Professional Documents
Culture Documents
ثم أما بعد - رانيا الطنوبي
ثم أما بعد - رانيا الطنوبي
ثم أما بعد - رانيا الطنوبي
2
المقدمة
صعد على املنبروكما العادة بدأ بحمد هللا والثناء على
رسوله ثم صمت ولم يتكلم
احتارالناس في أمره وبعد وقت ليس بالقليل سألوا
"ألن تعظنا"
قال بلى ,ولم يتحدث
يا شيخ ما الذي دهاك؟! وما الذي أصابك؟!
زفرثم صاح فيهم بل ما الذي دهاكم؛ أحقا تريدون
سماعي
وعندها لم يجيبوا
كان السؤال األصعب ملن اعتادوا أن الخطب صارت
عادة واعتراف ضمني بأن الغشاوة قد طالت بدورها
آذانهم
ساد صمت طويل فقطعه اإلمام هاتفا
3
"ثم أما بعد"
هال توقفتم عن الركض واستبصرتم ما ينبغي عليكم
استبصاره
"ال"
"إذا ال فائدة..........أقم الصالة"
وكانت الخطبة األكثروقتا رغم قلة كلماتها
رانيا الطنوبي
4
البداية
هل ستأتي ابتسام اليوم؟
سؤال طرحه األربعة الجالسون على مكاتبهم بإحدى
الغرف داخل واحدة من املصالح الحكومية وقد شعروا
بالقلق حيال تأخرها كونها نادرا ما تتغيب دون أن
تبلغهم باعتذارها
لكن بالتأكيد سبب سؤال األستاذ أكمل عنها في نفسه
اختلف تماما عن سبب سؤال رنيم بينما األستاذة
مايسة لم يشغلها غيابها بنفس القدر
وللدقة يبدو أيضا أن األستاذ شكري لم يكن مهتما.
مرت ساعة ومن بعدها دخلت األستاذة عنايات وقد
ظهراألس ى على مالمحها وبدا أنها تملك خبرا عليها أن
تبلغهم به هذا إن كان يعنيهم
5
وهيئتها استوقفت مايسة فسألتها :هل حدث ش يء؟
وبنظرة زائغة قالت :البقاء هلل
والجملة استوقفت األربعة فرفعوا رؤوسهم ونظروا لها
وعال هتافهم معا وهم يسألوها :من؟
ترقرقت عيناها بالدموع ثم قالت :األستاذة ابتسام
توفيت صباح اليوم
وبين ذهول وحزن وصدمة وخزي كان هتاف األربعة:
ابتسام!!!!
6
رنيم
ال ش يء يصف سعادتي اليوم ،فبعد طول انتظار
سيتحقق مرادي وستتم خطبتي على حبيب عمري
"آسر"
ذلك الذي لم يأسرقلبي وحسب بل أسرحياتي كلها،
كانت هذه حالتي قبل عام من اليوم كنت بالفعل أسيرة
ذلك القيد املسمى "حب" ،كنت أوافق على كل ما يريد
وأرض ى بأي ش يء منه وشيئا فشيئا كان يشعرني بأن
حبي يمثل له أكبرعبء وكنت لحماقتي أغض الطرف
وأقول لنفس ي هو يحبني وهذا يكفي حتى بات الوضع
"أنا أحبه وهذا يكفيني"
إلى أن جاء اليوم الذي احتد فيه على والدتي وطريقته
فرضت عليها الزعيق فيه وللعجب لقد كان الخالف
على حجم طاولة السفرة ولم يكمل حواره معها وتركها
7
ورحل وأغلق هاتفه عن عمد ,وفعلت كل ما بوسعي
ألصلح األمرلكن ال جدوى وبعد عدة أيام كانت والدته
بمنزلنا تطلب "الشبكة"!
يومها أدركت معنى أن يكسرك من كنت تظنه نفسك
وما كنت ألصدق ما فعله ،يوما بعد يوم كنت أقنع
عقلي أنه سيعود نادما وسيعتذرويقسم أن الحياة من
دوني ليس لها معنى ولكن كانت األيام تمروال يأتي حتى
علمت من إحدى صديقاتي أنه أتمم خطبته بأخرى
"فكانت تمام الحسرة!"
لن يعود وال يريد ولن أنس ى ما قالته لي أمي ،استفيقي يا
ابنتي وابحثي عن نفسك
وكان قراربداخلي وقسم أن أجعله يندم أشد الندم على
ما فعله
وتمحورت كل أفكاري حول
8
"كيف أجعله يعض أصابع الندم ويدرك قيمتي"
في البداية ناوشتني فكرة االهتمام بنفس ي وشيئا فشيئا
استحوذ األمرعلى وقتي
كنت أستيقظ من السادسة وأقف أمام املرآة قرابة
نصف ساعة من أجل إتمام زينتي وما إن أنتهي حتى
أمني نفس ي أن أقابل آسرصدفة ويراني ويدرك كم
خسر.
تبدل حالي مائة وثمانين درجة أصبحت غيرمبالية
وكثيرا ما كنت أتعمد تأخيرصالتي ،ثم خروجي املستمر
والبحث عن جديد يمل نفس ي ،شغف يكسررتابة ملل
يطوقني باستمراروال أعرف له سببا
ـ أنا بحاجة ملال فقد أنهيت راتبي
وتلك الجملة كنت أزعق بها في وجه والدتي باستمرار
ولتتفادى غضبي كانت تعطيني ما أريد
9
وبدأت حملة تغييرأوسع حيث قراربجلب مالبس أضيق
لتبرز أنوثتي وإن قابلني آسرفبالتأكيد ستزداد حسرته
ألنه أضاع من بين يديه فتاة بجمالي
"هاي ممكن نتعرف"
رسالة أنا من بدأ يرسلها إلى شباب وددت التعرف
عليهم ،ربما ألثبت لنفس ي أنني مرغوبة وجميلة ولكم
كان يسعدني إطراء كثرعلى صوري التي كنت أتعمد
نشرها باستمراروظني أن آسريراقب حسابي ليعرف
أخباري ألنه اشتاق إلي ولكنه بالتأكيد يعاند نفسه
وبنهاية اليوم أضع رأس ي على الوسادة وأحاول أن أسعد
نفس ي بكل ما أفعله لكن شعورا قاتال بالخواء يداهمني،
فأقرر في اليوم التالي الخروج بعد عملي وشراء مالبس
جديدة وحلوى لم أجربها وشوكوالتة وأنا أردد
10
"لن أنتظرمن أحد أن يسعدني ،لن أنتظرمن أحد أن
يعوضني أو كما يقال بطريقة شائعة
(سأمعلش نفس ي بنفس ي ولن أنتظركلمة معلش من
أحد)
وبعد مروراليوم أضع رأس ي على وسادتي ألجد الخواء
يتفاقم وكأنه يمل روحه عن آخرها ،ذابت الشوكوالتة
بفمي ولم تجلب معها السعادة ،وتكدست خزانتي
باملالبس وأدراجي بعلب املكياج وال ش يء يجلب الفرح،
ولم يعد آسرولن يعود
وانهرت أبكي بجزع ،أتلك هي القوة التي تتظاهرين بها يا
رنيم ،واتضح لي كم أنا متخبطة وكل ش يء أفعله
ليسعدني يستمرمفعوله لدقائق أو ساعات ثم ينقض ي
ويعود الخواء واألس ى
إلى متى سيظل حالك هكذا يا رنيم؟؟
11
تسأل أمي وأرى الحزن بعينيها وال أملك إجابة فأزفر
وأتركها وتظهرعصبيتي على أتفه األسباب أو حتى دون
سبب
ـ قلت لك أحضر لي كوب الشاي بدون سكرأيها الغبي
وكان زعيقي بالساعي ,فالتفتت ابتسام وردت :املعذرة يا
رنيم فقد أخذت كوبك بالخطأ
ومع ابتسامة رقيقة وضعت الكوب فوق مكتبي وأخذت
الخروعادت ملكتبها وكالعادة عند آذان الظهراتجهت
لتصلي وفي نفس ي تساءلت أال يستوقفها كم السخرية
منها هنا ،بداية من أستاذة مايسة التي تنعتها بالشيخة
ابتسام مرورا باألستاذة عنايات التي تقول مازحة :اللهم
قوي إيمانك
وإياك.
ِ ورغم ذلك يكون ردها بهدوء :آمين
12
ثم ترحل وتعود لتجتهد بعملها غيرعابئة بنظرات أستاذ
أكمل "البصباص" وال األستاذ شكري الذي لطاملا
تشاجرمعاها ألنها تنهي عملها دون "فتح درجها" من
أجل إكرامية أو شاي أو باألحرى رشوة
وفي ذلك اليوم تحديدا بدأ بيننا الكالم فعند موعد
الخروج كنت قد تأخرت قليال لسبب ما فلم يبق
بالغرفة إال أنا وأكمل الذي قام من مكانه واتجه ليجلس
باملقعد املقابل ملكتبي وقد أمسك بيدي في جرأة وسأل:
ما رأيك لو خرجنا باملساء معا؟
وهالني ما فعل فسحبت يدي وأنا أنظرله بحدة وقد
كدت أصفعه لكنه أمسك بيدي وابتسم بسماجة وقد
قام من مقعده متجها ملقعدي وتجمدت من وقاحته إال
أن صوت ابتسام قد استوقفه حين هتفت :رنيم أنا
أنتظرك ال تتأخري
13
وجملتها كانت كطوق نجاة قررت التعلق به وأنا أرد :أنا
قادمة
وجمعت أشيائي ورحلت مضطربة وظننت أنها
ستتحدث إلي لكنها لم تفعل فقط سألتني عن وسيلة
املواصالت التى سأركبها وأجبتها :املترو
ومن بعد ذلك اليوم أصبحت أغادرقبل الجميع
وأتفادى الحديث مع أكمل بل الكل وقد زادت حدتي
واختلفت نظرتي لكل ش يء من حولي وخاصة الرجال
كونهم يمتازون بالحقارة
زادت المباالتي حتى شملت ترك بعض الصلوات
وأحيانا جميعها وصورا أكثرتحررا ومزاحا أكثرجرأة
بيني وبين أصدقائي على حسابي بــ"الفيس بوك"
ليستوقفني عندها طلب صداقة مرسل لي من زميلي
األستاذ أكمل وعندها أصابتني الصدمة
14
هل يطلع على صوري؟
عندها خيل لي وهو يطالعها باشتهاء ,فأصابني بالغ
التقزز وأنا أتمتم :نفوس مريضة
ثم قمت بحظره ،وكتبت بعدها منشورا عن حريتي التي
لن أتخلى عنها مهما قابلتني نفوس مريضة أو عقول
عفنة!
منشور راق لصديقتي هديرقامت بنشره وهي تعلن أنها
قد خلعت حجابها وهي سعيدة بما فعلت ولن يشغلها
كالم الناس عنها ما دامت فعلت هذا بملء إرادتها الحرة
ولن أنكرتأثري بكلماتها أو باألحرى شجاعتها ،لقد فعلت
ما أتمنى أنا فعله لكنني أخش ى رد فعل من هم حولي
وأولهم والدتي,
ولكن األمرقد بدأ يسيطرعلى عقلي ،وكأنه يزين
"الجو حار"
15
"أنا باألساس حجابي ناقص"
"أنا الزلت صغيرة"
"ربما هو السبب في أن يتركني آسر"
"لم يتقدم إلي أحد"
وظللت على ترددي حتى مرأسبوع وبعدها حسمت
أمري ودون تردد خلعته وتنفست الصعداء وأنا أهتف
في نفس ي
"الن تحررت من قيده"
أشعرني األمربش يء من التحدي ،وما تمنيته أن أجد
نفس ي ويتالش ى ذلك الخواء الذي يالحقني
لكن للحقيقة زاد الخواء ولكني قررت التغافل عنه
ص ِدمت والدتي وكنت أسمعها تدعو هللا لي أن يهديني
أبال
إليه وهي تبكي ولكني لم ِ
16
وأما عن زمالء العمل فحدث وال حرج ،فجأة أصبحت
أنا الشيطان وهم املالئكة
فاألستاذ شكري عندما يراني يستغفرهللا بصوت مرتفع
وأستاذة مايسة تجنبت أي كالم بيننا بشكل نهائي بينما
األستاذة عنايات كانت تحذرالجميع مني
"لعوب تبحث عن عريس ,خطافة رجالة"
حتى أنها حذرت أكمل من التعامل معي وكأنها ال ترى أنه
قد زاد من وقاحته وأصبحت نظراته أكثرجرأة بل
وتصرفاته وكأنه بات يعرف أنه مهما فعل فلن يصدقني
أحد إن اتهمته ألنه البريء وأنا دوما املذنبة
وكل ذلك العبث كان كفيال بجعلي أكثرعصبية حد
احتدام النقاش بيني وبين عنايات ذات يوم حين قررت
نصحي بأسلوب استفزني فهتفت فيها :أنا حرة وال يعنيني
رأي أحد
17
واتجهت بعدها للحمام لغسل وجهي وأنا أحاول أن
أهدأ وقد عقدت العزم على تقديم استقالتي
وفي خضم تلك الفوض ى التي تنشب بداخلي دخلت
ابتسام لتتوضأ وقبل خروجها سألتني
ـ ـ رنيم لم ال تأتين لصالة الظهرمعي
والتفت لها وقد استغربت ،هل حقا تظن أنني أصلي بل
هل هي الزالت ترى بي ذلك الشخص الذي من املمكن
أن يذهب إلى املسجد ويصلي معها؟
قطعت شرودي وقالت :يوجد باملسجد إسدال إذا
أردتي يا رنيم ,تعالي
وتركتني وخرجت ورغما عني فكرت بما فعلته معي ولم
يكن مقصدي كونها عرضت علي أن أصلي معها بل
كونها لم تعاملني بنفس الطريقة التي عاملني بها البقية،
18
لم تنظرلي شزرا أو باحتقارأو تشعرني أنها أفضل رغم
شعوري أنا بأنها بالفعل كذلك
وترددت هل أذهب خلفها أم أعود ملكتبي والحسم هذه
املرة كان من نصيب املسجد
كنت أريد أن أثبت لنفس ي أو للبقية أنني أصلي وليس
معنى خلعي للحجاب أنني قد كفرت بربي
دخلت فوجدتها تصلي بزاوية ,وظللت أتطلع إليها حتى
أنهت صالتها والتفتت إلي ولم تعقب بأي كلمة فقط
مدت يدها باإلسدال ثم قالت :صلي يا رنيم ،تقبل هللا
ومنك
منا ِ
وتركتني وخرجت ,وأنا صليت وعدت لعملي وقد فرضت
علي مراقبتها ،بدت لي مختلفة عنهم ،على األقل هي
الوحيدة التي شعرت بالراحة وأنا قريبة منها
19
ومرت عدة أيام منذ ذلك اليوم تجمعنا صالة الظهر
دون كالم
لكنني لن أنكرأن شيئا ما في نفس ي كان ينتظرمنها
خطبة عصماء عن كوني مقصرة أو وضيعة أو إنسانة
عليها انتظارمقعدها في النارلكنها لم تفعل
حتى جاء ذلك اليوم الذي نصحتها فيه األستاذة عنايات
باالبتعاد عني ألنني شبهة ،واستوقفني ردها عني حين
قالت :ال أحد كبيرعلى الفتنة يا أستاذة عنايات،
والدعاء لها بالهداية أفضل
ولم تكن تعلم أنني أسمعها وعندما جمعتنا صالة الظهر
أنت تصدقين ما تقولين يا
يومها سألتها بريبة :أحقا ِ
ابتسام؟
عال االستغراب وجهها وردت :ما الذي تقصدينه يا
رنيم؟
20
ـ ـ أقصد كالمك ألستاذة عنايات عني ،هل حقا تظنين
أنه ال أحد كبيرعلى الفتنة وأن الدعاء لي أفضل.
صمتت ولم ترد ،وظلت تطالعني ثم قالت :أتعرفين يا
رنيم أين املشكلة؟
أنت تبحثين عن نفسك يا رنيم ،ومن منا
لم أرد فتابعتِ :
لم يجرب التيه ،ومن منا لم يذنب ،ومن منا لم يسقط،
لكننا بحاجة لفهم حياتنا بوعي أكبر ،إننا نحيا لنصلح
أخطاءنا ال أن نتفادها يا رنيم.
ولم تزد على ما قالت كلمة.
21
هل زال الخواء يا رنيم؟
ـ ال
هل شعرآسربالندم يا رنيم؟
وانهمرت دموعي وزاد التخبط وبكيت كثيرا وأنا أصلي
العشاء وعند صالة الظهرفي اليوم التالي سألت ابتسام
دون تردد :ابتسام بداخلي سؤال يئن برأس ي وأريد
وبشدة أن أجد إجابته
ـ ـ تفضلي
ـ ـ هل كان يعجزهللا أن يمنحني الراحة والسعادة ،وأن
يجمعني بمن أحب ،ملاذا فعل هللا بي هذا ،ملاذا حرمني
من حبيبي رغم أنني ألححت بالدعاء عليه أن يجمعني
به؟
وبكيت كثيرا ثم قلت :أشعرأن هللا يكرهني ،بل هو
يكرهني ،أليس كذلك؟
22
مسحت دموعي بيديها ثم قالت :رفقا بنفسك يا رنيم،
حشاه -هللا -أن يعاند عباده أو يحرمهم من السعادة
والراحة وهو الرحمن الرحيم ،لكن إننا -البشر -دوما ما
ندور في ضيق األفق ،نظن أن الراحة فيما نقص أو
ابتعد ال فيما نملك وال من هم إلى جوارنا ،من قال لك
كنت ستعيشين في
أن السعادة كانت إلى جواره ،أو أنك ِ
أخبرك بالغد يا رنيم ومجرياته أو ما
ِ سعادة معه ،من
سيحدث فيه حتى يكون حكمك على األمور هكذا.
ـ ـ ـ أشعربالتخبط ،وال أدري أي طريق أسلك
ـ كوني على الفطرة
ولم أفهم مقصدها وعندها قالت :الفطرة هي البوصلة
التي ستفرض نفسها عند التيه ،هي ما الذي ينبغي
علينا فعله عندما ال ندري ،هي توجيه رباني لعقولنا
ونفوسنا؛ يلهمنا الصواب ويجعل الثوابت دوما هي
23
الرابح األكبر ،وكالمي يعني أنه ربما تعودين للحجاب
ويظل الخواء وتستمرين بالصالة ويظل الخواء ولكن إن
كانت البوصلة هي فهم ماهية عبادتنا وملاذا نفعلها
عندها وفقط سيرتوي ذلك الخواء ِ
ألنك ستتذوقين
حالوة الفعل ،فتعرفين قيمة الخالق وقيمة الخلق
وقيمة عبادة الخلق للخالق وعندها ستمتلئ نفسك.
فهل رحلت ابتسام حقا؟
رحلت قبل أن أخبرها بأنها كانت السبب في عودتي
للطريق الحق بكلماتها!!
يوم تخلى الجميع عني بينما هي تشبثت بيدي وثبتتني
أم أنها ستبقى حية؟
حية بكل كلمة علمتني إياها وبقت لها أثروذكرى.
24
شكري
25
ضيق ذات يدي وراتبي الذي بالكاد يكفيني ويكفي
أوالدي الثالثة وزوجتي
وها أنا أبدل ثيابي من أجل الذهاب لعملي ولكن اليوم
لن يمربسالم كون أطفالي قرروا أن يجتمعوا ويعترضوا
على مصروفهم املدرس ي الذي ما عاد يجلب لهم أي
حلوى كون كل الحلوى قد زاد سعرها
ـ ـ رجاء يا والدي العزيزجنيهان لن يكفيانا بعد اليوم،
على األقل أربعة جنيهات
قالتها ابنتي الكبيرة وأكدت الوسطى ووافقهما الصغير،
مددت يدي بجيبي أجمع الباقي ولكن أسعفتني زوجتي
حين قررت أن تزعق بهم هاتفة :هناك من ال يجد قوت
يومه احمدوا هللا على نعمته
وأمام نظرة أقرب إلى االنكسارقمت بتزويد كل واحد
منهم بجنيه واحد معلال بذلك جبرخاطرهم
26
وما إن خرجوا حتى وضعت لي ما تبقى من أطفالي كي
أفطروكنت أعلم أنني لو أكلته لن يتبقى لها ش يء فأكلت
نصفه ورغم إصرارها على إكمال فطوري لم أفعل
تظاهرت بالشبع ورحلت كعادة كل صباح لعملي
اتجهت ملكان امليكروبصات وركبت وانتظرت ما
توقعته؛هتاف حاد مفاده من السائق زيادة األجرة ،ولم
يعقب أحد ،وكأننا جميعا بات يجمعنا الخرس
أخرجنا النقود من جيوبنا ولم نتمتم ببنت شفة
وطوال الطريق كنت أتابع الشوارع من حولي وأنا أفند
بعقلي النقود املطلوبة مني مع بداية العام الدراس ي،
وبخالف مصروفات املدرسة ،ثمة بند كامل للدروس
الخصوصية ألن املدرسين ما عادوا يشرحون باملدارس
ذلك بخالف غالء األسعارالجنوني الذي أصاب كل
ش يء ،كل ش يء يزيد إال راتبي ال يتحرك أبدا
27
زفرت بشدة واتجهت صوب مكتبي وجلست إليه وأنا
الزلت على شرودي حتى استوقفني عم أمين الساعي
وهو يحييني ويضع أمامي كوب الشاي الصباحي الذي
اعتدت احتساءه ومعه بدأت حوارات زمالئي الجانبية
ـ ـ ثمة عالوة سيتم صرفها بسبب بدء الدراسة
ـ ـ أفلحوا إن صدقوا
ـ كم املبلغ؟
وجهت سؤالي للستاذة عنايات فالتفتت لي لتقول
بفرحة :خمسون جنيها
ضحك أكمل هازئا من املبلغ ثم عقبت ابتسام :إنهم
صدقا ال يعيشون معنا في نفس الكوكب
وعندها أجابت مايسة محتدة :إننا نعاني من زيادة
سكانية كبيرة ،بالكاد يوفرون لنا هذا املال ثم أتبعت
جملتها بالدعاء وجملة جانبية مفادها (أكثرهللا خيرهم)
28
ـ ـ إنهم ال يتفضلون علينا
قالتها ابتسام فعقبت أنا :ش يء أفضل من ال ش يء ،فهم
على يقين أننا لن نعترض أبدا
وساد الصمت بعدها وانشغل كل واحد منا بعمله،
شخص جاء من أجل إنهاء عدة أوراق ،وآخرمن أجل
رخصة بناء وثالث من أجل إمضاء واملشترك بينهم
جميعا درج اعتدنا جميعا تركه مفتوحا لنجمع بنهاية
اليوم حصيلة ما حصدناه
ـ ـ ضع نقودك بجيبك أعتقد أنني قد قلت ذلك بصوت
منخفض إال أنك الن تضطرني لرفع صوتي
29
وتدخل أكمل وهو يقول :هات أوراقك يا سيد عادل وأنا
سوف أنهيها لك وتحرك به ناحية مكتبه بينما بدأت هي
بجمع أشيائها كون موعد الخروج قد حان وعندها
تحركت ناحية مكتبها ألسأل ما املشكلة فسردت أنه
يريد إعطاءها رشوة لتمريرعدة أوراق لرخصة بناء
عقاروعندها قررت التصحيح :هذه إكراميات يا
أستاذة ابتسام فالكل يعرف كيف هي رواتبنا وأحوالنا
وقبل أن أكمل أجابت بحدة :تسمى رشوة يا أستاذ
شكري
زفرت بشدة والتفت وخرجت ،كانت املرة األولى التى
يحدد فيها أحدهم مسمى اإلكرامية بتلك الحدة
والفظاظة
"تسمى رشوة يا أستاذ شكري"
30
وطوال طريق عودتي كنت أفكربما فعلت ،الغبية هل
تريد إقناعنا أنها رفضت ألنها تراها رشوة فعال،أم ألن
املبلغ لم يرق لها"
ولم ألتفت ملا قالت ,جمعت املبلغ اليومي من
اإلكراميات واتجهت للسوق وفي قرارة نفس ي أتساءل
صدقا لو لم تكن هذه اإلكراميات ماذا كان سيحل
بحياتنا وأنا ال أملك إال راتبي
ولم أفكرأكثرأمام سعاراألسعارالذي أصاب كل ش يء،
ابتعت بعض الخضروالفاكهة واشتريت دجاجة وعدت
ملنزلي
وتم استقبالي بفاتورة كهرباء صدمت حين قرأت قيمتها
"ثالثة أضعاف استهالكنا ،ملاذا؟"
"ادفع ثم قم بالشكوى"
"أشتكي ملن؟"
31
قلتها هازئا ثم أتبعتها :هنا الشكوى لغيرهللا مذلة.
والزيادة التي كدت أفرح بها تبخرت وتالشت وكأنها لم
تكن ،بل ما زاد الطين بلة هو نداء زوجتي لي وشكوكها
أن الدجاجة بها ش يء غيرطبيعي ،ربما مريضة
وهتفت فيها بضيق وأنا مصرعلى كونها سليمة وإصرار
أكبرعلى طبخها رغم شعوري أنها محقة
وخرجت من املطبخ متأففا وأنا ال أدري ،زادت األسعار
ولم نتكلم ,ولكن أن تعود أيضا غيرصالحة الستهالكنا
رغم غالئها!
وكان ليمريومي بسالم لوال قيء ابنتي املتواصل وارتفاع
حرارتها فلم أملك إال االتجاه بها ألقرب مشفى
وبالتأكيد موظف مثلي لن يقدرأبدا على مشفى خاص،
فاتجهت ملشفى تابع لتأميني الصحي
32
وعن ما رأيته حدث وال حرج ،فقد اضطررت لدفع
إكرامية للممرضة من أجل دخولي مبكرا ودون اكتراث
البنتي كتب الطبيب عدة أدوية وكان علي صرفها من
صيدلية املشفى وفعلت
وحين عودتي ملنزلي كان تعقيب زوجتي التي قدرا نظرت
للدوية قبل إعطاء ابنتي منها بصدمة :إنها منتهية
الصالحية!
ولم أملك إال الصدمة بدوري والذهاب ألقرب صيدلية
لشراء بديل ليفاجئني الصيدلي عندها بأن هذا الدواء
ربما ال يناسب سن ابنتي
وأمام نصيحته اشتريت البديل املناسب وعدت وكل ما
أرجوه أن تشفى وحمدا هلل أن األمرقد مربسالم.
مرت بعدها عدة أيام الزال فيها كل ش يء على حاله،
درجي املفتوح واإلكراميات وحالنا املقلوب رأسا على
33
عقب حتى أنني رأيت رنيم اليوم وقد خلعت حجابها لم
يسعني إال االستغفاروقد شعرت بالخوف أن تكبرابنتي
وتكون مثلها غيرأني ذكرت نفس ي أنني قد ربيت أبنائي
الثالثة على األخالق وعلمتهم الصالة بل ويحفظون
القرآن وببركة كل هذا بالتأكيد لن يخذلوني أبدا.
وكاد يومي ينتهي بسالم إال أن ثمة حدث استوقفني،
فلقد أتى إلى مكتبي الرجل الذي زعقت به أستاذة
ابتسام منذ عدة أيام ،جلس باملقعد املقابل لي ثم قال:
سألت عن األكبرسنا ومقاما هنا فقالوا لي األستاذ
شكري ،اسمي عادل
قالها ومد يده مصافحا ثم بدأ بشرح األمرقائال أنه
بحاجة ملساعدتي وبعد شرح مطول بدأت افهم ،لقد
حاول أكمل إقناع ابتسام بإتمام أوراق هذا الرجل
لكنها رفضت.
34
ـ ـ لذا لقد أتيت إليك يا سيد شكري كي تساعدني
وتحاول أنت معها ،فإن وافقت أعدك وأعدها بمبلغ
مالي كبيرنظيرإتمام املهمة
وتركني وخرج
كانت حيرتي في أشدها ،لو أن هذا الرجل قد أتاني من
أجل إنهاء ورقة وكنت أنا املختص بها ما كان ليحتاج كل
هذا فقط بعض أوراق نقدية بدرجي كانت لتفي
بالغرض
وعندها أدركت كم هي ذكية ابتسام كونها قد جعلت
األمور تصل لهذا الحد ،هكذا إذا تتظاهرأمامنا بالبراءة
ومن خلفنا تسعى خلف مبلغ مالي كبير
"اللعينة"
صدق القول "إن عشقت فاعشق القمروإن سرقت
فاسرق الجمل"
35
"أستاذة ابتسام"
وكان النداء مني بينما خرج كل زمالئنا من الغرفة ولم
يبق إال أنا وهي ،التفتت وردت :نعم
تكرمت
ِ معك إذا
ـ ـ أريد أن أتحدث ِ
جلست باملقعد املقابل ملكتبي وسألت :خيرا؟؟
وبدأت كالمي عن مجيء السيد عادل لي وعن رغبته
بمنحها مبلغا ماليا مقابل................
ولم أكمل كالمي كونها هتفت بحدة :أستاذ شكري من
فضلك لقد رفضت هذا األمرمسبقا وكفى.
وكادت تحمل حقيبتها وترحل إال أنني استوقفتها هاتفا
وكأنك ال تحتاجين لهذا املال،
ِ بحدة :ملاذا تتصرفين
كيف ترفضين النعمة ،أال يعد هذا "بطرا"
نظرت لي بحدة وقد ضيقت بين حاجبيها ثم ردت بأس ى:
بطر ،نعمة!!!!!
36
وبعد زفرة ضيق أردفت :أي نعمة بمال حرام يضاف إلى
راتبك؟
أنت مدركة ملا تقولين ،عن أي مال
ـ ـ مال حرام! هل ِ
حرام تتحدثين ،إنها إكرامية نظير............
ـ ـ نظيرماذا؟ نظيرعملي وأنا باألساس أحصل على راتبي
وأنت نفسك
ـ ـ راتب ،عن أي راتب تتحدثين يا ابتسام ِ
قلتي من قبل أنهم ال يعطوننا حقنا أبدا
ـ ـ إن كانوا هم ال يعطوننا حقوقنا فهذا ال يعني أن تكون
الرشاوي عندنا مبررة ،ظلمهم لنا لن يجعل تلك
األموال حالال فقط ألننا نستحقها.
وكالمها فرض علي الشعور باإلهانة فقررت أن أزعق كي
أنت ال تعيشين معنا ،وكأنك ال
أدافع عن نفس ي فهتفتِ :
تنظرين حولك جيدا فترين األمور على حقيقتها ،الكل
يفعل ما نفعله يا ابتسام فال تدعي البطولة ،في كل
37
مصلحة حكومية ،كل مدرسة ،كل مشفى ،كل سوق،
الجميع يا ابتسام اعتاد أن يعيش هكذا ،فاستفيقي،
ألن تلك الشعارات البراقة لن تطعم أطفالك ولن
تمنحهم دروسهم الخصوصية ولن تدفع مصروفاتهم
املدرسية.
وشعرت بزهوة انتصارامتلكتني حين صمتت ولم
تستطع الرد وبعد تنهيدة منها قالت :ربما.
وكادت ترحل فاستوقفتها سائال :ماذا تقصدين؟
وكانت الصدمة من نصيبي عندها :ربما جميعنا بحاجة
للمال ألن رواتبنا بالكاد تكفينا ،لكن ما قيمة مال
منزوع البركة من التواجد بحياتنا جميعا ،ما قيمة مال
حرام تسعى أنت لتحصل عليه فيأتي آخرويأخده منك
غصبا أو بالطريقة ذاتها ،ما قيمة مال يضعه شخص
بدرجك املفتوح نهارا تصرفه أنت ليال على دواء أو مرض
38
أو ابتالء أو يأتي من يسرقه منك بذات تصرفكٌ ،
وكل
بطريقته ،طبيب بال ضمير ،مدرس بال ضمير ،بائع بال
ضمير ،فالدائرة كانت وال تزال متسعة وتشملنا جميعا
ولكن بإمكاني العزوف والقول بحسم ،هللا الغني وكفى
ولم تقبل ابتسام املال
لم تقبله
رحلت بعدما رفضته لتقابل ربها بيد نظيفة
رحلت بعدما علمتني أننا من نتحمل مسؤولية ما آلت
إليه أيامنا
"من أعان ظاملا سلطه هللا عليه"
فما بالك بمن يعين الظلم نفسه ثم يشكو أنه املظلوم,
رحلت قبل أن أخبرها أن كلماتها قد فرضت علي إغالق
درجي والرجاء من هللا أن يعوضني بالرزق الطيب.
39
مايسة
وقع ما قالته األستاذة عنايات على أذني كان كصفعة
هزت كل كياني ،توفيت ابتسام صباح اليوم
انهارت أمامي رنيم باكية ،بينما ظل األستاذ شكري
يضرب كفا بكف وهو يقول :ال حول وال قوة إال باهلل،
كيف؟
ـ ـ حادث والزالت باملشفى
أنت على يقين من وفاتها
ـ ـ هل ِ
سأل أكمل وقد بدا عليه الحزن ألول مرة فأكدت
عندها :نعم وستدفن غدا وهذا كل ما عرفته
وأنهت كالمها وخرجت وتركتنا ننظرلبعضنا البعض وال
نملك أي تعقيب
هل رحلت حقا؟
40
بدا لي أن رنيم كانت أكثرنا تأثرا بوفاتها ربما ألنهما قد
جمعتهما مواقف عدة بالفترة األخيرة
الجميع تعامل معها إال أنا لم تجمعني بها أية مواقف أو
حتى كلمات فقط تحية املجيء وتحية االنصراف
زفرت بشدة وأنا ال أدري ما الذي ينبغي علي فعله حيال
الخبربينما استأذنت رنيم وانصرفت
فكرت أن أتناس ى وأفكربعملي ولكني لم أستطع رغم
علمي بقدرتي على تناس ي كل ش يء أمربه ،إال أنني عجزت
عن التغافل عن موتها
رفعت رأس ي ونظرت إلى مكتبها الفارغ وتمتمت بخوف:
هكذا بتلك السهولة ودون استعداد ،لقد كانت باألمس
تجلس بيننا تحتس ي قهوتها وبالتأكيد لم تتوقع أبدا أنه
آخريوم لها في الدنيا
41
وعيناي غلبتني وفضولي دفعني ملراقبة أكمل وشكري،
بدا لي شكري اليوم خدوما على غيرالعادة وقد شدد
على إعادة كل اإلكراميات إلى أصحابها ،بينما أكمل بدا
صامتا ولم يتحدث حتى انتهى الدوام
اتجهت ملحطة املترو وارتكنت بجسدي في إحدى الزوايا
أطالع الوجوه بتعجب متسائلة ،ترى من منهم سيموت
اليوم ومن منهم غدا؟؟
لك دخل بأحد"
"ليس ِ
وأمام تلك الجملة االعتيادية شردت فيما مض ى من
حياتي كلها وسألت نفس ي
"ألم يئن األوان أن تضعي عنوانا لها"
فكرت كثيرا حتى أرهقني التفكيروما إن وصلت إلى بيتي
حتى وجدتني قد تناسيت تماما أمرابتسام
"توفيت"
42
"رحمة هللا عليها ولكن سيمراألمروكفى"
وبكل ما أملك من سرعة بدلت مالبس ي وهرعت
للمطبخ ،أعد طعام الغداء لزوجي وأطفالي فهم على
وشك أن يعودوا بأي لحظة
أذن العصر
فتذكرت أنني لم أصلي الظهروعندها تمتمت في نفس ي:
سأعد صينية البطاطس ثم أتوضأ وأصلي
وما إن انتهيت منها ووضعتها حتى تذكرت األرز فقررت
تحضيره بسرعة ثم الصالة
دق جرس الباب؛ عاد أوالدي إذا.
وضعت األرز على املوقد واتجهت لغرفهم ،بدؤوا في
السرد عن يومهم وأنا خلفهم أساعدهم في تبديل
املالبس وأرتب خلفهم الغرفة وما إن تركتهم وخرجت
43
حتى نظرت لشقتي التي في أمس الحاجة إلى الترتيب قبل
عودة زوجي
"صلي أوال ثم رتبيها"
هكذا قال ضميري بينما قلت أنا سأرتبها سريعا ثم
أصلي وفعلت
وما إن انتهيت حتى شممت رائحة طعامي فاتجهت
للمطبخ ،بدا لي أنه سينضج بعد قليل فربما لو صليت
وعدت سيحترق
وأمام هاجس كهذا فكرت بتحضيرالسلطة
وعاد لي شرودي
توفيت ابتسام اليوم تذكرتها وأنا أغسل الخضرفقلت
في نفس ي سأغلق املوقد بعدما أنتهي من السلطة
وعندها بالتأكيد سأركزبالصالة
44
وما إن انتهيت من إعداد طبق السلطة حتى دارمفتاح
زوجي بالباب
"مايسة ،لقد عدت"
قالها حاتم ألفهم أنه يستوجب علي إعداد طاولة
الطعام واتجهت وأنا أذكرنفس ي
"لم أصلي بعد!"
"لقد توفيت ابتسام اليوم"
واللعنة على ضمير يئن بداخلي ليذكرني بأنني كعادتي
سوفت
"الغداء يا مايسة"
"أنا جائع يا أمي"
وضعت الطعام وجلست بجوارهم ,فكان الهتاف من
ابني األصغر :كل يوم بطاطس
ـ ـ قل الحمد هلل
45
قلتها أنا وتناولنا الطعام دون أن نتحدث بكلمة حتى
قطعتنا ابنتنا بسؤال لوالدها :أبي هل سنخرج
بالعطلة؟
ـ ـ إن شاء هللا
ـ ـ نعم أم ال؟
ـ ـ إن شاء هللا
أعادها بمالمح جامدة فتمتم صغيري في أذن أخته :إن
شاء هللا تعني ال تنتظري شيئا
وصمتا بينما هو لم ينطق بعدها بكلمة وما إن انتهى من
طعامه حتى اتجه ليجلس أمام التلفاز وهو يهتف :كوب
الشاي يا مايسة
مللمت الطاولة بينما اتجه أوالدي لغرفتهم واتجهت أنا
للمطبخ ،وقفت أمام كومة من األطباق املتسخة ثم
46
أعددت لزوجي كوب الشاي وناولته إياه وعدت
للمطبخ ،علي أن أغسل األطباق ثم............
لم أصلي بعد!!!!!!!!!!
ونظرت للساعة وأدركت أنه لم يبق على آذان املغرب إال
القليل فتوضأت ووقفت ألصلي
"هللا أكبر"
(علي أن أغسل األطباق ثم أصنع لنفس ي كوبا من
القهوة ثم أذاكرألوالدي)
"سمع هللا ملن حمده"
(هل أطفأت املوقد قبل الصالة)
"هللا أكبر"
(هل سيسمح لي حاتم بحضور جنازة ابتسام ،ملاذا
صدقا لم أتأثربموتها كالبقية)
47
"سبحان ربي األعلى ،سبحان ربي األعلى ،سبحان ربي
األعلى"
(هل كان يحبها زوجها ،لطاملا استشعرت أن حياتها
أفضل)
"ماييييييييييييسة"
"اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه أكبرررررررررررررر"
ـ ـ ـ إنها تصلي يا أبي
ـ ـ حسنا ،ليأتي أحدكم ويأخذ كوبي يضعه باملطبخ
ولم يقم ابنه بل هتف في أخته :ألم تسمعي ،خذي
الكوب من والدي وضعيه باملطبخ
ـ ـ وملاذا لم تقم أنت؟
ـ ـ أنا ولد.
"السالم عليكم ورحمة هللا ،السالم عليكم ورحمة هللا"
48
لم أملك إال أن أصلي بأقص ى سرعة ،آخذ أنا الكوب من
يد زوجي وأضعه باملطبخ بينما يتجه هو للنوم ،غسلت
األطباق وصنعت كوبا من القهوة ثم اتجهت لغرفة
األوالد ألذاكرمعهم
أذن املغرب فتمتمت :بعدما أنتهي من القهوة
وما إن انتهيت حتى تذكرت أنني الزلت بوضوئي فركضت
مسرعة ألصلي وأنا أهتف بأوالدي :سأعود بسرعة
49
كيف حاله ،أتراه احتال للسود؟؟؟؟؟؟؟؟
لم كل هذا الضيق يا مايسة؟
ماتت ابتسام ولكن ليست معضلة إن األمرلم
يستوقفك ،لم تجمعك بها أي معرفة ،اهدئي وارفقي
بحالك
بل ابكي.....
وانهمرت دموعي عندها بلوعة
أنا............
ماذا؟؟؟
ال أذكرآخرمرة استشعرت فيها قيمة تلك الوقفة
هل أنا أبكي حقا؟
دموع تلو الدموع ولكنني لست متضايقة بل أنا في أمس
الحاجة لتلك الدموع وبشدة
50
مرت السنوات بسرعة ولم أتوقف يوما ألتنفس
الصعداء وأرى ما خلفته
كم صالة مرت دون شعور
كم ليلة مرت دون دعوة صادقة
ال أدري متى كانت املرة األخيرة التي فتحت فيها
مصحفي؟
"ياااااااااااااه"
تنهيدة طويلة وقاسية ،كل يوم يتكرر بروتين منقطع
النظيردون لحظة تأمل بمجرياته
أين أنا من كل ما يحدث؟
أين بصمتي من حياتي؟
وما هو عنوانها؟
ال أعلم
ال أدري
51
وعندما اشتدت دموعي أدركت األزمة
ال أسوأ من أن نجعل هللا أهون الناظرين إلينا
والن هل من صالة مختلفة
صالة مودع ربما قد تكون تلك الركعات هي األخيرة
بعمري
"هللا أكبر"
أكبرمن أال يغفرغفلة عباده عنه
وقرأت الفاتحة كأن لم أقرأها من قبل
املين) ّ
لِل ر ِب الع ِ
(الحمد ِ ِ
على نعم شتى ,لم ال نتوقف للحظة ونحصيها في أنفسنا
قبل النظرملا ينقصنا
الرحمن ّ
الر ِح ِيم) ( ّ
ِ
تلك التى لوالها ما كنا لنملك بالحياة فرصة رغم
أخطائنا
52
الد ِين)
(م ِال ِك يو ِم ِ
ذلك اليوم الذي رغم علمنا باليقين بقدومه إال أننا لم
يعد يعنينا أن نعمل من أجله.
( ِإ ّياك نعبد و ِإ ّياك نست ِعين)
وذلك تمام القول ولكننا دوما تملكنا الغفلة فننس ى،
من لنا سواك نتذلل ببابه وحين تشتد علينا دنيانا
تكون أنت العون والسند.
الصراط املست ِقيم)
(اه ِدنا ِ
وهي دعوة خالصة ندعوها بكل صالة بأفواهنا ولكن إن
تذوقت قلوبنا حالوتها الختلف بها واقع حياتنا
53
وستمراأليام وقد تتأخرصالتي أو أجمعها أو أتعامل
معها وكأنها حمل ثقيل أريد أن أنهيها ألعود لحياتي
بسرعة
ألنني نسيت أو تناسيت أو ربما لم أعرف
"أرحنا بها يا بالل"
ألنها هي الصلة والشحن والدعم وطاقة النور ألرواحنا
حمك هللا يا ابتسام ،فلوال وفاتك فجأة ،ما كانت تلك
ر ِ
الوقفة حتى وإن كانت
"عابرة"
54
أكمل
أنا حقا ال أدري ما الذي أصابني عندما علمت بأمر
وفاتها ،لم أذكرأنني قد سمعت شيئا صدمني على مدار
عمري كمعرفتي بأن ابتسام قد توفت
هكذا بكل بساطة "ماتت"
حاولت التظاهربأنني لم أتأثرلكن بدا للجميع وعلى
رأسهم مايسة أننى لست على ما يرام
غادرت رنيم حزينة ولم يعقب أحد منا
عندها شعرت باالختناق فقررت الخروج حيث أقرب
نافذة بالردهة
أشعلت سيجارة وأخذت في تناولها وقد زاد ضيقي رغم
نفثي املستمرللدخان عل صدري يشعربالراحة
ينته ضيقي بل زاد.
وبالنهاية انتهت السيجارة ولم ِ
هل تشعربالحزن عليها؟
55
ال أدري ،ربما...........
"أفتقدها؟"
أشعرأن هناك شخصا كان وال يزال يستوقفني كلما
رأيته رحل فجأة
"هي مجرد امرأة يا أكمل ،امرأة كأي امرأة عرفتها ،ربما
الفارق أنها لم تهتم أو يلفت نظرها اهتمامك وإعجابك
بها لكن ما املشكلة يا رجل ،فأنت ستجد بسرعة من
تفرح وترض ى بالقرب منك وستنس ى كعادتك
ستنس ى ابتسام تماما كما نسيت..........
"رحاب"
أغمضت عيني وشردت هل الزلت تذكرها رغم الفراق
واإلجابة بقلبي كانت نعم ،الزلت أتذكرنعمة كبيرة أنعم
هللا علي بها ولكني كنت دوما غيرراض
"أنا أستحق األفضل"
56
دوما كنت أقولها لنفس ي وأنا أقارن زوجتي بكل امرأة
تراها عيني ،وال أدري ما الذي تغيركنت أحبها حبا جما،
كنت أتوق للحظة التي ستكون فيها زوجتي وما إن
تزوجنا حتى انتهى الشغف
يقولون أن الزواج مقبرة الحب!!
فهل هذا هو السبب؟؟
لم تتغيرتصرفاتها أبدا معي ،كانت تحب وتعطي وتمدح
وتنتظررغم شعورها بأنني مهما فعلت لن أقابل
تصرفاتها برضا
بل كلما منحت لم تكن تقابل إال الجحود والنقد والكبر
فقط لظني أنني أسحق األفضل
أتذكرجيدا عيد ميالدي األول بعد زواجنا حين أعدت
لي بيدها كعكة بينما أنا كنت أقض ي ليلتي برفقة أخرى
57
وكل ما كنت أتوق إليه هو أن أرافقها إلى منزلها لتتوج
ليلتي بليلة خاصة
لكنني اشتعلت غضبا حين تمنعت ولم أملك إال تفريغ
غضبي بتلك املسكينة التي كانت تجاورني
دفعت طبق الحلوى من يدها وزعقت فيها كي تفهم
وتتركني وفعلت
وبعد عدة أيام عدت من عملي ألجد رسالة من كلمة
واحدة فقط
"طلقني"
وهزأت بالرسالة ألن يقيني بصاحبتها كان كبيرا جدا
"رحاب ال تستطيع أن تعيش بدونك ،رحاب تعشقك يا
رجل ولن ترحل أبدا"
ولم أعبأ باتصاالت والدها وال محاوالت أهلي وكانت
ردودي بكل تكبر
58
كما رحلت تعود
ليأتيني بعدها بعدة أيام إنذارمن املحكمة بدعوى
"خلع"
وبعد عدة أيام أدركت ما آلت إليه حياتي عندما قمت
بتطليقها
ورغم كل ما حدث ظل كبريائي يتالعب بي ويؤكد لي أنها
ستعود ويوما بعد يوم كنت أتظاهربالتناس ي والالمباالة
حتى علمت بأمرخطبتها
ولم تكن أكبرصدماتي أنها لم تعد لي بل كونها قد
خطبت لواحد من أصدقائي كان يراها كنزا
كان يقول لي من يمنحه هللا زوجة صالحة وال يستشعر
قيمة ما يملك جاحد ،وال يلوم إال نفسه حين يجد أن
النعمة قد زالت من بين يديه
59
ولم أبك بحياتي كما بكيت في ذلك اليوم ،أغلقت
بوجهي كل الطرق وحين فكرت أن أهاتفها قالت بثقة
"فات األوان"
واستكملت حياتها تدرس وتعمل وتحب وأنا..........
أنا فقط أتابع وقد قررت التظاهربأن مجاورة النساء
دونها سلوى وسعادة
كنت أتعمد الحديث أمام الجميع أنني أعيش أفضل
أيام حياتي بدونها
"الزواج لعنة نجوت منها"
"الحرية وأن تكون برفقة امرأة بعد امرأة"
أتوسط أصدقائي وأحكي لهم عن السعادة املكذوبة
التي أذوب فيها وقد قابلت (هنا وسما ونور وليلى.......
بل أكثر
60
فيحسدونني ويمدحون حياتي وهم يتحدثون عن
حياتهم الزوجية التي ال تحمل إال الهم والنكد
ولو أدركوا أنني أنا الحاسد لهم لتوقفوا
فلو جربوا بيتا فارغا دون زوجة تنتظر ،دون حياة
وأطفال وش يء يشعرك أنك تعيش ألجله
لعلموا أنني أنا الضائع ،أنا التعيس ،أنا من خسر
"أكمل"
والنداء كان من شكري ألعود أدراجي وأكمل عملي
وحاولت وقد تظاهرت أن كل ش يء على ما يرام حتى
انتهى يومي
شعرت أنني سأختنق وما إن وصلت لبيتي حتى قررت أن
أغض الطرف عن أحداث يومي وأخرج للتنزه
ولكي ال أكون وحدي اتصلت بأصدقائي فكانت إجابتهم
كلهم باالعتذارلظروف خاصة
61
ألقيت هاتفي بإهمال وجلست لدقائق شاردا في الفراغ
وأنا ال أملك وجهة محددة
ش يء ما بداخلي دفعني أن أقرر فتح حساب زوجتي
بموقع فيس بوك ومتابعته لتفقد أحوالها
فكانت الصاعقة
اليوم هو يوم زفافها
والدعوة للجميع من أهلها وأصدقائها
هنا أدركت سرإعتذارات أصدقائي كونهم سيذهبون
لحضور حفل الزفاف
وفرت دمعة من عيني تداركتها ومحوتها فورا وأنا أقول
لنفس ي
"ال عليك"
62
وقبل التظاهربغض الطرف أعدت لنفس ي بعض
الشطائروكوب شاي وجلست أمام التلفازليقاطعني
اتصال من شكري ليسأل
ـ هل ستذهب لصالة الجنازة على ابتسام غدا
سؤال أشعرني وكأنني أسقط في قاع بئرعميقة بال نهاية
"أصلي"
قلتها وكأنني أتذكرالكلمة نفسها وقد شعرت بصوت
شكري يكسوه االستغراب ولكنه أردف :غدا بعد صالة
الجمعة صالة الجنازة
فهل ستأتي؟
63
الخاتمة
"أحقا تريدون سماعي"
سؤال سأله اإلمام وظل يمني نفسه بإجابة حاسمة من
أحدهم ولكنهم صمتوا فاستشعراليأس وصمت
وساد صمتهم وبصائرهم قد تعلقت به حتى قرر الهتاف
"ثم أما بعد"
هال توقفتم عن الركض واستبصرتم ما ينبغي عليكم
استبصاره
"ال"
قالها أحد الحاضرين فزلزلت البقية وجاء رد اإلمام
بغتة
"إذا ال فائدة..........أقم الصالة"
وما إن التفت حتى صاح أحدهم :مهال يا شيخ راجي حتى
64
وإن دب بك اليأس بحالنا عظنا علها كلمة يهدي هللا بها
واحدا منا ال ندري من هو
دب األمل في نفس الشيخ ،فهذا ما كان يريد سماعه ولو
من شخص
ابتسم وصعد على املنبروقد نوه أن هناك صالة جنازة
بعد الصالة وقد امتل املسجد عن آخره
وتجاور شكري بجوارأكمل وبمصلى النساء كانت رنيم
ومايسة وعنايات
وبدأت الخطبة
إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستهديه
(من يهد هللا فهو املهتد ومن يضلل فلن جتد له وليا
مرشدا)
67
ونهاية كل طريق كانت للعيان واضحة ولكن يبدو أن بنو
البشرأقل الكائنات عبرة
ولكني سأذكرنفس ي وإياكم بأننا بحاجة ألن نتفقد
أحوال أنفسنا ما استطاعنا
دون يأس أو تهوين
فاألصل ليس بأن نتوقف عن الذنوب
بل أن نتوب كلما جاءتنا الفرصة
َ َ َ َ َّ ْ َ ُ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ َّ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ْ
(وقال الشيطان َلا ق ِض ي اْلمر ِإن اَّلل وعدكم وعد الح ِق
ان ل َي َع َل ْي ُك ْم م ْن ُس ْل َطان إ ََّّل َأنْ َو َو َع ْد ُت ُك ْم َف َأ ْخ َل ْف ُت ُك ْم َو َما َك َ
ٍ ِ ِ ِ
َ َ ُْ ُ ْ َ ْ َ َ ُْ ْ ََ َُ ُ َُ ُ َْ ُ َ ُ ْ َ ََ
دعوتكم فاستجبتم ِلي فَل تلومو ِني ولوموا أنفسكم ما أنا
صرخ َّي إني َك َف ْر ُت ب َما َأ ْش َر ْك ُت ُمون منْ صرخ ُك ْم َو َما َأ ْن ُت ْم ب ُم ْ ب ُم ْ
ِ ِ ِ ِ ِ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اب َأ ِليم)ٌ الظ ِاَل َين َل ُه ْم َع َذ ٌ
َ ْ ُ َّ َّ
قبل ِإن ِ
أقم الصالة
انتهت الخطبة ثم الصالة ،ثم كانت صالة الجنازة
68
وضع جثمان ابتسام وصلوا عليها لترحل إلى مثواها
األخيروقد انتهت قصتها أمام أعينهم ههنا
فهل تأثروا؟!
قد يكون هذا محتمال.
وهل استبصروا؟!
ربما اإلجابة نعم!
لكنه حالنا
وكلنا بحاجة إلدراك الفارق بين املثالي والسوي
أننا سنظل بشرا ولن نكون مالئكة
نجتهد ومكمن االجتهاد
في إعمال عقولنا.
69