Professional Documents
Culture Documents
قراءةفيكتابالأزهر
قراءةفيكتابالأزهر
قراءةفيكتابالأزهر
3
الفهرس
4
عاقــل مــا فــي فكــرة التقريــب بيــن المذاهــب والطوائــف الدينيــة مــنٌ ال ينكــر
صعوبــة وشــدة ،بــل ر َّقاهــا البعــض لتكــون مــن المحــاالت( ،)1وذلــك لعمــق مواطــن
الخــاف ومساســها بأصــول كل مذهــب ،وارتبــاط وجودهــا بوجــوده وبقــاءه ومكانتــه
فــي قلــوب أتباعــه وعقولهــم .ويتجلــى ذلــك أيمــا جــا ٍء فــي فكــرة التقريــب بيــن
الســنة والشــيعة ،أكبــر طوائــف اإلســام .فالمذهبــان علــى مــر تاريخهمــا كانــا علــى
طرفــي نقيــض ،والخــاف بينهمــا عميــق الغــور يضــرب بجــذوره فــي العقــود األولــى
مــن التاريــخ اإلســامي ،فــي شــئون سياســي ٍة تاريخيــة ذات أبعــاد وخلفيــات عقديــة،
وشــئون أخــرى فقهيــة فروعيــة.
لكــن هــذه الحقائــق لــم تمنــع الكثيريــن مــن العلمــاء والمفكريــن والدعــاة وقــادة
أمــرا ممك ًنــا ،ورفــع االعتصــام
الــرأي والحــكام مــن اعتبــار التقــارب بيــن المذهبيــن ً
ـعارا ،وجعــل رأب الصــدع والتقريــب غاي ـ ًة ومشـ ً
ـروعا يرفعــون لــواءه بيــن المســلمين شـ ً
ويبذلــون أعمارهــم وأموالهــم فــي ســبيله .وقــد شــهد القــرن العشــرين ذروة هــذه الجهود،
فــي موجــات تمددهــا وانحســارها المتتاليــة .وربمــا كانــت ذروة ســنام هــذه الجهــود
ـد «جماعــة التقريــب بيــن المذاهــب اإلســامية» التــي ُينظــر إليهــا بوصفهــا المؤسســة
مولـ ُ
تأثيــرا واألوســع نطا ًقــا علــى مــر تاريــخ محــاوالت التقريــب بيــن الســنة
ً األعظــم
والشــيعة .وعلــى ذلــك ،كان راينــر برونــر -المستشــرق واألكاديمــي األلمانــي وأســتاذ
المركــز الوطنــي الفرنســي للبحــث العلمــي والمتخصــص فــي دراســات الشــيعة -مح ًّقــا
موضوعــا لدراســته التــي بيــن أيدينــا.
ً فــي اختيــاره «جماعــة التقريــب»
((( راينــر برونــر ،األزهــر والشــيعة ،ترجمــة محمــد صفــار ،دار تنويــر للنشــر واإلعــام ،القاهــرة،2017 ،
ص.14
صــدر كتــاب برونــر باأللمانيــة فــي عــام 1996م ،وهــو نســخة مراجعــة مــن رســالته التــي
حصــل بموجبهــا علــى درجــة الدكتــوراه مــن جامعــة فرايبــورغ بألمانيــا قبلهــا بعــام.
أمــا الترجمــة العربيــة فصــدرت فــي عــام 2017م بعنــوان «األزهــر والشــيعة :التقريــب
اإلســامي فــي القــرن العشــرين» عــن دار تنويــر للنشــر واإلعــام ،إذ أبــدع فــي ترجمتهــا
عــن األلمانيــة الدكتــور محمــد صفــار ،أســتاذ النظريــة السياســية بكليــة االقتصــاد
والعلــوم السياســية بجامعــة القاهــرة ،وراجعهــا علــى الترجمــة اإلنكليزيــة المترجــم
والناشــر المصــري األســتاذ عبــد الرحمــن أبــو ذكــري ،وحــرر النــص الدكتــور أحمــد
محمــود إبراهيــم ،أســتاذ التاريــخ اإلســامي بكليــة دار العلــوم بجامعــة القاهــرة .وقــد
خرجــت الترجمــة العربيــة ِّبينــة واضحــة جميلــة فــي 525صفحــة مــن القطــع المتوســط،
مــع تعليقــات توضيحيــة وتعريفيــة ،بــل ونقديــة أحيا ًنــا مــن المترجــم والمراجــع.
يطــوف برونــر مــع قصــة التقريــب بيــن الســنة والشــيعة فــي مقدمـ ٍ
ـة يحكــم فيهــا بــأن
الســجاالت بيــن الســنة والشــيعة منشــؤها قديــم قــدم المذاهــب نفســها ،وقــد طفحــت
ـب المقــاالت والفــرق والــردود علــى مــر قــرون ،فــي حيــن أن محــاوالت التقريب
بهــا كتـ ُ
أو التقــارب بيــن المذهبيــن مــا هــي إال «ظاهــرة حديثــة ...تنتمــي للتاريــخ اإلســامي
القريــب»( ،)2فــي أواخــر القــرن التاســع عشــر.
وينعــي برونــر علــى الدراســات األكاديميــة الغربيــة غفلتهــا عن هــذه الظاهــرة وعــدم اهتمامها
بالتقريــب عامـ ًة ،وبــدور األزهــر فيــه علــى وجــه الخصــوص ،وتجاهــل حضــور علمائــه فــي
محــاوالت التقريــب المتتاليــة طــوال القــرن العشــرين ،حتــى فــي الدراســات التــي ُخصصــت
(1) Rainer Brunner, Annäherung und Distanz: Schia, Azhar und die islamische Ökumene
im 20. Jahrhundert, Klaus Schwarz, Berlin, 1996.
((( األزهر والشيعة ،ص.19
ويشــدد الكتــاب علــى أن الخــاف بيــن الســنة والشــيعة قــام باألســاس علــى خـ ٍ
ـاف مــر
ودائــم حــول التفســير «الصحيــح» لمســار األحــداث المبكــرة فــي التاريــخ اإلســامي،
ويســرد تفاصيــل الخــاف المشــهور حــول الروايــة األصــح لتاريــخ الخالفــة واإلمامــة،
ويحصــر الكاتــب نقــاط الخــاف األساســية بيــن المذهبيــن علــى المســتوى التاريخــي
والعقــدي فــي اإلمامــة والخالفــة ً
أول ،إذ يــرى الشــيعة ضــرورة انتســاب اإلمــام إلى نســل
مفروضــا ،ويشــترطون القرشــية فحســب لدى
ً ـرا
النبــي ﷺ ،والســنة ال يــرون فــي ذلــك أمـ ً
ثانيــا علــى ضــرورة اتصــاف اإلمــام بعلــم الغيــب
كثيــر مــن فقهائهــم .ويشــدد الشــيعة ً
والعصمــة ،وهــو مــا يخالــف فيــه الســنة ،إذ يمنعــون الصفتيــن عــن أيٍ مــن بنــي آدم،
وهنــا أخطــأ المؤلــف واعتبــر أن الســنة يصفــون األنبيــاء بعلــم الغيــب.
أمــا علــى المســتوى الفقهــي الفروعــي ،فيتنابــذ المذهبــان علــى أربعــة أمــور فــي رأي
برونــر .أولهــا الخــاف حــول الشــهادة لعلــي رضــي اللــه عنــه بالواليــة فــي األذان،
ً
اشــتعال هــو النــزاع حــول زواج المتعــة ومشــروعيته ،والثالــث هــو والثانــي واألكثــر
الخــاف حــول جــواز المســح علــى الخفيــن ،والرابــع هــو اتهــام الشــيعة للســنة حتــى
أوائــل العصــر الحديــث بتحريــف القــرآن والتالعــب بــه وتحريفــه.
بذور التقريب
يجــول الكتــاب فــي عشــرة فصــول مــع ســيرة جهــود التقريــب ،مــن بذورهــا -فــي
الفصــل األول -التــي نثرتهــا بعــض محــاوالت التقريــب الســابقة علــى القــرن التاســع
ـرا.
عشــر ،وكانــت جهــود نــادر شــاه األفشــاري التركمانــي أشــهرها وأمضاهــا ذكـ ً
يصــف برونــر هــذه المحاولــة بأنهــا كانــت «أقــل قيم ـ ًة مــن الــورق الــذي ُد ِّونــت عليــه»،
ـرا فــي مــدى تعقد
تعليميــا مبكـ ً
ً «نموذجــا
ً حقيقيــا ،لكنهــا كانــت
ً ولــم تكــن تواف ًقــا أو ً
تقريبــا
العالقــة بيــن السياســة والعقيــدة ،وتحديــدً ا فيمــا يتصــل بالتقــارب اإلســامي الداخلــي»(.)1
وفــي أواخــر القــرن التاســع عشــر وأوائــل القــرن العشــرين ،تابــع العلمــاء الشــيعة نشــاط
محمــد عبــده فــي إصــاح األزهــر وإدخالــه العلــوم الحديثــة متابع ـ ًة حثيثــة ،وأعجبــوا
بــه وبمــا تمكــن هــو ومشــايخ األزهــر مــن تحقيقــه باســتقالل منصــب شــيخ األزهــر ،إذ
خلقــوا طبقــة شــبه مســتقلة ومتمايــزة مــن رجــال الديــن .وهــو مــا دفــع الكثيــر من الشــيعة
اإلصالحييــن إلــى الدعــوة إلصــاح داخلــي فــي تقاليــد التعليــم الشــيعية مســتلهمين
تجربــة األزهــر الســنيَّ .
ودل ذلــك ضم ًنــا -فــي رأي الكاتــب -علــى أن الشــيعة « َقبِلــوا
باألزهرييــن كأنـ ٍ
ـداد يمكــن التفكيــر فــي التقــارب معهــم عقد ًيــا»( ،)2ال سياسـ ًـيا فحســب.
وهــو مــا دفــع الكثيــر مــن علمــاء الشــيعة فــي ذلــك الوقــت ،مــن أمثــال محســن األميــن
ومحمــد الحســين آل كاشــف الغطــاء وعبــد الحســين شــرف الديــن ،لزيــارة القاهــرة
والتقــارب مــع مشــايخ األزهــر وعلمائهــم ،وعلــى رأســهم ســليم البشــري ومحمــد
بخيــت المطيعــي.
ويبــدأ الكاتــب العــرض لجهــود التقريــب الحديثــة فــي الفصــل الثالــث باستكشــاف
قصــة الكتــاب الــذي يصطحبــه هدي ـ ًة ُ
كل حــاج شــيعي يــزور البيــت الحــرام ،وفــق
مــا ا َّدعــى برونــر ،أال وهــو كتــاب «المراجعــات» الــذي أصــدره فــي عــام 1936م عبــد
الحســين شــرف الديــن ،المرجــع الشــيعي لبنانــي األصــل وعراقــي اإلقامــة .احتــوى
كتــاب المراجعــات مراســات زُ ِعــم وقوعهــا بيــن شــرف الديــن وشــيخ األزهر ســليم
البشــري َّإبــان زيــارة األول للقاهــرة فــي عــام 1911م ،ودارت حــول مواطــن الخــاف
األساســية بيــن الســنة والشــيعة مــن نشــأة التشــيع و«شــرعية الخالفــة الســنية».
ـرا حــول أصلــه ومضمونــه .فقــد شــكك الكثيــرون في نســبة وقــد أثــار الكتــاب جـ ً
ـدل كبيـ ً
الرســائل المتضمنــة فــي الكتــاب إلــى الشــيخ ســليم ،ويميــل برونــر إلــى هــذا الــرأي،
خاضعــا لشــرف الديــن طــوال
ً منصاعــا
ً لعــدة أســباب .أولهــا أن المحــا ِور الســني كان
المراســات ،ولــم تكــن إجاباتــه إال استفســارات وكلمــات تفتــح المجــال للشــيعي كــي
يتحــدث ويفحمــه بالحجــة ،وهــذا مــا ال يتناســب مطل ًقــا مــع المعــروف عــن الشــيخ
ِ
المحافظــة والمتشــددة. البشــري مــن خلفيتــه
وثانــي األســباب أن هــذه المراســات لــم تُنشــر فــي وقتهــا ،وال قــرب وقتهــا ،بــل بعــد
أكثــر مــن عشــرين عا ًمــا مــن تاريــخ وقوعهــا المزعــوم ،وبعــد أن ذكــر شــرف الدين نفســه
أن أصــول المراســات قــد ُد ِّمــرت و ُن ِهبــت مــع كتابــات ومسـ َّ
ـودات أخــرى فــي اقتحــام
الجنــود الفرنســيين لمنزلــه فــي صــور فــي عــام 1920م ،ثــم لــم يذكــر عنــد نشــر الكتــاب
رجــح برونــر زيــف المراســات لتزامــن صــدور الكتــاب
مــن أيــن اســتعادها .وكذلــك َّ
مــع وفــاة علمــاء الشــيعة الكبــار فــي ذلــك الوقــت «محمــد حســين النائينــي» و«عبــد
الكريــم الحائــري» ،وربــط ذلــك بســعي شــرف الديــن لتقديــم نفســه خليف ـ ًة لهمــا.
زلزال الخالفة
وفــي المشــهد الرابــع مــن القصــة ،ينتقــل برونــر إلــى إلغــاء الخالفــة العثمانيــة
ـزال ضــرب العالــم اإلســامي ،وأحــدث هــزة عميقــة أثــارت تحــركات بوصفهــا زلـ ً
ومحــاوالت ومبــادرات إلعــادة إحيائهــا وخلــق صيغــة جديدة مــن الوحدة اإلســامية.
ـورا بارزيــن فــي هــذه المبــادرات ومشــاركين علــى الــدوام ألســباب
كان الشــيعة حضـ ً
ودوافــع عــدة ،كان أهمهــا بــروز المدرســة الوهابيــة وانتصارهــا فــي شــبه الجزيــرة،
ـكا عليهــا ،بمــا تحملــه المدرســة مــن عــداء صريــح ومباشــر وإعــان ابــن ســعود ملـ ً
للتشــيع ،فاندفــع الشــيعة إلــى التقــارب مــع الســنة فــي مصــر والشــام.
كانــت أول محاولــة كبــرى لتجــاوز ســقوط الخالفــة العثمانيــة فــي مؤتمــر القاهــرة فــي
ٍ
فائــدة عمليــة ،وانتهــت محادثاتــه علــى عجــل، عــام 1926م ،لكنــه لــم ُيثمــر قــط أي
ناهيــك أنــه لــم تكــن مــن بيــن أهدافــه التقريــب بيــن الســنة والشــيعة أو المذاهــب
كان الممثــل األبــرز للطــرف الســني فــي المؤتمــر محمــد رشــيد رضــا ،وللطــرف الشــيعي
محمــد الحســين آل كاشــف الغطــاء .وقــد َّ
ركــز المؤتمــر علــى قضيــة فلســطين والتوحــد
بيــن المســلمين عامـ ًة ،دون الدخــول فــي أمــور تفصيليــة ،وهــو مــا أضفــى علــى الحــوار
طابــع الهــدوء ،بــل بــادر الحضــور بتقديــم كاشــف الغطــاء إلمامــة الجمعــة ،ووجــد
َ
ـجيعا علــى إطــاق أول دعـ ٍ
ـوة مباشــرة للتقريــب بيــن الســنة والشــيعة وتجــاوز منهــم تشـ ً
االختالفــات العميقــة القائمــة ،وإن لــم ُيســتخدَ م ســاعتها مصطلــح التقريــب.
لــم يظهــر األزهــر علــى مســرح التقريــب منــذ فشــل مبادرته فــي مؤتمــر عــام 1926م،
ولــم يشــترك فــي مؤتمــر القــدس خو ًفــا مــن انتقــال ثقلــه الرمــزي إلــى مشــروع
جامعــة األقصــى المقتــرح .لكنــه ظهــر بعــد ذلــك عبــر التقــارب الــذي قــام بيــن
شــيخه محمــد مصطفــى المراغــي والعالــم الشــيعي إيرانــي األصــل نجفــي اإلقامــة
عبــد الكريــم الزنجانــي ،الــذي خــرج مــن مؤتمــر القــدس معتقــدً ا فــي أن مجــرد
حقيقيــا،
ً الــكالم االحتفالــي المراســمي عــن الوحــدة والتقريــب لــن يثمــر تقار ًبــا
واألولــى هــو التحــرك اإلجرائــي ،وإحــال «الســلوك العملــي محــل مــا اقتصــر فــي
ْ
الســابق علــى األلفــاظ الجوفــاء»( .)1انطلــق الزنجانــي فــي رحلــة جــاب فيهــا العديــد
مــن البلــدان العربيــة الســنية ،واتصــل فيهــا بجمعيـ ٍ
ـات إســامية مثــل جمعيــة الشــبان
المســلمين وجمعيــة الهدايــة اإلســامية ،وألقــى محاضـ ٍ
ـرات فــي الجامعــة المصريــة
بالقاهــرة والجامعــة الســورية بدمشــق.
كان أبــرز مــا فــي محاولــة الزنجانــي هــو اللقــاء الــذي جمعــه بالشــيخ محمــد
مصطفــى المراغــي شــيخ األزهــر ،وحفــل االســتقبال المهيــب الــذي أقامــه المراغــي
وشــارك فيــه كبــار أهــل العلــم والحكــم فــي مصــر .اتفــق العالِمــان علــى أن العقبــة
الكــؤود فــي طريــق حــوار التقريــب هــو توصيــف محــور الخــاف .إذ إن وضع مســألة
اإلمامــة والخالفــة موضــع المركــز والتحــاور حولهــا هــو الســبب فــي كل الســجاالت
والمشــاحنات التــي قامــت علــى مــر تاريــخ العالقــة بيــن المذهبيــن .وبـ ً
ـدل مــن ذلك،
اســتعمل المراغــي والزنجانــي «حيلــة» كانــت ذات أهميــة مزدوجــة ،إذ أزاحــت أكثــر
قضيــة خالفيــة بيــن الطرفيــن ،وســمحت فــي الوقــت عينــه بتركيــز جهــود التقريــب
علــى فــروع الديــن ال أصولــه.
لكــن برونــر يــروي هنــا كيــف أن هــذا المشــهد المتفائــل قــد انتهــى بانكشــاف مــا
أســماه «المقصــد الحقيقــي واألساســي» لنشــاط المراغــي التقريبــي ،أال وهــو «إقامــة ،أو
باألحــرى إعــادة؛ الخالفــة تحــت خليفــة مصــري»( ،)1فالتقريــب المقصــود ليــس محــض
التقريــب ،بــل هــو الــذي يدفــع الشــيعة لقبــول االنضــواء تحــت لــواء الخليفــة الجديــد؛
فلمــا أدرك الزنجانــي وغيــره هــذا ،أبــدوا تحفظاتهــم، الملــك فــاروق تلميــذ الشــيخَّ .
وعرقلــوا أي محاولــة للتقريــب قــد تســهم فــي هــذا ،ووضعــوا شـ ً
ـروطا لحــوار التقريــب
ـيرا ،وهنــا «تفرقت الســبل
ـرا عسـ ًجعلــت توظيفــه لخدمــة مخططــات اســتعادة الخالفــة أمـ ً
مــر ًة أخــرى بيــن العالِميــن» بعــد مــا تفرقــت بيــن ســلفيهما رضــا وكاشــف الغطــاء ،لكــن
كان ذلــك بعــد أن وضــع المراغــي ألول مــرة ثقــل منصــب شــيخ األزهــر وراء مهمــة
تدشــين الحــوار بيــن المذهبيــن.
وبــرز ممــا ســبق نقطتــان أساســيتان ســتترافقان فــي قصــة التقريــب مــن أولهــا آلخرهــا،
ـببا فــي فشــل كل جهــود التقريــب ،أوالهمــا أن التقريــب قــد انتقــل اآلن مــن
وتكونــان سـ ً
ميــدان األصــول ومســائل اإلمامــة والخالفــة إلــى ميــدان الفــروع ،وثانيهمــا هــو االرتبــاط
ـري بيــن حــوارات التقريــب واالعتبــارات السياســية المباشــرة إلــى الحــد الــذي جعل السـ ِّ
ُ
حــوار التقريــب أدا ًة سياســي ًة فــي يــد الحكومــات تتالعــب بهــا كيــف تشــاء.
أشــار برونــر فــي ختــام نقاشــه لمحاولــة المراغــي والزنجانــي التقريبيــة إلــى أن
المحاولــة لــم تتبلــور فــي أي شــكلٍ مؤسســي وأنهــا فشــلت فــي التحــول إلــى ميــدان
اإلجــراءات العمليــة بعــد انكشــاف أغــراض المراغــي لزمالئــه ،وعلــى ذلــك ينتقــل
فــي الفصــل الخامــس إلــى مناقشــة التجليــات المؤسســية لفكــرة التقريــب فــي
منتصــف القــرن العشــرين ،ولذلــك ســماه بـــ «تحــول فكــر التقريــب إلــى مؤسســة».
وتصلبــا لحــركات
ً تنظيمــا
ً أول بذكــر مــا جــرى مــن ظهــور أشـ ٍ
ـكال أكثــر مهــد الكاتــب ً
َّ
ـماها بـــ «الحــركات النيو-ســلفية» ،ثــم رســوخها وانتظامهــا علــى
اإلصــاح اإلســامي سـ َّ
ـة صغيــرة ،كان مــن أبرزهــا جماعــة الشــبان المســلمين والهدايــة هيئــة جمعيــات هرميـ ٍ
اإلســامية واإلخــوان المســلمين وغيرهــم.
وقــد دفــع هــذا التحــول المهتميــن بفكــر التقريــب إلــى االنتظــام فــي جمعيــات مماثلــة،
كانــت أوالهــا «جماعــة األخــوة اإلســامية» التــي أسســها عبــد الوهــاب عــزام فــي عــام
1938م رفقــة الفيلســوف المصــري طنطــاوي جوهــري وأحمــد بــك خليــل .ركــزت الجماعة
-ربمــا بأث ـ ٍر ســابق مــن محاولــة المراغــي والزنجانــي -علــى تحقيــق الوحــدة اإلســامية
والتقريــب عبــر تجــاوز «المشــكالت العقديــة التــي ت ِ
ُوجــد اختالفــات فــي الــرأي حولهــا،
وتجنــب النقــاش فيهــا»( ،)1واالقتصــار علــى تأكيد القواســم المشــتركة فــي مواجهــة الغرب.
فرعــا حــول العالــم خــال عاميــن همــا
وظلــت علــى ذلــك لتنتشــر فــي أكثــر مــن أربعيــن ً
دورة حيــاة الجماعــة كلهــا ،لتصــاب بالشــلل بعــد وفــاة جوهــري فــي عــام 1940م.
ُ
الشــرطة القبــض فــي بيــت اللــه الحــرام فــي يــوم ألقــت
12ذي الحجــة 1362هـــ علــى المدعــو طالــب بــن حســين
اإليرانــي مــن المنتســبين إلــى الشــيعة في إيــران ،وهــو متلبس
(العـ ِ
ـذرة) بأقــذر الجرائــم وأقبحهــا ،وهــي حمــل القــاذورات َ
وهــو يلقيهــا فــي المطــاف حــول الكعبــة المشــرفة ،بقصــد
إيــذاء الطائفيــن وإهانــة هــذا المــكان المقــدس ،وبعــد إجــراء
التحقيــق بشــأنه وثبــوت هــذا الجــرم القبيــح منــه ،فقــد صــدر
الحكــم الشــرعي بقتلــه وقــد ُن ِّفــذ حكــم القتــل فيــه فــي يــوم
الســبت [ 14ذي] الحجــة 1362هـــ(.)2
أشــعلت هــذه الحادثــة الشــهيرة التــي روتهــا جريــدة أم القــرى أزم ـ ًة دبلوماســية شــديدة
بيــن المملكــة العربيــة الســعودية وحكومــة إيــران ،التــي انقطعــت بســبب ذلــك عــن
الحــج لسـ ٍ
ـنوات متتاليــة .وقــد أثــار هــذا الخــاف العديــد مــن نشــطاء التقريــب ،وعلــى
مدفوعــا
ً رأســهم العالِــم الشــيعي الشــاب «محمــد تقــي القُ ِّمــي» الــذي جــاء إلــى مصــر
بغضبــه مــن هــذه الواقعــة فــي عــام 1946م ،وفــي نيتــه «تأســيس هيئـ ٍ
ـة تضطلــع بالتغلــب
علــى النــزاع المذهبــي داخــل اإلســام»(.)3
أمــا تمويــل الجماعــة فــكان قضيـ ًة حساسـ ًة للغايــة ،لــم ُيذكــر عنهــا أي معلومـ ٍ
ـة أو إشــارة
فــي أوراق الجماعــة أو مجلتهــا ،لكــن برونــر يشــير إلــى وجــود عــدة قرائــن وردت فــي
مصــادر ثانويــة تشــير إلــى وجــود صــات بيــن الحكومتيــن المصريــة واإليرانيــة وبيــن
ـكرتيرا عا ًمــا لمنظمــة المؤتمــر
ً الجماعــة ،وباألخــص عبــر أنــور الســادات الــذي كان سـ
اإلســامي ،منهــا محــاوالت إقنــاع هــذا األخيــر علمــا َء إيرانييــن باالنضمــام إلــى حركــة
التقريــب ،وصــدور كتــب دار التقريــب بالتعــاون مــع وزارة األوقــاف المصريــة.
وقــد الحــظ برونــر أن المقــاالت التــي تناولــت التقريــب بيــن الســنة والشــيعة تنـ ً
ـاول
ـرا لــم تتجــاوز عشــرين فــي المئــة مــن قــوام المجلــة كلهــا ،وهــو مــا يشــير إلــى
مباشـ ً
القيــود الذاتيــة التــي فرضتهــا جماعــة التقريــب علــى نفســها لتمنــع ولــوج المياديــن
الخالفيــة .وكذلــك الحـ َ
ـظ أن المجلــة اختــارت النــأي بنفســها عــن تنــاول المســائل
السياســية الخالفيــة ،ومــن ثــم ابتعــدت عــن الهمــوم اليوميــة المباشــرة للمســلمين،
فقــد «أبــدت رســالة اإلســام صم ًتــا عنيــدً ا تجــاه كافــة االنتفاضــات التــي شــهدتها
البلــدان اإلســامية فــي ذلــك الوقــت ،رغــم عظــم أهميــة بعضهــا» .وهنــا ال بــد
مــن بــروز المقارنــة ثانيـ ًة مــع العــروة الوثقــى ،التــي لــم تتــرك فــي أعدادهــا الثمانيــة
عشــر أي حــدث يهــم المســلمين بعامــة إال وناقشــته وأبــرزت مــا فيــه مــن جوانــب
تســتدعي الوحــدة والتــآزر .وهــو مــا يبيــن الفــارق بيــن جماعــة العــروة الوثقــى التــي
ٍ
ـورات فــي اختياراتهــا اســتقلت عــن أي ظهي ـ ٍر سياســي يفــرض عليهــا قيـ ً
ـودا ومحظـ
وتوجهاتهــا ،اللهــم إال توخيهــا إثــارة البلبلــة فــي فرنســا مضيفــة هيئــة تحريــر المجلــة،
وبيــن جماعــة التقريــب التــي قامــت باألســاس علــى ارتبــاط سياســي بنظامــي القاهرة
وطهــران .ولــم يكــن إخفــاق رســالة اإلســام «آخــر األمــر نتيجــة جهــود أعدائهــا،
وإنمــا بســبب توظيــف السياســة لهــا؛ عيــن السياســة التــي ظلــت جماعــة التقريــب
تدعــي بإصــرار تحفظهــا تجاههــا»(.)1
َّ
كان نشــطاء جماعــة التقريــب والمنتســبون إليهــا متنوعــي المشــارب والمصــادر .فعلــى
الجانــب الســني ،كان بينهــم علمــاء تقليديــون وأســاتذة جامعــات ونشــطاء حركييــن
فــي جمعيــات النيو-ســلفية .فبــرز مــن األزهــر ،مــن جناحيــه اإلصالحــي والتقليــدي،
ـاب بــارزون علــى صفحــات رســالة اإلســام ،مــن أمثــال محمــد المدنــي رئيــس
كتـ ٌ
تحريــر المجلــة ،وزميليــه عبــد العزيــز محمــد عيســى ومحمــد يوســف موســى،
وبالطبــع المشــايخ عبــد المجيــد ســليم ومحمــود شــلتوت وحســنين مخلــوف ومحمــد
أبــي زهــرة وأحمــد أميــن ،وإن كانــت مشــاركة هذيــن األخيريــن قــد أثــارت جـ ً
ـدل حــول
توجهاتهــم الفعليــة .وقــد عــزا المراجــع الخــاف حــول توجــه أبــي زهــرة إلــى تركيبيــة
طرحــه و«اســتقالله الفكــري وجديتــه الواضحــة فــي دراســة التشــيع ومصــادره ،ومــن ثــم
اختــاف منتجــه العلمي/المعرفــي عــن الضجيــج الســائد»(.)1
مذبح السياسة
قــد أشــرنا آن ًفــا إلــى االرتبــاط الجوهــري الــذي تو َّلــد بيــن االعتبــارات السياســية وبين
ـا عــن عالقــة جماعــة التقريــب ـا كامـ ً أنشــطة التقريــب ،وقــد خصــص برونــر فصـ ً
بالنظــام المصــري بعــد عــام 1952م ،أشــار فيــه إلــى أن التغيــرات التــي جــرت فــي
مصــر أ َّثــرت بقــوة علــى أنشــطة التقريــب ،وأن اســتبعاد عبــد المجيــد ســليم مــن
مشــيخة األزهــر أواخــر العــام نفســه قــد أدى الضطــراب شــديد فــي أنشــطتها ،إذ
فتــح النــار عليهــا مــن خصومهــا ومنعهــا الــرد عليهــم .وقــد كان تعييــن محــب
رئيســا لتحريــر مجلــة األزهــر ،مؤكــدً ا
الديــن الخطيــب ،أشــرس مناهضــي التقريــبً ،
النطبــاع أن «محاولــة ســليم وضــع جماعــة التقريــب تحــت حمايــة األزهــر خــال
فتــرة مشــيخته ،لــم تكــن ســوى مظه ـ ٍر خــادع»(.)2
لكــن األمــر لــم يســتغرق عــدة ســنوات قبــل أن تــدرك الحكومــة المصريــة الجديــدة
قيمــة التقــارب اإلســامي لسياســتها الخارجيــة ،وذابــت الثلــوج بيــن الجماعــة والقــوى
الحاكمــة بعــد أن التقــى القمــي بعبــد الناصــر وأقنعــه بوقــف المراقبــة المفروضــة علــى
أنشــطة الجماعــة .وبعدهــا بقليــل ،أدرك النظــام المصــري ضــرورة توظيــف األزهــر هــو
اآلخــر الســتغالل ســمعته العلميــة وعظــم قــدره لــدى المســلمين فــي تحقيــق غاياتــه
السياســية الخاصــة ،وكان أداتــه الرئيســة فــي ذلــك هــو شــيخ األزهــر الجديــد «محمــود
المعيــن فــي عــام 1958م.
َّ شــلتوت»
لكــن برونــر يشــير بعرضــه لعالقــة شــلتوت بأنشــطة جماعــة التقريــب وســلوكه
حقيقيــا
ًّ دعائيــا أكثــر منــه
ًّ حيــال الفتــوى الســابقة إلــى أن تقاربــه ونشــاطه كان
حريصــا علــى التقريــب ،ويدلــل علــى ذلــك بأنــه عنــد االنتقــال إلــى ميــدان
ً
اإلجــراءات العمليــة مــن قبيــل إنشــاء كرســي لتدريــس الفقــه الشــيعي فــي األزهر،
توقفــت الجهــود وتعطــل الركــب فجــأة دون ســابق إنــذار ،وتعلــل رؤوس األزهــر
بــأن تصريحــات شــيخه ُأ ِّولــت خطـ ً
ـأ.
وشــدد الكاتــب علــى أن فتــوى شــلتوت يجــب أال تُفصــم عــن ســياقها السياســي الــذي
حركهــا ،فقــد صــدرت الفتــوى فــي وقــت أزمــة مصــر الناصريــة مــع العــراق القاســمية،
إذ قبِــل «شــلتوت طواعي ـ ًة أن يكــون األزهــر هــو البــوق الــذي يضفــي الشــرعية علــى
السياســة الخارجيــة المصريــة»( ،)2واســتعمل ســلطته الدينيــة نكايـ ًة فــي شــيوعية قاســم،
وتقر ًبــا مــن شــاه إيــران مــن بــاب «عــدو عــدوي صديقــي»(.)3
ختــم برونــر روايتــه لقصــة التقريــب بيــن الســنة والشــيعة فــي القــرن العشــرين بحكمــه أن
التقريــب كان «سلســلة مــن اإلحباطــات المتبادلــة» وأن جماعــة التقريــب وفكرهــا فشــا
بســبب «التناقضــات الداخليــة» فيهمــا .ونشــدد مــع برونــر علــى أن الســببين األساســيين
لفشــل حــركات التقريــب همــا ،كمــا ذكرنــاً ،
أول إقصــاء المســائل الخالفيــة األساســية
والســؤال الــذي يثــور بــا ريــب :هــل التقريــب ممكــن؟ هــل يمكــن لفكــرة التقريــب
أن تتجــاوز االعتبــارات السياســية؟ هــل يمكــن لنشــطاء التقريــب التغلــب علــى ميــراث
الشــحن والتجييــش اإلعالمــي لــدى الجانبيــن؟ وهــل يمكــن ألفــكار الحــوار والتقــارب
واالعتصــام أن تصمــد أمــام ســلوك الــدول النفعــي المصلحــي المتغافــل عــن أي قيــم
دينيــة أو أخالقيــة أو إنســانية؟ وهــل فعـ ً
ـا العــاج الناجــع للفرقــة بيــن المســلمين كمــا
قــال أســتاذنا العــوا فــي تصديــره هــو «بيــد العلمــاء والفقهــاء والدعــاة ســن ًة وشــيعة،
ال بيــد السياســيين ...بمحاولــة جــادة لفهــم مواطــن الخــاف العقــدي أو الفقهــي أو
التاريخــي ،وتحديــد أســبابه ...والتمــاس العــذر للمخالــف بـ ً
ـدل مــن تخطئتــه أو تفســيقه
أو تبديعــه أو تكفيــره»؟
مهمــا مــن فصــول ال يجيبنــا كتــاب برونــر علــى هــذه األســئلة ،لكنــه يــروي لنــا فصـ ً
ـا ًّ
محنتنــا ،مــن بــاب فرقتنــا؛ مبحــث حــب الدنيــا والتكالــب عليهــا(!)1
((( روى أبــو داود فــي ســننه عــن ثوبــان مولــى رســول اللــه ﷺ أنــه قــال :قــال رســول الله ﷺ« :يوشــك
أن تداعــى عليكــم األمــم مــن كل أفــق ،كمــا تداعــى األكلــة علــى قصعتهــا» .قــال :قلنــا :يــا رســول
اللــه ،أمــن قلــة بنــا يومئــذ؟ قــال« :أنتــم يومئــذ كثيــر ،ولكــن تكونــون غثــاء كغثــاء الســيل ،تُن َتــزع
المهابــة مــن قلــوب عدوكــم ،ويجعــل فــي قلوبكــم الوهــن» .قــال :قلنــا :ومــا الوهــن؟ قــال« :حــب
الدنيــا وكراهيــة المــوت».