Professional Documents
Culture Documents
محاضرات في تاريخ القكر السياسي
محاضرات في تاريخ القكر السياسي
1
تقديـــــــــم:
" الذي ال يحسن قراءة التاريخ يحكم عليه بإعادة أحداثه " سلمان العودة
إن الغاية من البحث في قضايا الفكر الفلسفي السياسي عبر التاريخ ليس هو مجّر د جمع لنظريات وأفكار اجتهد
فيها مجموعة من المفكرين والباحثين على مّر العصور والذين حملوا على عاتقهم هّم البحث عن حلول جريئــة
ألزمات أوطانهم كّل حسب زمانه ومكانه ،وإّنما الغاية من ذلك يكمن في القابلية لتفكيك هذه األفكار وفهمها من
حيث تطّو رها وتأثرها بمختلف التيارات واالتجاهات الحضارية والتاريخية التي عرفتهــا البشــرية من العصر
القديم إلى يومنا هذا ،وفي وسط هذا الزخم الكبير من النظريات واألفكار المتراكمـة منـذ أن بـدأ اإلنسـان يفكـر
فعليــا في تنظيم مجتمعــه بمجموعــة من القــوانين من شـأنها تهــذيب جمــوح الطبيعــة اإلنسـانية المّيالــة إلى حب
امتالك ما هو موجود لدى الغير وتفادي اصطدام البشر فيما بينهم وحل النزاعات نجد منهــا مــا هــو مــرحلي ال
يلبي إّال حلول تخّص ظرف محّد د في الزمن ومنها من األفكار من استطاع رصد الطبيعة البشــرية فغــدت تلــك
النظريات مرجعية أساسية في تــاريخ الفكــر السياســي وهي اليــوم ال تــزال محــل نقــاش وأخــذ ورّد من طــرف
المهتمين والمتخّصصين في هذا المجال.
-1تعريف الفلسفة السياسية :
إن الفلسفة السياسية ،حسب ليوستروس ,تهدف إلى اإلمساك "باألشياء السياســية" وإلى فهم معانيهــا ،بحثــا عن
ماهيتها وحقيقتها ,وهي كذلك تفكير وتأمل في القيم اإلنسانية ,وهي قيم سياســية وأخالقيــة ,كالمســاواة والعدالــة
والحرية والوحدة الخ…وبالتالي تتمحور الفلسفة السياســية حــول الغايــات المتوخــاة من الســلطة بصفتها األداة
الضرورية لتحقيق القيم.
وتحــاول الفلســفة السياســية أن تجيب عن الســؤال اآلتي :كيــف يمكن للقــوة أن تتوافــق مــع المعقوليــة في
المجتمعات ،والسياسة في أكثر معانيها انتشارا هي علم القوة وتنظيمها في المجتمعات ،أّم ا الفلســفة فهي تنظيم
مستمر لعملية التعقل واكتشاف المبادئ المنظمة للتطبيق العملي ،ولّم ا كــانت األداة الــتي يمكن لهــا تحقيــق هــذا
التوفيق بين القّو ة والعقل في المجتمع هي الدولة ،فقد يحدث أن تنجح الدولة في إخضاع القوة للعقل ،وقد تهدف
إلى أن يكون مثلها األعلى هو تتويج للعقل مقعد القــوة ،ولكن يحــدث في الغــالب أن تفشــل في ذلــك ،ولقــد كــان
أفالطون هو أّو ل من عني بالبحث عن إمكانية هــذا التوفيــق بــل كــان أّو ل من دعــا إلى هــذا الهــدف في فلسـفته
السياسية.
كذلك فإن الفلسفة السياسية تتصف بطابعها المعياري) )NORMATIVEأي الذي يتجاوز البحث فيما هو
كائن إلى المثل العليا التي ينبغي أن تكون ،لذلك لم يشك أحد من الفالسفة السياسيين في هذا الطــابع المعيــاري
وعملــوا جميعــا ابتــدءا من أفالطــون على تشــخيص أمــراض مجتمعــاتهم ووصــف الحلــول الخاصــة بعالجهــا
مستعينين في ذلك بالمبادئ العقلية التي تساعدهم على الحكم على األحداث وتنظيمها وكذلك فعل الفارابي حيث
بحث في مدينته الفاضلة ووضع لها الحل المثالي الذي رآه مناســبا وحــاول هــوبز في ق 17أن ينقــذ دولتــه من
الصراع الديني والحرب األهلية التي استعّر أوارها ،وجاء لوك من بعده يناضل من أجل إرساء حقوق ملكيــة
األفراد و يظلها بحكم القانون و يدفع عنها أخطار الملكية المطلقة.
وبناء على دلك يقال عادة أّن الفلسفة السياسية تزدهر عندما ينتاب الدولة السقم فيأتي الفالسفة ويحّم لون أنفسهم
مهّم ة األطباء من حيث التشخيص ووصف العالج ،وتتمّيز الفلســفة السياســية عن العلــوم السياســية بأّنهــا تتخــذ
منهجا في البحث مختلفا عن مناهج البحث العلمي ،وهو المنهج الذي يمّك نها من التوصل إلى طبيعة المشــكالت
التي آثارها الفالسفة وتكشف عن طريقتهم في البرهنة عليها أو نقدهم لها وكل تجديد في هــذه الفلســفة إّنمــا هــو
ثمرة نقد الفالسفة لبعضهم ومراجعتهم لمن سبقوهم فدراسة تطّو ر الفكر السياسي يبّين لنا كيف نما فكر أرسطو
من خالل نقده ألفكار أفالطون ثّم تجاوزه ،بل إّن تصّو ر روسو للســيادة في كتابــه العقــد االجتمــاعي لم يكن لــه
ليتاح له بغير أن يّطلع على فكر أرسطو وفلسفته وتصّو ره للدولــة وأثرهــا في تربيــة المــواطن واسـتفادته مّم ا
قّد مه سابقا بودان وهوبز من نظريات جديدة في السيادة.
2
-2مساهمة الحضارات الشرقية في الفكر السياسي:
جرت العادة لدى مفكري الغرب اإلقرار بأن اليونان هم مصدر كل الفكـر اليونـاني والفلسـفي العـالمي وتـبرير
ذلك يعود إلى اقتناعهم أن هده الحضارات غير ناضجة أو ناقلة لهذا الفكر والمؤمنون بكون اليونان هم مصدر
الفكر اإلنساني ينطلقون مّم ا عرف بالمركزية األوربية المقّر ة بأنهم منطلق كل شيء لكن القصد من وراء ذلك
هو االستعالء الحضاري للفرد األوربي أو الرجل األبيض الصالح دون غيره للفكــر والعلم والتفكــير أّم ا بــاقي
الشعوب فلها سوى التبعية والتنفيذ.
وفي هذا السياق بدأ كثير من مؤرخي الفلسفة يميلــون إلى القــول بــأّن نشــأة الفلســفة في بالد اليونــان في القــرن
السادس ق.م ليس بحقيقة نهائية حاسمة بقدر ما هو افتراض عملي و نقطة بدء مؤقتة في البحث ،نسلم بهــا ألّن
الوثائق الخاصة بعلوم الحضارات الشرقية القديمة و فلسفتها ليست وافية وال هي واضــحة بالقــدر الــذي يســمح
بأن نقّرر بشكل حاسم أن بالد اليونان هي مهد الفلســفة و مبــدأ و أّنهــا أرض المعجــزة وإلى هــدا الــرأي يــذهب
المؤرخ الفرنسي الكبير إميل برهييه إذ يقول " إذا كنا نبدأ تاريخنا بطاليس فليس معنى ذلك أن نتجاهل التاريخ
القديم الذي تّم فيه تكوين الفكر الفلسفي ،وإنما لسبب عملي صرف هو أن الوثائق المكتوبــة عن حضــارات مــا
بين النهرين ليست كافية وينقصها الوضوح ،كما أن الوثائق المتعلقة بالمجتمعــات البدائيــة ال تكفي بــدورها في
إرشادنا عن اليونان في طورها البدائي ".
كما يرى كذلك العالم والمؤرخ الهندي الكبير د /ردا كريشنان في مقدمة كتابه الذي اشــترك فيــه مــع نخبــة من
كبار علماء الهند وفالسفتها عن ( تاريخ الفلسفة الشرقية والغربية ) يقول " أّنه يصدق على تــاريخ الفلســفة مــا
يصدق على العالم إذ يصفه أحد كبار شعراء الفرس من أّنه أشبه بمخطوط قـديم فقــدت أولى صــفحاته وآخرهــا
ومنذ أدرك اإلنسان مستوى الوعي بوجوده و بالعالم وهو يحــاول أن يكتشــف هــذه الصفحات المفقــودة " وفي
محاولة الباحثين إيجـاد تلـك الصفحات تمّس ك أكـثرهم بـالمعجزة اليونانيـة وقـالوا بـأّن منشـأ الفلسـفة هـو بالد
اليونان ،وأقدم من تمسك بهذا الرأي هم فالسفة اليونان أنفسهم ومؤرخوهم وعلى رأس هؤالء القــدماء أرســطو
الذي أرجح الفلسفة إلى طاليس في القرن السادس قبل الميالد.
بالتالي" ،وعلى الرغم من أّن الفكر الفلسفي السياســي في الشــرق القــديم لم يــؤثر ولم يســاهم في تطــوير الفكــر
الفلسفي والسياسي الذي جاء فيما بعد ،إّال أّنه عاد من جديد وساعد في إحياء الّتراث القديم ،واســتطاع أن يــؤّثر
في الفكر السياسي الحديث عامــة ،والفكــر السياسـي الفلسـفي المعاصــر بخاصــة .حيث نجـد الطاويــة والبوذيــة
والكونفوشيوسية محل اهتمامات ودراسات من قبل المفّك رين في وقتنا هذا".1
أ -الحضارة المصرية الفرعونية تتكون من خليط من األجناس ( الجنوب ،السامية ،الحامية ،ليبيا ) وقد عرفت
هده الحضارة الكتابة الهيروغليفية وتعني الصور المقّد سة ،وهم أّو ل من قّسم السنة إلى 12شهرا و 24ساعة ،
إضافة إلى عّد ة اكتشافات و تنظيمات عملية و علمية و تربوية و دينية نلخص أهّم ها فيما يلي :
*النظام السياس ي في مص ر القديم ة :كانت الســلطة الحكوميــة تتكــون من ســلطتين وهمــا الســلطة التنفيذيــة
والسلطة القضائية.
أّم ا األولى فهي قائمة على أساس مركزية القرار وال مركزية التنفيذ تبدأ بالملك الذي ينظم األمور العامة للدولة
والمشاريع الكبرى ويهيمن على شؤون العالقات الخارجيــة كعقــد المعاهــدات وإبــرام االتفاقيــات ،تعــيين كبــار
الموظفين والوزراء ،يتفقد األشغال العامة في اإلدارات ،وهو القائد األعلى للجيش ،كما كان يتمتع بســلطة ســن
القوانين ،ثم يأتي الوزير ومهامه الرئيسية تنفيذ كافــة الشــؤون اإلداريــة ،تنظيم اإلدارة العامــة إلخ...ثم موظفــو
البالط ،اإلدارات المحلية وأخيرا حكم المقاطعات المحلية
1عبد المجيد عمراني ،محاضرات في تاريخ الفكر الفلسفي والسياسي ،منشورات الحبر ،الطبعة ،2008 ،01الجزائر ،ص09:
3
أما الثانية فلها أهمية وهي القضاء وقاضي القضاة يمثــل أهم رجــل في الدولــة بعــد الــوزير وتمتــع القضــاء في
مصر القديمة بنوع من االستقاللية وكانت المحاكمات تسير بدقة طبقا لإلجراءات القانونية.
* نظام الحكم واإلدارة :وفيه الملك الملقب بالفرعون وكنيته في مصر القديمـة وكـان يصطنع لنفسـه صـفات
األلوهية يسيطر على كل شيء ،بيده األمر والنهي ويمثل صورة اإلله في األرض ،يأتي بعدها األمراء وكبــار
الموظفين والوزراء والكهنة وقادة الجيش المعيـنين من طـرف الملـك وحـده دون استشـارة ومعرضـين جميعـا
للعزل أوالقتل في أي لحظة ،وأخيرا اإلدارة التي كان فيها للملك السلطة المطلقة في مقابل واجبات حتى ال يفقد
قداسته كالدفاع عن الدولة وزيادة رفاهية الشعب وتأمين وسائل الحياة وتوزيـع جـزء من المحصول الـزراعي
على أفراد شعبه وخزن الفائض لوقت الشّد ة والعمل أخيرا على توطيد أركان العدالة والحق.
* النظام االجتماعي والثقافي واالقتصادي :
-الش عب :ويتكــون من طبقــتين الحاكمــة وتمثــل األقليــة منهم مــوظفي اإلدارة والكتبــة وطبقــة عامــة الشــعب
1
كالفالحين والتجار والصناع....
-األسرة :هي دعامة النظام االجتمـاعي تتـألف من الـزوج والزوجـة واألوالد وكـانت الحيـاة العائليـة منظمـة
تنظيما دقيقا ،لألبوين سلطة على األبناء وللزوجة مكانة رفيعة كمــا أّك د ذلــك بعض المــؤرخين األلمــان " :إن
منزلة المرأة لم ترتفع لدى أي شعب قديم أو حديث مثلما ارتفعت لدى سكان وادي النيل " وكــانت المــرأة تقــوم
بأعمال البيت وتساعد الزوج في العمل الــزراعي وتمــارس بعض األعمــال الصناعية والتجاريــة وتتجـّو ل في
األسواق وتملك الموروث ...وكل ذلك في حدود األخالق الفاضلة.
-التعليم :تهتم األسرة بتنشئة أبناءها وتعليمهم ،فتوكل مهمة التعليم للكتبة الممتازين الهدف من دلــك إعــدادهم
لتولي وظائف الكتبة في اإلدارات الحكومية ،وكانوا يلقنون القراءة والكتابة وعلم الحساب إضــافة إلى السـباحة
ورمي النبال وآداب السلوك واللياقة لألبناء الوجهاء.
االقتصاد :كانت الزراعــة وتربيــة المواشــي قــوام االقتصاد المصري ،إضــافة إلى صــناعة األثــاث واألواني
الفخارية والحجرية و صناعة الورق و األسلحة و السفن والمصنوعات المعدنية وغيرها....
ب -حضارات ما بين النهرين :
القصد هنــا نهــري دجلــة والفــرات ( العــراق حاليــا ) وعــددها خمســة ( الســومريون ،األكــاديون ،البــابليون،
األشوريون والكلدانيون )
-البابليون أو دولة حامورابي :
دامت ثالث قرون و شهدت وحدة سياسية ال مثيل لها بفضل ملكها الطمـوح حـامورابي ( 1670-1710ق م )
الذي حكم بابل 40سنة وقام بأعمال مجيدة خلدت في التاريخ ولم يخسر معركة واحدة في حياتــه واســتطاع أن
يوحد الدويالت وأقام األمن والنظام ونشـر العـدل والرخـاء ومن انجازاتـه أنـه ضـّم بالد األشـوريين إلى ملكـه
فسيطر على كل أراضي ما بين النهرين،حفر قنوات الري وأجرى الماء في أرجاء البالد ،بــنى المعابــد لآللهــة
وأقام فوق الفرات جسرا واقتصاديا اهتم بالزراعة التي كانت هي البناء االقتصادي وصــناعيا فتمثــل في نســيج
القطن والصوف وصــباغة األقمشــة وتطريزهــا ،صــناعة اآلجــر وكــان التطــور كــذلك تجاريــا وتبــادل الســلع
والمقايضــة مــع الهنــد ومصر وآســيا الصغرى ،أمــا اجتماعيــا فكــان نظــام الــزواج عاديــا واإلخالص واجب
ومفــروض على الــزوجين إلخ ....ويبقى قــانون حــامورابي من أعظم أعمالــه وقــد كتبت مــواده على اســطوانة
ارتفاعها 2.25م ومحيطها عند القاعدة 1.9م ونظمت هده القوانين في 46عمودا شملت حوالي 285مادة.
صاغ حامورابي ودّو ن هــده القــوانين باللغــة األكاديــة ونشــرها على النــاس لكي يمنــع األقويــاء من أن يظلمــوا
الضعفاء وينشر النور على األرض ويرعى مصالح الخلق وأّك د أن قانونــه تنزيــل ســماوي وهــو يتلقــاه من إلــه
الشمس.
1نجيب ميخائيل ابراهيم ،مصر والشرق األعلى القديم ،ط ،2القاهرة ،دار المعارف،1966 ،ص102-80 :
4
ج -الحضارة الصينية :
عــرفت الصين بفلسـفتها المتمثلــة في تعــارض واتحـاد العــاملين األساسـيين في الكــون أي عنصري الــذكورة
واألنوثة ( اليانغ و الين ) كما عرفت بظهور المعلم كنفوشيوس الذي قـّد م عــدة إســهامات في المجــال السياســي
وتنظيم السلطة والحاكم عليه أن يدّع م بثالثة عناصر أساسية وهي ( االقتصاد ،الجيش ،ثقة الشعب ) والمجتمع
ينقسم إلى طبقتين كبــيرتين ،طبقــة الفالحين الســفلى وطبقــة النبالء العليــا وهم األشــراف بالوراثــة أمــا الجهــاز
اإلداري فنجد على قمة الهرم الملك ثم الوزير األول ثم الوزراء الثالث األكثر أهمية :وزير الزراعة والحرب
واألشغال العامة ،أما قضائيا فتتراوح العقوبات ما بين أحكام الموت ووشـم الوجـه والملــك ال يتعــاطى القضــاء
بصورة شخصية إّال متى عوقبت الجريمة بالموت ،ويمكن استبدال العقوبة بدفع مقابـل ذلـك من النحـاس ،ومن
جانب الجيش فعلى كل أسرة أن تقّد م محاربا ،وينقسم الجيش إلى فيالق والفيلق إلى كتائب والكتيبة على فرق...
-الفلسفة :يعتبر كونفوشيوس والذي عاصر الوتسو وكان مخالف له في الفكر من أهم فالســفة الصين على
اإلطالق وله خمسة مؤلفات من بينها كتاب التحويل والتغيرات أوالتحويالت ،حوليات الربيع والخريف إلخ أما
أفكاره الفلسفية فقد لعب كونفوشيوس أعظم األدوار في الحياة الصينية العقليـة والـتي تهـدف إلى حسـن القيـادة
وحكم الشعب استنادا إلى الدرس وترويض النفس الروحي ،هذا الترويض الذي ال يعود بالنفع على صاحبه بل
عكس ذلك على اآلخرين فيسود بذلك التفاهم الذي هــو الدعامــة الكــبرى للنظــام العــام وهــذا يــدل علــة األهميــة
البالغــة الــتي أوالهــا كونفوشــيوس لإلنســان لــذا اعتــبر من الفالســفة اإلنســانيين عكس الوتســو الــذي كــان من
الطبيعيين وسيتطور هذا المفهوم خالل الحضارة اإلغريقية وهــذا دليــل أخــر على أن جــذور الفكــرة بــدأت من
الشرق ( الصين ).
والحكم المفضل عنده هو القائم على الفضيلة والخير ،بدل التركيز على نظــام الحكم القــائم عن طريــق القــانون
الذي أساسه سلطة الحكام القائمة على فرض الخضوع للقـوانين عن طريـق القـوة والقهـر .والقلب هـو مصدر
الخير وهو أساس بناء الدولة والحكومة والقلب الحي ال يكون إّال عن طريق المعرفة ،ومن ثم فـإن العالقـة بين
المعرفة والقلب عالقة متالزمة وذات تأثير متبادل .و" القلب النشــط يــدفع إلى البحث عن المعرفــة ،والمعرفــة
تدفع إلى النشاط عن طريق اإلرادة المخلصة " هدا يعني أن دراسة الدولة أو الحكومة عنده ال تتم إال من خالل
دراسة األفراد ،فإذا صلح الفرد صلحت الحكومة والعكس ،ومنه جاءت مقولته المشهورة ( المعرفــة األساســية
هي معرفة الناس من وماذا يكون ؟ ) .أما الحكومة فوظيفتها إصدار القوانين ،جمع الضرائب ،بناء المــدارس
والمعابد وتنظيم العمل واإلنتــاج وهكــذا نصل في الختــام أن رؤيــة كونفوشــيوس لإلنســان والحيــاة قائمــة على
اعتباره مصدر كل فكر وكل حركة في الواقع ،والمعرفة هي منطلق اإلنسان لرؤية األشياء عن طريــق القلب،
فإذا صلح هذا القلب صلحت األسرة والمجتمع واستقامت شؤونه بما في ذلك السياسة.
ويرى من جهة أخرى أن سن القوانين من طــرف الحـاكم ليس لهــا تــأثير على سـلوك المواطــنين ،بينمــا يمكن
للمعلمين والفالسفة تغيير اإلنسان عن طريق تعليمه ودفعــه إلى تنقيــة نفســه ومنــه تبــدو أولويــة المعرفــة عنــده
لتشكيل المجتمع السياسي وفيما يخص سبب رفضه لوظيفة حكومية يقول " أن تكون ابنا جيدا وأخا جيدا فــذلك
يساوي المشاركة في الحكومة ،أال ترون كم هي الحاجة عديمة لممارسة الوظيفة " .
د -الحضارة الهندية :
-الدولة :نظام ملكي تتكافأ فيه ثالث سلطات ،سلطة الملك ورجال الكهنوت وســلطة الشــعب ويخضــع هــذين
األخيرين للملك ،وللشعب كلمة في الحكم حيث يجتمع في مكان خصوصــي ويكــون مــا يســمى بمجلس الشــعب
الذي يحتوي على الشباب والكهول وأفراد القبائل و سكان القرى.
-السلطة التنفيذية :منوطة بالملك ويمكن للمجلس الشعبي إصدار بعض األحكام .
-النظام القضائي :غير واضح ،ومع هذا فالجرائم تخضــع للعقوبــات الــتي يفرضــها وينفــذها الشــخص الــذي
هضمت حقوقه ( يقّد ر ثمن دم اإلنسان بمائة بقرة عندما تحدث جريمة قتل )
-األسرة :تفضل الذكور على اإلناث ،وتقام طقوس عند والدة الذكور .
5
-الديانة :
* الجاينية :تقوم على االعتقاد بأن كل ما هو موجود في الكــون أزلي حــتى المــادة وأن األرواح تحتفــظ بنفس
هويتها في التقمصات المتتالية التي تترتب عن نتائج السلوك مجتمعــة ،ويمكن بعــد تســعة تقمصات الوصــول
إلى النيرفانا أي الخالص من الجسد والمادة.
* البوذية :ترتكز تعاليم هذا الدين على الفلسفة البراهمتية فحسب بــوذا هنــاك أربــع حقــائق ســامية مفادهــا أن
الحياة ضرب من األلم وأن الشهوة هي سبب األلم ولتوقيف ذلك يجب القضاء على الشــهوة باالنقطــاع والعزلــة
والخالص مّم ا يشغلنا عن شؤون العيش ،وقد صاغ بــوذا خمس قواعــد خلقيــة للهدايــة وتــأمين الحيــاة الســليمة
وهي :
-1ال تقتل كائنا حيا
-2ال تأخذ مّم ا ليس لك
-3ال تكذب
-4ال تشرب المسكرات
-5ال تقم على دنس
كما يوصي كذلك بالتغلب على الغضب بالشفقة وعلى الشر بالخير وعلى الكراهية بالحب وقد رفض بوذا نظام
الطبقية ومبــدأ التضــحية في سـبيل اآللهــة ،وآمن بمبــدأ التقّم ص كطريــق لتحقيــق النيرفانــا أو اتحـاد الفــرد باهلل
والحصول على السعادة الكلية بعد الموت.
* البراهميــة أو الهندوكيــة :هي خليــط من العقائــد والطقــوس يلتقي جميعهــا عنــد االعــتراف بنظــام الطبقــات
وبزعامة البراهمة وتقديس البقرة باعتبارها تمثل األلوهية وبمبــدأ التقّم ص وكــان اآللهــة الهنــدوكيين يتمّي زون
بكثرة أعضائهم الجسدية و -براهما -كبير آلهتهــا وكــانت لــه أربعــة وجــوه ويســيطر على الكــون ثالثــة آلهــة:
براهما وهو الخالق وشيفا ( إله الحب ) وهو الحافظ وقشنا وهو المدّم ر.
هـ -الحضارة الفارسية :
-نظام الحكم :كانت حياة الفرس سياسية حربية أكثر منها اقتصادية وذلك باعتمادها على القوة العسكرية كان
الملــك يقــف على رأس اإلمبراطوريــة ويلقب بالمحــارب ،ولمــا كــان هنــاك ملــوك يحكمــون أجــزاء من
اإلمبراطورية ،فقد لقب ملك فارس بالملك العظيم أوملك الملوك ويتمتع بالسلطة المطلقة وهي قائمة على القــوة
والبطش ،تتمتع كل والية بقسط من الحرية منها :استعمال لغتها المحلية وممارسة عاداتهــا وتقاليــدها الخاصــة
ال سيما من الناحية الدينية وقد نجح هذا األسلوب نجاحــا عظيمــا خاصــة لمــا أبقــوا ملــوك فــارس بعض األســر
الحاكمة في الواليــات تقــوم بمهمــة الحكم نيابــة عنهم وقــد اقتبســت رومــا قســطا كبــيرا منــه في إمبراطوريتهــا
الواسعة ،إنه نوع من الحكم الذاتي أو الحكم المحلي واعتماد القوانين الوضعية التي تتماشى مع عادات وتقاليد
وأعراف كل والية.
-الجيش :اهتمت فارس بالجيش لطبيعة كيانها العسكري حيث فرضت الجندية على كــل ذكــر صــحيح الجســم
سنه بين 15و 50سنة ولم يعفوا أحدا منهم مهما كانت الظروف واألسباب.1
د -الحضارة الفينيقية :هم قبائــل ســامية عــرفت بالكنعــانيين نــزحت من شــبه الجزيــرة العربيــة وتم اخــتراع
األحرف األبجدية في هذه الحضارة حوالي القرن الثاني عشر ق.م وكــانت لهم عــدة مسـتعمرات على حوضــي
المتوسط الشرقي والغربي إضافة إلى قرطاجة.
-التنظيم االجتماعي و السياسي :وينقسم المجتمع الفينيقي إلى طبقتين ،طبقة األشراف وتضم الملك و العائلة
المالكــة والنبالء والكهنــة والقــادة العســكريين ،أمــا الطبقــة العامــة فتضــم التجــار والصناع والفالحين والعبيــد
ولإلشارة فإن العبيد في هذه الحضارة لهم بعض االمتيازات منها حق الزواج وحق التملك....
1الجماهيرية العربية الليبية اإلشتراكية العظمى ،أمانة اللجنة الشــعبية العامــة للتعليم والبحث العلمي ،الحض ارة الليبي ة والحض ارات الش رقية في
العصور القديمة ،مصرانة "ليبيا" ،الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع واإلعالن ،1988-1987 ،ص.39 :
6
أما سياسيا فكان النظام الملكي هو السائد كباقي الحضارات الشرقية التي سبقتها بحيث كانت كــل مدينــة تشــكل
دولة قائمة بذاتها وعلى رأسها ملك وهــذه الملكيــة هي أشــبه مــا تكــون بالملكيــة الدســتورية في وقتنــا الحاضــر
ودستور المدينة -الدولة -الذي يمثل مجمـل األعـراف والتقاليـد ،يجب أن يقـترن بموافقـة مجلس الشـيوخ الـذي
يضم حوالي 300عضو يتم انتخابهم من طرف الشعب وهم من الطبقة األرستقراطية والملك ينحدر من ساللة
محترمة ومقّد سة والحكم الملكي وراثي وفي حالة عدم وجود األنسب من العائلة الحاكمة لتــولي الحكم يلجــأ في
هذه الحالة إلى خارج العائلة للبحث عن حاكم تتوفر فيه شروط الحكم .
من هنا نستنتج أننا بصدد االنتقــال من النظــام الملكي إلى النظــام الدســتوري المعــروف في األنظمــة الحديثــة،
وهذا االنتقال أملته بطبيعة الحال عّد ة ظروف منها االجتماعية والسياسية واالقتصادية وغيرها ،كما أّن ه يوجــد
على رأس الدولة قاضيان ،واحد يتوّلى األمور اإلدارية بينمــا يتــوّلى اآلخــر أمــور القضــاء ،وهمــا معينــان من
طرف مجلس الشيوخ لمّد ة سنة قابلة للتجديد ،إضافة إلى قائد الجيش الذي له صالحيات أخرى .
1عمار بوحوش ،تطّو ر النظريات واألنظمة السياسية ،ط ،2الجزائر ،المؤّسسة الوطنية للكتاب ،1984 ،ص.55:
7
-03الظروف الثقافية :عرف الفكر اليوناني انطالقة ضخمة خالل القرن الخامس قبل الميالد نتيجة التحوالت
االقتصادية واالجتماعية التي حــدثت في أثينــا خاصــة وكــانت هــذه المدينــة في أوج ازدهارهــا واعتمــدت بنيــة
اقتصادية ديمقراطية وهذه البنيــة هي الــتي سـيطرت على حركــة األفكــار إمــا بواسـطة زعمائهــا ومفكريهــا أو
بواسطة األغراب الذين يأتون إليها ،وقد عملت الظروف الثقافية في بروز أفكــار وعلــوم شــملت جــل مجــاالت
الحياة حتى المجال الميتافيزيقي.
كما عرفت الحضارة اإلغريقية نهضة أدبية وفلسفية مثل الشعر والشعر الغنــائي واشــتهر العديــد من نبغــوا في
األدب المسرحي أمثال أسخيلوس وسوفوكليس وأريستوفانيس ويبقى هيرودوتس الملقب بــأبي التــاريخ من أهم
المؤرخين الذين استطاعوا أن يصفوا ويؤرخوا األحداث بصورة ســهلة وبســيطة جعلت كتاباتــه تحتــل مركــزا
الئقا وال ننسى الفلسفة التي بلغت ذروته مع العمالقــة الثالثــة ( سـقراط ،أفالطــون ،أرسـطو) وفـاخر اإلغريــق
بأنهم أنجبوا في عصر واحد ما عجزت عنه بقية العصور واألمم .
ب -التنظيم السياسي لدولة المدينة ووظائف المؤسسات السياسية:
ما مّيز النظام السياسي لدولــة المدينــة هي تلــك الممارســة الديمقراطيــة المباشــرة ،فكــان األفــراد يحضــرون
االجتماعات العامة ويختارون بأنفسهم من يثقون فيهم ليقوموا باألدوار السياسية وقد تطورت هذه الديمقراطيــة
المباشرة في وقتنا الحالي إلى نظام التمثيل النيابي وهذا بعدما أصبح من الصعب على الـدول الحديثـة اسـتدعاء
مواطنيها ليجتمعوا في مكان واحد والتباحث في قضايا تهم مــدينتهم ،وقــد ع ـّو ض هــذا بممثلين عن ســكان كــل
مقاطعة إلبداء اآلراء في جميع المواضــيع المهمــة وعمومــا فقــد دولــة المدينــة ممارســة الســلطة السياســية عن
طريق الهيئات التالية :الجمعية العمومية ( اإلكليزيا ) ،المجلس النيابي ،المحاكم
خالصـــــة :
في األخير ومن خالل نموذج أثينا الديمقراطي ،وكما يقال فإّن الديمقراطية هي أفضل األنظمة السيئة ،نقول أن
ديمقراطية أثينا كانت طبقية بحيث فتحت األبواب أمام المواطن األثيني ليتبوأ أسمى المراتب دونما تمّي ز طبقي
أو مالي ،فالكفاءة هي الشرط األساسي واالختيار عن طريق القرعة كان يعد الجميع بدور ما ،ثم إّن المناقشات
المفتوحة أما الجميع هي غاية ما يصبو إليه أي نظلم ديمقراطي فغدا كل أثيني يستمتع بما لسواه من حقوق أمام
القانون ويعلل النفس بالوصول يوما ما إلى مرتبة الحاكم أو القاضي أو القائد ....
-4الفكر السياسي عند أفالطون:
كان عمل أفالطون السياسي عمال ضخما ،وإذا كانت بعض أفكاره الشخصية مشابهة لآلراء التي سبقته ،فإن
األفكــار الــتي كــانت منطلقــا لهــا قــد جعلت منــه أحــد معلمي الفلســفة السياســية الغربيــة ومن أعظم المفكــرين
السياسيين اإلغريق.
إّن للثورات الداخلية واشتداد التنافس على السلطة بين الطبقات االجتماعيــة والحــروب الــتي دارت رحاهــا بين
أثينا وإسبارطة والتي دامت حوالي ربع قرن وسقوط أثينا على يد إسبارطة وقيام حكم أرستقراطي وقيــام عــدد
من الشخصيات بمؤامرات وإعدام سقراط واستغالل الظروف العويصة التي مرت بها المدينة لصالح طبقــات
معينة ،كل هذه األمور جعلت أفالطون يبتعــد عن المســرح السياســي بــالرغم من الطمــوح الــذي كــان يــراوده،
ولعله اتخذ هذا القرار لّم ا شعر أن سوء النظام السياســي يرجــع أساســا إلى انخفــاض المســتوى الثقــافي للطبقــة
الحاكمة ،واإلشكالية التي يمكننا طرحها في هذه الدراسة هي :ما هي األفكــار واآلراء السياســية الــتي أتى بهــا
أفالطون ؟ بمعنى أخر ،هل المدينة الفاضلة هي النموذج البديل لفساد األنظمة السابقة ؟ وأخيرا ،هل تّم تجســيد
أفكار أفالطون على أرض الواقع ؟
أ -إنتاجه الفكري:
يقول أفالطون بأن العلم والمعرفة ال يمكن فصلهما عن أّي نظام سياسي عادل ،وهو كأســتاذه ســقراط ال يثــق
في الديمقراطية ،واتهم على اّنه من بين المدافعين عن الديكتاتورية وقبل التفصيل في إنتــاج أفالطــون الفكــري
8
يجب التـذكير هنـا على أننـا سـنركز االهتمـام على الجـانب السياسـي أي مسـاهمة أفالطـون في ميـدان العلـوم
السياسية و باألخص سنرى من أعماله أهم الكتابات التي تطرق فيها إلى الجانب السياسي وهي ثالث :
-1اعتمد في كتابه الجمهورية على حوار أجراه على لسان سقراط وتناول فيه دراسة الرجــل الصالح والحيــاة
الصالحة التي يجب أن تكون في دولة صالحة ودرس معرفة ماهية الخير وسبيل الحصول عليه ،كما تناول كل
النشاط الفردي والجمــاعي ،وعلم الخالق واالقتصاد والفن والتربيــة والفلســفة ،ويبقى في هــذا الكتــاب طغيــان
نظرية واحدة وهي الحياة السياسية في دولة المدينة الشيء الذي جعل أفالطون يبحث عن نظريــة ثانيــة بســبب
قصور النظرية األولى كما يقول أرسطو والفكرة األساسية في الجمهورية هي وحي من نظرية أسـتاذه سـقراط
القائلة بأّن الفضيلة هي المعرفــة ،وقــد تعــززت هــذه الفكــرة لديــه بخبرتــه السياســية التعيســة والمخيبــة لآلمــال
وتبلورت بإنشاء األكاديمية لتنمية روح المعرفة الحقّـة كأساس لفكرة فلسفة صناعة الحكم.1
-2أّم ا رجل الدولة أو السياسي الذي كتبــه بين المحــاورتين ( الجمهوريــة والقــوانين ) وفيــه تراجــع عن بعض
أفكاره التي تضّم نها كتاب الجمهورية نظــرا لتناقضــها مــع الشــعور الســائد لــدى األثينــيين خاصــة فيمــا يتعّل ق
بالممارسة الديمقراطية ،كما أنه غّير رأيه بعــد أن خــف حماســه للحكم الفيلســوف وكــانت مناســبة كتابــه رجــل
الدولة الفترة الممتدة ما بين 367ق.م و 361ق.م وهذا نتيجة خيبــة أملــه في الحكــام المســتبّد ين الــذين عايشــهم
وأدوا بحكوماتهم إلى اإلفالس واالنقراض ويرجع هذا إلى جهل الطبقة الحاكمة ويعطي مثــال على ذلــك بدولــة
إسبارطة.
- 3كان القوانين أو النواميس آخر كتاب أفالطون الذي كان آنذاك شيخا فكانت أفكاره أكثر واقعية ومن خاللهــا
اعترف بوجوب سيادة القانون أي أّنه أعــاد االعتبــار للقــوانين الدســتورية الــتي هي جــزء ال يتجــزأ من الثقافــة
العامة لألثينيين ونقطة تحّو ل أفالطون هي خضوع الحاكم الفيلسوف والمحكومين للقانون والدستور.2
ب -الجمهورية الفاضلة:
اتبع أفالطون المنهج العلمي في كتابه الجمهورية حتى تكون بذلك نظريته صــورة لدولــة مثاليــة وليس مجــرد
وصف لدولة قائمة ،وللعلم فـإن أفالطـون اسـتعان بـالعلوم الطبيعيـة والهندسـة لمناقشـة األفكـار السياسـية وقـد
استعان بعلماء الهندسة من المدرسة الفيتاغورية في أكاديميته بل أنه فرض على من يدخل األكاديمية أن يكــون
عارفا بالرياضيات والهندسة وقد ركــز في جمهوريتــه الفاضــلة على الحكمــة والشــجاعة والعفــة والعدالــة وقــد
وضع تنظيما خاصا بهذه الجمهورية وأن يجعل من التركيبــة البشــرية مركــز اهتمامــه فيم يخص تربيــة النشء
وتعليمه .وتبدأ هذه النظرية بتقسيم المجتمع إلى ثالث طبقات :
-1طبقة الحكام ومهمتها الرسمية السهر على المصلحة العامة وهي أهم الطبقات ألنها تمثل الفالســفة الحكمــاء
وهم بذلك نخبة المجتمع.
-2طبقة الحراس أو المحاربين ومهمتها الدفاع عن الدولة والمجتمع وتتمثل فيهم الشجاعة والفضيلة
-3طبقة العمال والفالحين أي المنتجين ومهمتها تـأمين مـا يحتاجـه المواطـنين ويضـاف إلى هـذه الفئـة العبيـد
واألجانب ويمنع أن يكون اليوناني عبدا.
لقد أعطى أفالطون كل طبقة وظيفة أساسية ليقوم بهـا في ميـدان اختصاصـه وانجـاز مـا أوكـل إليهـا وهـو من
األوائل الذين فّك روا في تقسيم وتخصيص العمـل ،وشـبه هـذه الطبقـات بالمعـادن ،فشـّبه طبقـة الحكـام بمعـدن
الذهب ،وطبقة الحّر اس بمعدن الفضة وطبقة العمال بمعدن النحاس ،وكل معدن يحظى بمــا يســتحقه من قيمتــه
الفعلية ،وهذه الطبقات الثالثة متساوية أمام القـانون والدولـة ،وكـل طبقـة لهـا وظيفتهـا األساسـية تقـوم بهـا في
ميدان اختصاصــها ،من جهــة أخـرى شـبه التقسـيم الطبقي في المجتمــع بــأنواع نظريــة النفس البشـرية الثالثـة
المتمثلة في النفس الناطقة وهي القوة العاقلة والتي تقابلها طبقـة الفالسـفة وفصيلتها الحكمـة ومركزهـا العقـل،
والنفس الغضبية والتي تقابلها طبقة المحاربين وفضيلتها الشجاعة ويقابلها القلب في الجسم ،والنفس الشــهوانية
وهي القوة الشهوانية التي يقابلها طبقة العمال وفضيلتها العفة ويقابلها أسفل البطن.
1جورج سباين ،تطّو ر الفكر السياسي ،الكتاب األّو ل ،تر :حسن خالل لعروسي ،ط ،4القاهرة ،دار المعارف ،1971 ،ص.50 :
2ابراهيم أحمد شلبي ،تطّو ر الفكر السياسي ،الدار الجامعية للّطباعة والنشر ،1985 ،بيروت ،ص.120 :
9
إن المثير لالنتباه في مدينة أفالطون المثالية هــو اهتمامــه بحكومــة الفالســفة وبالكيفيــة الــتي يتم اختيــارهم عن
سائر المواطنين وكذا بالشروط والقيود التي وضعها فيهم والمتمثلة في االبتعاد عن ملــذات الحيــاة ،وتحريــرهم
من الملكية الفردية ومن حب المال وتكوين أسرة ،وتفرغهم بالتالي لخدمة المجتمــع والدولــة ألنهــا هي المطلب
األهم وهي األّو ل واألخير في حياته .ويبّر ر ذلك بأن الحكام الفالسفة يحتلون أسمى المراتب في المجتمع وهــذا
سيغنيهم عن الملكية الخاصة ،وأّم ا الجنود فليس لهم الحق في امتالك األراضي الزراعية وال المعادن النفيســة،
أّم ا مأكلهم ومشربهم فيتم دفعه من طرف الشعب في شكل ضريبة سنوية نظير حمايتهم لهم.
كما لجأ إلى إللغاء تكوين األسرة لمــا لهــا من حقــوق وواجبــات وارتباطــات على رب األســرة تعيقــه في تأديــة
وظائفه والتفرغ لها.
ج -العدالة و التربية :
الفضيلة جوهرالعدالة عند أفالطون وهي توازي مجموعة الفضائل التي تنظم الحياة البشرية العامة والخاصــة،
ويعـني ذلـك أن يـؤدي كـل فـرد في الدولـة مـا عليـه من التزامـات وواجبـات بحكم موقعـه وبحسـب حالتـه الطبيعيـة ، 1
فمن المعروف أن البشر يختلفون من حيث قواهم الجسـدية والعقليــة والفكريــة ولكن إذا قـام كــل واحـد بوظيفــة
تتناسب وخصوصياته عمت السعادة في المجتمع وانتشرت العدالة التي تولد الروابط االجتماعية.
أما بخصوص التربية والتعليم فيرى أفالطون بأن التعليم هو الوســيلة اإليجابيــة الــتي يســتطيع الحــاكم تكــييف
الطبيعة البشرية على النحو الكفيل بإيجاد دولة متجانســة والتعليم إجبــاري خاضــع لرقابــة الدولــة ،أمــا منهاجــه
فينقسم إلى قسمين:
-1التعليم األولي الذي يشمل تــدريس النشء حــتى ســن العشــرين وينتهي عنــد بدايــة الخدمــة العســكرية ،تقــدم
للتالميذ أنواع األدب والشعر الرفيع.
-2التعليم األعلى الــذي يقتصر على المتفــوقين من الجنســين ويمتــد حــتى ســن الخامســة والثالثــون وفي هــذه
المرحلة يتلقى الطلبة علوما مختلفة كالهندســة والموســيقى والفلســفة ،وهم عنــد هــذا الســن يكونــون أهال لشــغل
مناصب في الحياة العامة والحكم كما يرى أّن الرياضة البدنيــة والموســيقى هي من أهم وســائل التربيــة بصفة
عامة ،وهناك تعليم عالي بعد سن الخامسة والثالثين تدّر س فيه الرياضيات والفلك والمنطق وهذه الدراســة هي
المدخل المالئم والوحيد إلى دراسة الفلسفة فكما يقال أن دقة بحث الفيلسوف عن الخبر تساوي دقة الرياضيات.
د -أنواع الحكومات والحكم المفضل عنده :فصل أفالطون في أنظمة الحكم التي بإمكانهــا التحقــق في أي
مكان وزمان ورتبها حسب األفضلية من واحد إلى خمسة وهي كالتالي:
-1الحكومة األرستقراطية :وهي حكومة الممتازين والحاكم فيها فيلســوف (حكومــة الفــرد الفاضــل) فهــو على
درجة عالية من الذكاء والمعرفة والفطنة والحكمة وعلى قدرة فائقة في اإلدراك ،وفكرة الخير ال تفارقه و هــذا
أمر طبيعي ألنه يحاول دائما أن يتشّبه باإلله ،وبالتالي فإن هذا النوع من الحكام ليس بحاجة إلى قــوانين تقّي ده،
ففضيلته وحكمته تجعالنه دائما يتخذ القرار الصائب واألصح ،والحاكم الفيلسوف يسعى على توجيه شــعبه إلى
الطريق المستنير ومنه إلى السعادة الحقيقية ،وكما يعمل دائما على قمع الفساد لذا وضــع أفالطــون زمــام الحكم
والسلطة في أيدي الفالسفة.
-2الحكومة التيموقراطية :وهي حكومة األقلية العسكرية تصل إلى الحكم بواسطة قّو تها ونتيجة فساد الحكومة
األرستقراطية وهي مظهر انحالل الدولة المثالية.
-3الحكومة األوليجارشية :وهي األقلية الغنية التي تملك المال وهنا تظهر األغلبية الفقيرة من الشعب ألّن هــذه
األقلية التي بيدها الحكم تجعله في صالحها وتنمي بذلك ثروتها الشــيء الــذي يوســع الهــوة بينهــا وبين األغلبيــة
الفقيرة ،وقد جاءت هذه الحكومة نتيجة فساد الحكومة التيموقراطية أو األقلية العسكرية.
1محمد نصر مهنا ،علم السياسة ،دار غريب للنشر والتوزيع ،القاهرة ،ص.98 :
10
-4الحكومة الديمقراطية :أو حكومة الشعب وهي انتشار الحرية و المساواة في المجتمع وقمــع الفســاد ،ويعــود
بذلك الحكم للشعب ،هذا األخير يشارك في الحياة السياسية بصورة فعالة وتحقيق لرغبة الجماهير الفقيرة الــتي
طالما عانت من الفقر والحرمان وتأتي كذلك بعد فساد حكومة األقلية الغنية السالفة الذكر.
-5حكومة الطغيان أو الحكومة االسـتبدادية :وهي فسـاد الديمقراطيــة و انتشـار الفوضــى في المجتمــع الشـيء
الذي يدفع الفرد باألخذ بزمام الحكم واالنفراد به لذلك سميت بحكومة الفرد الطاغية ،ولكن هذا الفرد يعيش في
حالة قلق وخوف دائمين أي في حالة الالاستقرار.
هذه األشكال من األنظمة حسب رأي أفالطون تشكل دائرة مغلقة ومتعاقبة الواحدة تلوى األخــرى ،وهــذا طبعــا
إذا توفرت الظروف واألسباب.
فعلى مستوى النظام األرستقراطي يبدأ بفساد أخالق الفالسفة ونتيجة لذلك إهمالهم للتربيـة فيتهـافتون ويلجئـون
إلى المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة ويسعون لطلب المجد والجاه ،وبعد أن يكــون الخــير قــد عّم
المدينة يظهر الشر كانقالب ويبدأ في االنتشار بحيث البد من مواجهته بالقوة وهنا تتدخل القوة العسكرية وتأخذ
بزمام األمور ولكن سرعان ما تفقد هذه الطبقة خصالها المتمثلة في الشجاعة واإلقدام وهــذا لظهــور إغــراءات
جديدة وهنا يظهر نظام جديد وهي األقلية الغنية وتعمل على تنمية ثرواتها دون االلتفاف أو االعتناء باألغلبيــة
الفقيرة ،وبما أن الشعب تّو اق للحرية والمساواة فسرعان ما يأخذ بزمام األمور ويطيح بــالحكم الســابق ويتــولى
السلطة والممارسة الشعبية فتنتشر الحرية والمساواة ،ولكن عيوب الديمقراطية المتمثلــة في المناقشــات وإبــداء
اآلراء المتواصلة وغير المنقطعة تعطل العمل وتجعل المجتمع يعيش في فوضى عارمــة ،وهنــا يســتغل الفــرد
هذه الوضعية ويأخذ الحكم بالقوة ويمارسه ،وهنــا يظهــر االســتبداد والطغيــان ويصبح هــذا الفــرد متحّك مــا في
الدولة دون رقيب وال حسيب ،وهكذا ....سوف يفقد هذا النظــام وتــدور الــدائرة ويــأتي الفيلســوف ليأخــذ الحكم
مرة أخرى وهكذا دواليك.
-النظام المفضل عند أفالطون:
يفضــل أفالطــون النظــام األرســتقراطي ،فــالحكم لــدى فئــة تملــك الفضــيلة والحكمــة وهي ذات إدراك وتبّص ر
واسعين ،وأسوأ األنظمة النظام الديمقراطي الذي تعّم ه الفوضى ويساوي بين األفراد ويبعد الفالســفة عن الحكم
ورغم ذلك اعترف في أواخر حياته أن دولنه المثالية ونظامها األرســتقراطي وحاكمهــا الفيلســوف على درجــة
كبيرة من المثالية وال يمكن أن تتحقق في دولة واقعية ،وعلى هــذا يعيــد النظـــر فـــي بعض آراءه و يلجـــأ إلى
وضع نظام جديد وهذا في كتابه األخير القانون الذي كتبه في شيخوخته وهو النظام المختلط والذي وضــع لكي
يحقق االنسجام والتوازن بين القوى والجمع بين عـّد ة مبــادئ مختلفــة ينتج عنهــا االســتقرار ،وهــذا النظــام هــو
الجمع بين الحكمة في النظام الملكي أو األرستقراطي ومبدأ الحرية في النظام الديمقراطي. 1
-5الفكر السياسي عند أرسطو:
أرسطو هذا الفيلسوف والسياسي الكبير ،ساهم في إدخال المنهجية في علم السياسة وتحليــل الدســاتير اليونانيــة
والتعّر ف على أنظمة الحكم قبل أن يبدي رأيه في األمور السياسية وبذلك أفالطــون في اعتمــاده على المنطــق
وتحكيم العقل في المسائل الدقيقة ،فقد اهتّم أرسطو بدراسة الـدويالت األثينيـة السـائدة وقـارن بين تجـارب كـل
دويلة ثم أبدى رأيه في نظام الحكم بطريقة منطقية مستمدة من التجــارب والوقــائع الــتي شــاهدها .هــذا التحليــل
المنطقي ساعده على إظهار شخصيته العلمية وتطــور األفكــار المثاليــة الــتي تــأثر بهــا غــداة اختالطــه بأســتاذه
أفالطون في أكاديميته ،حيث لم يركــز تفكــيره على المنطــق العقلي والتحليــل النظــري المجــرد فقــط ،بــل اتبــع
اقتران أسلوب القيادة العقلية بالتجارب التاريخية والحياة الواقعية السياسية.
أ -إنتاجه الفكري:
13
3ـ الديمقراطية ،وهي الشكل الفاسد "للجماهيرية أو الشــعبية" ،حيث يوجــد حكومــة فيهــا أكــبر عــدد ممكن من
الشعب ،ولكن تمارس سلطتها لمصلحة الفقراء والــذين هم أكــثر عــددا وليس للمصلحة العامــة مثــل الحكومـــة
الش ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعبية.
ت ـ التصنيف الـــواقعي للدســـاتير واألشـــكال المختلفـــة للديمقراطيـــة:
أدخل أرسطو معيارا يرتكز على الــتركيب االجتمــاعي للجماعــات الــتي تحكم ،وعلى المشــاركة لكــل من هــذه
المجموعـــــــات في ممارســـــــة الســـــــلطة .ويقصد هنـــــــا تصنيف للدســـــــاتير االجتماعيـــــــة.
األشـــــــــــــــــــكال المختلفـــــــــــــــــــة للديمقراطيـــــــــــــــــــة:
أدخــل أرســطو معيــارين إضــافيين على نمــوذج الحكم الشــعبي "النقي" وهمــا :طــرق الحصول على الســلطة
والوضعية المهنية المسيطرة داخل هذه األنظمة .وفـق أرسـطو يوجـد خمس طبقــات اجتماعيــة أساسـية وهي :
المزارعون ،الحرفيون ،التجار ،العمال ،المأجورون ،العسكريون .عندما تمارس السلطة من قبـل فئـة من هـذه
الفئات االجتماعية سنكون أمام شكل خاص من الديمقراطية .يعـّرف أرسـطو هـذا الشـكل كالتـالي":شـكل آخـر
للديمقراطية هو المشاركة للجميع في الهيئات القضائية ،بشـرط واحـد هـو أن يكونـوا مواطـنين ولكن من غـير
حكم للقانون" .وفي النهاية نجد شكال آخرا للديمقراطية عند أرسطو ،ويتصف بوجــود جميــع الشــروط الســابقة
ولكن مع اختالف هو أن السلطة تعود للجماهير الشعبية وليس للقــانون.
هناك تصنيف يعتمد الفئات االجتماعية المسيطرة ،ويميز فيه أرسطو ثالثة أشكال أساسية للديمقراطية:
-أوال :ديمقراطية تصّنف بالريفية ،وفيها "الزارعــون والمــالكون لميزانيــة متوســطة يســيطرون على الســلطة
العليا للدولة".
-ثانيا" :ديمقراطية" فيها " :جميع المواطنين لديهم الحق في المشاركة باتخاذ القرار ولكن يحق فقط لمن لديــه
وقت فراغ أن يحصل على هذا الحق" ،وبالطبع األغنياء هم أكثر الناس حصوال على هذا الوقت.
-ثالثا :ديمقراطية الجماهير الشعبية .كل المواطنين يشــاركون في الحكم "إنهــا الجمــاهير الفقــيرة الــتي تحكم
وليس القــانون ،وهي تســيطر على الســلطة العليــا للدولــة".
ث ـ الشــــــــــــــــــــــكل األفضــــــــــــــــــــــل للحكومــــــــــــــــــــــة.
1ـ تبــــــــــــــــــــــــــــني خطــــــــــــــــــــــــــــوة علميــــــــــــــــــــــــــــة.
يقدم أرسطو في هذا المجال أفكار لم تعرف من قبله ،إنه يتبــنى خطــوة علميــة ويعــّرف موضــوع علم السياسـة
كذلك الدور الذي يقوم به المتخصصون في هذا العلم ":إذا وبشكل واضح ،وفيما يتعلق بالنظام السياسي أيضا،
إنــه يعــود لنفس العلم اختبــار مــا هــو الشــكل األفضــل وأي نــوع يجب أن يكــون عليــه حــتى يقــدم أو يســتجيب
الحتياجــات النــاس ،ومــا هــو الشــكل الــذي يتوافــق مــع هــذا أو ذالــك الشــعب ،ألّن الكثــير من الشــعوب ليس
باستطاعتها الوصول إلى النظام األفضل ،الهيئة القضائية الجيدة أو إلى رجال دولة حقيقـيين" .يطـرح أرسـطو
ثالثة قواعد جوهرية :
األولى :وهي أن نحاول تعريفها بشكل ذهني مجرد ،أي شكل ممكن للحكومة ســيكون أفضــل ونحن نعــرف أن
هذا التعريف الذهني المجرد ال يمكن تحقيقه إال في شروط أولها عدم وجود عناصر خارجية.
الثانية :محاولة اكتشاف أفضل األشكال للحكومة بالنسبة لشعب محدد.
الثالثة :يجب أن نجهد لكي نعرف ما هي الوسائل التي تسمح باالحتفاظ وألكبر فترة ممكنــة بالشــكل الحكــومي
الــــــــــــــــــذي نعتــــــــــــــــــبره األفضــــــــــــــــــل في خياراتنــــــــــــــــــا.
2ـ معيـــــــــــــــــــــــــــــار المنفعـــــــــــــــــــــــــــــة العامـــــــــــــــــــــــــــــة.
يقول أرسطو ":إنه من الواضح أن جميع الدسـاتير الــتي لــديها رؤيــة للمنفعــة العامــة هي صــحيحة من منظــار
العدالة المطلقة؛ أما الدساتير التي ال تهدف للمصلحة العامة فهي فاسدة ،وهي منحرفــة عن دســاتير صــحيحة".
إذا البحث عن تحقيــــق المنفعــــة العامــــة هــــو معيــــار جــــوهري نقيم من خاللــــه النظــــام السياســــي.
3ـ ســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيادة القـــــــــــــــــــــــــــــــــــــانون.
يعتبر أرسطو أنه ال يوجد حكومة جيدة ممكنة إذا كنا ال نستطيع ضمان سيادة القــانون ":القــوانين ،وبشــرط أن
14
تكون موضوعة بشكل صحيح ،عليها أن تكون ذات سيادة ،فعند القضاء ال يستطيع اتخاذ القرار بشكل سيادي،
القــــوانين ســــتكون عــــاجزة عن القــــرار في مســــائل محــــددة ".
4ـ حكومــــــــــــــــــــة الطبقــــــــــــــــــــة المتوســــــــــــــــــــطة.
في تحديده لمعيار الحكومة الجيدة،أرسطو يتبنى مفهوما واقعيا وليس مثاليا كما كان من قبلــه،إنــه ال يبحث عن
تعريــف الدســتور األفضــل "كأولويــة" أو وضــعه وفــق مبــادئ فلســفية معتــبرة كقواعــد أساســية .مــا هــو مهم
لديه،وقبل كل شيء،هو الوصول إلى وضع ":شكل أو منهج للحياة حيث معظم الناس يستطيعون العيش بشكل
مشترك،ودستور يتم تبنيه من معظم هؤالء" " .الحياة األفضل هي تلــك تشـَّك ل من خالل شـيء وسـطي ،وهــذا
الشيء الوسطي يوضع في التنفيذ من خالل الطبقة الوسطى" .ففي المدينة يوجد ثالث طبقات اجتماعية :
"األشخاص األكثر غنى ،األكثر فقرا ،واألشخاص في الوسط بين الطبقتين السابقتين".
ج ـ أهميـــــــــــــــــة عمـــــــــــــــــل أرســـــــــــــــــطو.
العمل السياسي ألرسطو "كتاب السياسة" هو األكثر تأثيرا ،واألكثر عمقا واستمرارا عبر التاريخ .في العصر
الروماني ،أطروحــات أرســطو أثــرت على أكــبر المنظــرين الرومــان ،مثــل Polybeو ، Ciceronواللــذان
اعترفا بضرورة األخذ بالتحليل األرسطي لنماذج الحكم أو األنظمة السياسية .فيمــا بعــد وفي العصر الوســيط،
كان أرسطو موجــود دائمــا في جملــة مثــل " كتب أو قــال أرســطو" ومســتخدمة من قبــل معظم الكتــاب .أيضــا
حضرت أفكار أرسطو في عقول وقلوب فالسفة السياسة في عصر األنوار .بالمقابل ،خالل القرن التاسع عشر
والقرن العشرين تم إهمال الفكر األرسطي .طبعا هذا لم يستمر طويال ،حيث النظريــات الحديثــة لعلم السياسـة،
كا "الوظيفية" مثال ،أخذت أيضا من مناهج و أفكار األرسطية .إذا "كتاب السياسة" كتاب يفتن القارئ ويذهلــه
كونه تحدث عن قضايا كثيرة نعيشها اليوم ،وكونه مصدرا عظيما للفكر اإلنساني.
أوجه االختالف بين أفالطون و أرسطو
من خالل دراستنا لكال من أفالطون وأرسطو يمكننــا اآلن إبــراز أوجــه التشــابه واالختالف بين الــرجلين أو
المعلم والتلميذ:
-01أوجه التشابه :الدولة ضرورية حـتى تحقـق الطبيعـة اإلنسـانية أعلى ذروتهـا في التقـدم والـرقي /أنشـأت
الدولة من أجل تحقيق أهداف تتمثـل في توفـير الشـروط الطبيعيـة والعقليـة الالزمـة للحيـاة الفاضـلة /التطـور
األخالقي ال يتحقق إال في دولة المدينة /من يعيش خارج دولة المدينة ال يكون إال إله أو بهيمة إلخ...
-02أوجه االختالف:
أ -يــرى أفالطــون أن الهــدف من تكــوين الدولــة هــو إيجــاد الفــرص المتســاوية بين األفــراد وتحقيــق العدالــة
االجتماعية والحاكم األب الروحي الذي يقــود أبنــاء أمتـّـ ه بينمــا يــرى أرســطو أن العالقــة بين أفــراد المجتمــع
تختلف عن العالقة تربط أفراد األسرة الواحدة وإذا كـان األب يسـتطيع اتخـاذ القـرارات الفرديـة فالحـاكم مقيـد
بقانون عام وتوجد مساواة بينه وبين بقية أفراد مجتمعه وهذا األمر اهتدى إليه أفالطون في شيخوخته.
ب -أفالطون يضع الثقة الكاملة في الحاكم الفيلسوف ،أما أرسطو فيضع ثقته كلها في الدستور.
ج -أفالطون رفض الملكية والزواج ألن مأساة الدولــة تتمثــل في الجشــع واالرتبــاط الــروحي بالعائلــة في حين
يرى أرسطو أن حب التملك والتعلق العاطفي باألسرة ظاهرة إنسانية عادية ال فائدة من تجريد أي شخص منها
د -المرأة عند أفالطون لها نفس مكانة الرجل وبإمكانها تقلد مناصب في الدولة والحكم ولو أن أحسن عمل لهــا
هو اإلنجاب لكن أرسطو احتقر المرأة واعتبرها أقل شأنا من الرجل وهي دائما في تبعية له.
خالصــــة :كانت تعاليم أرسطو بمثابة رد فعل ضّد المثل األفالطونية ،أستاذه الذي أثر فيه في بداية حياته لكن
سرعان ما تفّطن للواقع والتاريخ مستغال في ذلك الوسط الذي عاش فيــه ،متخــذا من العلــوم البيولوجيــة منهجــا
علميا لدراسة الظواهر السياسية وانطلــق من الواقــع وفّس ر األنظمــة من خالل دراســات تاريخيــة واهتــدى في
األخير إلى الموقف الوسط في كل القضايا واألمور.
15
-6الفكر السياسي عند الرومان:
أ -المدارس الفلسفية التي أثرت في الفكر السياسي عند الرومان:
-01المدرسة الرواقية Stoiciens les
وتعتبر من أهم المدارس الفلسفية التي دامت أو سادت أكثر من خمسـة قـرون في دول حـوض البحـر األبيض
المتوسط وأوربا عامة ،وانتشر المذهب الرواقي في إطار الثقافة اليونانية وتحت تأثير األفكــار الــتي تــدعو إلى
المواطنة العالمية أي عدم التحمس واالهتمام بالقوميات المحلية ،والـدعوة إلى تأييـد األنظمـة السياسـية السـائدة
وأصحاب هـذه المدرسـة يؤمنـون بالنزعـة الفرديـة أي أن الحيـاة الفاضـلة عنـدهم هي الممارسـة وقهـر النفس
واالنكماش أو االنطواء على الذات ،ويمكن االبتعاد والهروب من الشر واألفعال الخبيثة عن طريــق التحكم في
النفس .والمجتمع المثالي عندهم يقوم على الواجبات وضبط النفس وال يقوم على المعرفة كما جــاء في الفلســفة
اليونانية.
ومؤسس هذه المدرسة هو " زينون األكتومي 490-430( "Zénon of Elea -ق م) وهو يوناني من أصل
فينيقي ولد في أكتوم بقبرص ،من أسرة كانت تمتهن التجارة ويقال أّنه مــات منتحــرا ،واهتم بالفلســفة ألنــه فقــد
ثروته وكل ما يملك في حادث غرق سفينته .وفي أثينـا اهتم بالفلسـفة وتعليمهـا لتالميـذه في رواق ،أي الـرواق
المحلي بالنقوش .ولذلك سمي أتباعه بالرواقيين نسبة إلى مكان اجتماعهم.
على الرغم من أن الرواقية مدرسة معاصرة لألبيقورية ومعارضــة لهــا ،لم يبقى إّال القليــل من المصادر الــتي
تهتم بهذا المذهب ،وعلى الرغم من ظهورها في أثينا وازدهارها في روما وكــثرة أتباعهــا ألنهــا تؤيــد وتســاند
النظام السائد في روما ،لم تؤثر على الفكر السياسي الحديث في أوربا وغيرها مثل المدارس اليونانيــة الكــبرى
كاألفالطونية واألرسطاطيلية وأهم مميزات الرواقية :
-1العقل عندهم هو الذي يحّد د كل التصورات البشرية ويصنف أيضا قواعد السلوك األخالقي.
- 2اهتمامها بالفلسفة القائمة على التربية األخالقية والروحية ،حيث تأثرت بها معظم المذاهب الدينية المسيحية
في القرون الوسطى.
واألخالق عند الرواقيين تقوم على مبدأ أساسي هو العيش وفق الطبيعة أي حسب ما تقتضيه الطبيعة.
-02المدرسة األبيقورية Epicuranisme( ( :
أسس هذه المدرسة " أبيقور 341-270( " Epicurus-ق م) في سن الثالثين وهـو فيلسـوف مـادي وملحـد
وأبــوه أثيــني كــان يمــارس مهنــة التعليم وأّم ه تمــارس الشـعوذة وفنــون السـحر ،وتعلم في مدرسـتي أفالطــون
وأرسطو ،وتنطلق فلسفته من االعتراف بخلود المادة .وهــو ينكــر تــدخل اآللهــة في الكــون ،وأبيقــور فيلســوف
حسي ،واألحاسيس عنده صادقة بذاتها ألنها تنطلق من الواقع الموضوعي ،والمعرفة عنده هي تحرير اإلنسان
من الجهل والخرافات أي من خوف اآللهة.
أما المدرسة األبيقورية والتي تسّم ى بـ"حديقة أبيقور" فإّن مذهبها يهتم بالفرد وإشباع رغباته ونزواته وشهواته
لكي تتحقق جميع أنواع ملذاته وســعادته .والمنفعــة أي المصلحة الفرديــة هي الغايــة األساســية لتحقيــق ســعادة
اإلنسان وغاية الفلسفة هي تحرير اإلنسان من األلم وتحقيق ملذاته ،والفلسفة عنده تنقسم إلى ثالثة أقسام:
أ -المنطق أو العلم القانوني :الذي يهتم بالبحث في شروط المعرفة الصحيحة التي تؤدي إلى الطمأنينة وتحقيــق
سعادة اإلنسان ،وهذه المعرفة أنواع كاإلحساس والتصورات وانفعال اللّذ ة واأللم.
ب -الطبيعة :وتتمثل في التفسير اآللي للطبيعة والمادة التي تتكون من ذّرات منفصلة ال تحصى والتي جاء بهــا
الفالسفة الطبيعيون كديمقراطيس.
ج -األخالق :فوظيفة األخالق عند األبيقوريين هي القضاء على الخوف واالبتعاد عن األلم وتحقيق أكــبر عــدد
ممكن من اللذة ألنها هي األسمى والدائمة لسعادة اإلنسان .والمــذهب األبيقــوري يــدعو إلى االبتعــاد عن الحيــاة
السياســية .ألنهــا تســبب األلم وتقهــر رغبــات وميــول النفس البشــرية ،ولقــد تــأثر معظم الفالســفة والمفكــرين
باألبيقورية مّم ا جعلها تنتقل من موطنها األصلي إلى رومــا .ونــذكر الشــاعر الــرومي"لوكيــتيوس" الــذي كــان
16
أعظم ممثل األبيقورية في روما .واألبيقوريين يســاندون ويؤيــدون سياســة النظــام اإلمــبراطوري لرومــا ،مّم ا
جعلها تتطّو ر وتزدهر في القرون الوسطى والحديثة خاصة عند الملوك والقياصرة.
ب -الفكر السياسي عند شيشرون ( مفهوم القانون /نظرته للدولة )
-توطئـــة :يقال بأن الفكــر السياســي الرومــاني لم يــؤثر على الفكــر المســيحي في القــرون الوســطى خاصــة،
والفكر السياسي الحديث والمعاصرعامة كالفكر السياسي اليوناني على الرغم من المحاولة واالبتعاد من الفكــر
اإلغريقي .وعلى هذا األساس كانت مساهمة الرومان في إثراء الفكر السياسي ضعيفة وهــذا راجــع إلى النفــوذ
السياســي الــديني الــذي كــان يتمتــع بــه قــادة رومــا في أوربــا بــالرغم من االنتصارات العســكرية لــتي حققتهــا
اإلمبراطورية الرومانية ،وما أسسته من نظم قانونية ودستورية ،وأيضا بالرغم من اهتمامهم بالعمل واالبتعاد
عن الفلسفة التأملية واإليمــان بالواقعيــة وانتقــال المــدارس الفلسـفية اليونانيــة إليهم وتطويرهــا حسـب سياسـتهم
الخاصة.
لم تهتم روما بالفكر الخالق والمبدع كأثينا ،ولكنها طورت المعرفـة القانونيـة وأعطت الحريـة المطلقـة للحـاكم
وحددت العالقة بين المواطن والدولة وخاصة اإلمبراطورية الرومانية التي توسعت فيما بعد.
أما العوامل األساسية التي ساعدت على قيام الجمهورية في روما سنة 500ق.م فهي كثــيرة ،أهمهــا :العوامــل
الجغرافية واإلستراتيجية والسياسية العسكرية ،والروح الوطنية واإليمان بالعقيــدة أو المذهبيــة الرومانيــة الــتي
ساعدت ومّهدت لقيام إمبراطورية عظمى في أوربا.
لقد اهتم معظم المفكرين السياسيين والباحثين في علم السياسة بالفكر اإلغريقي والرمــاني وتوّص لوا إلى نتيجــة
واحدة هو أّن هناك ثالثة عهود أو فترات مّر بها الفكر السياسي الروماني المتمثلة في:
-3العهد اإلمبراطوري -2العهد الجمهوري -1العهد الملكي
لقد حكمت اإلمبراطورية الرومانية ثالثة نظم سياسية ،وفي العهد اإلمبراطوري ،أي في الفترة األخيرة لرومــا
بدأ الصراع االجتماعي والسياسي والطبقي بين الطبقة األرسـتقراطية والطبقـة الفقـيرة ،مّم ا جعـل العسـكريين
يصلون إلى الحكم ويتجه النظــام إلى الحكم المطلــق لإلمــبراطور ويــزول تــدريجيا مــا يسـّم ى بمجلس الشــيوخ
ومجلس الشعب.
لقد ظلت اإلمبراطورية الرومانية قائمة حتى نهاية سنة 395ق.م ،إذ انقسمت إلى غربية وعاصـمتها السياسـية
روما وشرقية وعاصــمتها السياســية القســطنطينية وســقطت اإلمبراطوريــة العظمى على يــد األتــراك والقبائــل
الجرمانية .وبالتالي سنعرض أهم المفكرين السياسيين الذين ساهموا في تطوير الحضارة الرومانية.
19
كانت الفكرة الكالسيكية للمجتمع المدني تكتفي ذاتيا في التعرف على المنظومة القيميــة للدولــة ،فمفهــوم العــدل
مثال ،يمكن إدراكه من العقول ،وهذا يعني االعتماد على التراكم المعرفي في إدراك شكل المجتمع واحتياجاته،
بينما يعتقد أوغســطين أن المنظومــة القيميــة يتم اســتنتاجها من مرجعيــة إلهيــة ،وال يمكن االعتمــاد على العقــل
والتراكم البشري.
من الواضح جدا بناء هذه الثنائية ،والفصل الحاد بين ما هو ديني ومــا هــو دنيــوي ،والتعامــل مــع هــذه الثنائيــة
كضدين ال يجتمعان ،فإما هذه الطريقة وإما هذه ،وليس رجل الدين هو المسؤول الوحيــد عن هــذه األزمــة ،بــل
كان الفيلسوف أيضا متورطا فيها ،حين اعتقد أن العقل الفلسفي هو الذي يعتمد على ذاته بشكل كامل ،ويرفض
أي مرجعية متجاوزة ،بل هاجم الفالسفة كل فلسفة دينية ،وادعوا أن ذلك محال.
لقد استمرت هذه العداوة والتضاد بين التمركز حول (هللا) من جهة ،والتمركز حول (اإلنسان) من جهة أخرى،
من العصر اليوناني ،حتى ظهور نقاد الحداثة ،أو عصر ما بعد الحداثة في القرن الماضــي ،حينهــا أدرك كثــير
من المفكرين هذه الثنائية المتوهمة ،وأن العقل والدين يمكن أن يكونا في مجتمع واحد ،لكن بشــرط أن يحصل
تغيير جذري في مفهوم اإلنسان والعقل والدين.
لم يكن رجل الدين المسيحي يولي أي اهتمام للدولــة في البدايــة ،بــل كــان يعــدها عقوبــة إلهيــة ،ألن من طبيعــة
السياسة أنها تحتك بالواقع بشكل مباشــر ،ومن شــأن هــذا االحتكــاك أن يوّل د األخطــاء واآلثــام ،وأن يــدنس من
طهـارة الكنيسـة ،وعلى الكنيسـة أن تنـأى بنفسـها عن العمـل السياسـي ،حـتى تحافـظ على طهارتهـا وقـد مّث ل
أوغسطين تحوال هاما في هذه النظرية ،فهــو يوافــق على أّن الدولــة خطيئــة ،لكنــه يعتقــد أن الدولــة نفســها هي
كفارة هذه الخطيئة ،بمعنى أن الدولة هي الداء وهي الدواء ،ورأى أن أخطاء السياسة ال تدنس الكنيســة ،وإنمــا
تدنس رجال الدين وحدهم ،وستبقى الكنيسة مستقلة عن أفعال رجالها.
لقد اعتنى اليونانيون بفكرة (العدل) ،وأن على الدولة أن تحقق العدل بالقانون ،ويعتقد أوغســطين أن اليونــانيين
أخطأوا حين ربطوا تحقيق العدل بفعل اإلنسان ،فحتى لو أقـام اإلنسـان دولــة القــانون ،فـإن المجتمــع لن يكــون
منضبطا ،آمنا ،يحقق المساواة والحرية ،هذه مغالطة كبيرة في رأيه ،ألن العدل منحة إلهية ،تقدم للمجتمع بنــاء
على التزامه بالدين ،وليس له عالقة بشكل الدولة ،وال بعدالتها.
ثانيا :فلسفة المجتمع الديني:
نشأت فكرة المجتمع المدني من منطلق أن مهمــة الدولــة هي تحقيــق غايــات هللا في األرض ،وبمــا أن اإلنســان
ينزع للخطيئة بشكل دائم ،فالبد من قوة قسرية تمنعـه من ذلـك ،وهـذا هـو الشـرط األساسـي إلقامـة المنظومـة
األخالقية ،ولهذا اهتم أوغسطين كثــيرا بفكــرة (الضــوابط) ،و (القيــود) ،فحين نتحــدث عن العمــل أو التعليم أو
االقتصاد ،سنركز االهتمام على الضوابط ،وليس على التصورات أو النماذج.
والفرق الرئيسي بين من ينادي بالمجتمع المدني ،ومن ينادي بالمجتمع الديني ،أن األّو ل يرى أن اإلنســان كــان
يعيش في شكل اجتماعي بسيط ،القرية مثال أو القبيلة ،وهذا الشكل البسيط يقلل من االختالفات بين األفــراد في
األفكار والعادات والتصورات واألديان ،لذلك ال تحتاج القرية أو القبيلـة إلى شـكل معقـد من اإلدارة ،أو ضـبط
حازم من القوانين ،ولكن المجتمعات احتاجت إلى التحالف من جهة ،وتوسعت وازداد عددها من جهـة أخـرى،
فالمدينة ،واإلقليم ،والدولــة ،واإلمبراطوريــة ،تحتــاج إلى شــكل من الضــبط والحــزم ،وااللــتزام بالقــانون ،ألن
االّتساع الجغرافي مثال ،ينتج عنه اتساع الفارق بين المجتمعات في عاداتهم وأديانهم ،وطــرق عيشــهم ،فمهمــة
الدولة هنا هي تحديد العالقة بين األفراد ،حتى يحقق كل فــرد ذاتــه في المجتمــع ،وليس من مهمتهــا أن تضــبط
العالقة بين الفرد وربه ،وهي بمعنى أكثر اختصارا (حالة تعاقدية) ،وبهذا المعنى يستطيع من ينادي بــالمجتمع
المدني أن يفسر حتى دولة األنبياء ،فقد كان النبي صلى هللا عليه وسـلم ينـادي بـ (من ينصرني حـتى أبلـغ دين
هللا) ،حتى تعاقــد معــه األنصار على أن يمنعــوه ممــا يمنعــوا منــه أمــوالهم وأوالدهم وأنفســهم ،لكن من ينــادي
بالدولة الدينية يعتقد ابتداء أن للمجتمــع الــديني مهمــة جــاهزة ومعــدة ،وهي موجــودة في النص الــديني ،ويمكن
اختصارها بما قاله أوغسطين أنها (تحقيق غايات هللا في األرض) ،والسؤال هنا :ما هي هذه الغايات؟
20
ثالثا :نظرية السيفين ،سيف البابا وسيف اإلمبراطور:
يعلم أوغسطين أن رجال الدين ال يســتطيعون إقامــة هــذا النــوع من المجتمــع ،لــذلك كــان مشــروعه مقــدما إلى
اإلمبراطوريــة ،أي رجــل السياســة ،وهــو يــدعوه إلى إقامــة المدينــة المســيحية ،ومن يتجــه هــذا االتجــاه يعلم
المقايضة التي يقوم بها ،لقد كانت اإلمبراطورية في حالة ضعف وتراجــع ،ومن شــأن الــدين أن يضــفي عليهــا
شرعية تخرجها من أزمتها ،هذا هو الثمن األكــبر الــذي ســيقدمه أوغســطين لإلمبراطوريــة المســيحية ،والثمن
الذي سيقبضه رجل الدين سيكون السيطرة على المجال العام ،لضبطه سلوكيا وفكريــا ،والمالحــظ هنــا أن هــذا
النوع من التحالف بين الديني والسياسي يوّل د هــذا الفهم لـ (غايــات هللا في األرض) ،فأوغسـطين يعلم جيــدا أن
للسياسي احتياجاته وطلباتـه ،فليس من الحكمـة أن يتـدخل رجـل الـدين في السياسـة الخارجيـة مثال ،وليس من
الحكمة أيضا أن يحاسب رجل السياسة في تصرفه في األموال العامة ،ألنها عــادة مضــطردة في كــل ممــارس
للسياسة ،لذلك عليه أن يغض الطرف عنها ،بمقابل أن يطلق السياسي يده في المجال العــام ،وأن يســمح لــه في
إنشاء مجتمع متدين في سلوكياته العامة ،وأن يسمح له بنشر التعــاليم المســيحية ،وأن يمنــع الهرطقــات والفكــر
الضال وكل تفسير منحرف للدين من االنتشار ،وهذا مــا جعــل بعض الفالســفة يعـّد أوغســطين أول المنّظ رين
لمحاكم التفتيش.
كان أوغسطين حريصا على أن تكون اليد األقوى لرجل الــدين ،ألنــه يعي أن العالقــة بين رجــل الــدين ورجــل
السياسة ليست عالقة تحالف بين صديقين ،بل هي عالقة صراع في القوى ،ومن المتوقع أن ترجح الكفة ألحــد
الحليفين ،وقد طّو ر رجال الكنيسة هذه النظرية ،وسّم وها نظرية (السيفين) ( ،)Tow Swordsوعززها بعد
القرن الخامس البابا غيالسيوس األّو ل ،يقول جون إهرنبرغ ” :فالدولة وجدت لحفظ النظــام العــام في الشــؤون
العامة ،والكنيسة وجدت لهداية جميع أعضائها ،وكــل ســلطة كــانت ســلطة عليــا ضــمن مجالهــا الخــاص ،على
الرغم ،من أنه افترض (أي غيالسيوس) على العموم ،أنه في حال التصادم ،فإن الغلبــة تكــون لســلطة الكنيســة
الروحية”.
واجه أوغسطين إشكالية فكرية في هذا النوع من التنظير للمجتمع الــديني ،ذلــك أن الــدين يقــوم في أصــله على
حرية اإلرادة ،ووجود مجتمع من هذا النوع ،يعتمد على القسر والمنع واإللزام ،يعارض هذه الطبيعــة الدينيــة،
بمعنى أن الدين لن يكون له معنى وال حقيقــة إذا تم باإلجبــار ،فلجـأ إلى أن يكــون التعليم هــو الحـل ،بمعــنى أن
يكون التعليم موجها ومركزا ومتقنا ،من أجل إيجاد قناعة متأصلة لدى المجتمع بأن هـذا الـدين أو هـذا التفسـير
للدين هوالصحيح ،وأن هذا النوع من المجتمعات هي الراشــدة ،وبالتــالي يكــون النــاس قــد الــتزموا الفكــرة عن
قناعة ،وهو يعلم أنه يؤصل لتعليم الّد ين يقوم على فكــرة فــرض رأي معين ،والحرمــان من التعــرف على آراء
أخرى ،بل يقوم على فكرة نقيضة لحرية المعرفة ،إنه يعرف ويعي ذلك تمامــا ،لكنــه المخــرج الوحيــد من هــذا
المأزق ،لذلك أصبح التعليم ركيزة أساسية في كل مجتمع ديــني ،وأي محاولــة للمســاس بــه ،تواجــه من رجــال
الدين بشراسة ،بل إن أي محاولة لتعميم المعرفة ،وجعلها حرة ومستقلة ،لن تواجه إال بتهم نشـر الفكــر الضــال
والمنحرف ،حتى يبقى الناس على قناعاتهم ،وحتى ال يصل المجتمــع إلى مرحلــة تصارع األفكــار ،ومواجهــة
إشكالية إلزام الناس بما يعارض قناعاتهم.
مفهوم العدالة
لقد دافع أوغسطين كما رأينا في السابق على مجموعة األمم المسيحية ،أي اتحاد الــدول الــتي تعتنــق المســيحية
كديانة لها ،هذا إيمانا منــه أن الــدول غــير المسـيحية عجـزت وتعجـز عن إقامــة العدالــة ،وبهــذا يعــترض أشـد
االعتراض على أراء شيشرون وغيره من مفكري ما قبل المسيحية الذين زعمـوا أن إقامـة العدالـة هي وظيفـة
أية مجموعة األمم أو وظيفة الدولة بغض النظر عن عقيدتها ،فيرى بأن العدالــة ال يمكنهــا أن تتحقــق مــا دامت
الدولة غير مسيحية وبالتالي ومن أجل تحقيق هذه العدالــة يجب أن تكــون الدولــة مســيحية ،وأنــه من المغالطــة
القول بأن الدولة قادرة أن تعطي كل ذي حق حقه في العبادة ،أما فيما يخص الــدول مــا قبــل المســيحية والحــال
هكـذا يـرى أنهـا دول ولكن بـالمعنى الضـيق المحـدود ولم تكن دوال بـالمعنى الشـامل الـذي جـاءت بـه الديانـة
المسيحية.
21
الدولة الحّقة هي التي تقوم فيها العقائد على أسس من التعليم والتي تحافــظ على ســالمة هــذه العقائــد ،وال يمكن
بعد اآلن أي بعد ظهور المسيحية أن ترتقي أي دولة إلى مرتبة الدولة الحّق ة مــا لم تكن المســيحية وال تســتطيع
أية حكومة ليس لها صلة بالكنيسة أن تكون عادلة.
وهكذا نستنتج في األخير أن الدولة المسيحية هي وحدها القادرة على إقامــة العدالــة وإحقــاق الحــق ،ومن جهــة
أخرى تظهر أفكار أوغسطين مثالية ألنها تدعو إلى الفصل بين الخير والشر وبين الفضيلة والرذيلــة وبين حب
الّذ ات واألنانية الفردية وحب هللا الموطن الحقيقي في المدينة السماوية.
أما فيمـا يخص القـانون الوضـعي فهـو أسـاس الحيـاة االجتماعيـة يضـعونه النـاس من عنـدهم و لكن ال يكـون
مناقضا مع القانون اإللهي ويحترمونه وقد ظهرت ضرورته نتيجة اختالل اإلنسان وخطــأه منــذ أن عصى آدم
رّبه.
ب -القديس توما اإلكويني:
-1طبيعة القانون عند توما اإلكويني :القانون عند توما اإلكويــني جــزء ال يتجــزأ من نظــام الحكم اإللهي الــذي
يســيطر على كــل شــيء في الســماء واألرض ،بــل كــان يعتــبره قبســا من حكمــة هللا ينظم العالقــات بين جميــع
المخلوقات وقد أولى توما عناية فائقة في دراســته للقــانون تفــوق بــاقي النظريــات السياســية ،ولــذا كــان تبويبــه
للقانون جزءا من أكثر أجزاء فلسفته تمّيزا فما هي إذن أقسام القانون عند القديس توما اإلكويني ؟
قسم توما القانون إلى أربعة أقسام ،ثالثة إلهية وطبيعية وواحد فقــط من عمــل اإلنســان أو البشــر وهــو القــانون
الوضعي وهذه األقسام هي :
القانون األزلي :هو عبارة عن الوضع األزلي للحكمة اإللهية التي تنظم الخليقة كلها ،ويسمو هــذا القــانون على
الطبيعة البشرية ويعلو على مسـتوى فهم اإلنسـان ،بـالرغم من ذلـك فهـو ال يعـد غريبـا عن إدراك اإلنسـان أو
مضادا لفهمه .
القانون الطبيعي :هو انعكاس للحكمة اإللهية في المخلوقات وهو يتجلى فيما تغرسه الطبيعة في سائر الكائنــات
الحية من سبل نحو فعل الخير وتجنب الشر وحماية النفس ( البحث عن الحقيقة – إنماء القدرة على اإلدراك –
إنجاب األوالد وتربيتهم )...فالقانون الطبيعي يشمل كل ما يدعو إلى إيجاد مجال أوسع لهــذه الميــول البشــرية،
وهو قانون عام للبشر جميعا.
القانون اإللهي :هو الـوحي والتبليـغ ،ويعطي تومـا مثال لـذلك وهـو التشـريعات الخاصـة الـتي أنزلهـا هللا على
اليهود وكذا األحكام الخاصة لألخالق والتشريعات المســيحية الــتي جــاءت عن طريــق الكتب المقدســة ،ولــذلك
فالقانون اإللهي نعمة من نعم هللا وليس من عمل العقل الطبيعي.
و هذه األقسام الثالثة من القانون هي معايير للسلوك واألخالق وال يمكن استمادتها من الطبيعة البشرية.
القانون اإلنساني أو البشري :وضع خصيصا ليالءم الجنس البشري ،وقسمه إلى قانون الشعوب وقانون مدني،
وهذا القانون ينظم نوع واحد من المخلوقات ،والمالحظة هنا هو أن توما اإلكويني لم يأت بأشياء جديــدة بشــأن
القانون اإلنساني بل اعتمد على المبادئ العظمى للنظم السائدة من قبــل في أنحــاء العــالم ،وقــد وضــع هــدا هــذا
النوع من القانون لخير البشر وهو نتاج مجهودهم ويعملــون لخــيرهم جميعــا عن طريــق وضــع التشــريعات أو
العمل بالعادات والتقاليد والعراف أو إسناد األمر إلى شخصية ذات هيبــة تسـهر على عنايــة المصالح العامــة.
لإلشارة فالقانون اإلنساني مشتق من القانون الطبيعي وال يمكن بأي حال من األحوال أن يتعارض معه.
من خالل هده األقسام للقانون نستنتج أن توما أراد أن يصدر نظام واحد معقول يشمل اإلله والطبيعة واإلنســان
حيث يجد المجتمع والسلطة المدنية مكانهمــا الالئـق في ظــل هــذا النظــام ،وهكــذا ففلسـفته ظهــر فيهــا نــوع من
النضج في العقائد الدينية والخلقية التي قامت عليها أنظمة القرون الوسطى.
2-مفهومي المجتمع و الدولة عنده :
يرى توما اإلكويني أن الكون عبارة عن نظام مرتب يمتد في درجات تبدأ من اإلله في أعاله وتنتهي عند أدنى
المخلوقات ،ويعمل كل كائن منها بدافع داخلي مستمد من طبيعته جاهدا في سبيل الخير أوالكمال المالئم لطبقته
من المخلوقــات وذلــك حســب قدراتــه الجســدية والعقليــة ،ويظــل مجاهــدا حــتى يأخــذ مكانــه في هــذا النظــام
22
التصاعدي ،وبطبيعــة الحــال يســيطر األعلى على األدنى ،وكمــا يســيطر هللا على العــالم تســيطر الــروح على
الجسد ،ولكن لكل كائن قيمته .والمجتمع كالطبيعة له أهداف وغايات تقضي على األدنى بأن يخــدم األعلى وأن
يطيعه ،في حين أن على األعلى أن يسود األدنى.1
أّيد توما اإلكويني أرسطو الذي رأى في تبادل المنافع والحاجيات ألن اإلنسان ال يستطيع أن يكفي نفسه بنفسه،
لذلك تعّد دت المهن والوظائف لتشكل في األخير كل متكامل يضــمن الحيــاة الطيبــة والســعيدة الــتي يطمح إليهــا
أفراد المجتمع وهي غاية طبيعية لبني البشــر .أمــا الدولــة فهي هيئــة موحــدة ،وتســعى لتحقيــق العدالــة على يــد
حكومة عادلة ،فما هي مقاييس هذه الحكومة ؟
إن القانون الطبيعي أعطانا درسا ،فرأينا كيف يتناســل البشــر ويحــافظون على حيــاتهم ،وهــذا يــدفعنا لنســتعمل
العقل والبحث في القواعد الــتي تمكن طبقــات المجتمــع من التعــايش مــع بعضــها في ســعادة طبيعيــة ،وبصفته
الحاكم مسؤوال على الرعية ورئيسا للحكومة التي تلعب الدور الفعال في تدعيم الروح الخلقية ،فإن الذي يضــع
القوانين التي تنظم العالقات اإلنسانية بين أفـراد شـعبه ،والحـاكم سـلطته محمـودة ال يسـمح لـه بالقيـام بأعمـال
تتنافى والقانون ومهمته توفير األمن والطمأنينة والنظام وتحقيق الوحــدة وزيــادة أواصــر المحبــة واإلخــاء بين
الناس.
يفضل توما حكومة الفرد أو الحكم األرستقراطي ،فحكومة الفرد مطابقة للطبيعة ،فجســم اإلنســان تــديره النفس
واألسرة يديرها األب ،والعالم يديره اإلله ،وعلى هذا األساس فالدولة يجب أن يحكمها فرد واحد.
أما النوع الثاني المفضل لديه يتمثل في الحكومة األرستقراطية ويبرر ذلك بأن هذا النــوع هــو أكــثر حكمــة من
الديمقراطية الفوضوية.
كما أنه خالف زمالئه في الكنيسة لعدم موافقته على اعتبار جميع المدن فاسدة بسبب الشرور التي ترتكب فيها،
ورأى أن العدالة تسود في المجتمع عندما نضع الحدود الفاصلة بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة.2
والدولة عنده اجتماع سياسي طبيعي لها قوانين يجب على األفراد أن يخضعوا لقوانينهــا ولكن مــا هي وظــائف
الدولة األساسية في رأي توما اإلكويني ؟
يرى أن وظائف الدولة تنحصر في أربعة وظائف أساسية وهي :
-1تحقيق األمن والطمأنينة وحماية األفراد من المخاطر والجوع.
-2تحقيق العدالة االجتماعية بواسطة التشريعات.
-3تحقيق األخالق للمجتمع البشري حسب الكنيسة.
-4حماية الدولة للدين والمحافظة على سياسة الكنيسة.
كما ركز توما على الدولة والحرب فيرى بأن الدولة هي عرضة للخطر الخارجي ولذلك طلب منهــا االســتعداد
للحرب وهي إحدى وظائفها األساسية (تحقيق األمن) ولكن هذه الحرب يجب أن تكون عادلة ومن شروطها ما
يلي :
أن تعلنها السلطة الشرعية وتباشرها بنفسها.
أن تكون أسبابها عادلة أي تهدف إلى دفع الظلم.
أن تستمر فيها بنية صادقة وبعزم ثابت.
إن الحرب من األمور الدنيوية (سفك الدماء) لذلك فهي ال تهم رجــال الــدين والكنيســة ،لكن هــؤالء يســتطيعون
استعمال األسلحة الروحية كإقامة الشعائر والوعظ واإلرشاد والتعليم وغيرها.
-8الفكر السياسي عند المسلمين :
الفكر السياسي اإلسالمي هو ذلك النشاط العقلي الذي يضم اآلراء والمبادئ واألفكار لمجموعة بشرية معينة
هم المسلمين منذ أن نشأ لهم مجتمع سياسي وتكونت لإلسالم دولة منذ عهد النبي (صــل هللا عليــه وســلم) حــتى
1عبد المجيد أبو الفتوح بدوي ،التاريخ السياسي والفكري،دار المعارف ،القاهرة ،1988 ،ص.134:
2موريس كرانتون ،أعالم الفكر السياسي،دار النهار ،بيروت ،197 ،ص.34:
23
عصرنا الحالي بما يعني أن هذا الفكر له مراحله وله تاريخ يشمل هذه المراحل ويضم الكتابــات حــول األفكــار
والمبادئ والنظريات التي تخص حياة وأهداف المسلمين السياسية والقواعد التي تحكم وتنظم ومــا يطلــق عليــه
سياسي ويخص المسلمين كأمة ومجتمع سياسي .إّن ه حقــل معــرفي ينطــوي على دالالت معرفيــة هي خالصــة
مفهوم مركب من ثالثة مفاهيم فرعية :الموصوف وهو الفكر والصفتان له :السياسي واإلسـالمي وكـل مفهـوم
منها تختلف تعريفاته بقدر ما تتشابه وتتنافر بقدر ما تتجاذب.
المرجعية الفكرية لدى فالسفة المسلمين
يذهب البعض إلى أن الفلسفة اليونانية عند أفالطــون وسـقراط وأرسـطوطاليس وغــيرهم هي األســاس الــذي
ُبني عليه تفكير فالسفة المفكرين المسلمين األوائل .إال أن في هذه الدعوى تجاوزا كبــيرا للحقيقــة ،ألن الفلســفة
اليونانية نفسها ليست إال امتدادا وخالصة لألوهام الميتافيزيقية التي كانت منبتا ألديان القــارة اآلســيوية ،وذلــك
ما ُنقل إلى الثقافة العربية في صدر دولة بني العباس وكان مرجعا ألول حركة فلسفية في اإلسالم.
إن اإلنسان عندما نسي المنهج الرباني الذي أنزل مع آدم عليه السالم ،وفقــد الصلة باهلل ،وارتكس في حمــأة
الجاهلية والبدائية ،مألت الهواجس واألوهام قلبه وعقله واستبد به الخوف من الظـواهر الطبيعيـة برقـا ورعـدا
وخسفا وزالزل وعواصف ،وأخذ به الرعب والرهبة من الموت والمصير والمجهــول كــل مأخــذ ،فأقبــل على
نفسه ينسج لها استجالبا للطمأنينة ،خياالت وتصورات وأساطير وخرافـات ،عمـا ال يفهمـه ومـا يرجـوه أو مـا
يرهبه ويخافه .فتراكم بذلك لدى البشرية على مر السنين ،تراث ضخم من المعتقدات الضالة المضطربة ،الــتي
اتخـذت فيمـا بعـد مـادة للتفكـير واالسـتقراء ،والبحث عن الـذات أصـال ومـآال ،وعن الكـون والطبيعـة ماضـيا
واستقباال .ثم تحول هذا التراث إلى قاعدة للفكر الديني الوضعي المفضي إلى عبادة األوثان والطواطم والنجوم
والكواكب ،واتخاذها آلهة وأربابا.
ثم بعد ذلك اُتخذت هذه المعتقدات الدينية منطلقا ومادة للتفكير الفلسفي اآلسيوي الذي ُنقل إلى اليونان وتطور
فيه .وظل مجردا من أهم أداتين للفهم هما :المعرفة الماديــة الصحيحة لحقــائق الطبيعــة بســبب التخلــف العلمي
آنئذ ،والمعرفة الغيبية اليقينية التي ال مصدر لها إال الوحي.
ولعل األسطورة التي رواها أفالطون عن منشأ الفكر السياسي في محاورة "بروتــاجوراس" ،تقــدم لنــا خــير
مثال على ما نذهب إليه من أن الفكر البشري عامة والسياسي خاصة منبثق من الخرافة واألساطير واألوهام.
لقد زعم أفالطــون أن اآللهــة عنــدما شــكلوا المخلوقــات الفانيــة ،أخــذوا يوزعــون عليهــا صــفاتها الخاصــة بهــا
والمحتاجة إليها ،فكان من المخلوقات ما سلحوها بوسائل الدفاع ،ومنها ما تركوهـا عـزالء وزودوهـا بأسـاليب
للمحافظة على البقاء .ولكنهم اكتشفوا في نهاية األمر أنهم وزعــوا جميــع الصفات والقــدرات على الحيوانــات،
ونسوا اإلنسان الذي ُترك عاري الجسم ال يملك مأوى وال أسلحة للدفاع .فعمد "برومثيوس" إلى ســرقة الفنــون
اآللية والنار مع طريقة استخدامهما ـ وهما خاصتان باآللهــة ـ من معبــد أثينــا ،وســلمهما لإلنســان .وكــان ذلــك
سبب حصوله على قسط من الصفات اإللهية التي علمته الحكمة.
على هذه األسس نشأ الفكر الفلسفي وتطور ،مادة بحثه خياالت البشر وأساطير الخرافة وأوهام سدنة األوثان
وعبادها ،مفتقدا أهم وسائل االستقراء والدراسة والفهم عاجزا عن تحقيق هدفه في كشف حقيقة الكــون وطــرق
السعادة.
إن هذه المعتقدات هي المنشأ األول والمبدأ األساس لكل فلسفات البشر الوضعية في ما قبل اليونان:
ـ في بالد ما بين النهرين ،آشور وبابل ومعتقداتهما الخاصة بعبادة الشمس والنور ،وأبناء الطبقة الحاكمة الذين
هم " أبناء الشمس ".
ـ وفي الصين حيث الكونفوشيوسية ،وعقيدة إحياء وميض األنوار في اإلنسان عن طريــق المعرفــة ،واإلنســان
الكامل الذي هو الملك أو النبي أو القائد ،الذي يجمع في ذاته سائر القوى المادية والروحانية ،وعلى قدر كمالــه
تكون سعادة عصره ،وهو بمثابة اإلمام عند الباطنية أو القطب عند الصوفية.
ـ وفي الهند لدى البراهمة ،وعقيدة اتصال النفس بالمبدأ الروحاني " براهمان " ،الذي يحــل في جميــع مظــاهر
الوجود .وعقيدة شرائع " مينو " التي تقسم الناس إلى أربع طبقات:
24
طبقة البراهمة ،رجال الدين والنخبـة السياسـية ،الـذين خلقـوا حسـب زعمهم من رأس اإللـه ،وهم أعلى النـاس
وخالصة الجنس البشري.
وطبقة الجنــد ،حمــاة البالد الــذين خلقــوا من منكــبي "براهمــا " ويديــه ،ويحــق لهم بعــد البراهمــة قــراءة الكتب
المقدسة.
وطبقة التجار والزراع المكلفة باإلنتاج والنشاط االقتصادي و الفالحي ،وخلقوا من ركبتي " براهما ".
وطبقة الخدم واألسرى المخلوقين من قدمي " براهما " ،وليس لهم إال خدمة الطبقات التي فوقهم.
ـ وفي بالد فارس حيث ظهرت الهرمسية والزرادشتية والصابئة والكلــدانيون عبــدة النجــوم ،ممن يــؤمن بفنــاء
الجسد وخلود النفس في النعيم أو الشقاء ،وبالقائد البشري الكامل الذي يعرف حقيقة الوجود.
ـ وفي الفكر المصري الفرعوني ومدرسة اإلسكندرية التي التقت فيها تيارات أوروبا وآســيا وإفريقيــا ،ونشــأت
بها طقوس نظمت مفهوم األلوهية وعالقتها بالبشر ،ووضعت قواعــد الثــواب والعقــاب ،وأنشـأت عقيــدة ثنائيــة
التركيب البشري وخلود النفس ،وأبوة الشمس والنجوم لبعض النخب السياسية.
هذه المعتقدات الهالمية والتصورات الضالة هي التي ورثها اليونان وظهرت فيما كان لــديهم من علــوم وفنــون
وآداب وفلسفة.
ظهرت لدى الفيتاغوريين عقيــدة تــؤمن بثنائيــة الــتركيب البشــري ،وضــرورة تطهــير النفس بــالعلوم الطبيعيــة
والعملية كالموسيقى والرياضيات وما وراء الطبيعة ،كي تتمكن من الصعود إلى عــالم األفالك ،حيث ســعادتها
األبدية واتحادها بواجب الوجود.
ولدى األفلوطينيين في عقيدة اآللهة المتعددة من النجـوم والكـواكب الـتي تـرى وتسـمع وتـدبر الكـون ،وعقيـدة
المعرفة الحدسية التي يختص بها قــادة الشــعوب أنبيــاء وملوكــا وفالســفة ،والمعرفــة العقليــة الجدليــة الــتي هي
الطريق العادي الكتساب العلوم.
على هدي هذه المعتقدات الدينية المتفلسفة والتصورات المضطربة الوثنية ،سار الفكر السياسي وعلى أركانهــا
تأّسس:
من مفاهيم الدولة والعدل والحياة السعيدة لدى البابليين والفراعنة والصينيين والهنــود ،إلى مــا طــوره من نفس
المفاهيم كل من اليونان والرومان ،إلى ما نقل إلى اللغة العربية في القرنين الهجريين ،الثالث والرابــع ،وعمــل
فالسفة المسلمين على إعادة صياغته في صباغ إسالمي لم يستطع أن يخفي أصله الوثني.
ومن أفكار كونفوشيوس في" التعليم األكبر" و"عقيدة الوسط" و" األغاني" حول فساد الحكم ،ومهام الحكومة
وواجبها في توفير حاجات الناس أمنا وطعاما ،وشروط الكفاءة في الحاكم وممارساته السياسية والتدبيرية ،إلى
تصورات الحكماء السبعة في أثينا لنظام الدولة وتشريعاتها الخاصة بقواعــد اإلدارة وأســاليب تحقيــق الســعادة،
إلى نظريات فيتاغورس في العدالة والمساواة ،وما يرى األبيقوريون من وجـوب الخضــوع للدولــة ولــو كــانت
استبدادية ما دامت تحقق األمن والنظام ،وما ذهب إليه أفالطون في مدينته الفاضلة التي اتخذت مظهــرا خياليــا
قوامه اعتبار السلطة عمال معجزا ال يستطيع القيام بــه إال أفــراد ملهمــون ،لهم على بــني جنســهم تمّي ز خــاص
يصلهم بالعقل الفعال ويجعلهم قادرين على تحقيق السعادة لشعوبهم.
إلى ما تطور إليه الفكر السياسي األرسطي باستحداثه فكرة الدولة الدستورية ،التي تبنى عالقات شعبها بالحاكم
على أساس الحرية والمساواة والمواطنة المشتركة بين أحرار ،مما جعل الّد ولة مجّرد اتحــاد أفــراد في مجتمــع
واحد تحت حاكمية القانون الذي حّل محل الملك أو الفيلسوف أو النبي .وما سار عليه الفكر السياسي الرومــاني
الذي مّيز بين الدولة والفرد ،وجعــل لكــل منهمــا حقوقــا وواجبــات ،وبلــور فكــرة ســيادة الدولــة ونظريــة العقــد
الحكومي ،ونظرية القانون الطبيعي التي وضعها " شيشرون " على أساس أن للكون خالقا واحــدا ،وأن للدولــة
قانونــا واحــدا يجب أن يطبــق على الجميــع .إلى مــا عربــه المســلمون في دار الحكمــة الــتي أسســها المــأمون
العباسي ،وجعلوه أساسا لفكرهم السياسي والفلسفي.
إال أن مّم ا يثير االستغراب أّن العرب لم يقتبسوا من هذا التراث السياسي الذي عكفوا على تعريبه ،إّال ما تعلــق
منــه باالتجــاه االســتبدادي ،وهــو الفكــر األفالطــوني الخــاص بالقائــد الملهم ،المتصل بالعقــل الفعــال المحتكــر
25
للمعرفة ،القادر وحده على إسعاد الشعب .أما النظرية األرسطية الخاصة بفكرة الدستور ،الذي يضــمن العدالــة
والمســاواة والمواطنــة الحــرة المشــتركة ،ويلغي حاكميــة الفــرد لصالح حاكميــة القــانون ،ومــا ورد في الفكــر
الروماني عن نظرية العقد الحكومي وسيادة القانون وحقوق الدولة والفـرد وواجباتهمـا ،فـإن النقـل العـربي قـد
أهمله وأغفله ،ولم نجد له أثرا في فكرهم وتراثهم .ولعل ذلــك راجـع إلى أسـباب سياسـية متعلقــة بكــون حركــة
التعريب والترجمة ،تمت على يد المؤسسة الرسمية الحاكمــة وبإشــرافها .وكــانت هــذه المؤسســة ذات نمــط في
الحكم فردي استبدادي ،ال يوافق على نقل التراث األرسطي والروماني أو نشره والتبشير به.
هذه خالصة المرجعية الفكرية والسياسية التي ُنقلت إلى اللغة العربية ،وصادفت ظروفا بيئيـة مناسـبة للغـراس
فنمت وأثمرت.
ولقد التقى العرب المسلمون قبل هذه الفترة بهذه المعتقــدات الدينيــة والفلســفية عــدة مــرات فاســتعلوا عليهــا ولم
تؤثر فيهم.
التقوا بها وهم رسل للنبوة الخاتمة بدعوة الحـق لـدى ملـوك الفـرس والـروم والقبـط ،يمأل قلـوبهم نـور العقيـدة
واستعالء اإليمان ،والحرص الصادق األمين على إخراج الناس من عبادة العباد إلى رحابة عبــادة رب العبــاد،
فاحتقروا تلك المعتقدات وترفعوا حتى عن اعتبارها فكرا أو فلسفة أو مجرد عقل سوي.
ثم التقوا بها بعد أن استعصى أهلها على الرشد ،مجاهدين وغزاة وفاتحين ،فحطمــوا األوثــان ونشــروا رســالة
التوحيد واإليمان.
والتقوا بها مرة أخرى حين وقــع االنقالب على الخالفــة الراشــدة ،وتحــول أمــر المســلمين إلى االســتبداد ،وفــّر
الصادقون من األمة مضطهدين ومهاجرين شرقا وغربا ،فنشروا دين الحق وقوضوا أركان الشرك والكفر.
ثم لما كان عهد بني العباس ذو النـزعة األعجمية فرسا وتركا ،وانفرط عقد الوحــدة العقديــة بتمــزق األمــة ملال
ونحال ومذاهب ،وضعف االلتزام بالدين بين الحــاكمين والمحكــومين ،وتمكن العســف واالضــطهاد واالســتبداد
من رقاب العبادُ ،أرسلت عاصفة المترجمات الفلسفية اليونانية والسريانية والقبطية والفارسية ،فتلقفتهــا النخبــة
المقربة من أصحاب النفوذ ،وأصــبحت الرطانــة بمصطلحات اليونــان واإلغريــق مــيزة الصفوة وبدعــة ذوي
المقامات.
وإذ أخذ الفقهاء والعلماء الصادقون يضجون من موجة االنحراف هذه ،ويوضحون خطرها على األمــة وعظــا
وكتابة وحوارا وجدالُ ،أثيرت للتغطية والتمويه وصــرف األنظــار ،معركــة كالميــة حـول مــا ُد عي عالقــة بين
العقــل والنقــل ،تقــديما وتــأخيرا ،حاكمــا ومحكومــا .وبــذلك أســبغت على الصراع بين اإلســالم وبين الوثنيــات
الفلسفية صفة الجدل العلمي الرصين ،على رغم ما في ذلك من خلط وتلــبيس وتــدليس .ذلــك أن هــذه التيــارات
التي زعمت أنها تحكم العقل في النص ليس لها ما يؤيد دعواها ،ألن العقل السليم المجرد السوي ،المتحرر من
الخرافة واألوهام ،المدجج بالمعارف المادية الصحيحة والتصورات الغيبية اليقينية ذات المصدر الرباني ،ليس
له إال أن يسخر من هذه الفلسفات ذات الجذور الخرافية األسطورية .
إن هذه التيارات التي تزعم تحكيم العقل في النص ،لم تحكم في واقع األمر إال عقال وثنيا مضلال ،ألقوام عبدوا
األصنام والكواكب والنجوم واألشباح ،واتخذوا لعباداتهم هذه أرضية من أوهام سموها فلسفة .وإْذ صارت هــذه
التصورات الفاسدة هي المتحكمة في النص فال بد من الضالل.
أ -االتجاه الفقهي:
*أبو الحسن الماوردي ( نشأة الدولة و قواعدها /نظام الحكم )
هو أبو الحسن بن محمد بن حبيب البصري البغدادي ،ولد عام 974م الموافق لـ 364هـ بالبصرة و ينحدر من
أصل عربي كما أنه ينتمي إلى عائلة كانت تعمل في صناعة ماء الورد أو االتجار فيه لذلك سمي بالماوردي.
لقد عاصر الماوردي فترة ضعف الحكم العباسي والتي تمّيزت بسيطرة أسرة بني بويه على الخلفــاء العباســيين
وهي أسرة فارسية انتظمت داخل جيش الخالفة العباسـية ووصـلت إلى أعلى درجـات السـلطة والـوزارة حيث
سيطرت على الحكم ،ونظرا لكون هذه األسرة شيعية فلم تعترف سيادتها بالخليفــة العباســي وأنشــأت إمــارة في
26
بغداد وراثية ظلت في أيديهم ،لكن الماوردي كان يتمتــع بتقــدير من الخلفــاء ومن البــويهين وكــان موضــع ثقــة
ويرتضون بحكمه أثناء التوسط بين األطراف المتنازعة .1
وهكذا فقد كان الماوردي يتمّيز بالوقار واالحترام وكانت له مكانة علمية وسياسية و اجتماعية عالية بين أقرانه
من العلماء والقضاة ،وهذه أقل الصفات التي بتمتع بها المسلم العادي بالك بالعلم الفقيه ؟
أ -نشأة الدولة و قواعدها:
اإلنسان حيوان اجتماعي حيث ال يستطيع العيش لوحده أو بمعزل عن الجماعة ويحتاج لغيره من البشر لتلبيــة
رغباته واحتياجاته لكن الماوردي يفسر ذلك على غير سابقيه فيقر بأن هللا عز وجل هــو الــذي خلقنــا عــاجزين
على هذه الصورة حتى يشعرنا أنه خالقنا ورازقنا وأننا مفتقــرون إليــه فيقــول " إعلم أّن هللا تعــالى لنافــذ قدرتــه
وبالغ حكمته خلق الخلق بتــدبيره وفطــرهم بتقــديره فكــان لطيــف مــا دّب ر وبــديع مــا قـّد ر ،أن خلقهم محتــاجين
وفطرهم عاجزين ليكون بالغنى منفردا وبالقدرة مختصا حتى يشعرنا بقدرته أنه خالق ويعلمنا بغنــاه أّن ه رازق
فنزعن بطاعته رغبة ورهبة ونقر بنقصنا عجزا وحاجة "2
من جهــة أخـرى يــرى المــاوردي عكس مــا قيــل من قبــل بــأن اإلنسـان حيــوان اجتمــاعي ،بــل يــرى أن بعض
الحيوانات تستطيع العيش بمفردها عكس اإلنسان الذي هو اشد حاجــة من الحيــوان وال يســتطيع أن يســتقل عن
بني جنسه حيث يذكر "ثم جعل اإلنسان أكثر حاجة من الحيوان ما يستقل بنفسه عن جنســه و اإلنســان مطبــوع
إلى االفتقــار إلى جنســه.....ولــذلك قــال هللا تعــالى ( خلــق اإلنســان ضــعيفا ) لكن هللا ســبحانه وتعــالى لم يــترك
اإلنسان هكذا عاجزا محتاجا دون أن يمنحه ما يرشده إلى تحقيق سعادته في الحياة ،ولذا منح هللا اإلنسان العقل
ليرشده ويوجهه نحو السلوك في الحياة سلوكا معنيا ينفعــه في الــدنيا واآلخــرة ،ويقــول الرســول (ص) في هــذا
الشأن "ليس خيركم من ترك الدنيا لآلخرة وال اآلخرة للــدنيا ولكن خــيركم من اخــذ من هــذه وهــذه" وهــذه هي
فعال قمــة الحيــاة الســعيدة وقمــة التــوازن الــذي يجب أن يســود في اإلنســان بصفته فــردا ثم ضــمن الجماعــة
والمجتمع.
يذكر الماوردي كذلك أن االختالف هو سبب التعاون وقد رأينا هذه األفكار كلها تقريبا عند المفكرين الســابقين
بحيث لو أن الناس لم يختلفوا لما كان باإلمكان أن يتعاونوا وقد ذكرنا آنفا أن التمايز واالختالف هو الذي يؤدي
إلى التعاون والتوازن وبالتالي االنسجام والتكامل وهو مــا يــدعوهم بالضــرورة لالجتمــاع ويتكــون مــا يســمى
بالدولة أي أن الدولة أو نشأة الدولة مرّد ها حاجة البشر لتلبية حاجياتهم وأن العقل الذي يميز اإلنسان عن ســائر
المخلوقـات هــو الــذي يوجهــه إلى كيفيــة التعــاون والترابــط مــع اآلخـرين والدولــة حيث تقــوم وتتأسـس يــرى
الماوردي أنها تحتاج الى قواعد وهي:
-)1دين متبع :وهو الوازع الذي يوجهه اإلنسان وهو أقوى قاعـدة في إصـالح الدولـة واسـتقامتها وهـو الـذي
يمتن روابطها ويقوي بنيانها إنه بمثابة االســمنت الــذي يشــيد البنــاء ،وهــذا الــدين هــو العنصر الغــائب والــذي
افترقت إليه الدولة القديمة في الحضارات العابرة الشيء الذي جعلها هشة وضعيفة .
-)2سلطان قاهر :والقصد بالسلطان هنا هو الحاكم أي الخليفـة أو اإلمـام ومهمتـه هي رئاسـة الدولـة وتحقيـق
أهدافها العليا المتمثلة حفظ الدين بالدرجة األولى ويتبعها تحقيق األمن والطمأنينـة وحفـظ األمـوال والممتلكـات
واألعراض وغيرها.
-)3عدل شامل :وهو الهدف الذي تسعى إليه الدولــة عــبر المراحــل والنظريــات الــتي مــرت معنــا ،ويضــيف
الماوردي في هذا المقام حيث يقول بأنه يطول عمر الدولة ويبعث الطاعــة ويبــدأ مــع اإلنســان في نفســه ثم مــع
غيره أي مع ما دونه ومع ما فوقه ومع أكفائه أو أمثاله.
-)4أمن عام :وهو من نتائج العدل وتحصيل حاصل....بحيث يسود االطمئنان ويزول الخوف.
1عادل ثابت ،الفكر السياسي اإلسالمي ،دار الجامعة الجديدية ،اإلسكندرية ،22 ،ص.23:
2علي عبد المعطي ،محمد جالل أبو الفتوح شرف ،خصائص الفكر السياسي في اإلسالم وأهم نظرياته ،دار الجامعات المصرية ،القاهرة،1970 ،
ص.281:
27
-)5خصب دائم :ويقصد به وفرة األراضي الزراعية والممتلكات واألموال أي يجب أن يكون اقتصاد الدولــة
قويا.
-)6أمل فسيح :يربط الجيل الحالي بجيل المستقبل فالجيل الحالي يرث الجيل الماضــي ويعــد للجيــل المســتقبل
آماال عريضة في الدولة اإلسالمية أين تسود العدالة االجتماعية والمساواة والسعادة والعمل كذلك لآلخرة.1
هذه هي القواعد الستة التي رآها الماوردي أساسية في الدولة فان وجــدت صــلحت وان اختلت بعضــها أو كلهــا
اختلت أمور الدولة وفسدت وضعفت.
المبحث الثاني :نظام الحكم
إذا كان الفارابي رسم دولة فاضلة مثالية على شاكلة الجمهورية الفاضلة ألفالطــون ،فــإّن المــاوردي كــانت لــه
وجهة نظر أخرى تتسم بالواقعية وهذا طبعا انطالقا من المرحلــة العصيبة واالضــمحالل الــتي عرفتــه الدولــة
اإلسالمية في فترة حياته كما رأينا سابقا لذلك حاول إصالح هذا الواقع السياســي ،فنــادي بــأن يكــون اإلمــام أو
الخليفة عربيا قرشيا حتى يقف أمام الفارسيين واألتراك الذين ازداد نفوذهم في تلك الفترة ،وعمومــا فــإّن نظــام
الحكم السياسي عنده يكون محكم البنيان جميل التكوين يتصدره اإلمام أو الخليفة فوزير التفويض وبعـده وزيـر
التنفيذ ثم أمراء األقاليم والبلدان وأمراء الجيوش والقاضي والمحتسب ووالية المظالم ،ويفصل الماوردي أصل
ومهام كل هذه المناصب والوظائف باإلضافة إلى صفاتها وأحكامها ،الشيء الذي يدعونا للقول بــأّن المــاوردي
على دراية وعلم باألمور السياسية خالل أيام حياته.
2
)1اإلمامة :يعرفها الماوردي بأنها موضوعة لخالفة النبوة في حراسة الدين وسياسة الــدنيا ،ومن خالل هــذا
التعريف نستنتج أن اإلمام أو الخليفة عند الماوردي هو زعيم ديني من ناحية وزعيم سياسـي من ناحيـة أخـرى
كونه يقوم بإدارة وتسيير شؤون الرعية وفقــا لمبــادئ الشــريعة اإلســالمية وهي واجبــة شــرعا إذ أنهــا الوســيلة
الوحيدة الستمرارية حفظ المجتمع وحفظ الدين دائما بتطبيق الشريعة اإلسالمية السمحاء .3
وإذا عدنا إلى التعريف السابق نجد مبدأين وهما:
أ-إّن اإلمامة :مؤسسة دنيوية تكمن مهمتها في تدبير وتسير أمور البالد والعباد إضافة إلى حماية الدين.
ب -المبدأ الثاني :وهي تخص اإلمام ويتمثل في اختصاصاته أو مهامه األساسية أي حمايـة الـدين من األهـواء
والبدع والخرافات ،ليكون صالحا لحكم العـالم وليس المجتمـع فقـط ،أي بالد اإلسـالم وبالد الكفـر وهـذا عكس
الديانات السابقة ،ألّن اإلسالم بعث للعالمين ،وهذا الوجه يمثل استمرارية فكرة الجهاد الديني ضد الكفــار حــتى
يقوم الحكم اإلسالمي "ومن يبتغي غير اإلسالم دينا فلم يقبل منه وهو في اآلخرة من الخاسرين"
-أما عقد اإلمامة فهي واجب باإلجمــاع لمن يقــوم بهــا في األمــة ،واختلــف في وجوبهــا ،هــل أســاس الوجــوب
الشرع ( النص ) أو العقل؟
فإذا ثبت وجوب اإلمامة فهي فرض كفاية وإذا لم يقم بها أحد خرج من النــاس فريقــان :أحــدهما أهــل االختيــار
حتى يختارون إماما لألمة والثاني أهل اإلمامة ينصب احدهما لإلمامة ،وليس من عدا هذين الفريقين من األمة
في تأخير اإلمامة حرج وال مآثم وأهل االختيار هم أهل العقد والحــل وأمــا أهــل اإلمامــة هم المرشــحون للقيــام
على السلطة والشؤون العامة ،وقد اشترط الماوردي شروطا في كل من أهل االختيار وأهل العقد والحل وهي:
أّو ال:أهل االختيار
العدالة الجامعة لشروطها:
العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق اإلمامة على الشروط المعبرة فيها.
الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو لإلمامة أصلح وبتدبير المصالح أقوم وأعرف.
ثانيا :أهل اإلمامة
محمد أبو زهرة ،تاريخ المذاهب اإلسالمية في السياسة والعقائد وتاريخ المذاهب الفقهية ،دار الفكر العربي ،د.ت ،بيروت ،ص.21: 1
أحمد مباركك البغداداي ،الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي ،ط ،1مؤسسة الشراع للنشر والتوزيع ،الكويت ،1984 ،ص.116: 3
28
-العدالة على شروطها الجامعة:
-العلم المؤدي إلى االجتهاد في النوازل و ألحكام.
-سالمة الحواس واألعضاء.
-الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.
-الشجاعة والنجدة.
-النسب وهو أن يكون قرشيا لورود النص فيه وانعقاد اإلجماع فيه.
نستنتج من هذه الشروط أّن الماوردي تأّثر بواقع عصره الــذي تمــيز بتــدهور الحكم العباســي وابتعــاده عن قيم
وأحكام الشريعة وما هذه الشروط إال محاولة منه إلعادة هذا المنصب إلى أهله وفقــا لتعــاليم الــدين حيث تــدور
حول العلم والعدالة والمعرفة والحكمة ،وبالتالي فالعودة بالدين اإلسالمي في عهده األول.
أما من حيث عقد اإلمامة وإبرام العقد فتتم بين اإلمام وأهل العقد والحــل ومصدر هــذا التعاقــد هــو الرضــا بين
أطراف العقد ،يقف الماوردي موقفا صلبا ويفتي بعدم جواز انعقاد اإلمامة إلمامين في نفس البلد.
اإلمامة عن طريق العقد (االستخالف) أي أّنه من حق اإلمام االجتهاد في تعين خلفا له وأن ينفرد بعقد البيعة له
وتفويض العهد حتى بدون استشارة أهل العقد و الحل بــل وحــتى بــدون رضــاهم قياســا على أن بيعــة عمــر بن
الخطاب لم تتوقف على رضا الصحابة وال االستشارة.
وجبات اإلمام و اختصاصاته:
-حفظ الدين على أصوله وما أجمع عليه سلف األمة الصالح.
-تنفيذ األحكام.
-إقامة الحدود وتحصين الثغور.
-الجهاد في سبيل اإلسالم ،ويباشر بنفسه وبتفقد أحوال الرعية.
-جباية األموال والصدقات على أساس الشريعة.
-تقدير العطايا و ما يستحق في بيت المال.
-استكفاء األمناء وتخليد النصحاء فيما يفوض إليهم من األعمال.
وإذا قام اإلمام بهذه الواجبــات والــتي هي حقــوق األمــة عليهــا فقــد أّد ى حقــوق هللا ووجب على األمــة الطاعــة
والنصرة ما لم يتغير حاله ،وهناك أمرأن يتغير بهما حال اإلمام فيخرجانه من اإلمامة وهما :جــرح في عدالتــه
ونقص في بدنه ،1أي افتقاده ألحد شروط تولى منصب اإلمامة.
هذه المهام هي بمثابة تحديد للحقوق والواجبات المتبادلة بين أطراف العقد {اإلمام واألمة أو من يمثلها أي أهل
العقد والحل} حيث يلزم الحاكم بواجبات تدور جلها حول إقامـة دين هللا وهي الغايـة من عقـد اإلمامـة وإذا قـام
بهذه الحقوق وجب على األمة الطاعة والنصرة وهي بالتالي حقوق اإلمام أو الحاكم على األمة.
)2الوزارة :كلمة الوزارة لها عدة معاني منها الوزر أي الثقل بمعني أن الوزير يحمل على الملك أثقالــه وهي
من األزر وهو الظهر الذي يحمي البطن والوزرهو الملجأ ،2أما من الناحية العملية فهي بمثابة مؤسســة تعمــل
في إطار الحكومة اإلسالمية ،ولم تعرف الحضــارات الســابقة مــثيال لهــا وهي تعتمــد على النصوص القرآنيــة
واألحاديث النبوية واالجتهــاد الفكــري المبــني على المصادر الشــرعية وهي ليســت مجــرد منصب اجتمــاعي
سياسي بل والية عامة تصدر عن الخليفة كما أنها تصدر عن من يفوضــه الخليفــة في أمــور البالد مثــل وزيــر
التفويض .والوزارة عند الماوردي تنقسم إلى قسمين :وزارة التفويض ووزارة التنفيذ:
وزارة التفويض :هي تفويض اإلمام لوزير يدير األمور برأيه وإمضائها على اجتهاده وشروط الواجب توفرها
في الوزير هي نفسها شروط اإلمامـة عنـد النسـب يضـاف إليهـا الكفايـة في الحـروب وأهـل الخـبرة في أمـور
الخراج أي توفير القدرات االقتصادية والعسكرية.
وبعد حياة حافلة بالعطاء في شتى علوم المعرفة طوال ثمانين سنة ،توفـي الفارابي أعزب ،بمدينــة دمشـق سـنة
339هـ950/م.
إسهاماته العلمية:
1عبد الرحمان خليفة ،في علم السياسة اإلسالمي ،دار المعرفة الجامعية ،1974 ،اإلسكندرية ،ص.170:
30
يعّد الفارابي أكبر فالسفة المسلمين .وقد أطلق عليه معاصروه لقب "المعلم الثاني" الهتمامه الكبير بمؤلفات
أرسطو "المعلم األول" ،وتفسيرها ،وإضافة الحواشي والتعليقات عليها .ومن خصائص فلسفة الفارابي أنه
حاول التوفيق من جهة ،بين فلسفة أرسطو وفلسفة أفالطون ،ومن جهة أخرى بين الدين والفلسفة .كما أنه
أدخل مذهب الفيض في الفلسفة اإلسالمية ووضع بدايات التصوف الفلسفي.
ورغم شهرة الفارابي في الفلسفة والمنطق ،فقد كانت له إسهامات مهمة في علوم أخرى كالرياضيات والطب
والفيزياء .فقد برهن في الفيزياء على وجود الفراغ .وتتجلى أهم إسهاماته العلمية في كتابه "إحصاء العلوم"
الذي وضع فيه المبادئ األساس للعلوم وتصنيفها ،حيث صنف العلوم إلى مجموعات وفروع ،وبين مواضيع
كل فرع وفوائده.
وبجانب إسهامات الفارابي في الفلسفة ،فقد برز في الموسيقى .وكانت رسالته فيها النواة األولى لفكرة
اللوغاريتم حسب ما جاء في كتاب "تراث اإلسالم" ،حيث يقول كارا دي فو :Carra de Vauxأما الفارابي
األستاذ الثاني بعد أرسطو وأحد أساطين األفالطونية الحديثة ذو العقلية التي وعت فلسفة األقدمين ،فقد كتب
رسالة جليلة في الموسيقى وهــــو الفن الذي برز فيه ،نجد فيها أول جرثومة لفكرة النسب (اللوغاريتم) ،ومنها
نعرف عالقة الرياضيات بالموسيقى .وتؤكــــــد زغريد هونكه الفكرة نفسها حين تقول > :إن اهتمام الفارابي
بالموسيقى ومبادئ النغم واإليقاع قد قربه قاب قوسين أو أدنى مـــــــــــن علم اللوغارتم الذي يكمن بصورة
مصغرة في كتابه عناصر فن الموسيقى.
مؤلفاته:
ـ شرح كتاب "المجسطي" في علم الهيئة لبطليموس.
ـ شرح المقالتين األولى والخامسة من كتاب إقليدس في الهندسة.
ـ كتاب في المدخل إلى الهندسة الوهمية.
ـ كالم في حركة الفلك.
ـ مقالة في صناعة الكيمياء.
ـ كتاب إحصاء العلوم :قّسم الفارابي ،في هذا الكتاب ،العلوم ،إلى ثماني مجموعات ،ثم ذكر فروع كل
مجموعة ،وموضوع كل فرع منها ،وأغراضه ،وفوائده .ترجمه جيرار الكريموني إلى الالتينية.
ـ صناعة علم الموسيقى :شرح فيه الفارابي مبادئ النغم واإليقاع.
وللفارابي عدد كبير من المؤلفات األخرى في الفلسفة والمنطق ومن أشهرها:
ـ آراء أهل المدينة الفاضلة.
ـ الجمع بين رأى الحكيمين أفالطون اإللهي وأرسطوطاليس :وهو كتاب يوفق فيه الفارابي بين آراء أفالطون
وأرسطو.
و أكثر الكتب التي ألفها الفارابي ،إما أنها فقدت أو أنها ال تزال في الخزائن والمكتبات ،والمعروف منها إلى
اآلن قليل ،إذا قيس بمجموع ما كتبه في شتى العلوم والفنون.
أ -نشأة الدولة و أنواعها :
يرى الفارابي بأّن اإلنسان يميل إلى االجتماع مع اآلخرين ،وهذا الميل ميل فطــري ،حيث ال يســتطيع اإلنســان
أن يحقق حاجياته بمفرده ،لذلك فهو بحاجة إلى من يكّم له في تحقيــق الحاجيــات والمنــافع ،الشــيء الــذي يدفعــه
للبحث عن سكن مجاور لهؤالء الناس و يسّم ى بالتالي الحيوان اإلنسي أو الحيوان المدني .1
والهدف من وراء هذا االجتماع حسب الفارابي يكمن في تحقيق السعادة وهذه السعادة دنيويــة وأخرويــة في آن
واحد وهذا يعطينا فكرة عن االتجاه األخالقي والديني في فكر الفارابي السياسي واالجتماع هنــا يصبح وســيلة
وليس غاية في حد ذاته ألن الغاية هي بلوغ اإلنسان درجة الكمال في تحصيل السعادة الدنيوية واألخروية.
1جميل صليبا ،تاريخ الفلسفة العربية ،الشركة العالمية للكتاب ،بيروت ،د.ت ،ص.169:
2محمد شطوطي ،الشيخ الرئيس ابن سينا ،دار المكتبة الخضراء للنشر والطباعة والتوزيع ،الجزائر ،21 ،ص.12:
33
المبحث الثاني :النظام التربوي عند ابن سينا
وضع ابن سينا برنامجا تربويا من سن الطفولة إلى سن الشباب (على نمط أفالطون) يهتم بشؤون الدين والدنيا
وهو على الشكل التالي:
يقول ابن سينا إذا قويت مفاصل الطفل واستوى لسانه على النطق الســليم وتهيــأ للتلقين ووعي ســمعه ،أخــذ في
تعلم القرآن الكريم وصور حروف الهجاء ولقن معالم الدين وحفــظ من األشــعار مــا قيــل منــه في فضــل األدب
ومدح المعلم وذم الجهل وما حث فيه على البر بالوالدين والشفقة على الفقير...
نالحظ أن ابن سينا كان على دراية واسعة بفلسفة أفالطون وبالضبط بالنظام التربوي الشيء الــذي جعلــه يتبــع
خطى أفالطون في التقيد بمبادئ الدين اإلسالمي وجعل هذه البرامج موافقة معه والــدليل على ذلــك أن الصبي
يبدأ تعليمه بحفظ القرآن الكريم وحسب المواصفات الـتي أعطاهـا ابن سـينا فـإن الصبي الـذي قـويت مفاصـله
واستوى لسانه يكون في سن الرابعة وهذا ما كان معموال به بحيث نجد أن جل العلماء المسلمين حفظوا القرآن
الكريم في سن الرابعة ،كما أنه ال يزال يعمل بهذه التوصيات حتى اآلن (تعليم القرآن للصبيان في المساجد قبل
دخولهم إلى المدرسة).
يواصل ابن سينا نظامه التربوي وهذه المرة يركز على المؤدب أو المربي أو المعلم حيث يقــول« :أمــا مــؤدب
الصبي فينبغي أن يكون عاقال ذا دين بصير برياضة األخالق حاذقا بتخريج الصبيان وقــورا رزينــا بعيــدا عن
الخفة والسخف قليل التبذل صبورا بحضرة الصبي ...فإذا فرغ الصبي من حفــظ القــرآن الكــريم وتعلم أصــول
اللغة شرع بدرس الرسائل والخطبة والحساب والعناية بالحظ ،وعلى المؤدب أن يبحث له عن صناعة أو مهنة
فال يجبره على العلم إذا كان غير مّيال إليه .»1
خاتمـــــــــة :
لم تبرز أفكار وأراء ابن سينا السياسية مقارنة بالمجاالت األخرى وهذا بالرغم من ممارسته للسياسة هو نظــير
معالجته لألمير وشفاءه في مدة أربعين يوما ،أي هذا المنصب هو بمثابة مكافــأة البن ســينا الــذي نبــغ في غــير
السياسة ؟!
يرى بعض المفكرين أن ابن سينا متناقض في تفكيره وفلسفته أي في حبه للعلم والثقافة وللشهوات النفسية معا،
مما جعل الناس يتهمونه أحيانا بالكفر ،بالرغم من أنه يدعو إلى الخير والنظام والعــدل واالرتبــاط بالــدين ،لكن
هذه الصفات ال يطبقها هو نفسه في الواقع وتغلبت عليه شهواته ونزواته.
أثرت فلسفة ابن سينا على الفلسفة اإلسالمية مما جعل التيار الفلسفي البن سينا يدرس حتى القرن الثامن عشــر
في المشرق بالرغم من معارضته مثله مثل بقية الفالسفة من طرف أبي حامد الغزالي (ســنرى ذلــك بالتفصيل
في حينه ومكانه) وانتقلت هذه العداوة إلى المغرب ثم إلى الغرب ،والمؤكد أن الجانب الطبي في فكر ابن ســينا
هو الذي كان له األثر البالغ في شهرته وعظمته حتى في أوروبا خالل القرن السابع عشر.
الفصل الثاني:فلسفة الغزالي السياسية
البحث األول :نشأة المدينة أو الدولة عنده
حاول الغزالي بصفته فيلسوف سياسي واجتماعي أن يحدد ما يجب أن تكون عليه المدينة أو الدولة حتى تصبح
فاضلة مثاليـة تختلـف كـل االختالف عن تلـك الـتي تصورها أفالطـون والفـارابي ،فيتكلم الغـزالي عن أهميـة
الصناعات وأصولها وآالتها وهي أشغال يدوية (حرف وصناعة وأعمال) فـترى الخلـق منكـبين عليهـا وسـبب
كثرة األشــغال أن اإلنسـان مضــطر على ثالث هي :القــوت والملبس والمسـكن ،أمــا أصــول الصناعة وأوائــل
األشــغال اليدويــة فهي خمســة :الفالحــة والرعايــة (تربيــة المواشــي) واالقتنــاص والحياكــة والبنــاء ،ويســتعمل
اإلنسان في ذلك أدوات وآالت منها النجارة والحدادة الخرز( 2العامل في جلود الحيوانات).
35
تعرض الغزالي لإلمامة في مؤلفه الشهير إحياء علوم الدين ،حيث تضــمن كتابــا في األمــر بــالمعروف والنهي
عن المنكر ويقصد به أن تغير المنكر ومقاومة الحاكم الجائر بالمنع أو القهر ال يجوز لكون ذلــك يحــرك الفتنــة
سواء كان ذلك بواسطة آحاد الناس أو جماعتهم .1
يتبين لنا مما سبق أن الغزالي منع مقاومة الحاكم مخالفا بذلك جمهور أهل السنة والجماعة الــذي أجــاز مقاومــة
الحاكم الجائر ،وربما يعود السبب في ذلك لتولي الغزالي منصب التدريس في المدرسة النظامية ببغداد وصلته
بالسلطة السلجوقية ،فأراد بذلك تحاشي غضب الحاكم ،وقـد أعطى بعض التفاسـير لهـذا المنـع وهـو خوفـه من
تحريك الفتنة والحرب األهلية وتهييج الشر ومن أن يكون المتولد أو الناتج منــه من المحـذور أكــثر (رب عــذر
أقبح من ذنب) !
من جهة أخرى يرى أن اإلمام ال يجوز خلعه ما لم يتــورط في الفتنــة أو الحــرب األهليــة ،وهكــذا فاإلمامــة في
رأيه ضرورية للمجتمع والدين كما سبق وأن ذكرنا وينفي بالتالي حق الثورة إذا كــانت هــذه الثــورة تــؤدي إلى
إثارة الفتنة ،ولما كان من المستبعد جدا أن تقوم ثورة بدون قتال وصراع داخلي ،فماذا يــبرر اإللــزام السياســي
عندئذ ؟
في ظل الظلم واالستبداد يكون اإللزام السياسي أحد االحتمالين أو كالهما:
-1أن الحاكم هو ظل هللا في األرض.
2
-2أن ظلمه على سوئه يبقى أقل شرا من انهيار المجتمع .
وما دام الغزالي يمنع مقاومة الحاكم وعزله ،فمــا هي الصفات واختصاصــات هــذا الحــاكم ؟ ومــا هي شــروط
تولي هذا المنصب ؟
تكلم الغزالي عن اإلمامة ونظرياتها بالتفصيل في كتابه االقتصاد في االعتقــاد ،والســير المســبوك في نصيحة
الملوك وفضائح الباطنية أو المستظهري ،وبالرغم من أن الغزالي كان كارها للخــوض في هــذه المســألة نظــرا
لحساسيتها إال أنه أعطاها حقها من الدراسة والشرح ،وقد نظر إليها في ثالثة أطراف وهي:
-1الطرف األول :في بيان وجوب نصب اإلمام.
-2الطرف الثاني :في بيان من يتعين من سائر الخلق ألن ينصب إماما.
-3الطرف الثالث :في شرح عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين رضي هللا عنهم.
-وجــوب نصب اإلمــام :هــو واجب شــرعا وليس مــأخوذ من العقــل ،ويشــرح الغــزالي كيــف كــان الصحابة
يتسارعون لنصب اإلمام وعقد اإلمامة بعد وفاة الرسـول صـلى هللا عليـه وسـلم ،ويقـول أنـه إذا بطلت اإلمامـة
بطلت وانحلت والية القضاة...
ويقول في موضع آخر أن هللا سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهما:
األنبياء عليهم الصالة والسالم ليبنوا للعباد الدليل والسبيل واختيار الملوك لحفظ العباد من اعتداء بعضــهم على
بعض.
وهنا يعطي الملك والسلطان حقا مقدسا ويجعله ظل هللا في أرضه يجب طاعتــه واالمتثــال ألوامــره وهي تمثــل
حكومة إلهية تيوقراطية.
أما من حيث صفات اإلمام ،فهي صفات إيجابية أو سلبية ،بدنية أو نفسية ،فطرية أو مكتسـبة تقـوم في شخصه
أو تحدد عالقته باآلخرين ،دنيوية أو دينية تحدد عالقته باهلل أو بالرعية ،وهذه الصفات والشروط هي:
-البلـوغ – العقـل – الحريـة – الـذكورة – النسـب القرشـي – سـالمة الحـواس – وهي كلهـا صـفات غريزيـة
فطرية.
أّم ا الصفات المكتسبة في أربعة:
-النجدة :المقصود بها ظهور الشوكة ووقوع العدة واالستظهار بالجنود (اإلمام يباشر الحرب النفسية).
-الكفاية :الفكر والتدبير ثم االستقصاء واستطالع الرأي والمشاورة و الهداية.
1عادل ثابت ،مرجع سابق ،ص.14:
2ملحم قربان ،قضايا الفكر السياسي :الحقوق الطبيعية ،ط ،1المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ،بيروت ،1983 ،ص.84:
36
-الورع :وهي صفة ذاتية خاصة بشخصية اإلمام وهي العلم واسـتطالع رأي العلمـاء وهـو األسـاس واألصـل
عليه يدور األمر كله.
-العلم :عكس جمهــور العلمــاء الــذي يــرى أّن اإلمــام يجب أن يكــون على مرتبــة عاليــة من العلم واالجتهــاد
والفتوى في علوم الشرع ،فالغزالي يرى أّنه ليس من الشروط الضرورية لإلمامـة بـل يكفي أن يتصف اإلمـام
بصفات أخالقية ويراجع أهل العلم ويحكم بما اتفق عليه العلماء...
-عقيدة أهل السنة في الصحابة والخلفاء الراشدين :يحدد الغزالي الطريق القويم والمنهج السليم الــذي نســتطيع
التعرف على أخالق الصحابة والخالفة الراشــدة والحكم عليهــا حكمــا موضــوعيا ليس فيــه إفــراط وال تفريــط،
وعلى هذا األساس صّنف الناس على طائفتين :الصنف األول الذي يبالغ في الثناء حتى يدعى العظمــة لألئمــة،
والصنف الثاني هو الذي يتهجم بالطعن فيطلق لسانه بذم الصحابة ،فال ينبغي لإلنســان أن يكــون من الطــائفتين
بل ينبغي أن يسلك طريق االقتصاد في االعتقاد.
خاتمــــــــة:
إّن أهمية أفكار وأراء الغزالي تكمن في تجربته العميقة والنادرة ،فقد كــان الفقيــه أوعــالم السياســة أوالمستشــار
القانوني في حاشية ملوك السالجقة ووزرائهم في نيسابور ،لذلك تحتل السياســة في فكــر الغــزالي مكانــا رفيعــا
جوهريا سواء كان ذلك من الناحية النظريــة العامــة أم التطــبيق العملي ،والمقصود بالسياسـة عنــده هــو التعليم
والتهذيب واإلرشاد والتعاون في أداء األعمال التي ال بــد من إنماءهــا لكفالــة قيــام المجتمــع واســتمراره وربــط
األخالق بالسياسة وعال من شأن وظيفة التربية السياسية.
كما ربـط من جهـة أخـرى بين الـدين والـدنيا ،وبين وجـوه النشـاط الـروحي والثقـافي واالقتصادية والصحية
والسياسية ،ربطا يجعل من حياة الفرد والشخص والعام كل عضوا متكامال ال يمكن تحقيقه غال في الدولة.
وعلى الرغم من أن اإلمام هو ظل هللا في األرض إال أنه أكد على أهمية الشوكة أو النجدة بالجنود وقمع البغــاة
والطغاة ومجاهدة الكفرة ،كمــا أوجب على اإلمــام اســتطالع الــرأي ومشــاورة أهــل العلم والعلمــاء والحكم بمــا
اتفقوا.
الفصل الثاني :فلسفة ابن رشد السياسية
المبحث األول :ابن رشد شارح أرسطو
لقد شرح ابن رشد لفالسفة كثيرين مسلمين واليونـان ،على أنـه لقب بالشـارح ،وعـرف بهـذا اللقب ألّن ه شـرح
لواحد من أعظم وأبرز هؤالء الفالسفة وهو أرسطو.
لقد أعجب الغرب بابن رشد كشارح ألرسطو ووضعوه في مرتبة أرسطو نفسه ،فما السر في هذا يا ترى ؟
كان ابن رشد يجهل اليونانية فتعذر عليه فهم النصوص األصـلية فلجـأ إلى الترجمـات والشـراح الـذين سـبقوه،
لكن هذه الترجمات كانت غامضة ،واستطاع أن يوضح هذه الغوامض عندما قارن بين الشروحات والتفاســير،
وبما أنه من اشد المعجبين بأرسطو فلم يتعرض له بنقد.
هذه الشروح أثرت في فلسفة ابن رشد الخاصة ،فاعتنق نظريات أرسطو وانتقد على أساسها مــا افتقــد من آراء
الفارابي وابن سينا والغزالي وقد أثرت هذه النظريات في إيمان ابن رشد فأفسـدت عليـه عقائـد إسـالمية كثـيرة
مثل استحالة البعث ...وسببت له عدة مشكالت كما رأينا سابقا.
عرف الغرب أرسطو وفهم فلسفته حوالي القرن الثالث عشر من خالل شروحات ابن رشد الذي كان له الفضل
الكبير على الغرب ،كما تأثر الغرب بنظريات ابن رشد المخالفة لعقائد اإلسالم والمســيحية معــا ،الشــيء الــذي
تكّو ن حولها مذهب عرف بالرشدية وقد تصدت لها السلطات الدينية ومنها توما اإلكويني وتضخم هذا الصراع
على أن حيكت عدة أساطير نسبت البن رشد منها تأليفه لكتاب تحت عنوان (الدجالون الثالثة :موسى ،يســوع،
ومحمد) !
إّن شروح ابن رشد لفلسفة أرسطو ضخمته ورفعت من شأنه في أعين الغرب ولكن العكس حدث تماما بالنسبة
للمسلمين.
37
المبحث الثاني :صالت الحكمة والشريعة عند ابن رشد
لم يكن تأثر ابن رشد بفالسفة اليونان فقط ،بل تأثر أيضا بابن ماجة وابن طفيل وهمـا من فقهـاء األنـدلس ،وفي
مؤلف (فصل المقال بين الحكمة والشريعة من االتصال) يرى أّن هناك تناقضــا بســيطا بين الفلســفة والشــريعة
ويقول في هذا الصدد نحن مأمورون بالنظر في كالمهم حسب كالم الشريعة ،فإن اتفق مع ما عندنا في الشــرع
قبلناه وشكرناهم عليه ،وإن كان مخالفا للشرع تركناه وعذرناهم .1مستشهدا في ذلــك بقــول هللا ســبحانه وتعــالى
في اآلية الكريمة َ ﴿:فَبِّش ْر ِعَباِد ( )17اَّلِذ يَن َيْس َتِمُعوَن اْلَقْو َل َفَيَّتِبُعوَن َأْح َس َنُهۚ ﴾* سورة الزمر
والمعروف أن كل ما قدمـه المفكـرون اإلسـالميون الـذين تـأثر وبالفلسـفة اليونانيـة من محـاوالت التوفيـق بين
الفلسفة اليونانية والعقيدة اإلسالمية قد رفض من قبل جمهور فقهــاء أهــل الســنة والجماعــة بــد ليــل أن اإلســالم
شريعة متكاملة غنية عن كل الفلسفات والنظم الوضعية لقوله تعـالىِ ﴿ :إَّن ال ِّديَن ِع ن َد ِهَّللا اِإْل ْس اَل ُم ﴾ آل عمـران
َ ﴿ 18و َم ن َيْبَتِغ َغ ْيَر اِإْل ْس اَل ِم ِد يًنا َفَلن ُيْقَبَل ِم ْنُه َو ُهَو ِفي اآْل ِخَر ِة ِم َن اْلَخ اِس ِر يَن ﴾ آل عمران 85
لم يكن ابن رشد السباق على هذا التوفيق بل سبقه إلى ذلك الكنــدي (873-813م) الــذي لقب بفيلســوف العــرب
والذي يقول بأن المعرفة طريقان :طريق العقل وطريق الوحي ،وهذان الطريقــان يوصــالن إلى حقيقــة واحــدة
وإن اختلفت الطــرق المؤذيــة إليهمــا أمــا ابن ســينا فتبــع طريــق التأويــل وذلــك في التوفيــق بين آرائــه الفلســفية
ومعتقداته الدينية ويروي ابن طفيل بأن الــدين والفلســفة بمثابــة واحــدة تتمثــل في معرفــة الخــير المطلــق وهــذه
المعرف تكون عن طريق العقــل وعن طريــق الــوحي أيضــا .2ولكن ابن رشـد لم يحـاول التوفيــق بين الفلسـفة
والشريعة بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث ألف كتابا في هذا المجال وهو (فصل المقال) وبـدأ يطـرح في أسـئلة
كثيرة منها :
ما هو موقف الشرع من الفلسفة ،ويقصد هل النظر في الفلسفة مباح شرعا أم محظور أو مأمور به ؟
ويقدم الجواب التالي :إن الفلسفة هي النظر في الموجودات أتم نظر وأعمق وأن النظر يريانها مصنوعات ولها
صانع هو هللا ويستدل باآلية الكريمة:
﴿ َأَو َلْم َينُظُر وا ِفي َم َلُك وِت الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض َو َم ا َخ َل َق ُهَّللا ِم ن َش ْي ٍء ﴾ األعــراف ، 185واآليـة األخـرى :
﴿ َأَفاَل َينُظُر وَن ِإَلى اِإْل ِبِل َك ْيَف ُخ ِلَقْت (َ (17و ِإَلى الَّس َم اِء َك ْيَف ُر ِفَع ْت ( ، ﴾ )18واآليـات األخـرى ﴿ َو َيَتَفَّك ُر وَن
ِفي َخ ْل ِق الَّس َم اَو اِت َو اَأْلْر ِض ﴾ ﴾ آل عمــران . 191ومن خالل هــذه اآليــات يســتدل ابن رشــد بــأن هللا يأمرنــا
بدراسة الفلسفة ألنها الباب المؤدي إلى معرفة هللا .
يطرح ابن رشد السؤال الثاني وهو :هل يتفق الشرع والفلسفة ؟
ويجيب باإليجاب :اإلسالم حق وما يؤدي إليه النظر الفلسفي البرهاني حــق والحــق ال يضــاد الحــق بــل يوافقــه
ويشهد له إلى أن في الشرع ظاهر أو باطنا ،حيث رأى أنه هناك تفاوت في العقــول ،وعلى هــذا األســاس قسـم
الناس على ثالثة أصناف وهي :
-1برهانيون :أي هؤالء الذين ال يصدقون إال بالبرهان اليقين.
-2جدليون :وهم المتكلمون كالمعتزلة واألشعرية يحاورون اليقين وال يبلغونه .
-3خطابيون :هم جمهور العامة من الناس يكتفون بالظن.3
السؤال اآلخر الذي طرحه ابن رشد هو :ماالتأويل وما مواطنه وشروطه؟
التأويل هو إخراج اللفظ من الداللة المجازية على الداللة الحقيقية من غير أن يخل في ذلك بعادة لســان العــرب
في التجاوز من تسمية شيء بشبيهه أو سببه أو الحقه أو مقارنه . 4
39
العصبية تصور يقع بين البداوة والحضارة واالنتقال من طريقة إنتاج إلى أخرى ،أما مفهوم العصبية فقــد أخــد
عدة تعريفات ولعـل أهمهـا هي التضـامن االجتمـاعي وااللتحـام القبلي والـروح العموميـة والذهنيـة العشـائرية
والقرابة بالعصب والتضامن بالعصب ...1الخ.
للتذكير فإنه ال يوجد مرادف لكلمة العصبية في اللغة الفرنسية ،والكلمة عربية األصل مشتقة من لفض عصب
الذي يعــني حرفيــا ربــط وتجمــع وشــد وأحــاط واجتمــع...وهنــاك عــددا من الكلمــات المشــتقة من نفس األصــل
وتتضــمن نفس الفكــرة :عصب ( جعــل شخصا على رأس حــزب) ،تعصب ( عصب رأســه بعصابة ،كــان
متعصبا ،انعصب :أصبح قاسيا ،عصب :عمامة ،عصابة :جماعة من الرجال ،الصور الــتي تهم ابن خلــدون
والتي ال يفهمها البدو والحضر بنفس المعنى .
تعتبر البادية الحالة األصــلية للعصبية وهي أساســها وقوامهــا (القرابــة بالعصب ،والقرابــة بــالرحم) في حالــة
الزواج بين أفراد الجماعة األصلية...إن صلة الرحم طبيعي في البشر...ومن صــلتها النعــرة على ذوي القــربى
وأهل األرحام ،2زيادة على هذا فإن هذه الجماعــة تمتــاز بوجــود أفــراد طاعنــة في الســن يوحــون على الــدوام
بالوقار وال يوحون بالخوف أبدا وهكذا يكون الضــغط االجتمــاعي منعــدما تقريبــا ،األمــر الــذي يــتيح للفــرد أن
يناصب العداء لمن ال ينتمي إلى القبيلة أو الجماعة « تشتد شوكتهم ويخشى جانبهم ،إذ نعرة كل أحد على نسبه
وعصبيته أهم » .
في األخير نستنتج ثالثة عناصر في هذا المســتوى وهي :عنصر البيئــة ( الباديــة) وعنصر إحيــائي (النســب)
وعنصر أخالقي ( الوقار) المستوى الثاني للعصبية حسب ابن خلدون يتمثل في االنتقال من العنصر اإلحيــائي
إلى االجتماعي وهناك نوعين من التحالف الذي يوضح هذا التطور :
-1التحالف الفردي الذي يتعهد به الفرد وحده ،أي انضمامه إلى جماعة أجنبيــة لســبب من األســباب ،وبــالرغم
من أنه ينظر أليه في أول األمر كأنه دخيل إال أّن المجتمع يتبناه في النهاية.
-2الحلف الجمــاعي الــذي يعقــد بين قبيلــتين أو أكــثر من ذلــك في آن واحــد .المســتوى الثــالث وهــو المســتوى
االقتصادي والسياسي حيث ينكر مذهب المساواة الخاص بأفراد القبيلة وإخضاع أفراد القبيلــة وإخضــاع أفــراد
الجماعة لنضام تسلسلي قوي ضروري لبروز هذه العصبية ،وهذا النظام يفترض وجود زعيم ينظر إليه نظرة
إعجاب عالوة على االحترام ،بل يخشاه سكان القبيلة كلهم ،وتظهر العصبية هنا غير قادرة على تشكيل العمود
الفقري للدولة لكنها تعتبر الوسيلة التي البد منها لبناء الدولة ،وحتى تكون هذه العصبية حقيقية يجب أن يضاف
إليهما مفاهيم أخرى مثل الرياسة والحب والوالء ...
الرياسة يتوالها من كانت عصبيته أقوى من سائر العصبيات ،واالجتماع والعصبية مثــل أي تكــوين ال بــد أن
يغلب فيه احـد العناصــر ،وفي هــذه الحالــة تعــود الغلبــة ألهــل البــدو ،وإذا زالت عنهم حالــة التــوحش وتمــدنوا
صبحوا أقل قدرة على التغلب والقتال ،ويبرر ذلك فيقول أن بعض الحيوانــات المتوحشــة إذا خــالطت اآلدمــيين
أصبحت مستأنسة ،والجيل الوحش أشد شجاعة من الجيل اآلخر فهم أقدر على التغلب وانتزاع ما في يد سواهم
من األمم...
أما غاية العصبية عند ابن خلدون وهي أمر زائد على الرياسة ،ألّن الرياسة أّنمــا هي ســؤدد وصــاحبها متبــوع
وليس له عليهم قهر في أحكامه ،وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر ،وصاحب العصبية إذا بلغ رتبة طلب ما
فوقها ،فإذا بلغ رتبة السؤدد ووجد السبيل إلى التغلب والقهر ال يتركــه ألنــه مطلــوب للنفس ،وال يتم اقتــدار مــا
عليه إال بالعصبية التي يكون بها متبوعا ،فالتغلب الملكي غاية العصبية .3
ال يكتفي ابن خلدون بــالقوة الجســدية والماديــة للعصبية وإنمــا ضــرورة تــوافر القــوة المعنويــة المرتكــزة على
األخالق والدين ،ألن السياسة والملك هي كفالة للخلق وخالفة هللا في العباد لتنفيــذ أحكامــه فيهم وأحكــام هللا في
خلقه وعباده إّنما هي بالخير ومراعاة المصالح حسب الشرائع ،كما بّين أن الدعوة الدينية تزيد الدولة قــوة على
1عبد الغني المغربي ،الفكر االجتماعي عند ابن خلدون ،ديوان المطبوعات الجامعية ،الجزائر ،1988 ،ص.144:
2ابن خلدون ،المقّدمة ،نقال عن عبد الغني المغربي ،المرجع السابق الذكر ،ص.147 :
3علي عبد المعطي ،مرجع سابق ،ص.547:
40
قوة العصبية .أما حدود الدولة فيجب أن تكون محّد دة مكانيــا وجغرافيــا على قــدر وعــدد أهــل العصبية وذالــك
لتسهل مراقبتها والحفاظ عليها من األعداء (وهي نفس فكرة أرسطو ) .كما أنه لهــذه الدولــة عمــر مثــل الكــائن
العضوي (يولد يحيا ويموت ،له بداية وله نهاية وتخضع (الدولة ) لعوامل النمو والفناء وقـد حـّد د عمــر الدولــة
بحوالي مائة وعشرون سنة أي ثالثة أجيال إذا علمنا أن متوسط عمر أجيال أربعين سنة .
الجيل األول :ال يزال على خلق البداوة والخشونة والتوحش واالفتراس واالشــتراك في المجــد ،فتبقي العصبية
بذلك محفوظة فيهم.
الجيل الثاني :تحول حالهم بالملك والترفه من البــداوة إلى الحضــارة ومن الشــطف إلى الــترف والخصب ومن
االشتراك في المجد إلى إنفراد الواحد به ...فتنكسر العصبية بعض الشيء وتؤسس فيهم المهانة والخضوع...
الجيل الثالث :ينسون عهد البداوة والخشونة ،كأن لم تكن ؟ ويفقدون حالوة العــز والعصبية بمــا فيهم من ملكــة
القهر ويبلغ فيهم الترف غايتهم...فيصرون عياال على الدولة...فتسقط العصبية بالجملــة ،وتضــعف الدولــة أمــام
األعداء فتلجأ إلى الموالين لكن الدولة تنقرض فتذهب الدولة بما حملت .1
إضافة إلى عمر الدولة العضوي ،فإنها تمر بخمسة أطوار رسمها ابن خلدون كالتالي:
-1الطور األول :وهو طور الظفر واالســتيالء على الملــك...ويكــون صــاحب الدولــة أسـوة قومــه في اكتسـاب
المجد وجباية المال والدافعة والحماية..
-2الطور الثاني :طور االستبداد على قومه واإلنفراد بالملك ومنعهم من المشاركة والمساهمة .
-3الطور الثالث :طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات المال مما تنتزع طباع البشر إليه من تحصيل المال...
-4الطور الرابع :طور القنوع والمسالمة ويكون صاحب الدولة قانعا مقلدا لسلفه.
-5الطور الخامس :طور اإلسراف والتبذير ويكون صاحب الدولة هنا متلفا لما جمع أّو لوه في سبيل الشــهوات
والمالذ والكرم على بطانته وفي مجالسه...
المبحث الثالث :نظام الحكم عند ابن خلدون:
يرى ابن خلدون أن الخالفـة ليسـت من عقائـد اإليمـان وهي شـأن من شـؤون التنظيم االجتمـاعي بغيـة تحقيـق
المصلحة العامــة ،وهي وســيلة لحمايــة الــدين عــبر تــوّلي القيــادة السياســية والملــك أوالحــاكم هنــا يقــوم بهــذين
المهمتين .2هذا الملك وضع له ابن خلدون عدة أو صاف وسيمات منها:
ال تكون كلمة إال كلمته وأمر إال أمره وحماية الثغور وهذا يحتاج إلى جيش خاضع له وجباية األموال وإرســال
الرسل وغيرها...وبالرغم من هذه األوصاف فمن شأن الملك أن يسير وفق هواه وشهواته ونزواته فيفقد طاعــة
النــاس لــه وتســود الفوضــى لــذلك ال يخضــع الجميــع إلى هــوى الســلطان وشــهواته ولكن إلى قــوانين سياســية
مفروضة مأخوذة من كتاب هللا (القانون الوضعي المستمد من القــانون اإللهي) ،أي العمــل بمقتضــى كتــاب هللا
وليس بمقتضى الغلب والقهر.
يعّر ف ابن خلدون اإلمامة على أّنها نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا وتســمى خالفــة أو
إمامة والقائم بها يسمى إماما أوالخليفة .وسّم ي إماما نسبة إلى إمام الصالة وسمي خليفة ألّنه يخلف هلل في أمته،
وشرط منصب اإلمام هو اإلجمــاع من قبــل أهــل العقــد والحـل إضــافة إلى الشـروط أخـرى هي العلم والعدالــة
والكفاية وسالمة الحواس واألعضاء واختلف في شرط النسب القرشي أما مهام اإلمام فهي دينية ودنيوية :
دينية :حفظ الدين من البدع واألمر بالتكاليف الشرعية و سبيلها وحمل الناس عليها.
-إمامة الصالة.
-الفتيا :تشجيع وإعانة أهل العلم.
-القضاء :الفصل بين الناس في الخصومات .
-العدالة :وظيفة تابعة للقضاء.
-الحسبة ،األمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1عادل ثابت ،مرجع سابق ،ص.193:
2ملحم قربان ،مرجع سابق ،ص.86:
41
-السكة :سك النقود ومراقبتها من الغش.
دنيوية :الوزارة.
-الحجابة .
-ديوان أعمال الجبايات.
-ديوان الرسائل الكتابة.
-الشرطة.
-قيادة األساطيل...
كانت أفكار وأراء ابن خلدون واقعية انطلق فيها من األحداث والوقائع الــتي عاشــها وعرفهــا في معظم البلــدان
التي زارها من المغرب إلي المشرق ،وهذا ما يدفعنا للقول بأّن ابن خلدون كان فيلسوفا سياسيا واقعيا بالدرجــة
األولى ولم يكن خياليا أو نظريا أو يوتوبيا كأفالطون ،وإذا غلبت تسمية ابن خلدون بأّنه فيلسوف تــاريخي فمن
خالل ما ذكرناه يتبين لنا أنه مؤّسس لعلم السياسة واالجتماع السياسي ...
والعلم واإليمان هما ينبوعا المعرفة عند ابن خلدون ألّنه عــالم ومــؤمن في نفس الــوقت ،حيث يــؤمن بالمعرفــة
الدينية كأحكام ال كمعرفة ،يؤمن بالمعرفة العلمية القائمة على التجربة ســواء كــانت تجربــة حســية آو روحيــة،
ويقول في النهاية أّن المعرفة الوحيدة عنده هي المعرفة العلمية ويستبعد بذلك الفلسفة اليونانية ( ما عدا أرسطو
الذي يتبع المنهج العلمي ) والفلســفة اإلســالمية الــتي تــاهت في اإللهيــات ،فالمعرفــة إذا هي تلــك الــتي تخضــع
للتجربة والبرهان واليقين سواء كانت في ميدان التجربة الحسية أو الروحية .1
السعادة عند ابن خلدون هي قضية نفسية بحتة ال دخل لها في ميدان المعـرف واإلدراك ،فالسـعادة الـتي وعـدنا
بها الشارع على أعمالنا وأخالقنـا ال تحيـط بهـا مـدارك المـدركين ، 2فهـو بـذلك يختلـف مـع الفالسـفة اليونـان
والمسلمين الذين جعلوا غاية الفلسفة السعادة .
نظرا لالهتمام الذي أواله ابن خلدون لميدان التربية والتعليم مثله مثل أفالطون رأيت من الضــروري اإلحاطــة
بهذا الجانب الهام في تكوين األمم وعلى هذا األساس سنخّصص حّيزا للتربية عند ابن خلدون .
كان كونفوشيوس يرى أّن المســاواة المنشــودة بين النــاس ال ســبيل إلى تحقيقهــا إال عن طريــق نشــر العلم ،ألن
انتشاره يؤدي إلى تفّهم حقائق األمور فيدرك كل فرد مركــزه االجتمــاعي وحقــه في الحيــاة ،ويكــافح في ســبيل
الحصول على كافة حقوقه حتى إذا أتم التعليم على هذا النحو انعدمت الفروق بين مختلف الطبقات االجتماعيــة
ومن ثّم يكــون التنظيم االجتمــاعي أدى إلى االســتقرار ،أمــا أرســطو فــيرى أن التربيــة يجب أن تكــون أحــد
الموضوعات الرئيسية التي يعنى بها المشرع فحينما يكون نظام التربية مهمال تصاب الدولــة بــاالنحالل وذلــك
ألن أخالق األفراد وعاداتهم ومظاهر سلوكهم في كل مدينة هي الكفيلة بأن تكون قوام الدولة ..ويرى من جهــة
أخرى أّنه يجب توحيد نظام التربية لجميع الطبقات ،ألن التربية المشتركة هي التي تضمن األهداف المشــتركة
وحتى يكون البناء السياسي بعيدا عن االنقسامات واالختالفات التي يسببها التباين في ألوان التربيــة والتفكــير،3
أما الفيلسوف األمريكي جون ديوي فيرى أن التربية يجب أن ترتكز على مبادئ وهي :
-أنه ال يمكن أن يكون هنــاك صــنفان من المبــادئ األخالقيــة تختص إحــداهما بالحيــاة في المدرســة واألخــرى
بالحياة خارجها ،ألن السلوك وحدة ال تتجزأ.
-أي يجب إدخال المفاهيم االجتماعية للمدرسة وإقامة أسسها على الوظيفة االجتماعية حتى تكون لهمــا رســالة
أخالقية حقيقية.
أما ابن خلدون فقد تفطن للعالقة الموجودة بين الحياة االجتماعيـة والتعليم وكـذا الترابـط الموجـود بين مسـتوى
المجتمع ومستوى المجتمع ومسـتوى التعليم وبـدأ بـالخطوة األولى من خطـوات التعليم وبّين ظـروف المجتمـع
1عبد هللا شريط ،الفكر األخالقي عند ابن خلدون ،ط ،3الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ،الجزائر ،1975 ،ص.52:
2كريستيان غادس ،في مقدمة كتاب األمير ،بقلم نيكوال ميكيافيلي ،،تر :خيري حّم اد ،ط ،3منشورات المكتب التجاري للطباعــة ،بــيروت،1970 ،
ص.42:
1عمار بوحوش ،مرجع سابق ،ص.128:
2عبد الوهاب الكيالني ،الموسوعة السياسية الفلسفية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،بيروت ،1984 ،ص.306:
3محمد فتح هللا خطيب ،مبادئ العلوم السياسية :تطّو ر الفكر السياسي ،دار الفكر العربي ،بيروت ،1998 ،ص.102:
44
عنصر تماسك اجتماعي ..ال تحاربوا مطلقا الدين وال أي شيء يتعلق باهلل ،ألّن مثل هذه األشياء لها تأثير قـوي
على عقول الحمقى.
أمــا اإلنجيــل فقــد اضــعف الهمم وقــدس المتواضــعين وجعلهم يميلــون إلى التأمــل بــدل االنصراف إلى الحيــاة
الناشطة في رأي ميكيافيلي .
األكيد أن هذه الالدينية وهذا التمجيد للدولة تمخضت عنه عدة نتائج منها:
-عداء لإلمبراطورية و لكل ما يذكر بالكونية المسيحية (مجموعة الدول المسيحية).
-احتقار االرستقراطية النبيلة ذات األصل اإلقطاعي.
-مفهوم واقعي بشكل خاص للعالقات بين الدول.1
وللدولة شبه ميل طبعي إلى الضخامة وال وجود لألخالق وال للقانون الدولي بل هناك قانون الغاب وكـل شـيء
يصح أخذه ،ذلك كانت األهمية البالغة في التنظيم العسكري ألية دولة و الخدمة العسكرية وتكوين جيش وطــني
قوي ،ويتأّلم ميكيافيلي من ضعف روما والدويالت اإليطالية من لجوءها إلى الجيش المرتزقــة الــذي يفتقــر إلى
الشعور باالنتماء وال يحمل هوية الوطن.
يفضل ميكيافيلي النظام الديمقراطي في حالة وجود مساواة اقتصادية أعجب بالنظام الجمهوري الــذي وجــد في
القديم ،وأشار على أّنه يجب وجود مواطنين يتميزون بالذكاء والشــعورالعام حــتى تقــوم الحكومــة الجمهوريــة،
ولسنا ندري هل هذا الذكاء يصنع أم إنه شيء آخر ...وعارض النظام االرستقراطي ألنه يفرق بين الشعب ...
لكن يبقى أفضل األنظمة على اإلطالق هو الحكم الملكي ويكون بانتخاب الحاكم الملك وهــو ليس الحكم الملكي
المتوارث المعروف.2
خاتمــــــــــة:
إن واقعة ميكيافيلي جعلت ما كتب يحدث ضجة في األوساط السياسية ،وبما أن أفكاره وأرائه ونصائحه جاءت
بعد تجارب ووقائع أي أنها قابلة للتجسيد ،فقد اسـتفاد منهـا كثـير من السياسـيين وأذكـر على وجـه الخصوص
نابليون وهتلر وموسيليني وبنوشي وغيرهم من الديكتاتوريين (أغلب حكام دول العالم الثالث ؟!).
الفلسفة السياسية عنده هي غاية في حد ذاتها وعلى الحاكم أن يبتعد عن األفكار المســبقة ويهتم بالدرجــة األولى
بالدولة وحريتها منكرا في ذلك التشريع اإللهي والقانون الوضعي وشــكل الحكومــة ...وفن الحكم الــذي يتمثــل
في استخدام القوة الجائرة واالستعانة بالمغريات وحســم األمــور واالحتفــاظ وإنشــاء جيش قــومي قــوي عــوض
جيش المرتزقة الذي ال جدوى منه لفقدانه الحس الوطني.
أما الدولة فهي ذاتية طبيعية وجدت وتبقى من خالل تفاعل قــوى طبيعيــة بعيــدة عن الــدين واألخالق ...هي إذا
نصائح ميكيافيلي أو فن الحكم ووسائله.
الفصل الثاني :مبادئ اإلصالح الديني البروتستانتي.
المبحث األول :عالقة السلطة الروحية بالسلطة الزمنية.
لقد فّر ق مارثن لوثر بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية وفصل بينهما ،كما أكد على أهمية الســلطة الزمنيــة
وضرورة وجود الطاعة في المجتمع حــتى يمكن للدولــة تحقيــق مــا تهــدف إليــه ،زيــادة على هــذا فــإن الســلطة
الزمنية أعلى من السلطة الدينية وذلك دون التقليل من دور الكنيسة وأهميتها التي تتمثل حسب رأيه في جمعيــة
عامة تمثل رجال الدين وال تنحصر في البابا نفسه معيبا في ذلك وجود طبقات من رجال الــدين داخــل الكنيســة
مما أدى بهم في النهاية إلى التدخل في الشؤون العامة وتموين ثورة التدخل في الحيات السياسية.
تجدر اإلشارة على أن لوثر كان واقعيا وأفكاره منبثقة من الظروف التي عاشها وعايشها فهي بحق أفكــار بنت
بيئته.
1علي عبد المعطي محمد ،الفكر السياسي الغربي ،اإلسكتدرية ،دار المعرفة الجامعية ،1994 ،ص.120:
2محمد محمود ربيع ،الفكر السياسي الغربي :فلسفاته ومناهجه من أفالطون إلى ماركس ،مطبوعات جامعة الكويت ،1994 ،ص.172:
3محمد محمود ربيع ،المرجع السابق الذكر ،ص.179:
4عمار بوحوش ،مرجع سابق ،ص.131:
47
إّن إخالص بــودان لقــانون فرنســا الدســتوري وميلــه كقــانوني وكــاتب في األخالق يميــل إلى جــانب الحكم
الدستوري واحترام أعراف الملكية وأساليبها القديمة مثل قــانون الوراثــة والتنــازل عن الممتلكــات العامــة...في
هذه الحالة فإّن الحاكم هنا هو واضع و خاضع لقوانين دستورية معينة لم يضعها وال يستطيع تغييرها.
من خالل هذه النظرة على السيادة لبودان يتضح لنا أن لهــذا األخــير أهــداف وهــو يــدافع على الحــاكم ويدّع مــه
بسيادة اجتهد في إعطاءها تعريفا ومدلوالت رأيناها سالفا ومن بين أهدافه مايلي:
-1نتيجة الظروف القائمة والتي عاشها بودان وميزتها الحروب واالضطرابات واالنحالل السياسي والتــدهور
االقتصادي وضعف أو زوال الدولة ..كل هذه األمور جعلت بودان يقدم تدعيما لسلطات الملك.
-2كان من جهة أخرى مؤمنا بالمبدأ الدستوري ومصّم ما على إنفاذ المؤسسة القديمة للدولة وديمومتها..
المبحث الثاني :نظرية األسرة والدولة:
إن المبدأ الجوهري في الجمهورية هو السيادة الواحدة والمطلقة ويبدو مرنا من خالل مفارقات معقدة منها :بين
شكل الدولة وشكل الحكومة ،تكون ملكية فردية أو أرستقراطية.
الحكم المفضل لديه هو الملكية بــالرغم من ميلــه ومدحــه لالرســتقراطية بحيث يقــول في شــأن الملكيــة ال يمكن
ألحد أن يكون سيدا في الجمهوريــة إّال واحــد فقــط ...كيــف يمكن تصور جســم بعــدة رؤوس أو شــعب يتــولى
السيادة .1
وكل شكل من أشكال الدولة الثالثة ( الملكية واألرستقراطية والديمقراطية) يمكن أن تكون لها حكومة ملكية أو
أرستقراطية أو ديمقراطية.
إن بودان وهو يدافع عن الملكية يفضل أن تكون الملكية الشرعية يطيع فيها أفراد الرعية قوانين الملــك ويطيــع
فيها الملك قوانين الطبيعة وهذا توفيق بين السيادة المطلقة الخالصة وبين حرية األفراد التي تقوم جوهريــا على
الملكية الخاصة الفردية.
تأّثر بودان بأفكار أرسطو من خالل معالجته لقضيتي األسرة والدولة فبودان يبحث الغاية من الدولة ثم األســرة
ومعها الزواج وعالقة األب واألطفال والملكية الخاصة والعبيد وهذه جميعا اعتبرها نواحي من األسرة.
ويعرف الدولة بأنها حكومة شرعية من أسـرعّد ة ومن ممتلكاتهـا المشـتركة ولهـا سـلطة غالبـة والشـرعية هنـا
يقصد بها العدالة أو التماشي مع القانون الطبيعي.
أّم ا بخصوص األسرة وهي المكونة من األب واألم واألطفال والخدم مع الملكية المشتركة فهي مجتمعا طبيعيــا
تنشأ منه جميع المجتمعات األخرى ،وأبرز ما لرئيس األسرة من سلطات ليستعملها في مواقــع أخــرى ،وهكــذا
عّر ف الدولة بأّنها حكومة من األسر ورئيس األسرة هو الذي يصبح مواطنا عندما يعمل خارج البيت مع غيره
من رؤساء األسر وتنشأ روابط كثيرة من األسر للدفاع المشترك والسعي وراء مزايا متبادلة بين القرى والمدن
والمؤسسات من مختلف األنواع وعندما توّح د سلطة ذات سيادة فعندئذ تتكون دولة.
ال يمكن وجود الدولة المنظمة قبل االعتراف بسلطة لها سيادة وأّن الوحدات أو األجزاء التي تتكّو ن منها الدولة
هي األسر ،كما يجب التذكير أّن بودان استبعد التفويض من جانب اإلله أو الّرب وهو مــا قّد متــه نظريــة الحــق
اإللهي كأساس تقوم عليه سلطة الملك .2
في األخير نذّك ر أن زعامته لحزب السياسيين الــذي تبّنى فكــرة الّتســامح الــديني وســيطرة الّد ولــة على الناحيــة
الدينية كانت مجمل أفكار هذا الحزب تدور حول:
-على الناس إظهار الطاعة ولو سلبيا للحكام.
-الّد ولة قوة تسعى للمحافظة على نفسها كقوة.
-قوة الدولة فوق قوة الحّك ام.
-الدين مسألة تخص كل فرد والوحــدة في الدولــة وليس في الـّد ين والدولــة تتحّك م في المســائل الدينيــة ...وهي
دعائم كلها من أجل مساندة وتأييد الحاكم الذي يفضله بودان ألسباب موضوعية وأخرى ذاتية...
1جان توشار ،مرجع سابق ،ص.232 :
2جورج سباين ،تطّو ر الفكر السياسي ،الكتاب الثالث ،مرجع سبق ذكره ،ص.555:
48
خاتمــــــــــــة :
حاول بودان تبرير الحكم المطلق في فرنسا ،ألّن للّد ولة سيادتها والملك صاحبها وبفضل هــذه الســيادة يســتطيع
الحاكم أن ينقذ ما يمكن إنقاذه ألّن الملكية في خطر الحروب األهلية والتــدهور والضــعف الشــيء الــذي جعلهــا
محط أنظار األعداء في الداخل والخارج.
إّن تأييده لهذا النوع من الحكم وعدم تقّيده بقانون تعـود إلى الظـروف الصعبة الـتي عاشـتها فرنسـا في عهـده،
وهو بذلك أراد أن يعيد مجد فرنسا الضائع ،وال ننسى األهمية البالغة التي أوالها للقانون الوضعي وكأّن ه س ـّنة
موروثة ،كما رّك ز على غايات الدولة المنّظمة والــتي تســتحق إســم دولــة تلــزم الرعايــا الطاعــة ،والعالقــة بين
الّد ولة واألسرة المكّو نة لها ...ويبقى التركيز الشديد على السيادة التي اقترن اسمه وشهرته بها.
الفصل الثاني :فلسفة العقد االجتماعي عند هوبز.
المبحث األول :مفهوم الدولة والسيادة عنده.
كان هوبز يرفض اللجوء إلى كل ما هو فــوق الطــبيعي ،وكــل مؤلفاتــه هي محاربــة األشــباح والقــوى الخفيــة،
وهكذا أراد أن يحّر ر اإلنسان من األوهام والخوف ،قبــل التطــّرق إلى مفهــومي الدولــة والســيادة نعطي بســطة
حول بعض المراتب في تاريخ الحكم كما يسّم يها:
-1الحالة الطبيعية :وهي الفوضــى والّن اس متسـاوون بالطبيعــة وعنهــا ينبثــق الحـذر وعنــه تنشـأ الحـرب بين
الناس ،والحياة عزلة وفقيرة وحيوانية وال وجود لمفهومي العدل والجور وال الملكية ،وهو ما عّبر عنه ســينيكا
من خالل العصر الذهبي أو الحياة الطبيعية البدائية األولى التي كانت عادلة وهادئة ...
-2المجتمع المدني :يرى أّن هناك حق طبيعي وقوانين طبيعية ولكن هذه المفاهيم يختلف مدلولها عن منّظ ري
الحق الطبيعي ،فحق الطبيعة يتمثل في غريزة البقاء والقانون الطبيعي هــو حكمــة أو قاعــدة عامــة مكتشــفة من
قبل العقل وهي محاربة كل ما يقضي على الحياة أو يعيق وسائل الحفظ وبعبارة أخرى فالقانون الطبيعي حسبه
يقوم على التفتيش على السلم ثم الدفاع عن الذات بكل الوسائل المملوكــة من أجــل تحقيــق الســلم واألمن ،وليس
في يد الناس من وســيلة أفضــل من إقامــة عقــد فيمــا بينهم باالتفــاق المتبــادل ،وهــو عكس أرســطو الــذي يــرى
المجتمع السياسي بأّنه ليس واقعة طبيعية ،بل هو ثمرة اصطناعية لميثاق إرادي ولحساب مصلحي.
أّم ا الّسيادة فتقوم على عقد ولكن ليس بين الملك ورعيته بل بين األفراد الذين قّر روا أن يكون لهم ملــك ،ويــرى
هوبز أّن الغاية من هذا العقد هو تحقيق السلم وأمن األفراد.
والدولة تبدو كشخص ،وهي تعّد دية تكون شخصا واحدا شرط أن يتم ذلك برضا كل األفراد ،وبصورة خاصــة
كل الذين يتكّو ن منهم هذا الشخص ،ولّم ا يعّبرعنها بالتنين يرى أن لحم هذا الحيوان المتوحش العمالق هــو لحم
جميع الحيوانات سلموه مهمة الدفاع عنهم ،وهكـذا نـرى من خالل هـذا التشـبيه البليـغ أّن الدولـة تحتفـظ بوجـه
بشري سمح نسبيا في تركيب وتكوين حيوان ضخم ومخيف ؟! والدولة بهذه الصفة موجـودة وباقيـة ولكن تفقـد
مبّر ر وجودها إذا لم تستطع تحقيق األمن ولم تحترم الطاعة ،والدولة هنا هي روحية وزمنية في آن واحد ،ألّن
الفرد ال يستطيع أن يخدم سيدين ،والملــك ليس فقــط أداة الدولــة بــل الكنيســة كــذالك ،حيث يحمــل باليــد اليمــنى
السيف وباليسرى عصا األسقفية ،وهكذا تتثبت الدولة كقدرة ووحــدة ،وال مكــان موجــود لألجســام الوســيطة أو
األحزاب أو التكتالت ...
أّم ا بخصوص السيادة فهو ينتقد فصل السلطات ويّد عم بقوة أطروحة السيادة المطلقــة ،إّال أّن ه يــرى لهــا حــدود
تتمثل في العقل والضمير المهني للملك ،وهما أهم حـدود سـيادته ،ويقــول أّن ه من الغبــاوة بالنسـبة للملــك أن ال
يفتش عن مصلحة شعبه ،هذه المصلحة الـتي تختلـط بمصلحته الذاتيـة ،إذن الـواجب يتطـابق مـع المنفعـة ،إّن
خيره وخير شعبه ال يمكن أن ينفصال .1
ال يؤمن هوبز بوجود حكم مختلط ،كما ال يؤمن بنظام حكم محدود أو مقّيد ألّن السيادة مطلقة ال تقبــل االنقســام
أو التجزئة ،فالبّد إذن من وجود شخص يكون له القرار النهــائي واألخـير ،فمن يملــك القــرار ويسـتطيع تنفيــذه
1موريس كرانستون ،أعالم الفكر السياسي ،ط ،3دار النهار للنشر ،بيروت ،1991 ،ص.49:
2توماس هوبز ،التنين ،نقال عن جورج سباين ،الكتاب الثالث ،مرجع سبق ذكره ،ص.234:
3محمد نصر مهنا ،في نظرية الدولة والنظم السياسية ،المكتب الجامعي الحديث األزاريطة ،اإلسكندرية،1999 ،ص.37:
50
يستعمل لوك تقريبا وبدون تفريق مصطلح المجتمـع المـدني والحكومـة الـتي ينحصر دورهـا أو وظيفتهـا في
اإلدارة والتشريعية وليست في الحكم ،والحكومة المدنية تجلب للناس القضــاء والبــوليس وهــذا مــا ينقصهم في
الحالة الطبيعية ،أما الحكم السياسي فهو بمثابة وديعة سـلمها المــالكون للمالكيــة (المحكــوم للحـاكم ) ،وهي ثقــة
سياسية ،والحكام هنا هم إداريون وظيفتهم هي خدمة الجماعة ومهمتهم تقوم على تحقيق األمن وتوفــير الراحــة
واالزدهار.
السلطة العليا هي السلطة التشريعية أي سن القوانين وهذه القوانين ال يجب أن تمّس الملكية الخاصة ،والســلطة
التنفيذية وهي سلطة ممنوحة لألمير لكي يرعى المصلحة العامة.
يركز لوك على الفصل بين السلطات ،بحيث يقول بأّن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذيــة يجب أن ال يجتمعــا
في نفس األيدي والسلطة التشريعية أعلى من السلطة التنفيذية ،إنها الروح التي تعطي الشكل والحيــاة والوحــدة
للدولة ،والسلطة التشريعية محّد دة بالحقوق الطبيعية وهي سلطـة الحرية وهذه الحريـة هي من أجــل السعـــادة،
إنها حرية السعادة بواسطة العقـل وعلى هـذا األسـاس فـإّن كـل سـلطة لكي تكـون سياسـية يجب أن تكـون أّو ال
عادلـة .1
إذا تخلت السلطة عن الحقوق الطبيعية وخصوصا الحرية والملكيـة الفرديـة ،عنـدها يعـترف لـوك للمحكـومين
بحق الثـورة ،وهـذا الحـق ال يهـدف إلى تحقيـق األمـاني الشـعبية بـل إلى الـّد فاع عن النظـام القـائم أو إعادتـه،
واالعتراف بحق المقاومة هو وسيلة لحمل األمير على التفكير من أجل فرض احترام الشريعة ،وهــذه الوســيلة
تسمح بإبعاد خطر الثورة الشعبية وال تشّك ل مطلقا دعوة إلى العصيان ،وفي النهاية فإّن حق الثورة بالنســبة إلى
لوك هو دعوة للتعقل وإلى التسوية.
وإذا انطلقنا من الواقع والظروف التي عاشــها لــوك نالحــظ أن لــوك كــان واقعيــا ،وبــالرغم من إقــرارات حــق
الثورة إّال أن مضمونها غير ذالك وكأني به يقول للملك أنت من يقيم الثورة أو من يثور على نفسه وذلــك إذا لم
يحترم الشرعية.
إن القصد من تشكيل الحكومة وتعاقد األفراد هو تحقيق جملة من األهداف وهي:
* المحافظة على األمالك الناس ،وعدم السماح ألية هيئة أو فرد أن يعتدي على اآلخرين والضمان الوحيد هو:
-منح ثقة محدودة للملك لمنع الطغيان.
-وضع ثقة في البرلمان.
-إسناد قضايا العدالة إلى القضاة والمحلفين .
ويكون فصل تام بين هذه الهيئات وكل هيئة تعمل في مجال اختصاصها.
فيما يخص النظام المفضل عنــد لــوك ،فيتمّث ل في النظــام البرلمــاني الــذي يختص بإصــدار القــوانين نيابــة عن
الشعب ،فالنفوذ يكون بيد المجموعة المنتخبة من الشعب ألنها تمثل المصالح الشعبية المتعــددة وســلطته ليســت
مطلقة.
من جهة أخرى لم يكن متحمسا للحكم الملكي أو األرستقراطي ،بل فضل الحكم الديمقراطي المحدود فالحكومة
أو الهيئة التنفيذية والهيئة القضائية تابعان للبرلمان ونّو اب الشعب يحاسبون المسئولين في الهيئتين.
53
أ -سلطة تشريعية تكمن مهمتها األساسية في تحضير وسن القوانين وتعديلها أو إلغائها.
ب -سلطة تنفيذية ومهمتها العمل واإلشراف على تحقيق األمن والدفاع عن البلد واستقبال البعثات الدبلوماسية.
ج -السلطة القضائية وتكمن مهمتها في فض النزاعات وإقامة العدل بين األفراد ومعاقبة مرتكبي الجرائم وحل
الخالفات...
إّن فكرة مونتيسكيو التي تدعو إلى الفصل بين السلطات والتي أعطته شهرة عالمية تتمثل في أن ال تجتمع هــذه
السلطات في يد واحدة ،وبالتالي فهو يدعو إلى المشاركة في السيادة بين القوى السياسية الثالثية ،وأيضا القــوى
االجتماعية الثالثة الملك والشعب واألرستقراطية ،ونستخلص من هذا ّأّنه هناك نــوع من التطــابق بين األفكــار
الدستورية واألفكار االجتماعية (ثالثة قوى اجتماعية تقابلها ثالثة قوى سياسية).
الحرية السياسية:
ليست الحرية السياسية أن يفعل اإلنسان مــا يريــد ،وإّنمــا هي الحــق في فعــل مــا يريــد في حــدود مــا يســمح بــه
القوانين ،وال يجبر على فعل ما ال يرغب فيه وما هــو ممنــوع ،فــإذا اســتطاع أي مــواطن أن يفعــل مــا تحرمــه
القوانين يفقد بذلك حريته ألّن اآلخرين يتمتعون بنفس الحرية.
يقول :لقد ظن أرسطو أنه يوجد عبيد وّأّن هذا شيء طبيعي ولكنه لم يســتطع البرهنــة عــل ذلــك ،هــذا يعــني أن
مونتيسكيو يؤمن بالحرية وهو ضد فكرة العبودية لذلك لم يكتف بنظرية الفصل بين الســلطات لتــأمين الحريــة،
بل قدم أفكارا أخرى لمنع السلطة من االستبداد ،وأقام بعض الحواجز التي تمنع ذلك ،وتؤدي بذلك لإلبقاء على
ممارسة الحرية:
-1الجماعات الوسيطة :النبالء والبرلمانات المحلية.
-2الالمركزية وما تمنحه لألقاليم من حرية كبيرة في التصرف.
1
-3األخالق :ال ضرورة لوجود القانون حين تكون األخالق قادرة على تحقيق التطور .
خاتمــــــــــة :
تطرق مونتيسكيو إلى معالجــة بعض أّم هــات القضــايا إضــافة إلى مــا ســبق ذكــره ،فكتب مثال عن الالمركزيــة
واألدب والدين واألفكاراالجتماعية ،فيرى أّن الّالمركزية تشّك ل ثقل التوازن الفعال ،أّم ا اآلداب فيراها أنها من
غير الممكن أن تنفذ بالقوانين وما يمكن تنفيــذه بــاآلداب واإلصــالح الحقيقي ليس سياســيا ،بــل فكريــا وأخالقيــا
وتربويا ،أّم ا الّد ين فهو الكابح االجتماعي واألفكار االجتماعية تمثل الحرية الــتي تقــوم أساســا على األمن وهــو
المكسب الوحيد الذي يمتاز به شعب حر آخر ،أمــا المســاواة المطلقــة فهي حلم ،فبمقــدار مــا تبتعــد الســماء عن
األرض كذلك تبتعد روح المساواة الواقعية عن روح المساواة المطلقة.
الفصل الثاني :فلسفة روسو السياسية
المبحث األول :نظرية العقد االجتماعي
يرى روسو أن الرغبة في الوحدة (اتحاد األفراد فيها بينهم) هي التي أّد ت إلى هذا العقد االجتماعي ،والمقصود
بالوحدة هي وحدة الجسم االجتماعي أي تبعية المصالح الخاصة للمصلحة العامـة ،والعقـد عنـده ليس عقـدا بين
األفراد مثل ما يراه هوبز وال عقدا بين األفراد والحاكم كما يراه لوك ،ولكنه أعطاه شــكال آخــر بحيث بمــوجب
العقد االجتماعي كل واحد يّتحد مع الكل ،والعقد معقود مع المجموعة (كل واحد منا يضع في الشراكة شخصه
وكل قدرته تحت سلطة اإلرادة العامة ونحن نلتقي ككل أي كجسم..كل عضو كأنه جزء ال يتجزأ من الكل ،كــل
شريك يّتحد مع الكل وال يّتحد مع أي شخص بشـكل خـاص إّن ه ال يخضــع هكــذا إّال لذاتــه ويبقى حـّرا كمــا في
السابق).2
من خالل هذا نستنتج أّن الحاكم ال يتقّيد بأّي شــيء ألّن ه ليس طرفــا في العمليــة ،ومن جهــة أخــرى ال يمكن أن
تكون هناك مصلحة منافية لمصلحة األفراد الذين يشّك لون هذا الكل ،والحاكم هنا هــو هــذه اإلرادة العامــة الــتي
3يحي الجمل ،األنظمة السياسية المعاصرة ،دار النهضة العربية للطباعة والنشر ،بيروت ،1969 ،ص.84:
55
هذه األفكار مخالفة ألفكار هـوبز الـذي اعتـبر الملـك صـاحب السـيادة المطلقـة ويعـود السـبب في ذلـك إلى أّن
روسو لم يحّبذ النظام السياسي البريطاني القائم على العـرف والتقاليـد والمبـادئ الدسـتورية ،ويـرى أّن الّنظـام
الذي يصلح لفرنسا هو ذلك الّنظام الذي يضمن المشاركة في الحياة السياسية ويمّك ن لألفــراد من فــرض رقابــة
جماعية على رجال الحكم ،ودور الحكومة هــو تنفيــذ القــوانين الّنابعــة من اإلرادة الشــعبية ،ونفس الشــيء فــإذا
ساءت هذه الحكومة التصّر ف فبإمكان الجماعة سحب الّثقة منها.
خاتمـــــــة:
امتاز روسو بالعقالنية في التحليل والّد قة في الّتصور والتنّو ع في الّد راسة ،لذلك كانت أفكاره مؤّثرة في الواقع
األورّبي مساهمة في الثورات على األنظمة السائدة في عصره والتي جاءت فيما بعــد ،بــالّرغم من عــدم إيمانــه
بوجود أنظمة وسيطة كالنقابات واألحزاب والجمعيات...وال تزال هذه األفكار محل دراسة ونقــاش وانتقــاد من
قبل الّد ارسين والمفّك رين حّتى اليوم .ألّن العلماء اختلفوا في تقديرهم له فمنهم من يع ـّد ه أبــا للديمقراطيــة ومنهم
من يعده أبا للطغيان..
الفصل الثاني :أفكاره السياسية والفلسفية
المبحث األول :نقده لنظريتي العقد االجتماعي والحقوق الطبيعية
يبرز بنتام رفضه لنظرية العقد االجتماعي عندما يقول« :إّن مصلحة الّر عايا وسعادتهم تكمن في طاعة السلطة
الّسيدة طالما أّنها كانت تحكم بهدف زيادة هذه الســعادة» ،أي أّن مبــدأ المنفعــة يكفي لتــبرير طاعــة الســلطة من
دون الّلغة التعاقدية غيرالمجدية تماما ،كما ينتقد كذلك حقوق اإلنسان أو الحقوق الطبيعيــة غــير القابلــة للتنــازل
عندما يقول« :إّنها مجّرد وهم إّنهــا مجــّرد ميتافيزيقــا ،نعم إّنهــا في الحقيقــة أوّج الميتافيزيقــا ،فال يمكن أن تقيم
فوقها أي شيء ثابت»(.)1
لقد هاجم بنتام الحقــوق األربعــة الــتي زعم اإلعالن الفرنسـي لعــام 1789م أّنهـا حقــوق طبيعيــة وهي :الحريــة
والملكية واألمن ومقاومة االضطهاد ،كما كان قــد هــاجم في كتابــه الســابق ،مقدمــة لمبــادئ األخالق والتشــريع
إعالنات الحقوق األمريكية الصادرة في فرجينيا وكارولينا الشمالية.
أّم ا بخصوص المنفعة فيقول بنتام أّن الهدف من سلوك الفرد هو الوصول للّذ ة والهروب من األلم الــذي يعتــبره
اإلنسان شرا يجب تجنبه ،باعتبار أن بنتام يقول كذلك أّن الطبيعة وضعت تحت حكم ســيدين :األلم وللــذة ،وقــد
أعطاهما بنتام الدور النفسي أي الميتافيزيقي إضافة إلى محاولة إيجاد معيــار للمنفعــة من أجــل إصــالح النظــام
القانوني القائم .ولكن هل يمكن قياس المنفعة ؟
إّن الفرد هو الذي يشعر باللذة واأللم ،وبالتالي فقياسهما ذاتي وشخصي ومنه يجب ترك القياس للفــرد ،بــالّرغم
من هذا حاول بنتام إيجاد مقياس علمي قائم على ما توّصل إليــه علمــاء األخالق .فعنــدما نقيس الّل ذات يجب أن
نقارنها وفق شّد تها واستمراريتها والتي تكون مستمرة وطويلة أفضل طبعا(*) وكــذلك وقت حــدوثها ،واللــذات
التي تتبعها لّذ ات أخرى ومدى اللّذ ة أي عدد األفراد الذين يشعرون بها ،يعني أكبر سعادة ألكبر عــدد ممكن من
الناس ،حيث يقول بنتام« :إن أكبر قدر من المنفعة ألكبر عدد من الّن اس هــو مقيــاس الصواب والخطــأ .يمكن
القول أّن بنتام حاول إعطاء المنفعة قيمة كمية قابلة للقياس وبذلك يكون قد اقــترب من المنهج العلمي في قيــاس
المنفعة بعيدا عن التقديرات الذاتية .ويقّد م لنا مقياس يتكّو ن من ســبعة مقــاييس كفيلــة بقيــاس المنفعــة أو الّل ذات
المتجانسة إلى حّد ما:
.1الشدة وهي قياس اللذة من حيث قّو تها أو ضعفها.
.2المّد ة وهي المّد ة الزمنية التي تستغرقها اللذة.
.3التيقن أي اللذة التي تحققت اليوم بفعل فاعل أفضل من تلك التي ستتحقق غدا بفاعل آخر.
.4القرب أي اللذة الراهنة أفضل من المقبلة.
.5الخصب أي أن اللذة التي بإمكانها إنتاج لذات أخرى أفضل.
.6الصفاء وهي خلوة اللذة من األلم والحزن وكل ما يعّك ر صفوها.
.7االمتداد أي زيادة وامتداد اللذة لألفراد اللذين يتمتعون بها.
56
أما الّلذات غير المتجانسة مثل القراءة مع لّذ ة الرياضة ال يمكن حساب كميتها وبالتالي ال يمكن قياسها.
يجب التذكير هنا أّن مذهب أبيقور (270-351ق م) مؤّد اه أّن اللّذ ة هي وحدها الخير األســمى واأللم هــو وحــده
الشر األقصى ،ويقّر اللذة الحسية ألّن اإلنسان كالحيوان يسعى إلى اللذة بفطرته ،ولكّنه حّو ل هذه اللــذة الحســية
إلى مذهب في الزهد ألّنه رأى أّن كل لذة خير ما لم تقترن بألم فتصبح شرا ،وأّن األلم إذا نجمت عنه لذة وجب
طلبه .فاللذة عنده تجمع بين الزهد والمنفعة ،وقد دعا إلى الحياة السعيدة دون أن يستعبد اإلنســان شــهوته ،وهــو
يؤثر اللذات العقلية والروحية على اللذات الجسمية والحسية ،وفي األخير يقول أبيقور «:الفلسفة محاولــة جعــل
الحياة سعيدة بالنظر والمعرفة».
المبحث الثاني :الدولة والحكومة والسيادة عند بنتام
حاول بنتام في مرحلة حياته األولى إيجاد معيار لقيمة المنفعـة ،والمرحلـة الثانيـة من حياتـه كّرسـها لإلصـالح
البرلماني معتقدا أّن القدر األكبر من السعادة ألكثر الناس هو المقياس الذي يجب إتباعه من قبــل المشــّرع ليقيم
السعادة على المنطق والعدل.
الحكومة أو السلطة حسبه ليست سوى مجّر د بعض األشخاص الــذين وجــدوا ألغــراض الحكم واعتــاد الرعايــا
على طاعتهم ،وتبقى وظيفة الحكومة تأمين السعادة ألكبر عدد من أفراد المجتمع ،كفــرض العقوبــات وإعطــاء
المكافآت.
بمــا أّن الفــرد أنــاني وال يبحث إّال عن مصالحه الخاصــة والفرديــة ،لــذلك وجب تــدّخ ل الحكومــة للتوافــق بين
مصالح األفراد ومصالح المجتمع ،وذلك بانتشار السعادة ،حيث سيشــعر الفــرد بالســعادة إذا شــملت أكــبر عــدد
ممكن وحتى األنانيين يتصّر فون بشكل الئــق حينهــا من خالل تطــبيق القــانون والمنفعــة الّذ اتيــة المسـتنيرة ،أي
انسجام صالح الفرد والصالح العام ،وكما رأينا سابقا فـإّن المرحلـة الثانيـة من حياتـه ونضـاله الفكـري كّرسـها
لإلصالح البرلماني ،فقد قّد م اقتراحاته لتعديل الدستور االنجليزي من خالل المبادئ التالية:
-حق االقتراع العام لضمان األغلبية في البرلمان.
-تقصير عمر البرلمان :سنة واحدة.
-أعتبر البرلمان منــدوبا عن الشــعب ال ممثال لــه خوفــا من تحـّو ل أعضــائه لتحقيــق مصالحهم الخاصــة على
حساب الصالح العام.
للتذكير فقد تجاهل بنتام األقليات ولم يهتم بهم ،كما رفض فكــرة تنظيم وفصل الســلطات أو موازنتهــا ،وأعطى
األولوية للسلطة التشريعية -البرلمان -الممثلة بمجلس واحد ومنح البرلمان حق الّر قابة على السلطة التنفيذية.
والّد ولة عند بنتام بصفته من رواد المذهب النفعي ،يعتبر وجودها من أجل تحقيــق المنفعــة -الســعادة أواللــذة -
أو اإلبقاء عليها وهو الغرض الوحيد لوجود الّد ولة .وما يمّيز الّد ولة عن باقي النظم الموجودة في المجتمــع هــو
أّنها مصدر القانون الذي من خالله تصل بــالمجتمع إلى الســعادة .فالدولــة يجب عليهــا المحافظــة على الملكيــة
الفردية ،وللفرد الحق في المعارضة إذا كانت هذه المعارضة تقّلل من حّد ةاأللم أو تحّقق سعادة عالية.
أما الحرية حسب بنتام فهي نوعين :حرية طبيعية أي أن يفعل اإلنسان ما يريد ،لكن هذه الحريــة خــارج الحيــاة
االجتماعية أو المدنية المنظمة ،والنوع الثاني من الحرية هي الحرية المدنية وهو أن يفعل الفرد ما يريد شــرط
أن يكون منسجما مع المصلحة العامة.
يقول بنتام أّن القانون المدني يجب أن تكون لها أربعــة أهــداف وهي :البقــاء والرخــاء واألمن والمســاواة ،ومن
شّد ة تعّلقه بالمساواة دافع عن القسمة المتساوية لملكية الرجل بين أبنائه؟؟ وعارض حريــة الوصــية ومعارضــة
الملكية واالرستقراطية الوراثية ،كما دافع عن الديمقراطية الكاملة بما في ذلك تصويت النساء.
خاتمــــــــة:
عرف المجتمع االنجليزي بعد الثورة الصناعية تطّو رات سريعة غّيرت البنية االجتماعية واالقتصادية تغيــيرا
كبيرا ...فالبورجوازية الصناعية عملت على تقليص سـلطة النبالء مالكي األرض المسـيطرين على البرلمــان
وعملت للوصول إلى السلطة ،كما أّن من تأثيرات الثورة الصناعية خلق المآســي واآلالم في حيــاة العمــال مّم ا
57
أّد ى بهــؤالء إلى المطالبــة بإصــالح أوضــاعهم المترّد يــة وعليــه جــاءت أفكــار بنتــام وغــيره من المفّك رين
المعاصرين له كتصدي لهذا الواقع المستجد والمتطّو ر في حياة المجتمع االنجليزي.
جون ستيوارت ميل
الفصل الثاني :أفكاره ومواقفه السياسية
المبحث األول :موقفه من المذهب النفعي
بــالّرغم من أّن ه الممثــل الثــاني للمــذهب النفعي بعــد بنتــام ،إّال أّن هــذا لم يمنعــه من تقــديم بعض المالحظــات
والتعــديالت ألراء بنتــام والــذي كــان صــديقا لوالــده جيمس ميــل الّراديكــالي في مذهبــه السياســي ،ومن بين
المالحظات التي قّد مها جون ستيوارت ميل لبنتام مايلي:
ال يفّر ق بنتام بين الذات في النوع أو الكيف بل في الكم فقط ،بينما جــون فــرق في الكيــف أيضــا ،وكمثــال على
ذلك يقول جون « :اإلنسان يفضل أن يكون إنسانا معذبا أو متألما على أن يكون خــنزيرا ،ســعيدا أو مســرورا،
كما يفضل أن يكون سقراط البائس على أن يكون مجنونا سعيدا».
يرى كذلك أن هناك لّذ ات سامية وأخرى أقل سمّو ا ،وهذا عكس المذهب النفعي الــذي يــرى أّن كــل الّل ذات من
نوع أو من مستوى واحد.
ّل
يرى بنتام أّنه ال يمكن قياس ال ذات لعدم وجود مقياس ونفس الشيء بالنسبة لأللم ،بالّر غم من محاوالته إليجــاد
قياس علمي ،فإّن جون يذهب إلى القول بأّن الّلذة ليست غاية في حد ذاتها بل تأتي بشكل غير مباشر ،إذ عنــدما
يحّقق اإلنسان األغراض األخالقية فإّنه يشــعر بالســعادة ،وكإضــافة إلى ذلــك يــرى جــون أّن اإلنســان يجب أن
نمنحه الحرية الكافية حتى يزن األمور ويعرف أحسنها من أسوأها ال سيما حرية المناقشة وإبــداء الــرأي .هــذه
الحرية التي اعتبرها جون ستيوارت ميل أساسية بعدما كانت ثانوية عند بنتام ،فما هي المفــاهيم المختلفــة الــتي
أعطاها جون للحرية؟
المبحث الثاني :مفهوم الحرية عنده
ّظ
يرى جون ستيوارت ميل أّن للحرية معنى إيجــابي عنــدما يو ف المــرء قدراتــه على المبــادرة واالختيــار إلى
أقصى حّد ممكن ،وهنا تبرز ضرورة سيطرة المرء على الوسائل التي تؤّد ي إلى تحقيق مــا يريــد ،أي حــر في
اتّخ اذ القرار أو القيام بعمل ما ونحوها ،كما أّن الحرية يمكن أن يكون لها معنى سلبي أيضــا وهــو الّتخلص من
التدّخ ل الخارجي عند اتخاذ القرار ،وهو ما ينطبق على الفكر التحرري الذي أرساه جون ستيوارت ميــل .كمــا
أّن الحرية صفة فطرية في ذاتها وأّنها تؤّد ي إلى السعادة ،وعليه فالحرية هي ســلطة اإلنســان على نفســه وهــو
الحكم النهائي لما يقوم به من تصّر فات وأعمال ،وأّن حرية البحث والمشاركة وحرية الحكم األخالقي لإلنســان
الناضج الذي يسطر على نفسه خيرة في ذاتها إلى جانب منفعتها لصاحبها وللمجتمع ،لذلك يقول جــون ال يجب
أو ال يحّق للبشرية إسكات معترض واحد.
من جهة أخرى يرى أّن الحرية الفكرية والسياسية هي باالستماع والمشاركة في المناقشات في المسائل العامــة
وإصدار القرارات السياسية ،وأنكر في األخير بأّن الدستور االنجليزي المع ـّد ل في أواخــر القــرن 18م يضــمن
الحريات الفردية بشكل كاف ألّن الفارق كبير بين الحكام والمحكومين ،هؤالء الحكــام ال يمثلــون الشــعب كلــه،
بل أغلبيته وبالتالي فـإذا حّص لت الحكومـة على سـلطة مطلقـة فبإمكانهـا االعتـداء على الحريـات الـتي ناضـل
الشعب من أجلها.
على ذكر أّن الحّك ام يمثلون أغلبية الشعب ،هذا يعني أّن الحكومة في الواقــع تمثــل الــرأي العــام لألغلبيــة ،هــذا
الرأي العام الذي يخشاه جون يمكن أن يصبح ظالمــا يفــرض معتقداتــه وســلوكه لجميــع أفــراده حــتى للــذين ال
يؤمنون بها ،وهو بذلك (الرأي العام) يقّيد المجتمع ويحّد من تطّو ره ويقف عائقا أمام األقلية ،لذلك أعتبر جــون
بأّنه ال بّد من أن يكون وراء أي حكومة ليبرالية مجتمع ليبرالي ،أي أّن األنظمــة السياســية ليســت إّال جــزء من
إطار اجتماعي أوسع نطاقا ،وهذا في الواقع شيء منطقي ألّن هذه الحكومة من نتاج المجتمع.
هناك حريات فردية يقول جون ستيوارت ميل أّنه ال يجب الحّد منها وهي:
-1حرية الضمير وهي حرية العقيدة والتفكير.
58
-2حرية الذوق وحرية العمل.
-3حرية الجمع بين األفراد وتكوين الجمعيات واألحزاب.
من خالل هذه األفكار واآلراء يكون جون قد ساهم في تطوير وتعديل بعض بنود المذهب الليبرالي ،ذلــك وفــق
النقاط الثالث التالية:
-1مفهوم الحرية عنده لم يعد قائما على مجّرد تنفيذ سلطة الّد ولة والحّد منها.
-2أدخل مفهوم الخير االجتماعي والرفاهية كأساس من أسس المذهب الليبرالي الفــردي ولــو أّن المفــاهيم هنــا
تبدو متناقضة (الخير االجتماعي والمذهب الليبرالي الفردي).
-3قضى على حرية الّتعامل المطلق والّد ولة الحارسة التي يقتصر عملها على حماية الحقوق الطبيعة لألفراد.
المبحث الثالث:
تكمن غاية الّد ولة حسبه في تنمية الملكات الفكرية وتحسينها وضــمانها دســتوريا ،ويشــير هنــا إلى الـّد ور المهم
الذي تلعبه وسائل اإلعالم في تشكيل الرأي العام ،لذلك اقترح العديد من اإلصــالحات تخّص نظــام االنتخابــات
والبرلمان والحكومة.
ّل
-1نظام االنتخابات :تفضيل األقلية المتع مة الختيار الحّك ام وعدم ترك ذلـك للجمـاهير الجاهلـة ،هـذا يعـني أّن
أصوات الناخبين غير متساوية بــل حــرم الجمــاهير الجاهلــة من حــق الّتصويت ألّنهــا ال تســتطيع الّتميــيز بين
الصالح والطالح من الحكــام مفضــال التمثيــل النســبي ،ومن يشــترك في االنتخابــات يجب أن يكــون قــادرا على
القراءة والكتابة وملّم ا بمبادئ الّر ياضيات ،وحتى ال يقــع في تنــاقض مــع أفكــاره الــتي تــدعو للحريــة الفرديــة،
طالب بإلزامية التعليم وتعميمه وبذلك ينعدم الجهل ويشارك الجميع في االنتخابات ،باإلضـافة إلى مزايـا التعليم
األخرى في تكوين الشخصية المستقلة لألفراد.
-2وظائف البرلمان :من بين أهم وظائف البرلمان مايلي:
-مراقبة الحكومة واإلشراف على أعمالها.
-البرلمان هو الذي يعين الحكومة ويطلع الشعب على أعمالها ومهامها.
-وقف األعمال المضّرة بالشعب.
-البرلمان له الحق في عزل الحكومة التي تفشل في تحقيق أهداف وجودها.
-البرلمان يجب أن يكون مركز لتوّج ه تظلمات المواطنين واآلراء المختلفة.
-البرلمان له الحق في إقرار القوانين بعد سّنها من طرف خبراء القانون.
-3الحكومة :يجب أن تكون متكونة من طبقة أرستقراطية تتمّيز بالعلم والمعرفة مع استمرار رقابة البرلمــان
عليها ،ألّن المهام اإلدارية يجب أن يتوّالها ويضطلع بها موّظفون دائمون يتم اختيارهم حسب كفاءتهم العلميــة
ونتيجة لمسابقات خاصة.
في المجال االقتصادي يعتقد جون أّن قوانين الطبيعة تحكم اإلنتاج لكّنهــا ال تحكم الــدخول الــتي تحــدد بواســطة
العرف والتشريع والقوى االجتماعية ،وعليه يمكن الّتدخل في موضوع التوزيع من أجــل الوصــول إلى توزيــع
عادل للثروة بين الطبقات االجتماعية الثالث :العمــال والمّالك والعقــاريين الرأســماليين ،أي أّن األجــر والريــع
والربح ال تحّد د بالقوانين الطبيعية .كما كان يدعو إللغاء العمل المأجور ألّن األجر الذي يتح ـّد د بفعــل العــرض
والطلب سيبقى عند حّد الكفاف ،أي أّنه كان يدعو من جهة أخرى إلى التخلص من التقسيم السائد للعمل :أرباب
العمل -عمال عن طريق اإلنتاج بواسطة نظام إنتاجي آخر وهــو الجمعيــات التعاونيــة اإلنتاجيــة حيث ال يكــون
هناك عمال مأجورون وأرباب عمل ،كما يعتقد أن الريع ال يتحّد د بقانون طبيعي ( ،زيادة الريع ناتج عن زيادة
المساحات المزروعة كما يرى ريكاردو)...
خاتمــــــة:
ّف
تبدو أفكار جون ستيوارت ميل أقرب إلى الواقع عندما حاول أن يو ق بين الفرد والدولة ،أي كان ضــد طغيــان
الّد ولة على حرية األفراد ،وجعــل للّد ولــة غرضــا واحـدا يتمثــل في العمــل على إنمــاء شخصية الفــرد ،وبــذلك
59
تستطيع الّد ولــة في المضــي قــدما نحــو تحقيــق بــاقي أهــدافها وفي نفس الــوقت إتاحــة الفرصــة لألفــراد للتمّت ع
بحرياتهم ،وهنا يظهر بأّنه من أهم المساندين للمذهب النفعي بــالّرغم من التعــديالت الــتي أدرجهــا على قواعــد
المذهب.
60
-15الفلسفة السياسية المعاصرة
أ -فرانسيس فوكوياما :أطروحة نهاية التاريخ
فكرة نهاية التاريخ في خطوطها الكبرى كما وردت في الكتاب:
تعد مقولة نهاية التاريخ آخر صيحة عالمية استفاق عليها الفكر اإلنساني المعاصر .وإلقاء نظرة على مجمل مــا
ورد في كتــاب نهايــة التــاريخ وخــاتم البشــر ،1يكشــف عن مجموعــة من األفكــار والتصورات الــتي صــاغها
فوكوياما يمكن إبراز خطوطها العريضة اآلتية:
يرى المؤلف أن سقوط االتحاد الســوفياتي واكتســاح الديموقراطيــة الليبراليــة أرجــاء العــالم ،وانهيــار األنظمــة
الشمولية ،وانتصار فكرة األسواق الحرة ،كل ذلك وصد باب التاريخ وأدى إلى نهايته األبدية التي لن يــبرز في
أفقها أي مؤشر جديد.
ـ يرتكز في تحليله للديموقراطيــة على المرجعيــة التاريخيــة فيعــود إلى أحـداث القــرن 19م الــذي يعتــبره قـرن
االستقرار والسالم بفضل ما جناه من ثمار الثورة الفرنسية التي ركزت مبادئ الديموقراطية .لكنه ينتقد أحداث
القــرن العشــرين الــتي أدت في نظــره إلى تراجــع المبــادئ الديموقراطيــة بســبب الحــربين العــالميتين وظهــور
األنظمــة الديكتاتوريــة واليســارية الشــمولية .ثم يعــرج على الفــترة المعاصــرة ليفســر كيفيــة تحــول الــدول
الديكتاتورية إلى دول ديموقراطية وسقوط األنظمة االشتراكية ،وتحولها إلى أنظمة تنحو نحو وجهـة االقتصاد
الحر بسبب عجزها عن حل مشاكلها االقتصادية.
في مواضع أخرى من الكتاب ،يضع المؤلف األصبع على فكرة التاريخ الكوني ،فيستعرض مختلف النظريات
التاريخيــة لفالســفة التــاريخ واآلليــة الــتي تحــرك التــاريخ العــالمي ،والمتمثلــة في نظــره في اآللــة العســكرية
والتكنولوجية وسعي اإلنسان المعاصر للســيطرة على الطبيعــة ،معتــبرا أن التــاريخ يســير نحــو تــاريخ عــالمي
متجانس بهدف تكوين الدولة العالمية ،مستبعدا أن يكون التاريخ الكوني تاريخــا دوريــا يقضــي على المنجــزات
الحديثة ليرجع للمرحلة السابقة .إال أن أهم ما يميز فكر فوكوياما في باب التاريخ العالمي يكمن في رؤيتــه بــأن
االتجاه نحو الدولة العالمية المتجانسة يؤدي إلى نشأة مجتمع خال من الطبقــات ،ويعكس آخــر مرحلــة مرضــية
من التاريخ اإلنساني ،منها سيكون االتجاه نحو نهاية التاريخ.
ولم يفته اإلشارة إلى ما ينجم عن التطور التكنولوجي من دمار للبيئة معبرا عن تشاؤمه الشديد في هـذا المجـال
من المجهودات التي تقوم بها الجمعيات ومنظمات من أنصار البيئة .وحول االقتصاد االشــتراكي ،أبــرز أوجــه
قصوره ،خاصة من ناحية اعتماد الدول االشتراكية على فكرة الخطط االقتصادية التي لم تعد مالئمة في نظــره
للتغيرات االقتصادية الســريعة وتبــدل األســعار ،ومن ثم يعتبرهــا معيقــة للتطــور التكنولــوجي ،ويقــرن الثــورة
العلمية بالديموقراطية الليبرالية الحرة.
ويطرح في مواضع أخرى وجهات نظر تتعلق بفلسفة التاريخ ،خاصة آراء هيغــل كمــا فســرها كوجيــف حــول
الحرية واإلنسان ،معتبرا أن الحرية تظهر عندما يقدر اإلنسان على تجاهـل وجـوده الطـبيعي الحيـواني وخلـق
ذات جديدة لنفسه .وفي هذا اإلطار يخصص فصال لمعالجـة السـيادة والعبوديـة ،فـيرى أن خدمـة العبـد لسـيده
أصبحت تستفيد من التطور التكنولوجي ،مما جعل العبد حرا بفضل تغلبه على صــعوبة الخــدمات الســائدة قبــل
العصر التكنولوجي ،ومطالبا بالمزيد من الحرية والمساواة.
وفي تحليله للكائن البشري ،يــرى أن انفعــاالت اإلنســان من خالل رغبتــه في العرفــان والتمــايز والحفــاظ على
النفس والكرامة ،يؤدي به إلى الدخول في مجتمع مدني حيث الدســتور يقــر بحقــوق كــل إنســان ،ويقــدم شــرحا
لمفهوم الشهامة اعتمادا على آراء الفالسفة األقدمين ،منتقدا النظام الشـيوعي الــذي جعــل الجـزء الشـهواني من
النفس ضد الجزء الحيوي فيها ،وذلــك بإجبــار النــاس العــاديين على جعــل العديــد من التــافهين أكــثر اتفاقــا من
طبائعهم.
فرانسيس فوكوياما ،نهاية التاريخ وخاتم البشر ،تر:حسني أمحد أمني ،مركز األهرام للرتمجة والنشر ،ط ،1993 ،01:مصر. 1
61
ويالحظ أن فكرة الديموقراطية تأخذ حيزا هاما من اهتمامات المؤلف الذي يرى أن غيابها يسفر عن مشاكل ال
حصر لها داخل المجتمع ،ويمكن أن تلعب دورهــا إذا وضــعت في الحســبان الخصوصــيات الثقافيــة لشــعب أو
أمة .ويذهب إلى أن الديموقراطية تتجه نحو وجهة عالمية تتميز بالتجــانس ،ليخــرج بنتيجــة قطعيــة في نظــره،
وهي أن التاريخ يقود اإلنسان بطريق أو بآخر إلى الديموقراطية الحرة.
ويستند فوكوياما في الدفاع عن أطروحة التوجــه الكــوني نحــو الديموقراطيــة على الثــورة الحاليــة لتكنولوجيــة
اإلعالم ،فاالنفجــار التكنولــوجي في المجــال اإلعالمي الــذي نجح في غــزو أكــثر المنــاطق انــزواء في العــالم،
سيعطي –في نظره -األفراد مزيدا من القدرات ويسرع من وتيرة الدمقرطة.1
وبهذه األفكار التي أبرزنا خطوطها العريضة كما أوردها فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وخاتم البشـر ،يـبرر
أطروحته حول نهاية التاريخ الذي لن يطرأ في نظره أي مؤشر جديد يغيره أو يؤدي بــه إلى مســار جديــد .فمــا
مدى مصداقية هذه األطروحة؟
من إنصاف القول أن فوكوياما كان جريئا في أطروحته ،ولم يكن يغرب عن باله أنها ستالقي جيشــا من النقــاد.
كما يحمد له إبحــاره في كتابــه الســالف الــذكر عــبر مجموعــة من العلــوم السياســية واالقتصادية واالجتماعيــة
وفلسفة التاريخ واألنتروبولوجيا ،ونجاحه في تجييش مجموعة من القرائن التي تدل على صحة وجهات نظره.
وبالمثــل اتخــذ التــاريخ بمراحلــه الشاســعة مرجعيــة لمجموعــة من التصورات ،خاصــة في تحليلــه للحريــة
والديمقراطية ،واستطاع بهذا التحليل التاريخي أن يدلل على أبعاد أطروحته.
وقد دعم مقولته حول نهاية التاريخ بمؤلفات وأبحاث ومقاالت أخرى دافع فيها دون هــوادة عن أفكــاره ،فضــال
عن مقابالت علمية متعددة أجرتها معه مختلف المجالت نذكر من بينها على سبيل المثال مجلــة Constructi2
onالتي أجرت معه حوارا مطوال أكد فيه تشبثه بنظريته وموقفه من أن اليمين هو القــادر الوحيــد على تســيير
االقتصاد العالمي ،منتقدا بعض النظريات الوسطية كنظرية الطريق الثالث لرئيس الــوزراء البريطــاني طــوني
بلير ،بل ذهب بعيدا في حديثه عن نهايــة اإلنســان األخــير بفعــل ثــورة االستنســاخ الــتي جعلت بعض البــاحثين
يبشرون بعمر إنساني يمتــد إلى 200وحـتى 300سـنة ،ولعــل كتابــه األخـيرThe great discruption : :
human nature and the reconstruction of social orderيعكس هذا التوجه األخير ،فضال عن آخر
مقال صدر له تحت عنوان (اإلنسان األخير في الزجاجة) .The last man in a bottle
والواقع أن أي أطروحة معاصرة لم تثر صـخبا وضـجة إعالميـة مسترسـلة مثلمـا أثارتـه أطروحـة فوكويامـا.
وربما زاد من تضخيم ردة الفعل تجاهها سوء الفهم الذي وقع في حباله بعض المنتقدين لها؛ لذلك ال غرابــة أن
نجد صاحب األطروحة يشكو من قلة إدراك المجادلين ألطروحته بقوله" :لقد نتج قسـم كبـير من الجـدال األول
حول نهاية التاريخ عن سؤال داللي غبي إذ لم يفهم العديد من القراء أنني استعملت كلمة تاريخ بمعناها الهيغلي
الماركسي :التطور التدريجي للمؤسسات اإلنسانية والسياسية واالقتصادية ."3ويوضح المفهوم الــذي اســتعمله
للتاريخ بأن هذا األخير موجه بواسطة قوتين جوهريتين ،وهما توســع علــوم الطبيعــة والتكنولوجيــا المعاصــرة
التي تشكل أساس التحديث االقتصادي ،والنضــال من أجــل االعــتراف الــذي يتطلب في نهايــة المطــاف نظامــا
سياسيا يقبل كونية حقوق اإلنسان .وعلى عكس الرؤية الماركسـية الــتي تــرى أن صــيرورة التطــور التــاريخي
تجد نهايتها في االشتراكية ،فإن المفكر الياباني يرى أن هذه النهاية تتجسد في الديموقراطيــة واقتصاد السـوق.
ولم يعد ثمة نموذج آخر للتنمية قابل لالستمرار يجعل العـالم يتفـاءل بنتـائج أفضـل من اقتصاد السـوق ،فحـتى
النموذج اآلسيوي التنموي المزعوم ،والذي تتبناه دول ما يعرف بنمور آسيا عرف هزة قويــة بســبب التعــثرات
62
التي شهدها في العقد األخير بسبب األزمة االقتصادية التي عصفت به ،مما يؤكد هشاشــة نظــام الحكم المطلــق
في البلدان اآلسيوية ،حيث سعى ذلك النظام إلى كسب شرعيته من خالل اإلنجازات االقتصادية الكبرى.1
ومع ما لنظرية فوكوياما من بريق وسحر وجاذبيــة قويــة على قرائهــا ،ورغم مــا تحملــه من قيمــة فكريــة تفتح
شهية النقاش ،فإننا سنعمل على تشريحها انطالقـا من ظرفيــة ظهورهــا ،ثم تحليــل بنائهــا الــداخلي كنظريــة في
التاريخ وفي فلسفته.
فكرة نهاية التاريخ ولدت من رحم "النظام العالمي الجديد"…
إن التحليل العلمي ألي منتوج ثقافي ال يتم بمعزل عن بنية الواقع الذي أفرزه ،ومن هذا المنظور ،لم تكن فكــرة
نهاية التاريخ التي طرحها فوكوياما في سوق الثقافة سوى غطاء فكري يجسد انتصار النظــام العــالمي الجديــد
الذي بدت مالمحه تتشكل منذ العقدين األخــيرين ،ودخــل القــاموس السياســي ألول مــرة حين اســتعمله الــرئيس
األمــريكي األســبق جــورج بــوش األب في خطــاب وجهــه إلى الشــعب األمــريكي عنــدما قــرر إرســال القــوات
األمريكية إلى أرض الجزيرة العربية بالخليج إبان االجتياح العراقي للكويت.
بيد أن هذا النظام الجديد لم يكن سوى تتويج لمجموعة من التغيرات التي شهدتها خارطة العــالم السياســي الــتي
دخلت في إيقاع تطورات سريعة منذ الثمانينات ،فمنذ سنة 1985قدم الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشــوف
مشروعه الطموح المعروف بسياسة البروسترويكا ،وهو مشــروع إصــالحي جــاء كــرد فعــل ضــد مــا أفرزتــه
سياسة التسلط والبيروقراطيـة والنظـام الشـمولي السـائد في العهـد الشـيوعي الـذي هيمن ردحـا من الـزمن في
االتحــاد الســوفيتي ،ومــا تمخض عن ذلــك النظــام من مشــاكل متفاقمــة شــملت كــل المســتويات االقتصادية
واالجتماعية والفكرية.
لقد كانت الحركة الغورباتشوفية منعطفا بارزا لم يكشف عن مثالب النظام الشيوعي وأزمة اليســارية الشــمولية
كما طبقت في االتحاد السوفياتي فحسب ،بل كان أول معول يوظف لهدم ذلك النظام من الداخل ،ويسعى لحفــر
قبر بعض األنظمة التابعة له في أوروبا الشرقية الــتي لم تجــد حرجــا في إعالن تمردهــا على األنظمــة الكليــة،
واالندماج في االقتصاد الحر.2
والمتتبــع للمتغــيرات الــتي شــهدها العــالم منــذ التســعينات ،يالحــظ أن الريــاح صــارت آنــذاك تعــاكس الفكــر
االشتراكي ،فإلى جانب انهيار األنظمة الشيوعية في أوروبا وتفكك االتحاد السوفيتي ،جاء سقوط جــدار بــرلين
سنة ،1989وإجبار روسيا –بوضعيتها المترهلة ووزنها الدولي المتآكل -على توقيع العديد من االتفاقيات مــع
الواليات المتحدة ،قاصــمة الظهــر لدولــة طــوت آخــر صــفحة من صــفحات العظمــة ،فتقلص دورهــا العــالمي،
وضعفت قدراتها العسكرية ،وتمخض عن ذلك كله نتائج سلبية في تــاريخ األنظمــة الشــيوعية ،نــذكر من بينهــا
إعالن حل منظمة الكوميكون التي أعلنت إفالسها في مشاريعها التجارية ،ليتبعها بعـد ذلـك حـل حلـف وارسـو
في براغ بتاريخ فاتح يوليوز ،1991وهو أقــوى حلــف كــانت تتخــوف منــه الواليــات المتحــدة في زمن الهيبــة
الشيوعية.
يضاف إلى جملة االنتكاسات التي عرفها النظــام الشــيوعي ،الهــزائم المــرة الــتي لحقتــه في أفغانســتان حيث تم
استئصال شأفة الخطر األحمر بفعل تحالف القوى اإلسالمية هنــاك بــدعم أمــريكي واضــح؛ ناهيــك عن تــداعي
أنظمة أخرى بإفريقيا وآسيا كانت تدور في فلك المارد األحمر السوفيتي.
لقد عصفت هذه المتغيرات باالتحاد السوفيتي كقوة عظمى تشارك في الحفاظ على التــوازن الــدولي ،وأدت إلى
ضمور نفوذه ،مقابــل بــروز القــوة األمريكيــة كقطب أوحــد ،ليتمخض عن ذلــك كلــه ظهــور نظــام دولي جديــد
بزعامة الواليات المتحدة .إن هذا االنتصار األمـريكي لم يكن انتصارا زحـزح االتحـاد السـوفيتي عن مواقعـه
العسكرية المتفوقة ،بقدر ما كان انتصارا إيــديولوجيا تحقــق بعــد جـوالت طويلــة من الصراع بين الرأسـمالية
واالشتراكية ،ورجحانا قويا للفلسفة الليبرالية الديمقراطية على حساب الفكر الشيوعي االشتراكي الــذي عــرف
63
أفوال كنتيجة حتمية النتصار السياسة واالقتصاد األمريكي ،1مما أدى إلى أزمتــه .وفي خضــم نشــوة االنتصار
والتفــوق ،راح النظــام الــدولي الجديــد يــروج لمجموعــة من المقــوالت الفكريــة الــتي تدعمــه وتعضــده فكريــا
وإيديولوجيا ،ومن بينها مقولة نهاية التاريخ التي تشكل حجر الزاوية في كتاب فوكوياما.
حسبنا دليال على ذلك أنه لم يلمع نجم مؤرخ ومفكر في األوساط الثقافية والسياسية مثل ما لمع نجم هذا المؤرخ
الياباني الشاب الذي رفعته وسائل اإلعالم الرأسمالية إلى مســتوى أهرامــات المفكــرين ورواد فلســفة التــاريخ،
وجعلت كتابه يعرف شهرة واسعة بعد أن عرفت كيف تروج له ،وتستقطب حوله االهتمام بفعل الدعاية المكثفة
التي كان وراءها النفوذ السياسي وسلطة المال.
إن هذه التغيرات العالمية ذات اإليقاع السريع المتجه نحو تكريس النظام العالمي الجديد تفسر إلى حــد كبــير أن
هذا الكتاب/القنبلة تحول من مجرد محاضرة ألقاهــا فوكويامــا في جامعــة شــيكاغو األمريكيــة إلى كتــاب طبقت
شهرته اآلفاق .وال أعتقـد أن هـذا الشـاب اليابـاني األصـل ،األمـريكي الجنسـية ،الـذي كـان يشـتغل في العلـوم
السياسية بمؤسسة راندا بكاليفورنيـا ومـديرا مسـاعدا لمصلحة التخطيـط األمريكيـة وعضـوا باحثـا في مركـز
األبحاث Rand Corporationالتابع لجامعة شيكاغو ،2كان يحلم بكل هذه الشهرة التي بناها بوسائل اإلعالم
األمريكيــة ،وجعلتــه يحــول محاضــرته الــتي ألقاهــا في جامعــة شــيكاغو ونشــرتها مجلــة The National
interestسنة 1989إلى كتاب أكثر ما يقال عنه أنه يقال عنه أنه إعادة لفكرة هيغل ،ودفاع عن نظرة الدولــة
الرأسمالية ،وإعالم غربي متطور يهدف إلى الترويج للنظام العالمي الجديد.
نقد فكرة نهاية التاريخ انطالقا من بنائها الداخلي:
ثمة مالحظات يمكن أن توجه إلى أطروحة فوكوياما في تكوينها الداخلي كمنظومة فكرية ،نــذكرها على شــكل
انتقادات عبر نقاط نعتقد أنها تشكل الحلقات الضعيفة في تلك األطروحة ونوجزها في اآلتي:
-1النهاية المستنسخة :إن مقولة نهاية التاريخ ليست مقولة جديدة ،بل هي اجترار لمقوالت دينية وفلسفية قديمــة
وحديثة .فهذه المقولة تعد من المسائل الحتميــة المتجــدرة في المعتقــد الــديني الــذي ربــط الزمــان بــالخلق األول
وبمصير نهاية اإلنسان المحتومة؛ وال غرو فقد وردت في كل الديانات الســماوية كمــا هــو الحــال في اليهوديــة
والمسيحية واإلسـالم ،مجسـدة بفكـرة الفنـاء واالنتقـال إلى الـدار األخـرى .والـزمن التـاريخي المحـدد بالبدايـة
والنهاية في الفكر القرآني من األمور المعروفة التي ال تحتـاج إلى إسـهاب أو تفصيل ،حـتى أن إحـدى السـور
القرآنية سميت بسورة الدهر .وفكرة النهاية واضحة في داللة مفهوم الساعة التي ال ريب فيهــا ،والمتجســدة في
قوله عــز وجــل "فــإذا جــاء أجلهم ال يســتأخرون ســاعة وال يســتقدمون" -ســورة األعــراف :اآليــة -34بيــد أن
اإلسالم أكسب مفهوم "النهاية" إلى جانب الطابع الديني ،طابعا دنيويا اجتماعيا ،ذلك أن فكرة نهاية التاريخ في
اإلسالم منظورا إليهــا من ناحيــة الصراع االجتمــاعي وعالقــة المجتمــع بالســلطة جــاءت تعبــيرا واضــحا عن
تصور "ثوري" جسده القرآن الكريم بالمعنى االجتماعي في قوله تعالى" :ونريد أن نمن على الذين استضعفوا
في األرض ونجعلهم أئمــة ونجعلهم الــوارثين" -ســورة القصص ،اآليــة رقم - 5فالرؤيــة القرآنيــة حصرت
الصراع االجتمــاعي والسياســي بين المــترفين والمستضــعفين وحســمت مســألة التنــافس في التــاريخ البشــري
بانتصار المستضعفين من حزب هللا ضد المفسدين من حزب الشيطان ومن ثم تأتي نهاية تاريخ اإلنسانية نهاية
عادلة بانتصار قوى الخير على قوى الشر .كما نجد في النظريـات الشـيعية ،خاصـة النظريـة المهدويـة القائلـة
بنزول اإلمام وملئه األرض عدال كما ملئت جورا قبل الفناء األخير ،ما يعكس هــذه النظــرة العادلــة والمنطقيــة
حول نهاية التاريخ.
وفي الفلسفات القديمة نجد زرادشت يصور نهاية التاريخ في نقطـة االلتقـاء الـتي يتصارع فيهـا الخـير والشـر
أيضا ،فينتصر األول على الثاني .كما أن مقولة التيموس مأخوذة من ســقراط وأفالطــون ،وبالمثــل فــإن مقولــة
اإلنسان األخير مقتبسة من نيتشـه .والقــول ببدايــة التــاريخ والدولــة الليبراليــة مقــوالت هيجليــة ،دون أن ننسـى
1خمتار مطيع ،المشاكل السياسية الكبرى المعاصرة ،منشورات إيريس ،ط ،1البيضاء ،1993ص.260
،16السنة الرابعة ،أبريل .1998 مسعود ظاهر ،مراجعات نقدية لمقوالت فوكوياما ،جملة البحرين الثقافية ،العدد 2
64
محاوالت المفكر األلماني ماركس في تعديل المقوالت الهيغيلية ،والقول هو أيضا بنهايــة التــاريخ بعــد صــراع
طويل بين البورجوازية والبيروليتاريا ،وحتمية انتصار هذه األخيرة ونهاية الدولة التي ال يصبح لها آنــذاك أي
مبرر للوجود بعد انتفاء التناقضات السوسيو-اقتصادية.
كما أن بعض المدارس التاريخية أثارت خالل القرن الماضي مشكالت فلسفة التاريخ ومقوالت التقدم والتخلف
في صيرورته وإمكانية التنبؤ بنهايات محتملة ،ويكفي ذكر نموذج سبنجلر الــذي تنبــأ في كتابــه ســقوط الغــرب
بنهاية العالم الغربي حضاريا على األقل.
وفي الســتينات من القــرن العشــرين تضــخمت خطابــات ومقــوالت نهايــة التــاريخ بعــد تصاعد مــزاعم نهايــة
اإليديولوجيات مع عالم االجتماع كارل لبست.K. Lipest 1
والحاصل إن ما قام به فوكوياما ال يعدو أن يكون طرحا إحيائيا أو بعثا لفكرة النهاية ،وإعــادة صــياغة لألفكــار
القديمة والحديثة التي نبشت في ملفهـا؛ وال غـرو فقـد ظـل مـرتحال بين فكـرة اإلنسـان األخـير عنـد زرادشـت
ونتشه ،واالعتراف عند هيغل ،والحتمية التاريخية عند ماركس .وبكلمات أخرى فإنه لم يتجاوز الربــط بين مــا
صاغه الفالسفة الذين سبقوه ،والفترة المعاصرة ،دون إضافات جديدة حتى بالنسبة لفلسـفة التــاريخ ،وكأنــه قـام
بدورة حلزونية ليرجع بالفكر اإلنساني إلى نقطة االنطالق التي توقف عندها فالسفة الفترة الحديثة ،أو أنه أراد
–دون أن يعي -تجاوز الفكر الديني وكذا الفكر الماركسي وما أنجزته الثورة البلشفية والمبادئ الــتي صــاغتها،
والثورات التحرريــة في بلــدان العــالم الثــالث الــتي نحتت بصمات واضــحة في الفكــر الــديموقراطي والحريــة
والمساواة؛ بل إن النبرة العدائية للنظام االشتراكي تبدو واضحة في معالجته لمختلف الثورات االشتراكية الــتي
يفتري عليها أنها أفسدت النظرية الهيغيلية ،هذا مع انحياز تام وتحمس وتمجيد للنظام الرأســمالي ،األمــر الــذي
يخلع عنه صفة الموضوعية إذا اعتبرناه مؤرخا.
وفكرة النهاية في حد ذاتها تتسم بالغموض ،إذ ال يشعر الفــاحص لتــأمالت فوكويامــا مــا إذا كــانت هــذه النهايــة
أبدية أم نهاية تتلوها بداية ،وهو ما اعتبره بعض الباحثين حلقة ضعيفة في تفكيره إذ كيف نقبل بنهايــة ونحن لم
نعرف بعد البداية الحقيقية .2وإذا كان قد اقتبسها من هيغل فقد فاته أن األخير أعلن فكرة النهاية تاريخيــا مقابــل
البداية فلسفيا ،وأن فكرة النهاية تنتمي للتاريخ دون أن تعلن طالقا مع الفلسفة.
-2القراءة الخاطئة لألحداث التاريخية :يالحظ أن فوكوياما قــام بقــراءة خاطئــة لبعض الوقــائع التاريخيــة ،فلم
يحالفه الصواب في تحليله لبعض القضايا التاريخية الــتي تشــكل حجــر الزاويــة في كتابــه ،وهــو مــا يتجلى في
عدى مستويات نذكر منها:
ـ وهم نهاية الدولة كمرجعية هيجلية :فحتى بالنسبة لنظرية هيغل حــول نهايــة التــاريخ ،والــتي جعلهــا مرجعيــة
أساسية في أطروحته ،أثبت التطور التاريخي خطأ نظريته القائلة بنهاية التاريخ عند مرحلــة الدولــة الليبراليــة،
وحسبنا بروز تيارات فكرية في أوروبا بعد ظهــور نظريــة هيغــل خلفت آثــارا واضــحة في صــيرورة التــاريخ
اإلنساني خالل القرنين 19و ،20ممثلــة في التيــارات االشــتراكية والفاشــية والنازيــة والوجوديــة والســريالية،
فضال عن التيارات القومية والدينية واإليديولوجية المتطرفة التي لعبت أدوارا أساسية في المجتمعات الحديثــة،
وال تزال تلعبها في عز النظام الدولي الجديد .وإذا كانت المرجعية التي تبناها خاطئة ،فإن نتيجة التحليل تكــون
بالضرورة خاطئة.
ـ وهم االنقطاع في صيرورة التاريخ :إن المنطلق الذي انطلقت منه مقولـة نهايـة التـاريخ مقولـة ال تسـتند على
واقع علمي ،بل تنطلق من فكرة خاطئة أساسا ،مفادها إمكانية حدوث االنقطاع في صيرورة التاريخ ،علما بــأن
1محمد شكري سالم ،أطروحة نهاية التاريخ بين الفلس فة واإليديولوجي ة ،مجلـة فك ر ونق د ،السـنة الرابعـة،
العدد ،34ديسمبر ،2000ص.22
1كولنجورد ،فكرة التاريخ ،ترحمة محمد خليل ومحمد عبد الوهاب خالف ،القاهرة ،1968 ،ص.33
66
غير الذي انطلق منه صاحب أطروحة نهاية التاريخ ،فإنه يرى الواقع المعاصر ال من حيث نهايته للتاريخ ،بل
هو استمرار لتاريخ لم ينته بعد بالمعنى الذي يجري وراءه فوكوياما ،ألن اإلنسان الثالثي –نسبة للعالم الثــالث-
ما تزال تكبله مشكالت عديدة تحول دون وجوده على خط السير نحو الليبرالية الديموقراطية.
ـ نهاية مبتورة للتاريخ :إذا انطلقنا من المالحظة السابقة التي أوردناها حــول تــوافر مقولــة نهايــة التــاريخ على
زمــنين أو تــاريخين :زمن أوروبــا والغــرب ،وزمن المجتمعــات الناميــة أو البعيــدة عن طريــق الليبراليــة
الديموقراطية ،فمن حق الباحث المتفحص أن يتساءل :متى ينتهي تاريخ الدول األخرى الــتي لم تتبن الليبراليــة
منهجا في االقتصاد والسياسة؟ هل ستظل في مراحل ما قبل التاريخ كما يشـير إلى ذلـك فوكويامـا في معـرض
حديثه عن نهاية عصر اإليديولوجيات الكبرى ،أو ال يشكل ذلك تناقضا مع فكرة نهاية التاريخ التي يفترض أن
تكون كل المشاكل االقتصادية والسياسية والعرقية قد حلت معها؟
على عكس هذا االتجاه ،فإننا نجـد أن الهــوة بين الشـمال والجنــوب والــدول الغنيــة والفقــيرة قـد زادت اتسـاعا،
وبرزت القوميات العرقيــة بحـدة في البوسـنة وكوسـوفو وجنــوب الفلــبين وغيرهــا من أرجـاء العــالم ،وأصــبح
التطرف الديني وانتشار اإلرهاب بكل أنواعه يؤكد أن التاريخ لم ينته بقدر ما بدأ .ولم تعد تقنعنــا ردود المفكــر
الياباني وتبريراته بأن أزمة كوسوفا الحالية مهما بلغت مأساويتها اإلنسانية ،ال تعــد حــدثا ذا بعــد عــالمي قــادر
على أن يعدل المؤسسات األساسية بالمّرة.
ـ خلل في التحليل التاريخي :تشكو نظرية فوكوياما من فقــر واضــح في التحليــل الخــاص بــدور االســتعمار في
تطور المجتمعات اإلنسانية ودور اإلمبريالية الرأسمالية في التمهيد النتصار الليبرالية واتجــاه بوصــلة التــاريخ
نحو النهاية ،وبذلك أغفل عن عمد أو بدون وعي في تحليله التاريخي أن النظام العـالمي الجديـد الـذي بشـر بـه
على الصعيد الفكري يضرب بجذوره في عمق التاريخ اإلمبريالي الذي كان في سبيل تسويق فــائض إنتاجــه ال
يتورع عن استعباد الشعوب وإبادتها .وهكذا بإغفال فوكويامــا لهــذا العنصر كمكــون أساســي للتــاريخ الحــديث
والمعاصر ،يكون قد أخطأ في المنهج الذي انطلــق منــه ،والمنهج الخــاطئ أصــال ،ال يمكن إال أن يفــرز نتيجــة
خاطئة.
ومن المالحظ كذلك أنه أقصى العنصر االقتصادي والقاعدة المادية في تحليل وقائع التاريخ ،لينحاز مقابل ذلك
إلى مقولة الحاجة إلى االعتراف التي صاغها هيجل ضمن منظوره للديموقراطية الليبرالية كزواج بــبين العقــل
والحرية وضمان للتعددية ،1ومعنى ذلك أنــه أغفــل التحليــل الملمــوس للواقــع الملمــوس والعناصــر الفاعلــة في
التطور التاريخي ،مما أسفر عن فراغ في حصيلة التحليل.
وبالمثل ،يالحظ أن فوكوياما لم يستثمر المعلومات التاريخية المتوافرة عن بعض المجتمعات ذات الخصوصية
التاريخية مثل المجتمعات اإلسالمية .فباستثناء إشارات شاحبة حول إيران فإن كتابه ال يتضمن سوى معطيــات
هزيلة من تاريخ المجتمعات اإلسالمية ودورها في مسـتقبل الصراع العـالمي وبنـاء المجتمـع الـدولي الجديـد،
وهو ما سبق أن أكدته دراسات فكرية سابقة ،أو أثاره ولو بكيفية سلبية مفكرون معاصرون من أمثال صــمويل
هانتجتون.
ـ معالجة تفتقر إلى مبادئ علم االقتصاد :من المســائل الــتي تثــير االنتبــاه أن فوكويامــا يعــالج في كتابــه قضــايا
اقتصادية حساسة مثل العمل والشركات واألرباح والبورصات والسوق العالمية والتضخم واالستغالل ،ويطلق
في ذلك أحكاما نهائية ويقينية توحي بأن صاحبها متمـرس في النظريـات االقتصادية ،في حين تثبت آراؤه أنـه
غير متعمق في مبادئ علم االقتصاد ،علما بأن القضايا التي يناقشها في امتدادها الزماني والمكاني تتطلب بعدا
معرفيا اقتصاديا كبيرا ،وتستلزم فرق بحث متخصصة في الحقول المعرفية األخرى التي يطرحها ،فضــال عن
امتالك إحصائيات دقيقة متطورة إلثبات صحة ما يذهب إليه .ولعل هذا ما جعله يتعرض النتقــادات شــديدة في
األوساط الثقافية التي أجمعت على افتقاره لهذه العلوم ،وربما كان ذلك وراء تأليفه لكتاب Trustالذي لم يسلم
بدوره من تلك الهنات .أما بالنسبة لموضوع التاريخ وهــو الموضــوع األساســي في أطروحتــه ،فإنــه لم يالمس
1فيصل الدراج ،النظام الدولي الجدي د وإي ديولوجيا نهاي ة الت اريخ ،مجلة الطري ق ،يوليــوز-غشــت ،1995
محمد وقيدي( ،التاريخ الذي لم ينته بعد والتاريخ الذي لم يبدأ بعد) ،مجلة فكر ونقد ، ،مارس .1998
68
هائال في شتى علوم الحياة ،مما يشي ببداية تاريخ جديــد سيســتمر بعطــاءات إنســانية جديــدة وإبــداعات بشــرية
خالقة بدل أن يكون نهاية حتمية مزعومة.
وختاما ماذا عن الكتاب نفسه الذي يحمل في ثناياه فكرة نهاية التاريخ؟
ـ كوكتيل يفتقر لطعم موحد :هكذا يمكن وصف كتاب فوكوياما الذي ضمنه مقولته الشهيرة حول نهاية التاريخ،
فموضوعات الكتاب تتقاسمها مجموعــة من الفضــاءات المعرفيــة المختلطــة ،المفتقــرة إلى التنظيم وإلى انعــدام
خيط رابط يجمع بينها ،وعناوين غريبة قد تقفز بالقارئ أحيانا إلى جزر من الخيال ،وإلى عالم غير عالم الكرة
األرضية .أما الفصول فتحمل قضايا معقــدة ال تمت بصلة إلى موضــوع األطروحــة وهــو نهايــة التــاريخ ،وال
ترتبط بدراسات تاريخية بمعنى الكلمة .إنها موضــوعات كوكتيليــة تتــداخل فيهــا الفلسـفة واالقتصاد والسياسـة
والمجتمع والبيئة والتربية والحقوق والديموغرافيا ،دونما حاجة علمية إلى هذا التداخل .كما أنهــا تتيــه بالقــارئ
في أزمان سحيقة تتسع رقعتها لتشـمل الـزمن القـديم والوسـيط لتصل بـه إلى عصر العولمـة ،دون تـدقيق في
األمور التي تستحق التدقيق .وداخل هــذا الكوكتيــل المتأللئ ،يحــاول القــارئ أن يمســك بموضــوع األطروحــة
ليجده سمكة في الماء يصعب قبضها بإحكام .إننا أمام مشهد يبدو أن صاحبه تعمـد رسـمه بهـذه الصورة تجنبـا
إلبراز عثراته أو تمويها على القارئ بأنه مثقف موسوعي ،يمتلك من نبوغ الفكر وعبقريــة التحليــل مــا يجعلــه
أهال لحل اإلشكاليات الدولية بقدرة قادر.
بيد أن المتأمل للنتائج التي خرج بها صاحب الكتاب ،ال يجد فيها أي جديد ،فكل ما ذكــره هــو تكــرار ممــل لمــا
طــرح في ســوق الثقافــة الرأســمالية االســتهالكية منــذ أمــد بعيــد ،واجــترار لمــا قتــل بحثــا ودراســة من طــرف
المؤرخين والفالسفة.
قصارى القول إن نظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ بقدر ما هي قضية فكرية جريئة ومثيرة للجدل والنقاش،
فإنها ال تستند على مقومات علمية دقيقة البتعاد صاحبها عن القاعدة الثابتة التي تشــكل منطلــق المــؤرخ ،وهي
النزاهــة والموضــوعية .أمــا وقــد ســقط في شــباك التحــيز حين وضــع فكرتــه في خدمــة السياســة األمريكيــة
الرأسمالية ،وصاغ أفكاره بروح انبهارية تحت نشوة انتصار النظام الدولي الجديد ،فـإن هـذا التوجـه المهنـدس
سلفا ،جره إلى السباحة في عالم تخيل فيه أن التاريخ قد انتهى وأغلق أبوابه بعد انتهاء الحرب الباردة ،متناســيا
أن بوادر تكتالت سياسية أخرى بدأت تطفو مالمحها مع كل من روسيا والصين والهند ،كما أن أوروبــا نفســها
بــدأت تعلن عــدم انصياعها لنظــام العولمــة الجديــد ،دون أن ننســى أن القــوى التحرريــة اإلســالمية بــدأت في
االنتفاض والتفكير في تكتالت إقليمية وجهوية ،وتطمح ليكون لها موقــع قــدم في خارطــة القــوى المــؤثرة رغم
هيمنة الغرب .ومن ثم فإن ظهور أطروحة نهاية التاريخ في عصر ما ،ليس سوى عالمــة على مخــاض الفكــر
الذي يدشن تأمله في حقبة جديدة تصبح البداية وليست النهاية..
-2صمويل هنتغتون :أطروحة صدام الحضارات
-1الفكرة المحورية المحركة ألطروحة صدام الحضارات لهنتغتون :إن البؤرة المحورية المحركة ألطروحــة
صدام الحضارات هي تبني هنتغتون الصريح لفكرة اعتبار الحضارة والثقافة العامل الجديــد الــذي ســيتحكم في
صيرورة العالقـات الدوليـة ،وبالتـالي فاالنقسـامات الكـبرى في العـالم سـتكون حضـارية تتصادم في إطارهـا
مجموعة من الكتل الحضارية المنسجمة والمتنافسة فيما بينها ،فالحضـارة باعتبارهـا أرقى أشـكال التعبـير عن
الهوية سيكون لها دور فعال خالل القرن المقبل ،ويعرف هانتغتون الحضارة باعتبارها كيانا ثقافيا واسعا يمثل
أوسع مستويات الهوية ،فهي أعلى تجمع ثقــافي للنــاس وأوســع مســتوى من الهويــة الثقافيــة للشــعب .ويبــدو أن
هنتغتون ال يميز وال يفصل بين مفهوم الثقافة ومفهوم الحضارة ،ويسـتعملهما في كثــير من األحيــان كمــرادفين
لذلك ،فالصراع الحضاري عند هنتغتون هــو محــور السياســات العالميــة وهــو المتحكم في مجريــات العالقــات
الدولية ،حيث يطرح العامل الثقافي كمبــدأ محــرك للجيوسياســية إال أن الســؤال الــذي يطــرح هنــا هــو عن أي
حضارات يتحدث هنتغتون (مطلب أول)؟ وما هي أسباب هذا الصراع (مطلب ثاني)؟
أ -أنواع الحضـارات عنـد هـانتغتون :لقـد قسـم هنتغتـون الحضـارات الكـبرى الحاليـة إلى ثمـاني حضـارات
ومعيار الفصل بينها هو الدين ،وهي على التوالي :الحضارة الغربية -الحضارة الصينية -الحضارة اليابانية -
69
الحضارة اإلسالمية -الحضارة الهندية -الحضــارة األرثوذكســية -الحضــارة األمريكيــة الالتينيــة -الحضــارة
اإلفريقية غير أن هانتغتون قد حدد خصائص كل حضارة على حدى وهذا ما سنتطرق إليه كما يلي:
ب -مميزات الحضارة في أطروحة صدام الحضارات :إن تحديد مميزات كل حضــارة على حــدى يســتوجب
الوقوف على مميزات وخصائص هـذه الحضـارات ،ولعـل التقسـيم الـذي أورده هـانتغتون فيمـا يخص تحديـد
خصائص هذه الحضارات قائم على الشكل التالي:
الحضارة الغربية :تؤرخ عادة على أنساق برزت منذ 700سنة قبــل الميالد ،وغالبــا مــا ينظــر إليهــا على أنهــا
متواجدة في أوروبا وأمريكا الالتينية وأمريكا الشمالية.وحسب هنتغتون أن هناك سمات ينفــرد بهــا الغــرب عن
الحضارات األخرى وهي الميراث الكالسيكي من الفلســفة اليونانيــة والرومانيــة والكاثوليكيــة والبروتســتانتية،
وفي عدد اللغة وكذا فصل السلطة الدينية عن الدنيوية وسيادة القانون والتعددية االجتماعية والفردية.
الحضـارة الصينية :يعـود تاريخهـا إلى 1500سـنة قبـل الميالد على األقـل ،وقـد أطلـق عليهـا هنتغتـون اسـم
الحضارة الكزنفوشوسية ،غير أنــه يعــود ويقــول أنــه إذا كــانت الكزنفوشوسـية مركبــا رئيسـيا من الحضــارات
الصينية فالحضارة الصينية هي أكــثر من كونفوشوسـية ،وهي تتعــدى حـدود الصين ككيــان سياسـي ،لتشـمل
جنوب شرق آسيا وكذلك الثقافات القريبة من الصين والفيتنام وكوريا.
الحضارة اليابانية :يرجع هنتغتون تاريخ ظهورها إلى 400سنة قبــل الميالد وهــو بــذلك ال يســلم بــآراء بعض
العلماء الذين يقولون لوجود معالم ثقافية واحدة تجمع بين الثقافة اليابانية والصينية.
الحضارة اإلسالمية :برزت هذه الحضارة في شــبه الجزيــرة العربيــة في القــرن الســابع الميالدي ،وقــد انتشــر
اإلسالم بسرعة عبر شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية ،وكذا وسط آسيا وشبه القارة الهنديــة وجنــوب شــرق
آسيا.
الحضارة الهندية :وجدت في شبه القارة الهندية منذ 1500سـنة قبـل الميالد وقـد اعتـبرت الهندوسـية الثقافـة
األساسية في شبه القارة من األلــف الثانيــة بعــد الميالد ،وهي صــلب الحضــارة الهنديــة على الــرغم من وجــود
جماعات مسلمة ذات أهمية.
الحضارة األرثودوكسية :تمركزت هـذه الحضـارة بخصوصـياتها في روسـيا كـدين منفـرد بعـد 200سـنة من
الحكم التتاري واالستبدادية الشرقية وعدم االحتكاك بالحضارة الغربية وعصر التنوير.
حضارة أمريكا الالتينية :على الرغم على أن هذه الحضارة وليدة الحضارة األوروبية إال أنها تطورت وسلكت
طريقا مختلفا جدا عن أمريكا وأوروبــا الرأســمالية وصــارت لهــا ثقافــة "كوروبوريتاريــة" وتســلطية والــتي ال
توجد منها في أوروبا وأمريكا الشمالية.
الحضارة األفريقية :يقول هنتغتون أن معظم الحضارات ال يعــترفون بوجــود حضــارة إفريقيــة متمــيزة ،فهي
مزيج من الحضارات اإلسالمية والغربية غير أنه يرى أن إفريقيا قد طورت نوعا من الحصرية اإلفريقية بمـا
يؤهلها أن تصنف كحضارة بذاتها.
وبعد تصنيف الحضارات يرى هنتغتون أنه تمام الحضــارات ســتكون هنــاك عالقــة عدائيــة وعالقــات ســتكون
عرضة للصراعات أكثر من األخرى.
ج -مستويات الصراع بين الثقافات :إّن الصراع بين الحضارات عند هنتغتون يتخذ مستويين اثنين:
المستوى الجزئي اإلقليمي :فأكثر خطوط الصدع عندما تكــون بين اإلســالم وجيرانــه األردثــوكس والهنــدوس
واألفارقة والمسيحيين والغرب.
المستوى الكلي العام :يكون بين الغرب والشرق أي بين الحضارات الغربية والحضارات غير الغربية.
وقد صنف هنتغتون طبيعة العالقة بين الغرب والحضارات األخرى في ثالث دوائر ،متخذا العداء أساسا
للتصنيف:
الحضارات المتحدية :وهما حضارتا اإلسالم والكونفوشوسية الصينية.
الحضارات المتأرجحة :وهي الروسية واليابانية والهندوسية ،وتكون عالقاتها مع الغرب عالقات تعاونية تــارة
وصراعية تارة أخرى ،فالّد ول الثالث تقف مع الحضارات األخرى ومع الغرب في أوقات أخرى.
70
الحضارات الضعيفة :وتتمثل في أمريكا الالتينية وإفريقيا.
-2أسباب الصدام الحضاري في أطروحة هانتغتون :يرى هنتغتون اعتمــادا على مفــاهيم سوســيولوجيا العلــوم
لدى طوماس كون ،أنه بعد نهاية الحرب الباردة ،أصبحت هناك حاجة ملحة إلرساء براديغم جديد يســاعد على
إدراك وتفسير التحوالت الكبرى التي يعيشها العالم ،لذلك فبراديغم الحضارات هو أفضل نموذج إرشــادي لفهم
األحداث المهمة في العالم فاالنقسام الحضاري يعتبره هنتغتون عامال مهما في تحديد طبيعة النزاعــات القادمــة
فهو يورد مجموعة من العوامل التي تبرر أسباب وبواعث هذا الصدام ومن بينها:
-االختالفــات بين الحضــارات هي اختالفــات حقيقيــة وأساســية ،فالحضــارة هي أقــوى الهويــات والتمــيزات
الحضارية هي أكثر حدة من التميزات اإليديولوجية والسياسية.
-كثافة التفاعالت واالحتكاكات بين الحضارات أدى إلى تنامي الوعي الحضاري وإدراك االختالفات
العميقة والشعور باالنتماء الحضاري المشترك.
-صعود النزعــة اإلقليميــة االقتصادية على شـكل كتــل جهويــة اقتصادية وتمت عالقـة تفاعليــة بين االنـدماج
االقتصادي وواقع االنسجام الثقافي ،فالجهوية االقتصادية ستدعم الوعي الحضــاري وســتكون أكــثر فعاليــةكلما
كان هناك تقارب ثقافي أكبر
إّن هذه الممّيزات واالختالفات الثقافية عند هنتغتون غير قابلــة للتغيــير والتحـول وغــير قابلــة أيضــا للتسـويات
على عكس االختالفات السياسية وااليديولوجية.
أ -نزعة الثقافة في أطروحة صدام الحضارات:
إن للبعــد الثقــافي دور مهم إن بإمكانــه إعــادة خلــق مختلــف التوازنــات الجيوسياســية العالميــة ويمنحهــا أبعــاد
جديــدة ،بفضــل امتالكــه لقــوة حيويــة قــد توجــه نحــو حركــات اندماجيــة وتعبويــة (التكتالت الثقافيــة أو
االقتصادية) أو نحــو حركــات تفكيكيــة على مســتوى الكيــان الوطــني أو على المســتوى الــدولي ،ولهــذا
اعتمـــد هنتغتـــون على هـــذا البعـــد لتحليـــل الـــدور األساســـي للثقافـــات والمعتقـــدات في فهم التحـــوالت
الجيوسياســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــية العالميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة.
إن أطروحــة صــدام الحضــارات تحــذر الغــرب من مغبــة الوقــوع في وهم الهيمنــة الثقافيــة الكونيــة على
الحضـــارات األخــرى الـــتي ال يمكن لهـــا أن تنـــدمج في النســيج الحضـــاري للغـــرب حــتى لـــو اســتهلكت
البضــائع الغربيــة وشــاهدت األفالم األمريكيــة فــروح أي كيــان هي اللغــة ،والــدين والقيم وهــذا مــا يحتم
على الغرب تنمية قوة حضارته وانسجامه في مواجهة الحضارات األخرى.
ب -الفكــــــــــــــرة الخاطئــــــــــــــة لــــــــــــــدي الغــــــــــــــرب في صــــــــــــــدام الحضــــــــــــــارات:
يعتقد هنتغتون بأن العالقــات الدوليــــة لم تعــد في الــوقت الراهــــن مجــاال خاصــا للــدول الغربيــــة فحضــارات
أخـرى ستصبح فاعلة ومهيمنـــة في معترك المنتظم الدولـــي ،وذلك ألن نهايـــة هــذا القــرن ســتعرف صــعود
حضــــــــــــــــارات منافســــــــــــــــة للغــــــــــــــــرب بعالميــــــــــــــــة قيمــــــــــــــــه ومبادئــــــــــــــــه.
ويفند هنتغتون الفكرة الخاطئة الشائعــة فــي الغرب حاليا وفي الواليات المتحدة األمريكيــة بشكل خاص ،التي
مفادها أن العالم برمته يسير نحو ثقافــة عالميــة شاملة منسجمـــة بقيادة العالم الغربي وعكس ذلك يدافع بشكل
مثير أن الغرب فريد وليس كوني ويدعم فكرته بمجموعة من الدالئل ولعل أبرزها أنه رغم استعمارالكوكاكوال
في جل أقطار العالم ورغــــم شرب الروس مثال كوكاكوال ال يجعلهـــم ذلك يفكرون مثل األمريكيين ورغم أن
بعض الشبـــاب في الشرق األوســط يلبسون سراويل الجينز ويسمعـــون موسيقى "الراب" قد يفجرون طــائرة
أمريكية ،الشيء الذي جعل هنتغتون يعتبر الحضارة الغربيــة حضارة فريدة وليست كونية وإلدراك هذا الخلل
يدعوا إلى ضرورة تحقيق هذا االنسجام بين مختلف الحضارات والعمل على نشر الثقافة الغربية.
-3مبررات هنتغتون لسوء العالقة بين الحضارة اإلسالمية والحضارات األخــرى :يــرى هنتغتــون أن صــراع
القرن العشرين بين الليبراليين والماركسيين ظاهرة سطحية زائلة مقارنـــة بالعالقـة المتصارعـــة العميقـة بين
اإلسالم والحضارات األخرى ،ويرجع هنتغتون أسباب هذا الصراع إلى عدة عوامل أهمها:
71
-النمــــــــــــــــــــــــــــو الســــــــــــــــــــــــــــكاني المتزايــــــــــــــــــــــــــــد للمســــــــــــــــــــــــــــلمين.
-جهـــود الغـــرب في جعـــل ثقـــافتهم عالميـــة ومؤسســـاتهم مســـيطرة والمحافظـــة على تفـــوقهم العســـكري.
-اإلحيــــــــــــــاء اإلســــــــــــــالمي أعطى للمســــــــــــــلمين الثقــــــــــــــة في حضــــــــــــــارتهم وقيمهم.
إن هذه العوامل هي التي تبرر لهنتغتون أسباب الصراع بين اإلسالم والحضارات األخرى لها منحنى وطبيعــة
خاصة ،والسؤال ما هو طبيعة هذا الصراع؟ وما هو موقع كل من الحضارة اإلسالمية والغربيــة في أطروحــة
صدام الحضارات؟
-4طبيعة العالقة بين الحضارتين اإلسالمية والغربية:
يقول هنتغتون حول هذه النقطة أن " 14قرنا...أثبتت أن العالقة بيـن اإلسالم والمسيحية كانت غالبــا عاصفــــة
ودمويــة كل واحد نقيضا لآلخر" .ويستشهد بذلك بمقولــة المستشرق "برنارد لويـــس" حول أن اإلسالم هـــو
الحضارة الوحيدة التي وضعت الغرب في شك ،وعلى هذا تنبع أسباب هذا النمط مـن الصراع ،فالمسلـــم الذي
يرى بأن اإلسالم منهـج حياة يوحد الديــن والسياســة ضد المفهوم الغربــي المسيحــي الذي يفصل الدين عـــن
السياسة ،كما أن الصراع في نظر هنتغتون ينشأ بينهما من خالل تشابههما ،إن كل منهما يؤمن باهلل وكل منهما
يدعي أنه يملك اإليمان الحقيقي الذي يجب أن يسود في العالم .
أ -موقع الغرب في نظرية هنتغتون:
يرى هنتغتون أن القرن الواحـد والعشرين مــن المحتمل أن يطبعــه انبعاث مستمر لقوى وثقافات غير غربيــة
والصدام الذي سيكون ،سيحدث بين حضارات غربية وحضارات غير غربية ،ولن تكون فيــه الهيمنة للغرب،
ذلـــــــــــــك أنـــــــــــــه ســـــــــــــيكون متعـــــــــــــدد األقطـــــــــــــاب ومتعـــــــــــــدد الحضـــــــــــــارات.
فعلى المدى القريب وعلى المستوى العسكري يدعـو هنتغتون إلى عدم االنخداع بالهدوء واالسترخاء الذي ساد
جبهات الصراع بعد الحرب الباردة ،وبالتالي التراجع عن سياسة تخفيض القدرات العسكرية الغربيــة والحفاظ
على التفوق العسكري ،وفي نفس الوقت السعي نحـو الحـد من األسـلحة وتصنيعها لـدى الـدول غـير الغربيـة.
فمشكلـة التفكك الثقافي في نظر هنتغتون لها مضاعفات على الموقع االستراتيجي للواليات المتحدة األمريكيــة
كقوة عظمى وعلى مصالحها الحيويـة في العالم ،أمــا على المستوى البعيد فال بد أن يبادر الغرب إلى معرفــــة
الحضارات األخرى معرفة جيدة قصد التعرف على المبادئ والعوامل المشتركــة التي يمكــن أن تشكل أساس
للتفـــــــــــــــــــاهم والتعـــــــــــــــــــايش بين الغـــــــــــــــــــرب وبـــــــــــــــــــاقي الحضـــــــــــــــــــارات.
إن قوة الغرب من وجهة نظر هنتنغتون ستحدد مستقبال من خالل قدرته على مواجهـة هذه االختالفات وتأكيـــد
تماسكه الثقافي واألخالقي وإال سيكون مصيره االنهيار والتراجع.
75