Professional Documents
Culture Documents
الفكر السياسي الروماني القديم
الفكر السياسي الروماني القديم
مقدمة:
ظهرت روما في بداية عهدها كدولة-مدينة مكونة من عدة قبائل تسكن التالل املحيطة بها ،و هي
بذلك تشبه نظام دولة املدينة القائم في املدن اليونانية أثينا و اسبرطة ،لكنها مرت في تاريخها السياس ي
الطويل منذ تأسيسها بعدة مراحل حتى وصلت إلى تأسيس إمبراطورية مترامية األطراف امتدت إلى
أواسط أوروبا شماال ،و انكلترا غربا ،أرمينيا و شواطئ الفرات في بالد النهرين شرقا ،و إلى أقاص ي
الصحراء الكبرى في إفريقيا جنوبا ،و استمر الحكم الروماني لقرون طويلة بدأ منذ نشأتها عام 753
ق.م و حتى سقوط القسطنطينية عاصمة الشق الشرقي على يد محمد الفاتح عام 1453م (بينما
سقطت روما عاصمة الشق الغربي أمام غزو القبائل الجرمانية سنة 476م) ،و خالل هذا التاريخ
الطويل عرفت روما أشكاال مختلفة من الحكم تراوحت بين امللكية و الجمهورية و اإلمبراطورية.
1
.Iفترة الحكم امللكي:
بدأت هذه الفترة مع تأسيس مدينة روما عام 753ق.م ،حيث قدمت تفسيرات مختلفة ألصل
السلطة السياسية امللكية و مصدر شرعيتها ،فهناك من يرجعها إلى أصل أسطوري إلهي متعلق
بأخوين "ريموس" و "رومولوس" أبناء البطل الطروادي األسطوري "اينياس" الذي فر مع أسرته بعد
هزيمة طروادة أمام اليونان ،فكان فراره و وصوله إلى أرض روما تم بمعجزة إلهية و بذلك تشكل نظام
ملكي وراثي إلهي في نشأته و انتقاله .أما البعض اآلخر فيرجع نشأتها إلى أصل إرادي بشري قائم على
الصراع و التحالف إذ اتخذت السلطة السياسية في هذا العصر شكال ملكيا احتكرته لنفسها
مجموعة صغيرة من األسر األرستقراطية من مالك األراض ي عن طريق القوة ،و بمرور السنين أتيحت
الفرصة إلشراك عدد كبير من فئات الشعب الروماني حتى نشأت التقاليد و األنظمة السياسية و
القانونية الرومانية األولى.
يتمتع األحرار بحق ممارسة النشاط السياس ي مع تفاوت ملحوظ ،حيث للنبالء الحق في تولي
مناصب الحكم و االشتراك في مجلس ي الشيوخ و الشعب و دخول سلك الكهنة ،أما العامة فال يجوز
لهم ذلك ،لكن لهم الحق في االشتراك في املجالس املحلية الخاصة بهم و تولي مناصب الحكم في إطار
فئتهم .و تتم ممارسة السلطة أو الحكم في هذا النظام عبر امللك و مجلس ي الشيوخ و الشعب.
.1امللك :يتولى العرش بوصية من امللك السابق ألحد أبنائه أو إخوانه بمعنى عن طريق الوراثة ،فان
لم تكن هناك وصية يقوم مجلس الشيوخ باختيار ملك جديد ملدى الحياة بشرط قبول مجلس
الشعب له .و حين يعين هذا امللك يصبح مقدسا بوصفه اله أو ابن اله أو وسيط بين اآللهة و
2
البشر ،و تكون سلطاته مطلقة( سياسية ،عسكرية ،قضائية ،دينية) ،أما قرارات الحرب و السالم
فال بد أن يشاركه فيها مجلس ي الشعب و الشيوخ ،كما يحق للملك سن القوانين و يعتبر رئيسا
ملجلس ي الشعب و الشيوخ و من حقه تعيين أعضائه.
.2مجلس الشيوخ :يضم رؤساء القبائل الرومانية ،من وظائفه أن يشير على مجلس الشعب
بالشخص الذي اختارته اآللهة للحكم ،و ينيب هذا املجلس عن امللك في مزاولة سلطاته حال غيابه
بسبب املرض ،املوت أو السفر ...الخ ،كما يقدم املشورة غير امللزمة له.
.3مجلس الشعب :يضم جميع الرجال الرومانيين األحرار القادرين على حمل السالح ،صالحياته
اختلفت باختالف العصور و األنظمة ،لكن غالبا ما كانت تتمثل في اقتراح القوانين ،تقرير السالم
و الحرب ،عقد التحالفات ،التصويت على مشاريع القوانين املدنية و القضائية .يجتمع هذا
املجلس بدعوة من امللك ،و للكاهن األعظم ترأس جلساته عندما تطرح قضايا دينية للتصويت.
.IIفترة الحكم الجمهوري:
.1األوضاع السياسية و االجتماعية:
جاءت هذه الفترة اثر تمرد الرومانيين على هيمنة النبالء االتروسكيين عام 509ق.م و القضاء على
آخر ملوكهم .اتسمت هذه الفترة بحدثين مهمين هما:
▪ إتباع روما لسياسات توسعية عسكرية أدت إلى زيادة األعباء على الطبقة العامة.
▪ نشوب صراع حاد بين الطبقتين األرستقراطية و العامة ،حيث زادت أعباء هذه األخيرة و زادت
مسؤولياتها ،ليتم في األخير قبول مطالبها في الحكم و املساواة في الحقوق املدنية و السياسية ،فتم
إعادة توزيع أراض ي الدولة و لم اعد ملكيتها مقتصرة على طبقة النبالء.
.2البنية الحكومية الرومانية:
)1القناصل:
هو نظام جديد ابتكره الرومان ،ينتخب بموجبه مجلس الشعب قنصلين في كل عام ،يوكل إليهما
الجزء األكبر من اختصاصات امللك و سلطاته في النظام امللكي ،باستثناء وظائفه الدينية التي أصبحت
من اختصاص هيئة كهنوتية من رجال الدين ،و من بين سلطاتهما :حق إنزال العقوبة للعسكريين
املخالفين دون محاكمة ،دعوة مجلس الشيوخ لالنعقاد و ترأس جلساته ،لكن تبقى سلطاتهما غير
3
مطلقة ألنهم منتخبون من مجلس الشعب لعام واحد ،و عدم جواز إعادة انتخابهما إال بعد مض ي
عشر سنوات على انتهاء املدة األولى.
أصبح ملجلس الشيوخ دور متعاظم على حساب مجلس الشعب بعد أن انتزع منه العديد من
الصالحيات و املسؤوليات ،لينفرد بالدور الفاعل األساس ي في تنظيم االختصاصات املالية و السياسية
و االجتماعية ،توجيه العالقات الخارجية عبر عقد املفاوضات ،تعيين السفراء ،إعالن الحرب بعد
مشاورة القنصلين ،توقيع االتفاقيات و املعاهدات..الخ.
مع اتساع مساحة اإلمبراطورية و شساعة أراضيها ،اعتمدت روما على مبدأ اإلدارة الالمركزية
فقسمت إلى واليات يحكم كل واحدة منها حاكم روماني بسلطات محلية واسعة.
يعود تاريخ قيام النظام اإلمبراطوري الروماني إلى عام 27ق.م ،عندما أعلن القائد العسكري
أوكتافيوس قيام هذا النظام و حيازته للقب أغسطس ،بعدما أدرك عدم مالءمة شكل النظام
الجمهوري لحكم و إدارة دولة واسعة و مترامية األطراف.
.1اإلمبراطورية العليا:
وضع أغسطس أسسا جديدة إلدارة اإلمبراطورية مع االحتفاظ بمظاهر املؤسسات القديمة،
فاملراحل األولى لقيام النظام اإلمبراطوري لم تشهد تغييرا في مؤسسات الحكم و املتمثلة في القنصلين،
مجلس ي الشيوخ و الشعب ،لكن الحقا بتطور النظام اإلمبراطوري تحول نظام الحكم إلى حكم مطلق
سمي بنظام الحكم الثنائي بسبب الطبيعة املشتركة لسلطات اإلمبراطور و مجلس الشيوخ ،و التي
تزايدت على حساب اختصاصات مجلس الشعب و القنصلين؛ الذين فقدا سلطاتهما و أصبحا
خاضعين ملجلس الشيوخ.
.2اإلمبراطورية السفلى:
4
في هذه املرحلة اتسعت فيها سلطات اإلمبراطور على حساب مجلس الشيوخ خاصة في مجال
السياسة الخارجية و إعالن الحرب و عقد التحالفات و املعاهدات و اختيار القناصل و الحكام،
ليصبح املجلس مقيدا في اختياره باملرشحين الذين يقترحهم اإلمبراطور ،حيث كان ذلك تمهيدا لتحول
نظام الحكم إلى ملكي فردي مطلق تجتمع فيه كل السلطات و الصالحيات في يد اإلمبراطور ابتداء من
عام 284م ،كما أدى تردي األوضاع السياسية و االجتماعية بشكل كبير إلى قيام اإلمبراطور
دقلديانوس بتقسيم اإلمبراطورية إلى قسمين شرقي و غربي ،و التخلص نهائيا من مجلس الشيوخ الذي
تحول ملجلس مدني خاص بمدينة روما.
أصبح قسطنطين إمبراطورا للقسم الغربي من اإلمبراطورية سنة 306م ،و أهم إصالحاته هو
تعيين حاكما مسؤوال عن الشؤون املدنية و قائدا مسؤوال عن الشؤون العسكرية في كل والية ،كما
أخذ بمبدأ الوراثة في الحكم ،و إصدار تشريعات لتوريث املهن ملنع أبناء الحرفيين و الفالحين من ترك
مهن آبائهم و أراضيهم ،فقض ى بذلك على طبقة العامة من األحرار و مهد الطريق لظهور عبيد األرض
أساس قيام النظام اإلقطاعي ،كما أسس الحقا القسطنطينية كعاصمة بديلة عن روما ،و اعترف
بالديانة املسيحية عام 313م عبر مرسوم ميالن.
في نهاية هذه املرحلة من مراحل تطور اإلمبراطورية زادت الصراعات الداخلية و االنقسامات حول
السلطة ،مما أدى إلى سيطرة املؤسسة العسكرية على الحكم و أصبح لها الكلمة العليا في تعيين
األباطرة بعيدا عن نظام الوراثة ،فأصبح العديد منهم من ضباط الجيش خاصة بعد أن زادت
التهديدات الخارجية من الشعوب املجاورة التي سماها الرومان البرابرة.
ولد ماركوس توليوس شيشرون في "أربينوم" من أسرة ميسورة الحال ،بدأ مشواره كرجل دولة سنة
76ق.م أين اشتهر ببالغته و طالقته باعتباره محام بارع ،و هو ما جعله يتقلد منصب قنصل
الجمهورية سنة 63ق.م .عاصر االضطرابات السياسية و املشاكل االقتصادية و االجتماعية التي أدت
إلى بداية انهيار اإلمبراطورية الرومانية ،أعدم سنة 43ق.م بسبب اتهامه باالنخراط في تلك األحداث.
نهل من املصادر األصلية للفكر اليوناني و تأثر كثيرا بأفكار أفالطون فكتب كتابيه الجمهورية و
5
القوانين تأسيا به ،كما تأثر بالفلسفة الرواقية و بأفكار صاحبها زينون الرواقي ،الذي كان يدعو إلى
فكرة املواطنة العاملية و املساواة بين البشر( إلغاء العبودية) ،و احترام القوانين( وجود قانون طبيعي
واحد يحكم الكون كله من وحي اإلرادة اإللهية).
ربط بين السياسة و األخالق ،و اعتبر السياسة بمثابة الواجب األخالقي الذي يهدف إلى تحقيق
الصالح العام ألفراد الدولة ،حيث على رجل الدولة أن يسخر كل طاقاته و جهوده لخدمة شعبه دون
أن ينتظر مقابال وراء ذلك ،فالتقيد بالواجبات و املبادئ الخلقية التي يرتكز عليها الضمير الفردي تزيد
من والء اإلنسان نحو مجتمعه العاملي الكبير الذي يضم اآللهة و البشر أجمعين ،و بخدمة نفسه و
خدمة اآلخرين تتحقق سعادته الكاملة و يبلغ أقص ى درجات الفضيلة.
يرى شيشرون أن على رجل الدولة أو املوظف العمومي االمتثال للقانون و تنفيذ ما يأمر به ،فكما
يحكم القانون املوظفين ،يحكم املوظفون الناس ،لذلك فهو يرى أن املوظف ما هو إال قانونا ناطقا
بينما القانون ما هو إال موظفا صامتا ،و هو يرى أن القوة التي تستخدمها السلطة لتسيير شؤونها عبر
موظفيها هي أداة ضرورية لتنفيذ مبادئ العدالة و إحقاق الحق ،أما عكس ذلك فهو يفقد الدولة
معناها األخالقي و يؤدي إلى انهيارها.
يعرف شيشرون الدولة على أنها {شأن من شؤون الشعب} و الذي يطلق عليه باإلغريقية اسم
" "res populiو هو يعرفها كذلك على أنها {مصلحة الناس املشتركة} و هي بذلك تعني عنده "ذلك
املجتمع املوحد في اعترافه بالحقوق و القوانين و املشاركة الجماعية في األمور العامة و اكتساب
الفوائد" ،بمعنى أن الدولة عنده تجسد مجتمعا للحقوق القانونية و الروابط املصلحية ،و تكمن
وظيفتها األساسية في تنفيذ القانون بهدف تحقيق املنافع املشتركة للجميع.
تنشأ الدولة عند شيشرون لضرورة طبيعية في اإلنسان نتيجة حاجته الفطرية لالجتماع و تلبية
حاجياته ،فهي تكونت تاريخيا بشكل طبيعي دون تدخل إرادة األفراد فيها لكون اإلنسان اجتماعي
بطبعه ،كما يرى أن نشأتها جاءت لضرورة تاريخية ،فالدول عنده تنشأ و تمتد و تتوسع لتسيطر على
أراض ي جديدة و جماعات جديدة فهي كالكائن الحي ينمو و يكبر و يتمدد ،كما أن لنشأتها ضرورة
اجتماعية منفعية فهي ناتجة على العمل الجماعي و تعبر عن املصالح الجماعية املشتركة فهي
6
مصلحة الناس املشتركة في حد ذاتها ،و هي تقوم على االحترام املتبادل املشترك للحقوق بين أفراد
الشعب الواحد.
يرى شيشرون أن الشعب ليس هو أي مجموعة من األفراد اجتمعت ،بل الشعب هو اجتماع
عدد كبير من األفراد الذين يربطهم توافق رأي مشترك بصدد الخضوع القانون و احترام الحقوق و
العدالة و تحقيق املنافع املشتركة.
يعتقد شيشرون أن أسمى ممارسة للفضيلة يكون من خالل املشاركة في حكومة الدولة أي في
الشؤون العامة و تحقيق املصالح املشتركة ،و هو يرى أن الخروج عن املبادئ األخالقية السامية أي
الفضائل معناه فقدان الدولة ملعناها الحقيقي و بالتالي بداية زوالها ،فالدولة الحقيقية عنده هي
الدولة العادلة التي ترعى مصالح و حقوق شعبها ،و هي تحتاج الستخدام القوة لتحقيق أهدافها و
هو استخدام لقوة الناس مجتمعين من خالل تطبيق القانون ،و هذا القانون عنده ما هو إال قانون
هللا أو القانون األخالقي الطبيعي؛ و هو القانون األسمى الذي يعلو على جميع القوانين و على تصرفات
الحكام و املحكومين.
يرى شيشرون أن الحاكم هو امللك ،فهو يمدح النظام امللكي القديم املؤسس لدولة روما و الذي
كان يتسم بالفضيلة و الشرف و العدالة قبل أن يفسد و يتخلى عن فضائله ،و بالتالي لكي تعود روما
إلى عصرها الذهبي وضع شيشرون بعض الصفات املثالية التي يجب أن يتصف بها من يحكم روما و
من بينها ما يلي:
▪ يجب أن يتحلى امللك بالعدل ،الفضيلة و الحكمة ،ضبط النفس ،القوة ،العقل و الثقافة
الواسعة.
▪ يجب أن يكون امللك مثل األب يعتني بمواطنيه كما لو كانوا من أبنائه.
▪ يجب أن يكون امللك من املواطنين البارزين بمعنى أن يكون إنسانا نبيال فاضال.
▪ يجب أن يكون امللك هو أفضل الخيرين لكنه بإمكانه أن يكون حاكما مطلقا مستبدا في وقت
الشدائد.
▪ يجب أن ال يهدف هذا امللك إلى تحقيق املجد و الثروة بل إن ثوابه الحقيقي هو الخلود األبدي في
اآلخرة.
7
-5املساواة و العدالة عند شيشرون:
تنبع فكرة املساواة عند شيشرون من فكرة القانون الطبيعي الذي يقول بوحدة الجنس البشري،
حيث يتساوى جميع األفراد باعتبارهم ينتمون إلى العالم اإلنساني بغض النظر عن انتماءاتهم
العرقية و الوطنية ،فاإلنسان المتالكه ملكة العقل يتميز عن باقي املخلوقات الحيوانية ،و بالتالي
يتساوى مع باقي البشر في القدرة على الفهم و اإلدراك ،حتى و إن تباينت مستوياتهم املعرفية و
العلمية.
يرى شيشرون أن أفراد الشعب متساوون في صفة املواطنة و الخضوع لنفس القانون ،رغم عدم
مساواتهم في امللكية ،و هذه املساواة القانونية تستدعي من الدولة حمايتها و احترامها و هذا يقود إلى
تحقيق العدالة ،و هي عنده متضمنة عالقة الدولة بمواطنيها و التي لن تكون إال من خالل تطبيق
القانون بشكل متساو ،فالعدالة ليست هدفا مرجوا من الدولة فقط بل هي أساس قيام الدولة و
سبب بقائها.
يرى شيشرون أن القانون هو األساس الذي تبنى عليه الدولة ،و هو القانون الطبيعي املنبثق من
حكم هللا للعالم كله ،لذلك فهو ثابت ال يتغير يسمو على جميع القوانين و على جميع البشر حكاما و
محكومين ،حيث يعرفه على أنه "القانون الحق قانون البداهة و التفكير السليم الذي يتماش ى مع
الطبيعة و ينطبق على كل الناس ،و هو الذي تسري أحكامه على جميع البشر و الدول و ال يستطيع
أحد أن ينكره فيجعل من الصواب خطأ أو من الخطأ صوابا".
يرى شيشرون أن القانون الطبيعي هو ذلك القانون املنقوش في طبيعتنا و هو الذي يربط
اإلنسان بإلهه و البشر فيما بينهم ،و هو القانون الواحد الذي يحكم العالم كله و يجعل اإلنسان
ينتمي إلى املدينة أو الدولة ذاتها أو الكون كله ،وهو قانون بسيط ال يحتاج إلى فقهاء لتوضيحه و
تفسيره ،و هو ثابت ال يضع حكما لليوم و آخر للغد ،أو حكما لروما و آخر ألثينا ،و هو القانون الذي
ال يجوز تعطيل أحكامه بتشريعات من صنع البشر ،فال يستطيع ال مجلس الشيوخ و ال مجلس
الشعب ذاته انتهاكه أو حمل الناس على عدم طاعته الن مصدره هو هللا و هو مفسره و راعيه ،و
بذلك فهو مصدر لكل قانون أو دستور.
نظام الحكم امللكي :ينشأ ألنه شبيه بالسلطة األبوية داخل األسرة ،و هو نظام حكم جيد إذا اتصف
بالفضيلة ،لكنه يتحول إلى طغيان باالستبداد في الحكم.
نظام الحكم األرستقراطي :و هو نظام جيد ألنه نظام حكم النخبة ،لكن عندما تظهر فيه الفوارق بين
الناس يصبح نظاما سيئا.
نظام الحكم الديمقراطي :و يصبح فيه الحكم لعامة الشعب ،و يكون نظام حكم جيد إذا احترم
القوانين و حافظ على حقوق املواطنين.
يرى شيشرون أن أيا من النظم السابقة ال يتصف بالكمال ،فامللكية و األرستقراطية واقعيا تقص ي
أناسا كثيرين من التوجيه املشترك للحكم ،أما في الديمقراطية فيتم توزيع املناصب و الخدمات دون
مراعاة سمعة الشخص و مؤهالته ،و بذلك فإن األنظمة الثالث عمليا ال تتضمن العدل و ال تحظى
بإمكانية االستمرارية إلى زمن طويل ،فهي تتعرض دائما إلى التهديد عبر الصراع على السلطة و عبر
االنحطاط و تحولها إلى االستبداد و األوليغارشية و حكم الغوغاء.
أفضل نظام حكم عنده :هو النظام املختلط املتوازن الذي يجمع بين األنظمة الثالث حيث يقول:
"أحب أن يكون في الدولة ش يء من تعالي امللكية ،و تأثير النخبة ،إلى جانب ضرورة إرجاع بعض األمور
إلرادة الشعب" ،كما يرى شيشرون أن قوة الدستور املختلط تتمثل في عمليات املراقبة املتبادلة و
التوازن بين سلطات جهاز الحكم ،باإلضافة إلى التمثيل املالئم للعناصر املختلفة التي تتكون منها
طبقات املجتمع.
ولد سنيكا سنة 02ق.م بقرطبة باسبانيا ،أحضر في شبابه إلى روما ،حيث أحب الفلسفة و انهمك
على دراستها حتى اشتهر بها ،و اختير ليشرف على تعليم "نيرون" و أصبح وزيرا له ،لكن هذا األخير
اتهمه بالتآمر عليه و أجبره على االنتحار بقطع شرايينه سنة 66م .عاصر سنيكا مرحلة حافلة من تاريخ
روما شهدت تغيرات و أحداث سياسية مختلفة أدت إلى زوال النظام الجمهوري الدستوري املتوازن و
قيام النظام اإلمبراطوري العسكري ،كما عاصر ظهور املسيحية و صراعها مع الديانة الوثنية
9
الرومانية فتأثر بها تأثرا بالغا ،لذلك جاءت رؤيته للقضايا السياسية دينية سياسية ،و رغم أنه كان
من املتأثرين بالفلسفة الرواقية و أحد أبرز دعاتها إال أنه أضفى عليها طابعا دينيا على عكس شيشرون
الذي كان قد أضفى عليها طابعا قانونيا.
كان سنيكا رجال ثريا و سياسيا المعا لعب دورا مهما في الحياة االجتماعية و السياسية ،إال أنه كره
الحياة العامة و فضل االنزواء بعيدا رغبة منه في االنعزال و التأمل الفلسفي الروحي ،ليتأمل الحقائق
الطبيعية و االجتماعية في عصر انحطاط روما ،حيث كان يصف املجتمع الذي يعيش فيه بأنه
محتشد من الوحوش الكاسرة ،و الفارق أن الوحوش هي وديعة فيما بينها و ال ينهش بعضها بعضا،
بينما البشر فال شأن لهم غير أن يمزق بعضهم بعضا.
كان سنيكا يرى أن اإلنسان الفيلسوف ال يمكن أن يكون حكيما في كل ش يء ،و أن روحه خاضعة
لقوة إلهية ،فاإلله عنده يسكن جسد اإلنسان كما يسكن الضيف عند مضيفه ،حيث أثر انهيار القيم
األخالقية و الدينية القديمة و انحطاط الحياة االجتماعية على أفكار سنيكا الوثنية ،و أدى إلى تكون
هذه املسحة الروحية التي تنطلق من اإليمان بقوة خالقة مدبرة فوق الوجود املادي الذي سيطر على
حياة اإلنسان ،و بذلك كان سنيكا أول من أشار إلى وجود عاملين واقعيين يسيطران على اإلنسان و
يؤثران فيه ،يعيشهما في الوقت نفسه و هما العالم الروحي الديني و العالم املادي الطبيعي.
يرى سنيكا بناءا على الواقع الذي عايشه أن اإلنسان فاسد و في صراع دائم مع الفضيلة ،و
ملواجهة ذلك شدد على تقدير بعض القيم املعنوية التي ترفع من قيمة اإلنسان و تبعده عن الفساد،
مؤكدا على صفات الرقة و العطف و الرحمة و الترفق و حب الناس ،في مقابل استنكاره للصفات
املناقضة لها مثل القسوة و الكراهية و الغضب و العنف ،حيث رأى سنيكا أن انحطاط روما كان
نتيجة االبتعاد عن الفضائل و القيم األخالقية التي كانت سائدة و أدت إلى ازدهارها مثل قيم العدل و
الحق ،و املساواة أمام القانون ،و الصدق في املعامالت..الخ.
يرى سنيكا أن الفلسفة هي الطريق املوصلة إلى الخالص و إلى الفضيلة ،فهي يعتبرها علم الحكمة و
فن العيش ،و الهدف منها هو تحقيق السعادة ،و السعادة عنده ال تتحقق بالجري وراء امللذات بل
10
بإتباع قيم الشرف و العدالة و الرحمة و الرأفة ،فهذه القيم و الفضائل يمكن اكتسابها و السعي إليها
و ممارستها في كل يوم من خالل التعليم و القراءة و االقتداء بالحكماء و األفاضل و مصاحبتهم.
يرى سنيكا من جهة أخرى أن الفرد ال يصل إلى الفضيلة و راحة النفس إال بتفانيه في أدائه ألعماله
و واجباته و إال فانه سوف يقع ضحية ألهوائه ،فعلى الفرد أن يسعى للكمال الخلقي و الذي لن يكون
إال بتغليبه للمصلحة العامة على مصلحته الخاصة و التي سوف تتحقق من خالل العمل الجماعي ال
محالة ،فاإلنسان الحكيم الصالح عنده هو الذي يؤدي واجبه االجتماعي و يعرض خدماته على
مجتمعه و هي بذلك تعتبر من أسمى الفضائل ( تراجع عن دعوته هذه في مؤلفه قصر الحياة و نصح
كل إنسان عاقل باالبتعاد عن ممارسة السياسة ملا ارتبط بها من سوء لألخالق و فساد لألعمال).
يرى سنيكا أن اإلنسان كان يعيش في مرحلة الطبيعة أي قبل نشوء الدولة و ظهور السلطة و
القوانين في عصر ذهبي ،يتمتع فيه الجميع بالحرية و السعادة و البراءة و البساطة بعيدا عن حياة
الترف و امللذات ،لذلك كان اإلنسان طاهرا بريئا بعيدا عن الطمع و األنانية ،لكن ظهور امللكية الفردية
قض ى على ذلك الطهر و البراءة اإلنسانية.
يرى سنيكا أنه في ذلك العصر لم تكن هناك الحاجة لوجود حكومة أو قانون ملا اتصف به الناس
من الخير؛ الش يء الذي جعلهم يمتثلون إراديا طوعيا ألوامر أكثر الناس حكمة فيهم ،الذين كانوا
يقدمون إرشاداتهم و نصائحهم خدمة للمجتمع و املصلحة العامة دون سعي للسلطة أو مصالح
شخصية ،لكن ظهور النزعة نحو امللكية في نفوس البشر دفعهم للبحث عن املنافع الشخصية و هنا
انقلب القادة أصحاب الخبرة و الحكمة و تحولوا إلى طغاة مستبدين ميزتهم الترف و الفساد .
يرى سنيكا أن السلطة السياسية و القوانين ظهرتا من أجل تطويع النفس البشرية الشريرة و الحد
من مساوئ البشر و فسادهم ،فالسلطة الحاكمة إذا تكون وليدة للشر اإلنساني من ناحية و من
ناحية أخرى تكون وليدة لإلرادة اإللهية التي تستخدمها لتنظيم حياة املجتمع و هذا هو أصل و مصدر
الطاعة و االمتثال ألوامرها ،أما وظيفتها عنده بالنتيجة فهي تنظيم حياة الناس و تلبية حاجياتهم
خاصة األمنية بإيقاف شرور بعضهم ضد بعض و الحد من فسادهم و انحرافاتهم.
11
رأى سنيكا تعذر استعادة روما لعصرها الذهبي (العصر الجمهوري) ألنها دخلت في مرحلة
الشيخوخة و الفساد ،لذلك أصبح خضوعها للحكم اإلمبراطوري املطلق ضرورة تاريخية ال بديل عنها؛
ألنه الوحيد القادر على حفظ النظام فيها و ضمان استمراريتها ،حيث رأى سنيكا أن كل األنظمة سيئة
و كلها يحمل الشرور و املساوئ و لو بدرجات متفاوتة ،لكن أقلها سوءا هو نظام الحكم الفردي
املطلق ألنه األقدر على تحقيق املنفعة األكبر املتمثلة في األمن و االستقرار.
اعتبر سنيكا أن حكم الطاغية املستبد أفضل من حكم الشعب الذي يراه يحمل في ذاته شرورا و
فسادا أضعاف ما يحمله الطاغية ،فالشعب أكثر ظلما و قسوة من الطاغية ،و بذلك يكون أفضل
نظام حكم عنده هو نظام الحكم الفردي امللكي اإلمبراطوري املطلق ،ألنه املؤهل لضمان األمن و
النظام ،بينما أسوء نظام حكم عنده هو نظام الحكم الديمقراطي ،ملا يتسم به أفراد الشعب حسب
رأيه من الخسة و االنحطاط.
12