Professional Documents
Culture Documents
فلسفة التربية 2
فلسفة التربية 2
املبحث األول:
لقد حظي االهتمام باملدرسة بأهمية قصوى من قبل مختلف املنظرين في هذا املجال ،وهو
اهتمام تزيد وثيرته كلما تفاقمت مشاكلها ،ولو أن أحدا حاول أن يحص ي ما كتب عن املدرسة تقديرا
وأهمية ووظيفة وقيمة ،فلربما احتاج إلى كثير من الصفحات ،ذلك ألنها حظيت بما لم تحظ به
مؤسسة اجتماعية من التبجيل ،حتى أن شاعرنا عندما أراد أن يمدح األم التي أكد رسول هللا ،صلى
هللا عيه وسلم ،أن الجنة تحت أقدامها ،لم يجد هذا الشاعر أكثر قيمة وأهمية وتأثيرا من املدرسة كي
يشبهها بها .وأكد نفر آخر أننا كلما فتحنا مدرسة ،فإننا نكون بذلك قد أغلقنا سجنا ،أو على األقل
ألغينا فرصة افتتاح سجن جديد على أساس ما تقوم به املدرسة من غرس القيم األخالقية والتنوير
االجتماعي والوعي القانوني .لكن هذا التقدير الذي يكاد يكون بال حدود للمدرسة ،يأبى القرن العشرون
أن يطوي صفحاته مع مجموعة من املنظرين ذوو أفكار أراد بها أصحابها أن يزعزعوا عددا من
املعتقدات التي استقرت في العقل اإلنساني طيلة قرون .وذلك بدعوتهم إلى أن تصبح مجتمعاتنا بال
مدارس ،علما بأن املقصود باملدرسة هنا ،هو كل مؤسسة تعليمية نظامية أقامها املجتمع سواء سميت
مدرسة ،أو معهدا ،أو كلية ،أو جامعة ،أو غير هذا من التسميات .فوفقا ملا أصبح شائعا وسائدا ،ينظر
إلى األطفال على أنهم بالضرورة تالميذ ،وال شك أن وجود تالميذ يتطلب أيضا مدرسين ،وهؤالء
بدورهم يؤدي وجودهم إلى ضرورة أن تكون هناك مدارس .مع أن تأمال بسيطا فيما يجري حولنا في
الحياة اليومية يمكن أن يؤكد لنا أننا نتعلم الكثير خارج املدرسة ،وعن غير طريق املدرسين ،فنحن
نتعلم جميعا كيف نتكلم ونفكر ونحب ونشعر ونلعب ونمارس العمل والسياسة دون تدخل املدرسين.
لذا فاملدرسة ،من منظور إيليتش ،تضر بالتربية خصوصا عندما نعتقد أنها الوحيدة القادرة على
القيام بهذا الدور ،ولكونها إجبارية واحتكارية؛ فهي ال تسمح للمتعلم بتعلم ما يشاء وبالكيفية التي
يشاء.
وما يمكن أن يالحظه املرء للوهلة األولى عند استقراء مثل هذه األمثلة الناقدة التي وجهت إلى
املدرسة كمؤسسة قائمة الذات ( وغيرها كثير مما سنأتي إلى بعضه في فقرات تالية) ،أننا ال نجد عند
هؤالء املفكرين مالمح مذهب شامل ،ينطلق من نقد الوقع إلى رسم صورة للبدائل التي يمكن أن
تتالفى مواطن النقد وتدفع بالعمل التربوي إلى خطوات تقدمية ،مثلما رأينا عند مفكرين وفالسفة
سابقين ،بغض النظر عما إذا كنا نقتنع بالبدائل املطروحة أم ال ،مادامت تقدم في صورة مذهب
شامل متسقة عناصره بعضها مع البعض اآلخر ،فتكون بذلك النتائج ضرورية الزمة عن مقدماتها .إال
أن هذا النوع من إقصاء املؤسسة املدرسية من املجتمع ال يمكنه إال أن يفيدنا إيجابيا؛ و ذلك
باستكشاف ما ال يمكن تعويضه في املدرسة.
ولعل حديثنا عن التعليم وكيف له أن يكون ،لن يكون شامال خاصة إن لم نستحضر املجتمع كعنصر
أساس ي ال يمكن استبعاده ،فكيفما كان الحال ال يمكن ألي تعليم أن يكون معزوال ،خاصة وأن تشكل
الذات ،إنما هو نتيجة التفاعل املستمر بين الفرد واملجتمع ،حيث يتم اكتساب خبرات جديدة في كل
مرة ،وهي على الدوام في حالة تغير وتطور مستمر ،فلو أخذنا التصور البراغماتي ،سنجد أن الفرد
(واملجتمع) متالزمان بشكل قوي ،بحيث ال يمكن الحديث عن تقدم الفرد في غياب عن تقدم(
املجتمع) ،وكل سلوك هو نتاج لعالقة الفرد باملجتمع .فكيف يمكن النظر إذن ،إلى هذه العالقة،
تعد الفرد كي يكون قادرا للتعايش مع الحياة في جميع خصوصا وأن التربية الطبيعية ينبغي أن ّ
ظروفها؟ .وإذا كانت الطبيعة داخل الطفل (فعل الوالدة ،الجسد ،الغريزة ،العادة )...ال تمنحه سوى
أهمية محدودة ،فإن اإلنسانية التي يحمل بذورها داخله والقابلة للتفتح بفعل النمو واملوهبة والتربية
واإلبداع ،تظل داخله قيمة يلزم احترامها وتقديرها أخالقيا؛ وهو أمر يفرض على املربي شيئا من
الحكمة في التعامل معه من خالل معرفة ظروفه النفسية واالجتماعية ،حتى يتسنى التعامل معه
بشكل مناسب ،ويقدم له تعليما مفيدا ،عن طريق اكتساب مهارات وكفايات وليس مجرد معلومات،
بل تعليما حقيقيا وليس ترويضا .األمر الذي يدعونا في هذا املقام إلى التساؤل عن أي نوع من التعليم
نريده داخل مؤسساتنا التعليمية ؟ وما هي الكفايات املطلوب توفرها لدى املدرسين وكيف يمكن
برمجتها والتخطيط لها؟