تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي - سورة الملك - ويكي مصدر

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 30

‫ويكي مصدر‬

‫تفسير البحر المحيط أبي‬


‫حيان الغرناطي‪/‬سورة‬
‫الملك‬

‫َق ِد يٌر }‬ ‫َش ْي ٍء‬ ‫{ َت َب اَرَك ٱَّلِذ ي َي ِد ِه ٱْل ُم ْلُك َو ُه َو َع َل ُكِّل‬


‫ٰى‬ ‫ِب‬
‫َأ ْح َس ُن‬ ‫َأ ُّي ُكْم‬ ‫* { ٱَّلِذ ي َخ َلَق ٱْل َم ْو َت َو ٱْل َح َي اَة ِل َي ْب ُلَو ُكْم‬
‫َع َم ًال َو ُه َو ٱْل َع ِز يُز ٱْل َغ ُف وُر } * { ٱَّلِذ ي َخ َلَق َس ْب َع‬
‫َس َم اَو اٍت ِط َب اقًا َّم ا َت َر ٰى ِف ي َخ ْلِق ٱلَّر ْح َم ٰـ ِن ِم ن َتَف اُو ِت‬
‫ار‬ ‫َّم‬ ‫ٱْلَب َص َر َه ْل َت َر ٰى ِم ن ُف ُط و } * { ُث‬ ‫ٱْر‬ ‫َف‬
‫ِع‬ ‫ِج‬ ‫ٍر‬ ‫ِع‬ ‫ِج‬
‫الَب َص َر َكَّر َت ْي ِن َي ْن َق ِل ْب ِإ َلْي َك الَب َص ُر َخ اِس ئًا َو ُه َو َح ِس يٌر }‬
‫* { َو َلَق ْد َز َّي َّن ا ٱلَّس َم آَء ٱلُّد ْن َي ا ِب َم َص اِب يَح َو َج َع ْلَن اَه ا‬
‫ُر ُج ومًا ِّل لَّش َي اِط يِن َو َأ ْع َت ْد َن ا َلُه ْم َع َذ اَب ٱلَّس ِع يِر } * {‬
‫َو ِل َّلِذ يَن َكَف ُر وْا ِب َر ِّب ِه ْم َع َذ اُب َج َه َّن َم َو ِب ْئ َس ٱْل َم ِص يُر } *‬
‫{ ِإ َذ آ ُأ ْل ُق وْا ِف يَه ا َس ِم ُع وْا َلَه ا َش ِه يقًا َو ِه َي َتُف وُر } * {‬
‫َت َكاُد َت َم َّي ُز ِم َن الَغ ْي ِظ ُكَّل َم ا ُأ ْل ِق َي ِف يَه ا َف ْو ٌج َس َأ َلُه ْم‬
‫َخ َز َن ُت َه آ َأ َلْم َي ْأ ِت ُكْم َن ِذ يٌر } * { َق اُلوْا َب َلٰى َق ْد َج آَء َن ا‬
‫َن ِذ يٌر َف َكَّذ ْب َن ا َو ُق ْلَن ا َم ا َن َّز َل ٱُهَّلل ِم ن َش ْي ٍء ِإ ْن َأ نُت ْم ِإ َّال‬
‫ِف ي َض َالٍل َكِب يٍر } * { َو َق اُلوْا َلْو ُكَّن ا َن ْس َم ُع َأ ْو َن ْع ِق ُل َم ا‬
‫ُكَّن ا ِف ۤي َأ ْص َح اِب ٱلَّس ِع يِر } * { َف ٱْع َت َر ُف وْا ِب َذ نِب ِه ْم‬
‫َف ُس ْح قًا َألْص َح اِب ٱلَّس ِع يِر } * { ِإ َّن ٱَّلِذ يَن َي ْخ َش ْو َن‬
‫َر َّب ُه م ٱْل َغ ْي َلُه م َّم ْغ ِف َر ٌة َو َأ ْج ٌر َك يٌر } * { َو َأ ِس ُّر وْا‬
‫ِب‬ ‫ِب ِب‬
‫َق ْو َلُكْم َأ ِو ٱْج َه ُر وْا ِب ِه ِإ َّن ُه َع ِل يٌم ِب َذ اِت ٱلُّص ُد وِر } * {‬
‫َأ َال َي ْع َلُم َم ْن َخ َلَق َو ُه َو ٱل َّلِط يُف ٱْل َخ ِب يُر } * { ُه َو ٱَّلِذ ي‬
‫َج َع َل َلُكُم ٱَألْر َض َذ ُلوًال َف ٱْم ُش وْا ِف ي َم َن اِك َه ا َو ُكُلوْا‬
‫ِب‬
‫ِم ن ِّر ْز ِق ِه َو ِإ َلْي ِه ٱلُّن ُش وُر } * { َأَأ ِم نُت ْم َّم ن ِف ي ٱلَّس َم آِء‬
‫َأ ن َي ْخ ِس َف ِب ُكُم ٱَألْر َض َف ِإ َذ ا ِه َي َت ُم وُر } * { َأ ْم َأ ِم نُت ْم‬
‫ِّم ن ِف ي ٱلَّس َم آِء َأ ن ُي ْر ِس َل َع َلْي ُكْم َح اِص بًا َف َس َت ْع َلُم وَن‬
‫َكْي َف َن ِذ يِر } * { َو َلَق ْد َكَّذ َب ٱَّلِذ يَن ِم ن َق ْب ِل ِه ْم َف َكْي َف‬
‫َكاَن ن ِك يِر } * { َأ َو َلْم َي َر ْو ا ِإ َلى ٱلَّط ْي ِر َف ْو َق ُه ْم َص اَّف اٍت‬
‫َو َي ْق ِب ْض َن َم ا ُي ْم ِس ُكُه َّن ِإ َّال ٱلَّر ْح َم ٰـ ُن ِإ َّن ُه ِب ُكِّل َش ْي ٍء‬
‫َب ِص يٌر } * { َأ َّم ْن َه ٰـ َذ ا ٱَّلِذ ي ُه َو ُج نٌد َّل ُكْم َي نُص ُر ُكْم ِّم ن‬
‫ُد وِن ٱلَّر ْح َم ٰـ ِن ِإ ِن ٱْل َكاِف ُر وَن ِإ َّال ِف ي ُغ ُر وٍر } * { َأ َّم ْن‬
‫َه ٰـ َذ ا ٱَّلِذ ي َي ْر ُز ُق ُكْم ِإ ْن َأ ْم َس َك ِر ْز َق ُه َب ل َّل ُّج وْا ِف ي ُع ُت ٍّو‬
‫َو ُنُف وٍر } * { َأ َف َم ن َي ْم ِش ي ُم ِك ّب ًا َع َلٰى َو ْج ِه ِه َأ ْه َد ٰى َأ َّم ن‬
‫َي ْم ِش ي َس ِو ّي ًا َع َلى ِص َر اٍط ُّم ْس َت ِق يٍم } * { ُق ْل ُه َو ٱَّلِذ ۤي‬
‫َأ نَش َأ ُكْم َو َج َع َل َلُكُم ٱلَّس ْم َع َو ٱَألْب َص اَر َو ٱَألْف ِئ َد َة َق ِل يًال‬
‫َّم ا َت ْش ُكُر وَن } * { ُق ْل ُه َو ٱَّلِذ ي َذ َر َأ ُكْم ِف ي ٱَألْر ِض‬
‫َو ِإ َلْي ِه ُت ْح َش ُر وَن } * { َو َي ُق وُلوَن َم َت ٰى َه ٰـ َذ ا ٱْلَو ْع ُد ِإ ن‬
‫ُكنُت ْم َص اِد ِق يَن } * { ُق ْل ِإ َّن َم ا ٱْل ِع ْل ُم ِع ْنَد ٱِهَّلل َو ِإ َّن َم آ َأ َن ْا‬
‫َن ِذ يٌر ُّم ِب يٌن } * { َف َلَّم ا َر َأ ْو ُه ُز ْل َف ًة ِس يَئ ْت ُو ُج وُه ٱَّلِذ يَن‬
‫َكَف ُر وْا َو ِق يَل َه ٰـ َذ ا ٱَّلِذ ي ُكنُت م ِه َت َّد ُع وَن } * { ُق ْل‬
‫ِب‬
‫َأ َر َأ ْي ُت ْم ِإ ْن َأ ْه َلَكِن َي ٱُهَّلل َو َم ن َّم ِع َي َأ ْو َر ِح َم َن ا َف َم ن‬
‫ُي ِج يُر ٱْل َكاِف ِر يَن ِم ْن َع َذ اٍب َأ ِل يٍم } * { ُق ْل ُه َو ٱلَّر ْح َم ٰـ ُن‬
‫َال‬ ‫آَم َّن ا ِب ِه َو َع َلْي ِه َت َو َّكْلَن ا َف َس َت ْع َلُم وَن َم ْن ُه َو ِف ي َض‬
‫ٍل‬
‫ُّم ِب يٍن } * { ُق ْل َأ َر َأ ْي ُت ْم ِإ ْن َأ ْص َب َح َم آُؤ ُكْم َغ ْو رًا َف َم ن‬
‫َي ْأ ِت ي ُكْم ِب َم آٍء َّم ِع يٍن } {َت َب اَر َك ٱَّلِذ ى ِب َي ِد ِه ٱْل ُم ْلُك َو ُه َو‬
‫َش ْى ء َق ِد يٌر * ٱَّلِذ ى َخ َلَق ٱْل َم ْو َت َو ٱْل َح َي ٰو َة‬ ‫َع َل ُكّل‬
‫ٰى‬
‫َأ ُّي ُكْم َأ ْح َس ُن َع َم ًال َو ُه َو ٱْل َع ِز يُز ٱْل َغ ُف وُر * ٱَّلِذ ى‬ ‫ِل َي ْب ُلَو ُكْم‬
‫ٰـ‬ ‫َم‬ ‫ْح‬ ‫َّر‬ ‫ٱل‬ ‫ِق‬ ‫َخ َلَق َس ْب َع * َس َم ٰـ َو اٍت * ِط َب اًق ا َّم ا َت َر ٰى ِف ى َخ ْل‬
‫ِن‬
‫ِج‬ ‫ر‬ ‫ِم ن َتَف ٰـ ُو ٍت َف ٱْر ِج ٱْلَب َص َر َه ْل َت َر ٰى ِم ن ُف ُط و * ُث َّم ْا‬
‫ِع‬ ‫ٍر‬ ‫ِع‬
‫الَب َص َر َكَّر َت ْي ِن َي نَق ِل ْب ِإ َلْي َك الَب َص ُر َخ اِس ًئ ا َو ُه َو َح ِس يٌر *‬
‫َو َلَق ْد َز َّي َّنا ٱل َّس َم اء ٱلُّد ْن َي ا ِب َم َص ٰـ ِب يَح َو َج َع ْلَن ٰـ َه ا ُر ُج ومًا‬
‫ّل ل َّش َي ٰـ ِط ي َو َأ ْع َت ْد َن ا َلُه ْم َع َذ اَب ٱل َّس ِع ي * َو ِل َّلِذ يَن َكَف ُر وْا‬
‫ِر‬ ‫ِن‬
‫ِب َر ّب ِه ْم َع َذ اُب َج َه َّن َم َو ِب ْئ َس ٱْل َم ِص يُر * ِإ َذ ا ُأ ْل ُق وْا ِف ي َه ا‬
‫َس ِم ُع وْا َلَه ا َش ِه يًق ا َو ِه َى َت ُف وُر * َت َكاُد َت َم َّي ُز ِم َن ال َغ ْي ِظ‬
‫ُكَّل َم ا ُأ ْل ِق َى ِف ي َه ا َف ْو ٌج َس َأ َلُه ْم َخ َز َن ُت َه ا َأ َلْم َي ْأ ِت ُكْم َن ِذ يٌر *‬
‫َق اُلوْا َب َلٰى َق ْد َج اءَن ا َن ِذ يٌر َف َكَّذ ْب َنا َو ُق ْلَنا َم ا َن َّز َل ٱُهَّلل ِم ن‬
‫َش ْى ء ِإ ْن َأ نُت ْم ِإ َّالِف ى َض َلٰـ ٍل َكِب يٍر * َو َق اُلوْا }‪ .‬هذه‬
‫السورة مكية‪ .‬ومناسبتها لما قبلها‪ :‬أنه لما ضرب‬
‫للكفار بتينك المرأتين المحتوملهما بالشقاوة‪ ،‬وإن‬
‫كانتا تحت نبيين‪ ،‬ومثال للمؤمنين بآسية ومريم‪،‬‬
‫وهما محتوم لهما بالجنة‪ ،‬وإن كان قوماهما كافرين‪.‬‬
‫كان ذلكتصّر فًا في ملكه على ما سبق قضاؤه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫{َت َب ٰـ َر َك }‪ :‬أي تعالى وتعاظم‪{ ،‬ٱَّلِذ ى ِب َي ِد ِه ٱْل ُم ْلُك }‪ :‬وهو‬
‫كناية عناإلحاطة والقهر‪ ،‬وكثيرًا ما جاء نسبة اليد‬
‫إليه تعالى كقوله‪َ { :‬ف ُس ْب َح ٰـ َن ٱَّلِذ ى َي ِد ِه َم َلُكوُت ُكّل‬
‫ِب‬
‫َش ْى ء } { ِب َي ِد َك ٱْل َخ ْي ُر } ‪،‬وذلك في حقه تعالى‬
‫استعارة لتحقيق الملك‪ ،‬إذ كانت في عرف اآلدميين‬
‫آلة للتملك‪ ،‬والملك هنا هو على اإلطالق اليبيد وال‬
‫يختل‪ .‬وعن ابن عباس‪ :‬ملك الملوك لقوله تعالى‪:‬‬
‫{ ُق ِل ٱل َّل ُه َّم َم ٰـ ِل َك ٱْل ُم ْلِك } ‪ ،‬وناسب الملك ذكر وصف‬
‫القدرةوالحياة ما يصح بوجوده اإلحساس‪ .‬ومعنى‬
‫{َخ َلَق ٱْل َم ْو َت }‪ :‬إيجاد ذلك المصحح وإعدامه‪،‬‬
‫والمعنى‪ :‬خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون‪،‬‬
‫وسمىعلم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة‪،‬‬
‫استعارة من فعل المختبر‪ .‬وفي الحديث أنه فسر‬
‫{َأ ُّي ُكْم َأ ْح َس ُن َع َم ًال }‪ :‬أيأحسن عقًال وأشّد كم خوفًا‬
‫وأحسنكم في أمره ونهيه نظرًا‪ ،‬وإن كان أقلكم‬
‫تطوعًا ‪ .‬وعن ابن عباس والحسن والثوري‪ :‬أزهدكم‬
‫فيالدنيا‪ .‬وقيل‪ :‬كنى بالموت عن الدنيا‪ ،‬إذ هو واقع‬
‫فيها‪ ،‬وعن اآلخرة بالحياة من حيث ال موت فيها‪،‬‬
‫فكأنه قال‪:‬هو الذي خلق الدنيا واآلخرة‪ ،‬وصفهما‬
‫بالمصدرين‪ ،‬وقّد م الموت ألنه أهيب في النفوس‪.‬‬
‫وليبلوكم متعلق بخلق‪َ{ .‬و ِإ َّي ٰـ ُكْم * َأ ْح َس ُن َع َم ًال} مبتدأ‬
‫وخبر‪ ،‬فقدر الحوفي قبلها فعًال تكون الجملة في‬
‫موضع معموله‪ ،‬وهو معلق عنها تقديره‪ :‬فينظر‪ ،‬وقّد ر‬
‫ابن عطيةفينظر أو فيعلم‪ .‬وقال الزمخشري‪ :‬فإن‬
‫قلت‪ :‬من أين تعلق قوله‪َ{ :‬أ ُّي ُكْم َأ ْح َس ُن َع َم ًال } بفعل‬
‫البلوى؟ قلت‪ :‬منحيث أنه تضمن معنى العلم‪ ،‬فكأنه‬
‫قيل‪ :‬ليعلمكم أيكم أحسن عمًال‪ ،‬وإذا قلت‪ :‬علمته‬
‫أزيد أحسن عمًال أم هو؟ كانتهذه الجملة واقعة موقع‬
‫الثاني من مفعوليه‪ ،‬كما تقول‪ :‬علمته هو أحسن عمًال‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬أيسمى هذا تعليقًا؟ قلت‪ :‬ال‪،‬إنما التعليق أن‬
‫توقع بعده ما يسد مسّد المفعولين جميعًا‪ ،‬كقولك‪:‬‬
‫علمت أيهما عمرو‪ ،‬وعلمت أزيد منطلق‪ .‬أال ترى أنهال‬
‫فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده‬
‫مصّد رًا بحرف االستفهام وغير مصّد ر به؟ ولو كان‬
‫تعليقًا الفترقت الحالتان‪ ،‬كما افترقتا في قولك‪:‬‬
‫علمت أزيد منطلق‪ ،‬وعلمت زيدًا منطلقًا ‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقًا‪،‬‬
‫فيقولونفي الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب األول‪،‬‬
‫وجاءت بعده جملة استفهامية‪ ،‬أو بالم االبتداء‪ ،‬أو‬
‫بحرف نفي‪ ،‬كانت الجملةمعلقًا عنها الفعل‪ ،‬وكانت‬
‫في موضع نصب‪ ،‬كما لو وقعت في موضع المفعولين‬
‫وفيها ما يعلق الفعل عن العمل‪ .‬وقدتقّد م الكالم على‬
‫مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى‪:‬‬
‫{ ِل َن ْب ُلَو ُه ْم َأ ُّي ُه م َأ ْح َس ُن َع َم ًال } ‪ ،‬وانتصب {ِط َب اقًا }‬
‫علىالوصف السبع‪ ،‬فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة‬
‫وطباقًا لقولهم‪ :‬النعل خصفها طبقًا على طبق‪ ،‬وصف‬
‫به على سبيل المبالغة‪،‬أو على حذف مضاف‪ ،‬أي ذا‬
‫طباق؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال‪ ،‬أو جمع طبقة‬
‫كرحبة ورحاب‪ ،‬والمعنى‪ :‬بعضها فوقبعض‪ .‬وما ذكر‬
‫من مواد هذه السموات‪ .‬فاألولى من موج مكفوف‪،‬‬
‫والثانية من دّر ة بيضاء‪ ،‬والثالثة من حديد‪،‬‬
‫والرابعةمن نحاس‪ ،‬والخامسة من فضة‪ ،‬والسادسة‬
‫من ذهب‪ ،‬والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل‬
‫صحيح‪ ،‬وقد كان بعض منينتمي إلى الصالح‪ ،‬وكان‬
‫أعمى ال يبصر موضع قدمه‪ ،‬يخبر أنه يشاهد‬
‫السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا‪ِ{ .‬م ن َتَف ٰـ ُو ٍت }‪،‬‬
‫قال ابن عباس‪ :‬من تفّر ق‪ .‬وقال السّد ي‪ :‬من عيب‪.‬‬
‫وقال عطاء بن يسار‪ :‬من عدم استواء‪ .‬وقال ثعلب‪:‬‬
‫أصلهمن الفوت‪ ،‬وهو أن يفوت شيء شيئًا من الخلل‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬من اضطراب‪ .‬وقيل‪ :‬من اعوجاج‪ .‬وقيل‪ :‬من‬
‫تناقض‪ .‬وقيل‪ :‬مناختالف‪ .‬وقيل‪ :‬من عدم التناسب‬
‫والتفاوت‪ ،‬تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص‪.‬‬
‫قال بعض األدباء‪:‬‬

‫بهن اختالفًا بل أتين على قدر‬ ‫تناسبت األعضاء فيه فال ترى‬

‫وقرأ الجمهور‪ِ{ :‬م ن َتَف ٰـ ُو ٍت }‪ ،‬بألف مصدر تفاوت؛وعبد‬


‫اهلل وعلقمة واألسود وابن جبير وطلحة واألعمش‪:‬‬
‫بشّد الواو‪ ،‬مصدر تفّو ت‪ .‬وحكى أبو زيد عن العربي‪:‬‬
‫تفاوتًا بضم الواووفتحها وكسرها‪ ،‬والفتح والكسر‬
‫شاذان‪ .‬والظاهر عموم خلق الرحمن من األفالك‬
‫وغيرها‪ ،‬فإنه ال تفوت فيه وال فطور‪ ،‬بل كلجار على‬
‫اإلتقان‪ .‬وقيل‪ :‬المراد في {َخ ْلِق ٱلَّر ْح َم ٰـ ِن } السموات‬
‫فقط‪ ،‬والظاهر أن قوله تعالى‪َّ{ :‬م ا َت َر ٰى } استئناف‬
‫أنهال يدرك في خلقه تعالى تفاوت‪ ،‬وجعل الزمخشري‬
‫هذه الجملة صفة متابعة لقوله‪ِ{ :‬ط َب اقًا }‪ ،‬أصلها ما‬
‫ْل‬
‫ترى فيهن منتفاوت‪ ،‬فوضع مكان الضمير قوله‪َ{ :‬خ ِق‬
‫ٱلَّر ْح َم ٰـ ِن } تعظيمًا لخلقهن وتنبيهًا على سبب‬
‫سالمتهن من التفاوت‪ ،‬وهو أنه خلق الرحمن‪،‬وأنه‬
‫بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق‬
‫المناسب‪ .‬انتهى‪ .‬والخطاب في ترى لكل مخاطب‪ ،‬أو‬
‫للرسول صلى اللهعليه وسلم‪ .‬ولما أخبر تعالى أنه ال‬
‫تفاوت في خلقه‪ ،‬أمر بترديد البصر في الخلق‬
‫المناسب فقال‪َ{ :‬ف ٱْر ِج ِع }‪ ،‬ففيالفاء معنى التسبب‪،‬‬
‫والمعنى‪ :‬أن العيان يطابق الخبر‪ .‬و{*الفطور}‪ ،‬قال‬
‫مجاهد‪ :‬الشقوق‪ ،‬فطر ناب البعير‪ :‬شق اللحم وظهر‪،‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬

‫وسّو اها فما فيها فطور‬ ‫بنى لكم بال عمد سماء‬

‫وقال أبو عبيدة‪ :‬صدوع‪ ،‬وأنشدقول عبيد بن مسعود‪:‬‬

‫هواك فليط فالتأم الفطور‬ ‫شققت القلب ثم رددت فيه‬

‫وقااللسدي‪ :‬خروق‪ .‬وقال قتادة‪ :‬خلل‪ ،‬ومنه التفطير‬


‫واالنفطار‪ .‬وقال ابن عباس‪ :‬وهن وهذه تفاسير‬
‫متقاربة‪ ،‬والجملة من قوله‪{ :‬ٱْلَب َص َر َه ْل َت َر ٰى ِم ن ُف ُط وٍر }‬
‫في موضع نصب بفعل معلق محذوف‪ ،‬أي فانظر هل‬
‫ترى‪ ،‬أو ضمن معنى {َف ٱْر ِج ِع ٱْلَب َص َر }معنى فانظر‬
‫ببصرك هل ترى؟ فيكون معلقًا ‪ُ{ .‬ث َّم ْا رِج ِع الَب َص َر }‪ :‬أي‬
‫ردده كرتين هي تثنية ال شفع الواحد‪ ،‬بليراد بها‬
‫التكرار‪ ،‬كأنه قال‪ :‬كرة بعد كرة‪ ،‬أي كرات كثيرة‪،‬‬
‫كقوله‪ :‬لبيك‪ ،‬يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر‬
‫بعض‪،‬وأريد بالتنثية التكثير‪ ،‬كما أريد بما هو أصل‬
‫لها التكثير‪ ،‬وهو مفرد عطف على مفرد‪ ،‬نحو قوله‪:‬‬
‫بيتًا وأبعدهم عن منزل الزام‬ ‫لو عّد قبر وقبر كان أكرمهم‬

‫يريد‪ :‬لوعدت قبور كثيرة‪ .‬وقال ابن عطية وغيره‪:‬‬


‫{َكَّر َت ْي ِن } معناه مرتين ونصبها على المصدر‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫أمر برجع البصر إلى السماء مرتين‪ ،‬غلط في األولى‪،‬‬
‫فيستدرك بالثانية‪ .‬وقيل‪:‬األولى ليرى حسنها‬
‫واستواءها‪ ،‬والثانية ليبصر كواكبها في سيرها‬
‫وانتهائها‪ .‬وقرأ الجمهور‪َ{ :‬ي نَق ِل َب } جزمًا على جواب‬
‫األمر؛ والخوارزمي عنالكسائي‪ :‬يرفع الباء‪ ،‬أي‬
‫فينقلب على حذف الفاء‪ ،‬أو على أنه موضع حال‬
‫مقدرة‪ ،‬أي إن رجعت البصر وكررت النظرلتطلب‬
‫فطور شقوق أو خلًال أو عيبًا‪ ،‬رجع إليك مبعدًا عما‬
‫طلبته النتفاء ذلك عنها‪ ،‬وهو كاّل من كثرة‬
‫النظر‪،‬وكالله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع‬
‫الواحد‪ ،‬ألنه ال يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين‪.‬‬
‫والحسير‪ :‬الكال‪ ،‬قال الشاعر‪:‬‬

‫وال زال منها ظالع وحسير‬ ‫لهن الوجى لم كر عونًا على النوى‬
‫يقال‪ :‬حسر بعيره يحسر حسورًا‪ :‬أيكّل وانقطع فهو‬
‫حسير ومحسور‪ ،‬قال الشاعر يصف ناقة‪:‬‬

‫فشطرهـا نظـر العينيـن محسـور‬

‫أي‪ :‬ونحرها‪ ،‬وقد جمع حسير بمعنى أعياوكل‪ ،‬قال‬


‫الشاعر‪:‬‬

‫بهـا جيـف الحسـرى فـأما عظـامها‬

‫البيت‪{ .‬ٱل َّس َم اء ٱلُّد ْن َي ا }‪ :‬هي التي نشاهدها‪ ،‬والدنو‬


‫أمر نسبي وإال فليست قريبة‪ِ{،‬ب َم َص ٰـ ِب يَح }‪ :‬أي بنجوم‬
‫مضيئة كالمصابيح‪ ،‬ومصابيح مطلق األعالم‪ ،‬فال يدل‬
‫على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح‪.‬‬
‫{َو َج َع ْلَن ٰـ َه اُر ُج ومًا ّل ل َّش َي ٰـ ِط يِن }‪ :‬أي جعلنا منها‪ ،‬ألن‬
‫السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد‬
‫الضمير في قوله‪َ{ :‬و َج َع ْلَن ٰـ َه ا} على السماء‪ .‬والظاهر‬
‫عوده على مصابيح‪ .‬ونسب الرجم إليها‪ ،‬ألن الشهاب‬
‫المتبع للمسترق منفصل من نارها‪ ،‬والكواكب قاّر‬
‫فيملكه على حاله‪ .‬فالشهاب كقبس يؤخذ من النار‪،‬‬
‫والنار باقية ال تنقص‪ .‬والظاهر أن الشياطين هم‬
‫مسترقو السمع‪ ،‬وأن الرجمهو حقيقة يرمون بالشهب‪،‬‬
‫كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫معنى رجومًا‪ :‬ظنونًا لشياطين اإلنس‪ ،‬وهم المنجمون‬
‫ينسبونإلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم‪،‬‬
‫والتمويه واالختالق من أزكيائهم‪ ،‬ولهم في ذلك‬
‫تصانيف تشتمل على خرافات يموهونبها على الملوك‬
‫وضعفاء العقول‪ ،‬ويعملون موالد يحكمون فيها‬
‫باألشياء ال يصح منها شيء‪ .‬وقد وقفنا على أشياء‬
‫من كذبهمفي تلك الموالد‪ ،‬وما يحكونه عن أبي معشر‬
‫وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس‬
‫الجهال‪ .‬وقال قتادة‪ :‬خلقاهلل تعالى النجوم زينة‬
‫للسماء ورجومًا للشياطين‪ ،‬وليهتدي بها في البر‬
‫والبحر؛ فمن قال غير هذه الخصال الثالث فقد‬
‫تكلفوأذهب حظه من اآلخرة‪ .‬والضمير في لهم عائد‬
‫على الشياطين‪ .‬وقرأ الجمهور‪َ{ :‬ع َذ اَب َج َه َّن َم } برفع‬
‫الباء؛ والضحاك واألعرجوأسيد بن أسيد المزني‬
‫والحسن في رواية هارون عنه‪ :‬بالنصب عطفًا على‬
‫{َع َذ اِب ٱل َّس ِع يِر }‪ ،‬أي وأعتدنا للذين كفروا عذابجهنم‪.‬‬
‫{ِإ َذ ا ُأ ْل ُق وْا ِف ي َه ا }‪ :‬أي طرحوا‪ ،‬كما يطرح الحطب في‬
‫النار العظيمة ويرمى به‪ ،‬ومثله حصب جهنم‪َ{ ،‬س ِم ُع وْا‬
‫َلَه ا}‪ :‬أي لجهنم‪َ{ ،‬ش ِه يًق ا }‪ :‬أي صوتًا منكرًا كصوت‬
‫الحمار‪ ،‬تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون علىحذف مضاف‪ ،‬أي سمعوا ألهلها‪،‬‬
‫َل‬
‫كما قال تعالى‪ُ { :‬ه ْم ِف يَه ا َز ِف يٌر َو َش ِه يٌق } ‪َ{ .‬و ِه َى‬
‫َت ُف وُر }‪ :‬تغلي بهم غلي المرجل‪َ{.‬ت َكاُد َت َم َّي ُز }‪ :‬أي‬
‫ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها‪ ،‬ويقال‪:‬‬
‫فالن يتميز من الغيظ إذا وصفوه باإلفراط في‬
‫الغضب‪.‬وقرأ الجمهور‪َ{ :‬ت َم َّي ُز } بتاء واحدة خفيفة‪،‬‬
‫والبزي يشّد دها‪ ،‬وطلحة‪ :‬بتاءين‪ ،‬وأبو عمرو‪ :‬بإدغام‬
‫الدال في التاء‪ ،‬والضحاك‪ :‬تمايز علىوزن تفاعل‪،‬‬
‫وأصله تتمايز بتاءين؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة‪:‬‬
‫تميز من ماز من الغيظ على الكفرة‪ ،‬جعلت‬
‫كالمغتاظةعليهم لشدة غليانها بهم‪ ،‬ومثل هذا في‬
‫التجوز قول الشاعر‪:‬‬

‫يكاد أن يخرج من إهابه‬ ‫في كلب يشتد في جريه‬

‫وقولهم‪ :‬غضب فالن‪ ،‬فطارت منه شقة في األرض‬


‫وشقة في السماء إذا أفرط فيالغضب‪ .‬ويجوز أن‬
‫يراد من غيظ الزبانية‪ُ{ .‬كَّل َم ا ُأ ْل ِق َى ِف ي َه ا َف ْو ٌج }‪ :‬أي‬
‫فريق من الكفار‪َ{ ،‬س َأ َلُه ْم َخ َز َن ُت َه ا }‪ :‬سؤالتوبيخ‬
‫وتقريع‪ ،‬وهو مما يزيدهم عذابًا إلى عذابهم‪ ،‬وخزنتها‪:‬‬
‫مالك وأعوانها‪َ{ ،‬أ َلْم َي ْأ ِت ُكْم َن ِذ يٌر }‪ :‬ينذركم بهذا اليوم‪،‬‬
‫{َق اُلوْا َب َلٰى }‪ :‬اعتراف بمجيء النذر إليهم‪ .‬قال‬
‫الزمخشري‪ :‬اعتراف منهم بعدل اهلل‪ ،‬وإقرار بأنه عز‬
‫وعال أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهمفيما وقعوا‬
‫فيه‪ ،‬وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة‪ ،‬وإنما‬
‫أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم‪ ،‬خالف ما اختاراهلل‬
‫وأمر به وأوعد على ضده‪ .‬انتهى‪ ،‬وهو على طريق‬
‫ٰـ‬ ‫المعتزلة‪ .‬والظاهر أن قوله‪ِ{ :‬إ ْن َأ نُت ْم ِإ َّال ِف ى َض َل‬
‫ٍل‬
‫َكِب يٍر}‪ ،‬من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذرًا إليهم‪،‬‬
‫أنكروا أوًال أن اهلل نزل شيئًا‪ ،‬واستجهلوا ثانيًا من‬
‫أخبر بأنهتعالى أرسل إليهم الرسل‪ ،‬وأن قائل ذلك في‬
‫حيرة عظيمة‪ .‬ويجوز أن يكون من قول الخزنة‬
‫للكفار إخبارًا لهم وتقريعًا بما كانوا عليه في الدنيا‪.‬‬
‫أرادوا بالضالل الهالك الذي هم فيه‪ ،‬أوسموا عقاب‬
‫الضالل ضالًال لما كان ناشئًا عن الضالل‪.‬وقال‬
‫الزمخشري‪ :‬أو من كالم الرسل لهم حكوه للخزنة‪ ،‬أي‬
‫قالوا لنا هذا فلم نقبله‪ .‬انتهى‪ .‬فإن كان الخطاب‬
‫في{ِإ ْن َأ نُت ْم } للرسل‪ ،‬فقد يراد به الجنس‪ ،‬ولذلك جاء‬
‫الخطاب بالجمع‪َ{ .‬و َق اُلوْا }‪ :‬أي للخزنة حين‬
‫حاوروهم‪َ{ ،‬لْو ُكَّناَن ْس َم ُع } سماع طالب للحق‪َ{ ،‬أ ْو َن ْع ِق ُل‬
‫}‪ .‬عقل متأمل له‪ ،‬لم نستوجب الخلود في النار‪.‬‬
‫{َف ٱْع َت َر ُف وْا ِب َذ نِب ِه ْم }‪ :‬أيبتكذيب الرسل‪َ{ ،‬ف ُس ْح ًق ا }‪ :‬أي‬
‫فبعدًا لهم‪ ،‬وهو دعاء عليهم‪ ،‬والسحق‪ :‬البعد‪،‬‬
‫وانتصابه على المصدر‪ :‬أي سحقهم اهلل سحقًا‪،‬‬
‫قااللشاعر‪:‬‬
‫وتسحقه ريح الصبا كل مسحق‬ ‫يجول بأطراف البالد مغربا‬

‫والفعل منه ثالثي‪ .‬وقااللزجاج‪ :‬أي أسحقهم اهلل‬


‫سحقًا‪ ،‬أي باعدهم بعدًا ‪ .‬وقال أبو علي الفارسي‪:‬‬
‫القياس إسحاقًا‪ ،‬فجاء المصدر على الحذف‪ ،‬كما قيل‪:‬‬

‫وإن أهـلك فـذلك كـان قـدري‬

‫أي تقديري‪ .‬انتهى‪ ،‬وال يحتاج إلى ادعاء الحذف في‬


‫المصدر ألن فعله قد جاء ثالثيًا‪ ،‬كما أنشد‪:‬‬

‫وتسحقـه ريـح الصبـا كـل مسحـق‬

‫وقرأ الجمهور‪ :‬بسكون الحاء؛ وعلي وأبو جعفر‬


‫والكسائي‪ ،‬بخالف عن أبي الحرث عنه‪ :‬بضمها‪ .‬قاالبن‬
‫عطية‪َ{ :‬ف ُس ْح ًق ا }‪ :‬نصبًا على جهة الدعاء عليهم‪ ،‬وجاز‬
‫ذلك فيه‪ ،‬وهو من قبل اهلل تعالى من حيث هذاالقول‬
‫فيهم مستقر أوًال‪ ،‬ووجوده لم يقع إال في اآلخرة‪،‬‬
‫فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به‪ ،‬كما‬
‫تقول‪:‬سحقًا لزيد وبعدًا‪ ،‬والنصب في هذا كله بإضمار‬
‫فعل‪ ،‬وإن وقع وثبت‪ ،‬فالوجه فيه الرفع‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪َ { :‬و ْي ٌل ّلْل ُم َط ّف ِف يَن } ‪ ،‬و { َس َلٰـ ٌم َع َلْي ُكُم } ‪ ،‬وغير‬
‫هذا من األمثلة‪ .‬انتهى‪َ{ .‬ي ْخ َش ْو َن َر َّب ُه م ِب ٱْل َغ ْي ِب }‪ :‬أي‬
‫الذي أخبروا به من أمر المعادوأحواله‪ ،‬أو غائبين عن‬
‫أعين الناس‪ ،‬أي في خلواتهم‪ ،‬كقوله‪ :‬ورجل ذكر اهلل‬
‫خاليًا ففاضت عيناه‪َ{ .‬و َأ ِس ُّر وْا َق ْو َلُكْم }‪ :‬خطابلجميع‬
‫الخلق‪ .‬قال ابن عباس‪ :‬وسببه أن بعض المشركين‬
‫قال لبعض‪ :‬أسروا قولكم ال يسمعكم إله محمد‪َ{ .‬أ َال‬
‫َي ْع َلُم َم ْن َخ َلَق }‪ :‬الهمزة لالستفهام وال للنفي‪ ،‬والظاهر‬
‫أن من مفعول‪ ،‬والمعنى‪ :‬أينتفي علمه بمن خلق‪ ،‬وهو‬
‫الذي لطف علمه ودقوأحاط بخفيات األمور وجلياتها؟‬
‫وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعًال والمفعول‬
‫محذوف‪ ،‬كأنه قال‪ :‬أال يعلم الخالق سركم وجهركم؟‬
‫وهو استفهام معناه اإلنكار‪ ،‬أي كيف ال يعلم ما تكلم‬
‫به من خلق األشياء وأوجدها من العدم الصرف وحاله‬
‫أنهاللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من‬
‫خلقه وما بطن؟ {ُه َو ٱَّلِذ ى َج َع َل َلُكُم ٱْالْر َض َذ ُلوًال }‪:‬‬
‫منةمنه تعالى بذلك‪ ،‬والذلول فعول للمبالغة‪ ،‬من ذلك‬
‫تقول‪ :‬دابة ذلول‪ :‬بينة الذل‪ ،‬ورجل ذليل‪ :‬بين الذل‪.‬‬
‫وقال ابن عطية‪:‬والذلول فعول بمعنى مفعول‪ ،‬أي‬
‫مذلولة‪ ،‬فهي كركوب وحلوب‪ .‬انتهى‪ .‬وليس بمعنى‬
‫مفعول ألن فعله قاصر‪ ،‬وإنما تعدى بالهمزة كقوله‪:‬‬
‫{ َو ُت ِذ ُّل َم ن َت َش اء } ‪ ،‬وأما بالتضعيف لقوله‪َ { :‬و َذ َّلْلَن ٰـ َه ا‬
‫َلُه ْم } ‪ ،‬وقوله‪ :‬أي مذلولة يظهر أنه خطأ‪َ{ .‬ف ٱْم ُش وْا ِف ى‬
‫َم َناِك ِب َه ا }‪:‬أمر بالتصرف فيها واالكتساب؛ ومناكبها‪،‬‬
‫قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب‪ :‬أطرافها‪ ،‬وهي‬
‫الجبال‪ .‬وقال الفراء والكلبي ومنذر بنسعيد‪ :‬جوانبها‪،‬‬
‫ومنكبا الرجل‪ :‬جانباه‪ .‬وقال الحسن والسدي‪ :‬طرفها‬
‫وفجاجها‪ .‬قال الزمخشري‪ :‬والمشي في مناكبها مثل‬
‫لفرط التذليل ومجازوته الغاية‪،‬ألن المنكبين‬
‫وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن‬
‫أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه‪ ،‬فإذا جعلها‬
‫فيالذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقال الزجاج‪ :‬سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ‬
‫التذليل‪َ{ .‬و ِإ َلْي ِه ٱلُّن ُش وُر }‪ :‬أي البعث‪ ،‬فسألكم عن شكر‬
‫هذه النعمة عليكم‪ .‬وقوله عز وجل‪َّ{ :‬م ن ِف ى ٱل َّس َم اء‬
‫َأ ن َي ْخ ِس َف ِب ُكُم ٱْالْر َض َف ِإ َذ ا ِه َى َت ُم وُر َأ ْم * َأ ْم َأ ِم نُت ْم ّم ن‬
‫ِف ى ٱل َّس َم اء َأ ن ُي ْر ِس َل َع َلْي ُكْم َح ٰـ ِص بًا َف َس َت ْع َلُم وَن َكْي َف‬
‫َن ِذ يِر * َو َلَق ْد َكَّذ َب ٱَّلِذ يَن ِم ن َق ْب ِل ِه ْم َف َكْي َف َكاَن نِك يِر * َأ َو‬
‫َلْم * َي َرْو ا ِإ َلى ٱلَّط ْي ِر َف ْو َق ُه ْم َص ـٰـ َّف ٰـ ٍت َو َي ْق ِب ْض َن * َم ا‬
‫ُي ْم ِس ُكُه َّن ِإ َّالٱلَّر ْح َم ٰـ ُن ِإ َّن ُه ِب ُكّل َش ْى ء َبِص يٌر * َأ َّم ْن َه ٰـ َذ ا‬
‫ِإ‬ ‫ٰـ‬ ‫َم‬ ‫ْح‬ ‫َّر‬ ‫ٱل‬ ‫و‬ ‫ُد‬ ‫ن‬ ‫ّم‬ ‫ْم‬‫ُك‬ ‫ُر‬ ‫ُص‬ ‫ن‬ ‫َي‬ ‫ْم‬‫ُك‬ ‫ٱَّلِذ ى ُه َو ُج نٌد َّل‬
‫ِن ِن‬ ‫ِن‬
‫ٱْلَكٰـ ِف ُر وَن ِإ َّال ِف ى ُغ ُر وٍر * َأ َّم ْن َه ٰـ َذ ا ٱَّلِذ ى َي ْر ُز ُق ُكْم ِإ ْن‬
‫َأ ْم َس َك ِر ْز َق ُه َب ل َّل ُّج وْا ِف ى ُع ُت ّو َو ُنُف وٍر * َأ َف َم ن َي ْم ِش ى‬
‫ُم ِك ّب ًا َع َلٰى َو ْج ِه ِه َأ ْه َد ٰى َأ َّم ن َي ْم ِش ى َس ِو ّي ًا َع َلى ِص ٰر ٍط‬
‫ٱَّلِذ ى َأ ن َش َأ ُكْم َو َج َع َل َلُكُم ٱل َّس ْم َع‬ ‫ُّم ْس َت ِق يٍم * ُق ْل ُه َو‬
‫َق ِل يًال َّم ا َت ْش ُكُر وَن * ُق ْل ُه َو ٱَّلِذ ى‬ ‫َو ٱْالْب َص ٰـ َر َو ٱْالْف ِئ َد َة‬
‫َت‬ ‫َم‬ ‫َن‬‫و‬ ‫َذ َر َأ ُكْم ِف ى ٱْالْر ِض َو ِإ َلْي ِه ُت ْح َش ُر وَن * َو َي ُق وُل‬
‫ٰى‬
‫َه ٰـ َذ ا ٱْلَو ْع ُد ِإ ن ُكنُت ْم َص ٰـ ِد ِق يَن * ُق ْل ِإ َّن َم اٱْل ِع ْلُم ِع نَد ٱِهَّلل‬
‫َو ِإ َّن َم ا َأ َن ْا َن ِذ يٌر ُّم ِب يٌن * َف َلَّم ا َر َأ ْو ُه ُز ْل َف ًة ِس يَئ ْت ُو ُج وُه‬
‫ٱَّلِذ يَن َكَف ُر وْا َو ِق يَل َه ٰـ َذ ا ٱَّلِذ ى ُكنُت م ِب َت َّد ُع وَن * ُق ْل‬
‫ِه‬
‫َأ َر ءْي ُت ْم ِإ ْن َأ ْه َلَكِن َى ٱُهَّلل َو َم ن َّم ِع َى َأ ْو َرِح َم َنا َف َم ن ُي ِج يُر‬
‫ٱْلَكٰـ ِف ِر يَن ِم ْن َع َذ اٍب َأ ِل يٍم * ُق ْل ُه َو ٱلَّر ْح َم ٰـ ُن ءاَم َّنا ِب ِه‬
‫َو َع َلْي ِه َت َو َّكْلَنا َف َس َت ْع َلُم وَن َم ْن ُه َو ِف ى َض َلٰـ ُّم ِب ي * ُق ْل‬
‫ٍن‬ ‫ٍل‬
‫َأ َر ءْي ُت ْم ِإ ْن َأ ْص َب َح َم اُؤ ُكْم َغ ْو رًا َف َم ن َي ْأ ِت يُكْم ِب َم اء َّم ِع يٍن }‪.‬‬
‫قرأ نافع وأبو عمرو والبزي‪َ{ :‬أ ءِم نُت ْم } بتحقيق األولى‬
‫وتسهيل الثانية‪ ،‬وأدخل أبو عمرو وقالون بينهماألفًا‪،‬‬
‫وقنبل‪ :‬بإبدال األولى واوًا لضمة ما قبلها‪ ،‬وعنه وعن‬
‫ورش أوجه غير هذه؛ والكوفيون وابن عامر‬
‫بتحقيقهما‪َّ{ .‬م ن ِف ىٱل َّس َم اء }‪ :‬هذا مجاز‪ ،‬وقد قام‬
‫البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة‪،‬‬
‫ومجازه أن ملكوته في السماءألن في السماء هو صلة‬
‫من‪ ،‬ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه‪ ،‬وهو‬
‫استقر‪ ،‬أي من في السماء هو‪،‬أي ملكوته‪ ،‬فهو على‬
‫حذف مضاف‪ ،‬وملكوته في كل شيء‪ .‬لكن خص‬
‫السماء بالذكر ألنها مسكن مالئكته وثم عرشه‬
‫وكرسيهواللوح المحفوظ‪ ،‬ومنها تنزل قضاياه وكتبه‬
‫وأمره ونهيه‪ ،‬أو جاء هذا على طريق اعتقادهم‪ ،‬إذ‬
‫كانوا مشبهة‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬أأمنتممن تزعمون أنه‬
‫في السماء؟ وهو المتعالي عن المكان‪ .‬وقيل‪ :‬من على‬
‫حذف مضاف‪ ،‬أي خالق من في السماء‪ .‬وقيل‪:‬من هم‬
‫المالئكة‪ .‬وقيل‪ :‬جبريل‪ ،‬وهو الملك الموكل بالخسف‬
‫وغيره‪ .‬وقيل‪ :‬من بمعنى على‪ ،‬ويراد بالعلو القهر‬
‫والقدرة ال بالمكان‪،‬وفي التحرير‪ :‬االجماع منعقد على‬
‫أنه ليس في السماء بمعنى االستقرار‪ ،‬ألن من قال‬
‫من المشبهة والمجسمة أنه على العرشال يقول بأنه‬
‫في السماء‪َ{ .‬أ ن َي ْخ ِس َف ِب ُكُم ٱْالْر َض } وهو ذهابها‬
‫سفًال‪َ{ ،‬ف ِإ َذ ا ِه َى َت ُم وُر }‪ :‬أي تذهب أوتتموج‪ ،‬كما‬
‫يذهب التراب في الريح‪ .‬وقد تقدم شرح الحاصب‬
‫في سورة اإلسراء‪ ،‬والنذير والنكير مصدران بمعنى‬
‫اإلنذار واإلنكار‪ ،‬وقالحسان بن ثابت‪:‬‬

‫من الرحمن إن قبلت نذيرا‬ ‫فأنذر مثلها نصحًا قريشا‬

‫وأثبت ورشياء نذيري ونكيري‪ ،‬وحذفها باقي السبعة‪.‬‬


‫ولما حذرهم ما يمكن إحالله بهم من الخسف وإرسال‬
‫الحاصب‪ ،‬نبههم على االعتبار بالطيروما أحكم من‬
‫خلقها‪ ،‬وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك‪ ،‬وناسب‬
‫ذلك االعتبار بالطير‪ ،‬إذ قد تقدمه ذكر الحاصب‪،‬وقد‬
‫أهلك اهلل أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي‬
‫رمتهم به‪ ،‬ففيه إذكار قريش بهذه القصة‪ ،‬وأنه تعالى‬
‫لو شاء ألهلكهمبحاصب ترمي به الطير‪ ،‬كما فعل‬
‫بأصحاب الفيل‪َ{ .‬ص اَّف ٰـ ٍت }‪ :‬باسطة أجنحتها صافتها‬
‫حتى كأنها ساكنة‪َ{ ،‬و َي ْق ِب ْض َن }‪ :‬ويضممن األجنحةإلى‬
‫جوانبهن‪ ،‬وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما‬
‫إلى األخرى‪ .‬وعطف الفعل على االسم لما كان في‬
‫معناه‪ ،‬ومثله قولهتعالى‪َ { :‬ف ٱْل ُم ِغ يٰر ِت ُص ْب حًا َف َأ َث ْر َن } ‪،‬‬
‫عطف الفعل على االسم لما كان المعنى‪ :‬فالالتي أغرن‬
‫صبحًا فأثرن‪ ،‬ومثل هذا العطففصيح‪ ،‬وعكسه أيضًا‬
‫جائز إال عند السهيلي فإنه قبيح‪ ،‬نحو قوله‪:‬‬

‫يقصد في أسوقها وجائر‬ ‫بات يغشيها بغضب باتر‬

‫أي‪ :‬قاصد في أسوقها وجائر‪ .‬وقال الزمخشري‪:‬‬


‫{َص اَّف ٰـ ٍت }‪ :‬باسطات أجنحتهن في الجوعند طيرانها‪،‬‬
‫ألنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفًا‪َ{ ،‬و َي ْق ِب ْض َن }‪:‬‬
‫ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن‪ .‬فإن قلت‪ :‬لم قيل‬
‫{َو َي ْق ِب ْض َن }‪ ،‬ولم يقل‪ :‬وقابضات؟ قلت‪ :‬أصل الطيران‬
‫هو صف األجنحة‪ ،‬ألن الطيران في الهواء كالسباحة‬
‫في الماء‪ ،‬واألصل في السباحةمد األطراف وبسطها‪.‬‬
‫وأما القبض فطارىء على البسط لالستظهار به على‬
‫التحرك‪ ،‬فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ‬
‫الفعلعلى معنى أنهن صافات‪ ،‬ويكون منهن القبض‬
‫تارة بعد تارة‪ ،‬كما يكون من السابح‪ .‬انتهى‪ .‬وملخصه‬
‫أن الغالب هو البسط‪،‬فكأنه هو الثابت‪ ،‬فعبر عنه‬
‫باالسم‪ .‬والقبض متجدد‪ ،‬فعبر عنه بالفعل بـ {َم ا‬
‫ُي ْم ِس ُكُه َّن ِإ َّال ٱلَّر ْح َم ٰـ ُن }‪ :‬أي بقدرته‪ .‬قااللزمخشري‪:‬‬
‫وبما دبر لهن من القوادم والخوافي‪ ،‬وبنى األجسام‬
‫على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو‬
‫{ِإ َّن ُه ِب ُكّل َش ْى ء َبِص يٌر }‪ :‬يعلم كيف يخلق وكيف يدبر‬
‫العجائب‪ .‬انتهى‪ ،‬وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة‪.‬‬
‫ونحن نقول‪ :‬إن أثقالألشياء إذا أراد إمساكها في‬
‫الهواء واستعالءها إلى العرش كان ذلك‪ ،‬وإذا أراد‬
‫إنزال ما هو أخف سفًال إلى منتهىما ينزل كان‪ ،‬وليس‬
‫ذلك معذوقًا بشكل‪ ،‬ال من ثقل وال خفة‪ .‬وقرأ‬
‫الجمهور‪ :‬ما يمسكهن مخففًا ‪ .‬والزهري مشددًا ‪.‬‬
‫وقرأالجمهور‪ِ{ :‬م ن }‪ ،‬بإدغام ميم أم في ميم من‪ ،‬إذ‬
‫األصل أم من‪ ،‬وأم هنا بمعنى بل خاصة ألن الذيبعدها‬
‫هو اسم استفهام في موضع رفع على االبتداء‪ ،‬وهذا‬
‫خبر‪ ،‬والمعنى‪ :‬من هو ناصركم إن ابتالكم بعذابه؛‬
‫وكذلك منهو رازقكم أن أمسك رزقه‪ ،‬والمعنى‪ :‬ال أحد‬
‫ينصركم وال يرزقكم‪ .‬وقرأ طلحة‪ :‬أمن بتخفيف الميم‬
‫ونقلها إلى الثانية كالجماعة‪.‬قال صاحب اللوامح‪:‬‬
‫ومعناه‪ :‬أهذا الذي هو جند لكم ينصركم‪ ،‬أم الذي‬
‫يرزقكم؟ فلفظه لفظ االستفهام‪ ،‬ومعناه التقريع‬
‫والتوبيخ‪ .‬انتهى‪َ{.‬ب ل َّل ُّج وْا }‪ :‬تمادوا‪ِ{ ،‬ف ى ُع ُت ّو }‪ :‬في‬
‫تكبر وعناد‪َ{ ،‬و ُنُف وٍر }‪ :‬شراد عن الحق لثقله عليهم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هذا إشارةإلى أصنامهم‪َ{ .‬أ َف َم ن َي ْم ِش ى ُم ِك ّب ًا‬
‫َع َلٰى َو ْج ِه ِه }‪ ،‬قال قتادة نزلت مخبرة عن حال‬
‫القيامة‪ ،‬وأن الكفار يمشون فيهاعلى وجوههم‪،‬‬

‫والمؤمنون يمشون على استقامة‪ .‬وقيل للنبي ﷺ‪:‬‬


‫كيف يمشى الكافر على وجهه؟ فقال‪ :‬إن الذي أمشاه‬
‫في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في اآلخرة‬
‫على وجهه ‪ .‬فالمشي على قول قتادة حقيقة‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫هو مجاز‪،‬ضرب مثًال للكافر والمؤمن في الدنيا‪.‬‬
‫فقيل‪ :‬عام‪ ،‬وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك‪،‬‬
‫نزلت فيهما‪ .‬وقال ابن عباس أيضًا‪:‬نزلت في أبي‬
‫جهل والرسول عليه الصالة والسالم‪ .‬وقيل‪ :‬في أبي‬
‫جهل وحمزة‪ ،‬والمعنى أن الكافر في اضطرابه‬
‫وتعسفه فيعقيدته وتشابه األمر عليه‪ ،‬كالماضي في‬
‫انخفاض وارتفاع‪ ،‬كاألعمى يتعثر كل ساعة فيخر‬
‫لوجهه‪ .‬وأما المؤمن‪ ،‬فإنه لطمأنينة قلبه‬
‫باإليمان‪،‬وكونه قد وضح له الحق‪ ،‬كالماشي صحيح‬
‫البصر مستويًا ال ينحرف على طريق واضح‬
‫االستقامة ال حزون فيها‪ ،‬فآلة نظرهصحيحة ومسلكه‬
‫ال صعوبة فيه‪ .‬و{ُم ِك ّب ًا }‪ :‬حال من أكب‪ ،‬وهو ال‬
‫يتعدى‪ ،‬وكب متعد‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬ف ُكَّب ْت ُو ُج وُه ُه ْم ِف ى‬
‫ٱلَّن اِر } ‪ ،‬والهمزة فيه للدخول في الشيء أو‬
‫للصيرورة‪ ،‬ومطاوع كب انكب‪ ،‬تقول‪ :‬كببته فانكب‪.‬‬
‫وقال الزمخشري‪ :‬وال شيء منبناء افعل مطوعًا‪ ،‬وال‬
‫يتقن نحو هذا إال حملة كتاب سيبويه‪ ،‬وهذا الرجل‬
‫كثير التبجح بكتاب سيبويه‪ ،‬وكم من نصفي كتاب‬
‫سيبويه عمى بصره وبصيرته حتى أن اإلمام أبا‬
‫الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتابًا يذكر فيه ما‬
‫غلطفيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب‬
‫سيبويه‪ .‬وأهدي‪ :‬افعل تفضيل من الهدى في الظاهر‪،‬‬
‫وهو نظير‪ :‬العسل أحلى أمالخل؟ وهذا االستفهام ال‬
‫تراد حقيقته‪ ،‬بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن‬
‫الماشي سويًا على صراط مستقيم أهدى‪.‬وانتصب‬
‫{َق ِل يًال } على أنه نعت لمصدر محذوف‪ ،‬وما زائدة‪،‬‬
‫وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة‪ ،‬أي تشكرون شكرًا‬
‫قليًال‪ .‬وقاالبن عطية‪ :‬ظاهر أنهم يشكرون قليًال‪ ،‬وما‬
‫عسى أن يكون للكافرين شكر‪ ،‬وهو قليل غير نافع‪.‬‬
‫وأما أن يريد بهنفي الشكر جملة فعبر بالقلة‪ ،‬كما‬
‫تقول العرب‪ :‬هذه أرض قّل ما تنبت كذا‪ ،‬وهي ال تنبته‬
‫ألبتة‪ .‬انتهى‪ .‬وتقدمنظير قوله والرد عليه في ذلك‪.‬‬
‫{َذ َر َأ ُكْم }‪ :‬بثكم‪ ،‬والحشر‪ :‬البعث‪ ،‬والوعد المشار إليه‬
‫هو وعد يوم القيامة‪ ،‬أي متىإنجاز هذا الوعد؟‪َ{ .‬ف َلَّم ا‬
‫َر َأ ْو ُه ُز ْل َف ًة }‪ :‬أي رأوا العذاب وهو الموعود به‪ُ{ ،‬ز ْل َف ًة }‪:‬‬
‫أي قربًا‪ ،‬أي ذاقرب‪ .‬وقال الحسن‪ :‬عيانًا ‪ .‬وقال ابن‬
‫زيد‪ :‬حاضرًا ‪ .‬وقيل‪ :‬التقدير مكانًا ذا زلفة‪ ،‬فانتصب‬
‫على الظرف‪َ{ .‬س ّي َئٰـ ُت }‪ :‬أي ساءترؤيته وجوههم‪،‬‬
‫وظهر فيها السوء والكآبة‪ ،‬وغشيها السواد كمن يساق‬
‫إلى القتل‪ .‬وأخلص الجمهور كسرة السين‪ ،‬وأشمها‬
‫الضم أبو جعفروالحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب‬
‫وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي‪َ{ .‬و ِق يَل } لهم‪ ،‬أي‬
‫تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم‪.‬وقرأ الجمهور‪:‬‬
‫{َت ْد ُع وَن } بشد الدال مفتوحة‪ ،‬فقيل‪ :‬من الدعوى‪.‬‬
‫قال الحسن‪ :‬تدعون أنه ال جنة وال نار‪ .‬وقيل‪:‬‬
‫تطلبونوتستعجلون‪ ،‬وهو من الدعاء‪ ،‬ويقوي هذا‬
‫القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة‬
‫وابن يسار عبد اهلل بن مسلم وسالمويعقوب‪ :‬تدعون‬
‫بسكون الدال‪ ،‬وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد‬
‫وعصمة عن أبي بكر واألصمعي عن نافع‪ .‬روي‬
‫أنالكفار كانوا يدعون على الرسول ﷺ وأصحابه‬
‫بالهالك‪ .‬وقيل‪ :‬كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم‬
‫بالقتل ونحوه‪ ،‬فأمرأن يقول‪ِ{ :‬إ ْن َأ ْه َلَكِن َى ٱُهَّلل } كما‬
‫تريدون‪َ{ ،‬أ ْو َرِح َم َنا } بالنصر عليكم‪ ،‬فمن يحميكم من‬
‫العذاب الذي سببه كفركم؟ولما قال‪َ{ :‬أ ْو َرِح َم َنا } قال‪:‬‬
‫{ُه َو ٱلَّر ْح َم ٰـ ُن }‪ ،‬ثم ذكر ما به النجاة وهو اإليمان‬
‫والتفويض إلى اهلل تعالى‪.‬وقرأ الجمهور‪َ{ :‬ف َس َت ْع َلُم وَن‬
‫} بتاء الخطاب‪ ،‬والكسائي‪ :‬بياء الغيبة نظرًا إلى قوله‪:‬‬
‫{ َف َم ن ُي ِج يُر ٱْل َكٰـ ِف ِر يَن } ‪ .‬ولما ذكر العذاب‪،‬وهو مطلق‪،‬‬
‫ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء‪ ،‬وهو عذاب‬
‫مخصوص‪ .‬والغور مشروح في الكهف‪ ،‬والمعين في‬
‫قدأفلح‪ ،‬وجواب {ِإ ْن َأ ْه َلَكِن َى }‪َ{ :‬ف َم ن ُي ِج يُر }‪ ،‬وجواب‬
‫{ِإ ْن َأ ْص َب َح }‪َ{ :‬ف َم ن َي ْأ ِت يُكْم }‪ ،‬وتليت هذه اآلية عند‬
‫بعضالمستهزئين فقال‪ :‬تجيء به الفوس والمعاويل‪،‬‬
‫فذهب ماء عينيه‪.‬‬

‫نقل عن "?‪https://ar.wikisource.org/w/index.php‬‬
‫تفسير_البحر_المحيط_أبي_حيان_الغرناطي‪title=/‬‬
‫‪&oldid=425468‬سورة_الملك"‬

‫ويكي مصدر‬

‫آخر تعديل للصفحة في ‪ 12 ،14:00‬أبريل ‪• .2023‬‬


‫المحتوى متاح وفق ‪ CC BY-SA 3.0‬إن لم يرد خالف ذلك‪.‬‬

You might also like