Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 2

‫إرهاصات للتفكير في السرد العربي‬

‫كان لالهتمام الزائد بالشعر أثره في حجب االهتمام بما يتعلق باألخبار والحكايات والقصص في التراث العربي ـ اإلسالمي‪ ،‬وإن لم‬
‫يكن ذلك حائال دون تدوين ما تعلق بها من الذاكرة الثقافية العربية‪ ،‬أو تصنيف أو تأليف نصوص تندرج في أحد أنواعها أو أصنافها‬
‫‪.‬على مّر العصور‬

‫إننا عندما نتأمل ما تركه العرب من إبداعات سردية تحت مختلف المسميات التي أعطيت لها (أخبارا‪ ،‬حكايات‪ ،‬قصصا‪ ،‬نوادر‪،‬‬
‫مقامات‪ )..‬نجده غزيرا ومتعددا ومتنوعا‪ ،‬لذلك لم تكن تلك المصنفات أو المؤلفات‪ ،‬على اختالف أنواعها‪ ،‬تخلو مما يمكن اعتباره‬
‫اهتماما‪ ،‬وإن كان ثانويا‪ ،‬أو هامشيا‪ ،‬بما يدخل في نطاق تسجيل آراء ومواقف تحتفل بما يتميز به النص السردي العربي‪ ،‬وبما يعرفه‬
‫‪.‬من تنوع وتجدد مع تطور الزمن‬

‫يبدو لنا ذلك بجالء في ما نجده من إشارات وإلماعات «نقدية» غزيرة تتصدر بها مقدمات بعض تلك الكتب‪ ،‬أو تأتي عرضا في‬
‫سياق تقديم بعض النصوص‪ ،‬على غرار ما نجده في تحديد صيغ األداء‪ ،‬أو محاولة اقتراح لبعض أنواعها‪ ،‬وأغراضها ومقاصدها‪،‬‬
‫‪.‬أو تتبع بعض عناصرها ومكوناتها‬

‫وال يكاد يخلو كتاب من مثل تلك اإللماعات‪ ،‬أو اإلشارات التي لم تكن تثير االهتمام‪ ،‬أو تستدعي التعامل معها‪ ،‬بقصد استكشاف ما‬
‫‪.‬يمكن أن نلتمس فيها مالمح معينة للتصور العربي القديم‪ ،‬الذي نعتبره ضمنيا أو جنينيا للمنجز السردي العربي القديم‬

‫عمدت في كتاب «الكالم والخبر» (‪ )1997‬على تتبع تلك اإلشارات أو اإللماعات بهدف تقديم تصور عربي لنظرية األنواع السردية‬
‫وأنماطها‪ ،‬واالستئناس بها لبلورة رؤية محددة لما سميته «مقدمة للسرد العربي»‪ .‬لم يكن في إمكاني تتبع كل المصادر العربية التي‬
‫‪.‬اطلعت عليها آنذاك‪ ،‬واستثمارها في ذلك الكتاب‪ ،‬ألن هدفي لم يكن جرد كل االستعماالت التي وظفت في تلك الكتب‬

‫لقد اكتفيت منها‪ ،‬بعد االنتقاء واالختيار المبني على قيمتها وكثرة تداولها قديما‪ ،‬بما جعلني أحيط علما بما كانت تقدمه من إرهاصات‪،‬‬
‫وبما أمكنني توظيفه من مصطلحات‪ ،‬ومن تمييزات بين األنواع السردية العربية‪ .‬لقد صار كثير من الباحثين يعملون على الرجوع‬
‫‪.‬إلى بعض تلك المصادر‪ ،‬وتقديم بعض تلك المالمح «النقدية» التي تزخر بها‬

‫لكن توظيف تلك اإلرهاصات‪ ،‬إذا كان الهدف منه هو فقط تقديم معلومات‪ ،‬فإنه ال يمكن أن يؤتي أكله‪ ،‬إذا لم يتم استثماره من أجل‬
‫تحقيق أهم الغايات التي يمكن إجمالها في «تأصيل» الدراسات السردية العربية‪ ،‬في ضوء ما تقدمه لنا تلك االجتهادات العربية‬
‫‪.‬العابرة‪ ،‬أو الطارئة أو المصاحبة لضرورة تدوين‪ ،‬أو تصنيف أو تأليف ما يتصل بالسرد‬

‫إن حديثنا عن «التأصيل» ليس المقصود به التميز عما تقدمه النظريات الغربية‪ ،‬لكن فقط العمل على إيجاد جسور بين ما تختزنه‬
‫الذاكرة الثقافية السردية العربية‪ ،‬وما واكبها من آراء واجتهادات‪ ،‬وإن لم ترق ألن تتحول إلى نظرية ما للسرد‪ ،‬على غرار ما مارسه‬
‫العرب مع الشعر مثال‪ .‬إن الرجوع إلى تلك اإلرهاصات ال يخلو من فوائد جمة تمكننا من تطوير نظرتنا إلى السرد العربي‪ ،‬وإلى فهم‬
‫كيفية تعاملهم معه‪ ،‬وتفاعلهم معه على المستوى «النظري‬
‫كما أن ذلك االستئناس يسمح لنا باستكشاف ما اقترحوه من مصطلحات تمكننا من توظيفها بعد مالءمتها ومقارنتها بنظيرتها في‬
‫‪.‬الثقافات األجنبية‬

‫نعرف جميعا أن التنظير للسرد حديث جدا في الغرب‪ ،‬لكن الباحثين الغربيين عملوا على الرجوع إلى التراث البالغي والفلسفي‪،‬‬
‫وانطالقا منه اقترحوا بعض المصطلحات‪ ،‬وتبنوا أصول الخلفية المعرفية القديمة‪ ،‬وأقصد األرسطية تحديدا‪ ،‬في تعريفهم للسرد‬
‫‪.‬وأنواعه وأشكاله‬
‫وما تزال تظهر بين الفينة واألخرى دراسات تستكشف بعض الرؤى واإلرهاصات القديمة التي تتقدم ضمنا أو مباشرة في نصوص‬
‫‪.‬إبداعية‪ ،‬أو فكرية بهدف إقامة حوار نظري معها‪ ،‬واالستفادة منها في تطوير النظرية السردية الحديثة‬

‫ويمكننا التمثيل لذلك بكتاب توني دافينبورت حول «السرد الوسيط‪ :‬مقدمة» (‪ )2004‬الذي عاد فيه إلى الكتابات اليونانية والرومانية‪،‬‬
‫واستخلص من خاللها إقراره بأن للسرديات جذورا في التراث السردي الغربي‪ ،‬وأن ما تحقق مع الشكالنيين والبنيوية ليس سوى‬
‫‪.‬انتقال من تلك اإلرهاصات النظرية إلى نظريات متكاملة‬

‫بالنسبة إلينا نجد في المصادر العربية القديمة الكثير من اإلرهاصات واالستعماالت المصطلحية الخاصة بالسرد‪ ،‬كما أننا نجد في‬
‫‪.‬معاجم المصطلحات العربية ما يفيدنا في التعرف على طريقة تحديدهم لكل ما يتصل به‪ ،‬في ضوء نمط حياتهم‪ ،‬وحضارتهم‬

‫وكل هذا يكشف لنا بالملموس أن «إعادة» تعريف السرد بناء على هذه العوامل يجنبنا السقوط في تبعات استنساخ التحديدات‬
‫‪.‬وإسقاطها على السرد العربي‪ ،‬الذي تشكل في سياق وشروط مختلفة عما عرفته السرود الغربية في تاريخها وحاضرها‬

‫وللقيام بذلك ال بد لنا من إقامة الحوار مع تلك األدبيات الجنينية‪ ،‬وقراءتها قراءة تتالءم مع التطور الذي عرفه اإلنتاج السردي‬
‫العربي‪ .‬وفي الوقت نفسه نضطلع بالمهمة عينها في عالقتنا بالنظريات السردية الغربية قديمها وحديثها‪ .‬دون هذا الحوار المزدوج‪،‬‬
‫‪.‬نظل عالة على التراث والغرب معا‬

You might also like