Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 30

‫سم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫البحث عن نخبة داخل النخبة‬


‫يبدو أن كل جيل غرور كامن يجعمو يعتقد انو فتح أبوابا من المعرفة لم يستطيع األوائل الولوج‬
‫في مثميا‪ ،‬واكثر ما يكون ىذا الشعور لدى النخبة بمختمف فروعيم العممية واألدبية‬
‫واإلنسانية‪.‬‬
‫وأذ كان ىذا الشعور مبلئما لمطبيعة التطورية ليذا الكائن وسمة حسنة من سمات الرواد في‬
‫كل عصر‪ ،‬فيو عبلمة عمى (الجمود) من جية أخرى‪ ،‬حينما تكون األبواب الجديدة مجرد بنى‬
‫فوقية‪ ،‬قائمة عمى نفس المبادئ القديمة‪ ،‬ومن شأن ذلك أن (العقل الجماعي) الذي يعي‬
‫األشياء بطريقة خاطئة أحيانا‪ ،‬والذي أتخيط فيو فصيمة ما كاممة من ىذا الخمق كما ىو مقرر‬
‫في عمم االجتماع – من شأنو ىذا العقل أن تتقبل عدواه إلى النخبة نفسيا‪.‬‬
‫وبدال من الجمود عمى مفاىيم خاطئة كما ىو الحال عند العوام ‪ ،‬من الممكن جدا رؤية مفاىيم‬
‫أخرى (راقية) ‪ ،‬جمدت عمييا النخبة دى ار طويبل من غير أن تبلحظ أن التناقضات فييا اكبر‬
‫واشد خطورة من تناقضات العوام ‪ ،‬فيغطي شعورىا بأنيا من النخبة أو ىي النخبة عمى‬
‫شعورىا بتمك التناقضات‪.‬‬
‫ويكون االنتباه إلى ىذا األمر اقل احتماال فيما يكون واجب النخبة الرصد والنقد ‪ ،‬كما في‬
‫نخبة النقد األدبي مثبل حيث يكون واجب (نقد النقد) في احسن األحوال التنبيو إلى الفوارق أو‬
‫األخطاء في أساليب النقد ال أسس النقد نفسو فيذه النخبة مثبل تختار النص بشرط فئة أو‬
‫بأسموب انتقائي يضمن ليا عدم التصادم مع ما تشعر انو من اختصاص نخبة أخرى – كما‬
‫في النصوص التي ليا صمة بالفكر الديني أو الغيبيات أو العقائد مع أن تمك النصوص ىي‬
‫نصوص أدبية من الطراز الراقي ضمن المعايير النقدية ‪ ،‬وىي أذن تيجر النصوص التي تبدو‬
‫أنيا غير أدبية ىجرانا مؤكدا بالرغم من أن الناقد – بالمعنى أال دق حاكم عمى كل إبداع أو‬
‫نشاط أتنساني ذي تأثير معين عمى الخمق ‪ ،‬محدد بنص ‪ ،‬وىذا يقودنا إلى أن المعايير التي‬
‫تحدد ما ىو النص األدبي‪ -‬ىي نفسيا تحتاج إلى مراجعة‪.‬‬
‫وىناك أمر أخر اكثر خطورة – كأن يتحول العمل النقدي كما في ىذا المثال – إلى أن يكون‬
‫ىدفا بحد ذاتو ‪ ،‬واذا كان األمر كذلك فسرعان ما يتحول األدب نفسو عن وجيتو ليكون غاية‬
‫في ذاتو ىو األخر – لمعبلقة (الترقبيو) بينيما والتي اعني بيا أن المبدع يترقب ردود الفعل‬
‫والناقد يترقب منو التغير‪ ،‬وىي احسن أحوال التأثير المتبادل بينيما‪.‬‬
‫واذا اجتمع األمران – أي إذا كان كل منيما غاية في ذاتو انفصمت العبلقة (الترقبيو) وحدث‬
‫ضياع من الجيتين والذي قد يستمر حقبة طويمة قبل أن يفيق أحد من سباتو ويعمن أن كل ما‬
‫قد قيل يعد إسرافا في القراطيس الغير‪.‬‬
‫أن الفكرة التي يطرحيا ىذا (الموجز) لمبحث تتمخص في السؤال آالتي‪:‬‬
‫ىل العالم الحالي يروق لك ؟‬
‫واذا كان الجواب نعم ‪ ،‬فمتترك أذن الحديث عن المعاناة والتغير ومن ثم اإلبداع والنقد ‪ .‬وان‬
‫كان الجواب‪:‬ال‪،‬فمنبحث أذن عن عالم جديد لكن بشرط أن تكون أنت جديدا أو مستعدا لمتجدد‬
‫كمما اقتضت ضرورة العالم الجديد في أسوا األحوال‪.‬‬
‫عبودية االنتماء‬
‫أن السبب الكامن وراء معارضة الناس في كل عصر لما عصر لما جديد سبب نفسي الن من‬
‫شان التجديد أن يفصم ُعرى االنتماء الموىوم‪.‬‬
‫أن المرء يكره الوحدة ويخشاىا… بل ويخافيا… ولدلك فيو يحب االنتماء وحينما تتعدد‬
‫االنتماءات – من األسرة والمدينة والقوم والدين واالختصاص وفئة العمل … إلى آخره‪ ،‬فان كل‬
‫قدر لممرء أن يمتمك‬
‫واحد منيا يسد ثغرة ما في االنتماء األخر يتسرب منيا الضعف‪ ..‬ولو ّ‬
‫انتماء واحدا شديد العزة والمنعة الستغنى عن ىذا التعدد ‪ ..‬أو ضعفت لديو قوة الشعور‬
‫بضرورتو بي انو ال يجد مثل ىذا االنتماء…‬
‫وحينما تخير المرء أن انتماء معينا لو ال حقيقة لو وانو مجرد وىم وتقوم بتنزيف حقيقتو‬
‫وجوده مثبل‪ ..‬أو إظيار وىنو‪ ،‬فانك تحطم واحدة من قوى اال نتماء التي يرتكز عمييا ‪..‬‬
‫ويصعب عميو بطبيعة الحال اإلقرار بصحة قولك ولو مع التمييد النفسي بوجود البديل األقوى‬
‫‪ ..‬ذلك ألنو حتى في ىذه الحالة‪ -‬يتردد في اإلقرار بان ما بذلو من مشاعر أو أتعان ليذا‬
‫االنتماء قد ذىبت ىد ار ‪ ..‬وأذن فيو اكثر صدودا وأعراضا حينما ال يتوفر البديل‪.‬‬
‫تمك مسألة ال يسمم منيا النخبة أخرى داخل ىذه النخبة – ىي فييم اقل عددا ونسبة من‬
‫النخبة إلى العوام‪.‬‬
‫الطريقة التي اتبعتيا تمك النخبة النادرة جدا في الخبلص من االنتماء ىي إنيا اعتبرت‬
‫العبودية لبلنتماء أسوأ من نظام الرق ‪ .‬فان سيدا واحدا مسمطا عمى الحسد في ىذا النظام‬
‫أىون بما ال يقاس من سادة كثيرين وىم (شركاء متشاكسون)‪ -‬كما في التعبير القرآني لكل‬
‫منيم قواعده الخاصة وأىواؤه المسمطة عمى الحس والفكر والشعور‪.‬‬
‫تمخصت طريقة النخبة النادرة بعبارة واحدة ىي‪(:‬الكفر بيؤالء الشركاء) وكان ذلك عندىم يعني‬
‫أن (الحرية التي ال تؤخذ اال السيف وتعطى لغير في المفيوم العام ىي في الواقع بعاجمة‬
‫معكوسة‪ ..‬فيي تعطى أوال لمنفس سمما‪ ..‬ثم يمنح جزء منيا اآلخرين بالقوة‪.‬‬
‫بيذه الطريقة حرر النخبة النادرة أنفسيم من رقبة االستعباد ألي انتماء وكان ىذا النوع من‬
‫التحرر واالنتماء إلى ىذه الفكرة نيو انتماؤىم الوحيد وقد جعميم ذلك يشعرون بالقوة واألمان‬
‫بصورة ال تقاس بما يشعرون بيا غيرىم واصبح حكميم عمى األشياء مختمف جدا وتعاظمت‬
‫نفوسيم بصورة فعمية بحيث انيم لم يحتاجوا إلى تعظيم مفتعل ب(أالنا) ‪ ،‬والضريبة التي‬
‫دفعوىا بالمقابل ىي شعورىم بالغربة‪ ،‬كان ضئيمة جدا مقارنة بغربة النخبة ‪ ،‬فان غربة النخبة‬
‫غربة قاتمة لمنفوس أو مميتة ليا موتا بطيئا‪..‬‬
‫المصف بالحكمة حينما‬
‫ّ‬ ‫أما غربة ىؤالء فيي من نوع آخر‪ ،‬فيي تشبو غربة الرجل الكيل‬
‫يسافر مع مجموعة من الصبيان ‪ ..‬فأقصى ما يبلقيو ىي مشاكسات بعضيم التي تدفعو‬
‫لمغضب خبل ل انتظاره الوصول إلى المحطة‪ ،‬حيث سيمتقي بأمثالو من الحكماء ‪.‬‬
‫ويظير من ذلك إن الحصول عمى الحرية لن يتم في الخارج ونحن نحارب الحرية في داخل‬
‫نفوسنا ‪ .‬أن معادلة الحرية طريفة جدا وغريبة عن مفاىيمنا كل الغرابة ‪ .‬بينما يحقق المرء‬
‫تحرير نفسو من الداخل ‪ ،‬سيكتشف أن الحرية قد تحققت لو في الخارج أيضا‪ ،.‬لكنيا حين‬
‫أذن قد تحققت لو وحده ‪ ..‬فينطمق بعزم أكيد لتحرير اآلخرين‪ ..‬مؤكدا عمى ضرورة تغير‬
‫المفاىيم التي آذنت بتحكم البعض في مصير الحرية قبل تغير شخوص ورموز ىذا البعض‪.‬‬
‫الن بقاء المفاىيم يعني بقاء الشخوص فبل فائدة من تغير الشخوص ‪ .‬بيذه المعادلة أيضا‬
‫أمكن فيم قرار بعض ىذه النخبة القاضي برفض استبلم إدارة التغير عند سنوح الفرصة بالرغم‬
‫من انيم في طميعة الداعين اليو ‪..‬ذلك الن المفاىيم باقية ‪،‬فقبوليم الحكم يعني قبوليم أن‬
‫يكونوا شيئا مفروضا عمى معادلة الواقع فرضا‪.‬‬
‫حوار النفس‬
‫مرت أالن ثبلثون سنة ‪ .‬كنت فييا تتبع خطوات غيرك أنك تظن انك ال تقدر أن تخطو بمفردك‬
‫‪.‬‬
‫وسالت نفسك ‪ :‬أما أن لك أن تحرر فعبل؟ أن تعطي لنفسك كن از ىو بجوازىا و بيا ومكتوب‬
‫باسميا وىو حقيا وحدىا حرمتيا منو سنين طويمة ؟‬
‫ونادى صوت أخرى ‪ :‬إذا لم تنتمي لشيء فسيكون مثمك مثل الحجارة!‬
‫واستطعت أن تسكتو بقولك‪ :‬سأجرب الحالين ألرى في أي منيا أنا حجارة بالفعل؟ وذلك أىون‬
‫الحقوق التي عمى لنفسي‪.‬‬
‫وسألت ثانية ‪ :‬وىل تستمتع فعبل وأنت تشاىد مباراة كرة القدم من دون أدنى شعور بغمبة أحد‬
‫الفريقين؟‬
‫وقبل ذلك ‪ :‬ىل أنت راغب في أن تتحرر إلى ىذا الحد؟‬
‫أجبت‪ :‬نعم!‬
‫وىمس صوت في أذنك ‪ :‬جرب أذن فمعل متعتك بمشاىدة المعبة ستكون اعظم ‪ .‬فان من شان‬
‫الفريق الذي تؤيد أن يشعرك باإلحباط عند ىزيمتو فتضطر إلى اختيار فريق أخر فتحقد عمى‬
‫من كنت تؤيد‪ ،‬وتؤيد من كنت تحقد… وانتماؤك الشديد يجعمك تقاتل بيمجية داخل الممعب ‪،‬‬
‫تكون أحيانا مقاتل الوحوش اكثر رقيا منيا‪ ..‬ألنيا تتقاتل من اجل شيء حقيقي ‪ ،‬وصراعك‬
‫مع الفريق األخر مجرد خدعة ووىم‪..‬‬
‫جرب فمعمك تنتصر عمى الفريقين معا من غير قتال بدال من أن تستجدي جزء ضئيبل من‬
‫انتصار أحدىما عمى األخر بمراىنة حقيرة‪..‬لتحسبو انتصا ار لك ‪ .‬جرب وال تجعل حضك وعقمك‬
‫وقمبك رىن كرة تتقاذفيا األقدام‪.‬‬
‫منطق خاص جدا بموم النفس‬
‫أنت من ثبلثين سنة عشت فييا جبا ار‪ -‬رغم اعتراف الجميع بتواضعك وسمو أخبلقك!…‬
‫ألنك تفكر في أن تجعل الناس كميم يفكروا بطريقتك ‪ ..‬وتشتيي أن تحمميم حمبل عمى ذلك لو‬
‫قدرت!‬
‫واإللو نفسو لم يفعل فعمك ‪ ..‬بدليل انو لو شاء أن يحمل الخمق كميم عمى أمر لفعل فمماذا ال‬
‫يفعل مع أن ما يحمميم عميو ىو الحق ‪،‬ومع انو جبار حقيقي؟ ذلك ألنو ال يسمب ما وىب !‬
‫فقد وىب الحرية أراد ليا أن تبقى ‪ ..‬فبيا وحدىا يقرر المرء مصيره ‪ ،‬واذا كان يحاسب فيما‬
‫بعد ويعذب فبيا يحاسب ويعذب ‪ ..‬أما أنت فتريد سمب ما لم تيب ‪ ،‬وتنازل عما وىبت وشتان‬
‫بين فعمك وفعمو رغم ادعاءك انو مثمك األعمى فيما أنت تيب لآلخرين حريتيم من حيث سمب‬
‫حرية نفسك‪ ..‬ثم تعود لتيبيا لنفسك من حيث تسمبيا عن غيرك ‪ .‬فأنت في دوامو مستديمة‬
‫وخدعة مستمرة ‪ ..‬كل ذلك ألنك اتبعت البعض وكفرت بالبعض األخر… ومثمما يقول ﮔامو ‪:‬‬
‫إذا لم تعبد اهلل فانك ستعبد غيره شئت أم أبيت ألنك ال تستطيع أن تعيش من غير رب!‬
‫لكن كامو ال يدري أن األمر كمو في ىذا الفصل ‪ ..‬وأنت أالن تدري انو من المرجح أن تعبد‬
‫البعض وتكفر بالبعض األخر ويكون الرب الحقيقي في إحدى المجموعتين‪.‬‬
‫اعمم انك كنت تعنف أولئك الذين يريدون فرض آراءىم ‪ .‬اعمم انك تظير محاميا عن حرية‬
‫الرأي ‪ ،‬واعمم انك بينما تعرض آراءك التي تمسكت بيا بشدة _ كنت تعرضيا عمى إنيا مجرد‬
‫خيارات مطروحة أمام السامع ‪ ..‬كل ذلك بيد انك طاغية رغم ذلك ‪ ،‬ألنك لم تنتخب من اآلراء‬
‫اصدقيا ومن األقوال أحسنيا وال تغضب حينما تضيع الحقيقة مع ( حرية الرأي) ‪ ،‬وال حينما‬
‫تضيع الحرية بمجاممة االراءالمتناقضة ‪ ..‬فأنت تمثل ىذا الدور تمثيبل ‪ ..‬لتظير ديمقراطيا ‪..‬‬
‫أنت في الواقع جبلد ديمقراطي يقف عمى مذبح الحرية تارة ومذبح الحقيقة تارة أخرى وينادي‬
‫بيا معا‪.‬‬
‫القرآن‬
‫قصتي مع ّ‬
‫كنت قد تعمقت بيذا الكتاب منذ الطفولة وحتى األعوام األخيرة ‪ ،‬أتمو آياتو مع نفسي واحفظ‬
‫الكثير من مقاطعيا ‪ ..‬وكان يسمو عمى كل كبلم أخرى تسمعو أذني ‪ ..‬وقد طغى عمى ولعي‬
‫بالشعر فاضعف ىذا الجانب أو كاد يقضي عميو‪.‬‬
‫وكن ىناك سؤال ظير في الطفولة اذكر زمانو ومكانو جيدا ‪ ..‬وكنت وحدي في ارض أرعى‬
‫غنما‪ ،‬وفي العطمة كنت احمل كالعادة كتابا_ أقراه تقميدا آلخي األكبر قارئ الكتب – عمى أمل‬
‫أن أجد فيو أشياء ما كان يحكييا ‪ ،‬واحمل كذلك مصحفا صغي ار إلشباع فيمي من قصار‬
‫وأواسط السور حينما يعيني فيم شيء من ذلك الكتاب ‪ .‬كنت اعجب أن يكون القرآن األقدم‬
‫أسموبا أوضح واكثر جماال من كتب ال زال أصحابيا أحياء‪.‬‬
‫يوميا وبعد قراءة إحدى السور مرات عديدة بصوت عالي يسمح بو خمو األرض الفسيحة من‬
‫الناس متمرغا بيا بنغمات عديدة بحسب ما اشتييو شعرت شعو ار قويا بان ىذا الكبلم ال يمكن‬
‫أن يكون اال كبلم الخالق حقا‪.‬‬
‫وعند أذن أدىشني أمر فكرت فيو طويبل لببل جدوى‪.‬‬
‫فقد وضعت إمام نفسي سؤاال عددتو وجييا حينيا ‪ ..‬ولكنو لم يختفي من حياتي بالمرة كما‬
‫سترى ‪.‬السؤال ىو‪:‬إذا كان ىذا الكبلم ىو كبلم اإللو الذي خمق العالم فمماذا ال يباه بو الخمق ‪،‬‬
‫وال يمنحو االىتمام البلزم ؟‬
‫وال يمكن بالطبع فيم أىمية ىذا السؤال اال يتصور محدد – خبلصتو‪ :‬أن ىذا العالم لم يكن‬
‫فأوجده الخالق … ثم بعد ذلك تكمم الخالق‪ ..‬فنفترض أن ىذه الكائنات تنصت إلى ىذا الكبلم‬
‫وتفيم ما فيو‪ ..‬ألنو من المؤكد أن ىذا الكبلم غايتو اإلجابة عمى كل سؤال وحل كل معضمة‬
‫وقضاء واالفمن يكون كبلم اإللو مختمفا بشيء عن أي كبلم لمواعظين والناصحين وما أكثرىم‬
‫فالفارق بينو وبين أي كبلم آخر ىو كالفارق بين الخالق والمخموق‪ .‬وان لم يقدر الخالق عمى‬
‫وضع كبلم لو ىذا الصفة والقدرات ‪ ..‬فيو أذن عاجز ‪ ..‬بل غير ذكي إذ األولى أن ال يتكمم‬
‫أصبل‪ ..‬خشيت أن يقارن بالمخموق من خبلل التشابو بين كبلمو وكبلميم‪.‬‬
‫أيكون فيو تمك القدرات والناس ال يعممون؟ أما انيم ال يفكرون بالمر بطريقتي وال يحسبون أن‬
‫التشابو بين الكبلميين معناه سقوط صفة األلوىية ؟ أما انيم يشكون في كونو كبلم الخالق ؟‬
‫أم انيم درسوه بيذا المعنى فما وجدوه يحل ليم مشكمة حقيقية أو يجيبيم عمى معضمة أو‬
‫يأتي برزق أو يمنع من كد وتعب؟‬
‫وسألت نفسي – إذ بالغت عنزة من عنيزاتي في وقاحتيا‪ ..‬وىي تقطع عمي تأمبلتي‪ -‬كيف‬
‫كان النبي (ص) يأمر الحيوانات فتطيعو حسب ما يقولون؟‬
‫ولماذا انفرد ىو بيذه القدرة دوننا ‪ ،‬بل لمماذا أظيرىا وتركنا نعاني من إزعاج العنيزات‬
‫الوقحات؟‬
‫رأيت في تمك المحظة جاء مسرعا من بعيد وانيمك في عممو! وقمت في نفسي انو بالتأكيد ال‬
‫يفكر بما أفكر فيو‪ ..‬وألنو انيمك في عممو برغبة شديدة ‪ ،‬وال أظنو يرى أي احتمال لتحقيق‬
‫مراده بطريق أخر‪.‬‬
‫افترضت كإجابة مؤقتة أن منافع ىذا الكتاب ىي كذلك وليست كذلك حبل لؤلشكال وجمعا‬
‫لممتناقصات ‪ .‬فيو كذلك حينما تكون تمك ىي النتيجة النيائية‪ ،‬فيو يحققيا ولكن في العالم‬
‫األخر‪.‬‬
‫وأما ىنا فيو كتاب يدل عمى الطريقة الصحيحة التي تودي إلى الحصول عمى جنة ذلك العالم‪.‬‬
‫شعرت بان ذلك يؤدي إلى التناقض مع مقدماتي كميا ‪ ..‬فقد رجع األمر إلى ما كان وىو أن‬
‫ىذا الكتاب ال يحل شيئا أالن وال يختمف بالتالي عن كبلم المخموق ‪ ،‬وشعرت أيضا أن جنة‬
‫العالم األخر ليست من نتائجو المباشرة وىو نقيض ما أردتو‪ ،‬ولكني اسكت ىذا الصوت‬
‫باعتبار أن إجابتي ال تطابق المباءى العامة فقط بل ىي ما أجمعت عميو األمر بعممائيا‬
‫واغذاذىا ‪.‬وتحث لي صوت خفي قائبل ‪ :‬لم ال تضيف إلى االحتماالت السابقة احتماال آخر‬
‫يقول أن الناس ال يدركون أن ىذا الكتاب يمكن أن يخمصيم من العناء كمو في ىذا الحياة ‪..‬‬
‫وان فيم القضية عمى ىذا النحو قد خفي عمييم؟ في تمك المحظة نظرت إلى نفسي فرأيت صبيا‬
‫قرويا ممطخ الثوب برجمين مميئة بالطين والتراب ونعمين أحدىما مقطوع الشع وطولو اقصر من‬
‫العصى التي يحمميا! فضحكت بقيقية عالية إذ وجدتني افترض أن ىذا الصبي قد يكون‬
‫مكتشفا ألمر فات ألوف العمماء لعشرات القرون في اكثر قضية بحثوا فييا وكتبوا وتناقشوا ‪..‬‬
‫وكانت الضحكة مجمجمة لدرجة أني خشيت أن يسمعني الرجل البعيد فيظني قد جننت ‪ .‬وىي‬
‫ضحكة أسكتت ذلك الصوت ثبلثين سنة أخرى‪.‬‬
‫رجعت إلى إجابتي فو ار لعززىا‪ ..‬خشية أن ينتابني غرور يؤدي إلى الجنون ‪ ،‬وساعدت نفسي‬
‫عمى ذلك بافتراض إجابة أخرى ألعمميا تجعل اإلجابة األولى اكثر قوة‪ ..‬وىكذا كبرت وكبرت‬
‫اإلجابة معي‪ ..‬حتى بمغت مبمغ الرجال ودخمت حمبة المجادالت كنت قد اكتنزت كما ىائبل من‬
‫الدالئل عمى عظمة ىذا الدين في تنظيم الحياة وكما آخر من تفاىة الحياة وضرورة إنياءىا‬
‫بالحسنى وبما آمر اهلل وما أحسست بعد ذلك بيذا التناقض ‪..‬ألنو ما أن يظير الحق قرنو‬
‫حتى اكسره بفمسفة الباطل ببل ىوادة‪.‬‬
‫وتمك فمسفة الباطل ببل شك ال فمسفة الدين‪ :‬ىل الحياة تافية والجواب نعم‬
‫ىل الدين يصمح الحياة وييتم بيا والجواب ‪:‬نعم انو احسن من اىتم بالحياة ونظميا ‪.‬فأذا‬
‫كانت تافية والتساوي جناح بعوضة ‪..‬فمماذا اعتنى بيا ونظميا؟‬
‫السنوات االخيرة‬
‫نيت بيا‬ ‫َّ‬
‫استغل فرص َة المصائب الكثيرة التي ُم ُ‬ ‫وفي السنوات األخيرة الماضية خطر في بالي أن‬
‫أدخل ذاكرة التاريخ كأحد (المؤلفين)‬
‫َ‬ ‫كنت ألريد أن‬
‫احد من المشاريع المؤجمة‪ .‬وما ُ‬‫أي و ٍ‬
‫لتنفيذ ِّ‬
‫ىق‬ ‫ٍ‬
‫طويل إن ال أُر َ‬ ‫مت من ُذ زمن‬ ‫ٍ‬
‫اكيدة‪ ،‬أو قضية جديدة‪ .‬فقد تعمّ ُ‬ ‫ما لم أفعل شيئاً ذا م ٍ‬
‫نفعة‬
‫كتاب ٍ‬
‫جديد ليس فيو إالَّ الترديد لما كتبو اآلخرون في الزمن القريب أو‬ ‫عقول الخمق بعنوان ٍ‬
‫َ‬
‫ات‪ ،‬فعزمت عمى البدء بأحدىا‪.‬‬ ‫عدةُ خيار ٍ‬
‫البعيد‪ .‬وكانت أمامي َّ‬
‫ألن أكثر الناس قبمي قد تحدَّثوا عن الخير بما‬
‫فكرةُ ىذا الخيار ىي (التحدُّث عن الشر)‪َّ ،‬‬
‫الشر فقمي ٌل َّ‬
‫جداً من حاول الكتاب َة عنو كموضوٍع يجمعُ بين رأي االجتماع والدين‬ ‫أما ُّ‬
‫يكفي‪َّ .‬‬
‫ٍ‬
‫محاولة لصير ىذه الفروع جميعاً‬ ‫والفمسفة والتربية والنفس في عموميا المختمفة‪ .‬وذلك في‬
‫وحب‬
‫تبعث فييا األمل واالطمئنان َّ‬
‫ُ‬ ‫نفس كل قارئ‬ ‫بوتقة و ٍ‬
‫احدة واستخبلص فكرٍة موثرٍة في ِ‬ ‫ٍ‬ ‫في‬
‫تاريخ يمكن‬
‫َ‬ ‫ادث يمكن تأويميا أو‬ ‫الشر‪ ،‬واظيار صورتو القبيحة ال كحو َ‬ ‫الخير من خبلل تجسيد ِّ‬
‫كنصائح تثير‬ ‫ٍ‬
‫ومممول من كثرة التكرار‪ ،‬وال‬ ‫كوعظ ٍ‬
‫خال من التأثير‬ ‫ٍ‬ ‫الشك أو التشكيك فيو‪ ،‬وال‬ ‫ُّ‬
‫َ‬
‫نفس ِو‬
‫الشر ِ‬‫أس ُو بااليجاب ظاى ارً ويمقتَيا باطناً‪ ،‬بل رؤياً لحقيقة ِّ‬ ‫في السامع اعت از ازً َّ‬
‫لييز ليا ر َ‬
‫ٍ‬
‫مرئية باأللوان بعيداً عن‬ ‫شاشة و ٍ‬
‫اسعة وكبيرٍة‬ ‫ٍ‬ ‫كب ارً ليذا الصورة عمى‬‫مجسداً بصورتو ىو‪ُ :‬م ِّ‬‫َّ‬
‫عدواً ال شريكاً وغاد ارً ال ذكياً‪ ..‬ومتآكبلً متيالكاً في أكل‬
‫يذعر منو باعتباره َّ‬ ‫َ‬ ‫القارئ‪ ،‬وذلك كي‬
‫قائمة عمى أساس مداعبة المشاعر الداخمية‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫تربوية‬ ‫غيره قبل موتو‪ .‬وبذلك يمكن تنفي ُذ فكرٍة‬

‫بقوٍة أكبر‪ .‬فبل َ‬


‫ثناء عمى الخير ألنَّ ُو‬ ‫لتظير َّ‬
‫َ‬ ‫الخيرة إن كانت موجودةً‬
‫لمنفس بإثارة نوازعيا ِّ‬
‫لممتأص ِل ال خبلص من‬
‫ِّ‬ ‫عدواً‬
‫الشر باعتباره َّ‬
‫التحذير من ِّ‬
‫ُ‬ ‫المتأص ُل في النفس‪ ،‬وا َّنما ىو‬
‫ِّ‬ ‫الطبعُ‬
‫َخ َ َّ‬
‫ممكن‪ .‬وىو شيء ال تخبر القارئ بو‪ ،‬بل سيكون‬ ‫ٍ‬ ‫ط ِرِه إال بتكبير الخير إلى أقصى ً‬
‫مدى‬
‫استنتاجاً من القارئ نفسو ال محيص لو عنو‪.‬‬
‫مؤيداً لي وآلرائي ـ كما جرت‬
‫ألجعل ىذا البحث ِّ‬
‫َ‬ ‫أمر (المنافقين) في القرآن‬
‫وحينما بحثت في َ‬
‫وجدت خمس عشرة‬‫ُ‬ ‫قر ِر‪ .‬فقد‬
‫الم َّ‬
‫الحد ُ‬
‫البحث عن ِّ‬
‫ُ‬ ‫توس َع‬
‫العادةـ ورابطاً ليذه العموم جميعاً‪َّ ..‬‬
‫كنت قد‬
‫اضيع ُ‬
‫اضطرني الى إعادة النظر بمو ٍ‬ ‫َّ‬ ‫صف ًة من صفات ىؤالء مبثوث ًة في اآليات َّمما‬
‫س ِم َّي فيما بعد ( معالجة القرآن لؤلمراض‬‫خاص ُ‬
‫ٍّ‬ ‫فصل‬ ‫ِ‬
‫وتنظيم ٍ‬ ‫قرأتيا سابقاً في عمم النفس‪،‬‬
‫المقرر أن تكون في حدود ثبلثين صفحة‪ ..‬جعميا‬
‫َّ‬ ‫النفسية لممنافقين)‪ .‬وقد جعل ذلك المقدِّم َة‬
‫ألن جميع ذلك كان ضمن الشرط االول‪:‬‬
‫ما يقرب من مئتي صفحة‪ .‬ولم استطع االختصار َّ‬
‫(المعارف الجديدة‪).‬‬
‫يوقف الشعور الداخمي‬
‫ْ‬ ‫فإن ىذا اإلسراع و َّ‬
‫الجد في تسجيل ىذه المعارف الجديدة لم‬ ‫ومع ذلك َّ‬
‫ٍ‬
‫شيء آخر أكبر ال أدري ما ىو‬ ‫المتنامي خبلل األيام السبعة أو الثمانية لكتابة المقدمة بوجود‬
‫عمي‬
‫ليمقي َّ‬
‫َّ‬ ‫الشيء الذي ال أدري ما ىو قد َك َب َر بما يكفي‬
‫ُ‬ ‫بعد‪ .‬حتى إذا انقضت تمك األيام كان‬
‫بقوٍة ألراه‪.‬‬
‫احممق َّ‬
‫َ‬ ‫أحاول أن‬
‫أؤج َل الفكرة و َ‬
‫العمل و ِّ‬
‫َ‬ ‫ظبلِّ كثيفاً غمرني وجعمني أوقف‬
‫أن ىذا‬
‫ال يمكن بالطبع وصف ىذا اإلحساس في حينو‪ ،‬بل وبعد حينو‪ .‬لكن يمكن القول َّ‬
‫ٍ‬
‫عجبية‬ ‫ٍ‬
‫بطريقة‬ ‫اآليات وردت فييا ألفاظٌ معيَّن ٌة اتَّ ْ‬
‫صمت مع بعضيا‪ ،‬وتناوبت وتبادلت وتداخمت‬
‫تجعمك مستم ارً في االستنتاج‪ ،‬وال تدري متى تنتيي كشوفاتك منيا‪ ،‬وال تصحيحات معارفك‬
‫القديمة!‪ ،‬كما وال تدري معيا كيف تشرح لمقارئ كيفية تأييد بعضيا لمبعض‪ ،‬وتأييدىا لمعموم‬
‫األخرى أو تأييد العموم ليا‪ .‬وكان مثمي معيا كمثل َر ُج ٍل قال‪ُ :‬‬
‫أركب قارباً في ىذا النير‬
‫النير الى آفاق المحيط!!‬
‫ُ‬ ‫فأصطاد سمكاً!‪ .‬فأخذه‬
‫ُ‬ ‫ليوصمني الى البحيرة‬
‫البحث عن الشيء اآلخر‬
‫كانت العادة قد قضت عند مواجية صعوبة ما في حل مسألة معقدة ان اقوم بوضع مجموعة‬
‫من االسئمة المبلئمة ومحاولة االجابة عمييا وكانت تمك الطريقة في النياية ىي التي ياتي في‬
‫الحل المبلئم واذن فقد ادركت ان عمي العودة الى طريقتي تمك ‪.‬عندما اعياني كشف الشيء‬
‫االخر الذي غمرني بظممو‪.‬‬
‫ان اآلراء النحوية واالجوبة التفسيرية‪ .‬متوفرة لدي عن كل اية قرآنية فيي مزبورة بصورة ما‬
‫في تفسير واحد موسع او اكثر‪ ،‬والشيء الذي ابحث عنو ىو شيء اخر يخصني وحدي‬
‫باعتباره نوعا من الحدس المؤكد الذي يقض المضاجع وىذا الحدس بمفرده كان يغمرني‬
‫بالسعادة ايضا‪ ..‬قبل ان اعمم ما ىو ‪ ..‬ذلك ان كل تركيب قرآني يأخد بمجامع قمبي ‪ ..‬كان‬
‫يتضاءل ويتحجم عند قراءة اوجو التفسير والنحو المتعمقة بو ويظير كما لو كان اقل بما ال‬
‫يقاس من حجمو الحقيقي ‪ ،‬او حجمو الذي احسو في االقل ‪ ..‬فجاء الياجس الجديد ليؤكد لي‬
‫احتمالية جديدة في وىم التغير ال وىم التصور االول عن النص‪.‬‬
‫وضعت االسئمة المبلئم عمى ىذا النحو‪:‬‬
‫ىل الشيء الذي تبحث عنو حقيقي ام مجرد وىم؟‪ .‬ما نسبة االحتمال؟‬
‫وكان االجواب ‪ :‬نعم انو شيء حقيقي‪.‬‬
‫والسؤال الثاني‪ :‬ربما يكون ىذا الجواب ىو نفسو وىم فما ىو الدليل ؟‬
‫ولمبت في ىذا االمر عمدت الى تسجيل نقاط الحدس بما افاد ان التكرار فييا منوط بتكرار‬
‫حقيقي أللفاظ معينة ‪ ،‬تتناوب بصورة معينة واذن فالجواب ليس وىما‪.‬‬
‫السؤال الثالث‪ :‬ىل الشيء الذي تراه ىو بخبلف المتعارف من اساليب الكبلم في النصوص‬
‫االخرى‪ .‬واالججابة الفورية نعم انو مختمف عما في النصوص االخرى وافترضت رجبل يحاورني‬
‫قائبل ‪:‬‬
‫ان ىذا الجواب ىو وىم ‪:‬الن لكل موضوع الفاضا خاصة بو واصطبلحات تستعمل منو دون‬
‫غيره فيي تتكرر اذن في ىذا الموضوع دون سواه ‪،‬وعميو فان ما تراه ىو حكم عام في كل‬
‫نص ‪..‬فالنص الديني لو الفاضو والنص الشعري لو الفاضو الخاصة بو وىكذا‪..‬‬
‫واجبت ىذا الرجل المفترض بالقول‪:‬‬
‫اني بصدد كتاب واحد وموضوع ماحد ال مواضيع متعددة وكتب مختمفة في عموم متباينة ‪.‬‬
‫ومع ذلك فان االلفاظ المتكررة ليست من نوع استعمال لفظ معين في فصل معين بموضوع ما‬
‫وعدم استعماليا في فصل آخر لموضوع آخر مختمف!‬
‫فالفظ يستعمل بطريقة مغايرة ليذا ‪،‬فيو في نفس الموضوع الواحد مرة يستعمل ومرة يترك عن‬
‫عمد لوجود تغير آخر مبلئم ليذا الترك او االستعمال في التراكيب – فيو بخبلف كل نص آخر‬
‫لو دققت فيو لوجدتو يصفعك صفعات متبلحقة اذ يقوم باحباط جميع توقعاتك ‪ ،..‬واذا حاولت‬
‫تصحيح معمومات عمى النص ‪،‬ال تفسيره ضاىريا ‪،‬وذلك بمبلحظة ىذه التغيرات المفاجئة فان‬
‫النتائج لديك ( تجمع )لممعمومات ‪،‬ال مجرد اعادة و تكرار و لو كان نفس الموضوع!‬
‫السؤال الرابع ‪ :‬ما ىو الدليل عمى تغير المفظ مع وحدة الموضوع ؟‬
‫كان يجب اجراء تجربة – ال عبلقة ليا بموضوع (المنافقين )المشار اليو سابقا ‪،‬فكانت التجربة‬
‫ىي مقارنة الخمسة المتعمقة بخمق ادم‪ .‬وعدم وضع النصوص بمستوى واحد امام النظر تبين‬
‫ان ىنالك اربع اسماء ليذا الكائن‪ ،‬ىي االنسان ‪،‬البشر‪ ،‬ادم ‪،‬الخميقة‪ ،..‬فاالسماء تتباين‬
‫بالرغم من ثبات بعض العبارات الكاممة مثل ( واذ قال ربك لممبلئكة ) او (واذ قمنا لممبلئكة) ‪.‬‬
‫واذا كانت التجربة تثبت بسرعة تغير المفظ مع وحدة الموضوع خبلفا‪ ،‬لممتعارف ‪ ،‬فقد ادت الى‬
‫اثبات قضايا جديدة اخرى كان الباحث نفسو‪ -‬يعجب من اصراره عمى رفضيا ثبلثين سنة‬
‫تقدمت من عمره متيما كل قائل بيا – ولو في داخل نفسو‪ -‬انو من اعداء الدين او الجيمة‬
‫ز!‬
‫ومن تمك القضايا‪ -‬حيث ال نترك شوقكم لمعرفتيا من غير ان ناتي بشيء منيا‪ ،‬اذ ان موضع‬
‫تفصيميا سيكون في محل اخر‪ ..‬من تمك القضايا‪ -‬ان النصوص المشار الييا ثبتت بغير شك‬
‫ان القصة حدث بمراحل وان التفاصيل التي فييا ال عبلقة ليا المن قريب وال من بعيد بما‬
‫غرس في اذىاننا عنيا‪.‬‬
‫فيناك ارتباطات لفظية عمى النحو االتي‪:‬‬
‫اوال‪.‬االنسان ارتبط بالصمصال من حمأ مسنون ‪ .‬البشر ارتبط بالطين ‪ .‬ادم وخميفو لم يرتبطوا‬
‫بذكر المنشأ ‪ .‬لكن في مورد بعيد عن قضية السجود ارتبط ذكر ادم بالتراب‪.‬‬
‫ثانيا‪ .‬التدرج في الفعل ورد الفعل عمى امر السجود موزعا عمى مراحل‪:‬‬
‫ففي مرحمة الصمصال من حمأ مسنون ‪ :‬كان السؤال‪ :‬يا ابميس مالك اال تكون مع الساجدين‪.‬‬
‫واما ذكر العصيان فكان بعبارة مخففة جدا ‪ :‬اال ابميس ابى ان يكون من الساجدين‪ .‬تفاصيل‬
‫ىذه المرحمة في سور الحجر‪.‬‬
‫وفي مرحمة الطين ‪ :‬كان السؤال خموا من النداء باالسم‪ :‬بل ظير السؤال نداءا الييا واضحا‪:‬‬
‫مالك ال تسجد لما خمقت بيدي‪ .‬وذلك بغض النظر عن استعمال المذىل المبلئم لمحروف مع‬
‫التراكيب‪ .‬واما وصف العصيان فقد تضمنتو العبارة المكفرة لو والذاكرة الستكباره‪ .‬اال ابميس‬
‫استكبر وكان من الكافرين‪ .‬تفاصيل ىذه المرحمة في سور صاد‪.‬‬
‫في مرحمة ادم‪ -‬المذكورة في سورة االسراء – ينقمك النمص بمطف بعنوان مفاده ان التفاصيل‬
‫في البقرة فاذىب الى البقرة! لكن ىناك مقدمة سابقة عمى امر السجود الدم تضمنت االسم‬
‫الرابع( خميفة‪).‬‬
‫في ىذه المرحمة ينقطع الحوار مع ابميس ‪ .‬ويكتفي بذكر الصفات الثبلثة مجتمعة عند ذكر‬
‫العصيان‪ :‬اال ابميس ابى واستكبر وكان من الكافرين‪.‬‬
‫ثالثا‪ .‬اعتذارات ابميس عن السؤال تدرجت ىي االخرى ولكن بصورة معكوسة‪ ،‬وىذا ىو المبلئم‬
‫بالطبع لمثل ىذه المراحل‪ ..‬فالجواب القاسي مع السؤال المخفف ‪:‬‬
‫لم اكن السجد لبشر خمقتو من صمصال من حمأ مسنون‪ -‬ىكذا بدون ابداء السبب االبتكرار‬
‫عبارة مقولة اصبل في امر السجود‪ .‬ولكن عند ظيور الغضب من خبلل السؤال ‪ ،‬يفتش ابميس‬
‫عن عدر ىذه المرة وذلك في مرحمة الطين‪ :‬انا خي ار منو خمقتني من نار وخمقتو من طين‪.‬‬
‫وفي المرحمة الثالثة اذ ال سؤال وال محاورة فيستخفي الجواب ولكن اذا رجعت الى االسراء‬
‫وجدت تفصيبل اخر متمما لممحاورة في المرحمة الثالثة‪ .‬وىو تفصيل جدير بالبحث الجدي‪ ..‬اذا‬
‫ارتبط باشياء كثيرة جدا‪.‬‬
‫وىنا مبلحظتان عدا ذلك نذكرىما بايجاز االولى عقائدية ‪ ،‬والثانية لمغوية عممية‪ :‬فانت تبلحظ‬
‫ان ( الكافر) في ىذا النص في معنى مختمف عما في االذىان ‪ ..‬فالكافر ىو الذي ال يؤمن‬
‫باهلل بالمعنى المتعارف وىذا يقودنا الى مراجعة معنى(المؤمن) فابميس كفر وىو ال يشك باهلل‬
‫وال في كونو ربو وخالقو‪ ،‬ومعنى ذلك ان الكفر ال عبلقة لو بادراك حقيقة االلو الواحد او‬
‫االقرار بيا ! فابميس موحد بيذا المعنى لكنو عمميا مشرك النو ادخل اتباع ىواه مع اتباع‬
‫الخالق‪ ..‬وىذا المعنى سيصحح لنا فيما بعد عشرات االيات التي تضمنت الكفر والشرك‪ ،‬كما‬
‫سياتيك في لمحة منو في التجربة الثالثة‪.‬‬
‫اما المبلحظة المغوية‪ :‬فان التفاصيل المارة وغيرىا الكثير المتعمق بيذه المراحل يقودنا بقوة‬
‫لمعادة النظر في ىذه العبارات كميا ومعانييا المغوية ومنيا مثبل ( صمصال من حمأ مسنون‪).‬‬
‫المعنى المذكور ليذه العبارة وفي جميع التفاسير قديميا وحديثيا انو ىيكل طيني صنع من‬
‫طين متعفن ( حمأ مسنون)‪ ،‬يصمصل أي يحدث صوتا اذا نقرت عميو ‪ .‬فيو اذن تمثال من‬
‫الطين ترك ليجف قبل نفخ الروح ولكن عند مبلحظة العبارة المنقولة نصا بنفس الترتيب‬
‫وااللفاظ في المرحمتين االولى والثانية وىي ( فاذا سويتو ونفخت فيو من روحي فقعو لو‬
‫ساجدين ) تبين لنا انا (التسوية) عممية اخرى غير الخمق‪ .‬فيذه العممية وردت في قصار‬
‫السور ( البمد) عمى انيا عممية متأخرة عن الخمق‪ ( :‬يا اييا االنسان ما غرك بربك الكريك‬
‫الذي خمقك فسواك فعدلك ) ‪ ..‬وىذا يعني ان التسوية ىي نوع من التطورات المتبلحقة وصوال‬
‫الى الييكل االقوم المبلئم‪ .‬وىي الصورة النيائية ليذا الكائن ‪ ،‬ولذلك عقب قائبل ( في أي‬
‫صورة ما شأء ركبك )‪ -‬فالقضية تخص التراكيب العضاء الجسم ووضعيا في فمنضام األقوام‬
‫‪،‬ال الصورة المختمفة لزيد عنى عمرو كما يفيم منو المفسرون ‪..‬الن زيد وعمرو ال اختبلف‬
‫بينيم في التركيب‪.‬‬
‫ان ىذا يقودنا الى التفكير بمعنى (صمصال من حمأ مسنون )‪ -‬اذ لو كان ىيكبل كامل‬
‫االعضاء من طين عمى صورة تمثال ‪..‬لما احتاج ىذا التمثال الى (تصوير )‪،‬أي نقل من‬
‫صورة الى صورة ومن تركيب الى تركيب ‪.‬فقد فصمت اداة التراخي بين عممية الخمق والتصوير‬
‫قبل آدم نفسو في نص آخر‪:‬‬
‫(ولقد خمقناكم ‪..‬ثم صورناكم ‪..‬ثم قمنا لممبلئكة اسجدوا آلدم )‪ -‬واذن فأدم ىو الصورة‬
‫النيائية المنتقاة ‪..‬وال انتقاء و ال اختيار اذا كان ىو االول في الخمق والتصوير معا ‪،‬فاين اذن‬
‫نضع ىذا االنتقاء الوارد في النص اآلخر ان اهلل اصطفى آدم )‪ ..‬اذ من الضروري ان يكون‬
‫االصطفاء من (مجموعة متشابو )عمى نحو ما‪.‬‬
‫لنبلحظ االن المغة في صمصال – حمأ‪ -‬مسنون‪:‬‬
‫صمصل القمح ‪ :‬نقاه مرة بعد مرة‪.‬‬
‫صمصل الغدير ‪:‬اذا جف ‪.‬كل سائل متكاتف بقي منو مقدار فالباقي صمصمة ‪.‬صمصمة الماء‬
‫بقيتو‪.‬‬
‫ذان فنحن بازاء معنى ليذه المفردة استعمل في عشرات المواضع االخرى ال عبلقة لو بالنقر‬
‫واحداث االصوات عمى التماثيل!‬
‫لنقل اذن( الصمصال ) ىو البقية المتركزة والكثيفة من سائل ما ‪ .‬وبناءا عمى الفعل صمصل‬
‫القمح ‪ :‬اذ انقاه‪ :‬فيي خبلصة نقية! ممن؟ من حمأ مسنون لنبلحظ اوال الصفة عمى زنة‬
‫المفعول مسنون‪:‬‬
‫فقد اجمع اىل التفسير ان الحمأ المسنون ‪ :‬الطين المتعفن ولكن بالمقابل اجمع اىل المعاجم‬
‫عمى ان الحمأ ‪ :‬ىي الطين المتعفن فاين ذىبت اذن مفردة(مسنون)؟ اذا كان الحمأ بمفرده‬
‫طين متعفن ؟‬
‫واذا الحمأ‪ :‬طين وحسب فالمسنون عند المفسرين يكون المتعفن ومع طيور ىذا التناقض‬
‫بينيم لكن نبلحظ اخرى‪ :‬فالمسنون ىو المتعفن عند المفسرين واذين ىم اىل لغة ايضا‪ ..‬مع‬
‫ان الواضح جدا ان مسنون من سن يسن ‪ :‬أي شرع شرعة ونيج منيجا ‪ .‬فيو مسنون أي‬
‫موضوع في شرعة ومنياج! ىل حدث خمط عندىم ىبين ىذا الفعل وفعل اخر ىو (سنو)‬
‫بالياء ايضا في القرآن (وانظر الى طعامك وشرابك لم يتسنو ) أي لم يتغير او يتعفن ‪.‬ومنو‬
‫(اآلسن ) وليس المسنون ‪،‬‬
‫في البدء اعتبر ىذا االمر وىما منيم ال غير ‪،‬ولكن عند مبلحظة اخطاء مثل ىذه في عشرات‬
‫االلفاظ فقد اختمف تفسير تمك التوىمات المتكررة‪.‬‬
‫لنبلحظ اآلن ى‪( :‬حمأ ) ‪ ،‬مع مبلحظة ان القراءات المختمفة امر وارد ‪ ،‬وعدم ورود القراءة‬
‫الصحيحة امر وارد ايظا‪.‬‬
‫حمأ‪-‬ميموز عمى االلف ‪ :‬اخرج الحمأ ة من البئر وىي قطعة من طين اسود منتن في قعره‪.‬‬
‫حمىء‪ :‬ميموز عمى الياء ‪ :‬اشتد وغضب ‪ .‬فيو حمى‬
‫حمت ‪ :‬بالتاء ‪ :‬اشتد وتغير ‪ .‬حمت التمر ‪ :‬اشتدت حبلوتو‪.‬‬
‫تحمت ‪ :‬صار خالصا ‪ :‬الحميت من كل شيء ‪ :‬الشديد ‪.‬اذا بمغ الشيء نيايتو فيو ( حمت)‬
‫حمت ‪ :‬بضم الميم ‪:‬اشتد (ايضا )! حمت غضبو ‪ :‬اشتد‪.‬‬
‫لنرجع اآلن الى حمأ‪ :‬الفعل الميموز والذي منو (حمأ) فقد اوردتو جميع المعاجم مع البئر فقط‬
‫ولم يذكروا سوى عبارة واحدة ىي حمأ البئر ‪ :‬اخرج حمأتيا ‪.‬‬
‫فيل معنى ذلك ان ىذا الفعل ال يستعمل اال مع البئر تحديدا وىو معطل عن أي استعمال آخر‬
‫؟‬
‫اني االحظ اصل االستعمال نفسو ! فان العممية ىنا ما ىي اال تنظيف لمبئر ال غير بعد اغبلق‬
‫منابعو في القعر ‪ .‬ويبدو ان التصاق الفعل مع البئر حدده بيذا التحديد التنا اذا اخذنا‬
‫الميموز عمى الياء والذي آخره تاء وكميا متشابيو في المعنى تخمص الى نتيجة مفادىا ان‬
‫اصل ىذه االحرف الثبل ثة يتحدد بجممة تقع المعاني كميا ضمنيا وىي ‪ :‬جعل الشيء قائما‬
‫بنفسو شديد المقاومة بتخميصو من الشوائب والعوارض ‪ ،‬ليبمغ نيايتو الموسومة لو‪.‬‬
‫نبلحظ ضبل ليذا المعنى في قولو تعالى عن منشأ الخمق ( من طين الزب ) فيذه الصفة تعني‬
‫ىي األخرى ‪ .‬تشائم بنفسو الشديد التماسك ‪.‬واذاجمعنا اآلن المفردات الثبلثة صار المنشأ‬
‫ىكذا ‪ :‬من صمصال ‪ .‬خبلصة مركزه ومستخمصو من خمأ – طين متجانس بشدة وفيو قوة‬
‫ذاتية عمى التماسك – مسنون موضوع في شرعة ومنياج‪.‬‬
‫اذن فنحن بازاء (مادة )حية متصمة مع بعضيا اتصاال شديدا يشبو التآصر الكيميائي وليا‬
‫خطة ذاتية مسنونة لبلنقسام والحركة والبقاء وىي خبلصة مركزة لمادة الطين مصدر جميع‬
‫العناصر المعروفة ‪ ..‬فيذه المادة ىي اصل الحياة‪.‬‬
‫في ىذه الحالة تجد تبري ار لؤلمر المستقبمي في العبارة القرآنية‪:‬‬
‫(فأذا سويتو ونفخت فيو من روحي فقعوا لو ساجدين ) لقد أثبتت المبلحظة السريعة في‬
‫المعاجم ان المفسرين قد شرحوا المفردات جميعا بصورة تعسفية مخالفة لمغة نفسيا فضبل عن‬
‫مقاصد القرآن ‪ .‬لقد كانت (الصورة الفنية )التي رسميا لنا المفسرون لقصة الخمق ال تبلئم‬
‫العقول المنيرة مبلءمتيا لعابدي التماثيل المنحوتة في الجزيرة العربية ‪..‬فتمك التماثيل أصبحت‬
‫بيذا التفسير تمتمك المبرر لمسجود ليا ‪ ..‬اذ ال فرق بينيا وبين آدم اال بانتظار نفخ الروح‬
‫الؤلليية فييا ‪ ..‬والسجود قبل النفخ أمر اليي صدر من قبل ‪ ..‬وانما يتم تنفيذه بنفخ الروح‪.‬‬
‫لقد فصل ىذا البحث ببحث الحق العبلقة بين الروح والحياة بمعناىا (البايموجي ) ‪ ..‬فان‬
‫الروح اإلليية ما نفخت في تمثال طيني بل بكائن حي يتنفس ويتغذى ويتكاثر ‪..‬ووجد ىذا‬
‫البحث فيما بعد المؤيدات الكثيرة منى القرآن والنصوص النبوية عمى صحة ىذا الفصل‪.‬‬
‫ان معرفة قصة الخمق وتفاصيل حدوثيا انما ىو معرفة نشوء الحياة عمى األرض وىنا تكمن‬
‫أىمية وخطورة ىذا الموضوع الذي كرس لو عمماء الطبيعة الكثير من جيدىم ‪ ،‬والذي يؤكد‬
‫اىمية نص روائي ألحد األئمة وىو قولو ‪( :‬لو عمم الناس كيف خمق آدم لما اختمف رجبلن‬
‫)فيدل ىذا النص عمى أمرين معا ‪ :‬األول خطورة ىذه المعرفة وأىميتيا التي تستتبع ال محالة‬
‫معرفة البداية والغاية من ىذا الكائن وبالتالي سر الحياة مما يزيل التناقض واالختبلف والذي‬
‫سببو كما يرى النص الجيل بيذا السر ‪ .‬والثاني ‪ :‬ان ىذا النص اإلسبلمي يرى إن الناس ال‬
‫يعممون من حقيقة ىذا السر شيئا وبالتالي فالقصة المعيودة ‪ .‬النفخ في تمثال طيني ‪ .‬ىي‬
‫في نظره مجرد سخافة ال أصل ليا – تدل عمى الجيل بو ال العمم كما ىو واضح ‪ .‬لقد أنبأت‬
‫الموارد القميمة لمقصة عن حدوث قصة حقيقية ذات مراحل ‪،‬وقام كل مورد فييا بشرح جزء من‬
‫تمك المراحل فيما يمكن من خبللو إعادة ترتيب القصة مجددا ‪،‬وىو ترتيب وحيد في نظام‬
‫االحتماالت ‪،‬مثمو مثل صورة فوتوغرافية قطعتيا الى خمسة أجزاء ‪ ..‬فيناك احتمال واحد فقط‬
‫لتنظيم األجزاء بحيث تظير الصورة‪.‬‬
‫فالصورة نفسيا بعد (فيم )األجزاء تساعد في نفسيا ‪،‬ألن وضع أي جزء في مكان آخر غير‬
‫مكانو الذي يبلئم جميع الجيات سيؤدي الى تشويو الصورة كميا – ال ذلك الجزء وحده‬
‫واألجزاء المحيطة بو‪.‬‬
‫واذا عممت ىذه النتيجة عمى جميع الحوادث والقصص القرآنية – وجدت نفس الضرورة القائمة‬
‫باعادة النظر فييا جميعا ‪ .‬واذا ذىب اكثر من ذلك لتعتبر ىذه المنيجية في البحث صحيحة‬
‫عمى كل موضوع لو اكثر من ذكر في القرآن في اكثر من مورد فقد حتمت اعادة النظر في‬
‫العقيدة كميا والفقو كمو‪.‬‬
‫ومع ان ىذه النتيجة وجدت تصديقا عمميا ليا في توابع ىذه التجربة من دراسة لبعض ىذه‬
‫(المكررات المفضية ) وحممت مثل ىذه الخطورة أال أنيا بدت ضئيمة جدا أمام تجربة اخرى فقد‬
‫سميت ىذا الترابط بين موارد الموضوع الواحد ( بالنظام الموضوعي ) ‪ ،‬ولكن سرعان ما غيرت‬
‫الفكرة والتسمية معا خبلل ساعات من القيام بتجربة اخرى كانتاجابة عمى السؤال البلحق ‪..‬‬
‫في سمسمة األسئمة – بعد ما اكد لي الحدس االقوى ان ما نراه االن ىو ضبلل متداخمة لمشيء‬
‫اآلخر وليس الشيء اآلخر نفسو‪.‬‬
‫التجربة الثالثة‬
‫لقد الحظنا في التجربة الماضية تغير المفظ في الموضوع الواحد ‪ ،‬وكانت التجربة الثالثة‬
‫مكرسة الجابة عن التساؤل حول حالة المفظ في المواضيع المتعددة وكما ىو واضح فان‬
‫التجربة االولى اعتنت بما يسمى بالمترادفات‪ -‬حيث تساىل اىل المغة دوما بشأن االلفاظ‬
‫المتقاربة في المعنى‪ ،‬وعدت عندىم شيئا واحدا بناء عمى ىذا التساىل ‪ .‬واذا كانت التجربة قد‬
‫اثبت عمى نحوا ما وباسموب ال زال يعد فرضا مؤكدا الى ىذه المحظة – ان المرادفات ىي من‬
‫نوع الوىم المغوي‪ ،‬فقد راء البحث ان يدعم ىذه الفرضية الوليدة بتاكيد اخر من الجية المقابمة‬
‫تماما‪.‬‬
‫فان معنى ذلك الفرض ان لممفردة معنى محدد يختمف جذريا عن معنى أي مفردة اخر‪ ،‬واذن‬
‫فعمينا مبلحقة المفردة الواحدة في سموكيا وخبلل حركتيا في المواضيع مختمفة‪ ..‬فيل سيكون‬
‫معناىا واحدا وثابتا‪ -‬ليؤكد حقيقة ان تعدد المفردات في الموضوع الواحد ال يعني ترادفيا؟ !‬
‫أي اننا الحظنا تغير المفظ مع ثبات الموضوع ‪،‬ونبلحظ اآلن ثبات المفظ مع تغير الموضوع ‪.‬‬
‫ومع عممي (من خبلل قراءات سابقة حول إشكالية المغة عموما) أن ىذا العمل يعد خروجا‬
‫عمى المألوف أو (جنونا) بعبارة أدق في عمم األلسن لمي يذكر أو يؤثر عن أحد من‬
‫المفكرين‪ ،‬إال ىناك تأمبلت سابقة وحيرة قديمة وتناقضات عنيفة داخل النفس وجدت ليا‬
‫مخرجا بيذا الفرض‪ .‬ومفادىا (أي ىذه التأمبلت) أن التناغم بين أجزاء الطبيعة كميا لغة‬
‫وتكوينا‪ ،‬تركيبا في الحنجرة وأصواتا وحقائق مادية وفكرية ىو أمر ال محيص عنو‪ .‬وعندي أن‬
‫تحديد سبعين معنى لكل لفظ ىو تحجيم لمعنى المفظ‪ ،‬بينما تحديد معنى واحد دقيق لمفظ ىو‬
‫إطبلق لو من كل قيد‪ .‬فالتوسع في المعاني الكثيرة لمفظ الواحد ىو إضاعة لمحقيقة وخمط‬
‫لؤلمور وتحجيم لمفظ بتمك المعاني بحجة التوسع‪ .‬بينما تحديد معنى واحد دقيق ىو إطبلق لو‬
‫وتوسع بمعنى حقيقتو الفريدة الواحدة باالتجاه العمودي‪ .‬ونسبة العمل بالطريقة األولى إلى‬
‫الطريقة الثانية في الحجم ىي كنسبة المحدود إلى البلنيائي‪.‬‬
‫ذلك أنو يمكنك أن تخمق من المون األحمر والمون األصفر ماال نياية لو من درجات البرتقالي‬
‫ومن غير حدود! ليس ألن األحمر يأتي تارة كذا وتارة كذا‪ ،‬بل ألن نسبة التركيب مع األصفر‬
‫اختمفت‪ .‬فالمون األحمر باق ىو األحمر ال يتغير وكذلك األصفر الذي اختمط بو‪.‬‬
‫بمثل ذلك تتركب المفردات مع بعضيا في الجمل بصورة محتممية ال حدود ليا فتنتج المعاني‬
‫المختمفة‪ .‬ال ألن المفردة تغير معناىا فجأة‪ ،‬بل ألن اآلصرة التي ربطتيا مع غيرىا اختمفت‬
‫والمفردات التي احاطت بيا تغيرت‪ .‬وأن العارف بالكيمياء مثبل ال يعدم أمثمة ال حصر ليا عمى‬
‫ذلك‪.‬‬
‫فالعناصر ىي العناصر نفسيا حينما تتركب منيا عشرات اآلالف من المركبات المتنوعة التي‬
‫ليس فييا سوى العناصر الثبلثة ‪ C, H2, O2‬وال يقدر الكيميائي أن يزعم أن الكاربون في‬
‫اإليثان ىو غيره الميثان ىو غيره في البروبان إلى آخر السمسمة‪.‬‬
‫إن اختيار مواضيع مختمفة ومبلحظة سموك لفظ معين فييا ىو اختيار صعب أيضا وذلك ألن‬
‫الموضوع ىو اآلخر يعبر عنو بمفظ‪..‬وعمى خبلف المتعارف قام الباحث باختيار الشرك والكفر‬
‫كموضوعين لمبلحظة سموك لفظي (عقل وقمب) فييما‪ ،‬ألن الضرورة تقضي باختيار مواضيع‬
‫غير مشتركة بشيء في المفاىيم العامة ومنفصمة تماما لغرض وضع حدود واضحة ليذا‬
‫السموك‪.‬‬
‫وقيام الباحث بذلك بخبلف المتعارف إنما ىو بسبب اإلشكال اآلنف الذكر فيذا الخيار رغم‬
‫تعقده يسمح بمبلحظة تحديد معاني لفظين آخرين ىما (شرك وكفر) إذ عـُ ّـدا عند األكثرية من‬
‫األلفاظ التي يمكن أن يحل أحدىما بدل اآلخر‪ ،‬أو حسب تعبيرىم مالكافر مشرك والمشرك‬
‫كافر‪.‬‬
‫لقد اعتمد الباحث عمى ذاكرتو في إحصاء بعض الموارد التي سقطت من الدليل المفظي الوحيد‬
‫الذي كان بحوزتو وىو دليل فقير لمغاية‪ ،‬إذ ال ينفع أي دليل آخر سواه لآليات في مثل ىذه‬
‫الطريقة‪ .‬وأسعده الحظ أنو كان قبل ذلك يحاول تذكر اآليات التي وردت فييا مفردة ما كشيء‬
‫يميو بو عند التأمبلت أو حال سياقة سيارتو مثبل‪ ..‬فاحتياجو اآلن أشعره بوجود عناية سابقة‪.‬‬
‫فوجئت بأن لفظ (عقل) اقترن دوما مع لفظ (الشرك) ولم يقترن مع لفظ (الكفر)‪ ،‬وأن لفظ‬
‫فور أن‬
‫(قمب) اقترن مع لفظ (الكفر) ولم يقترن مع لفظ (الشرك)‪ ،‬وىذا التمايز قد أثبت ا‬
‫الشرك ىو موضوع مختمف في جوىره عن الكفر‪ ،‬وليس ىو مجرد اختبلف في صفات خارجية‬
‫لممارسات التي يقوم بيا كل من الكافر والمشرك‪.‬‬
‫عمي إحصاء جميع موارد لفظي (الشرك والكفر) ودراستيما‬
‫ودفعني ذلك إلى االعتقاد بأن ّ‬
‫دراسة مقارنة من غير النظر إلى لفظي (العقل والقمب‪).‬‬
‫إن موارد لفظي (العقل والقمب) قميمة جدا مقارنة بموارد الموضوعين ولذلك أمكن إحصاءىا‬
‫عمى الذاكرة‪ .‬أما موارد الموضوعين فيي لكثرتيا يستحيل إحصاءىا بيذه الطريقة‪ ،‬فشعرت‬
‫بحاجة إلى معجم لفظي كامل شامل أللفاظ القرآن لم اشعر بمثميا ألي شيء آخر‪.‬‬
‫وأوحي لي وىمي أن بمقدوري صنع مثل ىذا المعجم قبل البدء ببحث جدي‪ .‬فمما أحصيت‬
‫(تقديرا) المدة البلزمة لعممو بمعدل ثمان ساعات يوميا وجدتيا تبمغ أكثر من عشرين سنة‪!!.‬‬
‫انحسار الغشاوة‬
‫في تمك المحظة التي قيدني فييا العجز عن إحصاء الموارد تركت العمل وجمست ألتأمل في‬
‫األشياء التي أعرفيا ألشبو بيا القرآن في محاولة لمعرفة فيما إذا كانت حاجتي لممعجم حقيقة‬
‫أم ال‪.‬‬
‫أشبو القرآن بيا‪ ،‬وامتدَ بصري إلى الحديقة فرأيت‬
‫وقع بصري عمى أشياء كثيرة رفضت أن ّ‬
‫الشجرة التي بجوار المدخل‪ ،‬وقمت ألبدأ بيا التشبيو‪ ..‬وما إن تذكرت أن الشجرة ذات نظام‬
‫محكم وصارم وأنيا مؤلفة من خبليا يتم بعضيا عمل البعض اآلخر‪ ،‬وأنيا بعدد محسوب ال‬
‫يقبل أي احتمال لمزيادة أو النقصان وأن (المورثات) في داخميا تسيطر عمى جميع فعالياتيا‬
‫وأنيا معجزة حقيقية إذ ال قدرة ألحد عمى اإلتيان بمثميا‪ ..‬حتى انتبيت إلى أن القرآن يمكن أن‬
‫يكون مثل الشجرة في ىذا اإلحكام وأن مثل فروعيا كمثل سوره ومثل خبلياىا كمثل مفرداتو‪،‬‬
‫ومثمما ىي قائمة بذاتيا فيو قائم بذاتو‪ ،‬ومثمما ىي معجزة تحوي آيات فيو كذلك‪ ..‬وعجبت‬
‫من أمر ىذه األمة إذ أرادت إثبات اإلعجاز في القرآن فكان بذلك أىون عندىا من الشجرة التي‬
‫ال شك في إعجازىا‪ ،‬وكان عجبي من فوات ىذا األمر عمى من ىو مثمي أكبر‪.‬‬
‫في تمك المحظة تداعت جميع النظم التي أعرفيا من نظام األفبلك إلى نظام الذرة‪..‬تداعت في‬
‫عقمي لتؤيد ىذه النتيجة‪.‬‬
‫وفي تمك المحظة عينيا تداعت أشياء كثيرة أخرى‪ ..‬وانيارت فجأة مسممات كثيرة أخرى وتذكرت‬
‫نصوصا تؤيد ىذه الرؤيا أصبحت أفيميا بطريقة مغايرة لفيمي ليا سنوات طويمة‪ .‬لقد اخترقت‬
‫فكرة النظام الصارم دفاعي فجأة مثل ما يدخل الشعاع صندوق الزجاج فمم استطع مقاومتيا‬
‫مطمقا‪..‬وفسرت لي في لحظة واحدة عشرات األشياء‪ ..‬والتقت أشعة من مختمف الجيات‪..‬‬
‫وشعرت ألول مرة في حياتي بيذا القدر من ضآلتي وتفاىتي‪ ،‬بل وغبائي‪ ..‬وما استتبع ذلك‬
‫من شعور غريب عن الناس وحاليم لم أشعر بو من قبل‪.‬‬
‫وانتابني خميط من الندم والتفاؤل والحزن والفرح والضعف والقوة وأشياء أخرى متناقضة ال‬
‫يمكن وصفيا أال أنيا كانت مداعة لبكاء غريب من نوعو‪.‬‬
‫ونظرت ألول مرة إلى مكتبتي التي أعشقيا نظرة احتقار ما كنت أفكر أن تكون مجرد احتمال‬
‫يط أر عمى البال فضبل عن أن تكون حقيقة ذات يوم‪.‬‬
‫ومرت ليمة اعدت فييا شريط ثقافتي وتأممت فيو‪..‬فما وجدت شيئا شرقيا أو غربيا قديما أو‬
‫جديدا إال وتحول إلى شيء مؤيد ليذه الرؤيا أو كان جزءا فييا‪ ،‬وما وجدت شيئا كان مقدسا‬
‫إال وصار دنسا‪..‬وما وجدت شيئا مستنك ار إال وصار حقيقة‪ .‬وأظير الشعاع ميزانا جديدا في‬
‫داخمي أعاد معايرة كل شيء أعرفو في ىذا العالم‪.‬‬
‫وفي تمك المحظة تذكرت قول اإلمام عمي (ع)‪( :‬العمم نقطة كثرىا الجاىمون) وشعرت أني ما‬
‫فيمت منو شيئا إال اليوم‪.‬‬
‫اإلصبـــاح‬
‫أصبحت في اليوم التالي وأنا أفكر في إحصاء موارد الكفر والشرك وألفاظ أخرى خطرت في‬
‫بالي‪ ،‬مشغوفا بالتعرف عمى عبلقاتيا واكتشاف ما انطوت عميو من أسرار‪ ،‬وأصبحت فكرة‬
‫النظام القرآني التي تخيمتيا وىي تطيح بالرموز الوثنية كميا‪..‬أصبحت حقيقة ال مجرد فرض‬
‫قابل لمنقاش‪..‬وصارت حاجتي لممعجم أزاء ذلك حاجة حقيقية‪.‬‬
‫لقد ضاق صدري وأصابني غم‪..‬فرحت أفكر بين أمرين‪..‬بين أن أبدأ بالمعجم فأقضي عشرين‬
‫سنة‪ ،‬وقد أموت قبل إتمامو‪ ،‬أو أقوم بإجراء بحوث ناقصة بطيئة بطئا شديدا ال يمكن الركون‬
‫إلى صحتيا مع الكتمان فضبل عن اإلعبلن‪.‬‬
‫انتابني حينيا غضب مفاجئ صببتو عمى أصحاب المعاجم إذ أكثروا وتفننوا فييا ولم ينتبيوا‬
‫إلى وضع معجم أللفاظ القرآن‪ ..‬ولما سكت عني الغضب وجدت ليم عذ ار ىو نفس عذري‬
‫حينما كنت غافبل عن شيء اسمو النظام المحكم لمقرآن‪.‬‬
‫انتابني حينيا غضب مفاجئ صببتو عمى أصحاب المعاجم إذ أكثروا وتفننوا فييا ولم ينتبيوا‬
‫إلى وضع معجم أللفاظ القرآن‪ ..‬ولما سكت عني الغضب وجدت ليم عذ ار ىو نفس عذري‬
‫حينما كنت غافبل عن شيء اسمو النظام المحكم لمقرآن‪.‬‬
‫أخرجني االنزعاج من الدار عمى غير ىدى‪ ..‬فممرت بصاحب مكتبة أكن لو محبة خاصة لكرم‬
‫نفسو وتركو ما ال يعنيو فقمت أسمم عميو‪ ..‬فمما عانقتو صار عمى كتفي كتاب ضخم كان‬
‫يحممو ويتصفح فيو وما تمقفت منيو سوى (مفيرس‪..‬قرآن) فقمت في نفسي وال زالت عبارات‬
‫السبلم عمى لساني (لعمو الشيء الذي أريده) وما إن أعاده بين يديو حتى وضعت يدي عميو‬
‫قائبل‪( :‬ما ىذا؟)‪ ،‬فقالك (معجم مفيرس أللفاظ القرآن) فقمت مستفيمتا‪( :‬ألفاظ أم آيات؟)‪..‬‬
‫ولم انتظر منو إجابة حتى فتحتو فإذا ألفاظ القرآن مسطرة فيو بطباعة أنيقة رائعة ومعو‬
‫المصحف وآيات الموارد وأراقميا وباأللوان الزاىية‪ .‬فأسرعت في إطباقو وضمو إلى صدري وأنا‬
‫أقول‪ ( :‬ىذا لي وال تقل يريده فبلن‪..‬وال تقل اشتروه‪ ..‬وال تقل‪ )..‬ورحت أشرح لمرجل كيف‬
‫يمكنو االعتذار‪ ..‬عارضا عميو المال بالغا ما بمغ ‪.‬‬
‫والرجل يضحك ويكرر الجممة التي ما سمعتيا جيدا (ال داعي لذلك ‪ .‬الكتاب لمبيع ‪ .‬انو لمبيع)‬
‫فقمت بعد االنتباه ‪ :‬حقا ؟ خذ اذن ‪.‬‬
‫واخرجت لو ثبلثمائة دينار ‪ ،‬فقال لي ‪ :‬ال ىذا كثير جدا ‪ ..‬فالرجل طمب ان ابيعو بخمسين‬
‫دينار فقط !! ‪.‬‬
‫فقمت ‪ :‬ومن ىو الرجل ؟ قال ‪ :‬الرجل الذي خرج قبيل دخولك وطمب مني ان ابيعو لو ‪.‬‬
‫فعجبت من ذلك وعددتو احسن فأل ألماني في حياتي ‪.‬‬
‫(محمد فؤاد عبدالباقي) اسم الواضع‪ ،‬شيء يدعو إلى الدىشة‪ ،‬إذ كيف ينتبو أحجد أفراد ىذه‬
‫األمة إلى وضع معجم لفظي؟ وما غايتو من ذلك؟ أيفكر الرجل فيما أفكر فيو؟‬
‫ولكن عند قراءة المقدمة‪ ،‬تبين أن ىذا المعجم ما ىو إال إعادة لمعجم المستشرق األلماني‬
‫(فموجل) المسمى (نجوم الفرقان في أطراف القرآن) والمحتوي عمى ٕ‪ ٚ‬ألف لفظ قرآني‪.‬‬
‫واالختبلف فقط ىو في ما ذكره عبد الباقي (إرجاع خمس عشرة مفردة إلى أصوليا الصحيحة‪،‬‬
‫إذ أخطأ في ردىا فموجل إلى أصميا)‪ .‬ويبدو أن بعضيا مجرد خطأ في النسخ لبل غير أو في‬
‫الطبع والجمع مثل‪( :‬زلقا‪ :‬وضع في زلف بالفاء وىي في زلق‪/‬بالقاف‪ .‬والحافا‪ :‬وضع في‪/‬لحق‬
‫وىي في لحف بعكس ما حدث في األولى)‪ ،‬إذ ال يعقل من مثمو الوقوع في مثل ىذا الخطأ‪.‬‬

‫الشرك والكفر‬
‫حينما جرت مبلحظة موارد ىذين المفظين كانت النتائج غير متوقعة وأظير البحث قضايا‬
‫متطابقة يؤيد بعضيا بعضا ويزول من خبلليا التناقض الذي نحاول إخفاءه‪.‬‬
‫إن موضوع الشرك والكفر وما يقابمو من توحيد وايمان ىو أمر بالغ الخطورة‪ ،‬وحينما تكون‬
‫مفاىيمنا عنو مخطوءة فالنتيجة أننا نجيل ىذا الدين جيبل كامبل‪.‬‬
‫وال يمكن ذكر تفاصيل ىذا البحث ىنا عمى أية حال‪ ..‬ولكني سأذكر بعضا من نتائجو‪:‬‬
‫أوال‪ :‬لقد رأينا سابقا أن (الكافر) ىو العاصي تكب ار ال المنكر لوجود اهلل‪ ،‬وذلك من خبلل موارد‬
‫خمق آدم وكفر إبميس‪ .‬فإبميس كفر وىو يحاور اهلل تعالى بشأن السجود آلدم‪.‬‬
‫واذن فالكفر ال عبلقة لو باعتقاد وحدانية اهلل تعالى‪.‬‬
‫وحينما نفتش عن لفظ الكفر فسنجده بيذا المعنى (الموحد) دوما جميع آيات القرآن‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬إن اقتران الكفر بالقمب والشرك بالعقل دوما يدل عمى أن الكفر منشأه القمب‪ ،‬والشرك‬
‫منشأه العقل‪ .‬وبيذا التفريق المفظي يمكنك اإلجابة عمى ىذا السؤال‪:‬‬
‫إذا كان الكفر ىو العصيان لمخالق وليس إنكار وجوده فما الفرق بين معاصي الكفر ومعاصي‬
‫المؤمن؟‬
‫إن ارتباط المفظين (القمب مع الكفر والشرك مع العقل) ىو الذي يحدد اإلجابة‪.‬‬
‫فالكافر يعصي وىدفو المعصية ذاتيا‪ ،‬والمؤمن يعصي وىدفو نتائج المعصية‪ .‬فأنت تأمرنا (أنا‬
‫وزيدا) أن ال نسافر ىذا اليوم لتكشف عن محبتنا وطاعتنا لك‪ .‬أنا سافرت وعصيت أمرك وزيد‬
‫سافر أيضا‪.‬‬
‫أما أنا فسافرت ألن عندي عمل أو غاية انتظرىا من السفر وظني أنك ستعفو عني لذلك‪.‬‬
‫وأما زيد فمم يكن في األصل يريد السفر‪ ،‬ولكنو سافر ألجل أن يبرىن عمى إبطال أمرك عمميا‪.‬‬
‫فسفره معصية توجيت إليك‪ ،‬وسفري معصية توجيت إلى نفسي‪ .‬فيل تراك تحاسبنا سواء‬
‫بسواء؟‬
‫كبل‪ ..‬فإن ندمي عمى السفر وانزعاجي من عصيانك واعتذاري لك يثبت أني أحبك وال أريد‬
‫معصيتك‪ .‬أما زيد فمم يندم ولم ينزعج ولم يتراجع عما فعمو ألنو ال يريد بالسفر سوى عصيانك‬
‫فمماذا يندم؟‬
‫ومعنى ذلك أن معصيتي لك كانت بسبب سوء التفكير العقمي‪ ..‬ال أنني ظننت أن السفر‬
‫ينفعني‪ ..‬وطاعتك تنفعني فأشركت في طاعتك باعتقادي وجود منفعة في عصيانك‪ .‬وعقمي ىو‬
‫الذي دلني عمى ىذا‪ ،‬أما قمبي فمحب لك كاره لعصيانك‪ .‬وأنت بالطبع تعمم مني ذلك! ولذلك‬
‫فميما بالغت في المعاصي التي ىي من ذلك النوع‪ ..‬وتضرعت إليكك كمما شعرت بخطأي‬
‫أسرعت في العفو عني‪.‬‬
‫أما زيد فمعصيتو بسبب سوء نيتو معك واشمئزاز قمبو منك ألنو ما قرر السفر حتى منعتو‬
‫فيو حريص عمى عصيانك‪ ..‬وأنت تعمم أيضا أنو أزكى مني في معرفة المعصية والطاعة‪ ،‬فيو‬
‫قاصد لنفس المعصية بغض النظر عن فوائدىا اآلنية‪.‬‬
‫وزيد أشرك بك أيضا‪ .‬ولكن الفارق بيننا أن إشراكو لك كان شخصيا‪ ،‬فقد جعل نفسو ندا لك‬
‫وآم ار آخ ار بمواجيتك‪ ..‬أما أنا فكان شركي في عممي معك‪..‬‬
‫فمو أجاب كل منا صراحة عمى سؤالك لنا‪( ،‬ماذا تحب؟)‪ ،‬فأنا أجيب‪( :‬أحب طاعتك)‪ ،‬وزيد‬
‫يجيب‪( :‬أحب معصيتك‪).‬‬
‫ثالثا‪ :‬لنبلحظ اآلن الربط بين ىذه الفكرة وقصة السجود‪ .‬فإن السؤال الموجو إلى إبميس مرتين‬
‫عن سبب اإلعراض عن السجود كان إلثارة اإلجابة العقمية‪ ..‬أي لغرض توضيح نوع العصيان‪.‬‬
‫اج ِد َ‬
‫ين}‬ ‫الس ِ‬
‫ون َم َع َّ‬ ‫يس َما لَ َك أَالَّ تَ ُك َ‬ ‫ِ‬
‫ال َيا إِ ْبم ُ‬ ‫ففي المرحمة األولى (الصمصال) كان السؤال‪{ :‬قَ َ‬
‫صٍ‬ ‫ِ‬ ‫َس ُج َد لِ َب َ‬
‫ون}‬ ‫ال ِّم ْن َح َمٍإ َّم ْ‬
‫س ُن ٍ‬ ‫ص ْم َ‬ ‫ش ٍر َخمَ ْقتَ ُو من َ‬ ‫ال لَ ْم أَ ُكن ِّأل ْ‬
‫(ٕٖ) سورة الحجر والجواب‪{ :‬قَ َ‬
‫(ٖٖ) سورة الحجر‪.‬‬
‫ولكن إبميس الحظ الترقي والتطور اليائل في المرحمة الثانية‪ ،‬فجاءه السؤال في ىذه المرحمة‬
‫ليؤكد لو إن اإلعراض ىذه المرة سيثبت عميو الكفر ال الشرك! أي شرك األلوىية ال شرك‬
‫الطاعة وذلك من خبلل التصريح بوجود سببين ال ثالث ليما وىما‪ :‬العمو واالستكبار‪.‬‬

‫نت ِم َن ا ْل َعالِ َ‬
‫ين} (٘‪ )ٚ‬سورة‬ ‫ت أ َْم ُك َ‬
‫َستَ ْك َب ْر َ‬
‫يأْ‬ ‫س ُج َد لِ َما َخمَ ْق ُ‬
‫ت ِب َي َد َّ‬ ‫يس َما َم َن َع َك أَن تَ ْ‬
‫ِ‬
‫ال َيا إِ ْبم ُ‬
‫{قَ َ‬
‫ص‬
‫ومع أنو أثبت عميو الكفر في ىذه المرحمة لكن النص الكريم يخبرنا في المرحمة الثالثة (البقرة)‬
‫حيث ىو اآلن آدم (الخميفة) أنو رفض السجود أيضا‪ ،‬ولذلك فبل سؤال وال محاورة حول‬
‫السجود‪ ،‬وانما أخذت المحاورة بعدا آخر تفاصيمو في سورة (اإلسراء‪).‬‬
‫إذن المراحل نفسيا في قصة الخمق تضمنت تفصيبل موسعا لمفرق بين الكفر والشرك والذي‬
‫تؤكده مئات الموارد األخرى‪.‬‬
‫إن المعصية عند المؤمن ليست ىدفا‪ ،‬بل وسيمة إلى غاية أخرى‪ ،‬وىي غير متوجية إلى اهلل‪،‬‬
‫ب‬‫ين َوُي ِح ُّ‬ ‫لذلك فيو يندم إذا فعميا والندم توبة‪ .‬فيو إذن محب هلل ولذلك فإن اهلل { ُي ِح ُّ‬
‫ب التََّّوا ِب َ‬
‫ين} (ٕٕٕ) سورة البقرة‬ ‫ط ِّي ِر َ‬
‫ا ْل ُمتَ َ‬
‫أما الكافر فالمعصية عنده ىدف بحد ذاتيا وىي متوجية بالضد من الخالق جل وعبل فيو إذن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ادو َن لَم ْق ُ ِ‬ ‫(مبغض)‪{ ..‬إِ َّن الَِّذ َ‬
‫ت المَّو أَ ْك َب ُر من َّم ْقت ُك ْم أَنفُ َ‬
‫س ُك ْم } (ٓٔ) سورة غافر‬ ‫ين َكفَُروا ُي َن َ ْ َ‬
‫اء َعمَ ْي ِي ْم‬
‫س َو ٌ‬ ‫رابعا‪ :‬الكافر ال يؤمن والمشرك يؤمن‪ ،‬فالكافر قال تعالى فيو‪{ :‬إِ َّن الَِّذ َ‬
‫ين َكفَُرواْ َ‬
‫أَأَن َذرتَيم أَم لَم تُ ِ‬
‫نذ ْرُى ْم الَ ُي ْؤ ِم ُن َ‬
‫ون} (‪ )ٙ‬سورة البقرة‬ ‫ْ ُْ ْ ْ‬
‫فمماذا أرسل النذير (ص) ولمن؟‬

‫ش ْرهُ ِب َم ْغ ِف َرٍة َوأ ْ‬


‫َج ٍر َك ِر ٍيم}‬ ‫الذ ْك َر َو َخ ِش َي َّ‬
‫الر ْح َمن ِبا ْل َغ ْي ِب فَ َب ِّ‬ ‫ِ‬
‫نذر م ِن اتََّبع ِّ‬
‫َ‬ ‫ِ َّ‬
‫اآلية التالية تجيب‪{ :‬إن َما تُ ُ َ‬
‫(ٔٔ) سورة يــس‪.‬‬
‫ألن الكافر قرر العصيان برغبة قمبية‪ ..‬وىذا ىو اختياره‪.‬‬
‫أما المشرك فإنو يريد الطاعة وال يعمم طريقيا‪ .‬فالرسول واجبو ليس جعل الكافر يؤمن‪ ،‬بل‬
‫جعل المؤمن يطيع طاعة صحيحة ال يشوبيا شرك‪ .‬أي أنو يقود الطائعين إلى طريق الطاعة‪..‬‬
‫وىذا واحد من أىم أسس الحرية في الدين‪ .‬لذلك قال تعالى‪{ :‬الَ إِ ْك َراهَ ِفي الد ِ‬
‫ِّين ‪)ٕ٘ٙ( }...‬‬
‫سورة البقرة‬
‫َح ٌد ِّم َن‬
‫{وِا ْن أ َ‬
‫حيث ال يدري ‪..‬لذلك قال تعالى‪َ :‬‬ ‫المشرك طائع يتخبط ويفعل فعل الكافر من‬
‫ون} (‪)ٙ‬‬‫ْم َن ُو َذلِ َك ِبأ ََّن ُي ْم قَ ْوٌم الَّ َي ْعمَ ُم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫المّو ثُ َّم أ َْبم ْغ ُو َمأ َ‬
‫استَ َجار َك فَأ ِ‬
‫َج ْرهُ َحتَّى َي ْ‬
‫س َم َع َكبلَ َم‬ ‫ين ْ َ‬ ‫ش ِرِك َ‬
‫ا ْل ُم ْ‬
‫سورة التوبة‪ .‬والعمم مسألة عقمية‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬الحظ الباحث أن القرآن قد ناقش المشركين وضرب ليم األمثال وحاورىم ورد عمى‬
‫منطقيم بمنطق آخر‪ ..‬وىو أمر لم يفعمو مع الكفار مطمقا‪.‬‬
‫لماذا؟ ألنو يريد تصحيح مفاىيم أىل الطاعة وال فائدة من مناقشة من ال يريد الطاعة‪.‬‬
‫سادسا‪ :‬ارتبطت المغفرة وتكفير الذنوب والسيئات بموارد ىؤالء العاصين (معصية عقمية)‪..‬‬
‫بينما أكدت اآليات عمى أن الكفار ال يمكن أن يغفر ليم مطمقا‪ ،‬وال يمكن أن يفتدوا أنفسيم‬
‫بملء األرض ذىبا وأنيم أصحاب النار ال يجدون عنيا حوال‪...‬الخ‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬الحظ الباحث قضية غريبة ماكان يعمميا وال فبلسفة األمة أجمعين‪ ،‬واضحة وضوحا‬
‫كافيا في القرآن‪ ،‬وىي أن القرآن إذ ذكر ىذه المجموعات وتحتيا مجموعات وفئات أصغر‪ ،‬فإنو‬
‫لم يذكر تمك المجموعة الوىمية التي تسمي (المنكرين لوجود اهلل‪).‬‬
‫واطمب االنتباه الشديد لما سأقولو لكم‪:‬‬
‫لقد رأينا فيما سبق أن الكافر ىو العاصي عن قصد وغايتو المعصية‪ ،‬والمشرك ىو العاصي‬
‫عن غير قصد وغايتو الطاعة‪ ،‬والمؤمن ىو المطيع‪ .‬إن ىذه الفئات ىيم كل أفراد الخمق وليم‬
‫أجزاء وأقسام‪ .‬ويخبرنا القرآن بوضوح تام أن الخمق كميم كفار ومشركين ومؤمنين يعممون أن‬
‫اهلل واحد‪.‬‬
‫إذن المنكرون لوجود اهلل ال وجود ليم‪ ،‬ولذلك فبل ذكر ليم في القرآن‪ ..‬كان اإلقرار بوجود اهلل‬
‫قديما جدا‪.‬‬
‫ت ِب َرِّب ُك ْم قَالُواْ َبمَى‬ ‫ِ‬ ‫آد َم ِمن ظُ ُي ِ‬
‫ورِى ْم ُذِّريَّتَ ُي ْم َوأَ ْ‬ ‫ُّك ِمن َب ِني َ‬
‫سَ‬‫ش َي َد ُى ْم َعمَى أَنفُس ِي ْم أَلَ ْ‬ ‫َخ َذ َرب َ‬
‫{ َوِا ْذ أ َ‬
‫ين} (ٕ‪ )ٔٚ‬سورة األعراف‬ ‫افمِ َ‬‫ش ِي ْد َنا أَن تَقُولُواْ يوم ا ْل ِقيام ِة إِ َّنا ُك َّنا ع ْن َى َذا َغ ِ‬
‫َ‬ ‫َْ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ولذلك يؤكد القرآن دوما عمى ىذه الحقيقة‪:‬‬
‫ب‬‫ون {قُ ْل َمن َّر ُّ‬ ‫ون لِمَّ ِو ُق ْل أَفَ َبل تَ َذ َّك ُر َ‬
‫س َيقُولُ َ‬ ‫ون* َ‬ ‫ييا إِن ُكنتُ ْم تَ ْعمَ ُم َ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َمن ف َ‬ ‫{ ُقل لِّ َم ِن ْاأل َْر ُ‬
‫ون* ُق ْل َمن ِب َي ِد ِه َممَ ُك ُ‬
‫وت ُك ِّل‬ ‫ون لِمَّ ِو ُق ْل أَفَ َبل تَتَّقُ َ‬
‫س َيقُولُ َ‬ ‫ب ا ْلعر ِ ِ ِ‬
‫ش ا ْل َعظيم * َ‬ ‫الس ْب ِع َو َر ُّ َ ْ‬
‫ات َّ‬ ‫السماو ِ‬
‫َّ َ َ‬
‫ون* سيقُولُ َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ٍ‬
‫اىم‬
‫ون* َب ْل أَتَْي َن ُ‬ ‫س َح ُر َ‬ ‫ون لمَّو ُق ْل فَأ ََّنى تُ ْ‬ ‫ير َوَال ُي َج ُار َعمَ ْيو إِن ُكنتُ ْم تَ ْعمَ ُم َ َ َ‬ ‫ِ‬
‫ش ْيء َو ُى َو ُيج ُ‬
‫ق‬‫ب ُك ُّل إِلَ ٍو ِب َما َخمَ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ان َم َع ُو م ْن إِلَو إِ ًذا لَّ َذ َى َ‬ ‫ون* َما اتَّ َخ َذ المَّ ُو ِمن َولٍَد َو َما َك َ‬ ‫ق َوِا َّن ُي ْم لَ َك ِاذ ُب َ‬‫ِبا ْل َح ِّ‬
‫ون } (ٗ‪ )ٜٔ-ٛ‬سورة المؤمنون‬ ‫صفُ َ‬‫ان المَّ ِو ع َّما ي ِ‬ ‫س ْب َح َ‬ ‫ض ُي ْم َعمَى َب ْع ٍ‬
‫َ َ‬ ‫ض ُ‬ ‫َولَ َع َبل َب ْع ُ‬
‫إذن فما معنى التأكيد عمى وحدانية اهلل دوما في القرآن إذا كان الخمق كميم يدركون أنو إلو‬
‫واحد؟‬

‫ق َوِا َّن ُي ْم لَ َك ِاذ ُب َ‬


‫ون} ىنا مفارقة عجيبة‪ :‬فالسامع يظن‬ ‫اىم ِبا ْل َح ِّ‬
‫{ب ْل أَتَْي َن ُ‬
‫لنبلحظ اآلية األخيرة‪َ :‬‬
‫بسذاجة أن ىؤالء كاذبون في قوليم أن مع اهلل آلية أخرى‪ ..‬بمعنى أن الخبر منيم غير‬
‫صحيح والقرآن يبدو وكأنو يريد البرىنة عمى أن اهلل واحد‪.‬‬
‫لو كان األمر كذلك فينا تناقض شديد بين اعترافيم بالوحدانية من جية ومحاولتو إثباتيا من‬
‫جية أخرى‪ ،‬ألنيم إذا كانوا يؤمنون أنيو إلو واحد فمماذا يحاول البرىنة عمى الوحدانية ولمن‬
‫ىذا البرىان؟‬
‫لقد فات العمماء والفبلسفة أن قولو‪( :‬وأنيم لكاذبون) ليس معناه كاذبون في ىذا الخبر‪، !..‬‬
‫بل ىم كاذبون في أصل الدعوى‪ ،‬أي أنيم حينما يقولون ذلك ال يقولون ما يعتقدونو‪..‬فيم‬
‫كاذبون من ىناك‪..‬من قموبيم ال بالخبر الذي عمى ألسنتيم‪.‬‬
‫لماذا؟‪ ..‬ألن النظام القرآني المحكم جدا ال يسمي المرء إذا أخبر بقضية معتقدا صحتيا وىي‬
‫بخبلف الواقع ال يسميو كاذبا‪ ،‬بل يسميو (قائل بما ال يعمم‪).‬‬
‫نحن بالطبع نسميو (كاذبا) ألننا نتكمم بقسوة عمى بعضنا البعض‪ .‬ويسميو القرآن أيضا (راجما‬
‫بالغيب) وال يسميو كاذبا‪.‬‬
‫الكاذب في القرآن ىو الذي يقول الشيء عالما بمخالفتو لمواقع!‬
‫فكأن القرآن بخطاباتو المؤكدة لمتوحيد يريد إثارة التوحيد الذي ىو شيء مغروس في كل نفس‪،‬‬
‫واثارة التفكير العقمي‪ .‬إنو يقول‪ :‬انتبيوا فإنكم جميعا تعممون أنو إلو واحد وما يقولو ىؤالء ىو‬
‫أكاذيب ليخفوا ىذه الحقيقة‪..‬وىذه األكاذيب لن تبرر لكم المعصية ألننا نحاسب عمى الحقيقة‬
‫التي في داخمكم‪ .‬فعقولكم تقول‪ :‬لو كان معو آلية إذن لذىب كل إلوٍ بما خمق‪..‬عقولكم‬
‫ترفض ىذه الفكرة ألنيا باطمة‪.‬‬
‫وىكذا فاآليات التي تفند الشرك ليست لمداللة عمى الوحدانية وبالتالي عمى استحقاق الطاعة‪،‬‬
‫بل لمداللة عمى استحقاق الطاعة ألنو واحد‪ .‬أي أن الوحدانية ىي الدليل وال دليل عمييا‪.‬‬
‫فانظر إلى الفبلسفة المسممين وغيرىم من الغربيين كيف قمبوا المعادلة إذ لم يكتفوا بذكر األدلة‬
‫عمى الوحدانية حتى ممئوا المجمدات أدلة عمى وجود اهلل‪.‬‬
‫فإن اهلل ىو األول واآلخر والظاىر والباطن‪..‬ليس في ش ٌك والش ُك في كل شيء سواه وىو‬
‫تعالى دليل األدلة‪ ،‬وبو يستدل عمى وجود األشياء‪.‬‬
‫وأن محاولة الفبلسفة في جعل األشياء تدل عميو ىي مثل محاولة الفقياء في جعل النبي‬
‫(ص) دليبل عمى صحة القرآن! وكأن كل من الفئتين أقسم باأليمان الغميظة أن يجعل األمور‬
‫بالمقموب‪!.‬‬
‫لقد كان القرآن معجزة النبي (ص) وأثبت النبي أنو رسول اهلل عن طريق القرآن‪..‬ولكننا فوجئنا‬
‫في القرن العشرين أن ما مكدس من بحوث عقائدية يؤكد عكس ذلك! فالدليل عمى أن ىذا‬
‫الكتاب ىو كتاب اهلل ىو (تواتره) عن النبي! ومعنى ذلك أنو لوال أن النبي (ص) كتبو وجمعو‬
‫الصحابة ورووه عنو فإننا لن ندرك أنو كتاب منزل!‬
‫حسنا‪ ..‬فكيف عرف الصحابة إذن بأن محمدا رسول اهلل؟‬
‫إن النظام القرآني يعيد الوضع إلى ما كان عميو‪ ،‬فالقرآن كتاب معجز قائم بنفسو وىو دليل‬
‫الرسالة والنبوة في حياة النبي (ص) وبعده‪ .‬واذ يحاول ىذا المنيج كشف النظام الداخمي‬
‫لمقرآن فإنو يتمكن كما سترى من إبطال القسم األعظم من ما يسمى بـ (التراث الديني) وبالقرآن‬
‫نفسو‪.‬‬
‫حينما جاء رجل من الشام ليمقي ىذا السؤال الوجيو عمى الخميفة‪( :‬ىل عرفتم ربكم بمحمد أم‬
‫عرفتم محمدا بربكم؟) احتار الصحابة حيرة عظيمة! فاستدعو عمي بن أبي طالب (ع) ليجيب‬
‫عن السؤال فقال‪( :‬إن اهلل أجل وأعظم من أن يعرف بأحد من خمقو بل عرفنا محمدا بربنا‪).‬‬
‫إن حيرة (الرعيل األول) عن اإلجابة واستدعاء رجل من داره ليجيب عمى السؤال يؤكد لنا‬
‫حقيقة أننا أكثر بعدا عن فيم أو رؤية الوجو الحقيقي لمعقيدة اإلليية‪.‬‬
‫وتمك اإلجابة ظمت مجرد رواية في الكتب‪ ،‬لم يأخذ بيا متكمم أو أصولي أو فيمسوف أو فقيو‬
‫إسبلمي‪ ،‬بل التراث الديني كمو نقيض ىذه اإلجابة‪.‬‬
‫ألنك ستسأل‪ :‬لماذا إذن سطر الفبلسفة المسممون عشرات المؤلفات من ابن رشد وابن سينا‬
‫والفارابي‪ ..‬إلى الغربيين من مثل كانت وىيجل وديكارت‪ ..‬في إثبات وجود الخالق؟ ولماذا‬
‫حاولوا البرىنة عمى وجوده إذا كان اهلل أعظم من أن يعرف بأحد من الخمق بما في ذلك محمد‬
‫(ص) نفسو؟‬
‫لقد وضع الفبلسفة المسممون منيم خاصة الدين اإلسبلمي في زاوية الضعف والوىن وجعموه‬
‫متيما منذ البداي َة! ووصموا بالشك بالحقائق التي ال شك فييا‪..‬وتناقشوا فيما ال أصل لو وال‬
‫موضوع! وتركوا ما يعنييم وتدخموا في ما ال يعنييم!!‬
‫أما الفقياء والمفسرون والنحويون فقد جعموا القرآن مدلوال عميو بعد إن كان دليبل ومشكوكا‬
‫فيو بعد إن كان مصد ار إل زالة الشك‪ ..‬وأنت تعمم ما في ىذه العقائد من تراجع عن الخط‬
‫الصحيح وما فييا من تأثير نفسي لبلطمئنان عمى صحة العقيدة‪.‬‬
‫وىكذا ساقوا األدلة عمى أن القرآن كتاب منزل ألن الصحابة رووه عن النبي‪ ،‬وصار النبي‬
‫(ص) ىو الديل عمى القرآن من بعد أن كان القرآن ىو الدليل عمى النبي(ص‪).‬‬
‫ثامنا‪ :‬سأقول لك اآلن عبارة من نتائج ىذا البحث‪ ..‬وستجدىا عصية عمى مسامعك وقاسية‬
‫جدا‪..‬لكنيا في الواقع قضية حقيقية واضحة جاءت من القرآن الكريم‪..‬وأنت تمر عمييا من‬
‫غير أن تشعر‪:‬‬
‫ىل المشرك ضال؟ وستقول لي‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ىل المؤمن باهلل ميتد؟ وستقول لي بالطبع نعم‪ ..‬إنو ميتد‪.‬‬
‫ولكني سأخبرك اآلن‪ :‬إن أكثر المؤمنين ىم ضالون! فما ىو قولك؟‬
‫لماذا تجيمت؟‬
‫لقد اتفقت معي عمى أن المشرك ضال واهلل تعالى يقول‪:‬‬

‫{ َو َما ُي ْؤ ِم ُن أَ ْكثَُرُى ْم ِبالمّ ِو إِالَّ َو ُىم ُّم ْ‬


‫ش ِرُك َ‬
‫ون} (‪ )ٔٓٙ‬سورة يوسف‬
‫إذن أكثر المؤمنين باهلل من الخمق مشركون وبالتالي ضالون‪ .‬وىذه المسألة ال تحتاج لكشفيا‬
‫إلى بحث طويل وال إلى عناء شديد وال إلى منيج لفظي!‬
‫ذلك إن لئليمان مراتبا‪ .‬فإن كان المقصود ىو اإليمان بأن اهلل تعالى ىو الخالق وىو إلو واحد‬
‫ال شريك لو‪ ..‬فإن ىذا اإلقرار قد أعمنو الخمق كميم قببل‪.‬‬
‫المسألة كميا تكمن في التطبيق العممي ليذا اإلقرار‪ ،‬فبعض ىؤالء أشركوا بعبادة ربيم وبعضيم‬
‫أشرك بربو ال بالعبادة وحدىا وبعضيم أشرك بالطاعة‪ ،‬وبعضيم لم يشرك قط ال بربيو وال‬
‫بعبادتو وال بطاعتو‪.‬‬
‫فالفئة األولى ىم (الذين أشركوا) والفئة الثانية ىم (الذين كفروا) والفئة الثالثة ىم (الذين آمنوا‬
‫وكانوا عصاة) والفئة الرابعة ىم (الذين اصطفى اهلل‪).‬‬
‫فالذين أشركوا لم يكفروا والذين كفروا أشركوا‪ ،‬والذين عصوا أشركوا وكان شركيم شرك طاعة‬
‫والذين اصطفى اهلل لم يشركوا وبالتالي لم يكفروا ولم يعصوا اهلل بشرك الطاعة‪.‬‬
‫والقرآن ربما استخدم الشرك في موضع يقصد بو شرك الربوبية أي الكفر‪ ،‬ومن ىنا يحدث‬
‫التباين شديد عمى أساطين العمم فضبل عن الدارسين‪ ،‬لكن النظام القرآني يوضح ذلك بجبلء‬
‫من خبلل األلفاظ المقترنة وعبلقاتيا مع بعضيا‪ ،‬وىو يقوم بتحديد ما سميناه بـ (نظام‬
‫المجموعات) الذي ىو جزء من النظام القرآني‪.‬‬
‫إذن فالشرك بمعنى واسع مشترك بين اإليمان بمعناه الواسع‪ ،‬وبين الكفر‪ ،‬والمخطط التالي‬
‫يوضح العبلقة بين ىذه األلفاظ مع مبلحظة التداخل‪:‬‬
‫نبلحظ من المخطط أن الجزء المنقط ىو الشرك كمو بأقسامو الثبلثة (شرك بالرب وىو كفر‬
‫وشرك بالعبادة وىو ضبلل وشرك بالطاعة وىو عصيان)‪ ،‬إن المربع األيمن ىم أىل األيمان‬
‫التامن والمربع األيسر ىم أىل الكفر والمربعين األوسطين ىما ألىل الضبلل في العبادة‬
‫والطاعة‪..‬فاألقرب منيم لمربع الكفر ىمالمشركون بالعبادة واألقرب لمربع أىل اإليمان التام ىم‬
‫المشركون بالطاعة‪.‬‬
‫ومن ناحية المغفرة فالمربع األيسر لن يغفر ليم أبدا‪ ،‬والمربع األيمن غفر ليم منذ أن خمقوا‪،‬‬
‫من اهلل عمييم‪ ،‬إذ ال معصية لدييم أبدا‪ .‬والقطاع الوسطي والذي يتحرك باالتجاىين تعمقت‬
‫بل َّ‬
‫المغفرة باهلل باختياراتيم‪ .‬فإن شاء غفر وان لم يشأ لم يغفر‪ :‬المتحرك باتجاه اإليمان التام‬
‫يغفر لو والمتحرك باالتجاه المعاكس يؤذن لو بالدخول في الكفر‪ .‬وان بقي في مكانو فإن‬
‫حسابو عند ربو بقوانين وقواعد تخصو ويمكن كشف بعضيا من خبلل النظام القرآني‪.‬‬
‫إن ىذا المخطط التوضيحي ىو الذي سيفسر لك عشرات اآليات القرآنية التي ارتبطت بيا ىذه‬
‫األلفاظ‪.‬‬
‫فمو الحظت اآلن آية اإلخراج من الظممات إلى النور وبالعكس لوجدت اآلية عصية عمى الفيم‬
‫بغير ىذه الصورة‪:‬‬
‫آؤ ُى ُم الطَّا ُغ ُ‬
‫وت‬ ‫الن ُو ِر َوالَِّذ َ‬
‫ين َكفَُرواْ أ َْولِ َي ُ‬ ‫ين آم ُنواْ ي ْخ ِرجيم ِّم َن الظُّمُم ِ‬
‫ات إِلَى ُّ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫{المّ ُو َولِ ُّي الَّذ َ َ ُ ُ ُ‬
‫ون} (‪ )ٕ٘ٚ‬سورة البقرة‬ ‫ييا َخالِ ُد َ‬ ‫ِ‬
‫ار ُى ْم ف َ‬ ‫اب َّ‬
‫الن ِ‬ ‫َص َح ُ‬
‫ِ ِ‬
‫ور إِلَى الظُّمُ َمات أ ُْولَئ َك أ ْ‬ ‫ُي ْخ ِر ُجوَن ُيم ِّم َن ُّ‬
‫الن ِ‬

‫السؤال ىو‪ :‬كيف كان األصل "إن الذين آمنوا في ظممات والذين كفروا في نور؟" فيتم إخراج‬
‫كل فريق إلى الجزء المقابل؟‬
‫أليس المفروض أن الذين آمنوا في نور والذين كفروا في ظممات؟ وما معنى ىذه المقابمة؟‬
‫إن اآلية تحمل تناقضا في داخميا ما لم تفيم بالصورة أعبله‪ ،‬ذلك إن القطاع الوسطي ىو‬
‫خميط من ظممات ونور‪ ،‬وىو لذلك يعتبر ظممات بالنسبة لمذين آمنوا ونو ار بالنسبة لمذين‬
‫كفروا‪ ،‬حيث يتصادم كل منيما مع نقيضو‪ ،‬ونتيجة لذلك يبحث كل منيما عن الوسط المبلئم‬
‫لو‪.‬‬
‫ولكن ال تحسب أن (الذين آمنوا) المقصود بو أمنوا باهلل إليا واحدا‪..‬إذ الجميع آمنوا بمثل‬
‫ذلك‪ ،‬وليذا ترك المفعول بو من غير أن يذكره ‪ :‬آمنوا بماذا؟‬
‫إن اآلية السابقة عمى اآلية قيد البحث وىي أقرب شيء في النظام القرآني يمكنيا أن توضح‬
‫ذلك من غير إيراد لتفاصيل أخرى في موارد أخرى‪.‬‬
‫فاآلية السابقة تحدثت عن (الحرية في االختيار) أو الكفر بالشركاء والتخمص من كل‬
‫انتماء‪..‬فالحديث ىو عن مجموعة محددة سمفا من مجموعات (الذين آمنوا) ىذه المجموعة‬
‫ىي التي تؤمن بثبلثة أشياء مرة واحدة‪ :‬األول رفض اإلكراه واإليمان بحرية االختيار‪ ،‬والثاني‬
‫اكفر بالطاغوت‪ ،‬والثالث اإليمان باهلل وبنفس التسمسل‪:‬‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫الر ْ ِ‬ ‫{الَ إِ ْك َراهَ ِفي الد ِ‬
‫س َك‬ ‫ش ُد م َن ا ْل َغ ِّي فَ َم ْن َي ْكفُ ْر ِبالطَّا ُغوت َوُي ْؤ ِمن ِبالمّو فَقَد ْ‬
‫استَ ْم َ‬ ‫ِّين قَد تََّبي َ‬
‫َّن ُّ‬
‫يم} (‪ )ٕ٘ٙ‬سورة البقرة‬ ‫ِ‬ ‫انفصام لَيا والمّ ُو ِ‬ ‫ِبا ْلعروِة ا ْلوثْقَى الَ ِ‬
‫سميعٌ َعم ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ‬ ‫ُْ َ ُ َ‬
‫إن اإلمامة‪ :‬أي القيادة المتناقضة التي تحاول كل منيا جر أكثر ما يمكن من األفراد إلى‬
‫جانبيا من القطاع الوسطي تأخذ حي از كبي ار في النظام القرآني‪.‬‬
‫ومثمما تكون قيادة الطاغوت متوفرة دوما‪..‬تكون قيادة اإليمان التام متوفرة دوما‪ .‬وىناك آيتان‬
‫بمقدمة واحدة متشابية لفظيا عمى النحو اآلتي‪( :‬وجعمناىم أئمة ييدون‪ )..‬والثانية‪:‬‬
‫(وجعمناىم أئمة ييدون‪..).‬‬
‫فإذا كانت جية اليمين عبارة عن بؤرة لمنور وجية الشماء عبارة عن بؤرة لمظممات‪ ،‬فإن بؤرة‬
‫النور تدعو إلى التحرر من االنتماء باعتبار أن النور ٍ‬
‫كاف بمفرده لبلسترشاد والسير في‬
‫الطريق‪ ،‬وبؤرة الظممات تعرض ظمماتيا وتدعو لبلنتماء باعتبار أن الظمات الحالكة بغير‬
‫انتماء يستحيل السير فييا من غير دليل يرشد إلى الطريق والطاغوت ىو الذي يقوم بدور‬
‫المرشد‪.‬‬
‫فمكل منيما إذن مبرراتو المطابقة لحالتو‪ ،‬ومن ىنا يحدث في القطاع الوسطي خميط وغبش‬
‫من نور وظممات ألن كل فريق يعرض تجارتو في ىذا السوق‪.‬‬
‫فالذين باعوا أنفسيم لمطاغوت (بئس ما شروات بو أنفسيم) والذين آمنوا بالمعنى السابق ىم‬
‫من جممة (من يشري نفسو ابتغاء مرضاة اهلل‪).‬‬
‫فمك أييا اإلنسان الذي في ساحة العرض وما تختار‪ :‬فإن اخترت الظممات فأنت بحاجة‬
‫لبلنتماء حاجة حقيقية‪ .‬وان اخترت النور فإن سيشعرك ببل شك بغناك عن كل انتماء وبصورة‬
‫حقيقية أيضا‪.‬‬

‫الفئات الثبلثة في سورة الفاتحة‬


‫تظير الفئات الثبلثة اآلنفة الذكر من مجموع آيات القرآن‪-‬وفق النظام المشار إليو‪-‬تظير‬
‫سوية في سورة الفاتحة‪.‬‬
‫القطاع الوسطي (ضالون) وعمى اليمين قادة اإليمان التام‪ ،‬وعمى الشمال قادة الكفر‪.‬‬
‫ولكنو يمنح فئة اليمين والشمال اسماءا أخرى في سورة الفاتحة تنسجم مع الموضوع العام‬
‫لمسورة وتبين عبلقة كل منيما باهلل تعالى‪:‬‬

‫وب َعمَي ِي ْم َوالَ الضَّالِّ َ‬


‫ين} (‪-ٙ‬‬ ‫غض ِ‬
‫الم ُ‬
‫ير َ‬‫مت َعمَي ِي ْم َغ ِ‬
‫َنع َ‬ ‫ط الَِّذ َ‬
‫ين أ َ‬
‫ط المستَ ِقيم ِ‬
‫*ص َار َ‬ ‫َ‬ ‫الص َار َ ُ‬
‫{ ِ‬
‫اىد َنا ِّ‬
‫‪ )ٚ‬سورة الفاتحة‬
‫وىؤالء ىم فئة اليمين‪ ،‬وقد ميزىم عن الفئتين اآلخريين بقولو (غير المغضوب عمييم) وىم‬
‫قادة الكفر‪( ،‬وال الضالين) وىم القطاع الوسطي (كمجموع‪).‬‬
‫إن سورة الفاتحة كما ىو معموم تتضمن خبلصة مركزة لكل القرآن كما أشارت إليو بعض‬
‫النصوص‪ ،‬ومن أجل ذلك بدأنا بتفصيل ىذه القضية‪ ،‬إذ أن إدراكيا بصورة خاطئة ال يسمح‬
‫بالمرور في باقي المنافذ واألبواب الموصمة إلى المعارف داخل النظام القرآني‪.‬‬
‫فعند التفتيش عن موارد العبارات (أنعمت عمييم‪-‬أنعمنا عمييم‪-‬أنعم اهلل عمييم) نجد أن ىذه‬
‫التراكيب تتشابك مع تراكيب أخرى تنفصل وتتصل بالتناوب مع نفس الشخوص (من ذرية آدم‪-‬‬
‫وممن حممنا مع نوح‪-‬وممن ىدينا واجتبينا) ويشترك ىؤالء بصفة محددة ىي أن اهلل اصطفاىم‬
‫عمى باقي الخمق‪.‬‬
‫االصطفاء في المفيوم القرآني يعني التصفية والتمحيص واالستخبلص التام ومن ثم المنة‬
‫باليداية بعد سمسمة من االبتبلءات المتواصمة التي منوا بيا ونجاح ىؤالء فييا جميعا‪.‬‬
‫إن سمسمة االبتبلءات ىي عبارة عن متوالية من (كممات) ال غير تكون نيايتيا أن اهلل من‬
‫عمييم بأن جعميم قادة وذلك ىو معنى (الذين أنعمت عمييم)‪ .‬وتظير السمسمة في ابتبلء‬
‫إبراىيم (ع) بوضوح أكبر‪:‬‬
‫ال َو ِمن ُذِّرَّي ِتي قَ َ‬
‫ال الَ َي َنا ُل‬ ‫اما قَ َ‬ ‫اعمُ َك لِ َّمن ِ ِ‬
‫اس إ َم ً‬
‫ال إِ ِّني ج ِ‬
‫َ‬
‫ُّو ِب َكمِم ٍ‬
‫ات فَأَتَ َّم ُي َّن قَ َ‬ ‫يم َرب ُ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫{ َوِاذ ْابتَمَى إ ْب َراى َ‬
‫ين} (ٕٗٔ) سورة البقرة‬ ‫َع ْي ِدي الظَّالِ ِم َ‬
‫فاإلمامة ىي قيادة الطرفين التي أثبت كل فريق فييا جدارة ونجاحا في قيادة اآلخرين سواء‬
‫إلى النور أو إلى الظممات‪.‬‬
‫والنتيجة التي تخص الحرية ىنا ىي‪ :‬أن قادة أو أئمة اليدى يخمصون من الشرك ولكنيم ال‬
‫ينقذون من الكفر (أفأنت تنقذ من في النار‪ ،)..‬وأئمة الكفر يمنعون من اليدى وال يجبرون‬
‫عمى الضبلل‪ ،‬وساحة عمل القيادتين واحدة‪.‬‬
‫{لَ ْو َى َدا َنا المّ ُو لَ َي َد ْي َنا ُك ْم } (ٕٔ) سورة إبراىيم‬
‫ين} (ٖٔ) سورة سبأ‬ ‫{لَ ْوال أَنتُ ْم لَ ُك َّنا ُم ْؤ ِم ِن َ‬
‫نس } (‪ )ٕٜ‬سورة فصمت‬ ‫َض َّبل َنا ِم َن ا ْل ِج ِّن َو ِْ‬
‫اإل ِ‬ ‫{ َربَّ َنا أ َِرَنا الَّ َذ ْي ِن أ َ‬
‫ون فَما تَ ِ‬ ‫َّ‬
‫ص ًار } (‪ )ٜٔ‬سورة الفرقان‬
‫ص ْرفًا َوَال َن ْ‬
‫ون َ‬
‫يع َ‬‫ستَط ُ‬ ‫{فَقَ ْد َكذ ُبو ُكم ِب َما تَقُولُ َ َ ْ‬
‫ين} (‪ )ٕٛ‬سورة الصافات‬ ‫{قَالُوا إِ َّن ُك ْم ُكنتُ ْم تَأْتُوَن َنا َع ِن ا ْل َي ِم ِ‬

‫إلى آخر فقرات المحاورات بين فئتي المغضوب عمييم والضالين والتي تثبت التصور المار‬
‫الذكر‪.‬‬
‫إن تفاصيل ذلك كمو لو موضع آخر‪ ،‬لكننا نريد ىنا التنويو إلى أن ىذه التفاصيل ىي جزء من‬
‫ىذا النظام ال يصحح العقائد فقط‪ ،‬وانما يصحح المغة وقواعدا ومعاني األلفاظ ألن النظام‬
‫يفرض نفسو فرضا عمى الجميع وىو يفضح أي محاولة لطمسو ميما أوتي الفاعل من قدرة‬
‫وحنكة في التبلعب باأللفاظ والتمويو ووضع قواعد نحوية خاصة أو استثنائية كما ستراه‬
‫مفصبل في نماذج ستأتيك في حينيا‪.‬‬
‫حينما يكون في بال المصمي وىو يقول‪( :‬غير المغضوب عمييم وال الضالين) متوجيا إلى‬
‫الييود والنصارى جريا عمى إجماع المفسرين فإنو في تمك المحظة سيكون من الضالين أيضا‪.‬‬
‫ويكون ابتقاتو يابمعنى ىذا ىو التفات إلى الضبلل‪.‬‬
‫ليست فئة المغضوب عمييم وفئة الضالين منتمية إلى أي مجموعة محددة بأسماء من الناس‬
‫الذين ينتمون إلى ديانات أو أقوام أو مذاىب‪ ،‬بل ىي تسمية أخرى تجري في مجرى التقسيم‬
‫المشار إليو آنفا‪ ،‬وىي إذن موجودة في جميع المذاىب واألقوام والديانات بمعانييا االصطبلحية‬
‫لدينا‪ ،‬شأنيا في ذلك شأن المجموعة الفردية المتصفة بالصفات المضادة لصفات المغضوب‬
‫عمييم وال الضالين‪.‬‬
‫التحرر بالنظام القرآني‬
‫حينما تم التأكد من صحة نتائج ىذه التجربة الغنية جدا والتي تركت القسم األعظم منيا لعدم‬
‫القدرة عمى اإلحاطة بيا بيذه الخبلصة العامة‪ ،‬وحينما تسارع العمل بالمعجم المفظي وجدت أن‬
‫البحث السابق عن المنافقين كان قد دخل كجزء ضئيل داخل ىذا النظام‪ ،‬وتم تصحيح نتائجو‪.‬‬
‫ووجدت كذلك من خبلل تمك األواصر الدقيقة بين األلفاظ والبنى التركيبية واإلحكام الصارم‬
‫بينيا أن األ نظمة الكونية والطبيعية من الذرة والفمك والوراثة والعناصر الكيميائية التي جعمتيا‬
‫في مقام التشبيو بالنظام القرآني عند محاولة اإلمساك بـ (الشيء اآلخر)‪ ..‬وجدت ىذه األنظمة‬
‫قد أصبحت شيئا بالغ الضآلة قياسا بالنظام القرآني وتراءى لي بصورة يصعب شرحيا أن‬
‫مجموع ىذه األنظمة الكونية (محشور) بطرائق معينة ومحددة داخل ىذا النظام المفظي لكبلم‬
‫الخالق لتمك األشياء‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى تراءى لي المعنى القريب لقولو تعالى في صفة كبلمو بأنو‪( :‬تبيانا لكل شيء)‪.‬‬
‫وفي تمك المحظة عدت عودة حقيقية إلى طفولتي وانزاح عني المباء السميك من زيف السنين‬
‫الماضية الذي ارتديتو باسم الثقافة فخدعت نفسي بو‪ ،‬فشعرت بخفة وطيارة وتحرر جعمني‬
‫أجمع بين الطفولة والعقبلنية‪ .‬وبعبارة أخرى صار قمبي يقضا جدا ويدق بطريقة مختمفة‪.‬‬
‫لقد كشف لي النظام القرآني أنو نظام قائم بنفسو‪ ،‬وأنو مبين لذاتو وليس بمقدور أحد أن‬
‫يسبقو بتقدير شيء فيو وافتراض أمر إال ويقع في وىم كبير‪.‬‬
‫فيذا النظام ىو مثل أي نظام عام ‪ System‬متميز وحاكم عمى ما يقال فيو وليس محكوما‬
‫باالفتراضات‪ ،‬وىو ليس أىون مما نراه من أشياء حولنا (ذات نظام محكم‪).‬‬
‫فالعالم الذي يضع فرضا لتفسير ظاىرة ما في عالم الطبيعة أو األحياء ال يحاول إسقاط ىذا‬
‫الفرض قس ار عمى الظاىرة‪ ،‬بل ينتظر منيا أن تكشف لو عن نفسيا لتصحيح الفرض‪.‬‬
‫ىذه الفكرة قد أوحت لي بما ال يقبل احتماال آخرا‪ ،‬أن كل ما قيل بشأن تفسير القرآن ممن ال‬
‫يدرك قواعد ىذا النظام ىو مجرد ىراء وكبلم ال معنى لو يسقط فو ار عند عرضو عمى النظام‬
‫القرآني‪.‬‬
‫إن حكم النظام القرآني عمى المغة سنناقشو فيما بعد‪ ،‬وننظر اآلن إلى حكمو عمى العقائد‪:‬‬
‫فإن من يحاول البرىنة عمى فكرة ما مستدال عمى صحتيا من القرآن من غير أن يجعل القرآن‬
‫حاكما عمى صحتيا أو سقميا قبل االستدالل فقد افترى كذبا ولو كان مصيبا اتفاقا‪ ،‬ألنو‬
‫بتكراره العمل نفسو ال يمكن أن يصيب دوما وسوف يخطئ ال محالة في تركب ما يجره إلى‬
‫مزيد من األخطاء في تراكيب أخرى ذات صمة بذلك التركيب في داخل النظام القرآني‪..‬وتتألف‬
‫من ذلك سمسمة غير متتناىية من األخطاء‪.‬‬
‫ومن جعل القرآن حاكما عمى ما يعتقده قبل اعتقاده باعتباره نظاما محكما فقد أصاب وان أخطأ‬
‫اتفاقا‪..‬ألنو بتكرار العمل نفسو يكتشف الخطأ ويتراجع عنو بما في النظام من إحكام صارم‬
‫يمنع االستمرار في الخطأ ويقوم بالتصحيح من جميع الجيات‪.‬‬
‫ومعنى ذلك‪ :‬إن كشف الحقائق بواسطة النظام وكشف خطوط نفس النظام ال يمكن القيام بو‬
‫بعمل عقمي محض‪ ،‬بل ال بد لو من قمب مريد ليذا العمل إرادة حقيقية إضافة إلى القدرة‬
‫العقمية‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أيضا‪ :‬أن المعارف القرآنية (محروسة) أو (محفوظة) في داخل النظام القرآني ال‬
‫يكتشفيا إال من يتعامل مع ىذا النظام (بخضوع تام) حيث يمثل خضوعو لو خضوعا لممتكمم‬
‫وىو اهلل تعالى‪ ،‬عبلوة عمى ما يمنحو ىذا التحديد من فيم آخر لمعنى النص الشيير المتعمق‬
‫بالعممية االجتيادية حيث أشار إلى أن من اجتيد فأخطأ فمو حسنة واحدة ومن اجتيد فأصاب‬
‫فمو حسنتان‪ ،‬حيث يستحيل إطاء تأويل مناسب عقبل وشرعا ليذا النص بغير ىذا الفيم‬
‫الجديد‪.‬‬
‫والحمد هلل رب العالمين‬
‫تم بحمد اهلل ىذا الكتاب الجامع‬
‫لمؤلفو العـــــــبلمة‬
‫عالم سبيط النيمي‬
‫رحمو اهلل وطيب ثراه وجعل الجنة مثواه‬

You might also like