Download as docx, pdf, or txt
Download as docx, pdf, or txt
You are on page 1of 75

‫جامعة الجياللي بونعامة – خميس مليانة‬

‫كلية العلوم اإلنسانية واالجتماعية‬


‫قسم العلوم االجتماعية‬
‫شعبة تكوين ‪ :‬فلسفة‬

‫محاضرات في تاريخ الفكر السياسي‬


‫السنة األولى والثانية ماستر‬
‫تخّص ص فلسفة سياسية‬

‫الدكتور ‪ :‬سي بشير محمد‬

‫أستاذ محاضر في الفكر السياسي‬

‫‪1‬‬
‫تقديـــــــــم‪:‬‬
‫" الذي ال يحسن قراءة التاريخ يحكم عليه بإعادة أحداثه " سلمان العودة‬
‫إن الغاية من البحث في قضايا الفكر الفلسفي السياسي عبر التاريخ ليس هو مجّر د جمع لنظريات وأفكار اجتهد‬
‫فيها مجموعة من المفكرين والباحثين على مّر العصور والذين حملوا على عاتقهم هّم البحث عن حلول جريئــة‬
‫ألزمات أوطانهم كّل حسب زمانه ومكانه‪ ،‬وإّنما الغاية من ذلك يكمن في القابلية لتفكيك هذه األفكار وفهمها من‬
‫حيث تطّو رها وتأثرها بمختلف التيارات واالتجاهات الحضارية والتاريخية التي عرفتهــا البشــرية من العصر‬
‫القديم إلى يومنا هذا‪ ،‬وفي وسط هذا الزخم الكبير من النظريات واألفكار المتراكمـة منـذ أن بـدأ اإلنسـان يفكـر‬
‫فعليــا في تنظيم مجتمعــه بمجموعــة من القــوانين من شـأنها تهــذيب جمــوح الطبيعــة اإلنسـانية المّيالــة إلى حب‬
‫امتالك ما هو موجود لدى الغير وتفادي اصطدام البشر فيما بينهم وحل النزاعات نجد منهــا مــا هــو مــرحلي ال‬
‫يلبي إّال حلول تخّص ظرف محّد د في الزمن ومنها من األفكار من استطاع رصد الطبيعة البشــرية فغــدت تلــك‬
‫النظريات مرجعية أساسية في تــاريخ الفكــر السياســي وهي اليــوم ال تــزال محــل نقــاش وأخــذ ورّد من طــرف‬
‫المهتمين والمتخّصصين في هذا المجال‪.‬‬
‫‪ -1‬تعريف الفلسفة السياسية ‪:‬‬
‫إن الفلسفة السياسية‪ ،‬حسب ليوستروس‪ ,‬تهدف إلى اإلمساك "باألشياء السياســية" وإلى فهم معانيهــا‪ ،‬بحثــا عن‬
‫ماهيتها وحقيقتها‪ ,‬وهي كذلك تفكير وتأمل في القيم اإلنسانية‪ ,‬وهي قيم سياســية وأخالقيــة‪ ,‬كالمســاواة والعدالــة‬
‫والحرية والوحدة الخ…وبالتالي تتمحور الفلسفة السياســية حــول الغايــات المتوخــاة من الســلطة بصفتها األداة‬
‫الضرورية لتحقيق القيم‪.‬‬
‫وتحــاول الفلســفة السياســية أن تجيب عن الســؤال اآلتي ‪ :‬كيــف يمكن للقــوة أن تتوافــق مــع المعقوليــة في‬
‫المجتمعات‪ ،‬والسياسة في أكثر معانيها انتشارا هي علم القوة وتنظيمها في المجتمعات‪ ،‬أّم ا الفلســفة فهي تنظيم‬
‫مستمر لعملية التعقل واكتشاف المبادئ المنظمة للتطبيق العملي‪ ،‬ولّم ا كــانت األداة الــتي يمكن لهــا تحقيــق هــذا‬
‫التوفيق بين القّو ة والعقل في المجتمع هي الدولة‪ ،‬فقد يحدث أن تنجح الدولة في إخضاع القوة للعقل‪ ،‬وقد تهدف‬
‫إلى أن يكون مثلها األعلى هو تتويج للعقل مقعد القــوة‪ ،‬ولكن يحــدث في الغــالب أن تفشــل في ذلــك‪ ،‬ولقــد كــان‬
‫أفالطون هو أّو ل من عني بالبحث عن إمكانية هــذا التوفيــق بــل كــان أّو ل من دعــا إلى هــذا الهــدف في فلسـفته‬
‫السياسية‪.‬‬
‫كذلك فإن الفلسفة السياسية تتصف بطابعها المعياري) ‪ )NORMATIVE‬أي الذي يتجاوز البحث فيما هو‬
‫كائن إلى المثل العليا التي ينبغي أن تكون‪ ،‬لذلك لم يشك أحد من الفالسفة السياسيين في هذا الطــابع المعيــاري‬
‫وعملــوا جميعــا ابتــدءا من أفالطــون على تشــخيص أمــراض مجتمعــاتهم ووصــف الحلــول الخاصــة بعالجهــا‬
‫مستعينين في ذلك بالمبادئ العقلية التي تساعدهم على الحكم على األحداث وتنظيمها وكذلك فعل الفارابي حيث‬
‫بحث في مدينته الفاضلة ووضع لها الحل المثالي الذي رآه مناســبا وحــاول هــوبز في ق ‪ 17‬أن ينقــذ دولتــه من‬
‫الصراع الديني والحرب األهلية التي استعّر أوارها‪ ،‬وجاء لوك من بعده يناضل من أجل إرساء حقوق ملكيــة‬
‫األفراد و يظلها بحكم القانون و يدفع عنها أخطار الملكية المطلقة‪.‬‬
‫وبناء على دلك يقال عادة أّن الفلسفة السياسية تزدهر عندما ينتاب الدولة السقم فيأتي الفالسفة ويحّم لون أنفسهم‬
‫مهّم ة األطباء من حيث التشخيص ووصف العالج‪ ،‬وتتمّيز الفلســفة السياســية عن العلــوم السياســية بأّنهــا تتخــذ‬
‫منهجا في البحث مختلفا عن مناهج البحث العلمي‪ ،‬وهو المنهج الذي يمّك نها من التوصل إلى طبيعة المشــكالت‬
‫التي آثارها الفالسفة وتكشف عن طريقتهم في البرهنة عليها أو نقدهم لها وكل تجديد في هــذه الفلســفة إّنمــا هــو‬
‫ثمرة نقد الفالسفة لبعضهم ومراجعتهم لمن سبقوهم فدراسة تطّو ر الفكر السياسي يبّين لنا كيف نما فكر أرسطو‬
‫من خالل نقده ألفكار أفالطون ثّم تجاوزه‪ ،‬بل إّن تصّو ر روسو للســيادة في كتابــه العقــد االجتمــاعي لم يكن لــه‬
‫ليتاح له بغير أن يّطلع على فكر أرسطو وفلسفته وتصّو ره للدولــة وأثرهــا في تربيــة المــواطن واسـتفادته مّم ا‬
‫قّد مه سابقا بودان وهوبز من نظريات جديدة في السيادة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ -2‬مساهمة الحضارات الشرقية في الفكر السياسي‪:‬‬
‫جرت العادة لدى مفكري الغرب اإلقرار بأن اليونان هم مصدر كل الفكـر اليونـاني والفلسـفي العـالمي وتـبرير‬
‫ذلك يعود إلى اقتناعهم أن هده الحضارات غير ناضجة أو ناقلة لهذا الفكر والمؤمنون بكون اليونان هم مصدر‬
‫الفكر اإلنساني ينطلقون مّم ا عرف بالمركزية األوربية المقّر ة بأنهم منطلق كل شيء لكن القصد من وراء ذلك‬
‫هو االستعالء الحضاري للفرد األوربي أو الرجل األبيض الصالح دون غيره للفكــر والعلم والتفكــير أّم ا بــاقي‬
‫الشعوب فلها سوى التبعية والتنفيذ‪.‬‬

‫وفي هذا السياق بدأ كثير من مؤرخي الفلسفة يميلــون إلى القــول بــأّن نشــأة الفلســفة في بالد اليونــان في القــرن‬
‫السادس ق‪.‬م ليس بحقيقة نهائية حاسمة بقدر ما هو افتراض عملي و نقطة بدء مؤقتة في البحث‪ ،‬نسلم بهــا ألّن‬
‫الوثائق الخاصة بعلوم الحضارات الشرقية القديمة و فلسفتها ليست وافية وال هي واضــحة بالقــدر الــذي يســمح‬
‫بأن نقّرر بشكل حاسم أن بالد اليونان هي مهد الفلســفة و مبــدأ و أّنهــا أرض المعجــزة وإلى هــدا الــرأي يــذهب‬
‫المؤرخ الفرنسي الكبير إميل برهييه إذ يقول " إذا كنا نبدأ تاريخنا بطاليس فليس معنى ذلك أن نتجاهل التاريخ‬
‫القديم الذي تّم فيه تكوين الفكر الفلسفي ‪ ،‬وإنما لسبب عملي صرف هو أن الوثائق المكتوبــة عن حضــارات مــا‬
‫بين النهرين ليست كافية وينقصها الوضوح‪ ،‬كما أن الوثائق المتعلقة بالمجتمعــات البدائيــة ال تكفي بــدورها في‬
‫إرشادنا عن اليونان في طورها البدائي "‪.‬‬
‫كما يرى كذلك العالم والمؤرخ الهندي الكبير د‪ /‬ردا كريشنان في مقدمة كتابه الذي اشــترك فيــه مــع نخبــة من‬
‫كبار علماء الهند وفالسفتها عن ( تاريخ الفلسفة الشرقية والغربية ) يقول " أّنه يصدق على تــاريخ الفلســفة مــا‬
‫يصدق على العالم إذ يصفه أحد كبار شعراء الفرس من أّنه أشبه بمخطوط قـديم فقــدت أولى صــفحاته وآخرهــا‬
‫ومنذ أدرك اإلنسان مستوى الوعي بوجوده و بالعالم وهو يحــاول أن يكتشــف هــذه الصفحات المفقــودة " وفي‬
‫محاولة الباحثين إيجـاد تلـك الصفحات تمّس ك أكـثرهم بـالمعجزة اليونانيـة وقـالوا بـأّن منشـأ الفلسـفة هـو بالد‬
‫اليونان‪ ،‬وأقدم من تمسك بهذا الرأي هم فالسفة اليونان أنفسهم ومؤرخوهم وعلى رأس هؤالء القــدماء أرســطو‬
‫الذي أرجح الفلسفة إلى طاليس في القرن السادس قبل الميالد‪.‬‬
‫بالتالي‪" ،‬وعلى الرغم من أّن الفكر الفلسفي السياســي في الشــرق القــديم لم يــؤثر ولم يســاهم في تطــوير الفكــر‬
‫الفلسفي والسياسي الذي جاء فيما بعد‪ ،‬إّال أّنه عاد من جديد وساعد في إحياء الّتراث القديم‪ ،‬واســتطاع أن يــؤّثر‬
‫في الفكر السياسي الحديث عامــة‪ ،‬والفكــر السياسـي الفلسـفي المعاصــر بخاصــة‪ .‬حيث نجـد الطاويــة والبوذيــة‬
‫والكونفوشيوسية محل اهتمامات ودراسات من قبل المفّك رين في وقتنا هذا‪".1‬‬

‫أ‪ -‬الحضارة المصرية الفرعونية تتكون من خليط من األجناس ( الجنوب‪ ،‬السامية‪ ،‬الحامية‪ ،‬ليبيا ) وقد عرفت‬
‫هده الحضارة الكتابة الهيروغليفية وتعني الصور المقّد سة‪ ،‬وهم أّو ل من قّسم السنة إلى ‪ 12‬شهرا و‪ 24‬ساعة ‪،‬‬
‫إضافة إلى عّد ة اكتشافات و تنظيمات عملية و علمية و تربوية و دينية نلخص أهّم ها فيما يلي ‪:‬‬
‫*النظام السياس ي في مص ر القديم ة‪ :‬كانت الســلطة الحكوميــة تتكــون من ســلطتين وهمــا الســلطة التنفيذيــة‬
‫والسلطة القضائية‪.‬‬
‫أّم ا األولى فهي قائمة على أساس مركزية القرار وال مركزية التنفيذ تبدأ بالملك الذي ينظم األمور العامة للدولة‬
‫والمشاريع الكبرى ويهيمن على شؤون العالقات الخارجيــة كعقــد المعاهــدات وإبــرام االتفاقيــات‪ ،‬تعــيين كبــار‬
‫الموظفين والوزراء‪ ،‬يتفقد األشغال العامة في اإلدارات‪ ،‬وهو القائد األعلى للجيش‪ ،‬كما كان يتمتع بســلطة ســن‬
‫القوانين‪ ،‬ثم يأتي الوزير ومهامه الرئيسية تنفيذ كافــة الشــؤون اإلداريــة‪ ،‬تنظيم اإلدارة العامــة إلخ‪...‬ثم موظفــو‬
‫البالط ‪ ،‬اإلدارات المحلية وأخيرا حكم المقاطعات المحلية‬

‫‪ 1‬عبد المجيد عمراني‪ ،‬محاضرات في تاريخ الفكر الفلسفي والسياسي‪ ،‬منشورات الحبر‪ ،‬الطبعة ‪ ،2008 ،01‬الجزائر‪ ،‬ص‪09:‬‬

‫‪3‬‬
‫أما الثانية فلها أهمية وهي القضاء وقاضي القضاة يمثــل أهم رجــل في الدولــة بعــد الــوزير وتمتــع القضــاء في‬
‫مصر القديمة بنوع من االستقاللية وكانت المحاكمات تسير بدقة طبقا لإلجراءات القانونية‪.‬‬
‫* نظام الحكم واإلدارة ‪ :‬وفيه الملك الملقب بالفرعون وكنيته في مصر القديمـة وكـان يصطنع لنفسـه صـفات‬
‫األلوهية يسيطر على كل شيء ‪ ،‬بيده األمر والنهي ويمثل صورة اإلله في األرض‪ ،‬يأتي بعدها األمراء وكبــار‬
‫الموظفين والوزراء والكهنة وقادة الجيش المعيـنين من طـرف الملـك وحـده دون استشـارة ومعرضـين جميعـا‬
‫للعزل أوالقتل في أي لحظة‪ ،‬وأخيرا اإلدارة التي كان فيها للملك السلطة المطلقة في مقابل واجبات حتى ال يفقد‬
‫قداسته كالدفاع عن الدولة وزيادة رفاهية الشعب وتأمين وسائل الحياة وتوزيـع جـزء من المحصول الـزراعي‬
‫على أفراد شعبه وخزن الفائض لوقت الشّد ة والعمل أخيرا على توطيد أركان العدالة والحق‪.‬‬
‫* النظام االجتماعي والثقافي واالقتصادي ‪:‬‬
‫‪ -‬الش عب ‪ :‬ويتكــون من طبقــتين الحاكمــة وتمثــل األقليــة منهم مــوظفي اإلدارة والكتبــة وطبقــة عامــة الشــعب‬
‫‪1‬‬
‫كالفالحين والتجار والصناع‪....‬‬
‫‪ -‬األسرة ‪ :‬هي دعامة النظام االجتمـاعي تتـألف من الـزوج والزوجـة واألوالد وكـانت الحيـاة العائليـة منظمـة‬
‫تنظيما دقيقا‪ ،‬لألبوين سلطة على األبناء وللزوجة مكانة رفيعة كمــا أّك د ذلــك بعض المــؤرخين األلمــان ‪ " :‬إن‬
‫منزلة المرأة لم ترتفع لدى أي شعب قديم أو حديث مثلما ارتفعت لدى سكان وادي النيل " وكــانت المــرأة تقــوم‬
‫بأعمال البيت وتساعد الزوج في العمل الــزراعي وتمــارس بعض األعمــال الصناعية والتجاريــة وتتجـّو ل في‬
‫األسواق وتملك الموروث‪ ...‬وكل ذلك في حدود األخالق الفاضلة‪.‬‬
‫‪ -‬التعليم ‪ :‬تهتم األسرة بتنشئة أبناءها وتعليمهم‪ ،‬فتوكل مهمة التعليم للكتبة الممتازين الهدف من دلــك إعــدادهم‬
‫لتولي وظائف الكتبة في اإلدارات الحكومية‪ ،‬وكانوا يلقنون القراءة والكتابة وعلم الحساب إضــافة إلى السـباحة‬
‫ورمي النبال وآداب السلوك واللياقة لألبناء الوجهاء‪.‬‬
‫االقتصاد ‪ :‬كانت الزراعــة وتربيــة المواشــي قــوام االقتصاد المصري‪ ،‬إضــافة إلى صــناعة األثــاث واألواني‬
‫الفخارية والحجرية و صناعة الورق و األسلحة و السفن والمصنوعات المعدنية وغيرها‪....‬‬
‫ب‪ -‬حضارات ما بين النهرين ‪:‬‬
‫القصد هنــا نهــري دجلــة والفــرات ( العــراق حاليــا ) وعــددها خمســة ( الســومريون‪ ،‬األكــاديون‪ ،‬البــابليون‪،‬‬
‫األشوريون والكلدانيون )‬
‫‪ -‬البابليون أو دولة حامورابي ‪:‬‬
‫دامت ثالث قرون و شهدت وحدة سياسية ال مثيل لها بفضل ملكها الطمـوح حـامورابي ( ‪ 1670-1710‬ق م )‬
‫الذي حكم بابل ‪ 40‬سنة وقام بأعمال مجيدة خلدت في التاريخ ولم يخسر معركة واحدة في حياتــه واســتطاع أن‬
‫يوحد الدويالت وأقام األمن والنظام ونشـر العـدل والرخـاء ومن انجازاتـه أنـه ضـّم بالد األشـوريين إلى ملكـه‬
‫فسيطر على كل أراضي ما بين النهرين‪،‬حفر قنوات الري وأجرى الماء في أرجاء البالد‪ ،‬بــنى المعابــد لآللهــة‬
‫وأقام فوق الفرات جسرا واقتصاديا اهتم بالزراعة التي كانت هي البناء االقتصادي وصــناعيا فتمثــل في نســيج‬
‫القطن والصوف وصــباغة األقمشــة وتطريزهــا‪ ،‬صــناعة اآلجــر وكــان التطــور كــذلك تجاريــا وتبــادل الســلع‬
‫والمقايضــة مــع الهنــد ومصر وآســيا الصغرى‪ ،‬أمــا اجتماعيــا فكــان نظــام الــزواج عاديــا واإلخالص واجب‬
‫ومفــروض على الــزوجين إلخ‪ ....‬ويبقى قــانون حــامورابي من أعظم أعمالــه وقــد كتبت مــواده على اســطوانة‬
‫ارتفاعها ‪ 2.25‬م ومحيطها عند القاعدة ‪ 1.9‬م ونظمت هده القوانين في ‪ 46‬عمودا شملت حوالي ‪ 285‬مادة‪.‬‬
‫صاغ حامورابي ودّو ن هــده القــوانين باللغــة األكاديــة ونشــرها على النــاس لكي يمنــع األقويــاء من أن يظلمــوا‬
‫الضعفاء وينشر النور على األرض ويرعى مصالح الخلق وأّك د أن قانونــه تنزيــل ســماوي وهــو يتلقــاه من إلــه‬
‫الشمس‪.‬‬

‫‪ 1‬نجيب ميخائيل ابراهيم‪ ،‬مصر والشرق األعلى القديم‪ ،‬ط‪ ،2‬القاهرة‪ ،‬دار المعارف‪،1966 ،‬ص‪102-80 :‬‬
‫‪4‬‬
‫ج‪ -‬الحضارة الصينية ‪:‬‬
‫عــرفت الصين بفلسـفتها المتمثلــة في تعــارض واتحـاد العــاملين األساسـيين في الكــون أي عنصري الــذكورة‬
‫واألنوثة ( اليانغ و الين ) كما عرفت بظهور المعلم كنفوشيوس الذي قـّد م عــدة إســهامات في المجــال السياســي‬
‫وتنظيم السلطة والحاكم عليه أن يدّع م بثالثة عناصر أساسية وهي ( االقتصاد‪ ،‬الجيش‪ ،‬ثقة الشعب ) والمجتمع‬
‫ينقسم إلى طبقتين كبــيرتين‪ ،‬طبقــة الفالحين الســفلى وطبقــة النبالء العليــا وهم األشــراف بالوراثــة أمــا الجهــاز‬
‫اإلداري فنجد على قمة الهرم الملك ثم الوزير األول ثم الوزراء الثالث األكثر أهمية ‪ :‬وزير الزراعة والحرب‬
‫واألشغال العامة‪ ،‬أما قضائيا فتتراوح العقوبات ما بين أحكام الموت ووشـم الوجـه والملــك ال يتعــاطى القضــاء‬
‫بصورة شخصية إّال متى عوقبت الجريمة بالموت‪ ،‬ويمكن استبدال العقوبة بدفع مقابـل ذلـك من النحـاس‪ ،‬ومن‬
‫جانب الجيش فعلى كل أسرة أن تقّد م محاربا‪ ،‬وينقسم الجيش إلى فيالق والفيلق إلى كتائب والكتيبة على فرق‪...‬‬
‫‪ -‬الفلسفة ‪ :‬يعتبر كونفوشيوس والذي عاصر الوتسو وكان مخالف له في الفكر من أهم فالســفة الصين على‬
‫اإلطالق وله خمسة مؤلفات من بينها كتاب التحويل والتغيرات أوالتحويالت‪ ،‬حوليات الربيع والخريف إلخ أما‬
‫أفكاره الفلسفية فقد لعب كونفوشيوس أعظم األدوار في الحياة الصينية العقليـة والـتي تهـدف إلى حسـن القيـادة‬
‫وحكم الشعب استنادا إلى الدرس وترويض النفس الروحي‪ ،‬هذا الترويض الذي ال يعود بالنفع على صاحبه بل‬
‫عكس ذلك على اآلخرين فيسود بذلك التفاهم الذي هــو الدعامــة الكــبرى للنظــام العــام وهــذا يــدل علــة األهميــة‬
‫البالغــة الــتي أوالهــا كونفوشــيوس لإلنســان لــذا اعتــبر من الفالســفة اإلنســانيين عكس الوتســو الــذي كــان من‬
‫الطبيعيين وسيتطور هذا المفهوم خالل الحضارة اإلغريقية وهــذا دليــل أخــر على أن جــذور الفكــرة بــدأت من‬
‫الشرق ( الصين )‪.‬‬
‫والحكم المفضل عنده هو القائم على الفضيلة والخير‪ ،‬بدل التركيز على نظــام الحكم القــائم عن طريــق القــانون‬
‫الذي أساسه سلطة الحكام القائمة على فرض الخضوع للقـوانين عن طريـق القـوة والقهـر‪ .‬والقلب هـو مصدر‬
‫الخير وهو أساس بناء الدولة والحكومة والقلب الحي ال يكون إّال عن طريق المعرفة‪ ،‬ومن ثم فـإن العالقـة بين‬
‫المعرفة والقلب عالقة متالزمة وذات تأثير متبادل‪ .‬و" القلب النشــط يــدفع إلى البحث عن المعرفــة‪ ،‬والمعرفــة‬
‫تدفع إلى النشاط عن طريق اإلرادة المخلصة " هدا يعني أن دراسة الدولة أو الحكومة عنده ال تتم إال من خالل‬
‫دراسة األفراد‪ ،‬فإذا صلح الفرد صلحت الحكومة والعكس‪ ،‬ومنه جاءت مقولته المشهورة ( المعرفــة األساســية‬
‫هي معرفة الناس من وماذا يكون ؟ ) ‪ .‬أما الحكومة فوظيفتها إصدار القوانين ‪ ،‬جمع الضرائب‪ ،‬بناء المــدارس‬
‫والمعابد وتنظيم العمل واإلنتــاج وهكــذا نصل في الختــام أن رؤيــة كونفوشــيوس لإلنســان والحيــاة قائمــة على‬
‫اعتباره مصدر كل فكر وكل حركة في الواقع‪ ،‬والمعرفة هي منطلق اإلنسان لرؤية األشياء عن طريــق القلب‪،‬‬
‫فإذا صلح هذا القلب صلحت األسرة والمجتمع واستقامت شؤونه بما في ذلك السياسة‪.‬‬
‫ويرى من جهة أخرى أن سن القوانين من طــرف الحـاكم ليس لهــا تــأثير على سـلوك المواطــنين ‪ ،‬بينمــا يمكن‬
‫للمعلمين والفالسفة تغيير اإلنسان عن طريق تعليمه ودفعــه إلى تنقيــة نفســه ومنــه تبــدو أولويــة المعرفــة عنــده‬
‫لتشكيل المجتمع السياسي وفيما يخص سبب رفضه لوظيفة حكومية يقول " أن تكون ابنا جيدا وأخا جيدا فــذلك‬
‫يساوي المشاركة في الحكومة ‪ ،‬أال ترون كم هي الحاجة عديمة لممارسة الوظيفة " ‪.‬‬
‫د‪ -‬الحضارة الهندية ‪:‬‬
‫‪ -‬الدولة ‪ :‬نظام ملكي تتكافأ فيه ثالث سلطات ‪ ،‬سلطة الملك ورجال الكهنوت وســلطة الشــعب ويخضــع هــذين‬
‫األخيرين للملك‪ ،‬وللشعب كلمة في الحكم حيث يجتمع في مكان خصوصــي ويكــون مــا يســمى بمجلس الشــعب‬
‫الذي يحتوي على الشباب والكهول وأفراد القبائل و سكان القرى‪.‬‬
‫‪ -‬السلطة التنفيذية ‪ :‬منوطة بالملك ويمكن للمجلس الشعبي إصدار بعض األحكام ‪.‬‬
‫‪ -‬النظام القضائي ‪ :‬غير واضح ‪ ،‬ومع هذا فالجرائم تخضــع للعقوبــات الــتي يفرضــها وينفــذها الشــخص الــذي‬
‫هضمت حقوقه ( يقّد ر ثمن دم اإلنسان بمائة بقرة عندما تحدث جريمة قتل )‬
‫‪ -‬األسرة ‪ :‬تفضل الذكور على اإلناث ‪ ،‬وتقام طقوس عند والدة الذكور ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ -‬الديانة ‪:‬‬
‫* الجاينية ‪ :‬تقوم على االعتقاد بأن كل ما هو موجود في الكــون أزلي حــتى المــادة وأن األرواح تحتفــظ بنفس‬
‫هويتها في التقمصات المتتالية التي تترتب عن نتائج السلوك مجتمعــة ‪ ،‬ويمكن بعــد تســعة تقمصات الوصــول‬
‫إلى النيرفانا أي الخالص من الجسد والمادة‪.‬‬
‫* البوذية ‪ :‬ترتكز تعاليم هذا الدين على الفلسفة البراهمتية فحسب بــوذا هنــاك أربــع حقــائق ســامية مفادهــا أن‬
‫الحياة ضرب من األلم وأن الشهوة هي سبب األلم ولتوقيف ذلك يجب القضاء على الشــهوة باالنقطــاع والعزلــة‬
‫والخالص مّم ا يشغلنا عن شؤون العيش‪ ،‬وقد صاغ بــوذا خمس قواعــد خلقيــة للهدايــة وتــأمين الحيــاة الســليمة‬
‫وهي ‪:‬‬
‫‪ -1‬ال تقتل كائنا حيا‬
‫‪ -2‬ال تأخذ مّم ا ليس لك‬
‫‪ -3‬ال تكذب‬
‫‪ -4‬ال تشرب المسكرات‬
‫‪ -5‬ال تقم على دنس‬
‫كما يوصي كذلك بالتغلب على الغضب بالشفقة وعلى الشر بالخير وعلى الكراهية بالحب وقد رفض بوذا نظام‬
‫الطبقية ومبــدأ التضــحية في سـبيل اآللهــة‪ ،‬وآمن بمبــدأ التقّم ص كطريــق لتحقيــق النيرفانــا أو اتحـاد الفــرد باهلل‬
‫والحصول على السعادة الكلية بعد الموت‪.‬‬
‫* البراهميــة أو الهندوكيــة ‪ :‬هي خليــط من العقائــد والطقــوس يلتقي جميعهــا عنــد االعــتراف بنظــام الطبقــات‬
‫وبزعامة البراهمة وتقديس البقرة باعتبارها تمثل األلوهية وبمبــدأ التقّم ص وكــان اآللهــة الهنــدوكيين يتمّي زون‬
‫بكثرة أعضائهم الجسدية و‪ -‬براهما ‪ -‬كبير آلهتهــا وكــانت لــه أربعــة وجــوه ويســيطر على الكــون ثالثــة آلهــة‪:‬‬
‫براهما وهو الخالق وشيفا ( إله الحب ) وهو الحافظ وقشنا وهو المدّم ر‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬الحضارة الفارسية ‪:‬‬
‫‪ -‬نظام الحكم ‪ :‬كانت حياة الفرس سياسية حربية أكثر منها اقتصادية وذلك باعتمادها على القوة العسكرية كان‬
‫الملــك يقــف على رأس اإلمبراطوريــة ويلقب بالمحــارب ‪ ،‬ولمــا كــان هنــاك ملــوك يحكمــون أجــزاء من‬
‫اإلمبراطورية‪ ،‬فقد لقب ملك فارس بالملك العظيم أوملك الملوك ويتمتع بالسلطة المطلقة وهي قائمة على القــوة‬
‫والبطش‪ ،‬تتمتع كل والية بقسط من الحرية منها ‪ :‬استعمال لغتها المحلية وممارسة عاداتهــا وتقاليــدها الخاصــة‬
‫ال سيما من الناحية الدينية وقد نجح هذا األسلوب نجاحــا عظيمــا خاصــة لمــا أبقــوا ملــوك فــارس بعض األســر‬
‫الحاكمة في الواليــات تقــوم بمهمــة الحكم نيابــة عنهم وقــد اقتبســت رومــا قســطا كبــيرا منــه في إمبراطوريتهــا‬
‫الواسعة ‪ ،‬إنه نوع من الحكم الذاتي أو الحكم المحلي واعتماد القوانين الوضعية التي تتماشى مع عادات وتقاليد‬
‫وأعراف كل والية‪.‬‬
‫‪ -‬الجيش ‪ :‬اهتمت فارس بالجيش لطبيعة كيانها العسكري حيث فرضت الجندية على كــل ذكــر صــحيح الجســم‬
‫سنه بين ‪ 15‬و‪ 50‬سنة ولم يعفوا أحدا منهم مهما كانت الظروف واألسباب‪.1‬‬
‫د‪ -‬الحضارة الفينيقية‪ :‬هم قبائــل ســامية عــرفت بالكنعــانيين نــزحت من شــبه الجزيــرة العربيــة وتم اخــتراع‬
‫األحرف األبجدية في هذه الحضارة حوالي القرن الثاني عشر ق‪.‬م وكــانت لهم عــدة مسـتعمرات على حوضــي‬
‫المتوسط الشرقي والغربي إضافة إلى قرطاجة‪.‬‬
‫‪ -‬التنظيم االجتماعي و السياسي ‪ :‬وينقسم المجتمع الفينيقي إلى طبقتين ‪ ،‬طبقة األشراف وتضم الملك و العائلة‬
‫المالكــة والنبالء والكهنــة والقــادة العســكريين‪ ،‬أمــا الطبقــة العامــة فتضــم التجــار والصناع والفالحين والعبيــد‬
‫ولإلشارة فإن العبيد في هذه الحضارة لهم بعض االمتيازات منها حق الزواج وحق التملك‪....‬‬

‫‪ 1‬الجماهيرية العربية الليبية اإلشتراكية العظمى‪ ،‬أمانة اللجنة الشــعبية العامــة للتعليم والبحث العلمي‪ ،‬الحض ارة الليبي ة والحض ارات الش رقية في‬
‫العصور القديمة‪ ،‬مصرانة "ليبيا"‪ ،‬الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع واإلعالن‪ ،1988-1987 ،‬ص‪.39 :‬‬
‫‪6‬‬
‫أما سياسيا فكان النظام الملكي هو السائد كباقي الحضارات الشرقية التي سبقتها بحيث كانت كــل مدينــة تشــكل‬
‫دولة قائمة بذاتها وعلى رأسها ملك وهــذه الملكيــة هي أشــبه مــا تكــون بالملكيــة الدســتورية في وقتنــا الحاضــر‬
‫ودستور المدينة ‪-‬الدولة‪ -‬الذي يمثل مجمـل األعـراف والتقاليـد‪ ،‬يجب أن يقـترن بموافقـة مجلس الشـيوخ الـذي‬
‫يضم حوالي ‪ 300‬عضو يتم انتخابهم من طرف الشعب وهم من الطبقة األرستقراطية والملك ينحدر من ساللة‬
‫محترمة ومقّد سة والحكم الملكي وراثي وفي حالة عدم وجود األنسب من العائلة الحاكمة لتــولي الحكم يلجــأ في‬
‫هذه الحالة إلى خارج العائلة للبحث عن حاكم تتوفر فيه شروط الحكم ‪.‬‬
‫من هنا نستنتج أننا بصدد االنتقــال من النظــام الملكي إلى النظــام الدســتوري المعــروف في األنظمــة الحديثــة‪،‬‬
‫وهذا االنتقال أملته بطبيعة الحال عّد ة ظروف منها االجتماعية والسياسية واالقتصادية وغيرها‪ ،‬كما أّن ه يوجــد‬
‫على رأس الدولة قاضيان‪ ،‬واحد يتوّلى األمور اإلدارية بينمــا يتــوّلى اآلخــر أمــور القضــاء‪ ،‬وهمــا معينــان من‬
‫طرف مجلس الشيوخ لمّد ة سنة قابلة للتجديد‪ ،‬إضافة إلى قائد الجيش الذي له صالحيات أخرى ‪.‬‬

‫‪ -3‬الفكر السياسي في الغرب القديم ( اإلغريق ) * المدينة أو دولة المدينة‪:‬‬


‫يجب التمييز في البداية بين المفهوم الحالي للمدينة والمفهوم اإلغريقي ( ‪ ، ) polis‬فالمدينة اإلغريقية كناية عن‬
‫دويلة نواتها المدينة بمفهومها الحالي وتتبعها المدن الصغيرة والقــرى المجـاورة وعنــدما نقــول مدينــة أثينــا أو‬
‫مدينة إسبارطة نعني بذلك دولة أثينا أو دولة إسبارطة وجاء اختيارنا لدراسة دولة المدينة (أثينا) لما امتزت بــه‬
‫هذه الدولة من ممارسة سياسية ونموذج ديمقراطي فريد جعلها تكون النواة األولى في مناقشة القضايا السياسية‬
‫واتخاذ القرارات بطريقة حّر ة وديمقراطية‪ ،‬أي أنها خلقت األجواء المناسبة للمشاركة السياسية‪.‬‬
‫تجربة أثينا السياسية ناجحة ألن المفكـرين اليونـانيين اعتمـدوا على منهج المالحظـة والتخطيـط لكي يضـمنوا‬
‫للقبائل اليونانية االستقرار السياسي والتغلب على الصراعات االجتماعية التي كانت موجودة و التي كانت تقف‬
‫أمام تقدم المجتمع‪ .‬إّن اإلشكال الذي يمكننا طرحه في هذا المقام هو ‪ :‬إذا كانت أثينــا تعتــبر نموذجــا ديمقراطيــا‬
‫ناجحا‪ ،‬فما هي الظــروف الــتي سـاعدتها في هــذا النجـاح ؟ ومــا هي المؤسسـات الــتي كّرســت هــذه الممارسـة‬
‫الناجحة ؟‬
‫أ‪ -‬الظروف التي ساهمت في ظهورها ( اجتماعية ‪ /‬اقتصادية ‪ /‬الثقافية ‪/‬البيئية )‬
‫‪ -01‬الظروف االجتماعية ‪ :‬بما أّن الممارسة الديمقراطية أو السياسة لم تكن من نصيب جميع سكان أثينا وجب‬
‫إذن معرفــة تركيبتــه الســكانية ويجب أن نعلم أّن ســكان المدينــة لم يكونــوا متســاوين في الحقــوق والحريــات‬
‫والممارسة السياسـية فـالمواطنين وحـدهم كـانوا يتمتعـون بكامـل الحريـات والحقـوق وعـددهم ضـئيل وكـانت‬
‫العائالت األثينية هي المسيطرة على المدينة‪ ،‬فهي الفئة الـتي تحكم وتسـير البالد‪ ،‬حيث يقتسـمون إدارة شـؤون‬
‫المدينة حسب قدراتهم البدنية ومؤهالتهم العقلية والعلمية‪ ،‬ألن المفكرين اليونانيين كانوا يبحثــون على الوظيفــة‬
‫التي تالءم كل فرد ويستطيع القيام بها على أحسن وجه‪ ،‬أما الطبقة الثانية فهم األجانب الذين يعيشــون في أثينــا‬
‫قصد تنشيط التجارة الخارجية‪ ،‬وميزتهم أنهم أحــرار وال يخضــعون أليــة ســلطة حاكمــة في أيــة مدينــة‪ ،‬إال أن‬
‫بقاءهم بدولة المدينة يتوقف على حسن تصّر فهم وعدم قيــامهم بأعمــال تتنــافى والمصلحة العامــة وبــالرغم من‬
‫الدور االقتصادي الذي تلعبه هذه الفئة فهي ال تتمتع بأية حقوق سياسية‪ ،‬وفي األخير نجد طبقة العبيــد ومهمتهــا‬
‫العمل على إرضاء وإشباع حاجيات طبقتي األحرار واألجـانب‪ ،‬وهي مثـل الطبقـة الثانيـة محرومـة من جميـع‬
‫الحقوق السياسية‪ ،‬بل هي بمثابة أدوات العمل وأداة طيعة في أيدي العائالت واألسر الراقية‪.1‬‬
‫‪ -02‬الظروف االقتصادية ‪ :‬حاول قادة دولة المدينة أن يضمنوا لدولتهم االكتفاء الذاتي من الناحيــة االقتصادية‬
‫ويبتعدوا عن كل شيء يحد من استقاللهم وذلك بإتباعهم العزلة التي سببت لهم بعض المشاكل بحيث تؤدي هذه‬
‫العزلة إلى االنكماش والضعف وبالتالي القضاء عليها والذي أّد ى كذلك على تعطيــل علمي لعــدم وجــود تبــادل‬
‫لألفكار وتعاون متناسق في الميادين الثقافية والعلمية‪.‬‬

‫‪1‬عمار بوحوش‪ ،‬تطّو ر النظريات واألنظمة السياسية‪ ،‬ط‪ ،2‬الجزائر‪ ،‬المؤّسسة الوطنية للكتاب‪ ،1984 ،‬ص‪.55:‬‬
‫‪7‬‬
‫‪ -03‬الظروف الثقافية ‪ :‬عرف الفكر اليوناني انطالقة ضخمة خالل القرن الخامس قبل الميالد نتيجة التحوالت‬
‫االقتصادية واالجتماعية التي حــدثت في أثينــا خاصــة وكــانت هــذه المدينــة في أوج ازدهارهــا واعتمــدت بنيــة‬
‫اقتصادية ديمقراطية وهذه البنيــة هي الــتي سـيطرت على حركــة األفكــار إمــا بواسـطة زعمائهــا ومفكريهــا أو‬
‫بواسطة األغراب الذين يأتون إليها‪ ،‬وقد عملت الظروف الثقافية في بروز أفكــار وعلــوم شــملت جــل مجــاالت‬
‫الحياة حتى المجال الميتافيزيقي‪.‬‬
‫كما عرفت الحضارة اإلغريقية نهضة أدبية وفلسفية مثل الشعر والشعر الغنــائي واشــتهر العديــد من نبغــوا في‬
‫األدب المسرحي أمثال أسخيلوس وسوفوكليس وأريستوفانيس ويبقى هيرودوتس الملقب بــأبي التــاريخ من أهم‬
‫المؤرخين الذين استطاعوا أن يصفوا ويؤرخوا األحداث بصورة ســهلة وبســيطة جعلت كتاباتــه تحتــل مركــزا‬
‫الئقا وال ننسى الفلسفة التي بلغت ذروته مع العمالقــة الثالثــة ( سـقراط‪ ،‬أفالطــون‪ ،‬أرسـطو) وفـاخر اإلغريــق‬
‫بأنهم أنجبوا في عصر واحد ما عجزت عنه بقية العصور واألمم ‪.‬‬
‫ب‪ -‬التنظيم السياسي لدولة المدينة ووظائف المؤسسات السياسية‪:‬‬
‫ما مّيز النظام السياسي لدولــة المدينــة هي تلــك الممارســة الديمقراطيــة المباشــرة‪ ،‬فكــان األفــراد يحضــرون‬
‫االجتماعات العامة ويختارون بأنفسهم من يثقون فيهم ليقوموا باألدوار السياسية وقد تطورت هذه الديمقراطيــة‬
‫المباشرة في وقتنا الحالي إلى نظام التمثيل النيابي وهذا بعدما أصبح من الصعب على الـدول الحديثـة اسـتدعاء‬
‫مواطنيها ليجتمعوا في مكان واحد والتباحث في قضايا تهم مــدينتهم‪ ،‬وقــد ع ـّو ض هــذا بممثلين عن ســكان كــل‬
‫مقاطعة إلبداء اآلراء في جميع المواضــيع المهمــة وعمومــا فقــد دولــة المدينــة ممارســة الســلطة السياســية عن‬
‫طريق الهيئات التالية ‪ :‬الجمعية العمومية ( اإلكليزيا ) ‪ ،‬المجلس النيابي ‪ ،‬المحاكم‬
‫خالصـــــة ‪:‬‬
‫في األخير ومن خالل نموذج أثينا الديمقراطي‪ ،‬وكما يقال فإّن الديمقراطية هي أفضل األنظمة السيئة‪ ،‬نقول أن‬
‫ديمقراطية أثينا كانت طبقية بحيث فتحت األبواب أمام المواطن األثيني ليتبوأ أسمى المراتب دونما تمّي ز طبقي‬
‫أو مالي‪ ،‬فالكفاءة هي الشرط األساسي واالختيار عن طريق القرعة كان يعد الجميع بدور ما‪ ،‬ثم إّن المناقشات‬
‫المفتوحة أما الجميع هي غاية ما يصبو إليه أي نظلم ديمقراطي فغدا كل أثيني يستمتع بما لسواه من حقوق أمام‬
‫القانون ويعلل النفس بالوصول يوما ما إلى مرتبة الحاكم أو القاضي أو القائد ‪....‬‬
‫‪ -4‬الفكر السياسي عند أفالطون‪:‬‬
‫كان عمل أفالطون السياسي عمال ضخما‪ ،‬وإذا كانت بعض أفكاره الشخصية مشابهة لآلراء التي سبقته‪ ،‬فإن‬
‫األفكــار الــتي كــانت منطلقــا لهــا قــد جعلت منــه أحــد معلمي الفلســفة السياســية الغربيــة ومن أعظم المفكــرين‬
‫السياسيين اإلغريق‪.‬‬
‫إّن للثورات الداخلية واشتداد التنافس على السلطة بين الطبقات االجتماعيــة والحــروب الــتي دارت رحاهــا بين‬
‫أثينا وإسبارطة والتي دامت حوالي ربع قرن وسقوط أثينا على يد إسبارطة وقيام حكم أرستقراطي وقيــام عــدد‬
‫من الشخصيات بمؤامرات وإعدام سقراط واستغالل الظروف العويصة التي مرت بها المدينة لصالح طبقــات‬
‫معينة‪ ،‬كل هذه األمور جعلت أفالطون يبتعــد عن المســرح السياســي بــالرغم من الطمــوح الــذي كــان يــراوده‪،‬‬
‫ولعله اتخذ هذا القرار لّم ا شعر أن سوء النظام السياســي يرجــع أساســا إلى انخفــاض المســتوى الثقــافي للطبقــة‬
‫الحاكمة‪ ،‬واإلشكالية التي يمكننا طرحها في هذه الدراسة هي ‪ :‬ما هي األفكــار واآلراء السياســية الــتي أتى بهــا‬
‫أفالطون ؟ بمعنى أخر‪ ،‬هل المدينة الفاضلة هي النموذج البديل لفساد األنظمة السابقة ؟ وأخيرا‪ ،‬هل تّم تجســيد‬
‫أفكار أفالطون على أرض الواقع ؟‬
‫أ‪ -‬إنتاجه الفكري‪:‬‬
‫يقول أفالطون بأن العلم والمعرفة ال يمكن فصلهما عن أّي نظام سياسي عادل‪ ،‬وهو كأســتاذه ســقراط ال يثــق‬
‫في الديمقراطية‪ ،‬واتهم على اّنه من بين المدافعين عن الديكتاتورية وقبل التفصيل في إنتــاج أفالطــون الفكــري‬

‫‪8‬‬
‫يجب التـذكير هنـا على أننـا سـنركز االهتمـام على الجـانب السياسـي أي مسـاهمة أفالطـون في ميـدان العلـوم‬
‫السياسية و باألخص سنرى من أعماله أهم الكتابات التي تطرق فيها إلى الجانب السياسي وهي ثالث ‪:‬‬
‫‪ -1‬اعتمد في كتابه الجمهورية على حوار أجراه على لسان سقراط وتناول فيه دراسة الرجــل الصالح والحيــاة‬
‫الصالحة التي يجب أن تكون في دولة صالحة ودرس معرفة ماهية الخير وسبيل الحصول عليه‪ ،‬كما تناول كل‬
‫النشاط الفردي والجمــاعي‪ ،‬وعلم الخالق واالقتصاد والفن والتربيــة والفلســفة‪ ،‬ويبقى في هــذا الكتــاب طغيــان‬
‫نظرية واحدة وهي الحياة السياسية في دولة المدينة الشيء الذي جعل أفالطون يبحث عن نظريــة ثانيــة بســبب‬
‫قصور النظرية األولى كما يقول أرسطو والفكرة األساسية في الجمهورية هي وحي من نظرية أسـتاذه سـقراط‬
‫القائلة بأّن الفضيلة هي المعرفــة‪ ،‬وقــد تعــززت هــذه الفكــرة لديــه بخبرتــه السياســية التعيســة والمخيبــة لآلمــال‬
‫وتبلورت بإنشاء األكاديمية لتنمية روح المعرفة الحقّـة كأساس لفكرة فلسفة صناعة الحكم‪.1‬‬
‫‪ -2‬أّم ا رجل الدولة أو السياسي الذي كتبــه بين المحــاورتين ( الجمهوريــة والقــوانين ) وفيــه تراجــع عن بعض‬
‫أفكاره التي تضّم نها كتاب الجمهورية نظــرا لتناقضــها مــع الشــعور الســائد لــدى األثينــيين خاصــة فيمــا يتعّل ق‬
‫بالممارسة الديمقراطية‪ ،‬كما أنه غّير رأيه بعــد أن خــف حماســه للحكم الفيلســوف وكــانت مناســبة كتابــه رجــل‬
‫الدولة الفترة الممتدة ما بين ‪ 367‬ق‪.‬م و‪ 361‬ق‪.‬م وهذا نتيجة خيبــة أملــه في الحكــام المســتبّد ين الــذين عايشــهم‬
‫وأدوا بحكوماتهم إلى اإلفالس واالنقراض ويرجع هذا إلى جهل الطبقة الحاكمة ويعطي مثــال على ذلــك بدولــة‬
‫إسبارطة‪.‬‬
‫‪ - 3‬كان القوانين أو النواميس آخر كتاب أفالطون الذي كان آنذاك شيخا فكانت أفكاره أكثر واقعية ومن خاللهــا‬
‫اعترف بوجوب سيادة القانون أي أّنه أعــاد االعتبــار للقــوانين الدســتورية الــتي هي جــزء ال يتجــزأ من الثقافــة‬
‫العامة لألثينيين ونقطة تحّو ل أفالطون هي خضوع الحاكم الفيلسوف والمحكومين للقانون والدستور‪.2‬‬
‫ب‪ -‬الجمهورية الفاضلة‪:‬‬
‫اتبع أفالطون المنهج العلمي في كتابه الجمهورية حتى تكون بذلك نظريته صــورة لدولــة مثاليــة وليس مجــرد‬
‫وصف لدولة قائمة‪ ،‬وللعلم فـإن أفالطـون اسـتعان بـالعلوم الطبيعيـة والهندسـة لمناقشـة األفكـار السياسـية وقـد‬
‫استعان بعلماء الهندسة من المدرسة الفيتاغورية في أكاديميته بل أنه فرض على من يدخل األكاديمية أن يكــون‬
‫عارفا بالرياضيات والهندسة وقد ركــز في جمهوريتــه الفاضــلة على الحكمــة والشــجاعة والعفــة والعدالــة وقــد‬
‫وضع تنظيما خاصا بهذه الجمهورية وأن يجعل من التركيبــة البشــرية مركــز اهتمامــه فيم يخص تربيــة النشء‬
‫وتعليمه‪ .‬وتبدأ هذه النظرية بتقسيم المجتمع إلى ثالث طبقات ‪:‬‬
‫‪ -1‬طبقة الحكام ومهمتها الرسمية السهر على المصلحة العامة وهي أهم الطبقات ألنها تمثل الفالســفة الحكمــاء‬
‫وهم بذلك نخبة المجتمع‪.‬‬
‫‪ -2‬طبقة الحراس أو المحاربين ومهمتها الدفاع عن الدولة والمجتمع وتتمثل فيهم الشجاعة والفضيلة‬
‫‪ -3‬طبقة العمال والفالحين أي المنتجين ومهمتها تـأمين مـا يحتاجـه المواطـنين ويضـاف إلى هـذه الفئـة العبيـد‬
‫واألجانب ويمنع أن يكون اليوناني عبدا‪.‬‬
‫لقد أعطى أفالطون كل طبقة وظيفة أساسية ليقوم بهـا في ميـدان اختصاصـه وانجـاز مـا أوكـل إليهـا وهـو من‬
‫األوائل الذين فّك روا في تقسيم وتخصيص العمـل‪ ،‬وشـبه هـذه الطبقـات بالمعـادن‪ ،‬فشـّبه طبقـة الحكـام بمعـدن‬
‫الذهب‪ ،‬وطبقة الحّر اس بمعدن الفضة وطبقة العمال بمعدن النحاس‪ ،‬وكل معدن يحظى بمــا يســتحقه من قيمتــه‬
‫الفعلية‪ ،‬وهذه الطبقات الثالثة متساوية أمام القـانون والدولـة‪ ،‬وكـل طبقـة لهـا وظيفتهـا األساسـية تقـوم بهـا في‬
‫ميدان اختصاصــها‪ ،‬من جهــة أخـرى شـبه التقسـيم الطبقي في المجتمــع بــأنواع نظريــة النفس البشـرية الثالثـة‬
‫المتمثلة في النفس الناطقة وهي القوة العاقلة والتي تقابلها طبقـة الفالسـفة وفصيلتها الحكمـة ومركزهـا العقـل‪،‬‬
‫والنفس الغضبية والتي تقابلها طبقة المحاربين وفضيلتها الشجاعة ويقابلها القلب في الجسم‪ ،‬والنفس الشــهوانية‬
‫وهي القوة الشهوانية التي يقابلها طبقة العمال وفضيلتها العفة ويقابلها أسفل البطن‪.‬‬
‫‪ 1‬جورج سباين‪ ،‬تطّو ر الفكر السياسي‪ ،‬الكتاب األّو ل‪ ،‬تر‪ :‬حسن خالل لعروسي‪ ،‬ط‪ ،4‬القاهرة‪ ،‬دار المعارف‪ ،1971 ،‬ص‪.50 :‬‬
‫‪ 2‬ابراهيم أحمد شلبي‪ ،‬تطّو ر الفكر السياسي‪ ،‬الدار الجامعية للّطباعة والنشر‪ ،1985 ،‬بيروت‪ ،‬ص‪.120 :‬‬
‫‪9‬‬
‫إن المثير لالنتباه في مدينة أفالطون المثالية هــو اهتمامــه بحكومــة الفالســفة وبالكيفيــة الــتي يتم اختيــارهم عن‬
‫سائر المواطنين وكذا بالشروط والقيود التي وضعها فيهم والمتمثلة في االبتعاد عن ملــذات الحيــاة‪ ،‬وتحريــرهم‬
‫من الملكية الفردية ومن حب المال وتكوين أسرة‪ ،‬وتفرغهم بالتالي لخدمة المجتمــع والدولــة ألنهــا هي المطلب‬
‫األهم وهي األّو ل واألخير في حياته‪ .‬ويبّر ر ذلك بأن الحكام الفالسفة يحتلون أسمى المراتب في المجتمع وهــذا‬
‫سيغنيهم عن الملكية الخاصة‪ ،‬وأّم ا الجنود فليس لهم الحق في امتالك األراضي الزراعية وال المعادن النفيســة‪،‬‬
‫أّم ا مأكلهم ومشربهم فيتم دفعه من طرف الشعب في شكل ضريبة سنوية نظير حمايتهم لهم‪.‬‬
‫كما لجأ إلى إللغاء تكوين األسرة لمــا لهــا من حقــوق وواجبــات وارتباطــات على رب األســرة تعيقــه في تأديــة‬
‫وظائفه والتفرغ لها‪.‬‬
‫ج‪ -‬العدالة و التربية ‪:‬‬
‫الفضيلة جوهرالعدالة عند أفالطون وهي توازي مجموعة الفضائل التي تنظم الحياة البشرية العامة والخاصــة‪،‬‬
‫ويعـني ذلـك أن يـؤدي كـل فـرد في الدولـة مـا عليـه من التزامـات وواجبـات بحكم موقعـه وبحسـب حالتـه الطبيعيـة ‪، 1‬‬
‫فمن المعروف أن البشر يختلفون من حيث قواهم الجسـدية والعقليــة والفكريــة ولكن إذا قـام كــل واحـد بوظيفــة‬
‫تتناسب وخصوصياته عمت السعادة في المجتمع وانتشرت العدالة التي تولد الروابط االجتماعية‪.‬‬
‫أما بخصوص التربية والتعليم فيرى أفالطون بأن التعليم هو الوســيلة اإليجابيــة الــتي يســتطيع الحــاكم تكــييف‬
‫الطبيعة البشرية على النحو الكفيل بإيجاد دولة متجانســة والتعليم إجبــاري خاضــع لرقابــة الدولــة‪ ،‬أمــا منهاجــه‬
‫فينقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫‪ -1‬التعليم األولي الذي يشمل تــدريس النشء حــتى ســن العشــرين وينتهي عنــد بدايــة الخدمــة العســكرية‪ ،‬تقــدم‬
‫للتالميذ أنواع األدب والشعر الرفيع‪.‬‬
‫‪ -2‬التعليم األعلى الــذي يقتصر على المتفــوقين من الجنســين ويمتــد حــتى ســن الخامســة والثالثــون وفي هــذه‬
‫المرحلة يتلقى الطلبة علوما مختلفة كالهندســة والموســيقى والفلســفة‪ ،‬وهم عنــد هــذا الســن يكونــون أهال لشــغل‬
‫مناصب في الحياة العامة والحكم كما يرى أّن الرياضة البدنيــة والموســيقى هي من أهم وســائل التربيــة بصفة‬
‫عامة‪ ،‬وهناك تعليم عالي بعد سن الخامسة والثالثين تدّر س فيه الرياضيات والفلك والمنطق وهذه الدراســة هي‬
‫المدخل المالئم والوحيد إلى دراسة الفلسفة فكما يقال أن دقة بحث الفيلسوف عن الخبر تساوي دقة الرياضيات‪.‬‬
‫د‪ -‬أنواع الحكومات والحكم المفضل عنده ‪ :‬فصل أفالطون في أنظمة الحكم التي بإمكانهــا التحقــق في أي‬
‫مكان وزمان ورتبها حسب األفضلية من واحد إلى خمسة وهي كالتالي‪:‬‬
‫‪ -1‬الحكومة األرستقراطية‪ :‬وهي حكومة الممتازين والحاكم فيها فيلســوف (حكومــة الفــرد الفاضــل) فهــو على‬
‫درجة عالية من الذكاء والمعرفة والفطنة والحكمة وعلى قدرة فائقة في اإلدراك‪ ،‬وفكرة الخير ال تفارقه و هــذا‬
‫أمر طبيعي ألنه يحاول دائما أن يتشّبه باإلله‪ ،‬وبالتالي فإن هذا النوع من الحكام ليس بحاجة إلى قــوانين تقّي ده‪،‬‬
‫ففضيلته وحكمته تجعالنه دائما يتخذ القرار الصائب واألصح‪ ،‬والحاكم الفيلسوف يسعى على توجيه شــعبه إلى‬
‫الطريق المستنير ومنه إلى السعادة الحقيقية‪ ،‬وكما يعمل دائما على قمع الفساد لذا وضــع أفالطــون زمــام الحكم‬
‫والسلطة في أيدي الفالسفة‪.‬‬
‫‪ -2‬الحكومة التيموقراطية‪ :‬وهي حكومة األقلية العسكرية تصل إلى الحكم بواسطة قّو تها ونتيجة فساد الحكومة‬
‫األرستقراطية وهي مظهر انحالل الدولة المثالية‪.‬‬
‫‪ -3‬الحكومة األوليجارشية‪ :‬وهي األقلية الغنية التي تملك المال وهنا تظهر األغلبية الفقيرة من الشعب ألّن هــذه‬
‫األقلية التي بيدها الحكم تجعله في صالحها وتنمي بذلك ثروتها الشــيء الــذي يوســع الهــوة بينهــا وبين األغلبيــة‬
‫الفقيرة‪ ،‬وقد جاءت هذه الحكومة نتيجة فساد الحكومة التيموقراطية أو األقلية العسكرية‪.‬‬

‫‪ 1‬محمد نصر مهنا‪ ،‬علم السياسة‪ ،‬دار غريب للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.98 :‬‬
‫‪10‬‬
‫‪ -4‬الحكومة الديمقراطية‪ :‬أو حكومة الشعب وهي انتشار الحرية و المساواة في المجتمع وقمــع الفســاد‪ ،‬ويعــود‬
‫بذلك الحكم للشعب‪ ،‬هذا األخير يشارك في الحياة السياسية بصورة فعالة وتحقيق لرغبة الجماهير الفقيرة الــتي‬
‫طالما عانت من الفقر والحرمان وتأتي كذلك بعد فساد حكومة األقلية الغنية السالفة الذكر‪.‬‬
‫‪ -5‬حكومة الطغيان أو الحكومة االسـتبدادية‪ :‬وهي فسـاد الديمقراطيــة و انتشـار الفوضــى في المجتمــع الشـيء‬
‫الذي يدفع الفرد باألخذ بزمام الحكم واالنفراد به لذلك سميت بحكومة الفرد الطاغية‪ ،‬ولكن هذا الفرد يعيش في‬
‫حالة قلق وخوف دائمين أي في حالة الالاستقرار‪.‬‬
‫هذه األشكال من األنظمة حسب رأي أفالطون تشكل دائرة مغلقة ومتعاقبة الواحدة تلوى األخــرى‪ ،‬وهــذا طبعــا‬
‫إذا توفرت الظروف واألسباب‪.‬‬
‫فعلى مستوى النظام األرستقراطي يبدأ بفساد أخالق الفالسفة ونتيجة لذلك إهمالهم للتربيـة فيتهـافتون ويلجئـون‬
‫إلى المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة ويسعون لطلب المجد والجاه‪ ،‬وبعد أن يكــون الخــير قــد عّم‬
‫المدينة يظهر الشر كانقالب ويبدأ في االنتشار بحيث البد من مواجهته بالقوة وهنا تتدخل القوة العسكرية وتأخذ‬
‫بزمام األمور ولكن سرعان ما تفقد هذه الطبقة خصالها المتمثلة في الشجاعة واإلقدام وهــذا لظهــور إغــراءات‬
‫جديدة وهنا يظهر نظام جديد وهي األقلية الغنية وتعمل على تنمية ثرواتها دون االلتفاف أو االعتناء باألغلبيــة‬
‫الفقيرة‪ ،‬وبما أن الشعب تّو اق للحرية والمساواة فسرعان ما يأخذ بزمام األمور ويطيح بــالحكم الســابق ويتــولى‬
‫السلطة والممارسة الشعبية فتنتشر الحرية والمساواة‪ ،‬ولكن عيوب الديمقراطية المتمثلــة في المناقشــات وإبــداء‬
‫اآلراء المتواصلة وغير المنقطعة تعطل العمل وتجعل المجتمع يعيش في فوضى عارمــة‪ ،‬وهنــا يســتغل الفــرد‬
‫هذه الوضعية ويأخذ الحكم بالقوة ويمارسه‪ ،‬وهنــا يظهــر االســتبداد والطغيــان ويصبح هــذا الفــرد متحّك مــا في‬
‫الدولة دون رقيب وال حسيب ‪ ،‬وهكذا‪ ....‬سوف يفقد هذا النظــام وتــدور الــدائرة ويــأتي الفيلســوف ليأخــذ الحكم‬
‫مرة أخرى وهكذا دواليك‪.‬‬
‫‪ -‬النظام المفضل عند أفالطون‪:‬‬
‫يفضــل أفالطــون النظــام األرســتقراطي‪ ،‬فــالحكم لــدى فئــة تملــك الفضــيلة والحكمــة وهي ذات إدراك وتبّص ر‬
‫واسعين‪ ،‬وأسوأ األنظمة النظام الديمقراطي الذي تعّم ه الفوضى ويساوي بين األفراد ويبعد الفالســفة عن الحكم‬
‫ورغم ذلك اعترف في أواخر حياته أن دولنه المثالية ونظامها األرســتقراطي وحاكمهــا الفيلســوف على درجــة‬
‫كبيرة من المثالية وال يمكن أن تتحقق في دولة واقعية ‪ ،‬وعلى هــذا يعيــد النظـــر فـــي بعض آراءه و يلجـــأ إلى‬
‫وضع نظام جديد وهذا في كتابه األخير القانون الذي كتبه في شيخوخته وهو النظام المختلط والذي وضــع لكي‬
‫يحقق االنسجام والتوازن بين القوى والجمع بين عـّد ة مبــادئ مختلفــة ينتج عنهــا االســتقرار‪ ،‬وهــذا النظــام هــو‬
‫الجمع بين الحكمة في النظام الملكي أو األرستقراطي ومبدأ الحرية في النظام الديمقراطي‪. 1‬‬
‫‪ -5‬الفكر السياسي عند أرسطو‪:‬‬
‫أرسطو هذا الفيلسوف والسياسي الكبير‪ ،‬ساهم في إدخال المنهجية في علم السياسة وتحليــل الدســاتير اليونانيــة‬
‫والتعّر ف على أنظمة الحكم قبل أن يبدي رأيه في األمور السياسية وبذلك أفالطــون في اعتمــاده على المنطــق‬
‫وتحكيم العقل في المسائل الدقيقة‪ ،‬فقد اهتّم أرسطو بدراسة الـدويالت األثينيـة السـائدة وقـارن بين تجـارب كـل‬
‫دويلة ثم أبدى رأيه في نظام الحكم بطريقة منطقية مستمدة من التجــارب والوقــائع الــتي شــاهدها‪ .‬هــذا التحليــل‬
‫المنطقي ساعده على إظهار شخصيته العلمية وتطــور األفكــار المثاليــة الــتي تــأثر بهــا غــداة اختالطــه بأســتاذه‬
‫أفالطون في أكاديميته‪ ،‬حيث لم يركــز تفكــيره على المنطــق العقلي والتحليــل النظــري المجــرد فقــط‪ ،‬بــل اتبــع‬
‫اقتران أسلوب القيادة العقلية بالتجارب التاريخية والحياة الواقعية السياسية‪.‬‬
‫أ‪ -‬إنتاجه الفكري‪:‬‬

‫‪ 1‬جورج سباين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.98:‬‬


‫‪11‬‬
‫لقد اهتم أرسطو بالسياسة كاهتمامه بكل شيء ألنه فكر جامع‪ ،‬إال أّنها ال تشــكل بالنســبة إليــه موضــوع اهتمــام‬
‫دائم‪ ، 2‬وللتذكير عرف مذهب أرسطو بالمشائية ألنه كان يعلم ماشيا‪.‬‬
‫أما فيما يخص تقسيما إنتاجه الفكري فهي على قسمين‪ :‬مؤلفات الشباب ومؤلفات الكهولة وهي كلهــا تنقســم إلى‬
‫خمسة أقسام وهي ‪:‬‬
‫‪ -‬الكتب المنطقية و تسمى باألورغانون أي اآللة الفكرية‬
‫‪ -‬الكتب الطبيعية‬
‫‪ -‬الكتب الميتافيزيقية أو العلم اإللهي‬
‫‪ -‬الكتب األخالقيــة والسياســية‪ ،‬وتشــمل على‪ :‬األخالق إلى نيقومــاخوس‪ ،‬واألخالق إلى بوديمــوس‪ ،‬واألخالق‬
‫الكبرى‪ ،‬وكتاب السياسة ونظام األثينيين‬
‫‪2‬‬
‫‪ -‬الكتب الفنية المتمثلة في الشعر والخطابة ‪.‬‬
‫كان أرسطو واقعيا وقد بــنى أفكــاره من خالل التجــارب الســابقة للــدويالت اليونانيــة‪ ،‬وعلى هــذا األســاس فقــد‬
‫استطاع أن يمّيز في فلسفته بين الجانب النظري والعملي والشعري‪ ،‬فالجــانب النظــري هي مجموعــة مكّو نــات‬
‫الوجـود وعللـه وأصـوله‪ ،‬والجـانب العملي هـو ذلـك الـذي يتنـاول النشـاط اإلنسـاني ويتنـاول اإلبـداع الجـاني‬
‫الشعري‪.‬‬
‫يبقى أهم مؤلف والذي يهمنــا في هــذا المجــال هــو األخالق والسياســة وفيــه ركــز على الفلســفة الــتي تبحث في‬
‫األسس النظرية والعلمية والتي تدعم مجموعة النظريــات والمعتقــدات‪ ،‬فــإّن علم األخالق يبحث فيمــا ينبغي أن‬
‫يكون عليه السلوك الخّير وهو علم معياري وفرع من السياسة ‪.3‬‬
‫ب‪ -‬مبادئ أرسطو السياسية‪:‬‬
‫‪ -1‬المدينة الفاضلة عند أرس طو‪ :‬يرى أرســطو أن السياســة هي فن الحكم الــذي يســتمد أصــوله ومقوماتــه‬
‫األساسية من واقع الشعوب وأنظمة الحكم السائدة به‪ ،‬وبالتــالي فهــذه هي الحقــائق الجــديرة بالدراســة والتحليــل‬
‫وليس النظريات التجريدية التي تعّبر عن الخيال أكــثر مّم ا يعــبر عن الواقــع الملمــوس‪ ،‬وبمــا اّن ه اتبــع المنهج‬
‫العلمي في بحوثه فقد وضع له أسس وهي‪:‬‬
‫االحتماالت ‪ -‬التحقيق وجمع المعلومات الخاصة بالموضوع ‪ -‬تــرتيب المعلومــات وجمعهــا بطريقــة نظاميــة ‪-‬‬
‫وضع قواعد عامة يراعى تطبيقها لدى البحث ‪ -‬إبراز النتائج المستخلصة وتوضيح أبعادها ‪.‬‬
‫ال يمّيز أرسطو بين المدينة والدولة لكنه يرى فرقا بين الدولة والحكومة و تمثل الجماعة القرويـة دور االنتقـال‬
‫من األسرة إلى المدينة أو الدولة حيث تذوب الجماعات القروية في مجتمع المدينة‪.‬‬
‫إن النواة األولى لتكوين الدولة هو اإلنسان ويعتبره أرسطو حيوان سياسي لكنه يتمّيز عن غيره من الحيوانــات‬
‫بانتمائه إلى حاضرة (مدينة) وهي آخر مستوى في تطور التجمعات اإلنسانية بعد األسرة‪ ،‬القبيلة والقرية ‪.‬‬
‫والعائلة حسب أرسطو تهتم بشؤونها ولما تزداد المطالب وتعجز عن تحقيقها تلجأ إلى التعامــل مــع غيرهــا من‬
‫األسر والمتمثلة في التجمعات الصغيرة أي القرية ولما تتعدى مطالب هذه القرية وتصبح بــدورها عــاجزة عن‬
‫تحقيقها تتعامل مع قرى أخرى لتشكل في األخير المدينة‪ ،‬وهكذا تكون الدولـة بمثابـة كـائن عضـوي يجمـع في‬
‫نفيه خاليا عديدة‪.‬‬
‫والدولة حينئذ أسمى من الفرد والعائلــة والقريــة أي الكــل أســمى من الجــزء وال يمكن الشــك في أن الدولــة هي‬
‫بالطبع فوق العائلة ألن الكل هو بالضرورة فـوق الجـزء مــادام أنــه إذا قطعت اليــد عن الجسـم فلم تبــق يــدا في‬
‫الحقيقة‪ ...‬والدولة هي التي تهدف إلى تحقيق الخير العام لرعاياها وأرسطو يربط السياسة بالخير أي األخالق‪.‬‬
‫المدينة عند أرسطو هي غاية المجتمع وغاية الشيء هو خــيره األفضــل وال يمكن أن تتحقــق المدينــة الصالحة‬
‫غال إذا تحققت فيها ثالثة شروط ‪:‬‬
‫‪ 2‬جان توشار‪ ،‬تاريخ الفكر السياسي‪ ،‬تر‪ :‬علي مقلد‪ ،‬الدار العالمية للنشر والّطباعة والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،1983 ،‬ص‪.36 :‬‬
‫‪ 2‬عبد المجيد عمراني‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.31 :‬‬
‫‪ 3‬محمد علي أبو الربان‪ ،‬تاريخ الفكر الفلسفي‪ :‬أرسطو والمدارس المتأّخ رة‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،‬بيروت‪ ،1990 ،‬ص‪.23 :‬‬
‫‪12‬‬
‫‪ -1‬أن تكون المدينة محدودة السكان وأن ال يتعدى سكانها مائة ألف نسمة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن تكون محصنة صد العداء ولها جيش قوي يدافع عنها ومن األفضل أن يكون موقعها يشرف على البحــر‬
‫لسهل تميلها في حالة حصارها‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن تتألف المدينة من عدة طوائف كالعمال ‪ ،‬الفالحين‪ ،‬المنجمين‪ ،‬والكهنة والحكام وال يمكن أن تحل طائفــة‬
‫محل األخرى ‪ ،‬وال يستحق لقب المواطن منهم إال الممتازون األحرار‪.‬‬
‫كما اهتم أرسطو بالفصل بين السلطات في مجمل بحوثه ‪ ،‬فالسلطة التشريعية مهمتها التشــريع وســن القــوانين‬
‫والسلطة التنفيذية مهمتها تقسيم الوظائف والعمل والسلطة القضائية تنظم المحاكم وفض النزاعات‪.‬‬
‫التصنيف الشــــــــــــــــــــــكلي للدســــــــــــــــــــــاتير‪.‬‬
‫أوال ـ مــــــــــــــــا هــــــــــــــــو الدســــــــــــــــتور‬
‫يعّر ف أرسطو الدستور في أجزاء متعددة من مؤلفه وهذه التعريفات ليسـت جميعهـا متشـابهة‪ .‬بدايـة‪ ،‬الدسـتور‬
‫هو " تنظيم مختلف الهيئات القضــائية في المدينــة وبشــكل خــاص تلــك الــتي تضــمن الســلطة الســيادية في كــل‬
‫مكان‪،‬وفي الواقع‪ ،‬الحكومة تمتلك السلطة العليا في المدينة‪،‬ومن هنــا‪،‬الدســتور هــو الحكومــة" ‪ .‬هــذا التعريــف‬
‫يعطينا مجموعة من المالحظات‪ :‬حيث نرى أنه يســتند إلى تنظيم الهيئــة القضــية كمرجــع للتعريــف‪ .‬وفي نفس‬
‫الوقت هو يشير إلى األخذ بالحســبان للســلطة العليــا كســلطة بيــد الحكومــة‪ ،‬وهنــا أرســطو يشــابه بين الدســتور‬
‫والحكوم ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬
‫يعطي أرسطو تعريفا آخر للدستور‪ ":‬الدستور‪،‬في الواقع‪،‬هو تنظيم الســلطات في المدينــة‪،‬مثبتــا شــكل وطريقــة‬
‫الفصل بينها وطبيعة السلطة السيادية في الدولة ثم الحياة الخاصة لكل جماعة" ‪ .‬هذا التعريف يستند على فكــرة‬
‫أن الدستور يتعلق مباشرة بالتنظيم و فصل السلطات السيادية داخل المدينة‪ .‬طبعا التعريف الثاني للدســتور مــع‬
‫بعض التغييرات البسيطة يمكن تبنيه في عصرنا الحالي‪ ،‬وهنا تكمن عظمة هذا الفكر السياسي األرسطي الــذي‬
‫لم يتغــــــــــــــــــــــــــــير عــــــــــــــــــــــــــــبر العصور‪.‬‬
‫ثانيـــــــــــا ـ معـــــــــــايير تصنيف الدســـــــــــاتير‬
‫رأينا ووفق تعريفات أرسطو أن الدساتير متنوعة جدا‪.‬ولكن بالنسبة له‪ ،‬يوجد معيارا عاما يتكون من عنصرين‬
‫أساس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيين ‪:‬‬
‫‪1‬ـ عدد الحكام ‪ " :‬بما أن الدستور والحكومة يشيران إلى نفس الشيء وأن الحكومة هي السلطة صاحبة الســيادة‬
‫في المـــــدن‪،‬هـــــذه الســـــيادة هي إمـــــا فـــــرد واحـــــد‪،‬جماعـــــة صـــــغيرة أو مجمـــــوع المواطـــــنين"‪.‬‬
‫‪2‬ـ البحث عن المصلحة العامة‪ :‬فعنــد أرســطو ال بــد من التميــيز بين الدســاتير الــتي هي صــحيحة‪":‬هــذا يعــني‬
‫الدساتير التي فيها الحكومات تبحث عن تحقيق المصلحة العامة"‪ ،‬والدساتير الناقصة‪":‬والتي تتصف بممارســة‬
‫الســــــــلطة من أجــــــــل تحقيــــــــق مصالح مجموعــــــــة صــــــــغيرة"‪.‬‬
‫ثالثــــــــــــا ـ التصنيف األرســــــــــــطي المقــــــــــــترح‪:‬‬
‫من خالل تطبيق المعايير السابقة يضع أرسطو التصنيف التالي والـذي يسـميه " األشـكال النقيـة أو الصافية"‪:‬‬
‫‪1‬ـ الحكومة التي يديرها فرد واحد‪ ،‬والتي تتطابق مع الملكية‪ ،‬حيث يوجد نظام ملكي يهــدف لتحقيــق المصالح‬
‫العام ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬
‫‪2‬ـ حكومة بعض األفــراد‪ ،‬وهي األرســتقراطية‪ ،‬وفيهــا نجــد قبــوال " إمــا ألن األفضــل هم في الســلطة‪ ،‬أو ألن‬
‫ســلطتهم تهــدف إلى تحقيــق أكــبر نفــع ممكن للمدينــة وألعضــائها"‪.‬‬
‫‪3‬ـ الشـــعبية أو الجماهيريـــة‪" ،‬وتوجـــد عنـــدما األغلبيـــة في المدينـــة تحكم من أجـــل المنفعـــة العامـــة"‪.‬‬
‫إلى جانب هذه التصنيفات "النقية" نجد عند أرسطو التصنيفات التي يسميها "الفاسدة"‪ ،‬وهي تقوم على دســاتير‬
‫يعـــود الحكم فيهـــا لمجموعـــة تتصرف وفـــق مصالحها الخاصـــة وهي ‪:‬‬
‫‪1‬ـ الطغيان‪ ،‬وهو الشـكل الفاسـد للملكيــة ويتصف بممارسـة السـلطة من قبــل شـخص ولمصالحه الشخصية‪.‬‬
‫‪2‬ـ األوليغارشـــية‪ ،‬وهي تشـــويه لألرســـتقراطية‪ ،‬حيث حكومـــة يترأســـها األغنيـــاء يعملـــون لمصلحتهم‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫‪3‬ـ الديمقراطية‪ ،‬وهي الشكل الفاسد "للجماهيرية أو الشــعبية"‪ ،‬حيث يوجــد حكومــة فيهــا أكــبر عــدد ممكن من‬
‫الشعب‪ ،‬ولكن تمارس سلطتها لمصلحة الفقراء والــذين هم أكــثر عــددا وليس للمصلحة العامــة مثــل الحكومـــة‬
‫الش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعبية‪.‬‬
‫ت ـ التصنيف الـــواقعي للدســـاتير واألشـــكال المختلفـــة للديمقراطيـــة‪:‬‬
‫أدخل أرسطو معيارا يرتكز على الــتركيب االجتمــاعي للجماعــات الــتي تحكم‪ ،‬وعلى المشــاركة لكــل من هــذه‬
‫المجموعـــــــات في ممارســـــــة الســـــــلطة‪ .‬ويقصد هنـــــــا تصنيف للدســـــــاتير االجتماعيـــــــة‪.‬‬
‫األشـــــــــــــــــــكال المختلفـــــــــــــــــــة للديمقراطيـــــــــــــــــــة‪:‬‬
‫أدخــل أرســطو معيــارين إضــافيين على نمــوذج الحكم الشــعبي "النقي" وهمــا‪ :‬طــرق الحصول على الســلطة‬
‫والوضعية المهنية المسيطرة داخل هذه األنظمة‪ .‬وفـق أرسـطو يوجـد خمس طبقــات اجتماعيــة أساسـية وهي ‪:‬‬
‫المزارعون‪ ،‬الحرفيون‪ ،‬التجار‪ ،‬العمال‪ ،‬المأجورون‪ ،‬العسكريون‪ .‬عندما تمارس السلطة من قبـل فئـة من هـذه‬
‫الفئات االجتماعية سنكون أمام شكل خاص من الديمقراطية‪ .‬يعـّرف أرسـطو هـذا الشـكل كالتـالي‪":‬شـكل آخـر‬
‫للديمقراطية هو المشاركة للجميع في الهيئات القضائية‪ ،‬بشـرط واحـد هـو أن يكونـوا مواطـنين ولكن من غـير‬
‫حكم للقانون"‪ .‬وفي النهاية نجد شكال آخرا للديمقراطية عند أرسطو‪ ،‬ويتصف بوجــود جميــع الشــروط الســابقة‬
‫ولكن مع اختالف هو أن السلطة تعود للجماهير الشعبية وليس للقــانون‪.‬‬
‫هناك تصنيف يعتمد الفئات االجتماعية المسيطرة‪ ،‬ويميز فيه أرسطو ثالثة أشكال أساسية للديمقراطية‪:‬‬
‫‪ -‬أوال‪ :‬ديمقراطية تصّنف بالريفية‪ ،‬وفيها "الزارعــون والمــالكون لميزانيــة متوســطة يســيطرون على الســلطة‬
‫العليا للدولة"‪.‬‬
‫‪ -‬ثانيا‪" :‬ديمقراطية" فيها‪ " :‬جميع المواطنين لديهم الحق في المشاركة باتخاذ القرار ولكن يحق فقط لمن لديــه‬
‫وقت فراغ أن يحصل على هذا الحق"‪ ،‬وبالطبع األغنياء هم أكثر الناس حصوال على هذا الوقت‪.‬‬
‫‪ -‬ثالثا‪ :‬ديمقراطية الجماهير الشعبية‪ .‬كل المواطنين يشــاركون في الحكم "إنهــا الجمــاهير الفقــيرة الــتي تحكم‬
‫وليس القــانون‪ ،‬وهي تســيطر على الســلطة العليــا للدولــة"‪.‬‬
‫ث ـ الشــــــــــــــــــــــكل األفضــــــــــــــــــــــل للحكومــــــــــــــــــــــة‪.‬‬
‫‪1‬ـ تبــــــــــــــــــــــــــــني خطــــــــــــــــــــــــــــوة علميــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬
‫يقدم أرسطو في هذا المجال أفكار لم تعرف من قبله‪ ،‬إنه يتبــنى خطــوة علميــة ويعــّرف موضــوع علم السياسـة‬
‫كذلك الدور الذي يقوم به المتخصصون في هذا العلم‪ ":‬إذا وبشكل واضح‪ ،‬وفيما يتعلق بالنظام السياسي أيضا‪،‬‬
‫إنــه يعــود لنفس العلم اختبــار مــا هــو الشــكل األفضــل وأي نــوع يجب أن يكــون عليــه حــتى يقــدم أو يســتجيب‬
‫الحتياجــات النــاس‪ ،‬ومــا هــو الشــكل الــذي يتوافــق مــع هــذا أو ذالــك الشــعب‪ ،‬ألّن الكثــير من الشــعوب ليس‬
‫باستطاعتها الوصول إلى النظام األفضل‪ ،‬الهيئة القضائية الجيدة أو إلى رجال دولة حقيقـيين"‪ .‬يطـرح أرسـطو‬
‫ثالثة قواعد جوهرية ‪:‬‬
‫األولى‪ :‬وهي أن نحاول تعريفها بشكل ذهني مجرد‪ ،‬أي شكل ممكن للحكومة ســيكون أفضــل ونحن نعــرف أن‬
‫هذا التعريف الذهني المجرد ال يمكن تحقيقه إال في شروط أولها عدم وجود عناصر خارجية‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬محاولة اكتشاف أفضل األشكال للحكومة بالنسبة لشعب محدد‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬يجب أن نجهد لكي نعرف ما هي الوسائل التي تسمح باالحتفاظ وألكبر فترة ممكنــة بالشــكل الحكــومي‬
‫الــــــــــــــــــذي نعتــــــــــــــــــبره األفضــــــــــــــــــل في خياراتنــــــــــــــــــا‪.‬‬
‫‪2‬ـ معيـــــــــــــــــــــــــــــار المنفعـــــــــــــــــــــــــــــة العامـــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬
‫يقول أرسطو‪ ":‬إنه من الواضح أن جميع الدسـاتير الــتي لــديها رؤيــة للمنفعــة العامــة هي صــحيحة من منظــار‬
‫العدالة المطلقة؛ أما الدساتير التي ال تهدف للمصلحة العامة فهي فاسدة‪ ،‬وهي منحرفــة عن دســاتير صــحيحة"‪.‬‬
‫إذا البحث عن تحقيــــق المنفعــــة العامــــة هــــو معيــــار جــــوهري نقيم من خاللــــه النظــــام السياســــي‪.‬‬
‫‪3‬ـ ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيادة القـــــــــــــــــــــــــــــــــــــانون‪.‬‬
‫يعتبر أرسطو أنه ال يوجد حكومة جيدة ممكنة إذا كنا ال نستطيع ضمان سيادة القــانون‪ ":‬القــوانين‪ ،‬وبشــرط أن‬
‫‪14‬‬
‫تكون موضوعة بشكل صحيح‪ ،‬عليها أن تكون ذات سيادة‪ ،‬فعند القضاء ال يستطيع اتخاذ القرار بشكل سيادي‪،‬‬
‫القــــوانين ســــتكون عــــاجزة عن القــــرار في مســــائل محــــددة "‪.‬‬
‫‪4‬ـ حكومــــــــــــــــــــة الطبقــــــــــــــــــــة المتوســــــــــــــــــــطة‪.‬‬
‫في تحديده لمعيار الحكومة الجيدة‪،‬أرسطو يتبنى مفهوما واقعيا وليس مثاليا كما كان من قبلــه‪،‬إنــه ال يبحث عن‬
‫تعريــف الدســتور األفضــل "كأولويــة" أو وضــعه وفــق مبــادئ فلســفية معتــبرة كقواعــد أساســية‪ .‬مــا هــو مهم‬
‫لديه‪،‬وقبل كل شيء‪،‬هو الوصول إلى وضع ‪ ":‬شكل أو منهج للحياة حيث معظم الناس يستطيعون العيش بشكل‬
‫مشترك‪،‬ودستور يتم تبنيه من معظم هؤالء"‪ " .‬الحياة األفضل هي تلــك تشـَّك ل من خالل شـيء وسـطي‪ ،‬وهــذا‬
‫الشيء الوسطي يوضع في التنفيذ من خالل الطبقة الوسطى"‪ .‬ففي المدينة يوجد ثالث طبقات اجتماعية ‪:‬‬
‫"األشخاص األكثر غنى‪ ،‬األكثر فقرا‪ ،‬واألشخاص في الوسط بين الطبقتين السابقتين"‪.‬‬
‫ج ـ أهميـــــــــــــــــة عمـــــــــــــــــل أرســـــــــــــــــطو‪.‬‬
‫العمل السياسي ألرسطو "كتاب السياسة" هو األكثر تأثيرا‪ ،‬واألكثر عمقا واستمرارا عبر التاريخ‪ .‬في العصر‬
‫الروماني‪ ،‬أطروحــات أرســطو أثــرت على أكــبر المنظــرين الرومــان‪ ،‬مثــل ‪ Polybe‬و ‪ ، Ciceron‬واللــذان‬
‫اعترفا بضرورة األخذ بالتحليل األرسطي لنماذج الحكم أو األنظمة السياسية‪ .‬فيمــا بعــد وفي العصر الوســيط‪،‬‬
‫كان أرسطو موجــود دائمــا في جملــة مثــل " كتب أو قــال أرســطو" ومســتخدمة من قبــل معظم الكتــاب‪ .‬أيضــا‬
‫حضرت أفكار أرسطو في عقول وقلوب فالسفة السياسة في عصر األنوار‪ .‬بالمقابل‪ ،‬خالل القرن التاسع عشر‬
‫والقرن العشرين تم إهمال الفكر األرسطي‪ .‬طبعا هذا لم يستمر طويال‪ ،‬حيث النظريــات الحديثــة لعلم السياسـة‪،‬‬
‫كا "الوظيفية" مثال‪ ،‬أخذت أيضا من مناهج و أفكار األرسطية‪ .‬إذا "كتاب السياسة" كتاب يفتن القارئ ويذهلــه‬
‫كونه تحدث عن قضايا كثيرة نعيشها اليوم‪ ،‬وكونه مصدرا عظيما للفكر اإلنساني‪.‬‬
‫أوجه االختالف بين أفالطون و أرسطو‬
‫من خالل دراستنا لكال من أفالطون وأرسطو يمكننــا اآلن إبــراز أوجــه التشــابه واالختالف بين الــرجلين أو‬
‫المعلم والتلميذ‪:‬‬
‫‪ -01‬أوجه التشابه‪ :‬الدولة ضرورية حـتى تحقـق الطبيعـة اإلنسـانية أعلى ذروتهـا في التقـدم والـرقي‪ /‬أنشـأت‬
‫الدولة من أجل تحقيق أهداف تتمثـل في توفـير الشـروط الطبيعيـة والعقليـة الالزمـة للحيـاة الفاضـلة‪ /‬التطـور‬
‫األخالقي ال يتحقق إال في دولة المدينة‪ /‬من يعيش خارج دولة المدينة ال يكون إال إله أو بهيمة إلخ‪...‬‬
‫‪ -02‬أوجه االختالف‪:‬‬
‫أ‪ -‬يــرى أفالطــون أن الهــدف من تكــوين الدولــة هــو إيجــاد الفــرص المتســاوية بين األفــراد وتحقيــق العدالــة‬
‫االجتماعية والحاكم األب الروحي الذي يقــود أبنــاء أمتـّـ ه بينمــا يــرى أرســطو أن العالقــة بين أفــراد المجتمــع‬
‫تختلف عن العالقة تربط أفراد األسرة الواحدة وإذا كـان األب يسـتطيع اتخـاذ القـرارات الفرديـة فالحـاكم مقيـد‬
‫بقانون عام وتوجد مساواة بينه وبين بقية أفراد مجتمعه وهذا األمر اهتدى إليه أفالطون في شيخوخته‪.‬‬
‫ب‪ -‬أفالطون يضع الثقة الكاملة في الحاكم الفيلسوف‪ ،‬أما أرسطو فيضع ثقته كلها في الدستور‪.‬‬
‫ج‪ -‬أفالطون رفض الملكية والزواج ألن مأساة الدولــة تتمثــل في الجشــع واالرتبــاط الــروحي بالعائلــة في حين‬
‫يرى أرسطو أن حب التملك والتعلق العاطفي باألسرة ظاهرة إنسانية عادية ال فائدة من تجريد أي شخص منها‬
‫د‪ -‬المرأة عند أفالطون لها نفس مكانة الرجل وبإمكانها تقلد مناصب في الدولة والحكم ولو أن أحسن عمل لهــا‬
‫هو اإلنجاب لكن أرسطو احتقر المرأة واعتبرها أقل شأنا من الرجل وهي دائما في تبعية له‪.‬‬
‫خالصــــة‪ :‬كانت تعاليم أرسطو بمثابة رد فعل ضّد المثل األفالطونية‪ ،‬أستاذه الذي أثر فيه في بداية حياته لكن‬
‫سرعان ما تفّطن للواقع والتاريخ مستغال في ذلك الوسط الذي عاش فيــه‪ ،‬متخــذا من العلــوم البيولوجيــة منهجــا‬
‫علميا لدراسة الظواهر السياسية وانطلــق من الواقــع وفّس ر األنظمــة من خالل دراســات تاريخيــة واهتــدى في‬
‫األخير إلى الموقف الوسط في كل القضايا واألمور‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ -6‬الفكر السياسي عند الرومان‪:‬‬
‫أ‪ -‬المدارس الفلسفية التي أثرت في الفكر السياسي عند الرومان‪:‬‬
‫‪ -01‬المدرسة الرواقية ‪Stoiciens les‬‬
‫وتعتبر من أهم المدارس الفلسفية التي دامت أو سادت أكثر من خمسـة قـرون في دول حـوض البحـر األبيض‬
‫المتوسط وأوربا عامة‪ ،‬وانتشر المذهب الرواقي في إطار الثقافة اليونانية وتحت تأثير األفكــار الــتي تــدعو إلى‬
‫المواطنة العالمية أي عدم التحمس واالهتمام بالقوميات المحلية‪ ،‬والـدعوة إلى تأييـد األنظمـة السياسـية السـائدة‬
‫وأصحاب هـذه المدرسـة يؤمنـون بالنزعـة الفرديـة أي أن الحيـاة الفاضـلة عنـدهم هي الممارسـة وقهـر النفس‬
‫واالنكماش أو االنطواء على الذات‪ ،‬ويمكن االبتعاد والهروب من الشر واألفعال الخبيثة عن طريــق التحكم في‬
‫النفس‪ .‬والمجتمع المثالي عندهم يقوم على الواجبات وضبط النفس وال يقوم على المعرفة كما جــاء في الفلســفة‬
‫اليونانية‪.‬‬
‫ومؤسس هذه المدرسة هو " زينون األكتومي‪ 490-430( "Zénon of Elea -‬ق م) وهو يوناني من أصل‬
‫فينيقي ولد في أكتوم بقبرص‪ ،‬من أسرة كانت تمتهن التجارة ويقال أّنه مــات منتحــرا‪ ،‬واهتم بالفلســفة ألنــه فقــد‬
‫ثروته وكل ما يملك في حادث غرق سفينته‪ .‬وفي أثينـا اهتم بالفلسـفة وتعليمهـا لتالميـذه في رواق‪ ،‬أي الـرواق‬
‫المحلي بالنقوش‪ .‬ولذلك سمي أتباعه بالرواقيين نسبة إلى مكان اجتماعهم‪.‬‬
‫على الرغم من أن الرواقية مدرسة معاصرة لألبيقورية ومعارضــة لهــا‪ ،‬لم يبقى إّال القليــل من المصادر الــتي‬
‫تهتم بهذا المذهب‪ ،‬وعلى الرغم من ظهورها في أثينا وازدهارها في روما وكــثرة أتباعهــا ألنهــا تؤيــد وتســاند‬
‫النظام السائد في روما‪ ،‬لم تؤثر على الفكر السياسي الحديث في أوربا وغيرها مثل المدارس اليونانيــة الكــبرى‬
‫كاألفالطونية واألرسطاطيلية وأهم مميزات الرواقية ‪:‬‬
‫‪ -1‬العقل عندهم هو الذي يحّد د كل التصورات البشرية ويصنف أيضا قواعد السلوك األخالقي‪.‬‬
‫‪ - 2‬اهتمامها بالفلسفة القائمة على التربية األخالقية والروحية‪ ،‬حيث تأثرت بها معظم المذاهب الدينية المسيحية‬
‫في القرون الوسطى‪.‬‬
‫واألخالق عند الرواقيين تقوم على مبدأ أساسي هو العيش وفق الطبيعة أي حسب ما تقتضيه الطبيعة‪.‬‬
‫‪-02‬المدرسة األبيقورية ‪Epicuranisme( ( :‬‬
‫أسس هذه المدرسة " أبيقور‪ 341-270( " Epicurus-‬ق م) في سن الثالثين وهـو فيلسـوف مـادي وملحـد‬
‫وأبــوه أثيــني كــان يمــارس مهنــة التعليم وأّم ه تمــارس الشـعوذة وفنــون السـحر‪ ،‬وتعلم في مدرسـتي أفالطــون‬
‫وأرسطو‪ ،‬وتنطلق فلسفته من االعتراف بخلود المادة‪ .‬وهــو ينكــر تــدخل اآللهــة في الكــون‪ ،‬وأبيقــور فيلســوف‬
‫حسي‪ ،‬واألحاسيس عنده صادقة بذاتها ألنها تنطلق من الواقع الموضوعي‪ ،‬والمعرفة عنده هي تحرير اإلنسان‬
‫من الجهل والخرافات أي من خوف اآللهة‪.‬‬
‫أما المدرسة األبيقورية والتي تسّم ى بـ"حديقة أبيقور" فإّن مذهبها يهتم بالفرد وإشباع رغباته ونزواته وشهواته‬
‫لكي تتحقق جميع أنواع ملذاته وســعادته‪ .‬والمنفعــة أي المصلحة الفرديــة هي الغايــة األساســية لتحقيــق ســعادة‬
‫اإلنسان وغاية الفلسفة هي تحرير اإلنسان من األلم وتحقيق ملذاته‪ ،‬والفلسفة عنده تنقسم إلى ثالثة أقسام‪:‬‬
‫أ‪ -‬المنطق أو العلم القانوني‪ :‬الذي يهتم بالبحث في شروط المعرفة الصحيحة التي تؤدي إلى الطمأنينة وتحقيــق‬
‫سعادة اإلنسان‪ ،‬وهذه المعرفة أنواع كاإلحساس والتصورات وانفعال اللّذ ة واأللم‪.‬‬
‫ب‪ -‬الطبيعة‪ :‬وتتمثل في التفسير اآللي للطبيعة والمادة التي تتكون من ذّرات منفصلة ال تحصى والتي جاء بهــا‬
‫الفالسفة الطبيعيون كديمقراطيس‪.‬‬
‫ج‪ -‬األخالق‪ :‬فوظيفة األخالق عند األبيقوريين هي القضاء على الخوف واالبتعاد عن األلم وتحقيق أكــبر عــدد‬
‫ممكن من اللذة ألنها هي األسمى والدائمة لسعادة اإلنسان‪ .‬والمــذهب األبيقــوري يــدعو إلى االبتعــاد عن الحيــاة‬
‫السياســية‪ .‬ألنهــا تســبب األلم وتقهــر رغبــات وميــول النفس البشــرية‪ ،‬ولقــد تــأثر معظم الفالســفة والمفكــرين‬
‫باألبيقورية مّم ا جعلها تنتقل من موطنها األصلي إلى رومــا‪ .‬ونــذكر الشــاعر الــرومي"لوكيــتيوس" الــذي كــان‬

‫‪16‬‬
‫أعظم ممثل األبيقورية في روما‪ .‬واألبيقوريين يســاندون ويؤيــدون سياســة النظــام اإلمــبراطوري لرومــا‪ ،‬مّم ا‬
‫جعلها تتطّو ر وتزدهر في القرون الوسطى والحديثة خاصة عند الملوك والقياصرة‪.‬‬
‫ب‪ -‬الفكر السياسي عند شيشرون ( مفهوم القانون‪ /‬نظرته للدولة )‬
‫‪ -‬توطئـــة ‪ :‬يقال بأن الفكــر السياســي الرومــاني لم يــؤثر على الفكــر المســيحي في القــرون الوســطى خاصــة‪،‬‬
‫والفكر السياسي الحديث والمعاصرعامة كالفكر السياسي اليوناني على الرغم من المحاولة واالبتعاد من الفكــر‬
‫اإلغريقي‪ .‬وعلى هذا األساس كانت مساهمة الرومان في إثراء الفكر السياسي ضعيفة وهــذا راجــع إلى النفــوذ‬
‫السياســي الــديني الــذي كــان يتمتــع بــه قــادة رومــا في أوربــا بــالرغم من االنتصارات العســكرية لــتي حققتهــا‬
‫اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬وما أسسته من نظم قانونية ودستورية ‪ ،‬وأيضا بالرغم من اهتمامهم بالعمل واالبتعاد‬
‫عن الفلسفة التأملية واإليمــان بالواقعيــة وانتقــال المــدارس الفلسـفية اليونانيــة إليهم وتطويرهــا حسـب سياسـتهم‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫لم تهتم روما بالفكر الخالق والمبدع كأثينا‪ ،‬ولكنها طورت المعرفـة القانونيـة وأعطت الحريـة المطلقـة للحـاكم‬
‫وحددت العالقة بين المواطن والدولة وخاصة اإلمبراطورية الرومانية التي توسعت فيما بعد‪.‬‬
‫أما العوامل األساسية التي ساعدت على قيام الجمهورية في روما سنة ‪ 500‬ق‪.‬م فهي كثــيرة‪ ،‬أهمهــا‪ :‬العوامــل‬
‫الجغرافية واإلستراتيجية والسياسية العسكرية‪ ،‬والروح الوطنية واإليمان بالعقيــدة أو المذهبيــة الرومانيــة الــتي‬
‫ساعدت ومّهدت لقيام إمبراطورية عظمى في أوربا‪.‬‬
‫لقد اهتم معظم المفكرين السياسيين والباحثين في علم السياسة بالفكر اإلغريقي والرمــاني وتوّص لوا إلى نتيجــة‬
‫واحدة هو أّن هناك ثالثة عهود أو فترات مّر بها الفكر السياسي الروماني المتمثلة في‪:‬‬
‫‪ -3‬العهد اإلمبراطوري‬ ‫‪ -2‬العهد الجمهوري‬ ‫‪-1‬العهد الملكي‬

‫لقد حكمت اإلمبراطورية الرومانية ثالثة نظم سياسية‪ ،‬وفي العهد اإلمبراطوري‪ ،‬أي في الفترة األخيرة لرومــا‬
‫بدأ الصراع االجتماعي والسياسي والطبقي بين الطبقة األرسـتقراطية والطبقـة الفقـيرة‪ ،‬مّم ا جعـل العسـكريين‬
‫يصلون إلى الحكم ويتجه النظــام إلى الحكم المطلــق لإلمــبراطور ويــزول تــدريجيا مــا يسـّم ى بمجلس الشــيوخ‬
‫ومجلس الشعب‪.‬‬
‫لقد ظلت اإلمبراطورية الرومانية قائمة حتى نهاية سنة ‪ 395‬ق‪.‬م‪ ،‬إذ انقسمت إلى غربية وعاصـمتها السياسـية‬
‫روما وشرقية وعاصــمتها السياســية القســطنطينية وســقطت اإلمبراطوريــة العظمى على يــد األتــراك والقبائــل‬
‫الجرمانية‪ .‬وبالتالي سنعرض أهم المفكرين السياسيين الذين ساهموا في تطوير الحضارة الرومانية‪.‬‬

‫‪ -01‬شيشرون ((‪ 106-42( CICERON Marcus Tullius‬ق‪.‬م)‬


‫هـو مفكـر سياسـي وأديب رومـاني ينحـدر من الطبقـة األرسـتقراطية الرومانيـة العريقـة كـان يحسـن البالغـة‬
‫والفصاحة والخطابة‪ ،‬ومارس مهنة المحامــاة ودافـع عنهــا بنجـاح رغم أّن ه لم يكن فيلسـوفا سياسـيا أوصــاحب‬
‫أكاديمية علمية مثل أفالطون أو أرسطو‪ ،‬ورغم تأثره أيضا بالفلسفة اليونانية وسياسة المدن اإلغريقية وخاصة‬
‫المدرسة الرواقية التي أثرت في فلسفته وأثرت في معظم المفكرين السياسيين فيما بعد‪.‬‬
‫اهتم شيشرون بدراسة الدستور والقانون الروماني واحتك بالشخصيات السياسية الرومانيــة وتوّص ل أن يشـغل‬
‫وظيفة القنصل العام ويقال بأنه نادى بالعدل والمساواة بين الطبقات االجتماعية في كتبه الخاصة‪.‬‬
‫أّم ا آراؤه السياسية تتمثل في ‪ :‬كتابيه "الجمهورية" ((‪ ON THE REPUBLIC‬و"القوانين" (‪ON THE‬‬
‫‪ (LAWS‬حيث يرى بأّن الدولة ال تســتطيع أن تضــمن اســتمراريتها وبقائهــا وهيبتهــا إال إذا اعــترفت بحقــوق‬
‫المواطنين ألنها تمثل مصلحة الناس المشتركة‪.‬‬
‫وســلطة الدولــة تنبثــق من قــوة األفــراد أجمعين‪ ،‬ويجب عليهــا أن تســتخدم القــوة السياســية اســتخداما صــحيحا‬
‫وعقالنيا‪ ،‬حيث أن الحاكم هو الذي يستعمل جميع السلطات السياســية لضــمان اســتمرارية الدولــة‪ ،‬والدولــة في‬
‫ذاتها تخضع لقانون سماوي وأخالقي‪ ،‬والقانون الطبيعي العام‪ ،‬والقــانون الطــبيعي عنــد شيشــرون متعــادل مــع‬
‫‪17‬‬
‫العقل البشري‪ ،‬والعقل بدوره متماثل مع الطبيعة‪ ،‬ألن العقل البشري والطبيعــة في ذاتهــا نابعــان عن قـوة أعلى‬
‫هي القوة اإللهية السامية‪ ،‬وعلى هذا األساس فشيشرون يرى بأن القانون الطــبيعي ليس رومانيــا فقــط‪ ،‬بــل هــو‬
‫عالميا وأممي‪.‬‬
‫والدولة وقوانينها ملكا للمواطنين‪ ،‬والمساواة بين األفراد أي المواطنين أمــام القــانون الــذي يجعــل ويســعى إلى‬
‫استمرارية الدولــة وســلطتها‪ ،‬حيث كتب قــائال‪" :‬هنــاك قــانون حقيقي هــو العقــل المســتقيم‪ ،‬المطــابق للطبيعــة‪،‬‬
‫المنتشر لدى كل الكائنات‪ ،‬المتفق دائما مع نفسه‪ ،‬وغير القابل للتلف‪...‬هذا القانون ال يســمح بإدخــال أي تعــديل‬
‫عليــه‪ .‬إذ من غــير الجــائز إلغــاءه‪ ،‬ال كليــا وال جزئيــا‪ .‬فال مجلس الشــيوخ وال الشــعب بإمكانــه أن يعفينــا من‬
‫طاعته‪...‬إّن هذا القانون ال يختلف في أثينا عنه في روما‪ ،‬وال يختلف اليوم عما سيكون عليـه غـدا‪ .‬إنـه القـانون‬
‫نفسه الواحد األبــدي والثــابت الــذي يحكم كــل األمم‪ ،‬وفي كــل األزمنــة‪ ،‬إّن هنــاك إلهــا واحـدا من اجـل تعليمــة‬
‫ووصفة للجميع‪...‬إّن من ال يطيع هذا القانون يجهل نفسه "‪.‬‬
‫يرى شيشرون بـأّن القـانون هـو األسـمى وهـو العقـل السـامي‪ ،‬وبواسـطته يرتبـط اإلنسـان باأللوهيـة ويرتبـط‬
‫بالمجتمع وبالمدينة المتمثلة وبإدارة شؤونه المبدأ اإللهي‪ ،‬يرى بأن السلطة العاقلــة تنبثــق من الشــعب المتالحم‬
‫فيما بينه ألنه يعيش المشاكل نفسها التي تتعرض لها المدينة ‪ ،‬وهــذه الســلطة تســند لفــرد واحــد‪ ،‬أو لعـّد ة أفــراد‬
‫يختارهم الشعب‪ ،‬أو تسند السلطة للجماهير أي لعامة الناس‪ ،‬وبهذه األشــكال الثالثــة تجعــل وتــدفع األفــراد إلى‬
‫تكوين المجتمع السياسي‪ ،‬إّن المصدرين األساسيين لشيشرون في "الجمهورية" وفي "القـوانين" مـا زال محـل‬
‫نقاش وانتقــادات من المفكــرين السياسـيين بخاصــة‪ ،‬على الــرغم من أن الفلسـفة السياسـية في رومــا بــدأت مــع‬
‫شيشرون والذي كانت لـه نزعـة عالميـة حيث كـان يـدعو إلى عقلنـة الشـيء وعلمنتـه ويهتم بـالتفكير الـواقعي‬
‫العقالني المطابق للطبيعة‪ .‬وهذا في رأينا ينطبق مع الفكرة الهيجلية في الفلسفة الحديثة " كل ما هو واقعي فهو‬
‫عقالني وكل ما هو عقالني فهو واقعي" ‪ ،‬وعلى هــذا األســاس فشيشــرون كــان يــدعو إلى العولمــة في أفكــاره‬
‫الفلسفية أي عولمة السياسة وعولمة الحضارة وعولمة التاريخ وعولمة القــانون الطــبيعي وعولمــة العلم‪ ،‬وهــذا‬
‫في خدمة اإلنسانية‪ ،‬واستمرارية تطورها وازدهارهــا‪ ،‬وجعــل جميــع االكتشــافات العلميــة بخاصــة في متنــاول‬
‫الجميع‪.‬‬
‫‪ -02‬سينيكا ((‪ 03( SENECA Lucius Anneus‬ق‪.‬م‪ 65-‬م) ‪:‬‬
‫ولد سينيكا في قرطبة واهتم في شــبابه بالفلســفة عامــة والمــدارس الفكريــة اليونانيــة خاصــة‪ ،‬كمــا درس الفكــر‬
‫السياسي لإلمبراطورية الرومانية وتطوره واهتم به‪ .‬حيث كان ســينيكا متناقضــا في فلســفته السياســية ومبادئــه‬
‫الفكرية على الرغم من اهتمامه بالفلسفة في شبابه‪.‬‬
‫وهو أحد المفكرين ومن الدعاة البارزين للرواقيــة الرومانيــة وضــد الفلســفة األبيقوريــة حيث حــاول أن يطـّو ر‬
‫المدرسة الرواقية على الطريقة الرومانية‪ ،‬واهتم في دراسته بمذهب وحــدة الوجــود الــتي جــاء بهــا الرواقيــون‬
‫اإلغريق‪ ،‬حيث اعتبر العقل والكون شيء واحد‪ .‬كما سعى إلى ربــط فلســفة األخالق بمهــام المجتمــع والدولــة‪،‬‬
‫ومن اكبر أعماله "المبادئ األخالقية" التي أثرت على أخالق المسيحية فيما بعد وخاصة في القــرون الوســطى‬
‫الحديثة‪.‬‬
‫وسينيكا عكس شيشرون لم يهتم بدراسة السياسة الرومانية ألنه يرى بأن اإلمبراطورية في حالة انهيار أخالقي‬
‫واجتماعي وسياسي‪ ،‬والسبب في ذلــك يعــود إلى الحكم والنظــام الســائد‪ ،‬وعلى هــذا األســاس تشــاءم ويئس من‬
‫السياسة الحاكمة ودعى إلى االبتعــاد والهــروب من الوظــائف السياســية ألنهــا تخلــق نــوع من المكــر والخــداع‬
‫والنفاق والشر في نفــوس البشــر وهــذا بعــد أن مارســها وتقلــد وظــائف سياســية في اإلمبراطوريــة الرومانيــة‪،‬‬
‫والعودة إلى الفترة الطبيعية واألخالقية التي ينبغي أن يكون عليها اإلنسان‪ ،‬وتعلــق بالمســيحية ألنهــا تــدعو إلى‬
‫الخير العام والفضيلة‪ .‬واإلنسان يجب أن يتصف بصفات أخالقيــة حميــدة وكمــا يجب عليــه أن يحــارب الشــر‬
‫والتصرفات الّالأخالقية والطفيلية‪ ،‬ألنها تعلم اإلنسان الجشــع وحب الملكيــة والــذات‪ ،‬وهــو يقــول‪ " :‬إّن البشــر‬
‫األوائل وأبناء البشر األوائل كانوا يتبعــون الطبيعــة ببسـاطة وكــان مرشـدهم وقـانونهم رجـل هــو األفضــل من‬
‫بينهم‪ ،‬والذي إلرادتـه كـانوا يفوضـون أمـرهم‪...‬إّن الحكم لم يكن يعـني السـيطرة‪ ،‬وإنمـا الخاتمـة‪ .‬فالقائـد كـان‬
‫‪18‬‬
‫يعرف القيادة‪ ،‬والرعايا كانوا يعرفون الطاعة‪...‬أي جيل كان أكثر سعادة ؟ إنهم كانوا يتمتعون بالطبيعــة بشــكل‬
‫مشترك‪ .‬وهي كأم كانت توفر الحماية للجميع‪ .‬هناك‪ ،‬كانت تمتلك الثروة العامة بكل أمان‪...‬لقد قلب البخل أكثر‬
‫النظم تعّقــال "‬
‫حقيقة أن سينيكا كان متناقضا ومتذبذبا في فلسفته وأفكاره السياسية بخاصة إال أنه في المحاورات اإلثني عشــر‬
‫دعى إلى االمتناع السياسي‪ ،‬واالمتناع في حــد ذاتــه ليس هروبــا وإّنمــا مشــروع للتأمــل‪ ،‬وهــو يتصور وجــود‬
‫مدينتين أوجماعتين فاألولى ليس لها حدود إال حدود الشمس‪ ،‬والثانية هي التي تربطنا بها صــدفة الــوالدة وهي‬
‫تنحصر في فئـة محـدودة من األشـخاص‪ ،‬واإلنسـان هنـا يجب عليـه أن يخـدم المجموعـتين ألّن حياتـه تتعلـق‬
‫باألولى كمسقط رأسه والثانية تؤثر فيه ألّنه جزء منها‪.‬‬
‫د‪ -‬مقارنة بين شيشرون و سينيكا‪:‬‬
‫من حيث التشابه‪:‬‬
‫‪ -1‬تأثرا كالهما بالمدرسة الرواقية وكانا ضّد المدرسة األبيقورية‪.‬‬
‫‪ -2‬ينتمي كل منهما إلى الطبقات األرستقراطية‪.‬‬
‫‪ -3‬تقلدا مناصب سياسية وزير وقنصل‪.‬‬
‫‪ -4‬لهما نفس النظرة خول المساواة اإلنسانية والقانون الطبيعي والدولة العالميــة وكــذا االعــتراف المتبــادل بين‬
‫الدولة والشعب حول الحقوق والواجبات (نوع من العقد االجتماعي )‪.‬‬
‫‪ -5‬اتفاقهم على أّن عهد الجمهورية هي المرحلة التي وصلت إليها روما‪.‬‬
‫من حيث االختالف‪:‬‬
‫‪ -1‬كان شيشرون متفائال بإعادة مجد روما الضائع في يوم ما‪ ،‬لكن سينيكا كـان متشـائما حـول هـذا الموضـوع‬
‫حيث قال بأّن هذا العهد قد ولى وإلى األبد مادام أخالق الناس قد فسدت‪.‬‬
‫‪ -2‬لم يهتم سينيكا بدراسة السياسة الرومانية ألّنه يرى بأّن اإلمبراطورية الرومانية في حالة انهيــار خلقي‪ ،‬لكن‬
‫شيشرون جمع ودرس وحّلل األفكار السابقة‪.‬‬
‫‪ -3‬دعا سينيكا الرجل الصالح إلى االبتعاد عن السياسة ألنها تخلق نوع من المكر والخــداع والنفــاق في نفــوس‬
‫البشر‪ ،‬لكنه يسعى لتعليم الناس وإفادتهم بعلمه وخبرته دون تمتعه بسلطة عليا‪.‬‬
‫‪ -4‬شيشرون يفضل الدستور المختلط‪ ،‬وسينيكا يرى أن الحكومة المصلحة هي الــتي يتحلى أبنــاء الشــعب فيهــا‬
‫باألخالق الفاضلة وتستند في تسيير الشؤون على التعاليم الدينية بغض النظر عن نوعها‪.‬‬
‫‪ -5‬تعلق سينيكا بالديانة المسيحية ولكن شيشرون توفي قبل الميالد (‪ 43‬ق‪.‬م)‪.‬‬
‫‪ -06‬الفكر السياسي المسيحي‪:‬‬
‫أ‪ -‬القديس أوغسطين‪ :‬حاول اليونانيون قديما أن يصلوا لفكرة الدولة والمجتمــع المــدني‪ ،‬وقــد كتب أفالطــون‬
‫وأرسطو وغيرهم في هذا‪ ،‬لكن اإلمبراطورية الرومانية كانت تواجه مشكالت عديــدة ومتراكمــة‪ ،‬وتقــف أمــام‬
‫انهيار حقيقي‪ ،‬وبعد ظهور المسيحية وانتشـارها وتحولهــا إلى الــدين الرسـمي لإلمبراطوريــة‪ ،‬كتب الفيلسـوف‬
‫المسيحي أوغسطين عام ‪413‬م‪ ،‬كتابا سماه (مدينة اإللــه)‪ ،‬حــاول فيــه أن يصل للمجتمــع الــديني‪ ،‬وســأعرض‬
‫بعض أفكاره‪ ،‬وأترك كثيرا من الفراغات ليقوم للقارئ بتعبئتها‪.‬‬
‫مفهوم الدولة‪:‬‬
‫أوال‪ :‬نقد الفكرة الكالسيكية للمجتمع المدني‪:‬‬
‫يؤكد أوغسطين أن ضعف اإلمبراطورية التي تنّص رت حديثا بسبب تساهلها مــع الوثنيــة والهرطقــة والفسـوق‪،‬‬
‫وهذا ما دعاه إلى التنظير لفكرة المجتمـع الـديني الـذي يحقـق غايـات اإللـه على األرض‪ ،‬فتوجـه أوال إلى نقـد‬
‫الفكرة اليونانية السـابقة للمجتمــع المــدني‪ ،‬فقــال إن المجتمعــات قسـمان‪ ،‬األّو ل‪ :‬المدينــة األرضــية‪ ،‬الــتي تعظم‬
‫اإلنسان‪ ،‬وتتمركز حوله‪ ،‬والثاني‪ :‬مدينة اإلله‪ ،‬وهي التي تتمركز حول أوامر اإلله‪ ،‬وتحولها إلى واقع‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫كانت الفكرة الكالسيكية للمجتمع المدني تكتفي ذاتيا في التعرف على المنظومة القيميــة للدولــة‪ ،‬فمفهــوم العــدل‬
‫مثال‪ ،‬يمكن إدراكه من العقول‪ ،‬وهذا يعني االعتماد على التراكم المعرفي في إدراك شكل المجتمع واحتياجاته‪،‬‬
‫بينما يعتقد أوغســطين أن المنظومــة القيميــة يتم اســتنتاجها من مرجعيــة إلهيــة‪ ،‬وال يمكن االعتمــاد على العقــل‬
‫والتراكم البشري‪.‬‬
‫من الواضح جدا بناء هذه الثنائية‪ ،‬والفصل الحاد بين ما هو ديني ومــا هــو دنيــوي‪ ،‬والتعامــل مــع هــذه الثنائيــة‬
‫كضدين ال يجتمعان‪ ،‬فإما هذه الطريقة وإما هذه‪ ،‬وليس رجل الدين هو المسؤول الوحيــد عن هــذه األزمــة‪ ،‬بــل‬
‫كان الفيلسوف أيضا متورطا فيها‪ ،‬حين اعتقد أن العقل الفلسفي هو الذي يعتمد على ذاته بشكل كامل‪ ،‬ويرفض‬
‫أي مرجعية متجاوزة‪ ،‬بل هاجم الفالسفة كل فلسفة دينية‪ ،‬وادعوا أن ذلك محال‪.‬‬
‫لقد استمرت هذه العداوة والتضاد بين التمركز حول (هللا) من جهة‪ ،‬والتمركز حول (اإلنسان) من جهة أخرى‪،‬‬
‫من العصر اليوناني‪ ،‬حتى ظهور نقاد الحداثة‪ ،‬أو عصر ما بعد الحداثة في القرن الماضــي‪ ،‬حينهــا أدرك كثــير‬
‫من المفكرين هذه الثنائية المتوهمة‪ ،‬وأن العقل والدين يمكن أن يكونا في مجتمع واحد‪ ،‬لكن بشــرط أن يحصل‬
‫تغيير جذري في مفهوم اإلنسان والعقل والدين‪.‬‬
‫لم يكن رجل الدين المسيحي يولي أي اهتمام للدولــة في البدايــة‪ ،‬بــل كــان يعــدها عقوبــة إلهيــة‪ ،‬ألن من طبيعــة‬
‫السياسة أنها تحتك بالواقع بشكل مباشــر‪ ،‬ومن شــأن هــذا االحتكــاك أن يوّل د األخطــاء واآلثــام‪ ،‬وأن يــدنس من‬
‫طهـارة الكنيسـة‪ ،‬وعلى الكنيسـة أن تنـأى بنفسـها عن العمـل السياسـي‪ ،‬حـتى تحافـظ على طهارتهـا وقـد مّث ل‬
‫أوغسطين تحوال هاما في هذه النظرية‪ ،‬فهــو يوافــق على أّن الدولــة خطيئــة‪ ،‬لكنــه يعتقــد أن الدولــة نفســها هي‬
‫كفارة هذه الخطيئة‪ ،‬بمعنى أن الدولة هي الداء وهي الدواء‪ ،‬ورأى أن أخطاء السياسة ال تدنس الكنيســة‪ ،‬وإنمــا‬
‫تدنس رجال الدين وحدهم‪ ،‬وستبقى الكنيسة مستقلة عن أفعال رجالها‪.‬‬
‫لقد اعتنى اليونانيون بفكرة (العدل)‪ ،‬وأن على الدولة أن تحقق العدل بالقانون‪ ،‬ويعتقد أوغســطين أن اليونــانيين‬
‫أخطأوا حين ربطوا تحقيق العدل بفعل اإلنسان‪ ،‬فحتى لو أقـام اإلنسـان دولــة القــانون‪ ،‬فـإن المجتمــع لن يكــون‬
‫منضبطا‪ ،‬آمنا‪ ،‬يحقق المساواة والحرية‪ ،‬هذه مغالطة كبيرة في رأيه‪ ،‬ألن العدل منحة إلهية‪ ،‬تقدم للمجتمع بنــاء‬
‫على التزامه بالدين‪ ،‬وليس له عالقة بشكل الدولة‪ ،‬وال بعدالتها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬فلسفة المجتمع الديني‪:‬‬
‫نشأت فكرة المجتمع المدني من منطلق أن مهمــة الدولــة هي تحقيــق غايــات هللا في األرض‪ ،‬وبمــا أن اإلنســان‬
‫ينزع للخطيئة بشكل دائم‪ ،‬فالبد من قوة قسرية تمنعـه من ذلـك‪ ،‬وهـذا هـو الشـرط األساسـي إلقامـة المنظومـة‬
‫األخالقية‪ ،‬ولهذا اهتم أوغسطين كثــيرا بفكــرة (الضــوابط)‪ ،‬و (القيــود)‪ ،‬فحين نتحــدث عن العمــل أو التعليم أو‬
‫االقتصاد‪ ،‬سنركز االهتمام على الضوابط‪ ،‬وليس على التصورات أو النماذج‪.‬‬
‫والفرق الرئيسي بين من ينادي بالمجتمع المدني‪ ،‬ومن ينادي بالمجتمع الديني‪ ،‬أن األّو ل يرى أن اإلنســان كــان‬
‫يعيش في شكل اجتماعي بسيط‪ ،‬القرية مثال أو القبيلة‪ ،‬وهذا الشكل البسيط يقلل من االختالفات بين األفــراد في‬
‫األفكار والعادات والتصورات واألديان‪ ،‬لذلك ال تحتاج القرية أو القبيلـة إلى شـكل معقـد من اإلدارة‪ ،‬أو ضـبط‬
‫حازم من القوانين‪ ،‬ولكن المجتمعات احتاجت إلى التحالف من جهة‪ ،‬وتوسعت وازداد عددها من جهـة أخـرى‪،‬‬
‫فالمدينة‪ ،‬واإلقليم‪ ،‬والدولــة‪ ،‬واإلمبراطوريــة‪ ،‬تحتــاج إلى شــكل من الضــبط والحــزم‪ ،‬وااللــتزام بالقــانون‪ ،‬ألن‬
‫االّتساع الجغرافي مثال‪ ،‬ينتج عنه اتساع الفارق بين المجتمعات في عاداتهم وأديانهم‪ ،‬وطــرق عيشــهم‪ ،‬فمهمــة‬
‫الدولة هنا هي تحديد العالقة بين األفراد‪ ،‬حتى يحقق كل فــرد ذاتــه في المجتمــع‪ ،‬وليس من مهمتهــا أن تضــبط‬
‫العالقة بين الفرد وربه‪ ،‬وهي بمعنى أكثر اختصارا (حالة تعاقدية)‪ ،‬وبهذا المعنى يستطيع من ينادي بــالمجتمع‬
‫المدني أن يفسر حتى دولة األنبياء‪ ،‬فقد كان النبي صلى هللا عليه وسـلم ينـادي بـ (من ينصرني حـتى أبلـغ دين‬
‫هللا)‪ ،‬حتى تعاقــد معــه األنصار على أن يمنعــوه ممــا يمنعــوا منــه أمــوالهم وأوالدهم وأنفســهم‪ ،‬لكن من ينــادي‬
‫بالدولة الدينية يعتقد ابتداء أن للمجتمــع الــديني مهمــة جــاهزة ومعــدة‪ ،‬وهي موجــودة في النص الــديني‪ ،‬ويمكن‬
‫اختصارها بما قاله أوغسطين أنها (تحقيق غايات هللا في األرض)‪ ،‬والسؤال هنا‪ :‬ما هي هذه الغايات؟‬

‫‪20‬‬
‫ثالثا‪ :‬نظرية السيفين‪ ،‬سيف البابا وسيف اإلمبراطور‪:‬‬
‫يعلم أوغسطين أن رجال الدين ال يســتطيعون إقامــة هــذا النــوع من المجتمــع‪ ،‬لــذلك كــان مشــروعه مقــدما إلى‬
‫اإلمبراطوريــة‪ ،‬أي رجــل السياســة‪ ،‬وهــو يــدعوه إلى إقامــة المدينــة المســيحية‪ ،‬ومن يتجــه هــذا االتجــاه يعلم‬
‫المقايضة التي يقوم بها‪ ،‬لقد كانت اإلمبراطورية في حالة ضعف وتراجــع‪ ،‬ومن شــأن الــدين أن يضــفي عليهــا‬
‫شرعية تخرجها من أزمتها‪ ،‬هذا هو الثمن األكــبر الــذي ســيقدمه أوغســطين لإلمبراطوريــة المســيحية‪ ،‬والثمن‬
‫الذي سيقبضه رجل الدين سيكون السيطرة على المجال العام‪ ،‬لضبطه سلوكيا وفكريــا‪ ،‬والمالحــظ هنــا أن هــذا‬
‫النوع من التحالف بين الديني والسياسي يوّل د هــذا الفهم لـ (غايــات هللا في األرض)‪ ،‬فأوغسـطين يعلم جيــدا أن‬
‫للسياسي احتياجاته وطلباتـه‪ ،‬فليس من الحكمـة أن يتـدخل رجـل الـدين في السياسـة الخارجيـة مثال‪ ،‬وليس من‬
‫الحكمة أيضا أن يحاسب رجل السياسة في تصرفه في األموال العامة‪ ،‬ألنها عــادة مضــطردة في كــل ممــارس‬
‫للسياسة‪ ،‬لذلك عليه أن يغض الطرف عنها‪ ،‬بمقابل أن يطلق السياسي يده في المجال العــام‪ ،‬وأن يســمح لــه في‬
‫إنشاء مجتمع متدين في سلوكياته العامة‪ ،‬وأن يسمح له بنشر التعــاليم المســيحية‪ ،‬وأن يمنــع الهرطقــات والفكــر‬
‫الضال وكل تفسير منحرف للدين من االنتشار‪ ،‬وهذا مــا جعــل بعض الفالســفة يعـّد أوغســطين أول المنّظ رين‬
‫لمحاكم التفتيش‪.‬‬
‫كان أوغسطين حريصا على أن تكون اليد األقوى لرجل الــدين‪ ،‬ألنــه يعي أن العالقــة بين رجــل الــدين ورجــل‬
‫السياسة ليست عالقة تحالف بين صديقين‪ ،‬بل هي عالقة صراع في القوى‪ ،‬ومن المتوقع أن ترجح الكفة ألحــد‬
‫الحليفين‪ ،‬وقد طّو ر رجال الكنيسة هذه النظرية‪ ،‬وسّم وها نظرية (السيفين) (‪ ،)Tow Swords‬وعززها بعد‬
‫القرن الخامس البابا غيالسيوس األّو ل‪ ،‬يقول جون إهرنبرغ‪ ” :‬فالدولة وجدت لحفظ النظــام العــام في الشــؤون‬
‫العامة‪ ،‬والكنيسة وجدت لهداية جميع أعضائها‪ ،‬وكــل ســلطة كــانت ســلطة عليــا ضــمن مجالهــا الخــاص‪ ،‬على‬
‫الرغم‪ ،‬من أنه افترض (أي غيالسيوس) على العموم‪ ،‬أنه في حال التصادم‪ ،‬فإن الغلبــة تكــون لســلطة الكنيســة‬
‫الروحية”‪.‬‬
‫واجه أوغسطين إشكالية فكرية في هذا النوع من التنظير للمجتمع الــديني‪ ،‬ذلــك أن الــدين يقــوم في أصــله على‬
‫حرية اإلرادة‪ ،‬ووجود مجتمع من هذا النوع‪ ،‬يعتمد على القسر والمنع واإللزام‪ ،‬يعارض هذه الطبيعــة الدينيــة‪،‬‬
‫بمعنى أن الدين لن يكون له معنى وال حقيقــة إذا تم باإلجبــار‪ ،‬فلجـأ إلى أن يكــون التعليم هــو الحـل‪ ،‬بمعــنى أن‬
‫يكون التعليم موجها ومركزا ومتقنا‪ ،‬من أجل إيجاد قناعة متأصلة لدى المجتمع بأن هـذا الـدين أو هـذا التفسـير‬
‫للدين هوالصحيح‪ ،‬وأن هذا النوع من المجتمعات هي الراشــدة‪ ،‬وبالتــالي يكــون النــاس قــد الــتزموا الفكــرة عن‬
‫قناعة‪ ،‬وهو يعلم أنه يؤصل لتعليم الّد ين يقوم على فكــرة فــرض رأي معين‪ ،‬والحرمــان من التعــرف على آراء‬
‫أخرى‪ ،‬بل يقوم على فكرة نقيضة لحرية المعرفة‪ ،‬إنه يعرف ويعي ذلك تمامــا‪ ،‬لكنــه المخــرج الوحيــد من هــذا‬
‫المأزق‪ ،‬لذلك أصبح التعليم ركيزة أساسية في كل مجتمع ديــني‪ ،‬وأي محاولــة للمســاس بــه‪ ،‬تواجــه من رجــال‬
‫الدين بشراسة‪ ،‬بل إن أي محاولة لتعميم المعرفة‪ ،‬وجعلها حرة ومستقلة‪ ،‬لن تواجه إال بتهم نشـر الفكــر الضــال‬
‫والمنحرف‪ ،‬حتى يبقى الناس على قناعاتهم‪ ،‬وحتى ال يصل المجتمــع إلى مرحلــة تصارع األفكــار‪ ،‬ومواجهــة‬
‫إشكالية إلزام الناس بما يعارض قناعاتهم‪.‬‬
‫مفهوم العدالة‬
‫لقد دافع أوغسطين كما رأينا في السابق على مجموعة األمم المسيحية‪ ،‬أي اتحاد الــدول الــتي تعتنــق المســيحية‬
‫كديانة لها‪ ،‬هذا إيمانا منــه أن الــدول غــير المسـيحية عجـزت وتعجـز عن إقامــة العدالــة‪ ،‬وبهــذا يعــترض أشـد‬
‫االعتراض على أراء شيشرون وغيره من مفكري ما قبل المسيحية الذين زعمـوا أن إقامـة العدالـة هي وظيفـة‬
‫أية مجموعة األمم أو وظيفة الدولة بغض النظر عن عقيدتها‪ ،‬فيرى بأن العدالــة ال يمكنهــا أن تتحقــق مــا دامت‬
‫الدولة غير مسيحية وبالتالي ومن أجل تحقيق هذه العدالــة يجب أن تكــون الدولــة مســيحية‪ ،‬وأنــه من المغالطــة‬
‫القول بأن الدولة قادرة أن تعطي كل ذي حق حقه في العبادة‪ ،‬أما فيما يخص الــدول مــا قبــل المســيحية والحــال‬
‫هكـذا يـرى أنهـا دول ولكن بـالمعنى الضـيق المحـدود ولم تكن دوال بـالمعنى الشـامل الـذي جـاءت بـه الديانـة‬
‫المسيحية‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫الدولة الحّقة هي التي تقوم فيها العقائد على أسس من التعليم والتي تحافــظ على ســالمة هــذه العقائــد‪ ،‬وال يمكن‬
‫بعد اآلن أي بعد ظهور المسيحية أن ترتقي أي دولة إلى مرتبة الدولة الحّق ة مــا لم تكن المســيحية وال تســتطيع‬
‫أية حكومة ليس لها صلة بالكنيسة أن تكون عادلة‪.‬‬
‫وهكذا نستنتج في األخير أن الدولة المسيحية هي وحدها القادرة على إقامــة العدالــة وإحقــاق الحــق‪ ،‬ومن جهــة‬
‫أخرى تظهر أفكار أوغسطين مثالية ألنها تدعو إلى الفصل بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلــة وبين حب‬
‫الّذ ات واألنانية الفردية وحب هللا الموطن الحقيقي في المدينة السماوية‪.‬‬
‫أما فيمـا يخص القـانون الوضـعي فهـو أسـاس الحيـاة االجتماعيـة يضـعونه النـاس من عنـدهم و لكن ال يكـون‬
‫مناقضا مع القانون اإللهي ويحترمونه وقد ظهرت ضرورته نتيجة اختالل اإلنسان وخطــأه منــذ أن عصى آدم‬
‫رّبه‪.‬‬
‫ب‪ -‬القديس توما اإلكويني‪:‬‬
‫‪ -1‬طبيعة القانون عند توما اإلكويني‪ :‬القانون عند توما اإلكويــني جــزء ال يتجــزأ من نظــام الحكم اإللهي الــذي‬
‫يســيطر على كــل شــيء في الســماء واألرض‪ ،‬بــل كــان يعتــبره قبســا من حكمــة هللا ينظم العالقــات بين جميــع‬
‫المخلوقات وقد أولى توما عناية فائقة في دراســته للقــانون تفــوق بــاقي النظريــات السياســية‪ ،‬ولــذا كــان تبويبــه‬
‫للقانون جزءا من أكثر أجزاء فلسفته تمّيزا فما هي إذن أقسام القانون عند القديس توما اإلكويني ؟‬
‫قسم توما القانون إلى أربعة أقسام‪ ،‬ثالثة إلهية وطبيعية وواحد فقــط من عمــل اإلنســان أو البشــر وهــو القــانون‬
‫الوضعي وهذه األقسام هي ‪:‬‬
‫القانون األزلي‪ :‬هو عبارة عن الوضع األزلي للحكمة اإللهية التي تنظم الخليقة كلها‪ ،‬ويسمو هــذا القــانون على‬
‫الطبيعة البشرية ويعلو على مسـتوى فهم اإلنسـان‪ ،‬بـالرغم من ذلـك فهـو ال يعـد غريبـا عن إدراك اإلنسـان أو‬
‫مضادا لفهمه ‪.‬‬
‫القانون الطبيعي‪ :‬هو انعكاس للحكمة اإللهية في المخلوقات وهو يتجلى فيما تغرسه الطبيعة في سائر الكائنــات‬
‫الحية من سبل نحو فعل الخير وتجنب الشر وحماية النفس ( البحث عن الحقيقة – إنماء القدرة على اإلدراك –‬
‫إنجاب األوالد وتربيتهم ‪ )...‬فالقانون الطبيعي يشمل كل ما يدعو إلى إيجاد مجال أوسع لهــذه الميــول البشــرية‪،‬‬
‫وهو قانون عام للبشر جميعا‪.‬‬
‫القانون اإللهي‪ :‬هو الـوحي والتبليـغ‪ ،‬ويعطي تومـا مثال لـذلك وهـو التشـريعات الخاصـة الـتي أنزلهـا هللا على‬
‫اليهود وكذا األحكام الخاصة لألخالق والتشريعات المســيحية الــتي جــاءت عن طريــق الكتب المقدســة‪ ،‬ولــذلك‬
‫فالقانون اإللهي نعمة من نعم هللا وليس من عمل العقل الطبيعي‪.‬‬
‫و هذه األقسام الثالثة من القانون هي معايير للسلوك واألخالق وال يمكن استمادتها من الطبيعة البشرية‪.‬‬
‫القانون اإلنساني أو البشري‪ :‬وضع خصيصا ليالءم الجنس البشري‪ ،‬وقسمه إلى قانون الشعوب وقانون مدني‪،‬‬
‫وهذا القانون ينظم نوع واحد من المخلوقات‪ ،‬والمالحظة هنا هو أن توما اإلكويني لم يأت بأشياء جديــدة بشــأن‬
‫القانون اإلنساني بل اعتمد على المبادئ العظمى للنظم السائدة من قبــل في أنحــاء العــالم‪ ،‬وقــد وضــع هــدا هــذا‬
‫النوع من القانون لخير البشر وهو نتاج مجهودهم ويعملــون لخــيرهم جميعــا عن طريــق وضــع التشــريعات أو‬
‫العمل بالعادات والتقاليد والعراف أو إسناد األمر إلى شخصية ذات هيبــة تسـهر على عنايــة المصالح العامــة‪.‬‬
‫لإلشارة فالقانون اإلنساني مشتق من القانون الطبيعي وال يمكن بأي حال من األحوال أن يتعارض معه‪.‬‬
‫من خالل هده األقسام للقانون نستنتج أن توما أراد أن يصدر نظام واحد معقول يشمل اإلله والطبيعة واإلنســان‬
‫حيث يجد المجتمع والسلطة المدنية مكانهمــا الالئـق في ظــل هــذا النظــام‪ ،‬وهكــذا ففلسـفته ظهــر فيهــا نــوع من‬
‫النضج في العقائد الدينية والخلقية التي قامت عليها أنظمة القرون الوسطى‪.‬‬
‫‪ 2-‬مفهومي المجتمع و الدولة عنده ‪:‬‬
‫يرى توما اإلكويني أن الكون عبارة عن نظام مرتب يمتد في درجات تبدأ من اإلله في أعاله وتنتهي عند أدنى‬
‫المخلوقات‪ ،‬ويعمل كل كائن منها بدافع داخلي مستمد من طبيعته جاهدا في سبيل الخير أوالكمال المالئم لطبقته‬
‫من المخلوقــات وذلــك حســب قدراتــه الجســدية والعقليــة‪ ،‬ويظــل مجاهــدا حــتى يأخــذ مكانــه في هــذا النظــام‬
‫‪22‬‬
‫التصاعدي‪ ،‬وبطبيعــة الحــال يســيطر األعلى على األدنى‪ ،‬وكمــا يســيطر هللا على العــالم تســيطر الــروح على‬
‫الجسد‪ ،‬ولكن لكل كائن قيمته‪ .‬والمجتمع كالطبيعة له أهداف وغايات تقضي على األدنى بأن يخــدم األعلى وأن‬
‫يطيعه‪ ،‬في حين أن على األعلى أن يسود األدنى‪.1‬‬
‫أّيد توما اإلكويني أرسطو الذي رأى في تبادل المنافع والحاجيات ألن اإلنسان ال يستطيع أن يكفي نفسه بنفسه‪،‬‬
‫لذلك تعّد دت المهن والوظائف لتشكل في األخير كل متكامل يضــمن الحيــاة الطيبــة والســعيدة الــتي يطمح إليهــا‬
‫أفراد المجتمع وهي غاية طبيعية لبني البشــر‪ .‬أمــا الدولــة فهي هيئــة موحــدة‪ ،‬وتســعى لتحقيــق العدالــة على يــد‬
‫حكومة عادلة‪ ،‬فما هي مقاييس هذه الحكومة ؟‬
‫إن القانون الطبيعي أعطانا درسا‪ ،‬فرأينا كيف يتناســل البشــر ويحــافظون على حيــاتهم‪ ،‬وهــذا يــدفعنا لنســتعمل‬
‫العقل والبحث في القواعد الــتي تمكن طبقــات المجتمــع من التعــايش مــع بعضــها في ســعادة طبيعيــة‪ ،‬وبصفته‬
‫الحاكم مسؤوال على الرعية ورئيسا للحكومة التي تلعب الدور الفعال في تدعيم الروح الخلقية‪ ،‬فإن الذي يضــع‬
‫القوانين التي تنظم العالقات اإلنسانية بين أفـراد شـعبه‪ ،‬والحـاكم سـلطته محمـودة ال يسـمح لـه بالقيـام بأعمـال‬
‫تتنافى والقانون ومهمته توفير األمن والطمأنينة والنظام وتحقيق الوحــدة وزيــادة أواصــر المحبــة واإلخــاء بين‬
‫الناس‪.‬‬
‫يفضل توما حكومة الفرد أو الحكم األرستقراطي‪ ،‬فحكومة الفرد مطابقة للطبيعة‪ ،‬فجســم اإلنســان تــديره النفس‬
‫واألسرة يديرها األب‪ ،‬والعالم يديره اإلله‪ ،‬وعلى هذا األساس فالدولة يجب أن يحكمها فرد واحد‪.‬‬
‫أما النوع الثاني المفضل لديه يتمثل في الحكومة األرستقراطية ويبرر ذلك بأن هذا النــوع هــو أكــثر حكمــة من‬
‫الديمقراطية الفوضوية‪.‬‬
‫كما أنه خالف زمالئه في الكنيسة لعدم موافقته على اعتبار جميع المدن فاسدة بسبب الشرور التي ترتكب فيها‪،‬‬
‫ورأى أن العدالة تسود في المجتمع عندما نضع الحدود الفاصلة بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة‪.2‬‬
‫والدولة عنده اجتماع سياسي طبيعي لها قوانين يجب على األفراد أن يخضعوا لقوانينهــا ولكن مــا هي وظــائف‬
‫الدولة األساسية في رأي توما اإلكويني ؟‬
‫يرى أن وظائف الدولة تنحصر في أربعة وظائف أساسية وهي ‪:‬‬
‫‪ -1‬تحقيق األمن والطمأنينة وحماية األفراد من المخاطر والجوع‪.‬‬
‫‪ -2‬تحقيق العدالة االجتماعية بواسطة التشريعات‪.‬‬
‫‪ -3‬تحقيق األخالق للمجتمع البشري حسب الكنيسة‪.‬‬
‫‪ -4‬حماية الدولة للدين والمحافظة على سياسة الكنيسة‪.‬‬
‫كما ركز توما على الدولة والحرب فيرى بأن الدولة هي عرضة للخطر الخارجي ولذلك طلب منهــا االســتعداد‬
‫للحرب وهي إحدى وظائفها األساسية (تحقيق األمن) ولكن هذه الحرب يجب أن تكون عادلة ومن شروطها ما‬
‫يلي ‪:‬‬
‫أن تعلنها السلطة الشرعية وتباشرها بنفسها‪.‬‬
‫أن تكون أسبابها عادلة أي تهدف إلى دفع الظلم‪.‬‬
‫أن تستمر فيها بنية صادقة وبعزم ثابت‪.‬‬
‫إن الحرب من األمور الدنيوية (سفك الدماء) لذلك فهي ال تهم رجــال الــدين والكنيســة‪ ،‬لكن هــؤالء يســتطيعون‬
‫استعمال األسلحة الروحية كإقامة الشعائر والوعظ واإلرشاد والتعليم وغيرها‪.‬‬
‫‪ -8‬الفكر السياسي عند المسلمين ‪:‬‬
‫الفكر السياسي اإلسالمي هو ذلك النشاط العقلي الذي يضم اآلراء والمبادئ واألفكار لمجموعة بشرية معينة‬
‫هم المسلمين منذ أن نشأ لهم مجتمع سياسي وتكونت لإلسالم دولة منذ عهد النبي (صــل هللا عليــه وســلم) حــتى‬

‫‪ 1‬عبد المجيد أبو الفتوح بدوي‪ ،‬التاريخ السياسي والفكري‪،‬دار المعارف‪ ،‬القاهرة‪ ،1988 ،‬ص‪.134:‬‬
‫‪ 2‬موريس كرانتون‪ ،‬أعالم الفكر السياسي‪،‬دار النهار‪ ،‬بيروت‪ ،197 ،‬ص‪.34:‬‬
‫‪23‬‬
‫عصرنا الحالي بما يعني أن هذا الفكر له مراحله وله تاريخ يشمل هذه المراحل ويضم الكتابــات حــول األفكــار‬
‫والمبادئ والنظريات التي تخص حياة وأهداف المسلمين السياسية والقواعد التي تحكم وتنظم ومــا يطلــق عليــه‬
‫سياسي ويخص المسلمين كأمة ومجتمع سياسي‪ .‬إّن ه حقــل معــرفي ينطــوي على دالالت معرفيــة هي خالصــة‬
‫مفهوم مركب من ثالثة مفاهيم فرعية ‪ :‬الموصوف وهو الفكر والصفتان له ‪:‬السياسي واإلسـالمي وكـل مفهـوم‬
‫منها تختلف تعريفاته بقدر ما تتشابه وتتنافر بقدر ما تتجاذب‪.‬‬
‫المرجعية الفكرية لدى فالسفة المسلمين‬
‫يذهب البعض إلى أن الفلسفة اليونانية عند أفالطــون وسـقراط وأرسـطوطاليس وغــيرهم هي األســاس الــذي‬
‫ُبني عليه تفكير فالسفة المفكرين المسلمين األوائل‪ .‬إال أن في هذه الدعوى تجاوزا كبــيرا للحقيقــة‪ ،‬ألن الفلســفة‬
‫اليونانية نفسها ليست إال امتدادا وخالصة لألوهام الميتافيزيقية التي كانت منبتا ألديان القــارة اآلســيوية‪ ،‬وذلــك‬
‫ما ُنقل إلى الثقافة العربية في صدر دولة بني العباس وكان مرجعا ألول حركة فلسفية في اإلسالم‪.‬‬
‫إن اإلنسان عندما نسي المنهج الرباني الذي أنزل مع آدم عليه السالم‪ ،‬وفقــد الصلة باهلل‪ ،‬وارتكس في حمــأة‬
‫الجاهلية والبدائية‪ ،‬مألت الهواجس واألوهام قلبه وعقله واستبد به الخوف من الظـواهر الطبيعيـة برقـا ورعـدا‬
‫وخسفا وزالزل وعواصف‪ ،‬وأخذ به الرعب والرهبة من الموت والمصير والمجهــول كــل مأخــذ‪ ،‬فأقبــل على‬
‫نفسه ينسج لها استجالبا للطمأنينة‪ ،‬خياالت وتصورات وأساطير وخرافـات‪ ،‬عمـا ال يفهمـه ومـا يرجـوه أو مـا‬
‫يرهبه ويخافه‪ .‬فتراكم بذلك لدى البشرية على مر السنين‪ ،‬تراث ضخم من المعتقدات الضالة المضطربة‪ ،‬الــتي‬
‫اتخـذت فيمـا بعـد مـادة للتفكـير واالسـتقراء‪ ،‬والبحث عن الـذات أصـال ومـآال‪ ،‬وعن الكـون والطبيعـة ماضـيا‬
‫واستقباال‪ .‬ثم تحول هذا التراث إلى قاعدة للفكر الديني الوضعي المفضي إلى عبادة األوثان والطواطم والنجوم‬
‫والكواكب‪ ،‬واتخاذها آلهة وأربابا‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك اُتخذت هذه المعتقدات الدينية منطلقا ومادة للتفكير الفلسفي اآلسيوي الذي ُنقل إلى اليونان وتطور‬
‫فيه‪ .‬وظل مجردا من أهم أداتين للفهم هما‪ :‬المعرفة الماديــة الصحيحة لحقــائق الطبيعــة بســبب التخلــف العلمي‬
‫آنئذ‪ ،‬والمعرفة الغيبية اليقينية التي ال مصدر لها إال الوحي‪.‬‬
‫ولعل األسطورة التي رواها أفالطون عن منشأ الفكر السياسي في محاورة "بروتــاجوراس"‪ ،‬تقــدم لنــا خــير‬
‫مثال على ما نذهب إليه من أن الفكر البشري عامة والسياسي خاصة منبثق من الخرافة واألساطير واألوهام‪.‬‬
‫لقد زعم أفالطــون أن اآللهــة عنــدما شــكلوا المخلوقــات الفانيــة‪ ،‬أخــذوا يوزعــون عليهــا صــفاتها الخاصــة بهــا‬
‫والمحتاجة إليها‪ ،‬فكان من المخلوقات ما سلحوها بوسائل الدفاع‪ ،‬ومنها ما تركوهـا عـزالء وزودوهـا بأسـاليب‬
‫للمحافظة على البقاء‪ .‬ولكنهم اكتشفوا في نهاية األمر أنهم وزعــوا جميــع الصفات والقــدرات على الحيوانــات‪،‬‬
‫ونسوا اإلنسان الذي ُترك عاري الجسم ال يملك مأوى وال أسلحة للدفاع‪ .‬فعمد "برومثيوس" إلى ســرقة الفنــون‬
‫اآللية والنار مع طريقة استخدامهما ـ وهما خاصتان باآللهــة ـ من معبــد أثينــا‪ ،‬وســلمهما لإلنســان‪ .‬وكــان ذلــك‬
‫سبب حصوله على قسط من الصفات اإللهية التي علمته الحكمة‪.‬‬
‫على هذه األسس نشأ الفكر الفلسفي وتطور‪ ،‬مادة بحثه خياالت البشر وأساطير الخرافة وأوهام سدنة األوثان‬
‫وعبادها‪ ،‬مفتقدا أهم وسائل االستقراء والدراسة والفهم عاجزا عن تحقيق هدفه في كشف حقيقة الكــون وطــرق‬
‫السعادة‪.‬‬
‫إن هذه المعتقدات هي المنشأ األول والمبدأ األساس لكل فلسفات البشر الوضعية في ما قبل اليونان‪:‬‬
‫ـ في بالد ما بين النهرين‪ ،‬آشور وبابل ومعتقداتهما الخاصة بعبادة الشمس والنور‪ ،‬وأبناء الطبقة الحاكمة الذين‬
‫هم " أبناء الشمس "‪.‬‬
‫ـ وفي الصين حيث الكونفوشيوسية‪ ،‬وعقيدة إحياء وميض األنوار في اإلنسان عن طريــق المعرفــة‪ ،‬واإلنســان‬
‫الكامل الذي هو الملك أو النبي أو القائد‪ ،‬الذي يجمع في ذاته سائر القوى المادية والروحانية‪ ،‬وعلى قدر كمالــه‬
‫تكون سعادة عصره‪ ،‬وهو بمثابة اإلمام عند الباطنية أو القطب عند الصوفية‪.‬‬
‫ـ وفي الهند لدى البراهمة‪ ،‬وعقيدة اتصال النفس بالمبدأ الروحاني " براهمان "‪ ،‬الذي يحــل في جميــع مظــاهر‬
‫الوجود‪ .‬وعقيدة شرائع " مينو " التي تقسم الناس إلى أربع طبقات‪:‬‬
‫‪24‬‬
‫طبقة البراهمة‪ ،‬رجال الدين والنخبـة السياسـية‪ ،‬الـذين خلقـوا حسـب زعمهم من رأس اإللـه‪ ،‬وهم أعلى النـاس‬
‫وخالصة الجنس البشري‪.‬‬
‫وطبقة الجنــد‪ ،‬حمــاة البالد الــذين خلقــوا من منكــبي "براهمــا " ويديــه‪ ،‬ويحــق لهم بعــد البراهمــة قــراءة الكتب‬
‫المقدسة‪.‬‬
‫وطبقة التجار والزراع المكلفة باإلنتاج والنشاط االقتصادي و الفالحي‪ ،‬وخلقوا من ركبتي " براهما "‪.‬‬
‫وطبقة الخدم واألسرى المخلوقين من قدمي " براهما "‪ ،‬وليس لهم إال خدمة الطبقات التي فوقهم‪.‬‬
‫ـ وفي بالد فارس حيث ظهرت الهرمسية والزرادشتية والصابئة والكلــدانيون عبــدة النجــوم‪ ،‬ممن يــؤمن بفنــاء‬
‫الجسد وخلود النفس في النعيم أو الشقاء‪ ،‬وبالقائد البشري الكامل الذي يعرف حقيقة الوجود‪.‬‬
‫ـ وفي الفكر المصري الفرعوني ومدرسة اإلسكندرية التي التقت فيها تيارات أوروبا وآســيا وإفريقيــا‪ ،‬ونشــأت‬
‫بها طقوس نظمت مفهوم األلوهية وعالقتها بالبشر‪ ،‬ووضعت قواعــد الثــواب والعقــاب‪ ،‬وأنشـأت عقيــدة ثنائيــة‬
‫التركيب البشري وخلود النفس‪ ،‬وأبوة الشمس والنجوم لبعض النخب السياسية‪.‬‬
‫هذه المعتقدات الهالمية والتصورات الضالة هي التي ورثها اليونان وظهرت فيما كان لــديهم من علــوم وفنــون‬
‫وآداب وفلسفة‪.‬‬
‫ظهرت لدى الفيتاغوريين عقيــدة تــؤمن بثنائيــة الــتركيب البشــري‪ ،‬وضــرورة تطهــير النفس بــالعلوم الطبيعيــة‬
‫والعملية كالموسيقى والرياضيات وما وراء الطبيعة‪ ،‬كي تتمكن من الصعود إلى عــالم األفالك‪ ،‬حيث ســعادتها‬
‫األبدية واتحادها بواجب الوجود‪.‬‬
‫ولدى األفلوطينيين في عقيدة اآللهة المتعددة من النجـوم والكـواكب الـتي تـرى وتسـمع وتـدبر الكـون‪ ،‬وعقيـدة‬
‫المعرفة الحدسية التي يختص بها قــادة الشــعوب أنبيــاء وملوكــا وفالســفة‪ ،‬والمعرفــة العقليــة الجدليــة الــتي هي‬
‫الطريق العادي الكتساب العلوم‪.‬‬
‫على هدي هذه المعتقدات الدينية المتفلسفة والتصورات المضطربة الوثنية‪ ،‬سار الفكر السياسي وعلى أركانهــا‬
‫تأّسس‪:‬‬
‫من مفاهيم الدولة والعدل والحياة السعيدة لدى البابليين والفراعنة والصينيين والهنــود‪ ،‬إلى مــا طــوره من نفس‬
‫المفاهيم كل من اليونان والرومان‪ ،‬إلى ما نقل إلى اللغة العربية في القرنين الهجريين‪ ،‬الثالث والرابــع‪ ،‬وعمــل‬
‫فالسفة المسلمين على إعادة صياغته في صباغ إسالمي لم يستطع أن يخفي أصله الوثني‪.‬‬
‫ومن أفكار كونفوشيوس في" التعليم األكبر" و"عقيدة الوسط" و" األغاني" حول فساد الحكم‪ ،‬ومهام الحكومة‬
‫وواجبها في توفير حاجات الناس أمنا وطعاما‪ ،‬وشروط الكفاءة في الحاكم وممارساته السياسية والتدبيرية‪ ،‬إلى‬
‫تصورات الحكماء السبعة في أثينا لنظام الدولة وتشريعاتها الخاصة بقواعــد اإلدارة وأســاليب تحقيــق الســعادة‪،‬‬
‫إلى نظريات فيتاغورس في العدالة والمساواة‪ ،‬وما يرى األبيقوريون من وجـوب الخضــوع للدولــة ولــو كــانت‬
‫استبدادية ما دامت تحقق األمن والنظام‪ ،‬وما ذهب إليه أفالطون في مدينته الفاضلة التي اتخذت مظهــرا خياليــا‬
‫قوامه اعتبار السلطة عمال معجزا ال يستطيع القيام بــه إال أفــراد ملهمــون‪ ،‬لهم على بــني جنســهم تمّي ز خــاص‬
‫يصلهم بالعقل الفعال ويجعلهم قادرين على تحقيق السعادة لشعوبهم‪.‬‬
‫إلى ما تطور إليه الفكر السياسي األرسطي باستحداثه فكرة الدولة الدستورية‪ ،‬التي تبنى عالقات شعبها بالحاكم‬
‫على أساس الحرية والمساواة والمواطنة المشتركة بين أحرار‪ ،‬مما جعل الّد ولة مجّرد اتحــاد أفــراد في مجتمــع‬
‫واحد تحت حاكمية القانون الذي حّل محل الملك أو الفيلسوف أو النبي‪ .‬وما سار عليه الفكر السياسي الرومــاني‬
‫الذي مّيز بين الدولة والفرد‪ ،‬وجعــل لكــل منهمــا حقوقــا وواجبــات‪ ،‬وبلــور فكــرة ســيادة الدولــة ونظريــة العقــد‬
‫الحكومي‪ ،‬ونظرية القانون الطبيعي التي وضعها " شيشرون " على أساس أن للكون خالقا واحــدا‪ ،‬وأن للدولــة‬
‫قانونــا واحــدا يجب أن يطبــق على الجميــع‪ .‬إلى مــا عربــه المســلمون في دار الحكمــة الــتي أسســها المــأمون‬
‫العباسي‪ ،‬وجعلوه أساسا لفكرهم السياسي والفلسفي‪.‬‬
‫إال أن مّم ا يثير االستغراب أّن العرب لم يقتبسوا من هذا التراث السياسي الذي عكفوا على تعريبه‪ ،‬إّال ما تعلــق‬
‫منــه باالتجــاه االســتبدادي‪ ،‬وهــو الفكــر األفالطــوني الخــاص بالقائــد الملهم‪ ،‬المتصل بالعقــل الفعــال المحتكــر‬
‫‪25‬‬
‫للمعرفة‪ ،‬القادر وحده على إسعاد الشعب‪ .‬أما النظرية األرسطية الخاصة بفكرة الدستور‪ ،‬الذي يضــمن العدالــة‬
‫والمســاواة والمواطنــة الحــرة المشــتركة‪ ،‬ويلغي حاكميــة الفــرد لصالح حاكميــة القــانون‪ ،‬ومــا ورد في الفكــر‬
‫الروماني عن نظرية العقد الحكومي وسيادة القانون وحقوق الدولة والفـرد وواجباتهمـا‪ ،‬فـإن النقـل العـربي قـد‬
‫أهمله وأغفله‪ ،‬ولم نجد له أثرا في فكرهم وتراثهم‪ .‬ولعل ذلــك راجـع إلى أسـباب سياسـية متعلقــة بكــون حركــة‬
‫التعريب والترجمة‪ ،‬تمت على يد المؤسسة الرسمية الحاكمــة وبإشــرافها‪ .‬وكــانت هــذه المؤسســة ذات نمــط في‬
‫الحكم فردي استبدادي‪ ،‬ال يوافق على نقل التراث األرسطي والروماني أو نشره والتبشير به‪.‬‬
‫هذه خالصة المرجعية الفكرية والسياسية التي ُنقلت إلى اللغة العربية‪ ،‬وصادفت ظروفا بيئيـة مناسـبة للغـراس‬
‫فنمت وأثمرت‪.‬‬
‫ولقد التقى العرب المسلمون قبل هذه الفترة بهذه المعتقــدات الدينيــة والفلســفية عــدة مــرات فاســتعلوا عليهــا ولم‬
‫تؤثر فيهم‪.‬‬
‫التقوا بها وهم رسل للنبوة الخاتمة بدعوة الحـق لـدى ملـوك الفـرس والـروم والقبـط‪ ،‬يمأل قلـوبهم نـور العقيـدة‬
‫واستعالء اإليمان‪ ،‬والحرص الصادق األمين على إخراج الناس من عبادة العباد إلى رحابة عبــادة رب العبــاد‪،‬‬
‫فاحتقروا تلك المعتقدات وترفعوا حتى عن اعتبارها فكرا أو فلسفة أو مجرد عقل سوي‪.‬‬
‫ثم التقوا بها بعد أن استعصى أهلها على الرشد‪ ،‬مجاهدين وغزاة وفاتحين‪ ،‬فحطمــوا األوثــان ونشــروا رســالة‬
‫التوحيد واإليمان‪.‬‬
‫والتقوا بها مرة أخرى حين وقــع االنقالب على الخالفــة الراشــدة‪ ،‬وتحــول أمــر المســلمين إلى االســتبداد‪ ،‬وفــّر‬
‫الصادقون من األمة مضطهدين ومهاجرين شرقا وغربا‪ ،‬فنشروا دين الحق وقوضوا أركان الشرك والكفر‪.‬‬
‫ثم لما كان عهد بني العباس ذو النـزعة األعجمية فرسا وتركا‪ ،‬وانفرط عقد الوحــدة العقديــة بتمــزق األمــة ملال‬
‫ونحال ومذاهب‪ ،‬وضعف االلتزام بالدين بين الحــاكمين والمحكــومين‪ ،‬وتمكن العســف واالضــطهاد واالســتبداد‬
‫من رقاب العباد‪ُ ،‬أرسلت عاصفة المترجمات الفلسفية اليونانية والسريانية والقبطية والفارسية‪ ،‬فتلقفتهــا النخبــة‬
‫المقربة من أصحاب النفوذ‪ ،‬وأصــبحت الرطانــة بمصطلحات اليونــان واإلغريــق مــيزة الصفوة وبدعــة ذوي‬
‫المقامات‪.‬‬
‫وإذ أخذ الفقهاء والعلماء الصادقون يضجون من موجة االنحراف هذه‪ ،‬ويوضحون خطرها على األمــة وعظــا‬
‫وكتابة وحوارا وجدال‪ُ ،‬أثيرت للتغطية والتمويه وصــرف األنظــار‪ ،‬معركــة كالميــة حـول مــا ُد عي عالقــة بين‬
‫العقــل والنقــل‪ ،‬تقــديما وتــأخيرا‪ ،‬حاكمــا ومحكومــا‪ .‬وبــذلك أســبغت على الصراع بين اإلســالم وبين الوثنيــات‬
‫الفلسفية صفة الجدل العلمي الرصين‪ ،‬على رغم ما في ذلك من خلط وتلــبيس وتــدليس‪ .‬ذلــك أن هــذه التيــارات‬
‫التي زعمت أنها تحكم العقل في النص ليس لها ما يؤيد دعواها‪ ،‬ألن العقل السليم المجرد السوي‪ ،‬المتحرر من‬
‫الخرافة واألوهام‪ ،‬المدجج بالمعارف المادية الصحيحة والتصورات الغيبية اليقينية ذات المصدر الرباني‪ ،‬ليس‬
‫له إال أن يسخر من هذه الفلسفات ذات الجذور الخرافية األسطورية ‪.‬‬
‫إن هذه التيارات التي تزعم تحكيم العقل في النص‪ ،‬لم تحكم في واقع األمر إال عقال وثنيا مضلال‪ ،‬ألقوام عبدوا‬
‫األصنام والكواكب والنجوم واألشباح‪ ،‬واتخذوا لعباداتهم هذه أرضية من أوهام سموها فلسفة‪ .‬وإْذ صارت هــذه‬
‫التصورات الفاسدة هي المتحكمة في النص فال بد من الضالل‪.‬‬
‫أ‪ -‬االتجاه الفقهي‪:‬‬
‫*أبو الحسن الماوردي ( نشأة الدولة و قواعدها‪ /‬نظام الحكم )‬
‫هو أبو الحسن بن محمد بن حبيب البصري البغدادي‪ ،‬ولد عام ‪974‬م الموافق لـ‪ 364‬هـ بالبصرة و ينحدر من‬
‫أصل عربي كما أنه ينتمي إلى عائلة كانت تعمل في صناعة ماء الورد أو االتجار فيه لذلك سمي بالماوردي‪.‬‬
‫لقد عاصر الماوردي فترة ضعف الحكم العباسي والتي تمّيزت بسيطرة أسرة بني بويه على الخلفــاء العباســيين‬
‫وهي أسرة فارسية انتظمت داخل جيش الخالفة العباسـية ووصـلت إلى أعلى درجـات السـلطة والـوزارة حيث‬
‫سيطرت على الحكم‪ ،‬ونظرا لكون هذه األسرة شيعية فلم تعترف سيادتها بالخليفــة العباســي وأنشــأت إمــارة في‬

‫‪26‬‬
‫بغداد وراثية ظلت في أيديهم‪ ،‬لكن الماوردي كان يتمتــع بتقــدير من الخلفــاء ومن البــويهين وكــان موضــع ثقــة‬
‫ويرتضون بحكمه أثناء التوسط بين األطراف المتنازعة ‪.1‬‬
‫وهكذا فقد كان الماوردي يتمّيز بالوقار واالحترام وكانت له مكانة علمية وسياسية و اجتماعية عالية بين أقرانه‬
‫من العلماء والقضاة‪ ،‬وهذه أقل الصفات التي بتمتع بها المسلم العادي بالك بالعلم الفقيه ؟‬
‫أ‪ -‬نشأة الدولة و قواعدها‪:‬‬
‫اإلنسان حيوان اجتماعي حيث ال يستطيع العيش لوحده أو بمعزل عن الجماعة ويحتاج لغيره من البشر لتلبيــة‬
‫رغباته واحتياجاته لكن الماوردي يفسر ذلك على غير سابقيه فيقر بأن هللا عز وجل هــو الــذي خلقنــا عــاجزين‬
‫على هذه الصورة حتى يشعرنا أنه خالقنا ورازقنا وأننا مفتقــرون إليــه فيقــول " إعلم أّن هللا تعــالى لنافــذ قدرتــه‬
‫وبالغ حكمته خلق الخلق بتــدبيره وفطــرهم بتقــديره فكــان لطيــف مــا دّب ر وبــديع مــا قـّد ر‪ ،‬أن خلقهم محتــاجين‬
‫وفطرهم عاجزين ليكون بالغنى منفردا وبالقدرة مختصا حتى يشعرنا بقدرته أنه خالق ويعلمنا بغنــاه أّن ه رازق‬
‫فنزعن بطاعته رغبة ورهبة ونقر بنقصنا عجزا وحاجة ‪"2‬‬
‫من جهــة أخـرى يــرى المــاوردي عكس مــا قيــل من قبــل بــأن اإلنسـان حيــوان اجتمــاعي‪ ،‬بــل يــرى أن بعض‬
‫الحيوانات تستطيع العيش بمفردها عكس اإلنسان الذي هو اشد حاجــة من الحيــوان وال يســتطيع أن يســتقل عن‬
‫بني جنسه حيث يذكر "ثم جعل اإلنسان أكثر حاجة من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنســه و اإلنســان مطبــوع‬
‫إلى االفتقــار إلى جنســه‪.....‬ولــذلك قــال هللا تعــالى ( خلــق اإلنســان ضــعيفا ) لكن هللا ســبحانه وتعــالى لم يــترك‬
‫اإلنسان هكذا عاجزا محتاجا دون أن يمنحه ما يرشده إلى تحقيق سعادته في الحياة‪ ،‬ولذا منح هللا اإلنسان العقل‬
‫ليرشده ويوجهه نحو السلوك في الحياة سلوكا معنيا ينفعــه في الــدنيا واآلخــرة‪ ،‬ويقــول الرســول (ص) في هــذا‬
‫الشأن "ليس خيركم من ترك الدنيا لآلخرة وال اآلخرة للــدنيا ولكن خــيركم من اخــذ من هــذه وهــذه" وهــذه هي‬
‫فعال قمــة الحيــاة الســعيدة وقمــة التــوازن الــذي يجب أن يســود في اإلنســان بصفته فــردا ثم ضــمن الجماعــة‬
‫والمجتمع‪.‬‬
‫يذكر الماوردي كذلك أن االختالف هو سبب التعاون وقد رأينا هذه األفكار كلها تقريبا عند المفكرين الســابقين‬
‫بحيث لو أن الناس لم يختلفوا لما كان باإلمكان أن يتعاونوا وقد ذكرنا آنفا أن التمايز واالختالف هو الذي يؤدي‬
‫إلى التعاون والتوازن وبالتالي االنسجام والتكامل وهو مــا يــدعوهم بالضــرورة لالجتمــاع ويتكــون مــا يســمى‬
‫بالدولة أي أن الدولة أو نشأة الدولة مرّد ها حاجة البشر لتلبية حاجياتهم وأن العقل الذي يميز اإلنسان عن ســائر‬
‫المخلوقـات هــو الــذي يوجهــه إلى كيفيــة التعــاون والترابــط مــع اآلخـرين والدولــة حيث تقــوم وتتأسـس يــرى‬
‫الماوردي أنها تحتاج الى قواعد وهي‪:‬‬
‫‪ -)1‬دين متبع‪ :‬وهو الوازع الذي يوجهه اإلنسان وهو أقوى قاعـدة في إصـالح الدولـة واسـتقامتها وهـو الـذي‬
‫يمتن روابطها ويقوي بنيانها إنه بمثابة االســمنت الــذي يشــيد البنــاء‪ ،‬وهــذا الــدين هــو العنصر الغــائب والــذي‬
‫افترقت إليه الدولة القديمة في الحضارات العابرة الشيء الذي جعلها هشة وضعيفة ‪.‬‬
‫‪ -)2‬سلطان قاهر‪ :‬والقصد بالسلطان هنا هو الحاكم أي الخليفـة أو اإلمـام ومهمتـه هي رئاسـة الدولـة وتحقيـق‬
‫أهدافها العليا المتمثلة حفظ الدين بالدرجة األولى ويتبعها تحقيق األمن والطمأنينـة وحفـظ األمـوال والممتلكـات‬
‫واألعراض وغيرها‪.‬‬
‫‪ -)3‬عدل شامل‪ :‬وهو الهدف الذي تسعى إليه الدولــة عــبر المراحــل والنظريــات الــتي مــرت معنــا‪ ،‬ويضــيف‬
‫الماوردي في هذا المقام حيث يقول بأنه يطول عمر الدولة ويبعث الطاعــة ويبــدأ مــع اإلنســان في نفســه ثم مــع‬
‫غيره أي مع ما دونه ومع ما فوقه ومع أكفائه أو أمثاله‪.‬‬
‫‪ -)4‬أمن عام‪ :‬وهو من نتائج العدل وتحصيل حاصل‪....‬بحيث يسود االطمئنان ويزول الخوف‪.‬‬

‫‪1‬عادل ثابت‪ ،‬الفكر السياسي اإلسالمي‪ ،‬دار الجامعة الجديدية‪ ،‬اإلسكندرية‪ ،22 ،‬ص‪.23:‬‬
‫‪ 2‬علي عبد المعطي‪ ،‬محمد جالل أبو الفتوح شرف‪ ،‬خصائص الفكر السياسي في اإلسالم وأهم نظرياته‪ ،‬دار الجامعات المصرية‪ ،‬القاهرة‪،1970 ،‬‬
‫ص‪.281:‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ -)5‬خصب دائم‪ :‬ويقصد به وفرة األراضي الزراعية والممتلكات واألموال أي يجب أن يكون اقتصاد الدولــة‬
‫قويا‪.‬‬
‫‪ -)6‬أمل فسيح‪ :‬يربط الجيل الحالي بجيل المستقبل فالجيل الحالي يرث الجيل الماضــي ويعــد للجيــل المســتقبل‬
‫آماال عريضة في الدولة اإلسالمية أين تسود العدالة االجتماعية والمساواة والسعادة والعمل كذلك لآلخرة‪.1‬‬
‫هذه هي القواعد الستة التي رآها الماوردي أساسية في الدولة فان وجــدت صــلحت وان اختلت بعضــها أو كلهــا‬
‫اختلت أمور الدولة وفسدت وضعفت‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نظام الحكم‬
‫إذا كان الفارابي رسم دولة فاضلة مثالية على شاكلة الجمهورية الفاضلة ألفالطــون‪ ،‬فــإّن المــاوردي كــانت لــه‬
‫وجهة نظر أخرى تتسم بالواقعية وهذا طبعا انطالقا من المرحلــة العصيبة واالضــمحالل الــتي عرفتــه الدولــة‬
‫اإلسالمية في فترة حياته كما رأينا سابقا لذلك حاول إصالح هذا الواقع السياســي‪ ،‬فنــادي بــأن يكــون اإلمــام أو‬
‫الخليفة عربيا قرشيا حتى يقف أمام الفارسيين واألتراك الذين ازداد نفوذهم في تلك الفترة‪ ،‬وعمومــا فــإّن نظــام‬
‫الحكم السياسي عنده يكون محكم البنيان جميل التكوين يتصدره اإلمام أو الخليفة فوزير التفويض وبعـده وزيـر‬
‫التنفيذ ثم أمراء األقاليم والبلدان وأمراء الجيوش والقاضي والمحتسب ووالية المظالم‪ ،‬ويفصل الماوردي أصل‬
‫ومهام كل هذه المناصب والوظائف باإلضافة إلى صفاتها وأحكامها‪ ،‬الشيء الذي يدعونا للقول بــأّن المــاوردي‬
‫على دراية وعلم باألمور السياسية خالل أيام حياته‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ )1‬اإلمامة‪ :‬يعرفها الماوردي بأنها موضوعة لخالفة النبوة في حراسة الدين وسياسة الــدنيا ‪ ،‬ومن خالل هــذا‬
‫التعريف نستنتج أن اإلمام أو الخليفة عند الماوردي هو زعيم ديني من ناحية وزعيم سياسـي من ناحيـة أخـرى‬
‫كونه يقوم بإدارة وتسيير شؤون الرعية وفقــا لمبــادئ الشــريعة اإلســالمية وهي واجبــة شــرعا إذ أنهــا الوســيلة‬
‫الوحيدة الستمرارية حفظ المجتمع وحفظ الدين دائما بتطبيق الشريعة اإلسالمية السمحاء ‪.3‬‬
‫وإذا عدنا إلى التعريف السابق نجد مبدأين وهما‪:‬‬
‫أ‪-‬إّن اإلمامة‪ :‬مؤسسة دنيوية تكمن مهمتها في تدبير وتسير أمور البالد والعباد إضافة إلى حماية الدين‪.‬‬
‫ب‪ -‬المبدأ الثاني‪ :‬وهي تخص اإلمام ويتمثل في اختصاصاته أو مهامه األساسية أي حمايـة الـدين من األهـواء‬
‫والبدع والخرافات‪ ،‬ليكون صالحا لحكم العـالم وليس المجتمـع فقـط‪ ،‬أي بالد اإلسـالم وبالد الكفـر وهـذا عكس‬
‫الديانات السابقة‪ ،‬ألّن اإلسالم بعث للعالمين‪ ،‬وهذا الوجه يمثل استمرارية فكرة الجهاد الديني ضد الكفــار حــتى‬
‫يقوم الحكم اإلسالمي "ومن يبتغي غير اإلسالم دينا فلم يقبل منه وهو في اآلخرة من الخاسرين"‬
‫‪ -‬أما عقد اإلمامة فهي واجب باإلجمــاع لمن يقــوم بهــا في األمــة‪ ،‬واختلــف في وجوبهــا‪ ،‬هــل أســاس الوجــوب‬
‫الشرع ( النص ) أو العقل؟‬
‫فإذا ثبت وجوب اإلمامة فهي فرض كفاية وإذا لم يقم بها أحد خرج من النــاس فريقــان‪ :‬أحــدهما أهــل االختيــار‬
‫حتى يختارون إماما لألمة والثاني أهل اإلمامة ينصب احدهما لإلمامة‪ ،‬وليس من عدا هذين الفريقين من األمة‬
‫في تأخير اإلمامة حرج وال مآثم وأهل االختيار هم أهل العقد والحــل وأمــا أهــل اإلمامــة هم المرشــحون للقيــام‬
‫على السلطة والشؤون العامة‪ ،‬وقد اشترط الماوردي شروطا في كل من أهل االختيار وأهل العقد والحل وهي‪:‬‬
‫أّو ال‪:‬أهل االختيار‬
‫العدالة الجامعة لشروطها‪:‬‬
‫العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق اإلمامة على الشروط المعبرة فيها‪.‬‬
‫الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو لإلمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬أهل اإلمامة‬

‫محمد أبو زهرة‪ ،‬تاريخ المذاهب اإلسالمية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬بيروت‪ ،‬ص‪.21:‬‬ ‫‪1‬‬

‫عادل ثابت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.25:‬‬ ‫‪2‬‬

‫أحمد مباركك البغداداي‪ ،‬الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي‪ ،‬ط‪ ،1‬مؤسسة الشراع للنشر والتوزيع‪ ،‬الكويت‪ ،1984 ،‬ص‪.116:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪28‬‬
‫‪ -‬العدالة على شروطها الجامعة‪:‬‬
‫‪ -‬العلم المؤدي إلى االجتهاد في النوازل و ألحكام‪.‬‬
‫‪ -‬سالمة الحواس واألعضاء‪.‬‬
‫‪ -‬الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح‪.‬‬
‫‪ -‬الشجاعة والنجدة‪.‬‬
‫‪ -‬النسب وهو أن يكون قرشيا لورود النص فيه وانعقاد اإلجماع فيه‪.‬‬
‫نستنتج من هذه الشروط أّن الماوردي تأّثر بواقع عصره الــذي تمــيز بتــدهور الحكم العباســي وابتعــاده عن قيم‬
‫وأحكام الشريعة وما هذه الشروط إال محاولة منه إلعادة هذا المنصب إلى أهله وفقــا لتعــاليم الــدين حيث تــدور‬
‫حول العلم والعدالة والمعرفة والحكمة‪ ،‬وبالتالي فالعودة بالدين اإلسالمي في عهده األول‪.‬‬
‫أما من حيث عقد اإلمامة وإبرام العقد فتتم بين اإلمام وأهل العقد والحــل ومصدر هــذا التعاقــد هــو الرضــا بين‬
‫أطراف العقد‪ ،‬يقف الماوردي موقفا صلبا ويفتي بعدم جواز انعقاد اإلمامة إلمامين في نفس البلد‪.‬‬
‫اإلمامة عن طريق العقد (االستخالف) أي أّنه من حق اإلمام االجتهاد في تعين خلفا له وأن ينفرد بعقد البيعة له‬
‫وتفويض العهد حتى بدون استشارة أهل العقد و الحل بــل وحــتى بــدون رضــاهم قياســا على أن بيعــة عمــر بن‬
‫الخطاب لم تتوقف على رضا الصحابة وال االستشارة‪.‬‬
‫وجبات اإلمام و اختصاصاته‪:‬‬
‫‪ -‬حفظ الدين على أصوله وما أجمع عليه سلف األمة الصالح‪.‬‬
‫‪ -‬تنفيذ األحكام‪.‬‬
‫‪ -‬إقامة الحدود وتحصين الثغور‪.‬‬
‫‪ -‬الجهاد في سبيل اإلسالم‪ ،‬ويباشر بنفسه وبتفقد أحوال الرعية‪.‬‬
‫‪ -‬جباية األموال والصدقات على أساس الشريعة‪.‬‬
‫‪ -‬تقدير العطايا و ما يستحق في بيت المال‪.‬‬
‫‪ -‬استكفاء األمناء وتخليد النصحاء فيما يفوض إليهم من األعمال‪.‬‬
‫وإذا قام اإلمام بهذه الواجبــات والــتي هي حقــوق األمــة عليهــا فقــد أّد ى حقــوق هللا ووجب على األمــة الطاعــة‬
‫والنصرة ما لم يتغير حاله‪ ،‬وهناك أمرأن يتغير بهما حال اإلمام فيخرجانه من اإلمامة وهما‪ :‬جــرح في عدالتــه‬
‫ونقص في بدنه ‪ ،1‬أي افتقاده ألحد شروط تولى منصب اإلمامة‪.‬‬
‫هذه المهام هي بمثابة تحديد للحقوق والواجبات المتبادلة بين أطراف العقد {اإلمام واألمة أو من يمثلها أي أهل‬
‫العقد والحل} حيث يلزم الحاكم بواجبات تدور جلها حول إقامـة دين هللا وهي الغايـة من عقـد اإلمامـة وإذا قـام‬
‫بهذه الحقوق وجب على األمة الطاعة والنصرة وهي بالتالي حقوق اإلمام أو الحاكم على األمة‪.‬‬
‫‪ )2‬الوزارة ‪ :‬كلمة الوزارة لها عدة معاني منها الوزر أي الثقل بمعني أن الوزير يحمل على الملك أثقالــه وهي‬
‫من األزر وهو الظهر الذي يحمي البطن والوزرهو الملجأ ‪ ،2‬أما من الناحية العملية فهي بمثابة مؤسســة تعمــل‬
‫في إطار الحكومة اإلسالمية‪ ،‬ولم تعرف الحضــارات الســابقة مــثيال لهــا وهي تعتمــد على النصوص القرآنيــة‬
‫واألحاديث النبوية واالجتهــاد الفكــري المبــني على المصادر الشــرعية وهي ليســت مجــرد منصب اجتمــاعي‬
‫سياسي بل والية عامة تصدر عن الخليفة كما أنها تصدر عن من يفوضــه الخليفــة في أمــور البالد مثــل وزيــر‬
‫التفويض‪ .‬والوزارة عند الماوردي تنقسم إلى قسمين‪ :‬وزارة التفويض ووزارة التنفيذ‪:‬‬
‫وزارة التفويض‪ :‬هي تفويض اإلمام لوزير يدير األمور برأيه وإمضائها على اجتهاده وشروط الواجب توفرها‬
‫في الوزير هي نفسها شروط اإلمامـة عنـد النسـب يضـاف إليهـا الكفايـة في الحـروب وأهـل الخـبرة في أمـور‬
‫الخراج أي توفير القدرات االقتصادية والعسكرية‪.‬‬

‫‪ 1‬أحمد مباركك البغداداي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.131:‬‬


‫‪ 2‬علي عبد المعطي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.308:‬‬
‫‪29‬‬
‫وزارة التنفيذ‪ :‬فوضعها مختلف على األولى فهي ليست والية الن وزير التنفيذ هنــا هــو عبــارة عن وســيط بين‬
‫الرعايا والوالة وهو بمثابة السفير بين السلطان وأتباعه من الوالة وغيرهم‪ ،‬أما شروط هذا الوزير فهي سبـــع‪:‬‬
‫األمان‪ ،‬الصدق‪ ،‬قلـة الطمـع‪ ،‬وأن يسـلم فيمـا بينـه وبين النـاس من عـداوة وشـحناء وأن يكـون ذكـرا والـذكاء‬
‫والفطنة وأن ال يكون من أهل األهواء‪.‬‬
‫من خالل هذه الصفات يتضح لنا أن الماوردي قام باجتهاد فردي لعدم وجودهــا في النص أي غــير مســتقاة من‬
‫الشريعة اإلسالمية‪ ،‬والملفت لالنتباه كذلك في هذه الصفات هو عدم وجود الــدين كشــرط لتــولي هــذا المنصب‬
‫هذا يعني أن الماوردي أجاز أهل الذمة لتولي هذا المنصب‪.‬‬
‫‪ )3‬اإلمارة‪ :‬اإلمارة عند الماوردي واليـة عامـة أو سـلطة شـرعية تصدر عن الخليفـة وهنـاك اإلمـارة العامـة‬
‫واإلمارة الخاصة فإذا قلد الخليفة أميرا على إقليم أو بلد كانت إمارته عامة وخاصة‪ ،‬ومهام األمــير في اإلمــارة‬
‫العامة هي النظر في األحكام وتقليــد القضــاء والحكــام وجبايــة الخــراج وحمايــة الــدين وإقامــة الحــدود وإمامــة‬
‫الصالة وتسيير الحجيج والجهاد‪ ،‬أما اإلمارة الخاصة فنطاقها ضيق ومهامها رعاية الواجبات وتدبير الجيــوش‬
‫وسياسة الرعية وإقامــة الحــدود والنظــر في المظــالم وإمامــة الصالة‪ ....‬ومــا يخــرج عن نطاقهــا هــو القضــاء‬
‫واألحكام والجباية والخراج وعدم الحق في النظر في المظالم المسـتأنفة ‪ ،1‬أّم ا الشـروط فهي نفسـها في وزارة‬
‫التنفيذ زيادة اإلسالم والحرية‪ ،‬واإلمارة بنوعيها العامة والخاصة يتصالن بالجـانب اإلداري أكـثر من الجـانب‬
‫السياسي‪.‬‬
‫كما أقّر الماوردي بإمارة االستيالء أي عندما يستولي األمير بالقوة على بالد يقلده الخليفة إمارتها ويفّو ض إليه‬
‫تدبير سياستها‪ ،‬كذلك الخروج المسلح أو االنقالب العسكري بالمفهوم المعاصر‪ ،‬ويتمثل في حمل الســالح ضــد‬
‫الحاكم غير العادل بصورة عامة‪ ،‬أي عزل الحاكم الذي يفشل في تحمل واجبات األمة‪.‬‬
‫خالصة ‪:‬‬
‫من خالل دراستنا للماوردي تمكنّنا من معرفة الظروف واألسباب الــتي جعلتــه يقــدم على تســليط الضــوء على‬
‫أمور سياسية عّد ة‪ ،‬وهذا يعود بطبيعة الحال إلى األوضاع المزرية والّتدهور الذي عاشته الخالفة العباســية في‬
‫فترة حياته من خالل تعاقب الخليفة القادر باهلل والخليفة القائم بأمر هللا‪ ،‬وكان هــدف المــاوردي من خالل هــذع‬
‫الّد راســة هــو البحث عن االســتقرار االجتمــاعي الــذي كــان مفقــودا ناهيــك عن الّص راع بين المــراء‪ ،‬ويربــط‬
‫المــاوردي تحقيقــاألمن واالســتقرار بــالّر جوع إلى المبــادئ االســالمية والعمــل بهــا في التعامــل السياســي‬
‫واالجتماعي واالقتصادي‪.‬‬
‫ب‪ -‬االتجاه الفلسفي ‪:‬‬
‫‪ -01‬الفارابي‪ :‬هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ‪ ،‬أبو نصر الفارابي‪ ،‬ويعرف بالمعلم الثاني‬
‫لدراسته كتب أرسطو (المعلم األول) وشرحه لها‪ .‬ويعرف الفارابي في الالتينية باسم ‪ .Alpharabius‬ولــد في‬
‫مدينة "فاراب" في تركستان حيث كــان والــده تركيـًا من قــواد الجيش‪ .‬وفي ســن متقدمــة‪ ،‬غــادر مســقط رأســه‬
‫وذهب إلى العراق لمتابعة دراساته العليا‪ ،‬فدرس الفلسفة‪ ،‬والمنطق‪ ،‬والطب على يــد الطــبيب المســيحي يوحنــا‬
‫بن حيالن‪ ،‬كما درس العلوم اللسانية العربية والموســيقي‪ .‬ومن العــراق انتقــل إلى مصر والشــام‪ ،‬حيث التحــق‬
‫بقصر سيف الدولة في حلب واحتل مكانة بارزة بين العلماء‪ ،‬واألدباء‪،‬والفالسفة‪.‬‬

‫وبعد حياة حافلة بالعطاء في شتى علوم المعرفة طوال ثمانين سنة‪ ،‬توفـي الفارابي أعزب‪ ،‬بمدينــة دمشـق سـنة‬
‫‪339‬هـ‪950/‬م‪.‬‬
‫إسهاماته العلمية‪:‬‬

‫‪ 1‬عبد الرحمان خليفة‪ ،‬في علم السياسة اإلسالمي‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،1974 ،‬اإلسكندرية‪ ،‬ص‪.170:‬‬
‫‪30‬‬
‫يعّد الفارابي أكبر فالسفة المسلمين‪ .‬وقد أطلق عليه معاصروه لقب "المعلم الثاني" الهتمامه الكبير بمؤلفات‬
‫أرسطو "المعلم األول"‪ ،‬وتفسيرها‪ ،‬وإضافة الحواشي والتعليقات عليها‪ .‬ومن خصائص فلسفة الفارابي أنه‬
‫حاول التوفيق من جهة‪ ،‬بين فلسفة أرسطو وفلسفة أفالطون‪ ،‬ومن جهة أخرى بين الدين والفلسفة‪ .‬كما أنه‬
‫أدخل مذهب الفيض في الفلسفة اإلسالمية ووضع بدايات التصوف الفلسفي‪.‬‬
‫ورغم شهرة الفارابي في الفلسفة والمنطق‪ ،‬فقد كانت له إسهامات مهمة في علوم أخرى كالرياضيات والطب‬
‫والفيزياء‪ .‬فقد برهن في الفيزياء على وجود الفراغ‪ .‬وتتجلى أهم إسهاماته العلمية في كتابه "إحصاء العلوم"‬
‫الذي وضع فيه المبادئ األساس للعلوم وتصنيفها‪ ،‬حيث صنف العلوم إلى مجموعات وفروع‪ ،‬وبين مواضيع‬
‫كل فرع وفوائده‪.‬‬
‫وبجانب إسهامات الفارابي في الفلسفة‪ ،‬فقد برز في الموسيقى‪ .‬وكانت رسالته فيها النواة األولى لفكرة‬
‫اللوغاريتم حسب ما جاء في كتاب "تراث اإلسالم"‪ ،‬حيث يقول كارا دي فو ‪ :Carra de Vaux‬أما الفارابي‬
‫األستاذ الثاني بعد أرسطو وأحد أساطين األفالطونية الحديثة ذو العقلية التي وعت فلسفة األقدمين‪ ،‬فقد كتب‬
‫رسالة جليلة في الموسيقى وهــــو الفن الذي برز فيه‪ ،‬نجد فيها أول جرثومة لفكرة النسب (اللوغاريتم)‪ ،‬ومنها‬
‫نعرف عالقة الرياضيات بالموسيقى‪ .‬وتؤكــــــد زغريد هونكه الفكرة نفسها حين تقول ‪> :‬إن اهتمام الفارابي‬
‫بالموسيقى ومبادئ النغم واإليقاع قد قربه قاب قوسين أو أدنى مـــــــــــن علم اللوغارتم الذي يكمن بصورة‬
‫مصغرة في كتابه عناصر فن الموسيقى‪.‬‬
‫مؤلفاته‪:‬‬
‫ـ شرح كتاب "المجسطي" في علم الهيئة لبطليموس‪.‬‬
‫ـ شرح المقالتين األولى والخامسة من كتاب إقليدس في الهندسة‪.‬‬
‫ـ كتاب في المدخل إلى الهندسة الوهمية‪.‬‬
‫ـ كالم في حركة الفلك‪.‬‬
‫ـ مقالة في صناعة الكيمياء‪.‬‬
‫ـ كتاب إحصاء العلوم ‪ :‬قّسم الفارابي‪ ،‬في هذا الكتاب‪ ،‬العلوم‪ ،‬إلى ثماني مجموعات‪ ،‬ثم ذكر فروع كل‬
‫مجموعة‪ ،‬وموضوع كل فرع منها‪ ،‬وأغراضه‪ ،‬وفوائده‪ .‬ترجمه جيرار الكريموني إلى الالتينية‪.‬‬
‫ـ صناعة علم الموسيقى‪ :‬شرح فيه الفارابي مبادئ النغم واإليقاع‪.‬‬
‫وللفارابي عدد كبير من المؤلفات األخرى في الفلسفة والمنطق ومن أشهرها‪:‬‬
‫ـ آراء أهل المدينة الفاضلة‪.‬‬
‫ـ الجمع بين رأى الحكيمين أفالطون اإللهي وأرسطوطاليس‪ :‬وهو كتاب يوفق فيه الفارابي بين آراء أفالطون‬
‫وأرسطو‪.‬‬
‫و أكثر الكتب التي ألفها الفارابي‪ ،‬إما أنها فقدت أو أنها ال تزال في الخزائن والمكتبات‪ ،‬والمعروف منها إلى‬
‫اآلن قليل‪ ،‬إذا قيس بمجموع ما كتبه في شتى العلوم والفنون‪.‬‬
‫أ‪ -‬نشأة الدولة و أنواعها ‪:‬‬
‫يرى الفارابي بأّن اإلنسان يميل إلى االجتماع مع اآلخرين‪ ،‬وهذا الميل ميل فطــري‪ ،‬حيث ال يســتطيع اإلنســان‬
‫أن يحقق حاجياته بمفرده‪ ،‬لذلك فهو بحاجة إلى من يكّم له في تحقيــق الحاجيــات والمنــافع‪ ،‬الشــيء الــذي يدفعــه‬
‫للبحث عن سكن مجاور لهؤالء الناس و يسّم ى بالتالي الحيوان اإلنسي أو الحيوان المدني ‪.1‬‬
‫والهدف من وراء هذا االجتماع حسب الفارابي يكمن في تحقيق السعادة وهذه السعادة دنيويــة وأخرويــة في آن‬
‫واحد وهذا يعطينا فكرة عن االتجاه األخالقي والديني في فكر الفارابي السياسي واالجتماع هنــا يصبح وســيلة‬
‫وليس غاية في حد ذاته ألن الغاية هي بلوغ اإلنسان درجة الكمال في تحصيل السعادة الدنيوية واألخروية‪.‬‬

‫‪ 1‬الفارابي‪ ،‬نحصيل السعادة‪ ،‬نقال عن عبد المعطي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.255:‬‬


‫‪31‬‬
‫أشار الفارابي على ما أسماه بالمعمورة والقصد هنا هو العـالم بأسـره واعتـبر األمـة مجموعـة من المـدن وهي‬
‫أنواع عنده‪:‬‬
‫‪ -1‬المدينة الفاضلة ‪ :‬شبهها بأعضاء الجسم التام والصحيح والتي تتعـاون أعضـاؤه فيمـا بينهـا لتقـوم بوظائفهـا‬
‫على أحسن وجه والعضو الرئيس هو القلب وهناك أعضاء تأتي في المرتبة الثانيــة وأعضــاء تخــدم وال تــرأس‬
‫وهكذا هي أجزاء المدينة فهي تؤلف وحدة كالجسم وليس كل عضو صالح ألن يكون رئيسا فهو أكمل إنسان أو‬
‫عضو فيها ويشترط الفارابي فيه الفطرة والطبع والملكة واإلرادة والعقل وأن يتلقى المعرفة مباشــرة من العقــل‬
‫الفعال وقد سّو ى الفارابي بين وظيفتي الحكيم الفيلسوف والنبي المنذر من ناحية رئاسة كل منهمــا للدولــة ولكن‬
‫بطريقتين مختلفتين من حيث المعرفة‪ ،‬أمــا خصال رئيس المدينــة الفاضــلة فهي نفس الخصال المعروفـة عنــد‬
‫الفالسفة المسلمين مثل ما رأيناه عند الماوردي مع بعض االختالفات البســيطة‪ ،‬هــذه الخصال تشــكل نــوع من‬
‫الكمال والمثالية ومن الصعب توفرها في شخص واحد وفي هذه الحالة يقول الفــارابي تكــون الرئاســة موزعــة‬
‫بين عدة رجال يتصفون بخصال منها‪ :‬الواحد منهم حكيم واآلخر محب للعدل والثالث له جودة استنباط والرابع‬
‫له رؤية والخامس له جودة إرشاد‪....‬إلخ‪.‬‬
‫أما مضادات المدينة الفاضلة فهي تجمعات جاهلة ضــالة غــيرت معتقــداتها ولم تتبــع العقيــدة الصحيحة في هللا‬
‫والعقل الفعال وهي تجمعات فاسقة تعلم دون أن تعمل بما علمته و هي‪:‬‬
‫‪ - 2‬المدينة الجاهلة‪ :‬هي التي لم يعرف أهلها السعادة‪ ،‬وإن ارشدوا إليها لم يقيموها وإن ذكــرت لهم لم يعتقــدوها‬
‫فهم يهتمون ويبحثون عن تحقيق الخيرات الحسية البهيمية وقد قسمها الفارابي إلى ستة أقسام وهي‪:‬‬
‫‪ -‬المدينة الضرورية والتي يعيش أهلها على الضروريات دون الكماليات‪.‬‬
‫‪ -‬المدينة البدالة والتي يعمل أهلها و يتعاون على بلوغ الثروة ألنها غاية بالنسبة لهم‪.‬‬
‫‪ -‬مدينة الخسة والشقوة ويكمن اهتمام أهلها بالتمتع باللذة من المأكل والمشرب وغيرها من اللذات‪.‬‬
‫‪ -‬مدينة الكرامة والتي يتعاونوا أهلها على أن يصيروا مكرمين ممدوحين مذكورين مشهورين بين األمم‪.‬‬
‫‪ -‬مدينة التغلب وهم الذين يكونون القاهرين لغيرهم وهمهم التغلب والسيطرة‪.‬‬
‫‪ -‬المدينة الجماعية ويكون أهلها أحرار يعمل كل واحد منهم ما شاء وال يمنع هواه في شيء أصال فيعيشون في‬
‫فوضى( هي فوضى الديمقراطية التي أشار إليها فالسفة اليونان وهي ناتجة عن إفراط في استعمال الحرية )‬
‫‪ -3‬المدينة الفاسقة ‪ :‬وهي التي علم أهلها بالمدينة الفاضلة ولكنهم ال يعملون بما علموا‪ ،‬ويعملون بمــا عمــل بــه‬
‫أهل المدينة الجاهلة‪.‬‬
‫‪ -4‬المدينة المتبّد لة ‪ :‬هي التي كانت آراء أهلها وأفعالهم مطابقة ألهل المدينة الفاضلة ثم تبّد لت فســاد بين أهلهــا‬
‫زيف اآلراء وفساد األعمال واألخالق‪.‬‬
‫‪ -5‬المدينة الضالة‪ :‬هي المدينة التي يسـود فيهـا الضـالل والخـداع والغـرور فأهلهـا ال يعتقـدون في هللا وال في‬
‫العقل الفعال بل إنهم يذهبون إلى أن هللا والعقل الفعال من ضمن األفكــار الفاســدة‪ ،‬ورئيس هــذه المدينــة يخــادع‬
‫الناس وينافقهم ويزعم أنه يتلقى الوحي‪ ،‬فهو من طينتهم‪ ،‬فكما تكونوا يوّلى عليكم‪.‬‬
‫‪ -6‬النوابت ‪ :‬وتوجد داخل المدينــة الفاضــلة وهي بمثابــة األشـواك أو النباتــات الضــارة الــتي تنبت في الحقــول‬
‫فتعيق نمو الزرع والغرس وتفسده‪.‬‬
‫ب‪ -‬أنواع المجتمعات ‪ :‬يقسم الفارابي المجتمعات على قسمين وهما‪:‬‬
‫‪ -1‬المجتمعات الكاملة ‪ :‬وهي بدورها تنقسم إلى ثالثة أقسام وهي‪:‬‬
‫أ‪ -‬المجتمعات العظمى ‪ :‬وهي اجتماع األمم كلهـا في المعمـورة وهي أكمـل المجتمعـات حيث تجتمـع وتتعـاون‬
‫فيما بينها ( دول العالم كلها )‪.‬‬
‫ب‪ -‬المجتمعات الوسطى‪ :‬وتتمثل في اجتماعات األمة في جزء من المعمورة ( األمة العربية مثال )‪.‬‬
‫ج‪ -‬المجتمعات الصغرى ‪ :‬وهي اجتماعات أهل المدينة في جزء من سكن أمة‪ ( 1‬بلد عربي من األمة العربية )‬

‫‪ 1‬عبد المجيد عمراني‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.76 :‬‬


‫‪32‬‬
‫يقول الفارابي أن المجتمعات الصغرى التي تمثل أهل المدينة هي أكمل هذه المجتمعات وأميزها‪ ،‬بحيث يسود‬
‫الخير والكمال أقصى ما يمكن‪.‬‬
‫من خالل هذه التقاسيم واألنواع نرى أن فكر الفارابي كان على شاكلة أفالطون وأرسطو الذين يـرون أن دولـة‬
‫المدينة هي أفضل النظم السياسية هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخــرى فالفــارابي لم يقــدم صــورة المــدن القائمــة في‬
‫عصره أو إظهار النظام السياسي القائم بقدر ما أعطانا فكرا سياسيا خالصا أي غير مرتبط بالواقع والموجــودة‬
‫في أيامه ومجتمعه‪ .‬كما أن المجتمعات غير الكاملة أو الناقصة كثيرة منها اجتمــاع أهــل القريــة واجتمــاع أهــل‬
‫المحلة واجتماع أهل المنزل‪.‬‬
‫يرى الفارابي أّن السعادة إذا كانت ممكنة على وجه األرض‪ ،‬فتكمن في التعـاون الـذي يحصل بين األفـراد في‬
‫أعمالهم الفاضلة ويحدث هذا في أكمل اجتماع إنساني الــذي يشــمل جميــع أمم األرض وأحســن دولــة ينــال بهــا‬
‫الكمال هي الدولة الكبرى‪.1‬‬
‫لم يتعرض الفارابي هنا إلى دراسة عن األسرة باعتبارها النواة األولى في المجتمع وأّنها جزء من اجتماع أهل‬
‫السكة‪ ،‬مع أن التماسك االجتماعي في األسرة أقوى منه في المدينة وفي السكة وفي الشارع الذي يقطنه جماعة‬
‫من األســر وربمــا هــذا التغاضــي يعــود إلى أن أفالطــون كــان قــد ألغى نظــام األســرة في جمهوريتــه الفاضــلة‬
‫(مشاعية النساء واألوالد ) أي أن الفارابي لم يجد ما عند أفالطون من كالم أو ما يكتبه عن األسرة ؟ ! بالرغم‬
‫من أن أفالطون تراجع عن بعض أفكاره في آخر حياته من خالل كتابه القوانين‪.‬‬
‫وخالصة القول فإن فكــر الفــارابي كمــا يظهــر جليــا يتمّي ز بالمثاليــة‪ ،‬وهــذا نابغــا من تــأثره الشــديد بــأفالطون‬
‫وأرسطو‪ ،‬وبالرغم من هذا التأثر فلم يأخذ الفارابي كل ما جاء به أفالطون فلم يتعّر ض ألنواع الحكومات مثال‬
‫وهناك من يرى بأن أنواع المدن والتي تمثل المدن الفاسدة بتعبـير أفالطـون وأرسـطو (الحكومـات الفاسـدة )‬
‫هي ما قام به الفارابي‪.‬‬
‫وتجدر اإلشارة إلى أن الفارابي حاول التوفيق بين العقل والنقـل أي بين الفلسـفة والـدين وذلـك من خالل ذكـره‬
‫للمدن الفاضلة وغير الفاضلة بتدخل العامل الديني واألخالقي مباشرة‪.‬‬
‫فلسفة ابن سينا السياسية‬
‫المبحث األول‪ :‬النفس البشرية‬
‫انطالقا من الوصية السقراطية أعرف نفسك‪ ،‬قام ابن سينا بالبحث في النفس البشرية ومعرفــة أحوالهــا وقولهــا‬
‫وتعلقها بالبدن‪ ...‬حيث استعمل البرهان الطبيعي السيكولوجي لذلك‪ ،‬واهتم ابن سينا بالنفس البشــرية في فلســفته‬
‫أكثر من الميادين األخرى‪ ،‬حيث يقــول اتفــق الحكمــاء واألوليــاء على أن من عــرف نفســه عــرف ربــه‪ ...‬ومن‬
‫عجز عن معرفة نفسه فهو عاجز عن معرفــة خالقــه‪ ،‬وكــذا نــرى أن ابن ســينا حــاول أن يفســر القــرآن الكــريم‬
‫تفسيرا فلسفيا عندما يحاول أن يجمع في فكره بين الفلسفة والدين‪ ،‬لذلك لقب بفيلسوف النفس البشرية‪ ،‬وإضــافة‬
‫إلى النفس البشرية فقد شملت فلسفته عنصرين آخرين وهما‪:‬‬
‫‪ -1‬الواجب الوجود‪ :‬فالوجود قد يكون ممكنا وواجبا‪ ،‬أما واجب الوجود قد يكون واجب بذاته وواجبا بغيره‪.‬‬
‫‪ -2‬قدم العالم‪ :‬وهو كل ما هو موجود في الزمان والمكان في هذا الكون‪.‬‬
‫ويوصى ابن سينا بأنه لن تخلص النفس البشرية عن السيئة ما ألتفتت إلى قيل وقال أو مناقشة وجــدال‪ ...‬وخــير‬
‫‪2‬‬
‫العمل ما صدر عن خالص نية وخير النية من ينفرج عن علم‪ ،‬والحكمة أم الفضــائل ومعرفــة هللا أول األوائــل‬
‫«إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه»‪.‬‬
‫من خالل تركيز ابن سينا على النفس البشرية وارتباطها باهلل ومعرفته بعد معرفة نفسها يالحظ من هــذا انــه ال‬
‫مجال للبحث في النظم أو الحكومات ما لم يراع هذا الجانب‪ ،‬أي االرتباط باهلل وبالتالي بالقانون اإللهي وعنــدما‬
‫تسير األمور بالشكل الصحيح وتسود الفضيلة والسعادة والعدالة‪...‬‬

‫‪ 1‬جميل صليبا‪ ،‬تاريخ الفلسفة العربية‪ ،‬الشركة العالمية للكتاب‪ ،‬بيروت‪ ،‬د‪.‬ت‪ ،‬ص‪.169:‬‬
‫‪ 2‬محمد شطوطي‪ ،‬الشيخ الرئيس ابن سينا‪ ،‬دار المكتبة الخضراء للنشر والطباعة والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،21 ،‬ص‪.12:‬‬
‫‪33‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬النظام التربوي عند ابن سينا‬
‫وضع ابن سينا برنامجا تربويا من سن الطفولة إلى سن الشباب (على نمط أفالطون) يهتم بشؤون الدين والدنيا‬
‫وهو على الشكل التالي‪:‬‬
‫يقول ابن سينا إذا قويت مفاصل الطفل واستوى لسانه على النطق الســليم وتهيــأ للتلقين ووعي ســمعه‪ ،‬أخــذ في‬
‫تعلم القرآن الكريم وصور حروف الهجاء ولقن معالم الدين وحفــظ من األشــعار مــا قيــل منــه في فضــل األدب‬
‫ومدح المعلم وذم الجهل وما حث فيه على البر بالوالدين والشفقة على الفقير‪...‬‬
‫نالحظ أن ابن سينا كان على دراية واسعة بفلسفة أفالطون وبالضبط بالنظام التربوي الشيء الــذي جعلــه يتبــع‬
‫خطى أفالطون في التقيد بمبادئ الدين اإلسالمي وجعل هذه البرامج موافقة معه والــدليل على ذلــك أن الصبي‬
‫يبدأ تعليمه بحفظ القرآن الكريم وحسب المواصفات الـتي أعطاهـا ابن سـينا فـإن الصبي الـذي قـويت مفاصـله‬
‫واستوى لسانه يكون في سن الرابعة وهذا ما كان معموال به بحيث نجد أن جل العلماء المسلمين حفظوا القرآن‬
‫الكريم في سن الرابعة‪ ،‬كما أنه ال يزال يعمل بهذه التوصيات حتى اآلن (تعليم القرآن للصبيان في المساجد قبل‬
‫دخولهم إلى المدرسة)‪.‬‬
‫يواصل ابن سينا نظامه التربوي وهذه المرة يركز على المؤدب أو المربي أو المعلم حيث يقــول‪« :‬أمــا مــؤدب‬
‫الصبي فينبغي أن يكون عاقال ذا دين بصير برياضة األخالق حاذقا بتخريج الصبيان وقــورا رزينــا بعيــدا عن‬
‫الخفة والسخف قليل التبذل صبورا بحضرة الصبي‪ ...‬فإذا فرغ الصبي من حفــظ القــرآن الكــريم وتعلم أصــول‬
‫اللغة شرع بدرس الرسائل والخطبة والحساب والعناية بالحظ‪ ،‬وعلى المؤدب أن يبحث له عن صناعة أو مهنة‬
‫فال يجبره على العلم إذا كان غير مّيال إليه ‪.»1‬‬
‫خاتمـــــــــة ‪:‬‬
‫لم تبرز أفكار وأراء ابن سينا السياسية مقارنة بالمجاالت األخرى وهذا بالرغم من ممارسته للسياسة هو نظــير‬
‫معالجته لألمير وشفاءه في مدة أربعين يوما‪ ،‬أي هذا المنصب هو بمثابة مكافــأة البن ســينا الــذي نبــغ في غــير‬
‫السياسة ؟!‬
‫يرى بعض المفكرين أن ابن سينا متناقض في تفكيره وفلسفته أي في حبه للعلم والثقافة وللشهوات النفسية معا‪،‬‬
‫مما جعل الناس يتهمونه أحيانا بالكفر‪ ،‬بالرغم من أنه يدعو إلى الخير والنظام والعــدل واالرتبــاط بالــدين‪ ،‬لكن‬
‫هذه الصفات ال يطبقها هو نفسه في الواقع وتغلبت عليه شهواته ونزواته‪.‬‬
‫أثرت فلسفة ابن سينا على الفلسفة اإلسالمية مما جعل التيار الفلسفي البن سينا يدرس حتى القرن الثامن عشــر‬
‫في المشرق بالرغم من معارضته مثله مثل بقية الفالسفة من طرف أبي حامد الغزالي (ســنرى ذلــك بالتفصيل‬
‫في حينه ومكانه) وانتقلت هذه العداوة إلى المغرب ثم إلى الغرب‪ ،‬والمؤكد أن الجانب الطبي في فكر ابن ســينا‬
‫هو الذي كان له األثر البالغ في شهرته وعظمته حتى في أوروبا خالل القرن السابع عشر‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪:‬فلسفة الغزالي السياسية‬
‫البحث األول‪ :‬نشأة المدينة أو الدولة عنده‬
‫حاول الغزالي بصفته فيلسوف سياسي واجتماعي أن يحدد ما يجب أن تكون عليه المدينة أو الدولة حتى تصبح‬
‫فاضلة مثاليـة تختلـف كـل االختالف عن تلـك الـتي تصورها أفالطـون والفـارابي‪ ،‬فيتكلم الغـزالي عن أهميـة‬
‫الصناعات وأصولها وآالتها وهي أشغال يدوية (حرف وصناعة وأعمال) فـترى الخلـق منكـبين عليهـا وسـبب‬
‫كثرة األشــغال أن اإلنسـان مضــطر على ثالث هي‪ :‬القــوت والملبس والمسـكن‪ ،‬أمــا أصــول الصناعة وأوائــل‬
‫األشــغال اليدويــة فهي خمســة‪ :‬الفالحــة والرعايــة (تربيــة المواشــي) واالقتنــاص والحياكــة والبنــاء‪ ،‬ويســتعمل‬
‫اإلنسان في ذلك أدوات وآالت منها النجارة والحدادة الخرز‪( 2‬العامل في جلود الحيوانات)‪.‬‬

‫‪ 1‬محمد شطوطي‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.11 :‬‬


‫‪ 2‬علي عبد المعطي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.382:‬‬
‫‪34‬‬
‫يرى من جهة أخرى أن حاجة اإلنسان إلى االجتماع وإنشاء البالد يعود لسببن وهمــا‪ :‬حاجتــه إلى النســل لبقــاء‬
‫جنس اإلنسان‪ ،‬والتعاون تهيئة أسباب العيش ألّن الفرد ال يستطيع أن يسد حاجياته المتعددة لوحده‪.‬‬
‫وتأتي هذه الحاجة إلى السياسة والحرف‪ ،‬ويبدأ بالرياسة في األسرة حيث يــرأس واليــة الزوجــة على الزوجــة‬
‫ووالية األبوين على األوالد وهذا المقياس يصلح على البلد بحيث متى كــان االجتمــاع كــان التعــاون والخصام‬
‫والنزاع وبالتالي وجدت الرياسة والوالية ألنه لو ترك األمر هكذا لهلــك القــوم‪ .‬ثم الحاجــة إلى الخــراج لتســديد‬
‫النفقات ودفع رواتب الجند وغيرها‪ ،‬وبعدها الحاجة إلى الملك وأعوانه لتدبير شؤون الرعية وأمير مطاع يعين‬
‫لكل عمل شخص ويختار كل واحد ما يليق به ويراعى النصفة في أخذ الخــراج وإعطائــه واســتعمال الجنــد في‬
‫الحرب وغيرها‪...‬‬
‫المرحلة الموالية هي نشأة األسواق واســتخدام النقــود لتبــادل المنــافع واألغــراض والحاجــات وظهــور حرفــتي‬
‫اللصوصية والتسول‪ ...‬ثم يقسم الغزالي الناس في هذه الدولة إلى طوائف يتبعــون مــذاهب مختلفــة في تحصيل‬
‫السعادة‪:‬‬
‫‪ -‬الطائفة األولى‪ :‬طائفة غلب عليها الجهــل والغفلــة‪ ،‬بحيث تجتهــد من أجــل الكســب واألكــل فليس لهم تنعم في‬
‫الدنيا وال قدم في الدين وهذا مذهب الفالحين والمحترفين‪.‬‬
‫‪ -‬الطائفة الثانية‪ :‬ترى أنه ليس المقصود أن يشـقى اإلنسـان بالعمــل وال يتنعم في الــدنيا بــل السـعادة أن يقضــي‬
‫اإلنسان وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن الفرج‪ ،‬فهؤالء نسو أنفسهم ويأكلون كما تأكل األنعام وشــغلهم‬
‫ذلك عن هللا وعن اليوم اآلخر‪.‬‬
‫‪ -‬الطائفة الثالثة‪ :‬ترى أن السعادة في كثرة المال‪ ،‬ال يأكلونه إال قدر الضرورة شحا وبخال‪.‬‬
‫‪ -‬الطائفة الرابعة‪ :‬السعادة في حسن االسم والثناء والمدح بالتجمل والمروءة‪.‬‬
‫‪ -‬الطائفة الخامسة‪ :‬السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقيــاد الخلــق بالتواضــع والتوفــير‪ ،‬فصرفوا هممهم‬
‫إلى استجرار الناس إلى الطاعة بطلب الواليــات وتقلــد األعمــال الســلطانية‪ ،‬ولمــا يحققــوا هــذا المطلب ســعدوا‬
‫سعادة عظيمة‪.‬‬
‫هذه الطوائف الخمسة هي الــتي انشـغلت بالــدنيا كمــا رأينــا‪ ،‬وبالمقابــل توجـد طوائــف على النقيض منهــا حيث‬
‫أعرضوا عن الدنيا وهي‪:‬‬
‫‪ -‬الطائفة األولى‪ :‬ظنت أن الــدنيا دار بالء ومحنــة واآلخــرة دار ســعادة‪ ،‬فــرأوا أنــه من الصواب الخالص من‬
‫محنة الدنيا والذهاب إلى الدر اآلخرة بغير موعد فقتلوا أنفسهم (أهل الهند)‪.‬‬
‫‪ -‬الطائفة الثانية‪ :‬ترى أن السعادة في قطع الشهوة والغضب وقتــل النفس‪ ،‬فــأقبلوا على المجاهــدة وشــددوا على‬
‫أنفسهم‪ ،‬حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله‪ ...‬ويرون أن هذا التعب هلل‪.‬‬
‫‪ -‬الطائفة الثالثة‪ :‬تظن أن المقصود من العبادات المجاهــدة حــتى يصل العبــد بهــا على معرفــة هللا تعــالى‪ ،‬فــإذا‬
‫حصلت المعرفة فقد وصل‪ ،‬وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة‪.‬‬
‫وفي األخير نرى أن الغزالي انطلق من الواقع ومن الظــواهر الــتي كــانت موجــودة أو الــتي وجــدت في القــديم‬
‫وفسرها وشرحها‪ ،‬ومن خالل التقسيم السابق نالحظ أنه قسم البشر على طوائــف ضــالة ومتطرفـة وكــانت إمــا‬
‫إفراط أو تفريط‪ ،‬وهي طوائف ال تقوم على أساس ديني‪ ،‬بل هي خارجــة عن مبــادئ وقيم الشــريعة اإلســالمية‬
‫السمحاء‪ ،‬ولكن أال يحق لنا أن نتساءل عن الطائفة البشرية التي تتمشى مع الشريعة اإلســالمية وتحقــق جــوهر‬
‫اإلسالم دينا ودنيا ؟‬
‫يجيب الغزالي بأن الطائفة السالكة لما كان عليه الرسول صلى هللا عليه وسلم وأصــحابه هي الفرقـة أو الطائفــة‬
‫الناجية‪ ،‬وهو أال يترك الدنيا قدر الزاد ويقمع من الشهوات مـا يخـرج عن طاعـة الشـرع والعقـل وال يتبـع كـل‬
‫شهوة‪ ،‬أي ال إفراط وال تفريط‪ ،‬بل يجب أن يكون األمر بين ذلك قوام‪ ،‬وذلك هو العــدل والوســط بين الطــرفين‬
‫وهو أحب األمور على هللا تعالى (خير األمور أوسطها)‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نظرية اإلمامة عند الغزالي‬

‫‪35‬‬
‫تعرض الغزالي لإلمامة في مؤلفه الشهير إحياء علوم الدين‪ ،‬حيث تضــمن كتابــا في األمــر بــالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر ويقصد به أن تغير المنكر ومقاومة الحاكم الجائر بالمنع أو القهر ال يجوز لكون ذلــك يحــرك الفتنــة‬
‫سواء كان ذلك بواسطة آحاد الناس أو جماعتهم ‪.1‬‬
‫يتبين لنا مما سبق أن الغزالي منع مقاومة الحاكم مخالفا بذلك جمهور أهل السنة والجماعة الــذي أجــاز مقاومــة‬
‫الحاكم الجائر‪ ،‬وربما يعود السبب في ذلك لتولي الغزالي منصب التدريس في المدرسة النظامية ببغداد وصلته‬
‫بالسلطة السلجوقية‪ ،‬فأراد بذلك تحاشي غضب الحاكم‪ ،‬وقـد أعطى بعض التفاسـير لهـذا المنـع وهـو خوفـه من‬
‫تحريك الفتنة والحرب األهلية وتهييج الشر ومن أن يكون المتولد أو الناتج منــه من المحـذور أكــثر (رب عــذر‬
‫أقبح من ذنب) !‬
‫من جهة أخرى يرى أن اإلمام ال يجوز خلعه ما لم يتــورط في الفتنــة أو الحــرب األهليــة‪ ،‬وهكــذا فاإلمامــة في‬
‫رأيه ضرورية للمجتمع والدين كما سبق وأن ذكرنا وينفي بالتالي حق الثورة إذا كــانت هــذه الثــورة تــؤدي إلى‬
‫إثارة الفتنة‪ ،‬ولما كان من المستبعد جدا أن تقوم ثورة بدون قتال وصراع داخلي‪ ،‬فماذا يــبرر اإللــزام السياســي‬
‫عندئذ ؟‬
‫في ظل الظلم واالستبداد يكون اإللزام السياسي أحد االحتمالين أو كالهما‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الحاكم هو ظل هللا في األرض‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -2‬أن ظلمه على سوئه يبقى أقل شرا من انهيار المجتمع ‪.‬‬
‫وما دام الغزالي يمنع مقاومة الحاكم وعزله‪ ،‬فمــا هي الصفات واختصاصــات هــذا الحــاكم ؟ ومــا هي شــروط‬
‫تولي هذا المنصب ؟‬
‫تكلم الغزالي عن اإلمامة ونظرياتها بالتفصيل في كتابه االقتصاد في االعتقــاد‪ ،‬والســير المســبوك في نصيحة‬
‫الملوك وفضائح الباطنية أو المستظهري‪ ،‬وبالرغم من أن الغزالي كان كارها للخــوض في هــذه المســألة نظــرا‬
‫لحساسيتها إال أنه أعطاها حقها من الدراسة والشرح‪ ،‬وقد نظر إليها في ثالثة أطراف وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬الطرف األول‪ :‬في بيان وجوب نصب اإلمام‪.‬‬
‫‪ -2‬الطرف الثاني‪ :‬في بيان من يتعين من سائر الخلق ألن ينصب إماما‪.‬‬
‫‪ -3‬الطرف الثالث‪ :‬في شرح عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين رضي هللا عنهم‪.‬‬
‫‪ -‬وجــوب نصب اإلمــام‪ :‬هــو واجب شــرعا وليس مــأخوذ من العقــل‪ ،‬ويشــرح الغــزالي كيــف كــان الصحابة‬
‫يتسارعون لنصب اإلمام وعقد اإلمامة بعد وفاة الرسـول صـلى هللا عليـه وسـلم‪ ،‬ويقـول أنـه إذا بطلت اإلمامـة‬
‫بطلت وانحلت والية القضاة‪...‬‬
‫ويقول في موضع آخر أن هللا سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهما‪:‬‬
‫األنبياء عليهم الصالة والسالم ليبنوا للعباد الدليل والسبيل واختيار الملوك لحفظ العباد من اعتداء بعضــهم على‬
‫بعض‪.‬‬
‫وهنا يعطي الملك والسلطان حقا مقدسا ويجعله ظل هللا في أرضه يجب طاعتــه واالمتثــال ألوامــره وهي تمثــل‬
‫حكومة إلهية تيوقراطية‪.‬‬
‫أما من حيث صفات اإلمام‪ ،‬فهي صفات إيجابية أو سلبية‪ ،‬بدنية أو نفسية‪ ،‬فطرية أو مكتسـبة تقـوم في شخصه‬
‫أو تحدد عالقته باآلخرين‪ ،‬دنيوية أو دينية تحدد عالقته باهلل أو بالرعية‪ ،‬وهذه الصفات والشروط هي‪:‬‬
‫‪ -‬البلـوغ – العقـل – الحريـة – الـذكورة – النسـب القرشـي – سـالمة الحـواس – وهي كلهـا صـفات غريزيـة‬
‫فطرية‪.‬‬
‫أّم ا الصفات المكتسبة في أربعة‪:‬‬
‫‪ -‬النجدة‪ :‬المقصود بها ظهور الشوكة ووقوع العدة واالستظهار بالجنود (اإلمام يباشر الحرب النفسية)‪.‬‬
‫‪ -‬الكفاية‪ :‬الفكر والتدبير ثم االستقصاء واستطالع الرأي والمشاورة و الهداية‪.‬‬
‫‪ 1‬عادل ثابت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.14:‬‬
‫‪ 2‬ملحم قربان‪ ،‬قضايا الفكر السياسي‪ :‬الحقوق الطبيعية‪ ،‬ط‪ ،1‬المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،1983 ،‬ص‪.84:‬‬
‫‪36‬‬
‫‪ -‬الورع‪ :‬وهي صفة ذاتية خاصة بشخصية اإلمام وهي العلم واسـتطالع رأي العلمـاء وهـو األسـاس واألصـل‬
‫عليه يدور األمر كله‪.‬‬
‫‪ -‬العلم‪ :‬عكس جمهــور العلمــاء الــذي يــرى أّن اإلمــام يجب أن يكــون على مرتبــة عاليــة من العلم واالجتهــاد‬
‫والفتوى في علوم الشرع‪ ،‬فالغزالي يرى أّنه ليس من الشروط الضرورية لإلمامـة بـل يكفي أن يتصف اإلمـام‬
‫بصفات أخالقية ويراجع أهل العلم ويحكم بما اتفق عليه العلماء‪...‬‬
‫‪ -‬عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين‪ :‬يحدد الغزالي الطريق القويم والمنهج السليم الــذي نســتطيع‬
‫التعرف على أخالق الصحابة والخالفة الراشــدة والحكم عليهــا حكمــا موضــوعيا ليس فيــه إفــراط وال تفريــط‪،‬‬
‫وعلى هذا األساس صّنف الناس على طائفتين‪ :‬الصنف األول الذي يبالغ في الثناء حتى يدعى العظمــة لألئمــة‪،‬‬
‫والصنف الثاني هو الذي يتهجم بالطعن فيطلق لسانه بذم الصحابة‪ ،‬فال ينبغي لإلنســان أن يكــون من الطــائفتين‬
‫بل ينبغي أن يسلك طريق االقتصاد في االعتقاد‪.‬‬
‫خاتمــــــــة‪:‬‬
‫إّن أهمية أفكار وأراء الغزالي تكمن في تجربته العميقة والنادرة‪ ،‬فقد كــان الفقيــه أوعــالم السياســة أوالمستشــار‬
‫القانوني في حاشية ملوك السالجقة ووزرائهم في نيسابور‪ ،‬لذلك تحتل السياســة في فكــر الغــزالي مكانــا رفيعــا‬
‫جوهريا سواء كان ذلك من الناحية النظريــة العامــة أم التطــبيق العملي‪ ،‬والمقصود بالسياسـة عنــده هــو التعليم‬
‫والتهذيب واإلرشاد والتعاون في أداء األعمال التي ال بــد من إنماءهــا لكفالــة قيــام المجتمــع واســتمراره وربــط‬
‫األخالق بالسياسة وعال من شأن وظيفة التربية السياسية‪.‬‬
‫كما ربـط من جهـة أخـرى بين الـدين والـدنيا‪ ،‬وبين وجـوه النشـاط الـروحي والثقـافي واالقتصادية والصحية‬
‫والسياسية‪ ،‬ربطا يجعل من حياة الفرد والشخص والعام كل عضوا متكامال ال يمكن تحقيقه غال في الدولة‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن اإلمام هو ظل هللا في األرض إال أنه أكد على أهمية الشوكة أو النجدة بالجنود وقمع البغــاة‬
‫والطغاة ومجاهدة الكفرة‪ ،‬كمــا أوجب على اإلمــام اســتطالع الــرأي ومشــاورة أهــل العلم والعلمــاء والحكم بمــا‬
‫اتفقوا‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬فلسفة ابن رشد السياسية‬
‫المبحث األول‪ :‬ابن رشد شارح أرسطو‬
‫لقد شرح ابن رشد لفالسفة كثيرين مسلمين واليونـان‪ ،‬على أنـه لقب بالشـارح‪ ،‬وعـرف بهـذا اللقب ألّن ه شـرح‬
‫لواحد من أعظم وأبرز هؤالء الفالسفة وهو أرسطو‪.‬‬
‫لقد أعجب الغرب بابن رشد كشارح ألرسطو ووضعوه في مرتبة أرسطو نفسه‪ ،‬فما السر في هذا يا ترى ؟‬
‫كان ابن رشد يجهل اليونانية فتعذر عليه فهم النصوص األصـلية فلجـأ إلى الترجمـات والشـراح الـذين سـبقوه‪،‬‬
‫لكن هذه الترجمات كانت غامضة‪ ،‬واستطاع أن يوضح هذه الغوامض عندما قارن بين الشروحات والتفاســير‪،‬‬
‫وبما أنه من اشد المعجبين بأرسطو فلم يتعرض له بنقد‪.‬‬
‫هذه الشروح أثرت في فلسفة ابن رشد الخاصة‪ ،‬فاعتنق نظريات أرسطو وانتقد على أساسها مــا افتقــد من آراء‬
‫الفارابي وابن سينا والغزالي وقد أثرت هذه النظريات في إيمان ابن رشد فأفسـدت عليـه عقائـد إسـالمية كثـيرة‬
‫مثل استحالة البعث‪ ...‬وسببت له عدة مشكالت كما رأينا سابقا‪.‬‬
‫عرف الغرب أرسطو وفهم فلسفته حوالي القرن الثالث عشر من خالل شروحات ابن رشد الذي كان له الفضل‬
‫الكبير على الغرب‪ ،‬كما تأثر الغرب بنظريات ابن رشد المخالفة لعقائد اإلسالم والمســيحية معــا‪ ،‬الشــيء الــذي‬
‫تكّو ن حولها مذهب عرف بالرشدية وقد تصدت لها السلطات الدينية ومنها توما اإلكويني وتضخم هذا الصراع‬
‫على أن حيكت عدة أساطير نسبت البن رشد منها تأليفه لكتاب تحت عنوان (الدجالون الثالثة‪ :‬موسى‪ ،‬يســوع‪،‬‬
‫ومحمد) !‬
‫إّن شروح ابن رشد لفلسفة أرسطو ضخمته ورفعت من شأنه في أعين الغرب ولكن العكس حدث تماما بالنسبة‬
‫للمسلمين‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬صالت الحكمة والشريعة عند ابن رشد‬
‫لم يكن تأثر ابن رشد بفالسفة اليونان فقط‪ ،‬بل تأثر أيضا بابن ماجة وابن طفيل وهمـا من فقهـاء األنـدلس‪ ،‬وفي‬
‫مؤلف (فصل المقال بين الحكمة والشريعة من االتصال) يرى أّن هناك تناقضــا بســيطا بين الفلســفة والشــريعة‬
‫ويقول في هذا الصدد نحن مأمورون بالنظر في كالمهم حسب كالم الشريعة‪ ،‬فإن اتفق مع ما عندنا في الشــرع‬
‫قبلناه وشكرناهم عليه‪ ،‬وإن كان مخالفا للشرع تركناه وعذرناهم‪ .1‬مستشهدا في ذلــك بقــول هللا ســبحانه وتعــالى‬
‫في اآلية الكريمة ‪َ ﴿:‬فَبِّش ْر ِعَباِد (‪ )17‬اَّلِذ يَن َيْس َتِمُعوَن اْلَقْو َل َفَيَّتِبُعوَن َأْح َس َنُهۚ ﴾* سورة الزمر‬
‫والمعروف أن كل ما قدمـه المفكـرون اإلسـالميون الـذين تـأثر وبالفلسـفة اليونانيـة من محـاوالت التوفيـق بين‬
‫الفلسفة اليونانية والعقيدة اإلسالمية قد رفض من قبل جمهور فقهــاء أهــل الســنة والجماعــة بــد ليــل أن اإلســالم‬
‫شريعة متكاملة غنية عن كل الفلسفات والنظم الوضعية لقوله تعـالى‪ِ ﴿ :‬إَّن ال ِّديَن ِع ن َد ِهَّللا اِإْل ْس اَل ُم ﴾ آل عمـران‬
‫‪َ ﴿ 18‬و َم ن َيْبَتِغ َغ ْيَر اِإْل ْس اَل ِم ِد يًنا َفَلن ُيْقَبَل ِم ْنُه َو ُهَو ِفي اآْل ِخَر ِة ِم َن اْلَخ اِس ِر يَن ﴾ آل عمران ‪85‬‬
‫لم يكن ابن رشد السباق على هذا التوفيق بل سبقه إلى ذلك الكنــدي (‪873-813‬م) الــذي لقب بفيلســوف العــرب‬
‫والذي يقول بأن المعرفة طريقان ‪:‬طريق العقل وطريق الوحي‪ ،‬وهذان الطريقــان يوصــالن إلى حقيقــة واحــدة‬
‫وإن اختلفت الطــرق المؤذيــة إليهمــا أمــا ابن ســينا فتبــع طريــق التأويــل وذلــك في التوفيــق بين آرائــه الفلســفية‬
‫ومعتقداته الدينية ويروي ابن طفيل بأن الــدين والفلســفة بمثابــة واحــدة تتمثــل في معرفــة الخــير المطلــق وهــذه‬
‫المعرف تكون عن طريق العقــل وعن طريــق الــوحي أيضــا ‪ .2‬ولكن ابن رشـد لم يحـاول التوفيــق بين الفلسـفة‬
‫والشريعة بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث ألف كتابا في هذا المجال وهو (فصل المقال) وبـدأ يطـرح في أسـئلة‬
‫كثيرة منها ‪:‬‬
‫ما هو موقف الشرع من الفلسفة‪ ،‬ويقصد هل النظر في الفلسفة مباح شرعا أم محظور أو مأمور به ؟‬
‫ويقدم الجواب التالي‪ :‬إن الفلسفة هي النظر في الموجودات أتم نظر وأعمق وأن النظر يريانها مصنوعات ولها‬
‫صانع هو هللا ويستدل باآلية الكريمة‪:‬‬
‫﴿ َأَو َلْم َينُظُر وا ِفي َم َلُك وِت الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض َو َم ا َخ َل َق ُهَّللا ِم ن َش ْي ٍء ﴾ األعــراف ‪ ، 185‬واآليـة األخـرى ‪:‬‬
‫﴿ َأَفاَل َينُظُر وَن ِإَلى اِإْل ِبِل َك ْيَف ُخ ِلَقْت (‪َ (17‬و ِإَلى الَّس َم اِء َك ْيَف ُر ِفَع ْت (‪ ، ﴾ )18‬واآليـات األخـرى ﴿ َو َيَتَفَّك ُر وَن‬
‫ِفي َخ ْل ِق الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض ﴾ ﴾ آل عمــران ‪. 191‬ومن خالل هــذه اآليــات يســتدل ابن رشــد بــأن هللا يأمرنــا‬
‫بدراسة الفلسفة ألنها الباب المؤدي إلى معرفة هللا ‪.‬‬
‫يطرح ابن رشد السؤال الثاني وهو ‪ :‬هل يتفق الشرع والفلسفة ؟‬
‫ويجيب باإليجاب‪ :‬اإلسالم حق وما يؤدي إليه النظر الفلسفي البرهاني حــق والحــق ال يضــاد الحــق بــل يوافقــه‬
‫ويشهد له إلى أن في الشرع ظاهر أو باطنا ‪ ،‬حيث رأى أنه هناك تفاوت في العقــول‪ ،‬وعلى هــذا األســاس قسـم‬
‫الناس على ثالثة أصناف وهي ‪:‬‬
‫‪ -1‬برهانيون‪ :‬أي هؤالء الذين ال يصدقون إال بالبرهان اليقين‪.‬‬
‫‪ -2‬جدليون‪ :‬وهم المتكلمون كالمعتزلة واألشعرية يحاورون اليقين وال يبلغونه ‪.‬‬
‫‪ -3‬خطابيون‪ :‬هم جمهور العامة من الناس يكتفون بالظن‪.3‬‬
‫السؤال اآلخر الذي طرحه ابن رشد هو‪ :‬ماالتأويل وما مواطنه وشروطه؟‬
‫التأويل هو إخراج اللفظ من الداللة المجازية على الداللة الحقيقية من غير أن يخل في ذلك بعادة لســان العــرب‬
‫في التجاوز من تسمية شيء بشبيهه أو سببه أو الحقه أو مقارنه ‪. 4‬‬

‫‪ 1‬عادل ثابت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.11:‬‬


‫‪ 2‬عبد المجيد عمراني‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.93 :‬‬
‫‪ 3‬يوحنا قمير‪ ،‬فالسفة العرب‪:‬ابن رشد‪ ،‬ط‪ ،3‬دار المشرق‪ ،‬بيروت‪ ،1997 ،‬ص‪.28:‬‬
‫‪ 4‬ابن رشد‪ ،‬فلسفة ابن رشد ‪ ،‬تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬منشورات دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بيروت‪ ،1982 ،‬ص‪.20:‬‬
‫‪38‬‬
‫وينهي ابن رشد أسئلته بالسؤال األكبر والخاص بالغزالي لما كفر الفالســفة وقــد قســمهم إلى ثالثــة أقســام كلهــا‬
‫كافرة‪ ،‬وذلك لمخالفتهم اإلجماع في المسائل الثالث في قولهم بقدم العالم وإنكارهم علم هللا بالجزيئات وإنكارهم‬
‫المعاد الجسماني ‪ ،‬فيتصدى ابن رشد لهذا التفكير ويدافع عن الفالسفة بل يرد التهمة ‪.‬‬
‫الخاتمة ‪:‬‬
‫من خالل مــا تقــدم نســتخلص أن ابن رشــد رأى في محاولتــه التوفيــق بين الحكمــة والشــريعة ‪ ،‬بــأّن الحكمــة‬
‫والشريعة أختــان ليس من يفــرق بينهمــا‪ :‬الحكمــة هي صــاحبة الشــرع واألخت الرضــيعة ويختم رأيــه في هــذا‬
‫الموضوع بضرورة النظر في كتب القــدماء بــل إنــه من الشــرع‪...‬ومن نهى عن هــذا النظــر فكــان أهال للنظــر‬
‫فيه‪..‬ويقصد بالطبع الغزالي‪.‬‬
‫الفصل الثاني ‪:‬‬
‫فلسفة ابن خلدون السياسية‬
‫المبحث األول‪ :‬كيفية نشأة المدينة أو الدولة‪.‬‬
‫يرى ابن خلدون أن االجتماع اإلنساني ضروري (اإلنسان مدني بــالطبع) أي البــد لــه من االجتمــاع الــذي هــو‬
‫المدينة بالمفهوم الحديث‪ ،‬ويقترب ابن خلدون من األقوال السابقة على أن اإلنسان غير قــادر على توفــير وســد‬
‫حاجياته المتعددة بمفرده‪ ،‬لذلك وجب أو اضطر إلى االجتماع والتعاون مع بقية األفراد والجماعات لتلبيــة هــذه‬
‫الحاجيات‪.‬‬
‫هذا التعاون يعطيه ابن خلدون عدة أبعاد منها‪ :‬التعاون ضد العدوان الخارجي‪ ،‬والتعاون لبقــاء الجنس البشــري‬
‫والحفاظ عليه وغيرهــا‪...‬ولكن هــذا االجتمــاع يجب أن يكــون لــه رئيس أوســلطان ينظم هــذا االجتمــاع ويحمي‬
‫األفراد من شر بعضهم البعض نظرا لما في اإلنسان من طبائع حيوانية من العدوان والظلم‪.‬‬
‫إن االجتماع عنده يبدأ بما هو ضروري فيه وبسيط قبل الكمالي‪ ،‬أي يبدأ باألعمال الزراعية والفالحية وتربيــة‬
‫المواشي‪ ،‬ويختص أهل البادية بهذا النشاط لتوفرهم على األراضي الشاسعة عكس أهل المــدن‪ ،‬ثم االنتقــال إلى‬
‫حياة تسودها نوع من الرفاهية وهذا بعد إشباع الحاجات الضــرورية السـالفة الــذكر‪ ،‬وحصولهم على مــا فـوق‬
‫الحاجة (استكثار من األقوات والمالبس وبناء المنازل وتوسيع البيوت وإخطاط المدن واألمصار للتمرن ‪)...‬‬
‫ومع هذا التطور االجتماعي البشري البد من وازع حاكم يرجعون إليه‪ ،‬وهذا الحاكم يكــون حكمــه على الشــكل‬
‫التالي‪:‬‬
‫‪ -‬إما أن يكون نبيا يوحى إليه وتكون سياسته شرعية وإلهية مستندة إلى أصول وقواعد سماوية‪ ،‬وإمــا ن يكــون‬
‫السلطان أو الحكم عقليا إنسانيا ومن ثم تكون سياسة مرتكزة إلى عقل اإلنسان‪.‬‬
‫‪ -‬نرى أن األفكار واآلراء التي وصل إليها ابن خلدون بشأن نشأة الدولــة هي أراء متطابقــة مــع أراء أفالطــون‬
‫الذي أرجع سـبب االجتمـاع إلى عـدم قـدرة الفـرد لسـد حاجياتـه بنفسـه‪ ،‬وقـال أّن أّو ل الحاجـات هي الطبيعيـة‬
‫المتمثلة في القوت والمسكن والملبس‪ ،‬كما أشار كــذالك إلى أن االجتمــاع والتعــاون يقتضــي تقســيم العمــل وقــد‬
‫أشرنا سابقا أن أفالطون يعد من األوائل الذين اقروا بتقسيم وتخصيص العمل‪ .‬وقد أّك د سقراط قبله وعلى لسان‬
‫أفالطون هذه العناصر التي يجب أن تتوفر كشروط في نشأة الدولة واالجتماع عموما‪...‬‬
‫‪ -‬المبحث الثاني‪ :‬نظرية العصبية‬
‫ال نغالي إذا قلنا أّن ابن خلدون ابتكر نظرية جديدة في تكوين الّد ول وانحاللها وهي نظرية العصبية‪ .‬فما معــنى‬
‫العصبية ؟ وما عالقتها بالحكم أو الرياسة ؟ وما هي غايتها ؟‬
‫إّن مفهوم العصبية أونظرية العصبية يشكل عنصرا رئيسيا في فكر ابن خلدون‪ ،‬حيث جعلها مفتاح الديناميكيــة‬
‫االجتماعية كيف ال وأن ابن خلدون يرى أنه ال يتسنى لقبيلــة مــا أن تــولى الحكم وال يمكنهــا أن تتحضــر إال إذا‬
‫زودت بالعصبية‪ ،‬ليصل في األخير إلى أن الملك هو غاية العصبية ‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫العصبية تصور يقع بين البداوة والحضارة واالنتقال من طريقة إنتاج إلى أخرى‪ ،‬أما مفهوم العصبية فقــد أخــد‬
‫عدة تعريفات ولعـل أهمهـا هي التضـامن االجتمـاعي وااللتحـام القبلي والـروح العموميـة والذهنيـة العشـائرية‬
‫والقرابة بالعصب والتضامن بالعصب ‪...1‬الخ‪.‬‬
‫للتذكير فإنه ال يوجد مرادف لكلمة العصبية في اللغة الفرنسية‪ ،‬والكلمة عربية األصل مشتقة من لفض عصب‬
‫الذي يعــني حرفيــا ربــط وتجمــع وشــد وأحــاط واجتمــع‪...‬وهنــاك عــددا من الكلمــات المشــتقة من نفس األصــل‬
‫وتتضــمن نفس الفكــرة‪ :‬عصب ( جعــل شخصا على رأس حــزب)‪ ،‬تعصب ( عصب رأســه بعصابة‪ ،‬كــان‬
‫متعصبا‪ ،‬انعصب ‪ :‬أصبح قاسيا‪ ،‬عصب‪ :‬عمامة‪ ،‬عصابة ‪ :‬جماعة من الرجال‪ ،‬الصور الــتي تهم ابن خلــدون‬
‫والتي ال يفهمها البدو والحضر بنفس المعنى ‪.‬‬
‫تعتبر البادية الحالة األصــلية للعصبية وهي أساســها وقوامهــا (القرابــة بالعصب‪ ،‬والقرابــة بــالرحم) في حالــة‬
‫الزواج بين أفراد الجماعة األصلية‪...‬إن صلة الرحم طبيعي في البشر‪...‬ومن صــلتها النعــرة على ذوي القــربى‬
‫وأهل األرحام ‪ ،2‬زيادة على هذا فإن هذه الجماعــة تمتــاز بوجــود أفــراد طاعنــة في الســن يوحــون على الــدوام‬
‫بالوقار وال يوحون بالخوف أبدا وهكذا يكون الضــغط االجتمــاعي منعــدما تقريبــا‪ ،‬األمــر الــذي يــتيح للفــرد أن‬
‫يناصب العداء لمن ال ينتمي إلى القبيلة أو الجماعة « تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم ‪،‬إذ نعرة كل أحد على نسبه‬
‫وعصبيته أهم » ‪.‬‬
‫في األخير نستنتج ثالثة عناصر في هذا المســتوى وهي‪ :‬عنصر البيئــة ( الباديــة) وعنصر إحيــائي (النســب)‬
‫وعنصر أخالقي ( الوقار) المستوى الثاني للعصبية حسب ابن خلدون يتمثل في االنتقال من العنصر اإلحيــائي‬
‫إلى االجتماعي وهناك نوعين من التحالف الذي يوضح هذا التطور ‪:‬‬
‫‪ -1‬التحالف الفردي الذي يتعهد به الفرد وحده‪ ،‬أي انضمامه إلى جماعة أجنبيــة لســبب من األســباب‪ ،‬وبــالرغم‬
‫من أنه ينظر أليه في أول األمر كأنه دخيل إال أّن المجتمع يتبناه في النهاية‪.‬‬
‫‪ -2‬الحلف الجمــاعي الــذي يعقــد بين قبيلــتين أو أكــثر من ذلــك في آن واحــد‪ .‬المســتوى الثــالث وهــو المســتوى‬
‫االقتصادي والسياسي حيث ينكر مذهب المساواة الخاص بأفراد القبيلة وإخضاع أفراد القبيلــة وإخضــاع أفــراد‬
‫الجماعة لنضام تسلسلي قوي ضروري لبروز هذه العصبية‪ ،‬وهذا النظام يفترض وجود زعيم ينظر إليه نظرة‬
‫إعجاب عالوة على االحترام ‪،‬بل يخشاه سكان القبيلة كلهم‪ ،‬وتظهر العصبية هنا غير قادرة على تشكيل العمود‬
‫الفقري للدولة لكنها تعتبر الوسيلة التي البد منها لبناء الدولة ‪،‬وحتى تكون هذه العصبية حقيقية يجب أن يضاف‬
‫إليهما مفاهيم أخرى مثل الرياسة والحب والوالء ‪...‬‬
‫الرياسة يتوالها من كانت عصبيته أقوى من سائر العصبيات ‪،‬واالجتماع والعصبية مثــل أي تكــوين ال بــد أن‬
‫يغلب فيه احـد العناصــر ‪،‬وفي هــذه الحالــة تعــود الغلبــة ألهــل البــدو‪ ،‬وإذا زالت عنهم حالــة التــوحش وتمــدنوا‬
‫صبحوا أقل قدرة على التغلب والقتال ‪،‬ويبرر ذلك فيقول أن بعض الحيوانــات المتوحشــة إذا خــالطت اآلدمــيين‬
‫أصبحت مستأنسة‪ ،‬والجيل الوحش أشد شجاعة من الجيل اآلخر فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في يد سواهم‬
‫من األمم‪...‬‬
‫أما غاية العصبية عند ابن خلدون وهي أمر زائد على الرياسة‪ ،‬ألّن الرياسة أّنمــا هي ســؤدد وصــاحبها متبــوع‬
‫وليس له عليهم قهر في أحكامه ‪،‬وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر ‪،‬وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما‬
‫فوقها‪ ،‬فإذا بلغ رتبة السؤدد ووجد السبيل إلى التغلب والقهر ال يتركــه ألنــه مطلــوب للنفس ‪،‬وال يتم اقتــدار مــا‬
‫عليه إال بالعصبية التي يكون بها متبوعا ‪،‬فالتغلب الملكي غاية العصبية ‪.3‬‬
‫ال يكتفي ابن خلدون بــالقوة الجســدية والماديــة للعصبية وإنمــا ضــرورة تــوافر القــوة المعنويــة المرتكــزة على‬
‫األخالق والدين ‪،‬ألن السياسة والملك هي كفالة للخلق وخالفة هللا في العباد لتنفيــذ أحكامــه فيهم وأحكــام هللا في‬
‫خلقه وعباده إّنما هي بالخير ومراعاة المصالح حسب الشرائع ‪،‬كما بّين أن الدعوة الدينية تزيد الدولة قــوة على‬
‫‪ 1‬عبد الغني المغربي‪ ،‬الفكر االجتماعي عند ابن خلدون‪ ،‬ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬الجزائر‪ ،1988 ،‬ص‪.144:‬‬
‫‪ 2‬ابن خلدون‪ ،‬المقّدمة‪ ،‬نقال عن عبد الغني المغربي‪ ،‬المرجع السابق الذكر‪ ،‬ص‪.147 :‬‬
‫‪ 3‬علي عبد المعطي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.547:‬‬
‫‪40‬‬
‫قوة العصبية‪ .‬أما حدود الدولة فيجب أن تكون محّد دة مكانيــا وجغرافيــا على قــدر وعــدد أهــل العصبية وذالــك‬
‫لتسهل مراقبتها والحفاظ عليها من األعداء (وهي نفس فكرة أرسطو ) ‪.‬كما أنه لهــذه الدولــة عمــر مثــل الكــائن‬
‫العضوي (يولد يحيا ويموت‪ ،‬له بداية وله نهاية وتخضع (الدولة ) لعوامل النمو والفناء وقـد حـّد د عمــر الدولــة‬
‫بحوالي مائة وعشرون سنة أي ثالثة أجيال إذا علمنا أن متوسط عمر أجيال أربعين سنة ‪.‬‬
‫الجيل األول‪ :‬ال يزال على خلق البداوة والخشونة والتوحش واالفتراس واالشــتراك في المجــد‪ ،‬فتبقي العصبية‬
‫بذلك محفوظة فيهم‪.‬‬
‫الجيل الثاني‪ :‬تحول حالهم بالملك والترفه من البــداوة إلى الحضــارة ومن الشــطف إلى الــترف والخصب ومن‬
‫االشتراك في المجد إلى إنفراد الواحد به ‪...‬فتنكسر العصبية بعض الشيء وتؤسس فيهم المهانة والخضوع‪...‬‬
‫الجيل الثالث‪ :‬ينسون عهد البداوة والخشونة‪ ،‬كأن لم تكن ؟ ويفقدون حالوة العــز والعصبية بمــا فيهم من ملكــة‬
‫القهر ويبلغ فيهم الترف غايتهم‪...‬فيصرون عياال على الدولة‪...‬فتسقط العصبية بالجملــة‪ ،‬وتضــعف الدولــة أمــام‬
‫األعداء فتلجأ إلى الموالين لكن الدولة تنقرض فتذهب الدولة بما حملت ‪.1‬‬
‫إضافة إلى عمر الدولة العضوي‪ ،‬فإنها تمر بخمسة أطوار رسمها ابن خلدون كالتالي‪:‬‬
‫‪ -1‬الطور األول‪ :‬وهو طور الظفر واالســتيالء على الملــك‪...‬ويكــون صــاحب الدولــة أسـوة قومــه في اكتسـاب‬
‫المجد وجباية المال والدافعة والحماية‪..‬‬
‫‪ -2‬الطور الثاني‪ :‬طور االستبداد على قومه واإلنفراد بالملك ومنعهم من المشاركة والمساهمة ‪.‬‬
‫‪ -3‬الطور الثالث‪ :‬طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات المال مما تنتزع طباع البشر إليه من تحصيل المال‪...‬‬
‫‪ -4‬الطور الرابع‪ :‬طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدولة قانعا مقلدا لسلفه‪.‬‬
‫‪ -5‬الطور الخامس‪ :‬طور اإلسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة هنا متلفا لما جمع أّو لوه في سبيل الشــهوات‬
‫والمالذ والكرم على بطانته وفي مجالسه‪...‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬نظام الحكم عند ابن خلدون‪:‬‬
‫يرى ابن خلدون أن الخالفـة ليسـت من عقائـد اإليمـان وهي شـأن من شـؤون التنظيم االجتمـاعي بغيـة تحقيـق‬
‫المصلحة العامــة‪ ،‬وهي وســيلة لحمايــة الــدين عــبر تــوّلي القيــادة السياســية والملــك أوالحــاكم هنــا يقــوم بهــذين‬
‫المهمتين‪ .2‬هذا الملك وضع له ابن خلدون عدة أو صاف وسيمات منها‪:‬‬
‫ال تكون كلمة إال كلمته وأمر إال أمره وحماية الثغور وهذا يحتاج إلى جيش خاضع له وجباية األموال وإرســال‬
‫الرسل وغيرها‪...‬وبالرغم من هذه األوصاف فمن شأن الملك أن يسير وفق هواه وشهواته ونزواته فيفقد طاعــة‬
‫النــاس لــه وتســود الفوضــى لــذلك ال يخضــع الجميــع إلى هــوى الســلطان وشــهواته ولكن إلى قــوانين سياســية‬
‫مفروضة مأخوذة من كتاب هللا (القانون الوضعي المستمد من القــانون اإللهي)‪ ،‬أي العمــل بمقتضــى كتــاب هللا‬
‫وليس بمقتضى الغلب والقهر‪.‬‬
‫يعّر ف ابن خلدون اإلمامة على أّنها نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا وتســمى خالفــة أو‬
‫إمامة والقائم بها يسمى إماما أوالخليفة‪ .‬وسّم ي إماما نسبة إلى إمام الصالة وسمي خليفة ألّنه يخلف هلل في أمته‪،‬‬
‫وشرط منصب اإلمام هو اإلجمــاع من قبــل أهــل العقــد والحـل إضــافة إلى الشـروط أخـرى هي العلم والعدالــة‬
‫والكفاية وسالمة الحواس واألعضاء واختلف في شرط النسب القرشي أما مهام اإلمام فهي دينية ودنيوية ‪:‬‬
‫دينية‪ :‬حفظ الدين من البدع واألمر بالتكاليف الشرعية و سبيلها وحمل الناس عليها‪.‬‬
‫‪ -‬إمامة الصالة‪.‬‬
‫‪ -‬الفتيا‪ :‬تشجيع وإعانة أهل العلم‪.‬‬
‫‪ -‬القضاء‪ :‬الفصل بين الناس في الخصومات ‪.‬‬
‫‪ -‬العدالة‪ :‬وظيفة تابعة للقضاء‪.‬‬
‫‪ -‬الحسبة‪ ،‬األمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫‪ 1‬عادل ثابت‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.193:‬‬
‫‪ 2‬ملحم قربان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.86:‬‬
‫‪41‬‬
‫‪ -‬السكة‪ :‬سك النقود ومراقبتها من الغش‪.‬‬
‫دنيوية‪ :‬الوزارة‪.‬‬
‫‪ -‬الحجابة ‪.‬‬
‫‪ -‬ديوان أعمال الجبايات‪.‬‬
‫‪ -‬ديوان الرسائل الكتابة‪.‬‬
‫‪ -‬الشرطة‪.‬‬
‫‪ -‬قيادة األساطيل‪...‬‬
‫كانت أفكار وأراء ابن خلدون واقعية انطلق فيها من األحداث والوقائع الــتي عاشــها وعرفهــا في معظم البلــدان‬
‫التي زارها من المغرب إلي المشرق‪ ،‬وهذا ما يدفعنا للقول بأّن ابن خلدون كان فيلسوفا سياسيا واقعيا بالدرجــة‬
‫األولى ولم يكن خياليا أو نظريا أو يوتوبيا كأفالطون‪ ،‬وإذا غلبت تسمية ابن خلدون بأّنه فيلسوف تــاريخي فمن‬
‫خالل ما ذكرناه يتبين لنا أنه مؤّسس لعلم السياسة واالجتماع السياسي ‪...‬‬
‫والعلم واإليمان هما ينبوعا المعرفة عند ابن خلدون ألّنه عــالم ومــؤمن في نفس الــوقت‪ ،‬حيث يــؤمن بالمعرفــة‬
‫الدينية كأحكام ال كمعرفة‪ ،‬يؤمن بالمعرفة العلمية القائمة على التجربة ســواء كــانت تجربــة حســية آو روحيــة‪،‬‬
‫ويقول في النهاية أّن المعرفة الوحيدة عنده هي المعرفة العلمية ويستبعد بذلك الفلسفة اليونانية ( ما عدا أرسطو‬
‫الذي يتبع المنهج العلمي ) والفلســفة اإلســالمية الــتي تــاهت في اإللهيــات‪ ،‬فالمعرفــة إذا هي تلــك الــتي تخضــع‬
‫للتجربة والبرهان واليقين سواء كانت في ميدان التجربة الحسية أو الروحية ‪.1‬‬
‫السعادة عند ابن خلدون هي قضية نفسية بحتة ال دخل لها في ميدان المعـرف واإلدراك ‪،‬فالسـعادة الـتي وعـدنا‬
‫بها الشارع على أعمالنا وأخالقنـا ال تحيـط بهـا مـدارك المـدركين‪ ، 2‬فهـو بـذلك يختلـف مـع الفالسـفة اليونـان‬
‫والمسلمين الذين جعلوا غاية الفلسفة السعادة ‪.‬‬
‫نظرا لالهتمام الذي أواله ابن خلدون لميدان التربية والتعليم مثله مثل أفالطون رأيت من الضــروري اإلحاطــة‬
‫بهذا الجانب الهام في تكوين األمم وعلى هذا األساس سنخّصص حّيزا للتربية عند ابن خلدون ‪.‬‬
‫كان كونفوشيوس يرى أّن المســاواة المنشــودة بين النــاس ال ســبيل إلى تحقيقهــا إال عن طريــق نشــر العلم‪ ،‬ألن‬
‫انتشاره يؤدي إلى تفّهم حقائق األمور فيدرك كل فرد مركــزه االجتمــاعي وحقــه في الحيــاة‪ ،‬ويكــافح في ســبيل‬
‫الحصول على كافة حقوقه حتى إذا أتم التعليم على هذا النحو انعدمت الفروق بين مختلف الطبقات االجتماعيــة‬
‫ومن ثّم يكــون التنظيم االجتمــاعي أدى إلى االســتقرار ‪،‬أمــا أرســطو فــيرى أن التربيــة يجب أن تكــون أحــد‬
‫الموضوعات الرئيسية التي يعنى بها المشرع فحينما يكون نظام التربية مهمال تصاب الدولــة بــاالنحالل وذلــك‬
‫ألن أخالق األفراد وعاداتهم ومظاهر سلوكهم في كل مدينة هي الكفيلة بأن تكون قوام الدولة ‪..‬ويرى من جهــة‬
‫أخرى أّنه يجب توحيد نظام التربية لجميع الطبقات ‪،‬ألن التربية المشتركة هي التي تضمن األهداف المشــتركة‬
‫وحتى يكون البناء السياسي بعيدا عن االنقسامات واالختالفات التي يسببها التباين في ألوان التربيــة والتفكــير‪،3‬‬
‫أما الفيلسوف األمريكي جون ديوي فيرى أن التربية يجب أن ترتكز على مبادئ وهي ‪:‬‬
‫‪ -‬أنه ال يمكن أن يكون هنــاك صــنفان من المبــادئ األخالقيــة تختص إحــداهما بالحيــاة في المدرســة واألخــرى‬
‫بالحياة خارجها ‪،‬ألن السلوك وحدة ال تتجزأ‪.‬‬
‫‪ -‬أي يجب إدخال المفاهيم االجتماعية للمدرسة وإقامة أسسها على الوظيفة االجتماعية حتى تكون لهمــا رســالة‬
‫أخالقية حقيقية‪.‬‬
‫أما ابن خلدون فقد تفطن للعالقة الموجودة بين الحياة االجتماعيـة والتعليم وكـذا الترابـط الموجـود بين مسـتوى‬
‫المجتمع ومستوى المجتمع ومسـتوى التعليم وبـدأ بـالخطوة األولى من خطـوات التعليم وبّين ظـروف المجتمـع‬

‫‪ 1‬عبد هللا شريط‪ ،‬الفكر األخالقي عند ابن خلدون‪ ،‬ط‪ ،3‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ ،‬الجزائر‪ ،1975 ،‬ص‪.52:‬‬

‫‪ 2‬عبد هللا شريط‪ ،‬المرجع السابق الذكر‪ ،‬ص‪.61 :‬‬


‫‪ 3‬مصطفى الخشاب‪ ،‬علم االجتماع ومدارسه‪ ،‬نقال عن عبد هللا شريط‪ ،‬المرجع السابق الذكر‪ ،‬ص‪.647:‬‬
‫‪42‬‬
‫الحضارية وهي خطوة الكتابة‪ ،‬حيث يقول بأن الكتابــة هي من الممــيزات النــادرة الــتي تمــيز بهــا اإلنسـان عن‬
‫الحيوان ألنها من أرقى الوسائل التي تطلع على ما في الضمائر ‪ ..‬ويطلع بها على العلوم والمعــارف وصــحف‬
‫األّو لين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم فهي شريعة هذه الوجوه والمنافع‪.‬‬
‫يقصد بطبيعة الحال بالكتابة التأليف والنشر بالمفهوم الحالي ويرى أن هذا األسلوب موجود في المدينــة وتفتقــر‬
‫له البادية ألن أغلب أهلها أمّيين‪..‬ال يقرءون وال يكتبون‪ .‬ويربط مصير الثقافــة بمصير الكتابــة من حيث قيمــة‬
‫وجودة ما يكتب وينسخ وال يجب أن ننسى أدوات التعليم والعناية بها مثل ما حدث قــديما‪ .‬وبمــا أن ابن خلــدون‬
‫عاش في المغرب العربي وميزة أفكاره هي الواقعية فقد قدم نقائص التعليم في هذه البلدان وهي‪:‬‬
‫‪ -‬عدم المناقشة وهي من أسباب تأخر التعليم‪ ،‬والحفظ دون الفهم وكثرة التأليف للمــادة الواحــدة وإهمــال المــواد‬
‫األخرى أو كثرة االختصار واالقتصار على القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ -‬استعمال العنف يقضي على شخصية الطفل ورجولته أي التعليم القائم على اإلكراه ال على التشويق ‪.‬‬
‫‪ -‬ضرورة عمل التلميذ بنفسه ما تعلمه‪.‬‬
‫‪ -‬تنويع األساتذة للكبار وقصورالتعليم في اللغة‪ ،‬أي تعليم قواعد اللغة وإهمــال اللغــة ذاتهــا‪ ،‬ويعطي مثــاال على‬
‫ذلك الخياط والنجــار بحيث يعرفــان مهنتهمــا نظريــا ولكن لــو طلب منهمــا القيــام بهــذا العمــل أو شــيء منــه لم‬
‫يتمكن‪.1‬‬
‫خاتمـــــــــة ‪:‬‬
‫في األخير يمكن القول أن الطريق الوحيد لإلعـداد للحيـاة االجتماعيـة هي بالـذات ممارسـة الحيـاة االجتماعيـة‬
‫نفسها فتكوين عادات عند الطفل بعيد عن الوضع االجتمــاعي القــائم معنــاه تــدريب الطفــل على الســباحة وعلى‬
‫حركات العوم خارج الماء وال نتكلم عن مدرسة حضارية في بيئة بدائية والعكس ‪.‬‬
‫الفصل الثاني ‪:‬‬
‫فلسفة ميكيافيلي السياسية‬
‫المبحث األول‪ :‬أنظمة الحكم ونظرته للحاكم‬
‫كانت إيطاليا في عهد ميكيافيلي مقسمة إلى خمسة دول أو أقاليم وهي ‪:‬‬
‫‪ -1‬مملكة نابولي في الجنوب‪.‬‬
‫‪ -2‬دقيه ميالن في شمال الغربي‪.‬‬
‫‪ -3‬جمهورية البندقية في الشمال الشرقي‪.‬‬
‫‪ -4‬جمهورية فلورنسا‪.‬‬
‫‪ -5‬الدول البابوية في الوسط‪.‬‬
‫باإلضافة إلى هذه الدول الكبرى‪ ،‬هنالك العديد من الدويالت الصغيرة المستقلة والتي يحكمها طغاة‪ ،‬هــذا يعــني‬
‫أن إيطاليا كانت تفتقر إلى حكومة مركزية قوية شبيهة بتلك الموجــودة عنــد دول الجــواز‪ ،‬زيــادة على هــذا فقــد‬
‫عمت الفوضى والفساد األخالقي واالجتماعي والسياسي مما أدى إلى نشوب الحروب األهلية التي كانت تنــدلع‬
‫من لألخر بين هذه الدويالت ‪ ...‬في هذه األثناء راح ميكيافيلي يبحث عن السبيل الكفيل إلخراج إيطاليا من هذه‬
‫المأزق ويوحد بين صفوفها ويخلق الروح الوطنية والشعور باالنتهاء من اجل بناء دولــة قويــة حــرة بعيــدة عن‬
‫الصراعات ‪.‬‬
‫للتــذكير فــإّن ميكيــافيلي كــان معجبــا بالجمهوريــة الرومانيــة واعتبرهــا مثلــه األعلى‪ ،‬حيث أعجب بمؤسســاتها‬
‫السياسية‪ ،‬وكان يرى أنها تمثل ذروة ما حققه اإلنسان من أنواع وصورالحكم‪ ،‬ويقول احد تالمذته المعاصــرين‬
‫له انه لو طلب من ميكيافيلي وضــع دســتور لدولــة حديثــة‪ ،‬لجعــل هــذا الدســتور يشــمل على القناصــل ومجلس‬
‫الشيوخ والحكام (التربويين)‪ 2‬وهذه هي المؤّسسات السياسية التي بواسطتها وصلت الجمهوريــة الرومانيــة إلى‬
‫أعلى قمتها وأوجها‪ .‬إّن المنطق الذي اعتمد عليه في تحليل الواقع االيطالي هو أنه ينبغي فصل األخالق والدين‬
‫‪ 1‬عبد هللا شريط‪ ،‬المرجع السابق الذكر‪ ،‬ص‪.663:‬‬
‫‪43‬‬
‫عن الدولة ألنهما يخضعان للقوانين السياســية الــتي تقــوم على أساســها‪ ،‬والدولــة بقوتهــا هي الــتي تجعــل بــاقي‬
‫األمور قوية وحسنة وتنعم الناس بفوائدها والعكس إذا كانت ضعيفة فتتدهور األوضاع وتعم الفوضى‪.‬‬
‫إن الصفات األساسية التي يقترحا على األمير ويرجوه أن ال يحيد عنها هي‪:‬‬
‫‪ -‬عدم االنفعال‪.‬‬
‫‪ -‬االستفادة من الفرص التي تتاح له‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون له من القوة ما يمكنه من ارتكاب المعاصي إذا اقتضت مصلحة البالد ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون نبيها ولبقا بحيث يفهم نفوس البشر جيدا‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون على استعداد لمحاربة الشر بالشر‪.‬‬
‫‪ -‬أن يستعمل الناس لقضاء أغراضه حسبما تتطلب الظروف‪.‬‬
‫‪ -‬أن يكون واثقا من نفسه وال يهاب وال يتردد‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -‬أن يتخلص من الجنود المرتزقة وينشئ جيشا وطنيا من أبناء بالده ‪.‬‬
‫هذا األمير أو الحاكم يفضله ميكيافيلي أن يكون محبوبا ويخافه الناس‪ ،‬ولكن الجمع بين الحب والخوف صعب‪،‬‬
‫لذا يفضل الخوف عن الحب‪ ،‬أي يجب أن يكون مخافا مهابا بدل أن يكون محبوبا ‪ 2‬حتى ال يســيء النــاس إليــه‬
‫بسهولة‪ ،‬ألّن المحبة بنت المصلحة الشخصية المرتبطة بالمنفعة‪ ،‬بينمــا عالقــة الخــوف من العقــاب فتبقى ثابتــة‬
‫وال تتأثر بأي عامل زمني عكس المحبة التي تنتهي بزوال المصلحة‪.‬‬
‫إن نجاح األمير يتوقف على مروءته وجرأته وشخصيته لتحقيق المصلحة العليا إلمارته ‪ ...‬وقد يــرتكب بعض‬
‫الجرائم السياسية ويبعث الرهبة في قلوب البشر وهو يسعى لذلك‪ .‬ومن جهة أخرى فإّن الّن اس حســبه شــرهون‬
‫ونفعيون حيث يستسلمون لموت أحد أفــراد العائلــة أو أي قــريب بســهولة أكــثر ممــا يفعلــون لخســارة أو فقــدان‬
‫ميراثهم لذلك على الحاكم أن يتظاهر بالتدين والتقــوى والتســامح وحمايــة الملكيــة الفكريــة‪ ،‬وهــذا للحفــاظ على‬
‫السلطة السياسية واستمراريتها‪ ،‬كما يصور الناس بأنهم حسـودون وغيـورون ومنـافقون وسـاخطون دومـا وال‬
‫يطمحون إال إلى ما ليس عندهم ‪ ...‬وهم كاذبون ومخــادعون في حيــاتهم كمــا أنهم خــائفون وجبنــاء خاصــة من‬
‫العقاب‪ ،‬ولهذا يجب على األمير أن تكون له قوة األسد ومكر وخداع الثعلب‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬فصل الدين واألخالق عن الدولة‪:‬‬
‫لم يكن ميكيافيلي مبال لمـا لألخالق والـدين من آثـار في نفسـية الجمـاهير على الحيـاة االجتماعيـة والسياسـية‪،‬‬
‫وكان يقر استخدام الحكام وسائل غير أخالقية لتحقيق غاية أو مصلحة البالد‪ ،‬ولكنه لم يشك أبــدا في أن الفســاد‬
‫األخالقي في شعب يجعل الحكم الصالح مستحيال (كما تكونوا يولى عليكم)‪.‬‬
‫إن فصل الدين عن الدولــة في نظــر ميكيــافيلي ال يعــني كراهيتــه للديانــة المســيحية‪ ،‬لكنــه عارضــها معارضــة‬
‫شديدة‪ ،‬ألّن الدين حسبه يعلم فضائل مغلوطة فهي أي المسيحية تعلم الخضــوع والــذل وإنكــار الجســد وإعطــاء‬
‫الخد لآلخر للطم‪ ،‬ثم تأجيل أمل اإلنسان في الفرح والسعادة إلى ما بعد الموت‪ ،‬وهو بذلك عكس هــذه الصفات‬
‫كما رأينا‪ ،‬ومن جهة أخرى يرى أن الدين هو وســيلة في يــد الحــاكم يســلطها على رؤوس المحكــومين ‪ ،‬ولهــذا‬
‫أعتبر من ألذ أعداء البابوية التي كانت تتهمه باإللحاد والخروج على تعاليمها‪ ،‬وأما أهمية الدين بالنسبة للحــاكم‬
‫حسبه فتمكن في سهولة قيادة الشعب‪ ،‬كما أنه يعمـل على تقويـة وحدتـه وزيـادة تماسـكها ‪ 3‬والّد ولـة هي معطى‬
‫وهي كــائن والفــرد تــابع لهــذه الدولــة‪ ،‬ودولتــه لهــا مقتضــيات تســلطية شــبيهة باســتبدادية األمــير‪ ،‬إّن الدولــة‬
‫الجمهورية أو األميرية تمارس إكراه دونما اعتبارها للخيرأو الشر‪...‬والدين يجب أن يلحق بالدولــة تمامــا وهــو‬

‫‪ 2‬كريستيان غادس‪ ،‬في مقدمة كتاب األمير‪ ،‬بقلم نيكوال ميكيافيلي‪ ،،‬تر‪ :‬خيري حّم اد‪ ،‬ط‪ ،3‬منشورات المكتب التجاري للطباعــة‪ ،‬بــيروت‪،1970 ،‬‬
‫ص‪.42:‬‬
‫‪ 1‬عمار بوحوش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.128:‬‬
‫‪ 2‬عبد الوهاب الكيالني‪ ،‬الموسوعة السياسية الفلسفية‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،1984 ،‬ص‪.306:‬‬
‫‪ 3‬محمد فتح هللا خطيب‪ ،‬مبادئ العلوم السياسية‪ :‬تطّو ر الفكر السياسي‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬بيروت‪ ،1998 ،‬ص‪.102:‬‬
‫‪44‬‬
‫عنصر تماسك اجتماعي‪ ..‬ال تحاربوا مطلقا الدين وال أي شيء يتعلق باهلل‪ ،‬ألّن مثل هذه األشياء لها تأثير قـوي‬
‫على عقول الحمقى‪.‬‬
‫أمــا اإلنجيــل فقــد اضــعف الهمم وقــدس المتواضــعين وجعلهم يميلــون إلى التأمــل بــدل االنصراف إلى الحيــاة‬
‫الناشطة في رأي ميكيافيلي ‪.‬‬
‫األكيد أن هذه الالدينية وهذا التمجيد للدولة تمخضت عنه عدة نتائج منها‪:‬‬
‫‪ -‬عداء لإلمبراطورية و لكل ما يذكر بالكونية المسيحية (مجموعة الدول المسيحية)‪.‬‬
‫‪ -‬احتقار االرستقراطية النبيلة ذات األصل اإلقطاعي‪.‬‬
‫‪ -‬مفهوم واقعي بشكل خاص للعالقات بين الدول‪.1‬‬
‫وللدولة شبه ميل طبعي إلى الضخامة وال وجود لألخالق وال للقانون الدولي بل هناك قانون الغاب وكـل شـيء‬
‫يصح أخذه‪ ،‬ذلك كانت األهمية البالغة في التنظيم العسكري ألية دولة و الخدمة العسكرية وتكوين جيش وطــني‬
‫قوي‪ ،‬ويتأّلم ميكيافيلي من ضعف روما والدويالت اإليطالية من لجوءها إلى الجيش المرتزقــة الــذي يفتقــر إلى‬
‫الشعور باالنتماء وال يحمل هوية الوطن‪.‬‬
‫يفضل ميكيافيلي النظام الديمقراطي في حالة وجود مساواة اقتصادية أعجب بالنظام الجمهوري الــذي وجــد في‬
‫القديم‪ ،‬وأشار على أّنه يجب وجود مواطنين يتميزون بالذكاء والشــعورالعام حــتى تقــوم الحكومــة الجمهوريــة‪،‬‬
‫ولسنا ندري هل هذا الذكاء يصنع أم إنه شيء آخر ‪ ...‬وعارض النظام االرستقراطي ألنه يفرق بين الشعب ‪...‬‬
‫لكن يبقى أفضل األنظمة على اإلطالق هو الحكم الملكي ويكون بانتخاب الحاكم الملك وهــو ليس الحكم الملكي‬
‫المتوارث المعروف‪.2‬‬
‫خاتمــــــــــة‪:‬‬
‫إن واقعة ميكيافيلي جعلت ما كتب يحدث ضجة في األوساط السياسية‪ ،‬وبما أن أفكاره وأرائه ونصائحه جاءت‬
‫بعد تجارب ووقائع أي أنها قابلة للتجسيد‪ ،‬فقد اسـتفاد منهـا كثـير من السياسـيين وأذكـر على وجـه الخصوص‬
‫نابليون وهتلر وموسيليني وبنوشي وغيرهم من الديكتاتوريين (أغلب حكام دول العالم الثالث ؟!)‪.‬‬
‫الفلسفة السياسية عنده هي غاية في حد ذاتها وعلى الحاكم أن يبتعد عن األفكار المســبقة ويهتم بالدرجــة األولى‬
‫بالدولة وحريتها منكرا في ذلك التشريع اإللهي والقانون الوضعي وشــكل الحكومــة ‪ ...‬وفن الحكم الــذي يتمثــل‬
‫في استخدام القوة الجائرة واالستعانة بالمغريات وحســم األمــور واالحتفــاظ وإنشــاء جيش قــومي قــوي عــوض‬
‫جيش المرتزقة الذي ال جدوى منه لفقدانه الحس الوطني‪.‬‬
‫أما الدولة فهي ذاتية طبيعية وجدت وتبقى من خالل تفاعل قــوى طبيعيــة بعيــدة عن الــدين واألخالق‪ ...‬هي إذا‬
‫نصائح ميكيافيلي أو فن الحكم ووسائله‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬مبادئ اإلصالح الديني البروتستانتي‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬عالقة السلطة الروحية بالسلطة الزمنية‪.‬‬
‫لقد فّر ق مارثن لوثر بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية وفصل بينهما‪ ،‬كما أكد على أهمية الســلطة الزمنيــة‬
‫وضرورة وجود الطاعة في المجتمع حــتى يمكن للدولــة تحقيــق مــا تهــدف إليــه‪ ،‬زيــادة على هــذا فــإن الســلطة‬
‫الزمنية أعلى من السلطة الدينية وذلك دون التقليل من دور الكنيسة وأهميتها التي تتمثل حسب رأيه في جمعيــة‬
‫عامة تمثل رجال الدين وال تنحصر في البابا نفسه معيبا في ذلك وجود طبقات من رجال الــدين داخــل الكنيســة‬
‫مما أدى بهم في النهاية إلى التدخل في الشؤون العامة وتموين ثورة التدخل في الحيات السياسية‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة على أن لوثر كان واقعيا وأفكاره منبثقة من الظروف التي عاشها وعايشها فهي بحق أفكــار بنت‬
‫بيئته‪.‬‬

‫‪ 1‬جان توشار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪،‬ص‪.205-204 :‬‬


‫‪ 2‬محمد فتح هللا خطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.103:‬‬
‫‪45‬‬
‫رأى من جهة أخرى أنه من الضروري طاعة المحكومين للحاكمين‪ ،‬لكنه تراجع عن هذه الفكرة بعــد األحــداث‬
‫التي وقعت بين األمراء األلمان واإلمبراطور شارل الخامس حيث يحق للشعب الخروج عن طاعــة الحــاكم في‬
‫حالة فساد الحكم وطغيانه واستبداده‪ ،‬بل يحق القيام بالثورة ضده إذا ما هو تجاهل احترام القوانين‪ ،‬وقــد أثــرت‬
‫فعال هذه النظرية في مجريات األحداث في أوربا فيما بعد بحيث نشبت عدة ثــورات ضــد نظريــة الحــق اإللهي‬
‫في الحكم ومن أهمها ثورة الفالحين ما بين ‪1524‬م و‪1525‬م الذين رغبوا في حياة أفضل ومجتمع أحسن‪ ،‬لكن‬
‫الغريب أن لوثر لم يؤيد هذه الثورات بحجة أنه يرغب أن يقترن اسمه بثورات تعتمد على القوة‪ ،‬كما أّنه يوافق‬
‫عليها ألنها تهدف إلى تحقيق المساواة في داخل الدولة وهو المبدأ الذي يرفضه‪ ،‬حيث يرى أنه من الضــروري‬
‫وجود عدم المساواة بين األفراد داخل الدولة ‪ ...‬لكن المؤكد هو أّنه رفض هذه الثورات نتيجة الوئام والصداقة‬
‫التي كانت تجمعه بأمراء ألمانيا؟! ‪ ...‬واألكثر من هذا فإّن هذا الــود والــوالء جعلــه يــتراجع عن أفكــاره األولى‬
‫خاصة فيما يتعلق بفصل الدين عن الدولـة أو السياسـة‪ ،‬حيث سـمح للدولـة أو السـلطة السياسـية برسـم الحـدود‬
‫للسلطة الدينية على أن تمكن هذه الحدود بالممارسة الحرة للعقائد الدينية‪ ،‬كما ناقض لوثر األفكــار الــتي ســادت‬
‫العصور الوسطى والتي مفادها أّنه بإمكان المجتمعات العيش بعيدة ومنفصلة عن الدولة ‪ ...‬هــذه الفكــرة قــامت‬
‫عليها الدولــة الحديثــة ذات قــوة وســيادة ونظــام مركــزي والــتي حلت محــل التجمعــات البشــرية في ظــل نظــام‬
‫اإلقطاع‪ .‬يقول لوثر إن أصل الدولة مقدس ومسؤولية الحاكم يرجع أساسها إلى الرب الخالق وهو مسئول أمــام‬
‫هللا وليس أمام الشعب ‪.1‬‬
‫من حيث القانون فيرى أنه يجب أن يسري في الدولة ويطبق على الجميع بما في ذلك رجال الدين‪ ،‬ويجب عدم‬
‫مقاومة سلطة الملك أو األمــراء ويرجــع هــذه الفكــرة إلى مــا كــان ســائدا من حرمــان الشــعب من حــق مقاومــة‬
‫السلطات الملكية واإلمبراطورية وحّتى مقاومة السلطات الدينية التي تمتعت بها الكنيسة‪ ،‬وفي األخير يــرى أن‬
‫السلطة السياسية في الدولة الحديثة إنما هي التطورات التي تمتعت بها الكنيســة في الماضــي وأصــبحت في يــد‬
‫السلطة الحاكمة في ظل تطور الدولة الحديثة (يوم لك ويوم عليك)‪.‬‬
‫من جهته يرى كالفن أنه ال يجب إدماج الكنيســة والدولــة في نظــام واحــد‪ ،‬بــل لكــل منهــا عمــل مســتقل‪ ،‬فتقــوم‬
‫الكنيسة باألعمال الدينية الخاصة بها على أن تقوم الدولـة بالمحافظـة على النظـام وحمايـة الملكيـة وتعميم القيم‬
‫والدين‪ ،‬والدولة بهذه الوظيفة فمن واجب كل مســيحي أن يؤيــد الدولــة أو يعاونهــا في تحقيــق أهــدافها وتصبح‬
‫بالتالي طاعة الدولة واجبا ويمنع مقاومتها‪ ،‬وبالمقابل يجوز لألجهزة الحكوميــة الممثلــة للشــعب مثــل المجــالس‬
‫النيابية أن تواجه استبداد الملوك والحكام كما يجوز للمسحيين أن يرفعوا السالح تحت قيــادة زعمــاء لهم لــردع‬
‫االستبداد والقضاء عليه‪ ،‬وعدم االستجابة إلرادة الحاكم أو الملك إذا كانت القوانين التي يصدرها تتعارض مــع‬
‫تعاليم الدين‪ ،‬وهو يختلف في هذه النقطة مع لــوثر‪ ،‬ألّن هــذا األخــير أّي د أمــراء ألمانيــا‪ ،‬وعــدم معارضــتهم في‬
‫حكمهم من أجل مساعدته في نشر مذهبه الجديــد الــذي جــاء كمــا هــو معلــوم لمحاربــة الفســاد والفوضــى الــتي‬
‫أحدثتها الكنيسة الكاثوليكية والثراء اذي وصلت إليه من خالل فرضها للضرائب وبيعها صكوك الغفران‪...‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أثر اإلصالح الديني البروتستانتي في الحياة العامة‪:‬‬
‫لقد حّقق اإلصالح الديني البروتستانتي بزعامة مارثن لوثر وجــان كــالفن عــدة نتــائج وذلــك من خالل أرائهمــا‬
‫وأفكارهما المناهضة للكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين‪ ،‬بحيث أنشــأت الكنــائس اللوثريــة التابعــة للدولــة والــتي‬
‫سيطرت عليها القوى السياسية وهذا تماشــيا مــع أفكــاره‪ ،‬وكــانت تقريبــا فروعــا من الدولــة وبالتــالي أصــبحت‬
‫السلطة الزمنية من غير قيود السلطة الدينية التي عرفتها في القرون الوسطى‪ ،‬كما تّم القضاء على المؤسســات‬
‫الدينية القديمة (األديرة‪ ،‬مؤّسسات الكنيسة وإبطال القانون الكنيسي‪,)...‬وفي نفس االتجاه كانت الكنائس الكلفنية‬
‫في هولندا واسكتلندا الواسطة الرئيسية التي عن طريقها انتشر التبرير مقاومة الحكام في جميع أرجــاء أوروبــا‬
‫الغربية بالرغم من إيمانه بالطاعة العمياء مثل لوثر‪.‬‬

‫‪ 1‬محمد فتح هللا خطيب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.106:‬‬


‫‪46‬‬
‫بصورة عامة فإن الكلفينية خاصة بفرنسا واسكتلندا اتخذت موقــف المعارضــة من الحكومــات الــتي لم تتح لهــا‬
‫الفرصة للعمل بمذاهبها‪ ،‬وقد قاوما االضطهاد ودعوا إلى الثورة على الحاكم الذي يخــالف مــذهبهم‪ .‬أّي د كــالفن‬
‫األرستقراطية بدال من الملكية‪ ،‬وانتقد انتقادا شديدا الديمقراطية وأنظمتها‪.‬‬
‫اهتمت البروتستانتية بعالقة اإلنسان باهلل وبالظروف والوســائل الــتي تمّك ن اإلنســان من الوصــول إلى الســعادة‬
‫األبدية في العالم اآلخر‪ ،1‬أّم ا بخصوص الكنيسة الكاثوليكية فإّنها خرجت عن تعاليم الكتاب المقــدس‪ ،‬وقوانينهــا‬
‫المدنية بدعة هدفها االستحواذ على الســلطة الزمنيــة‪ ،‬وضــرورة الفصل بين الســلطتين الدينيــة والسياســية مــع‬
‫ترجيح الكفة للسلطة السياسية ‪.2‬‬
‫في األخير نقول لقـد آمن لـوثر بالملكيـة الفرديـة ولكن تطـبيق مبادئـه أسـفر عن النظـام االسـتبدادي السـتعانته‬
‫باألمراء في حكمهم الفردي‪ ،‬عكس كالفن الذي آمن بالنظام أوالســلطة المطلقــة لكن تطبيقهــا شــجع على تقريــر‬
‫الحريات الفردية‪ ،‬في حين جّند لوثر السلطة السياسية إلخضاع السلطة الدينية لها أنشأ الكنيسة القوميــة‪ ،‬بينمــا‬
‫طالب كالفن بفصل الكنيسة عن الدولة تماما ومنع الدولة في التدخل في شؤون الكنيسة الشيء الذي ســاعد على‬
‫تقرير الحريات الفردية الدينية والسياسية‪ ،‬وفيها اعتبر لوثر أن الحياة السياسية قريبة من اإلنجيــل‪ ،‬فــإّن كــالفن‬
‫يرى أّن هذا ال يعني أن المجتمع يفقد أهميته في نظر المسيحية ‪.3‬‬
‫خاتمــــــــــة ‪:‬‬
‫لقد أّيد كل من لوثر وكالفن الحكام والسلطة الزمنية وأعطوها مرتبة أعلى‪ ،‬كما أقروا بالطاعــة العميــاء لهــؤالء‬
‫الحكام شريطة أن يبادلوهم نفس التأييد في نشر مذهبهم ومساعدتهم في ذلك وهذا نــوع من األخـذ والعطــاء بين‬
‫مفكرين وحكام ( تبادل المصالح واألفكــار ) دون أن ننقص من أهميــة أفكــر الــرجلين‪ ،‬حـتى وإن لم تظهــر في‬
‫حياتهما إال أنها تجلت فيما بعد‪ ،‬وهنا تكمن فعال األهمية ‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬فلسفة بودان السياسية‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم السيادة عنده‪.‬‬
‫يعرف بودان السيادة بأنها السلطة المطلق على المواطنين وجميع رعايا البلد وال تتقيد بقانون‪ ،4‬ومن خالل هذا‬
‫التعريف يتضح جليا أن بودان جعل الحاكم حرا في حكمه وتصرفاته ال يحده قيد وال شــرط‪ ،‬واألكــثر من ذلــك‬
‫أنه يرى وظيفة السيادة الرئيسية هي خلق القانون‪ ،‬وعلى هذا األســاس فهي ملزمــة ألنــه يعــود لهــا الفصل في‬
‫وجود وخلق هذا القانون ومن جهة أخرى أن الملك واجبة عليه طاعــة القــوانين اإللهيــة والطبيعيــة وأنــه ملــزم‬
‫كذالك باحترام المعاهدات واالتفاقات سواء كانت داخلية أم خارجية ‪.‬‬
‫والقانون عنده يمكن أن يغير العرف وال يمكن أن يغير القانون‪ ،‬والسلطة دائمة وال تفّو ض وال يمكن التصرف‬
‫فيها وال تقبل االنقسام وهي التي تضع القانون وتفّسره وتنفذه ويعتقد أّن وجود مثــل هــذا الحـق الزم ألّي ة دولــة‬
‫منّظمة ويشكل الفارق الذي يميز هيئة سياسية متطــورة عن مجموعــات أكــثر بدائيــة‪ ،‬ولعلنــا نتســاءل هنــا هــل‬
‫الحاكم الواضع لهذه القوانين غير مقيد فعال أم هناك قيود تقف أمامه ؟‬
‫الحاكم كما رأينا آنفا مقيد بالقانون اإللهي والطبيعي‪ ،‬هذا يعني أن القانون الوضعي أو قانون البشر تحت قانون‬
‫الطبيعة ومراعاة هذا القانون هو الذي يمّيز الّد ولة الحقيقية عن مجّرد العنــف الحقيقي‪ ،‬وفي هــذه الحــاالت فــإن‬
‫الحاكم ملزم بالقانون الطبيعي في وضع القانون الوضعي‪ ،‬وفي حالة وضع الحاكم أو أمر بشيء يتعــارض مــع‬
‫القانون الطبيعي فهنا يمكن أن يعصى الحــاكم‪ ،‬ألن القــانون في آن واحــد هــو إرادة الحــاكم وتعبــيرا عن العــدل‬
‫الخالد وهذان األمران ال يمكن أن يتعارضا‪.‬‬

‫‪ 1‬علي عبد المعطي محمد‪ ،‬الفكر السياسي الغربي‪ ،‬اإلسكتدرية‪ ،‬دار المعرفة الجامعية‪ ،1994 ،‬ص‪.120:‬‬
‫‪ 2‬محمد محمود ربيع‪ ،‬الفكر السياسي الغربي‪ :‬فلسفاته ومناهجه من أفالطون إلى ماركس‪ ،‬مطبوعات جامعة الكويت‪ ،1994 ،‬ص‪.172:‬‬
‫‪ 3‬محمد محمود ربيع‪ ،‬المرجع السابق الذكر‪ ،‬ص‪.179:‬‬
‫‪ 4‬عمار بوحوش‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.131:‬‬
‫‪47‬‬
‫إّن إخالص بــودان لقــانون فرنســا الدســتوري وميلــه كقــانوني وكــاتب في األخالق يميــل إلى جــانب الحكم‬
‫الدستوري واحترام أعراف الملكية وأساليبها القديمة مثل قــانون الوراثــة والتنــازل عن الممتلكــات العامــة‪...‬في‬
‫هذه الحالة فإّن الحاكم هنا هو واضع و خاضع لقوانين دستورية معينة لم يضعها وال يستطيع تغييرها‪.‬‬
‫من خالل هذه النظرة على السيادة لبودان يتضح لنا أن لهــذا األخــير أهــداف وهــو يــدافع على الحــاكم ويدّع مــه‬
‫بسيادة اجتهد في إعطاءها تعريفا ومدلوالت رأيناها سالفا ومن بين أهدافه مايلي‪:‬‬
‫‪ -1‬نتيجة الظروف القائمة والتي عاشها بودان وميزتها الحروب واالضطرابات واالنحالل السياسي والتــدهور‬
‫االقتصادي وضعف أو زوال الدولة ‪ ..‬كل هذه األمور جعلت بودان يقدم تدعيما لسلطات الملك‪.‬‬
‫‪ -2‬كان من جهة أخرى مؤمنا بالمبدأ الدستوري ومصّم ما على إنفاذ المؤسسة القديمة للدولة وديمومتها‪..‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نظرية األسرة والدولة‪:‬‬
‫إن المبدأ الجوهري في الجمهورية هو السيادة الواحدة والمطلقة ويبدو مرنا من خالل مفارقات معقدة منها‪ :‬بين‬
‫شكل الدولة وشكل الحكومة‪ ،‬تكون ملكية فردية أو أرستقراطية‪.‬‬
‫الحكم المفضل لديه هو الملكية بــالرغم من ميلــه ومدحــه لالرســتقراطية بحيث يقــول في شــأن الملكيــة ال يمكن‬
‫ألحد أن يكون سيدا في الجمهوريــة إّال واحــد فقــط ‪ ...‬كيــف يمكن تصور جســم بعــدة رؤوس أو شــعب يتــولى‬
‫السيادة ‪.1‬‬
‫وكل شكل من أشكال الدولة الثالثة ( الملكية واألرستقراطية والديمقراطية) يمكن أن تكون لها حكومة ملكية أو‬
‫أرستقراطية أو ديمقراطية‪.‬‬
‫إن بودان وهو يدافع عن الملكية يفضل أن تكون الملكية الشرعية يطيع فيها أفراد الرعية قوانين الملــك ويطيــع‬
‫فيها الملك قوانين الطبيعة وهذا توفيق بين السيادة المطلقة الخالصة وبين حرية األفراد التي تقوم جوهريــا على‬
‫الملكية الخاصة الفردية‪.‬‬
‫تأّثر بودان بأفكار أرسطو من خالل معالجته لقضيتي األسرة والدولة فبودان يبحث الغاية من الدولة ثم األســرة‬
‫ومعها الزواج وعالقة األب واألطفال والملكية الخاصة والعبيد وهذه جميعا اعتبرها نواحي من األسرة‪.‬‬
‫ويعرف الدولة بأنها حكومة شرعية من أسـرعّد ة ومن ممتلكاتهـا المشـتركة ولهـا سـلطة غالبـة والشـرعية هنـا‬
‫يقصد بها العدالة أو التماشي مع القانون الطبيعي‪.‬‬
‫أّم ا بخصوص األسرة وهي المكونة من األب واألم واألطفال والخدم مع الملكية المشتركة فهي مجتمعا طبيعيــا‬
‫تنشأ منه جميع المجتمعات األخرى‪ ،‬وأبرز ما لرئيس األسرة من سلطات ليستعملها في مواقــع أخــرى‪ ،‬وهكــذا‬
‫عّر ف الدولة بأّنها حكومة من األسر ورئيس األسرة هو الذي يصبح مواطنا عندما يعمل خارج البيت مع غيره‬
‫من رؤساء األسر وتنشأ روابط كثيرة من األسر للدفاع المشترك والسعي وراء مزايا متبادلة بين القرى والمدن‬
‫والمؤسسات من مختلف األنواع وعندما توّح د سلطة ذات سيادة فعندئذ تتكون دولة‪.‬‬
‫ال يمكن وجود الدولة المنظمة قبل االعتراف بسلطة لها سيادة وأّن الوحدات أو األجزاء التي تتكّو ن منها الدولة‬
‫هي األسر‪ ،‬كما يجب التذكير أّن بودان استبعد التفويض من جانب اإلله أو الّرب وهو مــا قّد متــه نظريــة الحــق‬
‫اإللهي كأساس تقوم عليه سلطة الملك ‪.2‬‬
‫في األخير نذّك ر أن زعامته لحزب السياسيين الــذي تبّنى فكــرة الّتســامح الــديني وســيطرة الّد ولــة على الناحيــة‬
‫الدينية كانت مجمل أفكار هذا الحزب تدور حول‪:‬‬
‫‪ -‬على الناس إظهار الطاعة ولو سلبيا للحكام‪.‬‬
‫‪ -‬الّد ولة قوة تسعى للمحافظة على نفسها كقوة‪.‬‬
‫‪ -‬قوة الدولة فوق قوة الحّك ام‪.‬‬
‫‪ -‬الدين مسألة تخص كل فرد والوحــدة في الدولــة وليس في الـّد ين والدولــة تتحّك م في المســائل الدينيــة ‪ ...‬وهي‬
‫دعائم كلها من أجل مساندة وتأييد الحاكم الذي يفضله بودان ألسباب موضوعية وأخرى ذاتية‪...‬‬
‫‪ 1‬جان توشار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.232 :‬‬
‫‪ 2‬جورج سباين‪ ،‬تطّو ر الفكر السياسي‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.555:‬‬
‫‪48‬‬
‫خاتمــــــــــــة ‪:‬‬
‫حاول بودان تبرير الحكم المطلق في فرنسا‪ ،‬ألّن للّد ولة سيادتها والملك صاحبها وبفضل هــذه الســيادة يســتطيع‬
‫الحاكم أن ينقذ ما يمكن إنقاذه ألّن الملكية في خطر الحروب األهلية والتــدهور والضــعف الشــيء الــذي جعلهــا‬
‫محط أنظار األعداء في الداخل والخارج‪.‬‬
‫إّن تأييده لهذا النوع من الحكم وعدم تقّيده بقانون تعـود إلى الظـروف الصعبة الـتي عاشـتها فرنسـا في عهـده‪،‬‬
‫وهو بذلك أراد أن يعيد مجد فرنسا الضائع‪ ،‬وال ننسى األهمية البالغة التي أوالها للقانون الوضعي وكأّن ه س ـّنة‬
‫موروثة‪ ،‬كما رّك ز على غايات الدولة المنّظمة والــتي تســتحق إســم دولــة تلــزم الرعايــا الطاعــة‪ ،‬والعالقــة بين‬
‫الّد ولة واألسرة المكّو نة لها ‪ ...‬ويبقى التركيز الشديد على السيادة التي اقترن اسمه وشهرته بها‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬فلسفة العقد االجتماعي عند هوبز‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مفهوم الدولة والسيادة عنده‪.‬‬
‫كان هوبز يرفض اللجوء إلى كل ما هو فــوق الطــبيعي‪ ،‬وكــل مؤلفاتــه هي محاربــة األشــباح والقــوى الخفيــة‪،‬‬
‫وهكذا أراد أن يحّر ر اإلنسان من األوهام والخوف‪ ،‬قبــل التطــّرق إلى مفهــومي الدولــة والســيادة نعطي بســطة‬
‫حول بعض المراتب في تاريخ الحكم كما يسّم يها‪:‬‬
‫‪ -1‬الحالة الطبيعية‪ :‬وهي الفوضــى والّن اس متسـاوون بالطبيعــة وعنهــا ينبثــق الحـذر وعنــه تنشـأ الحـرب بين‬
‫الناس‪ ،‬والحياة عزلة وفقيرة وحيوانية وال وجود لمفهومي العدل والجور وال الملكية‪ ،‬وهو ما عّبر عنه ســينيكا‬
‫من خالل العصر الذهبي أو الحياة الطبيعية البدائية األولى التي كانت عادلة وهادئة ‪...‬‬
‫‪ -2‬المجتمع المدني‪ :‬يرى أّن هناك حق طبيعي وقوانين طبيعية ولكن هذه المفاهيم يختلف مدلولها عن منّظ ري‬
‫الحق الطبيعي‪ ،‬فحق الطبيعة يتمثل في غريزة البقاء والقانون الطبيعي هــو حكمــة أو قاعــدة عامــة مكتشــفة من‬
‫قبل العقل وهي محاربة كل ما يقضي على الحياة أو يعيق وسائل الحفظ وبعبارة أخرى فالقانون الطبيعي حسبه‬
‫يقوم على التفتيش على السلم ثم الدفاع عن الذات بكل الوسائل المملوكــة من أجــل تحقيــق الســلم واألمن‪ ،‬وليس‬
‫في يد الناس من وســيلة أفضــل من إقامــة عقــد فيمــا بينهم باالتفــاق المتبــادل‪ ،‬وهــو عكس أرســطو الــذي يــرى‬
‫المجتمع السياسي بأّنه ليس واقعة طبيعية‪ ،‬بل هو ثمرة اصطناعية لميثاق إرادي ولحساب مصلحي‪.‬‬
‫أّم ا الّسيادة فتقوم على عقد ولكن ليس بين الملك ورعيته بل بين األفراد الذين قّر روا أن يكون لهم ملــك‪ ،‬ويــرى‬
‫هوبز أّن الغاية من هذا العقد هو تحقيق السلم وأمن األفراد‪.‬‬
‫والدولة تبدو كشخص‪ ،‬وهي تعّد دية تكون شخصا واحدا شرط أن يتم ذلك برضا كل األفراد‪ ،‬وبصورة خاصــة‬
‫كل الذين يتكّو ن منهم هذا الشخص‪ ،‬ولّم ا يعّبرعنها بالتنين يرى أن لحم هذا الحيوان المتوحش العمالق هــو لحم‬
‫جميع الحيوانات سلموه مهمة الدفاع عنهم‪ ،‬وهكـذا نـرى من خالل هـذا التشـبيه البليـغ أّن الدولـة تحتفـظ بوجـه‬
‫بشري سمح نسبيا في تركيب وتكوين حيوان ضخم ومخيف ؟! والدولة بهذه الصفة موجـودة وباقيـة ولكن تفقـد‬
‫مبّر ر وجودها إذا لم تستطع تحقيق األمن ولم تحترم الطاعة‪ ،‬والدولة هنا هي روحية وزمنية في آن واحد‪ ،‬ألّن‬
‫الفرد ال يستطيع أن يخدم سيدين‪ ،‬والملــك ليس فقــط أداة الدولــة بــل الكنيســة كــذالك‪ ،‬حيث يحمــل باليــد اليمــنى‬
‫السيف وباليسرى عصا األسقفية‪ ،‬وهكذا تتثبت الدولة كقدرة ووحــدة ‪،‬وال مكــان موجــود لألجســام الوســيطة أو‬
‫األحزاب أو التكتالت ‪...‬‬
‫أّم ا بخصوص السيادة فهو ينتقد فصل السلطات ويّد عم بقوة أطروحة السيادة المطلقــة‪ ،‬إّال أّن ه يــرى لهــا حــدود‬
‫تتمثل في العقل والضمير المهني للملك‪ ،‬وهما أهم حـدود سـيادته‪ ،‬ويقــول أّن ه من الغبــاوة بالنسـبة للملــك أن ال‬
‫يفتش عن مصلحة شعبه‪ ،‬هذه المصلحة الـتي تختلـط بمصلحته الذاتيـة‪ ،‬إذن الـواجب يتطـابق مـع المنفعـة‪ ،‬إّن‬
‫خيره وخير شعبه ال يمكن أن ينفصال ‪.1‬‬
‫ال يؤمن هوبز بوجود حكم مختلط‪ ،‬كما ال يؤمن بنظام حكم محدود أو مقّيد ألّن السيادة مطلقة ال تقبــل االنقســام‬
‫أو التجزئة‪ ،‬فالبّد إذن من وجود شخص يكون له القرار النهــائي واألخـير‪ ،‬فمن يملــك القــرار ويسـتطيع تنفيــذه‬

‫‪ 1‬جان توشار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.263 :‬‬


‫‪49‬‬
‫يملك السلطة المطلقة ويكون صاحب السيادة الحقيقية‪ ،‬والّد ليل األكبر الذي يقّد مه هوبز على هذا الطرح هـو أّن‬
‫السبب المباشر للحرب األهلية في انجلترا يعود إلى أن الملك عوض االحتفاظ بالسيادة الكاملــة‪ ،‬أتــاح للبرلمــان‬
‫بموافقته على قانون عدم حّله‪ ،‬وبذلك كبرالبرلمان إلى جـانب الملــك وأصــبح قـوة مسـتقلة ‪...‬وهكــذا غــدا للبالد‬
‫سيدان‪ ،‬أي فقدان معنى السيادة‪ ،‬ذلك أن تجزئة السيادة يعني تحطيمها ‪.1‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬مفهوم العقد االجتماعي عند هوبز‪:‬‬
‫إّن العقد الذي يقصده هوبز والذي نظر له في كتاباته هو ذلــك االّتفــاق الــذي يــأتي أو ينســج بين األفــراد الــذين‬
‫قّر روا أن يكون لهم ملك أي سلطة مركزية وقد الــتزموا بــالتخّلي عن جــزء من حريــاتهم لهــذه الســلطة أو هــذا‬
‫الحاكم‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أّن الحاكم أو الملك طرفا في هذا العقد وأّن القوانين تطّبق عليه كما يطّبقها هـو على‬
‫األفراد‪ ،‬بل هو فوق العقد نفسه واألفراد بهذا التخلي عن جزء من حرياتهم وسماحهم للملك في أخذ القــرارات‬
‫اإللزامية تمّك نه من خدمته المصلحة العامة ونشر العدالة في الدولة‪.‬‬
‫إّن هذه السلطة التي وضعت في يد الحاكم ال يستطيع أحدا نزعهــا منــه وحّتى األفــراد المتعاقــدين ال يســتطيعوا‬
‫إلغاء هذا العقد ألّن التخّلي عنه وعدم طاعته يؤديان إلى نشوب الحروب األهلية وعودة الفوضى و يعود الناس‬
‫بذالك إلى الحياة البدائية ‪.‬‬
‫إّن الّد افع الذي أوجب قيام هذا التعاقد يرجع حسب هوبز إلى عدم االّتفاق التلقائي بين األفـراد على احـترام كـل‬
‫منهم حقوق اآلخر ( طبيعة البشر ‪،‬حب الذات واألنانيــة ) واألكــثر من ذلــك فــإّن تنفيــذ العقــود ال يكــون إّال إذا‬
‫كانت هناك حكومة قادرة على معاقبة عدم التنفيذ أو المخّلين بــالعهود‪ ،‬ويعّب ر عنهــا صــراحة في كتابــه التــنين‬
‫« العهــود بغــير السـيف ليسـت سـوى ألفــاظ‪ ،‬وال نملــك قـوة على توفـير األمن للمــرء على اإلطالق‪ ،‬وروابــط‬
‫الكلمات أضعف من أن تلجم طموح الناس وجشعهم وغضبهم وغير ذلك من العواطف الجامحة دون خوف من‬
‫قوة قادرة على القمع »‪ 2‬ومن خالل ما سبق نرى أّن األفراد تنازلوا لشخص واحد وهــو اإلنســان المصطنع أو‬
‫الّد ولة ممثّلة في الملك وهذا من أجل فرض سلطته المطلقة على البشر‪ ،3‬وهو في نفس الــوقت مطــالب بتحقيــق‬
‫األمن وضمان حقوق األفراد وحماية المصالح والممتلكات العمومية وتحقيق الحرية والعــدل والمســاواة ونشــر‬
‫العلم والمعرفة واالعتناء بالضعفاء والسهر على حياتهم وهو الكفيل بتحمل كل هــذه األعبــاء دون أن تتقاســمها‬
‫معه أّية هيئة كانت تشريعية أو شعبية‪ ،‬إذا قّد ر للحاكم أن يخطئ ويصير مستبّد ا فليس من حق الشعب أن يتمّرد‬
‫عليه بل يترك األمر ليوم اآلخرة حيث يعـاقب الحـاكم على أعمالـه الطائشـة‪ .‬كمـا يعـود لـه الحـق في إلغـاء أو‬
‫تعديل القوانين وهو صاحب السلطة العليــا وهــو الــذي يتحكم في رجــال الــدين وتعتــبر أوامــره بمثابــة قــوانين‬
‫وتعليمات يسري تطبيقها حاال‪.‬‬
‫خاتمـــــــــة ‪:‬‬
‫إّن األوضاع الصعبة والفوضى والحروب األهلية التي عرفتها إنجلترا أّيام حياة هوبز أّثرت فيه وجعلته يرّك ز‬
‫اهتمامه على الوسيلة الكفيلة التي تخّلص البالد من هذه المشكالت‪ ،‬لذلك رأى الّنظام السياسي الذي تتجســد فيــه‬
‫الّسيادة المطلقة للحاكم كفيل بوضع حّد لهذه الفوضى ‪.‬‬
‫يبّر ر هذا االختيار بأّن انجلترا التي نخرتها الحروب األهلية وتحّو لت من دولة عظيمــة إلى دولــة مفّك كــة تعيش‬
‫في دّو امة من المتناقضات والثورات االجتماعية سببها هو وجود سلطتين في البالد البرلمان الــذي الــتزم أن ال‬
‫يحّله وسلطة الملك المجّز أة‪ ،‬الشيء الذي أّد ى إلى انقسام السلطة وتجزئة السيادة الوطنية ‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬فلسفة لوك السياسية‪:‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أنظمة الحكم في نظر لوك‪:‬‬

‫‪ 1‬موريس كرانستون‪ ،‬أعالم الفكر السياسي‪ ،‬ط‪ ،3‬دار النهار للنشر‪ ،‬بيروت‪ ،1991 ،‬ص‪.49:‬‬
‫‪ 2‬توماس هوبز‪ ،‬التنين‪ ،‬نقال عن جورج سباين‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬مرجع سبق ذكره‪ ،‬ص‪.234:‬‬
‫‪ 3‬محمد نصر مهنا‪ ،‬في نظرية الدولة والنظم السياسية‪ ،‬المكتب الجامعي الحديث األزاريطة‪ ،‬اإلسكندرية‪،1999 ،‬ص‪.37:‬‬
‫‪50‬‬
‫يستعمل لوك تقريبا وبدون تفريق مصطلح المجتمـع المـدني والحكومـة الـتي ينحصر دورهـا أو وظيفتهـا في‬
‫اإلدارة والتشريعية وليست في الحكم‪ ،‬والحكومة المدنية تجلب للناس القضــاء والبــوليس وهــذا مــا ينقصهم في‬
‫الحالة الطبيعية‪ ،‬أما الحكم السياسي فهو بمثابة وديعة سـلمها المــالكون للمالكيــة (المحكــوم للحـاكم )‪ ،‬وهي ثقــة‬
‫سياسية‪ ،‬والحكام هنا هم إداريون وظيفتهم هي خدمة الجماعة ومهمتهم تقوم على تحقيق األمن وتوفــير الراحــة‬
‫واالزدهار‪.‬‬
‫السلطة العليا هي السلطة التشريعية أي سن القوانين وهذه القوانين ال يجب أن تمّس الملكية الخاصة‪ ،‬والســلطة‬
‫التنفيذية وهي سلطة ممنوحة لألمير لكي يرعى المصلحة العامة‪.‬‬
‫يركز لوك على الفصل بين السلطات‪ ،‬بحيث يقول بأّن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذيــة يجب أن ال يجتمعــا‬
‫في نفس األيدي والسلطة التشريعية أعلى من السلطة التنفيذية‪ ،‬إنها الروح التي تعطي الشكل والحيــاة والوحــدة‬
‫للدولة‪ ،‬والسلطة التشريعية محّد دة بالحقوق الطبيعية وهي سلطـة الحرية وهذه الحريـة هي من أجــل السعـــادة‪،‬‬
‫إنها حرية السعادة بواسطة العقـل وعلى هـذا األسـاس فـإّن كـل سـلطة لكي تكـون سياسـية يجب أن تكـون أّو ال‬
‫عادلـة ‪.1‬‬
‫إذا تخلت السلطة عن الحقوق الطبيعية وخصوصا الحرية والملكيـة الفرديـة‪ ،‬عنـدها يعـترف لـوك للمحكـومين‬
‫بحق الثـورة‪ ،‬وهـذا الحـق ال يهـدف إلى تحقيـق األمـاني الشـعبية بـل إلى الـّد فاع عن النظـام القـائم أو إعادتـه‪،‬‬
‫واالعتراف بحق المقاومة هو وسيلة لحمل األمير على التفكير من أجل فرض احترام الشريعة‪ ،‬وهــذه الوســيلة‬
‫تسمح بإبعاد خطر الثورة الشعبية وال تشّك ل مطلقا دعوة إلى العصيان‪ ،‬وفي النهاية فإّن حق الثورة بالنســبة إلى‬
‫لوك هو دعوة للتعقل وإلى التسوية‪.‬‬
‫وإذا انطلقنا من الواقع والظروف التي عاشــها لــوك نالحــظ أن لــوك كــان واقعيــا‪ ،‬وبــالرغم من إقــرارات حــق‬
‫الثورة إّال أن مضمونها غير ذالك وكأني به يقول للملك أنت من يقيم الثورة أو من يثور على نفسه وذلــك إذا لم‬
‫يحترم الشرعية‪.‬‬
‫إن القصد من تشكيل الحكومة وتعاقد األفراد هو تحقيق جملة من األهداف وهي‪:‬‬
‫* المحافظة على األمالك الناس‪ ،‬وعدم السماح ألية هيئة أو فرد أن يعتدي على اآلخرين والضمان الوحيد هو‪:‬‬
‫‪ -‬منح ثقة محدودة للملك لمنع الطغيان‪.‬‬
‫‪ -‬وضع ثقة في البرلمان‪.‬‬
‫‪ -‬إسناد قضايا العدالة إلى القضاة والمحلفين ‪.‬‬
‫ويكون فصل تام بين هذه الهيئات وكل هيئة تعمل في مجال اختصاصها‪.‬‬
‫فيما يخص النظام المفضل عنــد لــوك‪ ،‬فيتمّث ل في النظــام البرلمــاني الــذي يختص بإصــدار القــوانين نيابــة عن‬
‫الشعب‪ ،‬فالنفوذ يكون بيد المجموعة المنتخبة من الشعب ألنها تمثل المصالح الشعبية المتعــددة وســلطته ليســت‬
‫مطلقة‪.‬‬
‫من جهة أخرى لم يكن متحمسا للحكم الملكي أو األرستقراطي‪ ،‬بل فضل الحكم الديمقراطي المحدود فالحكومة‬
‫أو الهيئة التنفيذية والهيئة القضائية تابعان للبرلمان ونّو اب الشعب يحاسبون المسئولين في الهيئتين‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬نظرية العقد االجتماعي عند لوك‪:‬‬


‫بنى لوك نظرية العقد االجتماعي على الحقوق الطبيعيــة لإلنســان وهي الحقــوق الــتي ال تــزول بقيــام الحكومــة‬
‫المدنية حيث يقول بما أّن البشر كما قيل هم بالطبيعة أحرار متساوون ومستقلون‪ ،‬فــإّن أحــدا ال يمكن أن يحــرم‬
‫من هذه الحالة وال أن يخضع للسلطة السياسية لألخر بدون موافقته الخاصــة‪ ،‬إّن الطريقــة الوحيــدة الــتي يمكن‬
‫ألّي فرد أن يتنازل بها عن حريته الطبيعية ويتحّم ل التزامات المجتمع المدني تكمن في إجراء اتّف اق مــع بشــر‬

‫‪ 1‬جان توشار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.296 :‬‬


‫‪51‬‬
‫آخرين من أجل التجّم ع واالّتحاد في جماعة بحيث يعيشون مــع بعض في الرفاهيــة واألمن والســالم ويتمتعــون‬
‫‪1‬‬
‫بأمن أموالهم ويحمون أنفسهم ‪...‬‬
‫بعد وصف الحالة الطبيعية التي يسودها السالم والمعونة المتبادلة‪ ،‬وبعد تعريف الحقــوق الطبيعيــة على أسـاس‬
‫الملكية واعتبارها سابقة حتى على المجتمع‪ ،‬انتقل لوك ليستمد المجتمع المــدني من رضــا أعضــائه خاصــة إذا‬
‫علمنا بأنه عّر ف تلك السلطة المدنيــة على أّنهــا حــق صــنع القــوانين مــع العقوبــات ‪...‬وتنظيم الملكيــة الفرديــة‬
‫والمحافظة عليها وحق استخدام قوة الجماعة في تنفيذ هذه القوانين ومعاقبة من ال يمتثل لها وكل هذا في ســبيل‬
‫الخير العام فقط وهذه السلطة ال يمكن أن تنشأ إّال بالرضا أي بين طرفين الحاكم والمحكوم (عكس هوبز)‪.‬‬
‫إّن األفراد تعاقــدوا وتخلــوا عن جــزء من حريــاتهم للســلطة السياســية لكي تحافــظ على أمنهم وحمايــة حقــوقهم‬
‫والحاكم هنا طرف في العقد فعليه التزامات وواجبات ويخضع للقــانون وال يكــون فوقــه وقــد ركـّز على الــتزام‬
‫الحاكم بالقوانين ألّن مصدر المآسي اإلنسانية سببها الحّك ام الطغاة‪.‬‬
‫الحقوق الطبيعية يمكن بلورتها في ثالث نقاط وهي ‪ :‬الحياة والحرية والملكية‪.‬‬
‫يمّيز لوك بين حالة الطبيعية وحالة المجتمع المنضـم‪ ،‬فمن بين نقـائص الحالـة الطبيعيـة مثال أّن ه عنـدما يكـون‬
‫الناس هم القضاة في قضاياهم‪ ،‬ينجم عن ذلك نقص في ثالثة نواحي‪:‬‬
‫‪ -1‬تكون أحكام متحّيزة‪.‬‬
‫‪ -2‬تكون قوة تنفيذ األحكام غير مالئمة‪.‬‬
‫‪ -3‬تختلف األحكام التي يصدرها األشخاص المختلفون في القضايا المماثلة‪.‬‬
‫ولعالج هذا النقص تطلب األمر ثالثة أشياء‪:‬‬
‫‪ -1‬قاض يطبق القانون بال تحّيز‪.‬‬
‫‪ -2‬قوة تنفيذية تفرض أحكام القاضي‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ -3‬جهاز تشريعي يضع قواعد موّح دة إلصدار األحكام بمقتضاها ‪ .‬وهذه هي المرحلة التي يتنقــل منهــا أفــراد‬
‫المجتمع من الحياة الطبيعية إلى الحياة المنضمة ومنه إلى المجتمع المنظم‪.‬‬
‫يرى لوك عكس هوبز أّن الحياة العادية قبل الّتعاقد لم تكن متوّح شة فقيرة بغيضة بهيمة‪ ،‬بل كانت تحتــوي على‬
‫مزايا وأّن سبب التعاقد هو تحسين وضعيتهم وإنشاء حكومـة قـادرة على خدمـة المجتمـع والـّد فاع عن مصالح‬
‫أفراده‪.‬‬
‫في األخير يمكن تبيان أوجه االختالف والتشابه بين هوبز ولوك فيما يخص فكــرة العقــد االجتمــاعي الــذي هــو‬
‫أصل الدولة ونوجزها في النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -‬يؤّيد هوبز الحكم المطلق بينما يؤّيد لوك نضال البرلمان ضد الحكم المطلق‪.‬‬
‫‪ -‬يرى هوبز أن الحالة الطبيعية هي الشر وحرب دائمة ويراها لوك تبادل للمنافع والتمتع بــالحقوق والحريــات‬
‫والممتلكات‪.‬‬
‫‪ -‬السلطة عند هوبز مطلقة وهي مقيدة عند لوك‪.‬‬
‫‪ -‬العقد في نظر هوبز هو تنازل كلي ونهائي عن جميع حقوق األفــراد مــع فقــدانهم لحــريتهم وحقــوقهم‪ ،‬ولكنــه‬
‫تنازل جزئي عند لوك ويجوز الرجوع فيه دون أن يفقد األفراد شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬أطراف العقد هم األفراد فيما بينهم عند هوبز‪ ،‬وطرفي العقد عند لوك األفراد والحاكم‪.‬‬
‫‪ -‬يرى هوبز أن التزامات العقد هي تلك الطاعة من قبل األفراد لصاحب السيادة المطلقة‪ ،‬بينما عند لــوك يلــتزم‬
‫الحاكم بما نّص عليه العقد أي حماية الحقوق والحريات والممتلكات ‪...‬‬
‫‪ -‬في األخير نصل إلى نتيجة العقد‪ ،‬فهي استبداد مطلق للفرد عند هــوبز‪ ،‬ولكنهــا تمــّرد وعصيان وثــورة على‬
‫الحاكم إذ خلف العقد عند لوك‪.‬‬
‫‪ 1‬جان جاك شوفالييه‪ ،‬تاريخ الفكر السياسي‪ ،‬تر‪ :‬محمد عرب صاصيال‪ ،‬المؤسسة الجامعيــة للدراســات والنشــر والتوزيــع‪ ،‬بــيروت‪ ،1975 ،‬ص‪:‬‬
‫‪.382‬‬
‫‪ 2‬موسى ابراهيم‪ ،‬الفكر السياسي الحديث والمعاصر‪ ،‬دار المنهل اللبناني‪ ،‬بيروت‪ ،2007 ،‬ص‪.118:‬‬
‫‪52‬‬
‫خاتمـــــــــة ‪:‬‬
‫إّن األهمية الكبرى لفلسفة لوك بعد التجربة اإلنجليزية المعاصــرة لــه تكمن في فكــر أمريكــا وفرنســا السياســي‬
‫الذي بلغ ذروته في الثورات الكبرى في نهاية القرن الثامن عشر‪ ،‬حيث كان لدفاعه عن المقاومة باسم الحقــوق‬
‫والحرية الشخصية والرضا وحرية التملك والتمتع به األثر الكبــير‪ ،‬بينمــا نجــد مــذهب القــانون الطــبيعي الــذي‬
‫قامت عليه فلسفة لوك تراجع أمام المنهج التجريبي في كل من العلوم الطبيعية والّد راسات االجتماعية‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬نظريات مونتيسكيو السياسية‬
‫المبحث األول‪ :‬أنواع الحكومات‬
‫تعتــبر نظريــة الحكومــات ونظريــة الفصل بين الســلطات من أشــهر نظريــات مونتيســكيو والــتي أوصــلته إلى‬
‫العالمية‪ ،‬حيث حاول الدفاع عن الحرية وذلــك عن طريــق توضــيح وظــائف الســلطات الثالثــة المعــروف‪ ،‬وال‬
‫تكون الحرية إال إذا تم الفصل بينها‪ ،‬فما هي أنواع الحكومات عنده وما هي طبيعة كل حكومة ؟‬
‫هناك ثالثة أنماط من الحكومات وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬الحكومة الجمهورية‪ :‬وهي الحكومة التي يتولى الشعب السلطة فيهــا‪ ،‬وهنــاك شـكالن من هــذه الجمهوريــة‪:‬‬
‫الجمهورية الديمقراطية أي ممارسة السـلطة تكــون بيــد الشـعب ومبــدأها الفضــيلة بــالمعنى المــدني ال بــالمعنى‬
‫األخالقي أي تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة‪ .‬والجمهورية األرستقراطية وتكون السلطة بيد عدد‬
‫من األفراد مبــدأها االعتــدال في اســتعمال عــدم المســاواة وكلمــا اقــتربت األرســتقراطية من الديمقراطيــة كلمــا‬
‫ازدادت كماال‪ ،‬ويقل كمالها كلما اقتربت من الملكية‪.‬‬
‫‪ -2‬الحكومة الملكية‪ :‬تكون السلطة بيد الفرد أي بيــد شــخص واحــد ولكن ليســت الملكيــة االســتبدادية أي الملــك‬
‫يحكم وفق القوانين األساسية‪ ،‬ومبدأها الشرف أي روح التكّف ل المعنــوي‪ ،‬وال يتكلم هنــا ال عن فضــيلة األفــراد‬
‫وال عن فضيلة المواطنين‪ ...‬ويبدو أّنه كان يتكلم عن الملكية الفرنسية من القرون الوسطى أكثر مما كــان يتكلم‬
‫عن الملكية الدستورية على الطريقة االنجليزية التي تأثر بها وأعجب بها‪...‬‬
‫‪ -3‬الحكومة المستبدة‪ :‬هذا الّنمط يدينه مونتيسكيو بشكل رسمي وواضح‪ ،‬حيث يتزّع م الحكم هنا شــخص واحــد‬
‫حسب هواه بدون قوانين وبدون قواعــد ليس لــه حسـيب وال رقيب‪ ،‬يسـتعمل اإلكـراه‪ ،‬وهــذا الشـخص المسـتبد‬
‫يعامل شعبه وكأّنهم حيوانات وال يمّيز بين أنواع االستبداد (يبد وأنهم كلهم في االستبداد سوى؟!)‪ .‬لإلشارة فـإّن‬
‫هذا الّنمط من الحكومات هو تصور تجريدي وليس مستمدا من الواقــع‪ ،‬بحيث ال تــدخل الحكومــات القائمــة في‬
‫عصره في أية فئة‪ .‬وإذا كان مونتيسكيو يـدين الحكم المسـتبد فمـاذا يفضـل؟ إن الحكومـة المفضـلة لديـه ليسـت‬
‫واحــدة من الحكومــات الــتي درســناها‪ ،‬ولكنهــا تلــك الحكومــة المعتدلــة وهي الملكيــة األرســتقراطية الفاضــلة‬
‫والمعتدلة والذي يحلم بها دون اهتمامــه بحظوظهــا في التحقيــق أو التجســيد (تشــابه إلى حـّد مــا مــع جمهوريــة‬
‫أفالطون)‪.‬‬
‫إّن نظريــة مونتســكيو السياســية قوامهــا التــوازن وهــو نــوع من التوافــق بين الســلطات وهيئــات الوســيطة‬
‫والالمركزية واألحالف وجميعها أثقال توازنية وقوى تمنع الحكم من الوقوع في االســتبداد‪ ،‬فمــاذا عن الفصل‬
‫بين السلطات؟‬

‫المبحث الثاني‪ :‬نظرية الفصل بين السلطات‪:‬‬


‫أعجب مونتيسكيو بالنظام الروماني وبعده بالنظام الدستوري اإلنجليزي‪ ،‬ويدعو لالعتماد عليهما كأساس لقيام‬
‫حكم دستوري يهدف إلى تحقيق العدالة والحريـة في فرنسـا‪ ،‬ويعتـبر الحكم بمقتضـي القـوانين لب الموضـوع‪،‬‬
‫ألن واجب الحكومة هو ضمان الحرية وحقوق األفـراد وتوطيـد الثقـة بينهم وبين دولتهم‪ ،‬وهـذا الّض مان يـأتي‬
‫عن طريق القانون وليس من األفراد الذين يحكمون ويقّر رون حسب أهوائهم الشخصية‪ ،‬وللمحافظة على حرية‬
‫األفراد التي هي أساسية يجب أن تكون سلطة الحكومـة محـدودة وتتمثـل هـذه الحـدود في وجـود ثالثـة هيئـات‬
‫سياسية تقوم بدورها المخول لها وهي‪:‬‬

‫‪53‬‬
‫أ‪ -‬سلطة تشريعية تكمن مهمتها األساسية في تحضير وسن القوانين وتعديلها أو إلغائها‪.‬‬
‫ب‪ -‬سلطة تنفيذية ومهمتها العمل واإلشراف على تحقيق األمن والدفاع عن البلد واستقبال البعثات الدبلوماسية‪.‬‬
‫ج‪ -‬السلطة القضائية وتكمن مهمتها في فض النزاعات وإقامة العدل بين األفراد ومعاقبة مرتكبي الجرائم وحل‬
‫الخالفات‪...‬‬
‫إّن فكرة مونتيسكيو التي تدعو إلى الفصل بين السلطات والتي أعطته شهرة عالمية تتمثل في أن ال تجتمع هــذه‬
‫السلطات في يد واحدة‪ ،‬وبالتالي فهو يدعو إلى المشاركة في السيادة بين القوى السياسية الثالثية‪ ،‬وأيضا القــوى‬
‫االجتماعية الثالثة الملك والشعب واألرستقراطية‪ ،‬ونستخلص من هذا ّأّنه هناك نــوع من التطــابق بين األفكــار‬
‫الدستورية واألفكار االجتماعية (ثالثة قوى اجتماعية تقابلها ثالثة قوى سياسية)‪.‬‬
‫الحرية السياسية‪:‬‬
‫ليست الحرية السياسية أن يفعل اإلنسان مــا يريــد‪ ،‬وإّنمــا هي الحــق في فعــل مــا يريــد في حــدود مــا يســمح بــه‬
‫القوانين‪ ،‬وال يجبر على فعل ما ال يرغب فيه وما هــو ممنــوع‪ ،‬فــإذا اســتطاع أي مــواطن أن يفعــل مــا تحرمــه‬
‫القوانين يفقد بذلك حريته ألّن اآلخرين يتمتعون بنفس الحرية‪.‬‬
‫يقول‪ :‬لقد ظن أرسطو أنه يوجد عبيد وّأّن هذا شيء طبيعي ولكنه لم يســتطع البرهنــة عــل ذلــك‪ ،‬هــذا يعــني أن‬
‫مونتيسكيو يؤمن بالحرية وهو ضد فكرة العبودية لذلك لم يكتف بنظرية الفصل بين الســلطات لتــأمين الحريــة‪،‬‬
‫بل قدم أفكارا أخرى لمنع السلطة من االستبداد‪ ،‬وأقام بعض الحواجز التي تمنع ذلك‪ ،‬وتؤدي بذلك لإلبقاء على‬
‫ممارسة الحرية‪:‬‬
‫‪ -1‬الجماعات الوسيطة‪ :‬النبالء والبرلمانات المحلية‪.‬‬
‫‪ -2‬الالمركزية وما تمنحه لألقاليم من حرية كبيرة في التصرف‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ -3‬األخالق‪ :‬ال ضرورة لوجود القانون حين تكون األخالق قادرة على تحقيق التطور ‪.‬‬
‫خاتمــــــــــة ‪:‬‬
‫تطرق مونتيسكيو إلى معالجــة بعض أّم هــات القضــايا إضــافة إلى مــا ســبق ذكــره‪ ،‬فكتب مثال عن الالمركزيــة‬
‫واألدب والدين واألفكاراالجتماعية‪ ،‬فيرى أّن الّالمركزية تشّك ل ثقل التوازن الفعال‪ ،‬أّم ا اآلداب فيراها أنها من‬
‫غير الممكن أن تنفذ بالقوانين وما يمكن تنفيــذه بــاآلداب واإلصــالح الحقيقي ليس سياســيا‪ ،‬بــل فكريــا وأخالقيــا‬
‫وتربويا‪ ،‬أّم ا الّد ين فهو الكابح االجتماعي واألفكار االجتماعية تمثل الحرية الــتي تقــوم أساســا على األمن وهــو‬
‫المكسب الوحيد الذي يمتاز به شعب حر آخر‪ ،‬أمــا المســاواة المطلقــة فهي حلم‪ ،‬فبمقــدار مــا تبتعــد الســماء عن‬
‫األرض كذلك تبتعد روح المساواة الواقعية عن روح المساواة المطلقة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬فلسفة روسو السياسية‬
‫المبحث األول‪ :‬نظرية العقد االجتماعي‬
‫يرى روسو أن الرغبة في الوحدة (اتحاد األفراد فيها بينهم) هي التي أّد ت إلى هذا العقد االجتماعي‪ ،‬والمقصود‬
‫بالوحدة هي وحدة الجسم االجتماعي أي تبعية المصالح الخاصة للمصلحة العامـة‪ ،‬والعقـد عنـده ليس عقـدا بين‬
‫األفراد مثل ما يراه هوبز وال عقدا بين األفراد والحاكم كما يراه لوك‪ ،‬ولكنه أعطاه شــكال آخــر بحيث بمــوجب‬
‫العقد االجتماعي كل واحد يّتحد مع الكل‪ ،‬والعقد معقود مع المجموعة (كل واحد منا يضع في الشراكة شخصه‬
‫وكل قدرته تحت سلطة اإلرادة العامة ونحن نلتقي ككل أي كجسم‪..‬كل عضو كأنه جزء ال يتجزأ من الكل‪ ،‬كــل‬
‫شريك يّتحد مع الكل وال يّتحد مع أي شخص بشـكل خـاص إّن ه ال يخضــع هكــذا إّال لذاتــه ويبقى حـّرا كمــا في‬
‫السابق)‪.2‬‬
‫من خالل هذا نستنتج أّن الحاكم ال يتقّيد بأّي شــيء ألّن ه ليس طرفــا في العمليــة‪ ،‬ومن جهــة أخــرى ال يمكن أن‬
‫تكون هناك مصلحة منافية لمصلحة األفراد الذين يشّك لون هذا الكل‪ ،‬والحاكم هنا هــو هــذه اإلرادة العامــة الــتي‬

‫‪ 1‬موسى ابراهيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.146 :‬‬


‫‪ 2‬جان توشار‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.335 :‬‬
‫‪54‬‬
‫هي إرادة المجموعة وليس إرادة األعضاء الذين يؤّلفون هذه المجموعة ‪ ،1‬ونحن نتســاءل هــل هنــاك فــرق بين‬
‫إرادة األعضاء واإلرادة العامة التي هي نتيجة لألولى؟‬
‫روسو يرى أّن هناك فرقا‪ ،‬وهذا الفرق ليس في الّد رجة وإّنمــا في الطبيعــة بين اإلرادة العامــة وإرادة األفــراد‪،‬‬
‫واإلرادة خير مالذ ضد مشاريع األفراد‪...‬‬
‫إّن نظرية العقــد االجتمــاعي عنــد روسـو تــدور حـول السـلطة والنظــام السياسـي الــذي ينشـأ عن تعاقـد النــاس‬
‫واتفاقهم‪ ،‬والمجتمع قبل هذا التعاقد أي قبل تعيين صاحب السيادة هو مجموعــة من النــاس بــدون نظــام وبــدون‬
‫قانون ما عدا القانون الطبيعي‪ ،‬وعلى هذا األساس يرى أّن الحالة الطبيعية لألفــراد كــانت خــيرا لإلنســان حيث‬
‫سادت فيه الحرية والمساواة ونتيجة للتفاوت في الثروات والتقّد م المدني سادت هذه الحالة فأّد ى ذلك إلى تنــازل‬
‫األفراد عن حقوقهم لصالح اإلرادة العامة مقابل ضمان أمنهم وحقوقهم واستقرارهم ‪.2‬‬
‫لقد وقع روسو أمام سؤال محّير وهو‪ :‬كيف يمكن التوفيق بين الحرية األصلية لألفراد وبين السلطة التي تتولى‬
‫الســيادة في البالد ؟ ومن خالل الســؤال نستشــف التعــارض الموجــود بين الحريــة الطبيعيــة لألفــراد والســلطة‬
‫الحاكمة‪ ،‬كما نعلم أّن روسو يمقت الحكم الفردي والقوانين الوضعية التي تحّد من حرية الفرد‪.‬‬
‫لكن إجابة روسو حول هذا اإلشكال تدور على أساس أّن كل فرد يتنازل إراديا عن حقوقه كلهــا لإلرادة العامــة‬
‫ويتنازل األفراد كلهم عن حقوقهم كلية ليصبح الجميع في وضع متساو‪ ،‬وهذا التنازل ليس لشــخص معّين ولكن‬
‫للمجموع ككل‪ ،‬وبالّتالي فالّتنازل لإلرادة الجماعية التي هي إرادة الكل الناتج عن العقد ‪.3‬‬
‫من خالل ما سبق نرى أّن هذا العقد أّد ى إلى تكـوين الّد ولـة وقيـام سـلطة جماعيـة وعنـدما يطيـع الفـرد سـلطة‬
‫الجميع يطيع نفسه أيضا ألّنه ضمن الجميع وبذلك تكفل الحرية وتصان الحقوق ويعم األمن واالستقرار ‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أنظمة الحكم عند روسو‪:‬‬
‫إّن الّد ولة الشرعية عند روسو هي تلك التي تحكم بالقانون ألّنه يعّب ر عن اإلرادة العامــة‪ ،‬وهــو ال يقبــل بتقســيم‬
‫السلطات المعروفة مثل مونتيسكو‪ ،‬والحكومة عنده هي هيئة تنفــذ القــوانين الــتي تسـّنها الـّد ول‪ ،‬ويقّس م روســو‬
‫الحكومات أو أنظمة الحكم إلى‪:‬‬
‫‪ -‬الملكية التي ينتقدها بشدة ‪.‬‬
‫‪ -‬األرستقراطية التي يمكن أن تكون وراثية أو انتخابية‪.‬‬
‫‪ -‬الديمقراطية بحيث يرى فيه تداخل السلطة التنفيذية بالتشريعية وهذا النمــط غــير ممكن التحقيــق عمليــا‪ ،‬ألّن ه‬
‫من المستحسن أن ال ينفذ القوانين من يضعها حسبه (‪ ،)1‬والشيء الملفت لالنتباه ونحن نــدرس روســو مقارنــة‬
‫بالمفكرين السابقين في هذا المجال (أنــواع الحكومــات والحكومــة المفضــلة) هــو أّن روســو امتنــع عن الــدعوة‬
‫الختيار شكل من األشكال السابقة‪ ،‬ألّنه يرى أّن أفضلها قد يتحـّو ل إلى األســوء عنــدما تتغّي ر الظــروف‪ ،‬لــذلك‬
‫يرى أّن شكل الحكومة متعّلق باألوضاع المحلية‪ ،‬وأّنه من الخطأ فرض حل وحيد في كل مكــان‪ ،‬وهــذا التنبيــه‬
‫يتجلى بوضوح في كتابه عن بولونيا وكورسـكا (تــأمالت حـول حكومــة بولونيــا وحـول إصــالحها‪ ،‬ومشـروع‬
‫دستور لكورسيكا)‪.‬‬
‫من جهة أخرى يرى أّن الحكومة تتقهقر وتخون السيادة‪ ،‬وبالّتالي فال معنى لوجــود المؤّسســات بــدون اآلداب‪،‬‬
‫وهنــا يّتفــق مــع مونتيســكيو‪ ،‬ولــذلك من الــواجب االهتمــام بإعــداد المواطــنين لتحقيــق الّتضــامن في الجســم‬
‫االجتماعي‪ ،‬ولن يتّم ذلك إال بالّتربية والّد ين وحب الوطن والفضيلة والواجبات المدنية‪..‬‬
‫يفّر ق روسو بين السيادة والحكومة‪ ،‬فالسيادة مصدرها الشــعب واختيــار هــذا الشــعب حكومــة لخدمتــه وخدمــة‬
‫مصالحه‪ ،‬وإذا كان مصدر السيادة ال يتغير فإن رئيس الّد ولة الذي وّك له الشعب شؤون البالد وخدمــة مصالحه‬
‫قد يتغير في حالة ما إذا لم يوفق في الحصول على ثقة ورضا أبناء الشعب(‪.)1‬‬
‫‪ 1‬سعفان شحاتة‪ ،‬أساطين الفكر السياسي والمدارس السياسية‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ب‪.‬ت‪ ،‬ص‪.234:‬‬
‫‪ 2‬جان جاك شوفالييه‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.228:‬‬

‫‪ 3‬يحي الجمل‪ ،‬األنظمة السياسية المعاصرة‪ ،‬دار النهضة العربية للطباعة والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،1969 ،‬ص‪.84:‬‬
‫‪55‬‬
‫هذه األفكار مخالفة ألفكار هـوبز الـذي اعتـبر الملـك صـاحب السـيادة المطلقـة ويعـود السـبب في ذلـك إلى أّن‬
‫روسو لم يحّبذ النظام السياسي البريطاني القائم على العـرف والتقاليـد والمبـادئ الدسـتورية‪ ،‬ويـرى أّن الّنظـام‬
‫الذي يصلح لفرنسا هو ذلك الّنظام الذي يضمن المشاركة في الحياة السياسية ويمّك ن لألفــراد من فــرض رقابــة‬
‫جماعية على رجال الحكم‪ ،‬ودور الحكومة هــو تنفيــذ القــوانين الّنابعــة من اإلرادة الشــعبية‪ ،‬ونفس الشــيء فــإذا‬
‫ساءت هذه الحكومة التصّر ف فبإمكان الجماعة سحب الّثقة منها‪.‬‬
‫خاتمـــــــة‪:‬‬
‫امتاز روسو بالعقالنية في التحليل والّد قة في الّتصور والتنّو ع في الّد راسة‪ ،‬لذلك كانت أفكاره مؤّثرة في الواقع‬
‫األورّبي مساهمة في الثورات على األنظمة السائدة في عصره والتي جاءت فيما بعــد‪ ،‬بــالّرغم من عــدم إيمانــه‬
‫بوجود أنظمة وسيطة كالنقابات واألحزاب والجمعيات‪...‬وال تزال هذه األفكار محل دراسة ونقــاش وانتقــاد من‬
‫قبل الّد ارسين والمفّك رين حّتى اليوم‪ .‬ألّن العلماء اختلفوا في تقديرهم له فمنهم من يع ـّد ه أبــا للديمقراطيــة ومنهم‬
‫من يعده أبا للطغيان‪..‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أفكاره السياسية والفلسفية‬
‫المبحث األول‪ :‬نقده لنظريتي العقد االجتماعي والحقوق الطبيعية‬
‫يبرز بنتام رفضه لنظرية العقد االجتماعي عندما يقول‪« :‬إّن مصلحة الّر عايا وسعادتهم تكمن في طاعة السلطة‬
‫الّسيدة طالما أّنها كانت تحكم بهدف زيادة هذه الســعادة»‪ ،‬أي أّن مبــدأ المنفعــة يكفي لتــبرير طاعــة الســلطة من‬
‫دون الّلغة التعاقدية غيرالمجدية تماما‪ ،‬كما ينتقد كذلك حقوق اإلنسان أو الحقوق الطبيعيــة غــير القابلــة للتنــازل‬
‫عندما يقول‪« :‬إّنها مجّرد وهم إّنهــا مجــّرد ميتافيزيقــا‪ ،‬نعم إّنهــا في الحقيقــة أوّج الميتافيزيقــا‪ ،‬فال يمكن أن تقيم‬
‫فوقها أي شيء ثابت»(‪.)1‬‬
‫لقد هاجم بنتام الحقــوق األربعــة الــتي زعم اإلعالن الفرنسـي لعــام ‪1789‬م أّنهـا حقــوق طبيعيــة وهي‪ :‬الحريــة‬
‫والملكية واألمن ومقاومة االضطهاد‪ ،‬كما كان قــد هــاجم في كتابــه الســابق‪ ،‬مقدمــة لمبــادئ األخالق والتشــريع‬
‫إعالنات الحقوق األمريكية الصادرة في فرجينيا وكارولينا الشمالية‪.‬‬
‫أّم ا بخصوص المنفعة فيقول بنتام أّن الهدف من سلوك الفرد هو الوصول للّذ ة والهروب من األلم الــذي يعتــبره‬
‫اإلنسان شرا يجب تجنبه‪ ،‬باعتبار أن بنتام يقول كذلك أّن الطبيعة وضعت تحت حكم ســيدين‪ :‬األلم وللــذة‪ ،‬وقــد‬
‫أعطاهما بنتام الدور النفسي أي الميتافيزيقي إضافة إلى محاولة إيجاد معيــار للمنفعــة من أجــل إصــالح النظــام‬
‫القانوني القائم‪ .‬ولكن هل يمكن قياس المنفعة ؟‬
‫إّن الفرد هو الذي يشعر باللذة واأللم‪ ،‬وبالتالي فقياسهما ذاتي وشخصي ومنه يجب ترك القياس للفــرد‪ ،‬بــالّرغم‬
‫من هذا حاول بنتام إيجاد مقياس علمي قائم على ما توّصل إليــه علمــاء األخالق‪ .‬فعنــدما نقيس الّل ذات يجب أن‬
‫نقارنها وفق شّد تها واستمراريتها والتي تكون مستمرة وطويلة أفضل طبعا(*) وكــذلك وقت حــدوثها‪ ،‬واللــذات‬
‫التي تتبعها لّذ ات أخرى ومدى اللّذ ة أي عدد األفراد الذين يشعرون بها‪ ،‬يعني أكبر سعادة ألكبر عــدد ممكن من‬
‫الناس‪ ،‬حيث يقول بنتام‪« :‬إن أكبر قدر من المنفعة ألكبر عدد من الّن اس هــو مقيــاس الصواب والخطــأ‪ .‬يمكن‬
‫القول أّن بنتام حاول إعطاء المنفعة قيمة كمية قابلة للقياس وبذلك يكون قد اقــترب من المنهج العلمي في قيــاس‬
‫المنفعة بعيدا عن التقديرات الذاتية‪ .‬ويقّد م لنا مقياس يتكّو ن من ســبعة مقــاييس كفيلــة بقيــاس المنفعــة أو الّل ذات‬
‫المتجانسة إلى حّد ما‪:‬‬
‫‪.1‬الشدة وهي قياس اللذة من حيث قّو تها أو ضعفها‪.‬‬
‫‪.2‬المّد ة وهي المّد ة الزمنية التي تستغرقها اللذة‪.‬‬
‫‪.3‬التيقن أي اللذة التي تحققت اليوم بفعل فاعل أفضل من تلك التي ستتحقق غدا بفاعل آخر‪.‬‬
‫‪.4‬القرب أي اللذة الراهنة أفضل من المقبلة‪.‬‬
‫‪.5‬الخصب أي أن اللذة التي بإمكانها إنتاج لذات أخرى أفضل‪.‬‬
‫‪.6‬الصفاء وهي خلوة اللذة من األلم والحزن وكل ما يعّك ر صفوها‪.‬‬
‫‪.7‬االمتداد أي زيادة وامتداد اللذة لألفراد اللذين يتمتعون بها‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫أما الّلذات غير المتجانسة مثل القراءة مع لّذ ة الرياضة ال يمكن حساب كميتها وبالتالي ال يمكن قياسها‪.‬‬
‫يجب التذكير هنا أّن مذهب أبيقور (‪270-351‬ق م) مؤّد اه أّن اللّذ ة هي وحدها الخير األســمى واأللم هــو وحــده‬
‫الشر األقصى‪ ،‬ويقّر اللذة الحسية ألّن اإلنسان كالحيوان يسعى إلى اللذة بفطرته‪ ،‬ولكّنه حّو ل هذه اللــذة الحســية‬
‫إلى مذهب في الزهد ألّنه رأى أّن كل لذة خير ما لم تقترن بألم فتصبح شرا‪ ،‬وأّن األلم إذا نجمت عنه لذة وجب‬
‫طلبه‪ .‬فاللذة عنده تجمع بين الزهد والمنفعة‪ ،‬وقد دعا إلى الحياة السعيدة دون أن يستعبد اإلنســان شــهوته‪ ،‬وهــو‬
‫يؤثر اللذات العقلية والروحية على اللذات الجسمية والحسية‪ ،‬وفي األخير يقول أبيقور‪ «:‬الفلسفة محاولــة جعــل‬
‫الحياة سعيدة بالنظر والمعرفة»‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬الدولة والحكومة والسيادة عند بنتام‬
‫حاول بنتام في مرحلة حياته األولى إيجاد معيار لقيمة المنفعـة‪ ،‬والمرحلـة الثانيـة من حياتـه كّرسـها لإلصـالح‬
‫البرلماني معتقدا أّن القدر األكبر من السعادة ألكثر الناس هو المقياس الذي يجب إتباعه من قبــل المشــّرع ليقيم‬
‫السعادة على المنطق والعدل‪.‬‬
‫الحكومة أو السلطة حسبه ليست سوى مجّر د بعض األشخاص الــذين وجــدوا ألغــراض الحكم واعتــاد الرعايــا‬
‫على طاعتهم‪ ،‬وتبقى وظيفة الحكومة تأمين السعادة ألكبر عدد من أفراد المجتمع‪ ،‬كفــرض العقوبــات وإعطــاء‬
‫المكافآت‪.‬‬
‫بمــا أّن الفــرد أنــاني وال يبحث إّال عن مصالحه الخاصــة والفرديــة‪ ،‬لــذلك وجب تــدّخ ل الحكومــة للتوافــق بين‬
‫مصالح األفراد ومصالح المجتمع‪ ،‬وذلك بانتشار السعادة‪ ،‬حيث سيشــعر الفــرد بالســعادة إذا شــملت أكــبر عــدد‬
‫ممكن وحتى األنانيين يتصّر فون بشكل الئــق حينهــا من خالل تطــبيق القــانون والمنفعــة الّذ اتيــة المسـتنيرة‪ ،‬أي‬
‫انسجام صالح الفرد والصالح العام‪ ،‬وكما رأينا سابقا فـإّن المرحلـة الثانيـة من حياتـه ونضـاله الفكـري كّرسـها‬
‫لإلصالح البرلماني‪ ،‬فقد قّد م اقتراحاته لتعديل الدستور االنجليزي من خالل المبادئ التالية‪:‬‬
‫‪ -‬حق االقتراع العام لضمان األغلبية في البرلمان‪.‬‬
‫‪ -‬تقصير عمر البرلمان‪ :‬سنة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬أعتبر البرلمان منــدوبا عن الشــعب ال ممثال لــه خوفــا من تحـّو ل أعضــائه لتحقيــق مصالحهم الخاصــة على‬
‫حساب الصالح العام‪.‬‬
‫للتذكير فقد تجاهل بنتام األقليات ولم يهتم بهم‪ ،‬كما رفض فكــرة تنظيم وفصل الســلطات أو موازنتهــا‪ ،‬وأعطى‬
‫األولوية للسلطة التشريعية ‪ -‬البرلمان‪ -‬الممثلة بمجلس واحد ومنح البرلمان حق الّر قابة على السلطة التنفيذية‪.‬‬
‫والّد ولة عند بنتام بصفته من رواد المذهب النفعي‪ ،‬يعتبر وجودها من أجل تحقيــق المنفعــة‪ -‬الســعادة أواللــذة ‪-‬‬
‫أو اإلبقاء عليها وهو الغرض الوحيد لوجود الّد ولة‪ .‬وما يمّيز الّد ولة عن باقي النظم الموجودة في المجتمــع هــو‬
‫أّنها مصدر القانون الذي من خالله تصل بــالمجتمع إلى الســعادة‪ .‬فالدولــة يجب عليهــا المحافظــة على الملكيــة‬
‫الفردية‪ ،‬وللفرد الحق في المعارضة إذا كانت هذه المعارضة تقّلل من حّد ةاأللم أو تحّقق سعادة عالية‪.‬‬
‫أما الحرية حسب بنتام فهي نوعين‪ :‬حرية طبيعية أي أن يفعل اإلنسان ما يريد‪ ،‬لكن هذه الحريــة خــارج الحيــاة‬
‫االجتماعية أو المدنية المنظمة‪ ،‬والنوع الثاني من الحرية هي الحرية المدنية وهو أن يفعل الفرد ما يريد شــرط‬
‫أن يكون منسجما مع المصلحة العامة‪.‬‬
‫يقول بنتام أّن القانون المدني يجب أن تكون لها أربعــة أهــداف وهي‪ :‬البقــاء والرخــاء واألمن والمســاواة‪ ،‬ومن‬
‫شّد ة تعّلقه بالمساواة دافع عن القسمة المتساوية لملكية الرجل بين أبنائه؟؟ وعارض حريــة الوصــية ومعارضــة‬
‫الملكية واالرستقراطية الوراثية‪ ،‬كما دافع عن الديمقراطية الكاملة بما في ذلك تصويت النساء‪.‬‬
‫خاتمــــــــة‪:‬‬
‫عرف المجتمع االنجليزي بعد الثورة الصناعية تطّو رات سريعة غّيرت البنية االجتماعية واالقتصادية تغيــيرا‬
‫كبيرا ‪ ...‬فالبورجوازية الصناعية عملت على تقليص سـلطة النبالء مالكي األرض المسـيطرين على البرلمــان‬
‫وعملت للوصول إلى السلطة‪ ،‬كما أّن من تأثيرات الثورة الصناعية خلق المآســي واآلالم في حيــاة العمــال مّم ا‬

‫‪57‬‬
‫أّد ى بهــؤالء إلى المطالبــة بإصــالح أوضــاعهم المترّد يــة وعليــه جــاءت أفكــار بنتــام وغــيره من المفّك رين‬
‫المعاصرين له كتصدي لهذا الواقع المستجد والمتطّو ر في حياة المجتمع االنجليزي‪.‬‬
‫جون ستيوارت ميل‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أفكاره ومواقفه السياسية‬
‫المبحث األول‪ :‬موقفه من المذهب النفعي‬
‫بــالّرغم من أّن ه الممثــل الثــاني للمــذهب النفعي بعــد بنتــام‪ ،‬إّال أّن هــذا لم يمنعــه من تقــديم بعض المالحظــات‬
‫والتعــديالت ألراء بنتــام والــذي كــان صــديقا لوالــده جيمس ميــل الّراديكــالي في مذهبــه السياســي‪ ،‬ومن بين‬
‫المالحظات التي قّد مها جون ستيوارت ميل لبنتام مايلي‪:‬‬
‫ال يفّر ق بنتام بين الذات في النوع أو الكيف بل في الكم فقط‪ ،‬بينما جــون فــرق في الكيــف أيضــا‪ ،‬وكمثــال على‬
‫ذلك يقول جون ‪« :‬اإلنسان يفضل أن يكون إنسانا معذبا أو متألما على أن يكون خــنزيرا‪ ،‬ســعيدا أو مســرورا‪،‬‬
‫كما يفضل أن يكون سقراط البائس على أن يكون مجنونا سعيدا»‪.‬‬
‫يرى كذلك أن هناك لّذ ات سامية وأخرى أقل سمّو ا‪ ،‬وهذا عكس المذهب النفعي الــذي يــرى أّن كــل الّل ذات من‬
‫نوع أو من مستوى واحد‪.‬‬
‫ّل‬
‫يرى بنتام أّنه ال يمكن قياس ال ذات لعدم وجود مقياس ونفس الشيء بالنسبة لأللم‪ ،‬بالّر غم من محاوالته إليجــاد‬
‫قياس علمي‪ ،‬فإّن جون يذهب إلى القول بأّن الّلذة ليست غاية في حد ذاتها بل تأتي بشكل غير مباشر‪ ،‬إذ عنــدما‬
‫يحّقق اإلنسان األغراض األخالقية فإّنه يشــعر بالســعادة‪ ،‬وكإضــافة إلى ذلــك يــرى جــون أّن اإلنســان يجب أن‬
‫نمنحه الحرية الكافية حتى يزن األمور ويعرف أحسنها من أسوأها ال سيما حرية المناقشة وإبــداء الــرأي‪ .‬هــذه‬
‫الحرية التي اعتبرها جون ستيوارت ميل أساسية بعدما كانت ثانوية عند بنتام‪ ،‬فما هي المفــاهيم المختلفــة الــتي‬
‫أعطاها جون للحرية؟‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مفهوم الحرية عنده‬
‫ّظ‬
‫يرى جون ستيوارت ميل أّن للحرية معنى إيجــابي عنــدما يو ف المــرء قدراتــه على المبــادرة واالختيــار إلى‬
‫أقصى حّد ممكن‪ ،‬وهنا تبرز ضرورة سيطرة المرء على الوسائل التي تؤّد ي إلى تحقيق مــا يريــد‪ ،‬أي حــر في‬
‫اتّخ اذ القرار أو القيام بعمل ما ونحوها‪ ،‬كما أّن الحرية يمكن أن يكون لها معنى سلبي أيضــا وهــو الّتخلص من‬
‫التدّخ ل الخارجي عند اتخاذ القرار‪ ،‬وهو ما ينطبق على الفكر التحرري الذي أرساه جون ستيوارت ميــل‪ .‬كمــا‬
‫أّن الحرية صفة فطرية في ذاتها وأّنها تؤّد ي إلى السعادة‪ ،‬وعليه فالحرية هي ســلطة اإلنســان على نفســه وهــو‬
‫الحكم النهائي لما يقوم به من تصّر فات وأعمال‪ ،‬وأّن حرية البحث والمشاركة وحرية الحكم األخالقي لإلنســان‬
‫الناضج الذي يسطر على نفسه خيرة في ذاتها إلى جانب منفعتها لصاحبها وللمجتمع‪ ،‬لذلك يقول جــون ال يجب‬
‫أو ال يحّق للبشرية إسكات معترض واحد‪.‬‬
‫من جهة أخرى يرى أّن الحرية الفكرية والسياسية هي باالستماع والمشاركة في المناقشات في المسائل العامــة‬
‫وإصدار القرارات السياسية‪ ،‬وأنكر في األخير بأّن الدستور االنجليزي المع ـّد ل في أواخــر القــرن ‪18‬م يضــمن‬
‫الحريات الفردية بشكل كاف ألّن الفارق كبير بين الحكام والمحكومين‪ ،‬هؤالء الحكــام ال يمثلــون الشــعب كلــه‪،‬‬
‫بل أغلبيته وبالتالي فـإذا حّص لت الحكومـة على سـلطة مطلقـة فبإمكانهـا االعتـداء على الحريـات الـتي ناضـل‬
‫الشعب من أجلها‪.‬‬
‫على ذكر أّن الحّك ام يمثلون أغلبية الشعب‪ ،‬هذا يعني أّن الحكومة في الواقــع تمثــل الــرأي العــام لألغلبيــة‪ ،‬هــذا‬
‫الرأي العام الذي يخشاه جون يمكن أن يصبح ظالمــا يفــرض معتقداتــه وســلوكه لجميــع أفــراده حــتى للــذين ال‬
‫يؤمنون بها‪ ،‬وهو بذلك (الرأي العام) يقّيد المجتمع ويحّد من تطّو ره ويقف عائقا أمام األقلية‪ ،‬لذلك أعتبر جــون‬
‫بأّنه ال بّد من أن يكون وراء أي حكومة ليبرالية مجتمع ليبرالي‪ ،‬أي أّن األنظمــة السياســية ليســت إّال جــزء من‬
‫إطار اجتماعي أوسع نطاقا‪ ،‬وهذا في الواقع شيء منطقي ألّن هذه الحكومة من نتاج المجتمع‪.‬‬
‫هناك حريات فردية يقول جون ستيوارت ميل أّنه ال يجب الحّد منها وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬حرية الضمير وهي حرية العقيدة والتفكير‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫‪ -2‬حرية الذوق وحرية العمل‪.‬‬
‫‪ -3‬حرية الجمع بين األفراد وتكوين الجمعيات واألحزاب‪.‬‬
‫من خالل هذه األفكار واآلراء يكون جون قد ساهم في تطوير وتعديل بعض بنود المذهب الليبرالي‪ ،‬ذلــك وفــق‬
‫النقاط الثالث التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬مفهوم الحرية عنده لم يعد قائما على مجّرد تنفيذ سلطة الّد ولة والحّد منها‪.‬‬
‫‪ -2‬أدخل مفهوم الخير االجتماعي والرفاهية كأساس من أسس المذهب الليبرالي الفــردي ولــو أّن المفــاهيم هنــا‬
‫تبدو متناقضة (الخير االجتماعي والمذهب الليبرالي الفردي)‪.‬‬
‫‪ -3‬قضى على حرية الّتعامل المطلق والّد ولة الحارسة التي يقتصر عملها على حماية الحقوق الطبيعة لألفراد‪.‬‬

‫المبحث الثالث‪:‬‬
‫تكمن غاية الّد ولة حسبه في تنمية الملكات الفكرية وتحسينها وضــمانها دســتوريا‪ ،‬ويشــير هنــا إلى الـّد ور المهم‬
‫الذي تلعبه وسائل اإلعالم في تشكيل الرأي العام‪ ،‬لذلك اقترح العديد من اإلصــالحات تخّص نظــام االنتخابــات‬
‫والبرلمان والحكومة‪.‬‬
‫ّل‬
‫‪ -1‬نظام االنتخابات‪ :‬تفضيل األقلية المتع مة الختيار الحّك ام وعدم ترك ذلـك للجمـاهير الجاهلـة‪ ،‬هـذا يعـني أّن‬
‫أصوات الناخبين غير متساوية بــل حــرم الجمــاهير الجاهلــة من حــق الّتصويت ألّنهــا ال تســتطيع الّتميــيز بين‬
‫الصالح والطالح من الحكــام مفضــال التمثيــل النســبي‪ ،‬ومن يشــترك في االنتخابــات يجب أن يكــون قــادرا على‬
‫القراءة والكتابة وملّم ا بمبادئ الّر ياضيات‪ ،‬وحتى ال يقــع في تنــاقض مــع أفكــاره الــتي تــدعو للحريــة الفرديــة‪،‬‬
‫طالب بإلزامية التعليم وتعميمه وبذلك ينعدم الجهل ويشارك الجميع في االنتخابات‪ ،‬باإلضـافة إلى مزايـا التعليم‬
‫األخرى في تكوين الشخصية المستقلة لألفراد‪.‬‬
‫‪ -2‬وظائف البرلمان‪ :‬من بين أهم وظائف البرلمان مايلي‪:‬‬
‫‪ -‬مراقبة الحكومة واإلشراف على أعمالها‪.‬‬
‫‪ -‬البرلمان هو الذي يعين الحكومة ويطلع الشعب على أعمالها ومهامها‪.‬‬
‫‪ -‬وقف األعمال المضّرة بالشعب‪.‬‬
‫‪ -‬البرلمان له الحق في عزل الحكومة التي تفشل في تحقيق أهداف وجودها‪.‬‬
‫‪ -‬البرلمان يجب أن يكون مركز لتوّج ه تظلمات المواطنين واآلراء المختلفة‪.‬‬
‫‪ -‬البرلمان له الحق في إقرار القوانين بعد سّنها من طرف خبراء القانون‪.‬‬
‫‪ -3‬الحكومة‪ :‬يجب أن تكون متكونة من طبقة أرستقراطية تتمّيز بالعلم والمعرفة مع استمرار رقابة البرلمــان‬
‫عليها‪ ،‬ألّن المهام اإلدارية يجب أن يتوّالها ويضطلع بها موّظفون دائمون يتم اختيارهم حسب كفاءتهم العلميــة‬
‫ونتيجة لمسابقات خاصة‪.‬‬
‫في المجال االقتصادي يعتقد جون أّن قوانين الطبيعة تحكم اإلنتاج لكّنهــا ال تحكم الــدخول الــتي تحــدد بواســطة‬
‫العرف والتشريع والقوى االجتماعية‪ ،‬وعليه يمكن الّتدخل في موضوع التوزيع من أجــل الوصــول إلى توزيــع‬
‫عادل للثروة بين الطبقات االجتماعية الثالث‪ :‬العمــال والمّالك والعقــاريين الرأســماليين‪ ،‬أي أّن األجــر والريــع‬
‫والربح ال تحّد د بالقوانين الطبيعية‪ .‬كما كان يدعو إللغاء العمل المأجور ألّن األجر الذي يتح ـّد د بفعــل العــرض‬
‫والطلب سيبقى عند حّد الكفاف‪ ،‬أي أّنه كان يدعو من جهة أخرى إلى التخلص من التقسيم السائد للعمل‪ :‬أرباب‬
‫العمل‪ -‬عمال عن طريق اإلنتاج بواسطة نظام إنتاجي آخر وهــو الجمعيــات التعاونيــة اإلنتاجيــة حيث ال يكــون‬
‫هناك عمال مأجورون وأرباب عمل‪ ،‬كما يعتقد أن الريع ال يتحّد د بقانون طبيعي‪ ( ،‬زيادة الريع ناتج عن زيادة‬
‫المساحات المزروعة كما يرى ريكاردو)‪...‬‬
‫خاتمــــــة‪:‬‬
‫ّف‬
‫تبدو أفكار جون ستيوارت ميل أقرب إلى الواقع عندما حاول أن يو ق بين الفرد والدولة‪ ،‬أي كان ضــد طغيــان‬
‫الّد ولة على حرية األفراد‪ ،‬وجعــل للّد ولــة غرضــا واحـدا يتمثــل في العمــل على إنمــاء شخصية الفــرد‪ ،‬وبــذلك‬
‫‪59‬‬
‫تستطيع الّد ولــة في المضــي قــدما نحــو تحقيــق بــاقي أهــدافها وفي نفس الــوقت إتاحــة الفرصــة لألفــراد للتمّت ع‬
‫بحرياتهم‪ ،‬وهنا يظهر بأّنه من أهم المساندين للمذهب النفعي بــالّرغم من التعــديالت الــتي أدرجهــا على قواعــد‬
‫المذهب‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬النظرية الماركسية‪:‬‬


‫قبل التطرق إلى الحديث عن النظرية الماركسية تجدر اإلشارة إلى أّن ماركس انطلق من المراحل التي مــرت‬
‫بها المجتمعات اإلنسانية التي عالجها هيجل والذي وصل إلى فكرة مفادها أّن كل فكرة غير كاملة‪ ،‬ولهــا أفكــار‬
‫أخرى مناقضة لها ومن احتكاك النظريتين تظهــر الحقيقــة المستخلصة ‪، Thèse- antithèse- synthèse‬‬
‫والفكرة األخيرة بدورها تمّر بنفس المراحل السابقة وهكذا‪ ...‬وبصراع األفكــار من أجــل البقــاء والخلــود تــأتي‬
‫األفكار الهامة التي تتصف بالكمال‪ ،‬وتحرز على رضا الجميع بما فيها هللا‪.‬‬
‫لكن ماركس عارض هذه النتيجة على أساس أّن األفكار ليست هي التي تحّد د مصير اإلنسان‪ ،‬بل الحالة المادية‬
‫هي الــتي تتحكم في الوضــع االقتصادي واالجتمــاعي واألخالقي والسياســي‪ ،‬وحســب مــاركس دائمــا فــإّن‬
‫المجتمعات اإلنسانية تتطّو ر تدريجيا وتنتقل من مرحلة العبودية إلى اإلقطاع المتبـّو ع بــالمجتمع الصناعي إلى‬
‫المجتمع الرأسمالي وأخيرا المجتمع االشتراكي‪.‬‬
‫إّن النظرية الماركسية هي تصّو ر شامل للعالم‪ ،‬فهي فلسفة واقتصاد سياسي وعلم اجتمــاع‪ ،‬باإلضــافة إلى ذلــك‬
‫فهي مذهب يهدف إلى تغيير العالم مّم ا جعلها فلسفة العمل أي فلسفة الخــير االجتمــاعي للبشــر في تعــاملهم مــع‬
‫الطبيعة والتاريخ وبالتالي مع السياسة‪.‬‬
‫إّن شمول النظرية الماركسية جعلها محل اهتمام وانتماء للعديد من الّتيارات واألحزاب عبر مختلف دول العالم‬
‫من اإلّتحاد السوفيتي سابقا إلى الصين ودول العالم الثالث‪...‬‬
‫هذه النظرية تعمد إلى تحليل التاريخ وتحّد د سبل التأثير في التاريخ وتسّلم بأّن نهاية التاريخ هو تحقيــق مجتمــع‬
‫منسجم وال تثق هذه النظرية في حدود النظري العلمي أو أّنها مجرد مذهب سياسي‪ ،‬بل تتع ـّد اه لتصبح نظريــة‬
‫لمصير العالم‪ ،‬أي غاية نهائية يتم فيها التحقيق األقصى للوجود ( تحقيق الجنة على األرض؟!)‬
‫نستعرض دراسة هذه النظرية من الجوانب السياسية واالجتماعية واالقتصادية لمعرفة مدى أهميتها‪ ،‬وإذا كــان‬
‫إنجلز يقول بأن نظريتنا هي نظرية للتطور‪ ،‬فإننا نقول أّن الماركسية ليســت عقيــدة أو كتــاب مــنّز ل ال يعتريهــا‬
‫الخطأ‪ ،‬وإّنما نظرية ال تكمن مهمتها إّال في إطارها وسياقها التاريخي وانتمائها العلمي‪.‬‬
‫المبحث األول‪ :‬مكانة السياسة في فكر كارل ماركس‪:‬‬
‫سنحاول التركيز في هذا المبحث على الجوانب السياسية في فكر ماركس بالّرغم من الصعوبة التي تواجه هــذا‬
‫العزل‪ ،‬ألّن نظريته شاملة وجامعة لعّد ة جوانب علمية ومن الصعوبة بما كان فصل جــانب على اآلخــر‪ ،‬زيــادة‬
‫على هذا فإسهاماته السياسية مقارنة بالمجاالت األخرى قليلة ومختصرة‪ ،‬وهي في أغلب األحيــان ذات صــيغة‬
‫حكمية أي انتقادات للعقائد السياسية التي عارضها‪ ،‬أو المواقف السياسية التي شرحها وحّللها‪ ،‬كتلك الــتي وجــد‬
‫نفســه في مواجهتهــا ونقصد طبعــا االشــتراكية الفرنســية الــتي يمّثلهــا ســان ســيمون وبــرودون وفــوري وهــذه‬
‫المواجهة جاءت من جانب التنظيم العملي لالقتصاد أو الطبقة الشغيلة منظور إليها من الزاوية السياسية‪.‬‬
‫إّن فهم السياسة والّد ولة عند ماركس وانجلــز هــو ذلــك الواقــع األلمــاني المتمّي ز بالبيروقراطيــة الّظالمــة طيلــة‬
‫السنوات ‪ 1820‬حتى ‪ 1847‬وتصّو رهما للّد ولة المستمد من فلسفة هيجل والذي يبدو لهما وكأّنه حقيقة الّد ولة‪.‬‬
‫لقد أقّر ماركس أّن تاريخ كل مجتمع حتى يومنا هذا لم يكن في الحقيقة إّال تاريخ صراع الطبقــات‪ ،‬فالّت اريخ ال‬
‫يتكّو ن من الوقائع السياسية وكل حياة سياسية هي وهم‪...‬‬
‫انتقد ماركس المجتمع الّسياسي القائم وهو المتشــّبع بالفلســفة الهيجيليــة دون أن يصل إلى نتيجــة علميــة‪ ،‬حيث‬
‫يرى هيجل أّن الّد ولة عقالنية وواقعية‪ ،‬ولّم ا جّر ب ماركس هذه الفلسفة وجــدها مجــّرد فلســفة وفي هــذه الحالــة‬
‫يمكن انتقاد الفلسفة وليس الدولة‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫‪ -15‬الفلسفة السياسية المعاصرة‬
‫أ‪ -‬فرانسيس فوكوياما‪ :‬أطروحة نهاية التاريخ‬
‫فكرة نهاية التاريخ في خطوطها الكبرى كما وردت في الكتاب‪:‬‬
‫تعد مقولة نهاية التاريخ آخر صيحة عالمية استفاق عليها الفكر اإلنساني المعاصر‪ .‬وإلقاء نظرة على مجمل مــا‬
‫ورد في كتــاب نهايــة التــاريخ وخــاتم البشــر‪ ،1‬يكشــف عن مجموعــة من األفكــار والتصورات الــتي صــاغها‬
‫فوكوياما يمكن إبراز خطوطها العريضة اآلتية‪:‬‬
‫يرى المؤلف أن سقوط االتحاد الســوفياتي واكتســاح الديموقراطيــة الليبراليــة أرجــاء العــالم‪ ،‬وانهيــار األنظمــة‬
‫الشمولية‪ ،‬وانتصار فكرة األسواق الحرة‪ ،‬كل ذلك وصد باب التاريخ وأدى إلى نهايته األبدية التي لن يــبرز في‬
‫أفقها أي مؤشر جديد‪.‬‬
‫ـ يرتكز في تحليله للديموقراطيــة على المرجعيــة التاريخيــة فيعــود إلى أحـداث القــرن ‪19‬م الــذي يعتــبره قـرن‬
‫االستقرار والسالم بفضل ما جناه من ثمار الثورة الفرنسية التي ركزت مبادئ الديموقراطية‪ .‬لكنه ينتقد أحداث‬
‫القــرن العشــرين الــتي أدت في نظــره إلى تراجــع المبــادئ الديموقراطيــة بســبب الحــربين العــالميتين وظهــور‬
‫األنظمــة الديكتاتوريــة واليســارية الشــمولية‪ .‬ثم يعــرج على الفــترة المعاصــرة ليفســر كيفيــة تحــول الــدول‬
‫الديكتاتورية إلى دول ديموقراطية وسقوط األنظمة االشتراكية‪ ،‬وتحولها إلى أنظمة تنحو نحو وجهـة االقتصاد‬
‫الحر بسبب عجزها عن حل مشاكلها االقتصادية‪.‬‬
‫في مواضع أخرى من الكتاب‪ ،‬يضع المؤلف األصبع على فكرة التاريخ الكوني‪ ،‬فيستعرض مختلف النظريات‬
‫التاريخيــة لفالســفة التــاريخ واآلليــة الــتي تحــرك التــاريخ العــالمي‪ ،‬والمتمثلــة في نظــره في اآللــة العســكرية‬
‫والتكنولوجية وسعي اإلنسان المعاصر للســيطرة على الطبيعــة‪ ،‬معتــبرا أن التــاريخ يســير نحــو تــاريخ عــالمي‬
‫متجانس بهدف تكوين الدولة العالمية‪ ،‬مستبعدا أن يكون التاريخ الكوني تاريخــا دوريــا يقضــي على المنجــزات‬
‫الحديثة ليرجع للمرحلة السابقة‪ .‬إال أن أهم ما يميز فكر فوكوياما في باب التاريخ العالمي يكمن في رؤيتــه بــأن‬
‫االتجاه نحو الدولة العالمية المتجانسة يؤدي إلى نشأة مجتمع خال من الطبقــات‪ ،‬ويعكس آخــر مرحلــة مرضــية‬
‫من التاريخ اإلنساني‪ ،‬منها سيكون االتجاه نحو نهاية التاريخ‪.‬‬
‫ولم يفته اإلشارة إلى ما ينجم عن التطور التكنولوجي من دمار للبيئة معبرا عن تشاؤمه الشديد في هـذا المجـال‬
‫من المجهودات التي تقوم بها الجمعيات ومنظمات من أنصار البيئة‪ .‬وحول االقتصاد االشــتراكي‪ ،‬أبــرز أوجــه‬
‫قصوره‪ ،‬خاصة من ناحية اعتماد الدول االشتراكية على فكرة الخطط االقتصادية التي لم تعد مالئمة في نظــره‬
‫للتغيرات االقتصادية الســريعة وتبــدل األســعار‪ ،‬ومن ثم يعتبرهــا معيقــة للتطــور التكنولــوجي‪ ،‬ويقــرن الثــورة‬
‫العلمية بالديموقراطية الليبرالية الحرة‪.‬‬
‫ويطرح في مواضع أخرى وجهات نظر تتعلق بفلسفة التاريخ‪ ،‬خاصة آراء هيغــل كمــا فســرها كوجيــف حــول‬
‫الحرية واإلنسان‪ ،‬معتبرا أن الحرية تظهر عندما يقدر اإلنسان على تجاهـل وجـوده الطـبيعي الحيـواني وخلـق‬
‫ذات جديدة لنفسه‪ .‬وفي هذا اإلطار يخصص فصال لمعالجـة السـيادة والعبوديـة‪ ،‬فـيرى أن خدمـة العبـد لسـيده‬
‫أصبحت تستفيد من التطور التكنولوجي‪ ،‬مما جعل العبد حرا بفضل تغلبه على صــعوبة الخــدمات الســائدة قبــل‬
‫العصر التكنولوجي‪ ،‬ومطالبا بالمزيد من الحرية والمساواة‪.‬‬
‫وفي تحليله للكائن البشري‪ ،‬يــرى أن انفعــاالت اإلنســان من خالل رغبتــه في العرفــان والتمــايز والحفــاظ على‬
‫النفس والكرامة‪ ،‬يؤدي به إلى الدخول في مجتمع مدني حيث الدســتور يقــر بحقــوق كــل إنســان‪ ،‬ويقــدم شــرحا‬
‫لمفهوم الشهامة اعتمادا على آراء الفالسفة األقدمين‪ ،‬منتقدا النظام الشـيوعي الــذي جعــل الجـزء الشـهواني من‬
‫النفس ضد الجزء الحيوي فيها‪ ،‬وذلــك بإجبــار النــاس العــاديين على جعــل العديــد من التــافهين أكــثر اتفاقــا من‬
‫طبائعهم‪.‬‬

‫فرانسيس فوكوياما‪ ،‬نهاية التاريخ وخاتم البشر‪ ،‬تر‪:‬حسني أمحد أمني‪ ،‬مركز األهرام للرتمجة والنشر‪ ،‬ط‪ ،1993 ،01:‬مصر‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪61‬‬
‫ويالحظ أن فكرة الديموقراطية تأخذ حيزا هاما من اهتمامات المؤلف الذي يرى أن غيابها يسفر عن مشاكل ال‬
‫حصر لها داخل المجتمع‪ ،‬ويمكن أن تلعب دورهــا إذا وضــعت في الحســبان الخصوصــيات الثقافيــة لشــعب أو‬
‫أمة‪ .‬ويذهب إلى أن الديموقراطية تتجه نحو وجهة عالمية تتميز بالتجــانس‪ ،‬ليخــرج بنتيجــة قطعيــة في نظــره‪،‬‬
‫وهي أن التاريخ يقود اإلنسان بطريق أو بآخر إلى الديموقراطية الحرة‪.‬‬
‫ويستند فوكوياما في الدفاع عن أطروحة التوجــه الكــوني نحــو الديموقراطيــة على الثــورة الحاليــة لتكنولوجيــة‬
‫اإلعالم‪ ،‬فاالنفجــار التكنولــوجي في المجــال اإلعالمي الــذي نجح في غــزو أكــثر المنــاطق انــزواء في العــالم‪،‬‬
‫سيعطي –في نظره‪ -‬األفراد مزيدا من القدرات ويسرع من وتيرة الدمقرطة‪.1‬‬
‫وبهذه األفكار التي أبرزنا خطوطها العريضة كما أوردها فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشـر‪ ،‬يـبرر‬
‫أطروحته حول نهاية التاريخ الذي لن يطرأ في نظره أي مؤشر جديد يغيره أو يؤدي بــه إلى مســار جديــد‪ .‬فمــا‬
‫مدى مصداقية هذه األطروحة؟‬
‫من إنصاف القول أن فوكوياما كان جريئا في أطروحته‪ ،‬ولم يكن يغرب عن باله أنها ستالقي جيشــا من النقــاد‪.‬‬
‫كما يحمد له إبحــاره في كتابــه الســالف الــذكر عــبر مجموعــة من العلــوم السياســية واالقتصادية واالجتماعيــة‬
‫وفلسفة التاريخ واألنتروبولوجيا‪ ،‬ونجاحه في تجييش مجموعة من القرائن التي تدل على صحة وجهات نظره‪.‬‬
‫وبالمثــل اتخــذ التــاريخ بمراحلــه الشاســعة مرجعيــة لمجموعــة من التصورات‪ ،‬خاصــة في تحليلــه للحريــة‬
‫والديمقراطية‪ ،‬واستطاع بهذا التحليل التاريخي أن يدلل على أبعاد أطروحته‪.‬‬
‫وقد دعم مقولته حول نهاية التاريخ بمؤلفات وأبحاث ومقاالت أخرى دافع فيها دون هــوادة عن أفكــاره‪ ،‬فضــال‬
‫عن مقابالت علمية متعددة أجرتها معه مختلف المجالت نذكر من بينها على سبيل المثال مجلــة ‪Constructi2‬‬
‫‪ on‬التي أجرت معه حوارا مطوال أكد فيه تشبثه بنظريته وموقفه من أن اليمين هو القــادر الوحيــد على تســيير‬
‫االقتصاد العالمي‪ ،‬منتقدا بعض النظريات الوسطية كنظرية الطريق الثالث لرئيس الــوزراء البريطــاني طــوني‬
‫بلير‪ ،‬بل ذهب بعيدا في حديثه عن نهايــة اإلنســان األخــير بفعــل ثــورة االستنســاخ الــتي جعلت بعض البــاحثين‬
‫يبشرون بعمر إنساني يمتــد إلى ‪ 200‬وحـتى ‪ 300‬سـنة‪ ،‬ولعــل كتابــه األخـير‪The great discruption : :‬‬
‫‪ human nature and the reconstruction of social order‬يعكس هذا التوجه األخير‪ ،‬فضال عن آخر‬
‫مقال صدر له تحت عنوان (اإلنسان األخير في الزجاجة) ‪.The last man in a bottle‬‬
‫والواقع أن أي أطروحة معاصرة لم تثر صـخبا وضـجة إعالميـة مسترسـلة مثلمـا أثارتـه أطروحـة فوكويامـا‪.‬‬
‫وربما زاد من تضخيم ردة الفعل تجاهها سوء الفهم الذي وقع في حباله بعض المنتقدين لها؛ لذلك ال غرابــة أن‬
‫نجد صاحب األطروحة يشكو من قلة إدراك المجادلين ألطروحته بقوله‪" :‬لقد نتج قسـم كبـير من الجـدال األول‬
‫حول نهاية التاريخ عن سؤال داللي غبي إذ لم يفهم العديد من القراء أنني استعملت كلمة تاريخ بمعناها الهيغلي‬
‫الماركسي‪ :‬التطور التدريجي للمؤسسات اإلنسانية والسياسية واالقتصادية ‪ ."3‬ويوضح المفهوم الــذي اســتعمله‬
‫للتاريخ بأن هذا األخير موجه بواسطة قوتين جوهريتين‪ ،‬وهما توســع علــوم الطبيعــة والتكنولوجيــا المعاصــرة‬
‫التي تشكل أساس التحديث االقتصادي‪ ،‬والنضــال من أجــل االعــتراف الــذي يتطلب في نهايــة المطــاف نظامــا‬
‫سياسيا يقبل كونية حقوق اإلنسان‪ .‬وعلى عكس الرؤية الماركسـية الــتي تــرى أن صــيرورة التطــور التــاريخي‬
‫تجد نهايتها في االشتراكية‪ ،‬فإن المفكر الياباني يرى أن هذه النهاية تتجسد في الديموقراطيــة واقتصاد السـوق‪.‬‬
‫ولم يعد ثمة نموذج آخر للتنمية قابل لالستمرار يجعل العـالم يتفـاءل بنتـائج أفضـل من اقتصاد السـوق‪ ،‬فحـتى‬
‫النموذج اآلسيوي التنموي المزعوم‪ ،‬والذي تتبناه دول ما يعرف بنمور آسيا عرف هزة قويــة بســبب التعــثرات‬

‫املصدر نفسه‬ ‫‪1‬‬

‫‪2‬مجلة ‪ Debats‬في عددها ‪ ،38‬بتاريخ ‪.21/9/1999‬‬


‫‪ 3‬عن مقال مرتجم من جريدة لوموند الفرنسية‪ ،‬ترمجها الصديق بوعالم‪ ،‬ونشرها يف جريدة العلم الصادرة بتاريخ ‪ 21‬يونيو ‪ ،1999‬عدد ‪ ،17930‬ص‪.4‬‬

‫‪62‬‬
‫التي شهدها في العقد األخير بسبب األزمة االقتصادية التي عصفت به‪ ،‬مما يؤكد هشاشــة نظــام الحكم المطلــق‬
‫في البلدان اآلسيوية‪ ،‬حيث سعى ذلك النظام إلى كسب شرعيته من خالل اإلنجازات االقتصادية الكبرى‪.1‬‬
‫ومع ما لنظرية فوكوياما من بريق وسحر وجاذبيــة قويــة على قرائهــا‪ ،‬ورغم مــا تحملــه من قيمــة فكريــة تفتح‬
‫شهية النقاش‪ ،‬فإننا سنعمل على تشريحها انطالقـا من ظرفيــة ظهورهــا‪ ،‬ثم تحليــل بنائهــا الــداخلي كنظريــة في‬
‫التاريخ وفي فلسفته‪.‬‬
‫فكرة نهاية التاريخ ولدت من رحم "النظام العالمي الجديد"…‬
‫إن التحليل العلمي ألي منتوج ثقافي ال يتم بمعزل عن بنية الواقع الذي أفرزه‪ ،‬ومن هذا المنظور‪ ،‬لم تكن فكــرة‬
‫نهاية التاريخ التي طرحها فوكوياما في سوق الثقافة سوى غطاء فكري يجسد انتصار النظــام العــالمي الجديــد‬
‫الذي بدت مالمحه تتشكل منذ العقدين األخــيرين‪ ،‬ودخــل القــاموس السياســي ألول مــرة حين اســتعمله الــرئيس‬
‫األمــريكي األســبق جــورج بــوش األب في خطــاب وجهــه إلى الشــعب األمــريكي عنــدما قــرر إرســال القــوات‬
‫األمريكية إلى أرض الجزيرة العربية بالخليج إبان االجتياح العراقي للكويت‪.‬‬
‫بيد أن هذا النظام الجديد لم يكن سوى تتويج لمجموعة من التغيرات التي شهدتها خارطة العــالم السياســي الــتي‬
‫دخلت في إيقاع تطورات سريعة منذ الثمانينات‪ ،‬فمنذ سنة ‪ 1985‬قدم الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشــوف‬
‫مشروعه الطموح المعروف بسياسة البروسترويكا‪ ،‬وهو مشــروع إصــالحي جــاء كــرد فعــل ضــد مــا أفرزتــه‬
‫سياسة التسلط والبيروقراطيـة والنظـام الشـمولي السـائد في العهـد الشـيوعي الـذي هيمن ردحـا من الـزمن في‬
‫االتحــاد الســوفيتي‪ ،‬ومــا تمخض عن ذلــك النظــام من مشــاكل متفاقمــة شــملت كــل المســتويات االقتصادية‬
‫واالجتماعية والفكرية‪.‬‬
‫لقد كانت الحركة الغورباتشوفية منعطفا بارزا لم يكشف عن مثالب النظام الشيوعي وأزمة اليســارية الشــمولية‬
‫كما طبقت في االتحاد السوفياتي فحسب‪ ،‬بل كان أول معول يوظف لهدم ذلك النظام من الداخل‪ ،‬ويسعى لحفــر‬
‫قبر بعض األنظمة التابعة له في أوروبا الشرقية الــتي لم تجــد حرجــا في إعالن تمردهــا على األنظمــة الكليــة‪،‬‬
‫واالندماج في االقتصاد الحر‪.2‬‬
‫والمتتبــع للمتغــيرات الــتي شــهدها العــالم منــذ التســعينات‪ ،‬يالحــظ أن الريــاح صــارت آنــذاك تعــاكس الفكــر‬
‫االشتراكي‪ ،‬فإلى جانب انهيار األنظمة الشيوعية في أوروبا وتفكك االتحاد السوفيتي‪ ،‬جاء سقوط جــدار بــرلين‬
‫سنة ‪ ،1989‬وإجبار روسيا –بوضعيتها المترهلة ووزنها الدولي المتآكل‪ -‬على توقيع العديد من االتفاقيات مــع‬
‫الواليات المتحدة‪ ،‬قاصــمة الظهــر لدولــة طــوت آخــر صــفحة من صــفحات العظمــة‪ ،‬فتقلص دورهــا العــالمي‪،‬‬
‫وضعفت قدراتها العسكرية‪ ،‬وتمخض عن ذلك كله نتائج سلبية في تــاريخ األنظمــة الشــيوعية‪ ،‬نــذكر من بينهــا‬
‫إعالن حل منظمة الكوميكون التي أعلنت إفالسها في مشاريعها التجارية‪ ،‬ليتبعها بعـد ذلـك حـل حلـف وارسـو‬
‫في براغ بتاريخ فاتح يوليوز ‪ ،1991‬وهو أقــوى حلــف كــانت تتخــوف منــه الواليــات المتحــدة في زمن الهيبــة‬
‫الشيوعية‪.‬‬
‫يضاف إلى جملة االنتكاسات التي عرفها النظــام الشــيوعي‪ ،‬الهــزائم المــرة الــتي لحقتــه في أفغانســتان حيث تم‬
‫استئصال شأفة الخطر األحمر بفعل تحالف القوى اإلسالمية هنــاك بــدعم أمــريكي واضــح؛ ناهيــك عن تــداعي‬
‫أنظمة أخرى بإفريقيا وآسيا كانت تدور في فلك المارد األحمر السوفيتي‪.‬‬
‫لقد عصفت هذه المتغيرات باالتحاد السوفيتي كقوة عظمى تشارك في الحفاظ على التــوازن الــدولي‪ ،‬وأدت إلى‬
‫ضمور نفوذه‪ ،‬مقابــل بــروز القــوة األمريكيــة كقطب أوحــد‪ ،‬ليتمخض عن ذلــك كلــه ظهــور نظــام دولي جديــد‬
‫بزعامة الواليات المتحدة‪ .‬إن هذا االنتصار األمـريكي لم يكن انتصارا زحـزح االتحـاد السـوفيتي عن مواقعـه‬
‫العسكرية المتفوقة‪ ،‬بقدر ما كان انتصارا إيــديولوجيا تحقــق بعــد جـوالت طويلــة من الصراع بين الرأسـمالية‬
‫واالشتراكية‪ ،‬ورجحانا قويا للفلسفة الليبرالية الديمقراطية على حساب الفكر الشيوعي االشتراكي الــذي عــرف‬

‫‪ 1‬املرجع السابق‪ ،‬ص‪04:‬‬


‫‪ 2‬عزت أمحد السيد‪ ،‬هل بدأ عصر الهيمنة األمريكية ؟‪ ،‬جملة الوحدة‪ ،‬عدد ‪ 9-8‬نونرب ‪ ،1992‬ص‪.97‬‬

‫‪63‬‬
‫أفوال كنتيجة حتمية النتصار السياسة واالقتصاد األمريكي‪ ،1‬مما أدى إلى أزمتــه‪ .‬وفي خضــم نشــوة االنتصار‬
‫والتفــوق‪ ،‬راح النظــام الــدولي الجديــد يــروج لمجموعــة من المقــوالت الفكريــة الــتي تدعمــه وتعضــده فكريــا‬
‫وإيديولوجيا‪ ،‬ومن بينها مقولة نهاية التاريخ التي تشكل حجر الزاوية في كتاب فوكوياما‪.‬‬
‫حسبنا دليال على ذلك أنه لم يلمع نجم مؤرخ ومفكر في األوساط الثقافية والسياسية مثل ما لمع نجم هذا المؤرخ‬
‫الياباني الشاب الذي رفعته وسائل اإلعالم الرأسمالية إلى مســتوى أهرامــات المفكــرين ورواد فلســفة التــاريخ‪،‬‬
‫وجعلت كتابه يعرف شهرة واسعة بعد أن عرفت كيف تروج له‪ ،‬وتستقطب حوله االهتمام بفعل الدعاية المكثفة‬
‫التي كان وراءها النفوذ السياسي وسلطة المال‪.‬‬
‫إن هذه التغيرات العالمية ذات اإليقاع السريع المتجه نحو تكريس النظام العالمي الجديد تفسر إلى حــد كبــير أن‬
‫هذا الكتاب‪/‬القنبلة تحول من مجرد محاضرة ألقاهــا فوكويامــا في جامعــة شــيكاغو األمريكيــة إلى كتــاب طبقت‬
‫شهرته اآلفاق‪ .‬وال أعتقـد أن هـذا الشـاب اليابـاني األصـل‪ ،‬األمـريكي الجنسـية‪ ،‬الـذي كـان يشـتغل في العلـوم‬
‫السياسية بمؤسسة راندا بكاليفورنيـا ومـديرا مسـاعدا لمصلحة التخطيـط األمريكيـة وعضـوا باحثـا في مركـز‬
‫األبحاث ‪ Rand Corporation‬التابع لجامعة شيكاغو‪ ،2‬كان يحلم بكل هذه الشهرة التي بناها بوسائل اإلعالم‬
‫األمريكيــة‪ ،‬وجعلتــه يحــول محاضــرته الــتي ألقاهــا في جامعــة شــيكاغو ونشــرتها مجلــة ‪The National‬‬
‫‪ interest‬سنة ‪ 1989‬إلى كتاب أكثر ما يقال عنه أنه يقال عنه أنه إعادة لفكرة هيغل‪ ،‬ودفاع عن نظرة الدولــة‬
‫الرأسمالية‪ ،‬وإعالم غربي متطور يهدف إلى الترويج للنظام العالمي الجديد‪.‬‬
‫نقد فكرة نهاية التاريخ انطالقا من بنائها الداخلي‪:‬‬
‫ثمة مالحظات يمكن أن توجه إلى أطروحة فوكوياما في تكوينها الداخلي كمنظومة فكرية‪ ،‬نــذكرها على شــكل‬
‫انتقادات عبر نقاط نعتقد أنها تشكل الحلقات الضعيفة في تلك األطروحة ونوجزها في اآلتي‪:‬‬
‫‪-1‬النهاية المستنسخة‪ :‬إن مقولة نهاية التاريخ ليست مقولة جديدة‪ ،‬بل هي اجترار لمقوالت دينية وفلسفية قديمــة‬
‫وحديثة‪ .‬فهذه المقولة تعد من المسائل الحتميــة المتجــدرة في المعتقــد الــديني الــذي ربــط الزمــان بــالخلق األول‬
‫وبمصير نهاية اإلنسان المحتومة؛ وال غرو فقد وردت في كل الديانات الســماوية كمــا هــو الحــال في اليهوديــة‬
‫والمسيحية واإلسـالم‪ ،‬مجسـدة بفكـرة الفنـاء واالنتقـال إلى الـدار األخـرى‪ .‬والـزمن التـاريخي المحـدد بالبدايـة‬
‫والنهاية في الفكر القرآني من األمور المعروفة التي ال تحتـاج إلى إسـهاب أو تفصيل‪ ،‬حـتى أن إحـدى السـور‬
‫القرآنية سميت بسورة الدهر‪ .‬وفكرة النهاية واضحة في داللة مفهوم الساعة التي ال ريب فيهــا‪ ،‬والمتجســدة في‬
‫قوله عــز وجــل "فــإذا جــاء أجلهم ال يســتأخرون ســاعة وال يســتقدمون"‪ -‬ســورة األعــراف‪ :‬اآليــة ‪ -34‬بيــد أن‬
‫اإلسالم أكسب مفهوم "النهاية" إلى جانب الطابع الديني‪ ،‬طابعا دنيويا اجتماعيا‪ ،‬ذلك أن فكرة نهاية التاريخ في‬
‫اإلسالم منظورا إليهــا من ناحيــة الصراع االجتمــاعي وعالقــة المجتمــع بالســلطة جــاءت تعبــيرا واضــحا عن‬
‫تصور "ثوري" جسده القرآن الكريم بالمعنى االجتماعي في قوله تعالى‪" :‬ونريد أن نمن على الذين استضعفوا‬
‫في األرض ونجعلهم أئمــة ونجعلهم الــوارثين" ‪ -‬ســورة القصص‪ ،‬اآليــة رقم ‪ - 5‬فالرؤيــة القرآنيــة حصرت‬
‫الصراع االجتمــاعي والسياســي بين المــترفين والمستضــعفين وحســمت مســألة التنــافس في التــاريخ البشــري‬
‫بانتصار المستضعفين من حزب هللا ضد المفسدين من حزب الشيطان ومن ثم تأتي نهاية تاريخ اإلنسانية نهاية‬
‫عادلة بانتصار قوى الخير على قوى الشر‪ .‬كما نجد في النظريـات الشـيعية‪ ،‬خاصـة النظريـة المهدويـة القائلـة‬
‫بنزول اإلمام وملئه األرض عدال كما ملئت جورا قبل الفناء األخير‪ ،‬ما يعكس هــذه النظــرة العادلــة والمنطقيــة‬
‫حول نهاية التاريخ‪.‬‬
‫وفي الفلسفات القديمة نجد زرادشت يصور نهاية التاريخ في نقطـة االلتقـاء الـتي يتصارع فيهـا الخـير والشـر‬
‫أيضا‪ ،‬فينتصر األول على الثاني‪ .‬كما أن مقولة التيموس مأخوذة من ســقراط وأفالطــون‪ ،‬وبالمثــل فــإن مقولــة‬
‫اإلنسان األخير مقتبسة من نيتشـه‪ .‬والقــول ببدايــة التــاريخ والدولــة الليبراليــة مقــوالت هيجليــة‪ ،‬دون أن ننسـى‬

‫‪ 1‬خمتار مطيع‪ ،‬المشاكل السياسية الكبرى المعاصرة‪ ،‬منشورات إيريس‪ ،‬ط‪ ،1‬البيضاء ‪ ،1993‬ص‪.260‬‬

‫‪ ،16‬السنة الرابعة‪ ،‬أبريل ‪.1998‬‬ ‫مسعود ظاهر‪ ،‬مراجعات نقدية لمقوالت فوكوياما‪ ،‬جملة البحرين الثقافية‪ ،‬العدد‬ ‫‪2‬‬

‫‪64‬‬
‫محاوالت المفكر األلماني ماركس في تعديل المقوالت الهيغيلية‪ ،‬والقول هو أيضا بنهايــة التــاريخ بعــد صــراع‬
‫طويل بين البورجوازية والبيروليتاريا‪ ،‬وحتمية انتصار هذه األخيرة ونهاية الدولة التي ال يصبح لها آنــذاك أي‬
‫مبرر للوجود بعد انتفاء التناقضات السوسيو‪-‬اقتصادية‪.‬‬
‫كما أن بعض المدارس التاريخية أثارت خالل القرن الماضي مشكالت فلسفة التاريخ ومقوالت التقدم والتخلف‬
‫في صيرورته وإمكانية التنبؤ بنهايات محتملة‪ ،‬ويكفي ذكر نموذج سبنجلر الــذي تنبــأ في كتابــه ســقوط الغــرب‬
‫بنهاية العالم الغربي حضاريا على األقل‪.‬‬
‫وفي الســتينات من القــرن العشــرين تضــخمت خطابــات ومقــوالت نهايــة التــاريخ بعــد تصاعد مــزاعم نهايــة‬
‫اإليديولوجيات مع عالم االجتماع كارل لبست‪.K. Lipest 1‬‬
‫والحاصل إن ما قام به فوكوياما ال يعدو أن يكون طرحا إحيائيا أو بعثا لفكرة النهاية‪ ،‬وإعــادة صــياغة لألفكــار‬
‫القديمة والحديثة التي نبشت في ملفهـا؛ وال غـرو فقـد ظـل مـرتحال بين فكـرة اإلنسـان األخـير عنـد زرادشـت‬
‫ونتشه‪ ،‬واالعتراف عند هيغل‪ ،‬والحتمية التاريخية عند ماركس‪ .‬وبكلمات أخرى فإنه لم يتجاوز الربــط بين مــا‬
‫صاغه الفالسفة الذين سبقوه‪ ،‬والفترة المعاصرة‪ ،‬دون إضافات جديدة حتى بالنسبة لفلسـفة التــاريخ‪ ،‬وكأنــه قـام‬
‫بدورة حلزونية ليرجع بالفكر اإلنساني إلى نقطة االنطالق التي توقف عندها فالسفة الفترة الحديثة‪ ،‬أو أنه أراد‬
‫–دون أن يعي‪ -‬تجاوز الفكر الديني وكذا الفكر الماركسي وما أنجزته الثورة البلشفية والمبادئ الــتي صــاغتها‪،‬‬
‫والثورات التحرريــة في بلــدان العــالم الثــالث الــتي نحتت بصمات واضــحة في الفكــر الــديموقراطي والحريــة‬
‫والمساواة؛ بل إن النبرة العدائية للنظام االشتراكي تبدو واضحة في معالجته لمختلف الثورات االشتراكية الــتي‬
‫يفتري عليها أنها أفسدت النظرية الهيغيلية‪ ،‬هذا مع انحياز تام وتحمس وتمجيد للنظام الرأســمالي‪ ،‬األمــر الــذي‬
‫يخلع عنه صفة الموضوعية إذا اعتبرناه مؤرخا‪.‬‬
‫وفكرة النهاية في حد ذاتها تتسم بالغموض‪ ،‬إذ ال يشعر الفــاحص لتــأمالت فوكويامــا مــا إذا كــانت هــذه النهايــة‬
‫أبدية أم نهاية تتلوها بداية‪ ،‬وهو ما اعتبره بعض الباحثين حلقة ضعيفة في تفكيره إذ كيف نقبل بنهايــة ونحن لم‬
‫نعرف بعد البداية الحقيقية‪ .2‬وإذا كان قد اقتبسها من هيغل فقد فاته أن األخير أعلن فكرة النهاية تاريخيــا مقابــل‬
‫البداية فلسفيا‪ ،‬وأن فكرة النهاية تنتمي للتاريخ دون أن تعلن طالقا مع الفلسفة‪.‬‬
‫‪ -2‬القراءة الخاطئة لألحداث التاريخية‪ :‬يالحظ أن فوكوياما قــام بقــراءة خاطئــة لبعض الوقــائع التاريخيــة‪ ،‬فلم‬
‫يحالفه الصواب في تحليله لبعض القضايا التاريخية الــتي تشــكل حجــر الزاويــة في كتابــه‪ ،‬وهــو مــا يتجلى في‬
‫عدى مستويات نذكر منها‪:‬‬
‫ـ وهم نهاية الدولة كمرجعية هيجلية‪ :‬فحتى بالنسبة لنظرية هيغل حــول نهايــة التــاريخ‪ ،‬والــتي جعلهــا مرجعيــة‬
‫أساسية في أطروحته‪ ،‬أثبت التطور التاريخي خطأ نظريته القائلة بنهاية التاريخ عند مرحلــة الدولــة الليبراليــة‪،‬‬
‫وحسبنا بروز تيارات فكرية في أوروبا بعد ظهــور نظريــة هيغــل خلفت آثــارا واضــحة في صــيرورة التــاريخ‬
‫اإلنساني خالل القرنين ‪ 19‬و‪ ،20‬ممثلــة في التيــارات االشــتراكية والفاشــية والنازيــة والوجوديــة والســريالية‪،‬‬
‫فضال عن التيارات القومية والدينية واإليديولوجية المتطرفة التي لعبت أدوارا أساسية في المجتمعات الحديثــة‪،‬‬
‫وال تزال تلعبها في عز النظام الدولي الجديد‪ .‬وإذا كانت المرجعية التي تبناها خاطئة‪ ،‬فإن نتيجة التحليل تكــون‬
‫بالضرورة خاطئة‪.‬‬
‫ـ وهم االنقطاع في صيرورة التاريخ‪ :‬إن المنطلق الذي انطلقت منه مقولـة نهايـة التـاريخ مقولـة ال تسـتند على‬
‫واقع علمي‪ ،‬بل تنطلق من فكرة خاطئة أساسا‪ ،‬مفادها إمكانية حدوث االنقطاع في صيرورة التاريخ‪ ،‬علما بــأن‬

‫‪ 1‬محمد شكري سالم‪ ،‬أطروحة نهاية التاريخ بين الفلس فة واإليديولوجي ة‪ ،‬مجلـة فك ر ونق د‪ ،‬السـنة الرابعـة‪،‬‬
‫العدد ‪ ،34‬ديسمبر ‪ ،2000‬ص‪.22‬‬

‫‪ 2‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪-‬ص‪.24-23:‬‬


‫‪65‬‬
‫التاريخ يسير دوما في حركة تصاعدية ال تعرف االنقطــاع أو الدائريــة‪ ،‬وال يمكن أن تتوقــف بــإرادة ذاتيــة من‬
‫شخص معين كان باحثا أو مهندسا أو سوسيولوجيا أو محترفا ألي مجال من مجــاالت البحث العلمي‪ ،‬علمــا أن‬
‫من أبجديات التعريفات المتواترة للتاريخ أنه علم تطور اإلنسان داخل مجتمع ما‪ ،‬يعيش تبدالت وتغيرات نتيجة‬
‫الصراعات الالمنتهية وحاجات البشر التي ال تنقطع‪ ،‬ولم يكن إشباعها إشباعا نهائيا منــذ أن بــدأ الخلــق إلى أن‬
‫تقوم الساعة‪ .‬وال شك أن سعي اإلنسان لتحدي الطبيعة وتحدي التحدي بتعبير أرنولد توينبي مــا تــزال وســتظل‬
‫مقولة تمارس تأثيرها على البشر وعلى حركة التاريخ‪ ،‬خاصة من ناحية التحدي العلمي‪ .‬ومهمة المؤرخ تكمن‬
‫في مالحقة هذه التغييرات وكتابتها انطالقا من المرجعية الوثائقية‪ ،‬وهي مرجعية تتغير باستمرار بفضل ما يتم‬
‫الكشف عنه من وثائق جديدة تعطي مناهج متعددة يغتني بها علم التاريخ‪ ،‬وتعجل بظهور مقوالت جديدة‪ ،‬لكنها‬
‫ليست مقوالت نهائية‪ ،‬بل هي مقوالت تتغير باستمرار ما دام التاريخ يتغير ويسير بإيقاع قــوي‪ ،‬فال معــنى إذن‬
‫لوضع نقطة نهاية لتاريخ تعد كل نقطة فيه بداية مرحلة جديدة‪ ،‬ما دام الجدل يشكل صيرورة مستمرة تعبر عن‬
‫نهاية حقبة لتعلن عن ميالد حقبة أخرى‪ ،‬مصداقا للرؤية القرآنية "وتلك األيام نــداولها بين النــاس" ‪ -‬ســورة آل‬
‫عمران‪ ،‬اآلية ‪ -140‬ومّم ا يؤّك د عــدم مصداقية هــذا االتجــاه أن أيــا من المــؤرخين األمريكــيين الــذين درســوا‬
‫التاريخ األمريكي الحديث والمعاصر‪ ،‬وسبروا غوره لم يصلوا إلى هذه النتيجة غير العلمية‪.‬‬
‫صحيح أن ثمة عالمات تنحت نفسها وتشكل منعطفات حاسمة في مسيرة الزمن‪ ،‬بدءا من هبــوط آدم من الجنــة‬
‫ووقوع الطوفان ومبعث األنبياء‪ ،‬مرورا باكتشاف أمريكــا وظهــور آلــة البخــار‪ ،‬وصــوال إلى الثــورة الفرنســية‬
‫والحربين العالميتين وظهور االنترنيت‪ ،‬وكلها محطات هامة غيرت من وتيرة تاريخ البشــرية‪ ،‬وشــكلت نقطــة‬
‫نهاية عصر وبداية عصر آخر‪ ،‬لكنها لم تشكل نقطة انقطاع في التاريخ‪ .‬وبكلمات أخرى‪ ،‬فــإن هــذه المحطــات‬
‫الحاسمة ال تجسد نقط بداية أو نهاية بقدر ما هي أحداث كبرى وقضايا ثقافية تساهم في فرز نظريــة للمعرفــة‪.1‬‬
‫والتاريخ بهذا المعنى ال يتوقف في كليته أو شموليته‪ ،‬وإنما تتحول بعض الظواهر الجزئية فيه‪ ،‬وهي الظــواهر‬
‫التي عممها فوكوياما‪ ،‬متخيال أنها تؤدي إلى النهاية‪ ،‬متناسيا أن التاريخ حركة كلية ديناميكية متدفقة ومتجــددة‪،‬‬
‫تندرج فيها حركة الكون واألرض واإلنسان والمجال بجميع حيثياته وأبعــاده‪ ،‬منــذ بــدأ الخلــق إلى أن يــرث هللا‬
‫األرض ومن عليها‪ .‬والحاصل أن الجبرية التي يتحدث عنها فوكوياما والحالة اإللزاميــة الــتي يســعى لفرضــها‬
‫على مسار اإلنسانية بهذه الميكانيكيــة العميــاء‪ ،‬لم يحن أوانهــا بعــد‪ ،‬ألنهــا اتخــذت أبعــادا وتــأويالت بعيــدة عن‬
‫المرجعية التاريخية الدقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬تناقض ثنائية التاريخ الكوني والمركزية األوروبيــة‪ :‬إذا كــان فوكويامــا قــد أكــد على أن ثبــات الديموقراطيــة‬
‫الليبرالية هو الطريق الوحيد الذي يجب سلوكه لدخول التاريخ الكــوني‪ ،‬معتــبرا أن كــل المراحــل الســابقة على‬
‫الديموقراطية الليبرالية مراحل ما قبل التاريخ‪ ،‬وبأن بوصول المجتمعات البشرية إلى هذه المرحلة من التــاريخ‬
‫الكوني ينتهي التاريخ‪ ،‬فإنه يناقض نفسه بوضوح في ارتكاز تحليله على البعد المركزي األوروبي‪ ،‬وهو البعــد‬
‫الذي طالما انتقده بشدة إدوارد سعيد‪ .‬وهــذه واحــدة من المآخــذ الــتي تؤاخــذ كــذلك على أطروحتــه حــول نهايــة‬
‫التاريخ‪ .‬فعلى الرغم من أن فالسفة عصر األنوار ومؤرخو الحضارات ورواد التاريخ الجديد الذين جــاءوا من‬
‫بعدهم قد تحدثوا عن التاريخ الكــوني وشــمولية التطــور البشــري‪ ،‬فقــط ظــل هــذا التــاريخ في عالميتــه وتطــور‬
‫سيرورته يخضع للزمن األوروبي‪ ،‬بينما أزمنة المجتمعات األخرى مجرد دوائر تحيط بالمركز‪ ،‬وليس لهـا أي‬
‫تأثير في مجريات تطور اإلنسانية‪ .‬فالتاريخ األوروبي في نظر فوكوياما هو التاريخ الجوهري المستمر‪ ،‬بينمــا‬
‫تواريخ العالم اآلخر مجرد تواريخ سطحية عارضة يمكن القفـز عليهـا‪ ،‬ومن ثم فـإن نهايـة التـاريخ تتجسـد في‬
‫إخضاع األوروبي‪-‬الغربي المنتصر لغــير األوروبي كتــاريخ متخلــف‪ .‬ومن هــذا المنطلــق اتخــذ فوكويامــا من‬
‫التاريخ موقعا متشائما في وجه المجتمعات غير األوروبية‪ ،‬فعنــدما يقــف المفكــر األوروبي في موقــع مــرجعي‬

‫‪ 1‬كولنجورد‪ ،‬فكرة التاريخ‪ ،‬ترحمة محمد خليل ومحمد عبد الوهاب خالف‪ ،‬القاهرة‪ ،1968 ،‬ص‪.33‬‬

‫‪66‬‬
‫غير الذي انطلق منه صاحب أطروحة نهاية التاريخ‪ ،‬فإنه يرى الواقع المعاصر ال من حيث نهايته للتاريخ‪ ،‬بل‬
‫هو استمرار لتاريخ لم ينته بعد بالمعنى الذي يجري وراءه فوكوياما‪ ،‬ألن اإلنسان الثالثي –نسبة للعالم الثــالث‪-‬‬
‫ما تزال تكبله مشكالت عديدة تحول دون وجوده على خط السير نحو الليبرالية الديموقراطية‪.‬‬
‫ـ نهاية مبتورة للتاريخ‪ :‬إذا انطلقنا من المالحظة السابقة التي أوردناها حــول تــوافر مقولــة نهايــة التــاريخ على‬
‫زمــنين أو تــاريخين‪ :‬زمن أوروبــا والغــرب‪ ،‬وزمن المجتمعــات الناميــة أو البعيــدة عن طريــق الليبراليــة‬
‫الديموقراطية‪ ،‬فمن حق الباحث المتفحص أن يتساءل‪ :‬متى ينتهي تاريخ الدول األخرى الــتي لم تتبن الليبراليــة‬
‫منهجا في االقتصاد والسياسة؟ هل ستظل في مراحل ما قبل التاريخ كما يشـير إلى ذلـك فوكويامـا في معـرض‬
‫حديثه عن نهاية عصر اإليديولوجيات الكبرى‪ ،‬أو ال يشكل ذلك تناقضا مع فكرة نهاية التاريخ التي يفترض أن‬
‫تكون كل المشاكل االقتصادية والسياسية والعرقية قد حلت معها؟‬
‫على عكس هذا االتجاه‪ ،‬فإننا نجـد أن الهــوة بين الشـمال والجنــوب والــدول الغنيــة والفقــيرة قـد زادت اتسـاعا‪،‬‬
‫وبرزت القوميات العرقيــة بحـدة في البوسـنة وكوسـوفو وجنــوب الفلــبين وغيرهــا من أرجـاء العــالم‪ ،‬وأصــبح‬
‫التطرف الديني وانتشار اإلرهاب بكل أنواعه يؤكد أن التاريخ لم ينته بقدر ما بدأ‪ .‬ولم تعد تقنعنــا ردود المفكــر‬
‫الياباني وتبريراته بأن أزمة كوسوفا الحالية مهما بلغت مأساويتها اإلنسانية‪ ،‬ال تعــد حــدثا ذا بعــد عــالمي قــادر‬
‫على أن يعدل المؤسسات األساسية بالمّرة‪.‬‬
‫ـ خلل في التحليل التاريخي‪ :‬تشكو نظرية فوكوياما من فقــر واضــح في التحليــل الخــاص بــدور االســتعمار في‬
‫تطور المجتمعات اإلنسانية ودور اإلمبريالية الرأسمالية في التمهيد النتصار الليبرالية واتجــاه بوصــلة التــاريخ‬
‫نحو النهاية‪ ،‬وبذلك أغفل عن عمد أو بدون وعي في تحليله التاريخي أن النظام العـالمي الجديـد الـذي بشـر بـه‬
‫على الصعيد الفكري يضرب بجذوره في عمق التاريخ اإلمبريالي الذي كان في سبيل تسويق فــائض إنتاجــه ال‬
‫يتورع عن استعباد الشعوب وإبادتها‪ .‬وهكذا بإغفال فوكويامــا لهــذا العنصر كمكــون أساســي للتــاريخ الحــديث‬
‫والمعاصر‪ ،‬يكون قد أخطأ في المنهج الذي انطلــق منــه‪ ،‬والمنهج الخــاطئ أصــال‪ ،‬ال يمكن إال أن يفــرز نتيجــة‬
‫خاطئة‪.‬‬
‫ومن المالحظ كذلك أنه أقصى العنصر االقتصادي والقاعدة المادية في تحليل وقائع التاريخ‪ ،‬لينحاز مقابل ذلك‬
‫إلى مقولة الحاجة إلى االعتراف التي صاغها هيجل ضمن منظوره للديموقراطية الليبرالية كزواج بــبين العقــل‬
‫والحرية وضمان للتعددية‪ ،1‬ومعنى ذلك أنــه أغفــل التحليــل الملمــوس للواقــع الملمــوس والعناصــر الفاعلــة في‬
‫التطور التاريخي‪ ،‬مما أسفر عن فراغ في حصيلة التحليل‪.‬‬
‫وبالمثل‪ ،‬يالحظ أن فوكوياما لم يستثمر المعلومات التاريخية المتوافرة عن بعض المجتمعات ذات الخصوصية‬
‫التاريخية مثل المجتمعات اإلسالمية‪ .‬فباستثناء إشارات شاحبة حول إيران فإن كتابه ال يتضمن سوى معطيــات‬
‫هزيلة من تاريخ المجتمعات اإلسالمية ودورها في مسـتقبل الصراع العـالمي وبنـاء المجتمـع الـدولي الجديـد‪،‬‬
‫وهو ما سبق أن أكدته دراسات فكرية سابقة‪ ،‬أو أثاره ولو بكيفية سلبية مفكرون معاصرون من أمثال صــمويل‬
‫هانتجتون‪.‬‬
‫ـ معالجة تفتقر إلى مبادئ علم االقتصاد‪ :‬من المســائل الــتي تثــير االنتبــاه أن فوكويامــا يعــالج في كتابــه قضــايا‬
‫اقتصادية حساسة مثل العمل والشركات واألرباح والبورصات والسوق العالمية والتضخم واالستغالل‪ ،‬ويطلق‬
‫في ذلك أحكاما نهائية ويقينية توحي بأن صاحبها متمـرس في النظريـات االقتصادية‪ ،‬في حين تثبت آراؤه أنـه‬
‫غير متعمق في مبادئ علم االقتصاد‪ ،‬علما بأن القضايا التي يناقشها في امتدادها الزماني والمكاني تتطلب بعدا‬
‫معرفيا اقتصاديا كبيرا‪ ،‬وتستلزم فرق بحث متخصصة في الحقول المعرفية األخرى التي يطرحها‪ ،‬فضــال عن‬
‫امتالك إحصائيات دقيقة متطورة إلثبات صحة ما يذهب إليه‪ .‬ولعل هذا ما جعله يتعرض النتقــادات شــديدة في‬
‫األوساط الثقافية التي أجمعت على افتقاره لهذه العلوم‪ ،‬وربما كان ذلك وراء تأليفه لكتاب ‪ Trust‬الذي لم يسلم‬
‫بدوره من تلك الهنات‪ .‬أما بالنسبة لموضوع التاريخ وهــو الموضــوع األساســي في أطروحتــه‪ ،‬فإنــه لم يالمس‬

‫‪ 1‬حممد شكري سالم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.23:‬‬


‫‪67‬‬
‫منه إال القشور‪ ،‬لذلك حق ألحد الباحثين وصف العمل الذي قدمه في كتابه نهاية التاريخ بأنه خــوض في فلســفة‬
‫التاريخ أكثر منه بحث في مشكالت التاريخ ذاتها‪.‬‬
‫ـ نظرية إسقاطية وقراءة موجهة للتاريخ‪ :‬إن أطروحة فوكوياما هي أطروحة إسقاطية تنطلق من انتماء واضح‬
‫للنموذج األمريكي المسيطر على العالم‪ ،‬ذلك أن تأليف الكتاب ورواجه تزامن مع القطبيــة األمريكيــة وتفردهــا‬
‫بزعامة العالم‪ ،‬وسعيها إلى االستفادة القصوى من تهاوي األنظمة االشتراكية‪ ،‬واستغالل ذلك للمزيد من تعميق‬
‫أزمة الفكر االشتراكي وتحويله إلى فكر جامد أو ميت ال يقدر على تجديد نفسه‪ .‬وبــذلك وضــع فوكويامــا نفســه‬
‫في موقع قبلي مسبق يحاول الدفاع عنه والبحث عن كل المسلكيات التي تؤكــد صــحة توجهــات النظــام الــدولي‬
‫الجديد؛ فهو ينظر إلى منطق األشياء انطالقــا من مرجعيــة معينــة تتمثــل في تحليــل األحــداث والتغــيرات الــتي‬
‫عرفها المجتمع المعاصر من خالل االنتماء إلى النموذج األمريكي المهيمن‪ ،‬فتصبح الليبرالية الديموقراطيــة –‬
‫تبعا لهذا االتجاه‪ -‬ال تناقش انطالقا من بنيتها وعناصرها الداخلية ســلبا وإيجابــا‪ ،‬بــل تتحــول في نظــر صــاحب‬
‫نهاية التاريخ إلى نموذج ناجح ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفــه‪ ،‬مــع إغمــاض العين عن سـلبيات هــذا‬
‫النموذج وتناقضاته الداخلية التي أفرزت مجموعــة من األزمــات العالميــة‪ ،‬خاصــة أزمــة العرقيــات‪ ،‬وضــحايا‬
‫المجاعات والحصار باسم الشرعية الدولية التي أقامها هذا النظام نفسه‪ .‬ناهيك عن نظــرة فوكويامــا إلى النظــام‬
‫الدولي الجديد على أساس مادي بمعزل عن األساس الروحي الذي أصــبح يغــرق هــو اآلخــر في أوحــال أزمــة‬
‫خانقة‪ ،‬علما بأن التقدم المادي ألي نظام هو مسلك خــادع على حــد تعبــير مــؤرخ الحضــارات أرنولــد توينــبي؛‬
‫وهكذا تكون قراءة فوكوياما للنظام الدولي الجديد قراءة موجهة‪ ،‬وتحليقاتــه في فضــاء النظــام الجديــد تحليقــات‬
‫عرجاء وتخريجات إسقاطية مبنية على مواقف قبلية موجهة‪.‬‬
‫ـ أطروحة فكرية في خدمة السياسة األمريكية‪ :‬تنطلق أطروحة فوكوياما من إيديولوجيــة تبناهــا النظــام الــدولي‬
‫في ظروف جديدة حتمت عليه الدخول في ترتيبات جديدة بعد انهيار المعسكر االشتراكي ودخول العالم منعطفا‬
‫جديدا‪ .‬ومعلوم أن كل نظام جديد يمثل منظومة فكرية متكاملة ال بد أن يستند على رؤية معرفية وغطاء فكــري‬
‫يبرراه ويروجان لديمومته‪ ،‬وهذا ما يفسر بروز مجموعة من النظريات التي صاحبت هذا التحول‪ ،‬من أكثرهــا‬
‫شيوعا نظرية صموئيل هانتجتون القائلة بصدام الحضارات‪ ،‬ونظرية ما بعد الحداثة ونظرية تســارع التــاريخ‪،‬‬
‫وكلها نظريات روجت لفكرة الليبراليــة الديموقراطيــة وحتميــة ســيادتها في النظــام الــدولي الجديــد‪ .‬ولم تخــرج‬
‫نظرية فوكوياما عن هذا المسار‪ ،‬إذا اتخذت على عاتقها مسؤولية الترويج لفكرة اإلجماع العالمي حــول مســألة‬
‫الديموقراطية وااللتفــاف حـول النظــام الليــبرالي كحـل نهــائي تنشـده اإلنسـانية‪ ،‬وبــذلك انتهت الحـرب البــاردة‬
‫ومسألة الصراع اإليديولوجي لينتهي معها التاريخ‪ .‬وهكذا يصبح فوكوياما مجرد أداة يستخدمها النظــام الــدولي‬
‫الجديد وبوق دعاية لهذا النظام في مرحلته التأسيسية‪ ،‬وتتحول نظريته من نظريــة فلســفية إلى خطــاب سياســي‬
‫إيديولوجي يبشر بأبدية الرأسمالية في ثوبها الجديد‪ ،‬وانتفاء إمكانية مناهضتها بســبب قــوة المنتصر وديمومتــه‬
‫وهزمــه النهــائي لنقيضــه‪ ،‬وبالتــالي فــإن نهايــة التــاريخ تعــني بالضــرورة نهايــة السياســة كمــا تعــني نهايــة‬
‫اإليديولوجية‪ ،‬ألن التناقض لم يصبح حقيقة قائمة‪.1‬‬
‫ـ نقطة الضعف المعترف بهــا في األطروحــة‪ :‬رغم إصــرار فوكويامــا على صــحة أفكــاره ودفاعــه المتواصــل‬
‫عنها‪ ،‬لم يجد مناصا من االعتراف بما أجمع عليــه النقــاد حــول نقطــة ضــعف أطروحتــه‪ ،‬وهي أن التــاريخ لن‬
‫ينتهي ما دامت العلوم الطبيعية المعاصرة لم تبلغ غايتها ونهايتها بعد‪ ،‬وأنه ال يمكن وضع حد للعلم‪ ،‬والعلم هــو‬
‫وحده الذي يقوم الصيرورة التاريخية‪ .‬وبالتالي فإن التاريخ لن ينتهي في مجتمع ال يزال ينتج العلوم‪ ،‬بل إنــه –‬
‫باعتراف فوكوياما نفسه‪ -‬تشكل اللحظة الراهنة زمنا متميزا تعرف خالله البشرية صحوة تكنولوجيــة وتجديــدا‬

‫‪ 1‬فيصل الدراج‪ ،‬النظام الدولي الجدي د وإي ديولوجيا نهاي ة الت اريخ‪ ،‬مجلة الطري ق‪ ،‬يوليــوز‪-‬غشــت ‪،1995‬‬
‫محمد وقيدي‪( ،‬التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد)‪ ،‬مجلة فكر ونقد‪ ، ،‬مارس ‪.1998‬‬

‫‪68‬‬
‫هائال في شتى علوم الحياة‪ ،‬مما يشي ببداية تاريخ جديــد سيســتمر بعطــاءات إنســانية جديــدة وإبــداعات بشــرية‬
‫خالقة بدل أن يكون نهاية حتمية مزعومة‪.‬‬
‫وختاما ماذا عن الكتاب نفسه الذي يحمل في ثناياه فكرة نهاية التاريخ؟‬
‫ـ كوكتيل يفتقر لطعم موحد‪ :‬هكذا يمكن وصف كتاب فوكوياما الذي ضمنه مقولته الشهيرة حول نهاية التاريخ‪،‬‬
‫فموضوعات الكتاب تتقاسمها مجموعــة من الفضــاءات المعرفيــة المختلطــة‪ ،‬المفتقــرة إلى التنظيم وإلى انعــدام‬
‫خيط رابط يجمع بينها‪ ،‬وعناوين غريبة قد تقفز بالقارئ أحيانا إلى جزر من الخيال‪ ،‬وإلى عالم غير عالم الكرة‬
‫األرضية‪ .‬أما الفصول فتحمل قضايا معقــدة ال تمت بصلة إلى موضــوع األطروحــة وهــو نهايــة التــاريخ‪ ،‬وال‬
‫ترتبط بدراسات تاريخية بمعنى الكلمة‪ .‬إنها موضــوعات كوكتيليــة تتــداخل فيهــا الفلسـفة واالقتصاد والسياسـة‬
‫والمجتمع والبيئة والتربية والحقوق والديموغرافيا‪ ،‬دونما حاجة علمية إلى هذا التداخل‪ .‬كما أنهــا تتيــه بالقــارئ‬
‫في أزمان سحيقة تتسع رقعتها لتشـمل الـزمن القـديم والوسـيط لتصل بـه إلى عصر العولمـة‪ ،‬دون تـدقيق في‬
‫األمور التي تستحق التدقيق‪ .‬وداخل هــذا الكوكتيــل المتأللئ‪ ،‬يحــاول القــارئ أن يمســك بموضــوع األطروحــة‬
‫ليجده سمكة في الماء يصعب قبضها بإحكام‪ .‬إننا أمام مشهد يبدو أن صاحبه تعمـد رسـمه بهـذه الصورة تجنبـا‬
‫إلبراز عثراته أو تمويها على القارئ بأنه مثقف موسوعي‪ ،‬يمتلك من نبوغ الفكر وعبقريــة التحليــل مــا يجعلــه‬
‫أهال لحل اإلشكاليات الدولية بقدرة قادر‪.‬‬
‫بيد أن المتأمل للنتائج التي خرج بها صاحب الكتاب‪ ،‬ال يجد فيها أي جديد‪ ،‬فكل ما ذكــره هــو تكــرار ممــل لمــا‬
‫طــرح في ســوق الثقافــة الرأســمالية االســتهالكية منــذ أمــد بعيــد‪ ،‬واجــترار لمــا قتــل بحثــا ودراســة من طــرف‬
‫المؤرخين والفالسفة‪.‬‬
‫قصارى القول إن نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ بقدر ما هي قضية فكرية جريئة ومثيرة للجدل والنقاش‪،‬‬
‫فإنها ال تستند على مقومات علمية دقيقة البتعاد صاحبها عن القاعدة الثابتة التي تشــكل منطلــق المــؤرخ‪ ،‬وهي‬
‫النزاهــة والموضــوعية‪ .‬أمــا وقــد ســقط في شــباك التحــيز حين وضــع فكرتــه في خدمــة السياســة األمريكيــة‬
‫الرأسمالية‪ ،‬وصاغ أفكاره بروح انبهارية تحت نشوة انتصار النظام الدولي الجديد‪ ،‬فـإن هـذا التوجـه المهنـدس‬
‫سلفا‪ ،‬جره إلى السباحة في عالم تخيل فيه أن التاريخ قد انتهى وأغلق أبوابه بعد انتهاء الحرب الباردة‪ ،‬متناســيا‬
‫أن بوادر تكتالت سياسية أخرى بدأت تطفو مالمحها مع كل من روسيا والصين والهند‪ ،‬كما أن أوروبــا نفســها‬
‫بــدأت تعلن عــدم انصياعها لنظــام العولمــة الجديــد‪ ،‬دون أن ننســى أن القــوى التحرريــة اإلســالمية بــدأت في‬
‫االنتفاض والتفكير في تكتالت إقليمية وجهوية‪ ،‬وتطمح ليكون لها موقــع قــدم في خارطــة القــوى المــؤثرة رغم‬
‫هيمنة الغرب‪ .‬ومن ثم فإن ظهور أطروحة نهاية التاريخ في عصر ما‪ ،‬ليس سوى عالمــة على مخــاض الفكــر‬
‫الذي يدشن تأمله في حقبة جديدة تصبح البداية وليست النهاية‪..‬‬
‫‪ -2‬صمويل هنتغتون‪ :‬أطروحة صدام الحضارات‬
‫‪ -1‬الفكرة المحورية المحركة ألطروحة صدام الحضارات لهنتغتون‪ :‬إن البؤرة المحورية المحركة ألطروحــة‬
‫صدام الحضارات هي تبني هنتغتون الصريح لفكرة اعتبار الحضارة والثقافة العامل الجديــد الــذي ســيتحكم في‬
‫صيرورة العالقـات الدوليـة‪ ،‬وبالتـالي فاالنقسـامات الكـبرى في العـالم سـتكون حضـارية تتصادم في إطارهـا‬
‫مجموعة من الكتل الحضارية المنسجمة والمتنافسة فيما بينها‪ ،‬فالحضـارة باعتبارهـا أرقى أشـكال التعبـير عن‬
‫الهوية سيكون لها دور فعال خالل القرن المقبل‪ ،‬ويعرف هانتغتون الحضارة باعتبارها كيانا ثقافيا واسعا يمثل‬
‫أوسع مستويات الهوية‪ ،‬فهي أعلى تجمع ثقــافي للنــاس وأوســع مســتوى من الهويــة الثقافيــة للشــعب‪ .‬ويبــدو أن‬
‫هنتغتون ال يميز وال يفصل بين مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة‪ ،‬ويسـتعملهما في كثــير من األحيــان كمــرادفين‬
‫لذلك‪ ،‬فالصراع الحضاري عند هنتغتون هــو محــور السياســات العالميــة وهــو المتحكم في مجريــات العالقــات‬
‫الدولية‪ ،‬حيث يطرح العامل الثقافي كمبــدأ محــرك للجيوسياســية إال أن الســؤال الــذي يطــرح هنــا هــو عن أي‬
‫حضارات يتحدث هنتغتون (مطلب أول)؟ وما هي أسباب هذا الصراع (مطلب ثاني)؟‬
‫أ‪ -‬أنواع الحضـارات عنـد هـانتغتون‪ :‬لقـد قسـم هنتغتـون الحضـارات الكـبرى الحاليـة إلى ثمـاني حضـارات‬
‫ومعيار الفصل بينها هو الدين‪ ،‬وهي على التوالي‪ :‬الحضارة الغربية ‪ -‬الحضارة الصينية ‪ -‬الحضارة اليابانية ‪-‬‬
‫‪69‬‬
‫الحضارة اإلسالمية ‪ -‬الحضارة الهندية ‪-‬الحضــارة األرثوذكســية ‪-‬الحضــارة األمريكيــة الالتينيــة ‪ -‬الحضــارة‬
‫اإلفريقية غير أن هانتغتون قد حدد خصائص كل حضارة على حدى وهذا ما سنتطرق إليه كما يلي‪:‬‬
‫ب‪ -‬مميزات الحضارة في أطروحة صدام الحضارات‪ :‬إن تحديد مميزات كل حضــارة على حــدى يســتوجب‬
‫الوقوف على مميزات وخصائص هـذه الحضـارات‪ ،‬ولعـل التقسـيم الـذي أورده هـانتغتون فيمـا يخص تحديـد‬
‫خصائص هذه الحضارات قائم على الشكل التالي‪:‬‬
‫الحضارة الغربية‪ :‬تؤرخ عادة على أنساق برزت منذ ‪ 700‬سنة قبــل الميالد‪ ،‬وغالبــا مــا ينظــر إليهــا على أنهــا‬
‫متواجدة في أوروبا وأمريكا الالتينية وأمريكا الشمالية‪.‬وحسب هنتغتون أن هناك سمات ينفــرد بهــا الغــرب عن‬
‫الحضارات األخرى وهي الميراث الكالسيكي من الفلســفة اليونانيــة والرومانيــة والكاثوليكيــة والبروتســتانتية‪،‬‬
‫وفي عدد اللغة وكذا فصل السلطة الدينية عن الدنيوية وسيادة القانون والتعددية االجتماعية والفردية‪.‬‬
‫الحضـارة الصينية‪ :‬يعـود تاريخهـا إلى ‪ 1500‬سـنة قبـل الميالد على األقـل‪ ،‬وقـد أطلـق عليهـا هنتغتـون اسـم‬
‫الحضارة الكزنفوشوسية‪ ،‬غير أنــه يعــود ويقــول أنــه إذا كــانت الكزنفوشوسـية مركبــا رئيسـيا من الحضــارات‬
‫الصينية فالحضارة الصينية هي أكــثر من كونفوشوسـية‪ ،‬وهي تتعــدى حـدود الصين ككيــان سياسـي‪ ،‬لتشـمل‬
‫جنوب شرق آسيا وكذلك الثقافات القريبة من الصين والفيتنام وكوريا‪.‬‬
‫الحضارة اليابانية‪ :‬يرجع هنتغتون تاريخ ظهورها إلى ‪ 400‬سنة قبــل الميالد وهــو بــذلك ال يســلم بــآراء بعض‬
‫العلماء الذين يقولون لوجود معالم ثقافية واحدة تجمع بين الثقافة اليابانية والصينية‪.‬‬
‫الحضارة اإلسالمية‪ :‬برزت هذه الحضارة في شــبه الجزيــرة العربيــة في القــرن الســابع الميالدي‪ ،‬وقــد انتشــر‬
‫اإلسالم بسرعة عبر شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية‪ ،‬وكذا وسط آسيا وشبه القارة الهنديــة وجنــوب شــرق‬
‫آسيا‪.‬‬
‫الحضارة الهندية‪ :‬وجدت في شبه القارة الهندية منذ ‪ 1500‬سـنة قبـل الميالد وقـد اعتـبرت الهندوسـية الثقافـة‬
‫األساسية في شبه القارة من األلــف الثانيــة بعــد الميالد‪ ،‬وهي صــلب الحضــارة الهنديــة على الــرغم من وجــود‬
‫جماعات مسلمة ذات أهمية‪.‬‬
‫الحضارة األرثودوكسية‪ :‬تمركزت هـذه الحضـارة بخصوصـياتها في روسـيا كـدين منفـرد بعـد ‪ 200‬سـنة من‬
‫الحكم التتاري واالستبدادية الشرقية وعدم االحتكاك بالحضارة الغربية وعصر التنوير‪.‬‬
‫حضارة أمريكا الالتينية‪ :‬على الرغم على أن هذه الحضارة وليدة الحضارة األوروبية إال أنها تطورت وسلكت‬
‫طريقا مختلفا جدا عن أمريكا وأوروبــا الرأســمالية وصــارت لهــا ثقافــة "كوروبوريتاريــة" وتســلطية والــتي ال‬
‫توجد منها في أوروبا وأمريكا الشمالية‪.‬‬
‫الحضارة األفريقية‪ :‬يقول هنتغتون أن معظم الحضارات ال يعــترفون بوجــود حضــارة إفريقيــة متمــيزة‪ ،‬فهي‬
‫مزيج من الحضارات اإلسالمية والغربية غير أنه يرى أن إفريقيا قد طورت نوعا من الحصرية اإلفريقية بمـا‬
‫يؤهلها أن تصنف كحضارة بذاتها‪.‬‬
‫وبعد تصنيف الحضارات يرى هنتغتون أنه تمام الحضــارات ســتكون هنــاك عالقــة عدائيــة وعالقــات ســتكون‬
‫عرضة للصراعات أكثر من األخرى‪.‬‬
‫ج‪ -‬مستويات الصراع بين الثقافات‪ :‬إّن الصراع بين الحضارات عند هنتغتون يتخذ مستويين اثنين‪:‬‬
‫المستوى الجزئي اإلقليمي‪ :‬فأكثر خطوط الصدع عندما تكــون بين اإلســالم وجيرانــه األردثــوكس والهنــدوس‬
‫واألفارقة والمسيحيين والغرب‪.‬‬
‫المستوى الكلي العام‪ :‬يكون بين الغرب والشرق أي بين الحضارات الغربية والحضارات غير الغربية‪.‬‬
‫وقد صنف هنتغتون طبيعة العالقة بين الغرب والحضارات األخرى في ثالث دوائر‪ ،‬متخذا العداء أساسا‬
‫للتصنيف‪:‬‬
‫الحضارات المتحدية‪ :‬وهما حضارتا اإلسالم والكونفوشوسية الصينية‪.‬‬
‫الحضارات المتأرجحة‪ :‬وهي الروسية واليابانية والهندوسية‪ ،‬وتكون عالقاتها مع الغرب عالقات تعاونية تــارة‬
‫وصراعية تارة أخرى‪ ،‬فالّد ول الثالث تقف مع الحضارات األخرى ومع الغرب في أوقات أخرى‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫الحضارات الضعيفة‪ :‬وتتمثل في أمريكا الالتينية وإفريقيا‪.‬‬
‫‪ -2‬أسباب الصدام الحضاري في أطروحة هانتغتون‪ :‬يرى هنتغتون اعتمــادا على مفــاهيم سوســيولوجيا العلــوم‬
‫لدى طوماس كون‪ ،‬أنه بعد نهاية الحرب الباردة‪ ،‬أصبحت هناك حاجة ملحة إلرساء براديغم جديد يســاعد على‬
‫إدراك وتفسير التحوالت الكبرى التي يعيشها العالم‪ ،‬لذلك فبراديغم الحضارات هو أفضل نموذج إرشــادي لفهم‬
‫األحداث المهمة في العالم فاالنقسام الحضاري يعتبره هنتغتون عامال مهما في تحديد طبيعة النزاعــات القادمــة‬
‫فهو يورد مجموعة من العوامل التي تبرر أسباب وبواعث هذا الصدام ومن بينها‪:‬‬
‫‪ -‬االختالفــات بين الحضــارات هي اختالفــات حقيقيــة وأساســية‪ ،‬فالحضــارة هي أقــوى الهويــات والتمــيزات‬
‫الحضارية هي أكثر حدة من التميزات اإليديولوجية والسياسية‪.‬‬
‫‪ -‬كثافة التفاعالت واالحتكاكات بين الحضارات أدى إلى تنامي الوعي الحضاري وإدراك االختالفات‬
‫العميقة والشعور باالنتماء الحضاري المشترك‪.‬‬
‫‪ -‬صعود النزعــة اإلقليميــة االقتصادية على شـكل كتــل جهويــة اقتصادية وتمت عالقـة تفاعليــة بين االنـدماج‬
‫االقتصادي وواقع االنسجام الثقافي‪ ،‬فالجهوية االقتصادية ستدعم الوعي الحضــاري وســتكون أكــثر فعاليــةكلما‬
‫كان هناك تقارب ثقافي أكبر‬
‫إّن هذه الممّيزات واالختالفات الثقافية عند هنتغتون غير قابلــة للتغيــير والتحـول وغــير قابلــة أيضــا للتسـويات‬
‫على عكس االختالفات السياسية وااليديولوجية‪.‬‬
‫أ‪ -‬نزعة الثقافة في أطروحة صدام الحضارات‪:‬‬
‫إن للبعــد الثقــافي دور مهم إن بإمكانــه إعــادة خلــق مختلــف التوازنــات الجيوسياســية العالميــة ويمنحهــا أبعــاد‬
‫جديــدة‪ ،‬بفضــل امتالكــه لقــوة حيويــة قــد توجــه نحــو حركــات اندماجيــة وتعبويــة (التكتالت الثقافيــة أو‬
‫االقتصادية) أو نحــو حركــات تفكيكيــة على مســتوى الكيــان الوطــني أو على المســتوى الــدولي‪ ،‬ولهــذا‬
‫اعتمـــد هنتغتـــون على هـــذا البعـــد لتحليـــل الـــدور األساســـي للثقافـــات والمعتقـــدات في فهم التحـــوالت‬
‫الجيوسياســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية العالميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‪.‬‬
‫إن أطروحــة صــدام الحضــارات تحــذر الغــرب من مغبــة الوقــوع في وهم الهيمنــة الثقافيــة الكونيــة على‬
‫الحضـــارات األخــرى الـــتي ال يمكن لهـــا أن تنـــدمج في النســيج الحضـــاري للغـــرب حــتى لـــو اســتهلكت‬
‫البضــائع الغربيــة وشــاهدت األفالم األمريكيــة فــروح أي كيــان هي اللغــة‪ ،‬والــدين والقيم وهــذا مــا يحتم‬
‫على الغرب تنمية قوة حضارته وانسجامه في مواجهة الحضارات األخرى‪.‬‬
‫ب‪ -‬الفكــــــــــــــرة الخاطئــــــــــــــة لــــــــــــــدي الغــــــــــــــرب في صــــــــــــــدام الحضــــــــــــــارات‪:‬‬
‫يعتقد هنتغتون بأن العالقــات الدوليــــة لم تعــد في الــوقت الراهــــن مجــاال خاصــا للــدول الغربيــــة فحضــارات‬
‫أخـرى ستصبح فاعلة ومهيمنـــة في معترك المنتظم الدولـــي‪ ،‬وذلك ألن نهايـــة هــذا القــرن ســتعرف صــعود‬
‫حضــــــــــــــــارات منافســــــــــــــــة للغــــــــــــــــرب بعالميــــــــــــــــة قيمــــــــــــــــه ومبادئــــــــــــــــه‪.‬‬
‫ويفند هنتغتون الفكرة الخاطئة الشائعــة فــي الغرب حاليا وفي الواليات المتحدة األمريكيــة بشكل خاص‪ ،‬التي‬
‫مفادها أن العالم برمته يسير نحو ثقافــة عالميــة شاملة منسجمـــة بقيادة العالم الغربي وعكس ذلك يدافع بشكل‬
‫مثير أن الغرب فريد وليس كوني ويدعم فكرته بمجموعة من الدالئل ولعل أبرزها أنه رغم استعمارالكوكاكوال‬
‫في جل أقطار العالم ورغــــم شرب الروس مثال كوكاكوال ال يجعلهـــم ذلك يفكرون مثل األمريكيين ورغم أن‬
‫بعض الشبـــاب في الشرق األوســط يلبسون سراويل الجينز ويسمعـــون موسيقى "الراب" قد يفجرون طــائرة‬
‫أمريكية‪ ،‬الشيء الذي جعل هنتغتون يعتبر الحضارة الغربيــة حضارة فريدة وليست كونية وإلدراك هذا الخلل‬
‫يدعوا إلى ضرورة تحقيق هذا االنسجام بين مختلف الحضارات والعمل على نشر الثقافة الغربية‪.‬‬
‫‪ -3‬مبررات هنتغتون لسوء العالقة بين الحضارة اإلسالمية والحضارات األخــرى‪ :‬يــرى هنتغتــون أن صــراع‬
‫القرن العشرين بين الليبراليين والماركسيين ظاهرة سطحية زائلة مقارنـــة بالعالقـة المتصارعـــة العميقـة بين‬
‫اإلسالم والحضارات األخرى‪ ،‬ويرجع هنتغتون أسباب هذا الصراع إلى عدة عوامل أهمها‪:‬‬

‫‪71‬‬
‫‪ -‬النمــــــــــــــــــــــــــــو الســــــــــــــــــــــــــــكاني المتزايــــــــــــــــــــــــــــد للمســــــــــــــــــــــــــــلمين‪.‬‬
‫‪ -‬جهـــود الغـــرب في جعـــل ثقـــافتهم عالميـــة ومؤسســـاتهم مســـيطرة والمحافظـــة على تفـــوقهم العســـكري‪.‬‬
‫‪ -‬اإلحيــــــــــــــاء اإلســــــــــــــالمي أعطى للمســــــــــــــلمين الثقــــــــــــــة في حضــــــــــــــارتهم وقيمهم‪.‬‬
‫إن هذه العوامل هي التي تبرر لهنتغتون أسباب الصراع بين اإلسالم والحضارات األخرى لها منحنى وطبيعــة‬
‫خاصة‪ ،‬والسؤال ما هو طبيعة هذا الصراع؟ وما هو موقع كل من الحضارة اإلسالمية والغربيــة في أطروحــة‬
‫صدام الحضارات؟‬
‫‪ -4‬طبيعة العالقة بين الحضارتين اإلسالمية والغربية‪:‬‬
‫يقول هنتغتون حول هذه النقطة أن "‪ 14‬قرنا‪...‬أثبتت أن العالقة بيـن اإلسالم والمسيحية كانت غالبــا عاصفــــة‬
‫ودمويــة كل واحد نقيضا لآلخر"‪ .‬ويستشهد بذلك بمقولــة المستشرق "برنارد لويـــس" حول أن اإلسالم هـــو‬
‫الحضارة الوحيدة التي وضعت الغرب في شك‪ ،‬وعلى هذا تنبع أسباب هذا النمط مـن الصراع‪ ،‬فالمسلـــم الذي‬
‫يرى بأن اإلسالم منهـج حياة يوحد الديــن والسياســة ضد المفهوم الغربــي المسيحــي الذي يفصل الدين عـــن‬
‫السياسة‪ ،‬كما أن الصراع في نظر هنتغتون ينشأ بينهما من خالل تشابههما‪ ،‬إن كل منهما يؤمن باهلل وكل منهما‬
‫يدعي أنه يملك اإليمان الحقيقي الذي يجب أن يسود في العالم ‪.‬‬
‫أ‪ -‬موقع الغرب في نظرية هنتغتون‪:‬‬
‫يرى هنتغتون أن القرن الواحـد والعشرين مــن المحتمل أن يطبعــه انبعاث مستمر لقوى وثقافات غير غربيــة‬
‫والصدام الذي سيكون‪ ،‬سيحدث بين حضارات غربية وحضارات غير غربية‪ ،‬ولن تكون فيــه الهيمنة للغرب‪،‬‬
‫ذلـــــــــــــك أنـــــــــــــه ســـــــــــــيكون متعـــــــــــــدد األقطـــــــــــــاب ومتعـــــــــــــدد الحضـــــــــــــارات‪.‬‬
‫فعلى المدى القريب وعلى المستوى العسكري يدعـو هنتغتون إلى عدم االنخداع بالهدوء واالسترخاء الذي ساد‬
‫جبهات الصراع بعد الحرب الباردة‪ ،‬وبالتالي التراجع عن سياسة تخفيض القدرات العسكرية الغربيــة والحفاظ‬
‫على التفوق العسكري‪ ،‬وفي نفس الوقت السعي نحـو الحـد من األسـلحة وتصنيعها لـدى الـدول غـير الغربيـة‪.‬‬
‫فمشكلـة التفكك الثقافي في نظر هنتغتون لها مضاعفات على الموقع االستراتيجي للواليات المتحدة األمريكيــة‬
‫كقوة عظمى وعلى مصالحها الحيويـة في العالم‪ ،‬أمــا على المستوى البعيد فال بد أن يبادر الغرب إلى معرفــــة‬
‫الحضارات األخرى معرفة جيدة قصد التعرف على المبادئ والعوامل المشتركــة التي يمكــن أن تشكل أساس‬
‫للتفـــــــــــــــــــاهم والتعـــــــــــــــــــايش بين الغـــــــــــــــــــرب وبـــــــــــــــــــاقي الحضـــــــــــــــــــارات‪.‬‬
‫إن قوة الغرب من وجهة نظر هنتنغتون ستحدد مستقبال من خالل قدرته على مواجهـة هذه االختالفات وتأكيـــد‬
‫تماسكه الثقافي واألخالقي وإال سيكون مصيره االنهيار والتراجع‪.‬‬

‫ب‪ -‬أسباب العنف اإلسالمي كما يراه هنتغتون‪:‬‬


‫أوال‪ :‬اإلسالم يمجد القتال وقد انتشر بالسيف‪ ،‬ونبى اإلسالم محمد صلى هللا علية وسلم كان مقاتال وقائدا سكريا‬
‫ماهرا‪ .‬ثانيا‪ :‬تعاليم اإلسالم تنادى بقتال غير المؤمنيــن‪ ،‬كمــا أن مفهوم الالعنف غائب عن الفكر والممارســة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬وكان يقول جيمس باينى‪ :‬من الواضح جدا أن هناك صلة بين اإلسالم وسياسة االستعداد العســكري‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أنتشار اإلسالم وضع المسلمين في احتكاك مباشـر مــع شعوب مختلفــة‪ ،‬وظل ميراث هذه االحتكاكـــــات‬
‫موجودا‪ .‬رابعا‪ :‬عند المسلمين عدم القابلية لهضـــم غير المسلميـــن‪ ،‬وهي لها وجهان‪ ،‬الدول اإلســالمية لهــــــا‬
‫مشــكالت مــع األقليــات غــير المســلمة‪ ،‬وكــذلك الحــال بالنســبة لألقليــات المســلمة في الــدول غــير اإلســالمية‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬اإلسالم عقيدة مستبدة أكثر من المسيحية‪ ،‬يمزج بين الدين والسياسة ويضع حدا فاصال بين دار اإلســالم‬
‫ودار الحرب‪ .‬سادسا‪ :‬االنفجار السكانى والفقـر والفســاد واالستبداد فـــي الدول اإلسالمية‪ .‬سابعا‪:‬عبر العالـــــم‬
‫اإلسالمي‪ ،‬خاصة فيما بين العرب‪ ،‬يوجد احساس قوى من الحزن واالستياء والحسـد والعدوانية تجـــاه الغرب‬
‫وثروتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وقوتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه وثقافتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه‪.‬‬
‫هذا تلخيص مختصر لرؤية عالم السياسة األمريكي الراحل صأمويل هنتنغتون والذي وصفه تلميذه النابه فريــد‬
‫زكريا في مقالة له بصحيفة الواشنطن بوست بتاريخ ‪ 24‬ينايــر ‪ 2009‬بأّنــه صاحب بصيرة وصاحب مبادئ‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫وقال زكريا " لم ارى صامويل هنتنجتون يفعل أى شيء مخادع أو شرير أو يضحى بمبادئـه من أجل الســلطة‬
‫أو التقرب منها أو المنفعة‪ .‬لقد عاش وفقا لمبادئ األنجلو بروتستانت التي تمسك بها‪ :‬االجتهاد واالمانة والعــدل‬
‫والشـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجاعة والـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوالء والوطنيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة"‪.‬‬
‫عاش صأمويل هنتنجتون ‪ 81‬عاما منها ‪ 58‬عاما يدرس لطلبتـه العلوم السياسيــة والعالقات الدوليـة بجامعـــة‬
‫هارفارد منذ أن كان عمره ‪ 23‬عاما‪ ،‬حيث تخرج من جامعة ييل العريقة وعمره ‪18‬عام ‪ ،‬والف وشارك فـــي‬
‫تأليف ‪ 17‬كتابا و‪ 90‬مقاال علميا‪ .‬ورغم علمــه الغزيــر لم تــأت شــهرته إال من كتابــه صــدام الحضــارات الــذي‬
‫ترجم إلى ‪ 39‬لغة‪.‬‬
‫‪ -5‬معالجة الفراغ االستراتيجي في صدام الحضارات‪:‬‬
‫إن نظرية صراع الحضارات أعادت االعتبار للبعد الثقافي في العالقات الدولية‪ ،‬وقد تأكدت هذه الحقيقــة أثنــاء‬
‫نزاع الواليات المتحدة مع العراق وأفغانستان وايران وفلسطين الخ والذي لم يرافقه أية محاولــة لفهم مشــكالت‬
‫العالم اإلسالمي‪ ،‬بل تأكد أن الثقافة هي من المصادر المهمة للصراع الدولي على الرغم من أنها ليست العامــل‬
‫الوحيد للصراعات الدائرة في العالم إن األمر هنا ال يتعلق إال بمحاولة من طرف هنتغتون لمنح حيويــة جديــدة‬
‫للعالم تستجيب للحاجة الملحة لضرورة تواجد األعداء حتى ال يتكون الفراغ االستراتيجي العميق لدى الغــرب‪،‬‬
‫هذه اإلشكالية تدعونا إلى التساؤل عن األهداف االستراتيجية لهذه األطروحة‪.‬‬
‫أ‪ -‬األهداف االستراتيجية لألطروحة‪:‬‬
‫من خالل دراسة أطروحة صدام الحضارات يتبيـن بكل وضوح أن هنتغتون حاول ملء الفراغ االستراتيجـــي‬
‫والفكري قصد توجيه صانعي السياسـة األمريكيـــة ومنــح نوع من التماسك واالنسجــام للسياســة الخارجيـــة‬
‫األمريكيــــــــــــــــة وضــــــــــــــــمان مصالحها وقوتهــــــــــــــــا عــــــــــــــــبر العــــــــــــــــالم‪.‬‬
‫فأطروحة صدام الحضارات بمحاولتها تشخيص واقع الصراع العالمي الراهن‪ ،‬وآفاقــه المحتملـــة على المدى‬
‫المتوسط والبعيد تسعى إلى تدعيم مناطق نفوذ الواليات المتحدة األمريكية وإشعاع السياسة الخارجية بموازيـن‬
‫القوى الجديدة في العالقات الدولية‪ .‬فهي محاولة لصياغة دور استراتيجــي جديد للواليات المتحدة األمريكيـــــة‬
‫لفترة مـا بعـد الحـرب البـاردة يالئم ويتوافـق مـع مصالحها القوميـة ويسـتجيب للمتغـيرات الدوليـة الجذريـة‪.‬‬
‫وبناءا على هذه الخلفية السياسية والفكريــة لصامويل هنتغتون كانت أطروحتــه محط انتقادات كبيرة مــن لدن‬
‫العديــــــــــــــــــــــــــد من المفكــــــــــــــــــــــــــرين العــــــــــــــــــــــــــرب والغربــــــــــــــــــــــــــيين‬
‫ب‪ -‬االنتقــــــــــــــــــــــــادات الموجهــــــــــــــــــــــــة ألطروحــــــــــــــــــــــــة هنتغتــــــــــــــــــــــــون‪:‬‬
‫لقد القت نظرية صدام الحضارات جملة من االنتقادات سواء لدى مفكريـــن غربيين أو عرب وهـــي انتقادات‬
‫قائمة على أساس مرجعية كل مفكر الدينية وحتى الفلسفية ومن بيـن هؤالء المفكريــن نجد األستاذ محمــد عابد‬
‫الجابري في كتابة وجهة نظر في القضايا المعاصرة الذي وصف خطاب صدام الحضارات على أنه ليس وليـد‬
‫العقد األخير لكن له جذورا فــي كتابــات بعض المفكريـــــن واألكاديمييـــــن ســواء في الشــرق أم فـــي الغــرب‪،‬‬
‫وهو إحدى دعائم االستراتيجية األمريكية‪ ،‬وكل ما فعله هنتغتون هو أنه أعــاد إنتاج هذه األفكار فـــــي صيــــغ‬
‫جديدة ألشكال جديدة مـن الصراعــات‪ .‬وكذلك انتقادات المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد والــتي نشــرتها مجلــــة‬
‫الكرمــــــــــل الثقافيــــــــــة عــــــــــام ‪ 1997‬ومن هــــــــــذه االنتقــــــــــادات الكثــــــــــيرة التــــــــــالي‪:‬‬
‫‪ -‬غياب المنهجية العلمية في تصنيف الحضارات‪ ،‬فلم يلتزم هنتغتون في تصنيف الحضارات على معيار واحد‬
‫فتارة نجده يقيم تصنيفه على أساس جغرافي –الحضارة الغربية‪ -‬وتارة على أساس دينـي‪-‬الحضارة اإلسالمية‪-‬‬
‫وتــــــــــــارة أخــــــــــــرى على أســــــــــــاس اســــــــــــم البلــــــــــــد‪-‬الحضــــــــــــارة اليابانيــــــــــــة‪-.‬‬
‫‪ -‬هناك من يقول أنه ال يوجد صراع بين الحضارات في عالمنا في إطار العولمة الحضارية الرأسماليـة‪ ،‬فليس‬
‫هناك صراع حضاري بين أمريكا واليابان رغم اختالفهما الحضاري الكامل تاريخيا‪ ،‬بل يوجد صراع تجاري‬
‫حاد‪ ،‬حتى لو اتخذ مظهرا قوميا أو إيديولوجيا فالصراع هنـا هو صراع مصالــح اقتصادية مــن أجل السيطرة‬
‫والتوس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع‪.‬‬
‫قــال بــول كينيــدي‪" :‬ال يحــق القــول إن أوروبــا قــد أكــدت تفوقهــا في حقــول الثقافــة والرياضــيات والهندســـة‬
‫‪73‬‬
‫والمالحــة مقارنة بحضارات آسيا العظيمة‪ ،‬بل إن جزءا كبيرا من المـوروث الثقـافي والعلمــي األوروبي هـو‬
‫فــــــــــــــــــــــي حقيقـــــــــــــــــــــــة األمــــــــــــــــــــر اســــــــــــــــــــتعارة من اإلســــــــــــــــــــالم‪".‬‬
‫وفي هذا السياق يقول مونتغومري وات في كتابه "الحضارة العربية على أوروبا" أنه من الضروري تصحيح‬
‫هذا التشويه واإلقرار بما ندين للعالم العربي اإلسالمي‪ .‬وقد حاول هنتغتون أن يقنع العالم أن الصراع الحقيقي‬
‫والحتمـي هو بيــن الحضارات ويكون أساسها بسبب االختالف الثقافي‪ ،‬غيـــر أن االختالفات الخفيـــة ألسباب‬
‫الصراع تكمن في عــدم المســاواة في توزيــع القــوة والــثروة والنفــوذ بين الــدول الكــبرى والــدول الصغرى‪.‬‬
‫‪ -‬إن القول بأن الكنونفوشوسية ستكون من الحضارات المتحديـة مستقبال للغرب وأنــها ستتحالف مـــع اإلسالم‬
‫وهــــــــــــذا أمــــــــــــر مســــــــــــتبعد‪ ،‬اللهم إذا جمعت المصالح االقتصادية بينهمــــــــــــا‪.‬‬
‫‪ -‬في معرض حديثه عن الحدود الدموية لإلسالم لـم يذكر هنتغتون أن المصالــح األمريكيــة كانت دومـــا على‬
‫المقلب اآلخر لها وخاصة في العالمين العربي واإلسالمي‪ ،‬بكالم آخر إن حدود المصالـــح األمريكية مصانـــة‬
‫بال ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدم‪.‬‬
‫‪ -‬لم يولي هنتغتون االهتمام الكافي للعالقة بين صدام الحضارات والعولمـــة‪ ،‬ومدى التأثيـــر المتبادل بينهمـــا‬
‫خاصة أن العولمة وما نتج عنها مــن إظهار للهويــة الثقافية للشعوب‪ ،‬تبدو وكأنها تشكــل مع أطروحــة صدام‬
‫الحضارات وجهين لعملة واحدة من ناحية تضخيم حدود جديدة وإظهارها للنزاعات‪ ،‬وهو ما يتطابق مع حدود‬
‫الثقافــــــــــــــــــــة وفقــــــــــــــــــــا ألطروحــــــــــــــــــــة صــــــــــــــــــــدام الحضــــــــــــــــــــارات‪.‬‬
‫لقد تجاهل هنتنغتون في كتابه صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي وجود العالم العربي‪ :‬فهو يعتبــر‬
‫أن الحضارة اإلسالمية تتكون من "حضارات تحتية‪ ،‬هـي اإليرانيــة والتركية والعربيــة والمالويــة‪ ،‬ويتناسى‬
‫االختالفات بين هذه المكِّو نات‪ ،‬ومضامين هذه االختالفات‪ ،‬وينسى أن هناك أكثر مـن حركـــة إسالمية! فكـــل‬
‫المعطيات الجغرافية والسياسية والثقافية اليوم تشير إلى أنه لم يعد باإلمكان التحدث عن حضارة إسالمية تشكل‬
‫جملة سياسية واقتصادية وعسكرية واحدة من شأنها أن تشكل تهديدًا ألٍّي كـان! ويمكــن بسهولـــة أن نكتشــف‪،‬‬
‫عندما نقرأ خارطة التحالفات الكاريكاتورية التي يرسمها هنتنغتون‪ ،‬أنه انطلق من تساؤله عما يمكن أن يشكــل‬
‫تهديــــــدًا للغــــــرب‪ ،‬ومن ثم بــــــنى نظريتــــــه وفقــــــًا إلجابــــــة شــــــبه جــــــاهزة وضــــــعها مســــــبقًا‪.‬‬
‫ويبقى النقد األساسي الذي يمكن توجيهه لمقاربة هنتنغتون هو أن الدين ليس العامل الوحيد الذي تتشكل حولــــه‬
‫الحضارات‪ ،‬وال هو بالعامل النهائي والمحِّدد لحدوث الصراعات‪ .‬كمــا أنـه يفترض أن هذه القراءة التي تستند‬
‫إلى النموذج الحضاري – وهو المفهوم الذي استعاره مـن توماس كون‪ -‬تسمــح لــه بالتنبؤ بمـــا سيحدث فـــي‬
‫المستقبل‪ .‬ولكنها قراءة ضعيفة وتبسيطية إلى حٍّد كبير‪ ،‬تفترض ضمنًا حتمية الصراع وجمود البنى الحضارية‬
‫والثقافيـــــــــــــــــــــــــــة واالقتصادية الـــــــــــــــــــــــــــتي يتم تناولهـــــــــــــــــــــــــــا‪.‬‬
‫ويتجاهل وجود األفارقـة‪ ،‬سواء كانوا مسلميــن أو مسيحيين أو وثنين‪ ،‬مــع أن لديهم خصوصياتهم (هذا السهو‬
‫يعكس الالمباالة العلمية والتحيز العنصري السافر الذي أعماه عن وجودهم)‪ ,‬ويتجاهــل حتــى سكان أمريكـــــا‬
‫الالتينية (وبما أنهم مسيحيون‪ ,‬فهل هم غربيون كالغرب ؟ إذن‪ ,‬لماذا هم متخلفون ؟من جهة أخرى‪ ،‬ال بَّد مــــن‬
‫االتفاق على أن الرَّد على"اإلرهاب" ال يكون بتقسيم العالم إلــى "محور خير" و"محور شـر"‪ ،‬وعلى أن الــرَّد‬
‫على التطـــــــــــــــــــــــــرف ال يكـــــــــــــــــــــــــون بمزيـــــــــــــــــــــــــد من التطـــــــــــــــــــــــــرف‪.‬‬
‫وأخيرا يمكن لنا القول أن الحضارات ال تقوم علــى البعد الدينــي وحده‪ ،‬وأنـــه ال توجد أصًال حضارة نقيــــــة‬
‫خالصة‪ ،‬فالحضارات تستوطن وتهاجر‪ ،‬الحضارات تتالقى وتتعــانق وتتحــــاور‪ ،‬الحضارات تتزاوج وتنجب‬
‫وتنمو وتشيخ‪ ...‬وإذا كان هناك من حضارة خالصة فهي حضارة اإلنسان‪ .‬فكلنا يعرف اليوم أنــه يمكن أليــــة‬
‫صورة أو معلومة أو فكرة أو خبر أو دعاية أن تنتقل بطرفة عين إلى العالم بأسره‪ ،‬بواسطة األقمار الصناعية‪،‬‬
‫أو عبر الفضاء السيبري لشبكة المعلومات العالمية االنترانت‪ .‬تلك الحاضنة العقلية الكوكبية التي تتالقى فيهـــا‬
‫العقول الفردية والجماعية لتوِج د تكوينات اجتماعية أعقد وأرقى‪ ،‬تتمخض‪ ،‬بدورها‪ ،‬عن وعي إنساني فائــق؟‬
‫خاتمـــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة‬
‫وخالصة القول من خالل دراستنا وتحليلنا إلى أطروحة صدام الحضارات إلى هنتغتون التي نفخ فيــها الغرب‬
‫‪74‬‬
‫ومجدة تمجيدا بصفته صاحب الفكـر الكالسيكــي‪ ،‬نقول أّنـــه و ال بَّد للقوى العظمى مــن أن تخرج من حالـــة‬
‫النرجسية وتضخيم األنا‪ ،‬وأن تبحث بعمق في أسباب الخوف والقلق من ثقافـة اآلخرين وحضارتهم ضمن مــا‬
‫جاء من أفكار متضاربة في أطروحـة صراع الحضارات‪ .‬والتي أصدرت أحكام تشاؤميــة واتهامات مسبقـــــة‬
‫ض ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدهم‪.‬‬
‫وهذا يفترض‪ ،‬في جملة ما يفترض‪ ،‬أخذ هواجس العالمين العربي واإلسالمـي بالحسبــان‪ ،‬وعدم الخلط بيـــــن‬
‫اإلسالم كدين‪ ،‬من ناحية‪ ،‬وبين الحضارة اإلسالمية من ناحية أخرى‪ ،‬وبين التيارات األصوليـة أو المتطرفـــة‪،‬‬
‫من ناحية ثالثة‪ .‬وإذا كان تحقيق األمن وحفظه يتطلب خطة دولية فال غضاضة في ذلك؛ ولكن فلنبدأ بالحِّد مـن‬
‫التسلح ومن صناعــة األسلحــة النووية والتقليديــة المدمرة وتجارتهـــا‪ .‬فاألمن ليس منع اإلرهــابيين من القيــام‬
‫بعمليــــــــــــاتهم فحســــــــــــب؛ واألمن ليس الســــــــــــالم المجــــــــــــرد من توابعــــــــــــه فقــــــــــــط‪.‬‬
‫حيث أن األمن الحقيقي يتطلب تحقيق األمن االقتصادي و االجتماعي والغذائي والصحي والثقافي والتكــافؤ فى‬
‫الفرص بين الدول النامية والفقيرة والدول الغنية؛ األمن هو أن يحصل كـل فرد وكـــل مجتمـــع على حقوقـــــه‬
‫وحاجته من الغذاء والصحة والتعليم الذي يضمن حرية التفكير والشعور والتخيل؛ التعليــم الذي يعِّلــم الفرد أن‬
‫ينتج وأن يتكامل‪ ،‬ال أن يلهث وراء االستهالك وأن يتصارع ويقتل ويخوض الحروب من أجـل الكسب – وكُّل‬
‫ذلك دون ضغوطات وهيمنة القوي على الضعيف‪ ,‬ودون استغالل‪ ،‬مع إتاحة الفرصة للجميع لكي يعِّبروا عــن‬
‫شخصيتهم وهويتهم وثقافتهم وحضارتهم‪ ،‬ومع إفساح المجال أمام الجميـع للمشاركــة في عمليــة التطور‪.‬حيث‬
‫نجد إن هنتغتون من خالل نظريته حول صدام الحضارات حاول الترويج للحضارة الغربيــة وعولمــة ثقافتــه‬
‫على حساب اآلخرين وجعلها هي طريقة الحياة وبدئ لكل جماعة بشرية في جميع أشكـال حياتها وممارستهـــا‬
‫ومعتقـــــــداتها وذهنيتهـــــــا وأنظمتهـــــــا السياســـــــية واالقتصادية واالجتماعيـــــــة واألخالقيـــــــة‪.‬‬
‫فمشكلة الغرب كما خلص إليه هنتغتون هو السعي إلى تأسيس ثقافة عالمية وهــو أمــر يفــترض إلغــاء الهويــات‬
‫الثقافيــــــة أو اســــــتيعابهاوانطالقا من هــــــذه الفكــــــرة األخــــــيرة نطــــــرح التســــــاؤالت التاليــــــة‪::‬‬
‫هـــــــــــــل ســـــــــــــتتحقق تنبـــــــــــــوءات صـــــــــــــامويل هنتغتـــــــــــــون بعـــــــــــــد رحيلـــــــــــــه؟‬
‫ومــــــــا مــــــــدى انســــــــجام هــــــــذه األطروحــــــــة مــــــــع مفــــــــاهيم العولمــــــــة الجديــــــــدة ؟‬
‫وهـــــل فعال ســـــوف تتوحـــــد الحضـــــارة الصينية مـــــع الحضـــــارة اإلســـــالمية ضـــــد الغـــــرب؟‬
‫وإلى أي حد يمكن اعتبار هذه النظرية هي اإلستراتيجية الجديدة للواليات المتحدة األمريكية بعد نهايــة الحــرب‬
‫الباردة في مواجهة التحديات الجديدة والقوى الناشئة‪.‬‬

‫‪75‬‬

You might also like