Professional Documents
Culture Documents
الصراع محركاً للتاريخ (الديالكتيك الهيجلي)
الصراع محركاً للتاريخ (الديالكتيك الهيجلي)
الصراع محركاً للتاريخ (الديالكتيك الهيجلي)
منريفا جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 0202) فيفري02() عدد05(جملد
حسن سليمان قيلي:االسم واللقب Name & Surname:…………………… حسن سليمان قيلي
ملخص
وأن،يهدف البحث إثبات أن فكرة الجدل أو الصراع عند هيجل من املحركات الرئيسية للتاريخ
وكل تأثير، وأن التناقض هو مبدأ كل حركة وكل حياة.مسيرة التاريخ معلولة لفكرة الديالكتيك
. وأن جوهر التطور في التاريخ هو نتيجة لصراع املتناقضات.فعال في عالم الواقع في التاريخ
.وقد استخدم الباحث مناهج البحث التاريخي ومنهج النقد والتحليل
أن مسيرة التاريخ ليس متروكة للصدف وإنما هي:وقد خلص البحث إلى عدد من النتائج أهمها
.محكومة بسنن الجدل وأن التطور الجدلي يتم بطريقة مستقلة عن إرادة اإلنسان
كل مرحلة من املراحل التاريخية هي سلب للمرحلة السابقة غير أن السلب اليعني الهدم
. وإنما كل مرحلة "تنفي وتحتفظ" في وقت واحد باملرحلة السابقة،أوالفناء
Abstract
The research aims to prove that the idea of controversy or conflict for Hegel is one of the main
engines of history, and that the course of history is explained by the idea of dialectics. And that
contradiction is the principle of every movement and every life, and every effective influence
in the real world in history. And that the essence of development in history is the result of the
conflict of contradictions. The researcher used the methods of historical research and the
method of criticism and analysis. The research concluded with a number of results, the most
important of which are: that the march of history is not left to chance. Rather, it is governed by
the laws of controversy, and that the dialectical development takes place in a manner
independent of the human will. Each of the historical stages is the dispossession of the previous
stage. However, dispossession does not mean demolition or annihilation. Rather, each stage
"denies and preserves" at the same time the previous stage.
17
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
مقدمة
لقد ارتبط تحقق السنن التاريخية عند كثير من املذاهب الفلسفية بمعاني الصراع
والجدل ،أي أن تحقق السنن التاريخية وعملها ارتبط بتناقض وتالقي املتناقضات مما يولد
الفعل التاريخي .وتأتي الفلسفة املثالية املطلقة عند الفيلسوف األملاني جورج فلهلم هيجل ،على
القمة من هذه الفلسفات التي تبنت مفهوم أن الصراع (الجدل)؛ هو املحرك الرئيس ي ملسيرة
التاريخ وأن التاريخ يتطور من خالل صراع (جدل) املتناقضات.
1شريعيت ،د.علي ،اتريخ احلضارة،ترمجة :حسني نصريي ،دار األمري ،بريوت ـ لبنان6241،هـ ـ4001م ،ص136
16
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
ومن عدم إلى وجود وهذا التحول املستمر هو ما نسميه ب "الصيرورة " ومن هنا فإن العالم كله
ظواهر تحكمها الصيرورة ،فهو كالنهر " ال تستطيع أن تستحم فيه مرتين ،فماؤه ينساب
باستمرار (كما قال الفيلسوف اليوناني هيراقليطس )1
إن طريقة الجدل تكررت وتجددت في ديالكتيك هيجل مع وجود اختالف وهو أن ديالكتيك
هيجل هو عبارة عن فهم ظواهر العالم والفعل واالنفعاالت الوجودية على أساس كشف قانون
التناقض والتضاد واالعتقاد بهذا األصل الذي ينتج ويظهر نتيجة لصراع هذين املتناقضين،
ً ً
واالعتقاد اآلخر عندهم أن هذا الصراع بين املتناقضات صراعا دائما في كل مكان ،وإن كل
ظاهرة سوف تظهر نقيضها بصورة جبرية .لذلك فإن الديالكتيك عنده مبني على أسس ثالثة
هي :ـ
()1األصل ( )2نقيض األصل ( ) 3النتيجة الحاصلة من صراع هذين النقيضين.
ً
بمعنى أن كل أصل يكون مظهرا لنقيضه ومن صراع األصل ونقيضه فإن ظاهرة جديدة
سوف تظهر إلى الوجود.2
ويرجع أصل الديالكتيك إلى أن الش ئ الوحيد الثابت في الكون هو التغير ـ وإذا لم يكن
التناقض موجود وهو أصل الحركة والتكامل وهو مثل املحرك بالنسبة للطبيعة ـ فإنه ال يمكن
أن يحصل تغيير وتكامل وتحول ،ولكن حينما يكون التناقض موجود فهناك صراع مستمر
وتحول وتغيير ،والفيزياء تثبت ذلك ،حيث إن التناقض موجود ،فالذرة متكونة من جمع ضدين
فالبروتون وهو العنصر املوجب واإللكترون وهو العنصر السالب ،ففي نفي احدهما لآلخر
تثبت الذرة وكذلك فإن القوة الجاذبة والدافعة بجمعهما تظهر حركة الذرة ...والتناقض
موجود في كل مخلوق وموجود في عالم الطبيعة والحياة وفي التاريخ واملجتمع واألفكار .والصراع
ً
أيضا في الروح والثقافة3 والتناقض موجود
والصراع ظاهرة كونية تشمل الطبيعة والفكر واملجتمع .أي أن الصراع ظاهرة تمتد لتشمل
ً
كل قوى التاريخ البشري وغير البشري ،والصراع هو نتاج لقوى جوهرية وحقيقية أكثر عمقا
1
اجلابري ،د .حممد عابد ،يف مفهوم النقيض ..والدايلكتيك السليب http:// www.aljabriabed.net| terrorism21.htms
17
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
وهي التناقضات .فالتناقض هو الجذر األساس لكل تطور وحركة وتغير ومن هنا تأتي أهمية
قانون وحدة وصراع األضداد1
فهذا القانون يبحث على عكس املادية امليكانيكية التي تبحث عن القوى الخارجية ،فهو
ً ً
يبحث القوى الداخلية لألشياء باعتباره قانونا جدليا يكشف عن القوى الدافعة للتاريخ .وهذا
القانون يؤكد دور القوى الداخلية ،دور التناقض والتوتر داخل بنية أي ظاهرة ،ويجيب عن
السؤال األساس ي في التقدم وهو ما الذي يحرك األشياء؟ وماالذي يصنع التا يخ؟2
ر
وقانون وحدة وصراع األضداد ال يلغي دور املتناقضات الخارجية شريطة أن تكون في إطار
الطبيعة املادية للمجتمع والطبيعة ،ويوضح لنا ترابط األجزاء والعوامل ويؤكد التأثير املتبادل
لألشياء والظواهر بمعنى أن العلة األساسية لتطور األشياء وتقدمها التوجد خارجها ،وإنما تكمن
في جوفها ،فالطبيعة املتناقضة هي خاصية ماهوية لألشياء ...وصراع األضداد هو الذي يولد
الحركة ويبعث على التطور3
ويرى إنجلز أن التناقض ضروري الستمرارية الحياة فلو أن جميع التناقضات قد أزيلت
ً
نهائيا لكنا قد وصلنا إلى مايسمى بالحقيقة املطلقة ولكان التاريخ العاملي قد انتهى ،ولكنه كان
يجب عليه في الوقت نفسه أن يستمر حتى لو لم يبق ش ئ للعمل ،وهكذا يظهر تناقض جديد4
وهكذا ترى املادية الجدلية أن كل ش ئ طبيعي ،وكل ظاهرة تشتمل على طرفي نقيض ،واليمكن
أن يظل هذين الطرفين في سالم ،فمن املحتم أن يتولد الصراع بينهما ،وهذا الصراع ال يفض ي
إلى وحدة الش ئ أو الظاهرة ،بل يفض ي إلى تغلب الطرف املعبر عن التقدم على الطرف اآلخر
فيحدث التحول وهذا هو السبيل إلى التطور.5
ويرى ماوتس ي تونغ* أن االعتماد املتبادل بين طرفي كل تناقض في كل ش ئ والصراع بينهما
يقرران حياة ذلك الش ئ ويدفعان تطوره إلى األمام ،فليس ثمة ش ئ ليس به تناقض ،ولوال
1
الكحالوي ،فلس فة التقدم ،دراسة يف اجتاهات التقدم والقوى الفاعلة يف التاريخ ـ مكتبة مدبويل ،القاهرة4004،م ،.ص466
2
املرجع السابق ،ص 466ـ ـ 440
3إمام عبدالفتاح ،املنهج اجلديل عند هيجل ،دارالتنوير للطباعة والنشر ،بريوت،ط6661 ،3م ،ص360
4الكحالوي ،فلسفة التقدم ،مرجع سابق ،ص446
*ماوتسي تونغ ،فيلسوف وحكيم صيين ،كان رئيساً جلمهورية الصني ،له مؤلفات فلسفية عديدة أمهها كتابه " خمتارات فلسفية".
5حممد،علي عبداملعطي ،الفكر السياسي الغريب ،دار املعرفة اجلامعية ،اإلسكندرية6663،م ،ص366
17
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
التناقض ملا وجد ش ئ ،إن التناقض هو أساس األشكال البسيطة للحركة امليكانيكية ،وهو
باألحرى أساس األشكال املعقدة للحركة.1
الصراع عند هيجل
ً
لقد تصور هيجل لتطور التاريخ منهجا أطلق عليه "الديالكتيك" وهو عبارة عن "منطق
دينامي" ذي أطوار ثالثة هي" :املوضوع" و "نقيض املوضوع" و"مركب املوضوع" .ومعنى هذا
ً
السير الثالثي للفكر والتاريخ هو أن العقل البشري يبدأ بتقرير حقيقة ما "كأن يقول مثال إن
الوجود موجود" لكي ال يلبث أن ينكر هذه الحقيقة "كأن يقول إن الوجود غير موجود" ثم ينتهي
ً
به األمر إلى سلب تلك القضية اإلنكارية بأن يقول مثال "إن الوجود هو الصيرورة ،باعتبار أن
الصيرورة مزيج من الوجود والالوجود" وقد حاول هيجل أن يطبق منهجه الديالكتيكي على شتى
مظاهر التطور التاريخي ،فبين أن قوام الحياة البشرية هو الصراع والتناقض والتوتر والحركة
املستمرة ،وثار على كل تلك النزعات الفلسفية القديمة التي ال تنظر إلى الوجود إال على أنه
حقيقة ثابتة مستقرة2
ويرى هيجل أن التناقض هو مبدأ كل حركة وكل حياة ،وكل تأثير فعال في عالم الواقع وإذا
ً ً ً
ابتداء من الحصاة الصغيرة حتى الروح البشرية ـ يمثل "كال موحدا" تجمع بين كان الكون ـ
ظواهره املختلفة عالقات متبادلة ،فإن مهمة الفلسفة إنما هي العمل على اكتشاف تلك
العالقات الضرورية ،والوقوف على مظاهر االختالف التي تنشأ في كنف ذلك الكل واالنتباه إلى
الوحدة الحقيقية التي تجمع بين تلك الظواهر املتناقضة3
ً
كما يرى هيجل أن أية ظاهرة على العموم متناقضة ،بمعنى أنها تطور انطالقا من ذاتها ،وأن
ً
األشياء جميعا تتغير ،ليس ثمة قوة قادرة على إعاقة هذا التيار املستمر أو إيقاف هذه الحركة
األبدية ،ليس ثمة قوة قادرة على مقاومة جدلية الظواهر وأن الجدلية هي روح أية معرفة
علمية.4
1
تونغ ،ماوتسي ،املختارات ،ج ،6ط ،4دار الشعب للنشر ،بكني6666 ،م،ص216
2
إبراهيم ،د .زكراي ،مشكلة الفلسفة ،مكتبة مصر ،ط3،6616م ،ص34-36
3
إبراهيم ،د.زكراي ،هيجل أو املثالية املطلقة ،مكتبة مصر6660 ،م ،ص652
4
بيلخانوف ،املؤلفات الفلسفية ،دار دمشق ،سوراي ،ط6664 ،6م ،مج ،6ص266
17
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
ويرى هيجل أن أول املقوالت التي يبدأ منها املنهج الجدلي هي مقولة الوجود الخالص ،ذلك
ً ً
ألن املنهج إذا ما بدأ بغيرها فالبد أن يبدأ بش ئ آخر أكثر تحديدا ،ومن هنا فسوف يكون شيئا
ً ً
متوسطا ال مباشرا ...مع أن املنهج لم يخط خطوته األولى بعد .ومعنى ذلك أننا ال نستطيع أن
ً
نبدأ بش ئ عيني ألن الش ئ العيني يتضمن في جوفه عالقات ،وذلك يعني أنه يتضمن توسطا وهو
في هذه الحالة يكون نتيجة وال يكون بداية ...ألن البداية البد أن تكون مباشرة وخالصة أي البد
أن تكون هي الوجود الخالص2
ً ً
أي أن املنهج الجدلي عند هيجل يسير من املجرد إلى العيني ،أي انه منهجا موضوعيا وليس
ً ً
منهجا ذاتيا يضعه الباحث ،وهو موضوعي ألنه يعبر عن نشاط العقل املوضوعي كما يتمثل في
املقوالت وتسلسلها .وهو عبارة عن منطق جديد هو منطق الحركة والتغير والتطور في مقابل
املنطق األرسطي الذي يرى أن للش ئ هوية ثابتة ترى أن "اإلنسان هو اإلنسان" أي "أ هي أ " فجاء
ً
منطق هيجل الجدلي ليقول أن "اإلنسان عاقل " ليقول "أ هي ب" غير أن اإلنسان ليس عاقال
ً ً
مثال "ج" وحيوان "د" واجتماعي "هـ " ...الخ .فاإلنسان يمكن دائما أن يكون فحسب ولكنه فان
12
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
ً
موضوعا ملحمول آخر ،وكل محمول منها يخبرنا بش ئ جديد عن حقيقة اإلنسان .وهكذا نظر
ً ً ً
حيا دائم الحركة والتطور1 املنطق الهيجلي إلى الكون فرآه كال عضويا
وملا كانت الحركة نقص في الش ئ والحركة مستحيلة على الش ئ إذا كملت حقيقته كما قال
برادلي* .2فاملنطق الجدلي عند هيجل يرى أن مايدفع الكون إلى الحركة هو مايكمن فيه من سلب
وتناه ،فاألشياء املتناهية أشياء ناقصة تبحث عن تمامها ،ولهذا فهي تحاول جاهدة أن تحقق
ً
صورتها كاملة ،وفي هذه املحاولة تلغي نفسها لتكون شيئا آخر يعبر عن صورتها الحقيقية ،وهذا
الش ئ الجديد بدوره يتطور إلى ش ئ آخر ،وهكذا .والصورة الكاملة التي تحقق نفسها وتتفق مع
فكرتها هي املطلق أو "هللا" فاهلل هو االتفاق الكامل بين الفكرة الشاملة والواقع3
أي أن املنهج الذي حبذه هيجل هو :منهج تحليلي وتأليفي في آن واحد ...فهو يدمج هذين
املنهجين في ذاته بحيث نرى التحليل والتأليف في كل خطوة من خطواته ،وهذا املنهج هو املنهج
الجدلي ،فهو منهج "مطلق" إذ ليس فيه أي افتراض من بدايته إلى نهايته ،وهو عبارة عن املركب
للمنهجين السابقين ..أما العلم الذي يختص بعرض هذا املنهج فهو املنطق4
ً
واملنهج الجدلي يسير وفقا لثالث حركات ،هي القضية ونقيضها واملركب منهما ،مثل الوجود
والعدم والصيرورة ،واملركب األخير يحوي بداخله كل خصائص القضيتين السابقتين وهنا
نالحظ وجود استمراريه ،ولهذا فإن املنهج الجدلي هو منهج تاريخي.5
ً ً
ويقدم هيجل مثاال حيا ملنهجه الجدلي فيما سماه بديالكتيك العبد والسيد أوجدل العبد
والسيد ،وهو جدل أوصراع بشري من أجل إثبات الذات تقوم به إرادتان ،نجد إحداهما ترفض
املخاطرة وتقبل االستكانة ومن ثم تتفانى في إرضاء اإلرادة األخرى وإشباع رغباتها واالنطواء تحت
جناحها ،بينما اإلرادة األخرى تكون هي إرادة التحدي وتمض ي في هذا الطريق إلى غايته حتى تواجه
املوت وال تبالي لكن هذه املواجهة لتلك اإل ادة مع املوت نفسه هي التي يكتب لها الحياة6
ر
11
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
وعلى ذلك فإن الرابطة الديناميكية "أو الحركية" التي تجمع بين الجزيء والكلي ،وبين
املمكن والضروري وبين املتناهي والالمتناهي إنما هي الدليل على أن الديالكتيك عند هيجل ليس
إال مجرد تعبير عن نظرية وحدة األضداد.1
والسبب في صيرورة الوجود عند هيجل ربما كان هو استحالة التقاء البذرة بذاتها ،ونزوعها
نحو االستحالة إلى ش ئ آخر .ولوال هذه العالقة الوثيقة التي تربط الجزء بالكل ،ملا ظهر في صميم
"البذ ة األولى" ذلك التناقض الحي الذي دفع بها إلى التطور والتغير والصيرورة2
ر
وجوهر التطور عند هيجل هو نتيجة صراع املتناقضات على أساس أن كل ظاهرة تحتوي
ً ً
تناقضا داخليا يدفعها إلى األمام ويؤدي بها آخر األمر إلى تحطمها وتحولها إلى ش ئ آخر .إال أن
تحطم ظاهرة ما إنما هو الفرصة النبثاق ظاهرة جديدة تدفع بالشك الظاهرة السابقة ،ولكنها
في الوقت نفسه تحتوي في ذاتها على كل عناصرها الفعالة وبهذه الطريقة يتحول النظام إلى نظام
آخر.3
وهيجل يدعي أن الصيرورة ليست متروكة للمصادفة واألسباب العارضة بل هنالك إرادة
ً
مخططة وراءها ،وهدف هذا الصراع والتوفيق إنما هو تطوير "روح العالم " التي تتجه دائما
نحو غايتها ،أال وهي تحقيق الذات ) 4)realization Self
وتعتبر عمليتا النفي والتركيب خطوتين جوهريتين في منطق هيجل الجدلي وكل عملية منهما
ً
تكمل األخرى ،فهيجل يمض ي دائما من الفكرة إلى ضدها ،أو من الدعوى إلى الدعوى املضادة
لها .وليس النفي هو الكلمة األخير في املنهج الجدلي إذ البد من "نفي النفي" بمعنى أن االنتقال
ليس من قضية إلى أخرى وإنما إلى أخرى أكمل منها أي أن الجدل ينتقل إلى تأليف جديد ـ أي أن
دائما فوق كل مرحلة من مراحل تطور الفكر مرحلة أخرى مايزال في اإلمكان بلوغها5 ً
هيجل يرى
ولهذا فإن عملية التأليف ال تقل أهمية في منطق هيجل الجدلي عن عملية النفي.
ً
وقد علق هيجل أهمية كبرى على مفهوم "التناقض" فدائما مايتحدث عن موضوع ونقيض
موضوع ،أوعن حد إيجابي وحد سلبي أو عن قضية ونقيضها ،والعالم حافل بضروب الصراع
1إبراهيم ،زكراي ،املنهج اجلديل عند هيجل ،جملة العريب ،عدد ،66مايو6615م ،ص15
2إبراهيم ،زكراي ،هيجل أو املثالية املطلقة ،مرجع سابق ،ص655
3صديقي ،د.عبداحلميد ،تفسري التاريخ ،ترمجة :كاظم اجلودي ،الدارالكويتية للطباعة والنشر والتوزيع ،بدون اترخ،ص42
4صديقي ،تفسري التاريخ ،املرجع السابق ،ص13
5إبراهيم ،زكراي ،هيجل أو املثالية املطلقة ،مرجع سابق ،ص656
17
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
أو التعارض .والواقع شاهد بما ينشب بين القوى والقدرات وامليول املتضاربة من تنافر يؤدي إلى
الصراع .ولكن ال صراع اليشبه عالقة التناقض التي تقوم بين "أ" و" ال أ" ،أو بين حد موجب
ً ً ً
وحد سالب ،بل دائما بإزاء حد موجب يقوم في وجه آخر موجب .ولو استخدمنا تعبيرا منطقيا
لقلنا إننا هنا بإزاء "تضاد" ال "تناقض".1
وكل مرحلة من املراحل التاريخية عند هيجل هي سلب للمرحلة السابقة غير أن السلب
اليعني الهدم أوالفناء ،وإنما كل مرحلة "تنفي وتحتفظ" في وقت واحد باملرحلة السابقة،
ً ً
فالسلب الجدلي هو سلب واحتفاظ معا ،هدم وتطور أبعد ،وال يكون النفي جدليا إال إذا كان
ً
مصدرا للتطور أي إذا احتفظ بالعناصر األساسية في املراحل السابقة ،وهذا مايحدث في جميع
املجاالت في التا يخ واملجتمع والفلسفة ...الخ2
ر
والتطور عند هيجل اليسير في خط مستقيم وإنما هو يسير في طريق لولبي وتلك نتيجة
مترتبة على الخاصية السابقة ،والتطور الجدلي عنده يتم بطريقة مستقلة عن إرادة اإلنسان
ً
لكن ذلك اليعني أن الناس ليسوا أحرارا ،فهذا زعم الذين يعتقدون أن الضرورة التاريخية
تسلب الناس حريتهم ،فالحرية والضرو ة التا يخية ال تجتمعان في نظرهم3
ر ر
وكل ظاهرة تحوي في جوفها متناقضات متصارعة ،وصراع األضداد هذا هو الذي يولد
الحركة ويبعث التطور ،واليمكن تصور أي شكل من أشكال الحركة بدون أضداده ،فحتى
الحركة اآللية البسيطة ال تتم إال لوجود هذه األض ــداد:
فعل ورد فعل ،جذب ودفع ،قوة طرد مركزية وقوة جذب مركزية ...،بل هناك جوانب
ً
متناقضة ذاتيا داخل عملية املعرفة نفسها ،فاإلنسان يستخدم مناهج متضادة ومرتبطة في
دراسته لألشياء ،كاالستقراء واالستنباط ،والتحليل والتركيب .4والواقع أن هيجل فطن إلى أن
الصراع "الديالكتيك" هو وصف حي لشتى ضروب التنافر الشائعة في عالم الواقع ال جدل
ً
تصوري يقوم على عالقة التناقض ،فمثال يتحدث في "فنومولوجيا الروح" عن عالقة السيد
17
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
ً
بالعبد ،مبرزا العالقة بصورة صراع إيجابي دون أن يقتصر على القول بأنها مجرد تناقض بين
حدين أحدهما موجب واآلخر سالب.1
ً
ويشكل (الوجود ،العدم ،الصيرورة) أول مثلث هيجلي ،املقولة األولى في كل مثلث دائما هي
مقولة اإلثبات أو اإليجاب ،فهي تضع نفسها كفرض إيجابي مثل الوجود موجود ...الخ ،واملقولة
ً
الثانية هي دائما مقولة النفي أو السلب أو ضد املقولة األولى ،وهي تنكر ماتثبته املقولة األولى
فتتحدث عن الالوجود أو تقول إن الوجود غير موجود...الخ ،ولم يأت هيجل بهذه املقولة الثانية
من مصدر خارجي ،وإنما استنبطها من املقولة األولى ،وهذا يعني أن املقولة األولى كانت تتضمن
الثانية ،وأن األخيرة خرجت من جوفها ،وهكذا تتضمن املقولة األولى ضدها وتتحد معها .وعند
هذه النقطة تقف املقولتان تواجه كل منهما األخرى وتناقضها ولكن من املستحيل الركون لهذا
التناقض ،ألن ذلك يعني أن املقوالت املتضادة يمكن انطباقها على ش ئ واحد في وقت واحد ،فإذا
كان لش يء ما "وجود" فالبد أن يكون له بالضرورة "الوجود" ،فإذا قلت إنه موجود فالبد أن
تقول في نفس الوقت إنه غير موجود .ولكن كيف يمكن لش يء أن يكون وال يكون في نفس الوقت؟
والجواب هو :أنه موجود وغير موجود في آن واحد حين يصير .ومن هنا فإن مقولة الصيرورة
تحل هذا التناقض .وبعبارة أخرى فإن التناقض القائم بين املقولة األولى والثانية يحل في مقولة
ثالثة ،فاملقولة الثالثة تحوي في جوفها تضاد املقولتين ولكنها تتضمن كذلك انسجامهما
ً
ووحدتهما ،وعلى ذلك فالصيرورة هي الوجود الذي ليس وجودا ،أو هي الالوجود الذي هو نفسه
ً
وجودا ...وتسمى أضالع املثلث الهيجلي الجدلي في بعض األحيان القضية والنقيض واملركب.2
ً
والجدل الهيجلي هو حوار العقل الخالص مع نفسه حوارا يفض فيه مكنوناته بحيث تتوالد
مقوالته بعضها من بعض بنظام خاص .والعقل الجدلي عند هيجل ينتقل بمقوالته ونسيجه إلى
ضده في الطبيعة ،ثم يكون االنتقال التالي إلى مركب يجمع الطبيعة واملنطق أو العقل الخالص
وهو اإلنسان الذي يجمع بين الروح واملادة3
والخالصة أن هيجل يصف الجدل بأنه ( :حركة تكمن في جوف كل ش يء بوصفها واقعه
الروحي الحقيقي ،وهو في نفس الوقت حركة الفكر البشري )4
72
منريفاΑθηνά ................................. ......................................................................... جملة
ISSN : 2437-0703 EISSN :2600-6448 جملد( )05عدد( )02فيفري0202
خالصة
فكرة الصراع أو التدافع من سنن هللا التاريخية التي أودعها في الكون ،فليس هنالك من
ََ َ ُ َ
﴿و ِم ْن ك ِل ش ْي ٍء خل ْق َنا َز ْو َج ْي ِن حياة ـ كما يصورها القرآن الكريم ـ إال من خالل الزوجية قال تعالى:
ذكر وأنثى ،والطبيعة ومكوناتها من إال املواليد نتكو فال ﴾ ٩٤ يات﴿ الذا سورة ﴾ َل َع َّل ُك ْم َت َذ َّك ُر َ
ون
ٍ ر
ً ً
سالب وموجب ،وكذلك خصوبة الحياة الحضارية ،إجتماعيا وثقافيا ،ال تتم إال ٍ ال تكون إال من
وحي وعقل ،إيمان وعمل ،بل إن القرآن يوجه اإلنسان إلى أنه لوال تدافع الزوجين ال يكون عن ٍ
َ
َ َ َ ْ ْ ُ َ َّ َّ َ ُ َ َ تعالى﴿:ول ْوال َد ْف ُع َّ َّ َ َ ْ َ ُ ْ َ ْ َ َ َ
َّللا ذو ض لفسد ِت األرض ول ِكن َّللا الناس بعضهم ِببع ٍ ِ في الكون صالح يقول
َ ْ َ ْ َ
ض ٍل َعلى ال َع ِامل َين﴾ سورة البقرة﴿ .﴾١٥٢بمعنى أنه لوال أن هللا يدفع بعض الناس ببعض ف
ويكف فسادهم لغلب املفسدون وفسدت األرض ،أي أن التدافع سنة من سنن هللا التاريخية
ض ُه ْم﴾ هم أهل الشرور ﴿ب ْع َ
املاضية في الناس ليوازن بها الحياة اإلجتماعية على مدار التاريخ .و َ
ض﴾ آخر منهم يردهم عما هم عليه بما قدره هللا تعالى َْ
في الدنيا أو في الدين أو مجموعهما َ﴿ ِببع ٍ
﴿ل َف َس َد ِت ْاأل ْر َُ
ض﴾ بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل في أي ش يء من األشياء
َ ْ َ َ ُ ﴿ولك َّن َّ َ َ
ض ٍل َعلى ال َع ِامل َين﴾ أي أن من فضل هللا على َّللا ذو ف ْ َ
وسائر ما يصلح األرض ويعمرها ِ
العاملين يدفع فساد بعضهم ببعض فال تفسد األرض وتنتظم بها ـ املدافعة ـ مصالح العالم
وتنصلح بها أحوال األمم.
َ َ
ض ُه ْم ب َب ْعض ل ُهد َم ْت َ ويقول تعالى ﴿:و ََل ْوَال َدف ُع ََّّللا َّ
ْ
اج ُد ِ س ات َو َم َصل َو ٌ ص َوام ُع َوب َي ٌع َو َ
ِ ِ ِ ِ ٍ
اس َب ْع ََ الن ِ
ُ ْ َ ُ َ ْ ُ َّ َ ً َ َ َ ْ ُ َ َّن َّ ُ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ َّ َّ َ َ
َ
َّللا لق ِو ٌّي َع ِز ٌيز﴾ سورة الحج﴿ ﴾ ٩٤بمعنى َّللا ك ِثيرا ولينصر َّللا من ينصره ِإن يذكر ِفيها اسم ِ
أن هللا تعالى أجرى العادة بذلك في األمم املاضية لينتظم به األمر وتقوم الشرائع وتصان
التعبدات من الهدم.
77