ثم أما بعد - رانيا الطنوبي

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 69

1

‫"ثم أما بعد"‬


‫بقلمي‬
‫رانيا الطنوبي‬

‫‪2‬‬
‫المقدمة‬
‫صعد على املنبروكما العادة بدأ بحمد هللا والثناء على‬
‫رسوله ثم صمت ولم يتكلم‬
‫احتارالناس في أمره وبعد وقت ليس بالقليل سألوا‬
‫"ألن تعظنا"‬
‫قال بلى‪ ,‬ولم يتحدث‬
‫يا شيخ ما الذي دهاك؟! وما الذي أصابك؟!‬
‫زفرثم صاح فيهم بل ما الذي دهاكم؛ أحقا تريدون‬
‫سماعي‬
‫وعندها لم يجيبوا‬
‫كان السؤال األصعب ملن اعتادوا أن الخطب صارت‬
‫عادة واعتراف ضمني بأن الغشاوة قد طالت بدورها‬
‫آذانهم‬
‫ساد صمت طويل فقطعه اإلمام هاتفا‬
‫‪3‬‬
‫"ثم أما بعد"‬
‫هال توقفتم عن الركض واستبصرتم ما ينبغي عليكم‬
‫استبصاره‬
‫"ال"‬
‫"إذا ال فائدة‪..........‬أقم الصالة"‬
‫وكانت الخطبة األكثروقتا رغم قلة كلماتها‬

‫رانيا الطنوبي‬

‫‪4‬‬
‫البداية‬
‫هل ستأتي ابتسام اليوم؟‬
‫سؤال طرحه األربعة الجالسون على مكاتبهم بإحدى‬
‫الغرف داخل واحدة من املصالح الحكومية وقد شعروا‬
‫بالقلق حيال تأخرها كونها نادرا ما تتغيب دون أن‬
‫تبلغهم باعتذارها‬
‫لكن بالتأكيد سبب سؤال األستاذ أكمل عنها في نفسه‬
‫اختلف تماما عن سبب سؤال رنيم بينما األستاذة‬
‫مايسة لم يشغلها غيابها بنفس القدر‬
‫وللدقة يبدو أيضا أن األستاذ شكري لم يكن مهتما‪.‬‬
‫مرت ساعة ومن بعدها دخلت األستاذة عنايات وقد‬
‫ظهراألس ى على مالمحها وبدا أنها تملك خبرا عليها أن‬
‫تبلغهم به هذا إن كان يعنيهم‬

‫‪5‬‬
‫وهيئتها استوقفت مايسة فسألتها‪ :‬هل حدث ش يء؟‬
‫وبنظرة زائغة قالت‪ :‬البقاء هلل‬
‫والجملة استوقفت األربعة فرفعوا رؤوسهم ونظروا لها‬
‫وعال هتافهم معا وهم يسألوها‪ :‬من؟‬
‫ترقرقت عيناها بالدموع ثم قالت‪ :‬األستاذة ابتسام‬
‫توفيت صباح اليوم‬
‫وبين ذهول وحزن وصدمة وخزي كان هتاف األربعة‪:‬‬
‫ابتسام!!!!‬

‫‪6‬‬
‫رنيم‬
‫ال ش يء يصف سعادتي اليوم‪ ،‬فبعد طول انتظار‬
‫سيتحقق مرادي وستتم خطبتي على حبيب عمري‬
‫"آسر"‬
‫ذلك الذي لم يأسرقلبي وحسب بل أسرحياتي كلها‪،‬‬
‫كانت هذه حالتي قبل عام من اليوم كنت بالفعل أسيرة‬
‫ذلك القيد املسمى "حب"‪ ،‬كنت أوافق على كل ما يريد‬
‫وأرض ى بأي ش يء منه وشيئا فشيئا كان يشعرني بأن‬
‫حبي يمثل له أكبرعبء وكنت لحماقتي أغض الطرف‬
‫وأقول لنفس ي هو يحبني وهذا يكفي حتى بات الوضع‬
‫"أنا أحبه وهذا يكفيني"‬
‫إلى أن جاء اليوم الذي احتد فيه على والدتي وطريقته‬
‫فرضت عليها الزعيق فيه وللعجب لقد كان الخالف‬
‫على حجم طاولة السفرة ولم يكمل حواره معها وتركها‬
‫‪7‬‬
‫ورحل وأغلق هاتفه عن عمد‪ ,‬وفعلت كل ما بوسعي‬
‫ألصلح األمرلكن ال جدوى وبعد عدة أيام كانت والدته‬
‫بمنزلنا تطلب "الشبكة"!‬
‫يومها أدركت معنى أن يكسرك من كنت تظنه نفسك‬
‫وما كنت ألصدق ما فعله‪ ،‬يوما بعد يوم كنت أقنع‬
‫عقلي أنه سيعود نادما وسيعتذرويقسم أن الحياة من‬
‫دوني ليس لها معنى ولكن كانت األيام تمروال يأتي حتى‬
‫علمت من إحدى صديقاتي أنه أتمم خطبته بأخرى‬
‫"فكانت تمام الحسرة!"‬
‫لن يعود وال يريد ولن أنس ى ما قالته لي أمي‪ ،‬استفيقي يا‬
‫ابنتي وابحثي عن نفسك‬
‫وكان قراربداخلي وقسم أن أجعله يندم أشد الندم على‬
‫ما فعله‬
‫وتمحورت كل أفكاري حول‬

‫‪8‬‬
‫"كيف أجعله يعض أصابع الندم ويدرك قيمتي"‬
‫في البداية ناوشتني فكرة االهتمام بنفس ي وشيئا فشيئا‬
‫استحوذ األمرعلى وقتي‬
‫كنت أستيقظ من السادسة وأقف أمام املرآة قرابة‬
‫نصف ساعة من أجل إتمام زينتي وما إن أنتهي حتى‬
‫أمني نفس ي أن أقابل آسرصدفة ويراني ويدرك كم‬
‫خسر‪.‬‬
‫تبدل حالي مائة وثمانين درجة أصبحت غيرمبالية‬
‫وكثيرا ما كنت أتعمد تأخيرصالتي‪ ،‬ثم خروجي املستمر‬
‫والبحث عن جديد يمل نفس ي‪ ،‬شغف يكسررتابة ملل‬
‫يطوقني باستمراروال أعرف له سببا‬
‫ـ أنا بحاجة ملال فقد أنهيت راتبي‬
‫وتلك الجملة كنت أزعق بها في وجه والدتي باستمرار‬
‫ولتتفادى غضبي كانت تعطيني ما أريد‬

‫‪9‬‬
‫وبدأت حملة تغييرأوسع حيث قراربجلب مالبس أضيق‬
‫لتبرز أنوثتي وإن قابلني آسرفبالتأكيد ستزداد حسرته‬
‫ألنه أضاع من بين يديه فتاة بجمالي‬
‫"هاي ممكن نتعرف"‬
‫رسالة أنا من بدأ يرسلها إلى شباب وددت التعرف‬
‫عليهم‪ ،‬ربما ألثبت لنفس ي أنني مرغوبة وجميلة ولكم‬
‫كان يسعدني إطراء كثرعلى صوري التي كنت أتعمد‬
‫نشرها باستمراروظني أن آسريراقب حسابي ليعرف‬
‫أخباري ألنه اشتاق إلي ولكنه بالتأكيد يعاند نفسه‬
‫وبنهاية اليوم أضع رأس ي على الوسادة وأحاول أن أسعد‬
‫نفس ي بكل ما أفعله لكن شعورا قاتال بالخواء يداهمني‪،‬‬
‫فأقرر في اليوم التالي الخروج بعد عملي وشراء مالبس‬
‫جديدة وحلوى لم أجربها وشوكوالتة وأنا أردد‬

‫‪10‬‬
‫"لن أنتظرمن أحد أن يسعدني‪ ،‬لن أنتظرمن أحد أن‬
‫يعوضني أو كما يقال بطريقة شائعة‬
‫(سأمعلش نفس ي بنفس ي ولن أنتظركلمة معلش من‬
‫أحد)‬
‫وبعد مروراليوم أضع رأس ي على وسادتي ألجد الخواء‬
‫يتفاقم وكأنه يمل روحه عن آخرها‪ ،‬ذابت الشوكوالتة‬
‫بفمي ولم تجلب معها السعادة‪ ،‬وتكدست خزانتي‬
‫باملالبس وأدراجي بعلب املكياج وال ش يء يجلب الفرح‪،‬‬
‫ولم يعد آسرولن يعود‬
‫وانهرت أبكي بجزع‪ ،‬أتلك هي القوة التي تتظاهرين بها يا‬
‫رنيم‪ ،‬واتضح لي كم أنا متخبطة وكل ش يء أفعله‬
‫ليسعدني يستمرمفعوله لدقائق أو ساعات ثم ينقض ي‬
‫ويعود الخواء واألس ى‬
‫إلى متى سيظل حالك هكذا يا رنيم؟؟‬

‫‪11‬‬
‫تسأل أمي وأرى الحزن بعينيها وال أملك إجابة فأزفر‬
‫وأتركها وتظهرعصبيتي على أتفه األسباب أو حتى دون‬
‫سبب‬
‫ـ قلت لك أحضر لي كوب الشاي بدون سكرأيها الغبي‬
‫وكان زعيقي بالساعي‪ ,‬فالتفتت ابتسام وردت‪ :‬املعذرة يا‬
‫رنيم فقد أخذت كوبك بالخطأ‬
‫ومع ابتسامة رقيقة وضعت الكوب فوق مكتبي وأخذت‬
‫الخروعادت ملكتبها وكالعادة عند آذان الظهراتجهت‬
‫لتصلي وفي نفس ي تساءلت أال يستوقفها كم السخرية‬
‫منها هنا‪ ،‬بداية من أستاذة مايسة التي تنعتها بالشيخة‬
‫ابتسام مرورا باألستاذة عنايات التي تقول مازحة‪ :‬اللهم‬
‫قوي إيمانك‬
‫وإياك‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ورغم ذلك يكون ردها بهدوء‪ :‬آمين‬

‫‪12‬‬
‫ثم ترحل وتعود لتجتهد بعملها غيرعابئة بنظرات أستاذ‬
‫أكمل "البصباص" وال األستاذ شكري الذي لطاملا‬
‫تشاجرمعاها ألنها تنهي عملها دون "فتح درجها" من‬
‫أجل إكرامية أو شاي أو باألحرى رشوة‬
‫وفي ذلك اليوم تحديدا بدأ بيننا الكالم فعند موعد‬
‫الخروج كنت قد تأخرت قليال لسبب ما فلم يبق‬
‫بالغرفة إال أنا وأكمل الذي قام من مكانه واتجه ليجلس‬
‫باملقعد املقابل ملكتبي وقد أمسك بيدي في جرأة وسأل‪:‬‬
‫ما رأيك لو خرجنا باملساء معا؟‬
‫وهالني ما فعل فسحبت يدي وأنا أنظرله بحدة وقد‬
‫كدت أصفعه لكنه أمسك بيدي وابتسم بسماجة وقد‬
‫قام من مقعده متجها ملقعدي وتجمدت من وقاحته إال‬
‫أن صوت ابتسام قد استوقفه حين هتفت‪ :‬رنيم أنا‬
‫أنتظرك ال تتأخري‬

‫‪13‬‬
‫وجملتها كانت كطوق نجاة قررت التعلق به وأنا أرد‪ :‬أنا‬
‫قادمة‬
‫وجمعت أشيائي ورحلت مضطربة وظننت أنها‬
‫ستتحدث إلي لكنها لم تفعل فقط سألتني عن وسيلة‬
‫املواصالت التى سأركبها وأجبتها‪ :‬املترو‬
‫ومن بعد ذلك اليوم أصبحت أغادرقبل الجميع‬
‫وأتفادى الحديث مع أكمل بل الكل وقد زادت حدتي‬
‫واختلفت نظرتي لكل ش يء من حولي وخاصة الرجال‬
‫كونهم يمتازون بالحقارة‬
‫زادت المباالتي حتى شملت ترك بعض الصلوات‬
‫وأحيانا جميعها وصورا أكثرتحررا ومزاحا أكثرجرأة‬
‫بيني وبين أصدقائي على حسابي بــ"الفيس بوك"‬
‫ليستوقفني عندها طلب صداقة مرسل لي من زميلي‬
‫األستاذ أكمل وعندها أصابتني الصدمة‬

‫‪14‬‬
‫هل يطلع على صوري؟‬
‫عندها خيل لي وهو يطالعها باشتهاء‪ ,‬فأصابني بالغ‬
‫التقزز وأنا أتمتم‪ :‬نفوس مريضة‬
‫ثم قمت بحظره‪ ،‬وكتبت بعدها منشورا عن حريتي التي‬
‫لن أتخلى عنها مهما قابلتني نفوس مريضة أو عقول‬
‫عفنة!‬
‫منشور راق لصديقتي هديرقامت بنشره وهي تعلن أنها‬
‫قد خلعت حجابها وهي سعيدة بما فعلت ولن يشغلها‬
‫كالم الناس عنها ما دامت فعلت هذا بملء إرادتها الحرة‬
‫ولن أنكرتأثري بكلماتها أو باألحرى شجاعتها‪ ،‬لقد فعلت‬
‫ما أتمنى أنا فعله لكنني أخش ى رد فعل من هم حولي‬
‫وأولهم والدتي‪,‬‬
‫ولكن األمرقد بدأ يسيطرعلى عقلي‪ ،‬وكأنه يزين‬
‫"الجو حار"‬

‫‪15‬‬
‫"أنا باألساس حجابي ناقص"‬
‫"أنا الزلت صغيرة"‬
‫"ربما هو السبب في أن يتركني آسر"‬
‫"لم يتقدم إلي أحد"‬
‫وظللت على ترددي حتى مرأسبوع وبعدها حسمت‬
‫أمري ودون تردد خلعته وتنفست الصعداء وأنا أهتف‬
‫في نفس ي‬
‫"الن تحررت من قيده"‬
‫أشعرني األمربش يء من التحدي‪ ،‬وما تمنيته أن أجد‬
‫نفس ي ويتالش ى ذلك الخواء الذي يالحقني‬
‫لكن للحقيقة زاد الخواء ولكني قررت التغافل عنه‬
‫ص ِدمت والدتي وكنت أسمعها تدعو هللا لي أن يهديني‬
‫أبال‬
‫إليه وهي تبكي ولكني لم ِ‬

‫‪16‬‬
‫وأما عن زمالء العمل فحدث وال حرج‪ ،‬فجأة أصبحت‬
‫أنا الشيطان وهم املالئكة‬
‫فاألستاذ شكري عندما يراني يستغفرهللا بصوت مرتفع‬
‫وأستاذة مايسة تجنبت أي كالم بيننا بشكل نهائي بينما‬
‫األستاذة عنايات كانت تحذرالجميع مني‬
‫"لعوب تبحث عن عريس‪ ,‬خطافة رجالة"‬
‫حتى أنها حذرت أكمل من التعامل معي وكأنها ال ترى أنه‬
‫قد زاد من وقاحته وأصبحت نظراته أكثرجرأة بل‬
‫وتصرفاته وكأنه بات يعرف أنه مهما فعل فلن يصدقني‬
‫أحد إن اتهمته ألنه البريء وأنا دوما املذنبة‬
‫وكل ذلك العبث كان كفيال بجعلي أكثرعصبية حد‬
‫احتدام النقاش بيني وبين عنايات ذات يوم حين قررت‬
‫نصحي بأسلوب استفزني فهتفت فيها‪ :‬أنا حرة وال يعنيني‬
‫رأي أحد‬

‫‪17‬‬
‫واتجهت بعدها للحمام لغسل وجهي وأنا أحاول أن‬
‫أهدأ وقد عقدت العزم على تقديم استقالتي‬
‫وفي خضم تلك الفوض ى التي تنشب بداخلي دخلت‬
‫ابتسام لتتوضأ وقبل خروجها سألتني‬
‫ـ ـ رنيم لم ال تأتين لصالة الظهرمعي‬
‫والتفت لها وقد استغربت‪ ،‬هل حقا تظن أنني أصلي بل‬
‫هل هي الزالت ترى بي ذلك الشخص الذي من املمكن‬
‫أن يذهب إلى املسجد ويصلي معها؟‬
‫قطعت شرودي وقالت‪ :‬يوجد باملسجد إسدال إذا‬
‫أردتي يا رنيم‪ ,‬تعالي‬
‫وتركتني وخرجت ورغما عني فكرت بما فعلته معي ولم‬
‫يكن مقصدي كونها عرضت علي أن أصلي معها بل‬
‫كونها لم تعاملني بنفس الطريقة التي عاملني بها البقية‪،‬‬

‫‪18‬‬
‫لم تنظرلي شزرا أو باحتقارأو تشعرني أنها أفضل رغم‬
‫شعوري أنا بأنها بالفعل كذلك‬
‫وترددت هل أذهب خلفها أم أعود ملكتبي والحسم هذه‬
‫املرة كان من نصيب املسجد‬
‫كنت أريد أن أثبت لنفس ي أو للبقية أنني أصلي وليس‬
‫معنى خلعي للحجاب أنني قد كفرت بربي‬
‫دخلت فوجدتها تصلي بزاوية‪ ,‬وظللت أتطلع إليها حتى‬
‫أنهت صالتها والتفتت إلي ولم تعقب بأي كلمة فقط‬
‫مدت يدها باإلسدال ثم قالت‪ :‬صلي يا رنيم‪ ،‬تقبل هللا‬
‫ومنك‬
‫منا ِ‬
‫وتركتني وخرجت‪ ,‬وأنا صليت وعدت لعملي وقد فرضت‬
‫علي مراقبتها‪ ،‬بدت لي مختلفة عنهم‪ ،‬على األقل هي‬
‫الوحيدة التي شعرت بالراحة وأنا قريبة منها‬

‫‪19‬‬
‫ومرت عدة أيام منذ ذلك اليوم تجمعنا صالة الظهر‬
‫دون كالم‬
‫لكنني لن أنكرأن شيئا ما في نفس ي كان ينتظرمنها‬
‫خطبة عصماء عن كوني مقصرة أو وضيعة أو إنسانة‬
‫عليها انتظارمقعدها في النارلكنها لم تفعل‬
‫حتى جاء ذلك اليوم الذي نصحتها فيه األستاذة عنايات‬
‫باالبتعاد عني ألنني شبهة‪ ،‬واستوقفني ردها عني حين‬
‫قالت‪ :‬ال أحد كبيرعلى الفتنة يا أستاذة عنايات‪،‬‬
‫والدعاء لها بالهداية أفضل‬
‫ولم تكن تعلم أنني أسمعها وعندما جمعتنا صالة الظهر‬
‫أنت تصدقين ما تقولين يا‬
‫يومها سألتها بريبة‪ :‬أحقا ِ‬
‫ابتسام؟‬
‫عال االستغراب وجهها وردت‪ :‬ما الذي تقصدينه يا‬
‫رنيم؟‬

‫‪20‬‬
‫ـ ـ أقصد كالمك ألستاذة عنايات عني‪ ،‬هل حقا تظنين‬
‫أنه ال أحد كبيرعلى الفتنة وأن الدعاء لي أفضل‪.‬‬
‫صمتت ولم ترد‪ ،‬وظلت تطالعني ثم قالت‪ :‬أتعرفين يا‬
‫رنيم أين املشكلة؟‬
‫أنت تبحثين عن نفسك يا رنيم‪ ،‬ومن منا‬
‫لم أرد فتابعت‪ِ :‬‬
‫لم يجرب التيه‪ ،‬ومن منا لم يذنب‪ ،‬ومن منا لم يسقط‪،‬‬
‫لكننا بحاجة لفهم حياتنا بوعي أكبر‪ ،‬إننا نحيا لنصلح‬
‫أخطاءنا ال أن نتفادها يا رنيم‪.‬‬
‫ولم تزد على ما قالت كلمة‪.‬‬

‫وفي ذلك اليوم عدت ملنزلي وكلمات ابتسام تتردد في‬


‫نفس ي‬
‫أنت سعيدة الن يا رنيم؟‬
‫هل ِ‬
‫وكانت اإلجابة؛ ال‬

‫‪21‬‬
‫هل زال الخواء يا رنيم؟‬
‫ـ ال‬
‫هل شعرآسربالندم يا رنيم؟‬
‫وانهمرت دموعي وزاد التخبط وبكيت كثيرا وأنا أصلي‬
‫العشاء وعند صالة الظهرفي اليوم التالي سألت ابتسام‬
‫دون تردد‪ :‬ابتسام بداخلي سؤال يئن برأس ي وأريد‬
‫وبشدة أن أجد إجابته‬
‫ـ ـ تفضلي‬
‫ـ ـ هل كان يعجزهللا أن يمنحني الراحة والسعادة‪ ،‬وأن‬
‫يجمعني بمن أحب‪ ،‬ملاذا فعل هللا بي هذا‪ ،‬ملاذا حرمني‬
‫من حبيبي رغم أنني ألححت بالدعاء عليه أن يجمعني‬
‫به؟‬
‫وبكيت كثيرا ثم قلت‪ :‬أشعرأن هللا يكرهني‪ ،‬بل هو‬
‫يكرهني‪ ،‬أليس كذلك؟‬

‫‪22‬‬
‫مسحت دموعي بيديها ثم قالت‪ :‬رفقا بنفسك يا رنيم‪،‬‬
‫حشاه ‪-‬هللا‪ -‬أن يعاند عباده أو يحرمهم من السعادة‬
‫والراحة وهو الرحمن الرحيم‪ ،‬لكن إننا ‪-‬البشر‪ -‬دوما ما‬
‫ندور في ضيق األفق‪ ،‬نظن أن الراحة فيما نقص أو‬
‫ابتعد ال فيما نملك وال من هم إلى جوارنا‪ ،‬من قال لك‬
‫كنت ستعيشين في‬
‫أن السعادة كانت إلى جواره‪ ،‬أو أنك ِ‬
‫أخبرك بالغد يا رنيم ومجرياته أو ما‬
‫ِ‬ ‫سعادة معه‪ ،‬من‬
‫سيحدث فيه حتى يكون حكمك على األمور هكذا‪.‬‬
‫ـ ـ ـ أشعربالتخبط‪ ،‬وال أدري أي طريق أسلك‬
‫ـ كوني على الفطرة‬
‫ولم أفهم مقصدها وعندها قالت‪ :‬الفطرة هي البوصلة‬
‫التي ستفرض نفسها عند التيه‪ ،‬هي ما الذي ينبغي‬
‫علينا فعله عندما ال ندري‪ ،‬هي توجيه رباني لعقولنا‬
‫ونفوسنا؛ يلهمنا الصواب ويجعل الثوابت دوما هي‬

‫‪23‬‬
‫الرابح األكبر‪ ،‬وكالمي يعني أنه ربما تعودين للحجاب‬
‫ويظل الخواء وتستمرين بالصالة ويظل الخواء ولكن إن‬
‫كانت البوصلة هي فهم ماهية عبادتنا وملاذا نفعلها‬
‫عندها وفقط سيرتوي ذلك الخواء ِ‬
‫ألنك ستتذوقين‬
‫حالوة الفعل‪ ،‬فتعرفين قيمة الخالق وقيمة الخلق‬
‫وقيمة عبادة الخلق للخالق وعندها ستمتلئ نفسك‪.‬‬
‫فهل رحلت ابتسام حقا؟‬
‫رحلت قبل أن أخبرها بأنها كانت السبب في عودتي‬
‫للطريق الحق بكلماتها!!‬
‫يوم تخلى الجميع عني بينما هي تشبثت بيدي وثبتتني‬
‫أم أنها ستبقى حية؟‬
‫حية بكل كلمة علمتني إياها وبقت لها أثروذكرى‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫شكري‬

‫ما هو إال يوم اعتيادي كبقية أيامي‪ ،‬استيقظت على‬


‫صوت زوجتي الغاضبة من ابني الصغيركونه قد غافلنا‬
‫باملساء وأكل الجبن املتبقي من الثالجة‬
‫ـ ـ كيف سأعد شطائرإخوتك للمدرسة يا معدوم‬
‫املسؤولية‪ ،‬كيف تأكل كل الجبن؟‬
‫ـ لقد كنت جائعا!‬
‫ولم تملك إال أن تضرب كفا بكف وتتمتم بكل ما تحفظ‬
‫من كلمات غضب وضيق وهي تعد الشطائربما تبقى‪،‬‬
‫ولم أملك أنا وقد مررت بأبنائي قبل ذهابي إلى الحمام‬
‫إال أن أربت على كتف صغيري وأنا يتملكني املزيد من‬
‫السخط على كل ش يء من حولي وعلى رأس القائمة‪،‬‬

‫‪25‬‬
‫ضيق ذات يدي وراتبي الذي بالكاد يكفيني ويكفي‬
‫أوالدي الثالثة وزوجتي‬
‫وها أنا أبدل ثيابي من أجل الذهاب لعملي ولكن اليوم‬
‫لن يمربسالم كون أطفالي قرروا أن يجتمعوا ويعترضوا‬
‫على مصروفهم املدرس ي الذي ما عاد يجلب لهم أي‬
‫حلوى كون كل الحلوى قد زاد سعرها‬
‫ـ ـ رجاء يا والدي العزيزجنيهان لن يكفيانا بعد اليوم‪،‬‬
‫على األقل أربعة جنيهات‬
‫قالتها ابنتي الكبيرة وأكدت الوسطى ووافقهما الصغير‪،‬‬
‫مددت يدي بجيبي أجمع الباقي ولكن أسعفتني زوجتي‬
‫حين قررت أن تزعق بهم هاتفة‪ :‬هناك من ال يجد قوت‬
‫يومه احمدوا هللا على نعمته‬
‫وأمام نظرة أقرب إلى االنكسارقمت بتزويد كل واحد‬
‫منهم بجنيه واحد معلال بذلك جبرخاطرهم‬

‫‪26‬‬
‫وما إن خرجوا حتى وضعت لي ما تبقى من أطفالي كي‬
‫أفطروكنت أعلم أنني لو أكلته لن يتبقى لها ش يء فأكلت‬
‫نصفه ورغم إصرارها على إكمال فطوري لم أفعل‬
‫تظاهرت بالشبع ورحلت كعادة كل صباح لعملي‬
‫اتجهت ملكان امليكروبصات وركبت وانتظرت ما‬
‫توقعته؛هتاف حاد مفاده من السائق زيادة األجرة‪ ،‬ولم‬
‫يعقب أحد‪ ،‬وكأننا جميعا بات يجمعنا الخرس‬
‫أخرجنا النقود من جيوبنا ولم نتمتم ببنت شفة‬
‫وطوال الطريق كنت أتابع الشوارع من حولي وأنا أفند‬
‫بعقلي النقود املطلوبة مني مع بداية العام الدراس ي‪،‬‬
‫وبخالف مصروفات املدرسة‪ ،‬ثمة بند كامل للدروس‬
‫الخصوصية ألن املدرسين ما عادوا يشرحون باملدارس‬
‫ذلك بخالف غالء األسعارالجنوني الذي أصاب كل‬
‫ش يء‪ ،‬كل ش يء يزيد إال راتبي ال يتحرك أبدا‬

‫‪27‬‬
‫زفرت بشدة واتجهت صوب مكتبي وجلست إليه وأنا‬
‫الزلت على شرودي حتى استوقفني عم أمين الساعي‬
‫وهو يحييني ويضع أمامي كوب الشاي الصباحي الذي‬
‫اعتدت احتساءه ومعه بدأت حوارات زمالئي الجانبية‬
‫ـ ـ ثمة عالوة سيتم صرفها بسبب بدء الدراسة‬
‫ـ ـ أفلحوا إن صدقوا‬
‫ـ كم املبلغ؟‬
‫وجهت سؤالي للستاذة عنايات فالتفتت لي لتقول‬
‫بفرحة‪ :‬خمسون جنيها‬
‫ضحك أكمل هازئا من املبلغ ثم عقبت ابتسام‪ :‬إنهم‬
‫صدقا ال يعيشون معنا في نفس الكوكب‬
‫وعندها أجابت مايسة محتدة‪ :‬إننا نعاني من زيادة‬
‫سكانية كبيرة‪ ،‬بالكاد يوفرون لنا هذا املال ثم أتبعت‬
‫جملتها بالدعاء وجملة جانبية مفادها (أكثرهللا خيرهم)‬

‫‪28‬‬
‫ـ ـ إنهم ال يتفضلون علينا‬
‫قالتها ابتسام فعقبت أنا‪ :‬ش يء أفضل من ال ش يء‪ ،‬فهم‬
‫على يقين أننا لن نعترض أبدا‬
‫وساد الصمت بعدها وانشغل كل واحد منا بعمله‪،‬‬
‫شخص جاء من أجل إنهاء عدة أوراق‪ ،‬وآخرمن أجل‬
‫رخصة بناء وثالث من أجل إمضاء واملشترك بينهم‬
‫جميعا درج اعتدنا جميعا تركه مفتوحا لنجمع بنهاية‬
‫اليوم حصيلة ما حصدناه‬
‫ـ ـ ضع نقودك بجيبك أعتقد أنني قد قلت ذلك بصوت‬
‫منخفض إال أنك الن تضطرني لرفع صوتي‬

‫كان الزعيق من ابتسام‪ ،‬والتفت الجميع ناحيتها‪ ،‬منذ‬


‫أن أتت وهي تثيراملشاكل دوما وها هي مع أحد العمالء‬
‫املهمين تشعرنا أنها ليست مثل البقية‬

‫‪29‬‬
‫وتدخل أكمل وهو يقول‪ :‬هات أوراقك يا سيد عادل وأنا‬
‫سوف أنهيها لك وتحرك به ناحية مكتبه بينما بدأت هي‬
‫بجمع أشيائها كون موعد الخروج قد حان وعندها‬
‫تحركت ناحية مكتبها ألسأل ما املشكلة فسردت أنه‬
‫يريد إعطاءها رشوة لتمريرعدة أوراق لرخصة بناء‬
‫عقاروعندها قررت التصحيح‪ :‬هذه إكراميات يا‬
‫أستاذة ابتسام فالكل يعرف كيف هي رواتبنا وأحوالنا‬
‫وقبل أن أكمل أجابت بحدة‪ :‬تسمى رشوة يا أستاذ‬
‫شكري‬
‫زفرت بشدة والتفت وخرجت‪ ،‬كانت املرة األولى التى‬
‫يحدد فيها أحدهم مسمى اإلكرامية بتلك الحدة‬
‫والفظاظة‬
‫"تسمى رشوة يا أستاذ شكري"‬

‫‪30‬‬
‫وطوال طريق عودتي كنت أفكربما فعلت‪ ،‬الغبية هل‬
‫تريد إقناعنا أنها رفضت ألنها تراها رشوة فعال‪،‬أم ألن‬
‫املبلغ لم يرق لها"‬
‫ولم ألتفت ملا قالت‪ ,‬جمعت املبلغ اليومي من‬
‫اإلكراميات واتجهت للسوق وفي قرارة نفس ي أتساءل‬
‫صدقا لو لم تكن هذه اإلكراميات ماذا كان سيحل‬
‫بحياتنا وأنا ال أملك إال راتبي‬
‫ولم أفكرأكثرأمام سعاراألسعارالذي أصاب كل ش يء‪،‬‬
‫ابتعت بعض الخضروالفاكهة واشتريت دجاجة وعدت‬
‫ملنزلي‬
‫وتم استقبالي بفاتورة كهرباء صدمت حين قرأت قيمتها‬
‫"ثالثة أضعاف استهالكنا‪ ،‬ملاذا؟"‬
‫"ادفع ثم قم بالشكوى"‬
‫"أشتكي ملن؟"‬

‫‪31‬‬
‫قلتها هازئا ثم أتبعتها‪ :‬هنا الشكوى لغيرهللا مذلة‪.‬‬
‫والزيادة التي كدت أفرح بها تبخرت وتالشت وكأنها لم‬
‫تكن‪ ،‬بل ما زاد الطين بلة هو نداء زوجتي لي وشكوكها‬
‫أن الدجاجة بها ش يء غيرطبيعي‪ ،‬ربما مريضة‬
‫وهتفت فيها بضيق وأنا مصرعلى كونها سليمة وإصرار‬
‫أكبرعلى طبخها رغم شعوري أنها محقة‬
‫وخرجت من املطبخ متأففا وأنا ال أدري‪ ،‬زادت األسعار‬
‫ولم نتكلم‪ ,‬ولكن أن تعود أيضا غيرصالحة الستهالكنا‬
‫رغم غالئها!‬
‫وكان ليمريومي بسالم لوال قيء ابنتي املتواصل وارتفاع‬
‫حرارتها فلم أملك إال االتجاه بها ألقرب مشفى‬
‫وبالتأكيد موظف مثلي لن يقدرأبدا على مشفى خاص‪،‬‬
‫فاتجهت ملشفى تابع لتأميني الصحي‬

‫‪32‬‬
‫وعن ما رأيته حدث وال حرج‪ ،‬فقد اضطررت لدفع‬
‫إكرامية للممرضة من أجل دخولي مبكرا ودون اكتراث‬
‫البنتي كتب الطبيب عدة أدوية وكان علي صرفها من‬
‫صيدلية املشفى وفعلت‬
‫وحين عودتي ملنزلي كان تعقيب زوجتي التي قدرا نظرت‬
‫للدوية قبل إعطاء ابنتي منها بصدمة‪ :‬إنها منتهية‬
‫الصالحية!‬
‫ولم أملك إال الصدمة بدوري والذهاب ألقرب صيدلية‬
‫لشراء بديل ليفاجئني الصيدلي عندها بأن هذا الدواء‬
‫ربما ال يناسب سن ابنتي‬
‫وأمام نصيحته اشتريت البديل املناسب وعدت وكل ما‬
‫أرجوه أن تشفى وحمدا هلل أن األمرقد مربسالم‪.‬‬
‫مرت بعدها عدة أيام الزال فيها كل ش يء على حاله‪،‬‬
‫درجي املفتوح واإلكراميات وحالنا املقلوب رأسا على‬

‫‪33‬‬
‫عقب حتى أنني رأيت رنيم اليوم وقد خلعت حجابها لم‬
‫يسعني إال االستغفاروقد شعرت بالخوف أن تكبرابنتي‬
‫وتكون مثلها غيرأني ذكرت نفس ي أنني قد ربيت أبنائي‬
‫الثالثة على األخالق وعلمتهم الصالة بل ويحفظون‬
‫القرآن وببركة كل هذا بالتأكيد لن يخذلوني أبدا‪.‬‬
‫وكاد يومي ينتهي بسالم إال أن ثمة حدث استوقفني‪،‬‬
‫فلقد أتى إلى مكتبي الرجل الذي زعقت به أستاذة‬
‫ابتسام منذ عدة أيام‪ ،‬جلس باملقعد املقابل لي ثم قال‪:‬‬
‫سألت عن األكبرسنا ومقاما هنا فقالوا لي األستاذ‬
‫شكري‪ ،‬اسمي عادل‬
‫قالها ومد يده مصافحا ثم بدأ بشرح األمرقائال أنه‬
‫بحاجة ملساعدتي وبعد شرح مطول بدأت افهم‪ ،‬لقد‬
‫حاول أكمل إقناع ابتسام بإتمام أوراق هذا الرجل‬
‫لكنها رفضت‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫ـ ـ لذا لقد أتيت إليك يا سيد شكري كي تساعدني‬
‫وتحاول أنت معها‪ ،‬فإن وافقت أعدك وأعدها بمبلغ‬
‫مالي كبيرنظيرإتمام املهمة‬
‫وتركني وخرج‬
‫كانت حيرتي في أشدها‪ ،‬لو أن هذا الرجل قد أتاني من‬
‫أجل إنهاء ورقة وكنت أنا املختص بها ما كان ليحتاج كل‬
‫هذا فقط بعض أوراق نقدية بدرجي كانت لتفي‬
‫بالغرض‬
‫وعندها أدركت كم هي ذكية ابتسام كونها قد جعلت‬
‫األمور تصل لهذا الحد‪ ،‬هكذا إذا تتظاهرأمامنا بالبراءة‬
‫ومن خلفنا تسعى خلف مبلغ مالي كبير‬
‫"اللعينة"‬
‫صدق القول "إن عشقت فاعشق القمروإن سرقت‬
‫فاسرق الجمل"‬

‫‪35‬‬
‫"أستاذة ابتسام"‬
‫وكان النداء مني بينما خرج كل زمالئنا من الغرفة ولم‬
‫يبق إال أنا وهي‪ ،‬التفتت وردت‪ :‬نعم‬
‫تكرمت‬
‫ِ‬ ‫معك إذا‬
‫ـ ـ أريد أن أتحدث ِ‬
‫جلست باملقعد املقابل ملكتبي وسألت‪ :‬خيرا؟؟‬
‫وبدأت كالمي عن مجيء السيد عادل لي وعن رغبته‬
‫بمنحها مبلغا ماليا مقابل‪................‬‬
‫ولم أكمل كالمي كونها هتفت بحدة‪ :‬أستاذ شكري من‬
‫فضلك لقد رفضت هذا األمرمسبقا وكفى‪.‬‬
‫وكادت تحمل حقيبتها وترحل إال أنني استوقفتها هاتفا‬
‫وكأنك ال تحتاجين لهذا املال‪،‬‬
‫ِ‬ ‫بحدة‪ :‬ملاذا تتصرفين‬
‫كيف ترفضين النعمة‪ ،‬أال يعد هذا "بطرا"‬
‫نظرت لي بحدة وقد ضيقت بين حاجبيها ثم ردت بأس ى‪:‬‬
‫بطر‪ ،‬نعمة!!!!!‬

‫‪36‬‬
‫وبعد زفرة ضيق أردفت‪ :‬أي نعمة بمال حرام يضاف إلى‬
‫راتبك؟‬
‫أنت مدركة ملا تقولين‪ ،‬عن أي مال‬
‫ـ ـ مال حرام! هل ِ‬
‫حرام تتحدثين‪ ،‬إنها إكرامية نظير‪............‬‬
‫ـ ـ نظيرماذا؟ نظيرعملي وأنا باألساس أحصل على راتبي‬
‫وأنت نفسك‬
‫ـ ـ راتب‪ ،‬عن أي راتب تتحدثين يا ابتسام ِ‬
‫قلتي من قبل أنهم ال يعطوننا حقنا أبدا‬
‫ـ ـ إن كانوا هم ال يعطوننا حقوقنا فهذا ال يعني أن تكون‬
‫الرشاوي عندنا مبررة‪ ،‬ظلمهم لنا لن يجعل تلك‬
‫األموال حالال فقط ألننا نستحقها‪.‬‬
‫وكالمها فرض علي الشعور باإلهانة فقررت أن أزعق كي‬
‫أنت ال تعيشين معنا‪ ،‬وكأنك ال‬
‫أدافع عن نفس ي فهتفت‪ِ :‬‬
‫تنظرين حولك جيدا فترين األمور على حقيقتها‪ ،‬الكل‬
‫يفعل ما نفعله يا ابتسام فال تدعي البطولة‪ ،‬في كل‬

‫‪37‬‬
‫مصلحة حكومية‪ ،‬كل مدرسة‪ ،‬كل مشفى‪ ،‬كل سوق‪،‬‬
‫الجميع يا ابتسام اعتاد أن يعيش هكذا‪ ،‬فاستفيقي‪،‬‬
‫ألن تلك الشعارات البراقة لن تطعم أطفالك ولن‬
‫تمنحهم دروسهم الخصوصية ولن تدفع مصروفاتهم‬
‫املدرسية‪.‬‬
‫وشعرت بزهوة انتصارامتلكتني حين صمتت ولم‬
‫تستطع الرد وبعد تنهيدة منها قالت‪ :‬ربما‪.‬‬
‫وكادت ترحل فاستوقفتها سائال‪ :‬ماذا تقصدين؟‬
‫وكانت الصدمة من نصيبي عندها‪ :‬ربما جميعنا بحاجة‬
‫للمال ألن رواتبنا بالكاد تكفينا‪ ،‬لكن ما قيمة مال‬
‫منزوع البركة من التواجد بحياتنا جميعا‪ ،‬ما قيمة مال‬
‫حرام تسعى أنت لتحصل عليه فيأتي آخرويأخده منك‬
‫غصبا أو بالطريقة ذاتها‪ ،‬ما قيمة مال يضعه شخص‬
‫بدرجك املفتوح نهارا تصرفه أنت ليال على دواء أو مرض‬

‫‪38‬‬
‫أو ابتالء أو يأتي من يسرقه منك بذات تصرفك‪ٌ ،‬‬
‫وكل‬
‫بطريقته‪ ،‬طبيب بال ضمير‪ ،‬مدرس بال ضمير‪ ،‬بائع بال‬
‫ضمير‪ ،‬فالدائرة كانت وال تزال متسعة وتشملنا جميعا‬
‫ولكن بإمكاني العزوف والقول بحسم‪ ،‬هللا الغني وكفى‬
‫ولم تقبل ابتسام املال‬
‫لم تقبله‬
‫رحلت بعدما رفضته لتقابل ربها بيد نظيفة‬
‫رحلت بعدما علمتني أننا من نتحمل مسؤولية ما آلت‬
‫إليه أيامنا‬
‫"من أعان ظاملا سلطه هللا عليه"‬
‫فما بالك بمن يعين الظلم نفسه ثم يشكو أنه املظلوم‪,‬‬
‫رحلت قبل أن أخبرها أن كلماتها قد فرضت علي إغالق‬
‫درجي والرجاء من هللا أن يعوضني بالرزق الطيب‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫مايسة‬
‫وقع ما قالته األستاذة عنايات على أذني كان كصفعة‬
‫هزت كل كياني‪ ،‬توفيت ابتسام صباح اليوم‬
‫انهارت أمامي رنيم باكية‪ ،‬بينما ظل األستاذ شكري‬
‫يضرب كفا بكف وهو يقول‪ :‬ال حول وال قوة إال باهلل‪،‬‬
‫كيف؟‬
‫ـ ـ حادث والزالت باملشفى‬
‫أنت على يقين من وفاتها‬
‫ـ ـ هل ِ‬
‫سأل أكمل وقد بدا عليه الحزن ألول مرة فأكدت‬
‫عندها‪ :‬نعم وستدفن غدا وهذا كل ما عرفته‬
‫وأنهت كالمها وخرجت وتركتنا ننظرلبعضنا البعض وال‬
‫نملك أي تعقيب‬
‫هل رحلت حقا؟‬

‫‪40‬‬
‫بدا لي أن رنيم كانت أكثرنا تأثرا بوفاتها ربما ألنهما قد‬
‫جمعتهما مواقف عدة بالفترة األخيرة‬
‫الجميع تعامل معها إال أنا لم تجمعني بها أية مواقف أو‬
‫حتى كلمات فقط تحية املجيء وتحية االنصراف‬
‫زفرت بشدة وأنا ال أدري ما الذي ينبغي علي فعله حيال‬
‫الخبربينما استأذنت رنيم وانصرفت‬
‫فكرت أن أتناس ى وأفكربعملي ولكني لم أستطع رغم‬
‫علمي بقدرتي على تناس ي كل ش يء أمربه‪ ،‬إال أنني عجزت‬
‫عن التغافل عن موتها‬
‫رفعت رأس ي ونظرت إلى مكتبها الفارغ وتمتمت بخوف‪:‬‬
‫هكذا بتلك السهولة ودون استعداد‪ ،‬لقد كانت باألمس‬
‫تجلس بيننا تحتس ي قهوتها وبالتأكيد لم تتوقع أبدا أنه‬
‫آخريوم لها في الدنيا‬

‫‪41‬‬
‫وعيناي غلبتني وفضولي دفعني ملراقبة أكمل وشكري‪،‬‬
‫بدا لي شكري اليوم خدوما على غيرالعادة وقد شدد‬
‫على إعادة كل اإلكراميات إلى أصحابها‪ ،‬بينما أكمل بدا‬
‫صامتا ولم يتحدث حتى انتهى الدوام‬
‫اتجهت ملحطة املترو وارتكنت بجسدي في إحدى الزوايا‬
‫أطالع الوجوه بتعجب متسائلة‪ ،‬ترى من منهم سيموت‬
‫اليوم ومن منهم غدا؟؟‬
‫لك دخل بأحد"‬
‫"ليس ِ‬
‫وأمام تلك الجملة االعتيادية شردت فيما مض ى من‬
‫حياتي كلها وسألت نفس ي‬
‫"ألم يئن األوان أن تضعي عنوانا لها"‬
‫فكرت كثيرا حتى أرهقني التفكيروما إن وصلت إلى بيتي‬
‫حتى وجدتني قد تناسيت تماما أمرابتسام‬
‫"توفيت"‬

‫‪42‬‬
‫"رحمة هللا عليها ولكن سيمراألمروكفى"‬
‫وبكل ما أملك من سرعة بدلت مالبس ي وهرعت‬
‫للمطبخ‪ ،‬أعد طعام الغداء لزوجي وأطفالي فهم على‬
‫وشك أن يعودوا بأي لحظة‬
‫أذن العصر‬
‫فتذكرت أنني لم أصلي الظهروعندها تمتمت في نفس ي‪:‬‬
‫سأعد صينية البطاطس ثم أتوضأ وأصلي‬
‫وما إن انتهيت منها ووضعتها حتى تذكرت األرز فقررت‬
‫تحضيره بسرعة ثم الصالة‬
‫دق جرس الباب؛ عاد أوالدي إذا‪.‬‬
‫وضعت األرز على املوقد واتجهت لغرفهم‪ ،‬بدؤوا في‬
‫السرد عن يومهم وأنا خلفهم أساعدهم في تبديل‬
‫املالبس وأرتب خلفهم الغرفة وما إن تركتهم وخرجت‬

‫‪43‬‬
‫حتى نظرت لشقتي التي في أمس الحاجة إلى الترتيب قبل‬
‫عودة زوجي‬
‫"صلي أوال ثم رتبيها"‬
‫هكذا قال ضميري بينما قلت أنا سأرتبها سريعا ثم‬
‫أصلي وفعلت‬
‫وما إن انتهيت حتى شممت رائحة طعامي فاتجهت‬
‫للمطبخ‪ ،‬بدا لي أنه سينضج بعد قليل فربما لو صليت‬
‫وعدت سيحترق‬
‫وأمام هاجس كهذا فكرت بتحضيرالسلطة‬
‫وعاد لي شرودي‬
‫توفيت ابتسام اليوم تذكرتها وأنا أغسل الخضرفقلت‬
‫في نفس ي سأغلق املوقد بعدما أنتهي من السلطة‬
‫وعندها بالتأكيد سأركزبالصالة‬

‫‪44‬‬
‫وما إن انتهيت من إعداد طبق السلطة حتى دارمفتاح‬
‫زوجي بالباب‬
‫"مايسة‪ ،‬لقد عدت"‬
‫قالها حاتم ألفهم أنه يستوجب علي إعداد طاولة‬
‫الطعام واتجهت وأنا أذكرنفس ي‬
‫"لم أصلي بعد!"‬
‫"لقد توفيت ابتسام اليوم"‬
‫واللعنة على ضمير يئن بداخلي ليذكرني بأنني كعادتي‬
‫سوفت‬
‫"الغداء يا مايسة"‬
‫"أنا جائع يا أمي"‬
‫وضعت الطعام وجلست بجوارهم‪ ,‬فكان الهتاف من‬
‫ابني األصغر‪ :‬كل يوم بطاطس‬
‫ـ ـ قل الحمد هلل‬

‫‪45‬‬
‫قلتها أنا وتناولنا الطعام دون أن نتحدث بكلمة حتى‬
‫قطعتنا ابنتنا بسؤال لوالدها‪ :‬أبي هل سنخرج‬
‫بالعطلة؟‬
‫ـ ـ إن شاء هللا‬
‫ـ ـ نعم أم ال؟‬
‫ـ ـ إن شاء هللا‬
‫أعادها بمالمح جامدة فتمتم صغيري في أذن أخته‪ :‬إن‬
‫شاء هللا تعني ال تنتظري شيئا‬
‫وصمتا بينما هو لم ينطق بعدها بكلمة وما إن انتهى من‬
‫طعامه حتى اتجه ليجلس أمام التلفاز وهو يهتف‪ :‬كوب‬
‫الشاي يا مايسة‬
‫مللمت الطاولة بينما اتجه أوالدي لغرفتهم واتجهت أنا‬
‫للمطبخ‪ ،‬وقفت أمام كومة من األطباق املتسخة ثم‬

‫‪46‬‬
‫أعددت لزوجي كوب الشاي وناولته إياه وعدت‬
‫للمطبخ‪ ،‬علي أن أغسل األطباق ثم‪............‬‬
‫لم أصلي بعد!!!!!!!!!!‬
‫ونظرت للساعة وأدركت أنه لم يبق على آذان املغرب إال‬
‫القليل فتوضأت ووقفت ألصلي‬
‫"هللا أكبر"‬
‫(علي أن أغسل األطباق ثم أصنع لنفس ي كوبا من‬
‫القهوة ثم أذاكرألوالدي)‬
‫"سمع هللا ملن حمده"‬
‫(هل أطفأت املوقد قبل الصالة)‬
‫"هللا أكبر"‬
‫(هل سيسمح لي حاتم بحضور جنازة ابتسام‪ ،‬ملاذا‬
‫صدقا لم أتأثربموتها كالبقية)‬

‫‪47‬‬
‫"سبحان ربي األعلى‪ ،‬سبحان ربي األعلى‪ ،‬سبحان ربي‬
‫األعلى"‬
‫(هل كان يحبها زوجها‪ ،‬لطاملا استشعرت أن حياتها‬
‫أفضل)‬
‫"ماييييييييييييسة"‬
‫"اللـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــه أكبرررررررررررررر"‬
‫ـ ـ ـ إنها تصلي يا أبي‬
‫ـ ـ حسنا‪ ،‬ليأتي أحدكم ويأخذ كوبي يضعه باملطبخ‬
‫ولم يقم ابنه بل هتف في أخته‪ :‬ألم تسمعي‪ ،‬خذي‬
‫الكوب من والدي وضعيه باملطبخ‬
‫ـ ـ وملاذا لم تقم أنت؟‬
‫ـ ـ أنا ولد‪.‬‬
‫"السالم عليكم ورحمة هللا‪ ،‬السالم عليكم ورحمة هللا"‬

‫‪48‬‬
‫لم أملك إال أن أصلي بأقص ى سرعة‪ ،‬آخذ أنا الكوب من‬
‫يد زوجي وأضعه باملطبخ بينما يتجه هو للنوم‪ ،‬غسلت‬
‫األطباق وصنعت كوبا من القهوة ثم اتجهت لغرفة‬
‫األوالد ألذاكرمعهم‬
‫أذن املغرب فتمتمت‪ :‬بعدما أنتهي من القهوة‬
‫وما إن انتهيت حتى تذكرت أنني الزلت بوضوئي فركضت‬
‫مسرعة ألصلي وأنا أهتف بأوالدي‪ :‬سأعود بسرعة‬

‫ووجهت وجهي حيث القبلة وما إن كبرت حتى اغرورقت‬


‫عيناي بدمعة‪ ،‬استشعرتها ثقيلة ألن على قلبي ران منذ‬
‫سنوات عدة‬
‫نظرت ملوضع سجودي ولم أستطع الصالة‪ ،‬وقفت‬
‫بمكاني واستشعرت أن الكون يدور من حولي‬
‫أغمضت عيني وتراءى لي قلبي‬

‫‪49‬‬
‫كيف حاله‪ ،‬أتراه احتال للسود؟؟؟؟؟؟؟؟‬
‫لم كل هذا الضيق يا مايسة؟‬
‫ماتت ابتسام ولكن ليست معضلة إن األمرلم‬
‫يستوقفك‪ ،‬لم تجمعك بها أي معرفة‪ ،‬اهدئي وارفقي‬
‫بحالك‬
‫بل ابكي‪.....‬‬
‫وانهمرت دموعي عندها بلوعة‬
‫أنا‪............‬‬
‫ماذا؟؟؟‬
‫ال أذكرآخرمرة استشعرت فيها قيمة تلك الوقفة‬
‫هل أنا أبكي حقا؟‬
‫دموع تلو الدموع ولكنني لست متضايقة بل أنا في أمس‬
‫الحاجة لتلك الدموع وبشدة‬

‫‪50‬‬
‫مرت السنوات بسرعة ولم أتوقف يوما ألتنفس‬
‫الصعداء وأرى ما خلفته‬
‫كم صالة مرت دون شعور‬
‫كم ليلة مرت دون دعوة صادقة‬
‫ال أدري متى كانت املرة األخيرة التي فتحت فيها‬
‫مصحفي؟‬
‫"ياااااااااااااه"‬
‫تنهيدة طويلة وقاسية‪ ،‬كل يوم يتكرر بروتين منقطع‬
‫النظيردون لحظة تأمل بمجرياته‬
‫أين أنا من كل ما يحدث؟‬
‫أين بصمتي من حياتي؟‬
‫وما هو عنوانها؟‬
‫ال أعلم‬
‫ال أدري‬

‫‪51‬‬
‫وعندما اشتدت دموعي أدركت األزمة‬
‫ال أسوأ من أن نجعل هللا أهون الناظرين إلينا‬
‫والن هل من صالة مختلفة‬
‫صالة مودع ربما قد تكون تلك الركعات هي األخيرة‬
‫بعمري‬
‫"هللا أكبر"‬
‫أكبرمن أال يغفرغفلة عباده عنه‬
‫وقرأت الفاتحة كأن لم أقرأها من قبل‬
‫املين)‬ ‫ّ‬
‫لِل ر ِب الع ِ‬
‫(الحمد ِ ِ‬
‫على نعم شتى‪ ,‬لم ال نتوقف للحظة ونحصيها في أنفسنا‬
‫قبل النظرملا ينقصنا‬
‫الرحمن ّ‬
‫الر ِح ِيم)‬ ‫( ّ‬
‫ِ‬
‫تلك التى لوالها ما كنا لنملك بالحياة فرصة رغم‬
‫أخطائنا‬

‫‪52‬‬
‫الد ِين)‬
‫(م ِال ِك يو ِم ِ‬
‫ذلك اليوم الذي رغم علمنا باليقين بقدومه إال أننا لم‬
‫يعد يعنينا أن نعمل من أجله‪.‬‬
‫( ِإ ّياك نعبد و ِإ ّياك نست ِعين)‬
‫وذلك تمام القول ولكننا دوما تملكنا الغفلة فننس ى‪،‬‬
‫من لنا سواك نتذلل ببابه وحين تشتد علينا دنيانا‬
‫تكون أنت العون والسند‪.‬‬
‫الصراط املست ِقيم)‬
‫(اه ِدنا ِ‬
‫وهي دعوة خالصة ندعوها بكل صالة بأفواهنا ولكن إن‬
‫تذوقت قلوبنا حالوتها الختلف بها واقع حياتنا‬

‫لكنني يا ربي أعلم‪ ،‬أعلم أن التغافل لن يتركني‪ ،‬ربما‬


‫تأثرت اليوم بوفاة ابتسام لكنني غدا سأنس ى‬

‫‪53‬‬
‫وستمراأليام وقد تتأخرصالتي أو أجمعها أو أتعامل‬
‫معها وكأنها حمل ثقيل أريد أن أنهيها ألعود لحياتي‬
‫بسرعة‬
‫ألنني نسيت أو تناسيت أو ربما لم أعرف‬
‫"أرحنا بها يا بالل"‬
‫ألنها هي الصلة والشحن والدعم وطاقة النور ألرواحنا‬
‫حمك هللا يا ابتسام‪ ،‬فلوال وفاتك فجأة‪ ،‬ما كانت تلك‬
‫ر ِ‬
‫الوقفة حتى وإن كانت‬
‫"عابرة"‬

‫‪54‬‬
‫أكمل‬
‫أنا حقا ال أدري ما الذي أصابني عندما علمت بأمر‬
‫وفاتها‪ ،‬لم أذكرأنني قد سمعت شيئا صدمني على مدار‬
‫عمري كمعرفتي بأن ابتسام قد توفت‬
‫هكذا بكل بساطة "ماتت"‬
‫حاولت التظاهربأنني لم أتأثرلكن بدا للجميع وعلى‬
‫رأسهم مايسة أننى لست على ما يرام‬
‫غادرت رنيم حزينة ولم يعقب أحد منا‬
‫عندها شعرت باالختناق فقررت الخروج حيث أقرب‬
‫نافذة بالردهة‬
‫أشعلت سيجارة وأخذت في تناولها وقد زاد ضيقي رغم‬
‫نفثي املستمرللدخان عل صدري يشعربالراحة‬
‫ينته ضيقي بل زاد‪.‬‬
‫وبالنهاية انتهت السيجارة ولم ِ‬
‫هل تشعربالحزن عليها؟‬
‫‪55‬‬
‫ال أدري‪ ،‬ربما‪...........‬‬
‫"أفتقدها؟"‬
‫أشعرأن هناك شخصا كان وال يزال يستوقفني كلما‬
‫رأيته رحل فجأة‬
‫"هي مجرد امرأة يا أكمل‪ ،‬امرأة كأي امرأة عرفتها‪ ،‬ربما‬
‫الفارق أنها لم تهتم أو يلفت نظرها اهتمامك وإعجابك‬
‫بها لكن ما املشكلة يا رجل‪ ،‬فأنت ستجد بسرعة من‬
‫تفرح وترض ى بالقرب منك وستنس ى كعادتك‬
‫ستنس ى ابتسام تماما كما نسيت‪..........‬‬
‫"رحاب"‬
‫أغمضت عيني وشردت هل الزلت تذكرها رغم الفراق‬
‫واإلجابة بقلبي كانت نعم‪ ،‬الزلت أتذكرنعمة كبيرة أنعم‬
‫هللا علي بها ولكني كنت دوما غيرراض‬
‫"أنا أستحق األفضل"‬

‫‪56‬‬
‫دوما كنت أقولها لنفس ي وأنا أقارن زوجتي بكل امرأة‬
‫تراها عيني‪ ،‬وال أدري ما الذي تغيركنت أحبها حبا جما‪،‬‬
‫كنت أتوق للحظة التي ستكون فيها زوجتي وما إن‬
‫تزوجنا حتى انتهى الشغف‬
‫يقولون أن الزواج مقبرة الحب!!‬
‫فهل هذا هو السبب؟؟‬
‫لم تتغيرتصرفاتها أبدا معي‪ ،‬كانت تحب وتعطي وتمدح‬
‫وتنتظررغم شعورها بأنني مهما فعلت لن أقابل‬
‫تصرفاتها برضا‬
‫بل كلما منحت لم تكن تقابل إال الجحود والنقد والكبر‬
‫فقط لظني أنني أسحق األفضل‬
‫أتذكرجيدا عيد ميالدي األول بعد زواجنا حين أعدت‬
‫لي بيدها كعكة بينما أنا كنت أقض ي ليلتي برفقة أخرى‬

‫‪57‬‬
‫وكل ما كنت أتوق إليه هو أن أرافقها إلى منزلها لتتوج‬
‫ليلتي بليلة خاصة‬
‫لكنني اشتعلت غضبا حين تمنعت ولم أملك إال تفريغ‬
‫غضبي بتلك املسكينة التي كانت تجاورني‬
‫دفعت طبق الحلوى من يدها وزعقت فيها كي تفهم‬
‫وتتركني وفعلت‬
‫وبعد عدة أيام عدت من عملي ألجد رسالة من كلمة‬
‫واحدة فقط‬
‫"طلقني"‬
‫وهزأت بالرسالة ألن يقيني بصاحبتها كان كبيرا جدا‬
‫"رحاب ال تستطيع أن تعيش بدونك‪ ،‬رحاب تعشقك يا‬
‫رجل ولن ترحل أبدا"‬
‫ولم أعبأ باتصاالت والدها وال محاوالت أهلي وكانت‬
‫ردودي بكل تكبر‬

‫‪58‬‬
‫كما رحلت تعود‬
‫ليأتيني بعدها بعدة أيام إنذارمن املحكمة بدعوى‬
‫"خلع"‬
‫وبعد عدة أيام أدركت ما آلت إليه حياتي عندما قمت‬
‫بتطليقها‬
‫ورغم كل ما حدث ظل كبريائي يتالعب بي ويؤكد لي أنها‬
‫ستعود ويوما بعد يوم كنت أتظاهربالتناس ي والالمباالة‬
‫حتى علمت بأمرخطبتها‬
‫ولم تكن أكبرصدماتي أنها لم تعد لي بل كونها قد‬
‫خطبت لواحد من أصدقائي كان يراها كنزا‬
‫كان يقول لي من يمنحه هللا زوجة صالحة وال يستشعر‬
‫قيمة ما يملك جاحد‪ ،‬وال يلوم إال نفسه حين يجد أن‬
‫النعمة قد زالت من بين يديه‬

‫‪59‬‬
‫ولم أبك بحياتي كما بكيت في ذلك اليوم‪ ،‬أغلقت‬
‫بوجهي كل الطرق وحين فكرت أن أهاتفها قالت بثقة‬
‫"فات األوان"‬
‫واستكملت حياتها تدرس وتعمل وتحب وأنا‪..........‬‬
‫أنا فقط أتابع وقد قررت التظاهربأن مجاورة النساء‬
‫دونها سلوى وسعادة‬
‫كنت أتعمد الحديث أمام الجميع أنني أعيش أفضل‬
‫أيام حياتي بدونها‬
‫"الزواج لعنة نجوت منها"‬
‫"الحرية وأن تكون برفقة امرأة بعد امرأة"‬
‫أتوسط أصدقائي وأحكي لهم عن السعادة املكذوبة‬
‫التي أذوب فيها وقد قابلت (هنا وسما ونور وليلى‪.......‬‬
‫بل أكثر‬

‫‪60‬‬
‫فيحسدونني ويمدحون حياتي وهم يتحدثون عن‬
‫حياتهم الزوجية التي ال تحمل إال الهم والنكد‬
‫ولو أدركوا أنني أنا الحاسد لهم لتوقفوا‬
‫فلو جربوا بيتا فارغا دون زوجة تنتظر‪ ،‬دون حياة‬
‫وأطفال وش يء يشعرك أنك تعيش ألجله‬
‫لعلموا أنني أنا الضائع‪ ،‬أنا التعيس‪ ،‬أنا من خسر‬
‫"أكمل"‬
‫والنداء كان من شكري ألعود أدراجي وأكمل عملي‬
‫وحاولت وقد تظاهرت أن كل ش يء على ما يرام حتى‬
‫انتهى يومي‬
‫شعرت أنني سأختنق وما إن وصلت لبيتي حتى قررت أن‬
‫أغض الطرف عن أحداث يومي وأخرج للتنزه‬
‫ولكي ال أكون وحدي اتصلت بأصدقائي فكانت إجابتهم‬
‫كلهم باالعتذارلظروف خاصة‬

‫‪61‬‬
‫ألقيت هاتفي بإهمال وجلست لدقائق شاردا في الفراغ‬
‫وأنا ال أملك وجهة محددة‬
‫ش يء ما بداخلي دفعني أن أقرر فتح حساب زوجتي‬
‫بموقع فيس بوك ومتابعته لتفقد أحوالها‬
‫فكانت الصاعقة‬
‫اليوم هو يوم زفافها‬
‫والدعوة للجميع من أهلها وأصدقائها‬
‫هنا أدركت سرإعتذارات أصدقائي كونهم سيذهبون‬
‫لحضور حفل الزفاف‬
‫وفرت دمعة من عيني تداركتها ومحوتها فورا وأنا أقول‬
‫لنفس ي‬
‫"ال عليك"‬

‫‪62‬‬
‫وقبل التظاهربغض الطرف أعدت لنفس ي بعض‬
‫الشطائروكوب شاي وجلست أمام التلفازليقاطعني‬
‫اتصال من شكري ليسأل‬
‫ـ هل ستذهب لصالة الجنازة على ابتسام غدا‬
‫سؤال أشعرني وكأنني أسقط في قاع بئرعميقة بال نهاية‬
‫"أصلي"‬
‫قلتها وكأنني أتذكرالكلمة نفسها وقد شعرت بصوت‬
‫شكري يكسوه االستغراب ولكنه أردف‪ :‬غدا بعد صالة‬
‫الجمعة صالة الجنازة‬
‫فهل ستأتي؟‬

‫‪63‬‬
‫الخاتمة‬
‫"أحقا تريدون سماعي"‬
‫سؤال سأله اإلمام وظل يمني نفسه بإجابة حاسمة من‬
‫أحدهم ولكنهم صمتوا فاستشعراليأس وصمت‬
‫وساد صمتهم وبصائرهم قد تعلقت به حتى قرر الهتاف‬
‫"ثم أما بعد"‬
‫هال توقفتم عن الركض واستبصرتم ما ينبغي عليكم‬
‫استبصاره‬
‫"ال"‬
‫قالها أحد الحاضرين فزلزلت البقية وجاء رد اإلمام‬
‫بغتة‬
‫"إذا ال فائدة‪..........‬أقم الصالة"‬
‫وما إن التفت حتى صاح أحدهم‪ :‬مهال يا شيخ راجي حتى‬

‫‪64‬‬
‫وإن دب بك اليأس بحالنا عظنا علها كلمة يهدي هللا بها‬
‫واحدا منا ال ندري من هو‬
‫دب األمل في نفس الشيخ‪ ،‬فهذا ما كان يريد سماعه ولو‬
‫من شخص‬
‫ابتسم وصعد على املنبروقد نوه أن هناك صالة جنازة‬
‫بعد الصالة وقد امتل املسجد عن آخره‬
‫وتجاور شكري بجوارأكمل وبمصلى النساء كانت رنيم‬
‫ومايسة وعنايات‬
‫وبدأت الخطبة‬
‫إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستهديه‬
‫(من يهد هللا فهو املهتد ومن يضلل فلن جتد له وليا‬
‫مرشدا)‬

‫"ثم أما بعد"‬


‫‪65‬‬
‫هال توقفتم عن الركض واستبصرتم ما ينبغي عليكم‬
‫استبصاره‬
‫"كيف"‬
‫انظروا في أنفسكم وستكون اإلجابة جالية‪.‬‬
‫ِنع ٌم ال حصرلها‪ ,‬علينا أن نتوقف عن الركض دون‬
‫إحصائها‬
‫صحة‪ ,‬مأوى‪ ,‬أسرة‪ ,‬عافية‬
‫"مقدرة "‬
‫ال ش يء يضاهي قسوتنا حين نستخدمها في الظلم أو‬
‫الذنب‬
‫"غشاوة "‬
‫قد طالت كل ش يء‪ ,‬وماعون نضب ما به من وعرألننا ما‬
‫عاد يعنينا أن هللا على القلوب مطلع‬
‫"جفوة "‬
‫‪66‬‬
‫مفادها يوما ما سنتوب ونرجع ولكن من منكم قد‬
‫ضمن الوقت‬
‫"المباالة "‬
‫هي خالصة كل فتور قد حل بكل ش يء والخالصة‬
‫"يأس"‬
‫في رحمة هللا‪ ،‬في حسن الظن‪ ،‬في انعدام قدرتنا على‬
‫تغييرأنفسنا ومن ثم الوقوف بمكاننا دون مراجعة‪،‬‬
‫دون توبة‬
‫والخسران تحت غطاء‬
‫"مفيش فايدة"‬
‫بينما كل آية من كتاب هللا قد فرضت علينا التأمل‬
‫حين أخبرنا هللا عن أمم سبقتنا‬
‫منهم من أفسد ومنهم من أصلح‬

‫‪67‬‬
‫ونهاية كل طريق كانت للعيان واضحة ولكن يبدو أن بنو‬
‫البشرأقل الكائنات عبرة‬
‫ولكني سأذكرنفس ي وإياكم بأننا بحاجة ألن نتفقد‬
‫أحوال أنفسنا ما استطاعنا‬
‫دون يأس أو تهوين‬
‫فاألصل ليس بأن نتوقف عن الذنوب‬
‫بل أن نتوب كلما جاءتنا الفرصة‬
‫َ‬ ‫َ َ َ َّ ْ َ ُ َ َّ ُ َ ْ َ ْ ُ َّ َّ َ َ َ َ ُ ْ َ ْ َ ْ‬
‫(وقال الشيطان َلا ق ِض ي اْلمر ِإن اَّلل وعدكم وعد الح ِق‬
‫ان ل َي َع َل ْي ُك ْم م ْن ُس ْل َطان إ ََّّل َأنْ‬ ‫َو َو َع ْد ُت ُك ْم َف َأ ْخ َل ْف ُت ُك ْم َو َما َك َ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ ُْ ُ ْ َ ْ َ َ ُْ ْ ََ َُ ُ َُ ُ َْ ُ َ ُ ْ َ ََ‬
‫دعوتكم فاستجبتم ِلي فَل تلومو ِني ولوموا أنفسكم ما أنا‬
‫صرخ َّي إني َك َف ْر ُت ب َما َأ ْش َر ْك ُت ُمون منْ‬ ‫صرخ ُك ْم َو َما َأ ْن ُت ْم ب ُم ْ‬ ‫ب ُم ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اب َأ ِليم)ٌ‬ ‫الظ ِاَل َين َل ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫َ ْ ُ َّ َّ‬
‫قبل ِإن ِ‬
‫أقم الصالة‬
‫انتهت الخطبة ثم الصالة‪ ،‬ثم كانت صالة الجنازة‬

‫‪68‬‬
‫وضع جثمان ابتسام وصلوا عليها لترحل إلى مثواها‬
‫األخيروقد انتهت قصتها أمام أعينهم ههنا‬
‫فهل تأثروا؟!‬
‫قد يكون هذا محتمال‪.‬‬
‫وهل استبصروا؟!‬
‫ربما اإلجابة نعم!‬
‫لكنه حالنا‬
‫وكلنا بحاجة إلدراك الفارق بين املثالي والسوي‬
‫أننا سنظل بشرا ولن نكون مالئكة‬
‫نجتهد ومكمن االجتهاد‬
‫في إعمال عقولنا‪.‬‬

‫تمت بحمد هللا‬

‫‪69‬‬

You might also like