Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 25

‫محمد بن صالح العثيمين‬ ‫شرح األصول الستة‬ ‫شرح كشف الشبهات و األصول الستة‬

‫الستة‬ ‫شرح األصول‬

‫قال المؤلف شيخ اإلسالم‪:‬‬


‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫من أعجب العجاب ‪ ،‬وأكبر اآليات الدالة على قدرة المللك الغالب ستة أصول بينها اهلل تعالى بيانًا واضحًا‬
‫للعوام فوق ما يظن الظانون ‪ ،‬ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم وعقالء بني آدم إال أقل القليل‪.‬‬

‫الشـــرح‬
‫قوله"بســم الله"‬
‫ابتــدأ المؤلــف رحمــه اللــه تعــالى –كتــاب بالبســملة إقتــداء بكتــاب اللــه عــز وجــل فإنــه مبــدوء‬
‫بالبسملة‪ ،‬واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فإنه يبدأ كتبه ورسائله بالبسملة‪.‬‬
‫والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف مؤخر مناسب للمقام تقديره هنا بسم الله أكتب‪.‬‬
‫وقدرناه فعًال ألن األصل في العمل األفعال‪.‬‬
‫وقدرناه مؤخرًا لفائدتين‪:‬‬
‫األولى‪ :‬التبرك بالبداءة باسم الله تعالى‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬إفادة الحصر ألن تقديم المتعلق به يفيد الحصر‪.‬‬
‫وقدرناه مناسبًا ألنه أدل على المراد فلو قلنا مثًال عندما نريد‬
‫أن نق ــرأ كتاب ـًا باس ــم الل ــه نبت ــدئ ‪ ،‬م ــا ي ــدري بم ــاذا نبت ــدئ ‪ ،‬لكن بس ــم الل ــه نق ــرأ أدل على‬
‫المراد‪.‬‬
‫قوله‪" :‬الله"‬
‫لفظ الجاللة علم على الباري جل وعال وهو االسم الــذي تتبعــه جميـع األســماء حــتى إنــه في‬
‫قولــه تعــالى‪} :‬كتــاب أنزلنــاه إليــك لتخــرج النــاس من الظلمــات إلى النــور بــإذن ربهم إلى صــراط‬
‫العزيــز الحميــد اللــه الــذي لــه مــا في الســماوات ومــا في األرض{ ‪{ ،‬ســورة إبــراهيم‪ ،‬اآليتــان‪ .}1،2 :‬ال نقــول إن‬
‫لفــظ الجاللــة (اللــه) صــفة بــل نقــول هي عطــف بيــان لئال يكــون لفــظ الجاللــة تابع ـًا تبعيــة النعت‬
‫للمنعوت ‪ ،‬ولهذا قال العلمـاء أعـرف المعــارف لفــظ (اللـه) ألنــه ال يــدل على أحــد ســوى اللـه عـز‬
‫وجل‪.‬‬
‫قوله‪" :‬الرحمن"‬
‫الرحمن‪ :‬أسم من األسماء المختصة بالله ال يطلق على غيره‪،‬‬
‫ومعناه‪ :‬المتصف بالرحمة الواسعة‪.‬‬
‫قوله‪" :‬الرحيـم"‬
‫الرحيم‪ :‬أسم يطلق على الله عز وجل وعلى غيره‪.‬‬
‫ومعناه‪ :‬ذو الرحمة الواصلة ‪ ،‬فالرحمن ذو الرحمة الواسعة‪ ،‬والرحيم ذو الرحمة الواصــلة فــإذا‬
‫جمعا صار المراد بالرحيم الموصـل رحمتـه إلى من يشــاء من عبـاده كمـا قـال اللـه تعــالى‪} :‬يعــذب‬
‫من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون{ {سورة العنكبوت‪ ،‬اآلية‪ }21 :‬والمراد بالرحمن الواسع الرحمة‪.‬‬
‫قوله ‪ " :‬ومن أعجب العجاب ‪ ،‬وأكبر اآليــات الدالــة على قــدرة المللــك الغالب ســتة أصــول‬
‫‪. .‬إلخ"‬
‫شــيخ اإلســالم محمــد بن عبــد الوهــاب رحمــه اللــه تعــالى لــه عنايــة بالرســائل المختصــرة الــتي‬
‫يفهمها العامي وطالب العلم‪ ،‬ومن هذه الرسائل هذه الرسالة (ستة أصول عظيمة) وهي‪:‬‬
‫األصل األول‪ :‬اإلخالص وبيان ضده وهو الشرك‪.‬‬
‫األصل الثاني‪ :‬االجتماع في الدين والنهي عن التفرق فيه‪.‬‬
‫األصل الثالث‪ :‬السمع والطاعة لوالة األمر‪.‬‬
‫األصل الرابع‪ :‬بيان العلم والعلماء ‪ ،‬والفقه والفقهاء ‪ ،‬ومن تشبه بهم وليس منهم‪.‬‬
‫األصل الخامس‪ :‬بيان من هم أولياء الله‪.‬‬
‫األصل السادس‪ :‬رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة‪.‬‬
‫وهذه األصــول أصــول مهمــة جــديرة بالعنايــة ‪ ،‬ونحن نســتعين باللــه تعــالى في شــرحها والتعليــق‬
‫عليها بما يسر الله‪.‬‬
‫األصل األول‬
‫إخالص الدين لله تعالى وحده ال شريك له ‪ ،‬وبيان ضده الذي هو الشرك بالله‪ ،‬وكــون أكــثر‬
‫القــرآن في بيــان هــذا األصــل من وجــوه شــتى بكالم يفهمــه أبلــد العامــة‪ ،‬ثم لمــا صــار على أكــثر‬
‫األمــة مــا صــار أظهــر لهم الشــيطان اإلخالص في صــورة تنقص الصــالحين والتقصــير في حقــوقهم‪،‬‬
‫وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم‪.‬‬

‫الشرح‬
‫قوله‪" :‬إخالص الدين لله تعالى وحده ال شريك له‪". . . .‬‬
‫اإلخالص لل ــه معن ــاه ‪" :‬أن يقص ــد الم ــرء بعبادت ــه التق ــرب إلى الل ــه تع ــالى والتوص ــل إلى دار‬
‫كرامته" ‪ .‬بأن يكون العبد مخلصًا لله تعالى في قصده مخلصًا لله تعالى في محبته ‪ ،‬مخلصًا للــه‬
‫تع ــالى في تعظيم ــه ‪ ،‬مخلصـ ـًا لل ــه تع ــالى في ظ ــاهره وباطن ــه ال يبتغي بعبادت ــه إال وج ــه الل ــه تع ــالى‬
‫والوص ــول إلى دار كرامت ــه كم ــا ق ــال تع ــالى‪} :‬ق ــل إن ص ــالتي ونس ــكي ومحي ــاي ومم ــاتي لل ــه رب‬
‫وقولــه تعــالى‪:‬‬ ‫{ســورة األنعــام ‪ ،‬اآليتــان‪}163 ،162 :‬‬ ‫العالمين ال شريك له وبــذلك أمــرت وأنــا أول المســلمين{ ‪.‬‬
‫وقول ــه ‪} :‬وإلهكم إل ــه واح ــد ال إل ــه إال ه ــو‬ ‫{سـ ــورة الزمـ ــر ‪ ،‬اآليـ ــة ‪}54 :‬‬ ‫}وأنيب ــوا إلى ربكم وأس ــلموا ل ــه{ ‪،‬‬
‫الرحمن الرحيم{ ‪{ ،‬ســورة البقــرة‪ ،‬اآليــة‪ }163 :‬وقوله ‪} :‬فإلهكم إله واحد فلــه أســلموا{ {ســورة الحج ‪ ،‬اآليــة‪ }34 :‬وقــد‬
‫أرسل الله تعالى جميع الرسل بذلك كما قال تعــالى‪} :‬ومــا أرســلنا من قبلــك من رســول إال نــوحي‬
‫إليــه أنــه ال إلــه إال أنــا فاعبــدون{ {ســـورة األنبيـــاء‪ ،‬اآليـــة‪ . }25:‬وكمــا وضــح اللــه ذلــك في كتابــه كمــا قــال‬
‫المؤلف‪" :‬من وجوه شتى بكالم يفهمه أبلد العامة ‪ ،‬فقد وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫فقــد جــاء عليــه الصــالة والســالم بتحقيــق التوحيــد وإخالصــه وتخليصــه من كــل شــائبة‪ ،‬وســد كــل‬
‫طريــق يمكن أن يوصــل إلى ثلم هــذا التوحيــد أو إضــعافه ‪ ،‬ح ــتى إن رجًال قــال للنــبي صــلى اللــه‬
‫عليه وسلم "ما شاء الله وشئت" فقال النبي صلى اللــه عليــه وســلم "أجعلتــني للــه نــدًا بــل مــا شــاء‬
‫الله وحده"(‪ )1‬فأنكر النبي صــلى اللــه عليــه وســلم على هــذا الرجــل أن يقــرن مشــيئته بمشــيئة اللــه‬
‫تعالى بحرف يقتضي التسوية بينهما ‪ ،‬وجعل ذلك من اتخاذ الند لله عز وجــل ‪ ،‬ومن ذلــك أيضـًا‬
‫أن النبي‬

‫(‪ )1‬أخرجه اإلمام أحمد جـ‪ ، 214‬ص ‪ ، 224‬والنسائي في "عمل اليوم و الليلة" ص ‪ 286‬رقم (‪-994‬‬

‫‪ ، )995‬وعبد الرزاق في "المصنف" جـ‪ ، 11‬ص‪ ،27‬والبخاري في "األدب" المفرد" ص‬


‫صــلى اللــه عليــه وســلم حــرم الحلــف بغــير اللــه وجعــل ذلــك من الشــرك باللــه فقــال صــلى اللــه‬
‫عليــه وســلم ‪" :‬من حلــف بغــير اللــه فقــد كفــر أو أشــرك"(‪ )1‬وذلــك ألن الحلــف بغــير اللــه تعظيم‬
‫للمحلوف به بما ال يستحقه إال الله عز وجل ‪ ،‬وحينما قدم عليه وفد فقالوا‪" :‬يا رسول الله ‪ ،‬يــا‬
‫خيرن ــا وابن خيرنـــا‪ ،‬وسـ ــيدنا وابن سـ ــيدنا" قـــال ‪" :‬يـــا أيهـــا النـــاس قولـــوا بقـــولكم وال يســـتهوينكم‬
‫الشيطان‪ ،‬أنا محمد بن عبد الله ورسوله ‪ ،‬ما أحب أن ترفعوني فــوق منزلــتي الــتي أنزلــني اللــه عــز‬
‫وجل"(‪ )2‬وقد عقد المصنف رحمه الله لذلك بابًا في كتاب التوحيد‪.‬‬
‫فقال ‪" :‬باب ما جاء في حماية المصـطفى صـلى اللـه عليـه وســلم حمى التوحيـد وســده طـرق‬
‫المشرك" ‪.‬‬
‫وكمـا بين اللـه تعــالى اإلخالص وأظهــره بين ضـده وهــو الشــرك فقــال تعــالى‪} :‬إن اللـه ال يغفــر‬
‫وقــال تعــالى‪} :‬واعبــدوا اللــه وال‬ ‫{س ــورة النس ــاء‪ ،‬اآلي ــة‪}116 :‬‬ ‫أن يشــرك بــه ويغفــر مــا دون ذلــك لمن يشــاء{‬
‫{سورة النساء‪ ،‬اآلية‪.}36 :‬‬ ‫تشركوا به شيئًا{‬
‫{ســورة النحــل ‪ ،‬اآليــة‪}36 :‬‬ ‫وقال‪} :‬ولقد بعثنا في كل أمة رسـوًال أن أعبــدوا اللــه واجتنبــوا الطــاغوت{ ‪،‬‬
‫واآليــات في ذلــك كثــيرة‪ .‬ويقــول النــبي صــلى اللــه عليــه وســلم ‪":‬من لقي اللــه ال يشــرك بــه شــيئًا‬
‫دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار"(‪ )1‬رواه مسلم من حديث جابر‪.‬‬
‫والشرك على نوعين‪:‬‬

‫(‪ )1‬أخرجــه اإلمــام أحمــد جـ ـ‪ 2‬ص ‪ ، 125‬وأبــو داود ‪ /‬كتــاب اإليمــان والنــذور ‪ /‬بــاب الحلــف بغــير اللــه‬

‫تعالى‪ ،‬والترمذي ‪ /‬كتاب النذور‪ /‬باب كراهية الحلف بغير الله وقــال ‪ :‬حــديث حســن ‪ ،‬والــبيهقي في "الســنن" ج ـ‬
‫‪ 10‬ص ‪ ، 29‬والبغوي في "شرح السنة" جـ‪ 10‬ص‪ ، 7‬والحاكم في "المستدرك" ج ـ‪ 1‬ص‪ ،65‬وقـال ‪" :‬حـديث‬

‫صحيح على شرط الشيخين"‬


‫(‪ )2‬أخرجه اإلمام أحمد ج ـ‪ 3‬ص ‪ ، 241‬وعبــد ال ـرازق في "المصــنف" ج ـ‪ 11‬ص ‪ ، 272‬والبخــاري في‬

‫"األدب المفرد رقم (‪.)875‬‬


‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ‪ /‬كتاب العلم‪ /‬باب من خص بالعلم قوم ـًا دون قــوم كراهيــة أن ال يفهم ـوا ‪ ،‬ومســلم ‪/‬‬

‫كتاب اإليمان‪ /‬باب من مات ال يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات مشرك دخل النار‪.‬‬
‫النوع األول‪ :‬شرك أكبر مخرج عن الملة وهو‪" :‬كل شرك أطلقه الشارع وهو منــاف للتوحيــد‬
‫منافاة مطلقة" مثل أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة لغــير اللــه بــأن يصــلي لغــير اللــه أو يــذبح لغــير‬
‫الله‪ ،‬أو ينذر لغير الله‪ ،‬أو أن يدعو غير اللــه تعــالى مثــل أن يــدعو صــاحب قــبر ‪ ،‬أو يــدعو غائبـًا‬
‫إلنقاذه من أمر ال يقدر عليه إال الحاضر‪ ،‬وأنواع الشرك معلومة فيما كتبه أهل العلم‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬الشرك األصغر وهو "كل عمل قولي أو‬
‫فعلي أطلــق عليــه الشــارع وصــف الشــرك لكنــه ال ينــافي التوحيــد منافــاة مطلقــة" مثــل الحلــف‬
‫بغير الله فالحــالف بغــير اللــه الــذي ال يعتقــد أن لغــير اللــه تعــالى من العظمــة مــا يماثــل عظمــة اللــه‬
‫مشرك شركًا أصـغر ‪ ،‬ومثـل الريــاء وهــو خطـير قـال فيـه النـبي صـلى اللـه عليـه وســلم ‪" :‬أخــوف مــا‬
‫أخــاف عليكم الشــرك األصــغر فســئل عنــه؟ فقــال الريــاء"(‪ )1‬وقــد يصــل الريــاء إلى الشــرك األكــبر‪،‬‬
‫وقــد مثــل ابن القيم رحمــه اللــه للشــرك األصــغر بيســير الريــاء وهــذا يــدل على أن كثــير الريــاء قــد‬
‫يصــل إلى الشــرك األكــبر‪ ،‬وقــد ذهب بعض أهــل العلم إلى أن قولــه تعــالى‪} :‬إن اللــه ال يغفــر أن‬
‫يشــرك بــه{ {س ــورة النس ــاء‪ ،‬اآلي ــة‪ .}116 :‬يشــمل كــل شــرك ولــو كــان أصــغر ‪ ،‬فــالواجب الحــذر من الشــرك‬
‫مطلقًا فإن عاقبته وخيمــة قــال اللــه تعــالى‪} :‬إنــه من يشــرك باللــه فقــد حــرم اللــه عليــه الجنــة ومــأواه‬
‫فإذا حــرمت الجنــة على المشــرك لــزم أن يكــون‬ ‫{ســورة المائــدة‪ ،‬اآليــة‪}72 :‬‬ ‫النار وما للظالمين من أنصار{ ‪،‬‬
‫خال ــدًا في الن ــار أب ــدًا ‪ ،‬فالمش ــرك بالل ــه تع ــالى ق ــد خس ــر اآلخ ــرة ال ريب ألن ــه في الن ــار خال ــدًا ‪،‬‬
‫وخسر الدنيا ألنه قامت عليه‬
‫الحج ــة وجـــاءه الن ــذير ولكن ــه خســـر لم يســـتفد من الـــدنيا شـــيئًا ق ــال الل ــه تعـــالى‪} :‬ق ــل إن‬
‫{ســورة الزمــر ‪ ،‬اآليــة‪:‬‬ ‫الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة أال ذلك هو الخســران المــبين{‬
‫فخسر نفسه ألنه لم يستفد منها شيئًا وأوردها النار وبئس الــورد المـورود‪ ،‬وخســر أهلـه ألنهم‬ ‫‪.}15‬‬

‫(‪ )1‬أخرجــه اإلمــام أحمــد جـ ـ‪ 5‬ص‪ ، 428‬وابن أبي شــيبة في "اإليمــان" ص‪ 86‬بــاب الخــروج من اإليمــان‬

‫بالمعاصــي ‪ ،‬والهيثمي في "المجمــع" ج ـ‪ 10‬ص‪ 222‬وقــال‪" :‬رواه الطــبراني ورجالــه رجــال الصــحيح غــير عبــد اللــه‬
‫بن شبيب بن خالد وهو ثقة" ‪.‬‬
‫إن كــانوا مؤمــنين فهم في الجنــة فال يتمتــع بهم ‪ ،‬وإن كــانوا في النــار فكــذلك ألنــه كلمــا دخلت‬
‫أمة لعنت أختها‪.‬‬
‫واعلم أن الشــرك خفي جــدًا وقــد خافــه خليــل الــرحمن وأمــام الحنفــاء كمــا حكي اللــه عنــه‪:‬‬
‫}واجنبــني وبــني أن نعبــد األصــنام{ {س ــورة إبــراهيم‪ ،‬اآليــة‪ .}35 :‬وتأمــل قولــه‪} :‬واجنبــني{ ولم يقــل‪" :‬وامنعــني"‬
‫ألن معنى اجنبني أي اجعلني في جانب عبــادة واألصــنام في جــانب أي إجعلــني في جــانب عبــادة‬
‫واألصنام في جانب‪ ،‬وهذا أبلغ من أمنعني ألنه إذا كان في جانب وهي في جانب ‪ ،‬كان أعد ‪،‬‬
‫وق ــال ابن أبي مليك ــة ‪" :‬أدركت ثالثين من أص ــحاب رس ــول الل ــه ص ــلى الل ــه علي ــه وس ــلم كلهم‬
‫يخاف النفاق على نفسه" (‪ )1‬وقال أمير المؤمــنين عمــر بن الخطــاب رضــي اللــه عنــه لحذيفــة ابن‬
‫اليم ــان‪" :‬أنش ــدك الل ــه ه ــل س ــماني ل ــك رس ــول الل ــه ص ــلى الل ــه علي ــه وس ــلم م ــع من س ــمى من‬
‫المنافقين"‬
‫مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم‬
‫بشــره بالجنــة ولكنــه خــاف أن يكــون ذلــك لمــا ظهــر لرســول اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم من‬
‫أفعاله في حياته‪ ،‬فال يأمن النفاق إال منافق ‪ ،‬وال يخاف النفاق إال مؤمن‪ ،‬فعلى العبد أن يحــرص‬
‫على اإلخالص وأن يجاهــد نفســه عليــه قــال بعض الســلف "مــا جاهــدت على اإلخالص" فالشــرك‬
‫أمره صعب جدًا ليس بالهين ولكن اللــه ييســر اإلخالص على العبــد وذلــك بــأن يجعــل اللــه نصــب‬
‫عينيه فيقصد بعمله وجه الله‪.‬‬
‫األصل الثاني‬
‫أمر الله باالجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه‪ ،‬فيبين الله هذا بيانًا شافيًا تفهمه العــوام ‪،‬‬
‫ونهانــا أن نكــون كالــذين تفرقــوا واختلفــوا قبلنــا فهلكــوا‪ ،‬وذكــر أنــه أمــر المســلمين باالجتمــاع في‬
‫الدين ونهاهم عن التفرق فيه ‪ ،‬ويزيده وضوحًا ما وردت به ألسنة من العجب العجــاب في ذلــك‪،‬‬
‫ثم ص ــار األم ــر إلى أن االف ــتراق في أص ــول ال ــدين وفروع ــه ه ــو العلم والفق ــه في ال ــدين ‪ ،‬وص ــار‬
‫االجتماع في الدين ال يقوله إال زنديق أو مجنون‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ‪ /‬كتاب اإليمان ‪ /‬باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو ال يشعر‪.‬‬
‫الشــرح‬
‫قوله‪" :‬أمر الله باالجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه ‪ . .‬إلخ"‬
‫األصل الثاني من األصــول الــتي ســاقها الشــيخ‪-‬رحمــه اللــه تعــالى‪-‬االجتمــاع في الــدين والنهي‬
‫عن التفــرق فيــه ‪ ،‬وهــذا األصــل العظيم قــد دل عليــه كتــاب اللــه تعــالى ‪ ،‬وســنة رســوله صــلى اللــه‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وعمل الصحابة رضي الله عنهم والسلف الصالح رحمهم الله تعالى‪:‬‬
‫أما كتاب الله تعالى‪ :‬فقد قال الله‪-‬عز وجل‪}:-‬يا أيها الذين آمنــوا اتقــوا اللــه حــق تقاتــه وال‬
‫تمــوتن إال وأنتم مس ــلمون واعتصــموا بحبــل اللــه جميع ـًا وال تفرقــوا واذكــروا نعمــة اللــه عليكم إذ‬
‫كمنم أعــداء فــألف بين قلــوبكم فأصــبحتم بنعمتــه إخوانـًا وكنتم على شــفا حفــرة من النــار فأنقــدكم‬
‫منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون{ {سورة آل عمران‪ ،‬اآليتان‪.}102،103 :‬‬
‫وقــال تعــالى‪} :‬وال تكونــوا كالــذين تفرقــوا واختلفــوا من بعــد مــا جــاءهم البينــات وأولئــك لهم‬
‫{ســورة األنفــال‪،‬‬ ‫وقال تعالى ‪ }:‬وال تنازعوا فتفشلوا وتــذهب ريحكم{‬ ‫{سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪.}105 :‬‬ ‫عذاب عظيم{‬
‫{ســورة األنعــام‪ ،‬اآليــة‪}159 :‬‬ ‫وقال تعالى‪} :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شــيعًا لســت منهم في شــيء{‬ ‫اآليــة‪}46 :‬‬

‫وقــال تعــالى‪} :‬شــرع لكم من الــدين مــا وصــى بــه نوحـًا والــذي أوحينــا إليــك ومــا وصــينا بــه إبــراهيم‬
‫{سورة الشورى‪ ،‬اآلية‪.}13 :‬‬ ‫وموسى وعيسى أن أقيموا الدين وال تتفرقوا فيه{‬
‫ففي ه ــذه اآلي ــات نهى الل ــه تع ــالى عن التف ــرق وبين عواقب ــه الوخيم ــة على الف ــرد والمجتم ــع‬
‫واألمة بأسرها‪.‬‬
‫وأمــا داللــة الســنة على هــذا األصــل العظيم‪ :‬فقــد قــال رســول اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم ‪:‬‬
‫"المســلم أخــو المســلم ال يظلمــه وال يخذلــه وال يحقــره‪ ،‬التقــوى ههنــا ‪ ،‬التقــوى ههنــا‪-‬ويشــير إلى‬
‫صدره‪ -‬يحسب امرئ‬
‫من الشر أن يحقر أخاه المسلم‪ ،‬كل المسلم على المسلم حرام دمــه وعرضــه ومالــه(‪ )1‬وفي‬
‫رواي ــة‪" :‬ال تحاس ــدوا ‪ ،‬وال تباغض ــوا‪ ،‬وال تجسس ــوا وال تحسس ــوا وال تناجش ــوا وكون ــوا عب ــاد الل ــه‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ‪ /‬كتاب اإلكراه ‪ /‬باب يمين الرجل لصاحبه ‪ :‬إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه‪،‬‬

‫ومسلم‪ /‬كتاب البر والصلة‪ /‬باب تحريم الظلم‪.‬‬


‫إخوانًا" (‪ )2‬ويقول عليه الصالة والســالم‪" :‬المــؤمن للمــؤمن كالبنيــان يشــد بعضــه بعضـًا" (‪ )3‬وقــال‬
‫عليــه الصــالة والســالم ألبي أيــوب رضــي اللــه عنــه‪" :‬أال أدلــك على تجــارة؟" قــال ‪ :‬بلى يــا رســول‬
‫اللــه‪ .‬قــال ‪" :‬تس ــعى في اإلصــالح بين النــاس إذا تفاس ــدوا ‪،‬وتق ــارب بينهم إذا تباعــدوا" (‪ )4‬وفي‬
‫مقابلــة أمــر النــبي صــلى اللــه عليــه وســلم المؤمــنين بالتحــاب والتــآلف ومحبــة الخــير والتعــاون على‬
‫البر والتقوى وفعــل األســباب الــتي تقــوي ذلــك وتنميــة في مقابلــة ذلــك نهى النــبي صــلى اللــه عليــه‬
‫وسلم عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعــدهم وذلــك لمــا في التفــرق والبغضــاء من المفاســد‬
‫العظيمة فالتفرق هو قرة عين شياطين الجن واإلنس‪ ،‬ألن شياطين اإلنس والجن ال يودون من‪.‬‬
‫أهــل اإلســالم أن يجتمعــوا على شــيء فهم يريــدون أن يتفرقــوا ألنهم يعلمــون أن التفــرق تفتت‬
‫للقوة التي تحصل بااللتزام واالتجاه إلى الله عز وجل‪.‬‬
‫فــالنبي صــلى اللــه عليــه وس ــلم حث على التــألف والتحــاب بقول ــه وفعلــه ‪ ،‬ونهى عن التف ــرق‬
‫واإلختالف الذي يؤدي إلى تفريق الكلمة وذهاب الريح‪.‬‬
‫وأما عمل الصحابة‪ :‬فقد وقــع بينهم رضــي اللــه عنهم االختالف ‪،‬ولكن لم يحصــل بــه التفــرق‬
‫وال العــداوة وال البغضــاء‪ ،‬فقــد حصــل الخالف بينهم في عهــد رســول اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم‬
‫ورسول الله بين أظهرهم فمن ذلك أن النبي صلى اللــه عليــه وســلم لمــا فــرغ من غــزوة األحــزاب‪،‬‬
‫وجــاءه جبريــل يــأمره أن يخـرج إلى بــني قريظـة لنقضـهم العهــد قـال النـبي صـلى اللـه عليـه وســلم ‪:‬‬
‫"ال يصلين أحد منكم العصر إال في بني قريظة" (‪ )1‬فنقول سمعنا وأطعنا‪.‬‬

‫(‪ )2‬أخرجــه البخــاري ‪ /‬كتــاب األدب ‪ /‬بــاب مــا ينهى عن التحاســد والتــدابر ومســلم ‪ /‬كتــاب الــبر والصــلة‪/‬‬

‫باب تحريم التحاسد والتباغض‪.‬‬

‫(‪ )3‬أخرجه البخاري ‪/‬كتــاب األدب‪ /‬بــاب تعــاون المؤمــنين بعضــهم بعض ـًا ‪ ،‬ومســلم ‪/‬كتــاب الــبر والصــلة ‪/‬‬

‫باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم‪.‬‬

‫(‪ )4‬الهيثمي‪ /‬في المجمع جـ ‪ 8‬ص ‪.80‬‬

‫(‪ )1‬أخرج ــه البخ ــاري ‪ /‬كت ــاب الخ ــوف‪ /‬ب ــاب ص ــالة الط ــالب والمطل ــوب راكبـ ـًا وإيم ــاء ‪ ،‬ومس ــلم ‪ /‬كت ــاب‬

‫الجهاد والسير ‪ /‬باب المبادرة والسير بالغزو‪. . . .‬‬


‫ومنهم من قال‪ :‬نصلي في الوقت ألن رسول اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم أراد بــذلك المبــادرة‬
‫واإلســراع إلى الخــروج ولم يــرد تــأخير الصــالة فبلــغ ذلــك النــبي صــلى اللــه عليــه وســلم فلم يعنــف‬
‫أحدًا منهم ولم يوبخه على ما فهم ‪ ،‬وهم بأنفسهم رضي اللــه عنهم لم يتفرقــوا من أجــل أختالف‬
‫الرأي في فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫أما عمل السلف الصالح‪ :‬فإن من أصــول الســنة والجماعــة في المســائل الخالفيــة أ‪ ،‬مــا كــان‬
‫الخالف فيه صادرًا عن اجتهاد وكـان ممـا يســوغ فيـه االجتهــاد فـإن بعضـهم يعــذر بعضـًا بــالخالف‬
‫وال يحمــل بعضــهم على بعض حقــدًا ‪ ،‬وال عــداوة ‪ ،‬وال بغضــاء بــل يعتقــدون أنهم إخــوة حــتى وإن‬
‫حصــل بينهم هــذا الخالف ‪ ،‬حــتى إن الواحــد منهم ليصــلي خلــف من يــرى أنــه ليس على وضــوء‬
‫ويرى اإلمام أنه على وضوء ‪ ،‬مثل أن يصلي خلف شخص أكل لحم إبل وهذا اإلمام يــرى أنــه ال‬
‫ينقض الوضــوء ‪ ،‬والمــأموم يــرى أنــه ينقض الوضــوء فــيرى أن الصــالة خلــف ذلــك اإلمــام صــحيحة‬
‫وإن كان هو لو صالها بنفسه لــرأى أن صــالته غــير صــحيحة ‪ ،‬كــل هــذا ألنهم يــرون أن الخالف‬
‫الناش ــئ عن إجته ــاد فيم ــا يس ــوغ في ــه االجته ــاد ليس في الحقيق ــة بخالف ‪ ،‬ألن ك ــل واح ــد من‬
‫المختلفين قــد تبــع مــا يجب الحقيقــة بخالف ‪ ،‬ألن كــل واحــد من المختلفين قــد تبــع مــا يجب‬
‫عليه إتباعه من الدليل الذي ال يجوز له العدول عنه‪ ،‬فهم‬
‫يــرون أن أخــاهم إذا خــالفهم في عمــل مــا إتباعـًا للــدليل هــو في الحقيقــة قــد وافقهم ‪ ،‬ألنهم‬
‫يدعون إلى إتباع الدليل أينما كان ‪ ،‬فإذا خالفهم موافقة لدليل عنده فهو في الحقيقة قد وافقهم‬
‫‪ ،‬ألنــه تمشــى على مــا يــدعون إليــه ويهــدون إليــه من تحكيم كتــاب اللــه تعــالى وســنة رســوله صــلى‬
‫الله عليه وسلم ‪.‬‬
‫أما ماال يسوغ فيه الخالف فهو ما كان مخالفًا لمــا كــان عليــه الصــحابة والتــابعون‪ ،‬كمســائل‬
‫العقائد التي ضل فيها من ضل من النـاس ‪ ،‬ولم يحصـل فيهــا الخالف إال بعــد القــرون المفضـلة‪-‬‬
‫أي لم ينتشــر الخالف إال بعــد القــرون المفضــلة‪-‬وإن كــان بعض الخالف فيهــا موجــودًا في عهــد‬
‫الصحابة ولكن ليعلم إننا إذا قلنا قرن الصحابة ليس المعنى أنــه ال بــد أن يمــوت كــل الصــحابة ‪،‬‬
‫بــل القــرن مــا وجــد فيــه معظم أهلــه قــال شــيخ اإلســالم بن تيميــة –رحمــه اللــه – "إن القــرن يحكم‬
‫بانقضائه إذا أنقرض أكثر أهله"‪.‬‬
‫فــالقرون المفضــلة انقرضــت ولم يوجــد فيهــا هــذا الخالف الــذي أنتشــر بعــدهم في العقائــد ‪،‬‬
‫فمن خالف ما كان عليه الصحابة والتابعون فإنه عليه وال يقبل خالفه‪.‬‬
‫أما المسائل التي وجد فيها الخالف في عهد الصحابة وكان فيها مساغ لإلجتهاد فال بد من‬
‫أن يكون الخالف فيها باقيًا قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬إذا حكم الحاكم فاجتهــد فأصـاب‬
‫فله أجران ‪ ،‬وإن أجتهد فأخطأ فله أجر" (‪ )1‬فهذا هو الضابط‪.‬‬
‫فــالواجب على المســلمين جميع ـًا أن يكــون أمــة واحــدة وأن ال يحصــل بينــه تفــرق وتحــز ب‬
‫بحيث يتن ــاحرون فيم ــا بينهم بأس ــنة األلس ــن ويتع ــادون ويتباغض ــون من أج ــل أختالف يس ــوغ في ــه‬
‫االجتهاد فــإنهم وإن أختلفــوا فيمــا يختلفــون فيــه فيمــا تقتضــيه النصــوص حســب أفهــامهم فــإن هــذا‬
‫أمــر فيـه ســعة وللـه الحمـد‪ ،‬والمهم إئتالف القلـوب وإتحـاد الكلمـة وال ريب أن أعـداء المســلمين‬
‫يحبون ــه من المس ــلمين أن يتفرق ــوا س ــواء ك ــانوا أع ــداء يص ــرحون بالع ــداوة ‪ ،‬أو أع ــداء يتظ ــاهرون‬
‫بالوالية للمسلمين أو لإلسالم وهم ليسوا كذلك‪.‬‬
‫األصل الثالث‬
‫إن من تمام االجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبـدًا حبشــيًا ‪ ،‬فـبين اللـه هــذا‬
‫بيانًا شــائعًا كافيـًا بوجــوه من أنــواع البيــان شــرعًا وقــدرًا ‪ ،‬ثم صــار هــذا األصــل ال يعــرف عنــد أكــثر‬
‫من يدعي العلم فكيف العمل به‪.‬‬
‫الشرح‬
‫قوله‪" :‬إن من تمام االجتماع السمع والطاعة ‪ . .‬إلخ"‪.‬‬
‫ذكر المؤلف رحمه الله تعالى –أن من تمام االجتماع السمع والطاعة لــوالة األمــر بأمتثــال مــا‬
‫أمروا به وترك ما نهو عنه ولو كان من تأمر علينا عبدًا حبشيًا‪.‬‬
‫قوله‪" :‬فبين الله هذا بيانًا شائعًا كافيًا ‪ . . .‬إلخ"‪.‬‬
‫أمــا بيانــه شــرعًا‪ :‬ففي كتــاب اللــه تعــالى وســنة رســوله صــلى اللــه عليــه وســلم‪ :‬فمن بيانــه في‬
‫كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم‪ :‬فمن بيانــه في كتـاب اللـه تعــالى قولــه تعــالى‪:‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ‪/‬كتاب اإلعتصام بالكتاب والســنة‪ /‬بــاب أجــر الحــاكم إذا أجتهــد فأصــاب أو أخطــأ ‪،‬‬

‫ومسلم‪ /‬كتاب األفضية‪ /‬باب بيان أجر الحاكم إذا أجتهد فأصاب أو اخطأ‪.‬‬
‫}يــا أيهــا الــذين آمنــوا أطيعــوا اللــه وأطيعــوا الرســول وأولي األمــر منكم{ {س ــورة النس ــاء‪ ،‬اآلي ــة‪ .}59 :‬اآليــة ‪،‬‬
‫وقوله ‪} :‬أطيعوا الله ورسوله وال تنازعوا‬
‫وقولــه‪} :‬واعتصــموا‬ ‫{ســورة األنفــال‪ ،‬اآليــة‪}46 :‬‬ ‫فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصــابرين{‬
‫{سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪.}103 :‬‬ ‫بحبل الله جميعًا وال تفرقوا{ ‪-‬‬
‫ومن بيانــه في ســنة رســول اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم ‪ :‬مــا ثبت في الصــحيحين من حــديث‬
‫عبــادة بن الصــامت رضــي اللــه عنــه قــال‪" :‬بايعنــا رســول اللــه صــلى اللــه عليــه وســلم على الســمع‬
‫والطاعة في منشطنا ومكرهنا ‪ ،‬وعسرنا ويسرنا ‪ ،‬وأثره علينا ‪ ،‬وأن ال تنــازع األمــر أهلــه ‪ ،‬قــال إال‬
‫أن تــروا كف ـرًا بواح ـًا عنــدكم من اللــه فيــه برهــان"(‪ .)1‬وقــال عليــه الصــالة والســالم ‪" :‬من رأى من‬
‫أميره شيئًا فليصبر فإنــه من فــارق الجماعــة شــبرًا فمــات فميتتــه جاهليــة"(‪ )2‬وقــال صــلى اللــه عليــه‬
‫وسلم ‪" :‬من خلــع يــدًا من الطاعــة لقي اللــه يــوم القيامــة ال حجــة لــه"(‪ )3‬وقــال ‪" :‬أســمعوا وأطيعــوا‬
‫وإن أمر عليكم عبد حبشي"(‪ )4‬وقال عليه الصالة والسالم‪" :‬على‬
‫المــرء المســلم الســمع والطاعــة فيمــا أحب وكــره إال أن يــؤمر بمعصــية فــإذا أمــر بمعصــية فال‬
‫سمع وال طاعة"(‪ )1‬متفق عليه‪ .‬وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما‪ :‬كنا مع النــبي صــلى اللــه‬
‫عليه وســلم في ســفر فنزلنـا مــنزًال فنـادى منـادي رســول اللـه صـلى اللـه عليـه وســلم الصـالة جامعــة‬
‫فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬إنــه مــا من نــبي بعثـه اللـه إال كـان حقـًا عليـه‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ‪ /‬كتاب الفتن ‪ /‬باب قول النبي عليه الصالة والسالم‪" :‬سترون بعدي امورًا تنكرونهــا" ‪،‬‬

‫ومسلم ‪ /‬كتاب اإلمارة ‪ /‬باب وجوب طاعة األمراء في غير المعصية‪.‬‬

‫(‪ )2‬البخاري ‪ /‬كتاب الفتن ‪ /‬باب قول النبي عليه الصالة والسالم‪" :‬سترون بعدي امورًا تنكرونها" ‪ ،‬ومسلم‬

‫‪ /‬كتاب اإلمارة ‪ /‬باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن‪.‬‬

‫(‪ )3‬رواه مسلم ‪ /‬كتاب اإلمارة ‪ /‬باب وجوب مالزمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن‪.‬‬

‫(‪ )4‬أخرجه البخاري ‪ /‬كتاب األحكام ‪ /‬باب السمع والطاعة لإلمام مالم تكن معصية‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه البخاري ‪ /‬كتاب األحكام ‪ /‬باب الســمع والطاعــة لإلمــام مــالم تكن معصــية ‪ ،‬ومســلم ‪ /‬كتــاب‬

‫اإلمارة ‪ /‬باب وجوب طاعة األمراء في غير معصية‪.‬‬


‫أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم‪ ،‬وينذرهم شر ما يعلمه لهم‪ ،‬وإن أمتكم هذه جعلت عافيتهــا‬
‫في أولهــا‪ ،‬وسيصــيب آخرهــا بالء وأمــور تنكرونهــا‪ ،‬وتجيء فتن يرقــق بعضــها بعض ـًا ‪ ،‬تجي الفتنــة‬
‫فيق ــول المــؤمن ه ــذه مهلك ــتي ‪ ،‬وتجي الفتنــة فيق ــول ه ــذه ه ــذه‪ ،‬فمن أحب أن يزح ــزح عن النــار‬
‫ويدخل الجنة فلتأته منيتــه وهــو يــؤمن باللــه واليــوم اآلخــر‪ ،‬وليــأت إلى النــاس الــذي يحب أن يــؤتي‬
‫إليــه ومن ب ــايع إمام ـًا فأعطــاه صــفقة ي ــده وثمــرة قلبــه فليطع ــه إن أس ــتطاع فــإن ج ــاءه آخ ــر ينازعــه‬
‫فاضربوا عنق اآلخر"(‪ )2‬رواه مسلم‪.‬‬
‫وأمــا بيانــه قــدرًا‪ :‬فإنــه ال يخفي حــال األمــة اإلســالمية حين كــانت متمســكة بــدينها‪ ،‬مجتمعــة‬
‫عليه‪ ،‬معظمة لوالة‬
‫أموره ــا‪ ،‬منق ــادة لهم ب ــالمعروف ‪ ،‬كــانت له ــا الس ــيادة والظه ــور في األرض كمــا قــال تع ــالى‪:‬‬
‫}وعــد اللــه الــذين آمنــوا منكم وعملــوا الصــالحات ليســتخلفنهم في األرض كمــا أســتخلف الــذين‬
‫قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي أرتضى لهم وليبدلنهم من بعــد خــوفهم أمنـًا يعبــدونني ال يشــركون‬
‫‪ ،‬وقال تعالى‪} :‬ولينصرن الله من ينصره إن اللــه لقــوي عزيــز الــذين إن‬ ‫{سورة النور ‪ ،‬اآليــة ‪}55 :‬‬ ‫بي شيئًا{‬
‫مكنــاهم في األرض أقــاموا الصــالة وآت ــوا الزكــاة وأم ــروا ب ــالمعروف ونه ــوا عن المنك ــر وللــه عاقبــة‬
‫األمور{‪{ .‬سورة الحج‪ ،‬اآليتان‪. }40،41 :‬‬
‫ولم ــا أح ــدثت األم ــة اإلس ــالمية م ــا أح ــدثت وفرق ــوا دينهم ‪ ،‬وتم ــردوا على أثمتهم ‪ ،‬وخرج ــوا‬
‫عليهم وكانوا شيعًا نزعت المهابة من قلوب أعدائهم ‪ ،‬وتنازعوا ففشلوا وذهب ريحهم ‪ ،‬وتــداعت‬
‫عليه األمم وصاروا غثاء كغثاء السيل‪.‬‬
‫وصار هذا األصل ال يعرف عند أكــثر من يــدعي العلم والغــيرة على دين اللــه وتــرك العمــل بــه‬
‫ورأى كل فرد من أفراد الرعية نفسه أميرًا أو بمنزلة األمير المنابــذ لألمــير‪ .‬فــالواجب علينــا جميعـًا‬
‫–رعاة ورعية‪-‬أن نقوم بمــا أوجب اللــه علينــا من التحــاب والتعــاون على الــبر والتقــوى‪ ،‬واالجتمــاع‬
‫على المصالح‬
‫لنك ــون من الف ــائزين ‪ ،‬وعلين ــا أن نجتم ــع على الح ــق ونتع ــاون علي ــه‪ ،‬وأن نخلص في جمي ــع‬
‫أعمالنا ‪ ،‬وأن نسعى لهدف واحد هــو إصــالح هــذه األمــة إصــالحًا دينيـًا ودنيويـًا بقــدر مــا يمكن ‪،‬‬

‫(‪ )2‬مسلم ‪/‬كتاب اإلمارة‪ /‬باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء األول فاألول‪.‬‬
‫ولن يمكن ذلك حتى تتفق كلمتنا ونترك المنازعات بيننــا والمعارضــات الــتي ال تحقــق هــدفًا ‪ ،‬بــل‬
‫ربما تفوت مقصودًا وتعدم موجودًا‪.‬‬
‫إن الكلم ــة إذا تف ــرقت ‪،‬والرعي ــة إذا تم ــردت ‪ ،‬دخلت األه ــواء والض ــغائن وص ــار ك ــل واح ــد‬
‫يسعى لتنفيذ كلمته وإن تبين أن الحق والعدل في خالفها وخرجنا عن توجيهات الله تعالى حيث‬
‫يقول‪} :‬يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقائه وال تموتن إال وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل اللــه‬
‫جميع ـًا وال تفرقــوا واذكــروا نعمــة اللــه عليكم إذ كنتم أعــداء فــألف بين قلــوبكم فأصــبحتم بنعمتــه‬
‫إخوانًا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كــذلك يــبين اللــه لكم آياتــه لعلكم تهتــدون{‪.‬‬
‫{سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪. }103 :‬‬
‫فإذا عرفت كل واحد ما له وما عليــه وقــام بــه على وفــق الحكمــة فــإن األمــور العامــة الخاصــة‬
‫تسير على أحسن نظام وأكمله‪.‬‬
‫األصل الرابع‬
‫بيان العلم والعلماء ‪ ،‬والفقه والفقهاء ‪ ،‬وبيان من تشبه بهم وليس منهم ‪ ،‬وقــد بين اللــه هــذا‬
‫األصــل في أول ســورة البقــرة من قولــه‪} :‬يــابني إســرائيل أذكــروا نعمــتي الــتي أنعمت عليكم وأوفــوا‬
‫إلى قولــه‪} :‬يــا بــني إســرائيل أذكــروا نعمــتي الــتي أنعمت‬ ‫{سـ ــورة البقـ ــرة‪ ،‬اآليـ ــة‪}40 :‬‬ ‫بعهــدي أوف بعهــدكم{‬
‫عليكم وأني فضلتكم على العالمين{ ‪{ ،‬ســورة البقــرة‪ ،‬اآليــة‪ .}47 :‬ويزيــده وضـوحًا مــا صـرحت بــه الســنة في‬
‫ه ــذا الكالم الكث ــير ال ــبين الواض ــح للع ــامي البلي ــد ‪ ،‬ثم ص ــار ه ــذا أغ ــرب األش ــياء ‪ ،‬وص ــار العلم‬
‫والفقــه هــو البــدع والضــالالت‪ ،‬وخيــار مــا عنــدهم لبس الحــق بالباطــل ‪ ،‬وصــار العلم الــذي فرضــه‬
‫الله تعالى على الخلق ومدحه ال يتفوه به إال زنديق أو مجنون ‪ ،‬وصــار من أنكــره وعــاداه وصــنف‬
‫في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم‪.‬‬

‫الشـرح‬
‫قوله‪" :‬بيان العلم والعلماء ‪ ،‬والفقه والفقهاء ‪. . .‬إلخ"‬
‫المراد بالعلم (*) هنا العلم الشرعي وهو ‪ :‬علم ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى"‬
‫والعلم الذي فيه المدح والثناء هو علم الشرع‬

‫علم ما أنزله الله على رســوله صـلى اللـه عليـه وســلم من الكتـاب والحكمـة قـال اللـه تعــالى ‪:‬‬
‫}قل هل يستوي الذي يعلمون والذين ال يعلمون إنما يتذكر أولوا األلباب{ ‪{ ،‬سورة الزمر ‪ ،‬اآلية‪ }9 :‬وقال‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم ‪" :‬من يــرد اللــه بــه خــيرًا يفقهــه في الــدين" (‪ )1‬وقــال النــبي صــلى اللــه‬
‫عليه وسلم ‪" :‬إن األنبياء لم يورثوا دينارًا وال درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخــذه أخــذ بحــظ وافــر"‬
‫(‪ )2‬ومن المعلوم أن الذي ورثه األنبياء إنما هو علم الشــريعة‪ ،‬ومــع هــذا فنحن ال ننكــر ان يكــون‬
‫للعلوم األخرى فائدة ‪ ،‬ولكنها فائدة ذات حدين‪ :‬إن أعانت على طاعة الله وعلى نصــر دين اللــه‬
‫وأنتفع بها عباد الله كانت خيرًا ومصلحة ‪ ،‬وقـد ذكـر بعض أهــل العلم أن تعلم الصـناعات فـرض‬
‫كفاية وهذا محل نظر ونزاع‪.‬‬
‫وعلى كل حــال فـالعلم الــذي الثنـاء فيـه وعلى طالبيـه هــو فقــه كتـاب اللـه وســنة رســوله صـلى‬
‫الله عليه وسلم ‪ ،‬وما عدا ذلك فإن كان وسيلة إلى‬
‫خ ــير فه ــو خ ــير ‪ ،‬وإن كــان وس ــيلة إلى ش ــر فه ــو ش ــر‪ ،‬وإن لم يكن وس ــيلة له ــذا وه ــذا فه ــو‬
‫ضياع وقت ولغو‪.‬‬
‫والعلم له فضائل كثيرة‪:‬‬

‫(*) أنظر في هذا الكتاب الفذ لشيخنا "كتاب العلم" ‪ .‬وقد صدر حديثًا‪.‬‬

‫(‪ )1‬أخرجــه البخــاري ‪ /‬كتــاب العلم ‪ /‬بــاب من يــرد اللــه بــه خــيرًا ‪ ،‬ومســلم‪ /‬كتــاب الزكــاة ‪ /‬بــاب النهي عن‬

‫المسألة‪.‬‬
‫(‪ )2‬أخرج ــه اإلم ــام أحم ــد ج ـ ـ‪ 5‬ص‪ ، 196‬وأب ــو داود (‪ )3641‬والترم ــذي (‪ )2681‬وابن ماج ــه (‪)223‬‬

‫والــدرامي (‪ )338‬والبغــوي في " شــرح الســنة" ج ـ ‪ 1‬ص ‪ 275‬بــرقم {‪ ، }129‬والهيثمي في "م ـوارد الظمــآن" {‬

‫‪}80‬ن قال الحافظ في "الفتح" جـ‪ 1‬ص ‪" 160‬وله شواهد يتقوى بها"‪.‬‬
‫منها‪ :‬أن الله يرفع أهل العلم في اآلخرة وفي الدنيا‪ ،‬أما في اآلخرة فإن الله يــرفعهم درجــات‬
‫بحســب مــا قــاموا بــه من الــدعوة إلى اللــه والعمــل بمــا عملــوا‪ ،‬وفي الــدنيا يــرفعهم اللــه بين عبــاده‬
‫بحســب مــا قــاموا بــه قــال اللــه تعــالى‪} :‬يرفــع اللــه الــذين آمنــوا منكم والــذين أوتــوا العلم درجــات{‬
‫{سورة المجادلة‪ ،‬اآلية‪. }11 :‬‬
‫ومنهــا ‪ :‬أنــه إرث النــبي صــلى اللــه عليــه وســلم كمــا قــال النــبي صــلى اللــه عليــه وســلم ‪" :‬إن‬
‫األنبياء لم يورثوا دينارًا وال درهمًا إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"(‪. )1‬‬
‫ومنهــا ‪ :‬أنــه ممــا يبقى لإلنســان بعــد مماتــه فقــد ثبت في الحــديث أن النــبي صــلى اللــه عليــه‬
‫وس ــلم ق ــال‪" :‬إذا م ــات العب ــد أنقط ــع عمل ــه إال ثالث ص ــدقة جاري ــة‪ ،‬أو علم ينتف ــع ب ــه ‪ ،‬أو ول ــد‬
‫صالح"(‪)2‬‬

‫ومنها ‪ :‬أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شــيء من النعم‬
‫إال على نعمتين هما‪:‬‬
‫‪-1‬طلب العلم والعمل به‪.‬‬
‫‪-2‬الغــني الــذي جعــل مالــه خدمــة لإلســالم ‪ ،‬فعن عبــد اللــه بن مســعود رضــي اللــه عنــه قــال‬
‫رس ــول اللــه صــلى اللــه عليــه وس ــلم ‪" :‬ال حســد إال في أثنــتين رج ــل آنــاه اللــه مــاًال فســلطه على‬
‫هلكته في الحق ‪ ،‬ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (‪. )1‬‬
‫ومنهــا‪ :‬أن العلم نــور يستضــيء بــه العبــد فيعــرف كيــف يعبــد ربــه وكيــف يعامــل غــيره‪ ،‬فتكــون‬
‫مسيرته في ذلك على علم وبصيرة‪.‬‬
‫ومنهــا ‪ :‬أن العــالم نــور يهتــدي بــه النــاس في أمــور دينهم ودنيــاهم ‪ ،‬وال يخفى على كثــير من‬
‫الناس قصة الرجل الــذي من بــني إســرائيل قتـل تســعًا وتســعين نفسـًا فســأل رجًال عابــدًا هــل لــه من‬
‫توبــة ‪ .‬فكــأن العابــد أســتعظم األمــر فقــال‪" :‬ال" فقتلــه الســائل فــأتم بــه المئــة ‪ ،‬ثم ذهب إلى عــالم‬
‫(‪ )1‬تقدم أنظر ص ‪.164‬‬

‫(‪ )2‬أخرجه مسلم‪ /‬كتاب الوصية‪ /‬باب ما يلحق اإلنسان من الثواب بعد وفاته‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري ‪ /‬كتاب العلم ‪ /‬باب االغتباط في العلم والحكمة‪ ،‬ومسلم ‪ /‬كتاب المســافرين من كتــاب‬

‫الصالة ‪ /‬باب من يقوم بالقرآن ويعلمه‪.‬‬


‫فســأله فــأخبره أن لــه توبــة وأنــه ال شــيء يحــول بينــه وبين التوبــة‪ ،‬ثم دلــه على بلــد أهلــه صــالحون‬
‫ليخرج إليه‬
‫فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق ‪ ،‬والقصة مشهورة (‪ )1‬فأنظر الفرق بين العالم والجاهل‪.‬‬
‫إذا تــبين ذلــك فالبــد من معرفــة من هم العلمــاء حقـًا ‪ ،‬هم الربــانيون الــذين يربــون النــاس على‬
‫ش ــريعة ربهم ح ــتى يتم ــيز ه ــؤالء الرب ــانيون عمن تش ــبه بهم وليس منهم ‪ ،‬يتش ــبه بهم في المظه ــر‬
‫والمنظر والمقال والفعال‪ ،‬لكنه ليس منهم في النصيحة للخلق وإرادة‬
‫الحق ‪ ،‬فخيار ما عنده أن يلبس الحق بالباطل ويصوغه بعبارات مزخرفة يحسبه الظمــآن مــاء‬
‫حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا ‪ ،‬بل هو البدع والضالالت الذي يظنه بعض الناس هو العلم والفقــه‬
‫وأن ما سواه ال يتفوه به إال زنديق أو مجنون‪.‬‬

‫(‪ )1‬نص القصة‪ :‬عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي اللــه عنــه أن رســول اللــه صــلى اللــه‬

‫عليه وسلم قال‪" :‬كان فيمن قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا فســأل عن أعلم أهــل األرض؛ فــدل على راهب‬
‫فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا فهل له من توبة؟ فقال‪ :‬ال فقتله فكمل بــه امئــة ‪ ،‬ثم ســأل عن أعلم أهــل‬
‫األرض‪ ،‬فــدل على رجــل عــالم فقــال ‪ :‬إنــه قتــل مئــة نفس فهــل لــه من توبــة؟ فقــال‪ :‬نعم ؛ ومن يحــول بينــك وبين‬
‫التوبة؟! أنطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فأعبد الله معهم‪ ،‬وال ترجع إلى أرضــك فإنهــا‬
‫ارض ســوء‪ ،‬فــأنطلق حــتى إذا نصــف الطريــق أتــاه المــوت فأختصــمت فيــه مالئكــة الرحمــة ومالئكــة العــذاب فقــالت‬
‫مالئكة الرحمة ‪ :‬جــاء تائبـًا مقبًال بقلبــه إلى اللــه تعــالى! وقــالت مالئكــة العــذاب ‪ ،‬إنــه لم يعمــل خــيرًا قــط‪ ،‬فأتــاهم‬
‫ملــك في صــورة آدمي فجعلــوه بينهم‪-‬أي حكمـًا –فقــال قيسـوا مــا بين األرضــين فــإلى أيتهمــا كــان أدنى فهــو لــه ‪،‬‬

‫فقاسوا فوجدوه أدنى إلى األرض التي أراد فقبضته مالئكة الرحمة" وفي روايـة الصــحيح‪ :‬فكـان إلى القريـة الصــالحة‬
‫أقــرب بشــبر فجعــل من أهلهــا" وفي روايــة في الصــحيح ‪" :‬فــاوحى اللــه تعــالى إلى هــذه أن تباعــدي وإلى هــذه أن‬
‫تقـربي" ‪ .‬وقــال ‪" :‬قيسـوا مــا بينهمــا‪ ،‬فوجــدوه إلى هــذه أقــرب بشــبر فغفــر لــه" ‪ .‬وفي روايــة ‪" :‬فنــأى بصــدره نحوهــا"‬
‫أخرجه البخاري ‪ /‬كتاب األنبياء‪ /‬باب ما ذكر عن بـني إسـرائيل ‪ ،‬ومسـلم ‪ /‬كتـاب التوبـة ‪ /‬بـاب قبـول توبـة القاتـل‬
‫رقم {‪ }48-47-46‬ج ـ ـ‪ 4‬ص ‪ 2118‬ولمزي ــد من الفائ ــدة راج ــع ش ــرح فض ــيلة ش ــيخنا على ه ــذا الح ــديث في‬
‫"شرح رياض الصالحين"جـ‪ / 1‬كتاب التوبة حديث رقم (‪ )21‬وال يزال العمل فيها جاٍر ‪.‬‬
‫ه ــذا مع ــنى كالم المؤل ــف –رحم ــه الل ــه‪ -‬وكأن ــه يش ــير إلى أئم ــة أه ــل الب ــدع المض ــلين ال ــذين‬
‫يلمــزون أهــل الســنة بمــا هم بريئــون منــه ليصــدوا النــاس عن األخــذ منهم ‪ ،‬وهــذا إرث الــذين طغــوا‬
‫من قبلهم وكذبوا الرسل كما قال الله تعالى‪} :‬كذلك مــا أتى الــذين من قبلهم من رســول اللــه إال‬
‫قالوا ساحر أو مجنون{ {سورة الذاريات‪ ،‬اآليــة ‪ . }52 :‬قال الله تعالى ‪} :‬أتواصـوا بــه بــل هم قـوم طـاغون{ ‪.‬‬
‫{سورة الذاريات‪ ،‬اآلية‪.}53 :‬‬

‫األصل الخامس‬
‫بيــان اللــه ســبحانه ألوليــاء اللــه وتفريقــه بينهم وبين المتشــبهين بهم من أعــداء اللــه المنــافقين‬
‫والفجار ‪ ،‬ويكفي في هذا آية من سورة آل عمران وهي قوله‪} :‬قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني‬
‫يحببكم الله{ {سورة آل عمران‪ ،‬اآلية‪ . }31 :‬اآلية ‪،‬و آية في سورة المائدة وهي قولــه‪} :‬يــا أيهــا الــذين آمنـوا‬
‫من يرتــد منكم عن دينــه فســوف يــأتي اللــه بقــوم يحبهم ويحبونــه{ {ســورة المائــدة‪ ،‬اآليــة‪ . }54 :‬اآليــة ‪ ،‬وآيــة‬
‫في ي ــونس وهي قول ــه ‪} :‬أال إن أولي ــاء الل ــه ال خ ــوف عليهم وال هم يحزن ــون ال ــذين أمن ــوا وك ــانوا‬
‫‪ ،‬ثم صــار األمــر عنــد اللــه أكــثر من يــدعى العلم وأنــه من هــداة الخلــق‬ ‫{س ــورة ي ــونس ‪ ،‬اآلي ــة‪}62 :‬‬ ‫يتقــون{‬
‫وحفــاظ الشــرع إلى أن األوليــاء ال بــد فيهم من تــرك اتبــاع الرســل ومن تبعهم فليس منهم وال بــد‬
‫من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم وال بد من ترك الجهاد فليس منهم ‪ ،‬وال بد من ترك‬
‫اإليمان والتقوى فمن تعهد باإليمان والتقوى فليس منهم يا ربنا نسألك العفو والعافية إنك سميع‬
‫الدعاء‪.‬‬
‫الشـرح‬
‫قوله‪" :‬بيان الله سبحانه ألولياء الله ‪. . .‬إلخ"‬
‫أولياء الله تعالى هم الذين أمنوا به وأتقوه واستقاموا على دينه‬
‫وهم من وص ــفهم الل ــه تعـــالى بقولـــه ‪} :‬أال إن أولي ــاء الل ــه ال خـــوف عليهم وال هم يحزنـــون‬
‫الذين آمنوا وكانوا يتقون{ فليس كل من يدعي الوالية يكــون وليـًا ‪ ،‬وإال لكــان كــل واحــد يــدعيها‬
‫‪ ،‬ولكن يوزن هــذا المــدعي للواليــة بعملــه‪ ،‬إن كــان عملــه اإليمــان والتقــوى فإنــه ولي ‪ ،‬وإال فليس‬
‫بولي وفي دعواه الوالية تزكية لنفسه وذلك ينافي تقوى اللــه عــز وجــل ألن اللــه تعــالى يقــول‪} :‬فال‬
‫تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى{ {سورة النجم‪ ،‬اآلية‪ . }32 :‬فإذا أدعى أنه من أولياء الله فقد زكى نفســه‬
‫وحينئــذ يكــون واقع ـًا في معصــية اللــه وفيمــا نهــاه اللــه عنــه وهــذا ينــافي التقــوى ‪ ،‬فأوليــاء اللــه ال‬
‫يزك ــون أنفس ــهم بمث ــل ه ــذه الش ــهادة‪ ،‬وإنم ــا هم يؤمن ــون بالل ــه ويتقون ــه‪ ،‬ويقوم ــون بطاعت ــه س ــبحانه‬
‫وتعالى على الوجه األكمل ‪ ،‬وال يغرون الناس ويخدعونهم بهذه الدعوى حتى يضلوهم عن س ــبيل‬
‫اللــه تعــالى‪ .‬فهــؤالء الــذين يــدعون أنفســه أحيانـًا اســيادًا ‪ ،‬واحيانـًا أوليــاء لــو تأمــل اإلنســان مــا هم‬
‫عليــه لوجــدهم أبعــد مــا يكونــون عن الواليــة والســيادة فنصــيحتي إلخــواني المســلمين أن ال يغــترون‬
‫بمدعي الوالية حتى يقيسوا حاله بما جاء في النصوص في أوصاف األولياء‬
‫وواليته بما ساقه من اآليات ‪:‬‬
‫اآليــة األولى‪ :‬قولــه تعــالى في آل عمــران ‪} :‬قــل إن كنتم تحبــون اللــه فــاتبعوني يحببكم اللــه{‬
‫وهذه اآلية تسمى آية المحنة أي األمتحــان حيث أدعى قــوم محبــة اللــه تعــالى‬ ‫{ســورة آل عمــران‪ ،‬اآليــة‪}31 :‬‬

‫فأنزل الله هذه اآلية فمن أدعى محبة الله تعالى نظرنا في عمله فإن كان متبعًا لرسول الله صــلى‬
‫الله عليه وسلم فهو صادق وإال فهو كاذب‪.‬‬
‫اآليــة الثانيــة‪ :‬قولــه تعــالى في المائــدة‪} :‬يــا ايهــا الــذين آمنــوا من يرتــد منكم عن دينــه فســوف‬
‫يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه{ ‪{ ،‬سورة المائــدة‪ ،‬اآليــة‪ . }54 :‬اآليتين فوصفهم بأوصاف هي عالمــة المحبــة‬
‫وثمراتها ‪:‬‬
‫الوصف األول‪ :‬أنهم أذلة على المؤمنين فال يحاربونهم وال يقفون ضدهم وال ينابذونهم‪.‬‬
‫الوصف الثاني‪ :‬أنهم أعزة على الكافرين أي أقوياء عليهم غالبون لهم‪.‬‬
‫الوصف الثالث‪ :‬أنهم يجاهدون في سبيل الله أي يبذلون الجهد في قتـال أعـداء اللـه لتكــون‬
‫كلمة الله هي العليا‪.‬‬
‫الوصف الرابع‪ :‬أنهم ال يخافون في الله لومة الئم ‪ .‬أي إذا المهم أحد على مــا قــاموا بــه من‬
‫دين الله لم يخافوا لومته‪ ،‬ولم‬
‫يمنعهم ذلك من القيام بدين الله ع وجل‪.‬‬
‫اآلية الثالثة‪ :‬قوله تعالى في يونس‪} :‬أال إن أولياء الله ال خوف عليهم وال هم يحزنــون الــذين‬
‫فبين الله تعالى أن أولياء الله تعالى هم الذين اتصــفوا بهــذين‬ ‫{سورة يونس‪ ،‬اآلية‪.}62 :‬‬ ‫آمنوا وكانوا يتقون{‬
‫الوصفين‪ :‬اإليمـان والتقــوى فاإليمـان بــالقلب‪ ،‬والتقــوى بــالجوارح ‪ ،‬فمن أدعى الواليــة ولم يتصـف‬
‫بهذين الوصفين فهو كاذب‪.‬‬
‫ثم إن الشيخ‪-‬رحمه الله‪-‬بين أن األمر صار على العكس عند أكثر من يدعى العلم وأنه من‬
‫هداة الخلق وحفاظ الشرع فالولي عنده من ال يتبع الرسل وال يجاهد في سبيل الله وال يــؤمن بــه‬
‫وال يتقيه‪.‬‬
‫ويحس ــن بن ــا أن ننق ــل هن ــا م ــا كتب ــه ش ــيخ اإلس ــالم ابن تيمي ــة رحم ــه الل ــه تع ــالى في رس ــالته‪:‬‬
‫"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" (‪ )1‬ونسوق ما تيسر منها‪:‬‬
‫قال رحمه الله‪" :-‬وقد بين سبحانه وتعــالى في كتابــه وســنة رســوله صــلى اللــه عليــه وســلم أن‬
‫لله أولياء من الناس ‪ ،‬وللشيطان أولياء‪ ،‬ففرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪} :‬أال إن أوليــاء‬
‫الله ال خوف عليهم وال هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا‬
‫يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي اآلخرة ال تبديل لكلمات الله ذلك الفــوز العظيم{‬
‫وذكــر أوليــاء الشــيطان فقــال تعــالى ‪}:‬فــإذا قــرأت القــرآن فاســتعذ باللــه من‬ ‫{ســورة يــونس‪ ،‬اآليــات‪.}64-62 :‬‬ ‫"‬
‫الشــيطان فقــال تعــالى ‪} :‬فــإذا قــرأت القــرآن فاســتعذ باللــه من الشــيطان الــرجيم إنــه ســلطانه على‬
‫الذين يتولونــه والــذين هم بــه مشــركون{ {ســورة النحــل‪ ،‬اآليــات‪ .}100-98 :‬فيجب أن يفــرق بين هــؤالء وهــؤالء‬
‫كمــا فــرق اللــه ورســوله بينهمــا‪ ،‬فأوليــاء اللــه هم المؤمنــون المتقــون ‪ . . . .‬وهم الــذين آمنــوا بــه‬
‫ووال ــوه ‪ ،‬ف ــأحبوا م ــا يحب ‪ ،‬وابغض ــوا م ــا يبغض ‪ ،‬ورض ــوا بم ــا يرض ــى ‪ ،‬وس ــخطوا بم ــا يس ــخط ‪،‬‬
‫ومنعوا من يحب أن يمنع فال يكون وليًا لله إال من آمن به وبما جــاء بــه ‪ ،‬واتبعــه باطنـًا وظـاهرًا ‪،‬‬
‫ومن أدعى محبة الله واليته وهو لم يتبعه أي الرســول فليس من أوليــاء اللــه ‪ ،‬بــل من خالفــه كــان‬
‫من أعــداء اللــه وأوليــاء الشــيطان قــال تعــالى ‪} :‬قــل إن كنتم تحبــون اللــه فــاتبعوني يحببكم اللــه{‬
‫فالن ــاس متفاض ــلون في والي ــة الل ــه ع ــز وج ــل بحس ــب تفاض ــلهم في األيم ــان‬ ‫{سـ ــورة آل عمـ ــران ‪ ،‬اآليـ ــة ‪}31 :‬‬

‫( ‪ )1‬مجموع الفتاوى جـ ‪ ، 1‬ص ‪. 156‬‬


‫والتقوى ‪ ،‬وكذلك يتفاضلون في عداوة الله بحسب تفاضــلهم في الكفــر والنفــاق ‪ . .‬وأوليــاء اللــه‬
‫على طبقتين ‪ :‬سابقون مقربون‪.‬‬
‫وأصحاب يمين مقتصدون ذكرهم الله في عدة مواضع من كتابه العزيز في أول سورة الواقعة‬
‫وآخرهــا ‪ ،‬وفي اإلنســان ‪ ،‬والمطففين ‪ ،‬وفي ســورة فــاطر‪ . . .‬والجنــة درجــات متفاضــلة تفاض ـًال‬
‫عظيمًا‪ ،‬وأولياء الله المؤمنون المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم‪.‬‬
‫فمن لم يتق ــرب إلى اللــه ال يفع ــل الحس ــنات وال ي ــترك الس ــيئات لم يكن من أوليــاء اللــه فال‬
‫يجوز ألحد أن يعتقد أنه ولي للـه ال ســيما أن تكــون محجتـه على ذلــك إمــا مكاشــفة ســمعها منـه‪،‬‬
‫أو نــوع من تصــرف ‪ . . .‬فال يجــوز ألحــد أن يســتدل بمجــرد ذلــك على كــون الشــخص ولي ـًا للــه‬
‫وإن لم يعلم منه مــا ينقض واليــة اللــه ‪ ،‬فكيــف إذا علم منــه مــا ينــاقض واليــة اللــه ‍؟ مثــل أن يعلم‬
‫أنه ال يعتقد وجــوب أتبـاع النـبي صـلى اللـه عليـه وســلم باطنـًا وظـاهرًا ‪ ،‬بــل يعتقــد أنــه يتبـع الشــرع‬
‫الظاهر دون الحقيقــة الباطنـة ‪ ،‬أو يعتقــد أن ألوليـاء اللـه طريقـًا إلى اللـه غـير طريــق األنبيـاء عليهم‬
‫السالم ‪ . . .‬فعلى هذا فمن أظهر الوالية وهو ال يؤدي الفرائض وال يجتنب المحــارم بــل قــد بمــا‬
‫يناقض ذلك لم يكن ألحد أن يقــول هــذا ولي اللــه ‪ . . .‬وليس ألوليــاء اللــه شــيء يتمــيزون بــه من‬
‫األمور المباحات ‪. . .‬‬
‫وليس من شــرط ولي اللــه أن يكــون معصــومًا ال يغلــط وال يخطئ ‪ ،‬بــل يجــوز أن يخفى عليــه‬
‫بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين ‪. . .‬ولهذا لما كان ولي الله يجوز أن‬
‫يغلــط لم يجب على النــاس اإليمــان بجميــع مــا يقولــه من هــو ولي اللــه يجــوز أن يغلــط لم يجب‬
‫على النــاس اإليمــان بجميــع مــا يقولــه من هــو ولي للــه لئال يكــون نبيـًا ‪ . . .‬بــل يجب أن يعــرض‬
‫ذلك جميعه على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فإن وافقه قبله ‪ ،‬وإن خالفــه لم يقبلــه ‪،‬‬
‫وإن لم يعلم أموافــق هــو أم مخــالف؟ توقــف فيــه ‪ ،‬والنــاس في هــذا البــاب ثالثــة أصــناف طرفــان‬
‫ووسط ‪ ،‬فمنهم من إذا أعتقــد في شــخص أنــه ولي للــه وافقــه في كــل مــا يظن أنــه حــدث بــه قلبــه‬
‫عن رب ــه وس ــلم إلي ــه جمي ــع م ــا يفعل ــه ‪ ،‬ومنهم من إذا رآه ق ــال أو فع ــل م ــا ليس بمواف ــق للش ــرع‬
‫أخرجه عن والية الله بالكلية وإن كان مجتهدًا مخطئًا ‪ .‬وخيار األمور أوساطها ‪ :‬هو أن ال يجعل‬
‫معصومًا وال مأثومًا إذا كان مجتهدًا مخطئًا ‪ ،‬فال يتبع في كل ما يقوله ‪ ،‬وال يحكم عليــه بــالكفر‬
‫والفســق مــع اجتهــاده‪ ،‬والــواجب على النــاس اتبــاع مــا بعث اللــه بــه رســوله ‪ . . .‬وقــد أتفــق ســلف‬
‫األمة وأئمتها على أن كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إال رسول الله صـلى اللـه عليـه وســلم وهــذا‬
‫من الفروق بين األنبيــاء وغــيرهم ‪ ،‬فاألنبيــاء صــلوات اللــه عليــه وســالمه يجب لهم اإليمــان بجميــع‬
‫ما يخبرون به عن الله عز وجل وتجب طاعتهم فيما يأمرون به ‪ ،‬بخالف‬
‫األولياء فإنهم ال تجب طاعتهم في كل ما يأمرون بــه‪ ،‬وال اإليمــان بجميــع مــا يخــبرون بــه بــل‬
‫يعــرض أمــرهم وخــبرهم على الكتــاب والســنة فمــا وافــق الكتــاب والســنة وجب قبولــه ‪ ،‬ومــا خــالف‬
‫الكتاب والسنة كان مردودا ص‪ ،‬وإن كان صاحبه من أولياء الله وكان مجتهدًا معذورًا فيما قاله‪،‬‬
‫له أجر على أجتهاده ‪ ،‬لكنه إذا خالف الكتاب والســنة كـان مخطئـًا وكـان من الخطـأ المغفــور إذا‬
‫كــان صــاحبه قــد أتقى اللــه مــا أســتطاع ‪ . . . .‬وهــذا الــذي ذكرتــه من أن أوليــاء اللــه يجب عليهم‬
‫األعتصام بالكتاب والسنة هو مما أتفق عليه أوليــاء اللــه عــز وجــل ومن خــالف في هــذا فليس من‬
‫أولياء اللــه ســبحانه الــذين أمــر اللــه باتبــاعهم ‪ ،‬بــل إمــا أن يكــون كــافرًا ‪ ،‬وإمــا أ‪ ،‬يكــون مفرطـًا في‬
‫الجهل ‪ . . . .‬وكثير من الناس يغلط في هــذا الموضــع فيظن في شــخص أنــه ولي اللــه ‪ ،‬ويظن أ‪،‬‬
‫ولي الله يقبل منه كل ما يقوله ‪ ،‬ويسلم إليــه كــل مــا يقولــه ويســلم إليــه كــل مــا يفعلــه وإن خــالف‬
‫الكتــاب والســنة فيوافــق ذلــك لــه ‪ ،‬ويخــالف مــا بعث اللــه بــه رســوله الــذي فــرض اللــه على جميــع‬
‫الخلــق تصــديقه فيمــا أخــبر ‪ ،‬وطاعتــه فيمــا أمــر ‪ ،‬وجعلــه الفــارق بين أوليائــه وأعدائــه ‪ ،‬وبين أهــل‬
‫الجنة وأهل النار ‪ ،‬وبين السعداء‬
‫واألشــقياء ‪ ،‬فمن اتبعــه كــان من أوليــاء اللــه المتقين وجنــده والمفلحين وعبــاده الصــالحين ‪،‬‬
‫ومن لم يتبع ــه ك ــان من أع ــداء الل ــه الخاس ــرين المج ــرمين فتج ــره مخالف ــة الرس ــول وموافق ــة ذل ــك‬
‫الش ــخص أوًال إلى البدع ــة والض ــالل ‪ ،‬وآخـ ـرًا إلى الكف ــر والنف ــاق ‪ . . .‬وتج ــد كث ــيرًا من ه ــؤالء‬
‫عمـ ــدتهم في أعتقـ ــاده كونـ ــه ولي ـ ـًا للـ ــه أنـ ــه قـ ــد صـ ــدر عنـ ــه مكاشـ ــفة في بعض األمـ ــور ‪ ،‬أو بعض‬
‫التصرفات الخارقة للعادة ‪. . .‬وليس في شيء من هــذه األمــور مــا يــدل على أن صــاحبها ولي للــه‬
‫بــل قــد أتفــق أوليــاء اللــه على أ‪ ،‬الرجــل لــو طــار في الهــواء أو مشــى على المــاء لم يغــتر بــه حــتى‬
‫ينظر متابعتـه لرســول اللـه صـلى اللـه عليـه وســلم وموافقتـه ألمــره ونهيـه ‪ . . .‬وكرامــات أوليـاء اللـه‬
‫تعالى أعظم من هذه األمور ‪ ،‬وهذه األمور الخارقة للعــادة وإن كــان صــاحبها وليـًا للــه فقــد يكــون‬
‫ع ــدوًا لل ــه ف ــإن ه ــذه الخ ــوارق تك ــون لكث ــير من الكف ــار والمش ــركين وأه ــل الكت ــاب والمن ــافقين ‪،‬‬
‫وتكون ألهــل البــدع ‪ ،‬وتكــون من الشــياطين فال يجــوز أن يظن أ‪ ،‬كــل من كــان لــه شــيء من هــذه‬
‫األمــور أنــه ولي للــه ‪ ،‬بــل يعتــبر أوليــاء اللــه بصــفاتهم وأفعــالهم وأحــوالهم الــتي دل عليهــا الكتــاب‬
‫والسنة ويعرفون بنور اإليمان والقرآن وبحقائق اإليمان الباطنة وشرائع اإلســالم الظــاهرة ‪ . . .‬وقــد‬
‫أتفق سلف األمة وأثمتها وسائر أولياء الله تعالى على أن األنبياء أفضل من‬
‫األولياء الذين ليسوا بأنبيــاء وقــد رتب اللــه عبــاده الســعداء المنعم عليهم "أربــع مــراتب" فقــال‬
‫اللــه تعــالى‪} :‬ومن يطــع اللــه والرســول فأولئــك مــع الــذين أنعم اللــه عليهم من النبــيين والصــديقين‬
‫والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا{ {ســورة النســاء‪ ،‬اآليــة‪ . . . }69 :‬ولهم الكرامات الــتي يكــرم اللــه‬
‫بها أولياءه المتقين وخيار أولياء الله كراماتهم لحجة في الدين أو لحاجة بالمســلمين كمـا كـانت‬
‫معجــزات نــبيهم صــلى اللــه عليــه وســلم كــذلك ‪ ،‬وكرامــات أوليــاء اللــه إنمــا حصــلت ببركــة اتبــاع‬
‫رســول اللـه صـلى اللـه عليـه وســلم فهي في الحقيقــة تــدخل في معجـزات الرســول صـلى اللـه عليـه‬
‫وســلم ‪ . . . .‬وممــا ينبغي أن يعــرف أن الكرامــات قــد تكــون بحســب حاجــة الرجــل فــإذا احتــاج‬
‫غليها لضعف اإليمان أو المحتاج أتاه منهــا مــا يقــوى إيمانــه ويســد حاجتــه‪ ،‬ويكــون من هــو أكمــل‬
‫واليــة اللــه منــه مســتغنيًا عن ذلــك فال يأتيــه مثــل ذلــك لعلــو درجتــه وغنــاه عنهــا ال لنقص واليتــه ‪،‬‬
‫وله ــذا ك ــانت ه ــذه األم ــور في الت ــابعين أك ــثر منه ــا في الص ــحابة‪ .‬بخالف من يج ــري على يدي ــه‬
‫الخوارق لهدي الخلق ولحاجتهم فهؤالء أعظم درجة ‪ . . .‬والناس في خوارق العادات على ثالثــة‬
‫أقسام‪:‬‬
‫قســم يكــذب بوجــود ذلــك لغــير األنبيــاء ‪ ،‬وربمــا صــدق بــه مجمًال ‪ ،‬وكــذب مــا يــذكره لــه عن‬
‫كثير من الناس لكونه عنده‬
‫ليس من األولياء‪.‬‬
‫ومنهم من يظن أن كــل من كــان لــه نــوع من خــرق العــادة كــان وليـًا للــه ‪ .‬وكال األمــرين خطــأ‬
‫‪ . . .‬ولهـــذا تج ــد أن هـــؤالء يـــذكرون أن للمشـــركين وأهـــل الكت ــاب نص ــراء يعين ــونهم على قت ــال‬
‫المســلمين وأنهم من أوليــاء اللــه‪ ،‬وأولئــك يكــذبون أن يكــون معهم من لــه خــرق عــادة والصــواب‬
‫القول الثالث وهو أن معهم من ينصرهم من جنسهم ال من أولياء الله عز وجل ‪.‬‬
‫وفيما نقل كفاية إن شاء الله تعالى ومن أراد المزيد فليرجع إلى األصل والله الموفق‪.‬‬
‫األصل السادس‬
‫رد الشـ ــبة الـ ــتي وضـــعها الشـ ــيطان في تـ ــرك القـ ــرآن والسـ ــنة واتبـــاع اآلراء واألهـ ــواء المتفرقـــة‬
‫المختلفــة ‪ ،‬وهي أن القــرآن والســنة ال يعرفهمــا إال المجتهــد المطلــق‪ ،‬والمجتهــد هــو الموصــوف‬
‫بكذا وكذا أوصافا لعلها ال توجد تامة في أبي بكر وعمر ‪ ،‬فإن لم يكن اإلنسان كذلك فليعــرض‬
‫عنهما فرضًا حتمًا ال شك وال أشكال فيه ‪ ،‬ومن طلب الهدى منها فهو إما زنديق ‪ ،‬وإما مجنون‬
‫ألجل صعوبة فهمها فسبحان الله وبحمده كم بين الله سبحانه شــرعًا وقــدرًا ‪ ،‬خلقـًا وأمـرًا في رد‬
‫ه ــذه الش ــبهة الملعون ــة من وج ــوه ش ــتى بلغت إلى ح ــد الض ــروريات العام ــة ولكن أك ــثر الن ــاس ال‬
‫يعلم ــون }لق ــد ح ــق الق ــول على أك ــثرهم فهم ال يؤمن ــون إن ــا جعلن ــا في أعن ــاقهم أغالًال فهي إلى‬
‫األذقان فهم مقمحــون وجعلنــا من بين أيــديهم ســدًا ومن خلفهم ســدًا فأغشــيناهم فهم ال يبصــرون‬
‫وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم ال يؤمنــون إنمــا تنــذر من أتبــع الــذكر وخشــي الــرحمن بــالغيب‬
‫فبشره بمغفرة وأجر كريم{‪{ .‬سورة يس ‪ ،‬اآليات‪. }11-7 :‬‬
‫آخ ــره والحم ــد لل ــه رب الع ــالمين وص ــلى الل ــه على س ــيدنا محم ــد وعلى آل ــه وص ــحبه وس ــلم‬
‫تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين‪.‬‬
‫الشرح‬

‫قول ــه ‪" :‬رد الش ــبهة ال ــتي وض ــعها الش ــيطان في ت ــرك الق ــرآن والس ــنة واتب ــاع اآلراء واأله ــواء‬
‫المتفرقة المختلفة‪. . . .‬إلخ"‬
‫االجتهاد لغة‪ :‬بذل الجهد إلدراك أمر شاق‪.‬‬
‫واصطالحًا ‪ :‬بذل الجهد إلدراك حكم شرعي‪.‬‬
‫واالجتهاد له شروط منها‪- :‬‬
‫‪ -1 -1‬أن يعلم من األدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات األحكام وأحاديثها‪.‬‬
‫‪ -2 -2‬أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه كمعرفة اإلسناد ورجاله وغير ذلك‪.‬‬
‫‪ -3 -3‬أن يع ـ ــرف الناس ـ ــخ والمنس ـ ــوخ ومواقـ ــع اإلجمـ ــاع ح ـ ــتى ال يحكم بمنس ـ ــوخ أو مخـ ــالف‬
‫لالجماع‪.‬‬
‫‪ -4 -4‬أن يعرف من األدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه حتى ال يحكم‬
‫بما يخالف ذلك‬
‫‪ -5 -5‬أن يعــرف من اللغــة وأصـول الفقــه مــا يتعلـق بــدالالت األلفــاظ كالعــام والخـاص‪ ،‬والمطلـق‬
‫والمقيد ‪ ،‬والمجمل والمبين ونحو ذلك ليحكم بما تقتضيه تلك الدالالت‪.‬‬
‫‪ -6 -6‬أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط األحكام من أدلتها‪.‬‬
‫واالجتهاد يتجزأ فيكون في بــاب واحــد من أبــواب العلم ‪ ،‬أو في مســألة من مســائلة ‪ ،‬والمهم أن‬
‫المجتهد يلزمه أن يبذل جهــده في معرفـة الحـق ثم يحكم بمـا يظهــر لــه فـإن أصـاب فلـه أجــران ‪:‬‬
‫أجر على أجتهاده وأجر على إصابة الحق ؛ ألن في إصابة الحق إظهارًا له وعمًال به ‪ ،‬وإن أخطأ‬
‫فلــه أجــر واحــد والخطــأ مغفــور لــه لقولــه صــلى اللــه عليــه وســلم ‪":‬إذا حكم الحــاكم فاجتهــد ثم‬
‫أصــاب فلــه أجــران ‪ ،‬وإذا حكم فاجتهــد ثم أخطــأ فلــه أجــر" (‪ )1‬وإن لم يظهــر لــه الحكم وجب‬
‫عليه التوقف وجاز التقليد حينئذ للضرورة لقوله تعالى‪} :‬فاســألوا أهــل الــذكر إن كنتم ال تعلمــون{‬
‫{ســورة النحــل‪ ،‬اآليــة ‪ . }43 :‬ولهذا قال شيخ اإلسالم ابن تيميــة رحمــه اللــه ‪":‬إن التقليــد بمنزلــة أكــل الميتــة‬
‫فإذا إستطاع أن يستخرج الدليل بنفسه فال يحل له التقليد" وقال ابن القيم رحمه الله في النونيــة‬
‫‪ :‬العلم معرفة الهدى بدليل ما ذاك والتقليد يستويان‬
‫والتقليد يكون في موضعين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكــون المقلــد عاميـًا ال يســتطيع معرفــة الحكم بنفســه ففرضــه التقليــد لقولــه تعــالى‪:‬‬
‫}فاسألوا أهل الذكر إن‬

‫(‪ )1‬رواه البخــاري ‪ /‬كتــاب األعتصــام ‪ /‬بــاب أجــر الحــاكم إذا أجتهــد فأصــاب أو أخطــأ‪ ،‬ومســلم ‪ /‬كتــاب‬

‫األقضية ‪ /‬باب بيان أجر الحاكم إذا أجتهد فأصاب أو أخطأ‪.‬‬


‫كنتم ال تعلمون{ ويقلد أفضل من يجده علمًا وورعًا ‪ ،‬فإن تساوى عنده إثنان خير بينهما‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يقع للمجتهد حادثــة تقتضــي الفوريــة وال يتمكن من النظــر فيهــا فيجــوز لــه التقليــد‬
‫حينئذ‪.‬‬

‫والتقليد نوعان‪ :‬عام وخاص ‪.‬‬


‫فالع ــام ‪ :‬أن يل ــتزم م ــذهبا معين ـًا يأخ ــذ برخص ــه وعزائم ــه في جمي ــع أم ــور دين ــه ‪ ،‬وق ــد أختل ــف‬
‫العلماء فيه‪:‬‬
‫فمنهم من حكى تحريمه لما فيه من اإللتزام المطلق التباع غــير النــبي صــلى اللــه عليــه وســلم‬
‫‪ ،‬وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه الله "إن في القول بوجوب طاعة غير النبي صلى اللــه عليــه‬
‫وسلم في كل أمره ونهيه هو خالف االجماع وجوازه فيه ما فيه" ‪.‬‬
‫والخاص ‪ :‬أن يأخذ بقــول معين في قضـية معينـة فهــذا جــائز إذا عجـز عن معرفـة الحـق ســواء‬
‫االجتهاد سواء عجز عجزًا حقيقيًا ‪ ،‬أو أستطاع ذلك مع المشقة العظيمة‪.‬‬

‫وبهذا أنتهم رسالة األصول الستة فلنسأل الله تعالى‬


‫أن يثيب مؤلفها أحسن الثواب وأن يجمعنا وإياه‬
‫في دار كرمته إنه جواد كريم‬
‫والحمد لله رب العالمين‬
‫وصلى الله وسلم على‬
‫نبينا محمد‬

You might also like