قراءةفيكتابالأزهر

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 23

‫ٌ‬

‫غاية رشيفة؟‬ ‫وهم أم‬


‫ٌ‬ ‫التقريب‬
‫قراءة يف كتاب «األزهر والشيعة‪:‬‬
‫التقريب اإلسالمي يف القرن العرشين»‬
‫قراءات‬
‫محمد صالح عيل‬
‫فكريــــة‬

‫جميع الحقوق محفوظة ‪2023‬‬ ‫‪ 6‬يونيه ‪2023‬‬


‫ٌ‬
‫غاية شريفة؟‬ ‫وهم أم‬
‫التقريب ٌ‬
‫قراءة في كتاب «األزهر والشيعة‪ :‬التقريب اإلسالمي‬
‫في القرن العشرين»‬
‫محمد صالح علي‬
‫(‪)1‬‬

‫((( باحث ومترجم مصري (‪.)muhammed.salah25@gmail.com‬‬

‫‪3‬‬
‫الفهرس‬

‫بذور التقريب ���������������������������������������������������������������������‪7‬‬


‫كتاب مثير للجدل����������������������������������������������������������������‪10‬‬
‫زلزال الخالفة ��������������������������������������������������������������������‪11‬‬
‫انخراط األزهر في جهود التقريب ������������������������������������������������‪13‬‬
‫درة تاج التقريب������������������������������������������������������������������‪15‬‬
‫شبكة التقريب �������������������������������������������������������������������‪19‬‬
‫مذبح السياسة��������������������������������������������������������������������‪20‬‬
‫لكن؛ هل من مستقبلٍ للتقريب؟ �������������������������������������������������‪22‬‬

‫‪4‬‬
‫عاقــل مــا فــي فكــرة التقريــب بيــن المذاهــب والطوائــف الدينيــة مــن‬‫ٌ‬ ‫ال ينكــر‬
‫صعوبــة وشــدة‪ ،‬بــل ر َّقاهــا البعــض لتكــون مــن المحــاالت(‪ ،)1‬وذلــك لعمــق مواطــن‬
‫الخــاف ومساســها بأصــول كل مذهــب‪ ،‬وارتبــاط وجودهــا بوجــوده وبقــاءه ومكانتــه‬
‫فــي قلــوب أتباعــه وعقولهــم‪ .‬ويتجلــى ذلــك أيمــا جــا ٍء فــي فكــرة التقريــب بيــن‬
‫الســنة والشــيعة‪ ،‬أكبــر طوائــف اإلســام‪ .‬فالمذهبــان علــى مــر تاريخهمــا كانــا علــى‬
‫طرفــي نقيــض‪ ،‬والخــاف بينهمــا عميــق الغــور يضــرب بجــذوره فــي العقــود األولــى‬
‫مــن التاريــخ اإلســامي‪ ،‬فــي شــئون سياســي ٍة تاريخيــة ذات أبعــاد وخلفيــات عقديــة‪،‬‬
‫وشــئون أخــرى فقهيــة فروعيــة‪.‬‬

‫لكــن هــذه الحقائــق لــم تمنــع الكثيريــن مــن العلمــاء والمفكريــن والدعــاة وقــادة‬
‫أمــرا ممك ًنــا‪ ،‬ورفــع االعتصــام‬
‫الــرأي والحــكام مــن اعتبــار التقــارب بيــن المذهبيــن ً‬
‫ـعارا‪ ،‬وجعــل رأب الصــدع والتقريــب غاي ـ ًة ومشـ ً‬
‫ـروعا يرفعــون لــواءه‬ ‫بيــن المســلمين شـ ً‬
‫ويبذلــون أعمارهــم وأموالهــم فــي ســبيله‪ .‬وقــد شــهد القــرن العشــرين ذروة هــذه الجهود‪،‬‬
‫فــي موجــات تمددهــا وانحســارها المتتاليــة‪ .‬وربمــا كانــت ذروة ســنام هــذه الجهــود‬
‫ـد «جماعــة التقريــب بيــن المذاهــب اإلســامية» التــي ُينظــر إليهــا بوصفهــا المؤسســة‬
‫مولـ ُ‬
‫تأثيــرا واألوســع نطا ًقــا علــى مــر تاريــخ محــاوالت التقريــب بيــن الســنة‬
‫ً‬ ‫األعظــم‬
‫والشــيعة‪ .‬وعلــى ذلــك‪ ،‬كان راينــر برونــر ‪-‬المستشــرق واألكاديمــي األلمانــي وأســتاذ‬
‫المركــز الوطنــي الفرنســي للبحــث العلمــي والمتخصــص فــي دراســات الشــيعة‪ -‬مح ًّقــا‬
‫موضوعــا لدراســته التــي بيــن أيدينــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫فــي اختيــاره «جماعــة التقريــب»‬

‫ـرا لمــا لــه‬


‫ولمــا كان األزهــر الشــريف فــي قلــب غالــب جهــود التقريــب الحديثــة‪ ،‬نظـ ً‬ ‫َّ‬
‫مــن قــد ٍر عظيــم لــدى المســلمين الســنة واعتبــاره المعهــد العلمــي الســني األبــرز‪ ،‬لــم‬
‫ـم عجــب فــي وضــع برونــر لألزهــر فــي قلــب دراســته التــي عنونهــا بـــ «تقــارب‬
‫يكــن ثـ َّ‬

‫((( راينــر برونــر‪ ،‬األزهــر والشــيعة‪ ،‬ترجمــة محمــد صفــار‪ ،‬دار تنويــر للنشــر واإلعــام‪ ،‬القاهــرة‪،2017 ،‬‬
‫ص‪.14‬‬

‫‪5‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫وتباعــد‪ :‬الشــيعة واألزهــر والتقريــب اإلســامي فــي القــرن العشــرين»(‪ ،)1‬ليــدرس دور‬
‫األزهــر فــي جهــود التقريــب وحضــور علمائــه وتوجهاتهــم‪ .‬ولذلــك‪ ،‬امتدحهــا األســتاذ‬
‫وعدهــا دراسـ ًة ماتعــة تحــوي تفصيـ ً‬
‫ـا موث ًقــا لتوجــه األزهر‬ ‫الدكتــور محمــد ســليم العــوا َّ‬
‫وعلمائــه تجــاه التقريــب بيــن الســنة والشــيعة‪.‬‬

‫صــدر كتــاب برونــر باأللمانيــة فــي عــام ‪1996‬م‪ ،‬وهــو نســخة مراجعــة مــن رســالته التــي‬
‫حصــل بموجبهــا علــى درجــة الدكتــوراه مــن جامعــة فرايبــورغ بألمانيــا قبلهــا بعــام‪.‬‬
‫أمــا الترجمــة العربيــة فصــدرت فــي عــام ‪2017‬م بعنــوان «األزهــر والشــيعة‪ :‬التقريــب‬
‫اإلســامي فــي القــرن العشــرين» عــن دار تنويــر للنشــر واإلعــام‪ ،‬إذ أبــدع فــي ترجمتهــا‬
‫عــن األلمانيــة الدكتــور محمــد صفــار‪ ،‬أســتاذ النظريــة السياســية بكليــة االقتصــاد‬
‫والعلــوم السياســية بجامعــة القاهــرة‪ ،‬وراجعهــا علــى الترجمــة اإلنكليزيــة المترجــم‬
‫والناشــر المصــري األســتاذ عبــد الرحمــن أبــو ذكــري‪ ،‬وحــرر النــص الدكتــور أحمــد‬
‫محمــود إبراهيــم‪ ،‬أســتاذ التاريــخ اإلســامي بكليــة دار العلــوم بجامعــة القاهــرة‪ .‬وقــد‬
‫خرجــت الترجمــة العربيــة ِّبينــة واضحــة جميلــة فــي ‪ 525‬صفحــة مــن القطــع المتوســط‪،‬‬
‫مــع تعليقــات توضيحيــة وتعريفيــة‪ ،‬بــل ونقديــة أحيا ًنــا مــن المترجــم والمراجــع‪.‬‬
‫يطــوف برونــر مــع قصــة التقريــب بيــن الســنة والشــيعة فــي مقدمـ ٍ‬
‫ـة يحكــم فيهــا بــأن‬
‫الســجاالت بيــن الســنة والشــيعة منشــؤها قديــم قــدم المذاهــب نفســها‪ ،‬وقــد طفحــت‬
‫ـب المقــاالت والفــرق والــردود علــى مــر قــرون‪ ،‬فــي حيــن أن محــاوالت التقريب‬
‫بهــا كتـ ُ‬
‫أو التقــارب بيــن المذهبيــن مــا هــي إال «ظاهــرة حديثــة ‪ ...‬تنتمــي للتاريــخ اإلســامي‬
‫القريــب»(‪ ،)2‬فــي أواخــر القــرن التاســع عشــر‪.‬‬

‫وينعــي برونــر علــى الدراســات األكاديميــة الغربيــة غفلتهــا عن هــذه الظاهــرة وعــدم اهتمامها‬
‫بالتقريــب عامـ ًة‪ ،‬وبــدور األزهــر فيــه علــى وجــه الخصــوص‪ ،‬وتجاهــل حضــور علمائــه فــي‬
‫محــاوالت التقريــب المتتاليــة طــوال القــرن العشــرين‪ ،‬حتــى فــي الدراســات التــي ُخصصــت‬

‫‪(1) Rainer Brunner, Annäherung und Distanz: Schia, Azhar und die islamische Ökumene‬‬
‫‪im 20. Jahrhundert, Klaus Schwarz, Berlin, 1996.‬‬
‫((( األزهر والشيعة‪ ،‬ص‪.19‬‬

‫‪6‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫لتاريــخ األزهــر وعلمائــه مــن قبيــل أعمــال بايــار دودج وكريــس إيــكل ومليكــة الزغــل‪ ،‬فــي‬
‫اجتياحــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وقـ ٍ‬
‫ـت كانــت أنشــطة التقريــب تجتــاح فيــه أروقــة الجامــع والجامعــة‬

‫ويشــدد الكتــاب علــى أن الخــاف بيــن الســنة والشــيعة قــام باألســاس علــى خـ ٍ‬
‫ـاف مــر‬
‫ودائــم حــول التفســير «الصحيــح» لمســار األحــداث المبكــرة فــي التاريــخ اإلســامي‪،‬‬
‫ويســرد تفاصيــل الخــاف المشــهور حــول الروايــة األصــح لتاريــخ الخالفــة واإلمامــة‪،‬‬
‫ويحصــر الكاتــب نقــاط الخــاف األساســية بيــن المذهبيــن علــى المســتوى التاريخــي‬
‫والعقــدي فــي اإلمامــة والخالفــة ً‬
‫أول‪ ،‬إذ يــرى الشــيعة ضــرورة انتســاب اإلمــام إلى نســل‬
‫مفروضــا‪ ،‬ويشــترطون القرشــية فحســب لدى‬
‫ً‬ ‫ـرا‬
‫النبــي ﷺ‪ ،‬والســنة ال يــرون فــي ذلــك أمـ ً‬
‫ثانيــا علــى ضــرورة اتصــاف اإلمــام بعلــم الغيــب‬
‫كثيــر مــن فقهائهــم‪ .‬ويشــدد الشــيعة ً‬
‫والعصمــة‪ ،‬وهــو مــا يخالــف فيــه الســنة‪ ،‬إذ يمنعــون الصفتيــن عــن أيٍ مــن بنــي آدم‪،‬‬
‫وهنــا أخطــأ المؤلــف واعتبــر أن الســنة يصفــون األنبيــاء بعلــم الغيــب‪.‬‬

‫أمــا علــى المســتوى الفقهــي الفروعــي‪ ،‬فيتنابــذ المذهبــان علــى أربعــة أمــور فــي رأي‬
‫برونــر‪ .‬أولهــا الخــاف حــول الشــهادة لعلــي رضــي اللــه عنــه بالواليــة فــي األذان‪،‬‬
‫ً‬
‫اشــتعال هــو النــزاع حــول زواج المتعــة ومشــروعيته‪ ،‬والثالــث هــو‬ ‫والثانــي واألكثــر‬
‫الخــاف حــول جــواز المســح علــى الخفيــن‪ ،‬والرابــع هــو اتهــام الشــيعة للســنة حتــى‬
‫أوائــل العصــر الحديــث بتحريــف القــرآن والتالعــب بــه وتحريفــه‪.‬‬

‫بذور التقريب‬

‫يجــول الكتــاب فــي عشــرة فصــول مــع ســيرة جهــود التقريــب‪ ،‬مــن بذورهــا ‪-‬فــي‬
‫الفصــل األول‪ -‬التــي نثرتهــا بعــض محــاوالت التقريــب الســابقة علــى القــرن التاســع‬
‫ـرا‪.‬‬
‫عشــر‪ ،‬وكانــت جهــود نــادر شــاه األفشــاري التركمانــي أشــهرها وأمضاهــا ذكـ ً‬

‫‪7‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫فيبــدأ مــن التحــول الــذي أحدثــه اعتــاء الصفوييــن للســلطة فــي إيــران أوائــل القــرن‬
‫الســادس عشــر‪ ،‬وتبنيهــم لمواقــف شــيعية متطرفــة زادت خــرق الفتــق القائــم بيــن الســنة‬
‫األول‪ .‬لكــن أول محاولــة‬
‫والشــيعة مــن قبيــل فــرض الســب العلنــي للخلفــاء الثالثــة َ‬
‫لرتــق هــذا الخــاف كانــت علــى يــد نــادر شــاه األفشــاري التركمانــي الــذي حكــم‬
‫إيــران فــي أواخــر عهــد الدولــة الصفويــة ثــم قضــى عليهــا ليؤســس الدولــة األفشــارية‪.‬‬
‫خامســا للمذاهــب الفقهيــة الســنية األربعــة‪،‬‬
‫ً‬ ‫مذهبــا‬
‫ً‬ ‫ســعى نــادر شــاه إلــى جعــل التشــيع‬
‫عالمــا مــن العلمــاء اإليرانييــن‬
‫وراســل الدولــة العثمانيــة فــي ســعيه ذاك‪ ،‬وســاق ســبعين ً‬
‫ـي رضــي اللــه عنــه‬ ‫الشــيعة قســرا فــي حملـ ٍ‬
‫ـة لــه علــى العــراق حتــى مرقــد اإلمــام علـ ٍ‬ ‫ً‬
‫فــي النجــف‪ ،‬وأمرهــم بمناقشــة مســائل ســب الخلفــاء وشــرعية خالفتهــم‪ ،‬لينتهــوا إلــى‬
‫اتفـ ٍ‬
‫ـاق مكتــوب ألزمهــم فيــه باإلقــاع عــن هــذه الممارســات‪.‬‬

‫يصــف برونــر هــذه المحاولــة بأنهــا كانــت «أقــل قيم ـ ًة مــن الــورق الــذي ُد ِّونــت عليــه»‪،‬‬
‫ـرا فــي مــدى تعقد‬
‫تعليميــا مبكـ ً‬
‫ً‬ ‫«نموذجــا‬
‫ً‬ ‫حقيقيــا‪ ،‬لكنهــا كانــت‬
‫ً‬ ‫ولــم تكــن تواف ًقــا أو ً‬
‫تقريبــا‬
‫العالقــة بيــن السياســة والعقيــدة‪ ،‬وتحديــدً ا فيمــا يتصــل بالتقــارب اإلســامي الداخلــي»(‪.)1‬‬

‫ـت مطبــق واختفــت أفــكار التقريــب‪ ،‬بــل تكــرر‬ ‫وألكثــر مــن قـ ٍ‬


‫ـرن ونصــف‪ ،‬ســاد صمـ ٌ‬
‫الصــدام بيــن الســنة والشــيعة فــي أماكــن عــدة‪ .‬ولــم تُســتأنف المحــاوالت إال مــع‬
‫الثلــث األخيــر مــن القــرن التاســع عشــر حينمــا بــرزت دعــوات الجامعــة اإلســامية‬
‫التــي انطلقــت باألســاس مــن األراضــي الســنية‪ ،‬وكان كبــار رموزهــا مــن الســنة‪ ،‬حتــى‬
‫تأثيــرا‪« ،‬أخفــى أصولــه اإليرانيــة الشــيعية‬
‫ً‬ ‫أن جمــال الديــن األفغانــي‪ ،‬أكثــر دعاتهــا‬
‫وادعــى أنــه أفغانــي ســني»(‪ ،)2‬وبالطبــع هــذا زعــم مــن المؤلــف غيــر ُم َثبــت وثــار حوله‬
‫َّ‬
‫الكثيــر مــن الجــدل‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.49‬‬


‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.50‬‬
‫اعتمــد برونــر فــي زعمــه ذلــك علــى كتــاب نيكــي كيــدي‪ :‬جمــال الديــن األفغانــي‪ ،‬ترجمــة معيــن‬
‫اإلمــام ومجــاب اإلمــام‪ ،‬منتــدى العالقــات العربيــة والدوليــة‪2021 ،‬م‪.‬‬

‫‪8‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫رفعــت دعــوات الجامعــة اإلســامية شــعارات التضافــر واالتفــاق والدعــوة إلــى التقــارب‬
‫بيــن المســلمين والتوحــد فــي مواجهــة االســتعمار‪ .‬وكانــت أبــرز مقــاالت العــروة الوثقــى‬
‫فــي هــذا الصــدد هــي التــي دعــا فيهــا األفغانــي الفــرس الشــيعة‪ ،‬بعــد امتداحهــم طويـ ً‬
‫ـا‪،‬‬
‫إلــى التوحــد مــع األفغــان الســنة ضــد اإلنكليــز‪ .‬لكــن لــم تلــقَ دعــوات الجامعــة‬
‫ً‬
‫ملحوظــا لــدى العلمــاء الشــيعة بســبب انضوائهــا تحــت رايــة الدولــة‬ ‫ـدى‬
‫اإلســامية صـ ً‬
‫العثمانيــة فــي ذلــك الوقــت‪ .‬وكان لمحمــد عبــده وميــرزا باقــر بواناتــي‪ ،‬محــررا العــروة‬
‫ـر كبيــر علــى أفــكار التقريــب‪ ،‬بإنشــائهما أول جمعيــة كان التقريــب جــز ًءا مــن‬
‫الوثقــى‪ ،‬أثـ ٌ‬
‫أنشــطتها األساســية بــدل اســتخدام تعبيــر الوحــدة أو التوحــد‪ ،‬وإن لــم يكــن التقريــب‬
‫معــا فــي بيــروت جمعيـ ًة ســرية اســتهدفت التقريــب بيــن‬
‫بيــن الســنة والشــيعة‪ ،‬إذ أنشــئا ً‬
‫اإلســام والمســيحية واليهوديــة(‪.)1‬‬

‫وفــي أواخــر القــرن التاســع عشــر وأوائــل القــرن العشــرين‪ ،‬تابــع العلمــاء الشــيعة نشــاط‬
‫محمــد عبــده فــي إصــاح األزهــر وإدخالــه العلــوم الحديثــة متابع ـ ًة حثيثــة‪ ،‬وأعجبــوا‬
‫بــه وبمــا تمكــن هــو ومشــايخ األزهــر مــن تحقيقــه باســتقالل منصــب شــيخ األزهــر‪ ،‬إذ‬
‫خلقــوا طبقــة شــبه مســتقلة ومتمايــزة مــن رجــال الديــن‪ .‬وهــو مــا دفــع الكثيــر من الشــيعة‬
‫اإلصالحييــن إلــى الدعــوة إلصــاح داخلــي فــي تقاليــد التعليــم الشــيعية مســتلهمين‬
‫تجربــة األزهــر الســني‪َّ .‬‬
‫ودل ذلــك ضم ًنــا ‪-‬فــي رأي الكاتــب‪ -‬علــى أن الشــيعة « َقبِلــوا‬
‫باألزهرييــن كأنـ ٍ‬
‫ـداد يمكــن التفكيــر فــي التقــارب معهــم عقد ًيــا»(‪ ،)2‬ال سياسـ ًـيا فحســب‪.‬‬
‫وهــو مــا دفــع الكثيــر مــن علمــاء الشــيعة فــي ذلــك الوقــت‪ ،‬مــن أمثــال محســن األميــن‬
‫ومحمــد الحســين آل كاشــف الغطــاء وعبــد الحســين شــرف الديــن‪ ،‬لزيــارة القاهــرة‬
‫والتقــارب مــع مشــايخ األزهــر وعلمائهــم‪ ،‬وعلــى رأســهم ســليم البشــري ومحمــد‬
‫بخيــت المطيعــي‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.54‬‬


‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.70‬‬

‫‪9‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫كتاب مثير للجدل‬

‫ويبــدأ الكاتــب العــرض لجهــود التقريــب الحديثــة فــي الفصــل الثالــث باستكشــاف‬
‫قصــة الكتــاب الــذي يصطحبــه هدي ـ ًة ُ‬
‫كل حــاج شــيعي يــزور البيــت الحــرام‪ ،‬وفــق‬
‫مــا ا َّدعــى برونــر‪ ،‬أال وهــو كتــاب «المراجعــات» الــذي أصــدره فــي عــام ‪1936‬م عبــد‬
‫الحســين شــرف الديــن‪ ،‬المرجــع الشــيعي لبنانــي األصــل وعراقــي اإلقامــة‪ .‬احتــوى‬
‫كتــاب المراجعــات مراســات زُ ِعــم وقوعهــا بيــن شــرف الديــن وشــيخ األزهر ســليم‬
‫البشــري َّإبــان زيــارة األول للقاهــرة فــي عــام ‪1911‬م‪ ،‬ودارت حــول مواطــن الخــاف‬
‫األساســية بيــن الســنة والشــيعة مــن نشــأة التشــيع و«شــرعية الخالفــة الســنية»‪.‬‬

‫ـرا حــول أصلــه ومضمونــه‪ .‬فقــد شــكك الكثيــرون في نســبة‬ ‫وقــد أثــار الكتــاب جـ ً‬
‫ـدل كبيـ ً‬
‫الرســائل المتضمنــة فــي الكتــاب إلــى الشــيخ ســليم‪ ،‬ويميــل برونــر إلــى هــذا الــرأي‪،‬‬
‫خاضعــا لشــرف الديــن طــوال‬
‫ً‬ ‫منصاعــا‬
‫ً‬ ‫لعــدة أســباب‪ .‬أولهــا أن المحــا ِور الســني كان‬
‫المراســات‪ ،‬ولــم تكــن إجاباتــه إال استفســارات وكلمــات تفتــح المجــال للشــيعي كــي‬
‫يتحــدث ويفحمــه بالحجــة‪ ،‬وهــذا مــا ال يتناســب مطل ًقــا مــع المعــروف عــن الشــيخ‬
‫ِ‬
‫المحافظــة والمتشــددة‪.‬‬ ‫البشــري مــن خلفيتــه‬

‫وثانــي األســباب أن هــذه المراســات لــم تُنشــر فــي وقتهــا‪ ،‬وال قــرب وقتهــا‪ ،‬بــل بعــد‬
‫أكثــر مــن عشــرين عا ًمــا مــن تاريــخ وقوعهــا المزعــوم‪ ،‬وبعــد أن ذكــر شــرف الدين نفســه‬
‫أن أصــول المراســات قــد ُد ِّمــرت و ُن ِهبــت مــع كتابــات ومسـ َّ‬
‫ـودات أخــرى فــي اقتحــام‬
‫الجنــود الفرنســيين لمنزلــه فــي صــور فــي عــام ‪1920‬م‪ ،‬ثــم لــم يذكــر عنــد نشــر الكتــاب‬
‫رجــح برونــر زيــف المراســات لتزامــن صــدور الكتــاب‬
‫مــن أيــن اســتعادها‪ .‬وكذلــك َّ‬
‫مــع وفــاة علمــاء الشــيعة الكبــار فــي ذلــك الوقــت «محمــد حســين النائينــي» و«عبــد‬
‫الكريــم الحائــري»‪ ،‬وربــط ذلــك بســعي شــرف الديــن لتقديــم نفســه خليف ـ ًة لهمــا‪.‬‬

‫‪10‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫ـوه‬
‫ويؤكــد برونــر علــى أن الكتــاب لــم يحقــق أي صــدً ى وقــت صــدوره‪ ،‬إال بعدمــا نـ َّ‬
‫ازدهــارا فــي جهــود التقريــب‪،‬‬
‫ً‬ ‫شــرف الديــن بــه فــي الخمســينيات‪ ،‬وهــو مــا واكــب‬
‫ليصبــح لــدى البعــض أســطور ًة مثيــر ًة للجــدل‪ .‬لكــن فــي مقابــل ذلــك‪ ،‬كان تعامــل‬
‫ـرا‪ ،‬إذ لــم يولِهــا معــادو التقريــب األشــاوس مــن أمثــال‬ ‫الطــرف الســني مــع الكتــاب فاتـ ً‬
‫محــب الديــن الخطيــب أو محمــود المــاح اهتما ًمــا ُيذكــر‪ ،‬مشــيرين اقتضا ًبــا إلــى زيفهــا‬
‫ـد واســع إال بعــد الثــورة اإليرانيــة‪ ،‬حينمــا‬ ‫ـظ الكتــاب بنقـ ٍ‬‫وانتحالهــا دون زيــادة‪ .‬ولــم يحـ َ‬
‫وجــد المعــادون لهــا فــي الكتــاب متك ًئــا للهجــوم علــى الشــيعة واتهامهــم بالتزييــف‬
‫والكــذب علــى أهــل الســنة‪ ،‬وفــي المقابــل اســتخدمته أجهــزة الثــورة فــي الداللــة علــى‬
‫محــاوالت الشــيعة األولــى فــي التقــارب مــع الســنة(‪.)1‬‬

‫زلزال الخالفة‬

‫وفــي المشــهد الرابــع مــن القصــة‪ ،‬ينتقــل برونــر إلــى إلغــاء الخالفــة العثمانيــة‬
‫ـزال ضــرب العالــم اإلســامي‪ ،‬وأحــدث هــزة عميقــة أثــارت تحــركات‬ ‫بوصفهــا زلـ ً‬
‫ومحــاوالت ومبــادرات إلعــادة إحيائهــا وخلــق صيغــة جديدة مــن الوحدة اإلســامية‪.‬‬
‫ـورا بارزيــن فــي هــذه المبــادرات ومشــاركين علــى الــدوام ألســباب‬
‫كان الشــيعة حضـ ً‬
‫ودوافــع عــدة‪ ،‬كان أهمهــا بــروز المدرســة الوهابيــة وانتصارهــا فــي شــبه الجزيــرة‪،‬‬
‫ـكا عليهــا‪ ،‬بمــا تحملــه المدرســة مــن عــداء صريــح ومباشــر‬ ‫وإعــان ابــن ســعود ملـ ً‬
‫للتشــيع‪ ،‬فاندفــع الشــيعة إلــى التقــارب مــع الســنة فــي مصــر والشــام‪.‬‬

‫كانــت أول محاولــة كبــرى لتجــاوز ســقوط الخالفــة العثمانيــة فــي مؤتمــر القاهــرة فــي‬
‫ٍ‬
‫فائــدة عمليــة‪ ،‬وانتهــت محادثاتــه علــى عجــل‪،‬‬ ‫عــام ‪1926‬م‪ ،‬لكنــه لــم ُيثمــر قــط أي‬
‫ناهيــك أنــه لــم تكــن مــن بيــن أهدافــه التقريــب بيــن الســنة والشــيعة أو المذاهــب‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.92-91‬‬

‫‪11‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫اإلســامية بعامــة‪ ،‬بــل مجــرد تجــاوز المــأزق السياســي الراهــن باختيــار خليفـ ٍ‬
‫ـة جديــد‪.‬‬
‫لكــن الحــدث الــذي كان لــه أثــر هــام بعــد ذلــك هــو مؤتمــر عــام ‪1931‬م فــي القــدس‪،‬‬
‫الــذي قــام علــى تنظيمــه المفتــي «محمــد أميــن الحســيني»‪.‬‬

‫كان الممثــل األبــرز للطــرف الســني فــي المؤتمــر محمــد رشــيد رضــا‪ ،‬وللطــرف الشــيعي‬
‫محمــد الحســين آل كاشــف الغطــاء‪ .‬وقــد َّ‬
‫ركــز المؤتمــر علــى قضيــة فلســطين والتوحــد‬
‫بيــن المســلمين عامـ ًة‪ ،‬دون الدخــول فــي أمــور تفصيليــة‪ ،‬وهــو مــا أضفــى علــى الحــوار‬
‫طابــع الهــدوء‪ ،‬بــل بــادر الحضــور بتقديــم كاشــف الغطــاء إلمامــة الجمعــة‪ ،‬ووجــد‬
‫َ‬
‫ـجيعا علــى إطــاق أول دعـ ٍ‬
‫ـوة مباشــرة للتقريــب بيــن الســنة والشــيعة وتجــاوز‬ ‫منهــم تشـ ً‬
‫االختالفــات العميقــة القائمــة‪ ،‬وإن لــم ُيســتخدَ م ســاعتها مصطلــح التقريــب‪.‬‬

‫متناغمــا‪ ،‬فقــد قبلهــا رشــيد رضــا ودعــا‬


‫ً‬ ‫لكــن تلقــي دعــوة كاشــف الغطــاء لــم يكــن‬
‫إلــى تحويلهــا إلجــراءات عمليــة بإصــدار مطبوعــات تتولــى جمــع مــا توافقــت عليــه‬
‫المذاهــب اإلســامية‪ ،‬فــي حيــن رفضهــا آخــرون مــن أمثــال محمــد بهجــت األثــري‬
‫الــذي شــدد علــى ضــرورة حصــر ذلــك األمــر فــي دوائــر أهــل العلــم الراســخين‪،‬‬
‫ومحمــد إســعاف النشاشــيبي الــذي شــدد علــى عمــق االختالفــات الجوهريــة بيــن‬
‫المذهبيــن وصعوبــة تجاوزهــا‪.‬‬

‫ومــن ثــم‪ ،‬انتهــى هــذا المشــهد بصمـ ٍ‬


‫ـت مطبـ ٍ‬
‫ـق حــول التقريــب‪ ،‬وإلــى االتفــاق علــى‬
‫ٍ‬
‫عمليــة أخــرى‪ .‬بــل يؤكــد‬ ‫ٍ‬
‫خطــوات‬ ‫القاســم األدنــى المشــترك دون االنتقــال إلــى أي‬
‫ـري الوحــدة‬
‫برونــر أنــه بعدهــا بــدأ «التباعــد واالغتــراب» مــر ًة أخــرى‪ ،‬حتــى بيــن مناصـ َ‬
‫ونصــا «أن الجهــد‬
‫والتقريــب فــي المؤتمــر ‪-‬رشــيد رضــا وكاشــف الغطــاء‪ -‬وأعلنــا ضم ًنــا ًّ‬
‫دائمــا!»(‪.)1‬‬
‫تجــاه الوحــدة والتقريــب أشــبه بالســراب ً‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.125‬‬

‫‪12‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫انخراط األزهر في جهود التقريب‬

‫لــم يظهــر األزهــر علــى مســرح التقريــب منــذ فشــل مبادرته فــي مؤتمــر عــام ‪1926‬م‪،‬‬
‫ولــم يشــترك فــي مؤتمــر القــدس خو ًفــا مــن انتقــال ثقلــه الرمــزي إلــى مشــروع‬
‫جامعــة األقصــى المقتــرح‪ .‬لكنــه ظهــر بعــد ذلــك عبــر التقــارب الــذي قــام بيــن‬
‫شــيخه محمــد مصطفــى المراغــي والعالــم الشــيعي إيرانــي األصــل نجفــي اإلقامــة‬
‫عبــد الكريــم الزنجانــي‪ ،‬الــذي خــرج مــن مؤتمــر القــدس معتقــدً ا فــي أن مجــرد‬
‫حقيقيــا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الــكالم االحتفالــي المراســمي عــن الوحــدة والتقريــب لــن يثمــر تقار ًبــا‬
‫واألولــى هــو التحــرك اإلجرائــي‪ ،‬وإحــال «الســلوك العملــي محــل مــا اقتصــر فــي‬
‫ْ‬
‫الســابق علــى األلفــاظ الجوفــاء»(‪ .)1‬انطلــق الزنجانــي فــي رحلــة جــاب فيهــا العديــد‬
‫مــن البلــدان العربيــة الســنية‪ ،‬واتصــل فيهــا بجمعيـ ٍ‬
‫ـات إســامية مثــل جمعيــة الشــبان‬
‫المســلمين وجمعيــة الهدايــة اإلســامية‪ ،‬وألقــى محاضـ ٍ‬
‫ـرات فــي الجامعــة المصريــة‬
‫بالقاهــرة والجامعــة الســورية بدمشــق‪.‬‬

‫كان أبــرز مــا فــي محاولــة الزنجانــي هــو اللقــاء الــذي جمعــه بالشــيخ محمــد‬
‫مصطفــى المراغــي شــيخ األزهــر‪ ،‬وحفــل االســتقبال المهيــب الــذي أقامــه المراغــي‬
‫وشــارك فيــه كبــار أهــل العلــم والحكــم فــي مصــر‪ .‬اتفــق العالِمــان علــى أن العقبــة‬
‫الكــؤود فــي طريــق حــوار التقريــب هــو توصيــف محــور الخــاف‪ .‬إذ إن وضع مســألة‬
‫اإلمامــة والخالفــة موضــع المركــز والتحــاور حولهــا هــو الســبب فــي كل الســجاالت‬
‫والمشــاحنات التــي قامــت علــى مــر تاريــخ العالقــة بيــن المذهبيــن‪ .‬وبـ ً‬
‫ـدل مــن ذلك‪،‬‬
‫اســتعمل المراغــي والزنجانــي «حيلــة» كانــت ذات أهميــة مزدوجــة‪ ،‬إذ أزاحــت أكثــر‬
‫قضيــة خالفيــة بيــن الطرفيــن‪ ،‬وســمحت فــي الوقــت عينــه بتركيــز جهــود التقريــب‬
‫علــى فــروع الديــن ال أصولــه‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.126‬‬

‫‪13‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫تمثلــت هــذه الحيلــة فــي إعــادة تأويــل اإليمــان‪ ،‬وتضييقــه إلــى ركائــز ضروريــة ثــاث‬
‫قطعــا‪ .‬فأعــاد العالمــان‬
‫هــي التوحيــد والنبــوة والمعــاد‪ ،‬فمــن يؤمــن بهــم هــو مســلم ً‬
‫بذلــك تقســيم الشــرع إلــى ثالثــة أقســام هــي أصــول الديــن الثالثــة المذكــورة‪ ،‬والفــروع‬
‫العمليــة الفقهيــة‪ ،‬ثــم أصــول مذهبيــة ذات أهميــة كبيــرة لــدى كل مذهــب‪ ،‬هــي مســألة‬
‫اإلمامــة لــدى الشــيعة‪ ،‬والخالفــة لــدى الســنة‪ .‬وعلــى ذلــك‪ ،‬وبعــد أن اشــترك أهــل‬
‫المذهبيــن فــي القســم األول‪ ،‬واخ ُتــص أهــل كل مذهــب بمــا لديهــم فــي القســم الثالــث‪،‬‬
‫يصبــح ميــدان التقريــب الحقيقــي والفعــال فــي رأي المراغــي والزنجانــي هــو التقريــب‬
‫فــي القســم الثانــي؛ أي فــي الفــروع‪ .‬وســيهيمن هــذا التأويــل علــى كافــة أنشــطة التقريب‬
‫التاليــة فــي منتصــف القــرن‪.‬‬

‫لكــن برونــر يــروي هنــا كيــف أن هــذا المشــهد المتفائــل قــد انتهــى بانكشــاف مــا‬
‫أســماه «المقصــد الحقيقــي واألساســي» لنشــاط المراغــي التقريبــي‪ ،‬أال وهــو «إقامــة‪ ،‬أو‬
‫باألحــرى إعــادة؛ الخالفــة تحــت خليفــة مصــري»(‪ ،)1‬فالتقريــب المقصــود ليــس محــض‬
‫التقريــب‪ ،‬بــل هــو الــذي يدفــع الشــيعة لقبــول االنضــواء تحــت لــواء الخليفــة الجديــد؛‬
‫فلمــا أدرك الزنجانــي وغيــره هــذا‪ ،‬أبــدوا تحفظاتهــم‪،‬‬ ‫الملــك فــاروق تلميــذ الشــيخ‪َّ .‬‬
‫وعرقلــوا أي محاولــة للتقريــب قــد تســهم فــي هــذا‪ ،‬ووضعــوا شـ ً‬
‫ـروطا لحــوار التقريــب‬
‫ـيرا‪ ،‬وهنــا «تفرقت الســبل‬
‫ـرا عسـ ً‬‫جعلــت توظيفــه لخدمــة مخططــات اســتعادة الخالفــة أمـ ً‬
‫مــر ًة أخــرى بيــن العالِميــن» بعــد مــا تفرقــت بيــن ســلفيهما رضــا وكاشــف الغطــاء‪ ،‬لكــن‬
‫كان ذلــك بعــد أن وضــع المراغــي ألول مــرة ثقــل منصــب شــيخ األزهــر وراء مهمــة‬
‫تدشــين الحــوار بيــن المذهبيــن‪.‬‬

‫وبــرز ممــا ســبق نقطتــان أساســيتان ســتترافقان فــي قصــة التقريــب مــن أولهــا آلخرهــا‪،‬‬
‫ـببا فــي فشــل كل جهــود التقريــب‪ ،‬أوالهمــا أن التقريــب قــد انتقــل اآلن مــن‬
‫وتكونــان سـ ً‬
‫ميــدان األصــول ومســائل اإلمامــة والخالفــة إلــى ميــدان الفــروع‪ ،‬وثانيهمــا هــو االرتبــاط‬
‫ـري بيــن حــوارات التقريــب واالعتبــارات السياســية المباشــرة إلــى الحــد الــذي جعل‬ ‫السـ ِّ‬
‫ُ‬
‫حــوار التقريــب أدا ًة سياســي ًة فــي يــد الحكومــات تتالعــب بهــا كيــف تشــاء‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.133‬‬

‫‪14‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫درة تاج التقريب‬

‫أشــار برونــر فــي ختــام نقاشــه لمحاولــة المراغــي والزنجانــي التقريبيــة إلــى أن‬
‫المحاولــة لــم تتبلــور فــي أي شــكلٍ مؤسســي وأنهــا فشــلت فــي التحــول إلــى ميــدان‬
‫اإلجــراءات العمليــة بعــد انكشــاف أغــراض المراغــي لزمالئــه‪ ،‬وعلــى ذلــك ينتقــل‬
‫فــي الفصــل الخامــس إلــى مناقشــة التجليــات المؤسســية لفكــرة التقريــب فــي‬
‫منتصــف القــرن العشــرين‪ ،‬ولذلــك ســماه بـــ «تحــول فكــر التقريــب إلــى مؤسســة»‪.‬‬

‫وتصلبــا لحــركات‬
‫ً‬ ‫تنظيمــا‬
‫ً‬ ‫أول بذكــر مــا جــرى مــن ظهــور أشـ ٍ‬
‫ـكال أكثــر‬ ‫مهــد الكاتــب ً‬
‫َّ‬
‫ـماها بـــ «الحــركات النيو‪-‬ســلفية»‪ ،‬ثــم رســوخها وانتظامهــا علــى‬
‫اإلصــاح اإلســامي سـ َّ‬
‫ـة صغيــرة‪ ،‬كان مــن أبرزهــا جماعــة الشــبان المســلمين والهدايــة‬ ‫هيئــة جمعيــات هرميـ ٍ‬
‫اإلســامية واإلخــوان المســلمين وغيرهــم‪.‬‬

‫وقــد دفــع هــذا التحــول المهتميــن بفكــر التقريــب إلــى االنتظــام فــي جمعيــات مماثلــة‪،‬‬
‫كانــت أوالهــا «جماعــة األخــوة اإلســامية» التــي أسســها عبــد الوهــاب عــزام فــي عــام‬
‫‪1938‬م رفقــة الفيلســوف المصــري طنطــاوي جوهــري وأحمــد بــك خليــل‪ .‬ركــزت الجماعة‬
‫‪-‬ربمــا بأث ـ ٍر ســابق مــن محاولــة المراغــي والزنجانــي‪ -‬علــى تحقيــق الوحــدة اإلســامية‬
‫والتقريــب عبــر تجــاوز «المشــكالت العقديــة التــي ت ِ‬
‫ُوجــد اختالفــات فــي الــرأي حولهــا‪،‬‬
‫وتجنــب النقــاش فيهــا»(‪ ،)1‬واالقتصــار علــى تأكيد القواســم المشــتركة فــي مواجهــة الغرب‪.‬‬
‫فرعــا حــول العالــم خــال عاميــن همــا‬
‫وظلــت علــى ذلــك لتنتشــر فــي أكثــر مــن أربعيــن ً‬
‫دورة حيــاة الجماعــة كلهــا‪ ،‬لتصــاب بالشــلل بعــد وفــاة جوهــري فــي عــام ‪1940‬م‪.‬‬

‫ـات أخــرى مــن مثيــات «جمعيــة الوحــدة اإلســامية» فــي‬


‫وتــا جماعــة األخــوة جمعيـ ٌ‬
‫بغــداد‪ ،‬و«دار اإلنصــاف» فــي بيــروت‪ ،‬اللتــان هدفتــا إلــى تقريــب الــرؤى بيــن الســنة‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.158‬‬

‫‪15‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫والشــيعة و«تشــجيع التفاهــم حــول األصــل الصحيــح للمذاهــب الفقهيــة اإلســامية»(‪.)1‬‬
‫ـرا بكثيــر مــن التجلــي األبــرز لحركــة التقريــب‪ ،‬وذروة ســنامها‬
‫لكــن الثالثــة كانــوا أقــل أثـ ً‬
‫فــي القــرن العشــرين؛ «جماعــة التقريــب بيــن المذاهــب اإلســامية» قاهريــة المنشــأ‬
‫وأزهريــة الحاضنــة ونجفيــة الدعــم‪ ،‬التــي تأسســت فــي أوائــل عــام ‪1947‬م‪ ،‬وكان لهــا‬
‫البصمــة األبــرز علــى صــورة حركــة التقريــب فــي القــرن العشــرين‪.‬‬

‫ُ‬
‫الشــرطة القبــض فــي بيــت اللــه الحــرام فــي يــوم‬ ‫ألقــت‬
‫‪ 12‬ذي الحجــة ‪1362‬هـــ علــى المدعــو طالــب بــن حســين‬
‫اإليرانــي مــن المنتســبين إلــى الشــيعة في إيــران‪ ،‬وهــو متلبس‬
‫(العـ ِ‬
‫ـذرة)‬ ‫بأقــذر الجرائــم وأقبحهــا‪ ،‬وهــي حمــل القــاذورات َ‬
‫وهــو يلقيهــا فــي المطــاف حــول الكعبــة المشــرفة‪ ،‬بقصــد‬
‫إيــذاء الطائفيــن وإهانــة هــذا المــكان المقــدس‪ ،‬وبعــد إجــراء‬
‫التحقيــق بشــأنه وثبــوت هــذا الجــرم القبيــح منــه‪ ،‬فقــد صــدر‬
‫الحكــم الشــرعي بقتلــه وقــد ُن ِّفــذ حكــم القتــل فيــه فــي يــوم‬
‫الســبت ‪[ 14‬ذي] الحجــة ‪1362‬هـــ(‪.)2‬‬

‫أشــعلت هــذه الحادثــة الشــهيرة التــي روتهــا جريــدة أم القــرى أزم ـ ًة دبلوماســية شــديدة‬
‫بيــن المملكــة العربيــة الســعودية وحكومــة إيــران‪ ،‬التــي انقطعــت بســبب ذلــك عــن‬
‫الحــج لسـ ٍ‬
‫ـنوات متتاليــة‪ .‬وقــد أثــار هــذا الخــاف العديــد مــن نشــطاء التقريــب‪ ،‬وعلــى‬
‫مدفوعــا‬
‫ً‬ ‫رأســهم العالِــم الشــيعي الشــاب «محمــد تقــي القُ ِّمــي» الــذي جــاء إلــى مصــر‬
‫بغضبــه مــن هــذه الواقعــة فــي عــام ‪1946‬م‪ ،‬وفــي نيتــه «تأســيس هيئـ ٍ‬
‫ـة تضطلــع بالتغلــب‬
‫علــى النــزاع المذهبــي داخــل اإلســام»(‪.)3‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.159‬‬


‫((( جريــدة أم القــرى‪ ،‬الســنة العشــرون‪ ،‬عــدد ‪ ،990‬الجمعــة ‪ 20‬ذو الحجــة ‪1362‬هـــ الموافــق ‪ 17‬ديســمبر‬
‫‪1943‬م‪ ،‬ص ‪.3‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.161‬‬

‫‪16‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫َّ‬
‫تمكــن القمــي مــن لقــاء شــيخ األزهــر مصطفــى عبــد الــرازق الــذي ســاعده علــى مقابلــة‬
‫العديــد مــن الشــخصيات األخــرى التــي شـ َّ‬
‫ـكلت قــوام الجمعيــة العموميــة للجماعة فــي يناير‬
‫مــن عــام ‪1947‬م‪ .‬وكان منهــم «محمــد علــي باشــا علوبــة» أميــن صنــدوق مؤتمــر القــدس‪،‬‬
‫َّ‬
‫وتمكــن بعالقاتــه مــن ضــم حســن البنــا مرشــد جماعــة‬ ‫رئيســا للجماعــة‪،‬‬
‫الــذي أصبــح ً‬
‫اإلخــوان المســلمين‪ ،‬ومحمــد صالــح حــرب رئيــس جمعيــة الشــبان المســلمين‪ .‬وكذلــك‬
‫ونائبــا لرئيــس جماعــة‬ ‫التقــى بالشــيخ عبــد المجيــد ســليم‪ ،‬الــذي ســيصبح شـ ً‬
‫ـيخا لألزهــر ً‬
‫التقريــب‪ ،‬وكان القمــي نفســه هــو الــرأس الشــيعي األكبــر والســكرتير العــام للجماعــة‪.‬‬

‫ـرا لنشــر أفكارها‪،‬‬


‫أنشــأت الجماعــة مجلــة «رســالة اإلســام» لتكــون لســانًا للجماعــة ومنبـ ً‬
‫ـدى للتــداول بيــن أعضائهــا‪ ،‬وكانــت أهــداف الجماعــة المنشــورة فــي كل عــدد هــي‬
‫ومنتـ ً‬
‫«(أ) العمــل علــى جمــع كلمــة أربــاب المذاهــب والطوائــف اإلســامية‪ ،‬الذيــن باعــدت‬
‫آراء ال تمــس العقائــد التــي يجــب اإليمــان بهــا‪( .‬ب) نشــر المبــادئ اإلســامية‬
‫بينهــم ٌ‬
‫باللغــات المختلفــة‪ ،‬وبيــان حاجــة المجتمــع إلــى األخــذ بهــا‪( .‬ج) الســعي إلــى إزالــة مــا‬
‫يكــون مــن نــزاع بين شــعبين أو طائفتيــن مــن المســلمين‪ ،‬والتوفيــق بينهمــا»(‪ .)1‬والعتقادها‬
‫ـرا علــى الجهــل باآلخــر‪،‬‬
‫أن غالــب الخالفــات القائمــة بيــن أهــل المذهبيــن قائــم حصـ ً‬
‫ـزا لنشــر الكتابــات التعريفيــة بالمذاهــب‪،‬‬
‫أنشــأت الجماعــة «دار التقريــب» لتكــون مركـ ً‬
‫َّ‬
‫وركــزت علــى نشــر األدبيــات الشــيعية فــي القاهــرة‪ ،‬ومثَّلــت ملت ًقــى لعقــد الجلســات‬
‫الرســمية للجماعــة وعلمــاء الشــيعة الزائريــن‪.‬‬

‫أمــا تمويــل الجماعــة فــكان قضيـ ًة حساسـ ًة للغايــة‪ ،‬لــم ُيذكــر عنهــا أي معلومـ ٍ‬
‫ـة أو إشــارة‬
‫فــي أوراق الجماعــة أو مجلتهــا‪ ،‬لكــن برونــر يشــير إلــى وجــود عــدة قرائــن وردت فــي‬
‫مصــادر ثانويــة تشــير إلــى وجــود صــات بيــن الحكومتيــن المصريــة واإليرانيــة وبيــن‬
‫ـكرتيرا عا ًمــا لمنظمــة المؤتمــر‬
‫ً‬ ‫الجماعــة‪ ،‬وباألخــص عبــر أنــور الســادات الــذي كان سـ‬
‫اإلســامي‪ ،‬منهــا محــاوالت إقنــاع هــذا األخيــر علمــا َء إيرانييــن باالنضمــام إلــى حركــة‬
‫التقريــب‪ ،‬وصــدور كتــب دار التقريــب بالتعــاون مــع وزارة األوقــاف المصريــة‪.‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.166‬‬

‫‪17‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫تمثــل النشــاط األبــرز لجماعــة التقريــب فــي ذراعهــا الثقافــي واإلعالمــي؛ دار التقريــب‪،‬‬
‫وباألخــص مجلــة رســالة اإلســام المذكــورة آن ًفــا‪ ،‬ومطبوعــات الــدار للكتــب الشــيعية‪.‬‬
‫ـرا لثقــل األســماء التــي كتبــت فيهــا‪ ،‬ولكونهــا‬
‫ـور بــارز نظـ ً‬
‫فقــد كان لرســالة اإلســام حضـ ٌ‬
‫المجلــة الوحيــدة منــذ العــروة الوثقــى التــي تجعــل مــن الســعي نحــو الوحــدة اإلســامية‬
‫هدفهــا الوحيــدة وغايتهــا العليــا‪ .‬وقــد صــدر عــن المجلــة ســتون عــد ًدا بإجمالــي‬
‫خمســين وســتمئة (‪ )650‬مقالــة‪ ،‬لــم يــزد عــدد مقــاالت الكتــاب الشــيعة فيهــا عــن المئــة‪،‬‬
‫وإن كانــوا مــن الكبــار أمثــال الحســين آل كاشــف الغطــاء وعبــد الحســين شــرف الديــن‪.‬‬

‫وقــد الحــظ برونــر أن المقــاالت التــي تناولــت التقريــب بيــن الســنة والشــيعة تنـ ً‬
‫ـاول‬
‫ـرا لــم تتجــاوز عشــرين فــي المئــة مــن قــوام المجلــة كلهــا‪ ،‬وهــو مــا يشــير إلــى‬
‫مباشـ ً‬
‫القيــود الذاتيــة التــي فرضتهــا جماعــة التقريــب علــى نفســها لتمنــع ولــوج المياديــن‬
‫الخالفيــة‪ .‬وكذلــك الحـ َ‬
‫ـظ أن المجلــة اختــارت النــأي بنفســها عــن تنــاول المســائل‬
‫السياســية الخالفيــة‪ ،‬ومــن ثــم ابتعــدت عــن الهمــوم اليوميــة المباشــرة للمســلمين‪،‬‬
‫فقــد «أبــدت رســالة اإلســام صم ًتــا عنيــدً ا تجــاه كافــة االنتفاضــات التــي شــهدتها‬
‫البلــدان اإلســامية فــي ذلــك الوقــت‪ ،‬رغــم عظــم أهميــة بعضهــا»‪ .‬وهنــا ال بــد‬
‫مــن بــروز المقارنــة ثانيـ ًة مــع العــروة الوثقــى‪ ،‬التــي لــم تتــرك فــي أعدادهــا الثمانيــة‬
‫عشــر أي حــدث يهــم المســلمين بعامــة إال وناقشــته وأبــرزت مــا فيــه مــن جوانــب‬
‫تســتدعي الوحــدة والتــآزر‪ .‬وهــو مــا يبيــن الفــارق بيــن جماعــة العــروة الوثقــى التــي‬
‫ٍ‬
‫ـورات فــي اختياراتهــا‬ ‫اســتقلت عــن أي ظهي ـ ٍر سياســي يفــرض عليهــا قيـ ً‬
‫ـودا ومحظـ‬
‫وتوجهاتهــا‪ ،‬اللهــم إال توخيهــا إثــارة البلبلــة فــي فرنســا مضيفــة هيئــة تحريــر المجلــة‪،‬‬
‫وبيــن جماعــة التقريــب التــي قامــت باألســاس علــى ارتبــاط سياســي بنظامــي القاهرة‬
‫وطهــران‪ .‬ولــم يكــن إخفــاق رســالة اإلســام «آخــر األمــر نتيجــة جهــود أعدائهــا‪،‬‬
‫وإنمــا بســبب توظيــف السياســة لهــا؛ عيــن السياســة التــي ظلــت جماعــة التقريــب‬
‫تدعــي بإصــرار تحفظهــا تجاههــا»(‪.)1‬‬
‫َّ‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.177‬‬

‫‪18‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫شبكة التقريب‬

‫كان نشــطاء جماعــة التقريــب والمنتســبون إليهــا متنوعــي المشــارب والمصــادر‪ .‬فعلــى‬
‫الجانــب الســني‪ ،‬كان بينهــم علمــاء تقليديــون وأســاتذة جامعــات ونشــطاء حركييــن‬
‫فــي جمعيــات النيو‪-‬ســلفية‪ .‬فبــرز مــن األزهــر‪ ،‬مــن جناحيــه اإلصالحــي والتقليــدي‪،‬‬
‫ـاب بــارزون علــى صفحــات رســالة اإلســام‪ ،‬مــن أمثــال محمــد المدنــي رئيــس‬
‫كتـ ٌ‬
‫تحريــر المجلــة‪ ،‬وزميليــه عبــد العزيــز محمــد عيســى ومحمــد يوســف موســى‪،‬‬
‫وبالطبــع المشــايخ عبــد المجيــد ســليم ومحمــود شــلتوت وحســنين مخلــوف ومحمــد‬
‫أبــي زهــرة وأحمــد أميــن‪ ،‬وإن كانــت مشــاركة هذيــن األخيريــن قــد أثــارت جـ ً‬
‫ـدل حــول‬
‫توجهاتهــم الفعليــة‪ .‬وقــد عــزا المراجــع الخــاف حــول توجــه أبــي زهــرة إلــى تركيبيــة‬
‫طرحــه و«اســتقالله الفكــري وجديتــه الواضحــة فــي دراســة التشــيع ومصــادره‪ ،‬ومــن ثــم‬
‫اختــاف منتجــه العلمي‪/‬المعرفــي عــن الضجيــج الســائد»(‪.)1‬‬

‫أمــا مشــاركة الشــيعة فكانــت أقــل إلــى حـ ٍ‬


‫ـد مــا‪ ،‬و«اقتصــر الحضــور الحقيقــي للشــيعة‬
‫فــي الجماعــة التقريبيــة علــى شــخص محمــد تقــي القمــي»‪ ،‬مــع ثالثــة إيرانييــن هــم‬
‫محســن صــدر وعبــد الحســين بــن الديــن ومحمــد صالــح الحائــري‪ ،‬وتســعة عراقيين هم‬
‫محمــد الحســين آل كاشــف الغطــاء وابنــه عبــد الحليــم وتوفيــق الفكيكــي وعبــد الــرزاق‬
‫الســني ومحمــد صــادق الصــدر ومحمــد رضــا الشــبيبي وهبــة الديــن الشهرســتاني وأبــو‬
‫القاســم الخوئــي ومحمــد مهــدي الخالصــي‪ .‬أمــا الشــيعة اللبنانيــون فــكان حضورهــم‬
‫ـرا علــى عبــد الحســين شــرف الديــن ومحمــد جــواد مغنيــة‪ .‬لكــن ذلــك لــم يعــنِ‬
‫مقتصـ ً‬
‫أبــدً ا افتقــار الجماعــة إلــى دعــم الشــيعة‪ ،‬فقــد حظيــت أنشــطة جماعــة التقريــب بدعــم‬
‫المرجــع الشــيعي الشــهير آيــة اللــه «حســين طباطبائــي بروجــردي»‪ ،‬وإن كان قــد «بــذل‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.205‬‬

‫‪19‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫جهــدً ا فائ ًقــا ليجعــل تأييــده لهــا سـ ًّ‬
‫ـريا قــدر اإلمــكان»(‪ ،)1‬حتــى يتجنــب إزكاء االتهــام‬
‫الموجــه لهــا بســعيها وراء نشــر التشــيع بيــن الســنة فــي مصــر والعالــم العربــي‪.‬‬

‫مذبح السياسة‬

‫قــد أشــرنا آن ًفــا إلــى االرتبــاط الجوهــري الــذي تو َّلــد بيــن االعتبــارات السياســية وبين‬
‫ـا عــن عالقــة جماعــة التقريــب‬ ‫ـا كامـ ً‬ ‫أنشــطة التقريــب‪ ،‬وقــد خصــص برونــر فصـ ً‬
‫بالنظــام المصــري بعــد عــام ‪1952‬م‪ ،‬أشــار فيــه إلــى أن التغيــرات التــي جــرت فــي‬
‫مصــر أ َّثــرت بقــوة علــى أنشــطة التقريــب‪ ،‬وأن اســتبعاد عبــد المجيــد ســليم مــن‬
‫مشــيخة األزهــر أواخــر العــام نفســه قــد أدى الضطــراب شــديد فــي أنشــطتها‪ ،‬إذ‬
‫فتــح النــار عليهــا مــن خصومهــا ومنعهــا الــرد عليهــم‪ .‬وقــد كان تعييــن محــب‬
‫رئيســا لتحريــر مجلــة األزهــر‪ ،‬مؤكــدً ا‬
‫الديــن الخطيــب‪ ،‬أشــرس مناهضــي التقريــب‪ً ،‬‬
‫النطبــاع أن «محاولــة ســليم وضــع جماعــة التقريــب تحــت حمايــة األزهــر خــال‬
‫فتــرة مشــيخته‪ ،‬لــم تكــن ســوى مظه ـ ٍر خــادع»(‪.)2‬‬

‫لكــن األمــر لــم يســتغرق عــدة ســنوات قبــل أن تــدرك الحكومــة المصريــة الجديــدة‬
‫قيمــة التقــارب اإلســامي لسياســتها الخارجيــة‪ ،‬وذابــت الثلــوج بيــن الجماعــة والقــوى‬
‫الحاكمــة بعــد أن التقــى القمــي بعبــد الناصــر وأقنعــه بوقــف المراقبــة المفروضــة علــى‬
‫أنشــطة الجماعــة‪ .‬وبعدهــا بقليــل‪ ،‬أدرك النظــام المصــري ضــرورة توظيــف األزهــر هــو‬
‫اآلخــر الســتغالل ســمعته العلميــة وعظــم قــدره لــدى المســلمين فــي تحقيــق غاياتــه‬
‫السياســية الخاصــة‪ ،‬وكان أداتــه الرئيســة فــي ذلــك هــو شــيخ األزهــر الجديــد «محمــود‬
‫المعيــن فــي عــام ‪1958‬م‪.‬‬
‫َّ‬ ‫شــلتوت»‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.224‬‬


‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.318‬‬

‫‪20‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫كان تعييــن شــلتوت شـ ً‬
‫ـيخا لألزهــر إيذا ًنــا بانبعــاث فكــر التقريــب مــر ًة أخــرى‪ ،‬إذ ظــل‬
‫ومواليــا لهــا‪ ،‬حتــى في فتــرة االضطرابــات الســابقة‪ .‬وقد‬
‫ً‬ ‫شــلتوت مؤم ًنــا بأفــكار الجماعــة‬
‫أحــدث شــلتوت فــور تعيينــه قطعيـ ًة مــع التوجــه األزهــري الســابق عليــه باســتبداله أحمد‬
‫حســن الزيــات بمحــب الديــن الخطيــب فــي رئاســة تحريــر مجلــة األزهــر‪ ،‬وأكــد فــي‬
‫تصريحاتــه علــى أهميــة جماعــة التقريــب وفكرهــا‪ ،‬بــل ذهــب إلــى التصريــح (واإلفتــاء)‪،‬‬
‫فــي حــوا ٍر نشــرته صحيفــة الحيــاة البيروتيــة فــي الســابع مــن يوليــو مــن عــام ‪1959‬م‪،‬‬
‫ـب يجــوز‬
‫بــأن «مذهــب الجعفريــة المعــروف بمذهــب الشــيعة اإلماميــة االثنــا عشــرية مذهـ ٌ‬
‫ـرعا كســائر مذاهــب أهــل الســنة»(‪ ،)1‬وبهــذا أطلــق ســابق ًة ال مثيــل لهــا‪ ،‬إذ كان‬
‫التعبــد بــه شـ ً‬
‫ـاميا‪ ،‬ويضعــه علــى قــدم المســاواة مــع‬
‫مذهبــا إسـ ًّ‬
‫ً‬ ‫أول فقيــه ســني معتبــر يعتــرف بالتشــيع‬
‫المذاهــب الســنية األربعــة‪.‬‬

‫لكــن برونــر يشــير بعرضــه لعالقــة شــلتوت بأنشــطة جماعــة التقريــب وســلوكه‬
‫حقيقيــا‬
‫ًّ‬ ‫دعائيــا أكثــر منــه‬
‫ًّ‬ ‫حيــال الفتــوى الســابقة إلــى أن تقاربــه ونشــاطه كان‬
‫حريصــا علــى التقريــب‪ ،‬ويدلــل علــى ذلــك بأنــه عنــد االنتقــال إلــى ميــدان‬
‫ً‬
‫اإلجــراءات العمليــة مــن قبيــل إنشــاء كرســي لتدريــس الفقــه الشــيعي فــي األزهر‪،‬‬
‫توقفــت الجهــود وتعطــل الركــب فجــأة دون ســابق إنــذار‪ ،‬وتعلــل رؤوس األزهــر‬
‫بــأن تصريحــات شــيخه ُأ ِّولــت خطـ ً‬
‫ـأ‪.‬‬

‫وشــدد الكاتــب علــى أن فتــوى شــلتوت يجــب أال تُفصــم عــن ســياقها السياســي الــذي‬
‫حركهــا‪ ،‬فقــد صــدرت الفتــوى فــي وقــت أزمــة مصــر الناصريــة مــع العــراق القاســمية‪،‬‬
‫إذ قبِــل «شــلتوت طواعي ـ ًة أن يكــون األزهــر هــو البــوق الــذي يضفــي الشــرعية علــى‬
‫السياســة الخارجيــة المصريــة»(‪ ،)2‬واســتعمل ســلطته الدينيــة نكايـ ًة فــي شــيوعية قاســم‪،‬‬
‫وتقر ًبــا مــن شــاه إيــران مــن بــاب «عــدو عــدوي صديقــي»(‪.)3‬‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.354‬‬


‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.370‬‬
‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.372‬‬

‫‪21‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫وكمــا كانــت السياســة الدافــع لحركــة التقريــب كــي تحقــق أكبــر انتصــا ٍر لهــا فــي‬
‫تاريخهــا القصيــر‪ ،‬كانــت ً‬
‫أيضــا مذبحهــا‪ .‬فعندمــا أعلــن شــاه إيــران اعترافــه بإســرائيل‬
‫فــي عــام ‪1960‬م‪ ،‬واشــتدت القاهــرة فــي معارضتــه والتنديــد بفعلــه‪ ،‬فــي مقابــل العــراق‬
‫ـرارا لألمــر الواقــع‪ ،‬أصبــح عــدو األمــس‬
‫تقبــل اإلعــان وتعامــل معــه بوصفــه إقـ ً‬
‫الــذي َّ‬
‫صديــق اليــوم‪ ،‬وانعــزل النظــام الناصــري‪ .‬انعكــس كل ذلــك علــى أنشــطة التقريــب‪،‬‬
‫فتوقــف الحــوار المؤسســي عقــب قطــع العالقــات الدبلوماســية‪ ،‬وتفاعــل شــلتوت‬
‫واألزهــر ووضعــا نهايـ ًة لحــوار التقريــب الدائــر‪ ،‬فتوقفــت رســالة اإلســام عــن الصــدور‬
‫وانقطعــت أنشــطة الجماعــة‪ ،‬ولــم يتمكــن القمــي المســافر مــن العــودة إلــى مصــر‪.‬‬

‫ـار كارثيــة‪ ،‬إذ «تاهــت حركــة التقريــب الكالســيكية‪ ،‬التــي‬


‫كان الضطرابــات عــام ‪1960‬م آثـ ٌ‬
‫جســدتها جماعــة التقريــب‪ ،‬فــي غياهــب النســيان»(‪ )1‬لغلبــة االعتبــارات السياســية وفــق‬
‫رأي برونــر‪ .‬وظلــت محــاوالت القمــي إلحيــاء الجماعــة تتخبــط يمنــ ًة ويســرة‪ ،‬حتــى‬
‫قامــت الثــورة اإلســامية فــي إيــران‪ ،‬وانقطعــت العالقــات الدبلوماســية مــع مصــر‪،‬‬
‫ومعهــا ذهــب األمــل فــي إحيــاء فكــر التقريــب أدراج الريــاح‪ ،‬ل ُتحــل الجماعــة ويلتجــئ‬
‫ـب مــن‬
‫القمــي إلــى باريــس و ُيتوفــى فــي حــادث ســير فــي عــام ‪1990‬م‪ .‬وينتقــل التقريـ ُ‬
‫المتالعــب بهــا مــن قبــل الــدول‪ ،‬إلــى يــد الــدول‬
‫َ‬ ‫مبــادرات المشــايخ والعلمــاء والنشــطاء‬
‫نفســها وأجهزتهــا ومنظماتهــا‪.‬‬

‫لكن؛ هل من مستقبلٍ للتقريب؟‬

‫ختــم برونــر روايتــه لقصــة التقريــب بيــن الســنة والشــيعة فــي القــرن العشــرين بحكمــه أن‬
‫التقريــب كان «سلســلة مــن اإلحباطــات المتبادلــة» وأن جماعــة التقريــب وفكرهــا فشــا‬
‫بســبب «التناقضــات الداخليــة» فيهمــا‪ .‬ونشــدد مــع برونــر علــى أن الســببين األساســيين‬
‫لفشــل حــركات التقريــب همــا‪ ،‬كمــا ذكرنــا‪ً ،‬‬
‫أول إقصــاء المســائل الخالفيــة األساســية‬

‫((( المرجع السابق‪ ،‬ص ‪.424‬‬

‫‪22‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬


‫وثانيــا إخضــاع فكــر التقريــب للحســابات واالعتبــارات السياســية وارتباطه‬
‫عــن الحــوار‪ً ،‬‬
‫ـة مجتمعيــة للتقريــب تســتقل عــن أي ظهيــر سياســي‪.‬‬ ‫بهمــا‪ ،‬والتراخــي عــن بنــاء جبهـ ٍ‬

‫والســؤال الــذي يثــور بــا ريــب‪ :‬هــل التقريــب ممكــن؟ هــل يمكــن لفكــرة التقريــب‬
‫أن تتجــاوز االعتبــارات السياســية؟ هــل يمكــن لنشــطاء التقريــب التغلــب علــى ميــراث‬
‫الشــحن والتجييــش اإلعالمــي لــدى الجانبيــن؟ وهــل يمكــن ألفــكار الحــوار والتقــارب‬
‫واالعتصــام أن تصمــد أمــام ســلوك الــدول النفعــي المصلحــي المتغافــل عــن أي قيــم‬
‫دينيــة أو أخالقيــة أو إنســانية؟ وهــل فعـ ً‬
‫ـا العــاج الناجــع للفرقــة بيــن المســلمين كمــا‬
‫قــال أســتاذنا العــوا فــي تصديــره هــو «بيــد العلمــاء والفقهــاء والدعــاة ســن ًة وشــيعة‪،‬‬
‫ال بيــد السياســيين ‪ ...‬بمحاولــة جــادة لفهــم مواطــن الخــاف العقــدي أو الفقهــي أو‬
‫التاريخــي‪ ،‬وتحديــد أســبابه ‪ ...‬والتمــاس العــذر للمخالــف بـ ً‬
‫ـدل مــن تخطئتــه أو تفســيقه‬
‫أو تبديعــه أو تكفيــره»؟‬

‫مهمــا مــن فصــول‬ ‫ال يجيبنــا كتــاب برونــر علــى هــذه األســئلة‪ ،‬لكنــه يــروي لنــا فصـ ً‬
‫ـا ًّ‬
‫محنتنــا‪ ،‬مــن بــاب فرقتنــا؛ مبحــث حــب الدنيــا والتكالــب عليهــا(‪!)1‬‬

‫((( روى أبــو داود فــي ســننه عــن ثوبــان مولــى رســول اللــه ﷺ أنــه قــال‪ :‬قــال رســول الله ﷺ‪« :‬يوشــك‬
‫أن تداعــى عليكــم األمــم مــن كل أفــق‪ ،‬كمــا تداعــى األكلــة علــى قصعتهــا»‪ .‬قــال‪ :‬قلنــا‪ :‬يــا رســول‬
‫اللــه‪ ،‬أمــن قلــة بنــا يومئــذ؟ قــال‪« :‬أنتــم يومئــذ كثيــر‪ ،‬ولكــن تكونــون غثــاء كغثــاء الســيل‪ ،‬تُن َتــزع‬
‫المهابــة مــن قلــوب عدوكــم‪ ،‬ويجعــل فــي قلوبكــم الوهــن»‪ .‬قــال‪ :‬قلنــا‪ :‬ومــا الوهــن؟ قــال‪« :‬حــب‬
‫الدنيــا وكراهيــة المــوت»‪.‬‬

‫‪23‬‬ ‫؟ةفيرش ٌةياغ مأ ٌمهوبيرقتلا‬

You might also like