Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 4

‫جامعة ابن طفيل‬

‫كلية العلوم اإلنسانية و االجتماعية‬


‫شعبة الفلسفة‬
‫وحدة فلسفة التربية‬
‫الفصل السادس‬
‫الدرس رقم ‪2‬‬
‫نسعى من خالل سلسلة املحاضرات التي سنتعرض لها في هذا الفصل إلى طرح بعض اإلشكاالت‬
‫التربوية ذات خصوصية فلسفية باعتبار طبيعتها االتحليلية والنقدية‪ ،‬وملعالجة هذه اإلشكاالت‬
‫الفلسفية في مجال التربية‪ ،‬آثرنا التركيز على أوليفيي روبول (‪ ،)1992-1925‬الفيلسوف الفرنس ي‬
‫املعاصر الذي أولى التربية اهتماما خاصا‪ ،‬مضيفا إياها إلى باقي اهتماماته األخرى‪ ،‬سواء تعلق األمر‬
‫بالبالغة وتحليل الخطاب‪ ،‬وبفلسفة آالن التي كان متخصصا فيها‪ ،‬والذي خصص له اثني عشر عاما‬
‫من حياته‪ ،‬وتجدر اإلشارة إلى أن آالن هو االسم املستعار إلميل أوغست شاترييه ‪Emile Auguste‬‬
‫‪ )1951-1868( Chartier‬وهو من فالسفة فرنسا‪ ،‬وقد اشتهر بمذهبه العقالني ودفاعه عن الحرية‬
‫ومحاربته لكل رقابة وسلطة‪ ،‬وقد تأثر روبول بنزعته اإلنسانية كما تأثر أيضا بكانط ونيتشه ومونطيني‪.‬‬
‫اهتم روبول أيضا بالفلسفة األنجلوساكسونية‪ ،‬أو ما يسمى بالتحليل املنطقي‪ ،‬املتمثل في‬
‫تحليل كل كلمة‪ ،‬أو جملة أو خطاب‪ ،‬متسائال مثال «ما الذي تقصده بالضبط عندما تقول هذا الكالم‬
‫أو هذه العبارة ؟»‪«،‬وبأي حق تقوله؟»‪ .‬وهو تحليل مهم ألنه يؤدي إلى وضوح كبير وصرامة في اللغة ‪.‬كما‬
‫اهتم أيضا بالبالغة والحجاج‪.‬‬
‫أما املجال الثالث والذي هو موضوع بحثنا‪ ،‬فهو املجال التربوي‪ ،‬لقد عمل مدر ّسا لفلسفة التربية‬
‫بجامعة ستراسبورغ بفرنسا‪ ،‬وله مجموعة من األعمال نذكر منها‪" :‬فلسفة التربية"‪" ،‬لغة التربية"‪،‬‬
‫"ماذا يعني التعلم؟"‪"،‬قيم التربية"‪ .‬ومن خالل هذه املؤلفات حاولنا استكشاف تصوره حول التربية‬
‫بشكل شمولي‪ ،‬قصد اإلجابة عن مجموعة من اإلشكاالت التي تعرفها التربية‪ ،‬والتي اختلط فيها القديم‬
‫بالحديث واملعاصر‪ .‬سنختزل هذه اإلشكاالت في عنصرين كبيرين ومهمين؛ يرتبط األول باملدرسة‬
‫وسؤال الفاعلية؛ سنرى إيلتش والتوجه الالمدرس ي‪ ،‬الذي يدعو من خالله إلى إلغاء املدرسة‪ ،‬ألنها ال‬
‫تقوم سوى بتنميط العقول‪ ،‬وتمرير السلطة واإليديولوجيا‪ ،‬وتمارس إكراها لكل من يتعرض لفعلها‬
‫التعليمي‪ ،‬في حين ينبغي أن نترك الفرصة للمتعلمين في أن يتعلموا ما يشاؤون وكما يشاؤون‪ ،‬في غنى‬
‫تام عن أي مدرسة‪ .‬فعلى ماذا يقوم هذا االدعاء‪ ،‬وكيف يمكن أن نرد عليه؟ ثم ما الذي يمكن أن‬
‫نستفيد منه؟ دائما في ارتباط باملدرسة والفاعلية‪ ،‬فإذا استطعنا إثبات وجود املدرسة كضرورة‬
‫انطولوجية‪ ،‬فكيف ينبغي لها أن تكون؟ أو بمعنى أخر؛ ما نوع التعليم الذي ينبغي أن تقدمه املدرسة‬
‫من منظور روبول؟ وكيف يمكن أن نميز بين التعليم وما ليس هو؟ وهذا ما سنتطرق إليه في العنصر‬
‫الثاني‪ .‬ويمكن إضافة عنصر ثالث إن كانت لنا فسحة زمينه تمكننا من ذلك‪ ،‬حيث سنحاول التطرق‬
‫إلى املدرسة في عالقتها باملجتمع‪ ،‬من خالل مناداة جون ديوي بأن تكون املدرسة عضوا حيويا متفاعال‬
‫بشكل تام مع املجتمع‪ ،‬فما هي بالضبط طبيعة هذه العالقة التي يريدها ديوي ‪ ،‬و ما حدودها؟ وبعد‬
‫االنتهاء من هذه العناصر سننعطف إلى الحديث عن املحور الثاني من هذه املحاضرات والذي‬
‫سنخصصه لإلشكاالت واملفارقات املوجودة في التربية؛ واملتمثلة أوال في مسألة القيم؛ فكل مجتمع‬
‫ُ‬
‫يحرص على ترسيخ قيمه في املتعلمين‪ ،‬لكن هل قيم التربية تختزل في ما هو محلي‪ ،‬أو وطني؟ ألننا‬
‫والحالة هذه لن نقوم سوى بالترويض واملذهبة‪ ،‬وهل يمكن الحديث‪ ،‬في املقابل‪ ،‬مع أوليفيي روبول‬
‫عن «حد أدنى مشترك كوني» يمكن للتربية أن تسعى إليه؟ أما املفارقة الثانية‪ ،‬فتتمثل في التربية بين‬
‫السلطة والحرية‪ .‬هل يمكن االستغناء عن السلطة في التربية بشكل كلي كما سنرى مع روسو؟ وفي‬
‫نفس الوقت أال تشكل ممارسة السلطة عائقا أمام حرية املتعلمين‪ ،‬خصوصا وأنها أي الحرية‪ ،‬غاية‬
‫كل تربية انسانية نبيلة؟ وهذا ما سنراه مع لوك‪ ،‬أوغست كونت وكانط‪ .‬ويبقى أهم مشكل يعتري‬
‫موضوع التربية‪ ،‬هو مشكل الغايات‪ ،‬فهل ينبغي أن تكون لصالح الطفل أم لصالح املجتمع؟ وهو‬
‫بالضبط ما سنراه في املحور األخير من هذا الفصل بحيث سيبلور روسو ومونطيني الشق األول‪ ،‬بينما‬
‫سيبلور لوك الشق الثاني‪ ،‬أما كانط فسيقف موقفا نقديا حيث سيعمل على الجمع بين الغايتين‪ .‬وقد‬
‫حاولنا الكشف عن موقف روبول من كل هذه اإلشكاالت التي سنستخلص من خاللها تمثله للتربية‬
‫وكذا التزامه الفلسفي‪.‬‬

‫املبحث األول‪:‬‬
‫لقد حظي االهتمام باملدرسة بأهمية قصوى من قبل مختلف املنظرين في هذا املجال‪ ،‬وهو‬
‫اهتمام تزيد وثيرته كلما تفاقمت مشاكلها‪ ،‬ولو أن أحدا حاول أن يحص ي ما كتب عن املدرسة تقديرا‬
‫وأهمية ووظيفة وقيمة‪ ،‬فلربما احتاج إلى كثير من الصفحات‪ ،‬ذلك ألنها حظيت بما لم تحظ به‬
‫مؤسسة اجتماعية من التبجيل‪ ،‬حتى أن شاعرنا عندما أراد أن يمدح األم التي أكد رسول هللا ‪،‬صلى‬
‫هللا عيه وسلم‪ ،‬أن الجنة تحت أقدامها‪ ،‬لم يجد هذا الشاعر أكثر قيمة وأهمية وتأثيرا من املدرسة كي‬
‫يشبهها بها‪ .‬وأكد نفر آخر أننا كلما فتحنا مدرسة‪ ،‬فإننا نكون بذلك قد أغلقنا سجنا‪ ،‬أو على األقل‬
‫ألغينا فرصة افتتاح سجن جديد على أساس ما تقوم به املدرسة من غرس القيم األخالقية والتنوير‬
‫االجتماعي والوعي القانوني‪ .‬لكن هذا التقدير الذي يكاد يكون بال حدود للمدرسة‪ ،‬يأبى القرن العشرون‬
‫أن يطوي صفحاته مع مجموعة من املنظرين ذوو أفكار أراد بها أصحابها أن يزعزعوا عددا من‬
‫املعتقدات التي استقرت في العقل اإلنساني طيلة قرون‪ .‬وذلك بدعوتهم إلى أن تصبح مجتمعاتنا بال‬
‫مدارس‪ ،‬علما بأن املقصود باملدرسة هنا‪ ،‬هو كل مؤسسة تعليمية نظامية أقامها املجتمع سواء سميت‬
‫مدرسة‪ ،‬أو معهدا‪ ،‬أو كلية‪ ،‬أو جامعة ‪،‬أو غير هذا من التسميات‪ .‬فوفقا ملا أصبح شائعا وسائدا‪ ،‬ينظر‬
‫إلى األطفال على أنهم بالضرورة تالميذ‪ ،‬وال شك أن وجود تالميذ يتطلب أيضا مدرسين‪ ،‬وهؤالء‬
‫بدورهم يؤدي وجودهم إلى ضرورة أن تكون هناك مدارس‪ .‬مع أن تأمال بسيطا فيما يجري حولنا في‬
‫الحياة اليومية يمكن أن يؤكد لنا أننا نتعلم الكثير خارج املدرسة‪ ،‬وعن غير طريق املدرسين‪ ،‬فنحن‬
‫نتعلم جميعا كيف نتكلم ونفكر ونحب ونشعر ونلعب ونمارس العمل والسياسة دون تدخل املدرسين‪.‬‬
‫لذا فاملدرسة‪ ،‬من منظور إيليتش‪ ،‬تضر بالتربية خصوصا عندما نعتقد أنها الوحيدة القادرة على‬
‫القيام بهذا الدور‪ ،‬ولكونها إجبارية واحتكارية؛ فهي ال تسمح للمتعلم بتعلم ما يشاء وبالكيفية التي‬
‫يشاء‪.‬‬
‫وما يمكن أن يالحظه املرء للوهلة األولى عند استقراء مثل هذه األمثلة الناقدة التي وجهت إلى‬
‫املدرسة كمؤسسة قائمة الذات ( وغيرها كثير مما سنأتي إلى بعضه في فقرات تالية)‪ ،‬أننا ال نجد عند‬
‫هؤالء املفكرين مالمح مذهب شامل‪ ،‬ينطلق من نقد الوقع إلى رسم صورة للبدائل التي يمكن أن‬
‫تتالفى مواطن النقد وتدفع بالعمل التربوي إلى خطوات تقدمية‪ ،‬مثلما رأينا عند مفكرين وفالسفة‬
‫سابقين‪ ،‬بغض النظر عما إذا كنا نقتنع بالبدائل املطروحة أم ال‪ ،‬مادامت تقدم في صورة مذهب‬
‫شامل متسقة عناصره بعضها مع البعض اآلخر‪ ،‬فتكون بذلك النتائج ضرورية الزمة عن مقدماتها‪ .‬إال‬
‫أن هذا النوع من إقصاء املؤسسة املدرسية من املجتمع ال يمكنه إال أن يفيدنا إيجابيا؛ و ذلك‬
‫باستكشاف ما ال يمكن تعويضه في املدرسة‪.‬‬
‫ولعل حديثنا عن التعليم وكيف له أن يكون‪ ،‬لن يكون شامال خاصة إن لم نستحضر املجتمع كعنصر‬
‫أساس ي ال يمكن استبعاده‪ ،‬فكيفما كان الحال ال يمكن ألي تعليم أن يكون معزوال‪ ،‬خاصة وأن تشكل‬
‫الذات‪ ،‬إنما هو نتيجة التفاعل املستمر بين الفرد واملجتمع‪ ،‬حيث يتم اكتساب خبرات جديدة في كل‬
‫مرة‪ ،‬وهي على الدوام في حالة تغير وتطور مستمر‪ ،‬فلو أخذنا التصور البراغماتي‪ ،‬سنجد أن الفرد‬
‫(واملجتمع) متالزمان بشكل قوي‪ ،‬بحيث ال يمكن الحديث عن تقدم الفرد في غياب عن تقدم(‬
‫املجتمع)‪ ،‬وكل سلوك هو نتاج لعالقة الفرد باملجتمع‪ .‬فكيف يمكن النظر إذن‪ ،‬إلى هذه العالقة‪،‬‬
‫تعد الفرد كي يكون قادرا للتعايش مع الحياة في جميع‬ ‫خصوصا وأن التربية الطبيعية ينبغي أن ّ‬
‫ظروفها؟‪ .‬وإذا كانت الطبيعة داخل الطفل (فعل الوالدة‪ ،‬الجسد‪ ،‬الغريزة‪ ،‬العادة‪ )...‬ال تمنحه سوى‬
‫أهمية محدودة‪ ،‬فإن اإلنسانية التي يحمل بذورها داخله والقابلة للتفتح بفعل النمو واملوهبة والتربية‬
‫واإلبداع‪ ،‬تظل داخله قيمة يلزم احترامها وتقديرها أخالقيا؛ وهو أمر يفرض على املربي شيئا من‬
‫الحكمة في التعامل معه من خالل معرفة ظروفه النفسية واالجتماعية ‪ ،‬حتى يتسنى التعامل معه‬
‫بشكل مناسب‪ ،‬ويقدم له تعليما مفيدا‪ ،‬عن طريق اكتساب مهارات وكفايات وليس مجرد معلومات‪،‬‬
‫بل تعليما حقيقيا وليس ترويضا‪ .‬األمر الذي يدعونا في هذا املقام إلى التساؤل عن أي نوع من التعليم‬
‫نريده داخل مؤسساتنا التعليمية ؟ وما هي الكفايات املطلوب توفرها لدى املدرسين وكيف يمكن‬
‫برمجتها والتخطيط لها؟‬

You might also like