ ،‬ومند سنة ‪ 390‬ق‪.‬م والى حدود سنة ‪367‬ق‪.‬م تمكن القضاة العسكريون من إزاحة‬
‫منصب القنصل نهائيا‪ .‬وكان يتوجب وجود عدد كبير من البليبيين داخل هيئة القضاة‪ ،‬إال أن‬

‫‪24‬‬
‫الباطريسيين ظلوا يدافعون باستماتة عن امتيازاتهم السياسية‪ ،‬هكذا ابتداء من سنة ‪ 343‬ق‪.‬م بدؤوا‬
‫ينتخبون مراقبين اثنين من بين اشهر القناصل على رأس كل ‪ 5‬سنوات لمدة ‪ 18‬شه ار للقيام‬
‫بإحصاء المواطنين والثروات حتى يتم توزيعهم على الفئات المناسبة لهم‪ .‬كما ان هؤالء المراقبين‬
‫كانت سلطتهم تهم المعتقدات‪ ،‬وطبعا هذا النفوذ الواسع للمراقبين اصبح عند الباطريسيين بمثابة‬
‫وسيلة قوية لحصر التحوالت اإلجتماعية‪ ،‬كما ان معرفة كل القضايا التي تهم األراضي والطرق‬
‫والمناجم والقنوات والمؤسسات العمومية لم تتأخر لتصبح من اختصاص المراقبين‪ ،‬لذلك وجد قسم‬
‫من رجال األعمال انفسهم متوقفين على المراقبين مما سمح لهؤالء االخيرين من ممارسة تأثير‬
‫ضخم على األنشطة والسلوك السياسي للعناصر البليبية التي تشكل أخطر منافس سياسي‬
‫للباطريسيين‪ .‬أما الشرائح السفلى من البليبيين فهي األخرى قد حصلت على تنازالت ذات طابع‬
‫اجتماعي واقتصادي‪ ،‬وأهم هذه التنازالت هي أن الباطريسيين وافقوا على توزيع دائم لألراضي‬
‫الجديدة على الفالحين البليبيين‪ ،‬وخالل السنوات التي تلت الغزو الغالي إليطاليا سنة ‪ 390‬ق‪.‬م‬
‫بلغ الصراع ذروته‪ .‬وقد حاولت الفئة الباطريسية بدون جدوى كسر الحركة الشعبية بواسطة فترات‬
‫طويلة من الديكتاتوريات إلى حدود سنة ‪ 367‬ق‪.‬م حيث أن الديكتاتور ومجلس الشيوخ اضطروا‬
‫إلى إعادة النظر في قانون ‪ Licinia‬و‪ Sextia‬الذي يهم ثالث نقاط أساسية من البرنامج البليبي‪:‬‬
‫القضية الفالحية وقضية الديون والقضية السياسية‪.‬‬

‫‪ -1‬للقضية االولى‪ ،‬بفضل هذا القانون أصبح لكل المواطنين الرومان الحق في الحصول‬
‫على االراضي العمومية وبالتالي تم القضاء على االحتكار الباطريسي في هذا المجال‪.‬‬

‫‪ -2‬بمجرد ما يتم دفع الفوائد من طرف المدين يؤدي ذلك إلى إسقاط الدين عنه‪ -3 .‬بعد‬
‫انتهاء فعالية القضاة العسكريين يتم الرجوع إلى انتخاب قنصلين سنويا حيث احدهما ينبغي ان‬
‫يكون بليبيا‪.‬‬

‫في إطار التنازالت الباطريسية ‪ ،‬فقد ظهر منصب قضائي جديد يشغله ناظر المدينة‬
‫(المسؤول عن البناء وتموين المدينة الرومانية)‪ ،‬هؤالء النظار كانوا مكلفين بتنظيم االحتفاالت‬
‫وااللعاب الشعبية المرتبطة بالطقوس الدينية‪ ،‬كما يكلفون بالحفاظ على االمن بالمدينة‪ ،‬وبعد سنتين‬
‫فقط أصبح منصب الناظر مفتوحا للبلبيين الذين تمكنوا من ولوج عدد من المناصب االخرى بما‬
‫فيها منصب الديكتاتور‪ .‬وفي سنة ‪ 326‬ق‪.‬م صدر قانون بويطيليا ‪ Poetelia‬الذي وضع حدا‬
‫لعبودية الدين وتقرر ان كل المواطنين الذين استعبدوا لهذا السبب أحرار‪ .‬أيضا من نتائج هذا‬
‫الصراع القضاء على معظم بقايا المجتمع العشائري القديم‪ ،‬فالباطريسيون والبليبيون ال يشكلون‬

‫‪25‬‬
‫اليوم إال الفئة المهيمنة الواحدة وهي فئة "المواطنين الرومان االحرار"‪ .‬فالمواطنون ال يتمايزون فيما‬
‫بينهم باألصل ولكن بالثروة وبالمناصب التي يشغلونها‪ ،‬فأصبحت بعد ذلك كلمة " بليب "‪"Plébes‬‬
‫تعني سكان المدينة الفقراء‪ ،‬اما األرستقراطية الجديدة والمكونة من الشرائح العليا من الباطريسيين‬
‫والبليبيين فقد تسمى بالنبيلة‪ ،‬فأصبح بإمكان كل مواطن روماني بدون اعتبار لألصل أن يصبح‬
‫نبيال إذا نجح في ولوج منصب القاضي األسمى‪ .‬والى جانب هؤالء تكونت فئة العبيد المحرومين‬
‫من الحرية والمبعدين عن المبادرات اإلقتصادية‪ ،‬وهم غالبا أسرى الحروب وغنائم القراصنة وقطاع‬
‫الطرق‪ ،‬وفي قانون ‪ 12‬لوحة نجد عدة إشارات للعبيد أو للمحررين من العبودية ‪ ،‬ففيها مثال نجد‬
‫أن األسرى األجانب هم ملك للفاعل المباشر‪ ،‬عليه أن يستحوذ عليهم كأية غنيمة أخرى فبإمكانه‬
‫أن يبيعهم أو يستبدلهم‪...‬‬

‫و بتكون مجتمع الفئات عرفت حكومة الدولة تطو ار سريعا‪ ،‬ومن خصائص هذه الدولة هي‬
‫الطابع العسكري ثم الديمقراطية الوهمية‪ ،‬حيث في هذه الدولة كان من المفروض أن تصدر السلطة‬
‫من الشعب الروماني‪ .‬وأيضا لما يتعلق االمر بالقضايا االساسية كان البد من استشارة الشعب‪،‬‬
‫لكن عمليا كانت السلطة بعيدة عن ان تكون سلطة شعبية‪ ،‬فق اررات الجمعية الشعبية لم تكن إال‬
‫توجهات عامة وتتخذ بناء على مقترحات القضاة‪ ،‬كما لم يكن بإمكانها التدخل في الشؤون اإلدارية‬
‫والسياسية‪ .‬جمعيات القبائل التي هي اكثر الجمعيات الشعبية ديمقراطية لم تكن تمثل في واقع‬
‫األمر إال مالكي االرض المتوسطين والكبار خاصة وان المالكين الصغار لم يكن بمقدورهم‬
‫االنتقال دائما إلى روما للمشاركة في اإلنتخابات والتصويت‪ .‬كما ان هده الجمعيات كانت تعطي‬
‫الغلبة للفئتين المتوسطة والعليا‪ ،‬هكذا كان المجال مفتوحا لتشويه إرادة الشعب الروماني‪ .‬فقد لعب‬
‫القضاة دو ار هاما في حياة الدولة الرومانية من قناصل ونظار وقضاة عسكريين وبلبيين وقضاة‬
‫ماليون مهتمون باإلقتصاد‪ .‬فالهيأة القضائية وهي القوة المسيرة كانت بمثابة هيمنة األقلية‬
‫األرستقراطية الجديدة أو النبيلة التي قاومت تسرب عناصر جديدة وانضمامها إليها‪ ،‬فتحولت إلى‬
‫أقلية سائدة منغلقة‪ ،‬يتقاسم أفرادها الوظائف العليا فيما بينهم ويستحيل على أي فرد غريب أن‬
‫يصبح واحدا منهم‪.‬‬

‫إضافة إلى ان سيد الدولة الرومانية اصبح بدون منازع هو مجلس الشيوخ‪ ،‬حيث كانت‬
‫الخزينة بين يديه وهذا يؤدي إلى ارتباط قادة الجيش به للحصول على العتاد الحربي وعلى‬
‫األجور‪ .‬كما تتوقف علىيه مجلس كل التدابير اإلقتصادية‪ .‬وهو من يوزع المناصب األساسية على‬

‫‪26‬‬
‫القضاة‪ ،‬وهو الذي يمدد فترة عملهم إلى ما بعد األجل السنوي‪ .‬كما أن أعضاء مجلس الشيوخ‬
‫يحضرون في جلسات المحاكم‪ ،‬وهو الذي يستقبل ويرسل السفراء ويعدل أو يلغي االتفاقيات‪.‬‬

‫وما نسجيله عن هذه الدولة هو الطابع العسكري‪ ،‬فهي عبارة عن تنظيم سياسي للفالحين‬
‫المحاربين الذين كان لهم تكوين عسكري عالي‪ ،‬فالجيش الروماني كان أساسا من الفالحين‪ ،‬ألن‬
‫قاعدة اإلنخراط في الجندية انبنت على أساس ملكية قطعة ارضية‪ ،‬فالفرد القاطن في المدينة‬
‫والغني لكن ال يملك ارضا لم يكن يعمل إال في الوحدات اإلحتياطية فقط‪ .‬ولم تكن الخدمة في‬
‫صفوف الفرسان مخصصة إال لكبار المالكين‪ ،‬وهكذا نتج عن حروب القرن‪ 4‬ق‪.‬م تحول جل‬
‫القضاة إلى قادة عسكريين‪ ،‬وحتى مجلس الشيوخ نفسه تحول إلى أركان الحربية الدائم للدولة‬
‫الرومانية‪ .‬فكل القضايا وحاجيات الشعب األخرى أصبحت مرتبطة بضروريات وحاجيات الحرب‪،‬‬
‫طبعا تركت كل هذه الظروف تأثي ار واضحا على مستقبل الشعب الروماني وتحددت بدلك الفترة‬
‫الموالية من تاريخه وهي الحروب اإليطالية ثم غزو ما وراء شبه الجزيرة اإليطالية ومن تم مرحلة‬
‫ميالد اإلمبراطورية الرومانية بحوض البحر المتوسط‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫غزو إيطاليا وتأسيس الكونفدرالية الرومانية اإليطالية‬

‫‪ - I‬الحروب السامنتية ‪ :‬غزو إيطاليا الوسطى والجنوبية‪ :‬منذ القرن‪ 4‬ق‪.‬م بدأ ظهور‬
‫تحالفات عسكرية في وسط وجنوب إيطاليا بسبب التقدم الكبير لقوى اإلنتاج ضمت هذه التحالفات‬
‫عددا من الشع وب التي كانت ال تزال تعيش في إطار عشائر معزولة‪ ،‬هكذا نجد في حوالي ‪380‬‬
‫ق‪.‬م‪ ،‬كان الحلف السامنتي يضم كل األراضي الجبلبة‪ ،‬هكذا فالوحدات العسكرية الجبلية إلقليم‬
‫سامنيوم ‪ Samnium‬وهي تبحث عن المراعي والغنائم‪ ،‬كانت تنزل إلى السهول الخصبة إلقليم‬
‫أبوليا ‪ Apulie‬كما تسيطر وتنهب أهم المدن بكامبانيا‪ ،‬واشتغل عدد من المحاربين السامنتيين‬
‫مرتزقة بالمدن اإلغريقية كمدينة سيراكو از ‪ ،Syracuse‬ويعودون إلى مواطنهم محملين بالغنائم‬
‫واألسلحة اإلغريقية وكذا بخبرة واسعة في الفن العسكري‪ ،‬وهكذا ففي النصف الثاني من القرن‪4‬‬
‫ق‪.‬م كان السامنتيون على وشك ان يصبحوا اسياد مجموع التراب اإليطالي‪ ،‬إال أن توحيد شعوب‬
‫شبه جزيرة إيطاليا سيكون من عمل روما اهم المدن اإليطالية من حيث عدد السكان والمتوفرة على‬
‫تنظيم اجتماعي وسياسي أكثر تطو ار من باقي الشعوب اإليطالية األخرى‪ ،‬فقد كان لوجود نظام‬
‫عبودي ولل تأثير السياسي للبليبيين االغنياء في روما اهم نتيجة هي تبني سياسة أكثر عدوانية‪،‬‬
‫فبفضل التنظيم الممتاز للجيش وكذا تحويل الدولة إلى دولة عسكرية تمكنت روما من اإلنتصار‬
‫في جل الحروب لتصبح أقوى دولة في مجموع إيطاليا‪ ،‬وكان أول عمل لهذه السياسة العدوانية هو‬
‫غزو روما لمدن كامبانيا مما أدى إلى اصطدام عسكري بينها وبين الجيوش السامنتية بين ‪343‬‬
‫و‪ 341‬ق‪.‬م وبعدها ستنفجر عدة ثورات ضد روما من طرف كل المدن الالتينية‪ ،‬لكن بعد سنتين‬
‫من الحرب التي تسمى" بالحرب الالتينية " بين سنتي ‪340‬و ‪ 338‬ق‪.‬م نجحت روما في إخضاع‬
‫كل مدن الالتيوم التي أصبحت تسمى " بالمدن الالتينية الحليفة "‪.‬‬

‫و دائما من كامبانيا قادت روما حربين ضد الحلف السامنتي في سنة ‪ 327‬و‪ 304‬ق‪.‬م‬
‫وانهزم الجيش الروماني في عدة حروب وبقي يقاوم إلى ان استسلم‪ .‬لكن أعنف تلك االصطدامات‬
‫هي التي امتدت من ‪ 298‬إلى ‪ 290‬ق‪.‬م والتي توحدت فيها كل شعوب إيطاليا الوسطى ضد‬
‫روما وينضم إليهم الغاليون وكان النصر حاسما لصالح روما فأصبحت كل المنطقة الوسطى من‬
‫إيطاليا خاضعة لروما‪ .‬بعد دلك وجهت االوساط الرومانية الحاكمة أنظارها نحو الجنوب حيث‬
‫أغنى المدن التجارية اليونانية الزالت تحافظ على هيمنتها‪ ،‬فأعلنت روما الحرب أساسا ضد اغناها‬

‫‪28‬‬
‫واقواها هي مدينة طارنت ‪ .Tarente‬وبعد هزيمتين لحقتا القوات الرومانية تمكنت روما سنة ‪275‬‬
‫ق‪.‬م من اإلنتصار على طارنت وبذلك تكون روما قد أنهت غزوها لكل إيطاليا‪.‬‬

‫‪ - II‬الكونفدرالية اإليطالية بقيادة روما‪ :‬لم تنظم روما المنتصرة إيطاليا الخاضعة في إطار‬
‫الدولة الواحدة بل هي نفسها أي روما كانت تمثل نموذج المدينة القديمة المكونة من تحالفات‬
‫لقبائل إما حضرية أو قروية‪ ،‬فقامت بتوحيد إيطاليا على هذا المبدأ في أسلوب فدرالي معقد يعتمد‬
‫على اإلتفاقيات المفروضة على المنهزمين‪ ،‬وكانت شروط هذه االتفاقيات تختلف العتبارات منها‬
‫مدى قوة المقاومة أو موقف الشعوب اإليطالية تجاه روما في هذه األثناء‪ ،‬وكان الشكل األكثر‬
‫إيجابية هو" االتفاق على قدم المساواة "الذي بفضله تحتفظ المدن الحليفة بكامل استقاللها‪ ،‬واهم‬
‫المدن التي تمتعت بهذا النوع من االتفاقيات نجد مجموع المستعمرات اإلغريقية في إيطاليا وعدد‬
‫من المدن االتروسكية‪ ،‬وبعض مدن الالتيوم الصديقة لروما‪ .‬أما المدن السامنتية وغيرها فقد‬
‫انتزعت منها نصف اراضيها كما منعت من ربط عالقات خارجية مع شعوب أخرى‪ ،‬فقط يمكنها‬
‫االحتفاظ بتقاليدها وقوانينها‪ ،‬لكن عند تعيين القضاة فإن روما تتدخل لتعين الموالين لها من‬
‫األرستقراطيين‪ ،‬وكانت روما تؤسس فوق األراضي المصادرة من الخاضعين مستعمرات عسكرية‬
‫يقطنها مواطنون إما رومان او التين‪ .‬حبث توزع على الفقراء منهم قطعا ارضية‪ ،‬أما االغنياء‬
‫منهم فكانوا يكترون األراضي الغير موزعة من الدولة‪ ،‬وهكذا بدأت تتكون الضيعات الشاسعة‬
‫(لتربية الماشية خصوصا جنوب إيطاليا)‪ ،‬ويمكننا تصور ان عددا من شرائح المجتمع الروماني‬
‫بما فيها حتى الفالحية ساهمت في عمليات الغزو والنهب والتخريب وابادة شعوب وقبائل ضعيفة‬
‫حيث أن فكرة" توحيد إيطاليا" قد حولت الجميع إلى مجرد أتباع لروما التي نهجت سياسة" فرق‬
‫تسد" لفرض هيمنتها وسيادتها على مجموع الكونفدرالية التي أسستها بإيطاليا‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫الصراع بين روما وقرطاج للسيطرة على غرب البحر المتوسط‬
‫( الحروب البونية )‬

‫‪ - I‬روما في بداية القرن‪ 3‬ق‪.‬م ‪ :‬فإخضاع إيطاليا جعل من روما أعظم قوة بالبحر‬
‫المتوسط واحدى المراكز المؤثرة في السياسية العالمية آنداك‪ ،‬ففي سنة ‪ 273‬ق‪.‬م أرسل الملك‬
‫المصري ‪ Ptolémée Philadelphe‬سفارة إلى روما يعرض من خاللها صداقته وتحالفه مع‬
‫روما‪ .‬وفي نفس السنة وصل سفراء رومان ألول مرة إلى اإلسكندرية‪ .‬كما أن سيطرة روما على‬
‫اهم المدن التجارية اإليطالية (‪ )Naples Tarente‬ومنع الحلفاء من المتاجرة المباشرة فيما بينهم‬
‫قد ضمن للتجار الرومان احتكار مبادالت الوساطة في كل أنحاء إيطاليا‪ ،‬فظهرت األنشطة‬
‫المرتبطة بالتجارة كنشاط الصرف‪ ،‬وكانت فئة الصرافة تستبدل النقود كما تقدم القروض‪ ،‬وظهرت‬
‫أيضا فئة السماسرة والمضاربين والتجار‪ .‬وهؤالء التجار والصناع لما أدركوا أهميتهم بدؤوا يبحثون‬
‫عن وسائل لتوجيه السياسة الرومانية لخدمة مصالحهم‪ .‬وهكذا في سنة ‪ 312‬ق‪.‬م حاول ناظر‬
‫روما وهو ‪ Appius Claudius‬ان يضمن لهم الدور الفعال في الجمعية الشعبية‪ .‬وبالفعل بدؤوا‬
‫يمارسون تأثي ار متزايدا في الجمعية الشعبية دون اعتراض مجلس الشيوخ لق ارراتهم‪.‬‬

‫وفي النصف االول من القرن‪ 3‬ق‪.‬م أصبح ممثلوا هذه الفئة التجارية يتمتعون بنفوذ كبير‬
‫حيث مباشرة بعد االنتهاء من غزو إيطاليا أجبروا روما على الصراع ضد قرطاج منافستها االولى‬
‫غرب البحر المتوسط‪ .‬هذه الحروب البونية التي كانت الغاية منها هي السيطرة على غرب‬
‫الحوض المتوسطي‪ ،‬اعتبرها عدد من المؤرخين المعاصرين " حروبا إمبريالية " في العالم القديم‬
‫ألنها نتجت عن تضارب المصالح بين األرستقراطيات االستعمارية والتوسعية لروما وقرطاج‪.‬‬

‫‪ - I‬قرطاج‪ :‬تأسست المدينة الفينيقية قرطاج نهاية القرن ‪ 9‬ق‪.‬م ( ‪ 814‬ق‪.‬م ) وتعني‬
‫"المدينة الجديدة"‪ ،‬وتحتل موقعا ممتا از في شبه جزيرة تكاد تنفصل عن القارة اإلفريقية وميناؤها‬
‫الضخم مكون من حوضين‪ :‬خارجي مخصص إلرساء السفن التجارية وداخلي ثم تجهيزه الستقبال‬
‫‪ 220‬سفينة حربية ويحتوي على مصانع ومخازن األسلحة‪ ،‬يشكل الرئة النابضة لقرطاج ‪ ،‬وكانت‬
‫المدينة والميناء محمية بحصن وسور منيع‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫واعتمادا على التجارة البحرية اسس القرطاجيون أكبر امبراطورية تجارية واستعمارية التي‬
‫تضم كل سواحل وجزر غرب البحر المتوسط‪ .‬وكانت محطاتها ومستعمراتها تتوزع بين افريقيا‬
‫وجنوب اسبانيا والجزر المتوسطية‪ .‬وكان القرطاجيون هم الذين يديرون شؤون الشعوب الخاضعة‪.‬‬
‫وطبعا فإن الخبرة التجارية الواسعة التي امتاز بها الفنيقيون قد درت على مدينتهم بثروات ضخمة‬
‫من عبيد وذهب وعاج وفضة وقصدير مما جعل بوليب يعتبر قرطاج أغنى مدن العالم‪ ،‬وكي‬
‫تدافع وتوسع امبراطوريتها قامت قرطاج بتنظيم وتجهيز جيش قوي مكون من االهالي والمرتزقة‬
‫بزاعمة قادة قرطاجيين إلى جانب قواتها البحرية‪.‬‬

‫اما السلطة السياسية في قرطاج فكانت بيد االقلية من كبار التجار ومالكي العبيد واالرض‬
‫الن الزراعة كانت هي االخرى تلعب كانت أساسية في الحياة االقتصادية للمدينة‪ ،‬لذلك فإن تاريخ‬
‫قرطاج الداخلي كان مشحونا بالصراع بين افراد األرستقراطية الحاكمة من تجار ومزارعين الذين لن‬
‫يتراجعوا عن مراكزهم القيادية‪ .‬وقد كان مجلس الخمسة يمارس سلطة ديكتاتورية ثم محكمة المائة‬
‫قاضي التي يخضع لها كل القضاة اآلخرين كل هؤالء يتم اختيارهم من بين ممثلي اغنى العائالت‪.‬‬
‫اما الجمعية الشعبية فكانت مق ار يعبر فيه الشعب عن غضبه‪ .‬ذلك ان الضغوط القرطاجية على‬
‫القبائل والشعوب الخاضعة قد اتخذت ابعادا خطيرة‪ ،‬فالضرائب المفروضة على الليبيين (سكان‬
‫شمال افريقيا األصليين) كانت تصل الى نصف عائدات الفالحين‪ ،‬كما ان العبيد كانوا يشكلون‬
‫سلعة مهمة في تجارة قرطاج‪ ،‬كما ان اليد العاملة الرقيقة كانت مستغلة ايضا حتى في ضيعات‬
‫االغنياء القرطاجيين بإفريقيا او صقلية‪ .‬مما كان يؤدي إلى تأزم العالقات االجتماعية في قرطاج‪،‬‬
‫فباإلضافة إلى الصراع بين االتجاهات األرستقراطية فقد كانت هناك ثورات وانتفاضات قام بها‬
‫العمال االحرار والعبيد وكذا الجنود‪ .‬هذه التفاوتات اإلجتماعية الداخلية شكلت نقطة ضعف لدى‬
‫الدولة القرطاجية المبنية على االستعباد‪ .‬لكن هذه التفاوتات لم تعرف نفس درجة الحدة بروما ألن‬
‫بنيتها اإلجتماعية ال تزال عتيقة وأكثر تجانسا‪.‬‬

‫‪ - III‬الحرب البونية ‪241-264 ( I‬ق‪.‬م ) ونتائجها‪ :‬لقد ظلت العالقات التي تجمع روما‬
‫وقرطاج جيدة حين كانت الفئة الزراعية هي المسيطرة في روما وكذا حين كانت الدولتان تواجهان‬
‫نفس العدو المتمثل في اإلغريق واألتروسكيين‪ ،‬لكن بدأت هذه العالقات تفسد مع تطور وازدهار‬
‫التجارة الخارجية الرومانية‪ ،‬حيث بدأ القلق يدب في نفوس الصناع والتجار والوسطاء بسبب القوة‬
‫المتزايدة للقرطاجيين الذين أصبحوا على وشك السيطرة على كل جزيرة صقلية‪ ،‬فكانت سيطرتهم‬
‫على مدينة ‪ Messana‬الصقلية سنة ‪ 265‬ق‪.‬م سببا في جعل الجمعية الشعبية الرومانية تقرر‬

‫‪31‬‬
‫إرسال القنصل ‪ Appius Claudius‬لتحرير‪ ، Messana‬وقد نجح فعال في إجبار القيادة‬
‫القرطاجية على سحب قواتها من المدينة ودون ان يعلن الحرب قام بعمليات عسكرية ضد سيراكوزة‬
‫الموالية لقرطاج وكذلك ضد القرطاجيين فدخلت بذلك قرطاج في عداوة علنية ضد روما منذ سنة‬
‫‪ 264‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫ورغم من ان روما استرجعت اهم مدينة صقلية ( ‪ ، ) Messana‬إال ان المدن االساسية‬


‫بالجزيرة ظلت تابعة لقرطاج مما يجعل االصطدام العسكري أمر وارد‪ .‬وفعال بعدما استعدت روما‬
‫للحرب تمكنت من إلحاق هزيمتين بحريتين في مياه صقلية بالقوات القرطاجية‪ ،‬انتقلت على إثرهما‬
‫القوات الرومانية إلى ارض افريقيا حيث أتلفت كل االراضي الخصبة القرطاجية وارسلت ‪ 20‬الف‬
‫من السكان كعبيد الى روما‪ ،‬اال انه بعد هذه االنتصارات توالت الهزائم الفادحة بالقوات الرومانية‬
‫البحرية والبرية‪ ،‬فقد بذلك الرومان هيمنتهم على البحار‪ ،‬فبدأت السفن القرطاجية تجوب سواحل‬
‫إيطاليا وأنشأت سلسلة من المستعمرات على سواحل اتروريا ‪. Etrurie‬‬

‫و ما بين ‪ 249‬و‪241‬ق‪.‬م كانت الكفة تميل لصالح قرطاج حيث أن القوات الرومانية‬
‫تكبدت الهزائم المتتالية بصقلية خاصة وان القوات القرطاجية بقيادة أميلكار باركا ‪Amilicar‬‬
‫‪ Barca‬تمكنت من قطع خطوط تموين الجيوش الرومانية‪ ،‬هذا إضافة الى أن مجلس الشيوخ‬
‫الروماني لم يعد بإمكانه إرسال اية مساعدات وقوات إضافية إلى صقلية ألن الخزينة انهكت‬
‫وأصبحت بدون رصيد إضافة إلى أن المزارعين الرومان قد أرهقتهم الحرب التي بدت لهم أنهم‬
‫خسروها وخسروا معها كل ما يملكون‪ .‬لدلك قام التجار والصناع الذين تسببوا في نشوب الحرب‬
‫بتمويل إنشاء أسطول بحري جديد وتجهيزه وتسليحه بأحدث األسلحة‪ ،‬وهكذا في سنة ‪ 241‬انتقل‬
‫القنصل الروماني لوتاتيوس كاتولوس ‪ Lutatius Catulus‬على رأس هذا االسطول والحق هزيمة‬
‫ساحقة بالقوات القرطاجية بسواحل صقلية‪ ،‬فخضعت كل مدن صقلية وأرغمت قرطاج على إرسال‬
‫وفد للتفاوض مع المنتصرين‪ .‬وقد نصت اتفاقية السلم التي وقعها المتحاربون على أن تترك قرطاج‬
‫كل اراضي صقلية وان تدفع تعويضا ضخما لروما‪ ،‬وان تعيد األسرى الرومان بدون مقابل‪،‬‬
‫فأصبحت بذلك صقلية إقليما رومانيا‪ ،‬والبحار الغربية مفتوحة أمام بحريتها الحربية والتجارية‪ .‬فلقد‬
‫خرجت قرطاج منهوكة القوة من هذه الحرب المؤلمة بحيث لم تجد ما تدفعه من األجور المتأخرة ل‬
‫‪ 20‬ألفا من المحاربين في جيشها الذين ثم نقلهم من صقلية إلى إفرقيا ‪ .‬فكانت النتيجة أن تمرد‬
‫هؤالء المرتزقة سنة ‪ 241‬ق‪.‬م ضد قرطاج‪ ،‬كما ان األهالي الليبيين المستغلين بوحشية والعبيد‬
‫العاملين في المزارع القرطاجية انتفضوا ضد السلطات القرطاجية‪ ،‬ودام هذا التمرد زهاء ‪ 3‬سنوات‬

‫‪32‬‬
‫إال انه تم قمعه بالقوة سنة ‪ 238‬ق‪.‬م وذلك بقتل وأسر زعمائه‪ .‬والقائد القرطاجي ‪Amilcar‬‬
‫‪ Barca‬هو من نجح في دلك‪ .‬وبعد هذا االنتصار‪ُ ،‬كلف ‪ Amilcar‬بأن يعيد األمن لألقاليم‬
‫الغربية التابعة لقرطاج‪ ،‬وأن يؤسس قاعدة عسكرية قوية في إسبانيا للقيام بحرب جديدة ضد‬
‫الرومان‪ ،‬وتمكن من إنهاء المهمة بنجاح وسيطر على مناجم جنوب إسبانيا واخضع السكان‬
‫الغربيين وأدخل أعدادا مهمة منهم في الجيش وبعد مقتله في إحدى حمالته‪ ،‬واصل صهره‬
‫أسدروبال ‪ Asdrubal‬االستعدادات الحربية وبنى قرطاج الجديدة ‪ Carthagène‬التي اصبحت‬
‫اهم المواقع القرطاجية المحصنة والقوية في إسبانيا‪.‬‬

‫لكن في روما فإن النصر على قرطاج وجه السياسة الرومانية نحو غزو اراضي جديدة وراء‬
‫البحار‪ .‬وهكذا حولت القوات الرومانية جزيرتي سردينيا وكورسيكا إلى أقاليم تابعة لروما‪ ،‬ونفس‬
‫السياسة قد طبقت على جزر أخرى‪ ،‬إال ان هذه السياسة الخارجية لألوساط التجارية والصناعية قد‬
‫أثارت معارضة الكثلة الزراعية وبالتالي تزايد تأثير الحزب الشعبي الجديد في الجمعيات السنتورية‬
‫والجمعية الشعبية فأصبح بذلك توجه السياسة الخارجية (إعالن الحرب والسلم) وكذا انتخاب‬
‫القضاة السامون‪ ،‬كل هذه القضايا ال يمكنها ان تمر إال بموافقة الفئة الوسطى‪ ،‬أما المالكين‬
‫الصغار والمتوسطين لألراضي فقد بدأ ممثلوهم يصلون إلى مراكز النفوذ‪ ،‬وبذلك ضمنت هذه الفئة‬
‫نصيبها من األراضي المستعمرة‪ .‬وفي سنة ‪ 218‬ق‪.‬م اقترح الزعيم الشعبي الروماني ‪Claudius‬‬
‫قانونا قوبل باإليجاب من طرف الجمعية الشعبية‪ ،‬يمنع على أعضاء مجلس الشيوخ االهتمام‬
‫بالتجارة او امتالك سفن تجارية‪ ،‬وهكذا أحدثت تحوالت عميقة في البناء السياسي واالجتماعي‬
‫بروما نحو االتجاه الديمقراطي‪ ،‬ولهذا السبب ظهر لمجلس الشيوخ انه من المناسب تحويل انظار‬
‫الرأي العام الشعبي عن المشاكل الداخلية نحو القضايا الخارجية لذلك فإن آلية الديبلوماسية‬
‫الرومانية عملت جهدها لإلسراع ببدء الحرب البونية‪ 2‬ضد قرطاج التي اندلعت سنة ‪ 218‬ق‪.‬م‬
‫وهي نفس السنة التي صوتت فيها الجمعية الشعبية باإليجاب على قانون كلوديوس ‪.Claudius‬‬

‫‪ - IV‬الحرب البونية ‪ 201-218( II‬ق‪.‬م)‪ :‬ففي سنة ‪ 221‬ق‪.‬م انتهز مجلس الشيوخ‬
‫الروماني فرصة مقتل ‪ Asdrubal‬اسدروبال فهاجموا اسبانيا‪ ،‬وقد عينت قرطاج ‪ Hannibal‬ابن‬
‫املكار قائدا للجيش القرطاجي في إسبانيا‪ .‬وقد اتسمت شخصيته بالقساوة وهو عدو لروما‪ .‬أُعلن‬
‫عن اندالع الحرب البونية‪ 2‬رسميا من طرف روما سنة ‪ 218‬ق‪.‬م‪ ،‬ومع بداية الحرب انتقل‬
‫هانيبال على رأس جيش إلى إيطاليا فاقتحم سهل البو ‪ Pô‬مستوليا على غاليا واقاليم اخرى مما‬
‫اجج صراع االحزاب في روما من جديد‪ ،‬حيث اتهم الشعب مجلس الشيوخ والنبالء بعجزهم عن‬

‫‪33‬‬
‫الدفاع عن مصالح الشعب‪ ،‬لذا في سنة ‪ 217‬ق‪.‬م تم تعيين زعيم شعبي هو ‪ Flaminius‬على‬
‫رأس الجيش الروماني‪ .‬فالمينيوس هذا سيذهب ضحية كمين وضعه القرطاجيون له ولجيشه سنة‬
‫‪ 217‬ق‪.‬م‪ ،‬فلم تكن فقط هزيمة عسكرية لحقت الرومان ولكنها ايضا هزيمة للحزب الشعبي‪ .‬إال‬
‫ان هانبال عوض ان يتجه مباشرة الى روما قرر تكسير الكونفدرالية الرومانية معلنا نفسه كمحرر‬
‫للشعوب اإليطالية من الهيمنة الرومانية‪ ،‬فأزال من طريقه كل المستعمرات والقواعد الرومانية او‬
‫الالتينية وكذا الجيوش الرومانية‪ .‬فحلت الكارثة بروما حينما بدأت تنفصل عنها الشعوب الخاضعة‬
‫لها وتقف إلى جانب القرطاجيين‪ .‬وكادت ان تسقط روما بيد هانيبال لوال إخالص وقوة الشعب‬
‫الروماني الذي خفف من معارضته لألرستقراطية‪ ،‬وكانت خطة الحكومة الرومانية تهدف إلى‬
‫إفشال مخطط ها نيبال الرامي إلى تفكيك الكونفدرالية اإليطالية وتوحيد كل األعداء ضد روما وبعد‬
‫ذلك قطع خطوط تموين هانيبال وجيوشه حتى ال تصله قوات جديدة وقد تطلب تحقيق هذا‬
‫المخطط مرور ‪ 10‬سنوات تقريبا من ‪ 215‬حتى ‪ 205‬ق‪.‬م تمكنت روما خاللها من استرجاع‬
‫نفوذها على األقاليم اإليطال ية وتم فعال عزل هانيبال وقواته بإيطاليا الجنوبية كما استرجعت روما‬
‫سيادتها على صقلية بعد سحق القوات القرطاجية‪،‬ـ لكن الضربة القاضية الموجهة ضد هانيبال‬
‫كانت هي الحملة العسكرية الرومانية التي قادها سيبيون ‪ Scipion‬ضد الوجود القرطاجي في‬
‫إسبانيا التي أصبحت أجزاءها الشرقية والجنوبية فيما بعد إقليما رومانيا‪ .‬وهكذا ابتداء من ‪205‬‬
‫ق‪.‬م فكرت الحكومة الرومانية في الهجوم المباشر ضد قرطاج بقيادة سيبيون ‪ Scipion‬الذي نزل‬
‫بقواته في إفريقيا واستمال إليه الملك ماسنيسا ملك نوميديا الشرقية‪ .‬وقد اقترح على سيبيون كل من‬
‫مجلس الشيوخ القرطاجي والقائد هانيبال السلم‪ ،‬إال ان سيبيون رفض هذا االقتراح فأصبح‬
‫االصطدام العسكري شيئا حتميا لينتهي بانتصار حاسم سنة ‪ 202‬ق‪.‬م لصالح الرومان بقيادة‬
‫سيبيون الذي فرض شروطا قاسية للسلم مع قرطاج سنة ‪ 201‬ق‪.‬م وهي كاآلتي‪:‬‬

‫* لن تحتفظ قرطاج إال بجزء صغير من ممتلكاتها بإفريقيا‪.‬‬

‫*لم يعد بإمكانها إعالن الحرب على جيرانها بدون موافقة روما‪.‬‬

‫*عليها تسريح جيوشها واحراق اسطولها الحربي ماعدا عشر قطع حربية فقط‪.‬‬

‫*عليها إعادة كل الغنائم التي حصلت عليها أثناء الحرب لروما وكذلك ان تعيد كل األسرى‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫* إضافة إلى تعويض مالي باهض‪ ،‬ففقدت قرطاج بذلك كل قوتها بل حتى حريتها ألن‬
‫الرومان أخذوا يتدخلون في شؤونها الداخلية مما دفع بهانيبال إلى الفرار إلى الشرق عند ملك سوريا‬
‫انتيوخوس ‪ Antiochos‬لتحريضه على محاربة الرومان‪.‬‬

‫ولكن فعلى الرغم من أن روما انتصرت في حربها على أخطر عدو لها فإن خمسة عشر‬
‫سنة من الحرب فوق أراضي إيطاليا خلفت أض ار ار كبيرة في كل مستويات الحياة اإلقتصادية بها‪.‬‬
‫كما أن أزيد من نصف المواطنين الرومان لقوا حتفهم خالل الحرب ومنهم من اضطر إلى هجرة‬
‫أراضيه‪ ،‬كما أثقلت الدولة الرومانية كاهل الشعب بضرائب الحرب‪ ،‬وانخفضت قيمة العملة‬
‫الرومانية بارتفاع األسعار‪ ،‬إال أنه حتى بعد الحرب البونية االولى فإن الفئات العليا للمجتمع‬
‫الروماني أصبحت ثرواتها اكثر اتساعا‪ ،‬خاصة منها الشرائح الصناعية والتجارية‪ ،‬ألن التجار ورثوا‬
‫العالقات التجارية ألغنى المدن االغريقية مثل ‪ Tarente‬و‪ ، Syracuse‬كما انه بفضل‬
‫المصادرات التي قامت بها روما ضد المدن التي نكثت عهدها فإن اراضي الدولة قد اتسعت كثي ار‬
‫فكانت من نصيب رجال األعمال الذين كانوا يستثمرون اموالهم في الفالحة‪ .‬اما الحزب الشعبي‬
‫فقد انهار وضعفت سمعته ونشاطه في المسرح السياسي وأوقف معارضته لحكومة االغنياء‬
‫الرومان‪ .‬لهذه االسباب فإن السياسة الرومانية خالل السنوات الالحقة لالنتصار على قرطاج‬
‫امتازت بنهجها لتوجه الفئة النبيلة التي لم تزد ثرواتها إال تضخما‪ .‬وهكذا بعد انتهاء غزو الغرب‬
‫المتوسطي فإن الفئات الحاكمة في روما لم تضع حدودا لرغبتها في التوسع‪ ،‬إذ سرعان ما وضعت‬
‫نصب أعينها ضرورة غزو الشرق‪.‬‬

‫وقد نجحت روما في فرض تفوقها وهيمنتها على الحوض الشرقي من البحر المتوسط في‬
‫ظرف وجيز ال يتعدى عشر سنوات ( من ‪ 200‬ق‪.‬م إلى ‪190‬ق‪.‬م ) بينما مرت ‪ 118‬سنة كي‬
‫تتمكن روما من هزم قرطاج نهائيا‪ .‬فهذا النجاح السريع مرتبط بالعالقات الدولية آنذاك‪ ،‬ذلك ان‬
‫قرطاج كانت في القرن‪ 3‬ق‪.‬م هي المهيمن الوحيد في الغرب بينما في الشرق كانت الحروب‬
‫المستمرة بين المدن المستقلة او الفدراليات الصغرى‪ ،‬او الدويالت الصغرى المتعددة من جهة وبين‬
‫القوى العظمى الهلينستية من جهة أخرى (مقدونيا وسوريا ومصر)‪ .‬كما ان الصراعات االجتماعية‬
‫داخل هذه الدول قد أضعفت من عنف مقاومتها على المستوى الخارجي‪ ،‬فسهلت هذه الظروف‬
‫مهمة روما التي تمكنت من هزم مقدونيا في ظرف وجيز ال يتعدى أربع سنوات مباشرة بعد انتهاء‬
‫الحرب البونية الثانية‪ .‬ومنذ ذلك الحين أصبحت روما تتدخل في الشؤون الداخلية لدويالت المدن‬
‫اإلغريقية ومساندة األرستقراطيات أينما وجدت مما جعل األوساط الديمقراطية تكن لها العداء‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫وموقع القوة الذي احتلته روما في بالد اليونان وضعها أمام أكبر قوة هلينستية هي سوريا بقيادة‬
‫‪ Antiochos‬األكبر‪ 3‬الذي كان يطمح إلى إعادة تكوين امبراطورية اإلسكندر‪ ،‬وبذلك بدأ يستعد‬
‫لمحاربة روما تسانده كل البالد اليونانية‪ ،‬غير ان انتيوخوس فوجئ بالهزائم من قبل القوات‬
‫الرومانية فاضطر إلى االستسالم لشروط السلم القاسية المفروضة من طرف روما مما أعطى لهذه‬
‫األخيرة السيطرة التامة والهيمنة المطلقة على مجموع البحر المتوسط في قسمه الشرقي‪ ،‬وبدأ سفراء‬
‫المماليك الشرقية يلقبون الرومان "بأسياد الكون"‪ ،‬ولكن حتى تضمن استمرار هيمنتها في الشرق‬
‫نهجت روما سياسة مخالفة لسياستها في الغرب‪ ،‬حيث سمحت روما للماليك الخاضعة الحفاظ على‬
‫أشكال حكوماتها القديمة‪ ،‬وكانت روما هي التي تتحكم وتوجه سياسة هذه المماليك الشرقية لخدمة‬
‫مصالحها الخاصة‪.‬‬

‫‪36‬‬

You might also like