الحل - القصــدي - للغة في مواجهة الإعتباطية

You might also like

Download as doc, pdf, or txt
Download as doc, pdf, or txt
You are on page 1of 387

‫في مواجهة اإلعتباطية‬

‫كتاب في‬
‫نقد المباحث االعتباطية لاللفاظ ومنهج البالغة‬
‫( ويليه كتاب الرّد على الجرجاني )‬

‫‪1‬‬
‫تأليـــــــــف‬
‫عالم سبيط النيلي‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪1‬‬
‫‪3‬‬
‫المقدمة‬

‫أخذت مباحث األلفاظ حيز ًا كبير ًا في اللغة وكانت تفرعاتها‬


‫مشتركة بين علم الكالم من جهة وأصول الفقه من جهة أخرى‬
‫واستعملت على نطاق واسع في التفسير سواًء كان للنص القرآني أو‬
‫غيره كشرح الحديث ودراسة متون المرويات ونصوص الصحابة‬
‫ونصوص وخطب األئمة عليهم السالم كشروح نهج البالغة وغيرها‪.‬‬
‫وقد استعِم لت على نطاٍق أضيٍق وبمصطلحات مختلفة في علم البيان‬
‫أو البالغة ‪.‬‬
‫ولما كنت أتحّدث عن ( نظاٍم قرآنٍّي ) وإعجاز للقرآن من خالل‬
‫هذا النظام ‪ ،‬ولما كانت روح هذا النظام تتّم ّثل في صورته الظاهرة‬
‫لنا – حاليًا في األقل – في القواعد المذكورة في ذلك الكتاب ( النظام‬
‫القرآني – للمؤلف )‪ .‬ولما كانت تلك القواعد تلغي المترادفات وتعيد‬
‫تفسير اللغة على نحٍو آخٍر هو وجود معنًى ذاتٍّي في الصوت وحركٍة‬
‫عامٍة ( معينٍة ) ومحّددٍة إجماًال في كّل تعاقب صوتٍّي – وهو ما تّم‬
‫شرح القسِم األكبر منه في كتاب (اللغة الموحدة ) ‪ ،‬وتّم تفنيد ونسف‬
‫االعتباطية في اللغة ووحداتها األصلية خالف ًا لمزاعم البنيوية‬
‫الغربية أو الشك ّلية النظمية العربية بقيادة دي سوسير في األّو لى‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫وعبد القاهر الجرجاني في الثانية‪.‬‬
‫أقول لما كان ذلك قد تّم فقد رأيت من الضروري أن أباشر‬
‫بنفسي البدء بإلغاء ونسف البنى الفوقية التي تّم تأسيسها على هذه‬
‫النظرية االعتباطية لّلغـة ‪.‬‬
‫فوضعُت رسالًة من ثالثة أقساٍم ‪ ،‬القسم األّو ل منها هو في تفنيد‬
‫مباحث السلف في األلفاظ والقسم الثاني هو في إبطال بالغة‬
‫الجرجاني ( أسرار البالغة ) والقسم الثالث هو في دالئل إعجازه ‪.‬‬
‫وهذان القسمان األخيران هما من مكّم الت هذا الكتاب حيث اخترنا‬
‫من كتابيه أمثلًة عشوائيًة كنماذج لالعتباط ‪.‬‬
‫ومعلوم أّن الغاية من ذلك هو المساعدة في البدِء فور ًا‬
‫بتأسيس البنى الفوقية على القواعد التي وضعناها في ( قصدية‬
‫اللغة ) وما يترتب عليها من نظاٍم قرآنٍّي ونظاٍم آخٍر للحديث النبوي‬
‫في نصوصه ‪ ،‬وما يترتب على ذلك من إعادٍة للنظر في جميع‬
‫المشاريع السابقة المتعّلقة بشرح وتفسير النصوص الدينية‬
‫والعقائدية وبالشكل الذي يعيد جزء ًا من حقائقها الخافية الى األذهان‬
‫‪.‬‬
‫إن موضوع إثبات قصديِة اللغة قد ُفِّص ل وبشكّل واٍف في‬
‫كتابنا ( اللغة الموحدة ) ‪ .‬أّم ا هذه الرسالة فهي بمثابة النتائج‬
‫المترّتبة على ذلك ‪ .‬فهي تقوم بتفنيد هذه المباحث وفروعها‬
‫وتطبيقاتها من خالل تناقضاتها وإلغاءها لنفسها ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪3‬‬
‫‪3‬‬
‫في كتاب اللغة الموحدة تّم التعّر ف على معاني الحروف وإبطال‬
‫الجزافية في الوحدات الصوتية نفسها ( عمليًا ) ‪ ،‬عالوة على إبطال‬
‫االعتباطية ذاتها من خالل تناقضاتها الداخلية ‪.‬‬
‫على أن ( مظاهر ) االعتباطية في اللغة هي فكرٌة أسبُق من‬
‫وقِت التأسيس النظرّي لها ‪ .‬والفارُق أن التأسيس جعل الترّدد بين‬
‫ما هو صحيح وبين ما هو خاطئ يتحّو ل الى قواعد أكيدة لما هو‬
‫خاطئ ‪.‬‬
‫وقد ظهرت اآلثار السيئة لالعتباطية في اللغة على كافة‬
‫مستويات الفكر سواء أكان منطقيًا محضًا كعلم الكالم أو فقهيًا في‬
‫األصول أو لغويًا في المعاجم وعلوم اللغة والصرف والنحو والبالغة‬
‫وفروعها أو فلسفيًا محضًا كما في الفلسفة عموم ًا واإلسالمية منها‬
‫خصوصًا أو في الشروح والتفاسير للنصوص المختلفة ‪ ،‬مثلما أّدت‬
‫ثمارها في األدب عموم ًا ‪ .‬وُترى تلك اآلثار واضحًة من خالل إفساد‬
‫هذه البحوث وتشتيت المعارف المستحصلة الى فروع كثيرة‬
‫ومتشّع بٍة لدرجة فقدان الرابط بينها ‪ ،‬وكذالك ضياع طاقات إضافية‬
‫في مالحقة ( مواضيع ) وهميٍة ال وجود لها وترك أشياٍء أساسيٍة ‪،‬‬
‫باإلضافة إلى التشويه المرعب لألسس المنطقية نفسها – بحيث أن‬
‫اَّي شيٍء ُيقال يمكن أن يأخذ حيز ًا من الفكر والعناية ولو كان وهم ًا‬
‫من األوهام ‪.‬‬
‫وقد اعترف الجميع أن الحقيقة ضائعة وقد ظهرت تلك‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪4‬‬
‫‪3‬‬
‫االعترافات بصوٍر شتى ‪ ،‬بما في ذلك أدب الرواية ‪ .‬عالوة على أّنك‬
‫من اليسير جد ًا أن تجدها في نصوص أكثر العلماء جّديًة في التفسير‬
‫– وال أعني هنا علماء اإلسالم فقط أو علماء األديان بشكّل خاص بل‬
‫كّل نشاط تفسيري ‪ ،‬بما في ذلك النقد األدبي في الغرب ‪.‬‬
‫ولما كنت أعتقد أن الكثير من هذه النشاطات في هذه الجوانب‬
‫مشتركة وإنها تتحرك من جماعٍة الى أخرى وإن لم تعترف األخيرة‬
‫بفضل األولى ( في تضليلها ) ‪ ،‬ولما كنت اعتقد أن الجزء االكبر من‬
‫أسس وأبنية هذا الهيكّل الوهمي قد تـّم ( إحكامه ) في المشرق‬
‫اإلسالمي ‪ ،‬فإّن نسف مباحث األلفاظ هو أحد الطرائق التي اعتبرتها‬
‫نافعة إن شاء الله تعالى في تأسيس علم لغوي ونقدي يؤّثر في‬
‫جميع النشاطات المذكورة لتعيد الجماعات المختلفة نظرها في كافة‬
‫ما تعتقده من مسِّلمات أو قواعد ثابتة ‪.‬‬
‫وسأجعل صورة هذه الرسالة على شكّل مباحٍث مختصرٍة جد ًا‬
‫على طريقتهم في ذكرها بمثل ذلك ‪ ،‬سوى أني سأضع العنوان لكّل‬
‫منها لتيسير األمر على القارئ ‪ ،‬ولكني بالطبع سأتحّدث بأسلوب‬
‫جديد يمكن فهمه بخالف أساليبهم ‪.‬‬

‫القسم األول‪ :‬نقد المباحث اإلعتباطية لأللفاظ‬


‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث األّو ل ‪ :‬داللـة اللفـظ‬
‫في هذا الفرع مباحث فرعية كثيرة جد ًا ‪ ،‬ولهم فيها مجادالت‬
‫واسعة جد ًا ‪ ،‬وإذا أردنا جمعها فهي ترجع الى أصل واحد ومسألة‬
‫واحدة ‪ .‬ذلك أن مباحث هذا الفرع هي في الداللة وطبيعتها من حيث‬
‫كونها ك ّلية يمكن تجزئتها أو ال يمكن ؟ وسأوضح المقصود بذلك ‪.‬‬
‫وال يمكن الخوض في تفاصيلهم ‪ :‬ذلك ألّنهم تحّدثوا عن الداللة بلغة‬
‫وألفاظ كانت هي األخرى ورغم ًا عنهم موضوع البحث ‪ .‬وأعني بذلك‬
‫‪ :‬أن هناك خلط في األمثال المضروبة للمناقشات فقد كانت تلك‬
‫األمثال تحمل في ذاتها نفس المشكلة ‪ ،‬ولهذا فال يقدر فرد واحد وال‬
‫مجموعة أيضًا على تصحيح هذا الكم الهائل من المجادالت إّال‬
‫بمعرفة قضية حقيقية وأساسية يتـّم بموجبها نسف الموضوع من‬
‫أصله وتحويل وجهته الى اتجاه آخر ‪.‬‬
‫فمفردة مثل ( الشمس ) ال تحمل عندهم في ذاتها أّية داللة ‪،‬‬
‫وإّن داللتها تأتي من االستعمال واالتفاق ‪ .‬وهنا يظهر سؤال آخر‬
‫عندهم هو ‪ :‬هل تحمل المفردة في النص جميع المعاني التي تستعمل‬
‫لهذه المفردة ؟ فإّن المعاني متعّددة من حيث شموليتها – فالشمس‬
‫المعلومة ( في السماء ) ‪ ،‬و لكن قد يقول زيد ( جلست في الشمس )‬
‫‪ ،‬ويقصد ضوء الشمس وبالتالي فهو يعني ( جزء ) من المعنى‬
‫األشمل ‪ ،‬أو الك ّلي ‪ .‬لكننا نالحظ إغفال أمور أخرى ‪ ،‬ففي مثل هذا‬
‫البحث توجد ثالث مشاكل أغفلت ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪3‬‬
‫األولى ‪ :‬ال يوجد لديهم ( نص ) مفروغ من صحته أصًال لكي‬
‫يكون مصدر ًا لألمثال المضروبة – إذ قد أقول بل أجزم أن القول‬
‫( جلست في الشمس ) هو تركيب خاطئ لغويًا – إذ يتوجب مثًال أن‬
‫يقول ( جلست متعرضًا للشمس ) و ( عّر ضت ثوبي للشمس ليجف )‬
‫‪ ..‬الخ ‪ .‬و معلوم أنه بغير أمثال ( صحيحة ) مفروغ من صحتها ال‬
‫يمكن استمرار المناقشة ‪ .‬وفي الجملة الجديدة ال مشكلة من هذا‬
‫النوع ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬إن النص المفروغ من صحته ( إن وجد ) مثل‬
‫( القرآن ) فإنه قد استعمل ولكن بصورة معكوسة ‪ .‬أي أن المباحث‬
‫استعملت الشواهد والعبارات المشكوك في صّح تها أو التي يجب أن‬
‫تكون موضع التصحيح اللغوي جنبًا إلى جنٍب مع عبارات القرآن ‪،‬‬
‫ثم استعملت النتائج لفهم النّص المفروغ من صّح ته أي القرآن !!‬
‫وهذا عمٌل اعتباطٌّي ‪ .‬وقد شّددت على هذا التناقض في كتاب النظام‬
‫القرآني ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬إّن موضوع البحث هو داللة اللفظ في عمومها ‪ :‬هل هي‬
‫فرد ّية أم مرّك بة من أجزاء؟ وهل لها أصل محّدد أم يمكن إطالقها‬
‫على أشياء أكثر ؟ ‪ .‬في حين أن الشواهد هي ( مرّك بات ) من ألفاٍظ‬
‫عّد ٍة ‪ .‬أي أن أخذ مفردة مثل ( الشمس ) لدراسة داللتها ال يمكن أن‬
‫يكون داخل جمل وتراكيب مؤّلفة من وحدات أخرى مع لفظ الشمس‬
‫ألّنهم إنما يبغون أصًال فهم داللة اللفظ مجّر د ًا من أي تركيب ‪ .‬وبهذا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪7‬‬
‫‪3‬‬
‫يمكن القول أن مبحث الداللة متهاٍو بنفسه وال قيمة له ولو لم تعرف‬
‫له بديًال ‪.‬‬
‫لكننا في المنهج اللفظي أدركنا البديل ‪ .‬فقد أصبح لكّل لفٍظ مجّر ٍد‬
‫( حركٌة عاّم ٌة ) ‪ .‬ويمكنك من خالل هذه الحركة الحكم على ما يمكن‬
‫أن يطلق عليه اللفظ وهو ال زال مجّر د ًا من أي تركيب ‪ .‬ففي هذا‬
‫المنهج ال تظهر أّية واحدٍة من تلك المشاكل اآلنفة الذكر ‪.‬‬
‫أّم ا الفروع األخرى ‪ :‬الداللة المطابقة ‪ ،‬الداللة األلتزامية ‪،‬‬
‫الداللة التضّم نية فهي ساقطة عن االعتبار لتناقضها في نفسها ‪.‬‬
‫وفي المنهج الجديد يتوّج ب توجيُه البحث إلى وجهٍة أخرى وهي‬
‫البحث عن األخطاء وتصحيحها في عملية التصحيح الخاص‬
‫بالنصوص أّو ًال واستعمال الحركة العاّم ة لفهٍم أعم ٍق لتلك الحركة‬
‫من خالل النصوص المفروغ من صحتها عند امتحانها بالمنهج نفسه‬
‫ثانيًا ‪ .‬فهذا التأسيس هو تأسيٌس منطقٌّي ويؤّدي إلى تصاعٍد كمٍّي‬
‫للمعرفة بخالف التأسيس االعتباطي تمام ًا ‪ ،‬وسنو ّض ح هذه الفكرة‬
‫أكثر في ما يلي من المباحث ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪8‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬المفرد والمرّك ب في اللفظ ومدلوله‬
‫األقسام المعتمدة عندهم للعالقة بين اللفظ ( المفرد والمركب‬
‫في مدلوله ) وبين المعنى هي أربعة أقسام ‪ ،‬ألن مدلول كّل لفظ أما‬
‫مفرد أو مركب وكالهما أما يدل على معنى أو ال يـدل على معنى‬
‫وهذه األقسام هي ‪:‬‬
‫‪ .1‬مفرٌد داٌّل على معنًى مفرٍد ‪ :‬كلـفظ ‪ِ :‬فعٌل ‪ ،‬اسم ‪ ،‬كّلمٌة ‪.‬‬
‫‪ .2‬مفرٌد داٌّل على لفظ آخر مركب هو بدوره داٌّل على معنى مركب‬
‫مثل ‪ :‬الخبر ‪ ،‬الكالم ‪ ،‬القول ‪ .‬فالخبر مثل زيد كاتب ـ مرَّك ب من‬
‫ألفاظ وهي داّلة على معنى مركب من زيد والكتابة أو فعل الكتابة‪.‬‬
‫‪ .3‬مفرٌد داٌّل على لفٍظ مفرٍد آخٍر (واآلخر غير دال على معنى) مثل‬
‫حروف المعجم‪ :‬ألف ‪ ،‬باء ‪...‬‬
‫‪ .4‬لفٌظ مفرٌد داٌّل على لفٍظ آخٍر مركب واألخير غير داٍّل كلفظ الهذيان‬
‫والهذر ‪ ..‬الخ ‪.‬‬
‫نالحظ في التقسيم عدة مشاكّل وتناقضات ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬إن التقسيم لم يكن مطابق ًا للمقّدمات ‪ :‬كّل مدلول إما‬
‫مفرد أو مركب من ألفاظ ‪ .‬وهذان هما نوعا اللفظ ‪ ,‬وهذان النوعان‬
‫أما يدل على معنى أو ال يدل فاالحتماالت المتكونة للفظ األصلي ‪ 6‬ال‬
‫‪ 4‬ومنها المفرد الداّل على مفرد داّل بدوره على معنى ‪ ،‬والمفرد‬
‫الداّل على معنى مركب حيث لم يذكرا‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن التقسيم لم يلتزم ظروفًا موّح دة لدراسة الوحدة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪9‬‬
‫‪3‬‬
‫اللغوية ‪ .‬فلو قال ‪ :‬الفعل – بأل التعريف في النوع األّو ل أسوة‬
‫بالنوع الثاني ( الخبر ) لكان لهذا الفعل بالمعنى معنًى مركبًا – ألن‬
‫الفعل الحقيقي هو ما ال يعبر عنه إال بجملة مركبة أو عدة جمل ‪ .‬و‬
‫من جهة أخرى لو قال ( خبر ) بغير أل التعريف في النوع الثاني‬
‫لكان المفهوم هو من النوع األّو ل – أي الخبر في النحو ومن غير‬
‫ذلك كّله يمكنك نقل المفاهيم من المفرد الى المركب في األمثال‬
‫المضروبة – فلفظة ( كلمة ) مثًال قد تعني خطبة طويلًة أو قصيرًة ال‬
‫مفردة وهكذا ‪.‬‬
‫إذن تبرز نفس المشكلة المراد وضع حلول لها خالل محاولة‬
‫( اعتباطية )‬ ‫الحّل ‪ .‬إذ يستحيل التخّلص من‬
‫التأسيس لمبادئ لغوية تعتقد سلف ًا أنها لغة اعتباطية !! و هذا امٌر‬
‫منطقٌي واضٌح تجاهلوه ‪ .‬وهذه المناقضة المذهلة وقع فيها جميع‬
‫علماء اللغة في الغرب والشرق بال استثناء ‪ ،‬ولكنهم استمروا في‬
‫تأسيس مبادئ اعتباطية بل أقّر سوسير بما سماه بـ ( المبدأ‬
‫االعتباطي ) ‪ .‬وقد أشرُت في كتاب ( اللغة الموحدة ) الى التناقض‬
‫في نفس العبارة بين مفردتي ( مبدأ – واعتباطي ) حيث ال يمكن‬
‫وصف االعتباط بالمبدئية أو المبدأ باالعتباط ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬هناك مشاكل أخرى ‪ :‬فمثًال إن النوع الرابع ( الهذيان )‬
‫هو لفظ يدّل ضمنًا على وجود ألفاظ أخرى – قالوا ال يدل على معنى‬
‫‪ .‬و هذا غير صحيح ألن الذي ال يدّل على معنى – إذا سلمنا أن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪10‬‬
‫‪3‬‬
‫الهذيان خال تمام ًا من كّل معنى– هو الجمل والتراكيب ال الوحدات‬
‫المركبة منها وهي موضوع البحث!‬
‫وفي النوع الثالث ال تجد اللفظ الثاني في حروف المعجم إّال‬
‫أن يكون المقصود ‪ :‬أ – ب – ج من النظام الكتابي الى نظام صوتي‬
‫بنطق التسمية هكذا ألف – باء ‪ ،‬جيم ‪ .‬و هذا بالطبع خالف المنهجية‬
‫في البحث وال قيمة له بهذا المعنى ‪.‬‬
‫إذن فالتقسيم متناقض في داخله وال يؤدي الى نتائج علمية ‪.‬‬
‫ومعلوم أننا أظهرنا القيمة الفعلية للوحدات الصوتية وليس‬
‫للمفردات ( األلفاظ ) فقط في كتاب ( اللغة الموحدة ) وبالتالي فال‬
‫قيمة لهذا التقسيم في منهجنا ‪ .‬ومع أني أعتمد في هذه األبحاث على‬
‫خالصٍة لـ( لكمال الدين ميثم بن علي البحراني ) – ت سنة ‪ 679‬هـ‬
‫– في مقِّدمته لشرح نهج البالغة ‪ ،‬إّال أن المسائل المذكورة وحلولها‬
‫االعتباطية ال تختلف بشيء جوهرٍّي عن أّية أبحاٍث لغويٍة حديثٍة‬
‫قائمٍة على مبدأ االعتباطية في الغرب فيما يخص العالقُة بين الدال‬
‫والمدلول ‪.‬‬
‫و قد ذكر سوسير أن االعتقاد بأّن األلفاظ ال قيمة ذاتية لها هو‬
‫أمر ال يختلف حوله إثنان ‪ ،‬وأما األصوات فإّن االعتقاد بوجود قيمة‬
‫لها هو ضرب من الخيال وشيء ال يخطر على بال ‪ .‬وهو بهذا ال‬
‫يختلف عن( ميثـم ) بشيء في نظرته لألصوات إذ اعتبرها غير دالٍة‬
‫على شيء ‪ ،‬وكذلك األلفاظ ال تدل على المعاني إّال بعد التركيب كما‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪11‬‬
‫‪3‬‬
‫سيأتيك ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪12‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬الدالالت المختلفة للفظ‬
‫هذا العنوان من وضعنا لنجمع فيه عدة أبحاث لعلماء االعتباط‬
‫كّلها تدور في فلك واحد ‪ ،‬ومن الواضح أن منشأه المترادفات أيضًا ‪،‬‬
‫ولكنهم كثير ًا ما كان يعجبهم تفريع أبحاث عديدة ألصٍل واحٍد‬
‫ومشكلٍة واحدٍة ‪ .‬فالمشكلة نفسها ال تحسم بحل منطقي ـ أما‬
‫التفرعات فيحاولون إيجاد حلول لها !! ‪.‬‬
‫ومن تلك المشاكل الفرعية أن اللفظ قد يعطي دالالت مختلفة فما‬
‫هي الداللة الحقيقية له من بين تلك الدالالت ‪ .‬مثًال ( الصالة ) في‬
‫قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬إن الله ومالئكته يصّلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صّلوا‬
‫( األحزاب ‪) 56‬‬ ‫عليه وسّلموا تسليما ‪/ ‬‬
‫فالصالة من الله ( رحمة ) ومن المالئكة ومن الناس ( استغفار‬
‫) ‪ .‬وكقوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في األرض‬
‫(الحج ‪) 18‬‬ ‫والشمس والقمر والنجوم ‪/ ‬‬
‫فالسجود من المالئكة ( خشوع ) ومن الناس وأمثالهم هو‬
‫المتصور من وضع الجبهة على األرض ومن الجمادات هو قسّر ية‬
‫الحركة واحتياجها الى الصانع ‪.‬‬
‫وهذا األصل دخل أبحاثا فرعية مختلفة ـ مثل اللفظ المشترك هل‬
‫يستعمل في معانيه على الجمع أم ال ؟ أجاز ذلك الباقالني والجبائي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪13‬‬
‫‪3‬‬
‫والقاضي عبد الجبار والشافعي ومنع منه أبو هاشم وأبو الحسن‬
‫البصري والكرخي وغيرهم ‪.‬‬
‫المالحظ أن المدخل الى المبحث متناقض منذ البدء في المسألة‬
‫شأنه شأن جميع تفرعات ( علم اللغة ) االعتباطي ‪ .‬وقد أوضحت‬
‫المسألة في كتاب اللغة الموحدة لغرض آخر ـ وأشرت في الختام الى‬
‫أن نتائجه ستلغي جميع تفرعات المسائل االعتباطية ‪.‬‬
‫فأصل البحث هو عن مدلوالت ( أو مدلول ) اللفظ ـ ومن ثم‬
‫التراكيب مجتمعة من ألفاظ وليس اشتراك األلفاظ في المدلول ‪.‬‬
‫ولكننا نالحظهم وكما فعل علماء اللغة في الغرب منذ سوسير‬
‫يعتبرون األلفاظ األخرى ـ والتي هي مدلوالت المفردة األولى من‬
‫معاني اللفظ األّو ل ‪ .‬بمعنًى آخر ‪ :‬أنت تبحث عن معاني األلفاظ‬
‫ومدلوالتها فاللفظ رقم ( ‪ ) 1‬مثًال تعطيه ثالثة مدلوالت ‪ .‬ولكن هذه‬
‫المدلوالت استعملت إلظهارها ثالثة ألفاظ أخرى ‪ ،‬وهذه األلفاظ هي‬
‫جزء من أبحاثك يفترض أّنك تبحث عن مدلوالتها أيضًا فهذا العمل ال‬
‫يقوم به شخص عاقل مطلق ًا ألنه إذا كان يؤمن بـ ( المترادفات ) ـ‬
‫فليؤمن ولكن يتوجب عليه أن يكون منطقيًا فيبحث في المرادفات‬
‫نفسها وال يبحث عن الداللة األصلية أو الفعلية لكّل لفظ مادام يبدأ‬
‫فور ًا من األمثلة بتخريِب وتدمير تلك الداللة المبحوث عنها ؟!‬
‫في المثال السابق وجميع األمثلة عدة مشاكّل منهجية ‪:‬‬
‫‪ .1‬الصالة من الله ( رحمة ) ‪ :‬هو معنى للصالة صيغ بلفظ جديد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪14‬‬
‫‪3‬‬
‫هو ( رحمة ) ـ وهو لفظ يحتاج هو اآلخر الى داللة وبحث كما أشرت‬
‫‪ .‬فالبحث ال يفسر ( لغًة إعتباطيًة ) وحسب وإنما اسلوب البحث‬
‫نفسه اعتباطي الشكل والمضمون ‪.‬‬
‫‪ .2‬إن هذا التحديد تدمير ( لنظام المترادفات ) حتى حينما يؤمن‬
‫المرء بها ـ إذ المفروض وجود حدود معينة للمترادفات فتحديد‬
‫الصالة من الله على أنها رحمة هو منتهى التعسف بحق‬
‫( المترادفات ) التي هي في األصل تعسف بحق اللغة ‪ .‬وهذا يعني أن‬
‫مباحث األلفاظ ال تقوم اال بالمزيد من التخريب أو التدمير للنظام‬
‫اللغوي ‪.‬‬
‫يمكن للمرء أن يقول ‪ :‬إن الصالة من الله هي ( لطف ) ‪ ،‬أو‬
‫‪‬‬ ‫( مودة ) أو ( تأييد ) أو ( عناية ) أو ( ذكر ) ـ كما قال‬
‫اذكروني أذكركم ‪ ‬أو أّية ألفاظ أخرى ذات صلة بالموضوع وما‬
‫أكثرها ‪ .‬فالتحديد بكونها رحمة هو هتك لمجموعة األلفاظ المشتركة‬
‫في نفس موضوع ( اللفظ المشترك ) وفتح المحدود للمترادفات ‪.‬‬
‫وإذا كان النص القرآني أو أي نص آخر ـ هو الغاية والوسيلة‬
‫في آٍن واحٍد لهذا البحث ـ فإّن عملية التخريب لنفس النص قد بدأت‬
‫منذ أن ابتدأ البحث ‪ .‬فعلى سبيل المثال نالحظ غير َّيًة بين الصالة‬
‫والرحمة في استعمال ( مرَّك ب ) واحد من النص القرآني مثل ‪ :‬‬
‫أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة ‪( / ‬البقرة ‪ .) 157‬وهو دليٌل‬
‫أكيٌد على أن الصالة شيٌء مختلٌف عن الرحمِة ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪15‬‬
‫‪3‬‬
‫وكذلك األمر في معناها أي الصالة ـ من المالئكة ومن الناس ‪.‬‬
‫إذن فالباحث بدأ بتخريب ( النصوص ) كّلها منذ بداية البحث ‪.‬‬
‫‪ .3‬دخل هذا المبحث الى الفقه التشريعي أيضًا ‪ :‬فاختلفوا في‬
‫( مبحث األوامر) حول القصدية في األمر ‪  :‬أقيموا الصالة ‪ ‬مثًال ـ‬
‫هل المقصود تلك العبادة الخاصة التي تتضمن حركات وقراءة معينة‬
‫أم المعنى األعم المرتبط بالصلة ؟‬
‫ومن جراء ذلك كانت النتيجة هي ( عدم وجود ) فقٍه إسالمٍّي‬
‫مصدُر ه الكتاب بشكٍّل فعلٍّي ـ وما يقال من أّن الكتاب هو أحد‬
‫مصادرهم في التشريع فهو مجّر د إدعاٍء ـ ففي أوضح آيات التقسيم‬
‫في اإلرث مثًال ال يمكن الركون الى شيٍء معتمد وحاسٍم لفهم آيات‬
‫التشريع بصورة دقيقة كما حّددتها (السَّنة) ـ والتي ظنوا أن‬
‫( نصوصها ) قطعية الداللة غير قطعية الصدور ـ بعكس الكتاب الذي‬
‫هو قطعٌّي الصدور غير قطعّي الداللة وهذا مجّر د احتيال على‬
‫الموضوع ‪ .‬إذ أن النص النبوي هو نص بكّل ما يتضمنه معنى النص‬
‫من إحكام وقد أكد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أنه‬
‫أوتي جوامع الكلم ـ وإن في كالمه شبه ًا من كالم الله ‪ ،‬من حيث أفاد‬
‫نص آخر لإلمام علي ( ‪ ) ‬أن كالمهم ( يفسر بعضه بعضًا ) ـ وهذا‬
‫يعني وجود نظام لفظي في كالمهم كما هو الحال في القرآن مع‬
‫اختالف جوهري ذكرناه سابق ًا ‪.‬‬
‫وكان من المفترض أن يؤّدي ذلك الى ( بحث لغوي ) قائم على‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪16‬‬
‫‪3‬‬
‫أسٍس علميٍة ومنطقيٍة ‪ ،‬لكن ذلك لم يحدث ـ واعترف شّر اح نهج‬
‫البالغة ـ مثلما اعترف مفسروا القرآن بعجزهم عن الفصل في‬
‫المشترك المعنوي أو اللفظي من قبيل قول اإلمام علي ( ‪ ) ‬في‬
‫خلق الكون ‪:‬‬
‫( أنشأ الخلق إنشاء ًا وابتدأه ابتداء ًا ‪ ..‬الخ )‬
‫قال أحد الشّر اح ميثم بن علي البحراني ‪ /‬شرح النهج ‪ /‬ج ‪/ 1‬‬

‫‪ ( : 132‬لم أجد ألهل اللغة فرقًا بين اإلنشاء واإلبتداء ) ‪ .‬واعتبر‬

‫الشارح غياب التفريق (مشكلة ) ـ بخاصة إذا أردنا صون كالمه ( ‪‬‬
‫) عن التكرار !! وهذه نتيجة ال مفّر منها ومحتومٌة العتباطية اللغة‬
‫واإليمان بالمترادفات ‪.‬‬
‫ولو أردنا استعمال معاني األصوات وقصدية اللغة في كتاب‬
‫( اللغة الموّح دة ) وإخضاع هذه الفقرة فقط لها ـ فسنكون بإزاِء‬
‫نظريٍة متكاملٍة عن خلق العالم ال عالقة لها بكّل ما ذكرته‬
‫الميتافيزيقيا من أطروحاٍت ـ مع التأكيد على ترتيب ونسق األلفاظ‬
‫في هذه الجملة ‪.‬‬
‫وقد أدى ذلك الى حالة ( ملٍل وسأٍم ) واضٍح لتفسير التراكيب‬
‫القرآنية والنصَّية األخرى والتي ( ظهرت لهم ) على صورة مكررات‬
‫وكانت واضحًة وصريحًة جد ًا في التفاسير التي أحالت تفسير بعضها‬
‫على بعٍض سابٍق رغم االختالف في النسق ـ والذي زعموا أنه يغِّير‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪17‬‬
‫‪3‬‬
‫المعنى الك ّلي للجملة ومع ذلك فلم يلتزموا بما ألزموا أنفسهم به من‬
‫دراسة األنساق ‪.‬‬
‫وحاول أحد شراح النهج في العصر الحديث تجاوز هذا السأم‬
‫الذي وقع فيه جميع شراح النهج قبله وهم علماء سنة ومعتزلة‬
‫وشيعة مختلفون ‪ ،‬ولكنه اعترف في النهاية وبخاصة في ما يتعلق‬
‫بوصف الدنيا واآلخرة قائًال ( حتى مللت ) أو عبارة أشبه بذلك ‪.‬‬
‫علم ًا أن ( انساق ) هذه المكررات مختلفة اختالفًا شديد ًا ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فإّن ( المباحث ) الخاصة باأللفاظ لم تؤدي الى أّية‬
‫نتائٍج علميٍة لها قيمة تذكر على الصعيد العملي في أّي نشاط فكري ‪.‬‬
‫‪ .4‬إذا أخذنا مثال السجود – نالحظ عالوة على اآلية اآلنفة –‬
‫السجود آلدم في آية ( ‪ – ) 1‬و سجود الظالل في آية ( ‪ – ) 2‬و‬
‫غير ذلك كما في آية ( ‪ ) 3‬و ( ‪ ) 4‬وتكون الحصيلة أن السجود كلفظ‬
‫يحل محل ألفاظ أخرى على محوراأللفاظ أو ( المعاني ) التي هي‬
‫ألفاظ على الشكل اآلتي ‪:‬‬
‫إذعان‬ ‫انكباب‬
‫سجود‬
‫خشوع‬ ‫احترام‬ ‫حركة‬

‫فاللفظ ( سجود ) ‪ :‬يقفز كّل مرة ليحّل محّل ( لفظ ) آخر ـ ك ّلما‬
‫تغير الفاعل وموضوعه المكتوب أسفل المحور ‪.‬‬
‫فهو من الجمادات إذعان ومن اإلنسان الوضع الخاص المعروف‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪18‬‬
‫‪3‬‬
‫ومن المالئكة خشوع ‪ ..‬الخ ‪.‬‬
‫هذه العملية هي عبارة عن ( تقريب للمعاني ) ويقوم بها أدنى‬
‫الناس معرفة باألشياء واللغة وهي في النهاية ليست سوى ( جعل )‬
‫األلفاظ األخرى تدل على معاني ( ذهنية ) للفظ ( سجود ) ال غير ـ‬
‫ودخولها بصورتها البدائية الساذجة في متون الشروح المتعلقة‬
‫بداللة اللفظ ـ ال يعني شيئا سوى أن علماء اللغة يرغبون في‬
‫تأسيس مبادئ ثابتة لهذه اإلعتباطية والفهم البدائي لأللفاظ والذي‬
‫يّتسم بالالمنطقية والسذاجة ‪.‬‬
‫مثل هذا الرسم وضعته في كتاب اللغة الموّح دة وأمكن التخّلص‬
‫من هذه المشكلة بالكشف عن معاني األصوات ‪ ،‬فالتعاقب ( س ـ ج ـ‬
‫د ) له حركة عامة ويمتلك قيمة أصلية ال تتغير ‪ ،‬وهو ما كان ولن‬
‫يكون بحركة التعاقبات األخرى مثل ( خ ـ ش ـ ع ) أو (ا – ن – ك –‬
‫ب ) … الخ ‪..‬‬
‫وتؤدي الذوات المختلفة هذه الحركة كّل بحسب طبيعتها‬
‫وقدراتها وهذه الحركة مطلقة فال يمكن أداء ( سجود ) بمعناه‬
‫المطلق اال من المجموعة كّلها أي الموجودات بأسرها ـ فهي في‬
‫حالة سجود فعلي مطلق دائم ًا كمجموع ويمكن للذات ـ حال كونها‬
‫مختارة وحرة أن تسجد بالصورة المرضية فليس هناك حدود للحركة‬
‫في التعاقبات اال حدود نفس التعاقب من حيث أن حركته األصلية‬
‫محددة بوجوده وهذا شيء عام ينطبق على كّل تعاقب ذكرت منه‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪19‬‬
‫‪3‬‬
‫مئات األمثلة في كتاب ( اللغة الموّح دة ) ‪.‬‬
‫وبدًال من أن نجعل لكّل ( لفظ ) ألفاظ ًا أخرى للداللة على معناه ـ‬
‫يتوجب بدًال من ذلك دراسة حركة كّل لفظ لمعرفة المزيد من نفس‬
‫الحركة فهذا يؤدي الى معرفة صحيحة للغة واألشياء ويجنبنا العبث‬
‫بالنظام اللغوي ويقضي على مشاكله جميع ًا ‪.‬‬
‫وبالطبع يحتاج هذا األمر الى معرفة أولية بقيمة األصوات ومن‬
‫ثم التعاقبات وقد تـّم ذلك ـ وبموجبه يمكن تمييز النظام اللغوي‬
‫المطلق من الكالم عن غيره من الكالم وقد تـّم اكتشاف أن القرآن هو‬
‫كذلك فكان ( المنهج اللفظي ) مقدمة أّو لية في محاولة الدخول الى‬
‫ذلك النظام ‪.‬‬
‫‪ .5‬إذن يمكن القول أن البحث اللفظي ( الكالسيكي ) المتعلق‬
‫باستعمال اللفظ على الجمع هل يجوز أو ال يجوز هو مبحث ساقط‬
‫عن االعتبار ومثاله قوله ( يصّلون ) هل المقصود مجموع صالة‬
‫هؤالء لكّل ذات منهم وكّل نوع أو غير ذلك ؟ فقول المجِّو زين مثًال ‪:‬‬
‫أن ضمير الجمع في الفعل ( يصّلون ) بمنزلة الضمائر المتعددة‬
‫المقتضية ألفعال متعّددة – هو محاولة لتبرير المرادفات على‬
‫المحور وهو شيء ال يمكن لهم تحقيقه ‪ .‬أما الذين منعوا من ذلك‬
‫فليس هو بسبب ( قصدية اللغة ) – وإنما هو محاولة للجمع بين‬
‫االعتباط و القصدية في آٍن واحٍد – وهو عين ما يفعله دي سوسير‬
‫في علم اللغة العام ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪20‬‬
‫‪3‬‬
‫قال ميثم ‪ ( :‬وإن أريد أنه يجوز استعمال اللفظ على الجميع‬
‫كيفما اتفق فهو يصُّح مع داللتها على األفراد فرد ًا فرد ًا تضمنًا ) ‪.‬‬
‫وهذا التضمن القصدي هو نفس ما سّم اه سوسير ( اإلشارة‬
‫المحفزة ) داخل التركيب والموجودة ( ضمنًا ) في النظام الالقصدي‬
‫أواالعتباطي ومعلوم أن هذا هو الهراء بعينه ‪.‬‬
‫وبالنسبة للتنظير اللغوي في الشرق اإلسالمي فهو مخالف‬
‫لألسس المنطقية في خصائص الجزء والكّل ‪ .‬فالكّل هنا اعتباطي‬
‫كيفما اتفق والجزء قصدي وهو مقلوب المبدأ المنطقي مرتين ال مرة‬
‫واحدة‪.‬‬
‫الصورة النهائية للحل القصدي تتوضح بالرسم اآلتي المختلف‬
‫في االتجاه فقط عن الرسم في كتاب اللغة الموحدة ‪ ،‬وهو رسٌم‬
‫لوحدٍة لغويٍة واحدٍة مثل ( َسَج َد ) لمجرد التوضيح ‪:‬‬
‫سجد‬ ‫سجد‬ ‫سجد‬
‫سجد‬
‫جد‬
‫سسج د‬

‫إنسان‬ ‫مالئكة‬ ‫المعنى المطلق( سجد )ظالل‬


‫جماد‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪21‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الرابع‬
‫التخصيص واإلجمال‬

‫وهذا المبحث يخص اللفظ المشترك ‪ .‬ذكروا أن اللفظ إذا كان‬


‫موضوعًا لمعنيين أو اكثر فإن اقترنت به قرينة تخّص ص أحد المعاني‬
‫فهو ذلك المعنى وإن لم تقترن به قرينة من هذا النوع بقي مجمًال ‪.‬‬
‫وهنا اكثر من أشكال ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬أن القرينة هي لفظ أيضًا ومشكلته في العموم ( اإلجمال‬
‫) والتخصيص هي نفس مشكلة اللفظ موضوع البحث !! ‪.‬‬
‫وهذا تغافٌل أو غفلُة عن األساس المنطقي للبحث ‪ .‬وهذا التغافل‬
‫هو من طبيعة اإلعتباطية ولها منه أهداف معينة كما سترى ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن القرينة مع وضوحها الكافي ال تخرج عن المعنى‬
‫الذهني أو االصطالحي وهي بذلك تقوم بمزيد من اإليهام حول اللفظ‬
‫موضوع البحث ‪ .‬وستالحظ في المواضيع الالحقة أن ( اإليهام )‬
‫هدف من أهداف االعتباطية أيضًا وليس أسلوبًا في البحث فقط ‪.‬‬
‫وبسبب هذين اإلشكالين المنطقيين فقد تفّر ع البحث اللفظي هنا‬
‫الى فروع رئيسية أربعة بحيث ُأدخلت المرادفات والمجاز والكناية‬
‫واالستعارة وأدوات النفي وعلم المنطق كّله للتخلص من االلتباسات‬
‫الواقعِة بين القرينِة واللفظ بحيث يمكنك جمَع مجلداٍت من كالمهم في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪22‬‬
‫‪3‬‬
‫هذا المبحث ‪.‬‬
‫وفي النهاية ولكّل فرع ‪ ،‬كان الخذالُن واضح ًا والفشل ظاهر ًا‬
‫حينما تالحظ عبارات من هذا النوع كما في النصوص الختامية آالتية‬
‫‪:‬‬
‫( فإن كان الراجح من تلك المجازات هو مجاز الحقيقة الراجحة ـ‬
‫علم ًا أن الحقيقة الراجحة هنا مجازيه وتخمينية ال غير ـ تعَّين الحمُل‬
‫عليه أو مجاز الحقيقة المرجوحة فيقع التعارض بينه وبين مجاز‬
‫الحقيقة الراجحة الختصاص كّل منهما بنوع ترجيح الى أن يظهر‬
‫مرّج ح آخر)‪.‬‬
‫ونعلق على ذلك بالقول ‪ :‬من أين ومتى سيأتي المرّج ح اآلخر‬
‫وموضوع البحث هو تركيب لغوي ـ جملة مفيدة هي بين أيدينا ؟؟ ‪.‬‬
‫نص آخر ‪:‬‬
‫( وأما إذا تساوت الحقائق فإن اختلفت مجازاتها بالقرب والبعد‬
‫منها حمل اللفظ على المجاز األقرب وإن لم تختلف في القرب والبعد‬
‫بقي التعارض بينهما متساويًا لتساوي حقائقها الى أن يظهر مرّج ح‬
‫‪!! ) ..‬‬
‫وهكذا ينتهي الحّل االعتباطي الى نتيجٍة أخيرٍة بعد البحث‬
‫والعناء مفادها االنتظاُر الى حين ظهور الحّل !! ‪.‬‬
‫ومثُل هذه النتائج متوقعٌة بصورٍة حتميٍة ‪ ،‬يحتمها األساس‬
‫المتناقض لمبدأ الحّل والذي جعل حّل معضلِة تخصيص معنى اللفظ‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪23‬‬
‫‪3‬‬
‫في يد لفٍظ آخٍر ـ كان هو بدوره ينتظر من يخِّص ص له معناه !! ـ ‪.‬‬
‫وهذا خالف مبدأهم المنطقي القائِل ( فاقد الشيء ال يعطيه – أو‬
‫المفتقر للشيء ال يعطيه ) ‪.‬‬
‫ومن الواضح أن الحّل القصدي يلغي الموضوع مباشرة كما‬
‫رأيت فال يبقى موضوع لهذا البحث وينتقل التخصيص و األجمال الى‬
‫الحركِة العامة للتسلسل أو حركات التعاقب ‪ .‬وبالتالي تحتاج األلفاظ‬
‫المجاورُة – فاعلة الحركة مثًال الى كشٍف لحركتها لمعرفة كيفية‬
‫قيامها بهذا الفعل – ففي الحّل القصدي تصبح األلفاظ الداخلِة في‬
‫الجملِة جميع ًا هي موضوع البحث – وعلى خالف الحّل االعتباطي‬
‫الذي يؤدي الى مزيد من التخريب والعبث – يقوم الحّل القصدي‬
‫بتقوية عناصره بعضها ببعض ‪.‬‬
‫الحظ كمثاٍل على ذلك اسلوب الحّل األّو لِّي في بحث الفقرة ‪‬‬
‫وجعلنا فيها رواسي من فوقها ‪ ‬من مجموعة التراكيب في فصٍل‬
‫خاٍص من كتاب ( النظام القرآني ) ‪ .‬علم ًا أن هذا الحّل ليس هو الحّل‬
‫الك ّلّي ألنه لم يتضمن معاني األصوات وإنما هو كشٌف ابتدائٌي‬
‫للحركِة الخاصِة بالتعاقب من خالل ( نٍّص مفروٍغ من صحته )‬
‫وغايتي من األسلوبين ‪ :‬النظام القرآني وقصدية اللغة هو إثبات خطأ‬
‫المباحث اللغوية على جميع المستويات ‪ ،‬وتجنُب الثغرَة الوحيدة في‬
‫الحّل االبتدائي والمتّم ثلِة بالسؤال الشكلي لمن ال يؤمن بوحي القرآن‬
‫وهو ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪24‬‬
‫‪3‬‬
‫( من أين لنا أن نعلم أن النَّص القرآنّي هو نّص الهَّي ؟ )‬
‫فيأتي الحّل القصد ّي ليجيب على هذا التساؤل ألّو ل مرة في‬
‫التاريخ اإلنساني حينما يكشف عن قيمة األصوات وبالتالي داللة‬
‫المفردة وأخير ًا عن النّص المفروغ من صحته صحًة مطلقًة من‬
‫خالل التطبيق ‪.‬‬
‫وهذا الحّل هو الوحيد المنطقي ألن اإلجابة القديمة ( إن القرآن‬
‫وحٌي إلهي بسبب التواتر عن النبي ) هي إجابة مخالفٌة ومناقضٌة‬
‫للنبوِة والرسالة ذلك ألن الرسوَل أثبَت كونه رسوًال من خالل القرآن‬
‫فال يمكن إثبات القرآن من خالل الرسول – وقد كشفت عن هذا‬
‫التناقض في ذلك الكتاب أيضًا ‪ .‬أما اإلجابة األخرى وهي كونه ( بليغ‬
‫) أو فيه أخبار بالمغيبات فهي غير معتمدٍة عند الجميع ألنها عبارٌة‬
‫عن ( دوراٍن ) حول اإلعجاز ‪ ،‬أما اإلعجاز نفسه فلم يكشف قبل‬
‫ظهور الحّل القصدي ‪ ،‬وهذا أمٌر واضٌح جد ًا ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪25‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الخامس‬
‫وقت ظهور داللة المفردة‬
‫احتال دي سوسر إلبراز وقت ظهور داللة المفردة بطريقٍة تـّم‬
‫تفنيدها في كتاب اللغة الموّح دة ‪ ،‬وهي ال تختلف مطلق ًا عن ظهورها‬
‫عند قدامى المسلمين فالمعنى يظهر بعد اإلطالق أي إطالق المفردة‬
‫على الشيء وليس قبله ‪ .‬ومثلما أشكل سوسير على ذلك بأّن عكسه‬
‫يستلزم وجود األسماء قبل المسَّم يات ‪ ،‬فقد صاغ العبارات بصورٍة‬
‫غامضٍة لتّم رير القصدية من خالل الالقصدية ‪ ،‬ألنه وجد إشكاًال في‬
‫ذلك فأقَّر باألمرين مع ًا في موضعين مختلفين ‪.‬‬
‫أما ميثم البحراني ( ت ـ ‪ 679‬هـ ) فكان واضح ًا في تأسيس‬
‫مبدأ اإلعتباطيِة على هذا اإلشكال والذي هو غير منطقي متابع ًا‬
‫الرازي والجرجاني ‪ .‬وإنطباع اإلشارِة في الذهن عند سوسير يسم َّيه‬
‫ميثم ( ارتسام ) ومثل هذا اإلشكال في األسبقية عند أهل المشرق‬
‫يسّم ى في االصطالح ( الدور ) وبقية المفاهيم هي نفسها بل هناك‬
‫تشابه في األلفاظ المستعملِة لكّل منهما بهذا المعنى ‪ .‬وميثم‬
‫البحراني هو أحد شراح اإلعتباطية ‪ ،‬أّم ا المؤسس الفعلي فهو عبد‬
‫القاهرالجرجاني ‪.‬‬
‫ولما كنت قد أوضحت ذلك بالنسبة لسوسير فاكتفي بإيراد نص‬
‫ميثم الذي يقول ‪:‬‬
‫( ليس الغرض األّو ل من وضع األلفاظ المفردة إفادتها لمسمياتها‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪26‬‬
‫‪3‬‬
‫المفردة ) وبذلك يلغي ميثم وجود القصدية األّو لى للتعاقب الصوتي‬
‫من خالل التعبير عن هذه القصدية بـ ( المفردة ) لأللفاظ المفردة ‪.‬‬
‫ثم شرح ذلك موضح ًا إشكال األسبقية فقال‪:‬‬
‫( بيان ذلك يستلزم أن إفادتها لها موقوفٌة على العلم بكونها‬
‫موضوعة لها وهذا يستلزم العلم بها قبل الوضع ) ‪ .‬والضمير في‬
‫( بها ) األخير راجع بالطبع الى األلفاظ ال المسميات ( األشياء )‬
‫والتي يسّم يها سوسر أحيانا ( األفكار ) ‪ .‬ومعنى العبارة أن الواضع‬
‫لو كان يضع اللفظ خصيصًا للمعنى أو الفكرة لكان ذلك يعني أنه‬
‫يدرك معنى محدد ًا لكّل لفظ فهذه هي قصد َّية اللفظ ـ وهي شيء‬
‫رفضوه رفضًا قاطع ًا ‪ .‬وهنا قال ميثم ‪ ( :‬فلو توقفت إفادتها ـ أي‬
‫تلك األفكار ـ على الوضع لزم الدور )‬
‫ولكن ميثم تجاهل أمر ًا آخر ًا هو أن االستمرار باالعتقاد أنه ال‬
‫يوجد زمان تّم فيه الوضع هو اآلخر دور ‪ .‬وهذا األمر اقّر ه سوسير‬
‫واعترف به ولكنه اعترف لغايٍة خاصٍة وهو إدخال ( الالاعتباط )‬
‫داخل االعتباط بطريقٍة ماكرة ‪.‬‬
‫والحقيقُة هي أنه ال يوجد هنا دوٌر إذا افترضنا أن الواضع األّو ل‬
‫يعلم جيد ًا الرموز الحركية والقيمة الفعلية لألصوات ‪ .‬وحينما أطلق‬
‫تعاقبات معينة حتى لو كانت بعدٍد محدوٍد على األشياء فقد أدخل‬
‫اإلشارة الى األذهان ضمنًا وحدث بعد ذلك االشتقاق المتنّو ع وتكّو نت‬
‫اللغات بالطريقة التي أوضح ُتها في كتاب ( اللغة الموّح دة ) والتي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪27‬‬
‫‪3‬‬
‫مرجعها الى المترادفات فتّم تشكيل تكويناٍت لغويٍة مستقلة تدريجيًا‬
‫ألهداف أوضحتها وميول ذكرتها في ذلك الكتاب ‪ ،‬ولها جميع ًا بقايا‬
‫ظاهرٌة وواضحٌة في كّل أّم ٍة حيث ُتستعمُل ألفاٌظ عدٌة في نفس اللغة‬
‫الواحدِة لمعنًى واحٍد حسب المناطق ‪ ،‬فلم يستفْد سوسير من هذه‬
‫الظاهرِة لفهم طريقة نشوء اللغات وتجاهل هذا النشوء تماما ‪ .‬وإنما‬
‫استعمل الظاهرة كدليل على اإلعتباطيِة ‪ .‬وقد أوضحت أن هذا هو‬
‫تغافٌل شديٌد ـ ألن اإلشكال األّو ل واألخير هو صياغة داللة اللفظ عن‬
‫طريق ألفاٍظ أخرى تحتاج هي بدورها الى إيضاٍح لداللتها المتعّددة ‪.‬‬
‫وقد أعلن ميثم أن الداللة تظهر متأخرة بعد اإلطالق وهو ما‬
‫زعمه سوسير فيما بعد ‪ .‬قال ميثم ‪:‬‬
‫( بل الغرض األّو ل منها ـ أي األلفاظ ـ تمكن اإلنسان من تفّه م ما‬
‫يتركب من تلك المسميات بواسطة تركيب تلك األلفاظ المفردة) ‪.‬‬
‫وفي هذا النص إشكال منطقي تخّلص منه سوسير بتجاهله‬
‫وباستعمال أساليب ملتوية وهو ‪ :‬إن اإلنسان ال يمكنه التفهم مما‬
‫يتركب من المسميات ما لم يدرك سلف ًا لما هي موضوعة له من‬
‫المعاني المفردة ‪.‬‬
‫أما ميثم ـ فقد ترك هذا االعتراض الجوهري ليصوغه بطريقٍة‬
‫تخص المركبات الك ّلية ـ ليتجاوز مشكلة العالقة بين الدال والمدلول‬
‫فاعترض على نفسه قائًال ‪:‬‬
‫( ال يقال ‪ :‬ما ذكرتموه قائٌم بعينه في المركبات إذ المركب ال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪28‬‬
‫‪3‬‬
‫يفيد مدلوله إال عند العلم بكون األلفاظ موضوعه لتلك المعاني ) ‪.‬‬
‫( ال نسّلم بذلك ـ فمتى علمنا وضع كّل واحد من تلك األلفاظ المفردة‬
‫لكّل واحد من تلك المعاني المفردة فإذا توالت األلفاظ المفردة‬
‫بحركاتها المخصوصة على السمع ارتسمت المعاني المفردة في‬
‫الذهن مستلزمة للعلم بنسبة بعضها الى بعض ) ‪.‬‬
‫إذن فالقيمة األصلية للمفردة غير موجودة وإنما تظهر من خالل‬
‫نسبة األلفاظ بعضها الى بعض أي خالل الجملة ‪.‬‬
‫واإلشكال األخير على هذا النص هو إذا كان األمر كذلك فال يوجد‬
‫شيء اسمه ( الهذيان ) وهو القسم الرابع من أقسام اللفظ والذي‬
‫مركباته ال تعني شيئًا ‪ ،‬إذ أن النسبية يفترض أن تعمل دائم ًا فتعطي‬
‫األلفاظ مدلوالت كيفما اتفق الكالم وهو أمٌر ال يقُّر ُه علماُء اللغة‬
‫جميع ًا ـ ولكنه استنتاج حتمي ـ وسوف نالحظه واضح ًا في بالغة‬
‫الجرجاني حيث أصبح الهذيان ـ عمليًا عنده من احسن البالغات !! ‪.‬‬
‫وفي الحّل القصدي يتـّم نسف هذا المبحث من جذوره إذ يتناقض‬
‫المفهوم البسيط والبدائي عن المترادفات وهو وجود حدود معينة‬
‫لأللفاظ المترادفة حتى وفق النظرة اإلعتباطية العامة فال يمكن أن‬
‫يقفز لفظ ( بحر ) ليكون أحيانا بمعنى ( تفاح ) ‪ .‬وهذه الحدود وفق‬
‫نفس المبدأ االعتباطي تقوم بإلغاء أصول هذا المبحث ( أي أن هذه‬
‫الحدود المعترف بها حتم ًا في اإلعتباطية تستلزم وجود قصدية أولى‬
‫) ‪ .‬فكيف إذا تسّنى لنا معرفة القيمة الفعلية لألصوات وبالتالي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪29‬‬
‫‪3‬‬
‫القيمة الحركية لكّل لفظ على حدة ؟‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪30‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث السادس‬
‫المجــاز والحقيقــة‬
‫عّر فوا المجاز والحقيقة بعّدة تعاريٍف ولكنها تؤدي الى نتيجٍة‬
‫واحدٍة ‪ .‬واألكثرية على أن المجاز هو ‪ ( :‬إذا عدل باللفظ عن وضعه‬
‫اللغوي ُو ِص َف بأّنُه مجاٌز ِم ن جازه إذا تعّداه بمعنى أن الذهن إذا‬
‫انتقل باللفظ الى معنًى غيِر معناه الذي وضع له فهو مجاز ) ‪ .‬أّم ا‬
‫الحقيقة فقالوا ‪ ( :‬كّل كلمة ُأفيد بها ما وضعت له في أصل االصطالح‬
‫الذي وقع التخاطب به ) ‪.‬‬
‫واضٌح أّن ميثم ـ وهذه هي عبارته ـ حذٌر جد ًا في تعريف الحقيقة‬
‫‪ ،‬ألنه أدرك أن تعريف المجاز مناقض لفكرة االعتباطية حينما حّدد‬
‫أن لكّل لفظ معنى ُو ضع له وإذن فال اعتباطية ‪ .‬وأراد التخلص من‬
‫ذلك عند تعريف الحقيقة فجعلها تظهر خالل التخاطب تخلصًا من‬
‫اإلقرار بوجود قيمٍة مستقلٍة لكّل لفظ ‪ .‬وهذا هو عين ما حاول‬
‫اللغويون في الغرب إبرازه من بعده بل هو جوهر ما قامت وتقوم به‬
‫البنيوية الحديثة والتفكيكية األخيرة ‪ .‬ولكن هنا مشكلة أخرى هي أن‬
‫تغّير الداللة خالل التراكيب المختلفة كانت هي الظاهرة التي أثبتوا‬
‫من خاللها مبدأ ظهور الداللة بعد االستعمال – وهي بالتالي داللة‬
‫متغيرة حسب التراكيب – وهو أيضًا مبحث اقّر وه ( تعدد المعاني‬
‫للمفردة ) – فكيف يمكن بعد ذلك معرفة أٍّي من تلكم الدالالت هو‬
‫المقصود في عبارته ( أصل االصطالح الذي وقع به التخاطب ) ؟ ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪31‬‬
‫‪3‬‬
‫إذن فالتعريف يناقُض المبادئ الموضوعِة قبل المباشرة بالتطبيق‬
‫الفعلي ‪.‬‬
‫وقد رضي علماء اللغة بهذه الحال – ألّنهم ظنوا أن ما أكثر‬
‫الناُس من استعماله كمعنًى للفظ هو ذلك االصطالح األصلي وهو‬
‫خطأ شنيع ‪.‬‬
‫وأقول أيضًا ‪ :‬إن ميثم قد احتاط بصورٍة مشددٍة في انتقاء‬
‫العبارات وهو يدرك جيد ًا أن المؤسسين لهذه األفكار أعني‬
‫الجرجاني والرازي وغيرهم قد ظهرت لديهم التناقضاُت بصورٍة‬
‫مكشوفٍة وميثم هو أكثرهم رغبًة في إحكام القضية وإن كان اقَّلهم‬
‫شهرًة في المشرق والمغرب ‪.‬‬
‫ومعلوم أن التأكيد على أن األصل هو اصطالح واالعتراف بهذا‬
‫( الحقيقة ) بما هي حقيقة‬ ‫األمر يناقض من جهٍة أخرى تعريف‬
‫في علم الكالم العام ‪ .‬ألن االستعمال االصطالحي عرضة للتغّير زيادة‬
‫على كونه متعّدد بنفسه – ال ُيعلم ما هو ( حقيقة ) على التعريف وما‬
‫هو ( مجاز ) وإذن فنحن بازاء حقيقة متغيرة دوم ًا – وهو األمر‬
‫الذي اقّر ه دي سوسير في علم اللغة وأجاب على تناقضاته بطريقٍة‬
‫تثير العجب حيث زعم أن التغير نفسه اعتباطي ولكن نظام اللغة‬
‫يعيد توازنه ك ّلما حدث التغير وقد سألنا عند ذلك ‪ :‬ما فائدة علم اللغة‬
‫إذا كانت اللغة تقوم تلقائيًا بتعديل الوضع وإعادة التوازن ؟ ‪ .‬كما‬
‫سألنا أسئلة عدة عن ( العالقة بين التغير االعتباطي والتوازن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪32‬‬
‫‪3‬‬
‫االنتظامي ) بما يؤد ّي الغرض الهاّم وهو أن هذه األفكار ال تمت الى‬
‫العلم بصلة تذكر ‪.‬‬
‫وفي الحّل القصدي ال توجد مشكلة من هذا النوع ألنه‬
‫ببساطة ال يوجد مجاز وحقيقة – مثلما ال يوجد تعّدد لمدلول اللفظ‬
‫ومثلما ال يوجد خلط فاضٌخ بين مدلول كّل لفظ والدوال األخرى من‬
‫األلفاظ ‪.‬‬
‫المبحث السابع‬
‫أقســـام المجــــاز‬
‫القسم األّو ل من المجاز ‪ :‬وقوعه في اللفظ المفرد ‪.‬‬
‫مثل لفظ األسد إذا أطلق على الشجاع ‪ .‬ولفظ الحمار على‬
‫البليد ‪.1‬‬
‫وفي هذا مشاكل أخرى غير ما ذكر سابق ًا ـ فالمشاكل السابقة‬
‫الزالت قائمة أما المشكلة الجديدة فهي أن التراكيب المذكورة هي‬
‫( مقوالت ) مستعملة قد تصّح وقد ال تصّح ـ فاالستعمال حتى لو كان‬
‫كثير ًا فال عالقة له بصحة االستعمال وخطأه على نفس الفهم‬
‫االعتباطي ـ إذ المفروض أن الغاية هي معرفة ما يصّح وما ال يصّح‬
‫من الكالم ـ واألبحاث تبدأ بدالالت األلفاظ أوًال وخالل ما هي تبحث‬
‫عن الداللة تستعمل النص العام والعادي جد ًا في حين أن اقّل ما‬
‫ُيفترض أن تفعله هو أخذ نصوٍص مختارٍة ممن يُـقّدر ولو إجماال أنه‬

‫‪1‬‬ ‫انظر البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن للزملكاني‪ /‬المجاز والمثل نفسه ُيكّر ُر في المباحث اإلعتباطية في جميع أو اكثر المؤلفات ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪33‬‬
‫‪5‬‬
‫يتحدث بلغٍة صحيحٍة ‪ .‬فيمكن للمرء أن يقول أن االسم االصطالحي‬
‫نفسه متغّيٌر وإنه كان يوما ما غير األسد مثل الليث أو الضيغم أو‬
‫غير ذلك ‪ ،‬مثلما يمكن القول أن هذا اإلطالق نفسه ( األسد على‬
‫الشجاع ) ال يصّح ‪ .‬كذلك يمكن القول أن إطالق الحمار على البليد ال‬
‫يصّح ‪ .‬ومن جهة أخرى فإن المدلوالت لم يتم استعراضها لمعرفة ما‬
‫هو األصل في االصطالح وتجد نفسك فور ًا أمام مدلوالت فرغوا من‬
‫تصّو ر معانيها األصلية ‍‍! ‪ .‬وهذه العملية بمجموعها ال تمت الى العلم‬
‫بصلٍة ‪.‬‬
‫ففي النص القرآني نالحظ أنه تجنب إطالق لفظ الحمار على‬
‫اإلنسان البليد ‪ .‬لماذا ؟ ألنه إذا كان المجاز هو تجاوز ( الحقيقة )‬
‫والحقيقة هي الصحيح فالمجاز إذن خطأ ‪ .‬وهي مسالٌة هامٌة في‬
‫المنطق أهملوها رغم كثرة ما تفاخروا بدقة منطقهم‪.‬‬
‫وعلم اللغة ُيفترض أن يبحَث عما هو صحيح ويمّيزه عما هو‬
‫خطأ في االستعمال فالتعريف إذن للمجاز والحقيقة يحمل ضمنًا‬
‫إقرار ًا بجواز االستعمال الخاطئ‪ ،‬والتشابه بين المقوالت ال يحل‬
‫اإلشكال‪.‬‬
‫استعمل القرآن معادلًة مختلفًة لهذا اإلطالق ‪ ،‬وذلك بالقيام بأربع‬
‫عمليات لتبرير إطالق لفظ الحمار على اإلنسان إذا اعتبرنا أن ما‬
‫فعله نوعًا من اإلطالق مع أنه ليس كذلك كما سترى ‪ .‬وذلك في اآلية‬
‫الكريمة ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪34‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ ‬مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل‬
‫أسفارا ‪ ‬آية ‪ / 5‬الجمعة ‪.‬‬
‫وهذه العمليات هي ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬أنه قام بتسمية فعٍل كائٍن وهو فعٌل محّدٌد من أفعال‬
‫اإلنسان كما قام‬
‫بتسمية فعٍل من أفعال الحمار هو حم ُله األسفاِر ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬أنه جعل لهذا الفعل مثًال ‪ ‬مثل الذين ُح ِم لوا التوراة ثم‬
‫لم يحملوها ‪. ‬‬
‫الثالثة ‪ :‬أنه جعل لفعل الحمار مثًال ‪ ..  .‬كمثل الحمار يحمل‬
‫أسفارا ‪. ‬‬
‫الرابعة ‪ :‬أنه عقد التشابه بين مثلي الفعلين ال بين الفعلين وال‬
‫بين الكائنين ‪.‬‬
‫[ مثل ] الذين [ حِّم لوا ] التوراة [ ك ] [ مثل ] الحمار[ يحمل ]‬
‫أسفار ًا‬
‫وكّل ما فعله هو عقد التشابه وليس اإلطالق المباشر ‪ .‬فابتعد‬
‫بذلك عن إطالق لفظ الحمار على اإلنسان بخمس خطوات كمجموع ‪.‬‬
‫وكذلك فعل حينما أراد عقد الشبه بين فعل إنساٍن معيٍن وفعل‬
‫الكلب ‪ ،‬ولكنه هنا ابتعد ظاهريًا ثالث خطوات بيد أنه أحاط‬
‫الخطوتين ( وهما تّم ثيل فعِل كّل منهما بم َثٍْل ) بالفعل نفسه ولم يذكر‬
‫أنه م َثل للفعل فاكتفى بعقد الشبه بين مثليهما ـ ولكن العدد يبقى‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪35‬‬
‫‪3‬‬
‫نفسه ‪.‬‬
‫إذا الحظنا بداية اآلية حيث أمر الرسول أن يتلو نبأه ( وفعله‬
‫جزء منه ) ثم قام بعقد الشبه بين المثلين ‪:‬‬

‫‪ ‬واتُل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان‬
‫فكان من الغاوين ‪ .‬ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد الى األرض‬
‫واّتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ‪‬‬
‫األعراف ‪. 176‬‬
‫فالشبـه ـ إذا تركنا أّية محاولة للتدخل ـ بعيد بثالثة مراحل ألنه‬
‫تشبيه ال إطالق هذا أوًال ‪ .‬وثانيًا هو تشبيه بين مثلي كّل منهما ـ‬
‫فلكّل واحد منهما مثْل والشبه هو بين المثلين ونحن بالطبع ال نعلم‬
‫المثلين ‪.‬‬
‫وفي آيات أخرى كان السياق يبدأ بقوله ‪ ‬واضرب لهم مثًال ‪ ..‬‬
‫ثم يذكر المثل ويفترض أن يقوم الرسول ( صلى الله عليه وآله‬
‫وسلم ) لو سألوه بأخبارهم بالمثل المجهول لفهم أدق وأصّح‬
‫للتشبيه ولكن يبدو انهم فهموا أن هذا هو المثل واستمر العلماء‬
‫يذكرون أمثال القرآن ـ في حين أن األمثال نفسها ظّلت خافية في كّل‬
‫سياق تّم فيه التشبيه بين الشيء ومثله أو بين المثلين ‪ .‬بينما كان‬
‫التشبيه مباشر ًا في آيات أخرى ‪.‬‬
‫وعلى ذلك يظهر جليًا أن إطالق لفظ على معنى لفظ آخر للداللة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪36‬‬
‫‪3‬‬
‫عليه أو نقله من أصله لمعنى آخر لم يحدث في القرآن مطلق ًا ‪.‬‬
‫وقد عالجنا بعض المجازات والكنايات واالستعارات األخرى في‬
‫كتاب "النظام القرآني" وتّم توضيح ذلك ‪.‬‬
‫إذن فقد استعمل القرآن التشبيهات ولم يستعمل المجازات ‪.‬‬

‫القسم الثاني ‪ :‬هو أن يقع المجاز في المركب فقط ‪.‬‬


‫ومعناه أن كّل لفظ وقع على األصل ولكن الجملة المتكونة غير‬
‫مطابقة للوجود على حّد تعبير ميثم وهو ينقل اختصارات عبد القاهر‬
‫‪.‬‬
‫ومثاله ‪  :‬وأخرجت األرض أثقالها ‪ ‬الزلزلة ‪.2 /‬‬
‫وهنا أيضًا إشكال وتناقض في تعريف المجاز ال يمكن السكوت‬
‫عليه ألنه فاضٌح للغاية ‪ .‬ألننا إذا رجعنا الى مسألة ظهور المعنى –‬
‫نالحظ أنه يظهر بعد وجود اللفظ في التركيب وهو كذلك عند سوسير‬
‫في الغرب ‪ .‬وهذا يعني أن اللفظ األّو ل والثاني والثالث … الخ في‬
‫المركب ال يعلم مدلول كّل منهما إال من خالل االستعمال والمركب‬
‫منهما بالطبع فكيف أصبح مجموع األجزاء والتي كّل منها حقيقي في‬
‫موضعه – أجزاء المركب – كيف اصبح المجموع مجازيًا‬
‫والمفروض أّنك ال تعلم األصل إّال من االستعمال ؟ ‪ .‬قد يجاب على‬
‫ذلك بأّن االستعمال األكثر حّدد سابق ًا معنًى معينًا أطلق عليه األصل ‪.‬‬
‫ولكن المالحظ أن هذا يناقض األسلوب والغاية من إنشاء علم اللغة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪37‬‬
‫‪3‬‬
‫في وقٍت واحٍد ‪ ،‬ثم نسأل من أين جاء األصل ونحن نبحث عنه ؟ ألن‬
‫األسلوب اّدعى أنه يدرس األنساق وهو كذلك عند سوسير فإذا كان‬
‫ثمة تحديد سابق للداللة فإّن دراسة األنساق ال فائدة منها ‪ ،‬إذ ال‬
‫تسمح الداللة السابقة بتغيير المعنى في التراكيب المتجددة وإذا‬
‫كانت تسمح بحدوث المجاز فإّن معايير المجاز ليست متجدّدة وإنما‬
‫محددة والنتيجة واحدة – إذ يبقى األسد يطلق على الشجاع ولن‬
‫يطلق على ( الكريم ) وال على ( األرض ) وال يتجّدد مطلق ًا‪.‬‬
‫أما المثال فإني ال استحي أن أقول أنه يدل على الحمق وقد‬
‫ذكرت سابق ًا أن القول‪ :‬بأّن ( الثمرات التي تخرج من أكمامها )‬
‫مجاز وكل فعل منسوب الى غير فاعله األصلي أو صفة لشيء غير‬
‫فاعل فيها مثل سيف ضارب وزورق غارق هي مجازات – وقد‬
‫ذكروا هذه األمثال نفسها في متون الشروح – ذكرت سابق ًا أننا إذا‬
‫سرنا بهذا الطريق في تحديد المجاز المركب فالنتيجُة الواضحُة أن‬
‫األغلب هو المجاز وليس الحقيقي ‪.‬‬
‫وال يمكن أن نتصور أن أحد ًا ما لن يعبأ بهذه النتيجة قائًال ‪:‬‬
‫فليكن ‪ .‬ألن النتيجة تخالف أصول المبحث في التعاريف – إذ يفهم‬
‫منه أن لكل لفظ أصل اصطالحي وضع له – وال يمكن بالطبع هنا‬
‫القيام بأية محاولة لالحتيال على األمر ‪ ،‬ألنك إذا قلت أن هناك لفظ‬
‫واحد فقط لم يوضع في االصطالح لمعنى ما وقعَت في الف ّخ إذ يسقط‬
‫فور ًا موضوع المجاز برمته ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪38‬‬
‫‪3‬‬
‫أثبتنا في كتاب النظام القرآني بحدود ثالثين استعماًال مختلف ًا‬
‫للـفظ ( ذاق ) وقد أخذ منه العلماء موردين فقط إلثبات أو شرح‬
‫مجازات معّينة في حين أن الموارد الثالثين كلها يبنبغي أن تكون‬
‫مجازات وفق ًا لتلك القاعدة التي حّددت األصل وتساءلُت هناك ‪ :‬أين‬
‫هو االستعمال األصلي ؟ فإذا لم يرد في جميع الموارد القرآنية وهي‬
‫كثيرة فأين هو ؟ ‪.‬‬
‫في حين أن الفكرة العامة هي أن المجاز استعماُل ( جزئي ) هو‬
‫دوم ًا اقل عدد ًا من االستعمال الحقيقي لكل لفظ – وإذا تم وضع ثبت‬
‫بكافة األلفاظ في كتاب مثل القرآن فالنتيجة هي مثل النتيجة في لفظ‬
‫( ذاق ) ‪.‬‬
‫وفي مثال األرض – وجميع الجمادات مشاكل وقعوا فيها ففي‬
‫قوله تعالى ‪:‬‬
‫( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها ولألرض اتيا طوعًا أو‬
‫كره ًا قالتا أتينا طائعين ) ‪ ...‬فصلت ‪11‬‬
‫برهنت على نحو واضح ومن خالل االستعمال القرآني المحكم‬
‫النظام أن ( القول ) هو غير ( الكالم ) وأنه ممكن أن يصدر منهما (‬
‫أي السماء واألرض ) قول حقيقي ‪ ،‬وهذا يدل داللة أكيدة على أن‬
‫األصل االصطالحي هو اآلخر اعتباطي ولكن المؤسف أنه هنا ليس‬
‫اعتباط ًا في االستعمال بل اعتباطي في أذهان علماء اللغة بينما هو‬
‫ليس كذلك عند العوام ‍‍‍‍!! ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪39‬‬
‫‪3‬‬
‫القسم الثالث من المجاز ‪ :‬ما وقع في اللفظ والمركب مع ًا‬
‫( على حد تعبيرهم )‬
‫وفيه بالطبع جميع اإلشكاالت اآلنفة الذكر ‪ .‬ولكنه األسوء فيها‬
‫جميع ًا من حيث اعتبار االستعمال الخاطئ صحيح ًا ومحاولة تأسيس‬
‫قواعد الستيعاب هذا االستعمال الخاطئ ‪.‬‬
‫ومثاله على حد تعبيرهم قولك لمن ُتحّبُه ‪ :‬أحياني اكتحالي‬
‫بطلعتك (من أمثلة عبد القاهر نقلوه جميع ًا في كتبهم ) ‪.‬‬
‫واألخطاء هنا متراكبة ‪.‬‬
‫فمن جهٍة أن االستعمال الحقيقي ليس واضح ًا وإنما هو من‬
‫تصورات الباحث الذهنية – ألنه من الممكن القول أن ( اإلحياء ) هو‬
‫لفٌظ بحركٍة عامٍة وأن عملية إحياء الموتى هي أحد مصاديق هذا‬
‫المعنى فيصّح قول القائل ‪( :‬أحياني ) إذ الحياة هي مراتب متنوعة‬
‫للحيوية وعند ذلك فهذا القول داخل في ( المبالغة ) وليس إخراج ًا‬
‫للفظ عن معناه ‪ .‬ومن جهٍة أخرى يمكن القول عن ( اكتحالي ) نفس‬
‫الشيء مع مالحظة الخطأ الذي وقع فيه القائل إذ يتوجب القول‬
‫( اكتحال عينّي بطلعتك ) حينما يكون االكتحال حركة غير ممكنة‬
‫الصدق على تمام الجسم ومقصورة على العين فقط مثًال ‪.‬‬
‫ومثال الحالة األولى قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬اعلموا أن الله يحي األرض بعد موتها قد بّينا لكم اآليات لع ّلكم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪40‬‬
‫‪3‬‬
‫تعقلون ‪ ‬الحديد ‪.17 /‬‬
‫في مثل هذا النص ال يمكن ألحد القول أنه مجاز – إذ أن إحياء‬
‫األرض ورد في النص القرآني في عدٍد كبيٍر من المّر ات ‪ .‬ونلفت هنا‬
‫أنظار القراء ألى أنه قد تقّدم في هذا النص أمٌر بالعلم ‪  :‬اعلموا ‪، ‬‬
‫وعقب بعده فور ًا ‪  :‬قد بينا لكم اآليات لعلكم تعقلون ‪ . ‬فالعلم‬
‫والتبيين ال يقعان وبينهما استعمال غير حقيقي ‪.‬‬
‫األكيد هو أن االصطالح الذهني الساذج والعام جد ًا غلب في‬
‫أذهانهم على ما ارتكز من مفاهيم ودالالت لأللفاظ – فحسبوا أن ذلك‬
‫يمِّكَنهم من تأسيس علٍم فعلٍّي للغة ‪.‬‬
‫وال حاجة ألن نذكر مرة أخرى بإسهاب موضع هذا البحث في‬
‫الحّل القصدي ‪ ،‬إذ الواضح أن المبحث ال موضوع له في الحّل‬
‫القصدي ألنه موضوع ال أصل له سوى االعتباطية التي قضى عليها‬
‫هذاالحل ‪ .‬إّنما في الحّل القصدي يتحول مفهوم المجاز الى نوٍع من‬
‫المبالغة – حينما يكون اللفظ المستعمل واقع ًا ضمن الحركة األصلية‬
‫أو يكون استعماًال خاطئًا حينما ال يقع فيها ‪ .‬فمثًال لفظ ( البحر ) –‬
‫ففي الحّل القصدي يتم السؤال عن سبب تسمية ( البحر ) المعروف‬
‫( الحرب ) الذي يتألف من نفس‬ ‫بهذا اللفظ بالذات وليس بلفظ‬
‫الحروف ‪ .‬واالعتباطية تبالغ في الكذب حينما تدعي أن الواضع‬
‫( نّس ق ) الحروف هكذا لكل منهما اعتباط ًا ‪.‬‬
‫إذ في الحّل القصدي يتم كشف الحركة العامة ضمن الحركة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪41‬‬
‫‪3‬‬
‫الخاصة بالتعاقب ( حرب ) ‪ .‬وفي هذه الحالة نفهم أن التعاقب ( بحر‬
‫) ليس مقصور ًا على البحر الذي نعلمه بل يشمل كّل من يتميز بهذه‬
‫وكل ما يتميز بها أيضًا ‪.‬‬
‫إن هذا التكوين المستقل القائم بنفسه والذي هو مصدر الماء‬
‫ومصدره الحياة بعد ذلك والزاخر بالتكوينات الجزئية األخرى –‬
‫أعني البحر المعروف – يمكن أن نطلقه على الشخص إذا تم ّيز بهذه‬
‫الخصال ‪ ،‬ومعلوم أن مثل هذا الشخص كائن ر ّباني وهو مصدر‬
‫للحياة والمعرفة مثل النبي ( صلى الله عليه وآله و سلم ) أو‬
‫المسيح (ع ) ‪ .‬وال يمكن أن يكون ( ممدوح ًا ألحد الشعراء ) مثًال ‪.‬‬
‫فالقائل مادح ًا ‪ ( :‬أنت بحر ند ي ‪ ) ..‬ألحد الخلفاء ‪ ،‬إنما قوله هذا هو‬
‫نوع من المبالغة وليس هو إخراجا للفظ عن معناه ‪ ،‬بل هو قوٌل ال‬
‫ينطبق في الخارج فقط ‪ .‬وهذه المبالغة هي بطبيعة الحال ( كذب )‬
‫وافتراء لمخالفتها الحقيقة ( والمقصود مخالفتها الحقيقة الواقعية‬
‫للممدوح ال الحقيقة اللغوية ) ‪ .‬وحينما يقول اإلمام علي ( ع ) في‬
‫الدعاء ‪  :‬وقفت على ساحل بحر جودك وكرمك ‪ ‬فانه ال يستعمل‬
‫هنا أي نوع من المجاز المذكور ‪ ،‬وإنما هو استعمال حقيقي ألن‬
‫البحر المعهود لنا إنما سمي بذلك لوقوعه في الحركة العامة لتعاقب‬
‫البحر ‪ .‬ومعلوم أن ( جود الله ) له وجود حقيقي وهو يشتمل على‬
‫استقالل وتكوينات جزئية وهو مصدر للحياة بل هو مصدر ( البحر )‬
‫المعهود نفسه ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪42‬‬
‫‪3‬‬
‫وبهذا نالحظ أن الحّل القصدي يتعمق في مفهوم اللفظ نفسه‬
‫بخالف الحّل االعتباطي الذي يقوم بالعمل العبثي المستمر في نقل‬
‫معنى اللفظ الى معنى لفظ آخر ‪.‬‬
‫ومن هنا تالحظ مثًال ‪ :‬أننا وجدنا أن لفظ ( بحر ) في القرآن‬
‫يستعمل للكون الفسيح الذي يتضمن تكوينات أخرى وأفالك ونظم‬
‫متحركة وأمكن بذلك وضع حلوٍل شاملٍة آلياٍت كثيرٍة كانت بالنسبة‬
‫لهم تشكل معضلة ال حل لها – حيث عبر عن ( الفضاء ) كما نسميه‬
‫بلفظ البحر ‪.‬‬
‫كذلك نالحظ أن األشخاص المعتدين بأنفسهم والعارفين بأسرار‬
‫اللغة لم يستعملوا أّية عبارة أو لفظ بداللة لفظ آخر واقصد بهم النبي‬
‫( صلى الله عليه وآله و سلم ) أو من يعلم عنه معاني وحركات‬
‫األصوات ‪ .‬ففي مقام التحدي يمكنني أن أّدعي أن أحد ًا ال يمكنه أن‬
‫يأتي بمثال واحد صحيح الستعماال ٍت فيها مبالغة أو كذب فضًال عن‬
‫المجاز وردت عن أحد هؤالء الرجال العارفين ‪ .‬على أن ( داللة )‬
‫اللفظ شيء وانطباقه على موضوعه الخارجي شيء آخر – وفي هذا‬
‫الموضوع بالذات تتخبط االعتباطية كما سيأتيك في أمثلة أخرى ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪43‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الثامن‬
‫أصنــــاف المجـــــاز‬
‫حِّددت أصناف المجاز بصورٍة نهائية على يد فخر الدين الرازي‬
‫( الملقب عندهم باإلمام ) باثني عشر صنف ًا ‪ .‬ويمكننا أن نالحظ أن‬
‫اإلشكاالت السابقة تجتمع أو تفترق في جميع هذه األصناف ‪.‬‬
‫وبالطبع توجد خصائص ذاتية أخرى في األمثلة ألن لكّل تعاقب‬
‫حركته الخاصة به كما أسلفت وبالتالي فلكّل مثال حٌّل مختلٌف في‬
‫النظام القصدي ‪ .‬ولذلك فاألمثلة المضروبة ال تستوعب جميع‬
‫االحتماالت المتوقع أن تدخل فيها ‪ .‬ولكن يكفي تفنيد األمثلة ومن ثّم‬
‫حّل إشكاالتها كشواهد على طريقة وأسلوب الحّل القصدي في‬
‫معالجتها ‪ .‬فلنمض قدم ًا في هذا العمل ‪.‬‬

‫الصنف األّول ‪ :‬إطالق السبب على المسبب ‪.‬‬


‫وهذا الصنف يتفّر ع إلى أربعة أنواع ‪:‬‬
‫األّو ل ‪ :‬المجــاز الفاعلي ‪:‬‬
‫مثل إطالق النظر على الرؤية ‪.‬‬
‫قالوا ‪ ( :‬يقال نظرته أي رأيته ) ‪.‬‬
‫ويبدوا أن هذا الخلط في اإلعتباطية هو سبب ظهور المشكلة‬
‫الكالمية التي ظهرت في الفلسفة بين المتك ّلمين والمتعّلقة بـ ( رؤية‬
‫الله ) ‪ .‬فبعضهم اّدعى أن الله ُيرى في اآلخرة وبعضهم اّدعى أنه‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪44‬‬
‫‪3‬‬
‫ُيرى في الدنيا وبعضهم أنكر رؤيتُه في كليهما ‪ .‬وقد استعمل كّل‬
‫منهم النص القرآني لتأييِد قولِه ‪ .‬ولكن يوجد إشكال لغوي في هذا‬
‫المثال ‪:‬‬
‫فقوله ( نظرته ) أي ( رأيته ) هو استعمال خاطئ ألن ( َنظَر )‬
‫فعل ال يعمل اّال بواسطة والسبب في ذلك أن الحركة العامة فيه ذاتية‬
‫وداخلية ‪ ،‬فحينما يكون هدف الحركة خارجيًا تحتاج الى واسطة‬
‫كتابك‬ ‫( نظرت إليه ) أو تقول ( نظرت في‬ ‫فتقول ‪:‬‬
‫لي ) ‪.‬‬
‫ولم يستعمل في القرآن اّال بواسطة ‪:‬‬
‫‪ ‬وجوٌه يومئذ ناظرة الى ربها ناظرة ‪ / ‬القيامة ‪23‬‬
‫‪ ‬أرني انظر إليك ‪ / ‬األعراف ‪134‬‬
‫‪ ‬وتراهم ينظرون إليك وهم ال يبصرون ‪ / ‬األعراف ‪198‬‬
‫‪‬أو لم ينظروا في ملكوت السماوات واألرض ‪ ‬األعراف ‪185 /‬‬
‫‪‬وال يكلمهم الله وال ينظر إليهم ‪ ‬آل عمران ‪77 /‬‬
‫‪ ‬فلينظراالنسان الى طعامه ‪ ‬عبس ‪24 /‬‬
‫إلى آيات أخرى كثيرة ‪.‬‬
‫وحينما يكون هدف الحركة داخليًا ـ وغاية الناظر هي الفحص أو‬
‫التأمل وانتظار النتائج فأنه ال يحتاج الى واسطة ‪.‬‬
‫قال تعالى ‪:‬‬
‫‪‬ما ينظر هؤالء اال صيحة واحدة ‪ ‬ص ‪15 /‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪45‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ ‬فالقه إليهم ثم توَّل عنهم فانظر ماذا يرجعون ‪ / ‬النمل ‪28‬‬
‫‪ ‬ينظرون من طرف خفي ‪ ‬الشورى‪45 /‬‬
‫قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ‪ ‬النمل ‪27 /‬‬ ‫‪‬‬
‫‪ ‬ولو انهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا ‪ ‬النساء ‪46 /‬‬
‫والرباعي ( أنظَر ) ـ يعمل نفس العمل سوى أن الفاعل يخرج‬
‫( النظر ) منه ويعطيه الى من وقع عليه الفعل ‪ ،‬فهو يعطيه مهلة‬
‫لمدة كافية للنظر مثل ‪:‬‬
‫‪‬انظرني الى يوم يبعثون ‪ ‬األعراف ‪.14 /‬‬
‫نالحظ كذلك أن ( رأى ) ال يحتاج الى واسطة دوم ًا ألن حركته‬
‫خارجية في نفس التعاقب فهو يقع على مفعوله مباشرة ‪ .‬فإذا أردت‬
‫بالنظر المعنى الخارجي فيجب أن تقول ( نظرت الى فالن ) وال تقول‬
‫( نظرت فالنا ) فاألخير معناه أّنك تأملت مجيئه أو رجوعه متمهًال‬
‫عليه ‪.‬‬
‫إذن فاالستعمال ( نظرته ) بمعنى ( رأيته ) الوجود له اّال في‬
‫أذهان علماء اللغة‪.‬‬
‫ويمكنك مالحظة ما يقرب من ( ‪ ) 90‬استعماًال للفعل ( نظر ) في‬
‫القرآن لتعلم أن القاعدة اآلنفة صحيحة ‪ .‬وأهل اللغة االعتباطيون ال‬
‫يمكنهم بعد ذلك أن يأتونا بشاهٍد واحٍد على هذا الصنف ممن‬
‫يعتقدون أنه ينطق بلغة سليمة فالتحدي قائم على اإلتيان بشاهد‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪46‬‬
‫‪3‬‬
‫نبوي أو علوي من النهج أو صحائف الدعاء أو الرسائل أو غيرها ‪،‬‬
‫بل الشواهد كلها بخالف ما ذكروه ‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬المجـــاز الغائي ‪:‬‬


‫( كتسميتهم العنب بالخمر )‬
‫نالحظ في هذا الصنف ضعف الشاهد بصورٍة جليٍة ‪ .‬ذلك ألن هذا‬
‫االستعمال لم يذكر عن أحد قط سوى علماء اللغة ‪ .‬فال أحد يسمي‬
‫العنب خمر ًا لمجّر د أن غاية العنب أن يكون خمر ًا في النهاية ! بل‬
‫تسمى الخمرة أحيانا للولعين بها ( بنت الَك ْر م ) وهذا االستعمال‬
‫شمل عملية التوليد بلفظ ( بنت ) ‪ .‬وتسمى عند الشعراء ( بنت‬
‫العنب ) وهو على مثال األّو ل في الصحة ‪.‬‬
‫وليس في الشعر اّال من مثل ( صهباء أصلها العنُب ) وهو يشير‬
‫الى األصل وال يجعل اللفظ بديال لآلخر ‪ .‬ولم يكتف اآلخر بقوله ( إذا‬
‫ما مُّت فادفني بأصل كَر ْم ٍة ) ألن الكرمة ليست خمر ًا لكنه أِم َل أن‬
‫يتخمر في عروقها فقال ( تروي عظامي بعد موتي عروقها ) ‪.‬‬
‫والسؤال األخير ‪ :‬من هم الذين نسب إليهم التسمية بقوله‬
‫( تسميتهم ) ؟‬

‫الثالث ‪ :‬المجــاز الصوري ‪:‬‬


‫( كتسميتهم القدرة يد )‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪47‬‬
‫‪3‬‬
‫وفي هذا النوع من المجازات يتسائل الحّل القصدي عن اليد‬
‫نفسها لماذا سميت يد ًا ؟ وعند ذلك يكشف لك عن قيمة التعاقب ( يد‬
‫) مجرد ًا عن أي استعمال ‪ .‬فالتعاقب نفسه يحمل صفة حركية تفيد‬
‫في معنى ( القوة ) والسيطرة المباشرة أو التحكم وما شابه ‪،‬‬
‫وحينئٍذ تكون تسمية اليد ( المعلومة ) جزء ًا من الحركة تنطبق‬
‫عليها حركة التعاقب ‪ .‬فبهذه الحركة العامة يمكن القول أن ( لله يد‬
‫) لكنها ليست ذراعا مجسم ًا وللشمس يد أيضًا ولكل قوة فاعلة يد ‪،‬‬
‫وهذه اليد هي القوة المتصلة بين الفاعل والواقع عليه الفعل ‪  .‬يد‬
‫الله فوق أيديهم ‪. ‬‬
‫ال مكان إذن الستشهاد ( المجسمة ) بمثل هذه اآلية وال مكان‬
‫كذلك للراّد عليهم بأّن هذا مجاز بل هو استعمال حقيقي ‪ .‬ويد‬
‫اإلنسان هي استعمال حقيقي أيضًا ‪.‬‬

‫الرابع ‪ :‬المجــاز القابلي ‪:‬‬


‫وهو قولهم ( سال الوادي ) ‪.‬‬
‫وفي هذا االستعمال إشكال خاص به ‪ .‬فالقابلي اسم لهذا النوع‬
‫يقصد به أنه قابل إلطالق اللفظ عليه واستيعاب الحركة مثل الوادي‬
‫فهو قابل للسيالن ‪ .‬ولكن إذا كان كذلك فاالستعمال حقيقي فلماذا‬
‫يدخل في صنف المجاز ؟‬
‫وهذا اإلشكال المنطقي يتعلق بالرابطة بين النوع وتعريف‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪48‬‬
‫‪3‬‬
‫المجاز وهو كما ترى إشكال معقول ‪.‬‬
‫وقد يقال أن سيالن الوادي ال يلغي وجوده فالوادي يبقى لكن من‬
‫قال أنه سمَّي كذلك مجرد ًا بغض النظر عن القابلية للسيالن ؟‬
‫القابلية ذاتية في الوادي وإذن فهي موجودة على نحو ما في لفظ‬
‫الوادي نفسه ‪ .‬والحّل القصدي يجعل الوادي اسم ًا عام ًا ـ والوادي‬
‫المعهود هو أحد مسميات هذا اللفظ ـ وقد ينطوي على نوع من‬
‫المجازفة ـ بمعنى أن الوادي الحقيقي ليس هو الوادي في األذهان‬
‫ولكن الذي في األذهان ( ظرف ) لمعنى هذا اللفظ من ظروفه‬
‫المختلفة ـ ففي الفكر واألخالق يوجد ( وادي ) حقيقي مطابق‬
‫للحركة وهو انحدار الفكر واألخالق بجري سريع من األعالي الى‬
‫الهاوية ‪.‬‬
‫وقد ظهر ذلك في التعبير القرآني ( في كّل واد يهيمون ) ـ إذ‬
‫المعلوم أن الشعراء ليسوا هائمين في الوديان‬
‫( االصطالحية ) ‪.‬‬
‫وللحركة العامة في الحّل القصدي قدرة فائقة في استيعاب‬
‫االستعماالت المتنوعة مع الحفاظ على أصل الحركة وتجنب الخلط‬
‫بين الدالالت ‪.‬‬
‫فإذا كان اللطف اإللهي مثًال في األعلى فإّن المنحدر هو موضع‬
‫لتجمع فيوض هذا اللطف ويمكن تسميته واديًا ولكنه سيل من‬
‫الفيوضات أو العنايات اإللهية ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪49‬‬
‫‪3‬‬
‫ويمكن أن يكون له موضع جغرافي أيضًا في بقعة ما مباركة‬
‫ومثل هذا الوادي ذكر في القرآن أيضًا ‪.‬‬
‫وفي مثٍل قرآنٍّي آخٍر أشار الى سيولة الوادي بل األودية على‬
‫الجميع ‪ .‬وإذا الحظت ذلك بد ّقٍة على طريقة الحّل القصدي علمت أن‬
‫الداللة هنا ال تخص ( الوديان ) المعهودة ‪ ،‬ولكن تلك الوديان هي‬
‫ظرف لها وذلك في قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬وسالت أودية بقدرها ‪‬‬
‫فهذا االستعمال هو اآلخر استعمال حقيقي ‪.‬‬
‫في الحّل القصدي تالحظ بوضوح أن المعاني المختلفة في‬
‫مناهج البحث المختلفة مثل ( األدبية ‪ ،‬الفقهية ‪ ،‬العرفانية ‪ ،‬الباطنية‬
‫‪ ،‬الكشفية والتاريخية ) وغيرها تتجمع في داللة الحّل القصدي ـ‬
‫بخالف التبعثر والضياع في الحّل االعتباطي ‪.‬‬

‫الصنف الثاني ‪ :‬إطالق المسبب على السبب ‪.‬‬


‫مثاله عندهم إطالق اسم الموت على المرض الشديد ‪ .‬وكما‬
‫تالحظ فهنا ضعف شديد في اختيار المثال المناسب ‪.‬‬
‫ألنه إذا كانت االستعماالت في ذلك بسبب ترابط العلل مع‬
‫بعضها البعض فهو بمثابة ( التوقع ) أو ( الحدس ) أو اليأس من‬
‫الحياة ‪ ،‬على أن لفظ ( الموت ) نفسه ال يعني شيئًا سوى ( انقطاع‬
‫الحركة ) وهذا المعيار صحيح قبل الحّل القصدي ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪50‬‬
‫‪3‬‬
‫إذ لو الحظت االستعماالت القرآنية في موت األرض أو كما في‬
‫قوله ‪:‬‬
‫‪ ‬أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نور ًا يمشي به في الناس‬
‫كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زّين للكافرين ما‬
‫كانوا يعملون ‪‬‬
‫األنعام ‪122 /‬‬
‫لوجدت حركة دؤوبة في األّو ل للخروج من الظلمات ‪ ،‬في‬
‫حين تقوم الظلمات نفسها بإعاقة الحركة ‪ ،‬ومن هنا فإّن إطالق لفظ‬
‫الموت ممكن حقيقية في كّل حالة تنقطع فيها الحركة الحيوية‬
‫النشيطة مهما كان نوع الحركة ـ وأهمها حركة الفكر أو حركة‬
‫اإلنسان ‪.‬‬
‫والمرض الشديد المعقد والقاطع للحركة هو بأية صورة ( موت‬
‫) ‪ ،‬فاللفظ ليس مقصور ًا على أهل القبور بالمعنى االصطالحي‬
‫للقبور أيضًا ‪ .‬وعلى ذلك معنى قوله تعالى في اآلية ‪:‬‬
‫‪ ‬وكنتم أمواتا فأحياكم ‪‬‬
‫وغيرها الكثير جد ًا بحيث أن العمل اإلحصائي ينتج كما في لفظ‬
‫( ذاق ) كم ًا اكبر من المجازات وقد يندر أو ينعدم وجود االستعمال‬
‫الحقيقي وفق التعريف االعتباطي ‪ ،‬وعليه فالتعريف خاطئ بنفسه‬
‫ومخالف للنظام اللغوي ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪51‬‬
‫‪3‬‬
‫الصنف الثالث ‪ :‬مجاز إطالق اسم الشيء على ما يشابهه‬
‫‪:‬‬
‫كإطالق لفظ الحمار على البليد وهو االستعارة ‪.‬‬
‫ويمكن مناقشة هذه الفقرات على أساس اللغة المستعملة للحل‬
‫االعتباطي قبل معرفة أي حل آخر ‪ .‬فهو يقول إطالق اسم الشيء‬
‫على ما يشابهه ‪.‬‬
‫فإذا قال المرء ( فالن كالحمار ) ‪.‬‬
‫فهو عندهم تشبيه وقد يعلم السامع بماذا هو كالحمار إذ المفروغ‬
‫منه أنه ال شبه بينهما اال إذا أراد نوعًا من السلوك كقّو ة االحتمال أو‬
‫البالدة ـ فهو كالحمار في تلك الصفة وحسب ‪.‬‬
‫ولكن إذا قال المرء ( هذا الرجل حمار) ـ فهذا االستعمال هو‬
‫المجاز والذي هو من نوع االستعارة ‪.‬‬
‫وهذا تهاون في الحدود المسموح بها للمجاز في نفس األفكار‬
‫االعتباطية ومخالف للجملة المنطقية في مباحثهم حيث ال يكون‬
‫الرجل حمار ًا قط ـ وهو ال يختلف بشيء عن عبارة مثل ( األفعى‬
‫كلبة ) ‪ ( ،‬السفرجل يقطين ) ‪ ... ،‬أو ماشاكله من عبارات ال منطقية‬
‫‪.‬‬
‫علما أنه لم يؤثر عن الفصحاء أمثال ذلك وإنما يؤثر عنهم‬
‫التشبيه ومع ذلك فإّن الحمار سمي كذلك لوقوعه في الداللة العامة‬
‫للتعاقب الصوتي وهذا هو الحّل القصدي لمثل هذه المسألة ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪52‬‬
‫‪3‬‬
‫الصنف الرابع ‪ :‬مجاز تسمية الشيء باسم ضده ‪:‬‬
‫كتسمية الِع قاب بسبب الجريمة بالجزاء المختص بمقابلة‬
‫اإلحسان بمثله ‪ .‬والمناقشة هنا بسيطة للغاية ‪ ،‬فإّن اختصاص‬
‫الجزاء باإلحسان هو من مبتكراتهم اللغوية وجزء من اعتباطيتهم ال‬
‫من اعتباطية النظام اللغوي ‪.‬‬
‫إذ ال يوجد وما وجد عربي خّص ص الجزاء باإلحسان فقط ‪،‬‬
‫والجزاء ليس عقابًا وال ثوابًا وإنما هو نفسه مقابلة الشيء بما هو‬
‫من جنسه ـ ولو كان مخصصًا لما قال العربي ( جزاك الله خير ًا )‬
‫ولكان اكتفى بقوله ( جزاك الله ) ‪ ،‬وال يستطيع العربي قول هذه‬
‫العبارة مطلق ًا ألنه يتحّر ج من انتظار السامع لتكملة العبارة بنوع‬
‫الجزاء إذ يمكن أن يكون خير ًا أو شر ًا ‪.‬‬
‫ومن ناحية االستعمال فقد استعمله نفس أهل اللغة بهذا العموم‬
‫في جواب الشرط إذ سموه ( الجزاء ) ـ ولوال إفادته عموم األفعال‬
‫لما كان يصلح لعموم أجوبة الشرط ‪ :‬إن تفعل كذا فعلت كذا ‪.‬‬
‫والزعم أن النص القرآني هو مصدر مباحث األلفاظ هو أكذوبة ‪.‬‬
‫وقد ألمحت بتحفظ الى أن األمر قد يكون مختلف ًا أو معكوسًا ال في‬
‫المنهجية بل في األهداف أي أن النص القرآني هو الهدف من‬
‫تكريس اإلعتباطية في اللغة ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪53‬‬
‫‪3‬‬
‫وامتلك وثيقة سرية سأعلن عنها يوما ما تدُّل على نحو قاطع‬
‫على هذا األمر ‪.‬‬
‫فهذا هو استعمال النص القرآني ِللفظ الجزاء ‪:‬‬
‫‪6 / 146‬‬ ‫( ذلك جزيناهم ببغيهم )‬
‫‪7 / 152‬‬ ‫( وكذلك نجزي المفترين )‬
‫‪12 / 75‬‬ ‫( وكذلك نجزي الظالمين )‬
‫‪7 / 40‬‬ ‫( وكذلك نجزي المجرمين )‬
‫‪21 / 29‬‬ ‫( فذلك نجزيه جهنم )‬
‫‪41 / 27‬‬ ‫( ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون )‬
‫‪35 / 36‬‬ ‫( كذلك نجزي كّل كفور )‬
‫‪6 / 93‬‬ ‫( اليوم تجزون عذاب الهون )‬
‫‪3 / 87‬‬ ‫( جزاؤهم أن عليهم لعنة الله )‬
‫‪17 / 98‬‬ ‫( ذلك جزاؤهم بأّنهم كفروا )‬
‫‪18 / 106‬‬ ‫( ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا )‬
‫‪4 / 93‬‬ ‫( فجزاؤه جهنم خالدا فيها )‬
‫‪10 / 27‬‬ ‫( جزاُء سيئة بمثلها )‬
‫‪54 / 14‬‬ ‫( جزاًء لمن كفر )‬
‫‪9 / 26‬‬ ‫( وذلك جزاء الكافرين )‬
‫وعشرات أخرى من الموارد التي ذكر فيها لفظ الجزاء مقترنًا‬
‫بالعقاب وليس مختصا بالثواب وحده ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪54‬‬
‫‪3‬‬
‫وكذلك نالحظ المعنى العام للجزاء في القرآن أيضًا ـ فإذا زعموا‬
‫وكثير ًا ما نعتقد انهم يجرءون على الزعم بأّن جميع تلك الموارد هي‬
‫( مجازات ) فإّن موارد العموم ـ بالعقاب والثواب سوية ـ هي من‬
‫النوع الذي ال تتمكن االعتباطية من تفسيره ألنه يتضمن العقاب‬
‫والثواب ‪ .‬ومثل هذه الموارد هي في اآليات ‪:‬‬
‫ـ ( كّل أمة تدعى الى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون )‬
‫‪45 / 28‬‬
‫ـ ( إن الساعة آتية أكاد أخفيها فيها لتجزى كّل نفس بما تسعى )‬
‫‪20 / 15‬‬
‫ـ ( اليوم تجزى كّل نفس بما كسبت )‬
‫‪40 / 17‬‬
‫فهذه الموارد مثال ـ يستحيل تصور مجاز فيها وهي تجمع في‬
‫الجزاء باعتباره لفظ ًا يفيد مقابلة العمل بجنس جزاء من جنسه إن‬
‫خير ًا فخير ًا وان شر ًا فشر ًا ‪ ،‬وهي تجمع العقاب والثواب فال تكون‬
‫مجاز ًا من جهة وحقيقة من جهة أخرى ‪.‬‬
‫وال يتوقف األمر على ذلك ففي خطوة ثالثة نالحظ تخصيصًا‬
‫غريبا في القرآن وكأنه يتنبأ بمحاوالت لتدمير اللغة مستقبًال فيتم في‬
‫إحدى اآليات حصر الجزاء بهذا المعنى حصر ًا ‪ .‬أي كونه مقابلة من‬
‫جنس العمل وذلك في قوله ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪55‬‬
‫‪3‬‬
‫( ومن جاء بالسيئة فال يجزى الذين عملوا السيئات اال ما كانوا‬
‫يعملون ) ‪28 / 84‬‬
‫فقد ترَك التصريح بنوعه وحصره بأداة الحصر ( اّال ) بـ ( العمل‬
‫) وذلك لكون الجزاء عام في العقاب والثواب وليس مختصًا بالعقاب‬
‫‪.‬‬
‫وهناك مناقشات أخرى ‪:‬‬
‫فإّن إظهار المعنى بلفظ عن طريق لفظ مضاد تحتاج الى تفسير ‪،‬‬
‫فهو في هذه الحالة نوع من التورية ـ وفي هذا اللفظ ال توجد تورية‬
‫ما ‪ .‬إذ المهّدد بالعذاب والخزي ال يراعى في استعمال لفظ ما ـ كما‬
‫لو قال أحد أن األمر يحتاج الى إظهار العقاب كما لو كان مثوبة بل‬
‫الواقع خالفه ‪ .‬وفي كتاب ( اللغة الموّح دة ) إذا راجعت التسلسل ( ع‬
‫ـ م ـ ا ) فانك تجد بحثًا لطيف ًا عن لفظي ( العمى ) و ( البصر )‬
‫وكذلك ( الرؤية ) ـ بحيث أن إطالق لفظ ( بصير ) على أعمى النظر‬
‫هو استعمال حقيقي يراد به مراعاة كونه غير أعمى في مجموع‬
‫الصفات إنما هو أعمى العينين ومن المحتمل أن يكون بصير ًا ‪ ،‬ألن‬
‫اإلبصار من أفعال القلب ال من أفعال العين ‪.‬‬
‫وقد تّم التفريق هناك بين األلفاظ الثالثة وعالقاتها بآآلتها ‪:‬‬
‫فالنظر الخارجي للحاسة والبصر للقلب والرؤية للعقل ‪ ،‬وبذلك يسقط‬
‫البحث الكالمي المسمى ( رؤية الله ) سقوط ًا لغويًا ويصبح االستناد‬
‫الى اآليات القرآنية استناد ًا عشوائيًا لخلِّو ه من هذا التفريق ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪56‬‬
‫‪3‬‬
‫الصنف الخامس ‪ :‬مجاز إطالق اسم الجزء على الكل ‪:‬‬
‫مثل إطالق لفظ األسَو د على الزنجي ‪.‬‬
‫وعند مالحظة تعريف المجاز نجد افتراقًا بين التعريف وهذا‬
‫الصنف ‪.‬‬
‫والسؤال األول هو ‪ :‬أليس الزنجي أسود اللون ؟ والجواب ‪ :‬نعم‬
‫‪ .‬فهذه الصفة مشتركة لكافة الزنوج ‪.‬‬
‫والسؤال الثاني ‪ :‬هل السواد في الزنجي حقيقة ؟ والجواب ‪ :‬نعم‬
‫‪.‬‬
‫إذن فاالستعمال من نوع ( الحقيقي ) ال ( المجازي ) ألن‬
‫التعريف ذكر الحقيقي وفي بعض شروحهم لم يذكر ما هو المجازي‬
‫إذ اكتفى بالقول ( ما هو عكس ذلك ) ‪.‬‬
‫األسَو د إذن صفة لم تنقل من معناها الى معنى لفظ آخر ـ بل‬
‫بقيت عاملة وهي مثل أن يقول المرء ( الرازي ) مرة ويقول مرة‬
‫أخرى ( فخر الدين ) ـ فإذا قال القائل ‪ ( :‬األسَو د ) فإنه لم يجعله‬
‫محل الزنجي أو بمعناه حيث يشير الى األصل أو الساللة أو الجنس‬
‫بل استعمل صفة عامة أخرى ‪ ،‬وهذه الصفة هي شيء عام لكل من‬
‫كان له اسم ولقب وكنية وصفة يعرف بها ـ كّل منها حقيقي في‬
‫موضعه ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪57‬‬
‫‪3‬‬
‫إذن فهذا الصنف من المجاز هو مجرد وهم مثل باقي أصنافه ال‬
‫وجود له اّال في التصورات الذهنية المحّددة بنوع من االصطالحات‬
‫الضِّيقة المعنى في أذهان علماء اللغة ‪.‬‬

‫الصنف السادس ‪ :‬مجاز إطالق تسمية الكل على الجزء ‪:‬‬


‫كإطالق لفظ العام على الخاص ‪.‬‬
‫اكتفى بهذا المثال وال أعلم ما هي مقاصده من ذلك إذ ال نجد‬
‫أحد ًا يطلق لفظ العام على الخاص ـ بل التفريق على أشّده في علم‬
‫الكالم أو الفلسفة أو أصول الفقه أو النقد األدبي مع اختالف‬
‫المصطلحات ‪.‬‬
‫علم ًا أن هناك التباس في األمر ألن العام هو الكل والخاص هو‬
‫الجزء ‪ ،‬فإّن كان المقصود ما يحدث في اإلنشاءات المتنوعة مثل‬
‫قولي ‪ ( :‬وهذا بشكل عام هو كذا ) ـ واألمر خاص فنحن بازاء‬
‫نسبية يقرر فيها ما هو خاص وعام الموضوع والمنشأ ـ ألن ما هو‬
‫عام في فرع فقهي مثًال ‪ ،‬هو خاص بالنسبة ألبحاث الفقه ـ عند‬
‫المراقب الخارجي وهذه النسبية ال عالقة لها بموضوع المجاز‬
‫والحقيقة مطلق ًا ‪.‬‬

‫الصنف السابع ‪ :‬مجاز إطالق ما بالفعل على ما بالقوة ‪:‬‬


‫كإطالق لفظ المسِّك ر على الخمر في الِّدن ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪58‬‬
‫‪3‬‬
‫هنا التباس في األلفاظ ـ حَّتمه فقدان ألفاظ مالئمة للمثال لعدم‬
‫وجود موضوع حقيقي له في الخارج ‪.‬‬
‫ألن ( الخمر ) هو مسِّك ر فعًال ولكنه اختاره على أمل أن نفهم‬
‫منه أنه ال زال في طريقه للتخمر فهو خمر بالقوة أيضًا وهذا أقصى‬
‫ما نستطيع به الدفاع عن المثال‪.‬‬
‫واألمثلة بهذا الصدد ال حصر لها فهي في كّل فعل مستمر كبناء‬
‫الدور والزرع وطبخ الطعام وخياطة الثياب وصنع األثاث ‪ ...‬الخ ‪.‬‬
‫فالزارع يقول ‪ ( :‬الحنطة جيدة هذا العام ) ‪ .‬إذ مع أنه في أول‬
‫الموسم فقد أشار الى الزرع أنه بحالة جيدة ‪ ،‬والنجار يسمي الخشب‬
‫المقَّطع المعد لصنع سرير لزيد ‪ ( :‬سرير زيد ) ويقول للصانع هيئ‬
‫سرير زيد مع أنه ليس سرير ًا بالفعل وإنما بالقوة والمالحظ هنا أن‬
‫ذلك اقرب الى البحث الفلسفي منه الى اللغوي ولكن عند الرجوع‬
‫الى تعريف المجاز والحقيقة نالحظ في جميع األمثلة المحتملة أن‬
‫االستعمال هنا حقيقي وال يطابق تعريف المجاز ‪.‬‬
‫فالخشب المقّطع ـ هو حقيقة لصنع سرير واليصلح لصنع دوالب‬
‫والزرع هو زرع الحنطة ال شعير وال باقالء مثًال وكذلك مافي الدن‬
‫هو خمر أو مسكر وليس شيئًا آخر واألصل أن تلك التسميات مميزة‬
‫( زرع الحنطة ) أو‬ ‫فلم تذكر العبارات كامل لوضوح المطلب مثل‬
‫( الخشب المعد لسرير زيد ) ـ فهذا اختصار ال مجاز ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪59‬‬
‫‪3‬‬
‫واليمكن للنجار اختصار العبارة الى ( الخشب المعد ) ألن في‬
‫المحل خشب كثير مّع د الشياء كثيرة ـ فاالختصار الغى مفردة زرع‬
‫والغى عبارة ( الخشب المعد ) واكتفى بمآل وهدف الحركة والفعل ـ‬
‫وبالتالي فهو لم يتجاوز باللفظ من موضعه الى معنى لفظ آخر على‬
‫تعريف المجاز ‪.‬‬
‫ولنا أن نسال الحّل االعتباطي عن اللفظ اآلخر الذي نقل أن اللفظ‬
‫االول في مثال الزرع والخشب المعد ـ فهذه األلفاظ عامة المعنى‬
‫واللفظ اآلخر هو كما تالحظ نفس اللفظ االول حنطة وسرير ‪ ...‬الخ ‪.‬‬
‫فاليجد ولن يجد االعتباط اللفظ المنقول أن معنى االول ‪.‬‬
‫الصنف الثامن ‪ :‬مجاز إطالق المشتق بعد زوال المشتق‬
‫منه ‪:‬‬
‫مثل ضارب على من فرغ من الضـــرب ‪.‬‬
‫في هذا النوع تكفل ميثم البحراني بالغاءه حينما قال ‪ ( :‬وقد‬
‫عرفت أن ذلك هل هو مجاز أم حقيقة ؟ ) ‪.‬‬
‫ويقصد بهذه العبارة ماذكره في المقدمات من أن ذلك هو من‬
‫النوع الحقيقي وخَّر ج المسألة بطريقة ذكية في قوله تعالى ‪:‬‬
‫( باسط ذراعيه بالوصيد ) ‪.‬‬
‫خالصته أن مثل قوله ‪:‬‬
‫( من إله غير الله يرزقكم من السماء واألرض )‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪60‬‬
‫‪3‬‬
‫الفعل المستمر ( يرزقكم ) يشتمل على األزمان كلها أي يرزقكم‬
‫دوم ًا ‪.‬‬
‫ولكن حينما ال يريد المتكلم إبراز الزمن فانه يأتي بصيغة الفاعل‬
‫مثل ‪ ( :‬باسط ذراعيه ) ـ أي أن حاله هو كذلك بغير اشارة الى‬
‫الزمان ‪.‬‬
‫والمناقشه هنا أّو ًال مع واضع هذا الصنف فعلى رأيه أن كّل اسم‬
‫فاعل هو بالنهاية مجاز ألن كّل فاعل قد يفرغ من الفعل مثل كاتب ‪،‬‬
‫عامل ‪ ،‬راحل ‪ ،‬ساكن ‪ ...‬الخ !!‬
‫اليس ذلك أمر ًا غريبًا ؟ لكنه اختاره في ( الضرب ) العتقاده أن‬
‫الضرب فعل ال يكون إال مرة واحدة ! وهو خطأ شنيع ألن الضارب‬
‫صفة مالزمة متلبسة حتى لو كان مرة واحدة لما يستلزم بعدها تبعة‬
‫من نوع ما مثل ( قاتل ) ـ فالحاكم إذ يسأل عن ( القاتل ) و‬
‫( الضارب ) لمحاكمته ـ فانه يسأل لغويًا عن تلّبس الفعل بالفاعل‬
‫ولو مرة واحدة لكنه اتصف بهذه الصفة وكونه موصوف بها ال تنفك‬
‫عنه ‪.‬‬
‫والى أن تتوضح مناقشة الحّل القصدي مع ميثم في تخريجه لـ‬
‫( باسط ) فإّن عدم ظهور الزمان في صيغة الفاعل ليس ألن المتكلم‬
‫اليريد التنويه عن الزمان بل لظهوره التام في نفس الصيغة من‬
‫حيث أن الفاعل متصف بها فال ضرورة لذكر زمان آخر ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪61‬‬
‫‪3‬‬
‫وعند المناقشة على أصل التعريف تالحظ المخالفة مع التعريف ـ‬
‫زيد ضرب عمرو ـ فهو الضارب ‪ :‬هل هذا حقيقة أم اخراج لمعنى‬
‫ضرب الى معنى آخر ؟‬
‫والسؤال اآلخر ماهو اللفظ اآلخر المنقول إليه معنى اللفظ وفق‬
‫تعريف المجاز ؟‬
‫يالحظ الحّل القصدي أن األفعال التي ال تتضمن التكرار على نحو‬
‫ما أو المالزمة الزمنية المستمرة ـ يالحظ فيما إذا كانت كالصنف‬
‫االول تحتاج الى اختصار أم ال ‪ ،‬خالل التركيب ‪:‬‬
‫يقول القاضي ‪ ( :‬أين الرجل الضارب عمر ًا ؟ )‬
‫ويقول ‪ ( :‬أين الرجل الذي كان ضاربا لعمرو ؟ )‬
‫وإضافة كان هنا لتاسيس الفكرة عن الفراغ من العمل ‪.‬‬
‫ال تتضمن هذه الحال اختصار ًا من نوع ما كالحالة السابقة ‪ ،‬ألن‬
‫هذا التركيب مقصود وغايته ابقاء التبعة على الضارب فهي مرافعة‬
‫له فلو قال ( كان ضاربًا ) ‪ ،‬فالعبارة تشير الى التهاون في المسألة‬
‫من حيث االشارة الى انتهاء الفعل ‪.‬‬
‫لكن اللغة ليست جامدة ‪ ،‬وانما تعِّبر عن المعايير الفكرية‬
‫واالخالقية بما تمتلكه من قدرة على التعبير ‪ ،‬فقوله ( اين الرجل‬
‫الضارب ) إنما هو استعمال حقيقي وإن مَّر زمانه ـ أي اتصف بهذه‬
‫الصفة المالزمة وهي تشير ( فلسفيًا الى أن فاعل الشيء مرة ـ له‬
‫القدرة على فعله مرات أخرى وهذه القدرة ال عالقة لها بنوع الفعل‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪62‬‬
‫‪3‬‬
‫فاالمر سواء في الصانع والعامل والكاتب ‪ ...‬الخ مع االختالف في‬
‫حركة التعاقب ‪.‬‬

‫الصنف التاسع ‪ :‬مجاز أطالق اسم الحقيقة العرفية على‬


‫غيرها ‪:‬‬
‫كاطالق لفظ الداّبة للفرس على الحمار وغيره مجاز ًا عرفيًا ‪.‬‬
‫اعتقد أن بطالن هذا الصنف هو من الوضوح بحيث اليحتاج الى‬
‫مناقشة ‪ .‬إذ لم يخصص أحد لفظ ( الدابة ) للفرس ‪ .‬وهذه العرب‬
‫الزالت في جميع المناطق القروية تطلق اسم الدابة على الجاموس‬
‫والبقر والخيل والحمير بغير تخصيص لصنف منها كما هو أصل‬
‫اللفظ في اللغة ‪.‬‬
‫وقد امتألت كتب التراث باستعمال صيغة الجمع ( الدواب )‬
‫لالشارة الى مختلف الكائنات المتحركة حركة انتقالية ‪.‬‬
‫وفي الفقرة التي تعّر ف هذا النوع من المجاز تناقض أيضًا مع‬
‫أصل التعريف إذ التعريف أصًال للمجاز والحقيقة في اللغة ال كون‬
‫اللفظ حقيقه عرفية ( وبخاصة إذا لم يعرف هذه الحقيقة أحد ) ‪.‬‬
‫ولفظة ( الدواب ) في الحّل القصدي تشير إلى كّل متحرك ولو بغير‬
‫انتقال فيشمل النبات ( انظر اللغة الموّح دة ) ـ لفظ ( دب ) ‪.‬‬

‫الصنف العاشر ‪ :‬المجاز بسبب النقصان والزيادة ‪:‬‬


‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪63‬‬
‫‪3‬‬
‫قال فخر الدين ‪:‬‬
‫( وتحقيقه أن الكلمة كما أنها توصف بالمجاز لنقلها عن معناها‬
‫فقد توصف بالمجاز لنقلها عن حكم كان لها الى حكم ليس هي‬
‫بحقيقة منه كقوله تعالى ‪ ( :‬واسئل القرية ) والتقدير واسأل اهل‬
‫القرية )‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫نوقشت القضية من جهٍة ما سابق ًا غير ما نريد مناقشته ‪ ،‬وهي‬
‫كون اإلعراب والحكم النحوي ال عـــالقة له بصدق أو كذب العبارة‬
‫في النسب الداخلة بين األلفاظ وضرب البحراني لذلك مثال قال ‪ :‬لو‬
‫قلت ( لمست السماء ) ـ فالسماء مفعول به ويستحق النصب حقيقة‬
‫وكذلك القرية في المثال ‪.‬‬
‫ثم ناقش النسبة في نفسها فادعى أن المجاز في النسبة‬
‫والتراكيب ‪.‬‬
‫إما نحن فقد فَّندنا هذا المجاز بأدلة واضحة من النظام القرآني‬
‫في الكتاب المتضمن هذا العنوان ومَّر هناك تفصيٌل أظهر جزء من‬
‫دقائق هذا النظام في استعمال ( أهل القرية ) في موارد واستعمال (‬
‫القرية ) في موارد أخرى بغير لفظ ( أهل ) ‪.‬‬
‫وقد علق أحدهم على ذلك الشرح قائال أنه يبرهن على جهل‬
‫وتخبط السلف واعتباطيتهم في تفسير التراكيب القرآنية وعدم‬
‫االنتفاع بها في النحو والبالغة ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪64‬‬
‫‪3‬‬
1
2 65
3
‫المبحث التاسع‬
‫الفرق بين الحقيقــة والمجـــاز‬

‫الغاية من هذا العنوان ليست هي مناقشة الموضوع نفسه فقد تـّم‬


‫فيما مضى من أبحاث التحقّـق من غياب المجاز من أصله في‬
‫التعريف االصلي له مرة ومن خالل نصوص التفرعات واالصناف‬
‫مرة أخرى ـ ومرة ثالثة من خالل عدم انطباق األمثلة المضروبة‬
‫على التعاريف األصلية والفرعية عدا الكشف عن قيمة األصوات ‪.‬‬
‫إن الغاية هي مناقشة فقرة وردت في هذا المبحث وهي قولهم ‪:‬‬
‫( في ما تنفصل به الحقيقة عن المجاز ‪ ،‬أنه أما أن يقع بالتنصيص‬
‫أو االستدالل ‪ .‬إما التنصيص فمن وجوه ‪ :‬أحدها أن يقول الواضع‬
‫‪1‬‬
‫هذا حقيقة وهذا مجاز )‬
‫واليمكن للمرء هنا اّال التوقف ـ ألن األبحاث اللفظية كانت قد‬
‫بدأت دوم ًا ( بداللة ) اللفظ ‪ .‬وقد ظهرت في بحث الداللة مشكلتان لم‬
‫ُتحّال بعد وهما الداللة نفسها ـ الرتباطها بالوضع ـ والوضع ‪.‬‬
‫ومعلوم إننا ال يمكن لنا الوصول الى الواضع لنسأله عن طريقته‬
‫في الوضع ‪ .‬ولكن المثير للدهشة أن الباحث يزعم بعد ذلك أن هناك‬
‫( نص ) على كون اللفظ كذا للمعنى كذا هو حقيقة واآلخر في المعنى‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪66‬‬
‫‪4‬‬
‫كذا هو مجاز وأن هذا النص هو من الواضع !!! بل يدعي أن‬
‫الواضع ( يقول ) هذا حقيقة وهذا مجاز ؟‬
‫ومن ثم ُتركت العبارة هكذا بغير شرٍح إضافي كما لو كان الخلق‬
‫بلهاء والسامعون والقراء قد فقدوا العقل والذكاء !!‪.‬‬
‫ولم يكتف بذلك بل نسب الى الواضع أشياء أخرى فقال ‪:‬‬
‫( أو يذكر واحد ًا منهما وثالثًا أن يذكر خواصهما وأما االستدالل‬
‫‪) ...‬‬
‫وهكذا فهو قد ترك الناس في حيرة من أمرهم إذ ال يعلمون إن‬
‫كان ( اإلمام الباحث ) يلتقي بواضع اللغة سر ًا في مكان ما أو يراه‬
‫في األحالم !!‪.‬‬
‫كّل ما أستطيع قوله هنا ‪ :‬إن هذا هو منتهى التخّبط والتدليس ‪..‬‬
‫ألن البحث عن الداللة قاد الى البحث عن الحقيقة والمجاز والفرق‬
‫بينهما وخالل البحث عن الفرق يفترض الباحث أنه فرغ من معرفة‬
‫الفرق !! وهذه الطريقة الملتوية العالقة لها بالعلم والبحث العلمي ‪.‬‬
‫وإذا أردنا مناقشة الطريقة األخرى لتمييز الحقيقة عن المجاز‬
‫والتي هي ( االستدالل ) كما عبر عنها نالحظ المزيد من التخبط‬
‫والتناقض ‪ .‬فقد قال ‪:‬‬
‫( واما االستدالل فالحقيقة تعرف من وجهين أحدهما أن يسبق‬
‫المعنى من ذلك اللفظ الى فهم بعض السامعين من أهل تلك اللغة‬
‫فيحكم أنه حقيقة في ذلك المعنى ) ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪67‬‬
‫‪3‬‬
‫والمناقشة هنا على شيئين ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬إن هذا العمل ليس استدالًال وال يمت الى االستدالل بعالقة‬
‫ما ـ ألن مايسبق االستدالل هو ( استقراء ) لجميع الموارد ومن‬
‫بينها ( المجاز ) لذلك اللفظ عينه ‪ .‬فإذا افترضنا أن الجماعة‬
‫المذكورة ـ ال تنطق بالمجاز ـ فهناك من يستعمل نفس اللفظ في‬
‫المعنى اآلخر ـ فما هو المرّج ح لصحة استعمال تلك الجماعة دون‬
‫األخرى واعتبار هذا االستعمال حقيقة دون األخرى ؟ ‪ .‬ومعلوم أن‬
‫افتراضنا هذا محال وإنما نقوله جدًال ‪ ،‬إذ أن أهل اللغة أنفسهم‬
‫يستعملون اللفظ في تلك المعاني جميع ًا على قدم المساواة ‪.‬‬
‫وفي الحّل القصدي تتغير المسأله تغير ًا جذريًا ‪.‬‬
‫فالحل القصدي لم يلغ مصطلح ( المجاز ) ولكنه حَّو له بصورة‬
‫جذرية ‪ ،‬إذ أصبح أحد مصاديق الحركة العامة للتعاقب وهو يقترب‬
‫ويبتعد عنها بنسب متفاوتة ‪ ،‬ولكنه اليخرج مطلق ًا عن ذلك التسلسل‬
‫المعَّين لحروف اللفظ واليشارك لفظ ًا آخر في تلك الحركة أبد ًا ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن الذي يسبق من المعاني متغيّـر بين الحقيقة والمجاز‬
‫‪.‬‬
‫وتوضيح هذا األمر كاآلتي ‪:‬‬
‫لقد أثبتوا وكما فعل سوسير بعد ذلك أن المعنى ـ أو الداللة ـ ال‬
‫تظهر اّال بعد التركيب وقد رأيت أقوالهم في األبحاث السابقة ‪ .‬إذن‬
‫فما يسبق الى ( فهم السامعين ) حسب فكرتهم هو الداللة التي تظهر‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪68‬‬
‫‪3‬‬
‫خالل الجملة ‪ .‬فاللفظ نفسه عديم القيمة قبل التركيب ‪ ،‬ومعلوم أن‬
‫السامعين يسبق الى فهمهم المعنيين أو المعاني الكثيرة باطراد كلما‬
‫تغيّـر نسق التركيب ‪ ،‬وسوف تظهر المعاني جميع ًا بالنسبة لهم خالل‬
‫التراكيب ‪ .‬فكيف يتمّك ن السامعون من الحكم على أحدها فقط على‬
‫أنه هو االستعمال الحقيقي دون غيره ؟ ‪.‬‬
‫ومن الواضح أن هذا اإلشكال على الطريقة التي تسمى‬
‫( االستدالل ) هو إشكال حقيقي ال يمكن ألحد تفنيده أو اإلجابة عليه‬
‫بما يطابق إطروحات النظرية اإلعتباطية‪.‬‬
‫أما الطريق اآلخر لالستدالل فقد قال ‪:‬‬
‫( واما ثانيهما فإّن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم اقتصروا‬
‫على عبارات مخصوصة )‬
‫في حين أنهم على رأيه إذا لم يقصدوا االفهام عَّبروا بعبارات‬
‫أخرى ‪ ،‬فنعلم من الفرق أن األول حقيقة ‪.‬‬
‫إما النص فلم يذكر األمر على هذا النحو تخلصًا من مشكلة أن‬
‫يتكلم المرء بكالم ال يقصد منه االفهام فقال ‪:‬‬
‫( وإذا قصدوا بالتعبير الحسن بعد الفهم عبروا عبارات أخرى )‬
‫وهذه واحدة من طرائقهم الملتوية التي الحصر لها ‪.‬‬
‫وفي هذا الطريق االستداللي الغريب نطرح أسئلة ال حّل لها في‬
‫اإلعتباطية ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪69‬‬
‫‪3‬‬
‫السؤال األول ‪ :‬إن البحث هو عن تمييز داللة المفردة بين‬
‫الحقيقة والمجاز فما عالقة العبارات التي تتضمن مفردات عّدة؟‪.‬‬
‫السؤال الثاني ‪ :‬من هم أهل اللغة ؟ وكيف نحّددهم ؟ ‪.‬‬
‫السؤال الثالث ‪ :‬كيف يعبرون أوًال لغرض ( اإلفهام ) ويعبرون‬
‫ثانيًا لمجرد الكالم الحسن ( بعد الفهم ) ؟ ولماذا يكّر رون كالمهم بعد‬
‫الفهم ؟ ومن منهم كان يقوم بذلك وأين ومتى ؟‬
‫السؤال الرابع ‪ :‬كيف يعلم السامع أن العبارات األولى ( لإلفهام )‬
‫( اإلفهام )‬ ‫والتي بعدها هي الكالم الحسن ؟ وهل عبارات‬
‫تختلف في الحسن عن العبارات األخرى ؟ ولماذا ال يكون العكس‬
‫متوقع ًا ؟ ‪.‬‬
‫ويمكنك أن تضع اسئلة غريبة أخرى ولكنها لن تكون أغرب‬
‫من الحّل االعتباطي بأّية صورة ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪70‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث العاشر‬
‫دواعـــــي المجــــــــاز‬
‫حّدد العلماء ـ في التفسير االعتباطي ـ عّدة عوامل اعتبروها‬
‫دواعي لذكر المتكلم المعنى المجازي للـفظ بدًال عن اللفظ الحقيقي ‪.‬‬
‫وال تسلم تلك الدواعي من المناقشة ألنها لم تقم على أسس علمية ‪،‬‬
‫ولم توضع لها جداول الستقراء النصوص بدقّـة لفهم مراد المتكلم ‪،‬‬
‫وإنما ُأعلنت تلك الدواعي استناد ًا للحدس والتخمين والظن ال غير ‪.‬‬
‫واألسباب الداعية لذكر المجاز عندهم هي ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن يكون اللفظ الدال بالحقيقة ثقيًال على اللسان إما لثقل‬
‫المجاز عذبًا‪.‬‬ ‫أجزاءه أو لتنافر تركيبه أو لثقل وزنه ويكون‬
‫وهذا مجّر د ادعاء ال يستند الى أّية معطيات لغوية ‪ .‬ويفترض‬
‫هنا أن يأتوا بمئات إن لم نقل بآالٍف من الشواهد ألجل إيضاح لفظ‬
‫المعنى الحقيقي والذي هو متنافر التركيب أو ثقيل االجزاء ويضعوه‬
‫بدًال عن اللفظ المجازي المزعوم ويبرهنوا على نحو واضح على أن‬
‫اللفظ المعدول عنه هو الحقيقي من خالل استعماالت أخرى مشهود‬
‫لها أنها قيلت بصورة عفوية ـ ال إنشائية ألغراض البحث ـ ‪.‬‬
‫ولكن ذلك لم يحدث ال بهذه الشروط العلمية القاسية للبحث وال‬
‫بغيرها وال بدون شروط ‪ .‬علم ًا أّنك ادركت أن المجاز وفق االصناف‬
‫المذكورة سابق ًا قد طال أغلب االستعماالت اللغوية حسب اعتقادهم ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪71‬‬
‫‪3‬‬
‫الثاني ‪ :‬أن يكون ألجل المعنى إذا قصد التعظيم لما هو ليس‬
‫كذلك أو إذا قصد التحقير وهو كائن في الحقيقة ‪ .‬مثال األول قول‬
‫القائل ‪ ( :‬سالم على المجلس السامي ) ومثال الثاني التعبير عن‬
‫قضاء الحاجة بالغائط ‪.‬‬
‫في هذا الداعي ال تتمّك ن اإلعتباطية من حّل اإلشكال الهام حول‬
‫ظهور ( التحقير ) من خالل المجاز ‪ .‬وهو إشكال منطقي نوّض حه‬
‫كاآلتي ‪:‬‬
‫إذا أراد المتكلم تحقير المجلس من خالل اطالق لفظ ( السامي )‬
‫فكيف يفهم السامع ‪ ،‬أو اللغوي ‪ ،‬أن اللفظ للتحقير وليس للحقيقة‬
‫إذا لم يكن لفظ ( سامي ) بالمعنى الحقيقي ؟ ألننا إذا اعتبرناه مجاز ًا‬
‫وفق التعريف انصرف المعنى ـ معنى هذا اللفظ ـ الى معنى آخر فال‬
‫يظهر التحقير ‪ !!...‬فتأمل في ال منطقية االعتباط اللغوي ‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن االستعمال العالقة له بانطباق أو عدم انطباق‬
‫الداللة على الموضوع الخارجي ألن لديك داللة لهذا اللفظ‬
‫( سامي ) فالداللة لم تتغير وعدم مطابقتها لصفة المجلس هو قصد‬
‫المتكلم من التحقير فلو كانت مطابقة لصفة المجلس لم يكن ثمة‬
‫تحقير ـ بل لكان مدح ًا يمّج د المجلس ! ومثل هذا الذهول في‬
‫اإلعتباطية هو صفة دائمة فيها ‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى فهناك خلل فاضح ‪ :‬فالمجاز على التعريف هو‬
‫ليس اإلتيان بلفظ بدل لفظ ( األول الداخل على الجملة هو المجازي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪72‬‬
‫‪3‬‬
‫والمتروك هو الحقيقي ) وإنما هو العدول عن معنى اللفظ الحقيقي‬
‫الى معنى آخر مجازي ‪ .‬فلو كان التعريف هو تبّدل الفاظ مع بعضها‬
‫لكان يصّح ‪ ،‬إذ نتصور أن المتكلم يريد في األصل أن يقول‬
‫( المجلس الحقير ) فعدل الى لفظ ( السامي ) ‪ ،‬ولكنه لم يغير معنى‬
‫السامي بل أبقاه على معناه وهذا هو منشأ التحقير من حيث أنه‬
‫مخالف للواقع ‪.‬‬
‫فاالستعمال له حقيقتان ‪ :‬داخلية في التركيب وخارجية في‬
‫االنطباق على الموضوع الخارجي ‪ .‬واإلعتباطية من الجرجاني الى‬
‫سوسير ال تفتأ تخلط بينهما خلط ًا فاضح ًا بل ومخزيًا ‪ .‬وهذا الخلط‬
‫يهتك عملية ( التعبير ) وفي النهاية يحّطم النظام اللغوي ‪ .‬وهو‬
‫مخالف ومناقض ألسس اإلعتباطية نفسها ومن بينها أن اللغة رموز‬
‫من اإلشارات ـ فهي إذن مستقلة عن الموضوع ـ ولوال هذا االستقالل‬
‫لما كانت هناك قدرات متفاوتة على ( التعبير ) عن نفس الفكرة‬
‫بتراكيب مختلفة قربًا وبعد ًا في االنطباق على الموضوع الخارجي‬
‫ولوال ذلك لكانت اإلشارات والمشار إليه شيئًا واحد ًا ولكانت اللغة‬
‫جامدة جمود الصخر ‪.‬‬
‫وهذا التصور في اإلعتباطية قد أّدى الى تجميد اللغة ‪ .‬حيث‬
‫اعترف بذلك العشرات من الباحثين ‪ ،‬بحيث ادعى ( فصحاء وبلغاء )‬
‫أنهم لم يقدروا بعد بالغة الجرجاني والسكاكي من ( إنشاء جملة‬
‫واحدة بشجاعة تامة ) ـ ألنها قد تكون مخالفة لشروط بالغتهما ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪73‬‬
‫‪3‬‬
‫وكذلك أّدى هذا التصّو ر الى نفس النتيجة في الغرب ـ وقد عّلقنا‬
‫باسلوب قصصي ولّم ا نزل في مرحلة الدراسة الثانوية على هذا‬
‫العمل بالقول الذي كّنا نته ّيب من إعالنه ‪:‬‬
‫( وسيقوم الجيش اللغوي اللجب بقيادة الفارس المغوار ليفي‬
‫شتراوس بشن هجوم تكتيكي بنيوي مع الضياء األول على الجبهة‬
‫الشعرية آللويت فيحيلها عند طلوع الشمس الى ركام من الحروف‬
‫المبعثرة وأكوام من جثث االلفاظ الميتة ‪ ،‬وسيقوم بتوزيع غنائم‬
‫المعركة الكثيرة والتي هي "الشيء" على جميع المشاركين في‬
‫الهجوم كّل حسب شجاعته ‪. ) ..‬‬
‫وهذا هو المسار الذي تتحرك فيه اإلعتباطية الى هذا اليوم ـ‬
‫فاللغة عندها ليست اال هياكل أثارية تحفرها بترٍو شديد بحثًا عن‬
‫األقبية المطمورة والهياكل العظمية النخرة ولو كانت من إحدى‬
‫النصوص‬
‫والحل القصدي كما رأيت في ( اّللغة الموّح دة ) يعطي االشارة‬
‫اللغوية ـ قيمة حركية عليا ال حدود الستعمالها ولكن ال عبثية فيها‬
‫وال اعتباط ‪.‬‬
‫وفي الحل القصدي ينفصل االستعمال عن موضوعه وبذلك‬
‫يمكن تبرير نشوء أو إنشاء علم للغة حيث يكون واجب هذا العلم‬
‫( تقييم ) االستعمال وهو ما تفتقر إليه اإلعتباطية ‪ ،‬وقد وضعنا هذا‬
‫التساؤل الكبير في ( اّللغة الموّح دة ) أمام علماء اإلعتباطية ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪74‬‬
‫‪3‬‬
‫الثالث ‪ :‬الداعي الثالث من دواعي استعمال المجاز ‪ .‬قال ‪ :‬وهو‬
‫حصول اللذة ‪ .‬فإذا عبر عن الشيء باللفظ الدال عليه على سبيل‬
‫الحقيقة حصل تمام العلم به فال تحصل اللذة ‪.‬‬
‫إن هذا التفسير السايكولوجي الغريب هو اآلخر ال عالقة له‬
‫بالمجاز‪ .‬فالمرء حال القيام بمثل ذلك أشبه بمن يقوم بمداعبة‬
‫المتلقي والمتلقي يعلم جيد ًا إن كان االستعمال في موضوعه ام أنه‬
‫يرمز له برموز أبعد في التعبير؟ ‪ .‬وهذا العالقة له باالستعمال‬
‫اللفظي للتراكيب ـ حال كونها بعيدة أو قريبة في التعبير ‪ ،‬فكل منها‬
‫حقيقة في موضوعه واالختالف هو أنه ال يعبّـر عن الموضوع نفسه‬
‫وإنما يعبّـر عما هو ( بجواره ) أو ما يحيط به من ( مواضيع ) فكل‬
‫منها حقيقي في موضوعه ‪ .‬وهو كما تالحظ ذهول آخر غريب عن‬
‫موضوع البحث ‪.‬‬
‫الرابع ‪ :‬وهو السبب األخير من أسباب الدواعي ‪ :‬ان يكون‬
‫صالح ًا للشعر وللسجع وأصناف البديع دون الحقيقي ‪.‬‬
‫اليختلف هذا الداعي بشيء عما سبقه فإننا نتصور عدد ًا من‬
‫االحتماالت ‪:‬‬
‫أ ‪ .‬أن يكون االستعمال مقحم ًا لتنظيم الشكل مع إغفال المضمون‬
‫فهذا التزويق اللفظي ـ العالقة له بالمجاز فاذا ابتعد بعد ًا كبير ًا‬
‫وخرج عن المضمون كان استعماًال خاطئًا ‪.‬‬
‫ونود ان ننبّـه هنا الى أمٍر هاٍم هو ‪ :‬إن اإلعتباطية ال تخِّط ئ أي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪75‬‬
‫‪3‬‬
‫استعمال وبالتالي ال تجيب على السؤال ‪ :‬لماذا اذن علم اّللغة ؟ ‪.‬‬
‫ب ‪ .‬أن يكون متالئم ًا مع المقصود ‪ :‬فهذا حقيقي ال مجازي وهو‬
‫اذا تمّك ن من المحافظة على إبراز الفكرة مع االعتناء بااللفاظ ‪،‬‬
‫فهذا االحتمال العالقة له بالمجاز المذكور في التعريف ‪.‬‬
‫ج ‪ .‬أن يقصد ذلك ‪ :‬أي أنه يقصد االبتعاد عن التصريح بالفكرة‬
‫ويكتفي بالتلميح الى ما حولها ـ وهو أوسع بكل تأكيد ـ وموضوعه‬
‫يساعده في ذلك كأن يكون عدم التصريح مبرر ًا على نحو كاٍف‬
‫اجتماعيًا أو دينيا أو غير ذلك ‪.‬‬
‫وإذن فالقصدية في االبتعاد تختار ألفاظ ًا ـ تصلح لما هو حول‬
‫الموضوع وال تصلح للموضوع المكتوم ـ فهي حقيقية في موضوعها‬
‫فأين هو المجاز ؟ ‪.‬‬
‫نعم ‪ .‬هنا أيضا يظهر المجاز إذا أصرت اإلعتباطية على الخلط بين‬
‫اإلشارة وداللتها وبين الموضوع الذي تنطبق أو ال تنطبق عليه وقد‬
‫الحظت فساده الشنيع ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪76‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الحادي عشر‬
‫االعتباطيــة و مجــاز القرآن‬

‫قّدم علماء اإلعتباطية في اّللغة تفسيرهم االعتباطي ليجدوا‬


‫الحلول المناسبة للظواهر اللغوية فكانت النتيجة هي خلو اإلعتباطية‬
‫من أية قواعد شاملة تتمكن من تفسير تلك الظواهر ‪ ،‬سوى االعتباط‬
‫نفسه ـ ولما كان االعتباط يرتكز على االستعمال ـ ويخلط أوًال بين‬
‫االشياء الثالثة ‪ :‬الواقع الخارجي والداللة واللفظ ‪ ،‬ويخلط ثانيًا بين‬
‫الداللة المستقلة للفظ وبين ظهورها في التركيب ويخلط ثالثًا في‬
‫الشواهد ‪ :‬هل هي موضوع إلستنباط القواعد أم هي موضوع لنقد‬
‫تطبيقات نتائج المباحث ؟ فكان من المحتوم ظهور ( اإلعتباطية )‬
‫في نفس التفسير االعتباطي ‪.‬‬
‫وفي موضوع المجاز لم تكتف اإلعتباطية باألصناف العشرة‬
‫عن‬ ‫المار ذكرها فانبرى علماء االعتباط إلفراد كتب خاصة‬
‫( مجاز القرآن ) ‪ .‬ولما كان ( النظام القرآني ) غائبًا عنهم أو كانوا‬
‫هم غائبين عن ( النظام القرآني ) أصًال فمن المتوقع أن يجد‬
‫( المجاز ) ضالته في القرآن خصوصًا ‪.‬‬
‫وإذا أردنا جمع األنواع االصلية للمجاز القرآني فإنها بلغت‬
‫عندهم ما يربو على األربعين نوعًا ! وتحت كّل نوع منها فروع ِع ّدة‬
‫‪ :‬سبعة أو ثمانية أو ثالثة حسب اختالف النوع وتحت كّل فرع عدد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪77‬‬
‫‪3‬‬
‫كبير من الشواهد ‪.‬‬
‫وإذا أردنا استعمال نظام إحصائي أو عشوائي لعشر صفحات أو‬
‫( حزب كامل من القرآن ) لبيان ظهور تلك المجازات في ( النموذج‬
‫) تكون النتيجة أن الحاسب اإللكتروني يحتاج الى استعراض القرآن‬
‫كله بحثًا عن االستعمال الحقيقي الذي قد يندر وجوده لدرجة أنه لن‬
‫يكون في مجموعه آية كاملة !! ‪ .‬ويبدو أن التفسير االعتباطي كان‬
‫يسعى الى تحقيق هذه الغاية ‪.‬‬
‫ومع أنهم اقّر وا بوجود ( اتجاه ) مضاد ذكر بسطٍر أو سطرين‬
‫في مؤلفاتهم كقول السيوطي في اإلتقان ‪:‬‬
‫[ وأنكر المجاز جماعة منهم ابن القاص من الشافعية وابن‬
‫خويز منداد ( ؟ ) من المالكية وُشبَه تهم أن المجاز أخو الكذب‬
‫والمتكلم ال يعدل إليه إال إذا ضاقت به الحقيقة وهو على الله محال‬
‫والقرآن منّز ه عنه ]‬
‫أقول ‪ :‬مع ذلك فإن هذا االتجاه غاب عن الساحة اللغوية ولم‬
‫يصلنا منه اّال سطر هنا كهذا أو سطر آخر هناك ومثل هذا األمر‬
‫واضح جد ًا إذا علمنا أن االتهام موَّج ه الى هذا االتجاه في ذلك السطر‬
‫الوحيد أيضا كونه اتجاه يحمل ( شبهات ) ـ ال فكرة معينة يجب‬
‫احترامها وال أطروحة يتوجب الوقوف عليها ‪.‬‬
‫ويكتفي السيوطي بالرد على ( الشبهة ) ـ بسطر واحد قائًال ‪:‬‬
‫( وهذه شبهة باطلة لو سقط المجاز من القرآن سقط منه "شطر‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪78‬‬
‫‪3‬‬
‫‪1‬‬
‫الحسن" فقد اتفق البلغاء على أن المجاز أبلغ من الحقيقة )‬
‫وبمثل هذه العبارة تم القضاء على ذلك االتجاه في مهده ‪.‬‬
‫وبالطبع يتجنب علماء االعتباط اإلجابة على االشكاالت المنطقية‬
‫لالتجاه والمتضمنة عالقة تعريفه بما يجوز أو ال يجوز على الخالق‬
‫عّز وجل ‪ .‬وذلك ألن هذا هو موضوعهم ‪ ،‬وقد برهنت على نحٍو‬
‫واضٍح جد ًا أن هدف الحل االعتباطي هو القرآن وليس القرآن هو‬
‫( الموضوع ) الذي يستقي منه الحل االعتباطي ركائزه ‪ .‬وصورة‬
‫هذه الفكرة قد توضحت لدى مناقشة بالغة الجرجاني وخالصتها أنه‬
‫إذا كان ال يمكن للخلق أن يأتوا بمثل القرآن ‪ ،‬فان الحل اآلخر هو أن‬
‫يكون القرآن مثل كالم الخلق ‪ .‬وال نشُّك مطلق ًا في قصدية الحل‬
‫االعتباطي لهذا الهدف وهو ما يظهر جليًا عند دراسة كتاب "إعجاز‬
‫القرآن" للجرجاني حيث النتيجة المحتومة من الدراسة والتي‬
‫تستعمل األسلوب اإلحصائي تبيّـن على نحٍو واضٍح أن الغاية هي أن‬
‫يفهم المتلقي بالنتيجة ( األوجه اإلعجازية ) للشواهد جميع ًا والتي‬
‫حضى القرآن الكريم بالنصيب األدنى منها ـ أو خلت أحيانًا من‬
‫الشاهد القرآني ‪.‬‬
‫وفي كتاب ( أسرار البالغة ) تم تأسيس مبادئ للبالغة على‬
‫الحل االعتباطي تتضمن في الجزء األكبر ( االستعمال الحقيقي ) في‬
‫حين تقدم اآلخرون لإلجهاز على النص القرآني بالمجاز ‪ .‬وذلك عدا‬

‫‪1‬‬ ‫اإلتقان في علوم القرآن ‪ /‬ج‪.77 / 2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪79‬‬
‫‪4‬‬
‫الفئات الفلسفية التي أدخلت القواعد المنطقية الفلسفية ـ وبـا للغة‬
‫اإلعتباطية ـ الى مبادئ األصول ‪ .‬وكانت األعمال متكاتفة ومتالحمة‬
‫من أجل الهدف المشترك وكانت الضحايا بالطبع كثيرة أيضا إذ ال‬
‫يمكن وصف الجميع بقصدية هذا العمل ‪.‬‬
‫وإذا عدنا الى سطر السيوطي الذي يقمع به االتجاه المضاد ـ‬
‫فانك تالحظ الهدف بجالء تاٍّم حينما قَّس م القرآن بطريقة غير مباشرة‬
‫الى شطرين ( شطر الُح ْس ن ) وشطٍر آخٍر عليك أن تفهم ما هو‬
‫بمفردك !‪.‬‬
‫وطبيعي أن ( البلغاء ) الذين اتفقوا عنده على أن المجاز أبلغ‬
‫من الحقيقة وأن ( شطر الحسن ) في القرآن هو في هذا المجاز هم‬
‫جماعة يعلمهم هو ـ إذ ليس منهم البلغاء الذين نعلمهم كالنبي ( ص‬
‫) أو علي بن أبي طالب ( ع ) وال حتى معاصريهما ‪ ،‬ألن المجاز لم‬
‫يظهر كمصطلٍح إّال في وقٍت متأخر بعد ظهور اإلسالم ‪.‬‬
‫وذلك ألن النبي محمد ( ص ) واإلمام علي (ع ) واألئمة (ع )‬
‫كانوا يؤكدون بصورة مستمرة على أن القرآن ( ماء واحد ) يجري‬
‫أوله على آخره وأنه ( واحد من عند واحد ) وأنه ( ال يختلف وال‬
‫يخالف ) ‪ ،‬وأن ( باطنه عميق وظاهره أنيق ) ‪ ،‬وأن ( الرجال‬
‫قصرت عقولهم عن إدراك مراميه ) ‪ ،‬وهي عبارات كثيرة جدا ال‬
‫أحسب أن ( الشاطر ) الذي يشطره الى شطرين بعيد عنها أو بعيدة‬
‫عنه وهو مختص بعلوم القرآن ‪ ،‬فان غابت عنه فليست العبارات‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪80‬‬
‫‪3‬‬
‫القرآنية التي تتناغم معها وتشير إليها تلك األحاديث بغائبة عنه‬
‫وهي جزء من النص القرآني كقوله تعالى‪:‬‬
‫( متشابها مثاني )‬
‫وقوله ‪:‬‬
‫( ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه )‬
‫وقوله ‪:‬‬
‫( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير )‬
‫‪ ..‬الى غيرها من اآليات التي تؤكد وحدته اللغوية العجيبة‬
‫ونظامه المحكم ومصاديقه الالمتناهية والتي يكون ادعاء المجاز‬
‫فيها على التعريف نوع من عدم اإلقرار بهذه الخصائص بطريقة‬
‫غير مباشرة اكتنفتها واحتضنتها عبارات ( التبجيل واالحترام )‬
‫والتعظيم للقرآن والتي كان هدفها تمرير اإلعتباطية الى هذا الكتاب‬
‫بأية صورة ‪.‬‬
‫ومثلما تـّم قمع االتجاه المضاد وقتله في مهده الّدعائه‬
‫( الشبهات ) في التيار السّني فقد ُقمع نفس االتجاه في الفكر الشيعي‬
‫بصورة حاسمة ‪ .‬ولكنه احتاج الى وقٍت أطول زمنيًا لتكتّـل التالمذة‬
‫األوائل لإلمام الثاني عشر ( ع ) مع بعضهم على قلّـتهم ووقوفهم‬
‫بوجه التأسيس االعتباطي لمباحث األلفاظ الخاص بعلم األصول‬
‫عندما افتقدت القواعد زعيمها الذي أوصى باعتماد األخبار المروية‬
‫في السّنة المؤَّك دة فقط لمعرفة حقائق الدين لحين مجيء ( أمر الله‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪81‬‬
‫‪3‬‬
‫) ‪ .‬فأحاطت األكثرية اإلعتباطية بهذه الق ّلة وأجهضت محاوالتها في‬
‫مهدها وسّم تها بأسماء غريبة لعل أهونها هو ( جماعة اإلخباريين )‬
‫‪ ،‬حيث اعتبرتها جماعة ال تمت في فكرها الى العلم الحقيقي بصلة‬
‫مستغلة ضرورة ( التحقق من سند الخبر ) ورقًة تشهرها ضدها تدل‬
‫ضرورة ( التحّقق ) من األلفاظ واألسس المنطقية‬ ‫على‬
‫للعملية االجتهادية برمتها ‪ .‬وهكذا دخلت جميع المبادئ السنية التي‬
‫ال تؤمن بضرورة لوجود ( معصوم ) يحمل علم الكتاب األزلي‬
‫والالمتناهي الى دور وأقبية ودراسات ومساجد التيار الشيعي الذي‬
‫يؤمن بهذه الضرورة جامع ًا بين تناقضاتها ـ بين اإلقرار بوجود‬
‫اإلمام الفعلي وبين ضرورة البحث االعتباطي ـ ‪.‬‬
‫ويبدو أن جميع األبحاث كانت جاهزة على يد التيار السني وإن‬
‫كان التيار االعتباطي للتشيع ينكر هذا ( الفضل ) أحيانًا ‪ ،‬وكل ما‬
‫احتاجه هذا التيار هو إدخال هذه األبحاث في ( قالبها اإلمامي )‬
‫وإضفاء طابع التشيّـع عليها ومن ثم كانت الزعامة المطلقة للتيار‬
‫األصولي االعتباطي على جميع القواعد االمامية للقرون العشرة‬
‫الماضية ‪.‬‬
‫ولكن الحق يقال أن التيار القصدي ( اإلخباري ) الذي استطاع‬
‫أن يحدس بذكاء منقطع النظير ( يظهر من دراسة مجادالته القليلة‬
‫جدا التي وصلتنا ) استطاع أن يحدس ما ستؤول إليه العملية‬
‫االجتهادية من جمود ‪ ،‬يبلغ درجة أن توضع اللغة نفسها في قوالب‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪82‬‬
‫‪3‬‬
‫جامدة تعزل القرآن والفقه عن األمة ـ هذا التيار لم يمت نهائيًا في‬
‫الفكر الشيعي ‪ .‬لكن يمكن القول أنه عاش ( طالبًا األمان ) بجوار‬
‫التيار اآلخر بشروط ضمنية يعرفها الطرفان أهمها أّال يَّدعي‬
‫المرجعية والفتوى ويكتفي بتسجيل األخبار بعيد ًا عن البّت بالمسائل‬
‫الفقهية ـ وقد انتفع كال الطرفان بهذا االتفاق فأبقى اإلخباري على‬
‫وجوده على النحو المعلوم من العيش في الظل في وقت انتفع فيه‬
‫التيار اآلخر من تلك األخبار ليختار منها ما يالئم أصوله ويهجر ما‬
‫ال يالئمه منها بعملية انتقاء محضة ‪ .‬وقد خضع هذا ( االنتقاء ) الى‬
‫شروط إطارها العام هو ( التحقيق ) ولكن جوهرها هو تكريس‬
‫االنتقاء خدمة لألصول اإلعتباطية ‪.‬‬
‫وقد تم تكريس الجهود في العملية االجتهادية وحصرها في نطاق‬
‫العبادات والمعامالت وفتح باب االجتهاد وهما خطوتان حاول فيها‬
‫األصوليون تج ّنب المشاكل التي تنجم عن االعتباط والمتمثلة‬
‫بالتصادم بين أصول العملية االجتهادية واألصول العامة للدين على‬
‫طريقة المذهب االمامي في الخطوة األولى وحالة الجمود والتحجر‬
‫كصفة دائمة لالعتباط في الثانية ‪ .‬وحاول التيار األصولي بإصدار‬
‫الكراسات بين الحين واآلخر تبرير العملية االجتهادية كلما سمع‬
‫بدقات نبض يصدرها قلب االتجاه اإلخباري المضاد والذي ربما‬
‫يظهر بشكل مفاجئ داخل مجلس المرجعية نفسه فيما إذا تقدم شاٌّب‬
‫قاده حدسه العميق الى كشف التناقض بين األمرين وتساءل بشغف‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪83‬‬
‫‪3‬‬
‫عن مبررات االجتهاد ‪.‬‬
‫وعلى الطرف اآلخر للفكر االعتباطي تم التخلص من هذه‬
‫المشكلة بإيقاف العمل االجتهادي واختيار ( أربعة أئمة ) من بين‬
‫عشرات المجتهدين واعتبارهم أرباب المذاهب التي يمكن لبراءة‬
‫الذمة أن تلحق المكلف باتباعهم وهؤالء هم الذين اتخذتهم الدولة‬
‫القائمة على الفكر السِّني في أوج قوتها ممثلين لها في باب الفتيا‬
‫والقضاء ‪ ،‬فاّتبعهم أكثرية الناس مثلما يتبعون أي تشريع جديد‬
‫تضعه الدولة وتجعله موضع التنفيذ في المحاكم والجامعات‬
‫ومؤسسات الدولة للبِّت في شؤون الناس وإنجاز معامالتهم حيث‬
‫المحيص للجمهور من اتباعهم ‪.‬‬
‫ولم يقم التيار القصدي بنقض االتفاق فلم يزاحم األصوليين على‬
‫مقاعدهم ولم يفسر القرآن ولم يفِت بشيء يذكر ‪ .‬ولكن رجال هذا‬
‫التيار كانوا بالقرب من األصوليين دائم ًا ـ وغالبًا ما كانوا رجاًال‬
‫زاهدين منتهى الزهد في الدنيا وغالبًا ما تذكر أسماؤهم تحت عنوان‬
‫( الفاضل األجل ) وغالبًا ما تفتقر تراجمهم الى العبارات التي تبّج ل‬
‫األصوليين ويكتفى بالقول عن أي واحٍد منهم ‪ ( :‬فالن ـ كان فاضًال‬
‫جليًال وله آراء عجيبة ورؤى صادقة مثل فلق الصبح رأيته في سنة‬
‫كذا … له تصانيف كثيرة نافعة )!‬
‫لم يفعل التيار القصدي شيئًا من ذلك ولم يحض باالحترام الالزم‬
‫والشهرة ولكنه فعل ما هو افضل من كّل ذلك ‪ .‬فقد حافظ هذا التيار‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪84‬‬
‫‪3‬‬
‫على القصدية وكان ال يسأم من تسجيل كّل شاردة وواردة ‪ ،‬وكان‬
‫يقطع الجبال ويخوض المستنقعات واألهوار إلعادة استنساخ جملة‬
‫واحدة أو حديثًا مفرد ًا وكان صادقًا كّل الصدق فال يكذب أبد ًا ‪ .‬وما‬
‫درى التيار األصولي أنه حينما كان ينتقي الحديث حسب هواه فيأخذ‬
‫ويترك ‪ ،‬وأنه حينما يأخذ بغيته ويترك غيرها ‪ ،‬ما درى أن مقتله‬
‫ونهايته على يد هذا المتروك ‪.‬‬
‫ويبدو أن التيار االعتباطي قد شعر بالخطر عند ظهور الطباعة‬
‫الميكانيكية واستقرارها وانتشار كتب الحديث للتيار القصدي لخدمة‬
‫األصولية الرائجة فوقعت بأيدي الجماهير وإزاء ذلك حاول‬
‫األصوليون مغازلة التيار القصدي بادعاء أو ( تبني ) العرفانية‬
‫واإلعالن عن أسماء أصولية عرفانية في ذات الوقت ‪ ،‬حيث يفهم‬
‫من ( العرفاني ) أنه الرجل الذي يتمّك ن من معرفة الحقائق الدينية‬
‫بأسلوب بعيد عن المنطق االرسطي والنحو البصري والكوفي‬
‫وشقاقهما مع بعضهما والبالغة الجرجانية أو السكاكية وبعيد ًا عن‬
‫الجدل الهيجلي والوجودية السارتريه والبنيوية السوسرية‬
‫والصوفية الغزالية والفلسفة الفيضية ـ إسلوب يتميز بالتأمل في‬
‫النص القرآني مجرد ًا عن أية تأويالت سابقة أو أصول موضوعة‬
‫ويبدأ دائم ًا من ألف الم ميم ـ ال يمكنني أن اعرف كّل شيء ( ذلك‬
‫الكتاب ال ريب فيه هد ًى للمتقين ) ـ حيث يفهم منه أن ( الهدى )‬
‫معرفة من ( النوع المتعالي ) وهو ال يحتاج اّال الى التقوى ـ وان‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪85‬‬
‫‪3‬‬
‫الفكرة األصولية القائلة بان المرء إذا كان مشغوًال بحاجات الدنيا‬
‫وغير متفرغ لمعرفة الدين فان هذه المعرفة تسقط عنه باتباعه أحد‬
‫المذاهب ـ تبدو للمتأمل في هذا النص غير صحيحة ـ ألن الهدى‬
‫معرفة وليس ثمة من يسقط عنه التكليف بالهدى أو يحتكره لنفسه ـ‬
‫وليس ثمة أيضا من يزعم أن على الجميع ترك مشاغلهم والتوجه‬
‫لمعرفة حقائق الدين وبناء على ذلك فال بد أن يكون طريق معرفة‬
‫الدين هو طريق آخر غير األصولية القائمة على االعتباط ‪.‬‬
‫لكن من يزعم أن هناك من استطاع التوصل فعال الى الهدى بهذا‬
‫الطريق السهل الذي ال يمر بالبصرة أو الكوفة وال يحتاج الى حفظ‬
‫ألفية ابن مالك ؟ ‪ .‬المَّدعون كثيرون بيد أننا إذا افترضنا أن أحد ًا ما‬
‫قد وصل بهذا الطريق فأنه سيصبح ( مفارقًا ) للعالم بأسره‬
‫وسيحاول جاهد ًا أن ال يعرفه أحد بهذه الصفة فضال عن أن يدعيها ‪.‬‬
‫وكل ما يمكنه أن يفعله هو أن يحاول تمرير القصدية بطريقة ما ـ‬
‫كما فعل أهل التيار القصدي في مؤلفاتهم فاآلخرون قد يزعمون بعد‬
‫موت أحدهم معترفين أو مخمنين أنه ( ربما كان من األولياء أو‬
‫األبدال ) ‪ .‬فليس من المعقول أن يتحّدث المفسر بالمجاز ويشرح‬
‫اآليات القرآنية بطريقة الحذف واالستعارة ويكون أيضا من األولياء‬
‫!! ملمح ًا أو مصرح ًا أو يترك ( المريدين ) يفعلون هذه الدعاية‬
‫لصالحــه !! ‪.‬‬
‫فقد آن األوان لالمة أن تعلم أنه ليس من أولياء الله واحد من‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪86‬‬
‫‪3‬‬
‫( الوالية‬ ‫التيار االعتباطي ‪ ،‬وإذا كان يصلح أحد منهم لتلك‬
‫) فان الشيخ ( دي سوسير ) يصلح لها إذ هو أعالهم كعبًا وأكثرهم‬
‫عمًال في تأسيس اإلعتباطية في الفكر اللغوي العام مع أن الشيخ لم‬
‫يتعرض ( لمجاز ) القرآن كما تعرضوا بصورة مباشرة ولم يشطره‬
‫الى شطرين شطر الحسن وهو ما فيه المجاز وشطر آخر ‪ ....‬ولم‬
‫تكن له غاية مما فعل سوى ( مباركة ) ما فعلوا وتثبيته في نظريٍة‬
‫تنشر في الغرب خشية أن ( يصحو ) يوم ًا ما فيعيد النظر في‬
‫نصوص العهدين ‪.‬‬
‫حق ًا ‪ ..‬لقد انتفع الفالسفة ( المؤمنون ) أو ( المحبّـون ) للمسيح‬
‫( ع ) في الغرب من الشيخ وصدق ظنّـه ‪ .‬فحينما أدخل ( سبينوزا )‬
‫اإللحاد بجلباب اإليمان الى المسيحية وراجع فلسفتها انتفع بما فعله‬
‫الشيخ من مبادئ اعتباطية لتفسير النصوص بطريق ( االستعارة )‬
‫على طريقة الشيخ الجرجاني حينما وجدها تصطدم مع فلسفته ‪. 1‬‬
‫وإزاء هذا الكم الهائل من التراث االعتباطي فليس باإلمكان‬
‫مناقشة جميع تفاصيله فكان ال بد من استعمال أسرع وأنجح الطرق‬
‫وقد تم ذلك باإلعالن عن ( النظام القرآني ) وقصدية اللغة في (‬
‫اللغة الموّح دة ) والكتب الالحقة ومنها هذا الكتاب المكّر س لهدم‬
‫مبتنيات اإلعتباطية في مباحث األلفاظ ومناقشة جملة من التفاصيل‬
‫خالل ذلك ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫قصة الفلسفة ‪ /‬وول ديورانت ـ سبينوزا ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪87‬‬
‫‪4‬‬
‫ولما كان المجاز القرآني وهو الجزء الهام من تطبيقات‬
‫اإلعتباطية واحد أهم نتائج المرادفات والقائم بأكبر قدر من التخريب‬
‫اللغوي وإخفاء معالم النظام القرآني فاني ساذكر أهم ما تفتقت عنه‬
‫عقلية الفكر االعتباطي من أنواع المجاز القرآني وشواهدها مع‬
‫التعليق السريع عليها ‪ .‬وسبب ذلك أن التفصيل غير ممكن في مثل‬
‫ذلك ‪ ،‬ألن من طبيعة اللفظ في القصدية أن ُيالحق في كّل القرآن‬
‫و ُتالحظ جميع موارده لغرض التفنيد التام للمجاز ‪ .‬وهذا يعني أن كّل‬
‫صفحة في كتب اإلعتباطية وشواهدها تحتاج الى كتاب بأكمله لهذا‬
‫الغرض ‪ .‬ويكفي أننا فندنا أسس مباحث األلفاظ ‪ .‬وستستخدم‬
‫إشارات ورموز النظام القرآني هنا لتنبيه القارئ إلى مكمن الخطأ ‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أننا نطلب من القارئ الكريم االطالع بل دراسة كتاب‬
‫"النظام القرآني" قبل دراسة هذه المباحث ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪88‬‬
‫‪3‬‬
‫أصناف أخرى للمجاز المزعوم‬
‫في القرآن‬
‫‪ .1‬إطالق واحد من المفرد والمثنى والجمع على آخر‬
‫الشواهد ‪:‬‬
‫أ ‪ ( .‬وجعل القمر فيهن نور ًا )‬
‫قالوا وهو في إحداهن ‪ / .‬أ‪.‬هـ ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬بل فيهن جميع ًا لما أثبتـه علم الفيزياء المعاصر من‬
‫استمراٍر لحركة النور في أنحاء الفضاء بغير انقطاع فالنور في‬
‫السماوات جميع ًا ‪ .‬فيتحقق المعنى من لفظ ( فيهن ) ‪.‬‬
‫الحظ بنفسك اإلعتباطية في التطبيق أيضًا ـ وكأنما ارتقوا‬
‫األسباب ورأوا السبع الطباق ‪.‬‬

‫ب ‪ ( .‬فمن تعجل في يومين )‬


‫قالوا ‪ :‬والتعجيل في اليوم الثاني ‪ /‬أ‪.‬هـ‬
‫أقول ‪ :‬ولذلك قال في يومين ـ حيث أن ( في ) تعمل كظرف زمان‬
‫فاليومان زمان أصبحا ظرفا للتعّج ل ‪ .‬ويصح هذا الزعم لو قال‬
‫( ليومين ) ‪.‬‬

‫جـ ‪ ( .‬ولمن خاف مقام ربه ج ّنـتان )‬


‫قالوا ‪ :‬والمعنى جنة واحدة ‪ /‬ا‪.‬هـ‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪89‬‬
‫‪3‬‬
‫أقول ‪ :‬بل جنتان ومن دونهما جنتان فبأي آالء ربكما تكذبان ؟؟‬
‫انظر بنفسك الى التعسـف ـ انظر الى ادعاء معرفة الملكوت ممن‬
‫ال يحسنون ‪.‬‬

‫د ‪ ( .‬وإذ قتلتم نفسًا فاّدارئتم فيها )‬


‫قالوا ‪ :‬والقاتل واحد ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬بل الجمع مقصود وهو مساوق للفعل قتلتم ألنهم أخفوا‬
‫القاتل وتدافعوا التهمة بعضهم على بعض فكانوا راضين بفعل‬
‫الواحد والراضي بفعل قوم مشارك معهم لذلك قال ‪ ( :‬والله مخرج‬
‫ما كنتم تكتمون ) وهي صيغ جموع متعددة في اآلية ‪ .‬فإذا أخذنا‬
‫بزعمهم أن ( قتلتم ) مجاز ظهرت مجازات أخرى في اآلية في‬
‫األلفاظ ( اّدارئتم ‪ ،‬كنتم ‪ ،‬تكتمون ) ‪ ،‬ولم تقتصر على مجاز واحد ‪.‬‬
‫إذن فاآلية في إشارتها الى المجموع كانت تقصد أن تتهم المجموع‬
‫بالقتل فال مجاز ‪.‬‬
‫والقصة على خطأ التفسير مثبتة كذلك في شروح القصص أن‬
‫إحياء القتيل كان ألجل أن يحدد القاتل الذي رفضوا الكشف عنه‬
‫ولذلك عّقب بالقول ( والله مخرج ما كنتم تكتمون ) ‪.‬‬

‫هـ ‪ ( .‬فان كان له أخوة فألمه السدس )‬


‫قالوا ‪ :‬المقصود إخوان ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪90‬‬
‫‪3‬‬
‫أقول ‪ :‬هو ال يحسن الفرق فما باله لم يسكت ؟ وأخذوها عنه‬
‫ودخلت التفاسير ‪ .‬واألخوان واالخوة كالهما جمع ( أخ ) ‪ .‬الحظ‬
‫الفارق في ( النظام القرآني ) تجد اإلعجاز بأجلى صورة ‪.‬‬
‫و ‪ ( .‬قال رب ارجعون )‬
‫قالوا ‪ :‬والمعنى أرجعني ألن الرب واحد ‪.‬‬
‫بل "ارجعون" فالخطاب مع الرب ليأذن بإرجاعه من قبل الكثرة‬
‫المنفذة لألوامر والتي يكره االعتباطيون معرفة أسماءها أو ذكرها ‪.‬‬
‫ز ‪ ( .‬فناظرة بم يرجع المرسلون )‬
‫قالوا ‪ :‬والرسول واحد بدليل قوله ( ارجع إليهم ) !‬
‫أقول ‪ :‬بل "المرسلون" وهم رسل الملكة ـ أرسلتهم بهدية الى‬
‫سليمان ( ع ) وتنظر بم يرجعون ‪ .‬و( ارجع إليهم ) خطاب منه الى‬
‫الهدهد يحمل الجواب المنتظر ـ واألمر واضح في القرآن وإذا كان‬
‫الخطاب لهم فيصح أيضا ألن الملك ال يخاطب اّال الرسول الفعلي‬
‫( رئيس الوفد ) ‪.‬‬

‫ح ‪ ( .‬قالوا ال تخف خصمان )‬


‫قالوا ‪ :‬وإنما هو خصم واحد ‪ ،‬فهو عندهم مفرد جاء بصيغة‬
‫المثنى ‪.‬‬
‫الحظ االعتباط ‪ .‬المتكلم واحد وهو يتحدث عن نفسه وعن‬
‫خصمه فيصوغ الجملة على صيغة المثنى فكيف إذا كان كّل منهما‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪91‬‬
‫‪3‬‬
‫يتكلم كما يدل عليه لفظ "قالوا" ‪ .‬أي أن كّل واحد منهما كان يقول‬
‫أنه خصم لآلخر ‪ .‬علما أن الخصم ال بـد له من خصم آخر يقابله فهذا‬
‫اللفظ مثل لفظ الزوج إذ أن كّل فرد من الزوج يدعى زوج ًا ‪.‬‬

‫ط ‪ ( .‬نسيا حوتهما )‬
‫قالوا ‪ :‬والناسي واحد هو يوشع ( ع ) ‪.‬‬
‫بل نسيا ـ إذ لو كان موسى ذاكر ًا لقيل لم ال يذّك ره ؟!‬
‫ولو قال ( نسي حوته ) العترضت اإلعتباطية بهذا االعتراض أو‬
‫قالت المعنى ( نسيا ) وهو مجاز ألنها مولعة بقلب االشياء بخاصة‬
‫في القرآن ‪ .‬أما قول يوشع بعد ذلك لموسى ( ع ) ‪ ( :‬أني نسيت‬
‫الحوت ) فما أراد إشراكه فيما كان هو مسؤوًال عنه وذلك لتأدبه مع‬
‫الرسول ( ع ) ـ فالنسيان من موسى وفتاه والمسؤولية على الفتى‬
‫ألن الحوت معه ‪.‬‬

‫ي ‪ ( .‬الطالق مرتان )‬
‫قالوا ‪ :‬وإنما هو مره واحدة ‪.‬‬
‫بل هو مرتان وفي الثالثة ُتبان ‪ . .‬و االعتباطية ال تدافع عن‬
‫المذهب بل هي مصدر المذاهب المتعددة ‪ .‬وهو ال يلتبس مع‬
‫( الطلقات الثالثة ) ـ ألن هذه المسألة كيفية فقد اختلفوا في كون‬
‫لفظ الطالق ثالث مرات في مجلس واحد أم مجالس متفرقة وإنما‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪92‬‬
‫‪3‬‬
‫ُيحل اإلشكال بهذه اآلية ألنها تحدد المرات الفعلية للطالق ال صيغة‬
‫الطالق المكررة في كّل مرة ‪.‬‬

‫ك ‪ ( .‬فنادته المالئكة )‬
‫قالوا ‪ :‬وإنما هو واحد جبرائيل (ع) ‪.‬‬
‫بل المالئكة ‪ .‬إنهم يختلفون في الواضحات ويزعمون معرفة‬
‫الخفيات فما أدراهم أن المنادي واحد ؟‬
‫ل ‪ ( .‬ومن كّل تأكلون لحم ًا طريًا وتستخرجون حليًة )‬
‫قالوا ‪ :‬وإنما الحلية من المالح ! ( أي ليس من العذب ) ‪.‬‬
‫معرفة واسعة لالعتباطية بأسرار البحار أيضا ! علما أن القدامى‬
‫من الغواصين أعلنوا أن اللؤلؤ من المحار والمرجان من شواطئ‬
‫المرجان والدر من نوع من الحيوان البحري ‪ ،‬وأسرار البحار‬
‫الزالت غامضة في احدث التقنيات العلمية فمن أين لالعتباطية هذا‬
‫التحديد ؟ هناك غرائب عن البحار كوجود ماء عذب داخل الماء‬
‫المالح وغيرها ‪.‬‬

‫م ‪ ( .‬القيا في جهنم )‬
‫قالوا ‪ :‬أي ( ألِق ) ‪ .‬فعدل عن المفرد الى المثنى ‪.‬‬
‫إّطالع آخر لالعتباطية على الغيب !‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪93‬‬
‫‪3‬‬
‫ن ‪َ ( .‬يخُر ج منهما اللؤلُؤ والمَر جان )‬
‫قالوا ‪ :‬يخرج من أحدهما وهو اُألجاج ‪.‬‬
‫بل يخرج منهما و االعتباطية ال تفهم شيئًا في اللغة العامة فكيف‬
‫تفهم لغة النظام القرآني ؟ وهي ال تعلم ما في البحار المعلومة فضال‬
‫عن ( البحرين ) !‬

‫س ‪ ( .‬أن اإلنسان لفي ُخ سر )‬


‫قالوا ‪:‬أي األناسي لوجود االستثناء ‪.‬‬
‫بل اإلنسان ( اال الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق‬
‫وتواصوا بالصبر ) ‪.‬‬
‫والمستثنى ال يشترط أن يكون من جنس المستثنى منه ‪. 1‬‬

‫‪ .2‬إطالق الماضي على المستقبل وعكسه‪:‬‬

‫أ ‪ ( .‬أتى أمر الله فال تستعجلوه )‬


‫قالوا ‪ :‬أي سيأتي ‪.‬‬
‫وطبيعي أن تَّدعي اإلعتباطية ذلك وهي ال تفّر ق بين ( جاء ) و (‬
‫أتى ) وتؤمن بترادفهما ‪ ،‬وإنما يكمن النظام القرآني واإلعجاز كله‬
‫في هذا التفريق وفي القضاء على المرادفات وهي المهمة التي‬

‫‪1‬‬ ‫انظر القرافي في كتابه "االستغناء في أحكام االستثناء " في قوله تعالى ‪ ( :‬ما كان استغفار إبراهيم ألبيه إّال عن موعدة وعدها إّياه ) ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪94‬‬
‫‪4‬‬
‫ستقوم بها القصدية وتجابه من خاللها العالم بأسره في المشرق‬
‫والمغرب ‪ .‬يأتي الشرح الوافي ألمثال ذلك في مباحث ألفاظ الطور‬
‫المهدوي حيث سنرى أن اآلتي لم يجيء بعد فيصح الماضي ( أتى )‬
‫مع األمر ( فال تستعجلوه ) ‪.‬‬

‫ب ‪ ( .‬ونفخ في الصور )‬
‫قالوا ‪ :‬أي سُينفخ ‪.‬‬
‫تتجاهل اإلعتباطية االنتقال الزمني للذهن في السياقات القرآنية‬
‫الى المستقبل لتقرير األحوال التي تسبقها بالماضي ـ ألن غايتها‬
‫البحث عن شواهد للمجاز ال تفسير اّللغة وال تفسير القرآن ‪ .‬ومثل‬
‫ذلك جميع اآليات المشابهة في ( الزمن ) والتي لن اذكرها هنا ‪.‬‬

‫ج ‪ ( .‬أتأمرون الناس بالبر )‬


‫قالوا ‪ :‬أي أمرتم ‪.‬‬
‫لو كان كذلك والمخاطبون ( أّم ة ) من أهل الكتاب لكان المقصود‬
‫أسالفهم فقط ـ إنما هو مضارع يفيد استمرار قيامهم بهذا العمل !‬
‫وما يدريك لعلهم أصحاب الفكر االعتباطي الفعليين والمخططين له‬
‫من وراء الستار ! ؟ ‪.‬‬
‫د ‪ ( .‬واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬أي( تلت ) بالماضي ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪95‬‬
‫‪3‬‬
‫دفاع آخر لالعتباطية عن الشياطين واتباعهم فقد ( تلو )‬
‫بالماضي وال يتلون اآلن وليس ثمة اآلن من ( سحرة ) !!‬

‫هـ ‪ ( .‬فلَم تقتلون أنبياء الله )‬


‫قالوا ‪ :‬أي ( قتلتم ) ‪.‬‬
‫بل تقتلون ألن الراضي بفعل قوم مشارك لهم ‪ .‬وذلك إذا اعتبرنا‬
‫القتل وسفك الدماء شيئًا واحد ًا ‪ .‬فكيف إذا كان القتل يأخذ معنًى اعَّم‬
‫بكثير ؟‬

‫و ‪ ( .‬فريق ًا كَّذ بتم وفريق ًا تقتلون )‬


‫قالوا ‪ :‬قتلتم ‪.‬‬
‫الحظ إصرار اإلعتباطية على تفسيرها رغم اتفاق الموارد في‬
‫الصيغة ومثل هذا كثير جد ًا كان يمكن له أن يكشف عن النظام‬
‫القرآني لوال أن النوايا واألهداف مختلفة ‪ ،‬فالحظ دفاع اإلعتباطية‬
‫عن ( المكذبين ) رغم وضوح صيغة الفعل المستمر علم ًا أن القتل‬
‫غير مرتبط بإهراق الدم على األصل ولذلك قال جعفر بن محمد (ع) ‪:‬‬
‫( والله ما ضربوهم بسيف وال طعنوهم برمح ولكن أحّلوا‬
‫حرامهم وحَّر موا حاللهم ) ‪.‬‬

‫ز ‪ ( .‬ويقول الذين كفروا لست مرسًال )‬


‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪96‬‬
‫‪3‬‬
‫قالوا ‪ :‬أي( قالوا ) ؟‬
‫انظر الى سلوك اإلعتباطية ! وأهدافها ! ‪ .‬غياب تام للذين كفروا‬
‫بعد نزول القرآن !! وكأن األمم تخلوا اليوم ممن يقول للنبي (ص)‬
‫لست مرسًال ! ‪.‬‬

‫ح ‪ ( .‬ذلك يوم مجموع له الناس )‬


‫قالوا ‪ :‬سيجمعون ‪ .‬وهذا فعل وليس صفة مثل لفظ ( مجموع )‬
‫والذي يشّك ل مع جملة ( مجموع له الناس ) صفة لذلك اليوم ‪.‬‬
‫انظر إلى اإلعتباطية وهي ال تفرق بين الصفة باسم المفعول‬
‫كونها حقيقة في ( الحال ) وصفة لليوم وبين األفعال !! ذلك أن اسم‬
‫المفعول حقيقة في الحال حيث وصف به اليوم وليس فعًال فأين‬
‫( مجموٌع له الناس ) من الفعل ( سُيجمعون ) ؟‪.‬‬

‫ط ‪ ( .‬إن الدين لواقع )‬


‫قالوا ‪ :‬سيقع ‪ .‬عَّده السيوطي من لواحق المجاز !‬
‫بينما هو تعبير عن صفة اليوم باسم الفاعل وحقيقته في‬
‫االستعمال ‪.‬‬

‫‪ .3‬إطالق الطلب على الخبر وعكسه ‪:‬‬


‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪97‬‬
‫‪3‬‬
‫ا ‪ ( .‬اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم )‬
‫قالوا ‪ :‬ونحن حاملون ‪ ،‬بدليل ( وانهم لكاذبون ) والكذب إنما‬
‫على الخبر‪.‬‬
‫الحظ تعسف اإلعتباطية فما قالوه بمجمله هو خبر والكذب يرد‬
‫عليه فما عالقة ذلك بالجزاء ( ولنحمل ) ؟ ‪ .‬فانهم ال يعلمون تلك‬
‫الخطايا ومقدارها وإنما يقولون ولنحمل عنكم خطاياكم في الدنيا‬
‫ويوم القيامة أي مستقبًال ـ ولكنهم كاذبون اآلن بهذه المقالة !‬
‫فالحمل مشروط باالتباع فال يقولون "نحن حاملون" ‪ .‬هل تظن أن‬
‫ذلك من معضالت المسائل اللغوية ؟ أم أنه ديدن اإلعتباطية ؟‬

‫ب ‪ ( .‬ال يم ّس ه اال المطّه رون )‬


‫قالوا ‪ :‬أي ال يم ّس ه ( بمعنى األمر ) ‪.‬‬
‫وهو من أعجب مبتدعات االعتباط ‪ .‬فحينما ال تختلف صيغة‬
‫المضارع عن الطلب في مثل هذا التركيب تجتهد اإلعتباطية في‬
‫اإليحاء الى أنه ( أمر ) وذلك لصرف األنظار عن تمييز المجموعات‬
‫في النظام القرآني ‪ ،‬وتحويل الطهارة من المعنى العقائدي الى‬
‫المعنى الفقهي وتحويل المـس من المعنى العـلمي الى المـادي !! ‪.‬‬
‫وبالطبع فال أذكى من اإلعتباطية حينما يتعلق األمر بالتخريب ! ‪.‬‬

‫ج ‪ ( .‬ال تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم )‬


‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪98‬‬
‫‪3‬‬
‫قالوا ‪ :‬أي اللهم اغفر لهم ‪.‬‬
‫بل يغفر الله لهم وهو ما يعلمه ( يوسف ) من قواعد وسنن‬
‫للغفران وما عَّلمه الله من تأويل األحاديث ـ وهي جميع الوقائع‬
‫وليست تلك التي في الرؤى فقط ‪.‬‬
‫فلم ّـا خّر وا له سجد ًا علم أنهم أقّر وا حقيقة بخالفته ورسالته‬
‫وآمنوا وتابوا فقال مستيقنًا ( يغفر الله لكم ) ‪.‬‬
‫غايات االعتباط من ذلك صرف هذه الفضائل عن الرسل وإخفاء‬
‫السنن الخاصة بالمغفرة ‪.‬‬

‫د ‪ ( .‬والوالدات يرضعن أوالدهن )‬


‫قالوا ‪ :‬هي أمر بصيغة المضارع ‪.‬‬
‫هذا بالرغم من أن آخر اآلية معّلـق بإرادة اإلنسان ( يرضعن‬
‫أوالدهن حولين كاملين ـ لمن أراد أن يتـّم الرضاعة ) ‪ .‬و االعتباطية‬
‫تحارب حر َّية اإلنسان أيضا ‪ ،‬تحاربها في كافة الجبهات! ‪.‬‬

‫‪ .4‬وضع جمع القلة موضع الكثرة ‪:‬‬


‫قبل ذكر الشواهد أنِّبـه القارئ الكريم إلى أن جمع القلة الذي‬
‫زعموا أنه لما دون العشرة وجمع الكثرة لما هو أكثر ليس سوى‬
‫مجرد بدعه لغوية ال تمت الى الحقيقة بصلة ‪.‬‬
‫علم ًا أن الخلل في الجموع المتعددة من األمور العجيبة حيث‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪99‬‬
‫‪3‬‬
‫دخل المعاجم ولم يفّر قوا بين تلك الجموع ومعانيها التي تقتضيها‬
‫فعّدوها شيئًا واحد ًا رغم التعدد في الصيغ ‪ .‬مر في كتاب النظام‬
‫القرآني مثال عن ( العباد والعبيد ) وآخر عن ( االخوة واألخوان )‬
‫بتفصيل فراجعه لتدرك أن الجموع تحكمها قواعد الداللة اللفظية‬
‫نفسها وال تحكمها قواعدهم ‪.‬‬

‫أ ‪ ( .‬وهم في الغرفات آمنون )‬


‫قالوا ‪ :‬وغرف الجنة أكثر من عشرة ! ‪.‬‬
‫مع أن جمع المؤنث السالم ( غرفة ـ غرفات ) وهو غير محدد‬
‫بعدد كالعشرة ـ إنما التحديد في أصل اللفظ ‪ ( :‬الُغ رف ـ استعمال‬
‫لحال بناءها المستمر والذي هو غير محدد بعدد ) و ( غرفات ـ لما‬
‫هو موجود فعًال ولو كان ألف غرفة ) ‪ .‬فلما أراد وصف حالهم في‬
‫الغرفات كونهم ( آمنون ) جاء بالجمع الذي يفيد ( الموجود الفعلي )‬
‫ـ ألن النظام القرآني يكشف أن الجنة نفسها في توسع دائم ‪.‬‬
‫وإذا رأيت بناء ًا يُـبنى وال تعلم عدد الغرف فيه فيجوز لك بل‬
‫يتوجب أن تقول ‪ ( :‬ما هذه الغرف ؟ ) حتى لو كانت ثالثة ألن البناء‬
‫مستمر وقد يضاف عليه غرف أخرى ‪ .‬ولكن ال تقول ‪ ( :‬انتم‬
‫تسكنون هذه الغرف ) بل ( الغرفات ) ‪.‬‬
‫نعم ‪ .‬وجدوا العرب تقول للموجود الفعلي ( غرفات ) ولما ال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪100‬‬
‫‪3‬‬
‫يعلم عدده ( غرف ) فظنوا أن األول ِقلّـة لما دون العشرة واآلخر لما‬
‫هو أكثر !! ‪.‬‬

‫ب ‪ ( .‬أيام ًا معدودات )‬
‫قالوا ‪ :‬جعله لما دون العشرة لإليحاء بسهولة الصيام ! ‪.‬‬
‫سبحان ربك رب العزة عما يصفون ‪ .‬يظنون أو يوحون أن الله (‬
‫يخالف الحقيقة ) ألسبابهم اإلعتباطية ‪.‬‬
‫لو قال ( معدودة ) على جمع التكسير لما كانت محدودة ‪ .‬ولما‬
‫قال معدودات فكما في ( غرفات ) ـ موجودة فعًال في شهر معلوم ال‬
‫يزيد على ثالثين يوم ًا ‪ .‬فانظر بنفسك الى قيمة الحلول اإلعتباطية ‪.‬‬

‫د ‪ ( .‬الله يتوفى األنفس )‬


‫قالوا ‪ :‬والمعنى ( نفوس ) فعدل عنه ‪.‬‬
‫بل ( األنفس ) لغرض تحديد المجموعة التي يتوّفاها الله ‪.‬‬
‫فبعض النفوس يتوّفاها ملك الموت ( قل يتوفاكم ملك الموت‬
‫الذي وكل بكم ) ‪ .‬والبعض المالئكة ( الذين توفاهم المالئكة ) ‪.‬‬
‫والبعض تتو ّفاه الرسل ( توفته رسلنا ) والجميع يتو ّفاه الله في الليل‬
‫( وهو الذي يتوفاكم بالليل ) ‪.‬‬
‫فالتو ّفي الذي يقع إذا جاء الموت هو بحسب الطبقات‬
‫والمجموعات واألصناف وبأنظمة محددة ولكل نوع منها عدد من‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪101‬‬
‫‪3‬‬
‫الموارد ‪ .‬فلو قال ( الله يتوفى النفوس حين موتها ) ـ فهو حق ألنه‬
‫هو المتوفي الفعلي وهذا األمر الواضح ال يحتاج الى بيان مخصوص‬
‫له ‪ ،‬ولكنه يحدث إرباكا في جميع الموارد االخرى وخلًال في النظام‬
‫العام واختالفًا ‪ ( :‬ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختالفا‬
‫كثيرا ) ‪.‬‬
‫واألنفس التي يتوفاها الله هنا في هذا المورد هي مجموعة‬
‫خاصة جد ًا ‪.‬‬

‫هـ ‪ ( .‬إن رحمة الله قريب من المحسنين )‬


‫قال "الجوهري" ‪ :‬أي إحسان الله قريب فهي على هذا المعنى‬
‫‪ .‬ذكر ذلك تخلصًا من عدم تأنيث ( قريب ) وهو غير صحيح ‪ .‬ألن‬
‫القرآن لم يستعمل ( فعيلة ) تأنيثًا لفعيل مطلق ًا في الظرفين ‪.‬‬
‫ومثله ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) ‪.‬‬
‫ألن هذه المفردات ( قريب ‪ ،‬بعيد ) ليست صفات لتؤنث وإنما‬
‫هي ظروف ولو كانت مشتقة من أفعال متصرفة ‪ .‬ومعلوم أن الظرف‬
‫ال يحتاج الى تحويالت ألنه ظرف يستوعب الحركة الفاعلة سواء‬
‫كان الفاعل مذكر ًا أم مؤنثًا ‪ .‬ولكن المفردة ترجع الى تصرفها حينما‬
‫ال تسلك سلوك الظرف فإذا اقترنت بنكرة تحولت الى صفة وأعربت‬
‫( فتح ًا قريبًا ) ‪ ( ،‬عرضًا قريبًا ) ‪ ( ،‬عذابًا قريبًا ) ‪ .‬في حين أنها‬
‫كانت في اآليات موضع الشاهد بمثابة الظرف وليس الظرف كالصفة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪102‬‬
‫‪3‬‬
‫وليس ألحد أن يجعل ( رحمة الله ) بنفس معنى ( إحسان الله )‬
‫بصورة اعتباطية ‪.‬‬

‫‪ .5‬إعطاء الشيء حكم غيره ‪:‬‬


‫وسّم وه بالتغليب أو الترجيح ـ وهو كما ترى خالف الحقيقة‬
‫فهو عندهم مجاز ‪.‬‬

‫أ ‪ ( .‬وكانت من القانتين )‬
‫قالوا ‪ :‬واألصل القانتات ‪.‬‬
‫إذا أخذنا قولهم على محمل الجد فان األلفاظ ( الكافرون ) ‪،‬‬
‫( المؤمنون ) وما أكثرها في القرآن إما ال تشتمل على النساء أو‬
‫تكون كلها مجازات خالف االستعمال الحقيقي ‪.‬‬
‫فقل لهؤالء المتفيقهين ـ ماذا يطلق على المجموعة من الذكور‬
‫وبينهم إناث ـ لفظ الذكور أم لفظ اإلناث ؟‬
‫إن لفظ اإلناث خاص ألن األنثى الحقة بالذكر من أول الخلق وأن‬
‫السجود كان آلدم دون حواء بينما الذكر عام يشمل على اإلناث بهذا‬
‫اإللحاق ‪ ( :‬وألحقنا بهم أزواجهم ) ‪.‬‬
‫وهم يتحدثون عن ( الحقيقة ) العرفية كنوع من أنواع الحقيقة‬
‫فإذا جاء وفد يضم النساء بل لتكن النساء أغلبية فهل يقال مثًال ( في‬
‫الحقيقة العرفية ) ‪ :‬جاءت بنات تميم أم بنو تميم ؟ ‪ .‬وهل يقول‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪103‬‬
‫‪3‬‬
‫المرء في العرف إذا خرج الناس من الجامعة عند انتهاء الدوام‬
‫الرسمي ( خرج الطالب ) أم خرجت الطالبات ؟‬
‫لقد تبَّخ رت الحقيقة العرفية لالعتباط خالل بحثه الدؤوب عن‬
‫مجاز القرآن! ‪.‬‬

‫ب ‪ ( .‬بل أنتم قوم تجهلون )‬


‫األصل كما قالوا ( يجهلون ) ‪.‬وجاء بالتاء لتغليب أنتم على قوم‬
‫ـ ألن الياء أصًال صفة للقوم ‪ / .‬أ هـ ‪.‬‬
‫هل سمعت بفلسفة لغوية مثل فلسفة االعتباط ! المتكلم يخاطب‬
‫قوم ًا بطريقة حاضرة ويقول ‪ ( :‬بل أنتم قوم تجهلون ) واالعتباط‬
‫يقول كان عليه أن يقول ‪ ( :‬بل أنتم قوم يجهلون ) ـ غير مدركين أن‬
‫الياء ستحول الخطاب من الحاضر الى الغائب في التفات ال يصح‬
‫مطلق ًا في جملة خبرية كهذه ‪ .‬وهي مثل أن يقول المرء لصاحبه‬
‫( أنت يعلم أني أحبك ) !! ذلك ألن الوضع كله وضع خطاب ومجيء‬
‫مفردة "قوم" ال يسمح بذلك ‪.‬‬

‫ج ‪ ( .‬إذهب فمن تبعك منهم فان جهنم جزاؤكم )‬


‫قالوا ‪ :‬األصل جزاؤهم ‪.‬‬
‫اعترفت اإلعتباطية أن هذا ( العدول ) من الغائب ( جزاؤهم )‬
‫الى المخاطب من محاسن المجاز ألنهم لما كانوا تبع ًا للمخاطب في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪104‬‬
‫‪3‬‬
‫المعصية جعلهم تبع ًا في اللفظ ‪ ،‬لكن اإلعتباطية توهمت فليس ثمة‬
‫عدول عن لفظ أصلي بالغائب ألن الحال حال خطاب مباشر وحينما‬
‫ذكر ( األتباع ) ذكرهم خالل الخطاب ولو قال ‪ ( :‬جزاؤهم ) فهذا‬
‫يعني أن إبليس ليس معهم !! ‪ .‬فهذا هو مقدار فهم اإلعتباطية ّللغة !‬
‫‪.‬‬
‫إنما أبقى الخطاب مستمر ًا وجَم ع الكل فلم يقل له ‪ ( :‬جزاؤك )‬
‫فيخرج األتباع أيضا ـ فالنظام القرآني يقرر دوم ًا صيغة واحدة‬
‫المحيص عنها ‪ .‬وبالتالي فال عدول وال مجاز ‪.‬‬

‫د ‪ ( .‬فسجد المالئكة كلهم أجمعون اّال إبليس ) ‪.‬‬


‫قالوا ‪ :‬عَّده منهم باالستثناء تغليبًا لكونه كان بينهم ‪.‬‬
‫لم يعَّده منهم باالستثناء ـ ألننا رأينا أكثر من مرة أن المستثنى ال‬
‫يشترط أن يكون من جنس المستثنى منه كما في قوله تعالى ‪ ( :‬ما‬
‫كان استغفار إبراهيم ‪ ) ..‬اآلية ‪ .‬وهو رأي القرافي أيضًا المتخصص‬
‫بشؤون االستثناء ‪.‬‬
‫وأما األمر بالسجود فقد شمله هذا األمر لكونه بينهم لكنه ليس‬
‫منهم لقوله تعالى في الموضع اآلخر ‪ ( :‬اّال إبليس كان من الج ّنة‬
‫ففسق عن أمر ربه ) ‪ .‬وهو ما في سورة الكهف ‪.‬‬
‫ف االعتباطية ال تهتم لظهور ( االختالف ) في القرآن ‪ ،‬بل رأيت‬
‫في ( مبحث التناقض ) أنها هي مصدر الترويج لهذا االختالف ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪105‬‬
‫‪3‬‬
‫هـ ‪ ( .‬يا ليت بيني وبينك ُبعد المشرقين ) ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬أي المشرق والمغرب وسماهما مشرقين ألن المشرق‬
‫أشهر !! فغلب على المغرب !!‬
‫الحظ مرة أخرى مقدار فهم اإلعتباطية وشرحها للنصوص ‪ .‬وقد‬
‫نست تمام ًا أن المشرقين والمغربين ذكرا سوية في نٍص واحٍد ـ بل‬
‫األولى أن نقول ( تناست ) ـ ألنه مما ال ينسى ‪:‬‬
‫( رُّب المشرقين ورب المغربين ) ‪ /‬الرحمن ‪. 17 /‬‬
‫وإني ألسال العالم بأسره علماءه وجّه اله ‪ :‬هل حق ًا أن المشرق‬
‫أشهر من المغرب ؟‬

‫و ‪ ( .‬ولكل درجات ) ‪.‬‬


‫قالوا ‪ :‬أي درجات ودركات للمؤمنين والكفار فالدرجات للعلو‬
‫والدركات للسفل فَغَّلب االشرف ‪.‬‬
‫الحظ مرة أخرى اإلعتباطية بأجلى صورها ‪ .‬فتغليب الدرجات‬
‫ألنه أشرف ـ لغويًا ـ أهم من التناقض الذي ينتج من تسمية مراتب‬
‫أهل النار بنفس المراتب الشريفة ألهل الجنة فهذا هو فهم‬
‫اإلعتباطية ‪ .‬ومعلوم أن التحديد المذكور هو تحديد اعتباطي ال أصل‬
‫له عند العرب وال العجم ـ فالدرجات هي درجات سالبة كانت أم‬
‫موجبة ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪106‬‬
‫‪3‬‬
‫فهذا يشبه اآلنف من قولهم أن المشرق أشهر من المغرب !!‬

‫‪ .6‬تأنيث المذكر ‪:‬‬


‫أ ‪ ( .‬الذين يرثون الفردوس هم فيها )‬
‫قالوا ‪ :‬األصل هم فيه ‪.‬‬
‫بل فيها ألن الفردوس جنات وهي جمع مؤنث ‪ ،‬والعوام أعلم‬
‫منهم بالسليقة إذ جعلوها اسم ًا لإلناث الى هذا اليوم ‪.‬‬

‫ب ‪ ( .‬من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها )‬


‫قالوا ‪ :‬األصل عشرة ( ألن القاعدة في األعداد العشرة أن يكون‬
‫جنس العدد خالف المعدود ‪ :‬عشرة رجال ‪ ،‬عشر أمهات ) ‪ .‬وقال‬
‫آخرون لمراعاة المعنى ألن ما هو مثل الحسنة المؤنثة يكون مؤنثًا‬
‫!! وكل ذلك كأن األمثال عندهم مذكر ! وهكذا تنسى اإلعتباطية أن‬
‫صيغ الجمع على وزن ( أفعال ) كلها مؤنثة فأنت بل هم يقولون ‪:‬‬
‫هذه ( وليس هذا ) االشياء وهذه األعمال ‪ ،‬األحكام ‪ ،‬األنهار ‪،‬‬
‫األسماء ‪ ،‬وتلك األقدار ‪ ،‬األعداد ‪..‬الخ ‪ .‬فال تشذ "األمثال" عنها‬
‫وقد أنثت ( بمفردها ) بمعزل عن الحسنات في القرآن فقال تعالى ‪:‬‬
‫( وتلك األمثال نضربها للناس وما يعقلها اال العالمون )‬
‫العنكبوت ‪43 /‬‬
‫وكذلك ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪107‬‬
‫‪3‬‬
‫( وتلك األمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) الحشر ‪10 /‬‬
‫لكن اإلعتباطية ال تتدبر القرآن بل تبحث عن الشواهد ‪.‬‬
‫كذلك قال في الحاالت التي اقترنت فيها عشر بالجمع المؤنث ‪:‬‬
‫( وليال عشر ) ‪ ( ،‬ثالثين ليلة وأتممناها بعشر ) والمقصود ليال‬
‫( وإن أتممت عشر ًا فمن عندك ) ـ والمقصود حجج ‪ ( ،‬فأتوا بعشر‬
‫سور من مثله ) ‪.‬‬
‫فهل المجاز في جميع تلكم التراكيب والمعدود فيها مؤنث ؟‬

‫‪ .7‬إسناد الفعل الى غير ما هو له أصالة ‪ ( .‬أي الى غير فاعله‬


‫األصلي ) ‪.‬‬
‫الحظت أمثال ذلك في النظام القرآني ‪ ،‬وتّم تفنيد هذا النوع‬
‫المزعوم وهذه شواهد أخرى لالعتباطية ‪:‬‬
‫أ ‪ ( .‬وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا )‬
‫قالوا ‪ :‬وهو مجاز ألن الزيادة من الله ال من اآليات ‪.‬‬
‫وقد تذكر أخي القارئ مثال ( شجرة تؤتي أكلها ) وغيرها في‬
‫كتاب النظام القرآني ‪ .‬فبصفة عامة نسبت اإلعتباطية جميع األفعال‬
‫الى الله تعالى مباشرة وتركت المسببات المذكورة في القرآن‬
‫لتحقيق المجاز وإذا أخذنا آراءهم بجدية فليس ثمة فعل يصلح ألن‬
‫يكون حقيقيًا ‪.‬‬
‫وفرعون نفسه تخّلص من التهم القرآنية بفضل مجاز اإلعتباطية‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪108‬‬
‫‪3‬‬
‫ففي قوله ( يذ ِّبح أبناءهم ) ـ قالوا ‪ :‬هو مجاز ألن الفاعل األعوان ال‬
‫فرعون ! ‪.‬‬
‫بالطبع ال يقدر علماء االعتباط أن يقولوا ( للخلفاء ) الذين‬
‫يكرمونهم أن ( الِخ لع والجوائز ) ليست من الخليفة وأنه إذا قال ‪:‬‬
‫( أعطوا لفالن كذا درهم ) فالخالع الحقيقي هو ( الخادم ) الذي‬
‫يسّلمهم الدراهم ‪ ..‬صحيح أنه مجاز ولكن اإلعالن عنه خطر للغاية‬
‫!! ‪.‬‬
‫ما هي غاية اإلعتباطية من ذلك ؟ واضحة ‪ :‬آيات القرآن إذا‬
‫تليت ال تزيد اإليمان ! وليست مشكلة أن تنسب الزيادة الى ( الله )‬
‫إذا كانت آيات الله ال تتلى ألنه ال تزيد اإليمان فلماذا تتلى ؟ ‪.‬‬

‫ب ‪ ( .‬واحّلوا قومهم دار البوار )‬


‫قالوا ‪ :‬مجاز ألنهم تسببوا في كفرهم ألنهم أمروهم به ـ وهذا‬
‫يعني أنهم ( لم يحّلوا ) على الحقيقة ‪.‬‬
‫لكن شرح المجاز هو بخالف المجاز ـ النهم يقولون أنهم تسببوا‬
‫في كفرهم حيث أمروهم فالذي احَّل قومه دار البوار هم ‪ ،‬ويكون‬
‫االستعمال حقيقيًا فأين المجاز ؟‬
‫محاولة أخرى فاشلة لالعتباطية للدفاع عن جماعات محددة‬
‫أحبطتها بنفسها خالل الشرح وذلك الستعصاء صدر اآلية على هذه‬
‫المحاولة ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪109‬‬
‫‪3‬‬
‫( ألم تر الى الذين بَّدلوا نعمة الله كفرا واحّلوا قومهم دار البوار‬
‫) ‪/‬إبراهيم ‪28‬‬
‫ومعلوم أن القادة واالتباع هم في النهاية مجموعة واحدة ‪.‬‬

‫ج ‪ ( .‬عيشة راضية ) ‪ ( ،‬فإذا عزم االمر ) ‪ ( ،‬فما ربحت‬


‫تجارتهم ) ‪ ( ،‬تؤتي أكلها كّل حين ) ‪ ،‬مجازات مختلفة عندهم ‪.‬‬
‫وقد نوقشت بوضوح في كتاب ( النظام القرآني ) ‪.‬‬

‫‪ .8‬إطالق اسم الكل على الجزء وعكسه ‪.‬‬


‫مرت مناقشة هذا القسم وشواهده وهذه جملة من الشواهد‬
‫األخرى ‪.‬‬
‫أ ‪ ( .‬فو ّلوا وجوهكم شطره )‬
‫قالوا ‪ :‬أي ذواتكم إذ االستقبال يجب بالصدر ‪.‬‬
‫ربما تعتقد اإلعتباطية أن هناك ( ذوات ) وجوههم في جهة‬
‫معاكسة لجهة صدورهم ‪ ،‬أو ذوات يصّلون ورؤوسهم تنظر الى‬
‫الوراء !! ‪.‬‬
‫كّل ذلك إذا كان الوجه على االصطالح ! أما إذا كان الوجه على‬
‫المعنى األعم في القصدية فالمصيبة أعظم ‪ .‬فلماذا عدلت االعتباطية‬
‫بالتوجه من الوجوه الى الصدور ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪110‬‬
‫‪3‬‬
‫على ذلك كان يجب على إبراهيم (ع) أن يقول ( وّج هت صدري )‬
‫ال ( وّج هت وجهي ) ! ‪.‬‬
‫( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات واألرض حنيف ًا وما أنا‬
‫من المشركين ) األنعام ‪79 /‬‬

‫ب ‪ ( .‬ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام )‬


‫قالوا ‪ :‬أي ذاته ‪.‬‬
‫نست اإلعتباطية أن ( ذاته ) تعالى منزهة من حيث أرادت‬
‫التنزيه ـ فال يضع نفسه األزلية مقابل الموجودات الفانية فال يقول‬
‫( كّل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجالل واإلكرام ) ـ ليكون‬
‫جزًء ممن عليها ‪ .‬فالتفسير االعتباطي لم يفعل شيئا سوى تأكيد‬
‫( الالتنزيه ) من خالل محاولة ظاهرها التنزيه ‪.‬‬
‫أما الوجه فهو كما هو في اّللغة لم يتغير ولم يتبدل معناه ‪ ،‬وال‬
‫يفنى مثل بقية الموجودات ألنه ارتبط به من جهة الربوبية ـ وهي‬
‫الكائنات التي عبدته مقرة بفنائها ‪ .‬اقرأ البحث الحادي عشر‪.‬‬

‫ج ‪ ( .‬وجوه يومئذ ناعمة ) و ( وجوه يومئذ خاشعة )‬


‫قالوا ‪ :‬األصل ‪ :‬األجساد وعدل عنه الى الوجوه ‪.‬‬
‫الحظ كيف تجعل اإلعتباطية الوجوه مرة أجساد ًا ومرة ذواتًا ! أو‬
‫ليس ظهور النعيم والخشوع على الوجوه خصوصًا ؟ وإذا القى‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪111‬‬
‫‪3‬‬
‫المرء صديقه وقال ‪ ( :‬قد تغّيرت بعدي ) ـ أنفهم منه أنه أدرك‬
‫التغيير بالنظر الى قدمي صديقه أو بطنه أم عند النظر الى وجهه‬
‫؟! ‪.‬‬
‫لذلك قال في موضع آخر ‪ ( :‬تعرف في وجوههم نظرة النعيم ) ـ‬
‫حيث لم تأت به االعتباطية كشاهد على المجاز ألنها ال تقدر على‬
‫إبداله الى ( أجساد ) ‪.‬‬
‫ومثله قوله تعالى ‪ ( :‬يد الله فوق أيديهم ) حيث زعموا أنها‬
‫قوة وسلطان أو سلطان والغاية من ذلك صرف اليد على االصطالح‬
‫عن أن تكون له تعالى ‪ .‬وهذا وهم آخر أو تحريف ظاهره التنزيه ‪.‬‬
‫أوًال ‪ :‬ألن اليد ليست مقصورة على اليد على االصطالح بل هي في‬
‫نفس االصطالح ليست محددة بالذراع في االستعمال لكن لن تكون‬
‫بأية حال هي عين السلطان والقوة ‪ .‬فاللفظ له أصل ويمكنك مالحظة‬
‫األصول في كتابنا اللغة الموّح دة ‪ .‬وثانيًا ‪ :‬هل هذه هي محنتهم‬
‫بالفعل ؟ ال وربك ليست هي ! ألن لله تعالى يٌد فعلية مثل يد اإلنسان‬
‫وأنها ليده ! وليست يد عدوه ! ذلك ألن اإلضافة ال تعني الجزئية‬
‫فمن أين جاء هذا القانون ؟ بل هي لفظة مضافة مثل أية لفظة أخرى‬
‫‪ ( :‬أرض الله ) ‪ ( ،‬ناقة الله ) ـ فما العجب في أن تكون لله يد غير‬
‫متصلة كما له أرض ليس سكناه فيها ؟ وناقة ال يشرب منها ؟! ‪.‬‬
‫الزخرف ‪63 /‬‬ ‫د ‪ ( .‬وألبّيـن لكم بعض الذي تختلفون فيه )‬
‫قالوا ‪ :‬أي كّله ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪112‬‬
‫‪3‬‬
‫الحظ كيف تحّو ل اإلعتباطية اللفظ الى آخر ولو كان عكسه ‪.‬‬
‫ويشير النص القرآني إلى أنهم اختلفوا بعد المسيح (‪...‬ولكن‬
‫اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) ‪.‬‬
‫فمن أين تعلم اإلعتباطية وجه االختالف ( في الذين من بعدهم )‬
‫لتحّدد أنه ( كله ) ال بعضه ؟ وهي ال تعلم القرآن أيضًا والذي يقّص‬
‫على بني إسرائيل ( أكثر ) ال كّل الذي يختلفون فيه ؟!‬
‫واالعتباطية ال تفّر ق بمرادفاتها بين ( الكتاب ) و ( القرآن ) و (‬
‫ما أنزل ) كالقصدية ؟!‬

‫‪ .9‬إطالق المصدر على المفعول ‪.‬‬


‫من بعض شواهده ‪:‬‬
‫أ ‪ ( .‬وال يحيطون بشيء من علمه )‬
‫قالوا ‪ :‬أي من معلومه ‪.‬‬
‫ال أشك أنك تالحظ ـ أيها القارئ النبيه أن اإلعتباطية ترغب في‬
‫إيجاد مجازات أكثر من رغبتها بأي شيء آخر ‪ ،‬فالمجاز‬
‫واالعتباطية ـ في الجانب اللغوي يظهران كما لو كانا هما الغاية‬
‫وبالطبع هناك هدف نهائي ولكنه قطع ًا ليس فهم اّللغة ‪.‬‬
‫رأيت في كتاب النظام القرآني أن اإلعتباطية جعلت ( ال يحيطون‬
‫) مجاز ًا ‪ ،‬وتالحظ هنا أنها جعلت ( من علمه ) مجاز ًا آخر ‪،‬‬
‫والمتكلمون أخذوا ( الشيء ) بالنسبة للذات والعلم ـ وهو عند‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪113‬‬
‫‪3‬‬
‫بعضهم مجاز ثالث ‪ .‬والنتيجة ثالث مجازات متجاورة في تركيب من‬
‫أربع مفردات من آية الكرسي ! ‪.‬‬
‫ثالث مفردات ليست حقيقة في االستعمال من آية تعد ( أعظم )‬
‫آية نزل بها الوحي اإللهي في التاريخ البشري ‪.‬‬
‫وإذا أخذنا معنى ( اآلية ) بمعناها المطلق وفسرنا الحديث‬
‫النبوي الشريف بهذا اإلطالق فهي أعظم آية كونية أيضًا ـ ألنه ال‬
‫فرق في منطق النبي ( ص ) بين اآليات الكونية والكالمية سوى‬
‫التفاضل في العظمة والكبر ـ و القرآن سمى الجميع آيات ‪.‬‬
‫هل تعتقد أيها القارئ أن العلم بالشيء هو والشيء المعلوم‬
‫سواء ؟‬
‫إذا كنت ال تعتقد أن علم الفلك هو نفس الفلك فان تحويل العلم‬
‫الى المعلوم هو نوع من التحريف والذي ال تخفى عليك أهدافه‬
‫المتعلقة بالذات اإللهية وصفاتها المستقلة عن الكائنات بوجودها ـ‬
‫وهي نفس الخصائص التي تؤكدها عبارات ( حي ـ قيوم ـ ال تأخذه‬
‫سنة ـ وال نوم ـ له ما في السماوات واألرض ) ‪.‬‬
‫أما ( اإلحاطة فقد فنّـدنا المجاز المذكور في هذا اللفظ سابقا‬
‫فراجعه ) ‪.‬‬
‫ب ‪ ( .‬صنع الله )‬
‫قالوا ‪ :‬األصل ‪ :‬المصنوع ‪.‬‬
‫من المعلوم أن الصنع غير المصنوع ‪ .‬فالصنع مفرده تشير الى‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪114‬‬
‫‪3‬‬
‫فاعلية الصانع وغاياته والمصنوع نتاج للصانع ‪.‬‬
‫واالعتباطية ال تتأمل بالمفردات المجاورة وال شأن لها بها والتي‬
‫توضح القصدية في اختيار اللفظ ( صنع الله الذي أتقن كّل شيء ) ‪.‬‬

‫ج ‪ ( .‬فإنهم عدّو لي اال رب العالمين )‬


‫قالوا ‪ :‬األصل ‪ :‬أعداء‬
‫وهذا ليس داخًال ضمن هذا الباب ولكنهم وضعوه فيه لعدم وجود‬
‫باب خاص به ‪.‬‬
‫ألن ( عدو ) في اآلية ليس مصدر ًا ـ فالعدو يمكن أن يكون فرد ًا‬
‫أو أفراد ًا كثيرين مجتمعين على أمٍر ما ‪.‬‬
‫وقال بعضهم ‪ ( :‬ولذلك أفردوه ) ـ والمصدر هو ما في قوله‬
‫تعالى على صورة الحال ( عْد و ًا وظلم ًا ) فعبارة ( ولذلك أفردوه )‬
‫هي من أوهام اإلعتباطية ـ ألن العّدو هو صفة بمعنى كثير العداء ‪( .‬‬
‫عدا ـ يعدو ـ عْد و ًا ـ فهو عاد(ي) وعدّو ) والعرب تقول هؤالء الناس‬
‫عدٌو لنا ـ أي كثيرو العداء ‪ ،‬ويستعمل للجمع والمفرد سواء لوجود‬
‫الكثرة في داخله كحركة ( انظر اّللغة الموّح دة ) ‪.‬‬

‫د ‪ ( .‬وجاءوا على قميصه بدم كذب )‬


‫قالوا ‪ :‬األصل مكذوب فيه ألن الكذب من صفات األقوال‬
‫واألجسام ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪115‬‬
‫‪3‬‬
‫لكن إذا كان الجسم يشير الى واقعة أو خبر ـ أفال يوصف الجسم‬
‫بالكذب لتعّلقه بهذه االشارة مثل الدم المسفوك يمكن أن يكون صدقًا‬
‫أو كذبًا ؟ ذلك ألن الكذب صفة ال اسم ‪.‬‬
‫لقد الحظت أمثلة كثيرة في ( النظام القرآني ) استعمل في‬
‫تخريجها ( االصطالح الذهني ) ‪ ،‬وهو شيء ال عالقة له بعلم اّللغة‬
‫من حيث أن االصطالح هو ( الموضوع ) النقدي لهذا العلم ‪ .‬وقد‬
‫أشكلنا على ذلك باشكاالت كثيرة والكذب هنا ليس مصدر ًا إنما هو‬
‫صفة يوصف بها ما هو غير حقيقي جسم ًا كان أو قوًال ( فإذا رأيت‬
‫دمية على هيئة أسد يجب أن تقول ( هذا أسد كذب ) ألن اللفظ صفة‬
‫مثل ‪ ( :‬خشن ) تصلح لوصف األجسام وغيرها ) ‪.‬‬

‫هـ ‪ .‬آيات متفرقة ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار ) ‪،‬‬
‫( وحَّر منا عليه المراضع ) ‪ ( ،‬ماء دافق ) ‪ ( ،‬حجابا مستورا ) ‪.‬‬
‫لوحظت جميع ًا في كتاب النظام القرآني ‪.‬‬
‫استعمال الحروف في غير معانيها ‪.‬‬ ‫‪.10‬‬
‫في هذا الصنف ال يمكن اإلحاطة بالموارد فهي بالمئات ‪ .‬وقد‬
‫جاءك أمثلة منها في كتاب النظام القرآني ـ ونناقش القسم األكبر في‬
‫أجزاء من كتاب ( اّللغة الموّح دة ) حيث يتوجب إعادة المعاني‬
‫المختلفة للحروف الى أصل الحركة ونمر كذلك ببعض الموارد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪116‬‬
‫‪3‬‬
‫القرآنية ‪.‬‬
‫الحذف ‪:‬‬ ‫‪.11‬‬
‫وعّدوه من المجاز وهو أسوأ منه في تدمير اّللغة والتجاوز على‬
‫النصوص بأنواعها وليس على النص القرآني فقط وهو ما تالحظه‬
‫في الموضوع الالحق ( المبحث الثالث عشر ) ‪.‬‬
‫موارد الحذف بالمئات وال يمكن اإلحاطة بها وقد سقنا نماذج‬
‫منها في كتاب النظام القرآني ‪.‬‬

‫‪ .12‬التشبيه ‪:‬‬
‫عَّده بعض االعتباطيين من المجاز ـ وعارض ذلك األكثرية ‪.‬‬
‫ونقل السيوطي عن عز الدين أنه قال إذا كان بحرف ( أي حرف‬
‫تشبيه ) فهو حقيقة وان حذف فهو مجاز ‪ .‬وهو كثير أيضا ‪ .‬ويبدو‬
‫أن من ( قّدر ) فيه مفردات من عنده فهو يعَّده من المجاز ومن لم‬
‫يفعل اعتبره حقيقة ‪ .‬وتأتي أمثلة في سلسلة النظام القرآني من غير‬
‫حرف تشبيه نثبت فيها أنه حقيقية فيها ‪.‬‬

‫‪ .13‬الموضوعات الشرعية ‪ :‬مثل الصالة ‪ ،‬الصوم ‪ ،‬الحج ‪ ،‬الزكاة‬


‫‪ ،‬الصدقة ‪.‬‬
‫أرادوا اعتبارها مجازات واختلفوا فيها ثم استقر الرأي على‬
‫اعتبارها حقائق في الشرع ‪ ،‬مجازات في نظر اّللغة فمِّك ن هذا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪117‬‬
‫‪3‬‬
‫( االتفاق ) الضمني الفقهاء من االجتهاد في األحكام ومَّك ن علماء‬
‫الكالم من االستفادة منها لتأكيد مذاهبهم المختلفة ما دامت مجازات‬
‫لغوية ‪.‬‬
‫وبهذا استطاع االعتباط من خالل المجاز تحقيق الجزء األكبر من‬
‫غاياته وأهدافه وهو تقطيع القرآن وإسقاط االحتجاج به من خالل‬
‫التداخل بين الحقيقة والمجاز وتجزئة العقيدة الى أصول وفروع ال‬
‫تنسجم مع بعضها البعض ـ وذلك عدا الطرق االخرى مثل اإلبهام‬
‫وتعدد الوجوه والتقديم والتأخير وغيرها والتي أدت كّل منها ما كان‬
‫مخطط ًا لها من أهداف في اإلعتباطية ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪118‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الثاني عشر‬
‫قيمة النص عند اإلعتباطية‬

‫هذا العنوان من مباحثنا اإلضافية ‪ ،‬إليضاح القيمة التي تراها‬


‫اإلعتباطية في النص ‪ .‬إذ يتوّج ه الى نفس النص ( علماء ) كثيرون‬
‫باتفاق أو بدونه أو باتفاٍق ضمنٍّي لتفسيره فيكشف أحدهم نوعًا من‬
‫المجاز ويكشف اآلخرون أنواعًا أخرى وقد يتحول النص بكامله الى‬
‫مجاز في نهاية األمر ‪ .‬فالعمل التطبيقي لالعتباطية هو اآلخر‬
‫اعتباطي الشكل ـ ألن التفسيرات تتصادم فال ينتبـه علماء االعتباط‬
‫الى التصادم وإنما يذكرها المتأخرون على أنها ( أقوال ) أو ( آراء‬
‫) قد تجتمع ‪ ،‬وقد يأتي المجاز الالحق ليصحح السابق ‪.‬‬
‫فمثًال ‪ :‬رأيت أنهم في النص القرآني ‪ ( :‬وال يحيطون بشيء من‬
‫علمه ) قرروا في النحو فقط مجازين ‪ :‬من علمه أي معلومه و‬
‫( يحيطون ) قالوا ‪ :‬اإلحاطة مجازية وحسب عباراتهم ( ليست‬
‫كإحاطة السوار بالمعصم ) ‪ .‬المجاز الثاني جاء إلصالح التخريب‬
‫الذي فعله االول ‪ .‬ألن المعلومات بعلمه كالشمس والنجوم ال يمكن‬
‫اإلحاطة المادية بها ـ إذ اإلحاطة المادية عندهم هي االستعمال‬
‫الحقيقي ‪ ،‬بينما المسألة من األصل أن المعلوم غير العلم ‪.‬‬
‫وحينما يأتي المفسرون لشرح النص فكٌّل حسب ما يقع في يده‬
‫من اآلراء اللغوية ـ يقوم بتفسير النص معتمد ًا على تلك اآلراء‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪119‬‬
‫‪3‬‬
‫والتي ستختلف حتم ًا عند ورود مثل ألفاظها في نص آخر لنفس‬
‫المتكلم ‪.‬‬
‫فالنتائج اإلعتباطية ال تتراكم فوق بعضها البعض وتعلو بل‬
‫تتكدس متجاورة مثل أي بحث اعتباطي كالفكر الفلسفي مثًال ـ‬
‫وحينما ُتحرج في بعض الموارد والنتائج المتناقضة فإنها تحاول‬
‫تبريرها بالطرق ( الذرائعية ) أو األساليب السوفسطائية وتقوم‬
‫بتقدير جمل أو مركبات أو حروف أو ألفاظ من عندها إتمام ًا لنتائج‬
‫العمل االعتباطي ‪.‬‬
‫إن اإلعتباطية ال تحترم النص أبد ًا وال تنظر إليه على أنه ُم لِك‬
‫المتكلم أو القائل بل تنظر إليه على أنه ( ملكها هي ) ـ وتلك في‬
‫الحقيقة ليست مشكلة لغوية وإنما هي مشكلة فكرية وأخالقية ‪ .‬ذلك‬
‫ألن رجال اإلعتباطية أنفسهم يرغب كّل منهم أن يؤتيه الله ( دينًا )‬
‫على حسب مطالبه وهو يريد أن يختار في داخل ( الدين ) الواحد‬
‫دينًا آخر يخ َّص ه وينسجم مع تطلعاته وقد عَّبر القرآن عن ذلك بالقول‬
‫‪:‬‬
‫المدثر‬ ‫(بل يوّد كّل امرئ منهم أن يؤتى صحف ًا منشرة )‬
‫‪52 /‬‬
‫ويخبرنا النظام القرآني ـ كما سوف ترى في مؤلفات الحقة بإذنه‬
‫تعالى أنه ليس من أحد يشك في اإلله نفسه كما ال يشك أحد أن الله‬
‫يرسل رسًال وإنما أكثر الناس ال يؤمنون لسبب آخر هو الذاتية التي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪120‬‬
‫‪3‬‬
‫ال تتطابق مع متطلبات اإلذعان للرسل والتسليم ألمرهم ‪ .‬فالحيلة‬
‫اإلنسانية حاولت التخلص من هذا اإلشكال من خالل الجمع بين‬
‫األمرين ‪ :‬اإليمان بالرسل بشكل عام إذا اقتضت الضرورة وتفسير‬
‫مقوالتهم وكتبهم بطريقه ذاتية ‪ .‬ولذلك فإننا نجد عند المقارنة أن‬
‫اإلعتباطية نفسها تحرص حرصًا شديد ًا على المحافظة على نصوص‬
‫بعضها البعض لحِّد ضبط أخطاء النّس اخ بحرف أو حرفين وإطالة‬
‫الكالم حول لفظ غامض في أحد السياقات ‪ .‬وحينما يعجبها تكثير‬
‫( قراءات ) النص القرآني الى أقصى حٍّد فهي ال تتالعب بالنص‬
‫اإلنساني وال تقدم أو تؤخر أو تقِّدر في هذا النص ‪ ،‬بل الرجوع الى‬
‫النص الشعري وضبط حروفه هو أحد الطرائق المستعملة عند نحاة‬
‫البصرة والكوفة إلبطال قواعد بعضهم البعض كما هو الحال في‬
‫شواهد كثيرة تالحظها في كتب الخالف ‪ .‬في حين أنها ال تتعامل مع‬
‫النص القرآني بحذر كهذا ‪ ،‬بل تبحث عن قراءة شاذة أو سياق شاذ‬
‫وتبتكر من نفسها قراءة معينة لتبرير الوجه النحوي ‪ .‬وما ذلك اّال‬
‫ألن القرآن هو الهدف النهائي من العملية اللغوية برمتها ‪.‬‬
‫وهذا يعني أن اإلعتباطية تدرك جيد ًا أن ( النص ) أثر من اآلثار‬
‫يدل على مقاصد المتكلم وهو محَّر م على التالعب حرمة النص‬
‫األثري ( األثر المادي ) ‪ ،‬وإن التقديم والتأخير وتقدير ألفاظ معينة‬
‫داخل السياق إنما هو محاولة لمشاركة القائل في وضع النص ‪.‬‬
‫ويفترض أننا إذ نحاول تقييم العمل اللغوي أن ندرك مسبق ًا أن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪121‬‬
‫‪3‬‬
‫علم اّللغة تتداعى فيه كافة التيارات واالتجاهات المختلفة ـ ألن الفكر‬
‫بمختلف فروعه إنما يعتمد على اّللغة كأداة وحيدة لظهور األفكار ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فان تقييم العمل اللغوي ليس أمر ًا يسير ًا وفي‬
‫اعتقادي أن أعلى العلماء رتبة ال يستطيع القيام بذلك ما لم يتصف‬
‫بالحكمة قبل كّل شيء ألن اّللغة وأسرارها أكبر من العقل العادي‬
‫بكثير ‪ ،‬أو كما قال الشافعي ال يدركها اّال نبي ‪ ،‬أي أن التقسيم يجب‬
‫أن يتوافر على ارتباط الفكر عموم ًا بعلوم اّللغة المتنوعة وهذا عمل‬
‫عسير للغاية ما لم يعتمد على ( مسلمات ) يتمّك ن المرء من‬
‫الحصول عليها بطريقة مستقلة ‪.‬‬
‫ربما أكون قد أوضحت شيئًا من هذه الفكرة في ( النظام القرآني‬
‫) والذي يحدد لنا بطريقه صارمة تختلف عن المتعارف عليه‬
‫العالقة بين الخالق والمخلوق وبهذه الطريقة وبهذا النظام يمكن‬
‫السير قدم ًا في استخراج الحقائق بعضها من بعض ‪.‬‬
‫فمن تلك الحقائق ‪ :‬إن اإلعتباطية فكر عام في كّل فرع من فروع‬
‫المعرفة اإلنسانية باستثناء علم الطبيعة والذي ال يسمح بعد تكّر ر‬
‫التجارب وظهور الحقائق الصارمة بفوز الذاتية ‪ ،‬فهي تأخذ طريقها‬
‫الخاص بها في كّل فرع من فروع المعرفة األخرى ‪ .‬فاعتباطية اللغة‬
‫هي من المصادر األساسية التي تعمل بها كافة الفروع ‪.‬‬
‫إن إصرار اإلعتباطية على تكثير المجاز والمبهم واالستعارة في‬
‫النص القرآني دون سواه ـ إّال ما أريد به مهاجمة النص القرآني في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪122‬‬
‫‪3‬‬
‫النتيجة ـ وبلوغها حد ًا أن تعتقد أن عبارة ( ال إله إال الله ) هي‬
‫عبارة مجازية ‪1‬ينطوي على مسألة فلسفية ال لغوية وحسب ‪ .‬فمثًال‬
‫كان إنكار المادية التاريخية ( للحقيقة المطلقة ) واعتبارها الحقائق‬
‫نسبية هو ناتج حتمي للتفكير المادي ينسجم مع مقدماته ‪.‬‬
‫واالعتباطية تحاول االستقالل عن التسليم للرسل بطريقتها فهي‬
‫تجعل عبارة الحقيقة المطلقة نسبية في المعنى والنتيجة واحدة ‪.‬‬
‫فالمجاز على التعريف هو غير الحقيقة ‪ .‬وما المفاجآت التي‬
‫تحدث يوم القيامة اال من هذا النوع ( يوم ندعو كّل أناس بإمامهم )‬
‫ـ فمن المحتمل أن يأتي السيوطي مفسّـر القرآن خلف ماركس أو‬
‫يأتي ماركس صاحب رأس المال خلف السيوطي ـ والذين ال يفاجئون‬
‫بمثل هذه الحوادث حسب النظام القرآني هم فقط ( الذين أوتوا العلم‬
‫) وتعريف العلم هنا بأل التعريف مقصود إذ المراد منه العلم الذي‬
‫يجمع العلوم ويوصل الى نوع من الحكمة ألن هذا النوع هو الوحيد‬
‫المرتبط بالنوايا والتسليم باألمر الواقع والوحيد الذي يمكن أن‬
‫نعرّفه على أنه هو ( العلم ) ! فمعرفة ( المافوق ) شيء وطاعته‬
‫شيء آخر وهذا أمر متعارف عليه ‪ ،‬ولكنه في ( الدين ) بصفة‬
‫خاصة أصبح معكوسًا أو مختلف ًا حيث حاولت اإلعتباطية الربط بين‬
‫كمية المعلومات والطاعة ‪ ،‬فالكافر عند اإلعتباطية هو المنكر لوجود‬
‫الله أو الذي ال يعرفه أو المنكر للنبوة في حين أن النص القرآني‬

‫‪1‬‬ ‫( الحظ دفاع السيوطي في اإلتقان عن مجازية العبارة ‪ /‬ج‪ / 89 / 2‬دار الكتب العلمية )‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪123‬‬
‫‪4‬‬
‫ينبّـهنا الى أن الكفر هو قضية ذاتية واإليمان قضية ذاتية ال عقلية‬
‫وأن هناك نوعًا واحد ًا فقط من الشرك هو الشرك العقلي المنحى ‪.‬‬
‫لذلك خاطب هذا الشرك بالقضايا العقلية وضرب األمثال وساق له‬
‫األدلة ‪ ،‬ألنه عبارة عن خطأ عقلي يغفر ثم يبدأ المرء بعقل جديد‬
‫ويحاسب على المعرفة العقلية الجديدة بعد اتخاذه هذا الموقف ‪.‬‬
‫أما الكفر واإليمان فليس فيهما ذلك االتجاه العقلي ألن مصدرهما‬
‫االرادة الذاتية ‪ .‬فالذي يؤمن بالله ورسله وكتبه ولكنه في فقرة‬
‫واحدة من مئات الفقرات يحاول التشريع فيها ومشاركة اإلله على‬
‫أي نحو كان لغويًا أو فقهيًا أو كالميًا فقد كفر بتلك الفقرة من‬
‫التشريع ‪ .‬وإذا بقي على هذا الحال فهو عند الله كافر ألن الله قد‬
‫سّن قاعدة ذكر فيها أن الكفر بالبعض كفر بالكل وجعل إبليس مثًال‬
‫لذلك حينما قام بتفسيٍر خاٍص وذاتي المنحى لعملية خلقه وخلق آدم‬
‫‪ ،‬في حين كانت غايته تحقيق ( وجوده الذاتي ) مقابل ( الوجود‬
‫الذاتي ) لإلله ‪ .‬قال تعالى ‪:‬‬
‫( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض أولئك هم الكافرون حقا )‬
‫النساء ‪.150 /‬‬
‫فمثل هذا المخلوق يكشف عن طبيعته الخاصة من خالل تجربة‬
‫ذاتية مع األوامر االلهية ‪.‬‬
‫وإذن فمعرفة اإلله شيء وطاعته شيء آخر ‪ .‬فيظهر من ذلك أن‬
‫اإليمان الفعلي ال يبدأ اال حين التخلص من تلك الذاتية ‪ .‬أي من‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪124‬‬
‫‪3‬‬
‫لحظة التسليم والتي تعني اإلقرار بالالشيئية والفناء ‪ .‬وهذا الفهم‬
‫هو الذي حاولت اإلعتباطية القضاء عليه ‪.‬‬
‫ومن المعروف أن هذه العملية ليست عمد ّية على مستوى األفراد‬
‫فرد ًا فرد ًا بصوره دائمة ‪ .‬فاالعتباطية وهي ( فكر عام ) وعقيدة‬
‫معينة تج ِّند لنفسها أعداد ًا كثيرًة تقوم بخدمة الفكرة بصورة غير‬
‫واعية أحيانًا ‪ .‬وتقوم اإلعتباطية بمداعبة الالوعي والرغبات الكامنة‬
‫في النفس لتحقيق ذاتها بخدعة كبيرة تؤمن بها مثلما يفعل الشيطان‬
‫تمام ًا ‪ .‬والناس ينجرفون في الفكر بطريقة أسهل وأسرع من‬
‫االنجراف في السلوك الذي ينعكس عن الفكر ـ فاالنجراف في الفكر‬
‫هو البداية لكل سلوك خارجي يظهر على الساحة ‪.‬‬
‫أما التناقضات التي أفرزتها اإلعتباطية والمشاكل التي وقعت‬
‫فيها فال يمكن إحصاؤها ألن اإلعتباطية تيارات محدودة تجتمع في‬
‫هذه الصفة أي في النظرة اإلعتباطية للغة وبالتالي اإلعتباطية في‬
‫الفكر والسلوك ‪ .‬فمحاولة جمع آثارها مرة واحدة هو ضرب من‬
‫الخيال ‪ ،‬فهي تضم على مستوى المذاهب المجموعات المذهبية كلها‬
‫وعلى مستوى الفلسفة االتجاهات الفلسفية جميع ًا وعلى مستوى‬
‫اّللغة والنقد المدارس اللغوية والنقدية كلها ‪.‬‬
‫أما القصدية فإنها تظهر بصورتها الفردية المنعزلة دائم ًا ـ‬
‫والعزلة هي ( سلوك ) جميع األنبياء ( ع ) واألولياء قبل صدور‬
‫األمر اإللهي بوجوب القيام بالتبليغ ‪ .‬فهي تظهر في إبراهيم (ع) ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪125‬‬
‫‪3‬‬
‫( واعتزلكم وما تعبدون )‬
‫وفي مريم (ع) ‪:‬‬
‫( فاتخذت من دونهم حجابا )‬
‫وفي عيسى (ع) في الفترة الواقعة بين تكليمهم في المهد وكهًال‬
‫‪:‬‬
‫( ويكلم الناس في المهد وكهال )‬
‫وفي يوسف (ع) من غيابت الجب الى السجن وفي أصحاب‬
‫الكهف (ع) ‪:‬‬
‫( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون )‬
‫وفي صالح (ع) ‪:‬‬
‫( قد كنت فينا مرجوا )‬
‫وفي رسول الله محمد (ص) ‪:‬‬
‫(فقد لبثت فيكم عمر ًا من قبله أفال تعقلون )‬
‫وبصفة عامة في جميع الرسل واألولياء مثل الساكن في ( مجمع‬
‫البحرين ) ومؤمن آل يس الذي جاء يسعى من أقصى المدينة ـ وهي‬
‫عبارة تدل على السكن بعزلة في األطراف ـ واللفظ األخير موجود‬
‫في تفسير لآلية عن اإلمام علي ( ع ) حيث قال ‪:‬‬
‫( كان قد اعتزل قومه قبل مجيء الرسل ) ‪.‬‬
‫فالقصدية إذن فرد ّية في وجودها ‪.‬‬
‫وقد يقال ‪ :‬لماذا لم تو ّض ح القصدية فكرتها وتحاول تعميمها كما‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪126‬‬
‫‪3‬‬
‫تفعل اإلعتباطية ؟ ‪.‬‬
‫واإلجابة على ذلك واضحة وعسيرة في آٍن واحٍد فهي واضحة‬
‫من حيث أن القصدية قامت بما يجب عليها من التوضيح فهذا بشكل‬
‫عام ‪ ،‬ولكنها عسيرة من حيث أن اإلعتباطية قامت بما هو مناسب‬
‫من العمل المضاد إلخفاء هذا التوضيح باعتبارها قِّيمة على تراث‬
‫وأرث القصدية فاحتوته وفَّر قته ثم في الخطوة الثالثة أجهزت عليه‬
‫أو ألبسته لباسًا آخر ًا فاإلجابة تكون عسيرة من جهة أنها تحتاج الى‬
‫تفصيل وإعادة إلرث الجماعات كلها ‪.‬‬
‫ويقوم مبدأ اإلعتباطية على فكرة تحويل ما هو يقيني الى‬
‫مشكوك فيه ‪ .‬فإن من طبيعة اإلعتباطية أنها تنكر الحقائق المطلقة‬
‫وتحمل الناس على هذا اإلنكار الذي تزرعه في النفوس زرعًا وإن‬
‫لهجت األلسن باإلقرار بالحقائق فهذا اإلقرار ال أهمية له وهو‬
‫الشيء الوحيد الصحيح منطقيًا في كّل الفكر االعتباطي ‪.‬‬
‫ويشير القرآن بوضوح الى اإلرث المشكوك فيه عند اإلعتباطية‬
‫بقوله ‪:‬‬
‫( وان الذين أورثوا الكتاب لفي شك منه مريب ) الشورى ‪14 /‬‬
‫ومعلوم أنه يتحدث عن الكتاب باعتباره حقيقة من الحقائق ال‬
‫شك فيها وأن الذين يشكون هم الذين أورثوا الكتاب وهم بالطبع‬
‫الجماعات الق ِّيمة عليه ظاهريًا والتي تتبنى اطروحاته وتوِّض حها ‪،‬‬
‫فالقرآن يتهم بصراحة واضحة علماء األديان كونهم أول الناس شك ًا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪127‬‬
‫‪3‬‬
‫في الكتاب وعملهم بالتالي هو تعميم هذا الشك ‪ .‬وفي لفظ ( أورثوا )‬
‫بالبناء للمجهول قضية من قضايا النظام القرآني المهولة في‬
‫إعجازه ال تتوضح اّال باستعراض االقترانات فموضعها ليس هنا ‪.‬‬
‫وقد تسأل سؤاًال آخر ًا ‪ :‬إذا كانت القصدية فردية في وجودها‬
‫وغريبة عن هذا العالم بما تتميز به من حكمة وترى أن الفكر‬
‫اإلنساني ما خال القصدي فيه هو فكر اعتباطي ‪ ،‬وأن التوجه الى أحد‬
‫االتجاهين ( الكفر أو اإليمان ) هو أمر ذاتي المنشأ مرتبط بالدرجة‬
‫األولى بنظرة اإلنسان الى نفسه والى الله والى العالم فإذا كان‬
‫مسِّلما للخالق تسليم ًا كامًال فهو قصدي وإذا كان غير ذلك بدرجة ما‬
‫فهو اعتباطي ـ إذا كان األمر كذلك فما الداعي لمثل هذه األبحاث ؟‬
‫والجواب قريب جد ًا من الذهن فالداعي هو استدعاء أكبر عدد‬
‫من األفراد القصديين الذين يعملون بال وعي منهم وال إدراك في‬
‫خدمة اإلعتباطية ليعودوا الى اتجاههم األول وينتموا الى ما يرغبون‬
‫في االنتماء إليه والذي احتوته اإلعتباطية بكثرة تآليفها وتنوع‬
‫اتجاهاتها المختلفة ظاهريًا فقط ‪ .‬ذلك ألنهم إذا كانوا مقِّر ين‬
‫بالعبودية لله فعًال فليس ثمة عند الله إال انتماءين مصير أحدهما‬
‫الجنة وأفراده هم ‪:‬‬
‫( ثلة من األولين وقليل من اآلخرين ) الواقعة ‪13 /‬‬
‫ومصير اآلخر النار وهو االنتماء الذي يضم أمم ًا وشعوبًا كاملة‬
‫‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪128‬‬
‫‪3‬‬
‫( كلما دخلت أمة لعنت أختها ) األعراف ‪38 /‬‬
‫فهؤالء األفراد على قّلتهم هم في منتهى األهمية من ثالث نواح ‪:‬‬
‫األولى حرمان اإلعتباطية من جهودهم واستغالل قدراتهم والثانية‬
‫استحقاقهم الشخصي لبذل أي جهد ممكن إلرجاعهم وانتفاع القصدية‬
‫بهم ولهذين األمرين أهمية في سير األحداث وحركة التاريخ ‪ ،‬ألن‬
‫األمر الثالث وهو ( إرضاء الرب ) تفسيره الوحيد هو إتمام الشروط‬
‫المتعلقة بفعل اإلنسان إلتمام تحقيق إرادته من وجود هذا العدد‬
‫القليل ‪ ،‬فما دام الخلط مستمر ًا تبقى مشيئة تحقيق اإلرادة وتغير‬
‫العالم معلّـقة الى اجل غير مسمى تسمية محتومة ‪ .‬إذن فغاية هذه‬
‫األبحاث هي اإلسراع بهذا التغيير المنشود ‪.‬‬
‫والفكر القصدي هو أصًال لهذه الغاية التي تحقق له الهدف األبعد‬
‫( عالم آخر ) أي تمييز القصدي عن االعتباطي فيتوجب على‬
‫القصدي أن يعرف نفسه ويميزها عن التيار االعتباطي ‪ .‬وقد أكد‬
‫القرآن على ذلك في مواضع عديدة ‪ .‬فالفرز بين االتجاهين هو‬
‫المدخل الى الجنة وهذا المدخل هو بداية التغيير ‪:‬‬
‫( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم‬
‫الصابرين )‬
‫األنعام ‪142‬‬
‫وهذا فرز بين المجموعة المتصفة بذلك واألخرى والتي لم تذكر‬
‫باأللفاظ ألنها واضحة فهي الضد والنقيض لألولى وقد ذكرت في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪129‬‬
‫‪3‬‬
‫اآلية السابقة ألن هذه اآلية جاءت عقب إرادة التمحيص ‪:‬‬
‫( وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ) ‪.‬‬
‫فالفئة االخرى مذكورة لفظ ًا في ما قبلها مباشرة ‪ .‬وكذلك في‬
‫موضع اخر حيث الهدف هو إخراج المجموعه المقصودة من هذا‬
‫الكل ‪:‬‬
‫( ماكان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث‬
‫من الطيب )‬
‫آل عمران ‪. 179‬‬
‫فلو تأملت لفظ "المؤمنين" ثم االلتفات الى الخطاب "ماأنتم‬
‫عليه" ألدركت عالقات الكّل بالمجموعة المقصودة ‪.‬‬
‫في اآلية السابقة كان دخول الجنة مشروط ًا بهذا التمييز ‪.‬‬
‫وطبع ًا المفهوم هو المفهوم القصدي ال االعتباطي للجنة ‪ .‬ألنه ثمة‬
‫جنتان ‪ .‬فاألبدية بعد إلغاء النظام الكوني الحالي والمعروف لدينا ال‬
‫نعلم موضعها وال يدخلها اّال من ذاق الموت ‪ .‬واألخرى قبل الغاء‬
‫النظام والعالقة لها بالموت من هذه الجهة ‪.‬‬
‫اما عند اإلعتباطية فهذا الفهم ال يحمل خطورة وحسب بل هو‬
‫الشيء الذي تحاربه في حقيقة األمر ـ ألن الج ّنة السابقة باب‬
‫للدخول إلى الج َّنة الالحقة ‪ ،‬وكالهما لهما مدخل واحد هو‬
‫( العبودية ) المتصفة بالتسليم الطوعي والذي هو مضاد لطبيعة‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪130‬‬
‫‪3‬‬
‫وتوجهات اإلعتباطية القائمة على الذاتية وتفخيم ( األنا ) ‪. 1‬‬
‫وهذه االشياء ال يمكن توضيحها هنا بالتفصيل ولكني سقتها‬
‫كإجابٍة على السؤال اآلنف الذكر ـ فالتفاصيل تأتي تباعًا خالل‬
‫األبحاث القصد َّية‪.‬‬
‫وقد تالحظ ـ إذا كنت ممن يطالع هذه السلسلة كلها ـ أننا نحاول‬
‫التحدث عن أشياء متشابهة كلما سنحت الفرصة بأساليب مختلفة‬
‫وسبب ذلك هو إدراكنا أن األفراد المقصودين بها موزعين بشكل‬
‫غير منَّظم في تيارات اإلعتباطية والتي لكًل منها اسلوٌب معيٌن في‬
‫الكتابة لذلك توزعت هذه السلسلة بين اإلسلوب االدبي النقدي‬
‫الحديث والكالمي والفلسفي والديني السلفي ‪ ،‬في حين كان الجزء‬
‫االول من ( اللغة الموّح دة ) قد روعيت فيه مصالح الترجمة ‪.‬‬
‫واذا كانت اإلعتباطية بمثل هذا التنوع والسعة فهذا ال يعني أن‬
‫المرء يعجز عن النظر اليها بنظرٍة موحدٍة من خالل الخصائص‬
‫المشتركة لها ‪ ،‬بل يمكنه ذلك ألن تلك الخصائص تظهر بصور‬
‫متعددة في الفكر والسلوك االعتباطي ‪ ،‬على حد سواء ‪ .‬وقد رأيت‬
‫في المؤلفات السابقة وفي أبحاث األلفاظ وأنواع المجاز في هذا‬
‫الكتاب مدى التخّبط والالعقالنية في تلك األبحاث والذي هو سمتها‬
‫المشتركة وبذلك يمكن لنا ان نحّدد الخصائص المشتركة للفكر‬
‫االعتباطي ‪ .‬وإن فهم األمور بصورة شاملة أفضل من مناقشة‬

‫‪1‬‬ ‫الحظ محاوالت اإلعتباطية جعل الجنتين جنة واحدة من خالل المجاز وهي واحدة من عشرات المحاوالت فيما يخص الجنات والعذاب ومايتعلق بهما ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪131‬‬
‫‪4‬‬
‫الحاالت الجزئية ولذلك وضعت هذا البحث العام عن اإلعتباطية بين‬
‫شطرين من التفاصيل الجزئية ليتمكن القارئ من الربط بين السلوك‬
‫العملي لالعتباط وبين خططه وأهدافه الشاملة ‪ .‬فمن الخصائص‬
‫المشتركة للفكر االعتباطي ‪:‬‬

‫‪ ‬التحديد والالتحديد ‪:‬‬


‫واقصد بذلك أن الفكر االعتباطي يقوم باألمرين في ذات الوقت‬
‫ألن ذلك جزٌء من طبيعته ‪ .‬ولكن هذا ال يعني أنه بنفس معنى ( إفعل‬
‫وال تفعل ) من غير قاعدة ‪ ،‬فالقاعدة متضمنة في المقول ـ أي‬
‫إفعل اعتباط ًا ال قصد ًا ‪.‬‬
‫فاإلعتباطية تحِّدد األسس والقواعد اإلعتباطية وبعد ذلك فإن‬
‫للمرء حرية كاملة في أن يفعل مايحلو له ضمن هذا اإلطار ـ‬
‫وينصب غضب االعتباط على المرء اذا خرج عن اإلطار الموضوع‬
‫‪ ،‬أما في داخله فليفعل من المتناقضات ما شاء ‪.‬‬
‫فمثًال على الصعيد الفلسفي وفي أمٍر معيٍّن يحدد االعتباط بشأن‬
‫( ال يصدر‬ ‫( مايصدر عن الخالق الواحد ) قاعدة اعتباطية هي‬
‫عن الواحد اال واحد ) ‪ .‬والقاعدة مقبولة ظاهريًا ‪ ،‬ألن التعدد من‬
‫خصائص الناقص واإلله كامل وال يصدر عن الكامل اال كامل‬
‫والكمال في ( الوحدة ) واذن فال يصدر عن الواحد اّال واحد ‪.‬‬
‫وبعدما حدد االعتباط القاعدة ‪ :‬فيمكنك أن تفترض ما شئت لهذا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪132‬‬
‫‪3‬‬
‫الواحد الصادر عن اإلله من وجوه وصور كالهيولى على طريقة‬
‫افالطون أو الِم ثال على اسلوب ارسطوا أو الماهية األولى على‬
‫طريقة الكالم ِّيين أو العقل الفّع ال على طريقة الفارابي أو الشيء‬
‫الذي اليتصف بصفات المادة على طريقة بعض الغربيين في فرضية‬
‫االنفجار الكوني األول ‪.‬‬
‫فالحِّل االعتباطي في األصل واحد والتعدد إنما هو إطار هذا‬
‫الحل ‪ ،‬وهو دوم ًا حٌّل ( يستلزم ) التعّدد ألنه المؤدي الى اإلعتباطية‬
‫‪.‬‬
‫ولكن لو نظرت الى القاعدة مليًا وبتأمٍل تجدها موضوعة لهدٍف‬
‫محّد ٍد وهو ضرب الوحدة اإللهية نفسها من خالل صدور واحٍد آخٍر ‪.‬‬
‫ألن الواحد منفرد ولوال ذلك لما قلنا أنه واحد ـ أي أن أقل ما يصدر‬
‫عنه هو ( إثنان ) ال واحد ‪ .‬بينما اإلعتباطية تسعى الى إزالة صفته‬
‫كونه ( واحد ) لتجعله واحد ًا أحَد إثنين ‪ .‬واذا كان الواحد األول‬
‫أسبق فليست تلك مشكلة ‪ ،‬المهم أن يتصف غيره ( بالوحدة ) فإن‬
‫الذين اتخذوا آلهة متعددة ما قالوا أن كّل منها مستقل بنفسه بل‬
‫مخلوقة بعضها من بعض وهناك كبير لآللهة الذي خلقها هو الواحد‬
‫األول ‪.‬‬
‫والتهتم اإلعتباطية بمخالفة المنطق الرياضي الصارم بعد ذلك ‪.‬‬
‫فإنك اذا قلت ‪ 3 ، 2 ، 1 :‬فان الرقم ( ‪ ) 2‬هو غير الرقم ( ‪) 1‬‬
‫األول وهو يدل على أن الواحد مستقل وأقل ما يصدر عنه ( اثنان )‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪133‬‬
‫‪3‬‬
‫في البدء ‪.‬‬
‫كما ال يهّم ها أن تخالف النص المنّز ل حيث أنها تف ّس ره تفسير ًا‬
‫فلسفيًا ‪ ،‬ألن النص واضح في بيان هذه المسألة وهي ان الواحد هو‬
‫واحد دوم ًا وأن غيره ال يكون اّال زوج ًا ‪ .‬والذي يتصف بالوحدة‬
‫دوم ًا ال بد ان يتصف غيره بالكثرة دوم ًا فليس هناك من واحد غيره‬
‫‪ .‬وتظهر الفكرة في نصوص قرآنية كثيرة مثل قوله تعالى ‪:‬‬
‫( جعل لكم من انفسكم ازواج ًا ومن االنعام ازواج ًا يذرؤكم فيه‬
‫ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ‪ /‬الشورى ‪. 11‬‬
‫فأعلن عن الوحدة وانعدام المثلية عند ذكر الزوجية العامة‬
‫والتي هي المنشأ الذي ذرأ الكثرة فيه أو كقوله تعالى ‪:‬‬
‫( ومن كّل شيء خلقنا زوجين )‬
‫وإذن فليس من واحٍد حقيقٍّي سواه ‪.‬‬
‫فاإلعتباطية إذن ال تهتم لذلك ألنها تعتقد أن الله صادق حينما‬
‫يقول أن أكثر الناس جهالء وغافلون فهي تستغل هذه الخاصية‬
‫فيهم ‪.‬‬
‫ومن االتجاه اللغوي تجد أمثلة الحصر لها ‪ .‬فالمجاز قاعدة‬
‫عامة لتفسير اّللغة والتراكيب من بين قواعد عديدة ‪.‬‬
‫وحينما يؤمن المرء بذلك فهو حٌّر في استخراج المجازات‬
‫المتنوعة أو اكتشاف أنواع جديدة غيرها ‪ .‬ويفخر علماء اإلعتباطية‬
‫بعضهم على بعض في ( اكتشاف ) المزيد من األنواع اإلعتباطية‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪134‬‬
‫‪3‬‬
‫( اإلبهام ) في‬ ‫في ( استخدام الحروف في غير معانيها ) أو‬
‫القرآن أو ( المجاز ) في النصوص المختلفة ‪.‬‬
‫واألشياء الهامة في نظر االعتباط تقوم بصياغتها على صورة‬
‫قصائد شعرية أو ( مالحم ) لتأكيد أهميتها ‪.‬‬
‫ففي البدء كانت األلفاظ التي ( اكتشفتها ) اإلعتباطية في القرآن‬
‫والتي عّدتها من لغات أخرى غير العربية كانت قد اقتصرت على‬
‫ثالثين مفردة ‪ .‬ولكن تّم ت زيادة العدد كّل مرة على يد اعتباطٍّي‬
‫جديٍد فيضيفها شعر ًا على القصيدة األولى بنفس الوزن والروي‬
‫حتى بلغت مئتي مفردة أو مئتي أصل لغوي ‪.‬‬
‫وحينما اعترضت ( فكرة قصد ّية ) على هذا العمل لم يعبأ بها‬
‫احد وغالبًا ما ال تذكر أسماء المعترضين وإنما يجمل الكالم على‬
‫صورة خبر من قبيل ( وقال بعضهم أو زعم البعض ) ‪ .‬وتم إهمال‬
‫النصوص القرآنية التي تؤّك د عربية لسانه ‪.‬‬
‫فالحدود المسموح بها للعمل الجزافي والكيفي ال نهاية لها في‬
‫إطار االعتباط ما لم تخرج من هذا االطار الى القصدية ‪.‬‬

‫االيحاء باالعتباط من خالل القصدَّية ‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫يقوم الفكر االعتباطي من أجل نشر افكاره باستعمال أساليب‬
‫متنوعة أحدها ما هو مستعمل في وسائل اإلعالم والدعاية ـ وهي‬
‫جزء من المؤسسة اإلعتباطية ـ ولكن هذا األسلوب هو في جميع‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪135‬‬
‫‪3‬‬
‫النشاطات الفكرية ‪ ،‬أعني حشر الفكرة المراد نشرها من خالل‬
‫نقيضها القصدي ‪ ،‬وهذا األسلوب يستعمل عادة حينما يكون التو ّص ل‬
‫الى الفكرة بطريقة أخرى عمًال عسير ًا أو مكشوفًا ‪ .‬فمثًال حينما‬
‫تريد إيصال فكرة عن ( ال إعجاز القرآن ) ـ وهي فكرة تحمل‬
‫خطورة في اإلعالن عنها تستعمل من أجل ذلك األسلوب المذكور‬
‫فتوحي للمتلقي بعدم االعجاز من خالل مؤلفات أو كتب تتحدث عن‬
‫االعجاز وتدافع عنه ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪ :‬كتاب ( البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن )‬
‫للزملكاني الذي هو أحد المراجع الهاّم ة لهذا الموضوع في التراث‬
‫أو كتاب ( دالئل االعجاز ) الشهير للجرجاني ‪ .‬فإذا أخذنا كتاب‬
‫البرهان فسنجد في الفصول األولى أنه يتّم الدفاع عن اإلعجاز‬
‫بطرائق توحي للمتلقي أن األمر مختلف فيه وأن االعجاز غير ظاهر‬
‫ولو كان ظاهر ًا لما اختلفوا ‪.‬‬
‫وحينما يقترح حًال للمعضلة ويدافع عنه فالحُّل هو باب إلدخال‬
‫اإلعتباطية وأساليبها ‪ .‬ففي هذا الكتاب وغيره ـ كما سوف ترى‬
‫الحق ًا ـ تَّم تبّني فكرة ( النظم ) ـ اي أن اإلعجاز هو في نظم كالمه‬
‫ال في المفردات وال عوارض الحركات أو المدلوالت أو المجموع‬
‫الكلي أو أمر خارج عن كّل ذلك ـ وهي احتماالت حاول الزملكاني‬
‫( النظم ) أي‬ ‫تفنيدها ‪ .‬وبعد ما أبطل كافة الوجوه لم يبق غير‬
‫الشكل النهائي لتركيب الجمل ‪ .‬والمتلقي في هذه اللحظة ينتظر من‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪136‬‬
‫‪3‬‬
‫المؤلف أن يِّو ضح له كيف يمكنه أن يفرق بين ماهو معجز وغير‬
‫معجز من خالل النظم ؟ ‪ .‬وهذه لحظة حاسمة في االفتراق بين‬
‫القصدية المفتعلة واالعتباط ألن الغاية األولى هي إيصال المتلقي‬
‫الى هذه النتيجة ‪ ،‬ومع أنه لَّم ح له مرات عديدة قبل ذلك ما هو‬
‫بمعنى ( إذا بلغنا تلك النتيجة فال تسألني عن التفريق ) ‪ .‬فقد ينسى‬
‫المتلقي ذلك إذا كان مشغوفًا بحّب القرآن فعًال ولذلك يحشر هنا‬
‫قصة خيالية يفتعلها لتذكير القارئ بأن األمر هو كذلك وهذه القصة‬
‫هي ‪:‬‬
‫( ‪ ..‬وحكي أن إعرابيًا حضر صالة جماعة فُقِّدم فقرأ في األولى‬
‫‪ " :‬أال يامهلك الفيل ومن سار مع الفيل وكيد القوم في تب وتضليل‬
‫بطير صَّبه الله على الفيل ابابيل ضحًى من طين سجيل فصار القوم‬
‫في قاع كعصف ثَّم مأكول " ‪ .‬وقرأ في الثانية ‪ " :‬قد أفلح من هينم‬
‫في صالته وأطعم المسكين من مخالته واجتنب الرجس وفعالته‬
‫بورك في بقره وشاته " ‪.‬ولم يشك الَج مُع في أن ماقرأه سورتان‬
‫‪1‬‬
‫من القرآن ‪) .‬‬
‫وهذا النص واضح في اإليحاء الى المتلقي أن المؤلف أو‬
‫( االعرابي ) لو قال مثل هذا وأشباهه فان الناس ال تشك أنه من‬
‫القرآن ومن ثم فإن التمييز بين المعجز وغيره ليس اّال في النظم‬
‫ولّم ا كان نظم هذا الكالم حسن للغاية ويؤدي المعنى المطلوب فذلك‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان ‪ / 56 /‬بغداد ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪137‬‬
‫‪4‬‬
‫هو اإلعجاز ‪.‬‬
‫وهدف االعتباط من ذلك هو تعميم االعجاز الى جميع ما هو‬
‫حسن النظم كما ستالحظه في كتاب ( اعجاز القرآن ) للجرجاني‬
‫أيضًا ‪.‬‬
‫والمؤلف لم يعّلق بشيء على القصة فيما اذا كانت عبارة ( لم‬
‫يشك الجمع ‪ ...‬الخ ) هي جزء من الحكاية ال من كالمه ‪.‬‬
‫ومثل هذا االيحاء تجده في كّل صفحة تحدثت بها اإلعتباطية عن‬
‫إعجاز القرآن ـ والقصديون السائرون في ركاب االعتباط الينتبهون‬
‫لذلك وتنطلي عليهم العبارات المجاورة لإليحاء االعتباطيي التي‬
‫تمِّج د القرآن والنص سواء بسواء ‪ .‬وقد تستغل اإلعتباطية اعجاز‬
‫القرآن للتقليل من شأن النبي (ص) ‪ ،‬فابتداعها فكرة ( أمية النبي )‬
‫وتفسيرها االعتباطي للنص القرآني ‪ ( :‬الرسول النبي األمي )‬
‫منحها طريقة فذة لإليحاء بذلك وكمثال انظر عبارة الزملكاني في‬
‫البرهان المذكور ‪:‬‬
‫( هذا وإنه لصادر على لسان من لم يمارس الخط والخطب‬
‫وينافس في معرفة الّدر من المخشلب ) ‪ . 2‬وهذا إيحاء للمتلقي‬
‫ليكِّو ن صورة غير محترمة عن صاحب الرسالة (ص) ‪ ،‬وهو‬
‫يناقض فكرة النظم ‪ .‬ذلك ألن االعجاز اذا كان في ذات القرآن فليكن‬
‫صاحب الرسالة ما يكون من العلم والمعرفة فما هي عالقته‬

‫‪1‬‬ ‫نفس المصدر السابق ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪138‬‬
‫‪4‬‬
‫بالمعجز االلهي المطلق ؟ ‪.‬‬
‫لكن إدراج هذه العبارات وهو يتحدث عن اعجاز النص القرآني‬
‫له مدلوالن ‪ :‬األول االساءة للنبي (ص) ‪ ،‬والثاني هو ضمن الفكرة‬
‫نفسها ‪ ..‬بمعنى أن ( النظم ) هو موضع اإلعجاز ولكن مع حكايات‬
‫اإلعرابي وغيره فإن التفريق بين ما هو معجز وغير معجز شيء‬
‫غير ممكن ‪ .‬وإذن فيجب البحث عن دليل آخر وهذا الدليل هو أن‬
‫الصادر عنه هذا الكتاب ال يم ّيز بين الّدر والمخشلب وال يحسن‬
‫الخطابة وال يعرف الخط فمن أين له هذه البالغة واإلطالع ؟! وإذا‬
‫بلغ الموضوع هذه الغاية فالمؤلف يتخذ واديًا يهرب فيه من وجه‬
‫القارئ ‪ ..‬ففي تلك النقطة هرب الزملكاني تارك ًا الموضوع الرئيسي‬
‫لشرٍح مسهٍب ال طائل من وراءه للحروف المقّطعة في أوائل السور‬
‫واتخاذها سّلما إليحاءات أخرى ‪ .‬ومن ذلك العدول عن فكرة األم ّية‬
‫الى فكرة أخرى ضمنية مفادها أن األحرف المقَّطعة هي ‪:‬‬
‫( للتنبيه على أن تعداد هذه الحروف ممن لم يمارس الخط ولم‬
‫يعان النظر فيه متنزل منزلة األقاصيص عن األمم السالفة ممن‬
‫ليس له إطالع على ذلك ) ‪.‬‬
‫وبهذا أثبت مقولة ( للذين كفروا ) !‪.‬‬
‫ويتوجب على القصدي التوّقف والتمّع ن في المراد من هذه‬
‫االنتقالة ‪ ،‬إذ يفهم منها أن إعالن النبي (ص) عن النص القرآنى‬
‫هو مثل إعالن الرجل عن أقاصيص من أمٍم سالفٍة لم يّطلع على‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪139‬‬
‫‪3‬‬
‫أحوالها ألنه لم يعش تلك األزمان‪.‬‬
‫وهذه الفقرة هي نهاية المقالة الموضوعة لإلعجاز وهي الهدف‬
‫من وراء البحث الكلي ‪ .‬فالمخبر عن شيء لم يطلع عليه إنما يخبر‬
‫عنه سماعًا وجمع ًا لألحداث من السماع وهي الفكرة القديمة نفسها‬
‫التي ذكرها القرآن ‪:‬‬
‫( وقالوا اساطير االولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة واصيال )‬
‫‪ /‬الفرقان ‪5‬‬
‫ومعلوم أن اكتتبها ال تعني سَّج لها بالرمز الكتابي بل طلب أن‬
‫تكون كتابًا ويمكن للمرء الحسن الحفظ أن يكتب االشياء في ذاكرته‬
‫‪ ،‬ألن القائلين مثل المؤلف يعلمون أن النبي (ص) ال يكتب بالرمز‬
‫الكتابي ‪.‬‬
‫وقد مّه ـد لهذه الفكرة وقبولها قبيل ذلك بعبارة يمكنك التأمل‬
‫فيها مليًا قال ‪:‬‬
‫( السيما وهي صادرة عن رجٍل عليه مهابة وجاللة قد قام مقام‬
‫أولي الرسالة ‪. ) ..‬‬
‫فانظر الى عبارات التنكير في األلفاظ ‪ :‬رجل ‪ ،‬عليه مهابة ‪،‬‬
‫وجاللة وانظر الى قوله ( قام مقام أولي الرسالة ) ‪.‬‬
‫وهكذا يقوم العلماء بإعادة ( تأسيس ) الكفر داخل مقوالت‬
‫الِّدين ‪.‬‬
‫وهذه مجرد نماذج ففي كّل صفحة من صفحات الفكر االعتباطي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪140‬‬
‫‪3‬‬
‫تجد مخطط ًا ( للشك ) وتحويل الحقائق الى أشياء نسبية ‪ .‬وعلى‬
‫ذلك يمكنك القول أن اإلعتباطية التي حاربت النبي (ص) هي التي‬
‫استولت على كتابه المعجز وتراثه وجميع إرثه وقامت بتقديمه‬
‫للناس بالصورة التي أرادتها فيما بعد ‪ .‬فاإلعتباطية التي حاربها‬
‫النبي (ص) هي اآلن الجزء األكبر واألشهر من فكره الذي وصلنا ‪.‬‬
‫وفي نصوص متفرقة للقصدية المطمورة في كتٍب قديمٍة تجد‬
‫إشارات للنبي (ص) نفسه يحكي فيها غربته في أّم ته وغربة كتابه‬
‫وجهل الناس به وهجرها له رغم زخرفتهم المساجد وتزيينهم‬
‫المصاحف في آخر الزمان ‪ .‬فهل هذا هو آخر الزمان يا ترى ؟ ! ‪.‬‬

‫اإلبهام واإليهام‬ ‫‪‬‬


‫وهو أحد أركان اإلعتباطية ومبدأ أساسي من مبادئها ولذلك‬
‫اجتهدت في إدخاله على صورة قوانين بالغية أو تركيبية في اّللغة‬
‫‪ .‬فاّللغة أداة للتفاهم والرقي والتطور الفكري وهي الشيء الوحيد‬
‫الذي تحتفظ ( الذاكرة ) عن طريقه بالمعلومات ‪.‬‬
‫فليس عجبًا أن تتصّدى اإلعتباطية بكل ما أوتيت من قوة إلدخال‬
‫( الذاكرة )‬ ‫اإلبهام واإليهام الى القرآن الكتاب الذي يرد فيه لفظ‬
‫ألهميتها القصوى في بلوغ غاية الله من الخلق بنحٍو من ( ‪) 370‬‬
‫مورد بمختلف اإلشتقاقات عن هذا اللفظ ‪.‬‬
‫وحاولت تبرير هذا اإلبهام واإليهام بمختلف الوسائل والطرق ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪141‬‬
‫‪3‬‬
‫( بِّينات )‬ ‫إذ مع أن القرآن يذكر عن نفسه أنه ( مبين ) وآياته‬
‫و ( مف ِّص الت ) ومع أنه على عمقه وغزارته فهو من نوع السهل‬
‫الممتنع الذي يفي بجميع متطلبات المعرفة ومع كثرة النصوص‬
‫النبو ّية بهذا الصدد اّال أن االعتباط حاول تأويل هذه النصوص‬
‫تأويًال اعتباطيًا لصرفها عن مؤداها الذي يعبر عن سمة الوضوح‬
‫فيها ‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى ابتعدت في خصائص البهام من كونه وسيلة‬
‫للمتكلم ـ يرمي من وراءها الى هدف معّين ـ الى اعتباره غاية في‬
‫ذاته ‪.‬‬
‫إن الفكر االعتباطي هو نفسه ركام من المتناقضات ‪ ،‬ولذلك فال‬
‫بد أن يكون اإلبهام في نظره غاية في ذاته ‪.‬‬
‫الحظ مثًال نص الزملكاني اآلتي والذي ينقل ويشرح فيه أفكار‬
‫استاذه الجرجاني ‪:‬‬
‫( إن االبهام يلقي في النفس تشوقًا الى ما هو المراد ويعظم‬
‫لتكثير الموارد الوهمية ويعلقه الوهم معرضًا عن المذكور بما لم‬
‫يذكر تعليق ًا وهميًا من غير أن يخ ّلصه لمعنى ذهني أو خارجي‬
‫فيرجع الذهن متقاصر ًا عن إدراكه عاجز ًا عن مرام صيده بشباكه‬
‫وآيسًا عن اعتالقه بإشراكه فعند ذلك يعظم شأنه ويعلو في النفس‬
‫مكانه ) ‪. 1‬‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان ـ ( ‪. ) 239‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪142‬‬
‫‪4‬‬
‫إذن فاالبهام الذي يتعّم ده المتكلم ألجل أن يترك المتلقي مع ّلق ًا‬
‫بأمله في اصطياد المراد هو هدف بحّد ذاته يعطي للمتكلم ميزة هي‬
‫علو كالمه في نفس المتلقي ‪ .‬وهذه الفكرة كلها هي نقيض لفكرة (‬
‫الكتاب المبين ) ‪.‬‬
‫وإذا رجعنا الى أنواع األلفاظ والتراكيب نجد أن هذه الصفة‬
‫موجودة في ( الهذيان ) ألنه تراكيب مترابطة ال يفهم المتلقي‬
‫المراد منها فلماذا يعّدها المتلقي هذيانًا ؟ ‪.‬‬
‫إذن فاإلعتباطية تعّد الكالم الذي يوهم المتلقي هو الكالم الذي‬
‫يعلو ‪ ،‬وبالتالي فما الكالم البليغ إال ذاك الموهم والمبهم ‪ .‬ومعلوم‬
‫أن النتيجة هذه تخالف تعريف البالغة ‪ ،‬ألن البالغة هي أن يبِّلغ‬
‫المتكِّلم مراده من المعاني من خالل الكالم ‪ ،‬وتناقض كذلك أبحاث‬
‫الداللة اللفظية وغاياتها ‪ ،‬وهي نقيض للهدف من اّللغة وغاياتها ‪.‬‬
‫فالحركات الصورية أكثر إبهام ًا وإيهام ًا ويتوجب إذ ذاك ترك اللغة‬
‫الصوتية ألجل علو تلك الحركات وما تفعله من شو ٍق في النفوس‬
‫لمعرفة الحقيقة ‪ ( ،‬صم بكم عمي ) ‪ .‬وتلك هي فلسفة اإلعتباطية‬
‫وذلك هو مقدار حرصها على العقل البشري وتطوره واّللغة‬
‫وغاياتها ‪.‬‬

‫‪ ‬االستبداد والتّعنت‬
‫إن االعتباط فكٌر مستبٌد في خصائصه الذاتية على مستوى‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪143‬‬
‫‪3‬‬
‫أفراده وبالتالي تنعكس استبداديته بصورٍة جليٍة في نشاطاته‬
‫المختلفة ‪ .‬ويظهر االستبداد على جميع المستويات ـ األسلوب‬
‫وصياغة العبارات واستعمال وسائل التهديد غير المباشر إلحتمال‬
‫ولوج الحل القصدي والتلويح باألعلمية واّدعاء الوالية والقرب من‬
‫الرضا اإللهي واّدعاء األولوية في اكتشاف الحلول وعدم ذكر‬
‫أصحاب الفكرة األولى وإعادة النصوص اإلعتباطية واالفكار بل‬
‫والشواهد نفسها والصياغات نفسها مئات المرات في مؤلفات‬
‫عديدة وحقٍب طويلٍة من غير اشارٍة الى أنها مزبورة جميع ًا في‬
‫مؤلفات السابقين ‪ ..‬الخ وهي خصائص كثيرة جد ًا تجمع السلوك‬
‫االعتباطي ‪.‬‬
‫فاإلعتباطية ال تسأم من التكرار واإلجترار قرونًا طويلًة لنفس‬
‫األفكار ويعجبها دوم ًا أن تضفي عليها ُح ّلًة جديدًة فهي مثل كائن‬
‫عتيق يبّدل زينته كلما رأى أن مالبسه مختلفة عن مالبس اآلخرين‬
‫‪.‬‬
‫وذلك ألن اإلعتباطية وهي فكر عام تغفو أحيانًا العتمادها على‬
‫نشاط في جانب معين فتأخذ ( راحة أو إجازة ) من العمل في‬
‫الجانب المقابل ـ ولّم ا تصحو تجد أن مالبسها غدت ناشزة فتكتسي‬
‫بُح لٍة جديدٍة وتخرج من مخدعها ‪.‬‬
‫واإلعتباطية تّتصف كذلك ـ ونتيجة الستبدادها ـ بالعجلة والحكم‬
‫السريع على األشياء بغير رؤية أو دراسة جّدية وحينما تقع في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪144‬‬
‫‪3‬‬
‫مشاكل معينة فإنها تحّلها بطريقة أسرع بكثيٍر من وقوعها فيها‬
‫والنتيجة هي المزيد والمزيد من االعتباط ‪ ،‬وهي تتصف بالغرور‬
‫والعنجهية من جهة تعاملها مع الحلول القصّدية والذ ّلة والتمّلق من‬
‫جهة تعاملها مع بعضها البعض حيث تكيل المديح والثناء لهؤالء‬
‫وتكيل الشتائم والسباب ألولئك ‪ ،‬وتفعل ذلك حتى في لحظات الهدنة‬
‫مع التيار القصدي وقيام الحرب بين اتجاهاتها !!‬
‫واإلعتباطية بعد ذلك هي مصدر الفقر المادي والفكري وعنوان‬
‫البؤس والتباؤس على مّر التاريخ وهو ما ستالحظه فيها خالل‬
‫أبحاثنا وفي الواقع الفعلي المعاش ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪145‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الثالث عشر‬
‫الحــــذف‬

‫إن اإلعتباطية تؤكد على موضوع الحذف وما الشواهد الكثيرة‬


‫جد ًا من الشعر واألقوال المأثورة والمكذوبة أو المبتدعة منها‬
‫ووضعها بجوار اآليات القرآنية اّال تأكيد على شمول اإلثنين بنفس‬
‫التقييم البالغي والنحوي ومنه الحذف ‪.‬‬
‫فإنك تالحظ في جميع المؤلفات ظاهرة الشرح المو ّس ع للشواهد‬
‫الشعرية والمقوالت وإظهار بالغتها وحسنها ومن بعد ذلك يأتي‬
‫الشاهد القرآني بصيغ متقاربة مثل ‪ ( :‬ومن هذا الفن قوله تعالى ‪...‬‬
‫كذا ) ‪ .‬وال تشرح المحاسن الخاصة بالنص ‪ ،‬وال تطابق المتون‬
‫المذكورة وعناوين الكتب ‪ .‬وهي مخّص صة أصًال كما ُيفهم منها‬
‫إلظهار اإلعجاز القرآني ـ والذي يحدث هو العكس ـ اإليحاء للقارئ‬
‫أن القرآن نظم من هذا النظم وفن من تلك الفنون ويبلغ اإليحاء‬
‫احيانًا تفضيًال غير مباشٍر للنصوص البشر ّية على النص القرآني‬
‫من وجوه ـ ولكن هذا العمل يكتنفه عادة العبارات الغامضة وثناء‬
‫على القرآن في غير موضعه ـ ثناٌء بال موضوع ومديح بال‬
‫استخراج لمحاسنه وينّبهك الى محاوالت اإلعتباطية لتمرير اهدافها‬
‫وخططها من خالله ‪.‬‬
‫فالحذف مثًال هو موضوع هام عند اإلعتباطية ألنه يمنحها‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪146‬‬
‫‪3‬‬
‫إمكانية ( التقدير ) االنتقائي للجملة أو األلفاظ المحذوفة وهذا األمر‬
‫يمنحها الحرية في اإلعراب والتفسير االعتباطي ‪.‬‬
‫وهم يبدأون دوم ًا باألسلوب ( االستبدادي ) ـ لصرف المتلقي‬
‫عن التفكير بحٍّل آخر ـ هذا األسلوب الذي يظهر في عبارات مثل ‪:‬‬
‫( عساك تقول الحذف مخّل بفائدة المحذوف وتغفل عما لإلبهام‬
‫واإليهام من التفخيم واإلعظام ‪ ،‬ورَّب صمت أفصح من الكالم ورمز‬
‫آلم من لذع الحسام ) ‪.1‬‬
‫فهذا اتهام مباشر للمتلقي أنه اذا قال ذلك فهي غفلة ومن ثم‬
‫فالمبررات هي االبهام وااليهام ‪.‬‬
‫ومعلوم أن الرمز والصمت ال عالقة له بموضوع الحذف ـ‬
‫فالشواهد مثال تخالف المبدأ والغاية من الحذف ‪ .‬ألن الشواهد قد‬
‫بّر ر المؤلفون لموارد للحذف فيها على أنه لظهور المراد إّم ا في‬
‫الجملة السابقة أو في نهاية الجملة ‪ .‬واإلعتباطية هي الغافلة ‪ ،‬ألن‬
‫ذلك يجب أن يكون موضوعه هو التقديم والتأخير ال الحذف ‪.‬‬
‫مثًال قوله تعالى‪:‬‬
‫( وإن أحد من المشركين استجارك ) ‪ /‬األنعام ‪6‬‬
‫التقدير ‪ :‬وإن استجارك أحد من المشركين استجارك ‪.2‬‬
‫فلماذا يكّر ر لفظ "استجارك" بعد نقله الى موضعه األصلي على‬
‫الزعم ؟‬
‫‪1‬‬ ‫البرهان ـ ‪ 237‬ـ بغداد ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫البرهان ـ ‪.241‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪147‬‬
‫‪5‬‬
‫في النظام القرآني الحظنا أن هذا الشاهد نفسه عند البصرة‬
‫والكوفة في خصامهما المفتعل تحت موضوع ( هل يجوز تقديم‬
‫الفاعل على فعله أم ال ) ؟ ‪ .‬هذا في موضوع النحو ‪ ،‬وأما في‬
‫البالغة فقد أوتي به تحت عنوان ( الحذف ) ‪.‬‬
‫وقد ذكرنا هناك أن المتكلم له حريته في اإلختيار فإذا أراد‬
‫التنبيه الى الفاعل قَّدمه واذا أراد االهتمام بالفعل قَّدمه ‪ .‬فالنص‬
‫يحمل في ذاته مراد القائل ‪ ،‬والتقدير إنما هو محاولة لمشاركته في‬
‫أقواله ‪ .‬فالمستجير والمرأة الخائفة من بعلها نشوز ًا في قوله تعالى‬
‫‪:‬‬
‫( وإن امرأة خافت من بعلها نشوز ًا أو اعراضًا ) ‪ /‬النساء ‪28‬‬
‫وهو شاهد آخر لنا ُقّدموا لهذا الغرض ‪ ،‬وفي األصل ال يوجد‬
‫قانون يقول بتأخير الفاعل حتى نبحث عن تقديمه ‪ ،‬إنما دراسة‬
‫النص تالحظ ترتيب األلفاظ لمعرفة غايات المتكلم ‪ .‬فاذا ر َّتب‬
‫المتلقي ألفاظ المتكلم ترتيبًا جديد ًا فهو يكفر بالنص وقائله ‪.‬‬
‫بل تزعم اإلعتباطية أن هناك ما هو دائر بين الحذف والذكر مثل‬
‫‪ ( :‬والسماء رفعها ) ‪ ( ،‬إذا الشمس كورت ) ‪ .‬فاإلعتباطية تّدعي‬
‫أن لهذه العبارات أصل هو ( َر فَع السماء ) و ( كِّو رت الشمس ) ‪.1‬‬
‫وهي أشياء تحاول بها تفكيك النص بخالف مراد وغايات القائل ‪.‬‬
‫وفي أمثله أخرى تقّدر اإلعتباطية جمًال أو أفعاًال أو ألفاظ ًا محذوفة‬

‫‪1‬‬ ‫‪1. 1‬نفس المصدر ـ ‪. 241‬‬


‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪148‬‬
‫‪4‬‬
‫مثل قوله تعالى ‪:‬‬
‫( وعندهم قاصرات الطرف اتراب ‪ .‬هذا ماتوعدون ليوم الحساب‬
‫‪52‬‬ ‫) ‪/‬ص‬
‫قال ‪ :‬المحذوف تقديره ‪ :‬يقال لهم هذا ما توعدون ليوم الحساب‬
‫‪.‬‬
‫والقصد ّيه تسأل ‪ِ :‬لَم ال تكون اآلية المقّدر لها هي جملة جديدة ؟‬
‫‪ .‬وهي بالفعل آية جديدة في المصحف والقائل المباشر هو الله‬
‫تعليق ًا بعد الوصف ‪ ( :‬هذا ما توعدون ليوم الحساب ) مع وجود‬
‫الالم الدالة على الغاية المستقبلية ‪ .‬فما أدرى االعتباطيين أن‬
‫األصل هو ‪ :‬يقال لهم هذا ؟ ‪.‬‬
‫وكذلك يقِّدر االعتباط جملة بعد جملة مثل ‪ :‬الله أكبر قال ‪:‬‬
‫( وكذا الله أكبر ألنها أبلغ من قولك الله أكبر من كّل كبير ) ‪، 2‬‬
‫وذلك لبناء المسألة على الوهم واإلبهام فهو إذن أبلغ ‪ .‬بينما األمر‬
‫في القصدية عكس ذلك تمام ًا ‪.‬‬
‫فعبارة ( الله أكبر من كّل كبير ) هي مفهوم من مفاهيم ( الكفر‬
‫) حسب نص عن األمام علي ( ع ) ‪ .‬ومعلوم أن هؤالء ال يبلغون‬
‫بالغته ومعرفته باسرار اّللغة ‪ .‬حيث ُذ كر أنه سمع رجًال يقول ذلك‬
‫فقال ‪ ( :‬إذن حَّددته ) ‪.‬‬
‫وهذا واضح ‪ :‬ألن كّل كبير غير الله فهو محدود مهما بلغ فاذا‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان ‪.240‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪149‬‬
‫‪5‬‬
‫كان الله أكبر الجميع فهو محدود أيضًا بالنتيجة ألنه قد قيس إلى‬
‫غيره ! ‪ .‬والرجل قد فهم األمر بسرعة فسأل ‪ ( :‬فكيف أقول جعلني‬
‫الله فداك ؟ )‬
‫قال ‪ :‬تقول ( الله أكبر من أن يعرف ) ‪.‬‬
‫وهذا التعميم هو السبب في ترك المفضول في صيغة التفضيل ‪.‬‬
‫بمعنى أن عبارة " الله اكبر " هي عبارة مستمرة دوم ًا مهما جاء‬
‫ما بعدها ‪ .‬ولّم ا كان أقصى ما يمكن أن يكون كبير ًا هو المتخَّيل أو‬
‫المعروف إجماًال فالعبارة مطلقة ‪ ،‬فهو أكبر من القدرة على معرفته‬
‫ـ ألن كّل محدود له معرفة محّددة والله تعالى أكبر من أن تناله أِّي‬
‫معرفة ‪.‬‬
‫فإذا تخ ّيلت السموات واألفالك تقول ‪ :‬بل الله أكبر وإذا أردت‬
‫توّهمه أو تصوره أو تخ ّيله قلت الله أكبر واذا أردت معرفة ما كان‬
‫قبل الخلق قلت الله أكبر ‪ .‬واذن فالصيغة متروك آخرها النها مطلقة‬
‫غير متضمنة لحدود ‪ ،‬ولكن اإلعتباطية ال تتورع عن التخريب في‬
‫كّل جزء ومكان وهي تقّر ر بعبارات ملؤها الزهو واالفتخار وستأتيك‬
‫نماذج منها في بالغة الجرجاني ‪.‬‬
‫وفي الشواهد االخرى مثل ذيول اآليات ‪ ( :‬لقوم يشكرون ) قال‬
‫أي يشكرون الله وقد حذف لظهوره ‪.‬‬
‫ترى اذا كان المحذوف ظاهر ًا عند المتلقي ومعلوم ًا فما فائدة أن‬
‫تخبره اإلعتباطية به ؟ ولماذا ال تسكت وتتـرك المتلقي يستمع‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪150‬‬
‫‪3‬‬
‫للمقول الظاهر الذي يفهمه جيد ًا ؟ ‪.‬‬
‫إذ يفترض أن يعطي علم اللغة للمتلقي معلومة جديدة عن النص‬
‫‪ .‬أما أن يخبره ( بمحذوفات ) مقَّدرة ويقول له أيضًا ‪ ( :‬إنها حذفت‬
‫ألنك تفهمها ) ‪ .‬فهذا مثل ما يفعله رجٌل ظنه أحد المالئكة ناسك ًا إذ‬
‫رآه يبكي على قمة جبٍل ! وذلك في حكاية قديمة فسأل الله أن يريه‬
‫مكانه في الجنة فرآه في أدنى مرتبة فقال الملك ‪ :‬لم ذلك يارب ؟‬
‫فقال له الله تعالى ‪ :‬لقلِة عقله إذهب فانظر مَّم بكاؤه ؟ ‪ .‬فلما جاء‬
‫الملك وسأله قال ‪ :‬إني أنظر الى هذا الحشيش فأقول ما أكثره فلو‬
‫أن حمار ًا جائع ًا يأكله ‪ ،‬ثم إني رأيت أن الحمار قد ال يقدر على‬
‫ارتقاء الجبل وكلما بلغ موضع ًا تدحرج فما زلت على هذا الحال‬
‫حتى أبكاني امره !! ‪.‬‬
‫وقد يكون الناسك معذور ًا إذ الحمير الجائعة لها وجود حقيقي‬
‫على األرض وربما لدى الناسك ( ُعقدة ) نفسية قديمة من جوع‬
‫حماره خاصة ! أما محذوفات اإلعتباطية فلم يرها أحد موجودة‬
‫حتى تدعونا اإلعتباطية للبحث عنها والتباكي عليها ‪ .‬فهي تقول‬
‫للمتلقي بقوة ( خذها ! ) وبعد هنيهة تقول وبضعف ‪ :‬ال تأخذها‬
‫ألنها عندك وتعلمها ! ‪.‬‬
‫وأمثلة الحذف بعد ذلك ال تحصى عدد ًا واليمكن لمنهجنا ذكر‬
‫هذه الكثرة والبحث عنها فإنها قد عّم ت النص القرآني من أوله الى‬
‫آخره وما نستطيع ذكره هو ما أمكننا جمعه أو ما وجدناهم قد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪151‬‬
‫‪3‬‬
‫جمعوه في مقدماتهم أو شروحهم البالغية والنحوية فهذه نماذج‬
‫أخرى غير ما مَّر عليك ‪:‬‬

‫‪ ( /1 /‬وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا )‬


‫واإلجماع على وجود حذف تقديره ‪ :‬أنزل خير ًا ‪.‬‬
‫قبل أن نذكر الحل القصدي بإمكاننا أن نرى أنه ليس ثمة حذف‬
‫‪ .‬فهذا مستعمل في العادة في جميع المخاطبات واألخبار مثل ‪:‬‬
‫سألته ‪ :‬أين كنت ؟ قال ‪ :‬في السوق ‪ .‬فهل ترى أن من الضروري‬
‫أن يقول ( كنت ) في السوق ؟ ‪.‬‬
‫إذ السائل يسأل عن المكان واالجابة تضمنت المكان ‪ .‬أما‬
‫الكينونة فمعلومة لكليهما ‪ .‬والسائل يعلم أنه ( كان ) ولكنه ال يعلم‬
‫( أين ) ‪.‬‬
‫لكن اإلعتباطية ما فتأت تخطئ وتتوهم أن ( ما ) أداة استفهام و‬
‫أنزل ـ يتوّج ه‬ ‫( ذا ) اسم إشاره وحينما يقال للذين اتقوا ‪ :‬ماذا‬
‫اسم اإلشارة إلى المنزل فهو مالحظ للسائل ‪ .‬ولوال أنه مالحظ لما‬
‫سأل عنه باسمه فهو ال يسأل عن ( حادث النزول ) بل يسأل عن‬
‫واقع ما نزل وطبيعته وهو ما تفيده ( ما ) االستفهامية ‪ .‬فماذا‬
‫يكون الجواب ؟ الجواب بالطبع يبدأ باعطاء السائل مراده فال يقال‬
‫له ( أنزل ) ثم يقال له ( خير ًا ) ‪ .‬فهذا هو مثل ما يفعله ( الطالب‬
‫الكسول ) عندما ُيسأل فيترّدد ويريد استنفاذ الوقت فيقول ‪ :‬أنزل‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪152‬‬
‫‪3‬‬
‫أنزل ‪ ..‬نعم أنزل خير ًا ‪ . .‬الخ ‪ .‬وهذا يحدث في المخاطبات ‪ ،‬ولكن‬
‫هل يقاس القرآن الكريم على المخاطبات الشاذة والخاطئة ؟ وهل‬
‫يقاس ( الذين اتقوا ) بالطالب الكسالى ؟‬
‫هبهم لم ينتفعوا من القرآن في تصحيح المخاطبات أفيكون‬
‫البديل هو حكم القرآن بالمخاطبات الخاطئة واعتمادها لتبرير وجود‬
‫الحذف ؟ ‪.‬‬
‫إن المثال اآلنف يكشف لك بصورٍة جليٍة ـ كأِّي مثال آخر تناقشه‬
‫القصّدية ـ يكشف لك عن مدى التحّج ر الذي طال االعتباط بحيث أن‬
‫الموارد التي ال تحّقق له غاياته وال ترتبط بأهدافه لم يحسن‬
‫توجيهها ليحيط افكاره بأكبر قدر من الحيطة كما هو مفروض بل‬
‫عاملها بعشوائية أيضًا ‪ .‬وهذا كله تحقيق لقوله تعالى ‪:‬‬
‫(إأن الله اليهدي من هو مسرف كّذ اب ) ‪ /‬غافر ‪28‬‬
‫أو قوله ‪:‬‬
‫( كذلك يّض ل الله من هو مسرف مرتاب ) ‪ /‬غافر ‪34‬‬
‫ويمكنك أن تتأكد في مثل هذه الموارد بوضع صيغة مالئمة‬
‫للسؤال ـ فالتقدير االعتباطي ( أنزل خير ًا ) ليس سؤاله ‪ ( :‬ماذا‬
‫انزل ؟ ) بل سؤاله ‪( :‬ماذا فعل ؟ ) والجواب ‪ :‬أنزل خير ًا ‪ ،‬ألجل‬
‫إدخال الفعل في الجواب بسبٍب من أن االستفهام هو عن الفعل‬
‫تحديد ًا ـ وهو أمٌر تعلمه جميع االمم اللغوية اّال أمتنا !! ‪.‬‬
‫واذا كان ذلك عجيبًا فاألعجب منه تسالم من جاء بعدهم على‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪153‬‬
‫‪3‬‬
‫هذه األخطاء حّد أن بلغ األمر في العصور الالحقة أن الدارسين‬
‫صاروا ينظرون الى أبحاث السلف نظر الجاهل الى ما فعله العالم‬
‫ولسان حالهم يقول ‪ :‬إذا كانت اللغة لغتهم والفصحى كالمهم فأّنى‬
‫لنا ونحن نتحدث باللهجات العام ّية أن نبلغ ما بلغوه من معرفتها ؟‬
‫‪ .‬وماعلموا أنهم لن يبلغوا ما بلغوا من تدميرها وهذا هو منتهى‬
‫التراجع وانعدام الثقة بالنفس ‪.‬‬
‫فاالعتباط قد أعلن عن نفسه وأهدافه في مواضيع ومؤلفات ال‬
‫حصر لها ـ وليس كشفها عسير ًا على المبتدئين فضًال عن ذوي‬
‫الدراسات المتخصصة ‪.‬‬
‫وقد قالت اإلعتباطية بشأن الحذف واختالف منّظريها حول‬
‫االلفاظ المحذوفة ‪:‬‬
‫( ومهما ترّدد المحذوف بين الحسن واألحسن وجب تقدير األحسن‬
‫ألن الله وصف كتابه بأنه أحسن الحديث فليكن محذوفه أحسن‬
‫‪1‬‬
‫المحذوفات )‬
‫وبهذه المناسبة تشكر القصدية جماعات االعتباط على إصدارهم‬
‫هذا القانون االحتياطي ‪ ،‬ولكنها تسأل أيضًا ما هو الحّل اذا كان‬
‫الترّدد بين القبيح وما هو أقبح منه من وجهة نظر جماعة لغوية‬
‫أخرى ؟ ! ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫االتقان ـ ‪ 129‬ـ ج‪2‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪154‬‬
‫‪5‬‬
‫قوله تعالى ‪ ( :‬جعل الله الكعبة البيت الحرام قيام ًا للناس ) ‪/‬‬ ‫‪/2 /‬‬

‫المائدة ‪97‬‬
‫هذه اآلية استخدمت كتطبيق للقانون السابق ‪ .‬فاآلية هي جملة‬
‫مكونة من فعل وفاعل ومفعول به وإيضاح للمفعول ومفعول ثان‬
‫وشبه جملة من جار ومجرور ‪ ...‬والتركيب كله بالترتيب القياسي‬
‫البسيط ليس فيه تقديم وال تأخير ! ‪ .‬فلماذا تصّر اإلعتباطية على‬
‫تقدير لفظ محذوف قبل لفظ ( الكعبة ) هو ( نصب ) على ما قّدره‬
‫( أبو علي ) أو ( حرمة ) على ماقّدره غيره!‪.‬‬
‫ثم وجدوا أن ( حرمة ) أحسن من ( نصب ) فقّدروه بهذا اللفظ ‪.‬‬
‫فما فائدة ( حرمة ) وهناك تمييز أو بدل مو َّض ح للكعبة كونها‬
‫( نصب‬ ‫( البيت الحرام ) ؟ فقالوا ‪ :‬ألن ( حرمة ) أفصح من‬
‫) … وتركوا اآلية وتجادلوا حول الحرمة والنصب مع غياب تلكم‬
‫األلفاظ فيها! ‪.‬‬
‫وتلك فصاحة اإلعتباطية ‪ ( :‬حرمة الكعبة البيت الحرام ) !‬
‫وعلى ذلك لماذا لم تقّدر اإلعتباطية اسم ًا آخر بعد كّل فعل أو‬
‫بعد كّل جعل !؟‪.‬‬
‫مثل ‪ ( :‬وجعل الشمس سراج ًا ) فتقول ‪ :‬وجعل ( فلك ) أو‬
‫( ضوء ) أو ( وجود ) أو ( شأن ) ‪ ..‬الخ ‪.‬ولنستمر في المناقشة‬
‫حول المقدرات ونترك اآليات ألننا يمكن أن نقّدر أي شيء مالئم‬
‫في كّل تركيب قرآني بال استثناء إذا أخذنا بقوانين اإلعتباطية‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪155‬‬
‫‪3‬‬
‫وفذلكاتها ! ‪.‬‬

‫قوله تعالى ‪ ( :‬ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) ‪/‬‬ ‫‪/3 /‬‬

‫الزخرف ‪87‬‬
‫ُأنّبـه القارئ الكريم الى مسألة لها داللتها في مناقشات االعتباط‬
‫‪ .‬فإنهم تجادلوا في ( المكان ) الذي يضعون فيه اللفظ المقّدر‬
‫المحذوف وهذا بالنسبة للقصدية ال يعني اّال شيئًا واحد ًا وحسب !‬
‫وهو ‪ ( :‬أن اإلعتباطية تريد دائم ًا وضع لفظ مقّدر من عندها ) ‪.‬‬
‫فهذا هو الهدف وليس ذلك غاية لهدٍف آخر كالتفسير ونحوه ـ إذ‬
‫المفروض أن المحذوف يعلن عن نفسه ويحدد موضعه بنفسه ألن‬
‫المحذوف أصل في الجملة والجملة نسق متكامل واذا حذفت منها‬
‫شيئًا ألي سبب فيفترض أن ( الموضع ) الذي خال من اللفظ يحكي‬
‫داخل النسق ويعلن عن نفسه ‪ .‬لكن لما كان األمر ليس كذلك عند‬
‫االعتباط ‪ ،‬فالنتيجة الوحيدة هي أن اللفظ ( غريب ) عن النسق‬
‫ويحاول االعتباط أن يجد لهذا الغريب موضع ًا ‪ .‬ومثال ذلك اآلية‬
‫الكريمة السابقة ‪.‬‬
‫فاللفظ المقّدر عندهم هو ( خلقهم ) ثان يجب أن يضاف إلى‬
‫اآلية ! ولكن أين يضعوه ؟‬
‫قال قوم ‪ :‬بعد لفظ الجاللة ‪ .‬وقال آخرون بل قبل لفظ الجاللة ‪. 1‬‬

‫‪1‬‬ ‫انظر االتقان ـ ‪130‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪156‬‬
‫‪4‬‬
‫واألخير اختاره السيوطي ‪.‬‬
‫وكما ترى فهذا مثل الفقره ( ‪ ) 1‬ألن السؤال ( من ) يسأل عن‬
‫فالجواب عليه ‪( :‬‬ ‫الفاعل ( فاعل الخلق المتعلق بهم )‬
‫الله ) ‪.‬‬
‫وتقديرهم سؤاله ‪ :‬كيف وجدتم ؟ يصح أن يكون جوابه الكيفية‬
‫التي تحتاج الى فاعل فيقولون ‪ :‬خلقهم الله ‪.‬‬
‫اإلعتباطية اذن ال تفرق بين الصيغ المتعددة لالستفهام واالجوبة‬
‫المالئمة لكل منها وال تدري كيف تعمل أدوات االستفهام ‪ ،‬ألنها في‬
‫الواقع ال تريد أن تدري ‪.‬‬

‫( والذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصالة ) ‪ /‬البقرة ‪3‬‬ ‫‪/4 /‬‬

‫قالت اإلعتباطية اي ( بالغيب والشهادة ) واألخير حذف ‪. 2‬‬


‫خلطت اإلعتباطية بين هذه اآلية وبين قوله ( عالم الغيب‬
‫والشهادة ) ـ بين اإلله العالم واالنسان ( المؤمن بالغيب ) ـ إذ كيف‬
‫يؤمن المرء بالشهادة والشهادة حضوره اآلني ولكل كائن حي‬
‫شهادته وحضوره ! فخلطت بين العلم واإليمان وبين اآليتين ‪ .‬وفي‬
‫هذا تالحظ االعتباط غارقًا في الوحل الى أذنيه ! ‪.‬‬
‫( ورب المشارق ) ‪ /‬الصافات ‪5‬‬ ‫‪/5 /‬‬

‫قالوا ‪ :‬أي والمغارب فحذف المغارب !‬

‫‪1‬‬ ‫في االتقان ـ ‪ 130‬ـ وفي مؤلفاتهم االخرى ـ باب الحذف ‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪157‬‬
‫‪5‬‬
‫حاولوا استجالب نسق سورة المعارج ‪ ( :‬فال أقسم برب‬
‫المشارق والمغارب ) ـ لتقديره في نسق الصافات ‪ .‬ولئن سألتهم ‪:‬‬
‫هل نسي المتكلم ( المغارب ) ؟ ليقولن ‪ :‬معاذ الله ‪ ،‬ولئن سألتهم ‪:‬‬
‫هل كان عجًال فتركه هنا ؟ ليقولن ‪ :‬سبحان الله ‪ ،‬قل ‪ :‬فأِذ ن لكم أن‬
‫تأخذوا لفظ ًا من موضع فتجعلوه في موضع آخر ؟ سيقولون ‪ :‬ال ! ‪،‬‬
‫قل ‪ :‬فهل تعلمون مافي نفسه كما يعلم مافي انفسكم ؟ سيقولون ‪ :‬ال‬
‫‪ ،‬قل ‪ :‬فهل ترك لفظ ( المغارب ) هنا لغاية يقتضيها المعنى أم‬
‫اعتباط ًا ؟ ‪ ( ...‬فسينغضون اليك رؤوسهم ويقولون ‪. ) ...‬‬
‫ويتضح لك من هذه التساؤالت المفترضة طبيعة الحل القصدي‬
‫وعالقته بالنص مقابل اإلعتباطية التي تحاول إغفال الغايات‬
‫المحّددة للنص بحسب مراد القائل ‪.‬‬

‫( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق ) ‪ /‬البقرة ‪171‬‬ ‫‪/6 /‬‬

‫الحظناه مفّص ًال في كتاب النظام القرآني حيث جعلوا المثل‬


‫للرسول ( ص ) والناعق هو بينما المثل للذين كفروا ‪ ،‬وهذا يظهر‬
‫من نظام المجموعات والعالقات اللفظية المشتركة ‪ .‬والغاية منه‬
‫واضحة ! فشخصية المتلقي للكتاب هي الهدف الثاني من أهداف‬
‫االعتباط ‪.‬‬

‫( وله ماسكن في الليل والنهار ) ‪ /‬األنعام ‪13‬‬ ‫‪/7 /‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪158‬‬
‫‪3‬‬
‫قالوا ‪ :‬أي وما تحّر ك فحذف ‪.‬‬
‫ومناقشته شبيهه بمناقشة ( ورب المشارق ) في الفقرة ‪. 5 /‬‬
‫وهذا على العموم إلبطال مقوالت اإلعتباطية ‪ .‬اما مناقشة النص‬
‫نفسه فهي كباقي النصوص غير ممكنة في هذا المختصر ‪.‬‬

‫( قالوا االن جئت بالحق ) ‪ /‬البقرة ‪71‬‬ ‫‪/8 /‬‬

‫قالوا ‪ ( :‬الحق الواضح ) وحذف الواضح ‪.‬‬


‫وهذا طبيعي بالنسبة لالعتباطية ‪ .‬فالحق عندها نوعان واضح‬
‫وغير واضح تمام ًا مثل القائلين في النص ( تشابهت قلوبهم ) ‪.‬‬
‫الحظ أساليب االعتباط للدفاع عن إخوانهم في قصة ذبح البقرة‬
‫على اعتبار أن ما ذكره موسى ( ع ) لهم من الصفات كان حق ًا‬
‫ولكنه غير واضح !! ‪.‬‬

‫وهذه جمله من ( الكنوز ) التي كانت محذوفة في النص القرآني‬ ‫‪/9 /‬‬

‫واستخرجتها اإلعتباطية لألمة المرحومة ‪:‬‬


‫أ ‪ ( .‬لم يلبثوا اّال ساعة من نهار بالغ ) ‪ /‬األحقاف ‪35‬‬
‫أي هذه أو هذا بالغ !!‬
‫ب ‪ ( .‬أيها المؤمنون ) ‪ /‬النور ‪315‬‬
‫أي أيها القوم المؤمنون !!‬
‫ج ‪ ( .‬فال خوف عليهم ) ‪ /‬البقرة ‪38‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪159‬‬
‫‪3‬‬
‫أي فال خوف ( شيء ) عليهم !‬
‫د ‪ ( .‬قالوا أساطير االولين ) ‪ /‬الفرقان ‪5‬‬
‫قالوا أي هي أساطير االولين !‬
‫هـ ‪ ( .‬إذا بلغت التراقي ) ‪ /‬القيامة ‪26‬‬
‫أي الروح علم ًا أن الروح مذكر في كّل الموارد القرآنية !‬
‫و ‪ ( .‬ال يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) ‪ /‬الحديد‬
‫‪10‬‬
‫أي ومن أنفق بعده ‪ .‬علما أن اآلية تذكر ذلك في سياقها ( أنفقوا‬
‫من بعد وقاتلوا ) فما هذه االكتشافات العظيمة !‬
‫ز ‪ ( .‬فال نقيم لهم يوم القيامة وزنا ) ‪ /‬الكهف ‪105‬‬
‫أي نافع ًا وحذف ‪ ،‬علم ًا أن من اليقيم له وزنا ال وزن له وأسوأ ممن‬
‫( خفت موازينه ) ! فانظر الى مدى فهم اإلعتباطية ‪.‬‬
‫ح ‪ ( .‬من عمل صالح ًا فلنفسه ) ‪ /‬فصلت ‪46‬‬
‫أي عمله لنفسه فحذف العمل ! اكتشاف آخر لالعتباط ‪.‬‬
‫ط ‪ ( .‬الحج أشهر معلومات ) ‪ /‬البقرة ‪197‬‬
‫أي أشهر الحج أشهر ‪ .‬أو الحج حُج أشهر!‬
‫ي ‪ ( .‬لو نعلم قتاًال التبعناكم ) ‪ /‬آل عمران ‪167‬‬
‫أي مكانًا للقتال ! ويبدو أن االعتباط يعتقد بإمكانية القتال في‬
‫( الالمكان ) !‬
‫ك ‪ ( .‬حّر مت عليكم الميتة ) ‪ /‬المائدة ‪3‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪160‬‬
‫‪3‬‬
‫قالوا ‪ :‬العقل يدل على انها ليست محّر مة ألن التحريم يتعلق‬
‫باألفعال ال باألجسام ! فيعلم من ذلك وجود لفظ محذوف نحو ( أكل‬
‫) مثًال ألنهم لم يذكروا اللفظ المحذوف هذه المرة في أي مصدر ‪.‬‬
‫ويبدو أن السبب هو وجود ( التاء ) المتعلقة بالميتة نفسها فهي‬
‫المحّر مة ‪ .‬فاذا قالوا ( أكل ) يجب تغيير حرمت الى ( حرم ) وهذا‬
‫غير ممكن ‪.‬‬
‫واذا قَّدروا الجملة ( أن تاكلوا ) مثًال يجب أن يقول ( حرم‬
‫عليكم أن تاكلوا ) والنتيجة واحدة فهذه التاء بالنسبة لهم مشكلة‬
‫حرمتهم من تحديد أي تقدير ! ‪.‬‬
‫يالحظ الحل القصدي أن هذا اإلحكام مقصود فالميتة كلها‬
‫محّر مة وليس المحرم هو أكلها فقط ـ دمها وعظمها وشعرها ـ أو‬
‫صوفها أو وبرها ـ … الخ ‪ .‬فأي تقدير يجعل التحريم جزئيًا ‪.‬‬
‫فالحظ بنفسك الفرق بين القصدية واالعتباط ‪.‬‬
‫علم ًا أن الموارد التي تركت اإلعتباطية االستشهاد بها مع أنها‬
‫داخلة في أحد أقسام الحذف هو لهذا السبب فأكثر التراكيب القرآنية‬
‫ال يمكن إدخال لفظ غريب عليها ما لم يحدث تغيير ًا آخر ًا في األلفاظ‬
‫المجاورة فتجنبت اإلعتباطية ذكرها ‪.‬‬
‫ل ‪ ( .‬قالوا سالم ًا ) ‪ /‬هود ‪69‬‬
‫أي سّلمنا سالم ًا ‪.‬‬
‫مع أن ( المسّلم ) على شخص ال يأتي بالفعل بل يقول سالم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪161‬‬
‫‪3‬‬
‫عليكم أو السالم عليكم وال يقول ‪ :‬أسِّلم سالم ًا عليكم وقد فات‬
‫االعتباط أن ( سالم ًا ) هنا ليس المقول نفسه وانما هو مفعول به لـ‬
‫( قالوا ) وسالم ًا ال زال من أخبار المتكلم وليس صيغة السالم ‪.‬‬
‫فالقرآن يخبرنا انهم قالوا سالم ًا معينًا تحية إلبراهيم بلغة متعارفة‬
‫بينهم يوجب االشعار ( بالسالم ) نفسه بمعناه ال مجرد التحية ‪.‬‬
‫وسبب ذلك أنهم يشعرون أنه يوجس منهم خيفة فحققوا معنى (‬
‫السالم ) بما هو ( سالم ) ال بما هو تحية خالل التحية ‪.‬‬
‫فلذلك قال ( سالٌم ) بالرفع وهذه المرة هو مقول ابراهيم اقتصر‬
‫على كلمة واحده تحيًة ورّد ًا على السالم وظهر فيها التوجس‬
‫واضح ًا النه لم يزد على ذلك ولذلك جاء بالرفع على االبتداء فهو‬
‫مقول ‪.‬‬
‫أال ترى كيف أسرع بعدها باإلعالن عن التوجس ( سالم ! قوٌم‬
‫منكرون ) ‪.‬‬
‫م ‪ ( .‬سالم قوم منكرون ) قالوا المحذوف ( أنتم ) قوم منكرون‬
‫وأخطأ االعتباط هنا أيضًا لعدم فهم الشطر االول ‪.‬‬
‫إذ حسبوا أنه قال لهم ذلك في وجوههم ـ إنما القرآن يخبرنا‬
‫بطريقة العرض الحيوي للوقائع أنه قال سالم وفي نفس الوقت قال‬
‫( في نفسه ) قوم منكرون ـ فجعلها جملة واحدة ألنها في لحظة‬
‫واحدة ولو كانوا قد سمعوا منه هذه المقالة ألجابوه فور ًا ( ال تخف‬
‫إنا رسل ربك ) أو ( ال توجل ) ‪ .‬وهذه اإلجابة تأخرت لما بعد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪162‬‬
‫‪3‬‬
‫دخولهم الدار وتقديم الطعام ‪ .‬فحينما قال لهم ( إنا منكم وجلون )‬
‫أجابوه فور ًا ( ال توجل ) وهذه المقالة غير تلك ومختلفة عنها‬
‫زمانًا خالل الحدث فالقرآن يفّر ق أجزاء الحدث وال يكّر ره كما تدعي‬
‫اإلعتباطية عند دراستها ما تسميه بالتكرار ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪163‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الرابع عشر‬
‫تقديم الخبر على المبتدأ‬

‫يقّدم االعتباط تأويالته للنصوص على انها مسّلمات يتوجب‬


‫أخذها بغير مناقشة‪ .‬على أن مبادئ تلك التأويالت هي االعتباط‬
‫نفسه ‪ ،‬ذلك ألن هذا االتجاه العام في الفكر ال ناقد له اّال نفسه فكما‬
‫أسلفت أن القصد ّية ـ خصمه الوحيد ـ هي حالة فردية ومنعزلة ‪.‬‬
‫فالسلطان والصولجان والفكر والنشر واإلعالن والحل والعقد هي‬
‫جميع ًا في يد اإلعتباطية ‪ .‬فمثال إن ( المعنى الذاتي ) للمفردة غائب‬
‫دوم ًا وال يظهر اّال عند التركيب أي أن المعنى تابع للفظ دوم ًا ـ فهذا‬
‫مبدأ اساسي في علم اّللغة االعتباطي ‪.‬‬
‫ويقوم االعتباط بتأسيس هذه الفكرة المتناقضة ويبذل الجهد‬
‫لجعلها حقيقة في فصل كامل أو فصول وهي المتعلقة بالداللة ولكنه‬
‫حينما يبتعد قليًال وفي نفس الكتاب فيلتقي بالشواهد يتحول الى‬
‫الفكرة المناقضة لهذا المبدأ كلما دعته حاجة التفسير الى ذلك ‪.‬‬
‫ففي موضوع تقديم الخبر قال الزملكاني بشان الشاهد ( داٍع يناديه‬
‫باسم الماء مبغوُم ) قال ‪:‬‬
‫( أي بالماء ‪ ،‬فإذا ثبت أن اللفظ تبع المعنى وجب أن يقضى‬
‫على ( بنونا ) في قوله ‪:‬‬
‫بنوهن أبناء الرجال األباعِد‬ ‫بنونا بنو أبنائنا وبناتنا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪164‬‬
‫‪3‬‬
‫)‬
‫فتالحظ أن االعتباط يفاجأك دوم ًا بالتناقضات فبعد ( ثبوت تبعية‬
‫المعنى للفظ ) في بحث الداللة المتقدم ( يثبت فجأة العكس تبعية‬
‫اللفظ للمعنى ) خالل التطبيق ‪ ..‬فاإلعتباطية واحدة ـ الحاكم المستبد‬
‫المتغِّير األهواء واللغوي المستبد تيار واحد وفكر واحد ‪ .‬ثم قال ‪( :‬‬
‫إذا ثبت ذلك فإن ( بنونا ) هو الخبر و ( بنو أبنائنا ) هو المبتدأ إذ‬
‫المعنى على جعل بني البنين بنين وليس على جعل البنين بني‬
‫‪1‬‬
‫البنين !! )‬
‫وأريد من القارئ هنا التوقف لمالحظة ( الكذب ) المتعّم د‬
‫والتالعب بااللفاظ في مثل هذا النموذج ‪ .‬فالشاعر يقول ‪ :‬بنونا ـ‬
‫على الحقيقة ـ هم بنو أبنائنا ـ أما البنات فأبنائهن من ذرية رجال‬
‫أباعد ‪ .‬فالجملة ال يمكن تغييرها ال تركيبًا وال معنًى (بنونا بنو‬
‫أبناءنا ) ـ وبنونا مبتدأ وبنو أبناءنا خبر ـ وهو تعريف للبنين ‪،‬‬
‫وإجابة على السؤال ‪ :‬من هم بنونا ؟ الجواب ‪ :‬بنونا بنو أبناءنا ‪.‬‬
‫وإنما جمال البيت هو في تقديم المبتدأ ـ فألنه معلوم إذ ال أحد ال‬
‫يدرك من هم ( البنون ) كان ذلك بمثابة اإلثارة للسامع ليسمع‬
‫تعريف ًا جديد ًا للبنين مقصور ًا على بني األبناء ‪ .‬إذن المعنى هو على‬
‫جعل البنين بني البنين تحديد ًا ‪ .‬فليست غاية الشاعر أصًال تعريف‬
‫بني األبناء وإنما هو التعريف باألبناء الذين يراهم ( هو ) أبناًء‬
‫‪1‬‬ ‫البرهان ـ ‪. 228‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪165‬‬
‫‪5‬‬
‫فعليين ! فهو يجعل البنين الفعليين بني البنين دون بني البنات ‪ .‬وال‬
‫يعزب هذا الفهم عن االعتباطيين المولعين باألنساب واألحساب ‪،‬‬
‫والذين يقصرون البنّو ة لبني األبناء الذكور تملق ًا للتيار العباسي‬
‫الذي يجابه التيار العلوي بمثل هذه األفكار باعتبارهم بني األبناء‬
‫وأولئك بني البنات إشارة الى الزهراء ( ‪ ) ‬بنت النبي ( ص ) ـ ال‬
‫تعزب هذه المفاهيم عن التيار االعتباطي ـ والبيت إنما هو من‬
‫وسائل الدعاية لهذه المسألة ‪.‬‬
‫ولكن ما دام التعريف يتحّو ل الى بني األبناء ـ وهم أكثر أهمية‬
‫ألنهم المقصودون بذلك وما دام ذلك ليس فيه إّال مزيد شرف‬
‫للممدوحين ويحل اشكاًال في التقديم وتأخذه الناس على أنه شاهد‬
‫لتقدم الخبر فلماذا ال تحاوله اإلعتباطية ؟ بل تحاوله حتى لو ناقض‬
‫مباحث الداللة وناقض المنطق اللغوي وناقض مراد الشاعر ـ ألن‬
‫التناقض ليس اسلوبًا في اإلعتباطية ـ بل التناقض هو هدفها من‬
‫العملية كلها ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪166‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الخامس عشر‬
‫تقديم بعض األسماء على بعض‬
‫في القرآن‬

‫تقّر اإلعتباطية أن ‪:‬‬


‫‪1‬‬
‫( تقديم وتأخير األسماء قد يقلب المعنى الى ضّده )‬
‫وهي إذ تقرر ذلك ‪ ،‬فهي ال تدرس النص كما هو ‪ ،‬وبما يوجبه‬
‫هذا اإلقرار من االمتناع عن التالعب بالنص تقدير ًا أو تخمينًا ‪ ،‬بل‬
‫ترى أن التقديم والتأخير إذا كان يغير المعنى العام للعبارة ‪ ،‬فهو‬
‫أمر بالغ المنفعة لالعتباط ألن غايته التناقض واإلبهام واإليهام !‬
‫وهذا يمثل سر البالغة في نظرها ‪.‬‬
‫وبإمكانك أن تق ِّيم فلسفة اإلعتباطية بكاملها من خالل هذا‬
‫السلوك وحده ولها في هذا الموضوع أسلوبان ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬ففيما يخص النصوص التي ال يمكن تبديلها تقدير ًا أو‬
‫حذفًا والتي هي عبارة عن أجزاء تعبيرية أو ما أطلقنا عليه في‬
‫النظام ‪ ( :‬مرك ّبات ) مثل ‪  :‬وهو العزيز الغفور ‪  ، ‬الرحمن‬
‫الرحيم ‪  ، ‬العلي العظيم ‪  ، ‬وليًا وال نصير ًا ‪. ‬‬
‫في مثل هذه المرك ّبات ال تقدر االعتباطية على إحداث تغييٍر فيها‬
‫ولذلك فهي تكتفي هنا بمحاولة إبراز سبب تقّدم أحد األلفاظ على‬
‫‪1‬‬ ‫البرهان ـ ‪ 229‬الفن الثالث ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪167‬‬
‫‪5‬‬
‫غيره ‪ .‬وهي تختار الموارد الواضحة وضوح ًا كافيًا ـ وال تبحث عن‬
‫الموارد التي يتغّير فيها هذا الترتيب ‪ .‬وتكتفي عند التغّير بذكر‬
‫شاهد واحد ويستمر االعتباط بذكر الشواهد نفسها ألف سنة‬
‫وأربعمائة سنة أخرى بعد األلف ! ‪.‬‬
‫والذي يحّدد التقديم والتأخير عندهم هو الرتبة المتعلقة هنا‬
‫بمفهوم أو معنى اللفظ وهذا مثال متكرر لالعتباط ‪:‬‬
‫‪ ‬الغفور الرحيم ‪ : ‬المغفرة سالمة والرحمة غنيمة والسالمة‬
‫مطلوبة قبل الغنيمة ‪.1‬‬
‫ولّم ا وَج َد ْت في سورة سبأ تغّير الترتيب ( وهو الرحيم الغفور )‬
‫قالت اإلعتباطية بضرورة قراءة اآليات كاملًة فوجدت أن الحديث‬
‫فيها هو عن الكائنات كلها والرحمة عاّم ة والمغفرة خاصة والعام‬
‫مقّدم على الخاص ‪.‬‬
‫إذن فمنهج االعتباطية متغّيٌر وظروف الدراسة متغيرة ‪ .‬أَو‬
‫ليست الكائنات تف ِّض ل السالمة قبل الغنيمة كما في اآليات االخرى ؟‬
‫أَو ليس اإلنسان من الكائنات ؟‬
‫ففي المرة األولى المقياس هو معنى اللفظ وموضوعه المتلقي !‬
‫‪.‬‬
‫وفي المرة الثانية المقياس هو سياق الحديث وموضوعه فيما‬
‫هو خاص وعام من جهة الصدور أي صدور المغفرة والرحمة من‬

‫‪1‬‬ ‫‪1‬رة في اكثر التفاسير المطولة ‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪168‬‬
‫‪4‬‬
‫الله !! ‪.‬‬
‫وهذا يعني أن استعمال اللفظ في القرآن اعتباطي وال يقع ضمن‬
‫قاعدة محددة ـ فهذا هو مرادها من األبحاث ‪ .‬وحينذاك ال تستطيع‬
‫اإلعتباطية اإلجابة على ترتيب االلفاظ في التغيرات بالصورة‬
‫الشاملة في تراكيب متنوعة جد ًا مثل ارتباط ( العزيز ) بألفاظ‬
‫عديدة تقديم ًا وتأخير ًا ‪ ..‬بل اكتفى االعتباط بذكر شرح الزملكاني‬
‫هذا متفاخر ًا به منذ ألف عام في جميع المصادر والكتب والدراسات‬
‫قديمها وحديثها ! الحظ الموارد المتنوعة التي تركها االعتباط‬
‫والمرتبطة بلفظ (العزيز ) فقط ‪:‬‬

‫‪ ‬وهو العزيز الحكيم ‪ /  4‬إبراهيم‪ / 10 ،‬األنفال … الخ‬


‫‪ ‬وهو العزيز العليم ‪ /  78‬النمل‪ ..‬الخ‬
‫‪ ‬لهو العزيز الرحيم ‪ /  9‬الشعراء والكلي فيها ‪ 9‬موارد‬
‫‪ / ‬الحشر‬ ‫‪ ‬العزيز الجبار ‪23‬‬
‫‪ / ‬الحج‬ ‫‪ ‬لقوي عزيز ‪40‬‬
‫‪ ‬وهو القوي العزيز ‪ /  19‬الشورى ‪ ...‬الخ‬
‫‪ / ‬الدخان‬ ‫‪ ‬العزيز الكريم ‪49‬‬
‫‪ / ‬القمر‬ ‫‪ ‬عزيز مقتدر ‪42‬‬
‫‪/‬ص‬ ‫‪ ‬العزيز الغفار ‪66‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪169‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ / ‬المائدة ‪ ..‬الخ‬ ‫‪ ‬عزيز ذو انتقام ‪95‬‬
‫‪/‬‬ ‫‪ ‬العزيز الحميد ‪8‬‬
‫البروج ‪ / 1 ،‬إبراهيم ‪.‬‬

‫كذلك يتناوب اللفظ رحيم وغفور مع غيرهما كما في التراكيب ‪:‬‬

‫( غفور ًا رحيما ) ( رؤوف رحيم )‬ ‫(عفو ًا غفورا )‬


‫( حليما غفورا )‬
‫( غفور رحيم )‬ ‫( الغفور الشكور ) ( عزيز غفور )‬
‫( غفور حليم )‬
‫‪..‬‬ ‫( عفو ًا قديرا )‬ ‫( تواب حكيم )‬ ‫( تواب رحيم )‬
‫الخ ‪.‬‬

‫وهي تراكيٌب متباينة جد ًا في الترتيب ‪.‬‬


‫وحينما تعجز اإلعتباطية عن تقديم الحلول وتكتفي بشاهد واحد‬
‫من ألف مورد متنوع تزعم فيه أنها اكتشفت الع ّلـة السببية‬
‫لالستعمال فأنها ال تعجز وهي من هي في التنوع وكثرة االتجاهات‬
‫أحاديث ( نبوية)‬ ‫عن تقوية نفسها بمختلف الوسائل فتم وضع‬
‫حول ذيول اآليات ـ ففي التفسير المنسوب البن عباس عن رواة‬
‫كلهم ( ثقاة ) بالطبع أن النبي قال ( بصدد حدوث تقديم وتأخير في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪170‬‬
‫‪3‬‬
‫آيات القرآن ) قال ‪ ( :‬كّله كالم الله العلي العظيم ‪ ،‬العزيز العليم‬
‫ال فرق ما لم تجعلوا آية رحمة آية عذاب أو آية عذاب آية رحمة‬
‫)‪.‬‬
‫وحينما يسأل المرء أين اإلعجاز إذن إذا لم يكن في ألفاظه‬
‫وألفاظه عربية وال هو في نظمه والنظم ليس هام ًا فأين هو اإلعجاز‬
‫وما سببه ؟‬
‫وتستطيع اإلعتباطية أن تجيب من خالل اتجاهاتها المتعددة‬
‫إجابات مختلفة مثل أن اإلعجاز ليس فيه إنما هو في‬
‫( صرف ) الخلق عن اإلتيان بمثله ! ( وقد أشكلنا على هذه الفكرة‬
‫في كتاب " النظام القرآني " في فصل خاص باالعتباط في مسألة‬
‫اإلعجاز )‪ .‬أو أن اإلعجاز مثل ( المالحة ) ُيَح ّس وال ُيفهم ! وهي‬
‫من أفكار الجرجاني أول منّظري االعتباط اللغوي ‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬في النصوُص المتكونة من جملة طويلة نسبيًا يمكن‬


‫إحداث ( تقديرات ) للتقديم والتأخير فيها ‪.‬‬
‫وضربنا لذلك مثاًال في كتاب " النظام القرآني " وهو واحد من‬
‫مئات التقديرات وكما مّر ت عليك في فصوله األخرى تقديرات‬
‫مماثلة لتراكيب متوسطة وحروف ‪ .‬وفي هذا النوع يجد االعتباط‬
‫لنفسه ( مرتع ًا ) غنيًا بأنواع التأويالت والتقديرات من التقديم‬
‫والتأخير ـ متناسيًا إقراره باحتمال تحّو ل ( المعنى الى ضده ) ـ‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪171‬‬
‫‪3‬‬
‫ولكن األنا المتعاظم في ذات اإلعتباطية يجد بغيَتُه في تحويل المعنى‬
‫الى ضده في مقابل المتكلم!‬
‫وللتأكد من ذلك ماعليك اّال أن تفتح أي كتاب تفسيري أو نحوي‬
‫من أي موضع تشاء لتعثر هناك على نصوص قرآنية وأدبية تّم فيها‬
‫تحريف النص ( عن قصد ) عن سياقه الذي وضعه القائل فيه !‬
‫وسأذكر لك اآلن المثال الذي أمامي للزملكاني ‪:‬‬
‫ففي قوله تعالى ‪ ( :‬وجعلوا لله شركاء الجن ) ـ فهذا النص ال‬
‫يحتاج الى تقدير وإنما الى شرح ـ ولكن هل يمر االعتباط ليشرح‬
‫النص من غير أن يلقي عليه ظالله وذاتيته ؟‬
‫قال ‪ ( :‬وليس بخاٍف أن الله في موضع مفعول ثان لـ ( جعل )‬
‫وشركاء مفعول أول ) ‪.‬‬
‫وأنت تالحظ جيد ًا أن الفعل ( جعل ) يعمل بصورة متنوعة فيأخذ‬
‫مفعوًال واحد ًا مثل ( جاعل الظلمات والنور ) أو مفعولين اذا كان‬
‫الجعل على االصطالح بمعنى ( التحويل ) للشيء من هيئة الى هيئة‬
‫مثل ‪ ( :‬جعلت الماء ثلج ًا ) ‪ .‬وبحسب النحو فإن هذا يمكن أن يعَّد‬
‫حاًال ولكنه يعرب كمفعول ‪.‬‬
‫ولكن حينما تقول ‪ ( :‬جعلت لك حارسًا أو راتبًا ‪ ..‬الخ )‬
‫فالمفعول واحد واألصل جعلت حارسًا ولكن السامع يسأل ‪ :‬لمن ؟‬
‫فتقول ‪ :‬جعلت لك حارسًا ‪.‬‬
‫وفي اآلية ‪ :‬أنهم جعلوا الجن شركاء لله ‪ ،‬فلفظ الجاللة لم يقع‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪172‬‬
‫‪3‬‬
‫عليه فعل وإنما لزمه تمليك شركاء لم ينزل بهم سلطان ‪ .‬والجعل‬
‫منصب على الشركاء الذين هم الجن ‪.‬‬
‫ثم زعم أن هذا التخريج هو الذي يجعل اإلنكار على إطالقه قال‬
‫‪ :‬كأنه قيل ‪ :‬فمن جعلوا شركاء ؟ قيل ‪ :‬الجن ‪.‬‬
‫الحظ معي بانتباٍه شديٍد ‪ :‬إن األمر لو كان على هذا التقدير لما‬
‫كان هناك إنكار على مطلق الشركاء بل على نوعهم فقط ‪ :‬من‬
‫جعلوا شركاء لله ؟ الجواب ‪ :‬الجن ‪ .‬هذا مستنكر جد ًا يجب أن‬
‫يجعلوا غيرهم شركاء !! فهل فهمت اآلن ما تبغيه اإلعتباطية ؟ ‪.‬‬
‫في حين أن السؤال المصاغ على النص القرآني هو ‪ :‬ماذا‬
‫جعلوا لله ؟ السؤال نفسه اآلن تهتز له الجبال وتنشق األرض ألنه‬
‫ليس ثمة مخلوق يجعل لله شيئا اّال أن يكون فداًء أو حمد ًا أو نذر ًا ‪.‬‬
‫فالسائل يترّقب وهو خائف أن يجعلوا شيئا آخر ‪ .‬أما سؤال‬
‫الزملكاني فهو خالف الترتيب ويجعل موضوع الشركاء مفروغًا منه‬
‫والسائل يستفهم فقط عن نوعهم ! إذ يبدو أنه يريد أن يكون أحدهم‬
‫! السؤال القصدي هو ‪ :‬ماذا جعلوا لله ؟ الجواب ‪ :‬جعلوا لله‬
‫شركاء ! يا للهول ! ومن ذا يشارك الله !؟ فيقوم السياق بتهويل‬
‫جديد للسامع فيقول كما هو في ( مسرح ) وكالم حي مستمر ‪ :‬الجن‬
‫! فيصعقه اآلن بلفظ يحّدد نوع الشركاء كونهم مخلوقات فانية‬
‫خلقها الله ‪.‬‬
‫ثم قال وكأنه مسروٌر الكتشافه قانونًا في اللغة تعليق ًا على‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪173‬‬
‫‪3‬‬
‫شرحه اآلية ‪:‬‬
‫( ألّن الصفة إذا ذكرت مجردة عن الموصوف كان الذي تعلق‬
‫بها من النفي عام ًا في كّل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة ) ‪.‬‬
‫وأطلب من جميع السادة القراء في العالم االسالمي التحّقق معي‬
‫في هذه العبارة وأمثالها والتي جاءت بعد نص قرآني يتحّدث عن‬
‫( التوحيد ) و ( اتخاذهم شركاء لله ) وعلى األمة المتابعة‬
‫للجرجاني وتالمذته اإلجابة على األسئلة اآلتية ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬كيف تذكر الصفة مجردة عن الموصوف ومع ذلك يكون‬
‫النفي عام ًا في كّل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة ؟‬
‫فالجواز يعني إمكان االتصاف بتلك الصفة والنفي في هذه‬
‫الحالة ال يكون حقيقيًا ! فضًال عن أن يكون مطلق ًا ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬هل هناك من مثال لتجريد الصفة عن الموصوف مع‬
‫هذا الجواز والنفي في آٍن واحٍد لغًة أو استعماًال أو منطق ًا سوى‬
‫اآلية موضوع البحث من خالل تقدير أن لفظ الجاللة مفعول ثان‬
‫وأن السؤال هو ‪ ( :‬فمن جعلوا لله شركاء ؟ ) ‪.‬‬
‫كال ‪ .‬لن يجد االعتباط مثاًال من كّل َلغو األُمَم ! ناهيك عن‬
‫لغاتها ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬هل الجملة تلك متعلقة بالتقدير والشرح والمراد أن‬
‫نفهم أن صفة الشركاء جائزة ولكنها ال تجوز للجن وحدهم من‬
‫جميع الوجوه ! فاإلطالق منحصر بهم وحدهم ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪174‬‬
‫‪3‬‬
‫الرابع ‪ :‬إذا كان األمر كما ذكرنا فلماذا تراجع بعد هذه السطور‬
‫فقال ‪ ( :‬لو قال وجعلوا الجن شركاء لله كان الجن مفعوًال أول‬
‫والشركاء مفعول ثان ولتوجه اإلنكار الى خصوص الجن ) وهو‬
‫كالم صحيح اآلن ولكن هذا التركيب هو جواب السؤال المقدر ‪:‬‬
‫( فمن جعلوا شركاء لله ) ؟ الجواب ‪ :‬جعلوا الجن ! والذي جعله‬
‫لتركيب اآلية ‪ .‬هل تف ِّس ر هذا التصرف على أنه اعتباط محض أم أنه‬
‫شعر بتجاوز الحدود المسموح بها فأضاف هذه الفقرة ‪ ،‬والتي غفل‬
‫إنها قد أبطلت السؤال المقّدر الذي وضعه قبيل ذلك وأثبتت بدًال عنه‬
‫السؤال القصدي ؟ ! ‪.‬‬
‫وحينما أراد شرح هذا األمر قال ‪:‬‬
‫( إذا قلت ( ما في الدار كريم ) كنت قد نفيت الكينونة في الدار‬
‫عن كّل من يكون الكرم صفة له وحكم اإلنكار أبد ًا حكم النفي ) ‪.‬‬
‫وتتوجه هنا أسئلة أخرى ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬إن الجملة في المثال منفية فما عالقتها بالجملة القرآنية‬
‫التي تفيد اإلثبات حيث أثبت عليهم جعلهم شركاء لله ‪ .‬واإلنكار إنما‬
‫هو ضمني لكون الشركاء محال بينما وجود كريم في الدار ( للجملة‬
‫المنفية ) ليس محاًال !‬
‫الثاني ‪ :‬المتعلقات الخاصة باأللفاظ ـ فالدار تتصف بوجود كريم‬
‫أو انتفاء هذه الصفة عنها من خالل جملة خبرية فهنا طرفان فقط ‪.‬‬
‫اما اآلية فاألطراف ثالثة ـ الجاعلون ‪ ،‬ولفظ الجاللة ‪ ،‬والشركاء‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪175‬‬
‫‪3‬‬
‫فأين المتصف جواز ًا بصفة نفيت عنه باإلنكار الذي حكمه حكم‬
‫النفي فليس ثمة نفي أو إنكار بالمعنى اللغوي في اآلية ـ بل اإلنكار‬
‫أمر يخص السامع وهو تحصيل حاصل من إثباتهم شركاء ‪ .‬واذا قال‬
‫هو ( الله ) فذلك غايته ‪.‬‬
‫وقد ذكرت في كتاب سابق أن أي تمثيل للنص القرآني من قول‬
‫الخلق هو تحجيم للنص القرآني وعمل اعتباطي يقلب معنى النص‬
‫الى ضده ‪.‬‬
‫وفي الجمل الطويلة أيضًا يقوم االعتباط بتقدير مفردات والفاظ‬
‫يضعها هو مثل وضع ( يقولون ) في سياق آيتين فيتحول المقول‬
‫من كونه مقوال لله الى مقول للكافرين ويتم بذلك تمرير افكار‬
‫فلسفية في الجبر والقدر وغيرها وهي جزء من الفكر االعتباطي مَّر‬
‫عليك مثال لها في آية ‪ ‬وما أصابك من مصيبة فمن نفسك ‪ ‬ـ في‬
‫كتاب النظام القرآني ‪.‬‬
‫وبامكانك مالحظة التقدير االعتباطي لقوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من امن‬
‫‪ /‬المائدة‬ ‫بالله واليوم االخر فال خوف عليهم والهم يحزنون ‪‬‬
‫‪58‬‬
‫قال االعتباطيون ‪ :‬األصل إن الذين آمنوا والذين هادوا‬
‫والنصارى حكمهم هو كذا ‪ ،‬والصابئون كذلك على حد ما قاله‬
‫الشاعر ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪176‬‬
‫‪3‬‬
‫‪1‬‬
‫بغاة مابقينا في شقاق‬ ‫أال فاعلموا إّنا وأنتم‬

‫قال ‪ :‬أي فاعلموا إّنا بغاة وكذلك أنتم ألن الخبر يجب أن يأتي‬
‫أوًال فتعّج ل الشاعر ذكرهم ألنهم أكثر بغيًا من قومه ‪.‬‬
‫وهكذا ترك االعتباط اآلية وعّلقها على ما هو مثل معنى بيت‬
‫الشعر ‪ .‬وأود من القارئ أن ينتبه معي اآلن ويراجع نص اآلية فان‬
‫المجموعات المعطوف بعضها على بعض هي بالترتيب اربع‬
‫مجموعات ‪ ( :‬إن الذين آمنوا ‪ ،‬والذين هادوا ‪ ،‬والصابئون ‪،‬‬
‫والنصارئ ) ‪ .‬واالعتباط أخرج الصابئين فقط من النص وقّدم الخبر‬
‫وتم تزحيف النصارى مع أن ( الصابئين ) قبل النصارى في‬
‫الترتيب‪ .‬لماذا ؟ ألن المؤلف أراد اعتبار ( الصابئين ) أشرار ًا بما‬
‫يكفي إلبعادهم وتأخيرهم ‪ .‬مّر ة أخرى أؤكد أنه قد قام بذلك بالرغم‬
‫من أن ترتيبهم هو الثالث والنصارى هو الرابع ‪.‬‬
‫انظر ما قال ‪ ( :‬ذلك ألن الصابئين أبين هؤالء المعدودين ضالًال‬
‫وأشدهم غيًا وما ُس موا صابئين اّال ألنهم صبئوا عن األديان كلها‬
‫) !!‬
‫وذكر الماتريدي في وجوه التفسير الشيء نفسه وأبعد الصابئين‬
‫قال‪:‬‬
‫( وقيل فيه تقديم وتأخير كأنه قال أن الذين هادوا والنصارى‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان ـ ‪ ، 231‬وانظر تأويالت أهل السنة للماتريدي ‪158/‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪177‬‬
‫‪4‬‬
‫من آمن منهم بالله واليوم اآلخر والذين آمنوا ) ‪ . 2‬والوجوه‬
‫مذكورة في أكثر التفاسير المطولة ‪ .‬وخال هذا الوجه تمام ًا من‬
‫الصابئين كما ترى ‪.‬‬
‫ولكن االعتباط ينسى أنه حينما يريد تعريف الملل ‪ ،‬فقريبًا جد ًا‬
‫يقول عن الصابئة ‪:‬‬
‫( إنهم قوم يعبدون الكواكب ويذهبون مذهب الزنادقة ويقولون‬
‫بإثنين ال كتاب لهم وال علم لنا بهم )‬
‫ومعلوم أن هذه العبارة متناقضة فالزنادقة شيء وعبدة الكواكب‬
‫القول ( ال علم‬ ‫شيء وأهل اإللهين قوم غيرهم وكلها تناقض‬
‫لنا بهم ) فمن أين جاءوا إذن بهذه المعلومات ؟ وكما تالحظ في‬
‫العمل التفسيري فان ( رائحة ) الترويج لليهود والنصارى دون‬
‫الفئات األخرى واضحة وظاهرة ‪.‬‬
‫واالعتباط ال يدرك بالطبع أن هناك آيتين ( متشابهتين ) في هذا‬
‫السياق وأنه يقوم بعمل مختلف عند شرح كّل منهما في موردها ‪.‬‬
‫ففي آية البقرة ‪:‬‬
‫‪ ‬إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن‬
‫بالله واليوم اآلخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم وال خوف‬
‫عليهم والهم يحزنون ‪‬‬
‫حيث جاء ترتيب الصابئين رابع ًا استبعدوهم من األجر واألمان‬

‫‪1‬‬ ‫التأويالت ـ ج‪ 1‬ـ ‪159‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪178‬‬
‫‪4‬‬
‫من الخوف وفي آيه المائدة حيث جاءوا بالترتيب الثالث أّخ روهم‬
‫مع ( خبرهم ) في جملة مقدرة الى الترتيب الرابع وفي كّل ذلك ال‬
‫نجد شيئًا له عالقة بالتفسير ‪ ..‬إنما له عالقة باألهداف والصراعات‬
‫الم ّلية ‪ .‬فكيف تريد من الفكر االعتباطي اللغوي أن يخبرك عن سبب‬
‫التغّير في الترتيب بين النصارى والصابئين دون الفئتين األخريين‬
‫في النص القرآني بين المائدة والبقرة واالعتباط مشغول بالبحث‬
‫عن ترتيب جديد يخ ّص ه هو مقابل النص ؟؟ ‪.‬‬
‫وانظر اآلن من هو الذي صبأ فعًال عن األديان كلها ؟‬
‫فإن هذين النصين قد فضحا الفكر االعتباطي من جهة أخرى ‪.‬‬
‫فالمجموعات األربعة جمعها الله في م ّلة واحدة بمواصفات موّح دة‬
‫هي ( األيمان بالله واليوم اآلخر والعمل الصالح ) ـ ولم يشترط‬
‫شروط ًا أخرى تخّص ص اإليمان برسول معين وذلك هو ماتم ّيز به‬
‫( االسالم المحمدي ) ‪ ،‬فإذا آمنوا بشريعة النبي ( ص ) فقد خرجوا‬
‫من تسمية ( نصارى وصابئين وهادوا ) ـ والنص القرآني أبقاهم‬
‫في مّلتهم مع تلك الشروط فَش ْت مهم والتهّج م عليهم ال يتجزأ أي أنه‬
‫( الذين آمنوا ) به ولكل‬ ‫شتيمة لإلسالم المحمدي وللصحابة‬
‫مؤمن بالله يعمل صالحا من كّل األماكن واألزمان حيث هم إحدى‬
‫المجموعات األربعة ‪ .‬فأقرا اآلية لترى أن اإلعتباطية وهي تسُّب‬
‫إحدى المجموعات إنما ُتخِر ج بهذا السب نفسها من المجموعات‬
‫األربعة ‪ .‬فاإلعتباطية تشتم ( الصحابة والتابعين والتابعين لهم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪179‬‬
‫‪3‬‬
‫باحسان ) وكل مؤمن الى يوم الدين ‪.‬‬
‫ولربما تدرك جيدا أن المجموعات األربعة هي االتجاه القصدي‬
‫وهي مجموعات فرد ّية متفرقة في الملل ‪ ،‬وان االعتباط هو األكثرية‬
‫وغاية االعتباط بالطبع هو تأجيج الصراعات والحروب وإثارة الفتن‬
‫وهو نقيض الغايات التي جاء بها االسالم من الجمع والتوحيد ‪.‬‬
‫واإلعتباطية لم تستخدم هذين الموردين فقط لتحقيق أهدافها في‬
‫الصراعات وتفريق الملل والشعوب وإنما استخدمت كّل النصوص‬
‫ذات العالقة ‪.‬‬
‫واالسلوب هو نفسه اي شتم القصّدية وحرف الناس عنها من‬
‫خالل القصدية ونصوصها ـ فحيث ال يمكن لالعتباط من الجهر‬
‫بمحاربة الدِّين يقوم بمحاربته من داخله ـ واالعتباط في الملل‬
‫مصطلح‬ ‫االخرى يؤدي الدور نفسه ‪ .‬ففي الغرب يستخدم‬
‫( المحمديون الوثنيون ) ‪ ،‬واالعتباط ( المسيحي واليهودي ) يتمّلق‬
‫الدين بشتم نفس الدين من خالل تسمية أخرى ـ تمام ًا مثلما يفعل‬
‫االعتباط في ( اإلسالم ) حينما يقوم بمحاربة اإلسالم من خالل‬
‫عناوين أخرى ‪.‬‬
‫فمن النصوص المستخدمة جميع النصوص المتعلقة بالتسميات‬
‫‪ :‬النصارى ‪ ،‬أهل اإلنجيل ‪ ،‬اليهود ‪ ،‬الذين هادوا ‪ ،‬بني إسرائيل ‪،‬‬
‫الذين أوتوا الكتاب ‪ ،‬الذين آتيناهم الكتاب ‪ ..‬الخ ‪ .‬ومعلوم أن هذه‬
‫االلفاظ والمركبات المتنوعة في القرآن تحمل داللتها المستق ّلة ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪180‬‬
‫‪3‬‬
‫فكانت المرادفات هي السالح المكين لالعتباطية لخلط األمور‬
‫وتمرير أفكارها ـ ومثال ذلك أنها استعملت اآليات التي تهاجم فئات‬
‫معينة لتفسير آيات أخرى تتحدث عن القصدية ووحدتها العامة في‬
‫القرآن ـ واشاعت أن العهدين القديم والجديد ليس فيه شيء من‬
‫كالم الله ‪ ،‬وإن وجد فهو منسوخ وذلك إلفراغ القرآن من محتواه‬
‫الشمولي باعتباره ( مهيمنًا ) على الكتاب و ( مصّدقًا ) لما بين‬
‫يديه من الكتاب وشارح ًا لغوامضه بما فيه من نظام محكم وصارم‬
‫فكانت تلك الفكرة التي هاجمت ظاهريًا أهل الكتاب هي بغية‬
‫اإلعتباطية في أهل الكتاب وهدفها ـ كما في قوله تعالى ‪ (:‬كلما‬
‫أوقدوا نارا للحرب اطفأها الله ) ـ إذ التفريق وتأجيج الحروب هو‬
‫طبيعة من طبائع االعتباط ‪ .‬الحظ بعض النصوص ‪:‬‬
‫‪ ‬وليحـكم أهُل اإلنجيل بما أنزَل اللُه فيه وَم ْن َلْم يحكم بما أنزَل اللُه‬
‫فأولئك هم الفاسقون ‪. ‬‬
‫ويدل النص على أن ما أنزل الله في اإلنجيل موجود والقرآن‬
‫أو‬ ‫يطالبهم بالحكم به بينما يشيع االعتباط أنه ال وجود له‬
‫( منسوخ ) أو ( محّر ف ) !!‬
‫‪ ‬إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونوٌر يحكم بها النبيون الذين‬
‫أسلموا للذين هادوا والربانيون واالحبار بما اسُتحفظوا من كتاب‬
‫الله وكانوا عليه شهداء فال تخشوا الناس واخشون والتشتروا‬
‫بآياتي ثمنًا قليال ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون ‪‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪181‬‬
‫‪3‬‬
‫‪44‬‬ ‫المائدة ‪/‬‬
‫ويشير النص بوضوح الى التيار القصدي الذي يدرك ما استحفظ‬
‫من الكتاب والذي يخشى الحكم به من الناس فيطالبه القرآن اّال‬
‫يخشى الناس ‪ .‬ولّم ا أشار النص الثالث المتعلق بهذا الترابط بين‬
‫الكتب في تصديق بعضها لبعض وطالب النبي ( ص ) بالحكم لم‬
‫يذكر الحكم بما أنزل الله في القرآن خصوصًا بل طالبه بالحكم بما‬
‫انزل الله بصفٍة مطلقٍه وشمول الكتب كلها بالحكم الحظ النص ‪:‬‬
‫‪ ‬وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصّدقًا لما بين يديه من الكتاب‬
‫ومهيمنًا عليه فاحكْم بينهم بما أنزل الله وال تتبع أهوائهم عما‬
‫جاءك من الحق لكٍل جعلنا شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمًة‬
‫واحدًة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ‪ ‬المائدة ‪48 /‬‬
‫فالشرعة والمنهاج شيء واإليمان بالله واليوم اآلخر والعمل‬
‫الصالح شيء آخر ‪ .‬إن الشرعة والمنهاج هي اسلوب العمل الصالح‬
‫‪ .‬ولك أن تالحظ أن النص اشار الى إنزال الكتاب وهو في منهجنا‬
‫القرآني قطع ًا ليس القرآن فقط ‪ .‬وإنما هو الكتاب الكلي الذي يشتمل‬
‫على كّل الكتب السابقة ويزيد عليها فالحظ دخول ( من ) البعضية‬
‫على الكتاب الثاني ـ فالكل مهيمن ومصّدق لجميع األجزاء ‪.‬‬
‫واإلعتباطية ال تدرك بل ال تريد أن تدرك الفوارق اللفظية وال تم ّيز‬
‫بين الوحي والتنزيل واإلنزال ‪ ،‬وال تفّر ق بين الكتاب والقرآن وما‬
‫هو من الكتاب وال تعلم وال تريد أن تعلم الفرق بين اهل الكتاب‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪182‬‬
‫‪3‬‬
‫والذين أوتو الكتاب ‪ ..‬الخ فعملها وغايتها هو االعتباط ‪.‬‬
‫وبصفة عامة ‪ :‬فإّن الفكر االعتباطي يحاول تج ّنب النظام‬
‫القرآني ويف ّض ل الخوض في المجازات واالحتماالت ‪ .‬وحينما يبّر ر‬
‫هذه العملية فإنه يرد على نفسه ـ فالمبرر الذي تكرره اإلعتباطية‬
‫هو أن القرآن ال يعلم تأويله إّال الله ‪ .‬فهنا مناقشتان تصّح ان‬
‫إلسكاته ‪ .‬األولى ‪ :‬إن التأويل المطلق ال يعلمه إال الله ـ ألن الفاظ‬
‫هذا النص مطلقة فال يمنع ذلك من دخول التأويل الممكن معرفته‬
‫والذي هو جزء من المطلق ‪ ،‬إذ لو كان المعنى ال يعلم أحد تأويله‬
‫مطلق ًا بأِّي حٍد من الحدود فإنزاله عبث وإذا كان يعلمه أفراد على‬
‫الخصوص فِلم ال تَّتبع االعتباطية أولئك األفراد ؟‬
‫والثانية ‪ :‬إن تأويله ( أي حقيقة مطابقة معانيه أللفاظه ) إذا لم‬
‫يكن ممكنًا فمن أجاز لالعتباط التصّدي لتأويله ؟! إذ السكوت أولى‬
‫بها ! ‪.‬‬
‫لكن اإلعتباطية شأنها التناقض أبد ًا في المبادئ والسلوك فوجود‬
‫األفراد القصديين القادرين على تأويله يمنعها من القيام بتأويله‬
‫وبهذا الخصوص تقّر ر أن ال أحد يعلم تأويله ‪ .‬وعند غيابهم تقّر ر‬
‫إمكانية تعديد االحتماالت والوجوه لتأويله ‪ ،‬فأخذ القليل خير من‬
‫ترك الكثير ! ‪ .‬لكن القليل من االعتباط هو شر فما بالك بالكثير !‬
‫فاإلعتباطية حصرت التأويل بنفسها وهذا هو المطلوب‪.‬‬
‫وحينما يقوم األفراد بمتابعة تأويل اإلعتباطية فإنما يقومون‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪183‬‬
‫‪3‬‬
‫بمتابعة من هو ( مثل الحمار ) ألن ذلك هو المثل القرآني لمن‬
‫يحِّم ل األمانة لشخوص ال يحملوها ( أمانَة َفْه م النص اإللهي ) ‪:‬‬
‫‪ ‬مثل الذين ّح ِّم لوا التوراة ثم لـَْم يحملوها كمثِل الحماِر يحمُل‬
‫أسفارا ‪. ‬‬
‫والتابع أدنى رتبة من المتبوع فيلزمه انطباق المثل عليه‬
‫بصورة أشمل ‪.‬‬
‫ومعلوم أن االعتباط يحتال على هذا النص كما يحتال على غيره‬
‫النه يشعر أن النص يتحدث عن االعتباط ‪.‬‬
‫بيد اننا نكشف في النظام القرآني الفوارق الكبيرة بين ( الذين‬
‫آتيناهم الكتاب ) و ( الذين أوتوا الكتاب ) ‪ .‬فالمجموعة األولى نسب‬
‫فيها اإلتيان الى السماء والسماء ال تختار اّال رجاًال صالحين يؤتيهم‬
‫الله علم ًا لدنَّيًا لمعرفة الكتب المنزلة وأنظمتها ‪ .‬أما الذين أوتوا‬
‫الكتاب بالبناء للمجهول فهم مذمومون في جميع الموارد بعكس‬
‫المجموعة األولى ‪ ،‬ألن هؤالء سَّلمتهم األمم مهمة الكتاب ولم‬
‫يسِّلمهم الله هذه المهمة وقبلوا بذلك لحمقهم وغباءهم فلم يقدروا‬
‫على تحّم ل األمانة وخانتهم اللغة ونظامها ففضحوا أنفسهم‪.‬‬
‫والذين ُح ِّم لوا التوراة إنما هم مجموعة فرعية من أولئك ‪.‬‬
‫لكن االعتباط حاول االحتيال على هذا النظام الدقيق لالستعمال‬
‫القرآني فزعم أن ( الذين آتيناهم الكتاب ) هم ( أهل الكتاب ) حسب‬
‫المرادفات وهم اليهود والنصارى ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪184‬‬
‫‪3‬‬
‫واالعتباط دوم ًا يصنع ألفاظ ًا يف ّس ر بها ألفاظ ًا أخرى ‪ .‬من اجل‬
‫ذلك تميز كتاب "النظام القرآني" بوضع قواعد قاسية لمجابهة‬
‫االعتباط وسلك منهج ًا محدد ًا في قصدية األلفاظ القرآنية سميناه‬
‫هناك ( المنهج اللفظي ) ‪ ،‬ومثل هذه المباحث قد تأتي بإذن الله‬
‫مف َّص لة في كتٍب الحقٍة ‪ .‬لكننا نعتقد أن االمر واضٌح إذا قرأت ما‬
‫ذكرته بتأٍن وراجعت الموارد القرآنية بخصوص تلك االلفاظ ‪،‬‬
‫وعليك أن تعلم أن النص اذا كان يقصد ( اليهود والنصارى ) فقط‬
‫جاء بمركب يم ّيز به هذا االستعمال هو ( من قبلكم ) ـ وعند غيابه‬
‫فالمقصود بالطبع ( الحمير ) االعتباطيين من جميع الملل على‬
‫التمثيل القرآني ( مع االعتذار للقصدية هنا في استعمال اللفظ‬
‫مجرد ًا عن أدوات التشبيه وعلى الطريقة اإلعتباطية ) ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪185‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث السادس عشر‬
‫في أسباب التقّد م‬

‫األسباب الموضوعة لتقّدم األلفاظ على بعضها جعلتها‬


‫اإلعتباط ّية على صورة مسّلمات ودخلت كقواعد أساسية في البالغة‬
‫‪ ،‬مع العلم المسبق أنها ال تفسر االستعماالت اللغوية العامة فضًال‬
‫عن النصوص المميزة ‪ .‬ولم يكن شيء يصلح منها لتفسير ما يتكلم‬
‫به ُع ّو ام الناس فضًال عن األدباء ناهيك عن االستعمال القرآني ‪.‬‬
‫وسأذكر لك نماذج اعتباطية عديدة ‪:‬‬
‫النموذج االول ‪ :‬بشأن ترتيب األعداد ‪:‬‬
‫تَّدعي االعتباطية أن ذلك خاضٌع للرتبة فالواحُد مقّدم على‬
‫االثنين واالثنين مقدم على الثالثة وهكذا األقل مقَّدم على األكثر‬
‫وتسوق لذلك شواهد من القرآن واللغة ‪.‬‬
‫ولكنك تعلم أنك إذا وصفت بخيًال فتقول ‪ ... ( :‬ال يعطي السائل‬
‫عشرة دنانير بل ال يعطي دينار ًا وال دون ذلك ) ‪.‬‬
‫فأنت بصدد البخيل تنزل باألعداد مقدم ًا الكثرة على القلة ‪.‬‬
‫والذي يفعل العكس ُيعُّد جاهًال تمام ًا ‪ .‬وهو أمٌر يحسنه األميون‬
‫بإتقاٍن تاٍم ‪ ،‬ألنك حاشاك لو قلت ( ال يعطي دينار ًا ) فمن األولى أن‬
‫ال يعطي عشرة دنانير ‪.‬‬
‫ولكنك إذا قلت ألخيك المحتاج ( ال يهمك ‪..‬فأني أعطيك عشرة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪186‬‬
‫‪3‬‬
‫دنانير ومئة دينار بل أعطيك ألف ًا ) فأنت تر ِّتب األعداد ترتيبًا‬
‫تصاعديًا ـ وكذلك تفعل إذا وصفت كريم ًا ‪.‬‬
‫ومن هذا المثال البسيط تدرك جيد ًا أن ( األلفاظ ) تمتلك قيمة‬
‫بالمعنى كاألعداد وأنها تخضع في التقديم والتأخير لمغزى الكالم‬
‫وغاياته فال يحكمها قانون ( الرتبة ) ـ ومعنى ذلك أن األلفاظ كلها‬
‫على هذا النحو وليس األعداد فقط ‪ .‬ولكن اإلعتباط ّية قسّم ت األمر‬
‫الى أقسام ورتب في األعداد واأللفاظ ‪.‬‬
‫والمثال الذي يؤكد لك ما ذكرته اآلن هو أحُد النصوص القرآنية‬
‫الذي قدم وأخر في آٍن واحٍد بين لفظين في آيٍة واحدٍة هي قوله‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬وإذا رأوا تجارًة أو لهو ًا انفضوا أليها وتركوك قائم ًا قل ما‬
‫الجمعة ‪11 /‬‬ ‫عند الله خير من اللهو ومن التجارة ‪‬‬
‫إذ لّم ا كانت التجارة مصدر ًا لجمع المال فعند اقترانها باللهو‬
‫الذي يستهلك المال تتقّدم في معرض اإلقبال عليها ـ ولكن عندما‬
‫تريد من السامع اإلعراض فانه يبدأ باإلعراض من األدنى الى‬
‫األعلى فيتقدم اللهو على التجارة ‪.‬‬
‫وكذلك إذا قلت ألحٍد ما ‪ ( :‬ال تغَّر نك األلف دينار والعشرة آالف‬
‫فان العلم أفضل من األلف ومن العشرة آالف ) ‪.‬‬
‫فالتقديم والتأخير خاضع إذن لقوانين متحركة غير ثابتة ‪ .‬فما‬
‫يتقدم في حال يتأخر في حال آخر وما يتقدم مع لفظ معين يتأخر مع‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪187‬‬
‫‪3‬‬
‫لفظ آخر في نفس الحال ‪ .‬واحتماالت تقدم وتأخر اللفظ ال حدود لها‬
‫‪ .‬إذ ال حدود القترانه باأللفاظ االخرى وال حدود لمراد المتكلم في‬
‫اللغة ‪ .‬وما يحدده هو ( دراسة ) كّل نص على حدة باعتباره قضية‬
‫مستقلة تحمل تفسيرها في ذاتها ‪.‬‬
‫لكن انظر الى اإلعتباط ّية وهي تحدد التقدم بقوانين صارمة حيث‬
‫قالوا ‪:‬‬
‫( الثاني من األسباب هو التقدم بالذات كتقدم الواحد مع االثنين‬
‫ومنه قوله تعالى‪:‬‬
‫‪ /‬النساء ‪3 -‬‬ ‫‪ ‬مثنًى وثالث ورباع ‪.‬‬
‫وقوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬ما يكون من نجوى ثالثة اال هو رابعهم ‪ / . ‬المجادلة ‪7 -‬‬
‫وكذلك مراتب العـدد فكل مرتبة أدنى من األخرى فهي متقدمة‬
‫‪1‬‬
‫على ما فوقها)‬
‫وقد تقّدم األعلى على األدنى خالف ًا للقاعدة في ألوف أو ماليين‬
‫االستعماالت البشرية مثلما تقدم القنطار على الدينار في النص‬
‫القرآني ‪:‬‬
‫‪ ‬مــن أهل الكتاب مْن إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم مْن إن‬
‫تأمنه بدينار ال يؤده إليك ‪ / ‬آل عمران ـ ‪75‬‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان ـ ‪290‬ـ ‪. 291‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪188‬‬
‫‪4‬‬
‫النموذج الثاني ‪ :‬أرادت االعتباطية وضع قواعد الرتبة لأللفاظ‬
‫أيضًا أسوًة باألعداد ! ‪.‬‬
‫فزعمت أن قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬إنما أموالكم وأوالدكم فتنة ‪ / ‬التغابن ‪15 -‬‬
‫( تقديم األموال من تقديم السبب فإنما يشرع في النكاح عند‬
‫قدرته فهو سبب التزويج والنكاح سبب التناسل فالمال سبب للتنعم‬
‫بالولد وفقده سبب للشقاء به ) ‪.‬‬
‫ولكن اإلعتباط ّية وليس بعيد ًا عن هذا الموضع بل في نفس‬
‫الصفحة وما يتلوها ذكرت سبب تقدم األلفاظ والمسميات في قوله‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫‪ُ ‬ز َّين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة‬
‫من الذهب والفضة والخيل المسَّو مة واألنعام والحرث ‪/‬آل عمران‪/‬‬
‫‪14‬‬
‫فقد تقَّدم البنين هنا على المال !‬
‫قالت ‪ ( :‬فلما صِّدرت اآلية بذكر ( الحّب ) اقتضت حكمة الترتيب‬
‫أن يقِّدم ما هو األهم فاألهم في رتبة المحبوبات فَأَّخ َر ذكر الذهب‬
‫والفضة عن النساء والبنين ألنهما أقوى في الشهوة الجبلِّية من‬
‫المال فان الطبع يحث على بذل المال لتحصيل النكاح والولد ) ‪.‬‬
‫ويمكن للقصدية أن تسأل ‪ :‬إذا كان األمر كذلك وجَب أن يقول‬
‫في اآلية األولى ( إنما أوالدكم ) ألن األوالد أقوى في الشهوة وأهم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪189‬‬
‫‪3‬‬
‫من المال الذي يبذل ( بالطبع ) لهما وبالتالي تكون ( الفتنة ) بهما‬
‫أشد وهي موضوع اآلية األولى !‬
‫ففي نفس الصفحة يقدم االعتباط المال على الولد ثم يقوم بتقديم‬
‫الولد على المال لتفسير آية أخرى بناء ًا على سبٍب واحٍد متالعبًا‬
‫باأللفاظ !‬

‫النموذج الثالث ‪ :‬لقد سَّم ت االعتباطية الموارد اآلنفة ( التقدم‬


‫الذي يقع في محل التعارض ) ‪.‬‬
‫وقال الزملكاني ‪ :‬فحينئذ ـ أي عندما تكون في كّل من الشيئين‬
‫صفة تقتضي تقدمه ـ يكون الترجيح ألهَّم ها في ذلك المحل !! ‪.‬‬
‫فالنص المذكور متناقض من حيث أنه ال صفة ثابتة للشيء‬
‫لمتابعة‬ ‫تقتضي تعارضًا مع اآلخر ـ لكنه اضطر اضطرار ًا‬
‫( المحل ) ـ وعند التطبيق كما الحظت جعل السبب نفسه ينعكس ولم‬
‫ُيسعفه المحل بشيء ألنه ال غاية له حقيقية في تدبره ‪ .‬فكذلك فعل‬
‫في ( السماء واألرض ) قال ‪ ( :‬وأما تقديم السماء على األرض‬
‫فألنها أكمل شرفًا ومستقر ًا ) ‪.‬‬
‫وإن تأخيرها في آية أخرى ( آية يونس ‪ ) 61 /‬هو بسبب‬
‫المحل إذ يتحدث وبحسب ما تقدمه من آيات عن شهادته تعالى‬
‫ألعمال الخلق ‪.‬‬
‫ولما كانت آية سبأ تتحدث عن نفس الموضوع ومع ذلك تقدم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪190‬‬
‫‪3‬‬
‫فيها ذكر السماء على األرض فانه حاول إظهار األمر وإخفاءه في‬
‫آٍن واحٍد بعبارة غامضة حيث قال ‪ ( :‬وهذا بخالف اآلية في سبأ‬
‫فأنها منتظمة في سياق علم الغيب ) ‪1‬مع أن اآليتين تذكران األمر‬
‫بصيغ متشابهة وعلى النحو آالتي ‪:‬‬
‫آية يونس ‪:‬‬
‫‪ ‬وما يعزُب عن رّبك من مثقال ذرة في األرض وال في السماء‬
‫‪ / . ‬يونس ‪61 -‬‬

‫آية سبأ ‪:‬‬


‫‪ ‬ال يعزُب عنه مثقاُل ذرٍة في السماواِت وال في األرض ‪ / ‬سبأ‬
‫‪3-‬‬
‫فكالهما يتحدث في البدء عن هذا العلم فانظر الى كذب االعتباط‬
‫ومكره !‬
‫ومعلوم أن اإلعتباط ّية أبعد ما تكون عن فهم هذا التقديم‬
‫والتأخير وهي بهذا التخّبط ‪.‬‬
‫ومع ذلك فان تقديم ( السماء على األرض ) ـ ألنها أكمل شرفًا‬
‫مع مورد‬ ‫ومستقر ًا ـ على حِّد تعبيره يتناقض هو اآلخر‬
‫( فصلت ) الذي لم يذكره والذي يتقدم فيه األرض على السماء ـ مع‬
‫أن الموضوع متصل بـ ( الشرف واالستقرار ) ـ ألن المورد يتحّدث‬
‫‪1‬‬ ‫البرهان ـ ‪. 295‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪191‬‬
‫‪5‬‬
‫عن مراحل الخلق وما تعلق به من أرزاق مقَّدرة تقدير ًا ‪.‬‬

‫النموذج الرابع ‪ :‬قالوا ‪ ( :‬ومن نوع التقّدم بالرتبة ( سميع‬


‫عليم ) ألن ذلك يتضّم ن التهديد !! ولتعلقه باألصوات ‪ ،‬فمن يسمع‬
‫ِح ّس ك قد يكون أقرب إليك في العادة ممن يعلم ) ‪.1‬‬
‫إذن فاالعتباطية تزعم أن سميع أعظم في التهديد من عليم‬
‫فالرتبة هي من األعلى الى األدنى ‪.‬‬
‫وفي هذا ثالث مناقشات ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬إن الصفات المذكورة بهذا الترتيب ليست في موضع‬
‫التهديد ‪ .‬وإن هذا الرجل االعتباطي ليتخَّبط ‪ .‬الحظ بعض هذه‬
‫الموارد ‪:‬‬
‫‪ ‬رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ‪ / ‬الدخان ‪6‬‬
‫‪ ‬من كان يرجو لقاء الله فان أجل الله آلت وهو السميع العليم‬
‫‪ / ‬العنكبوت ‪5‬‬
‫‪ ‬فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم ‪ / ‬يوسف ‪34‬‬
‫‪ ‬وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ‪ / ‬األنفال ‪61‬‬
‫‪ ‬فسيكفيكهم الله إنه هو السميع العليم ‪ / ‬البقرة ‪137‬‬
‫‪ ‬ذر َّية بعضها من بعض والله سميع عليم ‪ / ‬آل عمران ‪34‬‬
‫‪ ‬ر َّبنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ‪ / ‬البقرة ‪127‬‬
‫‪1‬‬ ‫البرهان ‪.295 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪192‬‬
‫‪4‬‬
‫بل يمكن القول إن هذا المرّك ب ( سميع عليم ) مختص بالرحمة‬
‫‪ ،‬وإذا ورد في حاالت التجاوز فالمقصود به والمخاطب به أولئك‬
‫المبرءون من التجاوز مثل ‪:‬‬
‫‪ ‬فإنما إثمه على الذين يبِّدلونه إن الله سميع عليم ‪ / ‬البقرة‬
‫‪181‬‬
‫( فالسميع العليم ) مرّك ب ( االطمئنان ) ونزول الرحمة وتبديل‬
‫السيئات الى حسنات فالحظ بنفسك بقية الموارد ‪.‬‬

‫الثانية ‪ :‬إن الترتيب التنازلي هذا يقتضي أن تكون صفاته تعالى‬


‫متفاوتة وهي مشكلة كالمية ال تقِد ر االعتباطية على حّلها إذا‬
‫افترضنا أنها لم تكن تنوي أصًال أثارتها ‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬في أِّي موضع بالغي يكون الترتيب تنازليًا في مسألة‬
‫خصائص وصفات للمتكلم ؟ فهذا خالف البالغة إذ يجب أن تتصاعد‬
‫الصفات ليسمع المتلقي ما هو أعلى ال ما هو أدنى ‪.‬‬
‫فالحظ أن المتنبي لو قال ‪ ( :‬القلم والقرطاس يعرفني ) قبل‬
‫الخيل والليل والسيف والرمح لكان هناك خلل ال ينجبر ‪ .‬ذلك ألن‬
‫الشجاعة في الحرب أكبر من الخروج في الظلمة وهي عامة غير‬
‫مخصوصة بعالم أو جاهل فلما ضَّم إليها المعرفة بالقلم والقرطاس‬
‫وهي صفة أكبر زادت من خصائص الشجاعة ـ إذ فهم السامع أن‬
‫الرجل ليس متهور ًا أو شجاعته شجاعة الجاهل بل شجاعة معها‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪193‬‬
‫‪3‬‬
‫معرفة وعلم وهذا يندر حصوله ‪ .‬ويبقى الحل القصدي سائر ًا في‬
‫نظام القرآن خاصة ونظام اللغة ‪( :‬فالسميع) صيغة تفيد أنه سامع‬
‫لكل ما يقال ويفهم جيد ًا ما يسمعه ولكن لما كان المركب بخصوص‬
‫الرحمة وعصمة المؤمنين من مصائب االعتباطية وقولها الزور‬
‫فيحتاج الى ( علم ) بالذوات ونواياهم ـ وهذا هو السبب في‬
‫استخدامِه مع الرسل واألولياء ألنه سميع للدعاء ولكل كالم سر ًا‬
‫وجهر ًا وعليم بنوايا ومصادر وموارد هذا الكالم ‪.‬‬
‫وحينما ال يتعلق األمر بالذوات ونواياهم يقترن مع السميع لفظ‬
‫البصير حيث موارده الخاصة تحتاج الى رؤية الحوادث والوقائع‬
‫والحركات فيجتمع هنا ( الفعل اإلنساني ) بكامله ألن فعل اإلنسان‬
‫الخارجي هو عبارة عن ( قول وحركة ) فالصفات متعلقة‬
‫بالمخاطبين وترتيبها هو للمخاطبين ‪ .‬الحظ الموارد ‪:‬‬

‫‪ /‬اإلسراء‬ ‫أ ‪ ( .‬لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير )‬


‫‪1‬‬
‫فالنية لم تذكر ـ ألنه يعلمها وال ضرورة لذكرها تشريف ًا للنبي‬
‫( ص ) وبقى الفعل الخارجي فجمعه في مركب ( السميع البصير ) ‪،‬‬
‫على أن النية ظاهرة في أول اآلية أيضا ‪.‬‬
‫ب ‪ ( .‬إن الله نعّم ا يعضكم به إن الله كان سميع ًا بصير ًا ) ‪/‬‬
‫النساء ‪58 -‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪194‬‬
‫‪3‬‬
‫فالنية خوطبت بالوعظ وللفعل الخارجي ( سميع بصير ) ‪.‬‬

‫ج ‪ ( .‬إنا خلقنا اإلنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميع ًا‬


‫‪ /‬اإلنسان ‪2 -‬‬ ‫بصير ًا )‬
‫فالنية ابتليت بقوله نبتليه وظهور فعلها في الخارج فلم يجعله‬
‫أصم ًا وأعمى ( بالمعنى القصدي ) بل جعله سميع ًا بصير ًا ‪.‬‬
‫وهكذا بقية الموارد ‪ ،‬وقد يقال إذا كان األمر كذلك فلَم ال يكفي‬
‫لفظ ( عليم ) في موارد ( السميع العليم ) ؟‬
‫وهذا مجرد وهم ألن السميع ليس هو السامع ألن السامع يسمع‬
‫حينًا دون حين ـ والسميع عند الله صفة فيه ال عالقة لها بإرادته‬
‫للسماع فليس ثمة شيء ال يريد سماعه في ملكه فإذا انفردت صفة‬
‫( عليم ) ‪ ،‬اقتصرت على المعرفة والعلم فإذا كان العلم باألشياء‬
‫يتأخر بعد حصول المعلوم في الوقائع فالسميع يتقدم لحصول اآلنية‬
‫واإلطالق في العلم ‪ .‬وهو خالف الرأي االعتباطي القائل بان الله‬
‫يعلم باألشياء بعد وقوعها ‪ .‬ولو كان لفظ ( عليم ) قد تقّدم على‬
‫السميع في موارد الرحمة لكان هذا الرأي صحيح ًا ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪195‬‬
‫‪3‬‬
‫النموذج الخامس ‪ :‬في قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬واسجدي واركعي مع الراكعين ‪ / ‬آل عمران ‪43 -‬‬
‫وقوله ‪:‬‬
‫‪ ‬للطائفين والقائمين والركع السجود ‪ / ‬آل عمران ‪26 -‬‬
‫تخّبطت اإلعتباط ّية في تخريج تقدم السجود على الركوع في‬
‫األولى وانعكاسه في الثانية ‪ .‬فلم تتمكن بواسطة الرتبة من حّل هذا‬
‫اإلشكال ولذلك قدمت ( متواضعة ) هذه المرة بعض االقتراحات‬
‫االعتباطية وذلك حينما جوبهت بالسؤال ‪:‬‬
‫( إن الركوع مقَّدم على السجود بالزمان والرتبة ومساس‬
‫األرض ) !‬
‫فمن تلك المقترحات ‪:‬‬
‫أ ‪ .‬إّن ( اركعي ) بمعنى ( اشكري ) ! وهكذا تتخلى االعتباطية‬
‫عن الداللة الشرعية والعرفية واالقتضائية والتضمنية وجميع‬
‫الدالالت ! ‪.‬‬
‫ب ‪ .‬إن ( اسجدي ) بمعنى صلّي ـ كي تتقدم الصالة في عمومها‬
‫على الركوع وهو مثل االول ‪.‬‬
‫ج ‪ .‬إن اسجدي ‪ :‬صلي في بيتك واركعي ‪ :‬صلّي جماعًة ‪.‬‬
‫وهي محاولة لالستفادة من عبارة ( مع الراكعين ) وذلك بالرغم‬
‫الجماعة ( أفضل‬ ‫من أن المأمور امرأة ‪ .‬ولما كانت الصالة في‬
‫) دوم ًا في الحل االعتباطي فقد انتقض الحل واختل الترتيب ‪ .‬فقالوا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪196‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ :‬بل يبقى ألن صالة المرأة منفردة أفضل من صالتها في جماعة‬
‫( في جميع التفاسير المطولة ) ‪.1‬‬
‫والقصدية تسأل ‪ :‬ما ذنب هذه الصِّديقة فيحرمها الله من الصالة‬
‫األفضل ولماذا ال يمنحها الحرية كي ال تحتسب حسناتها مّر ة أقّل‬
‫ومرة أكثر ما دامت صالة الجماعة جائزة لها وليست محرمة ؟ ‪.‬‬
‫وكان المفروض أن اآلية األولى سائرة في الحّل ألَّن ( السجود‬
‫مقدم بالرتبة على الركوع ) فلما وجدوا تقّدم الركوع في الثانية‬
‫وفي قوله تعالى ( تراهم رَّك ع ًا سجد ًا ) ووجدوا تقدم الركوع في‬
‫الزمان ومساس األرض في الصالة انعكس األمر فأصبحت اآلية‬
‫األولى هي المخالفة للحل االعتباطي ‪.‬‬
‫أما الحّل القصدي فواضح ـ إذ أنه ال يقّر ر وجود رتبة محددة‬
‫لكّل لفظ بل التقديم والتأخير يحّدده المتكلم لغاياته اآلنية خالل‬
‫الواقعة وموضوعها ومثلما أوضحناه في بداية هذا الموضوع في‬
‫األعداد ‪.‬‬
‫فالخطاب الموّج ه لمريم ( ‪ )‬وهي امرأة ‪ ،‬أجاز لها الشرع‬
‫أشياء لم يجزها للرجل وتسامح في عبادتها في مواضع عديدة‬
‫معلومة ـ في مثل هذا الخطاب يتوجه األمر من الحركة األدنى الى‬
‫الحركة األعلى ‪ .‬مثلما تقول إلنساٍن ما ‪ ( :‬تحّر ك قليًال ) ثم تقول ‪:‬‬
‫أمش ثم تقول ‪ :‬بل اركض إن قدرت ) ـ ولو بدأت بالركض أوًال لما‬

‫‪1‬‬ ‫انظر أصل هذه الوجوه في البرهان ‪. 296 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪197‬‬
‫‪4‬‬
‫كانت هناك فرصة الستئناسه وتطمينه على موافقتك إذا اقتصر على‬
‫المشي أو الحركة ‪ .‬فهذا الترتيب يمنحه العزيمة على فعل األشياء‬
‫كما ر ّتبتها له وهذا واضح ‪ .‬فالحركة بشأن مريم ( ع ) انتقلت من (‬
‫اقنتي ) حيث القنوت مناجاة ال تحتاج الى حركة الى ( اسجدي )‬
‫وهو أمر أعلى حركة وصرف للطاقة وانتقلت بعد ذلك الى ( اركعي‬
‫) وهو أعالها حركة فقال ( مع الراكعين ) كي ال يفوتها الركوع‬
‫الذي يفعله الرسل واألولياء فليس ثمة صالة مفردة وصالة جماعة‬
‫ـ إنما هي معية ألمثالها من األولياء في كّل األزمان ‪.‬‬
‫أما اآليات األخرى فهي بحركة معكوسة الختالف المخاطبين‬
‫والموضوع ‪.‬‬
‫األمر اإللهي إلبراهيم وإسماعيل هو تطهير البيت ( وطهرا بيتي‬
‫هو‬ ‫) والسؤال المفترض اآلن هو ‪ :‬لمن ؟ والجواب‬
‫( للطائفين ) ومعلوم أن الطائف ـ يطوف ويخرج فالحركة اآلن‬
‫تصاعدية ‪ :‬بل للقائمين أيضًا ! وهؤالء زمنهم أطول والخدمة التي‬
‫يحتاجونها أكبر وال زالت الحركة تتصاعد ( والرّك ع السجود )‬
‫وهؤالء بقاءهم أطول وخدمتهم أكثر فأعطى ( السجود ) داللة‬
‫وصفية ووصف به الرّك ع وذلك إلمكانية أن يقوم الرّك ع بالسجود‬
‫وتج ّنب ذكر طائفة رابعة وأوحى للرّك ع بضرورة السجود مثلما‬
‫أوحى للقائمين بضرورة الركوع ومثلما أوحى للطائفين بضرورة‬
‫القيام ‪ .‬فبالنسبة للزائرين كان الترتيب تنازليًا وبالنسبة للمأمور‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪198‬‬
‫‪3‬‬
‫بالتطهير وهو مركز هذا الترتيب كان تصاعديًا ( إذا خدمت‬
‫الطائفين فاخدم القائمين ) فكيف ال يخدم والعبادة تتصاعد ؟ ( وإذا‬
‫خدمت القائمين فاخدم الركع السجود ) فكذلك يفعل ‪.‬‬
‫أما الرتبة الذاتية للمفردة فهي موضوع آخر في العبادة وتلك‬
‫مسألة شرعية ‪ ،‬فالترتيب نفسه أعلن أن القيام مع الطواف أفضل (‬
‫لنفس الشخص ) من الطواف وحده ‪ .‬وبالطبع فليس ثمة قيام بال‬
‫طواف ! والقيام أسهل والمثوبة أعظم ‪.‬‬
‫وكذلك أعلن أن الركوع مع القيام أفضل وليس ثمة ركوع بال‬
‫قيام ! وكذلك األمر في السجود ـ وليست هناك أفضليات قائمة في‬
‫األلفاظ والرتب فاألمر هنا عام للخلق كلهم ـ وهناك خطاب خاص‬
‫إلمرأة صّديقة ‪ ،‬فيحكم ترتيب األلفاظ موضوعها والمخاطب بها‬
‫ومراد المتكلم وأحوال المتلقي وعالقته به ـ شأنه شأن أّية عبارة‬
‫يرتبها المتكلم في موضوعها وأحواله ‪ .‬وفي القرآن تكون المشكلة‬
‫أكبر بكثير بل ال يمكن تقدير حجمها ألن اآلية ليست منتظمة في‬
‫ذاتها فقط وإنما هي متصلة لفظيًا بجميع اآليات باالقتران المباشر‬
‫وغير المباشر ـ فتحديد رتبة للفظ إنما هو خروج تام عن هذا‬
‫النسيج وفرار من نظامه ‪.‬‬
‫نعم للمفردة معنًى محدٌد في المنهج اللفظي يتم بموجبه إلغاء‬
‫المترادفات وهذا ال عالقة له بالرتبة المذكورة في االعتباطية وقد‬
‫تو ّض ح لكم كما ينبغي ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪199‬‬
‫‪3‬‬
1
2 200
3
‫المبحث السابع عشر‬
‫همزة االستفهام‬

‫يقوم الحل االعتباطي بتقرير وضع الداللة الخاصة بكل لفظ خالل‬
‫( معاناته ) تجربة اإلجابة على االشكاالت اللغوية ‪ ،‬فيضع الحل‬
‫خالل العملية ال قبلها ‪ ،‬وهذا يعني أن موضوع اإلشكال ينعكس‬
‫نفسه بأثٍر معيٍن على الحل ـ فكأن االعتباطية وفي كّل حالة من‬
‫حاالت اإلشكال ليس عليها إال التخلص من ذلك المورد وحسب‬
‫سواء كان أدبيًا أو خطابيًا أو قرآنيًا أو غير ذلك ‪ .‬وهي تكره أيضًا‬
‫وضع منهج محّدد ألن ذلك يق ّيدها ويغاير أهدافها ‪.‬‬
‫حينما تدخل همزة االستفهام على األلفاظ ـ فال حدود معينة لهذا‬
‫الدخول إذ يمكن ترتيب نفس الجملة بصور مختلفة كّل منها يؤدي‬
‫غرضًا ما ‪ .‬وحاول معي اآلن أن تجرب بطريقتك وباالستعماالت‬
‫العامية جد ًا كيفية طرح سؤال عن قيام شخص معين وخروجه من‬
‫عندك ‪ .‬فمرًة أنت تطلب قيام زيد في حاجة ما واآلن فأنت ال تراه‬
‫أمامك وعندئذ تسأل ‪َ ( :‬أقام زيد ؟ ) ليذهب في الحاجة ؟ وبالطبع‬
‫فيتوجب اآلن على المجيب إن أراد الدقة أن يقول ‪ :‬ال أو نعم ‪ .‬فإذا‬
‫كان عمرو قد ذهب بدًال عنه يقول ‪ :‬ال بل قام عمروا ‪.‬‬
‫فلنفرض اآلن فرضًا آخر ‪:‬‬
‫قام أحدهما ليذهب في الحاجة ولكنك ال تعلم من هو ‪ :‬زيد أم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪201‬‬
‫‪3‬‬
‫غيره ؟ فكيف تصوغ السؤال ‪ :‬مثل األول أم بصورة أخرى ؟ ‪.‬‬
‫الُع ّو ام وعلى السليقة يصوغونه بطريقة مختلفة حيث يقدمون االسم‬
‫فيقولون (أزيٌد قام ) ؟ والمجيب اآلن يعلم أنك تسأل عن الفاعل ‪.‬‬
‫أما الفعل فإنك تعلم أن أحد ًا ما فعله ‪ .‬في هذه الحالة إذا كان هو‬
‫فيقول ‪ :‬نعم ‪ .‬زيد قام ‪ .‬وإذا كان غيره يقول ‪ :‬بل عمرو قام ‪ .‬وال‬
‫يتوجب عليه أن يقول ‪ :‬ال ‪ .‬لماذا ؟ ألن السؤال السابق كان عن‬
‫الفعل وال بديل للفعل ألنه ثابت وهو( القيام ) ‪ ،‬أما في هذا السؤال‬
‫فالبديل موجود وهو عمرو ألن السؤال عن الفاعل فإذا قال لك ‪ :‬بل‬
‫عمرو ‪ .‬علمت أنه يريد عمرو ال زيد فال يحتاج أن يبدأ بنفي قيام‬
‫زيد ‪ .‬ولكن المجيب إذا َع ِلم أنك ال تبحث عن الخبر مجرد ًا بل تبحث‬
‫عمن فعل أي قيام فيجب عندئذ أن يبدأ اإلجابة بالنفي ‪ :‬ال ‪ .‬لم يقم‬
‫زيد بل عمرو ‪ .‬ليخّلص زيد ًا من القيام مطلق ًا ‪ .‬كذلك إذا كان يريد‬
‫الوشاية على زيد وتذكيرك بعدم تنفيذ األمر ‪ .‬وهذا موضوع خارج‬
‫عما نحن بصدده اآلن ـ إذ سيقوم بالوشاية أو بالتذكير لغرض آخر‬
‫واحتماالت ذلك ونبرة إطالق الكالم كثيرة جد ًا ‪ ،‬ونحن نتحدث اآلن‬
‫في صياغة الجملة لغويًا خالية من كّل غرض سوى اإلخبار المجّر د‬
‫عن قيام أحدهما ‪.‬‬
‫لكن اإلعتباط ّية تـزعم أن جواب الهمزة هو دوم ًا بـ ( نعم )أو‬
‫( ال ) وأن ( بل ) ال تصلح لتصدير الكــالم ‪ . 1‬واالعتباطية ليست‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ـ ‪170‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪202‬‬
‫‪4‬‬
‫غافلة بالطبع عن أّن السؤال وجوابه هو محاورة متصلة دوم ًا وأن‬
‫المخاطبات في المحاورات تجري دائم ًا على أن الكالم مستمٌر وليس‬
‫متجدد ًا ـ وأن المجيب والمحاور يكمل أحدهما لآلخر جمًال وعبارات‬
‫كّل ذلك ليس بغائب عن االعتباط ‪.‬‬
‫فلماذا فعلت ذلك ومتى ؟‬
‫قررت االعتباطية هذه القاعدة بصورة مفاجئة خالل بحث اآلية ‪:‬‬
‫‪ ‬أأنت فعـلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ‪ .‬قال بل َفعلُه ك َبيرُهم هذا‬
‫فاسألوهم أن كانوا ينطقون ‪ / ‬األنبياء – ‪.63‬‬

‫أما لماذا فعلت ذلك ؟ ‪ ،‬فألن المجيب إذا قال ‪ ( :‬ال ‪ .‬لم افعله بل‬
‫فعله فالن ) يكون قد أنكر وقوع الفعل منه بصفة مطلقة وحينما ال‬
‫يأتي بـ ( ال ) فهو يشير الى الفاعل وحسب ويمكن في هذه الحالة‬
‫أن يكون هو فاعل أيضًا بالمشاركة أو بالتبع ّية ولكنه يجيب عن‬
‫الفاعل الحقيقي ‪.‬‬
‫مثال ذلك ‪ :‬إذا عاتبت موظف ًا حكوميًا فقلت ‪ :‬أأنت فعلت هذا ؟‬
‫فإذا قال ‪ ( :‬ال بل فعله القاضي ) فمعناه أن القاضي قام بنفسه‬
‫بالعمل كامًال وإذا قال ‪ ( :‬بل فعله القاضي ) يكون المعنى أنه فعله‬
‫ولكن الفعل الحقيقي واألمر صادر من القاضي ‪.‬‬
‫غاية االعتباط هو تثبيت ( ال ) كإجابة مقّدرة على االستفهام‬
‫وبذلك يكون إبراهيم قد أنكر وقوع التكسير منه بصورة مطلقة وهو‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪203‬‬
‫‪3‬‬
‫خالف الواقع إذ يخبرنا القرآن أنه قام بفعل التكسير قبيل ذلك ‪.‬‬
‫وحينما وصل االعتباط الى هذه النتيجة بلغ غايته من السرور‬
‫لحدوث التناقض الذي يحتاج الى حل ‪ ،‬وقد تخّيل المؤلف أن ( رجًال‬
‫) محبًا للقرآن يحاوره ويعرض عليه حلوًال لتقدير الجملة‬
‫واالعتباطي يأبى ويف ّند تلك الحلول وعندئذ قال ( القصدي )‬
‫المسكين ‪ ( :‬يلزم على ما ذكرت أن يكون الخلف واقع ًا ‪ ) ..‬أي‬
‫التناقض !‬
‫فيقول المؤلف االعتباطي مسرور ًا ‪ ( :‬وانه الزٌم أن يكون‬
‫التقديَر ‪ ( :‬ما أنا فعلته بل َفعله كبيرُهم هذا ) مع زيادة الخلف عما‬
‫أفادته الجملة األولى من التعريض إذ منطوقها نفي الفعل وحصول‬
‫التكسير من غيره ) !‬
‫واآلن وقد بلغ القصدي غايته من اإلحباط قال ( متوسًال )‬
‫لالعتباطي ‪ ( :‬فال بد من ذكر ما يكون مخّلصًا من الخلف ) !‬
‫فقال االعتباطي مسرور ًا إلقرار القصدي بوجود التناقض‬
‫وتوسله أن في تخليص ( األمة اإلسالمية والقرآن منه ) قال ‪:‬‬
‫( ليكن على خاطرك ‪.1 ) ...‬‬
‫ثم يبدأ بسرد أربعة حلول مقترحة لتناقٍض كان هو رائَد ه‬
‫ومبتدَع ُه ‪.‬‬
‫فانظر الى عبارة ( ليكن على خاطرك ‪ ، ) ...‬فانه يتوجب على (‬

‫‪1‬‬ ‫المحاورة من البرهان ـ ‪. 172‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪204‬‬
‫‪4‬‬
‫المثقف ) اّال تفوته فرصة التحليل النفسي للعبارات في ذات الوقت ـ‬
‫فالمحاور هنا وإن كان رمز ًا لشخص ولكنه في حقيقته يمثل القرآن‬
‫نفسه فالقرآن هو الذي يطلب من االعتباطي تخليصه من مشكلة‬
‫التناقض ـ وهذا هدف هام من أهداف اإلعتباط ّية ـ أن يكونوا قّيمين‬
‫على الكتب المنزلة ويبّينوا بطريقتهم ( اآليات البّينات ) ‪.‬‬
‫وقد تقول أن المناقشة ال زالت قائمة مع وجود هذا العرض‬
‫الواضح لحيثياتها فما الذي انتفعت به اإلعتباط ّية من اإلصرار على‬
‫تضمن الجواب ( ال ) ؟ إذ بدونها يبقى التناقض قائم ًا ألنه يقول ‪( :‬‬
‫بل فعله كبيرهم ) ؟ ونحن نعلم أنه هو الفاعل ‪.‬‬
‫والجواب على ذلك أن هناك فائدة ‪ ،‬فالفائدة التي جنتها‬
‫االعتباطية هي جعل التناقض شديد ًا بحيث يستحيل حَّله بأي مقترح‬
‫لغوي مع وجود ( ال ) ‪.‬‬
‫أما هكذا وعلى ألفاظ اآلية فاألمر يأخذ اتجاه ًا آخر إذ أن إبراهيم‬
‫( ‪ ) ‬لم ينف الفعل عن نفسه وإنما نسبه الى ( كبيرهم ) فالمناقشة‬
‫في صحة هذه النسبة فقط ‪.‬‬
‫وسأوضح هذا األمر ‪:‬‬
‫إن ( بل ) تفيد ( اإلضراب ) دوم ًا ‪ .‬وهي في الحل القصدي كأي‬
‫لفظ آخر ال تتغير في المعنى الحظ اآلية اآلتية مثال ‪:‬‬
‫‪ ‬بل أدارَك علُم هم في اآلخرة بل هم في شٍك منها بْل هم منها‬
‫َع مُو ن ‪ / ‬النحل ‪66‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪205‬‬
‫‪3‬‬
‫فاإلضراب من صفة الى أخرى أو فعل الى آخر ال يلغي كون‬
‫السابق حقيقة فإذا كانوا في شك منها فال يعني أن علمهم لم يّدارك‬
‫في اآلخرة وإذا كانوا منها ( عمون ) فال يعني أنهم ليسوا في شك‬
‫منها بل هناك تدّر ج في تحديد وتخصيص وتشخيص حالتهم ـ أي‬
‫ليسوا في شك فقط إنما هم منها عمون أيضًا ‪.‬‬
‫واآلن انقل هذا المعنى للفظ ( بل ) وطريقته في العمل الى‬
‫المحاورة ‪:‬‬
‫أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ الجواب ‪ :‬بل فعله كبيرهم ‪.‬‬
‫وهذا إضراب عن الفعل بمعنى فعلته أنا بل فعله كبيرهم ـ تدّر ج‬
‫من ذكر المسبب الفرعي الى المسبب األصلي األكثر تخصيصًا ‪.‬‬
‫إذن فهذا الحل هو نقيض التقدير االعتباطي الذي ال يفوته معنى‬
‫( بل ) وفائدتها في إكمال المحاورة من حيث انتهت واالنتقال الى‬
‫فاعل اكثر تخصيصًا ‪ .‬فان لفظ ( بل ) ال يلغي ما كان قبله من وقائع‬
‫‪.‬‬
‫هكذا فإبراهيم ( ‪ )‬لم يكذب في هذه اإلجابة بل اقّر بالفعل مع‬
‫نسبته الى كبيرهم ‪ ،‬وهو يدرك جيد ًا أن القضية متلبسة فيه واألدلة‬
‫قائمة عليه ‪1‬ويبقى فقط مناقشة صحة النسبة الى كبيرهم ‪.‬‬
‫فلنالحظ اآلن التوقعات ‪ :‬ماذا يتوقع السائلون أن يجيبهم‬
‫إبراهيم ( ‪ )‬؟‬
‫‪1‬‬ ‫( فجعلهم جذاذًا اال كبيرًا لهم ) والتي‬ ‫( إشارة الى المنهج اللفظي الذي يحدد أن عبارة ( فتوالهم ضربا باليمين فاقبلوا ‪ ..‬الخ ) هي لواقعة غير واقعة‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫صمموا فيها على إحراقه بالنار وهي غيرها من حيث ترتيبها الزمني ) ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬
‫‪5‬‬ ‫‪206‬‬
‫‪6‬‬
‫إن للقضية أوليات معلومة ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬إنهم سمعوا ‪ ‬فتًى يذَك رُهم ُيقال لُه إبراهيم ‪. ‬‬
‫الثانية ‪ :‬إن محاورة شديدة اللهجة حصلت بينه وبينهم قبل‬
‫تكسير األصنام كانت األصنام موضوعها ـ انظر الصافات ‪ 85 /‬ـ ‪95‬‬
‫‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬إن إبراهيم هو الوحيد الذي يذكرهم ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬أنه حينما ك ّس ر األصنام وضع الفأس على ِج يد كبيرهم‬
‫‪.‬‬
‫إذن فالمتهم الوحيد ( هو ) واألدلة كلها ضده وليس هناك من‬
‫سبيل إلنكار ما فعله وهو في أي غضبه وشّدة مجادالته معهم ‪.‬‬
‫والتوقع هو أن ينكر إبراهيم ( ‪ )‬الفعل وينسبه الى غيره أو ال‬
‫ينسبه فلم يجب باإلجابات المتوقعة وإنما أجاب بـ ‪:‬‬
‫‪ ‬بل َفعلُه كبُيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ‪‬‬
‫إذ يتوجب مالحظة ترابط هذه اإلجابات في ألفاظها بصورة‬
‫شاملة ‪.‬‬
‫وقد علمنا أن ( بل ) ال تنفي ما سبقها من أفعال وهي تظهر في‬
‫المحاورات بخالف ظهورها في الكالم المتصل من غير محاورة ‪.‬‬
‫بمعنى أن ( بل ) ال تتصدر الكالم مطلق ًا ما لم يكن هناك كالم سابق‬
‫من المحاِو ر ‪ .‬والكالم السابق هو ‪َ ‬أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا‬
‫إبراهيم ‪ ‬؟‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪207‬‬
‫‪3‬‬
‫والجواب بل فعله كبيرهم ‪ .‬إذن فلفظ ( بل ) يبني عمله على ما‬
‫سبقه وهو ال يلغي أو ينفي االتهام إنما يضيف إليه فاعًال آخر هو‬
‫كبيرهم ‪.‬‬
‫بيد أنه يضيفه بشرط موجود في العبارة وهو ‪ ‬إْن كانوا‬
‫ينطقون ‪ ، ‬والتي يكمن فيها الحل القصدي ‪.‬‬
‫ومعلوم أن االعتباط ال يرضى بهذا التخريج ألنه سيزعم أن‬
‫جواب هذا الشرط هو ( فاسألوهم )‬
‫وهذا خطأ ألن إبراهيم ( ‪ )‬ال يعِّلق األمر بسؤال األصنام على‬
‫الشرط ‪‬إْن كانوا ينطقون ‪‬‬
‫وإنما يمكن أن يعلق الفعل المرتبط بهم فقط أي باألصنام ال‬
‫بالناس ‪.‬‬
‫أي أن كبيرهم فعل هذا إن كانوا ينطقون وجملة ( فاسألوهم‬
‫)جملة معترضة ‪.‬‬
‫كيف أوضح هذه المسالة الدقيقة ؟‬
‫إن إبراهيم ( ‪ )‬يعلم أنهم يعلمون أن األصنام ال ينطقون ‪ .‬لذلك‬
‫فال يعلق السؤال على هذا الشرط ‪ .‬ألن السائل ال بد أن يسأل ناطق ًا‬
‫ال جامد ًا يستحيل نطقه ‪ .‬وقد ظهر ذلك في عبارتهم إلبراهيم ( ‪: )‬‬
‫‪ ‬لقد عـلمَت أْن هؤالء ال ينطقون ‪ ! ‬فال يعلق السؤال على النطق‬
‫‪.‬‬
‫فلماذا ربط بين النطق والفعل ؟ من الواضح أنه ( ‪ )‬ال يأمرهم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪208‬‬
‫‪3‬‬
‫بشيء يدركونه جيد ًا ‪ .‬أنه يثير فيهم تساؤًال آخر ًا ويوضح عالقة‬
‫أخرى هي العالقة بين ( الفعل والنطق ) ‪.‬‬
‫وهو ليس كأي فعل فلو دخل حيوان كالعجل مثًال وك ّس ر أحد‬
‫األصنام أو بعضها لما كان فعله مقصود ًا ‪ .‬أما أن يجدوا الجميع‬
‫تكّس روا اال كبيَر األصنام فهو فعل ينطوي على تخطيط من كائٍن ذي‬
‫عقل ‪.‬‬
‫ومعلوم أن العاقل أو المخّطط للفعل هو ناطق بأّية صورة ‪.‬‬
‫ذلك الن الفعل الُم خّطط له ال بد أن تتقدم عليه الفكرة المحمولة‬
‫في اللغة فالنطق جزء ال يتجزأ من الفعل العقلي ‪.‬‬
‫واذن فالشرط ‪ ‬إن كانوا ينطقون ‪ ‬تقدم عليه في السياق جوابه‬
‫الذي تضمن عدم إنكار فعله عن طريق اللفظ بل ونسبة الفعل الى‬
‫كبيرهم شرط أن يكونوا ناطقين وهي جملة ‪ ‬بل فعله كبيرهم هذا ‪‬‬
‫‪.‬‬
‫إن هذا ال يعني اّال شيئًا واحد ًا وهو أنه ( ‪ )‬نسب الفعل لنفسه‬
‫فقط وأنكر إنكار ًا تام ًا أن يكون َك بيرُه م قد فعله ألنه ال ينطق شأنه‬
‫شأنهم ‪ .‬أما لماذا استعمل هذه الطريقة ولماذا فعلها عن طريق‬
‫إبقاء َك بيرُهم فهناك مالحظتان ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬أنه لو ك ّس ر الجميع لما تّم ت المحاورة ولما أمكن‬
‫الربط بين الفعل والنطق ‪ .‬ألن اإلنسان فاعل فإذا قتل نفسه مثًال فلن‬
‫يقدر على النطق بعد ذلك فال بد من إبقاء نموذج واحد من األصنام‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪209‬‬
‫‪3‬‬
‫لتحقيق هذه المحاججة إذ قد يقال أنهم فعلوا ذلك بأنفسهم ولم‬
‫يقدروا على النطق بعد إن كّس روا أنفسهم إلثبات قدرتهم على الفعل‬
‫‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬إن هذه النسبة والمشاركة في الفعل بينُه وبين كبيرهم‬
‫هي نموذج مصّغ ر إلبطال الشرك ‪ .‬فكما ال يجوز نسبة هذا الفعل لهم‬
‫بل حتى لكبيرهم والذي هو بحاجة ماسة لالنفراد بالعبادة والتخّلص‬
‫من مجموعة شركاء فكذلك ال تجوز من باب أولى نسبة الفاعلية‬
‫لهم بأية صورة ‪ .‬بمعنى أنه إذا بطلت فاعليُتهم في تجربة عملية مع‬
‫إنسان هو إبراهيم ( ‪ )‬فمن المحال أن تثبت لهم فاعلية كونية مع‬
‫اإلله الواحد‪.‬‬
‫ومعنى هذا أن إبراهيم ( ‪ ) ‬في هذه المحاورة اثبت الفعَل‬
‫لنفسه وجاء بجميع األلفاظ للتأكيد على فعله هو إلتمام المحاججة‬
‫وهو كما ترى نقيض الحل االعتباطي الذي يجعل إبراهيم منكر ًا‬
‫لفعل التكسير ملقيًا بالتبعِة على كبيرهم ـ ألن ذلك يستلزم انعكاس‬
‫النتائج كلها ومن بينها إثبات الفاعلية لألصنام !‬
‫إذا فالشرط ‪ ‬إن كانوا ينطقون ‪ ‬جوابه عبارة ‪ ‬بل فعله كبيرهم‬
‫هذا ‪ ‬المتقدمة وليست عبارة ( فاسألوهم ) المتقدمة على الشرط ـ‬
‫فيسقط فعل كبيرهم لعدم تحقق الشرط ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪210‬‬
‫‪3‬‬
‫أمثلة متنوعة لالعتباطية‬

‫أ ‪  .‬أألله أذن لكم أم على الله تفترون ‪ ‬ـ السؤال عن اآلذن هل‬
‫هو الله ؟‬
‫لكن االعتباط يزعم أن السؤال عن الفعل ‪ .‬وحينما شرح ذلك‬
‫جاء بفعل الكينونة حشر ًا ‪ ،‬فانتبه جيد ًا الى اسلوب الشرح قالوا ‪:‬‬
‫( فإنه إنكار إن يكون من الله إذن ) ‪.‬‬
‫وهذا التغيير وإلتواء العبارة وإدخال ( أن يكون ) هو لجعل‬
‫السؤال عن الفعل عن طريق فعل الكينونة وهو دليل أكيد على‬
‫التخبط ‪.‬‬
‫والحل القصدي يقول وعلى غرار ذلك عبارة واضحة إذا أراد‬
‫هي ‪:‬‬
‫( أي أن الله لم يأذن ) ـ فاالستفهام عن الفاعل ‪.‬‬

‫ب ‪ ( .‬أأنت بنيت هذه الدار؟ ) السؤال عن الفاعل أيضًا ‪.‬‬


‫وقال االعتباط هنا ‪ :‬فأنت شاك في الباني إذ إشارتك نحوه تغنيك‬
‫عن اإلخبار ‪.‬‬
‫وهذا صحيح اآلن ـ فلماذا خالفها االعتباط في نفس الموضوع‬
‫في ( أزيد قائم ؟ ) ـ حيث اّدعى أن السؤال عن القيام ؟ بينما‬
‫الهمزة دخلت على الفاعل فالسؤال عن زيد والقيام معلوم كما في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪211‬‬
‫‪3‬‬
‫المثال السابق وقد أوضحنا أن هذا التغّير هو لعالقته باآلية ـ آية‬
‫إبراهيم ( ‪. ) ‬‬
‫فلما انتهى بحث اآلية سها االعتباط فجاء بمثال على الضمير‬
‫( أأنت‬ ‫( أنت ) وكأنه يحكي لك التخبط والتناقض ـ الن المثال‬
‫بنيت ‪ ) ..‬شبيه جد ًا بصيغة اآلية ‪:‬‬
‫( أأنت فعلت هذا بآلهتنا ‪. ) ..‬‬

‫ج ‪ .‬جـعـلت االعتباطية لهـمزة االستفهام استعمالين أحدهما‬


‫حقيقي ولهذا األخير ثمانية معاني هي ‪:‬‬
‫التسوية ‪ ،‬اإلنكار اإلبطالي ‪ ،‬اإلنكار التوبيخي ‪ ،‬التقرير ‪ ،‬التهكم‬
‫‪ ،‬األمر ‪ ،‬التعجب ‪ ،‬االستبطاء ‪ ،‬وبعضهم ذكر أنواعًا أخرى ( ال‬
‫صحة لها ) حسب تعبير ابن هشام ‪. 1‬‬
‫وقد ذكرنا في كتاب اللغة الموّح دة أن هذه المعاني ليست للهمزة‬
‫ومثلها مثل أي حرف جعلوا معاني ما بعده في االستعماالت‬
‫المتنوعة معاني تخص هذا الحرف أو ذاك ‪ .‬فالحرف مهما كان ـ ال‬
‫معنى له سوى معناه الذي فيه حركته ‪ .‬ومثال ذلك ‪ :‬إن نوع األمر‬
‫هو مثل ‪ ( :‬أأسلمتم ) ؟ ‪.‬في حين أن هذا استفهام أيضًا لقوله بعد‬
‫ذلك ‪ ‬فان أسلموا فقد اهتدوا ‪. ‬‬
‫ومثال التعجب ‪ :‬هو قوله تعالى ‪ ‬ألم تر الى ربك كيف مَّد الظل ‪‬‬

‫‪1‬‬ ‫مغني اللبيب ‪ /‬ج‪.18 / 1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪212‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ .‬بينما مثال التقرير قوله تعالى ‪  :‬ألم تعلم أن الله على كّل شيء‬
‫قدير ‪. ‬‬
‫فالمفهوم عندهم من التعجب راجع الى الجملة والمفهوم من‬
‫التقرير كذلك وال عالقة له بالهمزة التي تدخل الصيغ والتراكيب‬
‫المتنوعة التي تفيد معاني ال حصر لها‪.‬‬
‫ففي القصدية تجتمع كّل المعاني المذكورة في معنًى مّو حٍد لكل‬
‫( باب‬ ‫حرف وتفصيل ذلك تجده في الكتاب المذكور‬
‫الهمزة ) ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪213‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الثامن عشر‬
‫أحـكام غيـر‬

‫تّدعي االعتباطية أن اآلية ‪:‬‬


‫‪ /‬الفاتحة‬ ‫‪ ‬الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ‪‬‬
‫‪5‬‬
‫هي جملة نكرة !‬
‫وبغض النظر عن أّية مؤثرات دينية مسبقة يمكن القول أن‬
‫لالعتباط أفكاره الخاصة التي ال تمت الى اللغة ونظامها بصلٍة تذكر‬
‫ـ ولوال ذلك لما أعلنوا تنكير هذه الجملة الطويلة المؤلفة من‬
‫مفردتين معّر فتين كّل منها بأل التعريف ( الصراط )‬
‫و( المستقيم ) وإضافة صفة المستقيم الى الصراط وهو تعريف آخر‬
‫اسمه عندهم (النعت ) ـ ولو خلتا من أل التعريف لكانتا معرفتين‬
‫ببعضهما ( صراط مستقيم ) كصفة وموصوف ‪ ،‬ثم عاد فعّر ف‬
‫أخرى ‪‬‬ ‫الصراط نفسه بإعادته وإضافته الى معرفة‬
‫صراط الذين أنعمت عليهم ‪ ‬ـ وتاء المخاطبة تشير الى أعظم‬
‫معروف في الذهن وهو الله ‪.‬‬
‫وكل هذه الضمانات لتعريف الصراط لم تمنع االعتباطية من‬
‫اعتباره نكرة مخالفة بذلك قواعدها اللغوية التي وضعتها ‪.1‬‬

‫‪1‬‬ ‫مغني اللبيب ‪ /‬ج‪ 2‬ـ ‪ 155‬فقرة أحدهما‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪214‬‬
‫‪4‬‬
‫والسبب الذي دعاها الى ذلك ظاهريًا هو ( حكم غير ) التي تأتى‬
‫بعد ذلك في عبارة ( غير المغضوب ) ـ حيث اّدعت االعتباطية أن‬
‫( غير ) أشد األلفاظ إبهام ًا ‪ .‬وهي لشدة إبهامها ال تتعرف حتى‬
‫( باإلضافة ) ‪ ،‬وأن ( غير ) المضافة لفظ ًا تستعمل على جهتين‬
‫إحداهما أن تكون صفة للنكرة أو ما شابه النكرة وأن ما قبلها في‬
‫سورة الحمد هو نكرة أو قريب من النكرة ‪ .‬ويمكننا أن نناقش‬
‫الحكم نفسه وهو ( إبهام غير ) فهذا اإلبهام هو تصور اعتباطي ال‬
‫غير ‪.‬‬
‫وفي عبارتي األخيرة حينما قلت ( ال غير ) فهمت أيها القارئ‬
‫أنني قصدت أنه ال شيء غير االعتباط وليس من شيء غير‬
‫االعتباط سوى القصدية وإذن فإن ( غير ) أشارت الى اآلخر من‬
‫خالل المذكور وعرفت المتروك من خالل المخبر عنه فكيف قالوا‬
‫أنها شديدة اإلبهام في ما تشير إليه ؟‬
‫وقد اقّر وا أن ( غير ) إذا وقعت بين ضدين ( ضعف إبهامها ) ـ‬
‫وحينما قال ( ابن السّر اج ) أنها حينئذ تتعرف رّدوه بقوله تعالى ‪( :‬‬
‫نعمل صالح ًا غير الذي كنا نعمل ) من غير أن يقوموا بشرح‬
‫اإلبهام المزعوم ‪.‬‬
‫فالحظ بنفسك أليس العمل الصالح معروفًا ومعلوم ًا للسامع ؟‬
‫وانظر ‪ :‬أليس الذي هو غيره من العمل ال يكون إال عمًال طالح ًا ؟ ‪،‬‬
‫إذ ليس ثمة تصنيف لألعمال في مثل هذا العموم اّال هذا التصنيف‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪215‬‬
‫‪3‬‬
‫فكل عمل أما أن يكون صالح ًا أو طالح ًا وهو ما نعبر عنه اختصارا‬
‫بقولنا ‪ ( :‬صالح ًا أو غير ذلك ) ‪.‬‬
‫فإن ( غير ) هنا تشير الى ( اآلخر ) المتروك ذكره من العمل‬
‫وقد تم تعريفه من خالل ذكر األول ـ فأين اإلبهام في لفظ‬
‫( غير ) ؟ بل لفظ ( غير ) هو أشد األلفاظ وضوح ًا ‪.‬‬
‫وحينما قرأ بعض القصديين ـ بناء ًا على الخبر ـ قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬ال يستوي القاعدون من المؤمنين غيِر أولي الضرر ‪. ‬‬
‫حينما قرأها ( غيِر ) بالجر واعتبرها مضافة للمؤمنين وبذلك‬
‫تصبح معّر فة استعملت االعتباطية معه ( أساليب اإلرهاب ) حينما‬
‫قالت أن قراءته ( خارج القراءات السبع ) ! ‪.‬‬
‫وأود أن أذكرك أن ( القراءات السبع ) و ( القراءات الشاذة )‬
‫وهو االسم الذي أطلق على غير السبع تستخدمها االعتباطية في آٍن‬
‫واحٍد ‪ :‬فإذا لم يعجبها تخريج اآليات والنصوص على قراءة معينة‬
‫قالت ‪ :‬هذه القراءة خارج السبع المتواترة!‪.‬‬
‫وإذا لم تجد في السبع المتواترة ما يؤيد قواعدها قالت عبارة‬
‫مشهورة يعلمها كّل القّر اء من المختصين والمطلعين هي ‪:‬‬
‫( ‪ ..‬وما يؤيد ذلك ورود قراءة على هذا النحو ‪ ) ...‬ـ والقراءة‬
‫المذكورة هنا بالطبع خارج السبع ! ‪.‬‬
‫وإذا رجعنا للقراءات السبع وتضارب األقوال فيها والخلط بينها‬
‫وبين ( األحرف السبعة ) فال نشك أن هذه الـ ( السبع ) كانت‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪216‬‬
‫‪3‬‬
‫استغالال ً بشع ًا‪ 1‬لالعتباطية لمرويات العالقة لها بالقراءات‬
‫الموضوعة لتكريس االعتباط ‪ .‬كّل ما في األمر أن ( السبع) تمكنت‬
‫من استيعاب أكــبر قـدر من االعتباط وعند حدوث شذوذ يستعان‬
‫بالشاذة وعند حدوث مجابهات يستعان بالسبع ! ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫( كانت استغالًال ‪ :‬العبارة مقصودة وليست خاطئة أي طلبا للغّل وهي على قوله تعالى ‪ ‬ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ‪‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪217‬‬
‫‪4‬‬
‫المبحث التاسع عشر‬
‫نماذج من الحلول االعتباطية للمشكالت القرآنية‬

‫الحظنا أوًال في كتاب "النظام القرآني" تناقض االعتباطية في (‬


‫فهم التناقض ) بين اآليات القرآنية والحظنا ثانيًا فهمها آلية الزيغ‬
‫المحّذ رة من أهل الفتنة الذين يجتهدون في افتعال التناقض القرآني‬
‫والحظنا ثالثًا نماذج من الحلول االعتباطية هناك ونماذج متفرقة في‬
‫هذا الكتاب ‪ .‬وتأتيك نماذج كثيرة إن شاء الله في هذه السلسلة من‬
‫المؤلفات والتي غايتها القضاء على االعتباطية وتأسيس المنهج‬
‫القصدي ‪ .‬وسأذكر هنا نماذج أخرى متفرقة من حلول االعتباطية‬
‫للمشكالت القرآنية ‪:‬‬

‫النموذج االول‬
‫( التعارض بين آيات الخلق )‬

‫قال القاضي أبو بكر ‪:‬‬


‫( ال يجوز تعارض آي القرآن واآلثار وما يوحيه العقل فلذلك لم‬
‫يجعل قوله تعالى ‪ ( :‬الله خالق كّل شيء ) معارضًا لقوله‬
‫( وتخلقون إفك ًا ) وقوله ( وإذ يخلق من الطين ) ـ لقيام الدليل‬
‫العقلي أنه ال خالق له غير الله فتعّين تأويل ما عارضه ‪ ،‬فيؤّو ل‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪218‬‬
‫‪3‬‬
‫( تخلقون ) على ( تكذبون ) و ( تخلق ) على ( تّص ور ) ‪1 )..‬انتهى‬
‫‪.‬‬
‫فالحظ تعسف االعتباطية إذ لم تكتِف بجعل يصنع ‪ ،‬يعمل ‪ ،‬يفعل‬
‫لمفردة ( يخلق‬ ‫‪ ،‬يذرأ ‪ ،‬يبدع ‪ ،‬يكّو ن ويوجد وغيرها مرادفات‬
‫) حتى ابتدعت مفردتين أخريين هما يكذب ويّص ور وجعلتهما معاني‬
‫أخرى لمفردة يخلق ـ فاالعتباطية تجد الحل دوم ًا من خالل‬
‫المرادفات التي تضعها كيف شاءت لتتخلص بها من المشاكل‬
‫اللغوية حيثما واجهتها تلك المشاكل ‪ .‬وكأن الله تعالى شاء لها أن‬
‫تبقى سادرة في ضاللها حتى في أوضح الواضحات ‪.‬‬
‫لقد رأيت في قوله تعالى ‪ ‬فتبارك الله احسن الخالقين ‪ ‬ـ رأيت‬
‫كثرة الخالقين فال تنافي بين نسبة الخلق الى المخلوق لتعدد‬
‫الخالقين في النص القرآني ـ ال تنافي وال تعارض بينه وبين وحدة‬
‫خالق األشياء كلها فاألمرين يقرهما النص القرآني نفسه وقوله‬
‫تعالى ‪ ‬الله خالق كّل شيء ‪ ‬ـ هو الذي يج ّنب المتلقي من الوقوع‬
‫في أي وهم من هذا النوع فأبت االعتباطية اّال التوهم ! ‪.‬‬
‫ألن كّل الخالقين مشمولين بالشيئية فهم أشياء وما خلقوه‬
‫أشياء فقوله ‪ ‬الله خالق كّل شيء ‪ ‬ـ يعني أنه خالق لهؤالء‬
‫الخالقين ممن هم سواه إذ هو أحسن الخالقين وخالق كّل شيء ‪.‬‬
‫فأين التعارض لتقول اإلعتباطية أن ( تخلقون ) هنا بمعنى‬
‫‪1‬‬ ‫( معترك األقرآن ‪. ) 107/ 1 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪219‬‬
‫‪5‬‬
‫تكذبون ؟ وكيف تصح الجملة عند األبدال بهذا اللفظ ؟ فهل يصح‬
‫القول ( أنتم تكذبون إفك ًا ) ؟ ‪ .‬فاإلفك نفسه شيٌء وهمي الوجود له‬
‫مرموز بشيء له وجود يخلقه األّفاك ‪.‬‬
‫ولم تالحظ اإلعتباطية في النص اآلخر ‪ ‬وإذ تخلق من الطين‬
‫كهيئة الطير بإذني ‪ ‬ـ لم تالحظ أن المخاطب مخلوق وهو المسيح (‬
‫‪ ) ‬والطين الذي استعمله كمادة للخلق مخلوق أيضًا مع التحوط‬
‫بعبارة ( بإذني ) المكررة مرتين ‪  :‬فيكون طير ًا بإذني ‪. ‬‬
‫الحظ أن الحل القصدي يعتمد على اإلحكام في ( النظام القرآني‬
‫) وثبات الداللة اللفظية بينما الحل االعتباطي يعتمد على إثارة‬
‫التناقضات من خالل اعتباطية الداللة ـ فهذه هي قيمة النظرية‬
‫االعتباطية بدء ًا بالجرجاني وانتهاء ًا بعلم اللغة المعاصر مرور ًا‬
‫بشيخ االعتباط دي سوسر ‪ .‬وإني إذ أسوق هذه النماذج فإنما أذِّك ر‬
‫القارئ بحقيقة أن كّل موضوع لغوي وكل لفظ وكل نص أدبي أو‬
‫ديني أو روائي قد نال قسطه األوفر من التعسف على أيدي‬
‫االعتباطيين فهذه الفصول نماذج جزئية ليدرك القارئ ما حصل‬
‫للكل من أشباهها وهي جميع النصوص بال استثناء ـ فعلم اللغة‬
‫الحقيقي سوف ينبثق من الحل الَقّص دي وحده ‪.‬‬
‫لقد كان على االعتباطية بدًال من ذلك إثارة سؤال وجيه حول‬
‫النص ألنه قال ‪ ‬إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتخلقون إفك ًا ‪ ‬ـ‬
‫ألن األوثان عند االعتباط مرادف لألصنام فهم يخلقونها ألنها من‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪220‬‬
‫‪3‬‬
‫الحجارة ويعبدون اإلفك الذي ابتدعوه فيتوجب على قواعد االعتباط‬
‫أن يقول عبارة معكوسة في الترتيب واألفعال مثل ( إنما تخلقون‬
‫أوثانًا وتعبدون إفكا ) فهو أولى من الترتيب األول وفق قواعدهم‬
‫وأبلغ في التقريع إذ يجعل ما يخلقون معبود ًا لهم ‪.‬‬
‫لم تفعل ذلك ألنها لن تقدر على اإلجابة ‪ .‬والحل القصدي بإنكاره‬
‫المرادفات هو وحده القادر على تفسير هذا الترتيب ‪ .‬فاألوثان غير‬
‫األصنام ‪ ،‬األوثان شخوص يتبعهم المخاطبون فال يجوز أن يقول‬
‫( تخلقون أوثانًا ) النهم خلق من خلق الله لكنهم طغاة وجبابرة ‪.‬‬
‫واإلفك ‪ :‬هو الوهم الذي يتجسد بصورة من الصور ‪ :‬كالم ‪ ،‬عمل ‪،‬‬
‫شعر ‪ ،‬تمثال ‪ ،‬صورة ‪ .... ،‬الخ ويقوم األّفاك بخلق الصورة التي‬
‫تجسد هذا الوهم ـ وهو هنا يشير الى جميع المعبودات المصّو رة‬
‫والمنحوتة والمرموزات المبتدعة عندهم لإلله ـ فهذا اإلفك مخلوق‬
‫لهم وسببه وعلته هو عبادتهم للطغاة ( األوثان ) لذلك قدم العبادة‬
‫على خلق اإلفك فقال ‪ ‬إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون‬
‫أفكا ‪ ‬ـ تنفيذ ًا ألمِر من تعبدون ‪.‬‬

‫النموذج الثاني‬
‫آيات ( ومن أظلم ‪) ..‬‬

‫قالوا ‪ :‬ومما أستشكل قوله تعالى ‪:‬‬


‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪221‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ ‬ومن اظلم ممن افترى على الله كذبا ‪ / ‬هود ـ ‪18‬‬
‫‪ ‬ومن اظلم ممن ذّك ر بآيات ربه ‪ /  ..‬الكهف ـ ‪57‬‬
‫‪ ‬ومن اظلم ممن منع مساجد الله ‪ / ‬البقرة ـ ‪114‬‬
‫ووجه اإلشكال أن المراد باالستفهام هنا النفي والمعنى ال أحد‬
‫اظلم فيكون خبر ًا وإذا كان خبر ًا وأخذت اآليات على ظاهرها أدى‬
‫الى التناقض ‪.1‬‬
‫ثم قال ‪ :‬وُأجيب على ذلك بأوجٍه فأحصى منها ثالثة هي ‪:‬‬
‫الوجه األول ‪ :‬تخصيص كّل موضع بمعنى أي ال أحد من‬
‫المفترين أظلم ممن افترى على الله ‪ .‬وال أحد من المانعين أظلم‬
‫ممن منع المساجد وكذا باقيها فإذا تخصص بالصالت زال التناقض‬
‫!‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬إن االعتباطية ال تستحي مطلق ًا من أية إجابة مهما كانت‬
‫ال منطقية فكأن المفترين للكذب أنواع وأظلم هؤالء هم من افترى‬
‫على الله ‪ ،‬وكأن الحق أجزاء وصور شتى ! ‪ .‬لقد فات االعتباط أن‬
‫وأن ( االفتراء ) ـ‬ ‫الله هو الحق ومن أسماءه ( الحق )‬
‫عمل واحد في تجاوز الحق فليس ثمة افتراء فيه ظلم أقل من‬
‫افتراء آخر ! ‪ .‬مثلما ال يوجد سارق سيء وآخر أسوأ منه فسارق‬
‫الدينار وسارق المليون حكمه واحد في الشريعة ‪.‬‬
‫هؤالء هم الفقهاء الذين جعلوا ( القرآن عضين ) ـ قطع ًا متنافرًة‬

‫‪1‬‬ ‫‪ 11‬معترك األقرآن ‪ /‬ج‪. 105 / 1‬‬


‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪222‬‬
‫‪4‬‬
‫ومتناقضًة مع بعضها ـ هؤالء هم الذين مّز قوا العقائد واألفكار‬
‫والقيم ‪ .‬وال تعزب عنك وأنت بهذا الذكاء غايات االعتباطية من‬
‫وراء ذلك كله وما يجنيه المفترون من هذه ( النسبية في االفتراء )‬
‫وهو أمر توّض حه الوجوه األخرى ‪.‬‬

‫الوجه الثاني ‪ :‬أن هذا التخصيص هو بالنسبة الى السبق ! لّم ا‬


‫لم يسبق أحد الى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم فتأويله في ما سبق‬
‫من المانعية واالفتراء ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬أخرجت االعتباطية نفسها من الظلم أو االظلمية بهذا‬
‫الوجه ألنها إذ تفتري الكذب على الله بجعل مراده في شيء خالف‬
‫ما يعنيه النص فهي تعالج مشكلتها خالل شرح النص ‪ .‬فأول مانع‬
‫للمساجد أظلم وأول مفتري أظلم ‪ ..‬ولما كان التدرج في الظلم أصبح‬
‫زمانيًا وحسب األسبقية فان ( الم ّلة اآلخرة ) ـ وهي آخر الملل‬
‫زمانًا لم تتصف إال بأقل األجزاء من الظلم ومن يدري لعله ينتهي‬
‫ولعل االفتراء لم يعد يتصف بهذه الصفة أصًال إذا اعتبرنا ( قابيل )‬
‫أول ظالم على األرض ! فما زال الظلم يقل عن المفترين كلما‬
‫تقادمت األزمان !! ‪.‬‬
‫لكن االعتباطية تحلم بهذه النتائج ـ فاالعتباط يجهل أو يتجاهل‬
‫النظام القرآني ألن تفاصيل الموارد الثالثة موجودة في سور غير‬
‫تلك الموارد والنتائج فيها بخالف ما تحلم به االعتباطية فهذه مثًال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪223‬‬
‫‪3‬‬
‫نتائج ( االفتراء ) في سياق متصل من سورة األعراف‪:‬‬
‫‪ ‬حتى إذا أّداركوا فيها جميعا قالت ُأخراهم ألوالهم ر َّبنا هؤالِء‬
‫أضلُو نا فآتهم عذابا ضعف ًا من النار قال لكٍل ضعف ولكن ال تعلمون‬
‫‪‬‬
‫األعراف ‪38‬‬
‫‪ ‬وقالت أوالهــم ألخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا‬
‫‪ /‬األعراف ‪39‬‬ ‫العذاب بما كنتم تكسبون ‪‬‬
‫‪ /‬األعراف ‪52‬‬ ‫‪ ‬ولقد جئناهم بكتاب فّص لناه على علم ‪‬‬
‫‪ ‬هل ينظرون إال تأويلُه يوم يأتي تأويلُه يقول الذيَن نَس وُه من‬
‫قبُل قد جاءت رسُل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاَء فيشفعوا لنا أو‬
‫ُنَّر ُد فنعمَل غَير الذي كّنا نَع مُل قد َخ سرِو ا أنَفَس هم وّظل عَنُه م ما‬
‫‪ /‬األعراف ‪53‬‬ ‫كانوا َيفترُو ن ‪‬‬
‫وانت تالحظ في هذا السياق المتصل وبخاصة إذا راجعته كامًال‬
‫في القرآن وتمّع نت في تمام المحاورات والموضوع ـ تالحظ أربعة‬
‫نتائج هامة ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬إن هؤالء المتحاورين والمتالعنين في النار هم‬
‫المفترون على الله الكذب ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬إن موضوع افتراءهم هو اآليات بأنواعها وتفاصيلها‬
‫ومنها آيات الكتاب‪.‬‬
‫الثالثة ‪ :‬إن التفاصيل موجودة في اآليات نفسها فهي ال تحتاج‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪224‬‬
‫‪3‬‬
‫إليهم لتوضيحها ألنه كتاب مف ّص ل على علم ـ لكنهم أرادوا تمرير‬
‫أفكارهم من خالله ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬إن السابق في االفتراء والالحق واتباعهم مشتركون‬
‫في العذاب وهم بنفس الدرجة من الظلم ‪.‬‬
‫ومن هنا يظهر الحل القصدي تلقائيًا فالصفات الثالثة أو األفعال‬
‫الثالثة ـ االفتراء ‪ ،‬منع المساجد واإلعراض عن اآليات ـ هي من‬
‫أفعال نفس الشخوص ‪ ،‬فالمتصف باالظلمية هو نفسه في اآليات‬
‫الثالثة ألن من يفتري يعرض عن ( التفصيل الذاتي للكتاب )‬
‫ويحاول أن يأتي بتفصيل من عنده وبالتالي فهو يمنع مساجد الله‬
‫أن يذكر فيها اسمه ويسعى في خرابها ـ فهي خراب من اإليمان‬
‫الحقيقي وليست خرابًا من البناء ! وفي ذلك نص نبوي عن حوادث‬
‫الزمان التي تجري بعده في أمته قال ( ص ) ‪:‬‬
‫( ‪ ..‬فمساجدهم يومئذ عامرة من البنيان خراب من اإليمان‬
‫‪ .1 ) ..‬فاالفتراء واإلعراض ومنع المساجد وتخريبها ـ بالفكر‬
‫المخالف للعقيدة اإللهية ـ هي عملية واحدة متعددة الجوانب يقوم‬
‫بها تيار واحد وهذا التيار هو نفسه الذي يقدم لك الدين بطريقته‬
‫الخاصة ويفسر لك القرآن ‪ ..‬ومن هنا فالقصدية تؤمن أن األمة قد‬
‫وقعت في محنٍة عظيمٍة أعظم ما فيها أنها ال تدري أنها واقعة فيها‬
‫!‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪ 11‬انظر السليلي وأبي نعيم في الفتن ‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪225‬‬
‫‪4‬‬
‫فقد مهدت االعتباطية لألفراد جميع ًا ( دينًا ) متعدد الوجوه‬
‫ويالئم جميع األذواق والمطالب ويمّك ن الجميع من تحقيق أهدافهم‬
‫الذاتية وتحقيق ( انواتهم ) ـ إذ المعلوم أن مشكلة اإليمان والكفر‬
‫‪2‬‬
‫ـ إذ يود ‪:‬‬ ‫هي مشكلة ( أالنا ) في اإلنسان‬
‫‪ /‬المدثر ‪52‬‬ ‫‪ ‬كّل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ‪‬‬
‫وإذن فاآليات الثالثة تتحدث عن شخصية واحدة تقوم باألعمال‬
‫سوية ‪.‬‬

‫الوجه الثالث ‪ :‬قال ‪ :‬وقال بعض المتأخرين ( هذا استفهام‬


‫مقصود به التهويل والتفضيع من غير قصد إثبات االظلمية للمذكور‬
‫حقيقة وال نفيها عن غيره ! ) ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬وأي شيء هو االفتراء سوى ما يقوله االعتباط في هذا‬
‫الوجه ؟ وهل هناك من حاجة الى دليل ليبرهن أن مف ّس ر االفتراء‬
‫هو المفتري ؟‬
‫ها هم نقلوا المعنى بطريقتين تخدمان االعتباطية فيما سبق ـ‬
‫وها هم قد بلغوا من الجرأة أن يرّدوا على قائل النص كالمه يقولون‬
‫له ‪ :‬أنت تكذب ‪ ..‬أنت تهول األمر ‪ ..‬أنت تف ّض ع الوصف ‪ ..‬أنت ال‬
‫تثبت األظلمية للمذكور حقيقة وال تنفيها عن غيره ‪ ..‬كالمك إذن‬
‫ليس حقيقيًا … أنه ال يطابق المعنى الذي فيه !! ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫‪ 22‬انظر الحل الفلسفي للمؤلف ‪.‬‬


‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪226‬‬
‫‪4‬‬
‫لو قال هذا القول أعلى الناس مقاما ألدناهم لعّدوا ذلك إهانة‬
‫وتجاوز ًا عليه واتهام ًا له بالكذب ‪ .‬لكن علماء االعتباطية تجاوزوا‬
‫الجرأة التي امتلكها إبليس على الرب ‪ ..‬ألنه قال ‪  :‬ألغوينهم‬
‫أجمعين ‪ ‬ثم تذكر أن هذا تجاوز منه على مقام الربوبية فاستثنى‬
‫قائًال ‪  :‬اّال عبادك منهم المخلصين ‪ ‬ـ أما جنوده فمن الطبيعي أن‬
‫يكونوا أكثر جرأة فيقولوا للرب وجه ًا لوجه ‪ ( :‬أنت كاذب ! أنت‬
‫تبالغ … ) تعالى الله عن ذلك علو ًا كبير ًا وال حول وال قوة اّال بالله‬
‫العلي العظيم ‪.‬‬
‫فهذا الذي أسوقه من أمثلة في هذا الكتاب إن هو اّال نماذج‬
‫يسيرة جد ًا من ظلمات البحر االعتباطي ‪ ..‬فال تغرّنك عبارات‬
‫التبجيل واإلكرام للقرآن التي اكتنفت أمثال تلك الشروح والتفاسير‬
‫ألن الغاية منها التغطية على مؤامرة التحريف الشامل لجوهر الفكر‬
‫من خالل النفاذ الى أصوله ـ فما فائدة اإليمان الذي يخاطب الرب‬
‫بالربوبية ويكذبه ويعانده ويعصيه في التفاصيل وتنفيذ األوامر ؟ ‪.‬‬
‫فإبليس يخاطبه بالربوبية أيضًا وهو ال يشك مطلقا في كونه ربه‬
‫وخالقه إنما جعل من نفسه ذاتًا مقابل ذات اإلله ألنه يفسر فعل اإلله‬
‫كما يشاء هو ‪ .‬ومن هنا كان كفره …‪:‬‬
‫‪ ‬أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ‪ / ‬األعراف ‪-‬‬
‫‪12‬‬
‫وزعموا أن هناك وجه ًا رابع ًا نتيجته أن هؤالء متساوون في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪227‬‬
‫‪3‬‬
‫األظلمية وال يدل على أن أحدهم أظلم من اآلخر ‪ .‬ولكنه في الحقيقة‬
‫نفس الوجه االول ‪.‬‬
‫فانظر الى وجوه التفسير فإنك ال تجد بينها االحتمال الوحيد‬
‫المتبقي وهو أن يكون الموصوف باألظلمية هو نفس الموصوف‬
‫وله أفعال متعددة ـ فال يفعل أحد األفعال الثالثة إال ويفعل الفعلين‬
‫اآلخرين للترابط النفسي والغائي في األفعال عند الفاعل ( فالمعرض‬
‫المانع المفتري ) صفات ثالثة ال تتفرق إنما هي مجتمعة دوم ًا حتى‬
‫لو لم يظهر لك إال أحدهما ‪ .‬لم يذكر االعتباط هذا االحتمال ألنه‬
‫يترتب عليه معرفة قضايا نفسية وعقائدية بل ونبوءات وقوانين‬
‫اجتماعية وسنن إلهية كونية ـ وهي أشياء تلحق باالعتباطية ضررا‬
‫فادح ًا ‪.‬‬
‫واآلن فلنفتح بصورة عشوائية من أي موضع لنجد نموذج ًا ثالثًا‬
‫لالعتباط ‪:‬‬

‫النموذج الثالث‬
‫حول االستعارات القرآنية‬
‫قالوا في تقسيم االستعارات القرآنية ‪:‬‬
‫( وينقسم باعتبار آخر الى مؤكد وهو ما حذفت فيه األداة نحو ‪‬‬
‫و ‪ ‬وجنة‬ ‫وهي تمر مر السحاب ‪  ، ‬وأزواجه أمهاتهم ‪‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪228‬‬
‫‪3‬‬
‫عرضها السماوات واألرض ‪ . ‬ومرسل وهو ما لم تحذف فيه األداة‬
‫كاآليات السابقة ‪ ،‬والمحذوف األداة ابلغ ألنه نزل فيه الثاني منزلة‬
‫االول تجّو ز ًا ) ـ انتهى‬
‫أقول ‪ :‬يريد باألداة أداة التشبيه نحو ( الكاف ) و ( مثل ) و‬
‫( كأن ) و ( ُيخّيل ) و ( يحسب ) كقوله تعالى ‪  :‬يحسبه الضمآن‬
‫ماء ‪ ، ‬وقوله ‪ ‬يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ‪ ، ‬أو ‪ ‬كرماد‬
‫اشتدت به الريح ‪ .. ‬وأمثال ذلك ‪ .‬فقوله والمحذوف األداة أبلغ‬
‫يستلزم منه قطع ًا اختالف القرآن في درجة البالغة من آية الى‬
‫أخرى ومن تشبيه الى آخر ونتيجته أن هذا الكالم ليس من كالم‬
‫اإلله لقوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختالفا كثيرا ‪/ ‬‬
‫النساء ‪82 -‬‬
‫فالتمايز في البالغة بين التشبيهات هو من االختالف الكثير‬
‫فانظر الى تخبط االعتباطية إذ ال يكاد يمر سطر حتى تناقض أقوالها‬
‫علم ًا أن هذه الفقرة وردت تحت عنوان ( من وجوه إعجاز القرآن‬
‫تشبيهاته واستعاراته ) في كتاب مخصص إلعجاز القرآن ‪.1‬‬
‫وانظر مرة أخرى الى ما فعله االعتباط في هذا التقسيم ! إذ‬
‫دخل في التشبيه ما خال من األداة فقوله تعالى ‪  :‬وجنة عرضها‬
‫السماوات واألرض ‪ ‬وضعها االعتباط في التشبيهات التي حذفت‬

‫‪1‬‬ ‫النص في القسم الرابع من ـ معترك األقرآن في إعجاز القرآن ـ ج‪. 273 / 1‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪229‬‬
‫‪4‬‬
‫فيها األداة ـ بينما هي حقيقة ال تشبيه فالسماوات واألرض‬
‫معروضة المتالكها ألنها الوضع الفعلي للجنة والذي ال يدرك لحين‬
‫نزول األمر اإللهي وهذه مسألة كبيرة جد ًا وهي الغاية من خلق‬
‫الملكوت ـ تحولت بفضل االعتباط الى تشبيه استعاري ـ وقد أشرنا‬
‫إليها في كتاب النظام القرآني بصورة ملخصة إما تفاصيل‬
‫الموضوع ودخول هذه اآلية في نظام اآليات التي تتحدث عن‬
‫االستخالف فستجده مفصًال في كتاب ( طور االستخالف ) وفيه‬
‫تفصيل الفوارق بين الجنتين ‪.‬‬

‫النموذج الرابع‬
‫آيات القسم‬

‫أشكل على االعتباط قوله تعالى ‪ ‬ال أقسُم بهذا البلد ‪ ‬ـ قالوا ‪:‬‬
‫‪ ‬وهذا البلد‬ ‫نفي القسم ولكنه أقسم بالبلد في موضع آخر فقال ‪:‬‬
‫األمين ‪. ‬‬
‫وأجاب االعتباط على ذلك متفاخر ًا بقوله ‪ ( :‬سأل رجل بعض‬
‫العلماء عن ذلك فقال ‪ :‬أيما احب إليك أجيبك ثم اقطعك أو أقطعك ثم‬
‫أجيبك ؟ فقال الرجل اقطعني ثم اجبني !‬
‫فقال ‪ :‬إعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله ( ص ) بحضرة‬
‫رجال كانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا ‪ ..‬الى قوله ‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪230‬‬
‫‪3‬‬
‫ولكن القوم علموا وجهلت فلم ينكروا ما أنكرت ثم قال له ‪ :‬أن‬
‫العرب قد تدخل ( ال ) في أثناء كالمها وتلغي معناها وأنشد فيه‬
‫أبياتا ‪! 1‬‬
‫وللحل القصدي هنا مناقشات أربعة ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬إن هذا التعارض مفتعل مرتين أي على قواعد االعتباط‬
‫‪ ( :‬ال أقسم ) هو بمعنى ( أقسم ) ـ وقد مر عليك هذا النموذج وتجد‬
‫له تفصيًال في كتاب "اللغة الموحدة" حيث أظهرنا الجرأة فيه على‬
‫الخالق تعالى ‪ .‬فأين التعارض المزعوم ألنهم لم يذكروا لمعنى ( ال‬
‫ُأقسم ) سوى هذا المعنى أي ( ُألقسم ) ‪ .‬وقالوا أيضًا أن ( ال ) تفيد‬
‫توكيد القسم !! ‪.‬‬
‫الثانية ‪ :‬إن قطع السائل كان عمًال إرهابيًا ال غير ـ ألن‬
‫االعتباط إذا زعم أن األسلوب القرآني هو األسلوب العربي فال‬
‫إعجاز فيه ! ألن ألفاظه عربية ونظامه الصوتي عربي فال يبقى إّال‬
‫طريقة تأليف األلفاظ في الجمل فإذا كان هذا التأليف هو اآلخر‬
‫عربيًا وجاريًا على أساليب العرب فلم ال يقدر الخلق على اإلتيان‬
‫بمثله ؟ ‪ .‬أشكلنا عليهم ذلك وأثبتنا أيضًا أنهم بهذه الدعوى كانوا‬
‫مصدر التشكيك في إعجازه لذلك ابتدعوا طرقًا ملتويًة إلثبات‬
‫اإلعجاز من حيث قاموا بنفيه كالصرفة أو باستعمال أساليب‬
‫اإلرهاب كقوله هنا ( علموا وجهلت ولم ينكروا ما أنكرت ) ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫المعترك ‪ / 109 / 1 /‬واإلتقان ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪231‬‬
‫‪4‬‬
‫الثالثة ‪ :‬إن المجيب يكذب والذي يكذبه القرآن ـ فالقرآن لعّلوه‬
‫لم ينكر أنهم أنكروا منه ذلك بل ذكره وذكره مفصًال أيضا كقوله‬
‫تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬بل أضغاث أحالم بل افتراه بل هو شاعر ‪ / ‬األنبياء ـ ‪5‬‬
‫وقوله ‪:‬‬
‫‪ ‬ويقولون أإننا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون ‪ / ‬الصافات ـ‬
‫‪36‬‬
‫والشاعر عندهم يجوز له ما ال يجوز لغيره فيخالف أساليبهم‬
‫المعتادة ‪.‬‬
‫إنما أمرهم أن يتد ّبروه فقال ‪:‬‬
‫‪‬أفال يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ‪ / ‬محمد – ‪24‬‬
‫وذلك الن فيه سرا ( نظام ًا ) يثبت أنه كالم الله فاألعجاز ال‬
‫يثبته شيء خارج المعجز نفسه ‪ ،‬ال يثبته عدم إنكارهم حتى لو صح‬
‫تاريخيًا وال يثبته استخدامه أساليبهم العربية بل ذلك هو المبطل‬
‫لألعجاز من الناحية المنطقية ‪.‬‬
‫فقوله ‪ :‬ولم ينكروا ما أنكرت إنما هو تكذيب للواقع الذي ينقله‬
‫القرآن ـ عالوة على التاريخ ( ذكرنا نماذج من عيبهم على القرآن (‬
‫اللحن ) لجهلهم بنظامه اللغوي في كتاب النظام القرآني ـ الباب‬
‫الثالث ) ‪.‬‬
‫الرابعة ‪ :‬إن اإلجابة تضمنت الخلط االعتباطي بين عبارة ( ال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪232‬‬
‫‪3‬‬
‫أقسم بهذا البلد ) و عبارة ( وهذا البلد األمين ) ‪ .‬إما نحن فنفرق‬
‫بين العبارتين فاألولى في الحل القصدي ( نفي القسم ) والثانية‬
‫( إثبات الحلف ) وفي هذا الحل نفّر ق بين القسم الذي يعني البراءة‬
‫من الموجودات واالعتماد على المقسم به في مجابهة الفناء وبين‬
‫الحلف الذي يعني التحالف مع المحلوف به ‪ .‬فاألول ال يجوز بحق‬
‫الخالق الموجد لالشياء وال يجوز للمخلوق القسم اال بالخالق بينما‬
‫الثاني يجوز في حق الخالق والمخلوق إذ يجوز لهما التحالف مع‬
‫أي موجود ـ وهو تفريق نفيس ومبحث ظريف لم يذكره أحد قبل‬
‫اليوم تجد تفصيله في كتاب اللغة الموحدة في بابي الالم والواو ‪.‬‬
‫وقد برهنا فيه أن القسم ( براءة ) و ( اعتماد ) على المقسم به‬
‫( براءة من الموجودات ) لذلك لم يجز القسم بغير الله ولذلك ال‬
‫يجوز في حقه تعالى أن يقسم فقال ( ال اقسم ) في جميع الموارد‬
‫القرآنية فهو نفي حقيقي ال كما زعم االعتباط أنه يفيد توكيد القسم‬
‫!!‬
‫وعلى ذلك تالحظ أن االعتباطية تخبط خبط العشواء في الليلة‬
‫الظلماء ال يصدها عن ركم المتناقضات بعضها فوق بعض صاد ‪.‬‬
‫إما قول المجيب ‪ ( :‬العرب تدخل في كالمها ال وتنفي معناها‬
‫) ! فهو هراء وإذا صح فهو اعتباط في االستعمال مخالف ألصول‬
‫اللغة ورموزها ال في الحل القصدي وحده بل مخالف لها من حيث‬
‫هي ( نظام اعتباطي ) في االعتباطية نفسها ‪ ..‬لكن ذلك لم يصح‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪233‬‬
‫‪3‬‬
‫ولن يصح مطلقا فالجماعات اكثر حّس ًا ووعيا لنظام اللغة من علماء‬
‫اللغة فهال ذكر لنا االعتباط تلكم األشعار التي انشدها المجيب‬
‫للسائل ولماذا سكت عنها واالعتباطية مولعة بذكر األشعار ولع‬
‫قيس بليلى؟‬
‫لقد سكت عنها ألنها أكذوبة ‪ ..‬مثلما سكت عن اسم المجيب‬
‫الذي هو ( بعض العلماء ) ! مثلما سكت عن اسم السائل الذي هو (‬
‫رجل ) ! ‪.‬‬

‫النموذج الخامس‬
‫الفواصل في القرآن الكريم‬

‫من مشكالت الفواصل في القرآن ‪ :‬وضع االعتباط تساؤًال حول‬


‫قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬إن تعذبهم فانّه م عباُدك واْن تغفر لهم فاَّنك أنَت العزيُز الحكيم‬
‫‪.‬‬
‫فقوله ( تغفر لهم ) يقتضي أن تكون الفاصلة ‪ :‬انك أنت‬
‫( الغفور الرحيم ) فلماذا كانت ( العزيز الحكيم ) ؟‬
‫أجاب االعتباط ‪ :‬أنها وردت كذلك في مصحف ُأبّي وبها قرأ ابن‬
‫شنبوذ !‬
‫وأضافوا ‪ :‬وفي وصف الحكيم احتراس وإن تغفر لهم مع‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪234‬‬
‫‪3‬‬
‫استحقاقهم العذاب فال يعترض عليك أحد والحكمة فيما فعلته ‪.‬‬
‫انتهى ‪.1‬‬
‫أقول ‪ :‬والحل القصدي يشهد أن الفاصلة هي ( العزيز الحكيم )‬
‫ولن تكون الغفور الرحيم مطلق ًا ! وذلك أن هذه اآلية كانت من جملة‬
‫آيات اختبر فيها المنهج اللفظي طرائقه في كشف النظام القرآني‬
‫بأخذ أول اآليات ومحاولة وضع الفاصلة المالئمة وفق النظام ـ وقد‬
‫عرض المؤلف األنظمة على بعض األصدقاء وطلب منهم وضع‬
‫الفواصل المتفقة مع النظام القرآني فنجحوا أيضًا في وضع هذه‬
‫الفاصلة خالف ًا للمتبادر وتّم بذلك التأكد من صحة قوانين المنهج ‪.‬‬
‫وهو أمر ال أحسبكم ال تدركون أهميته وخطورته ‪.‬‬
‫ونالحظ أن الحل االعتباطي لم يجب على المسألة أي فّس ر‬
‫( الحكيم ) في عالقته بالمغفرة في لفظ الفعل ( تغفر لهم ) ـ ولم‬
‫يذكر سبب العدول عن المتبادر وهو ( الغفور الرحيم ) الى العزيز‬
‫الحكيم وهذا أوًال ‪.‬‬
‫وثانيًا ‪ :‬لم يذكر الحل سببًا لمجيء ( العزيز ) ـ وأهمل هذا‬
‫اللفظ تمام ًا ‪.‬‬
‫وثالثًا ‪ :‬أوحى للمتلقي أن الفاصلة يمكن أن تكون ( الغفور‬
‫الرحيم ) وأكد على ورودها هكذا في مصحف ُأبي معتمد ًا على‬
‫رواية لم يذكر مصدرها وقراءة ألبن شنبوذ ! وإذن فأصل المسألة‬

‫‪1‬‬ ‫البرهان ‪ & 89 / 1 /‬والمعترك ‪. 46 / 1 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪235‬‬
‫‪4‬‬
‫ساقط عن االعتبار عندهم ‪.‬‬
‫فاإلجابة بمجموعها خليط اعتباطي ال يمت الى علم اللغة بأية‬
‫صلة فضًال عن نظامه المحكم ـ فلماذا وضعوا السؤال أصًال ؟ ‪.‬‬
‫ال يمكن شرح النظام المتعلق بهذا المركب ولكننا نشير الى أن‬
‫مركب ( العزيز الحكيم ) مركب مستقل مرتبط بموضوع معين هو‬
‫( االستخالف ) في األرض ‪ ،‬فحيثما وجدت أفعال أو وقائع أو‬
‫دعوات مرتبطة باإلمهال والحلم على العباد للوصول الى هذا الطور‬
‫يأتي مركب ( العزيز الحكيم ) ـ الرتباطه بالعزة اإللهية التي ال تضر‬
‫معها ذنوب العباد وظهور عزة الدين وأهله في هذا الطور ‪،‬‬
‫والمرتبط من جهة أخرى بالحكمة التي خلق العالم بها حيث تتجلى‬
‫أهداف الخلق في هذا الطور وهو بالطبع مختلف تمام ًا عن‬
‫المركبات المتشابهة ‪ ( :‬القوي العزيز ) ‪ ( ،‬العزيز الغفور ) ‪،‬‬
‫( التواب الحكيم ) ‪ ( ،‬العزيز العليم ) ‪ ( ،‬العزيز الغفار ) ‪ ( ،‬الحكيم‬
‫الخبير ) ‪ ( ،‬حكيم عليم ) ‪...‬الخ ‪.‬‬
‫أن تناوب هذين اللفظين مع غيرهما من األلفاظ تقديم ًا وتأخير ًا‬
‫يشكل ( مركبات) مختلفة لكل منها استعمالها الخاص ونظامها‬
‫الخاص ضمن النظام القرآني الشامل ‪.‬‬
‫نعم تأتي إن شاء الله أمثال تلك التفاصيل إذا تفرغنا لدراسة‬
‫النظام القرآني بصورة مستقلة بعد االنتهاء من تدمير االعتباطية‬
‫على كافة مستوياتها ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪236‬‬
‫‪3‬‬
1
2 237
3
‫المبحث العشرون‬
‫نماذج من التفسير االعتباطي المخالف‬
‫للنص القرآني‬

‫ذكرنا أنه يتوجب احترام النص بما هو نص خالل تفسيره ‪،‬‬


‫واالعتباطية ال تجهل هذه الحقيقة بدليل اهتمامها بالنصوص‬
‫وألفاظها ـ ولكنها من جهة أخرى تقوم بتغيير النص خالل التفسير ‪.‬‬
‫وفي البدء كانت العملية مقصودة والذين قاموا بها يدركون آثارها‬
‫وبعد أن اصبح لالعتباط مبادئ ثابتة وراسخة كان المتأخرون‬
‫يتابعون أسالفهم وربما بصورة غير مقصودة أحيانًا ‪ .‬لكن ذلك ال‬
‫يعني أنهم معذورون ـ فالتقليد والمتابعة العمياء إنما هي العدو‬
‫اللدود لألطروحة الدينية في جميع العصور ‪.‬‬
‫وفيما يلي نماذج سريعة للتفسـير االعتباطي فيما يخص النص‬
‫القرآني ‪:‬‬

‫‪  .1‬لّو كان في األرِض مالئكٌة يمُشون مطمّئنين ‪ / ‬اإلسراء –‬


‫‪95‬‬
‫قالوا ‪ :‬معناه لو كان أهل األرض مالئكة لكان الرسول إليهم ملكا‬
‫‪ ..‬الخ ‪.1‬‬

‫‪1‬‬ ‫معترك األقرآن ‪. 200 / 2 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪238‬‬
‫‪4‬‬
‫الحظ التغيير بين الشرح والنص فالنص يقول لو كان ( في‬
‫األرض ) مالئكة والشرح يقول لو كان أهل األرض ( الناس )‬
‫مالئكة ‪ ...‬فالقرآن ال يفترض مثل هذه الفروض االعتباطية ـ ألن‬
‫الناس لو كانوا مالئكة لما كانوا ناسًا ـ فالمخلوق في نظام ال يمكن‬
‫أن يكون مخلوقًا في نظام آخر فالسـنن ال تتغير وال يتم افتراض‬
‫تغ ّيرها منطقيًا ‪  ..‬ولن تجد لسنة الله تبديال ولن تجد لسنة الله‬
‫تحويال ‪ / . ‬فاطر ‪43‬‬

‫‪ ‬قل لَو انتم تم َلكون خزائَن رحمِة َر بَّي أذن ألم َس كتم خشيَة‬ ‫‪.1‬‬
‫األنفاق ‪‬‬
‫‪100‬‬ ‫اإلسراء‬
‫أي لو ملكتم الخزائن ألمسكتم عن العطاء خشية الفقر ـ فالمراد‬
‫باألنفاق عاقبة األنفاق وهو الفقر ومفعول أمسكتم محذوف ‪. 1‬‬
‫واالعتباط في هذا يغّير النص ويقلبه رأسًا على عقب ‪ .‬ألن النص‬
‫يقول إنهم يمسكون خشية ( األنفاق ) ـ ال خشية عاقبة األنفاق ‪.‬‬
‫فالنص منسجم مع النظام القرآني تمام ًا ـ ألن خزائن الّر ب ال نفاذ‬
‫لها فال يخشى مالكها على هذا الفرض َفقر ًا وإنما هو يكره األنفاق‬
‫نفسه وال تقوى عليه نفسه لشدة ح ّبه لذاته ورغبته في التم ّيز عن‬
‫الخلق وإبقاءهم تحت سطوته ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫معترك األقرآن ‪. 200 / 2 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪239‬‬
‫‪4‬‬
‫وكذلك قال ‪ ‬وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ‪ / ‬سبأ – ‪، 39‬‬
‫فمع هذا القانون ال يحصل فقر ولو لم يمتلك الخزائن فكيف مع‬
‫امتالكها ؟‬
‫الخطاب في اآلية موجه الى مجموعة ( تحسد الناس ) على ما‬
‫آتاهم الله من فضله وهي تعرقل نزول البركات فأظهر النص حقيقة‬
‫مشاعرهم فهم يرفضون اإلنفاق حتى لو امتلكوا الخزائن ـ بينما‬
‫الشرح أعطاهم عذر ًا مشروعًا وهو خوفهم من الفقر!! ‪.‬‬
‫ولذلك يبدو لك واضح ًا أن غياب هذه الشروح كان أفضل لالمة‬
‫واللغة والفكر من وجودها ـ وهذا هو في الواقع حال التراث الديني‬
‫كله ونحن ال نختار أية نماذج بصورة انتقائية وإنما نفتح أي كتاب‬
‫قريب منا من أي موضوع لنسجل لكم هذه النماذج كأمثلة فإن‬
‫الجزء ينبئ عن الكل والكل هو مجموع األجزاء ـ ألننا إذا أردنا‬
‫إظهار االعتباط في التراث كله فانه يتوجب كتابة عدد كبير جد ًا من‬
‫المؤلفات ـ ومثل هذا العمل ال ضرورة له بعد التأكد من أن القسم‬
‫األكبر منه هو الخبيث ‪:‬‬
‫‪ ‬قل ال يسَتوي الخبيُث والط ّيُب ولو أعجَبك كَثرُة الخبيث ‪/ . ‬‬
‫المائدة ‪100 -‬‬
‫نعم ربما تج ّنب الزمخشري أو حاول تج ّنب هذا الشرح ولكنه جاء‬
‫( أمسكتم ال‬ ‫بكالم هو خليط من القصدية واالعتباط في قوله ‪:‬‬
‫مفعول له ألن معناه بخلتم ومعنى اآلية وصف اإلنسان بالشح‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪240‬‬
‫‪3‬‬
‫وخوف الفقر ‪!! ) ..‬‬

‫‪ .3‬خلطت االعتباطية في موضوع ( اللغات ) الخاصة بالقبائل‬


‫بين ألفاظ القرآن مما أفقدها وأفقد المتلقين أَّي إحساس باإلحكام‬
‫القرآني العام فضًال عن نظامه الصارم الذي تؤكده القصدية ‪.‬‬
‫في البدء حدثت ترجمة األلفاظ القرآنية من اللغات مثل هذيل‬
‫وكنانة واليمن وحمير وغيرها الى لغة قريش بحجة أن هذه األلفاظ‬
‫كانت من لغات تلك القبائل ولم تكن قريش تستعملها ! ‪.‬‬
‫وفيما بعد ذلك والى اليوم أصبحت تلك الترجمة شروح ًا ومعاني‬
‫وترسخ بذلك المبدأ االعتباطي القائم على العبث باللغة ونظامها من‬
‫خالل المرادفات ‪.‬‬
‫ومن القوائم المرفقة أدناه والنماذج التي اذكرها اآلن سوف‬
‫تدرك أن هذه العملية كانت مدروسة منذ البداية إذ ال يمكننا أن‬
‫نتصور أن لفظ ًا مثل ( تفشلوا ) ـ ال تستعمله سوى حمير وأن‬
‫قريشًا تستعمل بدًال عنه ( تجبنوا ) ! إذ يمكننا أن نسأل عن‬
‫مرادفات نفس األلفاظ في القبائل األخرى ال عند قريش وحدها !‬
‫وعندئذ ال تستطيع االعتباطية أن تجيب على ذلك بإجابة واضحة‬
‫ضرورة أن الفشل شيء والجبن شيء آخر ‪.‬‬
‫وهذه الترجمة كما تعلم ال زالت مستعملة في التفسير فتارة يذكر‬
‫المف ِّس ر أن اللفظ معناه كذا وهو في لغة كذا قبيلة أو منطقة وتارة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪241‬‬
‫‪3‬‬
‫يذكر المعنى المرادف من غير إشارة‪.‬‬
‫يكمن الرد القصدي في أن اللفظ ومقابله قد اسُتعِم ال في القرآن‬
‫مثل ( الرجز ) في لغة هذيل بمعنى ( العذاب ) ـ لكن الرجز والعذاب‬
‫استعمال في القرآن فإذا افترضنا تساوي المعنيين فقدنا النظام‬
‫القرآني واإلحكام وإذا افترضنا اختالفهما فذلك هو الحل القصدي ‪.‬‬
‫لكننا أبطلنا المرادفات في كتاب ( اللغة الموحدة ) وإذن فهذه‬
‫النماذج هي لغرض التأكد من تخبط االعتباطية ‪.‬‬
‫نعم ربما سألوا بعض العارفين عن ألفاظ معينة فأجابوهم أنها‬
‫مستعملة في حمير أو اليمن أو هوازن كثير ًا وقّر بوا لهم معانيها‬
‫لكن كثرة هذه األلفاظ واستعمال القرآن لما هو معنًى لها يجعل‬
‫الموضوع خارج ًا عن هذا التعليل الى تعمد االعتباط السير به قدم ًا‬
‫لتدمير اللغة والحيلولة دون كشف النظام القرآني ‪.‬‬

‫هذه بعض النماذج ‪:‬‬

‫في لغة تميم ‪:‬‬


‫ُأمة ‪ :‬نسيان‬
‫بغيًا ‪ :‬حسد ًا‬
‫القصدية ‪ :‬المفردات األربعة مستعملة كلها في القرآن !‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪242‬‬
‫‪3‬‬
‫في لغة أنمار ‪:‬‬
‫طائره ‪ :‬عمله‬
‫أغطش ‪ :‬أظلم‬
‫القصدية ‪ :‬نفس التعليق ‪.‬‬

‫في لغة الخزرج ‪:‬‬


‫ينف ّض وا ‪ :‬يذهبوا‬
‫القصدية ‪ :‬كالهما مستعمل في القرآن ‪.‬‬

‫في لغة جرهم ‪:‬‬


‫شقاق ‪ :‬ضالل‬
‫خير ًا ‪ :‬ماًال‬
‫تعدلوا ‪ :‬تميلوا‬
‫لفيفا ‪ :‬جميعا‬
‫محسورا ‪ :‬منقطعا‬
‫شرذمة ‪ :‬عصابة‬
‫الخالل ‪ :‬السحاب‬
‫َيغنوا ‪ :‬يتمتعوا‬
‫أراذلنا ‪ :‬سفلتنا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪243‬‬
‫‪3‬‬
‫سور ‪ :‬الحائط‬
‫ينسلون ‪ :‬يخرجون‬
‫القصدية ‪ :‬نحن ال نصدق أن لفظ ( خير ) لم يستعمل في قريش‬
‫وأنهم استعملوا بدال عنه لفظ ( مال ) ‪ ..‬نعم ‪ .‬نحن نكّذ ب االعتباط‬
‫ألن قريش بحاجة الى لفظ للخير غير المال شأنها شأن جميع األمم‬
‫ـ فثمة فرق بين اللفظين وكذلك األمر في جميع قائمة ( جرهم )‬
‫والتي استعمل القرآن منها العمودين بجميع ألفاظهما باستثناء‬
‫( عصابة وحائط ) !! ‪.‬‬

‫في لغة غسان ‪:‬‬


‫طفق ًا ‪ :‬عمد ًا‬
‫بئيس ‪ :‬شديد‬
‫سيء بهم ‪ :‬كرههم‬
‫في لغة مزينة ‪:‬‬
‫ال تغلوا ‪ :‬ال تزيدوا‬

‫في لغة قيس عيالن ‪:‬‬


‫ِنحلة ‪ :‬فريضة‬
‫حرج ‪ :‬ضيق‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪244‬‬
‫‪3‬‬
‫لخاسرون ‪ :‬مضِّيعون‬
‫تف ِّندون ‪ :‬تستهزءون‬
‫صياصيهم ‪ :‬حصونهم‬
‫يلتكم ‪ :‬ينقصكم‬
‫رجيم ‪ :‬ملعون‬
‫تحبرون ‪ :‬تنعمون‬

‫في لغة كندة ‪:‬‬


‫فجاجا ‪ :‬طرقات‬
‫ُبّس ت ‪ :‬فتت‬
‫تبتئس ‪ :‬تحزن‬

‫في لغات كّل من ‪:‬‬


‫عذرة ‪:‬‬
‫إخسئوا ‪ :‬إخزوا‬
‫حضرموت ‪:‬‬
‫رّبيون ‪ :‬رجال‬
‫دّم رنا ‪ :‬أهلكنا‬
‫لغوب ‪ :‬إعياء‬
‫منسأته ‪ :‬عصاه‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪245‬‬
‫‪3‬‬
‫بني حنيفة ‪:‬‬
‫العقود ‪ :‬العهود‬
‫الَج ناح ‪ :‬اليد‬
‫الرهب ‪ :‬الفزع‬
‫ِح َم ير ‪:‬‬
‫مرجّو ًا ‪ :‬حقير ًا !!‬
‫السقاية ‪ :‬اإلناء ـ الوعاء !‬
‫مسنون ‪ :‬منتن‬
‫إمام ‪ :‬كتاب !‬
‫عتيًا ‪ :‬نحوًال‬
‫مآرب ‪ :‬حاجات‬
‫محشورة ‪ :‬مجموعة‬
‫جّبار ‪ :‬مسّلط‬
‫معكوفا ‪ :‬محبوسا‬
‫مرض ‪ :‬زنا !‬
‫ينغضون ‪ :‬يحّر كون‬
‫خرْج ًا ‪ُ :‬ج ْع ًال‬
‫غرام ًا ‪ :‬بالء‬
‫أنكر ‪ :‬اقبح‬
‫الِقطر ‪ :‬النحاس‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪246‬‬
‫‪3‬‬
‫يتركم ‪ :‬ينقصكم‬

‫مدلج ‪:‬‬
‫رفث ‪ :‬جماع‬
‫الوصيد ‪ :‬الفناء‬
‫حقبًا ‪ :‬دهر ًا‬
‫الخرطوم ‪ :‬األنف‬
‫مقيتا ‪ :‬مقتدرا‬

‫سعد العشيرة ‪:‬‬


‫حفدة ‪ :‬أختان‬
‫كّل ‪ :‬عيال‬

‫كنانة ‪:‬‬
‫السفهاء ‪ :‬الجهال‬
‫موئال ‪ :‬ملجأ‬
‫مبلسون ‪ :‬آيسون‬
‫أسفار ًا ‪ :‬كتبًا‬
‫الخّر اصون ‪ :‬الكّذ ابون‬
‫ملوك ًا ‪ :‬أحرار‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪247‬‬
‫‪3‬‬
‫معجزين ‪ :‬سابقين‬
‫خاسئين ‪ :‬صاغرين‬
‫شطر ‪ :‬تلقاء‬
‫ال خالق ‪ :‬ال نصيب‬
‫يعزب ‪ :‬يغيب‬
‫هذيل ‪:‬‬
‫فرقانًا ‪ :‬مخرج ًا‬
‫صلد ًا ‪ :‬نقيًا‬
‫آناء ‪ :‬ساعات‬
‫الّر جز ‪ :‬العذاب‬
‫شروا ‪ :‬باعوا‬
‫عزموا ‪ :‬حققوا‬
‫مدرارا ‪ :‬متتابعا‬
‫ِع يلة ‪ :‬فاقة‬
‫ببدنك ‪ :‬بدرعك‬
‫رجما ‪ :‬ظنا‬
‫دلوك ‪ :‬زوال‬
‫فور ‪ :‬وجه‬
‫وليجة ‪ :‬بطانة‬
‫انفروا ‪ :‬إغزوا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪248‬‬
‫‪3‬‬
‫السائحون ‪ :‬الصائمون‬

‫إن تعقيب الحل القصدي على هذه القائمة وغيرها مما تركناه‬
‫وهو كثير جد ًا هو نفس التعقيب ‪ .‬فالقرآن استعمل األلفاظ المذكورة‬
‫وما قبلها من المعاني ‪ ،‬وهذا يستلزم أن تكون مختلفة ويبدو أن‬
‫االعتباط يحاول ذلك رغم ظهور الصيغ المقابلة في القرآن ظهور ًا‬
‫واضح ًا للغايات التي ذكرناها لالعتباط مثل ‪:‬‬
‫موئال ‪ :‬ملجأ ‪ ‬لو يجدون ملجأ ‪‬‬
‫شطر ‪ :‬تلقاء ‪ ‬ولما توجه تلقاء مدين ‪ ... ‬وغيرها‬
‫حيث ظهرت في القرآن بنفس الصيغة في آيات أخرى ‪.‬‬
‫تضم قائمة االعتباط خمسين لغة للعرب وردت بها مفردات‬
‫قرآنية ترجمت الى لغة قريش ونحو خمس لغات أعجمية وردت بها‬
‫مفردات أخرى كثيرة ‪.‬‬
‫ولم تهتم االعتباطية لمخالفة النص القرآني حيث قال ‪:‬‬
‫‪ ‬ولو جعلناه قرآنًا أعجميًا لقالوا لوال فصلت آياته ‪ / ‬فصلت‬
‫‪44‬‬
‫فهذه اآلية مرتبطة بآيات ( التفصيل) ارتباط ًا وثيق ًا ـ الن التفصيل‬
‫ظهوٌر للحقائق المتطابقة المؤيدة بعضها لبعض والكاشفة عن‬
‫حقائق خفية ‪ .‬فهذا نظام ‪ .‬ومعلوم أن النظام في نسق الكالم ال‬
‫يمكن أن يتم باستعمال أكثر من لسان ألن النظام اللغوي جزء ال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪249‬‬
‫‪3‬‬
‫يتجزأ من النظام الصوتي ‪ .‬فإذا حدث تغّير في النظام اللغوي وابتعد‬
‫عن النظام الصوتي حدث تغّير متبادل مماثل على النظام الصوتي‬
‫نفسه يؤدي الى تكّو ن لسان مختلف تدريجيًا ( الحظ تفاصيل‬
‫الموضوع في اللغة الموحدة ) وهذه النتيجة ال تقرها االعتباطية بما‬
‫في ذلك االعتباطيون الجدد حيث إجماعهم على أن القرآن حفظ‬
‫للعربية نظامها وإن كانوا يجهلون أنه حفظ النظام الصوتي للسان‬
‫العربي أيضًا‪.‬‬
‫واذن فإذا أمكن قبول بدعة االعتباطية القائلة أن القرآن استعمل‬
‫مفردات من خمسين لغة عربية من لغات القبائل ـ على اعتبار أن‬
‫مرجعها الى لسان واحد بنظام صوتي واحد وفق الحل القصدي ـ فال‬
‫يمكن قبول البدعة األخرى وهي استعمال مفردات من لسان آخر ـ‬
‫اال بتخريج معقد على الحل القصدي تذعن فيه االعتباطية لهذا الحل‬
‫وهي راغمة ‪ .‬وخالصة هذا التخريج أن المستعمل هو من التعاقبات‬
‫الصوتية التي يقع انتظامها في تلكم المفردات خصوصًا وفق النظام‬
‫الصوتي للسان العربي ‪.‬‬
‫نعم هذا يثبت أمومة اللسان العربي لأللسن كافة ولكننا ال نحتاج‬
‫إلثبات ذلك لمثل هذا التخريج لثبوته بنفسه في معاني األصوات‬
‫ومطابقتها في مئات التعاقبات لنظام اللسان العربي الذي أظهره‬
‫البحث في كتاب ( اللغة الموحدة ) ـ والذي وقعت فيه النسبة األكثر‬
‫استعماًال على المعاني الحركية األصلية لألصوات ـ عالوة على‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪250‬‬
‫‪3‬‬
‫النظام الكتابي المتم ّيز جد ًا الذي حافظ على روح العالقة بين‬
‫األصوات وبين حرف األلف ومظاهره األربعة ‪.‬‬

‫تنبيــــه ‪:‬‬

‫إن ما ذكرناه في هذا الكتاب وفي كتبنا األخرى حول االعتباطية‬


‫ال يعني أن االعتباطية في تراثها الواسع قد خلت تمام ًا من أي حٍّل‬
‫قصدي ‪.‬‬
‫ولكن ظهور حٍّل قصد ٍّي واحٍد في كّل مائة شاهد مثًال أو ظهور‬
‫إشارة قصدية واحدة في كّل فصل من فصول االعتباط ال يعني شيئًا‬
‫بالنسبة لنا ‪ .‬ذلك ألن الذي يرمي الحصى في بركة ماء اعتباط ًا‬
‫آالف المرات ال بد أن يقع بعضها ( اتفاقًا ) أيضًا على الهدف‬
‫المغمور في ركن ما من األركان تحت الماء ـ فليس من العدل‬
‫واإلنصاف مساواته بمن يحّدد الهدف وال يرمي اّال فيه ‪.‬‬
‫وجميع تلك اإلشارات والحلول إنما كانت مسروقة من القصدية‬
‫أصًال وقد ُأخذت تحت ظروف خاصة جدا وحشرت في ركام االعتباط‬
‫ـ تحت شروط قاسية أهمها أنها ال تكشف شيئًا عما يحيط بها من‬
‫االعتباط ‪ ،‬واألهم من ذلك أنها ال ترتبط بحقيقة بالغة الخطورة‬
‫يمكن أن تجّر الى معرفة حقائق أخرى ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪251‬‬
‫‪3‬‬
‫مثال على الفوارق بين‬
‫المترادفين‬

‫نأخذ مثاًال واحد ًا من مترادفات االعتباطية لنالحظ من خالله مدى‬


‫التخريب الذي حّل بالداللة وبالمعرفة المتحصلة من النص في آن‬
‫واحد ‪:‬‬
‫فلنأخذ مثاًال لذلك ما في قائمة ( حمير ) ‪ :‬مسنون = منتن ‪.‬‬
‫حيث تزعم االعتباطية أن مسنون في لغة حمير هو منتن في لغة‬
‫قريش ! بينما نالحظ بالفحص الدقيق أن مسنون ال عالقة له باللفظ‬
‫( منتن ) مطلق ًا ‪ .‬الن المسنون اسم مفعول من سَّن يسّن فهو‬
‫مسنون ـ ومعنى الفعل ‪ :‬وضع الشيء في شرعة ومنهاج ـ يقال‬
‫سن فالنًا سنة شّر ع شرعًا ونهج منهاج ًا ـ أنظر المعاجم ‪.‬‬
‫والفعل القريب من ( منتن ) هو َسِنه ‪ :‬تغّير طعمه ولونه أو تغير‬
‫حاله ‪ ،‬يقال َسِنه الطعام إذا تغّير وتعفن ‪.‬‬
‫واستعمل األخير في القرآن في قوله تعالى ‪:‬‬
‫البقرة ‪/‬‬ ‫‪ ‬وانظر الى طعامك وشرابك لم يتسّنه ‪‬‬
‫‪259‬‬
‫بينما استعمل مسنون مكرر ًا لوصف المادة األولية التي خلق‬
‫منها اإلنسان ‪:‬‬
‫‪ ‬ولقد خلقنا اإلنسان من صلصال من حمأ مسنون ‪26 / 15 ‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪252‬‬
‫‪3‬‬
‫واذن فمادة الخلق األولى كانت ( مسنونة ) ـ موضوعة في‬
‫شرعة ومنهاج وليست متعفنة أو منتنة ‪.‬‬
‫لقد وجدت القصدية أن هناك تغيير ًا مماثًال لالعتباط في لفظي‬
‫( صلصال ) و ( حمأ ) مما يستلزم االعتقاد لحد اليقين أن هناك‬
‫( قصدية في هذا العمل ) غايتها إخفاء المعلومات عن قصة الخلق‬
‫وتحويل وجهتها ‪ ،‬لتأكيد صاحب الرسالة ( ص ) على أهمية‬
‫الموضوع في مواقف عديدة ‪.‬‬
‫لقد ثبت في جميع التفاسير أن المسنون هو المنتن في وقت‬
‫ذكرت فيه المعاجم اللفظ ( سّن ) في باب مختلف ومعنى مختلف عن‬
‫اللفظ ( َسِنه ) القريب من المنتن ‪.‬‬
‫يكفي أن نخبرك اآلن أن قصة خلق آدم ( ‪ ) ‬هي من األهمية‬
‫بمكان بحيث أن مثَل األمام علي ( ‪ ) ‬يرى أن ‪:‬‬
‫‪ ‬الناس لو عرفوا كيف خلق آدم لما اختلف رجالن ‪‬‬
‫ولم نفهم مغزى ما فعله االعتباط وأهميته اّال بعد إن اكتشفنا‬
‫العالقات اللفظية المحكمة بين هذه القصة وجميع أركان الدين في‬
‫النظام القرآني والتي ربما تأتيك مفصلة في كتاٍب الح ٍق بإذن الله‬
‫تعالى ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪253‬‬
‫‪3‬‬
‫المبحث الحادي والعشرون‬
‫تطـّو ر الداللــة‬

‫قد تعني مفردة ( تطّو ر ) في ذهن السامع نوعًا من التغّير‬


‫اإليجابي أو الترقي ‪ ،‬واستعملت المفردة لوصف التغير في اللغة‬
‫الذي يؤدي الى تحولها بنسبة معينة أو تحولها التام الى لغة مغايرة‬
‫( التطور‬ ‫لألصل على سبيل الفرض ـ وهكذا استعملت مفردة‬
‫) في كتابات علماء اللغة المعاصرين في الغرب وانتقلت الى‬
‫المشرق ‪ .‬وقد تـّم نقد قدامى العرب على إهمالهم التطور الحتمي‬
‫الذي يحصل في هيكل اللغة بسبب التغّير في داللة األلفاظ ‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى أثنـوا على قدامى العرب لتأكيدهم على ما يجوز‬
‫في اللغة وما ال يجوز وعّدوا ذلك واجبًا نافع ًا‪.1‬‬
‫وأول شيء نالحظه هنا هو التناقض أو التضاد بين هذين‬
‫الهدفين ـ إذ من المعلوم أن ما يمكننا أن نعّده ( غير جائز ) ـ هو‬
‫بداية االستعمال الذي يقوم بنقل الداللة ‪ ،‬أي أنه بداية التطور فإذا‬
‫آمن المرء بالتطور فعليه أن يتوقف عن الحكم فيما يجُو ز وما ال‬
‫يجوز ‪ ،‬وإن آمن بضرورة تحديد االستعمال فعليه أن يتوّقف عن‬
‫اإليمان بالتطور بهذا المعنى في األقل ‪.‬‬
‫وهذه المشكلة الداللية ال زالت غير مكتشفة عند علماء االعتباط‬

‫‪1‬‬ ‫التطور النحوي للغة العربية ‪ /‬برجستر اسر ‪. 127 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪254‬‬
‫‪4‬‬
‫الغربيين وتابعهم على هذا الخلط بين األمرين علماء اللغة في العالم‬
‫وفي العالم العربي ‪ .‬فجمعوا بين هذين الهدفين المتضادين في وقت‬
‫( برجستر اسر )‬ ‫واحد ذاهلين عن تعارضهما حتى أثبت‬
‫األمرين في موضٍع واحٍد ‪.‬‬
‫وبصدد هذه المشكلة التي يثيرها الحل القصدي تبرز إشكاالت‬
‫عديدة أخرى ال يمكن لالعتباطية تفسيرها ناهيك عن حّلـها وال تجد‬
‫لها تفسير ًا وحًال مرضيًا اّال في المشروع القصدي للغة ‪.‬‬
‫فمن تلك اإلشكاالت ‪:‬‬
‫ما ذكرناه في كتاب اللغة الموحدة وهو أن االعتباط ال يملك‬
‫المبّر ر الكافي لتأسيس علٍم للغة فضًال عن مبرٍر آخر لمراقبِة‬
‫االستعمال ما دام يؤمن بالتغّير (التطور) الذاتي للغة كما وضعه دي‬
‫سوسير وسار الجميع من بعده على تلك الفكرة وهي [ أن الداللة‬
‫جزافية َبيـد أن تغيرها ليس جزافيًا ] كما في هذا النص ‪:‬‬
‫( وهذا التطور ال يحدث اتفاقًا وال يتم بطريقة عشوائية فمن‬
‫وجهة نظر علم اللغة الحديث أن التطور ينجم عن عوامل كامنة في‬
‫كّل لغة ما تزال بها حتى تخرج بها من حال الى حال ) ‪.1‬‬
‫وقد ذكر شيخ االعتباط ( دي سوسير ) أنه ليس ثمة من قوة‬
‫قادرة على تحويل الداللة أو إلغاء الداللة ما لم يحدث ذلك بصورة‬
‫تلقائية من داخل الجماعة التي تستعمل تلك الداللة ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫لحن العامة والتطور اللغوي ‪ @ 33 /‬التطور اللغوي التاريخي ‪.41 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪255‬‬
‫‪4‬‬
‫وقد أشكلنا على ذلك بالسؤال ‪ :‬ما فائدة علم اللغة إذن ؟ وما‬
‫معنى ثناؤهم على الذين وضعوا فكرة ما يجوز وما ال يجوز أو قل‬
‫وال تقل ؟ وبعبارة أخرى كيف تجتمع فكرة التطور مع فكرة‬
‫التصحيح إذا كان التصحيح محاًال في ذاته ؟ إذ ال واجب لعلم اللغة‬
‫سوى التصحيح في نهاية المطاف ‪.‬‬
‫قد تجيب االعتباطية على ذلك بالقول ‪:‬‬
‫إن الفائدة في ذلك هو المعرفة المجردة ‪ .‬معترفة بأن الذين‬
‫امتدحوا التصحيح كانوا واهمين وأنهم أقلية في علماء االعتباط‬
‫مثًال ؟!! ‪.‬‬
‫ولكن هذه اإلجابة تتضمن أمر ًا آخر يّتسم بالالمنطقية فنحن ننكر‬
‫كما ينكر جميع العقالء وجود معرفة في موضوع ال أثر لها بالمرة‬
‫على ذلك الموضوع ـ وهذا ال يحدث عادة اّال إذا كانت تلك المعرفة‬
‫وهم ًا أي أنها في الواقع ليست معرفة ‪.‬‬
‫وقد تجيب على ذلك بالقول ‪:‬‬
‫أن التغّير والتطور يطرأ على الداللة الخاصة باللفظ وعلم اللغة‬
‫يالحظ التركيب ال الداللة وحدها وبذلك يمكنه تصحيح التراكيب بما‬
‫يتفق والداللة المتطورة ‪.‬‬
‫ولكن هذه اإلجابة متناقضة في داخلها ومخالفة لما عليه‬
‫االعتباطية من أفكار حول الداللة وعالقتها بداللة التركيب كله ‪..‬‬
‫فليس هناك فصل بين تغّير داللة اللفظ والتغيرات المماثلة في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪256‬‬
‫‪3‬‬
‫التركيب بل العكس تمام ًا ‪ ( ..‬فإعادة التوازن ) ـ الذي وضعه دي‬
‫سوسر والذي مثل له بالنظام الشمسي الذي يعيد توازنه كلما حدث‬
‫حادث يغّير من أوضاع أفراد المجموعة ـ يمثل جوهر النظرية‬
‫االعتباطية في تطور اللغة ـ ألن اللغة نظام وهو يشتمل على‬
‫المركبات فقط دون األلفاظ فال يحدث أي تغّير في الداللة ما لم‬
‫يحدث فور ًا تعديل في التركيب والمركبات ‪.‬‬
‫إذن فاإلجابة وإن تو ّقعَت ظهورها على لسان أحد علماء االعتباط‬
‫فهي واقعة ضمن طرقهم الملتوية لإلجابة على اإلشكاالت والتي‬
‫تمّيزت بها االعتباطية في جميع إجاباتها قديمها وحديثها والتي‬
‫تهدم فيها ما وضعته من أسس ومبادئ ‪.‬‬
‫معلوم أن الحل القصدي يؤمن بالتغير ويؤمن بضرورة علم اللغة‬
‫والمراقبة والتصحيح ولكنه يجمع بين األمرين بطريقته الخاصة‬
‫التي تنسجم مع مبادئه وتقوم بتقوية عناصر منهجه بخالف ما‬
‫يفعله االعتباط ‪ .‬وخالصة الحل القصدي لهذا اإلشكال أوضحه فيما‬
‫يلي ‪:‬‬
‫أ ‪ .‬إن الحل القصدي يالحظ التغّير ال باعتباره واقعة ال مفر منها‬
‫وإنما باعتباره ظاهرة اجتماعية فعًال ‪ .‬ولكنه يالحظ أيضًا أن هذا‬
‫التغير ليس بالضرورة أن يكون تطور ًا بل قد يكون تقهقر ًا للغة ‪،‬‬
‫وقد يبقى بنسبة مقاربة لألصل ‪ .‬فهو ال يختلف مطلق ًا من هذه‬
‫الناحية عن اإلنسان نفسه فالجيل الالحق أما أكثر وعيًا وتطور ًا من‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪257‬‬
‫‪3‬‬
‫الجيل السابق وأما أقل تطور ًا أو هو متطور في جهة ومتقهقر في‬
‫جهة أخرى ‪ .‬وبصفة عامة فكل الكائنات تتغير أفرادها جميع ًا من‬
‫حقبة الى أخرى وما يصدق على تلك الكائنات في التغير يصدق على‬
‫اللغة ـ وإذن فهناك تغير في اللغة وواجب علم اللغة هو رسم الخط‬
‫البياني لهذا التغير لمالحظة اتجاه التغير ورصده ومن خالله يتم‬
‫تأشير مستوى تدني أو تنامي الوعي اللغوي وبالتالي المعرفي العام‬
‫للمجموعة اللغوية – و بهذا يربط الحل القصدي المعرفة و التطور‬
‫العام بالمعرفة اللغوية وتطورها سلبًا وإيجابًا ويعتبرهما دالتين‬
‫متبادلتين في تأثر إحداهما باألخرى ‪ .‬فهو يرفض أن يكون التغير‬
‫واقع ًا ال مفر منه ويرفض كذلك أن يكون تلقائيًا بالمعنى السلبي‬
‫التام ويرفض ثالثًا عدم إمكانية التأثير في االستعمال وبذلك يعطي‬
‫لنفسه الحق في تأسيس علم اللغة خالف ًا لالعتباط ويجعل لهذا العلم‬
‫مغزًى وهدفًا يسعى إليه ‪.‬‬

‫ب ‪ .‬أما كيف يتمكن الحل القصدي من ذلك ولماذا يمتلك وحده‬


‫حق تأسيس علم اللغة فاألمر أوضح من أِّي واضح ‪:‬‬
‫( إن قصدية اإلشارة اللغوية في الحل القصدي هي أساس ذلك‬
‫الحق ومصدره )‬
‫فأنك إذا قلت ‪ :‬أن اللفظ ال يمتلك أّية داللة مسبقة وإنما هو‬
‫اتفاق وتؤكد مرة أخرى أن هذا االتفاق اعتباطي الصورة وأن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪258‬‬
‫‪3‬‬
‫اإلنكليز اتفقوا جزافًا على مثل لفظ ( ‪ ) sister‬والعرب اتفقوا‬
‫على لفظ ( أخت ) وانه ليس من عالقة بين اللفظين وال داللة فيهما‬
‫على األخت الفعلية ـ فليس من حقك بعد ذلك االعتراض على أي‬
‫تغير يجري جزافًا في هذين اللفظين أو عند ظهور لفظين آخرين‬
‫يحالن محلهما ألن تلك التغيرات واقعة في القاعدة االعتباطية‬
‫لالستعمال التي آمنت بها‪.‬‬
‫وال تمتلك حق التصحيح والمراقبة اّال إذا اعتقدت بوجود عالقة‬
‫فعلية بين اللفظ والفكرة بحيث أن اللفظ يمتلك داللة مسبقة على كّل‬
‫استعمال ‪ .‬ففي هذه الحالة تستطيع البّت في صحة أو خطأ‬
‫االستعمال الداللي مثلما يمكنك مراقبة وتصحيح التراكيب المتنوعة‬
‫التي تتضمن تلك الداللة ‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن النحو والصرف والبالغة ( وليس المعاني وحدها‬
‫) في االعتباطية ال تتجاوز كونها وصف ًا للكالم كما هو ولن يكون‬
‫بمقدورها النفاذ الى جوهر علم اللغة لتفسيرها فضًال عن مراقبتها‬
‫وتصحيح استعماالتها ‪.‬‬
‫هذا يعنى أن القصدية ترى أن ما فعله السلف من التصحيح‬
‫وتحديد ما يجوز وما ال يجوز فضًال عن كونه نقيض االعتباطية‬
‫فهو قائم على فهم الداللة فهم ًا اعتباطيًا ‪ .‬فكان هذا التحديد هو ما‬
‫يخص حقبة زمنية معينة ومالحظة استعماالتها فمن الطبيعي بل‬
‫والحتمي أن ال يعتني بتطور اللغة ‪ ،‬بل ال يعتني بالتغيرات العامة ‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪259‬‬
‫‪3‬‬
‫بل هو في طبيعته وصورته نقٌد جزافٌّي ال يقوم على أية قاعدة ثابتة‬
‫‪.‬‬
‫إن هذا األمر هو الوحيد الذي يفسر لنا االختالف النحوي‬
‫والصرفي والبالغي وظهور األوجه العديدة إلعراب الجملة ‪ .‬وذلك‬
‫النعكاس األمر كله خالف ًا ألسس العلم الحقيقي فالمعنى الذهني‬
‫للمتلقي ينعكس على رأيه في تركيب الجملة وإعرابها ـ بينما واجب‬
‫اإلعراب تحديد مواضع ومحال األلفاظ بما يؤدي الى تحديد المعنى‬
‫العام للجملة ‪ .‬ويفسّـر لنا كذلك جميع اإلشكاالت الواردة في الصرف‬
‫والنحو والبالغة وحالة التخبط المستديمة فيها كما يفسر لنا سببًا‬
‫من أسباب تجاوز النصوص وعدم احترامها على أيدي االعتباطيين‬
‫حيث أسقطوا عليها معانيهم الذهنية واالصطالحية حذفًا وتقدير ًا‬
‫وتقديم ًا وتأخير ًا ‪.‬‬

‫ج ‪ .‬إن الحل القصدي يمتلك الداللة المسبقة لكل لفظ في أّية لغة‬
‫في العالم من خالل تحديده لمعاني األصوات وبالتالي فكّل تعاقب‬
‫صوتي هو كائن مستقل قائم بذاته إذ ال يشبهه أي تسلسل آخر‬
‫لألصل وال يحل محله أي عضو آخر وهو بمجموعه يمثل حركة‬
‫مج ّس دة ذات صورة حركية ‪.‬‬
‫وتبرز من ذلك نتائج عديدة أهمها هنا ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪260‬‬
‫‪3‬‬
‫األولى ‪ :‬إن كّل استعمال أما يكون جزء ًا من تلك الحركة العامة‬
‫أو خارجها ‪ .‬فإن كان خارجها فالمتكلم واهٌم ‪ ،‬إذ هو يريد حركة‬
‫لفظ آخر غير هذا اللفظ ـ ومن هنا يمتلك الحل القصدي أحق َّية‬
‫التصحيح ‪ .‬وإما إذا كان ضمن تلك الحركة فهو استعمال حقيقي‬
‫سواء كان يحاكي الحركة تشبيه ًا أو تمثيًال أو في تسلسل األصوات‬
‫أو في نتائجها فليس في الحل القصدي أي صورة من صور المجاز‬
‫الذي تذكره االعتباطية ‪.‬‬

‫الثانية ‪ :‬إن الحركات ( أو العالمات ) ـ الفتحة والضمة والكسرة‬


‫ـ هي صور وأجزاء من أحرف العلة تفعل فعل تلك األحرف في‬
‫توجيه الحركة فكل لفظين تشابها في التعاقب واختلفا في العالمات‬
‫فالحركة العامة واحدة ولكن النتائج المتحصلة من تلك الحركة‬
‫وأهدافها وغاياتها مختلفة بمعنى آخر أن هذه العالمات تتحكم في‬
‫( زمان ومكان ) الحركة العامة ‪.‬‬
‫وبناء ًا على ذلك يرفض الحل القصدي رفضًا قاطع ًا وجود ( مثلث‬
‫( الَج ذوة‬ ‫) مختلف العالمات متفق المعنى مثل ‪:‬‬
‫‪ ،‬الِج ذوة ‪ ،‬الُج ذوة ) ـ بالفتح والكسر والضم على الترتيب ‪.1‬‬
‫حيث زعمت االعتباطية في عشرات من تلك األلفاظ اتفاق المعنى‬
‫فيها ‪ .‬فالحل القصدي ال يؤمن اّال بالمثلث المختلف المعاني وهو‬

‫‪1‬‬ ‫المثلث ‪ /‬ابن السّيد البطليوسي ـ ‪. 393‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪261‬‬
‫‪4‬‬
‫قادر على تحديد تلك المعاني المختلفة على ما حّدده من قيمة‬
‫مسبقة لألصوات والعالمات ‪.‬‬

‫الثالثة ‪ :‬إن أكثر ما تذكره االعتباطية من أمثلة على تطور‬


‫الداللة كان تغ ّيرًا واقع ًا ضمن الحركة العامة للتعاقبات وليس‬
‫خروج ًا عليها ‪ .‬وقد ذكرت بهذا الصدد حقيقتين لمستهما من سلوك‬
‫االعتباطية ‪ :‬أما األولى فهي أن الحس اللغوي عند الُع ّو ام أكثر‬
‫صوابًا ودقة من قوانين االعتباط ـ ألن االعتباط يفسر األمر‬
‫بالجزافية بينما الحس اللغوي متمسك بما يشعر أنه قيمة ذاتية في‬
‫التعاقب ‪ .‬واّم ا الحقيقة الثانية فهي أن االعتباط يتوهم مرتين ‪ ،‬مرة‬
‫حينما يتصور المعنى الذهني المتبادر إليه من استعمال واحد أنه‬
‫هو األصل في داللة اللفظ ومرة أخرى حينما ال يتحّر ى بصورة‬
‫جد ّية عن االستعماالت المتنوعة للتعاقب تاريخيًا ‪.‬‬
‫مثال ذلك زعمه أن ( ‪ ) hard‬كانت تستعمل لما هو صلب من‬
‫المادة كالحجر والجوز ثم استعمل لما هو صلب معنويًا‪ .1‬لكن األصل‬
‫في ( الهاء ) فيه هو ( الحاء) ومصدره األول التعاقب العربي ( حرد‬
‫) الذي يعني الخشونة والصالبة في كّل شيء ـ فحركة التعاقب‬
‫الداخلية تحّدد االستعمال وفي هذا التعاقب ال تحديد بالماديات فقط‬
‫ويكمن الوهم في عدم تقّص ي االستعماالت القديمة واالعتماد على‬

‫‪1‬‬ ‫الترادف في اللغة ‪ /‬حاكم مالك ـ ‪.23‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪262‬‬
‫‪4‬‬
‫اآلثار المادية ومخلفات األقوام التي ورد فيها استعمال جزئي وهو‬
‫ما يخّص الحجر والجوز ‪.‬‬
‫و مثال آخر من اعتباط العرب ‪:‬‬
‫قالوا أن ( الَم َّلة ) بفتح الميم في األصل هي الرماد الحار ثم‬
‫قالوا ‪ ( :‬أكلنا م ّلة ) ويعنون به نوع من الخبز يوضع على النار ال‬
‫في التنور ‪.‬‬
‫أقول هذا وهم عجيب فالناس في قرانا ال زالوا يقولون ‪ ( :‬أكلنا‬
‫خبز م ّلة ) وال يقولون ‪ ( :‬أكلنا ملة ) ‪.‬‬
‫وال أريد أن أّدعي أن القائل كاذب ألنه إن صح فال نقل للداللة‬
‫وإنما هو اختصاٌر َّس يٌء للكالم فان كنت تشّك في ذلك فاذهب الى‬
‫الشيوخ في العراق وحادثهم عن خبز الم ّلة فان رأيتهم يقولون نأكل‬
‫َم َّلة بغير ما ذكر لمفردة الخبز فإّنا نبرأ من كتبنا كلها ‪.‬‬
‫وهذا مثال آخر ‪ :‬زعم أن قولهم ( هذا يوم شاٍت ) هو للداللة‬
‫على أنه مطير فتنقل داللة أحد اللفظين الى اآلخر للعالقة بينهما ‪.‬‬
‫وهذه أكذوبة فإننا ال زلنا نستعمل هذه الجملة كلما حل الشتاء فإذا‬
‫حدث برد مفاجئ وريح بعد دفئ قلنا هذا يوم شات أو هذا من أيام‬
‫الشتاء وال نريد به المطير بل نريد به يوم ًا من أيام الشتاء في‬
‫مطره وبرده وهبوط شمسه سواء بسواء ‪ .‬بل سمعنا أحدهم يقول‬
‫لنا ‪ :‬أنظر هذا اليوم كأنه من أيام الشتاء وكان صحو ًا دافئًا قبل‬
‫الموسم فانتبهنا لذلك ونظرنا فإذا هو يريد به هبوط الشمس وطول‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪263‬‬
‫‪3‬‬
‫الظل وكان الشتاء بمطره وبرده قد تأخر فلما تذكرنا أنه أول شهر‬
‫من الشتاء فعال قلنا له ‪ :‬لقد صدقت ! وذلك ألن الصورة صورة‬
‫شتاء ‪.‬‬
‫وهذا مثال آخر ‪ :‬زعم صاحب األضداد أن لفظ الدنيا أصله الحياة‬
‫الدنيا وعّده صاحب الترادف من أسباب ظهور الترادف وهو حذف‬
‫المضاف فإن صح فهو اختصار ال نقل للداللة وكيف يصح وقد أثبتنا‬
‫في أحد األبحاث أن القرآن استعمل الدنيا والحياة الدنيا بنظام صارم‬
‫وفّر ق بينهما تفريق ًا بّينًا ؟ ووجدنا أمر ًا عظيم ًا في هذا التفريق‬
‫يأتيك في موضعِه أن شاء الله ‪.‬‬

‫الرابعة ‪ :‬ومن نتائج ذلك أن فهم األصول اللغوية سوف يتغّير في‬
‫الحل القصدي فالحركة العامة لألصوات واحدة وعند محاولة فهم‬
‫لفظ مثل ( ‪ ) maker‬وما يقابله في العربية فليس المقابل هو‬
‫( صانع ) بل األقرب في أداء ذلك التعاقب بين الميم والكاف والراء‬
‫وسوف تجده في العربية في ( مكر ) أو ( ماكر ) وهو الذي يجد‬
‫لكل أمر ًا مخرج ًا ـ الن المكر ليس صفة ذميمة بل براعة وإتقان‬
‫وسعة معرفة سلبًا وإيجابًا سواء بسواء لقوله تعالى ‪ ( :‬والله خير‬
‫الماكرين) ـ وإن كان قد تحدد استعمالُه عند العرب بأهل المخادعة‬
‫فهنا يبرز دور علم اللغة في تصحيح وتوضيح االستعمال تعميم ًا أو‬
‫تقييد ًا أو حسب التعاقب ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪264‬‬
‫‪3‬‬
‫فكذلك يختلف األمر عند ترجمة المفردات من نظام الى آخر إذ‬
‫ُيوجب الحل القصدي البحث عن تسلسل األصوات ذاته في اللغة‬
‫االخرى فال يصح ترجمة (نجيب) من العربية الى ( ‪) noble‬‬
‫اإلنجليزية والفرنسية بل يصح ترجمة ( نبيل ) إليها وذلك‬
‫بالمحافظة على تعاقب األصوات األساسية من غير أحرف علة في‬
‫األقل أي مجيء الباء بعد النون ومجيء الالم بعد الباء بهذا‬
‫الترتيب ذاته ‪.‬‬

‫الخامسة ‪ :‬يتوجب في الحل القصدي مالحظة التغّيرات من لغة‬


‫الى أخرى وضبطها وتفسيرها ـ فقد تستعمل أمم مختلفة نفس‬
‫التعاقب الصوتي بتمثالت مختلفة لحركته فيتوهم البعض أنها‬
‫مفردات مختلفة كما يتوجب مالحظة االنحراف البياني في االستعمال‬
‫مثال ذلك ‪:‬‬
‫أننا إذا أخذنا أي تعاقب مثل ( ر ـ د ) فيمكن إدخال أكثر من‬
‫حركة بينهما مثل راد ‪ ،‬رود ‪َ ،‬ر يد ‪ِ ،‬ر يد ( بياء مخففة على زنة‬
‫يقرأ في اإلنجليزية ) ‪.‬‬
‫فالمعجم المسمى مجمع اللغات اثبت لـ ( راد ) العربية معنًى هو‬
‫‪‬في الفرنسية ومثل له بارتياد القمر ‪.‬‬
‫ولكن يتوجب التفتيش عن هذا التعاقب بعينه في الفرنسية‬
‫واإلنجليزية فنحن نالحظ في مثل ‪  :‬في الفرنسية وقد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪265‬‬
‫‪3‬‬
‫أعطاه معنى ‪ ‬و ‪ ‬في الفرنسية ولكننا‬
‫نالحظ أنه أعطاه معنى ‪‬وكذلك‬
‫‪‬في اإلنجليزية ميناء أو مرفأ ‪.‬‬
‫أما التعاقب المشابه في اإلنجليزية فهو ‪‬‬
‫وقد أعطاه معنى ( ‪ ) ‬في الفرنسية ومرادف هو (‬
‫‪ ) ‬والمعنى هو إغارة أو غارة ‪.‬‬
‫ولكنه أعطى للباب ‪ ‬في اإلنجليزية معنى ‪‬‬
‫في الفرنسية ‪.‬‬
‫ويدخل اإلشكال هنا في نفس سطورنا حينما نريد توضيح األمر‬
‫في اللغة العربية ألننا بازاء اعتباط يجعل تعاقب األصوات مقلوبًا‬
‫ويؤدي بالنهاية الى نفس الداللة وهو ظاهر في تقدم الدال على‬
‫الراء في ‪ ‬حيث ساوى اللفظ الذي انعكس فيه‬
‫التسلسل وتقدم الراء على الدال في ‪ ‬من خالل‬
‫مرادف لكليهما هو ‪. ‬‬
‫أن سبب ذلك هو حدوث ( إزاحة ) تدريجية إلستعمال اللفظ على‬
‫المحور والذي أوضحته بأمثلة في كتاب اللغة الموحدة ـ وهو نوع‬
‫من التسامح الشديد في استعمال المرادفات والذي هو نوع من‬
‫االعتباط شارك فيه علماء اللغة وطرائق الترجمة ‪.‬‬
‫ال نرى في الحل القصدي أن اللغة نظام ال سيطرة عليه مطلق ًا‬
‫مثل ما تراه االعتباطية في موضوع ( تغّير اللغة ) الذي ابتدعه دي‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪266‬‬
‫‪3‬‬
‫سوسر فنحن نرى العكس من ذلك وهو أن التغّير في النظام اللغوي‬
‫هو نتاج صراع بين القصدية واالعتباط وبين العلم والجهل‬
‫فالصراع بين أول طرفين ينتج عنه تغّير نوعي وبين الطرفين‬
‫اآلخرين ينتج عنه تغّير كمي فاالعتباط له أثر سيء في التغّير‬
‫النوعي بينما ال نجد اال األثر الحسن نوعًا وكم ًا للقصدية ‪.‬‬
‫فاالعتباط باعتباره أهم مشتغل في علم اللغة واألدب حافظ على‬
‫اللغة من الناحية الكمية فقط بوجه الجهل الذي ال يحتاج اّال الى‬
‫العدد األدنى من األلفاظ ولكنه أساء الى نظام اللغة من جهة النوع‬
‫باستعماله الترادف بطريقة تعسفية واعتباطية كان من نتائجها على‬
‫منهجنا جميع الخالفات الفكرية وضياع الحقائق بل وخلق الفئات‬
‫المتنافرة ومن ثم الحروب الفعلية ‪ .‬فنحن ال نفصل مطلق ًا بين‬
‫الوجوه المتعددة لالعتباط ونعتبره منهج ًا واحد ًا يعمل في كافة‬
‫النشاطات االجتماعية واالعتباط اللغوي هو أحد أسلحته الفتاكة ‪.‬‬
‫إن اكتشاف الحركة العامة لألصوات وقيمتها المسبقة أدى الى‬
‫تأكيد وتوحيد القيمة المسبقة لكل تعاقب وبالتالي فقد سقط الترادف‬
‫والمجاز تلقائيًا ‪ .‬واذن فيتوجب اآلن التمييز بين االستعمال القصدي‬
‫للتعاقب واالستعمال االعتباطي ‪ .‬ومع ذلك فأننا سنناقش موضوع‬
‫الترادف في البحث الالحق لنبرهن أن هذا الموضوع ساقط عن‬
‫االعتبار قبل كشف أية قيمة مسبقة للتعاقبات ‪ .‬المبحث الثاني‬
‫والعشرون‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪267‬‬
‫‪3‬‬
‫إبطال الترادف‬

‫الحظت في بحث سابق كيف أدت المساواة بين لفظ ( مسنون ) و‬


‫( منتن ) الى تشويه ِقصة خلق اإلنسان في القرآن بحيث أصبحت‬
‫تشبه األساطير وذلك في قائمة ألفاظ ِح ّم ير ومرادفاتها من لغة‬
‫قريش ‪ .‬ومثل هذا التخريب تجده في كّل آية قرآنية وكل مقطع من‬
‫آية فليس بأيدينا اليوم أي تفسير منهجي للقرآن سوى التفسير‬
‫االعتباطي ‪.‬‬
‫وال أريد الخوض في مجادالتهم عن الترادف وحقيقته فقد تكفل‬
‫كتاب "اللغة الموحدة" بنسف موضوع الترادف من أصله بكشفه‬
‫عن قيمة األصوات ‪ .‬أريد فقط أن ُأبين وكما جرت العادة في هذا‬
‫المنهج بأن االعتباط غيُر معذوٍر في إيمانه بالترادف ولو كانت‬
‫القيمة السابقة لألصوات خافية لديه ألن أبحاثه عن الترادف‬
‫ومسوغاته كانت متناقضة في ذاتها ‪.‬‬
‫ويكفي لفهم هذه النقطة بصورة عامة أمٌر واحٌد وهو أن مبررات‬
‫الترادف هي عينها مبررات اعتباطية اإلشارة اللغوية وإذن فسقوط‬
‫هذه عن االعتبار يعني سقوط مبررات الترادف ‪.‬‬
‫وأما على التفصيل فقد اّدعت االعتباطية أن أدلة المنكرين‬
‫للترادف تقوم على ( التوقيف ) الذي يراد به وقف اللفظ على معنى‬
‫محدد وبالتالي فال ألفاظ متعددة تشير الى ذات المعنى وال لفظ واحد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪268‬‬
‫‪3‬‬
‫يشير إلى معاني متعددة ألن ذلك بخالف الحكمة من الوضع فكل لفظ‬
‫موقوف على معنى واحد ‪.‬‬
‫وهذا كما ترى هو نفس فكرتنا القصدية القائلة بوجود داللة‬
‫واحدة لكل لفظ سوى أننا اكتشفنا أن اللفظ والداللة شيء واحد‬
‫لوجود القيمة الكامنة في األصوات وتعاقباتها وهو الذي جعل الفكر‬
‫االعتباطي يسقط دفعة واحدة بكامله ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬زعم االعتباط أن هذا الدليل ال يقوم على أساس متين‬
‫بدعوى أن أصل اللغة ال زال موضع خالف بين العلماء ‪ ،‬وثانيًا ألن‬
‫الترادف ال يرجع الى أصل اللغة وإنما المقصود به بعد ما تجاوزت‬
‫اللغة ذلك العهد وتطورت وتوسعت فصار الترادف ظاهرة لغوية‬
‫قائمة ‪.‬‬
‫وقد ظهر الرّدان سوية في النص التالي ‪:‬‬
‫( وأما قول هؤالء بدفع جواز الترادف وإنكاره وذلك باعتبار أن‬
‫اللغة توقيف وأن واضعها عز وجل حكيم عليم ال يمكن أن يضع‬
‫أكثر من لفظ على معنى واحد وهو أمر تجّل عنه اللغة فإن في أصل‬
‫اللغة نظريات عّدة ال يمكن القطع بأحدها وما تزال موضع خالف‬
‫بين العلماء ومثار قول كثير ‪ .‬فابن جّني مثًال حين عرض األقوال‬
‫بشأنها تردد فيها ولم يقطع بشيء ‪.‬‬
‫أما المحققون من المحدثين فيستبعدون هذه المسألة من دائرة‬
‫البحث اللغوي ويرون أن ال جدوى من البحث فيها لعدم تو ّفر األدلة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪269‬‬
‫‪3‬‬
‫للبت فيها والتصالها بالتاريخ البدائي للبشرية ‪ .‬ونحن ال ننظر الى‬
‫الترادف تبعا ألصل اللغة ونشأتها وإنما بعد أن تجاوزت طـــور‬
‫نشأتها وتَعَّه دها االستعمال بالتو ّس ع والتطّو ر وصارت ظاهــرة‬
‫اجتماعية متطورة ‪.1 )..‬‬
‫ويشمل ردنا القصدي على هذا النص على تنبيه القارئ الكريم‬
‫أن هذا النص هو نص اعتباطي في منطقه وأغراضه ‪ .‬فاالعتباطية‬
‫وكما أسلفت وكررت مرار ًا تخلط األشياء ببعضها وميزتها األساسية‬
‫أنها بال منطق وال أهداف ‪.‬‬
‫ألننا نقول أن علم اللغة هو في األساس للبحث عن الداللة وأصل‬
‫اللغة وداللتها األصلية هي موضوع علم اللغة فكيف نستمر في‬
‫دراسة اللغة ونتجنب في عين الوقت هذه الداللة بحجة أن هناك‬
‫نظريات غير مقطوع بها ‪ ..‬فتلك النظريات إنما ظهرت كنتيجة‬
‫للبحث عن الداللة وأقل ما يمكن أن يقال منطقيًا هو استمرار‬
‫المناقشة عن األصل ليجد االعتباط به مسوغًا الستمراره بالحديث‬
‫عن اللغة ـ أما أن يريد االستحواذ على الموضوع برمته وقطع‬
‫المناقشة والبت بموضوع الداللة من حيث ال يدري ما هي الداللة‬
‫فذلك هو استبداد االعتباطية واستكبارها الذي ُعرفت به منذ القدم‪.‬‬
‫لقد اّدعى النص أن ( ابن جّني ) وابن درستويه والعسكري وابن‬
‫فارس كانوا من القائلين بالتوقيف أو كانوا ممن لم يقطع بشيء في‬

‫‪1‬‬ ‫الترادف في اللغة ـ حاكم مالك ‪. 206 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪270‬‬
‫‪4‬‬
‫جواز الترادف وعدمه فاالعتباط يستعمل سكوتهم للبرهنة على‬
‫جواز الترادف ـ بينما سكوتهم ال يعني سوى استمرار الحوار بشأن‬
‫األصل وذلك إذا غضضنا الطرف عن ( ميلهم ) الى التوقيف أي الى‬
‫القصدية في اللغة ‪.‬‬
‫فاالعتباط ال يكتفي بأفراده االعتباطيين على كثرتهم وإنما يحاول‬
‫استعمال مقوالت القصديين لصالحه مثل أي جبار في األرض يّدعي‬
‫أن الذين يعارضونه على قَّلتهم إنما يؤيدونه من وجه آخر ‪.‬‬
‫وأما االِّدعاء اآلخر فهو اعتباطي أيضًا نصًا وروح ًا ألنه يزعم أن‬
‫الترادف المقصود هو بعدما توسعت اللغة وتطورت فكأنه يقول أن‬
‫اعتباطية اإلشارة أصبحت واقعا مفروغًا منه ‪ ،‬فحتى لو ثبت رأي‬
‫المانعين من الترادف على أصل اللغة فعليهم أن يتنكروا لهذه‬
‫الحقيقة ويكونوا اعتباطيين لضياع هذا األصل وغياب القصدية فيه‬
‫!‬
‫والحجة في ذلك هو ( عدم توفر األدلة للبت في أصل اللغة‬
‫التصالها بالتاريخ البدائي القديم ) ‪.‬‬
‫ترى ما الفائدة من ذكر هذه الحجة والنص يرفض اإلذعان ألصل‬
‫اللغة حتى لو ثبت فيها عدم جواز الترادف ؟‬
‫كما تالحظ فأني أقوم بتفكيك عبارات ( اللغو االعتباطي ) ُإلبِّين‬
‫لك نموذج ًا من نماذج نصوصه المعاصرة ولترى بعينك االعتباط في‬
‫المنطق العام ال في اإلشارة اللغوية وحدها ـ ألن اعتباطية اإلشارة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪271‬‬
‫‪3‬‬
‫يقود الى اعتباط فكري عام ال محالة ـ فكل صفحة من الكتب‬
‫المعاصرة والقديمة لالعتباط تتصف بهذه الصفة المشتركة ‪.‬‬
‫ومن جهة أخرى أهمل االعتباط النظر في تاريخ النظام الكتابي‬
‫وتطور الكتابة وتأثرها في ترسيخ الترادف خالف ًا لألصل ‪.‬‬
‫فاالعتباط يتغاضى عن األبحاث اآلثارية والحقائق العلمية ألنه ال‬
‫يجد فيها بغيته ـ فهو يدعي زور ًا أن ذلك التاريخ البعيد ال يعطي أية‬
‫معلومات عن أصل اللغة ‪.‬‬
‫فهذا ( جورج كونتينو ) ـ اآلثاري الفرنسي ـ في كتابه ( الحياة‬
‫اليومية لبالد بابل وآشور ) ـ يخصص موضوعًا لتطور الكتابة من‬
‫حالتها المصورة الى المقطعية ويظهر فيها وبصورة جلية األثر‬
‫السّيئ الذي تركته الكتابة على الداللة ـ بل يظهر منه أن الترادف‬
‫حدث بسبب مشكلة العالمات الكتابية ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫( القى هذا التبديل عونًا كبير ًا من التغيير األساسي في الكتابة‬
‫وكما قلنا فان العالمة كانت تمثل في األصل شيئًا واحد ًا ولم تكن‬
‫هناك طريقة للتعبير عن األفعال والصفات والضمائر وتصريفات‬
‫األسماء كما لم تكن هناك إمكانية إلنجاز مثل هذه األمور دون وجود‬
‫نوع من االتفاق العام بين الكتبة الذين كان بإمكانهم إضافة معاني‬
‫ثانوية الى العالمات ‪.‬‬
‫فمثًال صورة الحصان كانت تقرأ ـ حصان ـ فإن الصورة إياها‬
‫يمكن أن تعطي معنى ـ السرعة أو الحركة أو المسافة التي يشملها‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪272‬‬
‫‪3‬‬
‫السفر ‪.1‬‬
‫لم يكن هذا العالم اآلثاري يقصد تفسير الترادف مطلق ًا وإنما جاء‬
‫هذا النص عرضًا خالل بحثه عن تطور الكتابة ومشاكلها ولكنه كما‬
‫ترى مخالف العتباطية دي سوسر وأتباعه ‪ .‬فالعالمة كانت تشير‬
‫الى شيء واحد في األصل في نظام الكتابة كما يقول النص وهذا‬
‫غير ممكن أبد ًا اّال إذا كانت العالمة تشير الى ذلك الشيء عينه في‬
‫الواقع ـ ولو كانت هناك مترادفات في األصل لظهرت المشكلة منذ‬
‫البدء إنما ظهر الترادف ألول مرة ليحل مشكلة اإلشارة الى األفعال‬
‫وبقية التصاريف ومعلوم أن ذلك سينعكس بالتدريج على الداللة‬
‫حينما تحولت الكتابة الى صورتها المقطعية ومن ثم الى المسمارية‬
‫وبخاصة وهو يعتبر ( الك ّتاب ) نخبة المجتمع القديم بحيث أن‬
‫( آشور بانيبال ) ـ في إحدى سجالته االفتخارية يفتخر أنه يتقن‬
‫الكتابة اتقانًا تام ًا‪.2‬‬
‫لقد عثرنا على نصوص ( كونتينو ) هذه بعدما أكدنا في اللغة‬
‫الموّح دة موضوع العالقة بين تعدد المعاني للمفردة وتعدد المفردات‬
‫للمعنى الواحد واعتبرنا الظاهرتين من منشأ واحٍد وتشّك الن مشكلًة‬
‫واحدًة في األصل وأنهما من المقبول بل الواجب اعتبارهما مشكلة‬
‫واحدة حدثت بسبب أنظمة كتابية معقدة خالل حقب التاريخ أو لجهل‬
‫وضياع الداللة من خالل تفرق واجتماع األقوام وخالل الترجمة ‪.‬‬
‫‪1‬‬ ‫الحياة اليومية لبالد بابل وآشور ‪ /‬جورج كونتينو ـ ‪. 310‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫الحياة اليومية لبالد بابل وآشور ‪ /‬جورج كونتينو ـ ‪. 300‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪273‬‬
‫‪5‬‬
‫وها نحن اليوم نعثر على نص آخر قريب لكونتينو يؤكد الظاهرتين‬
‫حيث قال ‪:‬‬
‫( ونتيجة لذلك فان عالمة أو رمز مفرد يمكن أن يكون لها أو له‬
‫في هذه المرحلة عدة معاني ‪ .‬وعلى نقيض هذا نجد أن معنى واحد‬
‫يمكن أن يكون له عدد من العالمات ‪ .‬وهكذا أصبحت المجموعة‬
‫بأكملها من اختصاص الخبراء وتحولت الى مهارة علمية راقية‬
‫وشديدة التعقيد الى درجة أن الرجل العادي ال يمكن أن يدركها ) ‪.1‬‬
‫أقول إن هذا الحال هو حال اللغة اليوم ـ ولكن أليس من الغريب‬
‫أن يكون هذا هو حال اللغة اليوم ـ ال الكتابة ـ مع أن الكتابة‬
‫أصبحت ميسورة للجميع بفضل التحول الى رموز لألصوات نفسها (‬
‫الحروف ) بدًال من األلفاظ ؟‬
‫فبماذا تجيب االعتباطية على مشكلة االنفصال بين الجماعة‬
‫وإدراك اللغة وبقاء علم اللغة موضوعًا خاصًا ـ ومع ذلك يختلف‬
‫حوله وفيه المختصون اختالفًا شديد ًا ؟‬
‫ذلك ألن غياب الداللة القصدية لإلشارة قد استمر الى اليوم ولم‬
‫يتمكن الرمز الكتابي الجديد من إنقاذ الداللة ولكنه تمكن فقط من‬
‫تثبيت االعتباط في االستعمال إلى حدوده التي بلغها ـ أما الترادف‬
‫فهو اعتباط تفسيري ال لغوي فالناس يدركون جيد ًا الفرق بين‬
‫المترادفات والتي يّدعي االعتباط تساويها في الداللة ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫نفس المصدر ‪. 311 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪274‬‬
‫‪4‬‬
‫إشكاالت االعتباط حول إنكار الترادف ‪:‬‬
‫ومن االشياء التي آثارها االعتباط واعتبرها حجة على وقوع‬
‫الترادف نالحظ ما يلي ‪:‬‬
‫‪ .1‬إن حجة المنكرين للترادف القائمة على العقل والحكمة ( نرى‬
‫فيها نظرة منطقية محضة وحجة عقلية بحتة مبعثها القول‬
‫بالتوقيف ‪ .‬واألخذ بالمنطق العقلي والحكمة في النظر الى الظواهر‬
‫اللغوية فيه إجحاف وبعد عن طبيعة اللغة ‪ ...‬فاللغة في كثير من‬
‫جوانبها لها منطقها الخاص الذي يبدو في اكثر األحيان على جانب‬
‫كبير من الغرابة ) ‪.1‬‬
‫لقد بلغت الجرأة باالعتباط أن يجعل ( االعتباط ) أمر ًا منطقيًا وأن‬
‫المنطق والحكمة إجحاف بحق اللغة وبعد عن طبيعتها !‬
‫ولك أن تسأل إذا كان األمر كذلك فما هو الضابط لعلم اللغة‬
‫وكيف يمكن لالعتباط نفسه إثبات شيء ما دامت اللغة ال تمت‬
‫بطبيعتها الى أي منطق ؟‬
‫بل ما هو المبرر إذن لضبط حركٍة ال تنضبط ؟ وما هو المبرر‬
‫لتعّقل ما ال يعقل ؟ وما هو المبرر لتقعيد ما ال تضبطه قاعدة ؟ ‪.‬‬
‫إنه هنا ينقل عبارات دي سوسر القائلة أن ( اللغة نظام المنطقي‬
‫) وقد ذكرنا أكثر من مرة أن العبارة نفسها "المنطقية" ألنها تجمع‬
‫بين مفردتي ( نظام ) الذي يعني وجود منطق على نحو ما وبين‬

‫‪1‬‬ ‫الترادف ‪. 207 /‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪275‬‬
‫‪4‬‬
‫الوصف ( المنطقي ) في حيلة ماكرة مكشوفة لتبرير االشتغال بعلم‬
‫اللغة من حيث أن ( الالمنطق ) الذي يّدعونه في اللغة يوجب عدم‬
‫االشتغال بها !! ‪.‬‬
‫فهل تجعل عبارة ( منطق يتسم بالغرابة ) أو عبارات دي سوسر‬
‫مثل ( وهذا األمر المتناقض في اللغة ) ـ هل تجعل تلك العبارات‬
‫اللغة منطقية أم أنها وصف للغة ؟‬
‫إذا كانوا صادقين في وصف اللغة بهذا الوصف فعليهم التخ ّلي‬
‫فور ًا عن قول أي شيء في اللغة وترك أي بحث فالقصدية تلزمهم‬
‫بهذا االعتراف وتعلن للمأل أن كّل ما كتبه االعتباط عن علم اللغة‬
‫هو محض هراء بإقرار من االعتباط نفسه ـ لعلهم يريحوا‬
‫ويستريحوا ‪.‬‬

‫‪ .2‬قال أيضًا ‪:‬‬


‫( لو كان منطق اللغة كمنطق العقل لوجب اّال يكون للفظ الواحد‬
‫سوى معنى واحد) ‪.1‬‬
‫أقول ‪ :‬هذا هو موضوع البحث هل للفظ الواحد معنى واحد على‬
‫األصل أم كثرة ؟ فال يمكن استعمال ( فرض اعتباطي ) يقول بتعدد‬
‫الداللة برهانًا على ال منطقية اللغة ‪ .‬بل االعتباط هو الالمنطقي‬
‫وهو يسمي هذه العملية في جداله ( بالمصادرة على المطلوب ) أو‬

‫‪1‬‬ ‫الترادف ـ ‪. 207‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪276‬‬
‫‪4‬‬
‫( الدور ) ولكنه يستعملها دوم ًا خالف ًا ألسسه المنطقية ‪.‬‬

‫‪ .3‬وقال أيضًا ‪:‬‬


‫( وإذ ينكر هؤالء الترادف نجدهم يروون طائفة من األلفاظ‬
‫المختلفة ويذكرون أنها بمعنى واحد ‪ ...‬وهو يدل على عجزهم عن‬
‫بيان الفروق ‪ ...‬ثم قال ‪ :‬وفي مسلك هؤالء تسليم بالواقع اللغوي‬
‫وهو ما يعزز مذهب القائلين بالترادف الى حٍّد كبير ) ‪. 1‬‬
‫أقول ‪ :‬قد أوضحت سابق ًا مغالطات االعتباط وخلطه بين موضوع‬
‫البحث ـ وداللة المفردة وبين االستعمال الخارجي على شاهد وحيد‬
‫أو مبتدع أو مكذوب أو موضوع إلغراض البحث ‪.2‬‬
‫وأما عدم التفريق فقد أشار الكاتب وغيره الى أنهم اعترفوا بأن‬
‫الفروق قد تكون مجهولة وهذا مرتبط باالستعمال ‪ .‬إنما موضوع‬
‫علم اللغة هو بيان قيمة اللفظ الداللية ليكون رقيبًا على االستعمال‬
‫فلماذا أثنى االعتباط على علماء عرب اهتموا بما يجوز وما ال‬
‫يجوز إذا كان االستعمال هو المصدر الوحيد للداللة ؟ ومن هو الذي‬
‫يقدر على رد عبارة يقولها أي قائل ( ويتعمد ) فيها استعمال الداللة‬
‫بصورة عشوائية ؟ ‪.‬إذ كّل عبارة تقال ستكون من ( االستعمال )‬
‫ولذلك قلنا مرار ًا ال يحق للقائل بالترادف أن يزيد شيئًا على هذه‬
‫العبارة ويتوجب عليه بعدها الصمت مطلق ًا وال يسمح لنفسه في‬
‫‪1‬‬ ‫الترادف ـ ‪.209‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬ ‫راجع هذا الخلط في المبحث العاشر من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪277‬‬
‫‪5‬‬
‫إجراء أي بحث في اللغة ليبقى ( منطقيًا ) بالحد األدنى ‪.‬‬

‫‪ .4‬وقال أيضًا ‪( :‬وتنبه حمزة األصفهاني الى هذه الحقيقة ووجه‬


‫قول المنكرين للترادف توجيه ًا سديد ًا حين قال ‪ " :‬وينبغي حمل‬
‫من منع على منعه في لغة واحدة فأما في لغتين فال ينكره عاقل " )‬
‫‪ .‬ثم قال ‪:‬‬
‫( على أننا ال ننفي الترادف في لهجة واحدة البتة ) ‪.1‬‬
‫أقول يقصد بالترادف من لغتين ـ ترجمة المفردة الى ما يقابلها‬
‫وقد برهنا في اللغة الموحدة أن لكل تعاقب صوتي قيمته الخاصة به‬
‫ولذلك فال يقع الترادف في جميع اللغات في العالم بل هو محال في‬
‫ذاته أما أن يكون في ( اللهجة الواحدة ) حسب ما قال الكاتب فقد‬
‫أعجبه السير في االعتباط قدم ًا ففاق األولين وأراد أن يسبق‬
‫اآلخرين ‪.‬‬

‫‪1‬‬ ‫الترادف ـ ‪. 208‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪278‬‬
‫‪4‬‬
‫القسم الثاني‬
‫إبطال بالغة لجرجاني‬

‫مناقشة كتاب‬
‫( أسرار البالغة )‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪279‬‬
‫‪3‬‬
‫تنبيـــــــــه ‪..‬‬

‫يتغّير اسلوب المناقشة هنا عما مّر سابق ًا حيث يّتسم بالقسوة‬
‫واستعمال مفردات هجومية لسببين األول ‪ :‬أننا سنبرهن إن شاء‬
‫الله أن الرجل كانت له غايٌة من تأليف ( دالئل األعجاز ) هي عكس‬
‫ما في العنوان فهو يستحق في المناقشة من األساليب أقساها‬
‫لتنّك ره للمسلمات اللغوية والعرفية خدمة ألغراض االعتباطية وثانيًا‬
‫أنه بدأ بالهجوم على القصدية بعباراٍت قاسية واستعمل ألفاظ ًا نابيًة‬
‫واتهمها بأكثر مما تجده في هذه الصفحات من كالمنا وهو ما ذكرنا‬
‫بعضه هنا تنبيها للقارئ الى أننا ال نفعل اال ما ُامرنا ‪  :‬وان عاقبتم‬
‫فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ‪ / ..‬النحل ‪126 -‬‬
‫وال حول وال قول اال بالله ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪280‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ -1‬بالغة الجرجاني‬

‫مقدمــــــة‬

‫لسنا بحاجة الى التعريف بالجرجاني عبد القاهر الذي أضيف الى‬
‫اسمه لقب (اإلمام ) ‪ ،‬فقد اجمع المتأخرون والسابقون ممن جاء‬
‫بعده ‪ ،‬في شرق األمة وغربها على أنه إمام هذا الفن ‪ ،‬ورئيسه‬
‫والمبِّشر به وواضع أسسه ومو ّض ح مسالكه ‪ .‬فليس للبيان من علم‬
‫يذكُر قبل الجرجاني وليست البالغة شيئًا معلوم ًا قبل أن يوضح‬
‫الجرجاني مسالكها وطرقها وأنواعها فهو واضع أسس هذا العلم‬
‫بال منازع ‪.‬‬
‫وتعّد ُك تبه في هذا الشأن دستور البالغة األول الذي أخذ منه كّل‬
‫من جاء بعده ‪ ،‬وأصبحت محط أنظار الدارسين لعلوم اللغة والقرآن‬
‫والتفسير والفقه واألدب والنقد األدبي وشّر اح دواوين الشعر‬
‫وغيرهم ممن يتعاطى العلوم الدينية واإلنسانية وال تجد أحد ًا في‬
‫هذه الميادين ال يعرف من هو عبد القاهر الجرجاني صاحب ( أعظم‬
‫) كتابين في البالغة ( أسرار البالغة ) و ( دالئل األعجاز ) ‪ ،‬وال‬
‫فرق في كونهم قدامى أو محدثين ‪ ،‬فقهاء أو مفسرين ‪ ،‬شعراء أو‬
‫نقاد ‪ ،‬كتّـاب أو مثقفين ومن جميع المذاهب والمشارب ‪ .‬فاألزهر‬
‫والقيروان ومكة والمدينة تّدرس الجرجاني كما تّدرسه النجف‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪281‬‬
‫‪3‬‬
‫وكربالء وبغداد وقم ودلهي واستانبول ‪.‬‬
‫ذلك أن الجرجاني خرج من دائرة الصراع المذهبي الضّيق من‬
‫الباب الخلفي الى دائرة الصراع األممي محاوًال تأسيس البالغة‬
‫وعلم البيان وإظهار كنوز القرآن وأسراره وجمال األدب عموم ًا‬
‫وفق مقاييس ومعايير لغوية وتركيبية لم يسبقه أحد في كشفها‬
‫فأظهر محاسن اللغة وفّر ق بين ما هو حسن وقبيح في استعمالها‬
‫ووضع فكرة النظم القرآني وفسر سحر القرآن وجماله بكشفه عن‬
‫استعاراته وكناياته ورموزه وإشاراته وأمثاله وتشبيهاته فاح ّبه‬
‫الجميع لهذا وأخذ عنه هذا الجميع ‪ .‬وإن كان تالمذته ومن جاء‬
‫بعدهم قد انحرفوا قليًال عن بعض تلك القواعد اّال أنهم يعّدون عاّلـة‬
‫عليه فما تعّلم أحد هذا الفن اال على يديه ‪.‬‬
‫ولّم ا كان المنهج اللفظي قد أنكر المجاز واالستعارة في كتاب‬
‫الله كاشف ًا عن النظام القرآني ‪ ،‬وخالف بذلك ما أجمعت عليه األمة‬
‫اللغوية كافة ‪ .‬وجاء بأمر جديد على بعض القلوب شديد ‪ ،‬فقد‬
‫ارتأى بعض األخوان اقتالع الفساد من جذره أو اجتثاثه من أصله ‪،‬‬
‫إلنهاك فرعه وبتر نسله وأبادة خيله ورجله وكشف حبائله ومكره‬
‫وذلك بإخضاع هذين الكتابين لقواعد هذا المنهج ومحاكمتهما وفق‬
‫النظام القرآني والمذهب القصدي للغة الذي خالف االعتباطية من‬
‫خالل تحديده قيمة مسبقة لألصوات واأللفاظ ‪.1‬‬

‫‪1‬‬ ‫ظهر ذلك في كتابْي ( النظام القرآني ـ مقدمة في المنهج اللفظي ) و ( اللغة الموحدة ) للمؤلف ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪282‬‬
‫‪4‬‬
‫فالجرجاني هو حق ًا واضع هذا الفن ومؤسسه ويراه المنهج أول‬
‫من أدخل كالم الخالق مع كالم المخلوقين في نفس العبارة وأشار‬
‫إليهما بنفس اإلشارة ووصمهما بنفس الكناية أو االستعارة وأجرى‬
‫عليهما مع ًا تقسيمه وشملهما بنفس القواعد لمحاسن الكالم وسقيمه‬
‫حتى صار يخرج من اآلية الى الشعر ومن قول الجاحظ الى اآلية بال‬
‫حرج مذكور ‪ ،‬فانخدع بمكيدته علماء األمة طوال العصور ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪283‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .2‬التأثيرات النفسية للجرجاني على القّر اء‬

‫ال تحسب أخي القارئ أن الباحث في هذا المنهج محبًا للسجع من‬
‫هذه المقدمة ! لكن جرى القلم بذلك ربما ألنه عاش لحظات وهو‬
‫يتصفح بالغة الجرجاني وأسلوبُه في الكالم فأراد أن ينقلك الى تلك‬
‫األجواء ‪ .‬فتلك األجواء كانت مشحونة بالكالم المنمق واأللفاظ‬
‫والتراكيب الشديدة الجرس الفارغة المعنى والمباراة بين أولئك‬
‫المتحذلقين في فن النثر والكتابة ومنادمة الخلفاء أو الخطابة‬
‫جارية في الحلبة على قدم وساق ‪.‬‬
‫لكن الجرجاني تخلص من هذه التهمة بلباقة حينما قّدم لك ابتداء ًا‬
‫طبق ًا من األلفاظ واالستعماالت الجوفاء في مقارنات جميلة لفتح‬
‫شهيتك لقبول بالغته خشية أن يغص النهم بتعبير قرآني ‪ ( :‬ال يأتي‬
‫الجن واألنس ولو تظاهروا بمثله ) د ّس ه لك وسط صحن مليء بما‬
‫لّذ وطاب من أصناف الشعر الجاهلي واإلسالمي واألموي والعباسي‬
‫وقد زّينت حاشيته بألوان مختلفة من األقوال المأثورة للسلف‬
‫الصالح والطالح تتخلّله أقوال مأثورة لعهد ما قبل الصحابة ومطّع م‬
‫بأحاديث نبوية ‪.‬‬
‫وكان في الحسبان أن المرء إذا ازدرد مقطع ًا من اآلية القرآنية‬
‫مع ما يزدرد وهو بعد لم يزل جائع ًا وشرب عليه حديثًا نبويًا فمن‬
‫المؤمل أن يزدرد في الوجبات الالحقة أطباقًا من التراكيب القرآنية‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪284‬‬
‫‪3‬‬
‫ولو كانت خالصة ‪ ،‬باعتبار أن الفم الذي يتذوق المجاز واالستعارة‬
‫فانه لن يفّر ق بعد لالعتياد عليهما بين ما يقوله الملك الضليل وما‬
‫يقوله الملك الجليل ‪ ،‬إذا كان حكمهما في مطعم خان البالغة واحد ًا‬
‫‪ ،‬ووضعا في قائمة أسعار األكالت البديعة سوية ‪.‬‬
‫وال شأن للمنهج اللفظي بصاحب المطعم ونواياه ( إنما حسابه‬
‫عند ربه ) وال يقدر أن يزّك يه مثلما ال يقدر أن يبّر يه وما كان ليدخل‬
‫المطعم ليأكل فهو ال يشعر بجوع لتلك األكالت ‪ ،‬وإنما أراد إجراء‬
‫( الفحص الطبي ) وإظهار البيان الصّح ي لهذه األطعمة مستّغ ًال شدة‬
‫الزحام ‪ ،‬واضطرار الناس الى المضغ وهم قيام وهو ال يدري بعد‬
‫ماذا يصنع بالالفتة وكيف يعلقها وأين ‪ ،‬وهل يرفع الجياع رؤوسهم‬
‫ليقرأوها أم ال ‪ ! ...‬؟ الالفتة التي تقول ‪ ( :‬إحذروا … الطعام‬
‫مسموم ! ) ‪.‬‬
‫قال الرسول (ص) ‪:‬‬
‫(‪ ..‬رَّب حامل فقه وما هو بفقيه ورَّب حامل فقه الى من هو‬
‫أفقــــه منه ) ‪.‬‬
‫وتمر عشر صفحات وليس فيه شاهد من كالم الوحي اّال حديثًا‬
‫واحد ًا للنبي (ص)‪ .‬ثم تمر أربعون صفحة قبل أن يأتيك بشاهد‬
‫قرآني يرمي به شاهد ًا آخر من غير أن يو ّض ح األول أو يذكر نص‬
‫الثاني ! ‪.‬‬
‫وعلى النحو آالتي ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪285‬‬
‫‪3‬‬
‫( ثم انظروا في مخرج قوله تعالى ( ولتصنع على عيني ‪ .‬واصنع‬
‫الفلك بأعيننا ) فلم يجدوا للفظة العين ما يتناوله على حد تناول‬
‫النور مثال للهدى والبيان ‪ ،‬ارتبكوا في الشك وحاموا حول الظاهر‬
‫وحملوا أنفسهم على لزومه حتى يفضي بهم الى الضالل البعيد‬
‫وارتكاب ما يقدح في التوحيد ‪! ) . .‬‬
‫وهكذا مّه د لألمر ببطء شديد لم يظهر ( بالغة ) النص األول‬
‫للتشويق والمح الى نص لم يذكره آمًال في أن يأتيك به بعد حين ‪،‬‬
‫كمن يمّر ر من أنفك رائحة الشواء ليّر غب فمك ومعدتك في اللحم ‪..‬‬
‫مع شيء من التهديد والترهيب من الضالل أو القدح في التوحيد ! ‪.‬‬
‫وكل ذلك في حشد من شواهد عاّم ة من األشعار واألقوال ـ فراجع‬
‫كتابه وليكن بين يديك وأنت تطالع ما نذكره لك من نماذج لتجري‬
‫على ما بقى منها الحكم الذي تدلّـك عليه هذه األوراق ‪.‬‬
‫وتمر خمسة وأربعون صفحة ‪ ..‬فيعطيك لفظ ( شّق ) ‪ ،‬تمهيد ًا‬
‫لقبول ( مّز ق ) ‪ ..‬تمهيدا لوضع ( ومزقناهم كّل ممّز ق ) في طبق‬
‫فيه قول الشاعر ‪ ( :‬صفاة الهدى من أن تّر ق فتحرقا ) وقول القائل‬
‫( خرق الحشمة ) وقول القائل ( تشقق الثوب ) بعد مقدمة عن‬
‫استعارة الصفاة رغم صالبتها لما يرق ويخرق كالثوب ‪ ..‬وانت اآلن‬
‫( مّز قناهم )‬ ‫قد تهيأت نفسيًا وروحيًا لقبول فكرة ‪ :‬أن‬
‫استعارة من تمزيق ( الثوب ) مع حذر شديد هو قوله ( أنه راجع‬
‫الى الحقيقة من حيث أنه تفريق على كّل حال ) ‪..‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪286‬‬
‫‪3‬‬
‫فاسأله إذن ‪ :‬إذا كان راجع ًا الى الحقيقة في كّل حال ألن التمزيق‬
‫تفريق ( اّال أنهم خ ّص وا ما كان مثل الثوب بالتمزيق ) على حد‬
‫عبارته فلماذا إذن االستعارة ومن هم الذي ( خ ّص وا ) هذا بهذا‬
‫وأنت البادئ بالتأسيس ؟‬
‫وبهذا الحذر الشديد ‪ ..‬أرادك أن تعبر أو يعبر إليك ‪:‬‬
‫( وقّطعناهم في األرض ّأمما ) ما دام التمـــــزيق في الحقيقة‬
‫تفريق والتفريق في الحقيقة ( تقطيع ) ‪. ! ..‬‬
‫وتلك لعمري أول وجبة دسمة جد ًا ومنقوعة بالسموم يقّدمها‬
‫الجرجاني للزبائن ‪ ،‬أكلوها ‪ ،‬بل شربوها من غير أن يشعروا ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪287‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .3‬اعتباطية الجرجاني في شرح التمزيق والتفريق‬

‫قال الجرجاني ‪ ( :‬ومّز قناهم كّل ممزق ) ‪ُ :‬يعّد استعارة من حيث‬


‫أن التمزيق للثوب في أصل اللغة ! وتمزيق الثوب تفريق بعضه عن‬
‫بعض ‪ .‬وقال ‪ ( :‬وقطعناهم في األرض أمم ًا ) ‪ِ :‬ش به استعارة ولو‬
‫كان المعنى في الموضعين على إزالة االجتماع ونفيه ‪.‬‬
‫فهذا ( التمزيق ) في أصل اللغة للثوب فلمن التقطيع في أصل‬
‫اللغة ؟ لم يخبرنا الجرجاني ولماذا صار التقطيع هو اآلخر استعارة‬
‫؟‬
‫هو قال ‪ ( :‬أن التمزيق والتقطيع تفريق ) ‪ ،‬فلماذا يكون التمزيق‬
‫استعارة إذا قصد به تمزيق قوم ومعناه تفريق ؟ ومن هو الذي ّح دد‬
‫أن التمزيق في األصل للثوب ؟ ماذا يقترح أن نضع بدل ( مّز قناهم‬
‫) و ( قّطعناهم ) على األصل ليفيد المعنى المذكور في كليهما على‬
‫الحقيقة تخلصًا من المجاز ؟ أيضع ( فّر قناهم ) بدًال عنهما جميع ًا ؟‬
‫في هذا الحال تصح األلفاظ الثالثة سواء إذا آمن بصحة المعنى أو‬
‫إذا آمن أن المعنى صحيح على االستعارة فقط ‪ .‬فما اللفظ المالئم إذا‬
‫لم يرغب المرء بتركيب هذا المعنى على االستعارة وأراده على‬
‫الحقيقة ؟ حسنًا ‪ .‬لنحاول فهم ما يقوله الجرجاني وال نعجل في‬
‫الحكم ‪ :‬أيقول أن التحقيق ( وفرّقناهم كّل مفّر ق ) هو االستعمال‬
‫الحقيقي ؟ لكن الله ال يريد أن يقول فرقناهم ‪ ،‬فرب مفّر قين‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪288‬‬
‫‪3‬‬
‫الحقيقي ( قّطعناهم كّل مقّطع‬ ‫متنعمين وغير معّذ بين ! أم‬
‫) ؟ غير معقول أن يّدعي الجرجاني أن التقطيع عين التفريق‬
‫والتمزيق أو أصَّح منهما وأقرب للحقيقي ! ‪ .‬لكنه قال ‪ ( :‬وأنت‬
‫تعلم أن تمزيق الثوب تفريق بعضه عن بعض ) ! أهو قال ذلك ؟ أي‬
‫والله في نفس السطور ‪ .‬وماذا يعني بقوله بعضه عن بعض ؟‬
‫البعض هذا هو األجزاء المف ّص لة أصًال مثل الكم والصدر أم القماش‬
‫نفسه لحمة وسدى ؟ ‪ .‬فإذا كان يريد به األول فهو فصل لألجزاء‬
‫واسمه ( تفتيق ) ! ال تفريق وال تمزيق ‪ .‬وإذا كان بريد به الثاني‬
‫فهو إتالف القماش نفسه واسمه ( تخريق ) ! ‪.‬‬
‫ومنه ما في المالحم ‪ ( :‬وتخريق الرايات في السكك ) ‪.1‬‬
‫إذن التمزيق ال عالقة له بالثوب ؟ أي وربك !‬
‫فلم يقل أن الناس جعلوه للثوب خط ًأ ‪.‬‬
‫ولم يقل أن الناس جعلوه للثوب وهو صحيح ! على المجاز ‪.‬‬
‫ولم يقل أن الناس جعلوه للثوب ولكن الله جعله لتمزيق الناس‬
‫وما فعله الله أولى باالتباع واصح !‬
‫ولم يسكت إذ لم يقل خير ًا ‪ .‬بل قال ما هو اعظم ‪ :‬األصل فيه‬
‫للثوب ‪ ،‬والله جعله للناس استعارة ألن المفردات هربت منه ‪،‬‬
‫وجاء الجرجاني ليذّك ره باألصل !‬
‫كّل ذلك وال شاهد لديه من كالم العرب أو أشعارهم !‬

‫‪1‬‬ ‫من النبوي ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪289‬‬
‫‪4‬‬
‫أول شيء د ّس ه في بالغته ( ومزّقناهم كّل ممزق ) ‪ .‬فمَّر ولم‬
‫يتطير منه فما أبلده!‍ ‬
‫وأول شيء مّه د به من الحديث النبوي ( الظلم ظلمات يوم‬
‫القيامة ) فمّر ولم يتطّير منه فما أبلده ! ‪.‬‬

‫تنبيـــه ‪ :‬سنبرهن لك أن الجرجاني في كتاب ( دالئل اإلعجاز )‬


‫كانت غايته إثبات إعجاز عموم الكالم ال إعجاز القرآن خصوصًا‬
‫بأدلّـة وافية بأذن الله تعالى –إعجاز الكالم ال إعجاز القرآن ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪290‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .4‬قدرات الجرجاني في فهم التشبيه‬

‫قال الجرجاني ‪ ( :‬الضرب الثالث ) وهو الصميم الخالص من‬


‫االستعارة ‪ .‬وحَّده أن يكون الشبه مأخوذ ًا من الصور العقلية وذلك‬
‫كاستعارة ( النور ) للبيان والحّج ة كما في قوله تعالى ‪ ( :‬واّتبعوا‬
‫النور الذي أنزل معه ) ‪ ،‬ثم قال ‪ :‬فأنت ال تشّك في أنه ليس بين‬
‫النور والحجة ما بين طيران الطائر وجري الفرس من االشتراك في‬
‫عموم الجنس ‪ ،‬الن النور صفة من صفات األجسام المحسوسة‬
‫والحجة كالم وكذا ليس بينهما ما بين الرجل واألسد من االشتراك‬
‫في طبيعة معلومة كالشجاعة ‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ ( :‬فليس الشبه الحاصل من النور في البيان والحجة‬
‫ونحوها اّال أن القلب إذا وردت عليه الحجة صار في حال شبيهة‬
‫بحال البصر إذا صادف النور ووجهت طالئعه نحوه ‪. ) ..‬‬
‫وإذ لم يجد الجرجاني الى اليوم من ال يشك ‪ ،‬فأّنا اليوَم نشّك ‪:‬‬
‫نشّك أوًال في مفردة ( الحجة ) الغريبة عن النص ‪ ،‬فالنص لم‬
‫يتضمن هذه المفردة وإنما ذكر اتباع نفس ( النور الذي أنزل معه‬
‫)‪.‬‬
‫ونشك ثانيًا في قوله ‪ :‬ليس بين النور والحجة ما بين الطائر‬
‫والفرس في الحركة والجري ‪.‬‬
‫ونشّك ثالثًا في قوله ‪ :‬النور صفة من صفات األجسام المحسوسة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪291‬‬
‫‪3‬‬
‫!‪.‬‬
‫ونشّك رابع ًا في قوله ‪ :‬والحجة كالم ! ‪.‬‬
‫ونشّك خامسًا في قوله ‪ :‬أن القلب إذا وردت عليه الحجة صار‬
‫شبه البصر إذا صادف النور ‪! ..‬‬
‫وهو يّدعي ما شاء ويزعم كيف شاء ونحن نشّك في كّل ما‬
‫يتناوله ‪.‬‬
‫فليس النور في اآلية استعارة للحجة وما أدراه أن ال يكون‬
‫استعارة للهدى أو األيمان أو الحق أو غيرهم فلماذا زعم أنه‬
‫استعارة للحجة ؟ ‪.‬‬
‫وما أدراه أن الحجة كالم ‪ ..‬أم يزعم أن ( انفالق القمر ) وهو‬
‫آية ومعجزة من معاجز النبي ( ص ) ليست بحجة ألنها ليست كالمًا‬
‫؟‬
‫وما أدراه أن النور ال ينصرف الى معاجز أخرى له ( ص ) غير‬
‫القرآن ؟ فلماذا قّص ر الحجة على الكالم ؟ ‪ .‬وما أدراه أن النور‬
‫صفة من صفات األجسام ؟ فنحن نقول له أن ما تقصده هو‬
‫( الضوء ) وليس النور ‪ ،‬وما يح ّس ه البصر هو الضوء وليس النور‬
‫‪ ..‬وللنور معنًى آخر مختلف عن المحسوسات المادية ‪.‬‬
‫وما الذي دفعه لهذا البحر اللجي ليخوض غماره وهو ال يدرك‬
‫الفرق بين الضوء والنور وال يدري أن النار ( تضيء ) وال تنير‬
‫وان النهار ( مضيء ) وال يقال أن النهار منير ؟ ‪ .‬وما أبعده عن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪292‬‬
‫‪3‬‬
‫البالغة وهو ال يذكر قوله تعالى ‪  :‬فلما أضاءت ما حوله ‪ ‬وقوله‪:‬‬
‫‪ ‬وداعيًا الى الحق بأذنه وسراج ًا منيرا ‪ .. ‬فالتحقيق في استعمال‬
‫العرب وفي القرآن يثبت أن المحسوس هو الضوء وان النور هو‬
‫شيء آخر ‪.‬‬

‫تنبيــــــــه ‪:‬‬
‫ألم يالحظ هذا الرجل أنه تعالى قال ‪  :‬النور الذي أنزل معه ‪‬‬
‫ليسأل إن كان أنزل إليه أو أنزل عليه أو أنزل معه كلها سواء أم‬
‫بينها فرق يذكر ؟ ‪ .‬فإن النص القرآني قد ذكر ( الكتاب ) و‬
‫( القرآن ) و ( كالم الله ) و ( الذي أوحينا ) عدد ًا كبير ًا جد ًا من‬
‫المرات ورد فيها جميع ًا أنه أنزل ( إليه ) أو ( عليه ) اّال هذا‬
‫المورد الذي ورد فيه النور فقال ( أنزل معه ) وهذا كاف إلثبات أنه‬
‫هو نفسه ( ص ) قد أنزل وأن ( نور ًا ) أنزل معه يجب ( اتباعه ) ال‬
‫( تالوته ) أو (ستماعه)‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪293‬‬
‫‪3‬‬
‫فزعم أنها استعارة للحجة وزعم أن الحجة كالم وزعم أن النور‬
‫هو القرآن ولم يفسر لنا لماذا ‪ .‬قال في هذا المورد وحده ( أنزل‬
‫معه ) ال إليه وال عليه كما في باقي الموارد ‪ .‬فيا لبالغة الجرجاني‬
‫محّر ف الكلم عن مواضعه باستعارته ‪ ،‬جاعل النور الذي أنزل معه‬
‫الواجب اّتباعه القرآن الذي أنزل عليه الواجب استماعه ‪..‬‬
‫‪ ‬وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ‪. ‬‬
‫فلم يّتبع الجرجاني النور ولم يستمع القرآن ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪294‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .5‬استعارات أخرى للجرجاني‬

‫وزعم بعد خمسة أسطر قائًال ‪ ( :‬هذا والنور يستعار للعلم‬


‫ولإليمان أيضًا )‬
‫فاسأله ‪ :‬لماذا جعلته في اآلية استعارة للحجة وليس ألحد هذين‬
‫الجديدين ؟‬
‫ألن له غاية جديدة ‪ ..‬فأضاف ( اإليمان ) ‪ .‬وهذا هو حال‬
‫االعتباط ‪ ،‬أنه طاغوت فكري أشرس من الطاغوت السياسي ألنه‬
‫أساس األخير ومنبعه ودعامته ‪.‬‬
‫وبعد أسطر قال الجرجاني ‪:‬‬
‫( ومن ذلك استعارة القسطاس للعدل ونحو ذلك من المعاني‬
‫المعقولة ومنه استعارة الجاحظ في علم الكالم إذ قال ‪ " :‬وهو‬
‫المعيار على كّل صناعة والزمام على كّل عبارة والقسطاس الذي به‬
‫يستبان نقصان كّل شيء ورجحانه " ) ‪.‬‬
‫وهكذا دخل كالم الله وكالم الجاحظ سوية في مكاٍن واحٍد ضيٍق‬
‫جد ًا وفي فرع واحد من ضرب واحد من ضروب بالغة الجرجاني ‪.‬‬
‫فتبًا لهذا الجرجاني الذي جعل كالم الخالق وكالم المخلوقين على‬
‫حٍّد من البالغة سواء ‪.‬‬
‫وانظر اآلن الى مدى فهمه ووعيه للنص النبوي ‪:‬‬
‫قال الجرجاني ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪295‬‬
‫‪3‬‬
‫( ومثال األصل الثاني وهو أخذ الشبه من المحسوس للمحسوس‬
‫ثم الشبه عقلي قول النبي ( ص ) ‪ ( :‬إياكم وخضراء الِد ّم ن ) ‪.‬‬
‫عّده الجرجاني مثًال للمرأة الحسناء في منبت السوء ألنهم قالوا‬
‫‪ :‬وما ذاك يا رسول الله فقال ( ص ) ‪ ( :‬المرأة الحسناء في منبت‬
‫السوء ) ‪ .‬لقد فات الجرجاني أن ليس في االمر تشبيه فالنص يحذر‬
‫من كّل خضراء في الدمن ‪ .‬والمعاني هنا عامة جد ًا لمفردة‬
‫"خضراء" ولمفردة "دمن" وليست خاصة بالشجرة لتكون تشبيه ًا‬
‫لشيء لم يذكره ( ص ) ‪ ..‬وكذلك اكتفى ولم يزد فلما سألوه ولم‬
‫يفهموا المراد ـ أو فهموا وأرادوا التحديد لإلحراج والتضّيق ضرب‬
‫لهم مثًال فقال ( المرأة الحسناء في منبت السوء ) فهذا مثٌل‬
‫لخضراء الدمن وليست خضراء الدمن مثًال للمرأة الحسناء في‬
‫منبت السوء كما فهمه ! ألنه قلب األمر فجعل الممثل به مثًال‬
‫والمثل ممثًال به رغم وضوحه ‪.‬‬
‫وعلى ذلك فكل بدعة أو ضاللة قالها األكابر وأصلها منتن فهي‬
‫من مصاديق خضراء الدمن ‪.‬‬
‫قال تعالى على لسان هؤالء االتباع الذين لم يطيعوا أمر النبي‬
‫(ص)‪:‬‬
‫‪ ‬وقالوا ربنا إننا أطعنا ساداتنا وُك برائنا فأضّلونا السبيال ‪ .‬ربَّنا‬
‫وآتهم ضعف ًا من العذاب والعنهم لعنًا كبيرا ‪. ‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪296‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .6‬مدارك الجرجاني في آية‬
‫ـ ( مثل الذين حِّم لوا التوراة ) ـ‬

‫زعم الجرجاني أنه جاء ببحٍث دقيٍق في خفايا التشبيه القرآني‬


‫في قوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬مثل الذين ُح ّم لوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل‬
‫أسفارا ‪‬‬
‫فاّدعى أن التشبيه في اآلية ال ينصرف الى ( الحمل ) بل القصد‬
‫ما يوجبه تعّدي الحمل الى األسفار مع اقتران الجهل بها ‪.‬‬
‫وقضى الكثير من الزمن إلثبات شيء ال وجود له في اآلية بأكثر‬
‫من ثالث صفحات ‪.‬‬
‫ثم قال ‪ ( :‬فإن قلت ففي اليهود شبه من الحمل من حيث هو حمل‬
‫على أية حال وذلك أن الحامل للشيء بقلبه يشبه الحامل للشيء‬
‫على ظهره ومنه ( يقال حملة الحديث وحملة العلم ؟ ‪ .‬فالجواب ‪:‬‬
‫أن االمر وان كان كذلك فان هذا الشبه لم يقصد هنا وإنما قصد ما‬
‫يوحيه تعّدي الحمل الى األسفار مع اقتران الجهل به ‪ .‬ومثله قولك‬
‫لرجل يحمل في كمه دفاتر علم وهو بليــد وال يفهم ‪ :‬إن كان يحمل‬
‫كتب العلم فالحمار أيضا قد يحمل ‪ ،‬تريد أن تبطل دعواه أن له في‬
‫حمله فائدة ) أ ‪ .‬هـ ‪ /‬نقلناه بتصرف يسير ‪.‬‬
‫ظَّن الجرجاني أن التشبيه لليهود وإنما هو للذين ( ُح ِّم لوا التوراة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪297‬‬
‫‪3‬‬
‫) ‪ .‬وزعم أن التشبيه هنا معقود بين اليهود والحمار ! ‪ .‬وإنما هو‬
‫تشبيه مؤلف من أربعة أجزاء ‪ ،‬جزءان ظاهران وجزءان خفيان‬
‫كما سيأتيك ‪.‬‬
‫وزعم أن األسفار هي دفاتر العلم من غير علم وال هد ًى وال كتاب‬
‫منير ‪.‬‬
‫وهكذا أخذها أهل التفسير وثبتت هذه المعاني عند جميع‬
‫المفسرين على مدى قرون ! ‪.‬‬
‫وسنوضح اآلن هذه المزاعم األربعة فيما يأتي ‪:‬‬

‫أ ‪ .‬اليهود والذين ( حّم لوا التوراة )‬


‫الذين حّم لوا التوراة هم من اليهود ولكن ليس كّل اليهود قد‬
‫حملوا التوراة ! ‪ .‬فقوله ( تشبيه لليهود ) وهو يتحدث عن بالغة‬
‫القرآن خاطئ الن البالغة ال تظهر بالتعسف وإنما تظهر بالنظر‬
‫الدقيق في ألفاظ اآلية والتفريق الشديد بين (المجموعات ) وهو‬
‫أمر أوضحناه مرار ًا في كتب أخرى ‪.‬‬
‫فهو يناقض نفسه بهذا القول ‪ :‬ألنه زعم أن األسفار هي كتب‬
‫العلم ومعروف للجميع أن حملة العلم خواص اليهود ال اليهود كلهم‬
‫‪.‬‬
‫ولو كان التشبيه لليهود لقاله الله تعالى على هذا اللفظ عينه وما‬
‫كان يستدعي أن يأتي بهذا التركيب ‪ُ ( :‬ح م ّلوا التوراة ) ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪298‬‬
‫‪3‬‬
‫وقد أخطأ إذ قرن الحمل بالقلب وأقر به بينما العلم ال يستقر في‬
‫القلب إذا كان قاسيًا ‪ ..‬وهذا ظاهر في قوله تعالى عن تلك‬
‫المجموعة ‪  :‬ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة ‪. ‬‬
‫فلم ينتبه هذا الرجل الى أن الفعل بني للمجهول ( ُح ِّم لوا ) ولم‬
‫يبن على المعلوم إذ لم يقل ( حملوا ) ‪ .‬الن القلب القاسي ال يحمل‬
‫العلم وإنما ( ُيّح مل مرغم ًا ) ‪ .‬وإذن فهم أكابر المحّر فين وساداتهم‬
‫وليس المقصود حملة العلم منهم ألنهم ممدوحين في القرآن ‪ :‬‬
‫والذين أوتوا العلم من قبله يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ‪. ‬‬
‫وقد أوضحناه في كتاب النظام القرآني مدعم ًا بآيات عديدة ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪299‬‬
‫‪3‬‬
‫ب ‪ .‬حقيقة الشبه‬
‫زعم أن التشبيه بين اليهود والحمار !‬
‫وال يدري أن الله تعالى أجّل وأعظم من أن يعقد مقارنة مباشرة‬
‫بين اإلنسان والحــيوان ‪.‬‬
‫فللذين ( ُح ّم لوا التوراة ) َم َثٌل ال نعلم ما كان وللحمار يحمل‬
‫أسفارا مثٌل ال نعلم ما كان والشبه بين المثل األول والمثل الثاني‬
‫وليس بين اليهود والحمار !‬
‫وتلك لعمري هي البالغة ال ما زعمه الجرجاني ‪.‬‬
‫فلو قال ( الذين حملوا التوراة كالحمار يحمل أسفارا ) ألختل‬
‫التشبيه وتهاوى برمته ألنه ال شبه بينهما مطلق ًا فانتبه ‪ ،‬فان ذلك‬
‫من آيات الله ‪ ،‬حيث فصلت كاف التشبيه بين المثل والمثل ال بينهما‬
‫‪.‬‬

‫َمثل‬ ‫كـ‬ ‫َمثل‬

‫الحمار يحمل‬ ‫الذين ُحّم لوا‬


‫اسفارا‬ ‫التوراة‬
‫ا‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪300‬‬
‫‪3‬‬
‫ج ‪ .‬معنى الَح ْم ل‬
‫وزعم أن الَح مْل غير مقصود وإنما تعّدي الحمل الى األسفار هو‬
‫األساس في التشبيه !‬
‫وهو ال يرى أنه قال ( ًح ّم لوا ـ َيحمُل ) ـ للتأكيد على أن األساس‬
‫في التشبيه هو ( اإلجبار ) على الحمل ‪ ..‬وإنما فّر ق بينهما بالبناء‬
‫للمجهول في األول ألنه ( إنسان وله عقل وهو مسؤول عن ذلك )‬
‫وبنى الثاني للمعلوم ألنه ( بهيمة ) ـ فهو يحمل تلقائيا ـ فهنا مركز‬
‫البالغة ومركز التشبيه وليس التعدي الى األسفار ‪ .‬ألنه لو قال‬
‫يحمل أثقاًال ـ لبقى أساس التشبيه واختل جزء منه وحسب وال‬
‫يتهاوى كما لو قال ( كمثل الحمار ال يعقل ) ! فانتبه فان الحمل في‬
‫كليهما هو ميزان التشبيه ـ وتعّم د هذه اآلية بالذات لعظمتها عند‬
‫الله في تفنيد االعتباطية ـ كما أشارت إليه نصوص نبو ّية جهل‬
‫الناس مغزاها !‬

‫د ‪ .‬وزعم أن األسفار هي دفاتر العلم وإنما هي ( األسفار ) كما‬


‫هي في اللغة الى هذا اليوم ‪ .‬والخالق تعالى أجّل من أن يضرب مثًال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪301‬‬
‫‪3‬‬
‫بالحمار وهو يحمل دفاتر العلم لينّو ه للسامع أن الحمار ال يعلم ما‬
‫فيها ! أنما أراد أن الحمار يتحمل مشاق األسفار لغاية راكبه‬
‫وسائقه ال لغايته هو فهو مسلوب اإلرادة منزوع اإلختيار وأسفاره‬
‫ليست بإرادته وال لغاية في نفسه ‪ ،‬فهو بهيمة ساٍه عن نفسه دوم ًا‬
‫‪ ،‬فكذلك مثل الذين ( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) فإن حركتهم‬
‫وفعلهم كله بإرادة الطغاة والقادة فحّم لوهم علم التوراة وأمروهم أن‬
‫يحّر فوها ويبّدلوا ففعلوا ‪ ،‬وما فعلوه عن جهل وجهالة بما في كتب‬
‫العلم وإنما فعلوه عن علم ودراية والذي فقدوه كمثل الحمار إنما‬
‫هو اختيارهم وإرادتهم وذلك لكي يطابق هذا المعنى ما ذكر في‬
‫مواضع أخرى في القرآن عن قدراتهم في التحريف وعن زيغهم بعد‬
‫البيان وعن اختالفهم بعد مجيء العلم ولو أخذنا بأقواله وبالغته‬
‫لتناقض القرآن مع بعضه ولما أمكن قط الجمع بين اآليات وال فهم‬
‫معاني المفردات ولحدث تخريب في اللغة ال مثيل له في تاريخ األمم‬
‫‪ .‬ولقد وقع ‪! ..‬‬
‫لقد حسب أن ( األسفار ) هي ( أسفار ) التوراة فظن أنها كتب‬
‫العلم وأن القرآن يشّبه القوم بالحمار وهو يحمل كتب العلم ! تطبيق ًا‬
‫لترادف ( أسفار مع كتب ) في قائمة كنانة ‪.1‬‬
‫فأي شبه بينهما ‍؟! ‪ .‬والمعلوم أن الحمار ال يدرك ما يحمل سواء‬
‫كانت كتب علم أم سجّالت بيضاء غير مكتوبة أم غير ذلك ؟ ‪ .‬لقد‬

‫‪1‬‬ ‫انظر ص‪.144‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫‪4‬‬ ‫‪302‬‬
‫‪5‬‬
‫استعمل القرآن لفظ األسفار ولفظ الكتب في تغاير واضح ال ينكره‬
‫اّال جاهل ‪.‬‬
‫ونسي أن مفردة ( أسفار ) التي يستعملها القرآن إنما يستعملها‬
‫على أصلها اللغوي ال على سبيل المجاز كما سميت به أسفار‬
‫التوراة ‪ .‬علم ًا أن هذا المجاز باطل عندنا إذ القصد أنها كتب‬
‫لألسفار ‪ ،‬ال أسفار ًا بمعنى الكتب فانتبــه ‪.‬‬
‫وهنا ندرك أن أساس التشبيه هو ( الحمل ) وليس التعدي الى‬
‫األسفار وإنما جاء باألسفار لبيان توزع حركة الحمار في اتجاهات‬
‫مختلفة وأزمان مختلفة ألماكن مختلفة بحسب الذين يركبونه‬
‫فالتشبيه في األصل بين مثليهما في ( الحمل ) وجاء بالتعدي الى‬
‫األسفار إلتمام الصورة وإكمال خطوطها من حيث أن الذين ( ُح م ّلوا‬
‫التوراة ) ‪ ..‬ألعوبة بيد الطغاة والجبابرة في كّل مكان وزمان ال‬
‫ينتبهون من غفلتهم مهما تبّدل القادة ‪ ،‬فكذلك مثل الحمار دائم‬
‫األسفار وراكبوه كثار ال يتبدل شأنه في األسفار بتبدلهم ‪.‬‬
‫نعم أنه مثل لالعتباطية ال شك في ذلك ولهذا ُهوجمت هذه اآلية‬
‫في جميع األماكن وعلى جميع المستويات إلفراغها من محتواها فقد‬
‫ُهوجمت في إعرابها وفي نحوها وفي تفسيرها ـ فانظر ماذا ستفعل‬
‫يوم تأتى شاكية الى ربها مما جرى لها ؟ !‬
‫وللعلم أن السورة كلها حول هذا الموضوع وقد هُو جمت اآليات‬
‫السابقة على هذه اآلية وعلى كافة المستويات وفي جميع المذاهب‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪303‬‬
‫‪3‬‬
‫اإلسالمية ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪304‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .7‬دفاٌع عن الكّذ ابين والكذب‬
‫يؤ ّس سُه الَج رجاني‬

‫قام الجرجاني بالموازنة بين مقولتين هما ( خير الشعر أكذبه )‬


‫والمقولة المعارضة لها ( خير الشعر أصدقه ) ‪.‬‬
‫وانتهى من الموازنة الى ترجيح القول األول !!‪.‬‬
‫فالشعر ليست فضيلته في ( المضمون ) وإنما في ( الشكل ) ‪.‬‬
‫انظر الى قوله ‪ ( :‬ومن قال أن خير الشعر أكذبه فهذا مراده الن‬
‫الشعر ال يكتسب فضيلة ونقصًا وارتفاعًا وانحطاط ًا بان ُينِح ل‬
‫الوضيع رفعه أو يصف الشريف بنقص وعار ‪ ،‬فكم من جواد نحله‬
‫الشعر وبخيل سخاه وشجاع وسمه بالجبن وجبان ساوى به الليث‬
‫وذي ضعة أمطاه العيوق وغبي قضى له بالفهم وطائش اّدعى له‬
‫طبيعة الحكم ثم لم يعتبر ذلك في الشعر حيث تنقد دنانيره وتنشر‬
‫ديابيجه ويفتق مسكه فيفوح أريجه ) ‪.‬‬
‫لقد رأيت اآلن ذلك اإلطراء والتمجيد للشعر األكثر كذبًا فليست‬
‫العبرة في ما قلبه الشعر من موازين وعكس من أشياء وال فيما‬
‫افتعله من أباطيل ما دام في النهاية ينتشر كالدنانير فيفتق مسكه‬
‫ويفوح أريجه !‪.‬‬
‫ها هو يحكم خالل السرد نفسه قبل الدخول في الموازنة‬
‫المزعومة وقبل أن يأتي الى شرح المقولة المناقضة ‪ ..‬وهو تمهيد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪305‬‬
‫‪3‬‬
‫نفسي وتوطئة بقبول الحكم النهائي بترجيح مقولة خير الشعر أكذبه‬
‫‪ .‬ومعلوم أن ( الشعر ) كالم له أثر يترتب عليه كما يترتب على أي‬
‫كالم وإذا كانت غاية الشعر وضع الكالم في نسق جميل ليحفظ‬
‫ويدّو ن ويدخل األذن بال استئذان فمن اقبح القبائح القول أن خير‬
‫الشعر أكذبه ـ لقبح القول العام ‪ :‬خير الكالم أكذبه ‪ ..‬إذ لو صّح‬
‫هذا لصّح ذاك ‪ ..‬فهل تظن أن مثل ذلك يخفى على الجرجاني أن‬
‫ترى أنه يعي ما يقول لغاية في نفسه ؟ ‪ .‬فلنتابع أقواله في فقرات‬
‫‪:‬‬

‫أ ‪ .‬الموازنة ‪:‬‬
‫ثم جاء الى شرح المقولة المناقضة ( خير الشعر أصدقه ) فقال‬
‫‪ :‬يجوز أن يكون مراده ‪..‬‬
‫ومن أول مفردة يؤكد لك أسلوبه المريض الكامن في نفسه ألنه‬
‫مراده‬ ‫قال هناك ‪ ( :‬فهذا مراده ) وقال هنا ‪ ( :‬يجوز أن يكون‬
‫)!‬
‫وهذا االختالف في األسلوب يدّل داللة يقينية على صحة توقعك‬
‫كون الرجل جاء بالموازنة ال لغرض الموازنة بل لغرض تثبيت‬
‫المقولة األولى واإلجهاز على المقولة الثانية ! بحيث ال يذكرها‬
‫ذاكر ‪.‬‬
‫لم يمّج د المقولة الثانية إّال بكالٍم أراد به تضعيف حجتهم وتوهيَن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪306‬‬
‫‪3‬‬
‫مقولتهم والتأكيد على أن الشعر ال يستحسن أن يكون كاذبًا بل‬
‫يتوجب أن يكون كذلك !‬

‫ب ‪ .‬الحكم في الموازنة ‪:‬‬


‫قال الجرجاني ‪ ( :‬واألول أولى ألنهما قوالن متعارضان في‬
‫اختيار نوعي الشعر فمن قال خيره أصدقه كان ترك اإلغراق‬
‫والمبالغة والتجّو ز الى التحقيق والتصحيح أحب إليه وآثر عنده ـ ال‬
‫عند الجرجاني ! وال عند البلغاء ـ إذ كان ثمره أحلى وأثره أبقى‬
‫وفائدته اظهر ‪ ،‬وحاصله أكثر ) ‪.‬‬
‫أتوقف هنا ألسأل بلغاء العالم كله ‪ :‬كيف تفسرون قوله أن األول‬
‫أولى مع أن الثاني أحلى وأبقى وأظهر وأكثر ؟؟‬
‫إن هذا الخلط من هذا المسكون باإلفتراء ما كان ليمّر من غير‬
‫كشف إّال في أّم ة بلغت من الغباء أن يكون الجرجاني إمامها في‬
‫البالغة – ألن أصل كّل الشرور ُه َو الخلط بين الحق و الباطل‬
‫وخاصة في تقييم الكالم ! ‪.‬‬
‫ثم قال ‪ ( :‬ومن قال أكذبه فالن الصنعة إنما يمد باعها ‪ ،‬وينشر‬
‫شعاعها ‪ ،‬ويتسع ميدانها ‪ ،‬وتتفرع أفنانها ‪ ) ..‬الى آخر كلماته‬
‫التي بلغت نصف صفحة في شرح المقولة األولى وتأويل معانيها –‬
‫أ ‪ .‬هـ ‪.‬‬
‫فاسأله ما هو األفضل في الموازنة على نفس كلماتك ؟ ‪ .‬لقد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪307‬‬
‫‪3‬‬
‫أجابك الجرجاني حيث د َّس لك السم منذ البداية وأعلن في الوسط‬
‫أن ( األولى أولى ) وجعل آخر الكالم في أكذبه حيث بدأ في أصدقه‬
‫! ‪ .‬واسأل مترجمي الجرجاني حيث وصفوه بالتقوى والورع ! ‪،‬‬
‫إسألهم لو عرضت المقولتان على النبي ( ص ) وهو سيد البلغاء‬
‫من ولد آدم ( ‪ )‬رغم أنف الجرجاني فهل سيؤيد المقولة األولى أم‬
‫الثانية ؟ ‪ .‬وإذا كان من المحال تصور أن يحكم مثل النبي ( ص )‬
‫في هذه الموازنة بترجيح مقولة خير الشعر أكذبه ‪ .‬فاسأل األمة‬
‫التابعة للجرجاني من أين جاءته التقوى والورع إذن ؟؟‬

‫ج ‪ .‬وانكشف القناع ‪:‬‬


‫ثم كشف الجرجاني عن قناعه وأعلن عن طول باعه في تأييد‬
‫األكاذيب حينما انضوى تحت لواء الكذاّبين حامًال رايتهم فقال‪:‬‬
‫وما ذلك القبيل ( أي الشعر الصادق ) فهو فيه كالمقصور‬
‫الُم داني قيده والذي ال تتسع كيف شاء َيدُه وأيدُه ‪ ،‬ثَّم هَو في األكثر‬
‫يورُد على السامعيَن معاَني معروفة وُص ور ًا مشهورًة ويتّص رف في‬
‫أصوٍل وإن كانت شريفة فال ُيرجى ازديادها‪ ،‬كاألعيان الجامدة التي‬
‫ال تَنمي وال تزيد وال َتربُح وال تفيد ‪) ..‬‬
‫وإذن فالشعر الصادق ال يربح وال يفيد ! وال يَنمو وال يزيد ‪ .‬فما‬
‫أكذب الجرجاني إذ قال ذلك ولو كان المقصوُد سو َق البالغة ال‬
‫سو َق األفكار والمبادئ وال سو َق المعرفة والحقائق وال سو َق‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪308‬‬
‫‪3‬‬
‫المشاعر والوجدان وال سوق اآلخرة والحساب ! وال سوق المعاني‬
‫والبيان وال سُو َق األخالق ‪ .‬ذلك ألن الصور المترّك بة من مفردات‬
‫اللغة ال حدود لها وال نهاية ألعدادها وفيها من االتساع إلظهار‬
‫طول الباع ما يفي ويفي للصادقين والكاذبين على حٍّد سواء ‪ ،‬ولو‬
‫شئنا أن نأتي لهذا الرجل من الصور التي ذكرها شعراء ( الصوفية‬
‫) فضًال عن غيرهم ما تتضائل عنده بالغة شواهده التافهة التي كان‬
‫مبهور ًا بها ‪ .‬لكن ال مدعاة لها بعد أصدق الكالم ـ كتاب الله ‪.‬‬
‫على أن فلسفة االمر تأخذ منحًى آخر ‪ ،‬الن الكالم األفضل بالغة‬
‫هو الكالم األفضل قدرة على وصف الشيء بدقة واألكثر قدرة على‬
‫رسم صورة له في الذهن اقرب ما تكون الى صفتِه الحقيقية ! وال‬
‫يبقى للبالغة أُّي موضوٍع حينما ُتناقَش المقولة الغريبة عن البالغة‬
‫من األصل ـ اعني مقولة ( خير الشعر أكذبه ) ـ ألن البالغة أخذت‬
‫اسمها هذا من بلوغ الكالم المراد منه ‪.‬‬
‫وإذا كان قصد القائل لهذا الشعار إعطاء مساحة لحركة الشعر‬
‫في مجال التشبيهات فاألمر سّيان ‪ ،‬فان أبلغ التشبيهات هي التي‬
‫ترسم صورة أدق للشبه من خالل المشّبه به ‪ ،‬وهذا يعني ( أَّن‬
‫البالغِة وجزٌء‬ ‫الصَّدق أمٌر ذاتّي في نفِس‬
‫منها فال بالغَة بغير ِص دق ) ‪.1‬‬
‫في هذه الحالة يصبح الشعار شعار ًا صحيح ًا صيغ بصياغة لغوية‬

‫‪1‬‬ ‫تعتبر هذه العبارة إحدى القواعد الهامة في الحل القصدي للغة ‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪309‬‬
‫‪4‬‬
‫كاذبة ويكون الشعار نفسه ليس بليغ ًا ‪.‬‬
‫أال ترى أن أسم البالغة يدّل عليها ؟ فإذا لم تبلغ بالكالم المراد‬
‫الحقيقي منه ولن تبلغ السامع بهذا المراد فليست من البالغة في‬
‫شيء ‪.‬‬
‫لو صّح كالم الجرجاني الخالي من كّل بالغة لكان كالم الله أقَّل‬
‫الكالم بالغًة ألنه أصدقه ‪ ،‬وما أدراك لعّل المراَد من الموازنة كّلها‬
‫إيصالك الى هذه النتيجة التي يحلم بتحقيقها هذا الرجل ! ؟‬
‫بلى هي ال غيرها كما سيأتيك في مناقشة نماذج من ( دالئل‬
‫اإلعجاز ) ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪310‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .8‬ذوق الجرجاني في التشبيه‬

‫أفسد الجرجاني ذائقَة أهِل اللغِة عموم ًا وأفسد النقَد األد َّبي‬
‫خصوصًا وزاَد من فساد ذائقة ( المبدعين ) من الشعراء والك ّتاب‬
‫بتأسيسه ألوّل مرة منهاج ًا نقديًا فاسد ًا ‪ ..‬وكان نتيجة ذلك أن‬
‫المرض الذي استفحل بسريانه في عروق األدب انتج أمة نقدية‬
‫متدنية للغاية في ذائقتها مثلما جعل الشعر خصوصًا واألدب عموما‬
‫يتجهان اتجاه ًا مزيف ًا فارغًا من المحتوى الحقيقي إرضاء لبالغة‬
‫الجرجاني وأصحابه وتالمذته ‪ .‬فحيثما اّتجه النقد اتجه األدب ‪..‬‬
‫وتلك قاعدة مطردة دوم ًا ‪.‬‬
‫هل ترى شاعر ًا يسلك سلوك ًا مغاير ًا لميزان النقد المجمع عليه ؟‬
‫كال ‪ .‬اّال أن يكون أوحد زمانه وعّدو أقرانه والباني لنفسه أساس‬
‫بنيانه ‪ ..‬ومثل هؤالء ال يجود بهم الدهر اال مّر ة في كّل عصر أن‬
‫فعل ِفعل األجواد ‪ ،‬وقليًال ما يفعل ‪.‬‬
‫تمادت هذه األمة في التشبيه والتمثيل حتى َبعدت الُش ّقة بين‬
‫المَّشبه والمشبُه به ‪ ..‬وكان عدم إدراك التشبيهات القرآنية بل‬
‫وعدم تد ّبرها أصًال قد زاد الطين بلة وجعلهم يظنون أنهم جاءوا بما‬
‫يؤنس النفوس ويزيد اإلفهام وينمي الذائقة ‪.‬‬
‫تمادوا في ذلك الى حٍّد مقرف ‪ ..‬والى حِّد أن لم تكن هناك أية‬
‫عالقة بين المشبه والمشبه به ال في الفكرة وال المادة ‪ ،‬ال في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪311‬‬
‫‪3‬‬
‫الصورة وال في الحركة بل ذهبوا أكثر من ذلك الى ( خلق الصور‬
‫الالمعقولة ) ‪ ..‬للتشبيه بها وإدراجها ضمن التمثالت للمعقوالت‬
‫والمحسوسات ‪.‬‬
‫أسألك اآلن أيها الرجل الواعي المثقف عن رأيك بهذا التشبيه ‪:‬‬
‫فإنطباقا مرة وانفتاحا!‬ ‫وكأن البرق مصحف قار‬
‫الحظ التعسف في التشبيه فالبرق كأنه مصحف ! ثم يجعلك‬
‫تتراجع عن ذلك لربطه بالحركة ( انفتاح وانطباق ) وهذا الكالم‬
‫أشبه بكالم المصابين بالعّي إذ يتوجب عليك صرف طاقة كبيرة‬
‫لجمع مفرداتهم وفهم ما يرمون إليه ‪ .‬وفي التشبيه افتراُق آخر في‬
‫الحجوم فإذا حجزت اآلن عقلك وأطلقت العنان لمخيلتك لتتخّيل هذا‬
‫المصحف ‪ ،‬وزعمت ُم كره ًا أن حروفه بيضاء وأن انفتاحه ( السريع‬
‫) سيظهر منه بياض الحروف بلمعة سريعة كالبرق ‪ ،‬فان خيالك‬
‫سيبقى عاجز ًا عن تصّو ر السماء مثل المصحف ! ألنك أكبر من‬
‫المصحف والسماء أكبر منك ‪ ،‬اللهم اال أن تغصب نفسك مرة أخرى‬
‫لتتخيل أنك ـ حاشاك ـ نملة في بطن مصحف ليسعك كما تسعك‬
‫السماء!‬
‫هذا التشبيه الذي ( ابتكره ) ابن المعتز هو من الصور‬
‫والتشبيهات التي أعجبت الجرجاني ! بل وأذهلته !‬
‫قال الجرجاني ‪ ( :‬ولم يكن إعجاب هذا التشبيه لك وإيناسه إياك‬
‫ألن الشيئين مختلفان في الجنس أشد االختالف فقط ! بل ألن حصل‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪312‬‬
‫‪3‬‬
‫بإزاء االختالف في شدة في االئتالف ـ حال وَح ُس َن وراَق وَفتن ! ) ‪.‬‬
‫في أي شيء هو االئتالف أيها الناقد العبقري ؟ فأين العالقة‬
‫الزمنية بين البرق والمصحف الذي يفتح بأزمان مختلفة وببطء‬
‫شديد ؟ ‪ .‬وأين هي المالئمة بين صورة الكتاب المفتوح وخط البرق‬
‫الالمع المتعرج في صفحة السماء الداكنة الملبدة بالّس حب ؟‬
‫وما العالقة بين صورة األسطر بالمداد األسود على الورق‬
‫األبيض بصورة البرق الالمع في السماء الداكنة ؟ إذا كان المداد‬
‫بهذا اللون والورق على لونه المعتاد ؟‬
‫إني أحيل المسألة الى أهل الفن ! ليوّض حوا لنا أين ( الُح سن‬
‫والحالوة والمالئمة واالئتالف المقابل لالختالف والذي جعل هذا‬
‫التشبيه يروق ويفتن كما يزعم الجرجاني) ؟ ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪313‬‬
‫‪3‬‬
‫تنبيــــــــه ‪:‬‬

‫مَّر الجرجاني بقوله تعالى ‪:‬‬


‫‪َ ‬م ثُلهم كَم ثِل الذي استوَقد نار ًا فّلما أضاءْت ما حوَله ذهب الله‬
‫بنُو ِر هم ‪‬‬
‫فلم يذكر عنه شيئًا بل جعله مثًال من أقسام التشبيهات الثالثة‬
‫التي ابتدعها واكتفى بأن هذا التشبيه من هذا الضرب !‬
‫فاعتبروا يا أولي األبصار ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪314‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .9‬اختيار عشوائي‬

‫عند فتح كتاب الجرجاني عشوائيًا ‪:‬‬


‫ظهرت الصفحة ( ‪ / 180‬العنوان ـ قلب التشبيه ) ‪.‬‬
‫أول الصفحة ‪ ( :‬هذا فن غير ما تقّدم في الموازنة بين التشبيه‬
‫والتمثيل )‬
‫المواضيع ‪:‬‬
‫شرح نصف صفحة ‪ ،‬شاهد شعري ألبي نؤاس ‪ ،‬شاهد آخر البن‬
‫المعتز ‪ ،‬شاهد للتنوخي ـ بيتان ـ ‪ ،‬بيتان البن المعتز يصف سحابة‬
‫‪ ،‬ثالث أبيات أخرى في وصف النار لشاعر آخر ‪ ،‬خمسة أبيات‬
‫لعلي ابن محمد في وصف الِد من ‪،‬أربعة أبيات أخرى له ‪ ،‬شاهد‬
‫للبحتري ‪.‬‬
‫شاهد آخر ‪ ،‬شاهد آخر ألبي فراس ثالث أبيات ‪ ،‬بيتان آخران له‬
‫‪ ،‬ثالثة شواهد متفرقة البن المعتز ‪ ،‬شاهد آخر لكاتب المأمون في‬
‫وصف فرس أربعة أبيات ‪ ،‬بيت البن نباتة ‪ ،‬بيت آخر البن المعتز ‪،‬‬
‫بيتان آخران وشرح نصف صفحة ‪.‬‬
‫ثالثة أبيات في تشبيه النساء البن المعتز ‪ ،‬بيت آخر لنفس‬
‫الشاعر ‪ ،‬بيتان للمتنبي ‪ ،‬بيتان آلخر ‪ ،‬شاهد آخر في السيف البن‬
‫المعتز ‪ ،‬شاهد البن بابك ‪ ،‬ثالثة متفرقة أخرى للسري ‪ ،‬بيت‬
‫للبحتري وآخران إلبن المعتز ‪ ،‬تشبيه للكواكب البن المعتز ‪ ،‬بيتان‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪315‬‬
‫‪3‬‬
‫للناشئ وآخران البن الرومي ‪ .‬شاهد للبحتري وآخر البن المعتز في‬
‫النرجس ‪ ،‬ثالثة أخرى البن المعتز ‪ ،‬أبو نؤاس يرثي خلف األحمر ‪،‬‬
‫أبو العباس وذو الرّم ة ‪ ،‬شرح صفحتان لشواهد ابن المعتز‬
‫خصوصًا ‪ ،‬وشرح صفحتين ألشياء متفرقة من الشواهد ‪ ،‬شواهد‬
‫أخرى البن المعتز ‪ .‬شرح مماثل أربع صفحات ‪.‬‬
‫شرح لشاهد نثري البن العميد يدعو فيه على القمر ويظهر‬
‫التظّلم من هالل شهر رمضان ‪.‬‬
‫تمثيل المعقول بالمحسوس ‪ ،‬شاهد للبحتري وشرح للنماذج ‪:‬‬
‫بيت إلبن طباطبا وآخر للتنوخي وقطعة أخرى له وأخرى فاألمر‬
‫طالب المأموني ‪ ،‬شواهد إلبن بابك وابن المعتز ‪ ،‬شرح أخذت أربع‬
‫صفحات لشواهد مختلفة لنفس الموضوع ‪.‬‬
‫الخالصة ‪:‬‬
‫مجموع الصفحات ‪ 40 :‬صفحة‬
‫الشواهد الشعرية ‪ 117 :‬بيتًا‬
‫الشواهد القرآنية ‪ :‬ال يوجد !!‬
‫شواهد من أقوال النبي ( ص ) ‪ :‬ال يوجد !!‬
‫شواهد من أقوال الخطباء أصحاب النبي ( ص ) ‪ :‬ال يوجد !‬
‫شواهد من شعراء العصر النبوي ‪ :‬ال يوجد !‬
‫شواهد من الشعر الجاهلي ‪ :‬ال ُيوجد ‪.‬‬
‫شواهد من شعراء الطبقة الالحقة كالفرزدق وجميل والحطيئة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪316‬‬
‫‪3‬‬
‫ومن هم في طبقتهم ‪ :‬ال يوجد !‬
‫سؤال نوجهه للذين وصفوا الجرجاني بالتقوى والورع ! سؤال‬
‫أعلن عن نفسه ‪ ،‬سؤال عن سبب غياب هذا التراث الضخم من‬
‫القرآن واألدب في بالغة الجرجاني ؟!‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪317‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .10‬تشبيه ُغ رة الفرِس األدهم بالصبح أو العكس‬

‫ابن المعتز ‪:‬‬


‫كأنه ُغ رة َم هٍر أشقِر‬ ‫والُص بُح في ُطرة ليٍل ُم سفر‬

‫أورده الجرجاني في ص ـ ‪ 182‬ودافع عن التشبيه وأظهر‬


‫محاسنه الحق ًا في ص ـ ‪ 193‬وعّده من التشبيهات المقلوبة واّدعى‬
‫أنه من محاسن التشبيه ‪.‬‬
‫من الواضح أن التشبيه يراد به تقريب الصورة وحكايتها بطريقة‬
‫مؤثرة كما رآها الشاعر وإذا لم يمكنه ذلك وكان التصور العام‬
‫للصورة عند القارئ أحسن وأدق من تشبيه الشاعر فقد سقط تشبيه‬
‫الشاعر عن كّل اعتبار ‪.‬‬
‫إن ما يذكره ابن المعتز ال يحكي تصور ًا صحيح ًا عن الصبح‬
‫فضًال عن أن يكون من محاسن التشبيه ‪ .‬فهنا تنافر من جميع‬
‫الوجوه !‬
‫األول ‪ :‬ال عالقة مطلق ًا بين صورة السماء واألفق أو الفضاء‬
‫وصورة المهر ألن الفضاء يكتنف الرائي ويحويه بينما المهر‬
‫حيوان له حدود شاخصة أمام الرائي وهذه مشكلة ُتسبب عسر ًا في‬
‫تخّيل الصورة ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬إن لون المهر ( األشقر ) ال عالقة له وال شبه فيه مع‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪318‬‬
‫‪3‬‬
‫الليل أو الفجر أو منظر السماء ولونها ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬إن الصبح شيء مختلف عن الفجر فالصبح طلوع‬
‫الشمس وإذا طلعت الشمس ذهب الليل فأين ( الليل المسفر ) ؟‬
‫وكيف يجتمع الصبح مع الليل في صورة واحدة ليكون في طرة‬
‫الليل كما الغرة في المهر ؟‬
‫إني اسأل كّل عارف بالعربية أو غيرها من اللغات عن هذا‬
‫التشبيه وعن وجود الصبح في طرة الليل ! أهي جملة مركبة‬
‫بصورة صحيحة أم ال ؟‬
‫وأسألهم ثانيًا عن عالقة هذه ( الصورة الالصورة ) بغّر ة المهر‬
‫األشقر ؟‬
‫وقال الجرجاني الحق ًا ‪:‬‬
‫( إن تشبيه غرة الفرس بالصبح لم يقع من جهة المبالغة في‬
‫وصفها بالضياء واالنبساط وفرط التلؤلؤ ‪ ،‬وإنما قصد أمر ًا آخر‬
‫وهو وقوع منير في مظلم وحصول بياض في سواد ‪ ،‬ثم البياض‬
‫قليل باإلضافة الى السواد وأنت تجد هذا التشبيه على هذا الحّد في‬
‫األصل فإذا عكست فقلت ‪ :‬كأن الصبح عند ظهور أوله في الليل‬
‫غرة في فرس ادهم لم تقع في مناقضة كما لو أنك شّبهت الصبح‬
‫في الظالم بعلم بياٍض على ديباج اسود لم تخرج عن الصواب ) ‪.‬‬
‫أقول ‪:‬‬
‫هل رأيتم صبح ًا يشبه العلم األبيض على الديباج األسود ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪319‬‬
‫‪3‬‬
‫هل رأيتم صبحا يشبه غرة الفرس األدهم ؟‬
‫والله ال أدري مم أعجب من الجرجاني أم من الذين رّددوا ألف‬
‫سنة ذاهلين ذهوًال منقطع النظير أن الجرجاني هو سّيد البالغة !‬

‫التشبيه في ‪ :‬وأدهم يستمد الليل منه‬

‫لقد كان قول ابن نباته أهون ‪:‬‬


‫وتطلع بين عينيه الثريا‬ ‫وادهم يستمد الليل منه‬
‫وبالرغم من مساوئه اّال أنه تخلص من جملة من التناقضات‬
‫بقوله الثريا ألنها تطلع في بقعة مظلمة ‪ ..‬وتخلص ثانيًا من الترابط‬
‫في التشبيه بالليل بقوله ( يستمد ) الليل منه فلم يجعله كالليل‬
‫ليحكم على السامع بتصور نفسه نملة على جلد ذلك األدهم ‪ ،‬ويكون‬
‫األدهم فضاًء وافقا له !! بل قال يستمد الليل منه ‪.‬‬
‫ومع ذلك لم ينتبه الجرجاني للفارق ‪ ..‬ولم يذكر مقارنة لبيت ابن‬
‫المعتز مع بيت ابن نباته وكأنه ينِّفذ بالفعل مشروعه القائل ‪:‬‬
‫( خير الشعر أكذبه ) ـ فقارن روعة هذا البيت مع بيت ابن‬
‫المعتز ‪.‬‬

‫تنبيـــــــه ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪320‬‬
‫‪3‬‬
‫أصعب شيء على الرسام المحترف رسم الفجر أو أول بزوغ‬
‫الشمس الضطراره إلى تدريج األلوان واإلضاءة على صفحة األفق‬
‫الواسع !‬
‫ولو درى الرسامون أنه كالعلم األبيض على الديباج األسود لما‬
‫أتعبوا أنفسهم والذنب هو ذنبهم ألنهم لم يقرأوا بالغة الجرجاني‬
‫!‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪321‬‬
‫‪3‬‬
‫القسم الثالث‬
‫نقد كتاب الجرجاني‬

‫( دالئـل اإلعجاز )‬
‫إعجاز القرآن أم إعجاز الكالم؟‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪322‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .1‬نظرية النظم وإعجاز القرآن عند الجرجاني‬

‫ولع الرجل ولع ًا شديد ًا بافتراض أشياء من عنده ليرّد عليها‬


‫بنفسه فهو وحده المفترض وهو وحده المعارض لهذا الفرض ‪..‬‬
‫ولكنه يوحي لك أن هناك أّم ة بل األمم جميع ًا تؤمن وتعتقد ذلك‬
‫الفرض ‪ ..‬وأّنه لتفّر ده بالنقد وتوقد ذكائه قد اكتشف خطأهم وسوء‬
‫طريقتهم ‪.‬‬
‫من هي األمة التي آمنت قبل الجرجاني أن الفصاحة هي في اللفظ‬
‫الواحد وأي عاقل أو جاهل صغير ًا كان أم كبير ًا آثروا عنه أنه ذكره‬
‫قبل ذلك ؟‬
‫وإذن فلمن كّر س الجرجاني سبعين صفحة من صفحات بالغته‬
‫في الرّد على من زعم أن الفصاحة تكون في اللفظ خصوصًا دون‬
‫الكالم ؟‬
‫وإذا كان ثمة أحد يتحّدث عن فصاحة اللفظ وحده فإنما يعني به‬
‫كون اللفظ عربيًا واقع ًا على النطق الصحيح المتعارف عليه من‬
‫غير ( لحن ) أو تشويه أو مما طاله من التأثر بكالم األعاجم ـ فذلك‬
‫هو المقصود من فصاحة اللفظ وهو أمر مختلف عن فصاحة الكالم‬
‫التي تعني فصاحة اللفظ وفصاحة التركيب مع ًا بما يؤدي الى بلوغ‬
‫المعنى المقصود للقائل ‪.‬‬
‫وفي كّل مرة ينسى الجرجاني نفسه ‪ ،‬وينسيه الله تعالى ما بدأ‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪323‬‬
‫‪3‬‬
‫به فيقول عبارات تنبأ الخبير وغير الخبير عن غياب األمة التي‬
‫كان يصارعها الجرجاني مثل العبارات اآلتية ‪:‬‬
‫ـ وال أظن أحد ًا يخالف ذلك ‪.‬‬
‫ـ فمن ظّن ظنًا يؤدي الى خالفه ظّن ما يخرج به عن المعقول ‪.‬‬
‫ـ وهذا هو الفيصل لمن عقل ‪.‬‬
‫ـ وال أظن أحدا يشك في ذلك ‪.‬‬
‫ـ وهذا ما ال عذر لعاقل في خالفه ‪.‬‬
‫وتلك عبارات ختام الردود ‪ ..‬ولكن عبارات بداية الردود هي‬
‫االخرى مشابهة لتلك ‪:‬‬
‫ـ ال يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم إقرار ًا‬
‫ـ ليت شعري هل من يتصور وقوع قصد من ذلك‬
‫وما شابهها من عبارات ‪.‬‬
‫وفي وسط الردود كان يكرر ‪ :‬وهذا كله فكر في أمور معلومة ‪.‬‬
‫وهذا كله مما ال شك فيه ‪ ..‬الخ ‪.‬‬
‫ترى من هم اؤلئك الذين سّم اهم الجرجاني ‪ :‬الذين لهجوا‬
‫باألباطيل والذين عموا عن الطريق ‪ ،‬ومن هم الذين ( لم يفّر غوا‬
‫خواطرهم في تأمل ما استخرجناه ) ‪ ،‬ومن هم الذين يريد‬
‫الجرجاني أن ( يزيدهم تبصير ًا أنهم في عمياء من أمرهم ) ‪ ..‬الى‬
‫آخر عباراته وما أكثرها ؟‬
‫إني ال أتحدى الجرجاني وهو من الموتى ولكني أتحدى األمم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪324‬‬
‫‪3‬‬
‫كلها بعلمائها الذين اّتبعوا الجرجاني حتى صار إمام ًا لهم في‬
‫البالغة ـ أتحداهم أوًال أن يرّدوا على هذه المقاالت رّد ًا تأخذ به‬
‫جماهير األمة واألمم كلها وثانيًا أن يأتوا بشاهد واحد على لسان‬
‫رجل واحد قبل الجرجاني ذكر شيئًا مما ذكره الجرجاني عن معنى (‬
‫الفصاحة ) ـ ليصح معه الرد عليه ‪.‬‬
‫لم يذكر الجرجاني من هم هؤالء الذين يتحّدثون وفي أي كتاب‬
‫ولم يذكر عن أي راٍو اخذ ما قالوه عن الفصاحة ؟‬
‫إن الرجل يعمد الى األمور التي ( ال يشك فيها ) ـ فيزعم أن هناك‬
‫من يشك فيها ويصّو ر لك جمع ًا من الناس يشّك ون في تلك الحقيقة‬
‫وينبري الجرجاني وحده لتفنيد آراءهم !‬
‫كّل ذلك من اجل أن تكون له قوة الرد الحقيقية على ( المذاهب )‬
‫التي ليست (حقيقية ) وال وجود لها ؟!‬
‫أما قوله ‪ :‬ال يتعلق الفكر بمعاني الكلم أظن وان هذا غير متصور‬
‫عنده فهو هراء‪ .‬ألن المفردات يتعلق بها الفكر قبل الجملة وإنما‬
‫تتحدد حركة األلفاظ وجهاتها من خالل نسبة بعضها الى بعض في‬
‫الجملة ‪.‬‬
‫لقد زعم دي سوسر نفس الزعم وقد سألنا من قبل في اللغة‬
‫الموحدة كيف تظهر المعاني إذن إذا كانت األجزاء ( األلفاظ ) ال‬
‫تمتلك اية داللة قبل التركيب ؟ هل رأيت في حياتك أشياء ال قيمة‬
‫لها فإذا جمعتها ظهرت للمجموع قيمة خالف ًا لألجزاء ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪325‬‬
‫‪3‬‬
‫كال ‪ .‬إن القيمة الكلية إنما هي مجموع قيمة األجزاء كلها‬
‫وتناسب بعضها مع بعض وهو قانون فيزيائي ومنطقي عام ‪ ..‬لذلك‬
‫اضطر خليفة الجرجاني الى تسمية اللغة ( بالنظام الالمنطقي )‬
‫وحكمه بالمبدأ الذي سماه ( المبدأ االعتباطي ) ‪.‬‬
‫فإذا كان الجرجاني يتحدث عن القيمة المسبقة ويسميها‬
‫( الفصاحة ) فلقد قلب االمر كله رأسًا على عقب !‬
‫وإني ألحسبه ال يتحدث اإل عن ذلك ومن هنا أصبح النظم عنده‬
‫أساس المعنى المتحصل ‪ .‬ولكنه خالف فكرة النظم نفسها في جميع‬
‫المواضيع الن غايته أبعد من تفسير اللغة ‪.‬‬
‫لو كانت األلفاظ معدومة الداللة خارج الجمل لكانت متساوية‬
‫تمام ًا وال فروق بينها مطلق ًا بل ولكانت مثل قطع ( الطوب )‬
‫المتشابهة فكيف تظهر قيمة وداللة للتركيب مع غياب الداللة في كّل‬
‫جزء منه ؟‬
‫وهل صحيح أخي القارئ انك ال تمتلك أية فكرة وال يعلق ذهنك‬
‫بأي معنى حينما أتلو عليك األلفاظ المجردة اآلتية ‪ :‬بحر ‪ ،‬تفاح ‪،‬‬
‫سرور ‪ ،‬ألم ‪ ،‬موت ‪ ،‬جبل ؟‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪326‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .2‬اختيارات عشوائية‬

‫نفتح كتاب دالئل اإلعجاز بشكل عشوائي لنبّين لكم كيف د ّس‬
‫الجرجاني مقاطع اآليات القرآنية بين األبيات والشواهد الشعرية‬
‫واللغوية وأنه اخرج الجميع مخرج ًا واحد ًا وأنه أجرى على الجميع‬
‫( نظم )‬ ‫حكم ًا واحد ًا بما يفهم منه أن اإلعجاز الذي هو في‬
‫القرآن إنما هو في ( نظم ) غير القرآن أيضًا ‪:‬‬
‫االختيار االول ‪ :‬ص ـ ‪ / 286‬طبعة ‪ / 1969‬القاهرة ‪ /‬الطبعة‬
‫األولى ‪.‬‬
‫العنوان ‪ :‬فن من المجاز لم نذكره في ما تقّـدم ‪:‬‬
‫التسلسل على النحو اآلتي ‪:‬‬
‫تمهيد نصف صفحة ـ آية ‪ ‬فما ربحت تجارتهم ‪ ، ‬شرح لهذا‬
‫المقطع من اآلية ثالثة أسطر ‪ ،‬انتقال الى بيت الشعر الوارد في‬
‫التمهيد ‪.‬‬
‫شاهد آخر ‪ :‬فنام ليلي وتجّلى هّم ي ـ مثال ( رأيت األسد ) ‪.‬‬
‫شعر ‪ :‬يحمى إذا اخترط السيوف ‪ /‬شرح للبيت كونه ( كنز من‬
‫كنوز البالغة ) ‪ ،‬شعر آخر ‪ :‬وسالت بأعناق المطّي االباطح ‪ /‬شرح‬
‫نصف صفحة ثم عودة الى اآلية مما يظهر منه بالغة كّل قول في‬
‫نفسه ونظمه وغايته ال فرق بين اآلية والشعر ‪ ،‬شاهد آخر ‪ /‬بيتان‬
‫لحاجز بن عوف شرح لجهات اللطف في البّيتين نصف صفحة ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪327‬‬
‫‪3‬‬
‫شاهد آخر ثالثة أبيات لمجنون ليلى ‪ ،‬شرح لجماليات المجاز‬
‫الحكمي في شعر المجنون نصف صفحة ‪.‬‬
‫شاهد آخر ‪ /‬وصاعقة من نصله ينكفي بها ‪ /‬للبحتري ‪ .‬شرح‬
‫الستعارة البحتري وأسرارها الجمالية والبالغية ثلث صفحة ‪ /‬شاهد‬
‫آخر للبحتري ‪ :‬والبارقات كأنها‪...‬‬
‫تشبيه وشاهد آخر الحق للخنساء شرح للشواهد نصف صفحة ‪.‬‬
‫كّل هذا واآلن يمر مقطع من آية على النحو اآلتي ‪ :‬وال يعد هذا‬
‫معد ما حذف منه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كقوله تعالى ‪:‬‬
‫‪ ‬واسأل القرية ‪ ‬ومثل قول النابغة الجعدي ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪328‬‬
‫‪3‬‬
‫خاللتُه كأبي مرحب‬ ‫وكيف تواصل من أصبحت‬
‫وقول األعرابي ‪ :‬حسبت بغام راحلتي عناقا ‪ ..‬الخ‬
‫شرح للبيتين نصف صفحة ‪ ،‬شاهد آخر للمتنبي ‪ ،‬شرح للشاهد‬
‫نصف صفحة ‪ ،‬مقارنة مع حسبت بغام راحلتي ‪ /‬نهاية الفصل ‪.‬‬
‫المجموع ‪ 9 :‬صفحات‬
‫الشواهد الشعرية ‪ 19 :‬بين من الشعر‬
‫الشواهد المأثورة ‪ 4 :‬شواهد‬
‫الشواهد االفتراضية ‪ 7 :‬شواهد‬
‫الشواهد القرآنية ‪ :‬شاهد واحد هو ( فما ربحت تجارتهم )‬
‫مقطوع عما قبله وبعده‪.‬‬
‫الشروح ‪ :‬ثالثة اسطر للشاهد القرآني والباقي للشواهد االخرى‬
‫‪.‬‬
‫نتيجة الشرح والمقارنة ‪ :‬يوجد في الشاهد القرآني مجاز الن‬
‫التجارة ال تربح نفسها بل يربح فيها وهو مجاز عادي جد ًا ‪ ،‬أما‬
‫الشواهد الشعرية والنثرية فهي آيات من آيات الفن والفصاحة‬
‫والبالغة !‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪329‬‬
‫‪3‬‬
‫تنبيــــــــــه ‪:‬‬

‫معلوم أننا في الحل القصدي وضعنا ألول مّر ة إعجاز القرآن في‬
‫موضعه وكشفنا ألول مرة عن سّر ه الدفين الكائن في النظام العام‬
‫والمرتبط بإلغاء المترادفات وثبات المعنى الموّح د والداللة األصلية‬
‫( جملة‬ ‫لكل لفظ مما يوجب العجز التام عن اإلتيان بأي تركيب‬
‫مفيدة ) من جنسه واقعة ضمن هذا النظام الشامل ـ انظر لفهم‬
‫الفكرة كتاَبْي النظام القرآني واللغة الموحدة في حين سعت نظرية‬
‫اإلعتباطية ( ونظرية النظم ) الى إثبات أنه ( ص ) تقّو له ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪330‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .3‬اختيار عشوائي آخر‬

‫الصفحة ـ ‪ / 216‬العنوان فروق في الحال لها فضل تعّلق‬


‫بالبالغة‬
‫تمهيد على طول صفحة ‪ ،‬شاهد شعري لبشار ‪ :‬إذا أنكرتني بلدة‬
‫‪ .‬شاهد آخر ألمية ‪ :‬فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفق ًا ‪ .‬شاهد آخر‬
‫لوائلة السدوسي أخذه عن الجاحظ ‪ ،‬شاهد آخر البن السكيت ‪،‬‬
‫شاهد آخر للفارسي ‪ ،‬شاهد آخر لالخطل ـ شرح نصف صفحة ‪.‬‬
‫مثال ‪ :‬جاءني زيد يسعى غالمه بين يديه ‪ ،‬شاهد آخر لعلقمة ‪،‬‬
‫شاهد آخر لأليادي ‪.‬‬
‫واآلن يأتي الجرجاني بثالثة مقاطع من ثالث آيات ليبرهن أمر‬
‫هذا النوع ( كله يستمر على الغنى عن الواو وعليه التنزيل والكالم‬
‫) ‪.‬‬
‫وهذا هو بيت القصيد ‪ ...‬التنزيل والكالم سواء في هذا األمر ‪.‬‬
‫ال شرح وال إضافة على مقاطع اآليات بل تدافعت سوية في‬
‫سطرين ‪.‬‬
‫ويستمر الجرجاني ‪ :‬شاهد آخر للسّلوي ابن همام ‪ ،‬شاهد آخر‬
‫للحنفي ‪ ،‬شاهد آخر من قصة عبد الله بن عتيك حين دخل على أبي‬
‫رافع ‪ ،‬شاهد آخر للدارمي بعد شرح نصف صفحة ‪ ،‬بيتان عن‬
‫مصعب ابن الزبير لمالك بن رفيع ‪ :‬أتاني مصعب وبنو أبيه ‪ ،‬شاهد‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪331‬‬
‫‪3‬‬
‫مفترض ‪ ،‬شاهد من قول أبي األسود ‪ ،‬شاهد آخر لعكرشة ‪ ،‬شاهد‬
‫آخر ألرطاة الشاعر األموي وصفه بأنه ( لطيف جد ًا ) ‪ ،‬شاهد آخر‬
‫مثله في ( الحسن واللطف ) ألعشى همدان ‪ ،‬شاهد آخر مفترض ‪،‬‬
‫شاهد آخر لخالد بن يزيد ابن معاوية فيه جماليات ال يهتدي الى‬
‫وضعها ( بالموضع المرضي اال من كان صحيح الطبع ) حسب‬
‫تعبير الجرجاني ‪ ،‬شاهد آخر بغير الواو لجندح المّر ي ‪ ،‬شاهد آخر‬
‫البن عبد العّز ي ‪ ،‬شاهد آخر وصفه بأنه في غاية الحسن والجمال‬
‫ألحد الخوارج يصف أصحابه كما في الهامش ‪ ،‬بيتان لألعرابي ‪،‬‬
‫شاهد آخر للفرزدق ‪ ،‬شاهد آخر البن الرومي ‪ ،‬شرح صفحة‬
‫ونصف ‪ ،‬شاهد لعلقمة ‪ ،‬شرح للشواهد المفترضة ثالث صفحات ‪،‬‬
‫استشهاد بشطر اية إلثبات فرضيته بوضع الجملة من المبتدأ‬
‫والخبر موضع الفعل والفاعل ‪ ،‬شطر من شعر بشار ‪ ،‬شرح صفحة‬
‫‪ ،‬شاهد آخر لسعد بن ناشب ‪ ،‬شرح نصف صفحة ‪ ،‬نهاية الفصل ‪.‬‬
‫المجموع ‪ 16 :‬صفحة‬
‫الشواهد الشعرية ‪ 29 :‬بيتا وشطر بيت‬
‫الشواهد المأثورة ‪ :‬ثالثة شواهد‬
‫الشواهد المفترضة بجملة زيد وعمرو ‪ 6 :‬ستة شواهد ‪.‬‬
‫الشواهد القرآنية ‪ :‬شاهدان ‪ .‬االول ثالثة أسطر سوية إلثبات أمر‬
‫التنزيل والكالم سواء في الغنى عن الواو كما رأيت ‪ .‬والثاني قبل‬
‫نهاية الفصل إلثبات فرض جديد فرضه هو جاءه بالشاهد القرآني‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪332‬‬
‫‪3‬‬
‫وبسطر واحد على النحو التالي ‪:‬‬
‫(‪ ..‬ألن المعنى على النصب نحو اضرب زيد ًا ووضعوا الجملة‬
‫موضع الفعل والفاعل في نحو قوله تعالى ‪ :‬أدعوتموهم أم أنتم‬
‫صامتون ألن األصل في المعادلة أن تكون أدعوتموهم إليه َص َم ّتم )‬
‫‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫فأين هو إعجاز القرآن في هذا الفصل ؟‬
‫وكيف يحل الفعل ( صَم ّتم ) محل الحال ( وأنتم صامتون ) ـ‬
‫وفرضية النظم تقتضي االختالف بين القولين ( جاءني زيد مسرعًا‬
‫) و ( جاءني زيد وهو يسرع ) وهما شاهدا الجرجاني في أول ما‬
‫بدأ بتأسيس الفكرة ؟‬
‫وكيف تحل داللة اشتقاق محل داللة اشتقاق آخر فما فائدة‬
‫االشتقاق إذن ؟ وما فائدة التنوع في اشتقاق الصيغ المختلفة على‬
‫أصل واحد ؟ وكيف يكون مراد المتكلم واحد ًا والصيغ مختلفة ؟‬
‫ولماذا ال نعثر على مثل هذا التقدير والتغيير في الشواهد األخرى‬
‫ونجده دوم ًا في الشواهد القرآنية وحدها ؟‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪333‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .4‬اختيار عشوائي آخر‬

‫صفحه ـ ‪ 213‬الموضوع ‪ :‬فصل في ( الذي ) ‪ .‬قال الجرجاني ‪:‬‬


‫إعلم أن لك في ( الذي ) علم ًا كثير ًا وأسرار ًا جمة وخفايا إذا‬
‫بحثت عنها وتصورتها اطلعت على فوائد تؤنس النفس وتثلج‬
‫الصدر بما يفضي بك إليه من اليقين ويؤديه إليك من حسن التبين‬
‫‪ ) ..‬انتهى ‪.‬‬
‫هكذا يبدأ الجرجاني هذا الفصل ـ وانت اآلن تتشوق لمعرفة‬
‫األسرار الجمة والخفايا في ( الذي ) ‪ ،‬وتسال في أي نوع من‬
‫الشواهد من األولى وفي أي الّس ور ؟‬
‫لكنك واهم ‪ .‬فالجرجاني يتحدث عن األجزاء ‪ ،‬األجزاء في الكالم‬
‫وحسب !‬
‫وعنوان الكتاب هو ( دالئل األجزاء ) ‪ .‬وانت واهم منذ البداية‬
‫أدعوتموهم ظننت أنه يتحدث عن إعجاز القرآن ‪:‬‬
‫(‪ ..‬ويؤديه إليك من حسن التبيين ‪ ،‬والوجه في ذلك أن تتأمل‬
‫عبارات لهم فيه ِلَم ُو ضَع وأل ِّي غرٍض ُأجتلب وأشياء وصفوه بها‬
‫)‪.‬‬
‫ويشرح الجرجاني تلك األسرار الجمة والخفايا بثالث صفحات‬
‫فيها ثالث شواهد مفترضة ‪ .‬واليأتي بأنه شاهد قرآني ويخلو الفصل‬
‫من أية إشارة ولو عابرة الى االستعماالت القرآني لهذا االسم‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪334‬‬
‫‪3‬‬
‫الموصول !! وما أظن في القرآن !‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪335‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .5‬النظم واإلعجاز نتيجة وتناقض‬

‫نظرية النظم للجرجاني لم تفسر إعجاز القرآن كما توهم الناس‬


‫منذ قرون !‬
‫لسبب واضح هو أن النظم عند الجرجاني هو تسلسل األعرابي‬
‫على نحو منتظم في العبارة بحيث أن تغيير مواقعها يخّل بالمعنى‬
‫الذي يقصده القائل ‪.‬‬
‫إذا فكل آية قرآنية هي معجزة ! وذلك أدعوتموهم افترضنا مثل‬
‫ما رأى اآلخرون أنه حينما تحدث عن الشعر فقد تحدث عن القرآن‬
‫!‬
‫ولكن عندهم أن القرآن ما تحدى بآية واحدة بل تحدى بسورة‬
‫واحدة ومعلوم أن أقل سورة بعدد األولى هي النصر وآياتها ثالثة ‪.‬‬
‫أن ولع الجرجاني بنظريته أعماه عن هذا السؤال ولو كان سأل‬
‫نفسه ألعرض عن نظريته العجيبة !‬
‫أن األجزاء أوسع واعظم مما تتصوره جميع العقول فضًال عن‬
‫عقل الجرجاني وحده !‬

‫وتناقض الجرجاني مع نفسه !‬

‫فإذا كان النظم هو ترابط المفردات بطريقة معينة ال يؤدي المعنى‬


‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪336‬‬
‫‪3‬‬
‫المقصود سواه فما أحسنه من رأي ‪ ..‬لكن الجرجاني هّدمه في‬
‫جميع سطوره حينما قام بتأسيس طريقته في تقدير الجملة بنظم‬
‫آخر وحينما قّدم وآخر كما يشاء فاسأله ‪ :‬أليس النظم الجديد‬
‫المفترض يؤدي الى معنى آخر غير النظم االول فأين ذهبت نظريتك‬
‫؟ إم كان ذلك ( ُطعم ًا ) إلزدراد المزيد من السموم ؟‬
‫وكيف جعلت النظمين أو األربعة بمعنى واحد حينما قّدرت قوله‬
‫تعالى ( ال تقولوا ثالثة ) بأكثر من صورة مختلفة ؟؟‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪337‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .6‬تفسير الجرجاني لقوله تعالى‬
‫ال تقولوا ثالثة ـ‬

‫ليته إذ قال أن الذين قّدروا هذه العبارة القرآني بقولهم إنها‬


‫بمعنى ( وال تقولوا آلهتنا ثالثة ) ـ ارتكبوا عظيم ًا في إثبات وجود‬
‫آلهة ونفى عددها ‪ ..‬فتقديرهم خاطئ جد ًا الن معناه آلهتنا عديدة‬
‫لكنها ليست ثالثة !‬
‫ليته إذ قال هذا الكالم التزم به الى اآلخر والتزم بنظرية النظم‬
‫فلم يقّدر كتقديرهم ‪ ..‬لكنه أبى اال أن يفعل الن قوله هذا لحٌم في‬
‫سنارة صيده ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬ما استخرجناه أدى هذا التقدير الى الفساد وجب العدول‬
‫عنه الى غيره والوجه والله اعلم أن تكون ثالثة صفة مبتدأ ويكون‬
‫التقدير ( وال تقولوا لنا ثالثة آلهة ) ثم حذف الخبر ( لنا ) فبقى وال‬
‫تقولوا آلهة ثالثة ثم حذف الموصوف آلهة فبقى ثالثة !‬
‫فأنظر ماذا فعل فقد عاد الى ما بدأوا به وفعل أسوأ مما فعلوا ‪.‬‬
‫ذلك الن النهي تعّلق مرة أخرى بالعدد ‪ :‬أي ال تقولوا لنا ثالثة‬
‫آلهة بل قولوا أربعة أو عشرة أو ماءه ال فرق فالمنهي عنه هو‬
‫الثالثة فقط ‪.‬‬
‫وكأنه شعر بذلك فقال ‪ :‬األول يثبت والثاني ال يثبت آلهة ‪.‬‬
‫فان قلت ‪ :‬أن كان ال يوجب آلهة فانه ال تنفيه ؟ وأجاب على‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪338‬‬
‫‪3‬‬
‫السؤال بقوله ‪:‬‬
‫قيل ينفيه ما بعده وهو قوله تعالى ‪ :‬أنكرتني الله إله واحد ؟‬
‫فاسأله أين هي المشكلة إذا ؟ حتى أدعوتموهم أدرك الغرق‬
‫تشبث بالمقطع الالحق ‪ ..‬وقد كنت تناقش المقطع األول منفصًال ‪:‬‬
‫أن تقديره على هذا النحو خاطئ ‪ ..‬فما شطت بك األرض ولكن نقلت‬
‫من السواد الى السواد !‬
‫ولكنه رغم ذلك رضي بالتقدير باعتباره ال يثبت آلهة وال ينفيها‬
‫‪ ..‬ونحن نقول بل يثبتها آيات مادام متعلقا بالعدد ال بوجود اآللهة ‪.‬‬
‫ألنك لو قلت لجماعة ‪ :‬ال تقولوا ثالثة ‪ :‬أن تقديره ( ال تقولوا لنا‬
‫ثالثة شعراء ) فالسامع يفهم انهم ثالثة ما بدأ يأمر بالكتمان‬
‫والتستر عليهم فأصبح تقدير الجرجاني ال يثبت اآللهة وحسب بل‬
‫ويثبت عددها آيات !‬
‫من خالل أن النهي تعلق بالثالثة فقط وكل عدد غيره فوق الثالثة‬
‫جائز الن الواحد واالثنين يستلزم تغيير ًا في صيغة الجمع آلهة وهم‬
‫ال يقّدرون الجمل إذا اقتضى التقدير تغيير ًا في بقية األلفاظ !‬

‫تقدير آخر للجرجاني في قوله تعالى‬


‫ـ ال تقولوا ثالثـة ـ‬
‫قال الجرجاني ‪ :‬وال يمتنع أن تجعل المحذوف في موضع التمييز‬
‫دون الموصوف ويكون التــقدير ‪ ( :‬وال تقولوا ثالثة آلهة )‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪339‬‬
‫‪3‬‬
‫وتقديره ‪ ( :‬وال تقولوا لنا أو في الوجود ثالثة آلهة ) ‪.‬‬
‫فانظر الى هذا التقدير الذي انجب تقديرا آخر هو عين التقدير‬
‫االول والنتيجة ‪ :‬ال تقولوا في الوجود ثالثة آلهة بل قولوا عدد ًا‬
‫آخر أو يكون معناه ‪ :‬ال تذكروا العدد ألنكم ال تعرفونه المبدأ كثير ال‬
‫يحصى أو متغّير ال يعلم أو يكون ‪ :‬اكتموا العدد وأحفظوا السّر‬
‫فانهم ثالثة فعًال !‬
‫قول المنهج القصدي في اآلية‬

‫ال يوجد هنا أي احتمال ألي تقدير ‪ .‬ألن اللفظ المقّدر موجود في‬
‫نفس اآلية فهو لم يحذف ليقّدر مجدد ًا ‪ .‬وذلك أن اآليات مترابطة‬
‫اليمكن فصل جزء منها ‪.‬‬
‫أليس قوله تعالى ‪  :‬وال تقولوا ثالثة انتهوا خيرا لكم أنكرتني‬
‫الله اله واحد ‪ ‬مترابط مع بعضه ومع ما يسبقه وما يلحقه ؟‬
‫فاللفظ المقّدر مفرد ال جمع هو نفس لفظ الجاللة ( الله ) والذي‬
‫اصله ( اإلله ) فأدغمت الالمان وأزيلت الهمزة واأللف الثاني فصار‬
‫( الله ) ـ ( هذا تخريجهم للفظ الجاللة ) ـ ولفظ اإلله ال يطلق اال‬
‫على اإلله الواحد كما هو معلوم لوجود أل التعريف ‪.‬‬
‫ما استخرجناه كان البد من تقدير على عادتهم العجيبة فهو ‪ :‬وال‬
‫تقولوا الله أمة (اإلله ) ثالثة ‪ ..‬فيدخل نفي التعدد من أول العبارة‬
‫الى آخرها ويوضّح ه ‪ :‬أنكرتني الله أو ( اإلله ) إله واحد ‪ ..‬حيث‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪340‬‬
‫‪3‬‬
‫يتعلق ( المحذوف ) المزعوم باللفظ المذكور الحق ًا‪.‬‬
‫فكيف يقّدر هو وغيره المحذوف المزعوم بصيغة الجمع وهم‬
‫يريدون من الجملة أن تفيد نفي التعدد ؟‬
‫فالجرجاني لم يم ّيز شأنه شأن الجميع بين المخاطبين‬
‫والمقصودين من القولين ‪:‬‬
‫قوله تعالى ‪ ‬لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثالثة ‪ / ‬المائدة ـ‬
‫‪73‬‬
‫وقوله ‪ ‬وال تقولوا ثالثة ‪ / ‬النساء ـ ‪171‬‬
‫إذ أن هناك طائفتين تمثالن أسوأ وأهون القائلين بالتثليث من‬
‫النصارى ‪ .‬وتقع بينهما أكثر من تسعة اتجاهات في فهم هذا التثليث‬
‫‪.‬‬
‫فالذين قالوا أن الله الذي هو إله ثالث ثالثة فقد اثبتوا ثالثة آلهة‬
‫وهو أسوأ َفْه م للتثليث وقولهم كفر ‪ .‬والذين قالوا ‪ :‬اإلله واحد لكنه‬
‫ثالثة ‪ .‬وهي طائفة في النصارى جمعت بين القول بالتوحيد الخالص‬
‫وبين التعدد في االقانيم في مفهوم غامض ومعّقد للغاية ‪ .‬ال يفهمه‬
‫حتى قادة االتجاه أنفسهم ـ وهؤالء لم يكفروا مثل أولئك فقال ‪:‬‬
‫انتهوا خير لكم ! الن قولهم مخالف العتقادهم فافهم ‪.‬‬
‫األ تراه قال عبارتين في التوحيد مختلفتين مع كّل منهما ‪:‬‬
‫‪ ‬لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثالثة ـ بعدها ‪ :‬وما من إله إال‬
‫إله واحد ‪‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪341‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ ‬ال تقولوا ثالثة انتهوا خير لكم ـ بعدها ‪ :‬أنما الله إله واحد ‪ ..‬‬
‫فأوضح للذين كفروا بقولهم هو ثالث ‪ :‬أنه ليس من إله اال إله‬
‫واحد ألنهم عّددوا الله نفسه !‬
‫وأوضح للذين قالوا اإلله الواحد ثالثة ‪ :‬أن هذا اإلله الذي‬
‫تؤمنون به هو الله وأنه واحد ‪ .‬فانتهوا عن القول ‪ .‬ولم وال فروق‬
‫أن ينتهوا عن الكفر الن الكافر ال ينتهي عن الكفر ‪.‬‬
‫‪ ‬أن الذين كفروا سواء عليهم أءنذرتهم إليه لم تنذرهم ال‬
‫يؤمنون ‪‬‬
‫ثم انظر الى اإلعجاز المذهل في ذكر الفريق الثاني مع األول في‬
‫مورد المائدة ‪:‬‬
‫‪ ‬لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثالثة وما من إله اال إله واحد‬
‫‪ ..‬‬
‫فكأن السامع تذّك ر الفريق الثاني الذي يقول ثالثة وال يعني األ‬
‫الواحد فسأل ‪ :‬والذين يقولون ذلك ويعنون أنه واحد هل يكفرون ؟‬
‫فقال ‪  :‬ولئن لم ينتهوا عما يقولون ليمّس ن الذين كفروا منهم‬
‫عذاب اليم ‪‬‬
‫فجمعهما مع ًا في مورد المائدة فانتبه ‪ .‬فبعض هؤالء كفر وبعض‬
‫لم يكفر فقال (منهم ) بينما كَّفر الفريق االول كلهم ‪ ‬لقد كفر الذين‬
‫قالوا أن الله ثالث ثالثة ‪. ‬‬
‫فزعم آخرون من أمثال الجرجاني أن ( منهم ) في اآليات مزيدة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪342‬‬
‫‪3‬‬
‫!!‬
‫فافهم وتأمل وأعد القراءة أن لم تفهم ألني أوضحت لك األمر‬
‫بطريقة تظهرك على اإلعجاز الفعلي في كّل القرآن باعتباره ( نظام ًا‬
‫) محكم ًا ونسيج ًا واحد ًا ال (نظمًا) في كّل مقطع !‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪343‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ . 7‬التقديم والتأخير عند الجرجاني‬

‫الجرجاني هو الذي بنى أساس تخريب اللغة بافتراضاته العجيبة‬


‫التي انطلت على المأل ‪ ،‬ذلك أن هذه األمة ولعت ولع ًا شديد ًا بكثرة‬
‫التأليف مع ضعف النظر والتدقيق وعلى عكس ما تظن ‪ ..‬فإنها أكثر‬
‫األمم تحّدثا عن اللغة مفرداتها ونحوها وإعرابها ولكنها في الواقع‬
‫أبعد األمم عن فهم لغتها الخاصة فضًال عن وضع نظرية حصيفة في‬
‫علم األلسن ‪.‬‬
‫قال الجرجاني في ص ـ ‪ : 162‬األ ترى إنك إذا قلت ( أتانا وقد‬
‫طلعت الشمس) وذلك أذا استبطأت أنسانًا وعكس هذا إذا قلت ( أتى‬
‫والشمس لم تطلع ) كان أقوى في وصفك له بالعجلة والمجيء قبل‬
‫الوقت الذي ظَّن أنه يجيء فيه من قولك (أتى ولم تطلع الشمس بعد‬
‫) ‪ ،‬هذا هو كالم ال يكاد يجيء اال نابيًا والكالم البليغ هو أن تبدأ‬
‫باالسم وتبني الفعل عليه‪ .‬انتهى ‪.‬‬
‫كان الولى أن تسّم ى نظرية الجرجاني ( بالقضم ) ال ( النظم )‬
‫ألنها قضمت اللغة والتراكيب قضم ًا ‪.‬‬
‫أيرى الجرجاني أن الجمل المبدوءة بفعل وهي الجمل الفعلية‬
‫ليست بليغة ؟‬
‫ماذا يرمي الجرجاني بقوله ‪ :‬ومثل ذلك قوله ‪ ( :‬وقد اغتدي‬
‫والطير لم تكّلم )‪ .‬أيرمي الى أن الجمل الفعلية الكثيرة في القرآن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪344‬‬
‫‪3‬‬
‫ليست بليغة ؟ وان أشعار الجاهلين ابلغ منها ؟‬
‫كيف وهناك الكثير في كالم الله تعالى ما كان مبتدًء بالفعل ال‬
‫االسم ‪:‬‬
‫أتى أمر الله ‪ ،‬أتاهم العذاب ‪ ،‬قد جاء أمر الله ‪ ،‬إذا جاء نصر‬
‫الله والفتح ‪ ،‬وجاءت سّيارة ‪ ،‬وقال فرعون ‪ ،‬وقال الذين كفروا ‪،‬‬
‫قل ال أسألكم أجرا ‪ ... .‬الى مئات الموارد ؟‬
‫لقد ظن الجرجاني أن القائل ‪ :‬أتى ولم تطلع الشمس بعد ‪ ..‬أمر‬
‫يتكلم بكالم (ال يجيء اال نابيًا ) ‪ .‬بينما تكون هذه العبارة ذات معنى‬
‫مختلف عن العبارة األولى ‪( :‬أتى والشمس لم تطلع بعد )‪ .‬ألن‬
‫تقديم طلوع الشمس كفعل على اسمها ينبئ عن عجلة في المجيء‬
‫اكبر مما يتوقع القائل ‪ ..‬وخالف االتفاق في الوعد بينهما ‪ ،‬بينما‬
‫العبارة الثانية تؤكد أن مجيئه في عين الوقت المتفق عليه ! لماذا‬
‫! ألنه حينما قّدم الفعل أوحى الى السامع أن الموعد هو الطلوع‬
‫بينما العبارة الثانية أوحى إليه فيها أن الموعد قبل الطلوع !‬
‫ويمكنك التأكد من ذلك بالتأمل فيه أوًال ووضع االستفهام‬
‫المناسب لكل عبارة ثانيًا هكذا ‪:‬‬
‫هل أتى وقد طلعت الشمس ؟ الجواب ‪ :‬أتى ولم تطلع الشمس‬
‫بعد‬
‫الن السائل قّدم الفعل ‪ ،‬فالجواب على نفس الترتيب ‪.‬‬
‫والسؤال ينبئ أن الموعد هو الطلوع ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪345‬‬
‫‪3‬‬
‫المبدأ الثانية فالسؤال فيها ‪ :‬هل أتى والشمس قد طلعت ؟ وهذا‬
‫التغيير في السؤال وتقديم الفاعل ( الشمس ) قد غّير العبارة كلها‬
‫و َأفهم السامع أن الموعد قبل الطلوع وأنه يسأل عما إذا كان قد أتى‬
‫والشمس قد طلعت ‪ .‬وجوابه ‪ :‬أتى والشمس لم تطلع بعد ‪ .‬فتم‬
‫تقديم الشمس عن الفعل في صيغة السؤال والجواب مع ًا وهذا كله‬
‫هو عكس ما قاله الجرجاني تمام ًا ‪ ..‬وليست الثانية نابية كما زعم‬
‫بل هو تركيب صحيح لمعنى مختلف ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪346‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .8‬اختيار عشوائي آخر‬

‫ص ـ ‪ . 424‬بعنوان ( فصل ) ليس تحته عنوان قال الجرجاني‬


‫وبنفس نبرة كالمُه المليئة بالغرور وحيث قال ‪:‬‬
‫( قد بلغنا من مداواة الناس من داءهم ‪ ،‬وعالج الفساد الذي‬
‫عرض في آراءهم كّل مبلغ ‪ ،‬وانتهينا الى كّل غاية ‪ ،‬وأخذنا بهم‬
‫عن المجاهل التي كانوا يتعسفون بها الى الّس نن الالحب ‪ ،‬ونقلناهم‬
‫من اآلجن المطروق الى النمير الذي يشفي غليل الشارب ولم ندع‬
‫لباطلهم عرق ينبض اال كويناه وال للخالف لسان ينطق اال أخرسناه‬
‫‪ ،‬ولم نترك غطاء على بصر ذي عقل اال أحسرناه ‪. )..‬‬
‫ولّم ا انتهى من ديباجته قال ‪:‬‬
‫( اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ‬
‫كالداء الذي يسري في العروق ويفسد المزاج وجب أن يتوخى دائبًا‬
‫فيهم ما يتوخاه الطبيب في الناقة من تعهده بما يزيد في منته ( أي‬
‫قوته ) ويبقيه على صحته ويؤمنه النكس في علته ) ‪.‬‬
‫قال مؤلف هذه األوراق ‪ :‬صدق القائل ‪ ،‬خذوا الحكمة من أفواه‬
‫المجانين فأن جماعة اّتبعت الجرجاني وهو يهينها هذه اإلهانة‬
‫ويمثلها بالناقة الهزيلة المنكسة من علتها ‪ ..‬المتداعية صحتها‬
‫الخائرة قوتها ويمثل نفسه فيها طبيبها ‪ ..‬المتّتبع للداء الذي يسري‬
‫في عروقها لهي جماعة بهذا الوصف فعًال ‪ !. .‬بيد أن الذين‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪347‬‬
‫‪3‬‬
‫يؤمنون بوجود قيمة ذاتية في اللفظ هم أمة أخرى بكل تأكيد ‪.‬‬
‫ونسجل لك اآلن ثبتًا بمواضيع هذا الفصل ‪:‬‬
‫ـ أربع صفحات لشرح الداء الذي ذكره الجرجاني ‪ .‬امتألت‬
‫بعبارات التبجح والتهكم مع ًا واصف ًا من ال يؤمن بأقواله بمختلف‬
‫األوصاف ‪ :‬شدة الغفلة ‪ ،‬خراب العقول ‪ ،‬الغواية ‪ ،‬اّتباع الهوى ‪،‬‬
‫تأسيس الفساد ‪ ،‬التورط بالجهاالت ‪ ..‬الى ما يصعب إحصاءه‬
‫ـ شواهد ‪ :‬ثالثة أبيات ألبي ُنخيله وبيتان ألبي تمام ‪.‬‬
‫ـ مثال قديم ‪ ،‬بيت للهاللي ‪ ،‬بيت للبيد وآخر للبحتري وثالث‬
‫إلبراهيم بن المهدي وآخر البن أبي فنن ‪.‬‬
‫شرح صفحة وشاهد آخر ‪ :‬بيتان للحطيئة ‪ ،‬شرح صفحة أخرى‬
‫وبيت لحسان ‪ ،‬شرح آخر وبيت للمتنبي وآخر للبحتري ‪.‬‬
‫ـ صفحة أخرى فيها سبعة شواهد شعرية مختلفة ‪.‬‬
‫ـ صفحة أخرى ليس فيها شروح بل أبيات وشواهد عددها عشرة‬
‫‪.‬‬
‫ـ صفحتان واثنان وعشرون بيتًا لطبقات مختلفة من الشعراء ‪.‬‬
‫ـ خمسة صفحات أخرى وشواهد شعرية ما يقرب من خمسين‬
‫بيتًا لشعراء مختلفين يتخللها نماذج من األشعار وأبيات لبعض‬
‫الخوارج وأبي نؤاس مثلما يتخللها نماذج لشعراء جاهليين ‪ ،‬شرح‬
‫صفحة لشاهد أبي نؤاس ‪.‬‬
‫ـ ثالث صفحات مع ستة وعشرين بيتًا آخر ‪ .‬شرح صفحة واحدة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪348‬‬
‫‪3‬‬
‫لشاهد المتنبي‪.‬‬
‫ـ شرح صفحتان مع شواهد شعرية ‪ ،‬ثالثة عشر بيتًا ‪.‬‬
‫ـ صفحتان أخريان واثنان وعشرون بيتًا ‪.‬‬
‫ـ ثالث صفحات وخمسة وثالثين بيتًا ‪.‬‬
‫عوّدة الى الشرح ‪ :‬إلثبات أن اإلعجاز ليس في الحروف ومذاقها‬
‫وال في سالمتها مما يثقل اللسان من حيث يرى الناظر أن كالمهم‬
‫ليس كالم من خطر ذلك منه ببال ‪..‬الى آخر عباراته ‪.‬‬
‫تثبيت أن اإلعجاز ليس في اللفظ !!!‬
‫وبالتالي فان إعجاز القرآن ليس في اللفظ بل بالمعاني المتحصلة‬
‫من اللفظ ‪ .‬لكن قارئ الجرجاني سيدرك بال شك أن الشواهد معجزة‬
‫والقرآن ربما هو معجز أيضًا وإال فكيف تصح النتيجة من المقارنة‬
‫؟ لكن الجرجاني آمن من انكشاف االمر ألنه يعلم أنه ليس هناك‬
‫قارئ حقيقي بل هي ( ناقة جرباء ) تحتاج الى كّي وهاهو يعالجها‬
‫!‬
‫الخالصة ‪:‬‬
‫عدد الصفحات ‪33 :‬‬
‫الشواهد الشعرية ‪ 199 :‬بيتًا ( مائة وتسعة وتسعين بيتًا ! ) ‪.‬‬
‫األمثال ‪ :‬واحد ‪.‬‬
‫اآليات القرآنية ‪ :‬ال يوجد !‬
‫الحديث الشريف ‪ :‬ال يوجد ! ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪349‬‬
‫‪3‬‬
‫انتبــــــــــــــه !‬
‫اسم الكتاب ‪ :‬دالئل اإلعجاز !! والمفروض أن المقصود إعجاز‬
‫القرآن ال سواه ولكن أنظر ‪:‬‬
‫عدد المرات التي ذكر فيها لفظ الجاللة أو أسم من أسماء الله‬
‫بما في ذلك الشعر ‪ :‬ثالثة موارد‪ .‬موضوع البحث ‪ :‬إعجاز القرآن‬
‫!!! أو هكذا يفهم من عنوانه ( دالئل اإلعجاز ) !‬
‫توزيع موارد ذكر أسماء الله ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬في البسملة في أول الفصل ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬في الجملة األخيرة في نهاية الفصل ونّص ها ‪ :‬ونسأل‬
‫الله التوفيق والعون‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬في شروح النتيجة في النص اآلتي ‪:‬‬
‫( ذلك أن شيء يؤدي الى اآليات يكون القرآن معجز ًا ال بما كان‬
‫قرآنًا وكالم الله عز وجل ) ‪ /.‬ص ‪. 257‬‬
‫ومعنى ذلك ‪ :‬أنه ليس بمعجز ألنه كالم الله ‪ . .‬بل للنظم الذي‬
‫هو مّطرد في كّل كالم ‪!.‬‬
‫والدليل هو الشواهد ‪.‬‬

‫تنبيــــــــه ‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪350‬‬
‫‪3‬‬
‫الدسيسة في هذه الفقرة هي ‪ :‬فصُل اإلعجاز عن القرآن ـ بتعميم‬
‫أن اإلعجاز ال يعود الى القرآن من حيث هو ( كالم الله ) بل من‬
‫حيث هو نظم للكالم ! والنظم عام في كّل كالم وليس مقصور ًا على‬
‫كالم الله ‪.‬‬
‫ولذلك جمع الجرجاني القليل من كالم الله مع الكثير جد ًا من كالم‬
‫غيره في نسق واحد وأجرى على الجميع حكم ًا واحد ًا ـ مع التأكيد‬
‫المستمر على مزايا كالم الخلق والصمت المستمر عن مزايا كالم‬
‫الخالق ‪.‬‬

‫تنبيه آخر على حيلة الجرجاني ‪:‬‬


‫أن حيلة الجرجاني في الفصل المتقّدم كانت على النحو اآلتي ‪:‬‬
‫إذا كانت هذه األمة ترفض أو فيها من يرفض اآليات ينكر أحد أن‬
‫القرآن معجز فعند الجرجاني طريقة فذة هي ‪ :‬ليكن معجز ًا ‪ ..‬وليكن‬
‫كالمنا هو اآلخر معجز ًا ‪! ..‬‬
‫فالنتيجة واحدة ‪ :‬ألستم تريدون إنكار اإلعجاز ليتساوى كالم الله‬
‫مع كالمنا ؟ فإذا عجزتم أن تنزلوا بالقرآن الى كالمنا فارفعوا‬
‫كالمنا ليساوي كالم الله ! ‪ .‬فهنيئًا ألمتنا بإمامها الجرجاني ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪351‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .9‬افتعال الجرجاني ألحاديث بال موضوع‬

‫قال الجرجاني تحت عنوان ‪ :‬فصل في مسائل ( إنما ) ‪:‬‬


‫أن ناسا من النحويين قالوا في نحو قوله تعالى ‪  :‬قل إنما حّر م‬
‫ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ‪ : ‬أن المعنى ‪ :‬ما حّر م ربي‬
‫اال الفواحش ‪.‬‬
‫وذكر عن الزّج اج قوله في آية ‪ ‬إنما حّر م عليكم الميتة والدم‬
‫‪‬أن معناه ما حّر م اال الميتة والدم ‪.‬‬
‫وراح الجرجاني يحاول تخريج كالمهم في كالم هو الغاية في‬
‫السفسطة بالرغم من أن كالم هؤالء هو أحد المعاول الهادمة‬
‫لنظرية الجرجاني في النظم ‪ .‬فكان يكّد ويتعب إلثبات شيء ثم يعود‬
‫الى نقضه فمثله كمثل ( التي نقضت غزلها من بعد قوة)‪.‬‬
‫كيف تكون ‪ :‬إنما حّر م الميتة مساوية لقوله ما حّر م اال الميتة‬
‫؟‬
‫الن العبارة اآلخيرة هي مؤلفة من ما النافية وأداة الحصر‬
‫والمعنى أنه ليس هناك من محّر م سوى الميتة والدم ‪ ..‬والى آخر‬
‫اآلية ‪.‬‬
‫بينما العبارة األولى تضمنت أن التوكيد مع ما الموصولة‬
‫والمعنى أن الذي حّر م في هذا الموضع من الحديث وما يدور حوله‬
‫من األطعمة واألشربة هو الميتة والدم ‪ ..‬الن هناك محّر مات أخرى‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪352‬‬
‫‪3‬‬
‫في مواضيع أخرى ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك آيات وآيات كان على الفقهاء أن يرّدوا‬
‫ويصححوا بها كالم النحويين لو كانوا يعلمون ‪ .‬فكم من محّر م من‬
‫الصيد ما داموا حرم ًا وكم من محرم في وقت دون وقت وكم من‬
‫محّر م في باب دون باب ؟‬
‫فكيف اخرجوا العبارة القرآنية بطريق الحصر ؟ أم كان هؤالء ال‬
‫يصّلون وال يحّج ون وال شأن لهم ببقية المحّر مات ؟‬
‫قال الجرجاني ‪ :‬ليس معنى كالمهم أن المعنى في هذا هو‬
‫المعنى في ذاك ؟‬
‫فال ادري كيف يقرأ الجرجاني سطورهم ؟ ألم يقرأ قولهم ‪:‬‬
‫معناه ما حّر م اال الميتة ! فكيف ال يعني أن المعنى في هذا ليس‬
‫المعنى في ذاك ؟‬
‫ويتخبط الجرجاني لتوضيح مقصودهم بعبارات عجيبة وأمثلة‬
‫اعجب فيقول ‪:‬‬
‫ألنه ليس كّل كالم يصلح فيه ( ما ) و ( اال ) يصلح فيه ( إنما‬
‫) !‬
‫فلماذا قلب الجرجاني المعادلة ؟ إذ المفروض أن يأتي بشاهد لـ‬
‫( إنما ) ال يصلح فيه ( ما و اال ) وليس العكس الن هذا هو‬
‫موضوعه المبحوث فيه !‬
‫وجاء بالشاهد ‪ :‬قوله تعالى ‪ :‬وما من إله اال الله‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪353‬‬
‫‪3‬‬
‫وزعم أنه لو قّدر كذلك لكان ‪ :‬إنما من إله الله وهو بال معنى !‬
‫وعلى نفس تقديره المعكوس ومثاله الغريب عن الموضوع‬
‫فالتقدير ليس كذلك بل هو ‪:‬‬
‫إنما الله إله !‬
‫لكن من الواضح أنه ال يفيد الحصر الن المقارنة خاطئة من‬
‫األصل ‪.‬‬
‫فالجمل المبحوث فيها تضمنت فعًال ‪ :‬إنما حّر م ربي ‪ ، ..‬إنما حّر م‬
‫عليكم ‪ .‬وهذه الجملة ‪ :‬ما من إله اال الله جملة مؤلفة من نفي‬
‫دخل على شبه جملة مع أداة الحصر فما هي عالقته بالجملة الفعلية‬
‫؟‬
‫ال ادري بأي شيء التزم هؤالء ‪ :‬بقواعدهم الخاطئة من األصل‬
‫أم بالمعاني أم بالمنطق ‪ ..‬الشيء التزموا به ‪ ..‬وما هذا اال موضوع‬
‫اخترعته االعتباطية من نفسها اختراعًا ‪.‬‬

‫تنبيــــــــــه ‪:‬‬

‫راح الجرجاني يسرد األمثلة على النحو الذي ال يدري ما هو‬


‫جامع ًا بين اآليات والشواهد الشعرية في خلطة واحدة ‪:‬‬
‫‪ ‬إّنما يستج َيُب الذَين يَس معُو ن ‪ ، ‬وإنّم ا أنَت ُم نذٌر ‪ ، ‬مع إنما‬
‫مصعب شهاب من الله وإنما أنت والد ‪ :‬البن قيس الرقّيات‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪354‬‬
‫‪3‬‬
‫والمتنبي ‪.‬‬
‫‪ ‬إنّم ا حَّر م عَليُك م الَم يتة ‪ ، ‬مع إنما يدافع عن أحسابهم أنا‬
‫ومثلي للفرزدق ‪.‬‬
‫ما وجدت اال شهاب ‪ ،‬مع ‪ ‬إْن أنتُم اّال بشٌر مثُلنا ‪... ‬‬
‫‪ ‬اللُه يستهَز ئ ِبهم وَيمُدهم في ُطغياِنهم َيعمُه ون ‪ ، ‬مع ‪ :‬زعم‬
‫العواذل أنّني في غمرة ‪ ...‬وهكذا دواليك ‪.‬‬
‫وهذه األمة تقرأ في كتاب الله ‪ُ ( :‬قْل َلو إجتمعْت األنُس والجُّن‬
‫على أْن يأتُو ا بمثِل هذا القرآن ال يأتوَن بمثلِه وَلو كان َبعُض هم‬
‫لبعٍض ظهيرا ) ‪ .‬ومع ذلك فقد جمعت والزالت تجمع هذا القرآن مع‬
‫أقوال السفهاء من الجن واألنس في مكان ضيق واحد تُج ري على‬
‫الجميع قواعدها التي ابتدعتها ! من غير أن يثير ذلك غيرَة رجٍل‬
‫منهم ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪355‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .10‬تقديرات الجرجاني االعتباطية‬

‫قال الجرجاني وهو يشرح األسئلة المقّدرة للفعل ( قال ) ‪:‬‬


‫واعلم أن الذي تراه في التنزيل من لفظ ( قال ) مفصوًال غير‬
‫معطوف هذا هو التقدير فيه كقوله تعالى ‪ ‬هْل أتاَك حديُث ضيف‬
‫إبراهيَم المَك رمين إْذ دخلوا عليه فقالوا َس الم ًا قاَل سالٌم قوٌم‬
‫ُم نكَر ُو ن ‪ ‬جاء على ما يقع في انفس المخلوقين من السؤال فلما‬
‫كان في العرف إذا قيل لهم ‪ :‬دخل قوم على فالن فقالوا كذا ‪ ،‬أن‬
‫يقولوا ‪ :‬فما هو ؟ ويقول المجيب قال كذا اخرج الكالم ذلك المخرج‬
‫الن الناس خوطبوا بما يتعارفونه ‪ ...‬الخ ‪.‬‬
‫ثم قّدر الجرجاني األسئلة المالئمة هكذا ‪ :‬فقربه إليهم قال اال‬
‫تأكلون ؟‬
‫السؤال هو ‪ :‬فما قال حين وضع الطعام بين أيديهم ؟‬
‫قال مؤلف هذا الكتاب ‪ :‬ما أدراه أن السؤال على هذا النحو وما‬
‫أدراه أن الضرورة العرفية تقتضي خالفه ؟ إذ المتعارف أن الرجل‬
‫إذا وضع الطعام بين يدي قوم فالسامع للقصة ننتظر منه أن يقول ‪:‬‬
‫فما قالوا حين وضع الطعام ؟‬
‫وال يسأل السامع ‪ :‬ماذا قال الواضع للطعام ! فانتبه أيها‬
‫القارئ النبيه !‬
‫ولذلك جاء الكالم بخالف المتعارف ألمر مقصود ترك ذكره وما‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪356‬‬
‫‪3‬‬
‫تركه اال ألن السؤال المقّدر بخالفه ‪ ..‬ألنه لما قال ‪ ( :‬اال تأكلون )‬
‫فهم السامع أمر ًا مضى وجاء بخالف توقعاته وهو انهم لم يأكلوا‬
‫كما هو المتعارف فتحّو ل السامع األن لينظر الى إبراهيم ( ‪ ) ‬الن‬
‫الصورة التي يعرضها القرآن هي بخالف اية صورة يعرضها أي‬
‫كالم للمخلوقين ‪ ..‬فهو يعرض الصورة شاخصة ح ّية متحركة كما لو‬
‫كان السامع يشاهد الحدث واقع ًا أماَم عينيه ‪ .‬ونعود الى كالمه‬
‫فنقول ‪ :‬هكذا قّدر الجرجاني جميع األسئلة المضمرة بزعمه بحيث‬
‫ال يبقى معها شيء يمكن فيه للمرء أن يّدعي أن كالم الخالق يختلف‬
‫عن الكالم المتعارف بشيء ‪ ..‬فقتل كيف قّدر ثم قّتل كيف قّدر !‬
‫انظر الى األسئلة المقّدرة وأجوبتها المنّز لة ‪:‬‬
‫س ‪ :‬فما قالوا حين رأوه وقد تغّير ودخلته الخيفة ؟‬
‫ج ‪ :‬قالوا ال تخف ‪.‬‬
‫وفي قصة موسى ( ‪ : ) ‬فما قال موسى له ؟‬
‫ج ‪ :‬قال رُّب السمواِت واألرض‬
‫وفي قصة مؤمن يس ‪  :‬فكذبُو هما فعزَّز نا بثالث ‪.‬‬
‫سؤال الجرجاني ‪ :‬فما قالوا ؟ ج ‪  :‬قالوا أنا إليُك م مر َس لُو ن ‪ ‬؟‬
‫بخ بخ للجرجاني ما هذه الكنوز البالغية التي يستخرجها من‬
‫التنزيل ؟‬
‫وكأن العقول البشرية عاجزة عن اإلتيان بمثل أسئلته المقّدرة‬
‫العجيبة لسياق حواري تام بين طرفين ال يحتاج الى أن تقدير‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪357‬‬
‫‪3‬‬
‫مزعوم ؟ !‬
‫على أنك تالحظ بوضوح كاف ‪ :‬أنه لما قال ‪ :‬فكذبوهما فعززنا‬
‫بثالث ‪ ،‬فالمتوقع كالم الثالث بعد تكذيب االثنين ! وإذا كان ثمة‬
‫سؤال مقدر فهو ‪ :‬فما قال الثالث ؟ وليس فما قالوا ‪ ..‬ويفاجأك‬
‫القرآن أن الجميع قالوا وليس الثالث وحده وهنا تكمن البالغة‬
‫وأسرار علم النفس وعظمة األنبياء والرسل وأشياء أخرى في كالم‬
‫الله ‪.‬‬
‫وهكذا يسترسل الجرجاني في تقدير األسئلة المالئمة لجميع‬
‫نصوص ( الحكاية )‪:‬‬
‫فما قال فرعون ؟ ‪  :‬قاَل أن ر َس ولُك م الذي أُر سَل إليُك م‬
‫َلمجُنون ‪‬‬
‫فما قال موسى ؟ ‪  :‬قاَل رُّب المشر َق والمغرِب وما بينَه ما أْن‬
‫ُك نتم تعقلون ‪‬‬
‫فما قال فرعون ؟ ‪  :‬قال لئن اتخذَت إله ًا غَيري ألجعلَّنك من‬
‫المَس جونين ‪‬‬
‫فما قال موسى ؟ ‪  :‬قاَل أو لُو جئتُك بشيٍء ُم بين ‪. ‬‬
‫فما قال فرعون ؟ ‪  :‬قال فأِت به أْن ك َنت من الصادقين ‪‬‬
‫قال الجرجاني ‪ :‬جاء ذلك كله على تقدير السؤال والجواب كالذي‬
‫جرت به العادة بين المخلوقيــن !‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪358‬‬
‫‪3‬‬
‫وقد رأيت أنه بخالف ما جرت به العادة بين المخلوقين ألنه‬
‫بخالف كالم المخلوقين كونه كالم معجز وكالم المخلوقين غير‬
‫معجز ‪ ..‬فان كان الجرجاني يريد إثبات أنه ككالم المخلوقين ال فرق‬
‫‪ .‬فلعنة الله على بالغة الجرجاني !‬

‫إنتبــــــــــــه ‪:‬‬

‫إذا وضعت طعام ًا لضيوفك فانك تقول ‪ :‬تفضلوا كلوا واشربوا ‪.‬‬
‫وال تقول ‪ :‬اال تأكوا ؟ فأنت ال تقول هذه العبارة إال حينما‬
‫يفعلون أمرين اثنين معا االول ‪ :‬االمتناع عن األكل والثاني الصمت‬
‫لحد تلك اللحظة ! ألنه سؤال يتضمن إنكارا على امتناعهم عن‬
‫األكل ‪ ،‬فلم يفهم الجرجاني االمر من صيغة الكالم أيضًا مثلما لم‬
‫يفهمه من القصة ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪359‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .11‬اكتشافات الجرجاني‬

‫قال تعالى ‪  :‬ومن يكسب خطيئًة أو إثم ًا ثم يرِم به بريئًا فقد‬


‫احتمَل بهتانًا وإثم ًا مبينا ‪‬‬
‫قال الجرجاني ‪ ( :‬الشرط كما ال يخفى في مجموع الجملتين ال في‬
‫كّل واحدة منهما على انفراد وال في واحدة دون األخرى ألننا أن‬
‫قلنا ‪ :‬أنه في كّل واحدة منها على االنفراد وجعلناهما شرطين ‪،‬‬
‫وإذا فعلنا ذلك اقتضتا جزاءين وليس معنا إّال جزاًء واحد ًا وان قلنا‬
‫أنه في واحدة منهما دون االخرى لزم منه إشراك ما ليس بشرط في‬
‫الجزم بالشرط وذلك ماال يخفى فساده ) ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬أن الذي ال يخفى فساده هو كالم الجرجاني ‪ .‬فهذه اآلية‬
‫فيها هندسة هي أبعد شيء عن عقل الجرجاني ‪ .‬اال يالحظ هذا‬
‫المتعسف وجود شرطين فعًال في جملة الشرط وجزاءين في جملة‬
‫الجزاء ؟‬
‫اال يالحظ هذا المتعسف أن أحد الشرطين تضمن شرطين آخرين‬
‫تفرعًا على الشرط االول ؟ وان أحَد الجزاءين هو نفُس الشرط‬
‫االول بأحِد فروعه مع إضافة (مبينا) ؟‬
‫فهذه اآلية العجيبة تضمنت جميع االحتماالت المؤلفة من الشرط‬
‫والجزاءات المتعددة في آن واحد ‪.‬‬
‫الشرط االول ‪ :‬يكسب خطيئة أو أثم ًا ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪360‬‬
‫‪3‬‬
‫الشرط الثاني ‪ :‬يرم به بريئًا ‪.‬‬
‫الجزاء العام ‪ :‬احتمل بهتانًا ( بالرمي ) و ( أثما ) كان خافيًا‬
‫فأصبح ( مبينا ) بالرمي أيديهم ‪.‬‬
‫هذا يعني إذا رجعنا للشرط االول والثاني وجزاءيهما ‪:‬‬
‫أ ‪ .‬أن من يكسب خطيئة ـ ولم يرم بها بريئًا فال تصل تلك‬
‫الخطيئة الى درجة اإلثم بل تبقى خطيئة ‪.‬‬
‫ب ‪ .‬ومن يكسب إثم ًا وال يرم به بريئًا ـ فقد اكتسب إثم ًا وحسب‬
‫‪.‬‬
‫ج ‪ .‬ومن يكسب خطيئة ويرم بها بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثم ًا‬
‫( بالرمي ) ‪.‬‬
‫د ‪ .‬ومن يكسب أثم ًا ويرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثم ًا مبينًا ‪.‬‬
‫وهذه االحتماالت المتكونة من اآلية ‪ ..‬والتي ال يعقلها الجرجاني‬
‫وأمثاله !‬
‫فالخطيئة تتحول الى اثم بالرمي ‪ ،‬واإلثم يتحول الى إثم مبين‬
‫بالرمي وكل من العمليتين هو بهتان ‪.‬‬
‫وسبب ذلك هو ‪ :‬وُج ود ( أو ) في الشرط يقابُله العطُف بالواو‬
‫في الجزاِء !‬
‫ووجوُد اإلثِم في الشرط وتحوله الى إثٍم ُم بيٍن في الجزاء ‪.‬‬
‫ووجود بهتاٍن في الجزاء وغيابه في الشرط ‪.‬‬
‫قال في آخر كالمه بشأن األوصاف السابقة ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪361‬‬
‫‪3‬‬
‫" أنا نعلم أن الجزاء أمر يتعلق إيجابه بمجموع ما حصل من‬
‫الجملتين فليس هو الكتساب الخطيئة على انفراد وال لرمي البريء‬
‫على اإلطالق بل لرمي البريء بخطيئة كانت من الرامي " !‬
‫أقول ‪ :‬فكيف زعم أوًال أن الشرَط واحٌد والجزاء واحٌد ؟ فهذا‬
‫اعتراف بوجود شرطين ؟‬
‫وما عالقة هذه النتيجة الواضحة كّل الوضوح بالتخريج النحوي‬
‫الذي انبهرت به األمة اللغوية ؟‬
‫أليس الله هو القائل ‪  :‬وَم ْن يك ْس ب خطيئة أو أثما ثم َيرم به‬
‫بريئا ‪ ‬؟‬
‫ألن الله ما قال ‪ :‬ومن يك َسْب أخوه أو ابُن عمه خطيئة أو أثما ثم‬
‫يرم به بريئا ‪ ،‬ليأتي الجرجاني ويو ّض ح لنا أن الخطيئة ( َيجْب ) أن‬
‫تكون من الرامي ؟ نعم لو رمى عن أخيه وابن عّم ه بريئا فهو‬
‫كالرامي االول ال فرق ‪.‬‬
‫انتبهوا يا أمة اللغة والنحو ! انتبهوا قبل فوات األوان !‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪362‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .12‬اختيار عشوائي آخر‬

‫ص ـ ‪ . 251‬فصل تحت عنوان ‪ :‬هذه فصول شتى في أمر اللفظ‬


‫والنظم ‪ .‬قال‪:‬‬
‫( فيها فضُل شحٍذ للبصيرة وزيادة كشف فيها من السريرة وغلط‬
‫الناس في هذه الباب كثير ) !‬
‫شرح الجرجاني عالقة اللفظ بالمعنى إلثبات شيئين متناقضين ‪،‬‬
‫ويبدو أن هدفه هدم المعاني الحكمية لتراكيب اللغة عموم ًا‬
‫وتحويلها الى لغة ( سوفسطائية وخالية من المعنى المحدد الذي‬
‫ترمي ( البالغة ) كعلم الى نقده من جهة المعنى وجهة اللغة‪ .‬فقد‬
‫تحامل على اللغة من حيث هي لغة ‪ ،‬وعلى معنى اللفظ من حيث هو‬
‫لفظ مجّر د‪ ..‬وأذا تنزلت عن مناقشة كّل ذلك وظننت أن الجرجاني‬
‫يعتني بالنظم فاجأك أيضًا أن النظم ليس هو النظم الذي هدفه إبراز‬
‫المعنى ألنه من هذه الجهة يحاول تسخيف أولئك الذين يعتنون‬
‫بالمعنى الحاصل من النظم فماذا يريد الجرجاني إذن ؟ ال يريد‬
‫سوى هدم اللغة كلها وهذا من أوضح األمور إذا قارنت كتابه‬
‫( دالئل اإلعجاز ) بما ذكرته لك في القسم االول من كلماته في‬
‫البالغة واعتداءه على ( الصدق ) وتأييده للكذب في الفصل‬
‫المعنون بعنوان ( دفاع عن الكذابين ) وهو الفصل ( ‪. )7‬‬
‫وهاهو في هذا الكتاب يحتال لذلك بوسيلة أخرى ‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪363‬‬
‫‪3‬‬
‫قال بعد أن جاء بشواهد شعرية متضادة في المعنى وهي‬
‫( متقاربة في قوة النظم) استعملها كتمهيد للوصول الى غايته ‪:‬‬
‫( ومعلوم أن سبيَل الكالم التصوير والصياغة وأّن سبيل المعنى‬
‫سبيل الَشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه ‪. ) ...‬‬
‫وهذا الكالم صحيح لّح د اآلن ولكن انظر ما قال بعده ‪:‬‬
‫( فالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار فكما أن محاًال إذا‬
‫أن أردت النظر في صوغ الخاتم وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر‬
‫الى الفضة الحاملة لتلك الصورة‪ ،‬كذلك محال إذا أردت أن تعرف‬
‫مكان الفضل والمزية في الكالم أن تنظر في مجرِّد معناه ) ‪.‬‬
‫قل لي بربك أتعد هذا الرجل معتوها ألم دّج اًال ؟‬
‫ألم يمثل المفردات كونها ( أداة ) لصياغة المعنى كما الذهب‬
‫مادة لصياغة الخاتم؟ أليس الخاتم في هذا المثال هو مثٌل للمعنى‬
‫؟‬
‫فكيف يعرف الناظر العمل ورداءته ؟ أليس الجرجاني هو الذي‬
‫يطالبه أن ال ينظر الى الذهب بل ينظر الى صياغته ؟‬
‫بالطبع الجرجاني ما كان يحسب أن أحد ًا سينظر في عباراته‬
‫كلمة كلمة ويحاسبه كما افعل األمثلة ! أليس هو الذي شّبه الخاتم‬
‫بالمعنى ؟‬
‫واذن فعليه أن ينظر للخاتم ال للذهب أو الفضة ؟‬
‫واذن فالناظر في الكالم يجب على هذا التشبيه أن ينظر للمعنى ال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪364‬‬
‫‪3‬‬
‫للمفردات الن مثل المعنى هو مثل الخاتم ‪ ،‬فكما ينظر للخاتم ينظر‬
‫للمعنى ؟‬
‫فكيف يأمره الجرجاني في نفس العبارة أال ينظر للمعنى ‪ ،‬ويأمر‬
‫الصائغ أن ينظر للخاتم ؟‬
‫نعم أن الجرجاني ليس غبيًا الى هذا الحد ولكنه دّج ال اكثر من‬
‫هذا الحد ‪.‬‬
‫ثم قال ‪ ( :‬وكما إننا لو فّض لنا خاتم ًا على خاتم بان تكون فضة‬
‫هذا أجود أو فّص ه انفس لم يكن ذلك تفضيًال له من حيث هو خاتم‬
‫)‪.‬‬
‫نعم سيكون تفضيًال له من حيث أن مادته انفس ثمنًا ال من حيث‬
‫صياغته ‪.‬‬
‫ومادة الكالم هي المفردات والمفردات عند الجرجاني ليس واحدة‬
‫من حديد واألخرى من ذهب الن الصياغة والنظم يعطيان للمفردة‬
‫رونقها ! بماذا ؟‬
‫بكونها تترّك ب ألداء المعنى الواضح الجلي المقبول والمعقول ‪..‬‬
‫فما عالقة المثل المضروب بنظرية النظم ! إذا كان الجرجاني في‬
‫النهاية ال يؤمن بتمايز المفردات وال يؤمن بالمعنى مع ًا ؟ ثم قال ‪:‬‬
‫( كذلك إذا فضلنا بيتًا ( أو كالمًا ) من اجل معناه أن ال يكون‬
‫تفضيًال له من حيث هو شعر أو كالم وهذا قاطع فاعرفه ) ‪.‬‬
‫ماهو القاطع ؟ وما هو الذي عرفناه من قبل حتى يمكننا أن‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪365‬‬
‫‪3‬‬
‫نعرف هذا ؟‬
‫كيف إذن نف ّض ل كالمًا على كالم إذا لم ننظر للمعنى المتحصل من‬
‫الكالم ؟‬
‫ما هي في األساس فائدة الكالم أهي ألداء المعنى ألم لمجرد‬
‫الهذيان ؟‬
‫إذا لم ننظر للمعنى فهل يقترح الجرجاني أن ننظر الى المفردات‬
‫كيف تترّك ب مع بعضها فإذا كانت متالئمة نكتفي بذلك ولو لم تؤدي‬
‫الى أي معنى ؟‬
‫أني ال اسأل الجرجاني بل اسأل أولئك الذين عبدوه والزالوا‬
‫يعبدونه ‪ :‬من منكم يرفع رأسه ليشرح لنا نظرية الجرجاني فيقدر‬
‫المرُء على إصداَر ُح كٍم نقّدي وفق تلك الترهات التي أسميتموها‬
‫نظرية النظم ؟‬

‫تنبيــــه ‪:‬‬

‫حيلة الجرجاني في المثل السابق ترّك زت في تلبيس االمر على‬


‫القارئ بسابق علم منه وقصد الى ذلك ـ فأني قد دعوتك مرار ًا أن‬
‫تقرأ كتابي هذا بتأن وتفّك ر وتركيز ذهن ‪:‬‬
‫ألن الخاتم فيه شيئان منفصالن ‪ :‬مادته ونفاستها وصياغته‬
‫المتمثلة في نقشه فرب مادة نفيسة بنقش رديء وبالعكس ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪366‬‬
‫‪3‬‬
‫أما الكالم فصياغته من مادته األصلية وهي المفردات ال ينتج‬
‫منه شيئان كالخاتم بل شيء واحد هو ( عبارة ذات معنى ) ‪.‬‬
‫فالمعنى والصياغة في الكالم هي شيء واحد بخالف الخاتم الذي‬
‫صياغته شيء ومادته شيء آخر لكل منهما قيمته ‪ ..‬فافهم ذلك فهو‬
‫االمر القاطع قطع الله رقاب الكذابين ‪.‬‬
‫ألن الصياغة الرديئة في الكالم تؤدي الى رداءة المعنى بخالف‬
‫الخاتم فالصياغة الرديئة ال تؤثر على قيمة الذهب ‪ ،‬فتأمل في حيلته‬
‫هذه ‪ ،‬إذ جعل الذهب مثًال للمعنى‪.‬‬

‫تنبيـــه آخــر ‪:‬‬

‫أراد الجرجاني من الفصل السابق أن ُيعّلم القارئ النظر الى‬


‫التراكيب من حيث هي تراكيب ال معاني !‬
‫وال فائدة من ذلك بالطبع إّال ما يحلم به الجرجاني من هجر األكل‬
‫للقرآن وترك التدبر في معانيه ‪ ،‬ولذلك اكثر ما استطاع من‬
‫الشواهد الشعرية االعتباطية المعنى وأنهى الفصل بدسيسة حيث‬
‫قال ‪:‬‬
‫( ‪ ..‬ليس كالمنا يفهم من مفردتين نحو ( قعد وجلس ) ولكن فيما‬
‫يفهم من مجموع كالم ومجموع كالم آخر ‪ ،‬نحو أن تنظر في قوله‬
‫تعالى ‪ ‬ولكم في القصاص حياة ‪ ‬وقول الناس ( قتل البعض إحياء‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪367‬‬
‫‪3‬‬
‫للجميع ) فأنه وأن جرت عادة الناس أن يقولوا في مثل هذا أنهما‬
‫عبارتان معبرهما واحد فليس هذا القول قوًال يمكن األخذ بظاهره إذ‬
‫المفهوم من أحد الكالمين غير المفهوم من اآلخر ) ‪ .‬انتهى !‬
‫وهكذا ينتهي الفصل من غير أن يوضح الجرجاني ما هي ميزة‬
‫أحدهما على األخر ‪ ...‬وهكذا يودع الجرجاني في خلد القارئ أن‬
‫تساوي العبارتين هو ( مما جرت عليه عادة الناس ) !‬
‫فمن هم الناس قبل الجرجاني الذين من عادتهم تساوي العبارتين‬
‫ـ عبارة الخالق وعبارة المخلوق ؟‬
‫اللهم غفرانك ‪ :‬نعم هناك فعًال من قال ( … لّو شِئنا لُقلنا مثَل‬
‫هذا إْن هذا إّال أساطيُر األو ّلين ) ‪ ..‬لكن الجرجاني جعلها من عادة‬
‫كّل الناس !‬

‫قول القصدية‬
‫في العبارة القرآنية والعبارة الجرجانية‬

‫أوحى الجرجاني للقارئ في المقارنة اآلخر أن العبارة القرآنية‬


‫كالم وكالم الناس كالم ـ ومن يدري لعله لوال الخوف أعلن أن‬
‫عبارة الناس افضل من العبارة القرآنية ‪ ..‬وكأنه يدفع القارئ دفع ًا‬
‫ليؤمن بذلك ‪.‬‬
‫ومن هنا نعلن للمأل أن هذه العبارة ما وجدت لها أثر ًا وال عينًا‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪368‬‬
‫‪3‬‬
‫في أي مصدر تاريخي أو معجمي أو لغوي وإنها من وضع‬
‫الجرجاني نفسه ! ألن عبارتهم الجاهلية هي ( القتل أنفى للقتل ) ‪.‬‬
‫ومن يدري لعل البعض ممن أغواه شيطان الجرجاني يظن فعًال‬
‫أن العبارة يمكن مقارنتها بالعبارة القرآنية ؟! وهي قوله ( َقتُل‬
‫البعِض إحياٌء للجميع ) ‪.‬‬
‫لذلك نقول أن عبارة الجرجاني أو ( الناس ) هي عبارة خاطئة‬
‫وال تساوي نقير ًا ال في عالم المعاني وال في عالم البالغة !‬
‫الن قوله ( قتُل ) بدأ بالقتل ‪ ..‬والقتل ظلم عظيم والبدء به جهل‬
‫في الُح كم ‪..‬‬
‫والعبارة القرآنية ذكرت ( القصاص ) والقصاص عقوبة على‬
‫القتل ال ابتداء في القتل فالفارق بينهما هو الفارق بين الحق‬
‫والباطل ‪.‬‬
‫وقوله ( قتل البعض ) من هو هذا البعض ؟ في حين خلت العبارة‬
‫القرآنية من ذلك فهل تنصح العبارة بقتل نسبة من الناس في كّل‬
‫زمان لكي يعيش اآلخرون ؟!‪.‬‬
‫وقوله ( إحياء ) للجميع ‪ ،‬هل الجميع موتى فيكون في قتل‬
‫األحياء إحياًء للموتى؟‬
‫وقوله ( للجميع ) أن كان يقصد الجميع من األحياء الباقين فكيف‬
‫يحييهم وهم إحياء أصًال ؟ وما عالقة ( الجميع ) بقتل البعض ؟‬
‫إنما العالقة مع البعض وإن كان القصد يحييهم دوم ًا فهو باطل‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪369‬‬
‫‪3‬‬
‫ألنهم ال بد أن يموتوا !‬
‫بينما ذكرت العبارة القرآنية أن ‪ ‬لكم في القصاص حياة ‪ ‬ـ‬
‫وحياٌة نكرة غير معّر فة وال معلومة والمعنى زيادة معينة في آجال‬
‫بعضكم من جهة قتل القاتل ـ فيقل لذلك القتل بهذا الردع ومن جهة‬
‫قلة عدد القتلة بالقصاص ومن جهة تطبيق العدل والحكم اإللهي ‪.‬‬
‫وقال ( لكم ) ولم يقل إحياء الجميع !‬
‫فأي أحمق في هذا العالم يقارن العبارة القرآنية المحكمة من‬
‫جميع جهاتها لغة ومعاني وألفاظ ًا ونسق ًا وجماًال بالعبارة الجرجانية‬
‫الكاذبة في كّل لفظ من ألفاظها المخزية بمعانيها المتناقضة في‬
‫داخلها ؟! وإن كنت تشك فتأمل وإن كنت تشك فترجم العبارتين الى‬
‫( كّفار ) من قوم آخرين وال تخبرهم بل سلهم فقط أيهما المحكمة‬
‫البليغة وأيهما الهذيان ؟‬

‫ال غيرة على القرآن وال غيرة على البالغة‬

‫فأين غيرة الجرجاني على الدين وعلى القرآن وقد ختم الفصل‬
‫اآلنف بمثل هذا اإليحاء الى تساوي العبارتين عند الناس ؟‬
‫أين هي َغ ير ُته على القرآن وقد اكتفى بالقول أن هذا االعتقاد‬
‫اليمكن أن يؤخذ به على ظاهره ‪ ،‬فلم يطلعنا على ظاهره فضًال عن‬
‫باطنه ؟‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪370‬‬
‫‪3‬‬
‫وقبل ذلك أين هي غيرته على البالغة ‪ ..‬وفي هذا األمر مجال‬
‫واسع إلظهار البراعة في البالغة ؟‬
‫كال ‪ ..‬إن المدافع عن أكذب الكالم وعن مقولة ( أحسن الشعر‬
‫أكذبه ) لن تطيعه نفسه للدفاع عن أصدقه ‪ !.‬ولو كان أبلغ الكالم‬
‫‪.‬‬
‫ومرت ألف سنة ولم يرفع أحد من تالمذة الجرجاني وما أكثرهم‬
‫عقيرته للدفاع عن اآلية أو للدفاع عن البالغة أو للدفاع عن‬
‫الصدق !‬
‫ومات سنة ‪ 471‬هـ ]‬ ‫[ ‪‬الجرجاني ولد سنة ‪ 400‬هـ‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪371‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .13‬زيد المنطلق وعمرو‬

‫يتلخص كالم الجرجاني في الفروق بين العبارتين ‪ ( :‬زيٌد منطِلق‬


‫) و ( زيُد الُم نطلق) في أن األولى تفيُد اإلخبار عن انطالق زيد ‪،‬‬
‫والثانية تفيُد اإلخبار عن أن المنطلق المعلوم انطالقه للسامع هو‬
‫زيٌد دون غيره ـ فتأمل تجد هذه الجملة وافية وإن هذا األمر واضح‬
‫بهذا السطر الذي كتبناه وغني عن شرح صفحتين كاملتين أبى‬
‫الجرجاني اّال أن يجعلهما بخصوص العبارتين ‪ !..‬فهو هنا يسهب‬
‫ليوضح الواضحات وهناك يصمت حينما يتعلق األمر بالمقارنة بين‬
‫الترهات واآليات البّينات ‪.‬‬
‫لكنه ختم الشرح بواحدة من مسوداته حينما أعلن أن العبارة‬
‫التالية ( زيد المنطلق وعمرو ) ال تّص ُح بأِّي حال من األحوال ‪ .‬هذا‬
‫نص كالمه ‪:‬‬
‫( ذلك ألنك أردت أن تثبت انطالقًا مخصوصًا قد كان من واحد‬
‫فإذا أثبته لزيد لم يصح إثباته لعمرو ثم إذا كان االنطالق من إثنين‬
‫فإنه ينبغي أن تجمع بينهما في الخبر فتقول زيد وعمرو هما‬
‫المنطلقان ال أن تفرق فتثبته أوًال لزيد ثم تجيء فتثبته لعمرو‪).‬‬
‫انتهى كالمه ‪.‬‬
‫إذن فالعبارة الصحيحة هي إحدى عبارتين ( زيد منطلق وعمرو‬
‫) للمعنى األول أو ( زيد وعمرو هما المنطلقان ) للمعنى الثاني أما‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪372‬‬
‫‪3‬‬
‫عبارة ( زيد المنطلق وعمرو ) فهي خاطئة من جميع الجهات ‪ ...‬ال‬
‫تصح خبر ًا عن الفاعل الذي هو إثنين كما تصح األولى وال تصح‬
‫خبر ًا عن الحال كما تصح الثانية ‪.‬‬
‫هذه هي براعة الجرجاني ! وهذه هي قدراته اللغوية !‬
‫ما درى أن السائل لو سأل ‪ :‬من المنطلق من الناس وأجابه‬
‫المجيب ‪ :‬زيٌد المنطلق ‪ ..‬ثم قال ‪ :‬وعمرو لصحت العبارة من جميع‬
‫الوجوه !‬
‫ولكان المجيُب قد أثبت أن االنطالق المعلوم وقع من اثنين األول‬
‫زيد والثاني عمروا فأي ابله في هذا العالم يحكُم على الجملة بالخطأ‬
‫وللجملة مجال واسع لالستعمال؟‬
‫فما أدراه أن المجيب ال يرى اال واحد ًا والناس في سباق مثًال‬
‫فقال ‪ :‬زيُد المنطلق ثم بعد لحظة رأى اآلخر فقال وعمرو ثم رأى‬
‫بعد ذلك الجرجاني منطلق ًا في غّيه وغروره وتبجحه فقال ‪..‬‬
‫والجرجاني ‪ ..‬فلماذا ال تقع إجابته صحيحة ؟‬
‫بل يصح أي عدد آخر معطوفًا على ( المنطلق ) االول ‪ ،‬بل يصح‬
‫لو قّدم الحال أو الخبر ‪ ..‬إذ لو سأل السائل ‪ :‬من المنطلق من الناس‬
‫وقال المجيب ‪ :‬المنطلق زيد وعمرو ومالك ‪ ..‬وسعيد ‪ ..‬الخ‬
‫لصحت العبارة ‪.‬‬
‫فانتبهوا يا أرباب العربية الى ( إمام بالغتكم ) ‪.‬‬
‫انتبهوا الى مقاصده األخرى من وراء ذلك والتي تجدونها في‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪373‬‬
‫‪3‬‬
‫الفصول فأن إيضاح هذا الكم الهائل من االعتباط من قبل رجل واحد‬
‫هو أمر غير معقول ‪ ،‬وإنما أذكر لكم نماذج وأوضح لكم المسالك ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪374‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .14‬نموذج آخر من لغويات الجرجاني‬

‫زعم الجرجاني في قول الشاعر ‪:‬‬


‫وجدته حاِض راه الجوُد والكرُم‬ ‫إذا أتيَت أبا مرواَن تسألُه‬
‫زعم أن ِغ نى الجملِة عن الواو ( وجد ُته َو حاضراه الجود والكرم‬
‫) له سببان ‪:‬‬
‫األول ‪ :‬أن وجدته هنا ليست مما تأخذ مفعولين ولكنها المتعدية‬
‫الى مفعول واحد كقولك ‪ ( :‬وجّدُت الضالة ) ‪ .‬والثاني أن لتقديم‬
‫الخبر الذي هو حاضراه تأثير ًا في الغنى عن الواو ‪.‬‬
‫وشرح ذلك بقوله ‪ :‬أنه لو قال ‪ :‬وجدته الجود والكرم حاضراه لم‬
‫يحسن حسنه اآلن وكأن السبب في حسنه مع التقديم أنه يقرب في‬
‫المعنى من قولك ‪ :‬وجدته حاضره الجود والكرم !‬
‫إّنا نسأل األمة اللغوية العربية واالستشراقية مع ًا عن معنى هذا‬
‫الهذيان ؟‬
‫كيف يكون الفعل ( وجدت ) هنا بمفعول واحد ؟ وهل يتم المعنى‬
‫بقوله ( وجدته ) حيث الضمير هو المفعول االول ؟ أم أنه ال يكتمل‬
‫اال بالجملة الخبرية التي هي موضع نصب على الحال تقوم مقام‬
‫المفعول الثاني ؟‬
‫وقارنه بقوله ‪ :‬وجدت الضالة ‪ :‬في حين أن الجملة مختلفة تمام ًا‬
‫‪ :‬فهنا وجد الضالة نفسها ال على حال معين والصحيح هو المقارنة‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪375‬‬
‫‪3‬‬
‫مع قولك ‪:‬‬
‫وجدت الضّالة غارقًة في النهر ‪ .‬فأنظر الى حيله ومكره وخداعه‬
‫ألنه من المحال أن تخفي على الرجل هذه األمور الظاهرة ‪.‬‬
‫وأفرد حاضراه الى ‪ ( :‬حاضره الجود والكرم ) إلثبات حسنه‬
‫وغناه عن الواو فما عالقة المفرد والمثنى بالموضوع المتحّدث‬
‫عنه ؟ أليس التقدير بالواو أو الغنى عنه يبقى هو نفسه ‪ :‬وجدته‬
‫وحاضره الجود والكرم أو وجدته حاضره أو وجدته وحاضراه أو‬
‫كما في البيت بغير واو ؟ ليست الجملة غنيًة عن الواو بل هي مع‬
‫الواو ذات داللة وبغيرها ذات داللة أخرى ‪ ،‬ومع اإلفراد لها داللة‬
‫ومع التثنية لها أخرى‪ !..‬وإنما البراعة هي في إيضاح هذه الفروق‬
‫الداللية المعلومة بالسليقة والتي ال يمكن للعوام التعبير عنها‬
‫بالرغم من شعورهم بالفوارق وُه َو أمٌر لم يفعله الجرجاني وال‬
‫تالمذته ‪ ،‬وال أسالف االعتباط وال أخالفهم ‪ .‬إن وجود الواو يفيد‬
‫في إيقاع الوجدان على الجود والكرم عطف ًا على وجدان الممدوح ‪،‬‬
‫وغياب الواو إنما يشعر بوجدان الجود والكرم حال وجدانه بغير‬
‫عطف وكأنهما أصبحا جزًء منه وحاًال متلبسًا فيه كّل حين ال ينتظر‬
‫حضورهما أو وجدانهما بعد وجدانه ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪376‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .15‬مقارنة أخرى غريبة‬

‫في ص ـ ‪: 219‬‬
‫في قولهم ( قمت ‪ ..‬وأّص ك وَج هه ) ـ قال الجرجاني ‪ :‬ليست الواو‬
‫فيها للحال وليس المعنى قمت صاك ًا وجهه ولكن ‪ :‬أصك وجهه !‬
‫ومن الذي قال أن الواو هنا للحال ليرد عليه الجرجاني ؟ ومن‬
‫هو الذي يشك أن المتحدث يريد وصف حدث مضى بتجسيده في‬
‫الحاضر وعطف الحركة على قمت فيبدأ باألمر الواضح وينتهي‬
‫دوم ًا بالخطأ الفاضح ‪:‬‬
‫فأراد أن يثبت هذا ( الجديد ) المكتشف ويبطل مزاعم قوم‬
‫( وهميين ) ال وجود لهم فقال ‪ :‬هو مثل قوله ‪:‬‬
‫فمضيت ثم قلت ال يعنيني‬ ‫ولقد أّم ر على اللئيم يسبني‬
‫قال وكما أن ( أّم ر ) ههنا بمعنى مررت فكذلك ( وأصك ) بمعنى‬
‫صككت !‬
‫ما عالقة هذا بذاك ؟ وما هذا التناقض حيث قال ليس هو صاك ًا‬
‫ولكن أصك ثم يقول بمعنى صككت !!؟‬
‫فان قوله ‪ :‬قمُت ‪ :‬حد ٌث وقع بالماضي وقوله وأصك ‪ :‬نقل من‬
‫الماضي الى الحاضر لتجسيد الحركة بحادث معين وقع سلف ًا‪.‬‬
‫أما البيت فمراده في المضارع وهو صفة مستمرة للشاعر ‪ .‬كونه‬
‫يمر على اللئيم دوم ًا وحاله أنه يسّبه ‪ ..‬وحال الشاعر دوم ًا أنه‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪377‬‬
‫‪3‬‬
‫يمضي يقول ال يعنيني !‬
‫وكان بمقدوره أن يقول ‪ :‬ولقد مررت على اللئيم يسبني ـ أي‬
‫وهو يسبني ولكنه كان سيحصر ذلك بواقعة واحدة معينة في‬
‫الماضي بينما هو يريد أن هذا الفعل يتكرر من اللئيم ـ وإن حاله‬
‫دائم ًا أنه يمضي ويقول ال يعنيني ‪.‬‬
‫نحن نناقش الجرجاني على قواعده وعلى مسّلمات القوم النحوية‬
‫والبالغية وأسرار فإن لجملة ( قمت ‪ .‬وأصك وجهه ) ‪ ..‬تفسير ًا‬
‫آخر على منهجنا ‪.‬‬
‫هذه العبارة وأمثالها ال زالت مستعملة يوميًا باللهجة العامية‬
‫بصوٍر مختلفة فيقول المعجب بنفسه مثلها كقولهم ‪:‬‬
‫( فقمت وأضربه على رأسه ) ـ وال يقول وضربته ! ومعناها ‪( :‬‬
‫فقمت "وحالي في القيام" أني أضربه على رأسه ) ‪ .‬وهذا على‬
‫تقديرنا الذي ينطوي على جملة ال ضرورة لذكرها تفسير ًا للفعل‬
‫المضارع ‪.‬‬
‫وكما ذكرت لك يحاول القائل نقل الذهن بالفعل المضارع لتصوير‬
‫الحال في الزمن الحاضر بدًال من الماضي الذي أكده الفعل الماضي‬
‫( قمت ) ‪ .‬فكأن السامع تصّو ر المشهد ‪ ،‬وعاد المتكلم ينقل الحدث‬
‫من مشهد معاين في الزمن الحاضر وهذا هو سبب االلتفات الزمني‬
‫الكثير التداول‪.‬‬
‫ولكن فهم النحويين القدامى ومن جاء بعدهم ( للحال ) أنه ال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪378‬‬
‫‪3‬‬
‫يجوز اّال عند النصب مثل ( قمت ضاربًا له على رأسه ) ـ استدعى‬
‫تفسير العبارة وتقدير زمن مغاير لزمنها وصرفها عن الحال وهو‬
‫خطأ ‪.‬‬
‫وحقيقة االمر أن الواو هي واو الحال بصوره المختلفة وهي‬
‫تتقلب ما شائت في التراكيب ‪ ..‬ومن هنا ذكرنا مرارا أن القواعد‬
‫النحوية وضعت جزافًا وبتعسف حتى إذا اسقط في أيديهم ورأوا أن‬
‫الشواذ عن القاعدة أصبحت اكثر من الجارية في القاعدة وضعوا‬
‫لها قواعد استثنائية أو تفسيرات جزافية مثل هذه وغيرها بالمئات‬
‫‪.‬‬
‫وهذا واضح من سوء تقدير الجملة ‪ ،‬والفعل المضارع ـ حيث‬
‫قّدره الجرجاني بالماضي على نسق قمت فقال ( قمت وصككت‬
‫وجهه ) !‬
‫ترى فما الذي جعل القائل يقول وأصك بدال من صككت ؟ وهل‬
‫كان يعجزه أن يقول ‪ ( :‬صككت ) ؟ وما الجديد الذي جاء به إذا‬
‫قّدر زمنًا مغاير ًا للزمن الذي قصده القائل ؟‬
‫إن هذا معناه أن الجرجاني لم يف ّس ر العبارة ‪ ..‬اللهم اّال كمن فسر‬
‫الماء بعد الجهد بالماء ! ألنه ناقض نظريته في النظم بتغيير نظم‬
‫اللفظ ‪.‬‬
‫فانظر الى تقديرنا للفعل وتقديره وقارن األمرين بنفسك ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪379‬‬
‫‪3‬‬
‫تنبيــــــــه ‪:‬‬

‫سقطت مرة أخرى نظرية الجرجاني في النظم وأتلفها بنفسه‬


‫حينما جعل نظم ( قمت وأصك وجهه ) هو نفس معنى نظم ( قمت‬
‫وصككت وجهه ) !!‬
‫انظر ص ـ ‪ 117‬من دالئل اإلعجاز ففيها يعرض الجرجاني معنى‬
‫النظم !‬
‫حيث قال ‪ ( :‬جاءني مسرعا ‪ ،‬وجاءني وهو يسرع ‪ ،‬وجاء وهو‬
‫يسرع ‪ ،‬وجاءني وقد أسرع ‪ ،‬وجاءني قد أسرع ‪:‬‬
‫فيعرف لكٍل من ذلك موضعه ويجيء به حيث ينبغي له ) ‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أن لكل تركيب من هذه التراكيب معناه وله موضعه !‬
‫فنسى الجرجاني ذلك كله وزعم أن أصك هو صككت !‬
‫مثلما نساها في عشرات المواضع األخرى ‪ ..‬مثلما نساها‬
‫عشرات التالمذة المتحمسين للجرجاني في مئات المواضع ‪ ،‬من‬
‫شروحهم في البالغة والخطابة والشعر وآيات القرآن واألحاديث ‪..‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪380‬‬
‫‪3‬‬
‫‪ .16‬اختيار عشوائي‬

‫الصفحة ‪: 123‬‬
‫فصل بعنوان ( مزايا في النظم بحسب المعاني واألغراض ) ‪.‬‬
‫‪ .1‬شرح صفحتين في مزايا النظم ‪ ..‬بكالم الطائل من وراءه‬
‫مطلق ًا ‪.‬‬
‫‪ .2‬ثالثة أبيات من الشعر القديم ‪.‬‬
‫‪ .3‬بيت للعباس ابن األحنف ‪ :‬قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ‪..‬‬
‫‪ .4‬شاهد ثالثة أبيات البن الدمينة ‪ .‬إلفات الى الفصل واالستئناس‬
‫في قوله ( تريدين قتلي قد ضفرت بذلك ) ‪.‬‬
‫‪ .5‬شاهد آخر ثالثة أبيات للشطرنجي على لسان ُعلية أخت‬
‫الرشيد ‪.‬‬
‫إلفات الى جملة قد احسب في قوله ‪:‬‬
‫قد كنت أحسب أني قد مألت‬ ‫ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه‬
‫يدي‬
‫‪ .6‬شاهد آخر ‪ :‬بيتان ألبي داود ( هكذا ) وهو األيادي شاعر‬
‫جاهلي ‪:‬‬
‫ولقد اغتدي يدافع ركني ‪..‬‬
‫‪ .7‬شاهد آخر البن البّو اب ‪ :‬أربعة أبيات آخرها ‪:‬‬
‫فأني ذلك الرجل‬ ‫وان قتل الهوى رجال‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪381‬‬
‫‪3‬‬
‫إلفات الى العجز ‪.‬‬
‫‪ .8‬شاهد آخر لعبد الصمد ابن المعذل ( ت ‪ 240‬هـ ) ‪ :‬آخره‬
‫يدعو وفوق الكبد اليسرى‬ ‫يرفع عيناه الى ربه‬
‫إلفات الى موضع يدعو‬
‫‪ .9‬شاهد آخر لجرير ‪ :‬آخره‬
‫صدع الزجاجة ما لذاك تداِن‬ ‫صدع الغواني إذ رمين فؤاده‬
‫إلفات الى ‪ :‬ما لذاك‬
‫خالصة الفصل ‪:‬‬
‫عدد الشواهد الشعرية ‪ 20 :‬بيت‬
‫عدد الشواهد القرآنية ‪ :‬ال يوجد‬
‫الموضوع ‪ :‬مزايا النظم بحسب المعاني واألغراض‬
‫اسم الكتاب ‪ :‬دالئل اإلعجاز ‍‬
‫إعجاز ماذا وإعجاز من ؟‬

‫تنبيــــه ‪:‬‬

‫قد تقول أن قول الشاعر ‪ :‬وان قتل الهوى رجًال فإني ذلك‬
‫الرجل‬
‫أجده كالما جميال ونظم ًا حسنًا‪ .‬ولكنك إذا حاكمته على الحق‬
‫والمنطق وجدته كالمًا كاذبًا فالمتكلم لم يقتل ومن هنا قال الجرجاني‬
‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪382‬‬
‫‪3‬‬
‫احسن الشعر أكذبه !‬
‫فهو يقصد هذه األصناف وأشباهها ‪.‬‬
‫أقول ‪ :‬سبحان ربك رب العزة عما يصفون ! وماذا كنا نتكلم‬
‫من أول ما ابتدأنا بكتاب النظام القرآني واللغة الموحّدة والمعنى‬
‫الفعلي لأللفاظ والحل القصدي والدالالت العامة ؟‬
‫ألم نقل انظر في األلفاظ كلها لفظ ًا لفظ ًا ‪ :‬فإذا نظرت في البيت‬
‫وجدت شرط ًا هو ‪ ( :‬إن قتل الهوى رجال ) ‪ .‬ثم جوابًا للشرط ‪ :‬فأني‬
‫ذلك الرجل ‪ .‬فلم يقتل الهوى رجًال بعد وإنما هو محمول على‬
‫الشرط فلم يكذب الشاعر ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪383‬‬
‫‪3‬‬
‫ألم نقل ثم انظر الى اللفظ ومعناه الجذري وقيمته قبل االستعمال‬
‫ثم أنظره في االستعمال ‪ ..‬فإذا فعلت وجدت ( قتل ) على األصل هو‬
‫إيقاف الحركة عّم ن وقع عليه الفعل وليس هو ( إهالك القتل‬
‫بإخراج الدم ) ‪ ،‬اال ترى أن الله تعالى قال ( فلم تقتلون أنبياء الله‬
‫) ـ وهم لم يقتلوا نبيًا منهم على المعنى االصطالحي ولكنهم أماتوا‬
‫سننهم وأوقفوا حركة شرائعهم فانظرلفظ " قتل" في معاني‬
‫الحروف ـ بل انظر الفعل ( ‪‬في اإلنكليزية والذي‬
‫هو نفس اللفظ بتغيير بسيط تجد أحد استعماالته الباقية هو ( أوقف‬
‫) ‪ ( . 1‬ثم انظر قوله ( الهوى ) وعمومه فلو قال ( الحب ) أو‬
‫( الغرام ) أو ( العشق ) الختلف المعنى اختالفًا شديد ًا وهي عندهم‬
‫مرادفات يحل بعضها محل البعض اآلخر ـ لكنه قال ( الهوى ) ـ‬
‫والهوى ـ والهواء من مصدر واحد ومعناه األصلي التخّبط واتباع‬
‫الخياالت واألوهام بال عقل أو رو ّية ـ ولكنه أطلق على المحب‬
‫التصافه بذلك ـ فقد صدق كّل الصدق في ذلك بل فلسفيًا طابق‬
‫الحكمة المعلومة من التناقض بين الحرية والوجود ـ حيث االلتزام‬
‫وجود والتخبط فناء ـ أو االلتزام بالعقل حركة وحياة ومجانبة العقل‬
‫توقف وموت فما تجده من جمالية وحسن في البيت إنما مرجعه الى‬
‫الصدق وصحة الوصف ودقة اختيار األلفاظ والتناغم والتالئم بين‬
‫السبب والنتيجة بصورة منطقية ‪ .‬واعلم أن للمنهج القصدي رأي‬

‫‪1‬‬ ‫أنظره في معاني الحروف من اللغة الموحدة ـ حرف القاف‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫‪3‬‬ ‫‪384‬‬
‫‪4‬‬
‫في البالغة خالصته أن الصدق ودقة الوصف وتوّخ ي الحقيقة‬
‫بشغف وقوة ينتج ال محالة كالمًا بليغ ًا فالبالغة ليست هدفًا وال‬
‫قصد ًا وال غايًة وال وسيلًة لبلوغ أمر ـ بل هي تحصيل حاصل‬
‫للصدق عند المتكلم ‪ ..‬وقد ذكرنا أن بالغة القرآن هي تحصيل‬
‫حاصل لصدقه المطلق وانطباقه على حقائق الموجودات بأسرها ‪،‬‬
‫بحيث أن المعنى الذي يشير الى حقيقة ال يمكن أن يشار إليه بدقة‬
‫وصدق اال بعبارة واحدة فقط فلسفيًا ومنطقيًا وكل عبارة غير تلك‬
‫ستكون كاذبة في جزء معين ولذلك صار القرآن ابلغ الكالم ألنه‬
‫أصدقه ‪ .‬هذا هو خالصة الرأي القصدي وهو نقيض البالغة‬
‫الجرجانية القائمة على الكذب والخلط بين المفردات بالمرادفات‬
‫والجمود على المعنى الذهني االصطالحي للمفردة ‪.‬‬

‫والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا‬


‫محمد النبي المختار وعلى آله الطِّيبين‬
‫الطاهرين األبرار‬

‫‪1‬‬
‫‪2‬‬ ‫‪385‬‬
‫‪3‬‬
1

1
2 386
3

You might also like