عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي ج1

You might also like

Download as pdf or txt
Download as pdf or txt
You are on page 1of 454

‫اجلزء األول‬

‫لندن‪ ،‬أنت�اريو‪ ,‬كندا‬


‫‪2020‬‬
‫عنوان الكتاب‪ :‬عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬
‫املؤلف‪ :‬عزيز سباهي‪2016-1925 ،‬‬
‫تصميم الغالف واملحتويات‪ :‬زياد سباهي‬
‫خطوط‪ :‬املؤلف ذاته‬
‫النسخة األوىل‪2002 :‬‬
‫النسخة الثاني�ة‪2020 :‬‬
‫طبع يف كندا‬
‫جميع احلقوق محفوظة لعائلة املؤلف‬
‫‪2nd Edition.Print 04.2020‬‬

‫‪azizsbahi.com‬‬

‫الجيوز نشر أي جزء من هذا الكتاب أواخزتان مادته بطريقة االسرتجاع أو نقله على أي حنو‬
‫أو بأية طريقة‪ .‬سواء أكانت إليكرتوني�ة أوميكانيكية أو خالف ذلك إال بموافقة خطية من املؤلف‬
‫أو عائلته‬
‫‪All rights reserved. No part of this publication may be reproduced, stored‬‬
‫‪in a retrieval system, or transmitted, in any form or by any means, electronic,‬‬
‫‪mechanical, photocopying, recording, or otherwise, without the prior written‬‬
‫‪permission of the author or his immetdiate family‬‬
‫إىل األم اليت نذرت نفسها وأوالدها جميعهم إىل قضايا احلزب والشعب‬
‫والوطن وعانت البؤس واحلرمان والتخفي‪ ،‬وكابدت حياة املنايف والسجن‬
‫دفاعا ً عن هذه القضايا‪ ...‬وجعلت من بيتها املالذ اآلمن الذي يأوي إليه‬
‫املطاردون من مناضلي احلزب‪...‬‬
‫ً‬
‫إىل تلك األم اليت صربت وصابرت أمال يف احلياة السعيدة اليت ظل‬
‫أوالدها ورفاقهم يمنونها بها‪ ،‬حىت ودعتهم‪ ،‬وأودعت لديهم حب احلزب‬
‫والشعب‪ ،‬أمانة يف أعناقهم‪ ،‬دون أن تنعم هي بهذه احلياة‪.‬‬

‫إىل أيم‪...‬أم عزيز‬

‫وإىل كل األمهات األخريات اللوايت شاركنها هذا احلب واألمل‬


‫أهدي هذا الكتاب‬

‫عزيز‬
‫مالحظــات حول النســخة الثانية‬

‫نقـدم اىل القـارئ الكريـم النسـخة الثانيـ�ة مـن كتـاب «عقـود مـن‬
‫تاريـخ احلـزب الشـيوعي العـرايق» يف حلتـه اجلديـدة ً‬
‫وفـاء لوصيـة املؤلـف‪.‬‬

‫تمـت طباعـة اجلـزء األول مـن الكتـاب ألول مـرة يف دمشـق عـام ‪2002‬‬
‫وتالهـا اصـدار اجلـزء الثـاين والثالـث يف بغـداد عـام ‪ 2003‬و ‪ .2006‬وبالرغـم‬
‫مـن مناشـدة املؤلف للناشـر يف اكرث مـن مرة من اجل تدارك األخطاء اجلسـيمة‬
‫التي تعرضـت لهـا الطبعـة األوىل‪ ،‬اال أن العمـل قوبـل بأهمـال واضـح بسـبب‬
‫سـوء الطباعـة والتوزيع‪.‬‬
‫أرتأينـ�ا ان نعالـج موضـوع ضعـف التوزيـع بنشـر الكتـاب يف نسـخة‬
‫الكرتونيـ�ة مجانيـ�ة ًسـتصل دون شـك اىل اكبر عـدد ممكـن مـن القراء والسـيما‬
‫الشـباب‪ .‬تـم ايضـا تصحيـح األخطـاء املطبعية التي وردت يف الطبعـة األوىل و‬
‫اضافـة مـواد عـن مؤلـف هـذا الكتـاب‪.‬‬
‫ً‬
‫بالرغـم مـن املشـاكل التي واجههـا هـذا العمـل والتي ذكرناهـا آنفـا اال ان‬
‫هـذا الكتـاب حضي بأهتمـام عـدد كبير مـن األكاديميين العـرب والغربيين‪.‬‬

‫عائلة املؤلف‬
‫حول المؤلف‬

‫هــذه ترجمــة لنعــي «املجلــة الدوليــة للدراســات العراقيــة املعاصــرة» الصــادرة مــن‬
‫ً‬
‫انكلــرا للكاتــب الراحــل عزيــز ســباهي‪.‬كما وكرمتــه املجلــة الحقــا بعــدد خــاص ســاهم‬
‫‪11‬‬
‫فيــه مجموعــة مــن األكاديميــن املعروفــن يف الغــرب بدراســاتهم عــن تاريــخ العــراق‪.‬‬

‫تـويف يف يـوم ‪ 26‬ين�ايـر ‪ 2016‬يف مدينـ�ة لنـدن ‪ ،‬أونت�اريو‪ ،‬يف كندا األسـتاذ‬
‫عزيـز سـباهي‪ ،‬الصحفـي واملؤلـف لعـدة كتـب واملناضـل والناشـط اليسـاري‬
‫عاما‪ .‬وعلى‬‫العـرايق الـذي لـم يعـرف الكلل طيلـة حياته اليت جتـاوزت التسـعني ً‬
‫ً‬
‫الرغـم مـن أن اسـمه لـم يكـن معروفـا بشـكل كبير يف األوسـاط الغربيـ�ة ‪ ،‬إال ان‬
‫وفـاة سـباهي حظيـت باهتمـام الصحافـة العراقيـة اليت نعـت الراحـل بالعديد‬
‫من املقـاالت‪.‬‬
‫أقليـة‬
‫« أبـو سـعد» ‪ ،‬وكان هـذا اللقـب الـذي يعـرف بـه‪ ،‬ينتمي اىل ً‬
‫العـرايق الفقير‪ ،‬لكنـه أصبـح الحقا يف‬‫الريـف ً‬ ‫املندائيين‪ .‬فقـد نشـأ يف‬
‫الصابئـ�ة ً‬
‫معروفا من خالل كتاباته‪ .‬وقـد لعب دوراً‬ ‫مهما ومفكـراً‬
‫سياسـيا ً‬
‫ً‬ ‫حياتـه ناشـطا‬
‫ً‬
‫بـارزا يف أنشـطة احلـزب الشـيوعي العرايق ما بعـد احلرب العامليـة الثاني�ة وبعد‬
‫اخنراطـه يف احلـزب قضى سـباهي مـا يقـرب عقديـن مـن الزمـن يف السـجون‬
‫واملنـايف‪ .‬أسـتمرت كتابـات «أبو سـعد» حىت آخر سـنني حياته‪ .‬فقـد ألف أكرث‬
‫مـن عشـرة كتب وعشـرات النصـوص املرتجمـة ومجموعة كبرية مـن املقاالت‬
‫والدراسـات ‪ ،2 2‬مـن داخـل السـجون أو خارجهـا‪ ،‬يف العـراق أو يف املنفـى بعيـدا‬
‫عـن وطنـه‪ .‬مـن الصعـب جمـع نت�اجـات سـباهي حيـث ان الكثير منهـا نشـر‬
‫بأسـماء مسـتعارة أو بأسـم «املحرر»‪ .‬معظم أعمال سـباهي ناقشـت القضايا‬

‫‪1. «In Memoriam», International Journal of Contemporary Iraqi Studies,‬‬


‫‪vol.10 no.3, Sep. 2016, pp.1937-; & “Editor’s Introduction”, International‬‬
‫‪Journal of Contemporary Iraqi Studies: Special Issue in Honour of the Iraqi‬‬
‫‪Journalist and Author Aziz Sbahi, vol.12 no.2, Jun. 2018, pp.959.‬‬
‫ً‬
‫‪ .2‬سيجد القارئ جردا ألهم أعمال املؤلف يف آخر صفحات هذا الكتاب‬
‫د‬
‫ذ‬ ‫لؤملا لوح‬

‫ً‬
‫الصابئـ�ة‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ومعتقـدات‬
‫ً‬ ‫تاريـخ‬
‫ً‬ ‫يف‬ ‫حبـث‬ ‫أيضـا‬ ‫السياسـية واالقتصاديـة‪ ،‬إال أنـه‬
‫املندائيين‪ .‬ويجـدر بالذكـر هنـا أن سـباهي كان ايضـا خطاطـا وفنانـا بارعـا‪ .‬يف‬
‫خـاب أمـل سـباهي يف مـا حـل ببـلاده واليسـار‬
‫ً‬ ‫األخيرة مـن حياتـه‪،‬‬
‫ً‬ ‫السـنني‬
‫َ‬
‫العـرايق عمومـا‪ ،‬لكنه لـم يتخل يوما عـن وطنيت�ه وإيمانه باحللول االشتراكية‪.‬‬
‫ولـد عزيـز سـباهي يف عـام ‪ 1925‬يف قضـاء قلعـة صالـح يف محافظـة‬
‫اجلنوبيـ�ة‪ ً.‬حـال العديـد مـن احلرفيين الصابئـ�ة يف ذلـك الوقـت‪ ،‬كان‬
‫ً‬ ‫ميسـان‬
‫والـده صائغـا بارعـا عمل بأدوات بسـيطة لصنـع احللي من الفضـة‪ ،‬أما والدته‬
‫سـباهي طفولتـه يف فقـر‬ ‫معروفـة‪ .‬عـاش ً‬
‫ً‬ ‫فكانـت مـن عائلـة دينيـ�ة محافظـة‬
‫متواضعـا مـن الطين مـع عوائـل‬
‫ً‬ ‫مدقـع حيـث أن عائلتـه كانـت تتقاسـم منزال‬
‫أخـرى‪ .‬لـم يكن ملسـتقبل سـباهي أن يكـون مختلفا عـن مصري أبي�ه لو ال اتسـاع‬
‫الفـرص التعليميـة يف الفترة املبكـرة مـن احلكـم امللكـي‪ .‬يف عـام ‪ ، 1931‬التحـق‬
‫املتميزيـن ًمنذ املراحـل األوىل يف تعليمـه‪ .‬لكن وفاة‬
‫سـباهي باملدرسـة وكان مـن ً‬
‫والـده يف عـام ‪ 1940‬تركـت أثـرا عميقـا علـى سـباهي الـذي لـم يكـن قـد جتـاوز‬
‫الــ ‪ً 15‬‬
‫عامـا‪ .‬وباعتبـ�اره االبـن األكبر يف عائلـة مكونـة مـن أربعـة أوالد وبنت وأم‬
‫‪،‬فقـد حتمـل سـباهي العـبء األكبر مـن املسـؤولية منـذ سـن مبكـرة‪ .‬وبالرغـم‬
‫مـن هـذه الظـروف الصعبة والفقـر الذي عاشـته العائلة اال ان عزيـز تمكن من‬
‫إكمـال املرحلـة املتوسـطة بتفـوق وتالهـا بشـهادة دار املعلمين يف بغـداد‪.‬‬
‫ً‬
‫باإلضافـة إىل التعليـم األكاديمي‪ ،‬كان سـباهي قـد ابـدى اهتمامـا‬ ‫ً‬
‫ملحوظـا بالسياسـة والفـن اللذيـن تـركا بصمـة كبيرة يف حياتـه‪ .‬وكمـا هـو‬
‫احلـال مـع العديـد مـن املندائيين الذيـن توارثـوا فـن الصياغـة والنقـش علـى‬
‫أظهـر سـباهي مواهـب فنيـ�ة متعـددة‪ .‬وخلال فترة وجـوده يف‬ ‫الفضـة ‪ ،‬فقـد ً‬
‫بغـداد ‪ ،‬اهتـم كثيرا باتقـان قواعـد اخلـط العـريب والرسـم والنحـت حتى أنتـج‬
‫عـددا البـأس بـه مـن األعمـال الفنيـ�ة‪ .‬لكـن السياسـة هـي التي اسـتولت على‬
‫اهتمـام جيله وكان حلركة رشـيد علـي الكيالين املناهضة لالسـتعمار الربيطاين‬
‫يف عـام ‪ 1941/1940‬أثـر كبير علـى الشـباب العـرايق الطمـوح الـذي كان يـرى‬
‫يف األسـتعمار السـبب الرئيسي وراء ختلـف العـراق وقلـة حظـوظ تطـوره يف‬
‫املسـتقبل‪ .‬كانـت أيديولوجيـة احلـزب الشـيوعي العـرايق املؤثر األسـايس على‬
‫الكادحين والدعـوة إىل املسـاواة بين جميـع‬
‫ً‬ ‫سـباهي فكانـت املطالبـة حبقـوق‬
‫مكونـات العـراق الدينيـ�ة والقوميـة ملهما لسـباهي وأحـد ركائز فكـره من بعد‪.‬‬
‫ً‬
‫سـباهي كان يذكـر دومـا ذلـك اليـوم الـذي أعطـاه فيـه زميـل معلـم مـن‬
‫املندائيين (نعيـم بـدوي) نسـخته األوىل مـن صحيفـة «الشـرارة» وطلـب‬
‫منـه قراءتهـا‪ .‬اعجـب سـباهي باألفـكار التي قرأهـا ويذكـر أنـه شـعر بعـد قراءة‬
‫هـذه الصحيفـة كمـا لـو أنـه اسـتيقظ من سـبات عميـق‪ .‬اسـتهوته الشـيوعية‬
‫ألن أتب�اعهـا‪ ،‬بغـض النظـر عـن خلفيتهـم الطبقيـة‪ ،‬كانـوا بالنسـبة لسـباهي‬
‫أشـخاص مثاليين ‪ ،‬شـجعان‪ ،‬متعلمين و جديريـن بالثقـة‪.‬‬
‫درس سـباهي يف عـدة مـدارس يف اجلنـوب ويف‬ ‫خلال سـنوات احلـرب ‪ّ ،‬‬
‫هـذه الفترة تعمقت روابطـه مع احلزب الشـيوعي العرايق و اخنرط يف النشـاط‬
‫احلـزيب وكان مـن بين معارفـه األوائـل حسين الـريض ُ(سلام عـادل) الـذي‬
‫أصبـح فيمـا بعد سـكرتري احلزب الشـيوعي العـرايق حىت قتل على يـد البعثيني‬
‫بشـكل وحشي يف ‪ .1963‬كذلـك‪ ،‬كان سـباهي على مقربة بمالك سـيف الذي‬
‫ان خيانتـ�ه املدمرة كانت لهـا عواقب وخيمة‬
‫هـو أيضـا قـاد احلزب يف فرتة مـا اال ً‬
‫علـى احلزب وعلى سـباهي شـخصيا‪.‬‬
‫يف عـام ‪ ،1945‬عـاد سـباهي إىل بغـداد لأللتحـاق بـدار املعلمين العاليـة‪.‬‬
‫هنـاك انضـم رسـميا إىل احلـزب الشـيوعي العـرايق وقضى الكثير مـن وقتـه يف‬
‫تنظيمـات احلـزب مع شـخصيات أمثـال ممدوح األلـويس والشـاعر الكبري بدر‬
‫شـاكر السـياب‪ .‬زج سـباهي نفسـه يف النشـاط الطلايب ويف كثير مـن األحيـان‬
‫سـاهم يف تنظيـم وقيـادة اإلضرابـات‪ .‬كان سـباهي مـن بين مؤسسي االحتـاد‬
‫العـام للطلبـة العراقيين عـام ‪ 1948‬وهـي أول منظمـة طالبيـ�ة يف ًالبلاد‪ً .‬قبل‬
‫ذلـك‪ ،‬كان عضـوا قياديـا يف جلنـة التعـاون الطلايب التي لعبـت دورا محوريـا يف‬
‫إشـعال فتيـ�ل انتفاضـة الوثبـ�ة ضـد توقيـع معاهـدة بورتسـموث األجنلـو‪-‬‬
‫ر‬
‫ز‬ ‫لؤملا لوح‬

‫عراقيـة‪ .‬شـارك سـباهي يف عدد مـن التظاهـرات ومنها مظاهرة جسـر المأمون‬
‫(أعيدت تسميت�ه فيما بعد جبسر الشهداء) حيث كان للمتظاهرين‬ ‫التاريخية ً‬
‫ً‬
‫علمـا مسـبقا بتواجـد الشـرطة التي كانت تسـتعد إلطلاق النار على احلشـود‬
‫االنتفاضـة القبـض علـى العديد مـن القادة الشـيوعيني‬ ‫ً‬ ‫القادمـة‪ .‬أسـفر قمـع‬
‫اال ان سـباهي اعتقـل الحقـا يف ‪ 30‬تشـرين الثـاين ‪ 1948‬وكان يف عمر ‪ 24‬سـنة‬
‫و أسـتمر حبسـه حتى ثـورة تمـوز ‪ ، 1958‬ثم احتجـز بعد ذلك بعامين يف العهد‬
‫اجلمهـوري ولـم يفـرج عنـه حتى عـام ‪ 1967‬عـن عمر ‪ 43‬سـنة‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫يسـخر أحيانا سـباهي عندما يذكر انه لم يبق موقفا او سـجنا يف العراق‬
‫اال و زاره لبعـض الوقـت‪ .‬فقـد تـم سـجن سـباهي يف البدايـة يف «أبـو غريـب»‬
‫وتنقـل بين ًالسـجون حتى اسـتقر يف نقـرة السـلمان‪ .‬اثنـ�اء فترة سـجنه أظهـر‬
‫ً‬
‫مبكـرا حنـو الكتابـة والصحافـة‪ .‬وكان يف قلـب األنشـطة العديدة‬ ‫سـباهي ميلا‬
‫السـجون إىل «مدارس وورش عمل شـيوعية»‪ .‬وأسـس السـجناء‬ ‫ً‬ ‫التي حولت‬
‫الشـيوعيون فصـوال يف محـو األميـة وتعلـم اإلجنلزييـة واالقتصـاد السـيايس‬
‫والقضيـة الوطنيـ�ة‪ .‬وقامـوا بتنظيـم املسـابقات الرياضيـة واإلنتـ�اج املسـريح‬
‫والعـروض الفنيـ�ة‪ .‬تمكـن السـجناء مـن تنظيـم كل هـذه النشـاطات بالرغـم‬
‫يف‬
‫املتكـررة و جلسـات االسـتجواب وأجـواء احلرمـان‪ً .‬‬ ‫مـن حصـص التعذيـب ً‬
‫السـجن تعلـم سـباهي أوال كيـف يرتجـم مـن اإلجنلزييـة إىل العربيـ�ة‪ .‬والحقـا‬
‫اسـتغل سـباهي هـذه املعرفـة بشـكل جيـد لرتجمـة العديـد مـن األعمـال‪ .‬بـدأ‬
‫يسـاعد يف إنتـ�اج وحتريـر‬
‫ً‬ ‫سـباهي حياتـه كصحفـي يف السـجن عندمـا كان‬
‫صحيفـة السـجن السـرية (كفـاح السـجني) ‪ ،‬والتي أحيانـا كانـت تظهر حتت‬
‫أسـم (كفـاح السـجني الثـوري)‪ .‬وكانـت علـى شـكل مجلـة تعنى بالنشـاط‬
‫الفكـري والسـيايس واألديب للسـجناء‪ .‬يف سـنة ‪ 1952‬اسـتطاع الـزوار تهريـب‬
‫راديـو ترانزسـتور مفـكك اىل داخل السـجن‪ ،‬وبعـد أن جنح السـجناء يف جتميعه‪،‬‬
‫ُ‬
‫كلـف سـباهي بمهمـة سـماع نشـرات األخبـار وتلخيـص وترجمـة التقاريـر‬
‫اإلخباريـة ونقلهـا إىل السـجناء‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫حملـت ثـورة ‪ 14‬تمـوز ‪ 1958‬معهـا أمال كبريا للعديد مـن العراقيني كما‬
‫بشـرت بفترة إصالحـات ُوضعـت لتعزيـز اسـتقالل البلاد ‪ ،‬والتخفيـف مـن‬
‫املشـاكل االجتماعيـة املرتاكمـة وتوفير فـرص متسـاوية للمواطنين‪ .‬أطلقـت‬
‫بمـن‬
‫حكومـة الزعيـم عبـد الكريـم قاسـم سـراح أغلـب السـجناء السياسـيني ً‬
‫فيهـم سـباهي‪ .‬وبعـد إطالق سـراحه ‪ ،‬عين�ه احلـزب يف أوائل عـام ‪ 1959‬مديرا‬
‫لـدار نشـر كبيرة (دار بغـداد) ‪ ،‬كمـا و التحـق بهيئـ�ة حتريـر صحيفـة «احتـاد‬
‫الشـعب» اليوميـة (الصحيفـة الرسـمية للحـزب الشـيوعي العـرايق)‪ .‬كانـت‬
‫بدايـة أعمـال سـباهي الصحفية ترتكز علـى الكتابة والرتجمة على شـكل عمود‬
‫يـويم يف اجلريـدة وكانت أول ترجمة مهمة لسـباهي يف شـكل مقـال للماركيس‬
‫األمريكـي الشـهري فيكتـور بريلـو بعنـوان «األسـس اإلمربياليـة يف أمريـكا»‪.‬‬
‫واحتاد الشـعب عبد العزيز السـني�د الذي‬
‫وكان مـن ًبين اصدقائـه يف دار بغـداد ً‬
‫انتقـل الحقـا إىل السـعودية ولعـب دورا رئييس يف إنشـاء جبهـة التحرير الوطين‬
‫العـريب هناك‪.‬‬
‫ًلـم تـدم حريـة سـباهي‬
‫طويلا ‪ .‬حيـث لـم يمـر علـى‬
‫إطلاق سـراح أيب سـعد‬
‫�ان حتى عـاد إىل السـجن‬ ‫سـنت ً‬
‫مجـددا‪ .‬كان موقـف ًقاسـم مـن‬
‫الشـيوعيني متوتـرا بسـبب‬
‫شـعبي�ة احلـزب املزتايـدة‪.‬‬
‫شـنت احلكومـة يف حزيـران‬
‫‪ 1960‬حملـة جديـدة مـن‬
‫االعتقاالت املعادية للشيوعية‬
‫زادت‬
‫ً‬ ‫والتي شـملت سـباهي‪.‬‬
‫حـال السـجني سـباهي سـوءا‬
‫اســتغل ســباهي ماتيســر مــن وقــت املواجهــة‬ ‫بعـد انقلاب البعثيين يف‬
‫القصــر لريســم بســرعة صــورة لزوجتــه وابن ـ�ه‬ ‫عـام ‪ 1963‬حيـث تـم تصفيـة‬
‫كــي يعلقهــا علــى حائــط الزنزانــة يف ‪ 7‬آب ‪1962‬‬
‫العديـد مـن الكوادر الشـيوعية‬
‫بما فيهـم أخاه األصغـر صبيح‪.‬‬
‫لقـد كانـت مرحلـة سـجنه‬
‫أن‬
‫حيث ً‬ ‫الثانيـ�ة صعبـة للغايـة ً‬
‫سـعد ترك خلفه زوجـة وابن�ا‬
‫ً‬ ‫ابا‬
‫ر ضيعـا ‪.‬‬
‫‪ 1967‬بعـد ًفترة وجيزة مـن احلـرب‬
‫ً‬ ‫لـم يطلـق سـراح سـباهي حتى عـام‬
‫العربيـ�ة‪ -‬اإلسـرائيلية عندمـا تـم إصـدار عفـوا عامـا للسـجناء السياسـيني‪.‬‬
‫شـهد ذلـك العـام ًتراجـع القمـع وختفيـف الرقابـة علـى الصحافـة‪ .‬وهكـذا‬
‫وجـد سـباهي عملا بصحيفـة ً(النـور) احلديثـ�ة الظهـور والتي يملكهـا الزعيم‬
‫الكـردي ورئيـس العـراق الحقـا (جلال طالبـاين)‪ .‬وألربـع سـنوات مـع (النـور)‬
‫كان لعزيـز سـباهي عمـود يـويم (نور علـى األحـداث)‪ ،‬يكتب فيه عن املشـاكل‬
‫االقتصاديـة يف العـراق والعالـم‪ .‬وترجـم سـباهي يف هـذه الفترة كتـاب عـن‬
‫الفلسـفة الماركسـية و آخـر عـن سيرة لينين‪ .‬كمـا ولعـب ً‬
‫دورا يف إنشـاء مجلة‬

‫س‬
‫ش‬ ‫لؤملا لوح‬

‫(الفكـر اجلديـد) ‪ ،‬سـميت فيمـا بعـد بــ (الثقافـة اجلديـدة)‪.‬‬


‫ويف عـام ‪ ، 1971‬وضمـن رغبـة احلكومـة ًالبعثيـ�ة يف ارسـال اشـارات‬
‫للتقـارب مـع احلـزب الشـيوعي العـرايق تمهيـدا لعقـد «اجلبهـة الوطنيـ�ة‬
‫التقدميـة»‪ُ ،‬عـرض علـى سـباهي العمـل بمنصـب مراسـل حتقيقـي يف جريـدة‬
‫(الثـورة) ووافـق سـباهي علـى املنصـب بعـد التشـاور مـع حزبـه‪ .‬وأثنـ�اء ًمـدة‬
‫عملـه مـع (الثـورة)‪ ،‬والتي اسـتمرت لسـبع سـنوات‪ ،‬إنتـج سـباهي بعضـا مـن‬
‫أفضـل أعمالـه الصحفيـة‪ .‬وتركـزت معظـم كتاباتـه يف نقـد وتقييـم مشـاكل‬
‫التنميـة االقتصاديـة بما يف ذلك سلسـلة تقارير عن الزراعة والنفط واإلسـكان‬
‫واإلنتـ�اج الصناعـي و عـن ظـروف العمـال‪ .‬بعـض هـذه التقاريـر تسـببت يف‬
‫إربـاك السـلطة كونهـا سـلطت الضـوء علـى سـوء اإلدارة والفسـاد والظـروف‬
‫السـيئ�ة للعمـال‪ .‬إحـدى تلـك التقاريـر التي حتدثـت عـن حـال التعاونيـ�ات‬
‫الزراعيـة يف العـراق‪ ،‬وصلـت اىل مكتـب صـدام حسين األمـر الذي أثـار غضبه‬
‫ودفعـه اىل طـرد واحالـة العديـد من املسـؤولني اىل التحقيق‪ .‬كذلـك كان احلال‬
‫مـع دراسـاته عـن حـال املـدن‪ ،‬األمـر الـذي سـاهم يف عمليـة تطويـر اإلسـكان‬
‫وإىل إجـراء إصالحـات وتغييرات كبيرة يف وزارة اإلسـكان‪ .‬أيضـا سـمحت هـذه‬
‫الفترة لسـباهي أن ينتـج كتابين مهمني عـن حال الطبقـة العاملـة يف الكويت‬
‫والبحريـن نشـرت عـن معهـد العمـل العـريب يف اجلزائـر‪.‬‬
‫ً‬
‫ظـل سـباهي كادرا نشـطا يف احلـزب الشـيوعي العـرايق ‪ ،‬وخاصـة ضمن‬
‫وكان يأسـف‬ ‫ً‬ ‫دوائـر العمـل األيديولـويج و اللجنـة االقتصاديـة يف احلـزب‪.‬‬
‫ً‬
‫دائمـا أن الظـروف لـم تسـمح لـه ملتابعـة الدراسـات العليـا‪ .‬غالبـا كان هـو‬
‫العضـو الوحيـد يف املؤسسـات االقتصاديـة واملنظمـات التي عمـل معهـا الـذي‬
‫لـم يكـن يملـك درجـة الماجسـتري أو الدكتـوراه‪ .‬أنشـطة سـباهي السياسـية‬
‫والتي أصبحـت معروفـة بتوجههـا األيديولـويج عرضـت حياتـه بشـكل مزتايد‬
‫للخطـر‪ .‬كان البعثيـون ‪ ،‬خلال السـبعيني�ات ‪ ،‬قد بنوا قاعـدة جماهريية ًوجهاز‬
‫أمني منظـم‪ .‬وبني عـايم ‪ 1978‬و ‪ ، 1979‬قاموا بتضييـق اخلناق تدريجيا على‬
‫أحـزاب املعارضـة بمـا يف ذلـك احلـزب الشـيوعي العـرايق‪.‬‬
‫يف عـام ‪ّ ، 1979‬‬
‫فـر سـباهي مـن ًالعـراق إىل املنفـى ليتنقل مـن اجلزائر اىل‬
‫سـوريا ثـم اىل تشيكوسـلوفاكيا وأخيرا ليسـتقر يف كنـدا‪ .‬ويف املنفـى اسـتطاع‬
‫سـباهي مـن تكثيـف انت�اجـه الفكـري وكثير مـن أعمالـه نشـرت حتـت أسـم‬
‫(نصير سـعيد الكاظمي)‪ .‬وتضمنـت انت�اجاتـه حيث كتـب عن تاريـخ الطبقة‬
‫العاملـة يف العـراق (‪ )1987‬وعـن احلـزب الشـيوعي واملسـألة الزراعيـة يف‬
‫العـراق (‪، )1987‬ومواقـف من املسـألة الزراعية يف العراق (‪ .)2010‬كما نشـر‬
‫بين أعـوام ‪ 1998‬و ‪ 2005‬عمله الكبري عن تاريخ احلزب الشـيوعي العرايق يف‬
‫ثالثـة مجلـدات‪ .‬وقبل عودته للكتابة يف السياسـة واالقتصـاد‪ ،‬ألف كتاب عن‬
‫تاريـخ الصابئـ�ة املندائيين ومعتقداتهـم الديني�ة الـذي لقي الكثري من اإلشـادة‬
‫والـرواج عنـد القـارئ العـريب‪ .‬كذلـك كان لـه أنتجـات عديـدة علـى شـكل حترير‬
‫وكتابـة مقاالت يف مجالت (النهج) و(قضايا السـلم واالشتراكية) و(الثقافة‬
‫اجلديـدة) باإلضافـة اىل ترجمـة الكتـب واملقاالت‪.‬‬
‫مخلصـا خلـط احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬والـذي اعتبره‬ ‫ً‬ ‫ًظـل أبـو سـعد‬
‫اقتراب نهايـة ًحياتـه‪ ،‬ازداد انتقـاده وعـدم ارتي�احـه‬
‫ً‬ ‫امتـددا ألسـرته‪ .‬ولكـن مـع‬
‫ملمارسـات احلـزب ‪ .‬لقـد كان دومـا متخوفـا مـن صعـود جيـل جديـد مـن القادة‬
‫الذيـن احنـدروا يف كثير مـن األحيـان مـن الطبقـة الوسـطى أو النخـب الفكريـة‬ ‫ً‬
‫بـدال مـن الطبقـات العاملـة الكادحـة التي دعمـت احلـزب يف األربعينيـ�ات‬
‫راض مـن‬‫واخلمسـيني�ات‪ .‬فبعـد الغـزو األمريكـي عـام ‪ ، 2003‬كان غير ٍ‬
‫مشـاركة حزبـه يف احلكومـة االنتقالية التي نصبها االحتالل وشـكا للقيادة عن‬
‫موقفـه هـذا‪.‬‬
‫ربمـا كان أعظـم تكريـم حصل عليه سـباهي هـو عودته اىل العـراق يف آذار‬
‫‪ 2004‬واملسـاهمة مجددا يف نشـاطات احلزب‪ .‬فالربغـم من معاناته الصحية‬
‫‪ُ ،‬سـر سـباهي بإلقـاء املحاضـرات على جماهري شـعبه و خاصة ًتلـك اليت قدمها‬
‫يف الهـواء الطلـق يف يح مدينـ�ة الثـورة‪ .‬وكان قـد ُحـذر مسـبقا أن املـزاج العـام‬
‫حيظـى خطابـه باسـتقبال جيـد‪ ،‬لكـن‬ ‫وقـد ال ً‬
‫اصبـح يميـل للطائفيـة والتديـن ً‬ ‫ً‬
‫بـدال مـن ذلـك ‪ ،‬وجـد سـباهي جمهورا غفيرا ينتظـره يف الشـارع حيث وضعت‬
‫لـه طاولـة علـى الرصيـف كـي يتحدث عـن تاريـخ احلـزب الشـيوعي العرايق‪.‬‬
‫سوف يذكر التاريخ بفخر املناضل الوطين العرايق عزيز سباهي‪.‬‬
‫ً‬
‫لقـد تـرك سـباهي وراءه زوجـة ( ليلـى) وولديـن وبنـت (سـعد وزيـاد‬
‫وسـامرة)‪.‬‬

‫ص‬
‫تاريــخ الحــزب الشــيوعي العراقــي بيــن األكاديمــي‬
‫حنــا بطاطــو والمناضــل السياســي عزيــز ســباهي‬

‫‪1 1‬‬
‫د‪ .‬ثابت عبد اجلبار عبد هللا‬

‫قدمـت هـذه املحاضـرة ضمـن سلسـلة محاضـرات «حنـا بطاطـو» التي نظمهـا‬
‫املجلـس العـريب للعلـوم االجتماعيـة يف تونـس و بيروت عـام ‪.2019‬‬

‫اود ان اتقـدم جبزيـل الشـكر اىل املجلـس العـريب للعلـوم االجتماعيـة‬


‫علـى هـذه الدعـوة الكريمـة لتقديـم آخـر محاضرة يف سلسـلة املحاضـرات اليت‬
‫قدمـت علـى شـرف اسـتاذي الكبير الدكتـور حنـا بطاطـو‪ .‬فكونـه أشـرف علـى‬
‫اطروحتي‪ ،‬والقرابـة اخلاصـة التي كانـت بيننـ�ا‪ ،‬واالفضـال الكثرية التي قدمها‬
‫يل هـذا الباحـث اجلليـل‪ ،‬جعلني أفكـر يف تقديـم موضـوع مقارنـة للنهـج الـذي‬
‫سـلكه بطاطـو يف كتابـه الشـهري عـن العـراق ‪ ،2 2‬و باألخـص الكتـاب الثـاين منـه‬
‫الـذي تنـ�اول تأريـخ احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬و بين املنهـج الـذي سـلكه‬
‫االسـتاذ عزيـز سـباهي يف كتابـه املعـروف «عقود مـن تأريخ احلزب الشـيوعي‬
‫العـرايق»‪ .‬فقـد شـاء القـدر ان اكـون علـى صلـة وثيقـة بين بطاطـو و سـباهي‪.‬‬
‫كان لكتـاب حنـا بطاطـو عن العـراق أثره الكبير على املثقفين العراقيني‬

‫‪ .1‬د‪ .‬ثابــت عبــد اجلبــار عبــد هللا هــو رئيــس قســم التاريــخ جبامعــة يــورك يف تورونتــو‬
‫ولديــه عديــد مــن املؤلفــات واألحبــاث يف تاريــخ العــراق باألجنلزييــة والعربي ـ�ة واألســباني�ة‬
‫والصينيــ�ة‪.‬‬
‫‪ .2‬حنــا بطاطــو‪« ،‬العــراق‪ ،‬الكتــاب الثــاين‪ :‬احلــزب الشــيوعي»‪ ،‬ترجمــة عفيــف الــرزاز‪،‬‬
‫(بــروت‪ ،‬مؤسســة األحبــاث العربيــ�ة‪)1992 ،‬‬
‫ط‬
‫ظ‬ ‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬

‫عزيــز ســباهي ين�اقــش مســودة اجلــزء الثــاين مــن هــذا الكتــاب مــع د‪ .‬ثابــت عبــد اجلبــار‬
‫عبــد هللا‪ ,‬تورونتــو‪2002 ,‬‬

‫وباألخص الشـيوعيني‪ .‬فقد قال يل الدكتور حنا ان أكرث ما يفتخر به ويسـعده‬


‫هـو كـون كتابـه ًيـوزع بكثرة يف العـراق رغـم منعـه مـن قبـل نظـام صـدام البائد‪.‬‬
‫والكتـاب طبعـا مهـداة اىل الشـعب العـرايق‪ .‬يف أحـد االيام سـألين الدكتـور حنا‬
‫عـن سـبب عدم اقـدام احلزب الشـيوعي العرايق علـى كتابة تأريخـه من وجهة‬
‫نظـر احلـزب كـرد علـى مـا كتبـ�ه هـو؟ بقيـت هـذه املسـألة يف بـايل حتى تعرفت‬
‫شـيوعي‬
‫ً‬ ‫بعـد عـدة سـنوات علـى االسـتاذ عزيـز سـباهي‪ ،‬وهـو مناضـل وكاتـب‬
‫قديـم‪ .‬فحدثتـ�ه عـن استفسـار بطاطـو فأجابني بـأن احلـزب كان قد اختذ قـرارا‬
‫بكتابـة تأريخـه يف عـام ‪ 1970‬اال انـه لـم يسـتطع املباشـرة باملشـروع بسـبب‬
‫الظـروف الصعبـة يف العـراق مـن طـراز القمـع والنفـي واملطـاردة واالعدامات‪.‬‬
‫يف اواخـر التسـعين�ات قـررت اللجنـة املركزيـة للحـزب اعطـاء مهمـة‬
‫كتابـة تأريـخ احلـزب اىل عزيـز سـباهي‪ .‬وبعد ان واجـه صعوبات ّ‬
‫جمـة يف جمع‬
‫الوثائـق وعقـد املقابلات ناهيـك عـن معاناته الصحية‪ ،‬اسـتطاع سـباهي اجناز‬
‫اجلـزء االول عـام ‪ 2002‬عقبـه اجلـزآن الثـاين والثالـث يف السـنوات الالحقـة‪.‬‬
‫وقـد أعـرب بطاطو عن سـعادته بإقـدام احلزب على هذه املهمة ولألسـف فقد‬
‫وافـاه االجـل عـام ‪ 2000‬قبـل ان ينجـز سـباهي مـن كتابـة اجلـزء األول‪.‬‬
‫اعتقـد ان مجـرد طـرح مسـألة املقارنـة بني هذيـن العملني قد تبـ�دو غري‬
‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬ ‫ع‬

‫منصفـة‪ .‬فحنـا بطاطـو الـذي ينحـدر مـن اب فلسـطيين وام جزائريـة تعـرف‬
‫علـى العـراق‪ ،‬بشـكل رئيسي‪ ،‬بفضـل دراسـته االكاديميـة العاليـة حيـث أكمـل‬
‫دراسـته االبت�دائيـ�ة والثانويـة يف القـدس يف مـدارس اهليـة مرموقـة‪ .‬ثـم غـادر‬
‫دراسـته يف الواليـات املتحـدة يف جامعـة‬
‫فلسـطني بعـد نكبـة ‪ 1948‬وأكمـل ُ‬
‫جامعـة هارفـرد‪ .‬وبفضـل عالقاتـه مـع عـدد مـن‬
‫ُ‬ ‫جـورج تـاون ثـم الدكتـوراه يف‬
‫عناصـر حركـة القوميين العـرب‪ ،‬ف ِتحـت امامـه العديـد مـن سـجالت االمـن‬
‫العراقيـة يف السـتين�ات والتي بفضلهـا اسـتطاع ان جيمع معلومـات وافرة حول‬
‫معلومـات عن خلفيـة اعضائـه‪ .‬نرى أثر‬
‫ُ‬ ‫احلـزب الشـيوعي العـرايق بمـا يف ذلك‬
‫هـذه الثقافـة االكاديميـة وفـرص البحـث اليت اتيحـت له واضحـة يف صفحات‬
‫كتابـه فنجـده ملـيء باجلـداول الدقيقـة واملناقشـات العميقـة التي تسرتشـد‬
‫بنظريـات مفكريـن امثـال ماركـس وفيبر وجيمـز ماديسـون‪.‬‬
‫كتـاب سـباهي غني باملعلومـات مكتـوب بأسـلوب صحفـي مـن قبـل‬
‫مـن حـوادث الكتـاب ومـن قبـل كاتـب كانت‬ ‫شـخص عاصـر وشـارك يف الكثير ً‬
‫حياتـه تبـ�دو وكأنهـا معاكسـة تمامـا حليـاة بطاطو‪ .‬ولد سـباهي عـام ‪ 1925‬يف‬
‫مدينـ�ة قلعـة صالـح يف جنـوب العـراق لعائلـة مـن االقليـة املندائي�ة‪ .‬وقـد ّ‬
‫مر ًت‬
‫عليـه سـنوات عـاىن مـع عائلته مـن فقر حـاد كاد ان يصـل اىل حد اجلـوع احيانا‪.‬‬
‫دراسـته االبت�دائيـ�ة كانـت يف مدارس حكوميـة متواضعة لكنه‪ ،‬علـى الرغم من‬
‫كمدرس‪ .‬يف عام ‪1945‬‬ ‫ذلـك‪ ،‬اسـتطاع ان يتخرج من دار املعلمين وعمل لفرتة ً‬
‫انضـم اىل صفـوف احلـزب الشـيوعي العـرايق ونشـط اوال يف العمـل الطاليب ثم‬
‫انتقـل اىل العمـل الثقـايف‪ .‬يف عام ‪ 1948‬وعلى أثر نشـاطه يف االنتفاضة الثورية‬
‫التي قادهـا احلـزب الشـيوعي املعروفـة بـ«الوثبـ�ة»‪ ،‬تـم القبض على سـباهي‬
‫وهـو يف الرابعـة والعشـرين مـن عمـره ولم خيـرج من السـجون والنفـي الداخلي‬
‫حتى ثـورة ‪ 14‬تمـوز عـام ‪ 1958‬ليتـوىل بعدهـا ادارة دار بغداد للطباعة والنشـر‬
‫حتى عـام ‪ .1961‬اعتقـل سـباهي مـن جديـد ملشـاركته يف مظاهـرة مناصـرة‬
‫للثـورة اجلزائريـة و سـجن لغاية ‪ 1967‬وكان قد دخـل عامه الثالث واالربعني‪.‬‬
‫اذن كانـت ثقافـة سـباهي معظمهـا بفضل جهـده الذايت‪.‬‬
‫قبـل ان يقـدم علـى كتابـة «عقـود مـن تأريـخ احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق»‪ ،‬والـذي حنـن بصـدده‪ ،‬عمـل يف الصحافـة ونشـر عـدد مـن الدراسـات‬
‫بأسـماء مسـتعارة تتنـ�اول مسـائل اقتصاديـة واجتماعـي وسياسـية مختلفـة‬
‫مـن بينهـا دراسـات حـول املسـألة الزراعيـة وتأريـخ الطبقـة العاملـة ومشـاكل‬
‫اجلـداول االنيقة وال‬
‫السـكن‪ .‬فعندمـا ننظـر اىل كتاب سـباهي ال جند فيـه تلك ً‬
‫االسرتشـاد بأحـدث نظريـات التأريـخ‪ ،‬بـل كمـا ذكـرت سـابقا‪ ،‬هو عمـل يغلب‬
‫عليـه االسـلوب الصحفـي‪ .‬هـذا بالطبـع ال يقلـل مـن اهميتـ�ه كمسـاهمة جادة‬
‫غ‬ ‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬

‫الشـيوعي يف تأريخ العراق احلديث‪ .‬فسـباهي‪ ،‬كما ذكرنا‪،‬‬ ‫يف فهـم دور ًاحلـزب ً‬
‫كان معاشـرا ومسـاهما يف الكثير من االحـداث ويف كتابه العديـد من التفاصيل‬
‫املثـال نذكـر وصفـه للعمل‬
‫ً‬ ‫الغائبـ�ة او الناقصـة يف كتـاب بطاطـو‪ .‬علـى سـبي�ل‬
‫احلزيب داخل السـجون (اليت سـاهم فيها سـباهي مباشـرة)‪ ،‬والعمـل يف الريف‬
‫واحـداث معينـ�ة مثـل مؤتمـر السـباع عـام ‪ 1948‬الـذي انبثـق عنـه تأسـيس‬
‫الذيـن نظموا املؤتمـر‪ .‬باإلضافة‬
‫ً‬ ‫االحتـاد العـام لطلبـة العـراق وكان سـباهي من‬
‫هـذه التفاصيـل فـان سـباهي يثير الشـك احيانـا يف معلومـات ًبطاطـو التي‬ ‫اىل ً‬
‫كثيرا مـا تعتمـد علـى ملفـات االمـن العـرايق حيـث انـه يعلم جيـدا كيـف كانت‬
‫املعلومـات يف «حفلات التعذيـب» علـى حـد قولـه‪ ،‬وال يمكـن‬
‫ً‬ ‫تؤخـذ تلـك‬
‫االعتمـاد عليهـا دائما‪.‬‬
‫لكـن مـا يهمنـا يف هـذه املداخلـة هـو منهـج كل مـن بطاطـو وسـباهي يف‬
‫كتابـة تأريـخ احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬وباألخص مسـألة تشـخيص العامل‬
‫التاريخية‪ .‬بشـكل عام‪ ،‬جند اسلوبني‬ ‫املحرك االسـايس يف احلوادث ً‬‫ً‬ ‫الرئييس او‬
‫مختلفني‪ .‬فعادة يب�اشـر بطاطو‪( ،‬خصوصا يف كتابه الثاين)‪ ،‬بالسـرد التارييخ‬
‫حيـث يصـف احلـوادث والشـخصيات بدقـة متن�اهية ثـم يتبع ذلك بمناقشـة‬
‫الصلـة بين هذه احلـوادث وبني التطـورات االجتماعيـة واالقتصاديـة العامة‪.‬‬
‫اي انـه يبـ�دأ مـن اخلـاص ثـم يربطـه بالعـام‪ .‬او بتعبير آخـر فهـو حيـاول فهـم‬
‫الصراعـات احلزبيـ�ة والقـرارات الفرديـة علـى انهـا جـزء او تعبير عـن الظـروف‬
‫دراسـة كيف فرضت‬ ‫ً‬ ‫املوضوعيـة العامـة‪ .‬اذن‪ ،‬فالهم الرئييس عند بطاطو هو‬
‫الظـروف املوضوعيـة للمجتمـع العـرايق يف مرحلـة معين�ة حـدودا علـى العوامل‬
‫الذاتيـ�ة للحزب الشـيوعي‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫امـا كتـاب سـباهي فعادة ما يسـلك منهـج معاكس تماما‪ .‬فهـو يب�دأ من‬
‫املعطيـات العامـة (االقتصادية واالجتماعية والسياسـية)‪ ،‬ثـم ينتقل ليصف‬
‫الوقائـع التاريخيـة للحـزب الشـيوعي يف ظـل هـذه املعطيـات‪ .‬اي انـه ينتقـل‬
‫وهمـه االسـايس ان يتفهـم كيـف حـاول احلـزب مـن‬ ‫مـن العـام اىل اخلـاص‪ّ .‬‬
‫خلال ظروفـه الذاتيـ�ة ان يدفـع احلدود املوضوعيـة املفروضة عليـه اىل اقىص‬
‫مـا يمكـن باجتـاه التغيير االجيـايب‪ .‬ال خلاف هنـا بين الباحثين علـى اولويـة‬
‫الظـروف املوضوعيـة يف حتديـد احلركـة التاريخيـة العامـة‪ .‬فكالهمـا يسـلكان‬
‫املنهـج الماركسي الـذي يؤكـد على اهميـة الظـروف املوضوعية‪ .‬ففـي مقدمة‬
‫محـدودة بالواقـع االجتماعـي‪ 3 3 .‬اال ان‬
‫كتابـه يقـر سـباهي بـان امكانيـ�ة التغيري ً‬
‫اخللاف هنـا حول الرتكزي‪ .‬فبطاطـو دائما يعود ليؤكد علـى التطور االجتماعي‬
‫العـام بينمـا يقـوم سـباهي بالرتكيز علـى دور الظـروف الذاتيـ�ة للحزب‪.‬‬

‫‪ .3‬سباهي‪ ،‬مقدمة اجلزء االول‬


‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬ ‫ف‬

‫لننظر اآلن اىل امثلة معين�ة‪:‬‬


‫يف القسـمني األول والثـاين مـن اجلـزء الثاين مـن كتابه عن العـراق‪ ،‬يقوم‬
‫مفصـل عـن حيثيـ�ات دخـول األفـكار الماركسـية وتأسـيس‬ ‫بطاطـو بشـرح ّ‬
‫احلـزب الشـيوعي عـام ‪ .1934‬ثـم خيصص قسـم بأكملـه (الثالث) ملناقشـة‬
‫أسـباب انتشـار الفكـر الشـيوعي وجنـاح تنظيـم احلـزب يف فترة االربعينـ�ات‬
‫واخلمسـين�ات‪ .‬هنـا يعـود بطاطـو اىل مسـألة التطـور االجتماعـي العـام حيث‬
‫يؤكـد ان العـراق كان يمـر بتحـوالت هائلـة مـن مجتمـع ريفـي تطغـي عليـه‬
‫العالقـات العشـائرية اىل مجتمـع تسـود فيـه العالقـات الرأسـمالية املتمركـزة‬
‫يف املـدن الكبرى‪ .‬ان التحطـم العنيـف للعالقـات العشـائرية التقليديـة علـى‬
‫ايـدي السـلطة املركزيـة مـن ناحيـة وتغلغـل االسـتعمار الربيطـاين مـن ناحيـة‬
‫ثانيـ�ة جعـل من العـراق تربة خصبة للحركات املناهضة للسـلطة واالسـتعمار‪.‬‬
‫و الشـيوعية يف ذلـك احلين كانـت‪ ،‬حسـب تعبير بطاطـو‪:‬‬
‫‪4 4‬‬
‫«املنجنيق االيديولويج الضارب ضد السلطة القائمة» ‪.‬‬
‫هـذا التحـول فـرز حـاالت اجتماعيـة اعتربهـا بطاطـو «و كأنهـا لهـاث‬
‫عالـم قبلـي يقترب مـن نهايتـ�ه‪ 5 5 ».‬ومـن بين تلـك «اللهـاث» االنتفاضـات‬
‫العشـائرية والهجـرة الضخمة من الريف ًاىل املدين�ة واغتصاب املشـاخي أرايض‬
‫هـوة طبقيـة واسـعة جـدا بين األغلبيـ�ة السـاحقة التي تعاين‬ ‫الفالحين وبـروز ّ‬
‫مـن الفقر الشـديد و شـرحية ضيقة من األثريـاء‪ .‬وإذا ما اضفنـا اىل هذا صعود‬
‫االحتـاد السـوفيايت وانتصـار الثـورة الصيني�ة بعد احلـرب العامليـة الثاني�ة‪ ،‬فكل‬
‫ذلـك جعـل مـن العـراق تربة خصبـة لنمو الشـيوعية‪.‬‬
‫ال يعـارض ّسـباهي أي يشء ممـا ذكـره بطاطـو يف هـذا الصـدد‪ ،‬بـل‬
‫يؤكـد علـى هـذا كلـه ويضيـف اليـه يف ثالثـة فصـول يتنـ�اول فيهـا الظـروف‬
‫العامـة يف املنطقـة قبـل ان يبـ�دأ بسـرد االحـداث املؤديـة اىل تأسـيس احلـزب‬
‫يعـود اىل الظروف‬
‫ّ‬ ‫الشـيوعي‪ .‬اال انـه بعـد ان ينتهي من شـرح تلـك احلوادث ال‬
‫الشـيوعية بـل يفضـل تسـليط‬ ‫املوضوعيـة لبحـث أسـباب انتشـار األفـكار ً‬
‫األضـواء علـى الظـروف الذاتيـ�ة‪ .‬فيذكـر مثلا إصـرار الشـيوعيني األوائـل‬
‫(وعلـى رأسـهم يوسـف سـلمان يوسـف املعـروف بالرفيـق فهـد) ًعلـى ربـط‬
‫العـداء لالسـتعمار بالنضـال مـن اجـل حقـوق الكادحين وخصوصـا العمـال‪.‬‬
‫فبالنسـبة لسـباهي كان إصـرار الشـيوعيني علـى العمـل مـن اجـل تأسـيس‬
‫النقابـات العماليـة واجلمعيـات الفالحيـة يف زمن كانت تلـك الطبقات مهملة‬
‫‪ .4‬بطاطو‪ ،‬ص‪123‬‬
‫‪ .5‬بطاطو‪ ،‬ص‪123‬‬
‫ق‬ ‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬

‫النتشـار الشـيوعية‪ .‬يضيـف اىل‬


‫املباشـر ً‬
‫ً‬ ‫مـن قبـل السياسـيني هـو السـبب‬
‫ذلـك بأن املؤسسين االوائل اعـاروا اهتماما كبريا بالنشـر وأحسـنوا اجلمع بني‬
‫حيـث جنحـوا يف التعـاون مـع بعـض الصحـف العلنيـ�ة‬ ‫العمـل السـري والعلني ً‬
‫واالسـتفادة منهـا‪ .‬واخيرا‪ ،‬اهتـم املؤسسـون بالسـعي لبنـ�اء جبهـة شـعبي�ة‬
‫واسـعة ضـد االسـتعمار‪.‬‬
‫يف‬ ‫الكاتبين‬ ‫مـن‬ ‫كذلـك نـرى االختلاف يف املنهـج الـذي يسـلكه ّ‬
‫كل‬
‫ً‬
‫مناقشـة املعضلات التي واجهت نهوض الشـيوعية يف العـراق‪ .‬فبطاطو مثال‬
‫العشـائرية والعقليـة الدينيـ�ة التي اعاقـت عمـل‬
‫يؤكـد علـى عمـق التحزبـات ّ‬
‫الشـيوعيني األوائـل‪ .‬يف حني يركز سـباهي على بعض املواقـف والقرارات اليت‬
‫اضـرت باحلـزب مثـل مسـاندة انقلاب بكـر صـديق العسـكري عـام ‪.1936‬‬ ‫ّ‬
‫جنـد املفارقـة ذاتهـا عندمـا نقـارن كيـف عالـج كل مـن بطاطـو وسـباهي‬
‫حـوادث االنتفاضـة الشـعبي�ة الكبرى عـام ‪ 1948‬املعروفة بـ«الوثبـ�ة»‪ .‬فبعد‬
‫ان ينتهـي بطاطـو مـن سـرد احلـوادث بشـكل دقيـق للغايـة عـن دور احلـزب‬
‫القيـادي يف الوثبـ�ة‪ ،‬يعـود بنـ�ا اىل مسـألة العوامـل االجتماعيـة العامـة وذلـك‬
‫يف فصـل مخصـص لشـرح بنيـ�ة احلـزب االجتماعيـة‪ 6 6.‬ففـي هـذا الفصـل‬
‫جنـد العديـد مـن اجلـداول واإلحصـاءات خبصـوص اخللفيـة املهنيـ�ة ألعضـاء‬
‫وردت يف سـجالت االمـن‪ .‬و يسـتنتج بطاطـو بـان احلـزب‬ ‫احلـزب حسـبما ً‬
‫«كان يعتمـد اساسـا علـى حتالـف عناصـر مـن العمـال واجلنـود وانتلجنسـيا‬
‫الطبقـة الوسـطى والوسـطى الدنيـ�ا» ‪7 7‬املتضررة اكرث من غريها من سياسـات‬
‫االسـتعمار الربيطاين‪ .‬ثم ين�اقـش التوزيع الطائفي‬
‫ً‬ ‫النظـام امللكـي املسـنود من‬
‫مـن األعضـاء االكـراد‬
‫يف عضويـة احلـزب فيالحـظ مثلا تواجـد نسـب عاليـة ً‬
‫يفسـرها ّبظاهـرة احبـاط حقوقهـم القومية‪ ،‬ويفسـر ايضـا وجود نسـبة عالية‬
‫احلـزب علـى كونـه تعبير عـن دور هـذه الطائفـة‬
‫ً‬ ‫مـن السـنه العـرب يف قيـادة‬
‫القيـادي يف املجتمـع العـرايق عامـة‪ .‬أي ان بطاطـو ينهـي دراسـته عـن احلـزب‬
‫الشـيوعي يف فترة الوثب�ة بتسـليط األضـواء على الظـروف االجتماعيـة العامة‬
‫وانعكاسـاتها داخـل تنظيـم احلـزب‪.‬‬
‫ً‬
‫يتحفـظ سـباهي كثيرا علـى معلومـات بطاطـو خبصـوص الرتكيبـ�ة‬
‫االجتماعيـة للحـزب حيـث انـه يؤكـد بـان سـجالت االمـن (مصـدر بطاطـو‬
‫الرئيسي) ال تعبر بشـكل دقيـق عـن طبيعـة أعضـاء احلـزب ألنهـا مسـتمدة‬
‫مـن الذيـن ألقـي عليهـم القبـض يف املظاهـرات بشـكل خـاص وهـذا‪ ،‬حسـب‬

‫‪ .6‬بطاطو‪ ،‬الفصل السابع‪.‬‬


‫‪ .7‬بطاطو‪ ،‬ص ‪.304‬‬
‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬ ‫ك‬

‫شـحة نسـبة الفالحين مقارنـة بسـكان املدينـ�ة يف‬‫تقديـر سـباهي‪ ،‬مـا يفسـر ّ‬
‫ارقـام بطاطـو‪ .‬لكـن مـا خيـص سـباهي أكثر عنـد تن�اولـه موضـوع الوثبـ�ة هـو‬
‫القـرارات والتوجيهـات التي اختذهـا احلـزب يف ذلـك املنعطـف التاريخي‪.‬‬
‫فبالنسـبة لسـباهي كان جنـاح الشـيوعيني يف إدارة الوثبـ�ة واسـقاط مشـروع‬
‫معاهـدة بورتسـموث ومعهـا حكومـة صالـح جبر يعـود اىل إتقـان احلـزب فـن‬
‫التحالفـات الواسـعة (يف تشـكيل جلنـة التعـاون الوطني علـى سـبي�ل املثـال)‬
‫واإلصـرار اجلـريء على هدفني واضحين (إلغاء املعاهدة وإسـقاط احلكومة)‬
‫الهدفين بشـعار جماهيري هـو النضـال مـن اجـل تأمين اخلبز‬ ‫وربـط هذيـن ً‬
‫واحلريـة‪ .‬اخيرا يضيـف سـباهي انـه رغـم انتصـار الوثبـ�ة فقـد أضاعـت قيادة‬
‫احلـزب فـرص ثمينـ�ة إلحراز تقـدم أكرب لوال انشـغال عناصر قياديـة يف نزاعات‬
‫شـخصية مثـل النزاع بين مالـك سـيف ويهـودا صديـق‪ .‬وينتقد سـباهي حىت‬
‫رئيـس احلـزب األسـطوري‪ ،‬فهـد‪ ،‬بسـبب عـدم انتهـاز الفرصـة التي اتاحتهـا‬
‫الوثبـ�ة لعقـد مؤتمـر او كونفرنس حلسـم مشـاكل القيـادة وتقييم مـا حصل يف‬
‫الوثبـ�ة وتعزيـز العالقـة مـع القاعـدة احلزبيـ�ة‪.‬‬
‫مـرة أخـرى اذن‪ ،‬نـرى كيـف يكـون تركيز بطاطـو علـى أهميـة الظـروف‬
‫هـم سـباهي الرئيسي هـو فهـم الظـروف الذاتيـ�ة للحـزب‬‫املوضوعيـة بينمـا ّ‬
‫ودورهـا يف دفـع عجلـة التأريـخ‬
‫وعنـد معاجلـة انقلاب ‪ 8‬شـباط ‪ ،1963‬نـرى بطاطـو يعـود ليطـرح‬
‫الواقـع االجتماعـي‪ .‬فيؤكـد علـى دور الطبقـات الوسـطى الريفيـة‬ ‫مسـألة ً‬
‫وخصوصـا تلـك التي كانـت تتواجـد يف منطقـة ما يسمى باملثلث السني حيث‬
‫كانـت تطمـح بإنهـاء احتـكار املالكين الكبـار لكنهـا يف ذات احلـال ختشى نفـوذ‬
‫اجلماهير الكادحـة‪ .‬وهـذا‪ ،‬حسـب تقديـر بطاطـو‪ ،‬ما يفسـر دور هـذه الطبقة‬
‫ثورة‬ ‫ضمـن تنظيـم الضبـاط االحـرار‪ ،‬ودعمهـا ملشـروع اإلصلاح الزراعـي بعـد‬
‫َ ّ‬
‫‪ 14‬تمـوز التي قضـت علـى هيمنـة املالكين الكبـار اال انهـا عـادت لتضـرب ألـد‬
‫أعـداء االقطـاع‪ ،‬احلـزب الشـيوعي‪ ،‬بعنف شـديد يف انقالب ‪ 8‬شـباط البعيث‪.‬‬
‫ويف مالحظـة ثانيـ�ة يضيـف بطاطـو ان املحلات التي صمـد فيهـا الشـيوعيون‬
‫وقاتلـوا لفترة طويلـة ضـد االنقلاب كانـت جميعها محلات شـيعية (الثورة‪،‬‬
‫ّ‬
‫الكاظميـة‪ ،‬عكـد ّاالكـراد) هـذا رغـم كـون‬ ‫ّ‬
‫الشـاكرية‪،‬‬ ‫ّ‬
‫الشـواكة‪ ،‬الكريمـات‪،‬‬
‫قيـادة احلـزب حتتـوي ّعلـى نسـبة عاليـة مـن السـنه‪ .‬يفسـر بطاطـو هـذه‬
‫الظاهـرة بتعاطـف السـنه ًمـع األفـكار القوميـة العربيـ�ة والتحفـظ عليهـا مـن‬
‫قبـل الشـيعة‪ .‬وهـذا طبعـا دليـل علـى اسـتمرار بعـض التكتلات والنعـرات‬
‫الطائفيـة املوروثـة مـن املجتمـع العشـائري‬
‫كمـا هـو احلـال يف األمثلـة السـابقة‪ ،‬يقوم سـباهي عنـد تن�اولـه موضوع‬
‫ل‬ ‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬

‫ضـرب احلـزب الشـيوعي عـام ‪ 1963‬بالرتكيز علـى العوامـل الذاتيـ�ة التي‬


‫سـمحت بهـذه الهزيمـة املوجعـة‪ .‬فمـن ضمـن مـا ين�اقشـه هنـا‪ ،‬قيـام قيـادة‬
‫احلـزب بإضاعـة الوقـت يف الدفـاع عـن حكومـة عبـد الكريـم قاسـم يف حين‬
‫تلـك احلكومـة تقـوم بالتنكيـل واالضطهـاد بهـم‪ .‬و يضيـف ان احلـزب‬ ‫كانـت ُ ّ‬
‫التقاعس و العجز‬ ‫اال ان ً‬
‫كان قـد بلـغ باسـتعدادات اليمني السـيايس لالنقلاب ً‬
‫هيمـن علـى الـكادر احلـزيب حبيث انـه «ال يلمـس اهتماما خاصـا بإعـداد القوى‬
‫للمواجهـة»‪8 8.‬و يضيـف سـباهي علـى سـبي�ل املثال بـأن قيادة احلـزب عقدت‬
‫واحـد قبـل ًاالنقلاب ملناقشـة مسـألة‬‫ً‬ ‫أربعـة اجتماعـات يف غضـون أسـبوع‬
‫إضـراب الطلبـة دون ان تعقـد «اجتماعـا واحـدا ملناقشـة قدراتهـا الفعليـة‬
‫علـى الـرد لمـا كان يدبـر»‪ 9 9.‬و رغـم مناقشـة املكتـب السـيايس لفكـرة وضـع‬
‫خطـة طـوارئ تتضمـن انشـاء مفـارز سـرية يقـوم بتفعيلهـا يف حـال االنقالب‪،‬‬
‫اال ان ذلـك لـم حيصـل‪ .‬ويتطـرق سـباهي حلادثـة حصلـت قبـل يـوم واحـد مـن‬
‫االنقلاب يمكـن ان نستشـهد بهـا كمثـال ألسـلوبه يف الرتكيز علـى الـدور الهام‬
‫التي تلعبـه العوامـل الذاتيـ�ة يف حركـة التأريـخ‪:‬‬
‫«يف يـوم ‪ 7‬شـباط ‪ ،1963‬بـادرت إحـدى صديقـات احلـزب الشـيوعي‬
‫اىل إخبـار احلـزب بـأن موعـد االنقالب سـيكون يف اليـوم التايل‪ ،‬اي يف ‪ 8‬شـباط‪،‬‬
‫بعـد ان علمـت ذلـك مـن عشـيق لهـا‪ ،‬عسـكري يسـهم يف اإلعـداد لـه‪ ً .‬إال ان‬
‫هـذا اخلبر لـم يصـل إىل جمـال احليـدري الـذي كان يقـود احلـزب عمليـا إال يف‬
‫مسـاء السـابع من شـباط‪( .‬وكان سلام عـادل‪ ،‬سـكرتري احلزب‪ ،‬قـد تفرغ عن‬
‫العمـل القيـادي بقـرار سـابق من املكتب السـيايس لالنصـراف اىل وضع برنامج‬
‫احلـزب – تأمـل سـكرتري احلـزب يفـرغ عـن العمـل القيـادي يف ظـروف كهـذه‬
‫بالـذات‪ .)!!...‬وبـدوره‪ ،‬أبلـغ جمـال احليدري جلنة بغداد باخلبر‪ ،‬وطلب منها‬
‫اخلبر لم يصل اىل سلام عادل إال‬ ‫ان تتخـذ اإلجـراءات الالزمـة للمقاومـة‪ ...‬إن ّ‬
‫يف منتصـف الليـل فقـط‪ .‬فذهـب اىل دار جـورج تلـو‪ ،‬عضـو املكتـب السـيايس‪،‬‬
‫ومسـؤول اخلـط العسـكري‪ ،‬وأخبره باألمـر‪ ،‬واكـد عليـه بصـورة خاصـة ‪...‬‬
‫ضـرورة ابلاغ العقيـد الركـن جلال األوقـايت‪ 10 10،‬بمغـادرة الـدار التي يسـكنها‬
‫ّواملبيـت يف بيـت آخـر‪ ...‬ولكـن‪ ،‬ومـا أقسى هـذه الــ «لكـن»‪ ،‬إن سـيارة جـورج‬
‫تلـو لـم تشـتغل يف تلـك الليلة لشـدة البرد سـاعتها ‪ ...‬وكأن تلفونـات بغداد قد‬

‫‪ .8‬سباهي‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬النسخة الثاني�ة‪ ,‬ص ‪.449‬‬


‫‪ .9‬سباهي‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬النسخة الثاني�ة‪ ,‬ص ‪.449‬‬
‫‪ .10‬كان جــال األوقــايت مــن املقربــن للحــزب الشــيوعي العــرايق وشــغل منصــب قائــد‬
‫القــوات اجلويــة العراقيــة مــن عــام ‪ 1958‬اىل ‪ .1963‬قتلــه البعثيــون امــام بيتــ�ه قبــل‬
‫املباشــرة بعمليــة االنقــاب علــى الســلطة صبيحــة ‪ 8‬شــباط عــام ‪.1963‬‬
‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬ ‫م‬

‫قـد خلـت من سـياراتها‬ ‫تعطلـت تلـك الليلـة ‪ ...‬وكأن مكاتـب سـيارات األجـرة ّ‬
‫كلهـا ‪ ...‬و كأن الباصـات قـد تعطلـت ‪ ...‬و كأن االرجـل كفـت هـي األخـرى عـن‬
‫املشي للوصـول اىل بيـت اقـرب رفيـق او صديـق ‪ ...‬و يظـل من مهمة القـارئ ان‬
‫‪11 11‬‬ ‫يسـتنتج بـأي اسـتعداد ّ‬
‫وهمـة جـرت مواجهـة هـذا االنقلاب!!»‪.‬‬
‫احلـزب الشـيوعي بالـذات لـو‬‫تاريـخ العـراق وتاريـخ ً‬‫فهـل كان تغير ّ‬
‫اشـتغلت سـيارة جـورج تلـو او لـو ابـدى اهتمامـا أكبر باملهمـة؟‬
‫هـذه احلادثـة التي يرويهـا سـباهي تعـود بنـ�ا اىل املناظـرة التي نشـأت يف‬
‫منتصف القرن التاسـع عشـر حول دور الفرد يف التاريخ والعالقة اجلدلية بني‬
‫الضـرورة والصـدف‪ .‬وممـن كتبوا حول هذه املسـألة‪ ،‬لم أجـد أفضل مما كتب�ه‬
‫املـؤرخ الربيطـاين ادوارد كار ضمن سلسـلة محاضراته اليت نشـرت بعنوان «ما‬
‫بهدف املؤرخ‬‫هـو التاريـخ» ًفيقـول كار ان اإلجابـة على هذا السـؤال مرتبـط ً‬
‫‪12 12‬‬

‫ذاتـه‪ .‬فعلينـ�ا اوال االستفسـار عـن هدف املـؤرخ من تن�اولـه موضوعا ما‪.‬‬
‫فهـدف بطاطـو هـو فهـم حيثيـ�ات التحـول االجتماعـي يف العـراق مـن‬
‫مجتمـع ريفـي تسـود فيـه العالقـات العشـائرية وتهيمـن عليـه طبقـات‬
‫اجتماعيـة منتفعـة مـن هـذا النمـط مـن احليـاة‪ ،‬اىل مجتمـع مرتبـط بدولـة‬
‫مركزيـة تسـتن�د على قوة املدين�ة وعالقات رأسـمالية حديث�ة‪ ،‬وانعكاسـات كل‬
‫ذلـك علـى التطـورات السياسـية‪ .‬وكان اهتمـام بطاطـو هذا ًأوسـع من احلزب‬
‫الشـيوعي او حتى العـراق‪ .‬فقـد تبـع كتابـه عـن العـراق كتابـا عن سـوريا حيث‬
‫سـلك فيـه املنهـج ذاتـه يف مناقشـة طبيعـة التغيرات السياسـية يف سـوريا‪.‬‬
‫وكذلـك قـام ببحـث موجز قارن فيـه ظاهرة الثـورات يف العراق وسـوريا ومصر‪.‬‬
‫وكان ينـوي كتابـة عمل عن تاريخ فلسـطني اال انه‪ ،‬ولألسـف الكبري‪ ،‬لم يب�اشـر‬
‫الشـيوعي هـو‬
‫ً‬ ‫بـه قبـل وفاتـه‪ .‬امـا سـباهي‪ ،‬فهدفـه مـن كتابـة تاريـخ احلـزب‬
‫اسـتخالص الـدروس والعبر مـن نضـاالت احلـزب كـي تبقـى دليلا لألجيـال‬
‫همـه األسـايس هـو ان يظهـر مـا كان‬‫القادمـة مـن املناضلين‪ .‬ولهـذا السـبب‪ّ ،‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫نافعـا او ضـارا يف قـرارات وتصرفـات احلـزب‪.‬‬
‫ًاعتقـد ان هـذا واضـح ولكـن دعـوين اآلن ان اطـرح مسـألة قـد تبـ�دو اقل‬
‫املمكـن االسـتفادة مـن هذيـن املنهجين يف فهـم مـا يـدور يف‬
‫وضوحـا‪ :‬هـل مـن ً‬
‫العـراق احلزيـن حاليـا‪ ،‬او علـى األقـل مـا جـرى للحـزب الشـيوعي العـرايق بعـد‬
‫االحتلال األمريكـي عـام ‪2003‬؟‬

‫‪ .11‬سباهي‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬النسخة الثاني�ة‪ ,‬ص ‪.451‬‬


‫‪12. Edward H. Carr, What is History?, Vintage Books, NY, 1961, chapter iv‬‬
‫ن‬ ‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬

‫بـدون شـك‪ ،‬كان احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬بغـض النظر عـن إجيابي�اته‬
‫وسـلبي�اته‪ ،‬كان أكبر وانشـط حـزب سـيايس عـرايق يف فترة اخلمسـين�ات‬
‫والسـتين�ات دون منافـس علـى االطلاق‪ .‬وكان احلـزب الوحيـد الـذي جنـح‬
‫يف نشـر نفـوذه يف جميـع احنـاء البلـد مـن اقصى شـماله اىل جنوبـه وبين كافـة‬
‫طوائـف الشـعب املتعـددة وطبقاتـه االجتماعيـة‪ .‬وكان حيمل عقيـدة واضحة‬ ‫ً‬
‫(ايضـا بغـض النظـر عن مـدى صحتهـا) وألعضائه سـمعة يف كونهـم يمتازون‬
‫النضـال مـن اجـل عقيدتهـم رغـم القمـع واالضطهـاد‬
‫ً‬ ‫باجلـرأة والشـجاعة يف‬
‫املتواصـل‪ .‬ففـي ‪ 1959‬مثلا‪ ،‬وصلت شـعبي�ة احلزب اىل حـد كان من املحتمل‬
‫ان يفـوز يف انتخابـات عامـة لـو تم عقدها‪ .‬فما حصل لوضع احلزب يف السـاحة‬
‫العراقيـة بعـد ‪2003‬؟ يف انتخابـات ‪ ،2005‬حصلت قائمة احلزب الشـيوعي‬
‫احتـاد الشـعب) علـى ‪ ٪ 0.8‬مـن األصـوات فقـط ‪ ، 13 13‬واآلن‬
‫(قائمـة ً‬
‫ً‬ ‫العـرايق‬
‫ليـس لـه تأثيرا كبيرا يف السـاحة السياسـية‪ .‬كيـف نفسـر هـذا االحنـدار احلاد‬
‫يف شـعبي�ة ونفـوذ احلـزب الشـيوعي العـرايق؟‬
‫لـو اخذنـا بأسـلوب بطاطـو‪ ،‬لقلنـا بـان اجلـواب يكمـن يف التغيرات‬
‫مـر بهـا العـراق منذ اسـتالم حـزب البعث السـلطة‬ ‫االجتماعيـة الضخمـة التي ّ‬
‫بين ‪ ،1968-1963‬واهمهـا‪ :‬نشـوء دولـة شـمولية اسـتخدمت احتكارهـا‬
‫لثروات النفـط يف بنـ�اء اجهـزة قمعيـة قويـة ولشـراء الـوالء او الـرىض‪ .‬تبـع‬
‫(‪ )2003-1979‬التي أدخلـت العـراق يف‬
‫ً‬ ‫ذلـك دكتاتوريـة صـدام حسين‬
‫ثلاث حـروب مـن أعنـف احلـروب واكرثهـا دمـارا يف تاريـخ القـرن العشـرين‬
‫علـى االطلاق‪ ،‬تالهـا احلصـار االقتصـادي (‪ )2003-1990‬الـذي فرضتـه‬
‫دمـر البنيـ�ة التحتيـ�ة وقضى علـى الطبقـة‬‫الواليـات املتحـدة االمريكيـة الـذي ّ‬
‫الوسـطى‪ .‬والشـعرة التي قسـمت ظهـر البعير كان االحتلال األمريكـي الـذي‬
‫بإنشـاء مؤسسـات بديلـة‪ .‬كل ذلك‬ ‫ألغـى اهم مؤسسـات الدولة دون السـماح ً‬
‫أدى اىل تمزيـق ُالرابـط والعالقات (خصوصا االفقية الوطني�ة منها) وشـرذمة‬
‫الفـرد العرايق ان يلجـأ اىل عالقاته املحليـة والعائلية‪ .‬وكان‬
‫املجتمـع حبيـث أجرب ً‬
‫انعـكاس هـذا سياسـيا هـو نمـو احلـركات الطائفيـة علـى حسـاب األحـزاب‬
‫الوطنيـ�ة مثـل احلـزب الشـيوعي‪.‬‬
‫منهـج سـباهي لـن يعـارض كل هـذا ولكنه يذهب ليتسـاءل عن سـلوك‬
‫احلـزب يف ُظـل هـذه املعطيـات الصعبـة‪ .‬هـل كان باإلمـكان اختـاذ مواقـف غير‬
‫تلـك التي اختـذت حبيـث يصـل اىل نتيجـة أفضـل؟ لـو تابعنـا مواقـف احلـزب‬
‫بعـد غـزو العـراق للكويت عـام ‪ 1990‬ونشـوب العداء بني نظام صدام حسين‬

‫‪13. Inter-Parliamentary Union, 2005‬‬


‫‪http://archive.ipu.org/parline-e/reports/arc/2151_05.htm‬‬
‫يزع يسايسلا لضانملاو وطاطب انح يميداكألا نيب يقارعلا يعويشلا بزحلا خيرات‬ ‫ه‬

‫والواليـات ًاملتحـدة‪ ،‬جنـد انـه يشـوبه التردد والغمـوض‪ .‬فأيديولوجيـة احلزب‬


‫لإلمربياليـة االمريكيـة وعالقتهـا بالفاشـية‬
‫ً‬ ‫كانـت دائمـا معاديـة بشـكل حـاد ً‬
‫املحليـة‪ .‬فأدبيـ�ات احلـزب مثلا‪ ،‬دومـا تـردد (عـن حـق) دور املخابـرات‬
‫االمريكيـة يف دعـم انقلاب ‪ 8‬شـباط ‪ 1963‬البعثي من اجل ضرب الشـيوعية‬
‫وكذلـك دعـم أمريـكا لصـدام خلال حربـه مـع إيـران (‪ .)1988-1980‬امـا‬
‫بعـد غـزو العـراق للكويت عـام ‪ ،1990‬نـرى أدبيـ�ات احلزب تقلل مـن مهاجمة‬
‫«املشـروع االمربيـايل»‪ .‬وبعـد االحتلال االمريكـي عـام ‪ ،2003‬قـررت قيـادة‬
‫االحتالل بقيـادة بول برمـر عندما دخلـت كطرف‬ ‫احلـزب التعـاون مـع حكومـة ً‬
‫مباشـر يف مجلـس احلكـم‪ .‬طبعـا احلزب كان لـه ً تبريراته ولكـن‪ ،‬دون ان ندخل‬
‫يف تفاصيـل تلـك الفترة املعقـدة‪ ،‬أصبـح واضحـا ان هـذه املواقـف لـم تعد على‬
‫احلـزب بـأي فائدة بل على العكس سـاهمت يف ابعاده عن جماهريه التقليديني‬
‫حيـث ان الطبقـات الدنيـ�ا عانـت (ومـا زالـت تعـاين) الكثير مـن السياسـات‬
‫واملشـاريع االمريكيـة ً ناهيـك عـن االرتبـ�اك الفكـري النـاجت مـن التحالـف مـع‬
‫قـوة كان احلـزب دومـا يؤكـد علـى عدائـه املبـديئ لها‪.‬‬
‫ً‬
‫ختامـا اود ان اعـود اىل الدكتـورً حنـا‪ .‬ففـي عـام ‪ ،1990‬بعـد احتلال‬
‫العـراق للكويـت وانقلاب الدنيـ�ا رأسـا على عقـب‪ ،‬حتولت جامعة جـورج تاون‬
‫ّ‬
‫يف واشـنطن اىل مسـرح تعـج فيـه النشـاطات والنـدوات كلهـا حتـاول معاجلـة‬
‫هـذا اجلانـب او ذاك مـن االزمـة‪ .‬يف احـدى هـذه األيـام رافقـت الدكتـور حنـا‬
‫الواليات‬
‫ً‬ ‫حلضـور نـدوة حـول االزمـة وكان املحاضر يتكلـم ً عما يمكن ان تفعلـه‬
‫املتحـدة حلـل املشـكلة‪ .‬كان الدكتـور حنـا متوتـرا حيـث كان حيـب العـراق كثريا‬
‫وخيشى تداعيـات ًاحلـدث علـى املنطقـة باسـرها‪ .‬ففـي منتصـف املحاضـرة‬
‫التفـت يل مبتسـما وقـال‪:‬‬
‫«كيف ممكن ألمريكا حتل املشكلة إذا امريكا ّ‬
‫هي املشكلة؟»‬

‫وحول هذه النقطة بالذات‪ ،‬ال فرق بني بطاطو و سباهي‪.‬‬


‫تقديم‬

‫ً‬ ‫ً‬
‫لعـب احلـزب الشـيوعي العـرايق دورا هامـا يف تاريـخ العـراق احلديـث‪.‬‬
‫وأسـتقطب طاقـات نضاليـة وفكريـة كثيرة‪ ،‬وخـاض معـارك عديدة مـن أجل‬
‫االسـتقالل الوطني الناجـز والديمقراطيـة‪.‬‬
‫وبسـبب مـن ذلـك اسـتث�أر هـم واهتمامـات كتـاب وباحثين كثيريـن‪.‬‬
‫فظهـرت كتـب ودراسـات وأحبـاث تتحـدث عـن احلـزب ومواقفه وسياسـاته‪.‬‬
‫وكان لدوائـر اآلمـن العراقيـة التي أسسـها املحتلـون اإلجنليز والتي وضعـت‬
‫لنفسـها هـدف محاربـة الشـيوعية حتى قبـل أن يظهـر احلـزب‪ ،‬حصة ليسـت‬
‫بقليلـة‪ .‬فيمـا كتـب عنـه‪ ،‬سـواء أكان ذلـك بإصـدار «املوسـوعات» أو بتجنيـ�د‬
‫املتعاونين معهـا‪ ،‬والعاملين يف صفوفهـا‪ ،‬تشـويه تاريـخ احلـزب النضـايل‬
‫ومواقفـه‪ ،‬واإلسـاءة بذلـك إىل كل تاريـخ احلركـة الوطنيـ�ة الديمقراطية طيلة‬
‫العقـود السـبعة الماضيـة‪.‬‬
‫وقـد تصـدى ثوريـون وباحثـون أكاديميـون وطلبـة دراسـات جامعيـة‬
‫للكتابـة عـن تاريخ احلـزب‪ .‬وظلت دراسـاتهم رغـم أهميتها وقيمتهـا العلمية‪،‬‬
‫تشـكو النواقـص قلـت أو كثرت‪ .‬والكتـاب الـذي بين أيـدي القـراء يطمـح إىل‬
‫سـد هـذه النواقـص‪ ،‬وان كان ال يطمـع بسـدها كلهـا بسـبب عـدم توفـر الكثير‬
‫مـن املصـادر التي حيتاجهـا الباحث‪ .‬والكتاب أشـمل دراسـة عـن تاريخ احلزب‬
‫احلـزب‬
‫ً‬ ‫نضـال‬
‫ً‬ ‫مشـاركته يف‬
‫ً‬ ‫صـدرت حتى اآلن بفضـل مـا توفـر للباحـث حبكـم ً‬
‫طيلـة مـا يقـرب من سـتة عقود مـن السـنني مناضلا حزبي�ا وسـجين�ا سياسـيا‬
‫ً‬
‫وكادرا مـن كـوادر احلـزب الثقافيـة املرموقـة‪ ،‬ومؤلفـا لعـدة كتـب عـن نـوايح‬
‫معينـ�ة يف سياسـة احلـزب ومواقفـه‪.‬‬
‫ً‬
‫وقد سعى الباحث إىل أن يكون موضوعيا‪ ،‬وإن كان يتعذر عليه حبكم‬
‫ي‬
‫أ‌أ‬ ‫ميدقت‬

‫املوضوعية املطلوبة مئـة باملئة‪ .‬ولكن القارئ‬


‫ً‬ ‫حيقق‬
‫ارتب�اطـه باحلـزب أن ً‬
‫املنصـف سـيجد أنـه بـذل جهـدا حقيقيـا لتحقيق ذلـك‪ ،‬وأفلـح إىل درجـة كبرية‬
‫يف مسـعاه النبيـ�ل‪ .‬وحبكـم هـذا كلـه فـإن الكتـاب مصـدر هـام لـكل املناضلين‬
‫وباحثين وطلبة‬
‫ً‬ ‫مؤرخين‬
‫ً‬ ‫ولـكل املعنيين بدراسـة تاريـخ العـراق احلديـث ًمـن‬
‫دراسـات عليـا واملهتمين بالشـأن العـرايق ماضيـا وحاضرا و مسـتقبال‪.‬‬
‫وىف الكتاب دروس هامة حيتاجها اجليل اجلديد من املناضلني الثوريني‬
‫شـيوعيني أو غير شـيوعيني كـي تنري لهـم طريق الكفـاح الناجح مـن أجل عراق‬
‫الغـد الديمقراطي املزدهر‪.‬‬

‫عبد الرزاق الصايف‬


‫المحتويات‬

‫مالحظات حول النسخة الثاني�ة ‪..............................................................‬ح‬


‫حول الكاتب ‪...................................................................................‬د‬
‫تاريخ احلزب الشيوعي العرايق بني األكادييم بطاطو واملناضل السيايس سباهي ‪.........‬ط‬
‫تقديم ‪..........................................................................................‬ي‬
‫تمهيد ‪..........................................................................................‬ث‌ث‬
‫صص‬‫شكر و امتن�ان ‪‌ ..................................................................................‬‬

‫العراق‪ :‬كيان سيايس جديد ‪45...................................................................‬‬


‫العراق يف ظل االحتالل الربيطاين ‪63.............................................................‬‬
‫العراق يف ظل االنت�داب ‪82........................................................................‬‬
‫بدايات التوجه حنو الفكر االشرتاكي ‪108..........................................................‬‬
‫محاوالت أولية يف العمل املشرتك ‪128............................................................‬‬
‫النواتات الشيوعية األوىل ‪148.....................................................................‬‬
‫واألوضاع اليت أحاطت بنشوئها ‪148.............................................................‬‬
‫تأسيس احلزب الشيوعي العرايق ‪174............................................................‬‬
‫إعادة تأسيس احلزب واحلرب العاملية الثاني�ة ‪208...............................................‬‬
‫«حزب شيوعي‪ ..‬ال اشرتاكية ديمقراطية» ‪239..................................................‬‬
‫«قووا تنظيم حزبكم‪ ...‬قووا تنظيم احلركة الوطني�ة» ‪272......................................‬‬
‫احلزب وأوضاع ما بعد احلرب ‪303................................................................‬‬
‫عام عصيب ‪334....................................................................................‬‬
‫احلزب الشيوعي ووثب�ة كانون ‪349................................................................‬‬
‫هجوم وهجوم مضاد ‪371..........................................................................‬‬
‫احلزب الشيوعي العرايق واملسألة الفلسطيني�ة ‪401.............................................‬‬
‫انتكاسة عام ‪426........................................................................... 1949‬‬
‫املصادر ‪444.........................................................................................‬‬
‫أعمال أخرى للكاتب ‪453..........................................................................‬‬
‫تمهيد‬

‫البحـث يف تاريـخ احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬الـذي هـو أقـدم األحـزاب‬


‫السياسـية التي ظلـت تواصـل نشـاطها السـيايس يف العـراق إىل اآلن ‪ -‬وال‬
‫أخـال أن أحـدا يمـاري يف الـدور الـذي لعبـه ويلعبـه يف حيـاة البلاد ‪ -‬يثير كثيرا‬
‫مـن االهتمـام‪ ،‬ألنـه يلخـص يف الواقع‪ ،‬أهـم معالم احليـاة السياسـية يف العراق‬
‫احلديـث طـوال عقـود طويلـة تـكاد تغطـي القـرن العشـرين بكاملـه‪ .‬وألن‬
‫تطـور العـراق احلديـث لـم جيـر سـويا‪ ،‬واعتورتـه عقـد ومطبـات كثيرة‪ ،‬وتطور‬
‫نضـال احلـزب الشـيوعي العـرايق هـو اآلخـر‪ ،‬قـد انطـوى علـى كثير مـن العقـد‬
‫وااللتـواءات‪ ،‬صـار البحـث يف تاريـخ هـذا احلـزب معقـدا‪ ،‬يتطلـب كثيرا مـن‬
‫التمحيـص وإعمـال الفكـر‪ .‬ولهـذا‪ ،‬فحين فاحتتني اللجنـة املركزيـة للحـزب يف‬
‫أمـر دراسـة هـذا األمر‪ ،‬عـدت إىل نفيس‪ ،‬وقلبـت األمر مليا من زوايـاه املختلفة‪،‬‬
‫وناقشـت بعـض جوانبـ�ه مـع بعض أصحـايب‪ ،‬وانتهيـت إىل جملة مـن النقاط‪:‬‬

‫‪1.‬لقـد سـبق ملؤتمـر احلـزب الثـاين الـذي انعقـد يف عـام ‪ 1970‬أن‬


‫اختـذ قـرارا بشـأن العمـل على وضـع تأريـخ احلـزب‪ .‬إال أن املشـروع‬
‫ظـل ينتظـر التحقيـق‪ .‬لقـد جـرت منـذ ذلـك احلين عـدة محـاوالت‬
‫مـن داخـل احلـزب وخارجـه ملعاجلـة املوضـوع أو بعـض جوانبـ�ه‪،‬‬
‫وأسـهمت أنـا نفسي يف هـذا اجلهـد وتن�اولـت جانبين مـن جوانبـ�ه‬
‫يف كتابين أصدرهمـا مركـز الدراسـات االشتراكية يف العالـم العـريب‬
‫ووقعتهمـا باسـم (نصير سـعيد الكاظمي) أحدهمـا تنـ�اول موقـف‬
‫احلـزب الشـيوعي مـن املسـألة الزراعيـة ‪ ،1 1‬وثانيهمـا حـول احلركة‬

‫‪ .1‬أعيد طبع هذا الكتاب عام ‪ 2010‬بعنوان «مواقف من املسألة الزراعية يف العراق» عن‬
‫ث‌ث‬
‫ج‌ج‬ ‫ديهمت‬

‫العماليـة والنقابي�ة بوجه خاص ودور احلزب يف احلركة السياسـية‬


‫واالقتصاديـة للعمـال يف العـراق‪ ...‬إال أن احلاجـة إىل تأمـل مسيرة‬
‫احلـزب بمجملهـا ظلـت قائمـة‪ ،‬السـيما وأن مـا جـرى للحركـة‬
‫الشـيوعية العامليـة يف العقـد المـايض دفـع ويدفـع كل حركـة ثورية‬
‫إىل تأمـل أوضاعهـا مـن جديـد بعيـدا عـن الـروح الدوغماتيـ�ة التي‬
‫سـادت حتليالتها يف السـابق‪ .‬إن عشـر سـنوات على انهيار التجارب‬
‫االشتراكية العامليـة األوىل كانـت ضروريـة المتصـاص الصدمـة‬
‫والسـعي إىل تأمـل مسيرة احلركـة يف كل بلـد بوعـي واضـح‪ ،‬بعيـدا‬
‫عـن التطير أو البحـث عـن التبريـرات‪ ،‬والسـعي لتحديـد أوجـه‬
‫القصـور فيهـا‪.‬‬
‫‪2.‬املشـروع حبـد ذاتـه يتطلـب تعـاون مجموعـة مـن الباحثين‪،‬‬
‫ومسـاندة واسـعة‪ ،‬سـواء مـن داخـل احلـزب ذاتـه أم مـن النـاس‬
‫اآلخريـن الذيـن يغارون على نضالـه خدمة ملصالح الشـعب‪ .‬وربما‬
‫كان أفضـل أشـكال العمـل يف هـذا الشـأن تأليف جلنة خاصـة توزع‬
‫العمـل فيمـا بينها طبقا لألوضاع اليت يعيشـون فيها‪ ،‬إال أن تشـتت‬
‫الباحثين علـى النحـو الـذي يعيشـه الثوريـون العراقيـون اليـوم‪ ،‬ال‬
‫يغـري باعتمـاد هذا الشـكل الطموح مـن العمل‪ ،‬وقد يـؤدي اعتماده‬
‫إىل طمس املشـروع من جديد‪ .‬إن ظروف النضال بالنسـبة للحزب‬
‫الشـيوعي العـرايق ومناضليـه مـرت وتمـر بتعقيـدات كثيرة‪ ،‬وقـد‬
‫انعكسـت هـذه علـى إمكانيـ�ة جمـع الوثائـق وتنظيـم األرشـيفات‪.‬‬
‫وإذا لـم يتعامـل املـرء مـع هـذه التعقيـدات مـن منطلـق السـعي إىل‬
‫انتهـاز الفـرص واسـتغاللها دون إبطـاء‪ ،‬فـإن هـذه املهمـة تتعقـد‬
‫هـي األخـرى‪ .‬أكتـب هـذا ويف ذهني النهاية التي انتهـت إليها بعض‬
‫األرشـيفات املعتمـدة التي كانـت موجـودة يف بـراغ ويف غريهـا‪.‬‬
‫‪ 3.‬ويف مثـل ظـروف احلـزب الشـيوعي العـرايق يصبـح احلديـث‬
‫عـن جمـع الوثائـق وتصنيفهـا مشـروعا كبيرا حبـد ذاتـه ويتطلـب‬
‫تعاونـا واسـعا‪ .‬ومـع ذلـك فمهما جمـع منها فـإن املحصلة لـن تكون‬
‫سـوى جـزء ضئيـ�ل ممـا جتمـع لـدى دوائـر األمـن العراقيـة‪ ،‬وهـي‬
‫ليسـت يف متنـ�اول الباحثين أصلا‪.‬‬
‫‪4.‬أن ابتعـاد املـرء عن سـاحات النضال الفعلية والرئيسـية حيرمه‬
‫حقـا من املشـاورة وتب�ادل األفكار‪ ،‬لكنـه‪ ،‬يف املقابل‪ ،‬يوفر له الفرصة‬

‫دار الرواد املزدهرة وبتوقيع عزيز سباهي مع إضافة فصول جديدة‪.‬‬


‫ديهمت‬ ‫ح‌ح‬

‫إىل تأمـل املسيرة بعيـدا عـن مشـاغل وانعكاسـات احليـاة اليوميـة‪،‬‬


‫وبالنسـبة إىل شـخص مثلـي أمضى مـن حياتـه قرابـة سـتة عقـود‬
‫وهـو يت�ابـع النضـال حتـت رايـة احلـزب الشـيوعي‪ ،‬يغـدو البحث يف‬
‫تاريـخ احلـزب ذا متعـة خاصـة‪ .‬ولعـل يف هـذه املتعـة اخلاصـة مـا‬
‫يوفـر طاقـة إضافيـة للعمـل الـدؤوب‪ .‬ثـم إن املشـاركة الفعليـة يف‬
‫األحـداث تسـهل للكاتـب مهمتـه يف رسـمها وحتليلهـا‪.‬‬
‫‪5.‬يف كتابـة تأريـخ حـزب يف ظـروف احلـزب الشـيوعي العـرايق‬
‫للزمـن أحكامه‪ .‬لقـد أضاع احلزب وباحثوه كذلـك فرصا ثمين�ة كان‬
‫بوسـعهم أن يسـتعينوا بذاكرة املناضلني الذين شاركوا يف تأسيسه‬
‫ويف نضاالتـه التاليـة الذين سـلموا مـن إرهاب كل مرحلـة‪ ...‬وإن أي‬
‫تأخير إضـايف يف حتقيق املشـروع يزيـد من الضرر الذي سـبب�ه فقدان‬
‫هذا النـوع مـن الفرص‪.‬‬
‫‪6.‬مثلمـا يطـرح الشـروع بالعمـل مصاعـب إضافيـة لـم تكـن يف‬
‫احلسـبان‪ ،‬فـإن سير العمـل واحلماسـة لـه ليـس لـدى الكاتـب‬
‫وحـده وإنمـا لـدى كثير ممـن يغـار علـى العمـل سـيطرح يف‬
‫املقابـل تسـهيالت إضافيـة لـم حيسـب لهـا احلسـاب مـن قبـل‪.‬‬

‫يف ضـوء هـذه االعتبـ�ارات عزمـت علـى أن أنهـض باملهمـة وشـرعت يف‬
‫العمـل‪ ،‬وجنـدت أهـل بيتي وأصحـايب ومعـاريف كلهـم للمشـروع‪ ،‬ولـم يبخلـوا‪.‬‬
‫سـعيت أوال إىل أن أجمـع كل مـا أسـتطيع احلصـول عليـه مـن صحـف احلـزب‬
‫السـرية والعلنيـ�ة وبي�اناتـه وكراريسـه ومنشـوراته األخـرى وقـد أفـادين‬
‫يف هـذا بوجـه خـاص كل مـن الدكتـور ماجـد الياسـري والدكتـورة نزيهـة‬
‫الدليمي ويعقـوب قوجمـان وفـرع احلـزب الشـيوعي الكردسـتاين ‪ -‬العـراق يف‬
‫السـليماني�ة‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬فمـا جتمـع لـدي مـن هـذه الوثائـق ال يعـدو سـوى جـزء‬
‫يسير ممـا جتمعه أرشـيفات البوليس العـرايق‪ ،‬ولهذا فقد عدت فيما لم يتيسـر‬
‫يل احلصـول عليـه علـى مـا أورده األسـتاذ حنـا بطاطـو يف مؤلفـه (الطبقـات‬
‫االجتماعيـة القديمـة واحلركات الثورية يف العـراق) وفضلت العودة إىل النص‬
‫اإلجنليزي يف أغلـب األحيان‪ .‬واملؤسـف أن النصوص األصليـة للوثائق اليت كان‬
‫قـد جمعهـا هـو قـد ضاعـت يف غمـرة الغـزو اإلسـرائيلي لبيروت‪ .‬فقـد اضطـر‪،‬‬
‫كمـا أخبرين هـو‪ ،‬أن يغادر بيروت فورا علـى ظهر الباخـرة اليت حملـت الالجئني‬
‫الفلسـطينيني وغريهـم مـن العـرب الفاريـن من االجتيـ�اح اإلسـرائيلي لبريوت‬
‫تـاركا كل مـا كان يملكه يف شـقته املؤجـرة‪ .‬وهكذا ضاع كل مخزونـه من الوثائق‪.‬‬
‫وبالطبـع فـإن مـا اقتبسـه هـو منهـا يف مؤلفـه منتقـى حبسـب حاجته هـو‪ ...‬ويف‬
‫خ‌خ‬ ‫ديهمت‬

‫أغلـب األحـوال لـم يـرد مـن الوثيقـة سـوى جـزء منها‪.‬‬


‫وكانـت خطـويت الثانيـ�ة أن أعقـد لقـاءات مـع اوسـع عـدد مـن الذيـن‬
‫أسـهموا يف رسـم السياسـات اليت سـار عليها احلزب وإدارة نشـاطه واملشاركة‬
‫فيـه مـن قـادة وكـوادر أساسـية‪ .‬واسـتمعت إىل أحاديثهـم وسـجلتها بأشـرطة‬
‫خاصـة‪ .‬كذلـك التقيـت بعديـد مـن قواعـد احلـزب الذيـن شـاركوا يف بعـض‬
‫النشـاطات املهمـة ألتعـرف علـى آرائهـم يف مواقـف القيـادات التي أدارت‬
‫هـذه النشـاطات‪ .‬وعزمـت علـى أن أكـرر لقـاءايت ببعضهـم إذا دعـت احلاجـة‪.‬‬
‫ومـع ذلـك فالزلـت أطمـح إىل احلصـول علـى كثير مـن الوثائـق واملخطوطـات‬
‫والرسـائل التي حتتفـظ بهـا بعـض عوائـل املناضلين الذيـن رحلـوا وغريهـم‪.‬‬
‫إن منهـج البحـث التاريخي‪ ،‬كمـا هو معـروف‪ ،‬ينطوي على أربـع مراحل‪:‬‬
‫جمـع األصـول‪ ،‬وهـي مرحلـة أساسـية تسـتهدف‪ ،‬كمـا الحظنـا‪ ،‬جمـع الوثائـق‬
‫والبي�انـات‪ ،‬إذ ال تاريـخ بلا وثائـق‪ .‬ثـم إخضـاع هـذه الوثائـق إىل قـراءة وتدقيـق‬
‫وتمحيـص‪ ،‬وسـندعوها بمرحلة النقـد‪ .‬وتليها مرحلة التأليـف ما بني احلقائق‬
‫وتركيبهـا‪ ...‬وأخيرا التدوين‪.‬‬
‫منـذ البدايـة أحسسـت أن مـا أنهض بـه يتطلـب الصرب وإعمـال الذهن‬
‫دون انقطـاع يف ركام مـن املنشـورات‪ .‬لقـد جـرت خلال هـذه العقـود الثالثـة‬
‫األخيرة مـن حيـاة العـراق عمليـة كبيرة مـن النشـر‪ ،‬يف جانـب منهـا نشـاط‬
‫موضوعـي اسـتلزمه التوسـع الكبير يف التعليـم اجلامعـي والدراسـات العليـا‪،‬‬
‫وتطـور ثقافـة املجتمـع بوجـه عـام‪ .‬ولكـن يف جانـب أخـر منـه نشـاط مـوىح به‪،‬‬
‫نشـاط هـادف يف األسـاس‪ ،‬وراءه احلـزب احلاكـم ودوائـره األمنيـ�ة‪ ،‬وهـو جيري‬
‫وفـق غايـة مرسـومة يقصد منها السـعي إىل التأثير يف ذاكرة الشـباب الذين لم‬
‫يتعرفـوا علـى األحـداث إال من خالل مصـادره هو وإعادة صـوغ رواية األحداث‬
‫علـى النحـو الـذي يصطنـع للحـزب احلاكـم دورا يفـوق كثيرا دوره الفعلـي إن‬
‫وجـد مثـل هـذا الدور أصلا‪ ٠‬ويف مجـرى هـذه العملية الواسـعة لتكييـف ذاكرة‬
‫الشـعب جتـري عمليـات إخـراج تتفـاوت مـن حيـث حظهـا يف اإلتقـان وجتـري‬
‫للمؤسسـات واألشـخاص عمليـات مكيـاج خـاص تبعا للأدوار املرسـومة لها‪،‬‬
‫حتى إذا تعـذر بعـد كل هـذا تشـويه دور مؤسسـة مـا شـاركت يف دائـرة احلـدث‬
‫الـذي جيـري احلديـث عنـه‪ ،‬إمـا ألنهـا نهضـت بالـدور األكبر أو ألنهـا نهضـت‬
‫بهـذا الـدور بشـكل مجيـد ليـس مـن الهين أن تقتلـع أثـاره الطيبـ�ة مـن ذاكـرة‬
‫املؤسسـة مـن األسـاس‪ ،‬وليقـل القـارئ بعدهـا مـا‬
‫َ‬ ‫النـاس‪ ،‬يتـم جتاهـل هـذه‬
‫يقـول‪ ،‬فليـس يعني مثل هـؤالء «الكتبـ�ة» األمر‪ .‬وأمـايم يف هذا الشـأن كتيب‬
‫ألحدهـم وضعـه عـن وثبـ�ة كانـون يف سلسـلة مـن كتيب�اتـه التي يتنـ�اول فيهـا‬
‫حـوادث كبيرة يف حيـاة الشـعب العـرايق احلديثـ�ة‪ .‬قرأته من سـطره األول حىت‬
‫ديهمت‬ ‫د‌د‬

‫صفحتـه األخيرة حبثـا عمـا يـديل بـه بشـأن الدور الـذي لعبـه احلزب الشـيوعي‬
‫العـرايق يف (وثبـ�ة كانـون) فلـم أعثر حتى النهايـة علـى أيـة إشـارة إىل احلـزب‪...‬‬
‫وكأنـه لـم يكـن قد وجـد‪ ،‬وكأنه لـم يلعب يف شـوارع بغـداد واملدن األخـرى الدور‬
‫البـارز‪ ،‬وكأن شـهيدا منـه لـم يسـقط فيهـا‪ ...‬وكأن كل تقاريـر البوليـس العـرايق‬
‫وتقاريـر السـفارة الربيطانيـ�ة‪ ،‬ومحاكمـات محكمـة الشـعب بعـد ‪ 14‬تمـوز‬
‫واإلفـادات التي أدليـت فيهـا قد افترت كلها علـى التاريخ ألنها حتدثـت عن دور‬
‫الشـيوعيني وحزبهـم فيهـا‪ ،‬ومن شـاء أن يطلع علـى هذه «التحفـة» فليبحث‬
‫عـن كـراس «محمـود شـبيب» عـن «وثبـ�ة كانـون»!‬
‫الواقـع‪ ،‬إن مهمـة الباحـث املوضوعـي لـن تواجـه هـذه النمـاذج مـن‬
‫عمليـات التشـويه املقصـود مـن كتبـ�ة «النظـام» وحدهـا‪ ،‬وإنمـا يتعين عليـه‬
‫أن يواجـه أصنافـا أخـرى‪ .‬فمـن املمارسـات المألوفـة يف هذا الشـأن أنـه ال جيري‬
‫جتاهـل دور احلـزب الشـيوعي العـرايق مـن جانـب خصـوم احلـزب وحدهـم‪ ،‬بل‬
‫حتى مـن القـوى األخـرى التي حتالفـه أو تتعامـل معـه‪ ،‬حيثمـا كان ذلـك ممكنا‪.‬‬
‫وألن نـارا كثيفـة توجـه لـه دائمـا مـن جبهـات مختلفة‪ ،‬يلمـس املرء ميلا خاصا‬
‫حنـو حتميلـه مسـؤولية بعـض مـا مر على البلاد من مشـاكل‪ ،‬وهناك مـن يغاىل‬
‫يف هـذا الشـأن‪ .‬لقـد اتسـم تاريـخ العـراق احلديـث بكثير مـن التعقيـد‪ ،‬وجتـاه‬
‫هـذا الوضـع يمكـن القـول دون تـردد إن مـا مـن قـوة سياسـية لـم ختطـئ يف هذا‬
‫املوقـف أو ذاك‪ .‬وإذا كان مـن املعايير اجلديـة الثابتـ�ة التي يأخـذ بهـا احلـزب‬
‫الشـيوعي إصـراره علـى مكاشـفة الشـعب بأخطائـه‪ ،‬فـإن غيره مـن القـوى‬
‫لـم ولـن يب�اريـه يف هـذا‪ .‬ويبـ�دو أن إحساسـه العـايل باملسـؤولية جتـاه الشـعب‬
‫وإصـراره علـى مكاشـفته إيـاه بمـا يرتكبـه مـن أخطـاء قد أغـرى الكثيريـن يف أن‬
‫ينسـبوا لـه حتى مـا ال عالقـة لـه بهـا وحتميلـه مسـؤولية اجلرائـم التي ارتكبهـا‬
‫خصومـه أو غيره مـن القـوى‪ .‬وحين جيـري عـن عمـد وبإحلـاح تكـرار مثـل هذه‬
‫التهـم تتحـول التهمـة مـع الزمـن إىل «حقيقـة» يتعين علـى املـؤرخ أن يدقـق‬
‫فيهـا كثيرا حبثـا عـن الـذي جـرى فعلا‪ ...‬لهـذا وجدتني أقـف بتحفـظ خـاص‬
‫إزاء كثير مـن املصـادر الثانويـة وأتعامـل معهـا بانتب�اه خـاص‪ .‬ومن املؤسـف أن‬
‫بعـض الكتـاب الذيـن عاجلوا قضايا احلزب الشـيوعي تلقفوا تهمـا كهذه دون‬
‫تمحيـص وقدموهـا إىل قرائهـم علـى عالتهـا‪.‬‬
‫ولعـل القـارئ سـيلمس أنني أخـذت نفسي بهـذه الشـدة وألزمتهـا‬
‫بالتحـري عـن الدقـة‪ ،‬إن الدقـة ليسـت فضيلـة مني‪ ،‬وإنمـا هـي واجـب كمـا‬
‫يقـول أحـد أسـاتذة التاريـخ‪ 2 2.‬بهـذا املعيـار تعاملـت مـع وثائـق البوليـس‪ .‬إن‬

‫‪2. Edward Hallet, Carr: What is History? Random House of Canada, Toronto,‬‬
‫‪vintage.‬‬
‫ذ‌ذ‬ ‫ديهمت‬

‫الوثيقـة‪ ،‬كمـا يقـول كار‪ ،‬ال تعطـي أكثر ممـا فكـر فيه منئش هـذه الوثيقـة‪ ،‬ماذا‬
‫كان يـدور بذهنـه بشـأنها وأي حافـز حفـزه لوضعهـا‪ ،‬ومـا هـي ثقافتـه‪ ،‬القيـم‬
‫التي يأخـذ بهـا‪ .‬علـى هذا األسـاس فكـرت طويلا يف كل مـا أنقله عـن البوليس‬
‫أو عمـن تعـاون مـع البوليـس‪ ،‬وسـعيت إىل أن أزن كل مصـدر اسـتقيت منـه‬
‫بموازيني هـذه‪ ،‬وحنـن يف هـذا ال نرتكـب أمـرا إدا‪ .‬إن الواقعـة ال تتحـدث إال متى‬
‫مـا دعاهـا املـؤرخ‪ ...‬وهـو وحـده الـذي يقـرر أيا مـن الوقائع التي يريد أن يفسـح‬
‫لهـا يف املجـال وبـأي نظـام وأي محتـوى‪.‬‬
‫لكـي نضـع القـارئ الكريـم علـى مقربـة مـن املنهـج الـذي سـلكناه وحنـن‬
‫نت�ابـع احلديـث عـن احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬بودنـا أن نوضـح باختصـار‬
‫شـديد بعـض النقـاط اجلوهريـة‪ .‬رغـم أن املجتمـع العـرايق قـد انقسـم‪ ،‬شـأن‬
‫املجتمعـات األخـرى التي سـارت يف طريـق التطـور الرأسـمايل‪ ،‬إىل طبقـات‬
‫اجتماعيـة‪ ...‬إال أن هـذا االنقسـام جرى واليزال جيـري بوتائر متفاوتة من حيث‬
‫سـرعتها والظـروف االقتصاديـة والسياسـية واالجتماعيـة التي أحاطـت بهـا‪.‬‬
‫وتقترن بهـذا االنقسـام عمليـة أخرى مـن احلـراك االجتماعي تدفع لهـا عوامل‬
‫مختلفـة قـد يكـون بعضهـا اعتب�اطيـا بـكل معنى الكلمة مثلمـا هو جـار اآلن‪ .‬إن‬
‫العمليتين تت�داخالن ببعضهمـا‪ ،‬وختلقان «جيوبا» اجتماعيـة‪ ،‬وأثارا‪ ،‬تتفاوت‬
‫مـن حيـث حدتهـا وسـعتها وعمقهـا‪ .‬فمـا مـن طبقـة قـد اسـتقرت يف مكانهـا‪،‬‬
‫فالزالت هنالك تداخالت يف االنقسـام الطبقي من حيث النشاط االقتصادي‬
‫والعـادات والثقافات والسـكن واأليديولوجيا عامـة‪ .‬ولعلنا ال خنطئ إذا قلنا إن‬
‫كثيرا مـن اخلالفـات الفلسـفية واإليديولوجيـة واملواقـف السياسـية لـم تأت‬
‫دائمـا بفعـل الفـوارق الطبقيـة وحدهـا‪ ،‬وإنمـا بفعـل التعصـب لذاتهـا أيضا‪.‬‬
‫علـى هـذا األسـاس‪ ،‬جـاء احلـزب الشـيوعي العـرايق ليـس فقـط ثمـرة‬
‫التـوزع الطبقي‪ ،‬ونشـوء وتطور الصراعات الطبقيـة وحدها‪ ،‬وحاجتها إىل إجياد‬
‫املعبر االجتماعـي عنهـا‪ ،‬وإنمـا جاء أيضـا وليد البيئـ�ة السياسـية ‪ -‬االجتماعية‬
‫التي تكونـت يف العـراق طبقـا للعوامـل االقتصا‪-‬اجتماعيـة والسياسـية‬
‫والتأثيرات القوميـة‪ .‬إن احلزب هـو ابن هذه البيئ�ة االجتماعيـة وعصبي�اتها‪...‬‬
‫جـاء وهـو حيمل مزاياهـا وعيوبها‪ ...‬حقا إن العامل الـذايت هو من طبيعة العامل‬
‫املوضوعـي‪ ،‬وإذا كان قـد تبىن النظرية الماركسـية مـن أجل أن يطور وعيه على‬
‫النحـو الـذي جـرى وحـدد وحيـدد أهدافـه وفـق تعاليمهـا‪ ،‬فلا ننسى أن ثقافـة‬
‫احلـزب العامـة تظـل رهنـا بتطـور ثقافـة املجتمـع العامة أيضـا‪ ...‬بهذا الشـكل‬
‫ينبغـي أن ننظـر إىل تصرفـات المـايض‪« ...‬هـا الكعـك مـن هـا العجني»!‬
‫واحلـزب الشـيوعي العـرايق بعـد هـذا وليـد بيئـ�ة لـم تتعـرف علـى‬
‫الديمقراطيـة بمعناهـا احلقيقـي‪ .‬وليـد بيئـ�ة اجتماعيـة ظـل احلاكمـون فيهـا‬
‫ديهمت‬ ‫ر‌ر‬

‫يلجـأن دائمـا إىل العنـف يف تعاملهـم مـع الشـعب‪ .‬وسـيلمس القـارئ مـن‬
‫متابعـة األحـداث أن الطبقـات احلاكمة كانت هـي اليت تضيق ذرعـا باحلريات‬
‫وممارسـة الديمقراطيـة‪ .‬إذ مـا إن تضطرهـا األوضـاع العامة‪ ،‬وخشـية احتدام‬
‫الصراعـات واخلـوف علـى املصالـح‪ ،‬إىل إجـراء بعـض التنفيسـات فيخـرج‬
‫الشـعب‪ ،‬والشـيوعيون يف صفوفـه األوىل‪ ،‬إىل ممارسـة حرياتـه‪ ،‬وهـي يف‬
‫الغالـب ال تعـدو أن تكـون كلمـة تنشـر علـى ورق أو مظاهـرة وحتشـد جماهيري‬
‫أقصى مـا يفعـل الفرد فيهـا أن يهتف بشـعار‪ ...‬بكلمات ليـس غري‪...‬حىت ييجء‬
‫الـرد يف صـورة رصـاص حيصـد أرواحـا دون تعيين‪ ...‬أويف صـورة سـجون تطبق‬
‫علـى الذيـن حيشـرون فيهـا أو مشـانق تقـام يف السـاحات‪ ...‬حىت جـاء زمن صار‬
‫احلديـث عـن العنـف ينطوي علـى أقىس وأقىص صـور الرعب‪ ...‬الشـيوعيون‬
‫ليسـوا مـن عشـاق العنـف‪ ،‬وإذا كانـوا قـد مارسـوه يومـا فلكـي يـردوا فيـه علـى‬
‫عنـف جـار عليهـم كثيرا‪ ،‬حتى لـم يعـودوا يطيقـون صبرا عليـه‪ .‬هـذه احلقيقة‬
‫يسـعى املؤلـف إىل التدليـل عليهـا ولكن عبر األدلـة والوثائق ومع ذلـك‪ ،‬فهو لن‬
‫يغـض الطـرف عن عنـف ارتكبه الشـيوعيون جتـاه ابريـاء مهما كانـت دوافعه‪،‬‬
‫والظـروف التي احاطـت بـه‪ .‬فالعنـف من هـذا النوع يظـل مدانـا يف رأي املؤلف‬
‫يف كل األحـوال‪.‬‬
‫ويجرنـا هـذا احلديـث إىل احلديـث عـن املـؤرخ واملوضوعيـة‪ .‬يقـول‬
‫بطاطـو يف مقدمـة كتابـه عـن الطبقـات االجتماعيـة القديمـة واحلـركات‬
‫الثوريـة يف العـراق‪« :‬ربمـا اسـتحالت كتابـة تاريـخ حـزب شـيوعي مـا مـن دون‬
‫أن يكـون الكاتـب إمـا مواليـا للشـيوعية آو معاديا لهـا» ويضيـف إىل ذلك قوله‬
‫«هنالـك التاريـخ يف أي عمـل تاريخي يقوم به كائـن من كان‪ ،‬ولكـن هناك أيضا‬
‫يشء مـن ذات املؤلـف يف هـذا العمـل دومـا‪ ،‬وهو أمـر ال يمكن جتنبـ�ه»‪ .‬إذن حنن‬
‫هنـا أمـام مطـب كبير‪ ...‬كيـف يمكـن أال يسـمح املؤلـف لذاتـه أن تلـون حقائق‬
‫التاريـخ التي يوردهـا بلونـه هـو‪ ...‬السـيما إذا كان هـو نفسـه مـن لـون احلـزب‬
‫الـذي يكتـب عنـه وأمضى جـل عمـره يف صفوفـه؟ هـل حقـا ال يسـتطيع املؤرخ‬
‫أن يكـون موضوعيـا تمامـا حين يعالـج تاريـخ حزبـه؟ إن كتابة التاريخ ليسـت‬
‫سـوى فرصـة تت�أمـل احلركـة سيرتها مـن خاللهـا‪ .‬إذن‪ ،‬فمـن مصلحـة احلركة‬
‫اجلـادة أن حتصـل علـى فرصـة كهذه‪ ،‬أن تت�أمل نفسـها من خلال عني فاحصة‬
‫دقيقـة الرؤيـا تضـع يدها جبـرأة علـى مواطن الضعـف والقوة يف هـذه التجربة‪.‬‬
‫وعلـى هـذا‪ ،‬فاملوضوعيـة واجلـرأة يف تنـ�اول القضايـا العقديـة التي دار بشـأنها‬
‫جـدل وحظيـت بأحكام حـادة االختالف‪ ،‬تغـدو من مصلحة احلركـة ذاتها‪ .‬من‬
‫هـذا املنطلـق أعتقـد أن املؤلـف يلتقي تمامـا مع نهـج احلزب الشـيوعي العرايق‬
‫الـذي أخـذ نفسـه باحلـزم منـذ املؤتمـر اخلامـس‪ ،‬وانتهـج سـبي�ل املكاشـفة‬
‫الصرحيـة يف كل سياسـاته‪.‬‬
‫ز‌ز‬ ‫ديهمت‬

‫ثمـة أمـور أخـرى نـود التوقـف عندهـا قليلا‪ .‬سـيجد القـارئ أننـ�ا تن�اولنا‬
‫األحـداث السياسـية التي عاشـتها البلاد‪ ،‬قبـل وبعـد نشـأة احلزب الشـيوعي‬
‫العـرايق‪ ،‬بتفصيـل كبير‪ .‬لقـد فعلنـا ذلـك مـن أجـل أن نوفـر للقـارئ فرصـة‬
‫احلكـم بوضـوح علـى سياسـات احلـزب حيـال القضايـا التي جنمـت عـن هـذه‬
‫األحـداث‪ .‬إن كثيرا من األمور واملشـاكل السياسـية التالية قد حتددت أسسـها‬
‫يف الواقـع علـى تلـك األرضيـة مـن السياسـات واملواقـف اليت فرضتهـا الهيمنة‬
‫االسـتعمارية علـى البلاد‪ .‬خـذ القضيـة الكرديـة علـى سـبي�ل املثـال‪ .‬إن املرء ال‬
‫يمكـن أن يتفهـم سياسـات األطـراف املختلفـة منهـا يف الوقـت الراهـن ويتبني‬
‫عدالـة هـذا املوقـف أو ذاك إذا لم يعد إىل السياسـات اليت أرسـيت بشـأنها أيام‬
‫االنتـ�داب الربيطـاين ومـا انطـوت عليـه بشـأنها اتفاقيتـ�ا سـيفر ولـوزان من بعد‬
‫والصراعـات السياسـية التي دارت حولهـا‪ ...‬الـخ‪.‬‬
‫أمـر آخـر‪ ...‬دار جـدل‪ ،‬السـيما يف السـنوات األخرية‪ ،‬محـوره أن ال ضرورة‬
‫النبثـ�اق حـزب شـيوعي يف العـراق إذ أن املجتمـع العـرايق لم يشـهد تكـون طبقة‬
‫عاملـة ذات مصالـح طبقيـة محـددة واضحـة تدفـع إىل ظهـور مـن يعبر عنهـا‬
‫سياسـيا يومـذاك‪ .‬لـن ندخـل هنـا يف جلـة هـذا اجلـدل لنضـع حتديـدا للفترة‬
‫التي أخـذت الطبقـة العاملـة العراقيـة يف الظهـور فيهـا‪ ..‬لكننـ�ا نشير فقـط إىل‬
‫أن النقـايب األول يف العـراق‪ ،‬محمـد صالـح القـزاز‪ ،‬قـد حـدد منـذ شـباط ‪1933‬‬
‫يف رسـالة لـه إىل سـكرتري االحتـاد العالمي لنقابـات العمـال يف برلين‪ ،‬إىل أن‬
‫احلركـة العماليـة يف عهـده قد مـرت بثلاث مراحـل كانت األوىل منهـا قد بدأت‬
‫يف عـام ‪ 1924‬بـأول محاولـة لتأسـيس منظمـة عماليـة لتنتهـي يف عـام ‪1929‬‬
‫بت�أسـيس بعـض اجلمعيـات التي دشـنت حسـب رأيـه بدايـة املرحلـة الثانيـ�ة‬
‫التي انتهـت يف عـام ‪ 1931‬لتبـ�دأ الثالثـة‪ 3 3.‬وأبعـد مـن هـذا‪ ،‬يف عـام ‪1936‬‬
‫شـرع قانـون خـاص حيـدد حقـوق العمـال واألحـكام بشـأن املنازعـات العماليـة‬
‫وشـروط العمـل وغريهـا‪ ،‬هـو القانـون رقـم ‪ 72‬لسـنة ‪ ، 1936‬فمـا السـر إذن يف‬
‫أن تقـدم احلكومـة علـى تشـريع قوانين للعمـال إذا لـم يكـن هـؤالء قـد وجـدوا‬
‫وصـاروا يؤلفـون طبقـة محـددة لهـا ظـروف عملهـا وحصتهـا مـن التوزيـع‪...‬‬
‫الـخ؟ وعلـى خلاف املحـاوالت التي جـرت لتكويـن األحـزاب الشـيوعية يف‬
‫بعـض البلـدان العربيـ�ة سيرى القـارئ أن احلركة الشـيوعية يف العـراق وحزبها‬
‫الشـيوعي قـد انبثقـا مـن صميم املجتمـع العـرايق كتعبري عن حاجـة موضوعية‬
‫اقتضاهـا التعبير عن احتجـاج الكادحين‪ ،‬ويف مقدمتهم العمـال‪ ،‬إزاء األوضاع‬
‫التي صاروا يعيشـونها‪ .‬لقد جرت محـاوالت عديدة إلفناء احلركة الشـيوعية‪،‬‬

‫‪ .3‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬الطبقــة العاملــة العراقيــة ‪ -‬التكــون وبدايــات التحــرك‪ ،‬دار‬
‫الرشــيد للنشــر‪ ،‬بغــداد‪.1981،‬‬
‫ديهمت‬ ‫س‌س‬

‫وقـد اقرتنـت هـذه املحـاوالت بعمليـات تصفيـة جسـدية واسـعة‪ ...‬ومـع ذلك‬
‫ظـل احلـزب الشـيوعي يواصـل نضالـه بعناد يثير الدهشـة حقا‪ ...‬فمـاذا يعين‬
‫أن تقـدم حركـة مـا التضحيـات الهائلـة دون أن تتوقـف‪ ،‬أال يعبر هـذا حقـا عـن‬
‫حاجـة موضوعيـة‪...‬؟‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جزأنـا املوضـوع الـذي نبحثـه إىل ثلاث مراحـل‪ .‬وخصصنـا جـزءا واحـدا‬
‫مـن الكتـاب الـذي نضعـه لكل مرحلـة‪ .‬اي أن كتابن�ا هذا سـيكون بثلاثـة أجزاء‪.‬‬
‫ولـم حنـدد هذه املراحـل اعتب�اطا‪ ،‬وإنما بدأنـا كل واحدة منها بت�أسـيس طور من‬
‫أطـوار حيـاة احلـزب‪ ،‬يتميز كل واحـد منهـا بتغير شـامل يف أوضاعـه وتكوينتـ�ه‬
‫القياديـة‪ .‬شـمل اجلـزء |ألول دراسـات أوضـاع البلاد االجتماعية والسياسـية‬
‫واالقتصاديـة والعوامـل التي دفعـت إىل انبثـ�اق احلـزب الشـيوعي والظـروف‬
‫التي أدت إىل تفككـه ثـم إعادة تأسيسـه حىت عـام ‪ ،1949‬وانتهـت هذه املرحلة‬
‫بإعـدام فهـد وقائـدي احلـزب اآلخريـن وتصفيـة مجموعـة مـن املراكـز التي‬
‫توالـت إلدارة نشـاطه حىت اسـتطاع أن يصمد بوجه الضربـات اليت وجهت له‪.‬‬
‫وهـي مرحلـة تتكامـل من حيث أحداثها وشـعاراتها وقيادتهـا‪ ،‬ومن حيث تطور‬
‫الوعـاء االجتماعـي الـذي حترك احلـزب يف إطاره‪ .‬ويتنـ�اول اجلزء الثـاين املرحلة‬
‫التاليـة مـن حيـاة احلـزب ونضاالتـه التي تبـ�دأ مـع استرداد احلـزب عافيتـ�ه‬
‫ونهوضـه مـن جديـد ملقارعـة االسـتعمار والرجعيـة حتى انتصـار ثـورة الرابـع‬
‫عشـر مـن تمـوز‪ ،‬ودوره فيهـا‪ ،‬والسـنوات األربع التي تلتها حىت انقالب شـباط‬
‫عـام ‪ 1963‬ومـا اقترن بـه مـن إرهـاب وتصفيـات أتـت علـى معظـم عناصـر‬
‫قيادتـه وكادره‪ .‬أمـا اجلـزء الثالـث فيتنـ�اول تاريـخ احلـزب حتى عـام ‪1993‬‬
‫حيـث انعقـد املؤتمـر اخلامس وجاء بقيادتـه اجلديدة اليت تقـود نضاله الراهن‬
‫ودشـن أوضاعـا جديـدة مـن حياتـه‪ .‬واملرحلـة الثالثـة‪ ،‬كمـا سـيالحظ القـارئ‪،‬‬
‫تكـون وحـدة خاصـة بأحداثهـا وسياسـاتها وقياداتهـا‪ ..‬الـخ‪ .‬ويف إطـار املراحـل‬
‫الثلاث سـتكون هنـاك فترات خاصـة تتب�ايـن مـن حيـث أحداثهـا وشـعاراتها‬
‫وسياسـاتها وسـيجري تنـ�اول كل واحدة منها بالدراسـة والتحليـل دون أن يعين‬
‫ذلـك أننـ�ا سـنضع لهـا حـدودا فاصلـة تفصلها عـن بعضهـا كلية‪.‬‬
‫ال أحسـب أن مـا وضعتـه‪ ،‬برغـم كل التفاصيـل التي أوردتهـا‪ ،‬قـد جـاء‬
‫بالصيغـة النهائيـ�ة لتاريـخ احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ .‬فلان حيـاة احلـزب قـد‬
‫انطـوت علـى أوجـه عديـدة‪ ،‬وألن مواقفـه سـتظل موضـع جـدل‪ ،‬فسـيبقى‬
‫هنـاك متسـع لـكل مـن يريـد أن يـديل بدلـوه‪ ...‬وميـاه البئر فـوارة وعذبـة‪ ،‬وال‬
‫تبخـل علـى مـن يستزيد‪ ،‬ويف ظني أن خير مـا يفعله مـن يـؤرخ لهذا احلـزب أن‬
‫يتنـ�اول بتخصيص وتفصيل وتدقيق أكثر وبفكر يتحرر من أي نزعة لالنغالق‪،‬‬
‫والبحث عن السـبل السـهلة يف قراءة الوقائع واألحـداث‪ ،‬يف مواقف ونضاالت‬
‫ش‌ش‬ ‫ديهمت‬

‫وشـخصيات احلـزب يف الفترات املختلفـة‪ .‬وسـيؤلف كل كتـاب يف واحـدة مـن‬


‫هـذه‪ ،‬إضافـة جديـدة يف توضيـح املسيرة املجيـدة لهـذا احلـزب‪ ،‬يف جناحاتهـا‬
‫الباهـرة‪ ،‬وإخفاقاتهـا اخلطيرة‪.‬‬
‫أنصـرف اآلن إىل وضـع اجلزئين التاليين‪ ،‬وأعـرف أنهما أكرث ما يتشـوق‬
‫إليـه القـارئ لمـا تضمنتـ�ه املرحلتـان التاليتـ�ان مـن عقـد دار ويـدور حولهـا كثري‬
‫مـن النقـاش‪ ،‬وأعـرف أنهما سـيكونان أشـق علـى التحليـل والتقييـم‪ ...‬وهاهنا‬
‫ربمـا يمتدحني البعـض ولكـن سيسـخط علـي آخـرون وال شـك‪ ...‬لكنني‪ ،‬كما‬
‫القـارئ‪ ،‬سـأقول قولتي بعـد أن أكـون قـد فكـرت طويلا بمـا يـريض‬ ‫ً‬ ‫وعـدت‬
‫احلقيقـة أوال‪.‬‬
‫شــكر و امتنان‬

‫أود أن أعبر عـن شـكري وامتنـ�اين العميـق إىل كثري من األصدقـاء والرفاق‬
‫الذيـن سـارعوا إىل دعـم املشـروع الـذي أقدمـت عليه منـذ حلظاتـه األوىل‪ .‬لقد‬
‫اسـتضافين الكثيرون يف بيوتهـم‪ ،‬وسـعوا إىل أن يوفروا يل كل ما احتاجه لتيسير‬
‫التقـايئ بمـن أشـاء‪ ،‬وخصـص يل العشـرات مـن السـادة والسـيدات فـرص‬
‫االلتقـاء بهـم لسـاعات طويلـة‪ ،‬وبعضهـم امتـد احلديـث ألكثر مـن يـوم‪ ،‬رغـم‬
‫مشـاغله الكثيرة‪ ،‬وكان حيدثني بعضهـم وهـو يعـاين مـن اآلالم املمضـة أو مـن‬
‫أوضـاع صحيـة غري مناسـبة تماما‪ ،‬وكانـت تتوزعين الرغبـة يف متابعة احلديث‬
‫واسـتجالء أكثر مـا يهمني مـن األمـور‪ .‬واإلشـفاق علـى صحـة محـديث وأسـفي‬
‫العميـق علـى احلـال اليت وضعـت صاحيب فيه‪ ...‬ولـن أنىس هنا آن أشير إىل أن‬
‫احلالـة التي كان حيدثني فيها الراحـل عامر عبد هللا وهو يغالـب اآلالم ليواصل‬
‫مـا انقطـع مـن حديـث‪...‬أو إىل عـادل حبـه وهـو يعـاين مـن أوجـاع القلـب‪ ...‬أو‬
‫عمـر علـى الشـيخ الـذي ظـل يواصـل احلديـث معـي وهـو يف وضـع صحي غير‬
‫مريـح لثالثـة أيـام‪ .‬وال أنسى كيـف كانـت تصـر الدكتـورة نزيهـة الدليمي علـى‬
‫أن جتمـع بين احلديـث وتقاليـد الضيافـة الشـرقية‪ .‬وال يسـعين إال أن أشير إىل‬
‫اللقـاء احلـار الـذي جمعني ثانيـ�ة باألسـتاذ جلال الطالبـاين بعـد العمل سـوية‬
‫يف جريـدة النـور قبـل ثالثة عقـود وانصرافـه يل لسـاعات طويلة رغم مشـاغله‬
‫السياسـية الكثرية يف قره جوالن‪ .‬ال يسـعين هنا أن أعدد أفضال العشـرات من‬
‫األصدقاء‪ ...‬ولكنين سـأورد أسـماء جميع الذين التقيتهـم وحدثوين يف اجلدول‬
‫اخلـاص باملقابلات الـذي سـيجده القـارئ يف موضـع آخـر مـن الكتاب‪.‬‬
‫ويطيـب يل بوجـه خـاص أن أشـيد باملالحظـات واألفـكار التي أبداها كل‬
‫مـن الدكتـور ثابـت عبـد هللا‪ ،‬أسـتاذ التاريـخ جبامعـة يـورك يف كنـدا‪ ،‬والدكتور‬
‫غانـم حمـدون‪ ...‬لقـد سـعى كالهمـا‪ ،‬واليـزاالن‪ ،‬إىل أن يمدانني باملقرتحـات‬
‫ص‌ص‬
‫ض‌ض‬ ‫������������‬

‫واملالحظـات‪ .‬ولكـن أهـم املالحظـات والتدقيقـات التي وردتني جـاءت مـن‬


‫صديقـي العزيـز عبـد الـرزاق الصـايف‪ .‬لقـد قرأ أبـو مخلـص وبت�دقيقـه املعروف‬
‫مسـودة اجلـزء األول مـن سـطرها األول حتى أخـر كلمـة فيهـا ونبهني إىل كثير‬
‫مـن األمـور‪ ،‬ولـم ينقطـع عـن قـراءة كل مـا كنت أرسـله له حتى وهو يمـر بوضع‬
‫نفسي صعـب ويـودع الفقيدة رجاء وهـي يف حلظاتها األخرية‪ .‬فـإىل الرفيق عبد‬
‫الـرزاق الصـايف كل الشـكر والتقديـر‪.‬‬
‫ً‬
‫أخيرا‪ ،‬ال يسـعين وأنـا أذكـر للذيـن يواصلـون عونهـم وأفضالهـم على أن‬
‫أشـيد حبـب خـاص بالـدور الذي نهضـت وتنهض به زوجتي العزيزة ليلــى اليت‬
‫آلـت علـى نفسـها ومنـذ اللحظـة األوىل اللتزايم بالعمـل أن توفـر يل أقصى مـا‬
‫تسـتطيعه مـن وضـع يسـاعد علـى العمـل الـدؤوب‪ ،‬وإصرارهـا علـى أن تقـرأ‬
‫معـي املصـادر لتنبهني إىل هذه النقطـة أو تلك وتدقـق كل ما أضعـه على الورق‬
‫مـادة ولغـة‪ ،‬وإعادة قراءة املسـودات ألكثر من مرة لئال تفلت زلـة هنا أو هناك‪،‬‬
‫فإليهـا وإىل إبني زيــاد الـذي وضع كل معارفـه وخرباتـه يف التكنلوجيا يف خدميت‬
‫شـكري وحيب‪.‬‬

‫‪ 10‬شباط ‪2001‬‬
‫‪1‬‬
‫العــراق‪ :‬كيان سياســي جديد‬

‫شـهدت األرايض الواقعـة مـا بين نهـري دجلـة والفـرات ومـا حييـط بهما‬
‫عديـدة‪ ،‬ونشـأت فيهـا كيانـات‬ ‫وبروافدهمـا منـذ أقـدم العصـور حضـارات ً‬
‫سياسـية ودول ً مختلفـة كان يمتـد نفوذهـا غالبـا إىل أبعـد مـن هـذه املناطـق‪،‬‬
‫وينحصر أحيانا يف إطار هذه األرايض أو حىت إىل بعض منها‪ .‬وتعددت األسماء‬
‫التي ً أطلقـت عليهـا؛ حتى األسـم الواحـد عبر أحيانـا عـن مضامين مختلفـة‬
‫تبعـا لألغـراض السياسـية‪ .‬ولـم يكـن هنـاك دائمـا اتفـاق لـدى املؤرخين علـى‬
‫احلـدود السياسـية للكيانـات التي نشـأت عليهـا‪ ،‬إذ كانـت هـذه احلـدود تمتـد‬
‫أو تنكمـش تبعـا للقـوة التي كانت تمتلكهـا الدولـة القائمة عليها‪ ،‬وقـد تب�اينت‬
‫هـذه التحديـدات حتى يف العصـور احلديثـ�ة‪.‬‬
‫فحين فتـح العرب أرض السـواد يف القرن السـابع امليالدي أطلقوا اسـم‬
‫«عـراق العـرب» علـى األرايض التي تقـع جنـوب اخلـط املمتـد مـن شـمال بلد‬
‫عنـد نهـر دجلة حتى الصقالويـة أو الرضوانيـ�ة على نهـر الفـرات‪ ،‬وكان هذا هو‬
‫اخلـط الفاصـل مـا بين بلاد بابـل أو «كلديـا»‪ ،‬كمـا تدعوهـا التـوراة‪ ،‬ومملكـة‬
‫امليديين‪1 1 .‬وأطلـق املؤرخـون اإلسلاميون‪ ،‬فيمـا بعـد‪ ،‬اسـم «عـراق العجـم»‬

‫‪ .1‬ويب ـ�دو أن ســورا مــن الطــن كان يقــوم عنــد هــذا اخلــط‪ .‬ويقــول مرتجــم كتــاب هــري‬
‫فوســر (نشــأة العــراق احلديــث) يف تعليقــه علــى مــا ورد لــدى املؤلــف حــول هــذا الســور إنــه‬
‫«مبــي مــن اللــن ومدعــم بأبــراج نصــف دائريــة‪ ،‬والشــائع أن نبوخــذ نصــر هــو الــذي بن ـ�اه‬
‫ليكــون حــدا فاصــا بــن أمالكــه ومملكــة امليديــن الــي قامــت يف شــمال إيــران وامتــدت إىل‬
‫العــراق‪ .‬وقــد كشــفت مديريــة اآلثــار العامــة قبــل ســنوات أجــزاء مــن هــذا الســور»‪ .‬هــري‬
‫فوســر‪ ،‬نشــأة العــراق احلديــث‪ ،‬ترجمــة وتعليــق ســليم طــه التكريــي‪ ،‬اجلــزء األول‪ ،‬الفجــر‬
‫للنشــر والتوزيــع‪ ،‬الطبعــة األوىل‪ ،‬بغــداد‪ 1989 ،‬ص‪.13‬‬
‫‪45‬‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪46‬‬

‫علـى األرايض التي تمتـد إىل الشـمال مـن هـذا اخلـط ‪ 2 2‬شـريق نهـر دجلـة‪،‬‬
‫وعرفـت األرايض املحصورة ما بني دجلة والفرات شـمال اخلط باسـم اجلزيرة‬
‫أو جزيـرة املوصـل أو ديـار مضـر‪ .‬وعلـى العمـوم‪ ،‬ظلـت بغـداد منـذ أن مصرهـا‬
‫اخلليفـة العبـايس الثـاين‪ ،‬أبـو جعفـر املنصـور‪ ،‬مركـزا للعـراق‪ ،‬واختـذ احلـكام‬
‫الذيـن تعاقبـوا علـى حكـم البلاد منهـا عاصمـة حلكمهـم إال لفترة قصيرة‪.‬‬
‫حين احتـل العثمانيـون العـراق اعتبروه يف البـدء ايالـة واحـدة‪ ،‬لكنهـم‬
‫عمـدوا مـن بعـد إىل تقسـيمها إىل واليـات ثلاث رغـم أن حـدود هـذه الواليـات‬
‫كانـت عرضـة للتغيير‪ .‬ومـع ذلـك احتفظـت بغـداد بموقـع خـاص‪ .‬ويف كثير‬
‫مـن األحيـان كان وايل بغـداد يبعـث بقواتـه لضـرب املتمرديـن علـى الدولـة يف‬
‫الواليـات األخـرى‪ ،‬أو كان وايل بغـداد يعين «متسـليم» البصـرة أو كركـوك‬
‫أو املوصـل أو إمـارة بابـان؛ كمـا كان حيـدث أن يتـوىل وايل بغـداد احلكـم كذلـك‬
‫يف واليـة أخـرى يف ذات الوقـت‪ .‬وقـد يعين السـلطان العثمـاين قائـدا واحـدا‬
‫ملجمـوع قواتـه العسـكرية يف العـراق ويتخـذ مـن بغـداد مقـرا لـه‪ .‬ويالحظ هنا‬
‫أن مصطلـح «العـراق» كان جيـري تداولـه بين النـاس لوصـف البلاد عامـة‪،‬‬
‫أي حين جيـري احلديـث عـن الواليـات كلهـا‪ 3 3 .‬أمـا الربيطانيـون فقـد تعاملـوا‬
‫مـع االسـم تعاملا خاصـا‪ ،‬ولـم تكـن حـدوده وحدهـا موضـع أخـذ ورد تبعـا‬
‫ملصاحلهـم وسياسـاتهم اخلاصـة‪ ،‬وإنما حىت اسـم البالد ذاته تعـرض للتغيري‪.‬‬
‫فقبـل احتاللهـم لـه كانوا يدعونه بــ «بالد العـرب الرتكية»‪ .‬ثم صـاروا يدعونه‬
‫باالسـم اإلغريقـي «ميسـوبوتاميا» أي مـا بين النهريـن‪ ،‬ومنـذ احتاللهـم‬
‫املوصـل بعـد انسـحاب القـوات الرتكيـة عنها صـار «العـراق» هو االسـم الذي‬
‫‪44‬‬
‫يت�داولونـه رسـميا يف مكاتب�اتهـم وتصرحياتهـم‪.‬‬

‫‪ .2‬شــاكر خصبــاك‪ ،‬الكــرد واملســألة الكرديــة‪ ،‬الطبعــة األوىل‪ ،‬مطبعــة الرابطــة‪ ،‬بغــداد‪،‬‬
‫ص ‪ .15-13‬أنظــر كذلــك‪ :‬طــه باقــر‪ ،‬مقدمــة يف تاريــخ احلضــارات القديمــة‪ ،‬الوجــز يف‬
‫تاريــخ حضــارة وادي الرافديــن‪ ،‬دار الشــؤون الثقافيــة العامــة‪ ،‬الطبعــة الثانيــ�ة‪ ،‬بغــداد‪،‬‬
‫اجلــزء األول‪ ،1986 ،‬ص‪.14-10‬‬
‫‪ .3‬يــرد هــذا املصطلــح يف مواضــع عديــدة مــن كتــاب ابــن ســند «مطالــع الســعود يف أخبــار‬
‫الــوايل داود» املؤلــف يف عشــرين�ات القــرن التاســع عشــر‪ .‬أنظــر علــى ســبي�ل املثــال ص‬
‫‪ 366‬مــن كتــاب‪ :‬عثمــان بــن ســند الوائلــي البصــري‪ ،‬مطالــع الســعود‪ ،‬تاريــخ العــراق مــن‬
‫ســنة ‪ 1826 - 1774‬م‪ ،‬حتقيــق الدكتــور عمــاد عبــد الســام رؤوف وســهيلة عبــد املجيــد‬
‫القيــي‪ ،‬الــدار الوطني ـ�ة للنشــر والتوزيــع‪ ،‬بغــداد‪ ،‬مطبعــة دار احلكمــة‪ ،‬املوصــل‪.1991،‬‬
‫‪ .4‬أيرالنــد‪ ،‬ف‪.‬و‪ ،‬العــراق‪ ،‬دراســة يف تطــوره الســيايس‪ ،‬ترجمــة جعفــر خياط‪ ،‬دار الكشــاف‪،‬‬
‫بــروت‪ ،1949 ،‬ص‪ .1‬كذلــك آرنولــد ولســن‪ ،‬بــاد مــا بــن النهريــن بــن والءيــن‪ ،‬اجلــزء‬
‫الثــاين‪ ،‬ص ‪.182‬‬
‫‪47‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫خارطة العراق قبل نهاية األحتالل العثماين‬

‫واحلـدود الراهنة للعراق ليسـت هـي احلدود اليت كانـت عليها الواليات‬
‫الثالث‪ .‬فقد ظلت هذه عرضة للتغيري تبعا إىل تغري الو الءات برغم االتفاقيات‬
‫املعقـودة بين الدولتين العثماني�ة والفارسـية‪ .‬كمـا لعبت املصالـح الربيطاني�ة‬
‫النفطيـة دورهـا يف حتديـد تبعيـة إمـارة املحمـرة ومـا حييـط بهـا يف اجلنـوب‪ .‬ويف‬
‫الغـرب ظلـت املناطـق املمتـدة يف أعـايل الفـرات حتى ديـر الـزور واخلابـور بين‬
‫أخـذ ورد تبعـا للعالقـات الربيطانيـ�ة ‪ -‬الفرنسـية ومصالـح الدولتين‪ .‬ودار‬
‫حـول واليـة املوصـل ومسـألة ضمهـا إىل العـراق‪ ،‬وحتديـد احلـدود ما بين تركيا‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪48‬‬

‫والعـراق‪ ،‬صـراع دبلومـايس طويـل يف عصبـة األمـم وخارجهـا‪ ،‬ودار مثله صراع‬
‫آخـر يف بغـداد بين بريطانيـ�ا واحلكام الذيـن نصبوهم يف احلكم أو ممـن كانوا يف‬
‫املعارضـة‪ ،‬واختذت دوائر االسـتعمار الربيطاين من املسـألة ورقـة النزتاع امتي�از‬
‫النفـط وربـط العـراق بمعاهـدة تبعيـة إىل بريطانيـ�ا والقبـول بمبـدأ االنتـ�داب‪.‬‬
‫ومـع أن معاهـدة «سـيفر» التي عقدهـا احللفـاء يف باريـس يف ‪ 10‬آب ‪ 1920‬يف‬
‫بنودهـا الــ ‪ 62‬و‪ 63‬و‪ 64‬قـد أقـرت أن مـن حـق األكـراد الباقني حتت السـيطرة‬
‫الرتكيـة تشـكيل حكومة تتمتـع باحلكم الـذايت وقابلة للتحـول إىل حكومة تامة‬
‫االسـتقالل‪ ،‬وأن مـن حـق األكـراد يف كردسـتان اجلنوبيـ�ة ‪ -‬العـراق أن ينضمـوا‬
‫إليهـا إذا رغبـوا يف ذلـك‪ ،‬إال أن بريطانيـ�ا ظلـت تتغافـل عما ورد يف معاهد سـيفر‬
‫وواصلـت حيال املسـألة سياسـة مراوغـة تبعا لسياسـاتها املرائي�ة جتـاه العراق‬
‫واملنطقة عامة‪ .‬وجاءت معاهدة «لوزان» يف ‪ 24‬تموز ‪ 1923‬لتحسـم مسـألة‬
‫واليـة املوصـل وتقـرر ضمهـا إىل العـراق‪ ،‬ورسـمت لهـذا الغـرض حـدود مؤقتـة‬
‫بني العراق وتركيا عرفت بأسـم «خط بروكسـل» على أن حتسـم عصبة األمم‬
‫مسـألة احلـدود النهائيـ�ة إذا تعذر حلهـا وديا‪ ،‬ولكن حني عرضت املسـألة على‬
‫عصبـة األمـم طبقـا لتوصيـات املعاهدة شـرعت تركيا تماطـل يف األمر وتغيب‬
‫املنـدوب الرتكـي عـن حضـور االجتمـاع الـذي عقـده مجلـس عصبـة األمـم يف‬
‫السـادس عشـر مـن كانـون األول ‪ 1925‬والـذي صـوت باإلجمـاع إىل جانـب‬
‫ضـم الواليـة إىل العراق شـريطة أن يرتبط مع بريطاني�ة بمعاهـدة تضمن بقاءه‬
‫يف ظـل االنتـ�داب الربيطـاين ملـدة خمسـة وعشـرين عامـا‪ .‬وهـذا مـا تـم بالفعـل‬
‫وتمـت معـه مصادقـة «احلكومـة العراقيـة» علـى منـح الشـركات الربيطاني�ة‬
‫امتيـ�از اسـتخراج النفـط يف كركوك‪.‬‬
‫تعـرض العـراق إبـان االحتلال العثمـاين إىل عديـد مـن العوامـل التي‬
‫أثـرت يف حياتـه االقتصاديـة واالجتماعيـة‪ ،‬ودفعـت إىل تأخره كثيرا‪ .‬فربغم أن‬
‫البـداوة الوافـدة مـن صحاريه الغربيـ�ة واليت تمتد حىت إىل أعماق شـبه اجلزيرة‬
‫العربيـ�ة كانـت تضغط عليه باسـتمرار ودونمـا حاجز طبيعي يمنعهـا من ذلك‪،‬‬
‫إال أنهـا يف العهـد العثمـاين فاقـت كل موجاتهـا السـابقة‪ ،‬إذ جاءت بعـد فرتة هي‬
‫مـن أشـد فترات التاريـخ العـرايق ظالمـا‪ ،‬وكان سـكان البلاد ذاتهـم قـد الذوا‬
‫فيهـا بالقيـم البدويـة والعصبيـ�ات القبليـة ضمانـا ألرواحهـم وأموالهـم‪5 5.‬كان‬
‫سـكان العـراق‪ ،‬الـذي لـم يـزد عـن مليـون ومئتين وثمانين ألـف نسـمة يف عـام‬
‫‪ ،6 6 1867‬وجلـه مـن البـدو والرعـاة‪ ،‬خيضـع إىل أحـكام العصبيـ�ة‪ ،‬سـواء كانـت‬

‫‪ .5‬ســتيفن لونكريــك‪ ،‬العــراق احلديــث مــن ســنة ‪ 1900‬إىل ســنة ‪ ،1950‬اجلــزء األول‪،‬‬
‫ترجمــة ســليم طــه التكريــي‪ ،‬الفجــر للنشــر والتوزيــع‪ ،‬بغــداد‪ ،1988 ،‬ص ‪.55‬‬
‫‪ .6‬د‪ .‬محمــد ســلمان حســن‪ ،‬دراســات يف االقتصــاد العــرايق‪ ،‬دار الطليعــة‪ ،‬بــروت‪ ،‬الطبعــة‬
‫‪49‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫عصبيـ�ة قبليـة خـارج املدين�ة أو العصبي�ة لليح أو املدينـ�ة أو الطائفة إذا كان من‬
‫احلضـر‪ .‬وكان أبنـ�اء القبائـل ال يقـرون للدولة وممثليها وعسـكرها بسـلطان إال‬
‫بقـدر مـا كانـت تملـك مـن قـوة إلخضاعهـم ولذلـك كانـت تظـل معهـم يف نـزاع‬
‫ال ينقطـع‪ ،‬وإلخضاعهـم كانـت تلجـأ إىل حتريـض بعضهـم ضـد بعـض؛ بينمـا‬
‫كانـت القبائـل مـن جانبهـا تلجـأ إىل التحالفـات وعقـد االتفاقـات فيمـا بينهـا‪،‬‬
‫وتدخـل يف الزتامـات متقابلـة لتبـ�ادل املسـاعدة للوقـوف بوجـه قـوات الدولـة‪،‬‬
‫وتلجـأ أحيانـا إىل إغـراق األرايض للحيلولـة دون وصـول عسـاكر الدولـة إىل ديار‬
‫القبيلـة‪ .‬ولوقـوع العـراق بني الدولتني املتن�افسـتني العثماني�ة والفارسـية فقد‬
‫ظلـت البلاد‪ ،‬السـيما املـدن‪ ،‬مسـرحا للقتـال مـع ما ينجـم عنه من نهـب وقتل‬
‫وتدمير واضطـراب يف العالقـات والـوالءات‪ .‬كانـت مهمـات الـوالة األساسـية‬
‫حتشـيد القـوى ملهاجمـة الفـرس امتثـ�اال ألوامر السلاطني أو لصـد هجماتهم‪،‬‬
‫وجمـع الضرائـب واألتـاوات مـن القبائل واملـدن إرضاء للسلاطني الذين الحد‬
‫لطلباتهـم وإرشـاء حاشـية القصـر ضمانـا ملراكزهـم‪ ،‬ولإلنفـاق علـى رغباتهـم‬
‫ومالذهـم اخلاصـة‪ ،‬ولـم يكونـوا يولـون البنيـ�ة التحتيـ�ة للبلاد أي اهتمـام إال‬
‫فيمـا نـدر‪ ،‬لذلـك ظـل العـراق يعـاين مـن ختلـف مريـع يف كافـة منـايح احليـاة‪،‬‬
‫فلا طـرق وال مـدارس أو مشـايف‪ .‬لقـد ظلـت بغـداد تسـتقى المـاء مـن دجلـة‬
‫مباشـرة بواسـطة السـقاة حتى أنشـئت أول مضخـة لنقـل المـاء وتوزيعه على‬
‫الـدور املحيطـة بسـرايات احلكومـة عـام ‪ 1907‬أيـام الـوايل حـازم بـك‪7 7 .‬ورغم‬
‫أن أحاديـث كانـت تـدور حـول الثروات الهائلـة التي يمكـن أن تعطيهـا هـذه‬
‫البلاد التي كانـت يومـا ما قبلـة أنظار العالـم كلـه‪ ،‬إال أن العثمانيني لـم يتخذوا‬
‫أيـة خطـوات جـادة للبحـث عنهـا حتى ألغراضهـم اخلاصة‪ .‬لقـد كانـت مواقع‬
‫النفـط يف القيـارة وطوز خرماتو وبابا كركر ونفطخانـة معروفة لدى العثمانيني‬
‫ولـدى األلمـان واإلجنليز منـذ سـبعين�ات القـرن التاسـع عشـر وحىت مـا قبله إال‬
‫أن الدولـة العثمانيـ�ة لـم تعمـل علـى تطويـر اسـتخراجه بنفسـها كمـا لـم تمنح‬

‫األوىل‪ ،1966 ،‬جدول رقم ‪ ،37‬ص‪ ،164‬وجدول رقم ‪ ،40‬ص ‪.171‬‬


‫‪ .7‬لونكريــك‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬هامــش ‪ ،2‬ص‪ .44‬واســتخدمت لنقــل المــاء إىل املحــات‬
‫املزدحمــة بالســكان يف القــرون األخــرة طريقــة خاصــة تقــوم علــى أســاس رفــع المــاء‬
‫بواســطة الدواليــب مــن نهــر دجلــة إىل قنــوات مطليــة بالقــار مرفوعــة علــى عقــود عاليــة‬
‫فتجــري يف الــدروب واملحــات بصــورة منحــدرة حــى تصــل إىل املواضــع الهامــة وتتفــرع عنها‬
‫قنــوات لتصــب يف الســقايات املشــيدة هنــاك‪ .‬ومــن أبــرز تلــك القنــوات تلــك الــي كانــت‬
‫تنقــل المــاء حــى جامــع الكيــاين‪ .‬د‪ .‬طــارق نافــع احلمــداين‪ ،‬مالمــح سياســية وحضاريــة‬
‫مــن تاريــخ العــراق احلديــث واملعاصــر‪ .‬الــدار العربي ـ�ة للموســوعات‪ ،‬بــروت‪ ،1989 ،‬ص‬
‫‪.38‬‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪50‬‬

‫‪88‬‬
‫األوربيين امتيـ�از اسـتخراجه رغـم أنهـم تقدمـوا بطلـب ذلـك‪.‬‬
‫إن اضطـراب األمـن يف البلاد والتدمير الـذي رافـق احلـروب وتـوايل‬
‫األوبئـ�ة وتكـرر الفيضانـات واندثـار قنـوات اإلرواء وانعـدام طـرق املواصلات‬
‫األمينـ�ة واملنتظمـة السـيما يف املناطـق الرسـوبي�ة‪ ،‬والنهـب املتواصـل للفائض‬
‫االقتصـادي املتحقـق يف الزراعـة والرعـي‪ ،‬علـى شـحته‪ ،‬يف صـورة ضرائـب‬
‫وأتـاوات حتـول إىل إسـطنبول‪ ،‬واحنصـار الزراعـة أصلا يف رقـع صغيرة مـن‬
‫األرض حـول املـدن وعنـد صـدور األنهـار وبعـض وديـان وسـهول الشـمال‪ ،‬كل‬
‫هـذه العوامـل تضافرت إلفقـار البالد واحليلولـة دون حتضرهـا وتطورها‪ ٠‬فمن‬
‫مجمـوع مليـون ومئتين وثمانين ألـف نسـمة هـم سـكان البلاد عـام ‪1867‬‬
‫لـم يكـن يسـكن املـدن منهـم سـوى ‪ 310‬ألـف نسـمة‪ ،‬أي ‪ %24‬مـن مجمـوع‬
‫‪99‬‬
‫ا لسـكان‪.‬‬
‫يف أوضـاع كهـذه لـم تكن سـلطة الـوالة لتمتـد إىل أبعـد من حـدود املدن‪.‬‬
‫ومـع ذلـك‪ ،‬فحتى يف املـدن‪ ،‬لـم يكـن األمـن مسـتتب�ا دائمـا‪ .‬فكثيرا مـا تنشـب‬
‫الزناعـات بين املـدن املتجاورة‪ .‬ويف داخل املدن ذاتها‪ ،‬كانت تنشـب نزاعات بني‬
‫يح وأخـر‪ .‬لذلـك كان الفـرد حيتمي بعصبيتـ�ه للحي أو الطائفة أو فروع العشـائر‬
‫فيهـا‪ .‬أمـا يف األريـاف والبـوادي فقـد كانـت إدارة العشـائر مرتوكـة لشـيوخها‬
‫طبقـا لألعـراف السـارية‪10 10 .‬ولم تكـن هناك روابط يمكـن أن توصف على حنو‬
‫مـا بــ «القوميـة» أو «الوطني�ة» يمكن أن جتمع ما بين كل القبائل أو بعضها أو‬
‫مـا بني هذه وسـكان املـدن ملناوأة الـوالة األجانب والدولة التي أولتهم احلكم‪ ،‬و‬
‫تمـردات القبائـل لم حتـدث إال للتخلص من دفع الضرائـب الباهظة أو ردا على‬
‫مظالـم ملتزيم الضرائـب‪ ،‬وهي لـم تكن تنظـر إىل احلكومة كسـلطة ضرورية‬
‫لبسـط األمـن واالسـتقرار‪ ،‬وأنهـا ضـرورة يسـتلزمها خير املجتمـع‪ ،‬وإنمـا تـرى‬
‫فيهـا رمـزا للقهـر والتسـخري‪ ،‬ولذلـك فهـي تنفـر منهـا دائمـا‪ ،‬وتسـعى إىل حـل‬
‫مشـاكلها داخـل القبيلـة الواحـدة ومـا بين القبائـل واحتاداتهـا بعيدا عنهـا‪ .‬وقد‬
‫ورثـت هـذه النظـرة أجيال تاليـة بعيدة‪ .‬إن حالـة كهذه ما كانت تغـري بالتعمري‬
‫واإلنشـاء واالسـتثمار يف الريـف أو املدينـ�ة علـى السـواء‪ ،‬ولهـذا فـإن أغلـب‬
‫املـدن العراقيـة احلديثـ�ة لـم تنشـأ إال مـع تنـ�ايم النشـاط الزراعـي واملتاجـرة‬
‫باملحاصيـل الزراعيـة واحليوانيـ�ة مـن بعـد‪ ،‬يف الثلـث األخير مـن القرن التاسـع‬

‫‪ .8‬لونكريك‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.55‬‬


‫‪ .9‬د‪ .‬محمد سلمان حسن‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬جدول رقم‪ ،40‬ص‪.171‬‬
‫‪ .10‬د‪ .‬عبــد العزيــز ســليمان نــوار‪ ،‬داود باشــا وايل بغــداد‪ ،‬دار الكاتــب العــريب للطباعــة‬
‫والنشــر‪ ،‬القاهــرة‪ ,1968،‬ص ‪.16‬‬
‫‪51‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫عشـر ‪ ،11 11‬عنـد منـازل القوافـل أو حـول املـزارات الدينيـ�ة أو كأسـواق للمتاجـرة‬
‫باملنتجـات الزراعيـة واحليوانيـ�ة حـول قلاع املراكـز العشـائرية أو عنـد املعابـر‬
‫وتقاطـع الطرق‪.‬‬
‫كان يمكـن أن يكـون حكـم داود باشـا (‪ 1831-1817‬م) آخـر املماليـك‬
‫الذيـن حكمـوا العـراق بدايـة مماثلـة لمـا جـرى يف مصـر أيـام محمـد علي باشـا‪،‬‬
‫وأن يعجـل باالسـتقالل الفعلـي الـذي شـرع فيـه عـن الدولـة العثمانيـ�ة‪،‬‬
‫وبسـعيه للحـد من تغلغـل النفـوذ الربيطاين‪ ،‬وبظهـور كيان عصـري جديد لوال‬
‫أن مسـاعي هـذا الـوايل الطمـوح لم يتيسـر لها االسـتقرار املناسـب إال لألربع أو‬
‫اخلمـس سـنوات األخيرة مـن حكمـه وتضافـر عوامـل مثبطـة أخـرى‪.‬‬
‫فقـد اصطـدم أوال بنفـوذ شـركة الهنـد الشـرقية وامتي�ازاتها ورفع شـعار‬
‫«ال توجـد حقـوق أوربيـ�ة يف بغـداد»‪ ،‬وكانت هـذه قد مدت كثريا مـن نفوذها يف‬
‫البلاد‪ .‬وملنازلـة الشـركة اجته إىل إجـراء إصالحات تعينـ�ه يف إقامة حكم مركزي‬
‫قـوي يسـتطيع أن يقـف يف وجـه الشـركة بعـد أن دخـل يف نـزاع جـدي تمثـل يف‬
‫مضاعفـة الرسـوم اجلمركيـة علـى البضائـع الربيطانيـ�ة واعتقـل ريـج‪ ،‬املقيـم‬
‫الربيطـاين ‪ .12 12‬ولكـن إصالحـات داود باشـا اصطدمـت أوال باملؤسسـة القبليـة‬
‫بعصبيتها ونزاعاتها وتمرداتها‪ ،‬وبدسـائس الشـاه اإليراين يف كردسـتان وسعيه‬
‫إلثـارة القبائـل الكرديـة يف العـراق للتمـرد‪ .‬فدفعه هـذا األمر إىل االجتـاه لتكوين‬
‫جيـش قـوي حديـث حيـل محـل عسـكر اإلنكشـارية السـابق‪ .‬فعمـد إىل إعـادة‬
‫تنظيـم جيشـه وفـق النظـم املعمول بهـا يف اجليـوش احلديث�ة وجاء سـعيه هذا‬
‫يف اتفـاق مـع خطـة الدولـة العثمانيـ�ة ذاتهـا إلعـادة تنظيم جيشـها وفـق النظم‬
‫احلديثـ�ة‪ .‬كذلـك عمـد إىل تصفية نظـام االمتيـ�ازات الذي كان عبئـ�ا ثقيال على‬
‫التجـارة املحليـة‪ ،‬واحتكـر شـراء وتصديـر احلاصالت الرئيسـية التي تت�اجر بها‬
‫‪ .11‬لقــد نمــا معــدل املجمــوع اإلجمــايل لقيــم جتــارة التصديــر (ومعظمهــا مــن املــواد الزراعية‬
‫واحليوانيـ�ة) مــن ‪ 147‬ألــف دينـ�ار للفــرة مــا بــن ‪ 1864‬و‪ 1871‬إىل ‪ 583‬ألــف دينـ�ار للفــرة‬
‫مــا بــن ‪ 1872‬و‪ 1879‬وإىل مليــون و‪ 272‬ألــف مــا بــن ‪ 1888‬و‪ 1895‬وإىل مليــون و‪945‬‬
‫ألــف دينـ�ار مــا بــن ‪ 1904‬و‪ .1911‬د‪ .‬محمــد ســلمان حســن‪ ،‬التطــور االقتصــادي يف العراق‪،‬‬
‫املكتبـ�ة العصريــة‪ ،‬صيدا‪ ،‬بــروت‪ ،‬ص‪.94‬‬
‫‪ .12‬كانــت شــركة الهنــد الشــرقية قــد رســخت مواقعهــا كثــرا يف العــراق يف تلــك الفــرة‬
‫بفضــل العطــف الــذي حصلــت عليــه مــن واىل بغــداد ســليمان باشــا الــذي ســاعدته يف‬
‫نيــ�ل منصبــه بفضــل النفــوذ الربيطــاين يف اســطنبول‪ .‬وقــد أقامــت الشــركة روابــط لهــا‬
‫مــع شــيوخ القبائــل‪ ،‬وكثــر مــن جتــار بغــداد واملــدن األخــرى‪ ،‬وبــات وكيلهــا يف بغــداد املقيــم‬
‫الربيطــاين ريــج شــخصية أساســية يف املجتمــع وصــار حيســب الرجــل الثــاين يف بغــداد‪ .‬أنظــر‬
‫لوكريــك‪ ،‬أربعــة قــرون مــن تاريــخ العــراق احلديــث‪ ،‬ترجمــة جعفــر خيــاط‪ ،‬دار الكشــاف‪،‬‬
‫بــروت‪ ،1949 ،‬ص ‪.242‬‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪52‬‬

‫البلاد مـن التمـور والقمـح والشـعري‪ ،‬وجـرب زراعـة القطـن وقصـب السـكر‪،‬‬
‫وسـعى إىل إدخـال حتسـين�ات علـى إرواء بعـض املناطـق‪ ،‬وإىل إنشـاء بعـض‬
‫الصناعـات التي حيتاجهـا جيشـه مـن مالبـس وبنـ�ادق وعتـاد وغريهـا‪ ،‬واجتـه‬
‫إىل تطويـر املالحـة البخاريـة يف دجلـة والفرات‪ ،‬ولتطوير حركة النشـر اسـتورد‬
‫مطبعـة لهـذا الغـرض‪ .‬لكـن مسـاعي داود باشـا اصطدمـت أوال بمعارضـة‬
‫إسـطنبول التي كانـت تلـح بطلب المـال‪ .‬كمـا وقفت القـوى األوربي�ة‪ ،‬السـيما‬
‫اإلنكليز يف الهنـد موقـف املعرقل خلططه ورفضت تزويـده بالطلبات اليت كان‬
‫يلـح عليهـا لتسـليح وتطويـر جيشـه‪ .‬علـى أن الضربة األشـد جـاءت مع تفيش‬
‫وبـاء الطاعـون الذي تسـبب يف انقـراض مدن وقرى بكاملها‪ ،‬وقضى الوباء على‬
‫ثلثي سـكان بغـداد وحدهـا ‪ 13 13‬وبت�أثير هـذا الوبـاء أهملـت احلقـول والبسـاتني‬
‫وتقلصـت مسـاحات األرض املزروعـة‪ ،‬وتعرضـت التجـارة إىل الكسـاد‪ ،‬ولـم‬
‫يقيـض للعـراق أن يسترجع قـواه مـن آثـار الطاعـون إال بعـد مـا يربـو علـى‬
‫عشـرين عامـا‪ ٠‬وجـراء تدهـور أوضـاع البلاد على هـذا النحـو وانشـغال الدولة‬
‫العثمانيـ�ة يف حربها مع محمد علي باشـا‪ ،‬واليونان‪ ،‬فـإن اإلصالحات العثماني�ة‬
‫التي عرفـت باسـم «التنظيمـات» لـم جتـد طريقهـا للتطبيـق يف العـراق إال بعد‬
‫سـنوات طويلـة مـن تطبيقهـا يف الواليـات األخـرى‪.‬‬
‫اسـتطاع الـوالة الذيـن حكموا العـراق بعد داود باشـا أن يبسـطوا هيمنة‬
‫السـلطة املركزيـة علـى املناطـق الديميـة (املطريـة) يف شـمال العـراق رغـم‬
‫املقاومـة التي أبداهـا اآلغـوات األكـراد يف الفترة مـا بين ‪ 1835‬و‪ .1850‬إال‬
‫أن محـاوالت إخضـاع القبائـل يف الوسـط واجلنـوب بـاءت بالفشـل‪ .‬وكانـت‬
‫علـة هـذا الفشـل تكمـن يف كـون الدولـة العثمانيـ�ة ووالتهـا هنـا اعتقـدوا أن‬
‫مفتـاح املسـألة هـو يف يـد القـوة العسـكرية وحدهـا‪ .‬ولـم يدركـوا أن العوامـل‬
‫االقتصاديـة هـي التي حتـرك القبائـل‪ ،‬وهـي يف املحصلـة اخلتاميـة علـة‬
‫االضطـراب وتصادمهـا فيمـا بينهـا ومـع احلكومـة‪ ،‬ال بـل إن ظهـور املؤسسـة‬
‫القبليـة ذاتهـا كقـوة سياسـية ‪ -‬اجتماعيـة لهـا وزنهـا ومـا اقترن بها مـن أعراف‬
‫لهـا قـوة القانـون‪ ،‬وماجرت إليه مـن عالقات وحتالفات وغريهـا إنما جاءت كلها‬
‫بفعـل هـذا العامـل يف األسـاس‪ 14 14.‬غير أن عجلـة التطـور كان البـد أن تـدور ولـو‬
‫ببـطء شـديد جدا بفعل تفاقـم التن�اقضات العميقة يف النظام ذاتـه‪ .‬إن الهزائم‬

‫‪ .13‬د‪ .‬عبــد العزيــز ســليمان نــوار‪ ،‬مــن نهايــة حكــم داود باشــا إىل نهايــة حكــم مدحــت باشــا‪،‬‬
‫دار الكاتــب العريب‪ ،‬القاهــرة‪.1968 ،‬‬
‫‪S. HAIDER, Land Problems of Iraq (A thesis presented to the .14‬‬
‫‪University of London for the Ph D. degree), The London School of‬‬
‫‪21-Economics, Cambridge, 1942, pp. 210 - 218‬‬
‫‪53‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫التي منيـت بهـا اإلمرباطوريـة العثماني�ة يف حروبها مع روسـيا ومـع األقوام اليت‬
‫كانـت قـد شـرعت تعمـل لتحررهـا مـن نير االحتلال العثمـاين يف أوربـا‪ ،‬وتزايـد‬
‫أطمـاع الـدول األوربيـ�ة االسـتعمارية التي كانـت تتحفـز وتتن�افـس فيمـا بينها‬
‫القتطاع أوصال اإلمرباطورية العثماني�ة‪ ،‬وتعاظم حاجة السلاطني إىل المال‬
‫لتحديـث جيوشـهم ومواجهة األخطار التي باتت حتيـق بإمرباطوريتهم‪ ،‬وعجز‬
‫النظـام القديـم يف جمـع الضرائب لتوفري األمـوال املطلوبة‪ ...‬كل هـذه العوامل‬
‫فرضـت علـى احلـكام العثمانيين أن يعيدوا النظر يف األسـس التي تقوم عليها‬
‫دولتهـم وبـات مـن الضـروري تشـديد املركزيـة وتقليـص نفـوذ الباشـوات يف‬
‫الواليـات‪ ،‬وإلغـاء اإلقطـاع العسـكري‪ ،‬وتصفيـة اجليـش اإلنكشـاري‪ ،‬وإعـادة‬
‫تنظيـم اإلدارة املدنيـ�ة وإلغاء الزتام جباية األرض ونظـام بيع الوظائف العامة‪،‬‬
‫ووضـع مزيانيـ�ة عامـة ثابتـ�ة‪ ،‬وإدخال اخلدمـة العسـكرية اإللزامية ملـدة ‪5-4‬‬
‫سـنوات‪ .‬وتـواىل إصـدار القوانني والفرمانات لتطبيق خطـة اإلصالحات هذه‪٠‬‬
‫ولكـن هـذه اإلصالحـات لم تعـط ثمارها املنشـودة وبسـرعة ألن تطبيقها أوكل‬
‫إىل جهـاز حكـويم متفسـخ يف الواليـات البعيـدة كالعـراق‪ ،‬بيـ�د أن إجـراءات‬
‫الدولـة هـذه سـهلت يف املقابـل تغلغـل نفـوذ ونشـاط الـدول الغربيـ�ة فيهـا‪.‬‬
‫ظـل تطبيـق هـذه اإلصالحـات يف العـراق يتعثر حتى العقـد السـابع من‬
‫القـرن التاسـع عشـر‪ .‬ولكن منذ عـام ‪ 1861‬شـهدت البالد تطـورات اقتصادية‬
‫وإداريـة محسوسـة‪ .‬ففـي ذلـك الوقـت خفـض رسـم التصديـر مـن ‪ % 12‬إىل‪1‬‬
‫‪%‬فقـط‪ .‬وباملقابـل رفعـت رسـوم االسـترياد مـن ‪ %5‬اىل ‪ ،%8‬وزيـدت مـن بعـد‬
‫إىل ‪ %11‬يف عـام ‪ .1907‬ورغـم ذلـك ظلـت جتبى ضريبـ�ة على البضائـع املنقولة‬
‫بواسـطة األنهـار داخـل الواليـة الواحـدة بنسـبة ‪ 8%‬مـن قيمـة البضاعـة حتى‬
‫نهايـة القـرن التاسـع عشـر‪ .‬وجنـم عـن هـذه أن تعرقـل تطـور السـوق الوطنيـ�ة‬
‫الواحـدة‪ .‬ثـم جـاء تطـور النقل النهري البخاري والشـروع بتسـيري بواخر شـركة‬
‫أمـان عثمـان احلكوميـة يف دجلـة لنقـل البضائـع مـا بني بغـداد والبصـرة يف عام‬
‫‪ .1861‬ويف العـام التـايل بـدأت شـركة لنـج الربيطانيـ�ة تسـيري بواخرهـا يف دجلة‬
‫أيضـا لنفـس الغـرض‪ -‬ويف عـام ‪ 1864‬ارتبطـت بغـداد والبصـرة خبطـوط‬
‫التلغـراف مـع اسـطنبول وطهـران والهنـد‪ .‬ويف عـام ‪ 1869‬افتتحـت قنـاة‬
‫السـويس فسـاعد فتحهـا يف ربـط البصـرة خبطـوط حبريـة مباشـرة ومنتظمـة‬
‫مـع املـوائن األوربيـ�ة‪ .‬ونشـط الوالة يف الربـع األخري مـن القرن التاسـع ويف مطلع‬
‫القـرن العشـرين إىل إدخـال حتسـين�ات يف نظـام الـري شـملت فتـح وتطهير‬
‫عديـد مـن جـداول اإلرواء يف وسـط العـراق‪ -‬ونشـط رأس المـال األجنبي‪،‬‬
‫وحتى العـرايق يف حـدود معينـ�ة إلنشـاء ورش صناعيـة لتأدية بعـض اخلدمات‬
‫الصناعيـة كأحـواض تصليـح السـفن يف البصـرة وبغـداد ومطاحـن ميكانيكية‬
‫ومغاسـل ومكابـس للصـوف ومعامـل ثلـج واسـتخراج عـرق السـوس‪.‬‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪54‬‬

‫ويف والية مدحت باشـا (‪ )1871-1869‬اجته العمل بنشـاط إىل تطبيق‬


‫قوانين األرض يف املناطـق اإلروائيـ�ة ودفـع العشـائر لالسـتقرار‪ .‬وقـد تضمـن‬
‫(فرمـان) تعيينـ�ه أيضـا مشـروعات أخـرى لـو قـدر لها أن تـرى النـور لعجلت يف‬
‫رفـع إنتـ�اج العراق من املحاصيل الزراعية وغريها السـيما وأنها جـاءت بالتوافق‬
‫مـع افتتـ�اح قنـاة السـويس (‪ .)1869‬وكان يـراد مـن هـذه املشـاريع تنظيـم‬
‫املواصلات النهريـة‪ ،‬ومـد شـبكة لسـكك احلديـد وضمـان وتطويـر خطـوط‬
‫املواصلات‪.‬‬
‫ومـع أن مدحـت باشـا سـار علـى منـوال الـوالة الذيـن سـبقوه يف حكـم‬
‫العـراق يف اسـتخدام القـوة لقمـع تمـردات القبائـل وضـرب بعضهـا ببعض‪ ،‬إال‬
‫أنـه أدرك أن مشـكلة تمـرد القبائـل ال يمكـن أن حتـل بهذه الوسـيلة وتعني عليه‬
‫أن يبحـث عمـا جيـذب إليـه رؤسـاء القبائـل واسـتخدام نفوذهـم النـائش عـن‬
‫األعـراف القبليـة لتطويـع املؤسسـة القبليـة ذاتهـا وإجيـاد مصالـح خاصة بهم‬
‫تتطلـب اسـتقرار القبيلة‪ .‬ولهـذا بادر إىل إلغاء الضرائب غير القانوني�ة اليت كان‬
‫يفرضها شـيوخ العشـائر القوية على اآلخرين‪ ،‬واختذ سياسـة ضريبي�ة تساعد‬
‫يف تطويـر اإلنتـ�اج الزراعـي وتربيـ�ة احليوانـات وشـرع بتطبيـق قانـون األرايض‬
‫لعـام ‪ 1858‬وتمليـك أرايض الدولة بأثمان خبسـة نسـبي�ا لشـيوخ القبائل وجتار‬
‫املـدن (تمليـك بموجـب سـندات طابـو)‪ .‬ومـع هـذا‪ ،‬فـإن إصالحـات مدحـت‬
‫باشـا عـززت السـيطرة الرتكيـة علـى العـراق‪ ،‬وارتبـط ارتب�اطـا أوثـق بالواليـات‬
‫املجـاورة وبمركـز اإلمرباطوريـة‪ .‬وحـاول الـوالة الذيـن جـاءوا بعـده اقتفـاء أثـره‬
‫إال أن أغلـب املشـاريع التي كان يـراد تطبيقهـا منـذ أيامـه ظلت حربا علـى ورق‪.‬‬
‫شـهد الربع األخري من القرن التاسـع عشـر واألعوام اليت سـبقت احلرب‬
‫العامليـة األوىل سير العـراق التدريجي يف طريـق التبعيـة االقتصاديـة للغـرب‬
‫والسـيما لربيطانيـ�ا‪ .‬ففـي هـذه الفترة‪ ،‬وارتب�اطـا بتحسـن طـرق املواصلات‬
‫النهريـة والربيـة وتطبيقـات نظـام األرض‪ ،‬والتحسـين�ات التي أدخلـت علـى‬
‫نظـام اإلرواء‪ ،‬اتسـعت جتـارة تصدير احلاصلات الزراعية واحليواني�ة اتسـاعا‬
‫كبيرا‪ .‬فقـد ارتفعت قيمة الصـادرات اإلجمالية إىل ثالثـة أضعافها يف الفرتة ما‬
‫بين ‪ 1878‬و‪ .1913‬ويف نهايـة الفترة ذاتها ارتفعت نسـبة الصـادرات الزراعية‬
‫إىل ‪ %80‬مـن مجمـوع الصادرات مقابل ‪ %20‬للصادرات احليواني�ة بعد أن كانا‬
‫‪15 15‬‬
‫يتعـادالن تقريبـ�ا يف بدايـة الفترة املشـار إليهـا (‪ %49‬و‪ %51‬علـى التـوايل)‪.‬‬
‫لقـد كان يمكـن للنشـاط الزراعي‪ ،‬وبالتـايل التجارة الداخليـة واخلارجية‬
‫أن ترتفـع إىل أكثر ممـا حتقـق بالفعـل لـو كانـت طـرق املواصلات قـد تطـورت‬

‫‪ .15‬د‪ .‬محمد سلمان حسن‪ ،‬التطور االقتصادي يف العراق‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪55‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫بشـكل أفضـل وقلـت نفقـات النقـل‪ .‬وكمثـال علـى ذلـك نذكـر أن سـعر الطـن‬
‫الواحـد مـن القمـح يف احللـة عـام ‪ 1878‬كان يبلـغ حـوايل نصـف دينـ�ار‪ ،‬بينمـا‬
‫‪16 16‬‬
‫كانـت كلفـة نقلـه مـن احللـة إىل بغـداد تبلـغ حـوايل ثالثـة أربـاع الدينـ�ار‪.‬‬
‫جـاءت التحسـين�ات التي طـرأت علـى التصديـر بت�أثيرات مقابلـة يف احلالـة‬
‫االقتصاديـة واالجتماعيـة للبلاد‪ .‬فنمـو الصـادرات بـات حيفـز القبائـل علـى‬
‫االسـتيطان واالنصـراف إىل الزراعـة واالسـتقرار يف األرض والتحـول مـن حيـاة‬
‫البـداوة يف الرعـي وتربيـ�ة احليوانـات‪ ،‬وقـد ازدادت األرايض املكرسـة للزراعـة‬
‫يف إطـار ديـرة القبيلـة زيـادة واضحـة‪ .‬فطبقـا لمـا أورده (كونيـ�ه) عـن سـهول‬
‫الـزاب الكبير «فـإن القـرى قـد تضاعفـت وتوسـعت‪ ،‬وباتـت الزراعـة حرفـة‬
‫جيـدة بالنسـبة لسـكان هـذه القـرى الذيـن كانـوا حييـون مـن قبل حياة السـلب‬
‫والنهـب»‪ ،‬ويذكـر كذلـك أن ‪ 86‬قريـة قـد ظهرت هنـا خالل الثلـث األخري من‬
‫القـرن المـايض» ومثل هذا حدث لقبائـل دزه يي يف أربي�ل‪ .‬ويقول إن إنت�اج والية‬
‫املوصـل مـن القمح قد ارتفـع حىت عام ‪ 1890‬إىل ‪ 30‬ألف طن يف املعدل ‪ 17 17‬ويف‬
‫املنطقـة اإلروائيـ�ة اسـتقرت (زبي�د) يف هـذه الفرتة يف املنطقـة املحصورة ما بني‬
‫جنـوب سـلمان باك واحللة‪ ،‬وشـرعت شـمرطوكه بزراعـة األرايض املمتدة بني‬
‫سـلمان بـاك والكـوت‪ ،‬وأخـذت قبائـل الدليـم تنصـب (الكـرود) علـى ضفاف‬
‫الفـرات بين عانـة والفلوجـة‪ ،‬واسـتقرت قبائل ألبومحمـد وبني الم لزراعة الرز‬
‫يف العمـارة وقبائـل آل فتلـة وبنى حسـن واملسـعود يف الشـامية والهنديـة‪ ،‬وكرث‬
‫عـدد املـدن التي بنيـت علـى نهـر دجلـة جنـوب بغـداد حتى القرنـة‪ ،‬ومصـرت‬
‫مدينتـ�ا الرمـادي والناصريـة‪ 18 18.‬زد علـى ذلـك‪ ،‬فـإن جتـارة تصديـر املنتجـات‬
‫الزراعيـة جذبـت أعـدادا واسـعة مـن النـاس إىل العمـل كعمـال موسـميني أو‬
‫دائميين يف ميادين التعبئ�ة والتحميل والتنظيـف وغريها ألغراض التصدير‪...‬‬
‫فيكتـب القنصـل الربيطـاين يف البصـرة عـام ‪:1913‬‬
‫إن احلاصـل أردأ من السـنة الماضية وحينما الحـظ جتار احلبوب أنه ال‬
‫يمكنهـم بيـع احلبـوب إال بسـعر ‪ 6‬باونـات للطغار البصري الـذي زنت�ه‬
‫ثالثـة أالف رطـل من احلبـوب الذي كان قد كلفهم (بسـبب املضاربة)‬
‫‪ 7‬باونـات للطغـار‪ ،‬لـم يكونـوا ليسـتعجلوا التخلـص مـن مخزوناتهـم‪.‬‬

‫‪ .16‬د‪ .‬محمــد ســلمان حســن‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص‪ .97‬حســب الدكتــور محمــد ســلمان‬
‫ً‬
‫حســن‪ ،‬الكلفــة طبقــا للتحويــات الــي أجراهــا لقيمــة اللــرة واملجيــدي العثماني ـ�ة آنــذاك‬
‫إىل الدينـ�ار العــرايق يف أوائــل اخلمســين�ات مــن القــرن المــايض‪ .‬وعلــى هــذا األســاس ســار يف‬
‫حســاباته التاليــة‪.‬‬
‫‪ .17‬صالح حيدر‪ ،‬املصدر املشار إليه باإلجنلزيية‪ ،‬ص‪.361‬‬
‫‪ .18‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.672‬‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪56‬‬

‫ونتيجة هذا الوضع عمت الشـدة وخاصة بالنسـبة للطبقات الفقرية‪،‬‬


‫والسـيما بين سـكان البـدو مـن حـوايل ‪ 10،000‬شـخص يشـتغلون‬
‫يف شـؤون جتـارة احلبـوب يف املينـ�اء كنقـل احلبـوب يف النهـر وتنظيفهـا‬
‫‪19 19‬‬
‫وحتميلهـا علـى البواخـر الراسـية يف املينـ�اء‪.‬‬

‫إن أخطـر اآلثـار التي نشـأت عـن تزايـد تصديـر املنتجـات الزراعيـة‪،‬‬
‫احليوانيـ�ة والنب�اتيـ�ة‪ ،‬يف هـذه الفترة يبـ�دو يف انسـداد اإلنتـ�اج الزراعـي العـرايق‪،‬‬
‫وبالتـايل االقتصـاد العرايق عهد ذاك‪ ،‬إىل السـوق الرأسـمالية العاملية‪ ،‬وخضوع‬
‫املنتـج العـرايق إىل تقلبـات األسـعار الدوليـة وسياسـات السـوق الدوليـة‬
‫الرأسـمالية‪ ،‬وتسـرب نسـبة كبرية من الفائض االقتصادي املتحقق يف الزراعة‬
‫‪ -‬علـى شـحته ‪ -‬إىل اخلـارج عبر شـركات التصديـر األجنبيـ�ة التي احتكـرت‬
‫نقلهـا وتصديرهـا علـى السـواء‪ ،‬وفـرض هيكلية يف تركيـب املحاصيـل الزراعية‬
‫تتن�اسـب ورغبـة شـركات التصدير هذه‪ ،‬ويمكنن�ا أن نشير هنـا بوجه خاص إىل‬
‫التوسـع يف إنتـ�اج الشـعري يف املناطـق اإلروائيـ�ة علـى حسـاب إنتـ�اج القمـح‪.‬‬
‫ولعـل األهـم مـن كل هـذا أن جتـارة التصديـر خضعـت منـذ ذلـك احلين‬
‫إىل هيمنـة الشـركات الربيطانيـ�ة‪ .‬وجديـر بالذكـر هنـا أن هـذه الهيمنـة كانـت‬
‫تبـ�دأ واملـواد املتاجـر بهـا كانـت التـزال يف مواقـع إنت�اجهـا‪ .‬فقد كانت شـركة لنج‬
‫الربيطانيـ�ة قـد هيمنـت علـى النقل النهـري الـذي كان العصـب الرئييس للنقل‬
‫داخـل البلاد عهـد ذاك‪ .‬أمـا النقل البحـري‪ ،‬سـواء إىل أوربا غربا أو للهند شـرقا‪،‬‬
‫فقـد بـات يف أيـدي شـركات النقل البحـري الربيطاني�ة يف الغالـب‪ .‬كذلك تولت‬
‫الشـركات التجاريـة الربيطانيـ�ة تصديـر املنتجـات الزراعيـة العراقيـة‪ .‬ويشير‬
‫القنصـل الربيطـاين يف تقريـره الـذي أشـرنا إليـه «أن جتـارة االسـترياد مرتوكـة‬
‫لصغـار التجـار الوطنيين‪ ،‬حيـث أن الشـركات الربيطانيـ�ة املوجـودة محليـا‬
‫تكـرس جـل جهودهـا إىل تصديـر التمـور والصـوف واحلبـوب وعـرق السـوس‪،‬‬
‫وال حتفـل بتجـارة االسـترياد إال يف أوقـات فراغهـا»‪ 20 20 .‬ومع ذلك فإن الشـركات‬
‫الربيطانيـ�ة عـادت واحتكـرت جتـارة االسـترياد أيضـا مـن بعـد كمـا سنرى يف‬
‫فصـول قادمة‪.‬‬
‫لعبت جتارة االسـترياد باملقابل دورا كبري األهمية يف ربط العراق بالسـوق‬
‫العامليـة وتأكيـد تبعيتـ�ه لهذه السـوق وللرأسـمال الربيطـاين بالـذات‪ ،‬وإحداث‬
‫تغييرات أساسـية يف االقتصـاد العرايق وتعجيـل حتوله عن االقتصـاد الطبيعي‬

‫‪ .19‬د‪ .‬محمد سلمان حسن‪ ،‬ص‪.145‬‬


‫‪ .20‬د‪ .‬محمد سلمان حسن‪ ،‬التطور االقتصادي‪ ،...‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.146‬‬
‫‪57‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫إىل اقتصـاد سـلعي‪ .‬كانـت جتارة االسـترياد قد سـبقت نشـوء جتـارة التصدير يف‬
‫العـراق‪ .‬لكـن جتارة االسـترياد أخـذت بالنمو كثيرا بفعل عوامل معينـ�ة‪ .‬فتطور‬
‫النقـل البحـري والنهـري مـن بعـد‪ ،‬وافتتـ�اح قنـاة السـويس قـد سـهل وصـول‬
‫البضائـع األوربيـ�ة واألمريكيـة بوقـت أقصـر وكلفـة أقـل‪ .‬ودفـع االجتـاه املزتايد‬
‫لتعزيـز اإلدارة احلكوميـة واسـتتب�اب األمـن وتطـور الزراعـة وحالـة االسـتقرار‬
‫وتوفـر فوائـض ماليـة لـدى فئـات مـن السـكان بعـد ازديـاد تملـك األرض؛ كل‬
‫هذه شـجعت اسـترياد البضائـع األجنبيـ�ة األدق صنعا واألجود شـكال‪ .‬وبعض‬
‫هـذه العوامـل ذاتهـا سـاعد كذلـك يف تطـور جتـارة الترا نسـيت مـن وإىل إيـران‪.‬‬
‫لقـد زادت قيمـة جتـارة االسـترياد بأكرث من اثنيت عشـرة مرة خلال الفرتة ما بني‬
‫‪ 1864‬و‪ ،1913‬أي مـن ‪ 290‬ألـف دينـ�ار سـنويا للسـنوات ‪ 1871 - 1864‬إىل‬
‫ثالثـة ماليين ونصف تقريب�ا سـنويا خلال ‪ 21 21 .1913 – 1912‬ويالحظ هنا أن‬
‫نصف قيمة االسـتريادات كانت تذهب إىل ثالثة أصناف من البضائع‪ :‬السـكر‬
‫والشـاي واألقمشـة السـيما القطنيـ�ة‪ .‬وهـذا يدلـل علـى مـدى التغيير الكبير‬
‫الـذي أحدثتـ�ه جتـارة االسـترياد يف النمـط االسـتهالكي لعامـة النـاس خاصـة‬
‫بعـد أن غـدا اسـتهالك السـكر والشـاي مـن املكونات االسـتهالكية األساسـية‬
‫للفالحين وفقـراء املـدن‪ .‬أمـا الصنـف الثالـث ونعني بـه األقمشـة فقـد بـات‬
‫يؤثـر بعيـد األثـر يف أوضـاع احلائكين يف البلاد ويدفع بهـم إىل التقلص بشـكل‬
‫مطرد‪ .‬إن اتسـاع جتارة االسـترياد سـهل لبعض الفئات االجتماعية الغني�ة من‬
‫مالكـي األرايض والتجـار وأصحـاب العقـارات وغريهـم أن حتصـل علـى بضائع‬
‫اسـتهالكية كماليـة كان يتعـذر أن حتصـل عليهـا بيسـر‪ ،‬ونمى لديهـا عـادات‬
‫اسـتهالكية خاصـة تتطلـب جمـع أمـوال أكبر واعتصـار الكادحين املرتبطين‬
‫بهـم مـن فالحين وشـغيلة وغريهـم‪ ،‬وأوجـد مسـارب إلنفـاق المـال بعيـدا‬
‫عـن اسـتثمارها يف مجـاالت ختـدم تطـور االقتصـاد الوطني‪ .‬واألمـر الـذي يثير‬
‫االهتمـام هنـا أن حصـة بريطانيـ�ا مـن جتـارة االسـترياد العراقية بلغـت ‪ %49‬يف‬
‫األعـوام ‪ ،1911-1909‬وحصـة الهنـد‪ ،‬املسـتعمرة الربيطانيـ�ة آنـذاك‪.%33 ،‬‬
‫لقـد ظلـت أغلب جتارة االسـترياد يف هـذه الفرتة بي�د التجـار املحليني من اليهود‬
‫والفـرس‪ .‬وقـد أسسـت شـركات بريطانيـ�ة ويونانيـ�ة لالسـترياد يف منتصـف‬
‫القـرن التاسـع عشـر لكنهـا ظلـت شـركات صغيرة ودون أهميـة تذكـر‪ .‬وظلت‬
‫احلـال علـى هـذا النحو حتى االحتلال الربيطاين خلال احلرب العامليـة األوىل‪.‬‬
‫إن اسـترياد األقمشـة القطنيـ�ة الرخيصـة لـم يؤثـر فقـط يف أوضـاع احلائكين‬
‫وكان عددهـم ين�اهـز الــ ‪ 3500‬حائـك يف بغـداد وحدهـا‪ ،‬وإنمـا حـال دون تطـور‬
‫صناعـات حديثـ�ة للنسـيج القطني يف البلاد حتى فترة متأخـرة مـن بعـد‪ .‬على‬
‫هـذا النحـو عملت جتارة االسـترياد‪ ،‬وبشـكل واسـع‪ ،‬علـى امتصـاص الكثري من‬
‫‪ .21‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.221‬‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪58‬‬

‫الفائـض االقتصـادي املتحقـق واحليلولـة دون تطـور صناعـات وطنيـ�ة لسـد‬


‫حاجـة السـوق الوطنيـ�ة اآلخـذة بالنمـو وإن كان ببـطء شـديد‪.‬‬
‫ظلـت البلاد علـى ختلفهـا مـن حيـث تطـور القـوى املنتجـة يف الريـف‬
‫واملدينـ�ة علـى السـواء‪ ،‬إال يف حـدود ضيقـة جـدا‪ .‬لقـد جـرى‪ ،‬السـيما يف العقود‬
‫األخيرة التي سـبقت االحتلال الربيطـاين‪ ،‬بعـض التحسـن يف طرائـق إرواء‬
‫األرض‪ .‬فلقـد جلـأ بعـض مالكـي األرايض الزراعيـة إىل نصـب املضخـات‬
‫لسـحب المـاء يف املناطـق اإلروائيـ�ة والبسـاتني القريبـ�ة مـن املـدن‪ .‬وقـد بلـغ‬
‫عـدد املضخـات الزراعيـة يف عـام ‪ 1900‬اثنتي عشـرة مضخة ‪ .22 22‬واسـتخدمت‬
‫إىل جانـب املضخـة النواعير ذات الدواليـب احلديـد املسـنن�ة التي تديرهـا‬
‫احليوانـات‪ .‬ويكتـب القنصـل الربيطـاين يف تقريـر لـه عـام ‪:1879-1878‬‬
‫إن السـكان البـدو إىل الشـمال مـن العمـارة بـدأوا بنصـب الكـرود‬
‫[ويسمى الواحـد منهـا بالعاميـة العراقيـة ج رد ‪ -‬ع‪-‬س] أو الوسـائل‬
‫امليكانيكيـة للإرواء؛ إنهم يسـتقرون‪ ،‬ويبنـون بيوتا من الطين‪ ،‬وأخذوا‬
‫‪23 23‬‬
‫يتخلـون عـن عاداتهـم يف النهـب والسـلب‪.‬‬

‫ويف مجـال الصناعـة جـرى التقـدم ببـطء شـديد‪ .‬فبعـد ورشـة التصليح‬
‫امليكانيكية اليت أنشـأها الوايل الكوزلكلي يف أواسـط خمسـين�ات القرن التاسـع‬
‫عشـر لـم يبن يشء آخـر حتى أسـس الـوايل نامـق باشـا أول معمـل للنسـيج يف‬
‫البلاد املعـروف ب «العباخانـه» أو «القاطرخانـه» حيـث أخـذت املحلتـان‬
‫املعروفتـان يف بغـداد اسـميهما منه‪ ،‬وكان يـدار بالبخار لسـد حاجة اجليش من‬
‫األلبسـة واخليـام‪ ،‬وقـد وسـعه مدحـت باشـا من بعـد‪ .‬واسـتورد مدحت باشـا‬
‫معملا ميكانيكيـا للطحين بعـد أن كان القمـح يطحـن بالـرىح اليدويـة أو التي‬
‫تديرهـا احليوانـات‪ ،‬ثـم تكاثـرت معامـل الطحين مـن بعـد‪ .‬واسـتوردت أول‬
‫ماكنـة لصنـع الثلج عام ‪ ،1881‬وبعدها بسـنوات أسـس معمالن للمشـروبات‬
‫الغازيـة يف البصـرة‪ .‬ويف عـام ‪ 1889‬أسسـت شـركة لنـج وشـركة أندرويـر‬
‫مكبسين لغسـل وكبـس الصـوف يف البصـرة‪ ،‬وتلتهـا مكابـس عـرق السـوس‪.‬‬
‫ويف نهايـة القـرن التاسـع عشـر تزايـد نصـب املطابـع‪.‬‬
‫ويف الثلـث األخير مـن القـرن التاسـع عشـر تزايـد تأسـيس املـدارس‬
‫احلكوميـة‪ ،‬لكـن التعليـم ظـل مـن نصيـب املوسـرين وأبنـ�اء املوظفين‬
‫(األفنديـة)‪ ،‬ويجـري التعليـم فيها باللغـة الرتكية وبأسـاليب متخلفـة تربويا‪،‬‬
‫‪ .22‬س‪ .‬لونكريك‪ ،‬أربعة قرون من تاريخ العراق احلديث‪ ...‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪113‬‬
‫‪ .23‬صالح حيدر‪ ،‬املصدر السابق‪.673 ،‬‬
‫‪59‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ثـم تلتها مـدارس الطائفتين املسـيحية واليهوديـة‪ .‬وعلى العمـوم كانت توجد‬
‫يف العـراق ‪ 160‬مدرسـة ابت�دائيـ�ة يف عـام ‪ 1913‬تضـم سـتة أالف طالـب‪ .‬وكان‬
‫حـظ املستشـفيات مـن عنايـة الدولـة بائسـا‪ ،‬فحتى االحتلال الربيطـاين لـم‬
‫يبن سـوى أربعـة مستشـفيات كان أفضلهـا مستشـفى يف مئير اليـاس‪ ،‬الثري‬
‫اليهـودي‪.‬‬
‫مـا الـذي أحدثتـ�ه مجموعـة التحـوالت االقتصاديـة اليت حتدثنـ�ا عنها يف‬
‫بنيـ�ة املجتمـع العـرايق؟ وقبل هذا كيف يمكن أن نصـف احلالة اليت انتهى إليها‬
‫هـذا املجتمـع؟ وهـل يصـح احلديـث هنـا عـن كيـان واحـد لهـذا املجتمـع؟ منـذ‬
‫قـرون والعـراق يعـاين ختلخلا اجتماعيـا ال ينقطـع‪ ،‬وقـد اسـتمر هـذا التخلخـل‬
‫حتى الفترة موضوعـة البحـث‪ ،‬وكانـت حصيلـة هـذا الوضـع أن نشـأت للفـرد‬
‫انتمـاءات عديـدة تتفـاوت كثيرا قوتهـا وتماسـك تأثريهـا عليـه‪ ،‬وكان يف خاتمة‬
‫املطـاف خيضـع إىل انتمـاء واحـد جياهـر بإعالنه بقدر مـا يعود عليه هـذا االنتماء‬
‫مـن نفـع مـادي أو معنوي‪ .‬فقد كان هناك انتماء للقبيلـة‪ ...‬وحىت داخل القبيلة‬
‫الواحدة كان هناك انتماء إىل عشيرة معين�ة وإىل فخذ من أفخاذ هذه العشيرة‪.‬‬
‫وكان هو ملزم باألعراف السـارية يف العشيرة والقبيلة‪ .‬وهو منتم أيضا إىل دين‬
‫ومذهـب ويرتـب عليـه انتمـاؤه هـذا الزتامـات مقابلـة ال يسـعه اخلـروج عليهـا‬
‫دون ثمـن‪ .‬ويف املدينـ�ة هـو منتـم إىل الصنـف‪ ،‬التنظيـم الذي تفرضنـه املصالح‬
‫املشتركة لـذوي املهنـة الواحـدة‪ .‬ومنتم لليح الذي يسـكنه وما يرتبـ�ه من عرف‬
‫إزاء األحيـاء األخـرى‪ ،‬فلليح والدفاع عن مصالح اليح قيمة اجتماعية ال يسـعه‬
‫جتاهلهـا وإال تعرضـت مصاحلـه اخلاصـة إىل مخاطـر‪ .‬فـإىل أي حـد تأثرت هذه‬
‫االنتمـاءات بفعـل عالقـات السـوق التي شـرعت تزحـف علـى املجتمـع ولـو‬
‫ببـطء شـديد كمـا قلنـا؟ لقـد شـهد املجتمـع طـوال عشـرات السـنني صراعـا‬
‫خفيـا بين القيـم االجتماعيـة املهيمنـة وبـوادر تغيرات معينـ�ة‪ ،‬ضعيفـة أوال‬
‫حتى ال تـكاد تظهـر علـى السـطح‪ ،‬لكنهـا نمـت قليلا قليلا حتى بـدأت تظهـر‬
‫واضحـة مـن بعـد‪ .‬فتوطـن القبائل الرعويـة خلق ثغـرة يف احتـادات القبائل بني‬
‫مـن توطـن وانصـرف إىل الزراعـة وبني من اليـزال على بداوته وتنقله‪ ،‬ونشـأت‬
‫بين االثنين مصالـح متعارضة حـول مناطـق الرعي يف الديرة املشتركة سـابقا‬
‫والتجـاوزات علـى الزروع وعلى املياه‪ ،‬وبـرزت اخلالفات يف القيم والنظرات ويف‬
‫عمليـات تبـ�ادل املنتجـات‪ .‬ونشـأت مصالـح متعارضـة قبلهـا بين اجلماعـات‬
‫الزراعيـة املتجـاورة وبين املزارعني داخـل اجلماعة الواحدة ذاتهـا‪ ،‬كل ذلك دون‬
‫أن تكـف االلزتامـات اجلماعيـة داخل القبيلـة عن التأثري‪ .‬ففي سـاعات اخلطر‬
‫األعـم تتحـد املصالـح داخـل العشيرة الواحـدة وحتى داخـل االحتاد العشـائري‬
‫الواحـد‪ .‬وداخـل العشيرة الواحـدة ظهـرت وظائـف جديـدة تطلبـت توفـر‬
‫مـن ينهـض بهـا ملصلحـة تنظيـم عمـل اجلماعـة‪ ...‬فلقـد نشـأت احلاجـة إىل‬
‫يدج يسايس نايك ‪:‬قارعلا‬ ‫‪60‬‬

‫«السـركال» لتنظيـم العمليـات الزراعيـة داخـل املجموعة الواحـدة واحليلولة‬


‫دون تغليـب املصلحـة الفرديـة علـى مصلحـة املجموعـة‪ ،‬وجـر هـذا مـن بعـد‬
‫إىل ظهـور صفـات خاصـة وامتيـ�ازات خاصـة بهـذا السـركال‪ .‬ومـع االسـتقرار‬
‫يف األرض نشـأت احلاجـة إىل مـن يتوسـط يف حـل املنازعـات علـى أن يكـون ذا‬
‫مزنلـة اجتماعيـة حترتمها اجلماعة‪ ...‬وهنا يظهر «السـيد»‪ ،‬الوسـيط املحرتم‪،‬‬
‫الـذي ينتيم حقا أو باطال‪ ،‬يف نسـبه إىل سلالة الرسـول‪ ...‬وصـار هذا مع الزمن‬
‫الوسـيط املحترم ذي الكلمـة املسـموعة اليت يقر بهـا اجلميع عـن قناعة‪ ،‬وصار‬
‫هـو يـؤدي هذا الـدور إىل جانـب الوظائـف الروحيـة‪ ،‬الديني�ة واملذهبيـ�ة‪ ،‬ورتب‬
‫هـذا الـدور باملقابـل حقوقا يعترف بها اجلميع حتى احلكومة من بعـد‪ ،‬وجاءت‬
‫هـذه بتوافـق خاص مع تشـيع القبائل يف املناطق الرسـوبي�ة مـن القرنني الثامن‬
‫عشـر والتاسـع عشر‪.‬‬
‫ويف داخـل العشيرة جـرى تمايز بطـيء ودون عنف أوال‪ ،‬ولكنـه أكيد‪ ،‬بني‬
‫شـيوخ القبائـل وأفرادهـا‪ ،‬وكانـت سـاحته الرئيسـية ديـرة العشيرة املشتركة‪.‬‬
‫وجـاءت إجـراءات تمليـك األرض التي بدأهـا مدحـت باشـا والتغيرات التي‬
‫طـرأت عليهـا وتلتهـا مـن بعد بشـأن مسـألة امللكيـة‪ ،‬لتضفـي تعقيـدات كثرية‬
‫كانـت حصيلتهـا أن تميز مالك األرايض من شـيوخ القبائل وغريهـم من وجهاء‬
‫املـدن أو السـادة الذين تملكـوا األرايض الزراعية عن الفالحين الذين لم ين�الوا‬
‫‪24 24‬‬
‫سـوى حـق املزارعـة يف الديـرة السـابقة طبقـا لألعـراف القبليـة‪.‬‬
‫وارتب�اطـا بهـذه التحـوالت جـرت تغيرات معينـ�ة يف وزن املواقـع‬
‫اجلغرافيـة االقتصـادي والسـيايس‪ .‬فمـع أن بغـداد ظلـت حتتفـظ بموقعهـا‬
‫األسـاس يف البلاد إال أن تغيرات قـد حصلـت بالنسـبة إىل أهميـة مـدن أخـرى‬
‫سـلبا أو إجيابـا‪ .‬علـى هـذا النحـو مالـت أهميـة البصـرة إىل االرتفـاع مـع تزايـد‬
‫أهميـة النقـل البحـري والتصديـر واالسـترياد بالبواخـر‪ ،‬فيمـا هبطـت قليلا‬
‫أهميـة املوصـل بعـد أن كانـت ثغـر التصديـر إىل حلـب وتركيـا مـن خلال‬
‫القوافـل‪ .‬كذلـك ارتفعـت أهمية كل مـن النجف وكربالء ليس فقط كسـوقني‬
‫صحراويين رئيسـيني لتمويـن القبائـل البدويـة باملـؤن والسـلع التي حتتاجها‪،‬‬
‫ولبيـع منتجاتهـا من الصـوف واجللود والدهـون‪ ،‬وإنما أيضـا كمركزين دينيني‬
‫للدعـوة إىل التشـيع بعـد أن زاد امليـل لتشـيع القبائل يف املناطـق اإلروائي�ة خالل‬
‫‪25 25‬‬
‫القـرن التاسـع عشـر‪.‬‬

‫‪ .24‬لزيــادة االســتيضاح بشــأن مشــكلة األرض‪ ،‬أنظــر كتابنــ�ا (عزيــز ســباهي‪ ،‬مواقــف‬
‫مــن املســألة الزراعيــة يف العــراق‪ ،‬دار الــرواد املزدهــرة‪ ،،‬بغــداد‪ ، 2009 ،‬الفصلــن الثــاين‬
‫والثالــث)‪.‬‬
‫‪ .25‬إســحق نقــاش‪ ،‬شــيعة العــراق‪ ،‬ترجمــة عبــد اإللــه النعيــي‪ ،‬دار املــدى‪،1996 ،‬‬
‫‪61‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وأخيرا‪ ،‬فإن التغلغل الرأسـمايل األجنبي يف العراق وتزايد نفـوذ بريطاني�ا‬


‫السـيايس مـن جانـب‪ ،‬والسياسـات العثماني�ة يف اضطهـاد السـكان‪ ،‬يف املدين�ة‬
‫واألريـاف مـن جانـب أخـر‪ ،‬لـم تقابـل حتى ذلـك احلين بـرد فعـل شـعيب قـويم‬
‫يمكـن أن يوصـف حبركـة وطنيـ�ة مضـادة‪ ،‬كمـا حـدث يف الواليـات العثمانيـ�ة‬
‫يف أوربـا‪ .‬وكمـا يقـول كامـل اجلـادريج يف مذكراتـه «لـم يكـن هنـاك مظهـر بـارز‬
‫كحركـة وطنيـ�ة حقيقيـة يف العـراق»‪ 26 26.‬كانـت هنـاك فعلا فئـات وطنيـ�ة‬
‫صغيرة‪ ...‬رواد قالئـل حملـوا أفـكارا قوميـة تنطـوي علـى مناهضـة احلكـم‬
‫العثمـاين‪ ...‬إال أن هـؤالء الـرواد لـم يسـعوا إىل إجيـاد رأي عام يدعو إىل اسـتقالل‬
‫البلاد‪ ...‬ولـم يطـوروا كذلـك‪ ،‬وهومهـم جـدا‪ ،‬وعيـا إلدراك مـا ينطـوي عليـه‬
‫تغلغـل املصالـح الربيطانيـ�ة‪ .‬حتى املقاومـة التي أبداهـا بعـض العراقيين مـن‬
‫رجـال دين ورؤسـاء عشـائر وغريهم حني أنزلـت القوات الربيطانيـ�ة يف البصرة‬
‫مـن بعـد‪ ،‬جـرت يف األسـاس حتـت رايـة العـداء للكفـار الذيـن يريـدون خـراب‬
‫الديـن كمـا كان يقـال‪.‬‬
‫حقـا أثـار إعلان السـلطان عبـد احلميـد إعلان العمـل بالدسـتور يف ‪24‬‬
‫تمـوز ‪ 1908‬إثـر انتصـار حركـة االحتاد والرتيق‪ ،‬شـيئ�ا من النشـاط السـيايس يف‬
‫بغداد والبصرة واملوصل‪ ،‬ونشـط املتعلمون العراقيون يف اسـطنبول للمشاركة‬
‫يف احلـركات السياسـية العربيـ�ة التي تألفت هنـاك للمطالبـة بالالمركزية‪ ،‬إال‬
‫أن عـودة الدسـتور لـم تقابـل يف العـراق باحلماسـة‪ ،‬وعلـى العمـوم‪ ،‬كان املوقف‬
‫الدسـتور مشـوبا بالشـك‪27 27 .‬ومع أن تنظيمات سياسـية تأسست يف‬ ‫ً‬ ‫العام من‬
‫العراق إما امتدادا لالحتاد والرتيق كفروع يف املدن الرئيسـية أو ملنافسـته كما هو‬
‫الشـأن مـع احلزب احلـر املعتدل‪ ،‬وكذلك تأسسـت تنظيمـات أخرى وصحف‬
‫كثيرة‪ ،‬إال أن هـذا النشـاط لـم يتطـور إىل حركـة تدعـو إىل اسـتقالل البلاد ولـم‬
‫تسـتطع أن تطـور وعيـا واسـعا ولـم تتوفـق يف حتقيـق هويـة منفصلـة لهـا يف‬
‫العـراق‪ ،‬كذلـك لـم تتبن أي اهتمـام باإلصالحـات االجتماعيـة واالقتصاديـة‬
‫‪28 28‬‬
‫وبمطالـب شـعبي�ة عامـة‪.‬‬
‫دمشق‪ ،‬ص ‪.67 ،66‬‬
‫‪ .26‬كامــل اجلــادريج‪ ،‬مذكــرات كامــل اجلــادريج‪ ،‬دار الطليعــة‪ ،‬بــروت‪ ،‬الطبعــة األوىل‪،‬‬
‫‪ ،1970‬ص ‪.20‬‬
‫‪ .27‬د‪ .‬غســان العطيــة‪ ،‬العــراق‪ ،‬نشــأة الدولــة ‪ ،1921 - 1908‬ترجمــة عطــا عبــد الوهــاب‪،‬‬
‫دار الالم‪ ،‬لنــدن‪ ،1988 ،‬ص‪.76‬‬
‫‪ .28‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.98‬‬
‫‪2‬‬
‫العــراق في ظل االحتــال البريطاني‬

‫كان العـراق قـد دخـل يف دائـرة حسـابات املصالـح الربيطانيـ�ة منـذ زمـن‬
‫بعيـد‪1 1.‬فعـدا عـن وجـود البلاد يف موقـع استراتييج بالنسـبة لهـذه املصالـح‬
‫بوصفـه حلقـة الوصل الهامة اليت تطل على اخلليج وتسـهل العبـور إىل الهند‪،‬‬
‫فـإن صـورة العـراق الزاهيـة التي غرسـتها قصـص آلـف ليلـة وليلـة يف أذهـان‬
‫األوربيين ظلـت تغـذي املطامـع الربيطانيـ�ة منـذ أن دخلـت بريطانيـ�ا حلبـة‬
‫التن�افـس مـع املسـتعمرين األخريـن للسـيطرة علـى البحـار واملسـتعمرات‪.‬‬
‫وإذا كان هـدف الربيطانيين مـن التغلغـل يف العـراق هـو اختـاذه نقطـة حراسـة‬
‫استراتيجية علـى الطريـق إىل الهنـد‪ ،‬فإنهـم اختـذوا مـن هيمنتهـم علـى الهنـد‬
‫ً‬
‫أوال‪ ،‬والعالقـات التجاريـة العريقـة التي تربـط مـا بين البلديـن منـذ أقـدم‬
‫العصـور عبر البصـرة نقطـة وثـوب لوضـع اليـد علـى العـراق‪ .‬وقـد نشـطت‬
‫لهـذه املهمـة شـركة الهنـد الشـرقية التي تأسسـت عـام ‪ 1600‬م واختـذت مـن‬
‫سـرات يف الهنـد مقـرا لهـا‪ ٠‬فللسـيطرة علـى جتـارة اخلليـج دخلـت يف نـزاع مـع‬
‫الربتغاليين ثـم مـع الهولنديين‪ .‬ويف عـام ‪ 1639‬وصـل ممثلوهـا إىل البصـرة‬
‫وأقامـوا لهـم مركـزا جتاريا فيها عـام ‪ ٠ 1643‬وبعد صراع طويـل مع الهولنديني‬
‫انسـحب األخيرون منهـا عـام ‪ 1753‬فصفـا اجلـو للربيطانيين فيهـا‪ ،‬وعينـت‬
‫الشـركة وكيلا لهـا هنـاك‪ .‬وقـد لعـب هـذا الوكيل كثيرا لدعـم سـليمان الكبري‬
‫‪ .1‬كان اإلجنلــز قــد فكــروا يف اختــاذ الفــرات طريقــا للتجــارة مع الهند‪ ،‬وألغوا شــركة أســموها‬
‫الشــركة الرتكيــة‪ .‬وقــد أرســلت هــذه بعثــة لتحــري هــذه الطــرق‪ ،‬ومــرت يف عــام ‪ 1583‬مــن‬
‫طرابلــس الشــام إىل البصــرة عــن طريــق بغــداد‪ ،‬واجتهــت مــن بعــد إىل مضيــق هرمــز فالهنــد‬
‫وجــاوة‪ .‬ويعتقــد أن هــؤالء هــم أول مــن وطــأ أرض بــاد الرافديــن مــن اإلجنلــز‪( .‬عبــد الفتاح‬
‫ابراهيــم‪ ،‬علــى طريــق الهنــد‪ ،‬الطبعــة الثالثــة‪ ،‬منشــورات وزارة الثقافــة‪ ،‬دمشــق‪.)1991 ،‬‬
‫‪63‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪64‬‬

‫وتعيينـ�ه واليـا علـى العـراق كلـه‪ ،‬فلـم ينـس سـليمان هـذا الديـن للشـركة‪،‬‬
‫وسـمح لهـا بتوسـيع نشـاطها‪ ،‬وصـارت هـي تمـده بالمـال يف صـورة قـروض‬
‫وتوفـر لـه املدربين لتدريـب عسـاكره‪ .‬وعلـى هـذا النحو بـات للشـركة يف نهاية‬
‫القـرن الثامـن عشـر نفوذ كبير يف العراق‪ ،‬ويف عـام ‪ 1802‬أصبح وكيل الشـركة‬
‫كلوديـوس ريـج مقيمـا دائمـا يف بغـداد‪ ،‬وقـد منـح جميـع السـلطات القنصليـة‬
‫ويجء حبـرس كبير مـن الهنـود حلمايـة مبنى القنصليـة‪ ،‬وبدارعـة نهريـة ترسـو‬
‫قبالـة املبنى‪ .‬وكان هذا الـ «باليوز» كما كان يدعى بالرتكية الشـخصية الثاني�ة‬
‫التي تلـي الوايل يف األهمية‪ .‬وقد دخل‪ ،‬كما أشـرنا يف الفصـل األول‪ ،‬يف منازعات‬
‫مـع الـوايل داود بشـأن االمتيـ�ازات التي حصـل عليهـا األوربيـون يف العـراق‪.‬‬
‫ومنـذ مطلـع القرن العشـرين لم تعـد بريطاني�ا ختفي مراميهـا يف العراق‪،‬‬
‫ودخلـت مـع الـدول األخـرى السـيما مـع ألمانيـ�ا‪ ،‬يف صـراع لتأكيد نفوذهـا فيه‪.‬‬
‫ففـي ‪ 5‬أيـار ‪ 1903‬أعلـن اللـورد لنزدن‪ ،‬وزيـر الهنـد‪ ،‬يف مجلـس اللـوردات‬
‫الربيطـاين‪:‬‬
‫«يتراءى يل أن سياسـتن�ا يف خليـج فارس جيـب أن تتجـه بالدرجة األوىل‬
‫‪22‬‬
‫إىل حمايـة التجـارة اإلنكلزييـة وامتدادهـا يف هاتيـك امليـاه»‬

‫وهو يريد باالمتداد هنا دجلة والفرات‪.‬‬


‫وكجـزء مـن النشـاط الـذي تنـوي حتقيقـه وتعـد لـه‪ ،‬تزايـد عـدد‬
‫الربيطانيين القادمين إليه‪ .‬فزاد عدد الذين سـكنوا البصـرة إىل ثالثة أضعاف‬
‫أعدادهـم السـابقة‪ .‬وكثر عـدد الزوار الذيـن يمضون فيـه بعض الوقـت‪ ،‬وكان‬
‫مـن بينهـم عشـرات الضباط مـن اجليش الهنـدي أمثال جلمن وهيـورت يونغ‬
‫وغرتـرود بيـ�ل وغريهـم وبعـض هـؤالء عـاد إليـه يف إطـار احلملـة الربيطانيـ�ة‬
‫خلال احلرب العامليـة األوىل وأصبحوا من الضباط السياسـيني الذين حكموا‬
‫‪33‬‬
‫البلاد أثنـ�اء االحتلال‪.‬‬
‫ويف القـرن التاسـع عشـر‪ ،‬توالـت البعثـات التي جـاءت الستكشـاف‬
‫صالحيـة الفـرات ودجلـة للمالحـة‪ ،‬وقـد درسـت هـذه البعثـات جغرافيـة‬
‫املناطـق التي مـرت بهـا ورسـمت اخلرائـط الدقيقـة للنهريـن‪ ،‬وظهـر بعـد ذلك‬

‫‪ .2‬عبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬تاريــخ العــراق الســيايس احلديــث‪ ،‬اجلــزء األول‪ ،‬الطبعــة الثالثة‪،‬‬
‫مطبعــة العرفان‪ ،‬لبنـ�ان‪ ،1957 ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ .3‬لونكريــك‪ ،‬العــراق احلديــث مــن ســنة ‪ 1900‬إىل ســنة ‪ ،1950‬ترجمــة ســليم طــه‬
‫التكريــي‪ ،‬الفجــر للنشــر والتوزيــع‪ ،‬بغــداد‪ ،1989 ،‬اجلــزء األول‪ ،‬ص ‪.119‬‬
‫‪65‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أن هـذه اخلرائـط كانـت ذات أهميـة كبيرة للقـوات العسـكرية التي احتلـت‬
‫العراق‪ ،‬وكذا الشـأن مع اخلرائط اليت رسـمها اجليولوجيني وهم يستكشـفون‬
‫األرايض حبثـا عـن النفـط واملعـادن األخـرى يف العـراق‪.‬‬
‫وقـد دار صـراع طويـل بين األلمـان واإلجنليز لالسـتحواذ علـى امتيـ�از‬
‫اسـتخراج النفـط‪ ،‬وتوصـل الطرفـان إىل اتفـاق فيمـا بينهما‪ ،‬وتأسسـت شـركة‬
‫النفـط الرتكيـة ‪ ،T.O.C‬وقيـل إن وزيـر الماليـة الرتكـي قـد وافـق علـى أن يؤجـر‬
‫لهذه الشـركة كل احتي�اطي النفط الذي تم اكتشـافه أو الذي سـيتم اكتشـافه‬
‫يف واليتي املوصـل وبغـداد‪ ،‬إال أن إعلان احلـرب العامليـة األوىل أوقـف هـذا‬
‫النشـاط وكان هـذا القـول األويل أسـاس الطلـب الـذي تقدمـت به الشـركة إىل‬
‫احلكومـة العراقيـة أثنـ�اء االنتـ�داب (‪ )1923‬للحصـول علـى امتيـ�از للتنقيـب‬
‫عـن النفـط ونالتـه حتـت ضغـوط كمـا سنرى بعـد‪ ،‬وبعـد أن تغيرت جنسـية‬
‫‪44‬‬
‫الرأسـماليني املشـاركني يف الشـركة‪.‬‬
‫وتركـز الصـراع بوجـه خـاص حـول مـد سـكك احلديـد عبر العـراق إىل‬
‫اخلليـج بين الـدول االسـتعمارية وتمخـض عـن اصطفـاف جديد أخذ شـكله‬
‫يف النهايـة يف صـورة األطـراف املتحاربـة خلال احلـرب العاملية األوىل‪5 5.‬وشـرع‬
‫الربيطانيـون يعلنـون عـن نواياهم املقبلة‪ .‬ففي عـام ‪ 1892‬صرح اللـورد كرزن‪،‬‬
‫وكان يشـغل آنـذاك منصـب احلاكـم الربيطـاين العـام يف الهنـد‪:‬‬
‫«إن بغـداد تقـع ضمـن مـوائن اخلليـج‪ ،‬ويجـب أن تدخـل ضمـن‬
‫السياسـة الربيطانيـ�ة التي ال تنـ�ازع [‪ ]...‬ومـن اخلطـأ أن نفترض أن‬
‫مصاحلنا السياسـية تنحصر يف اخلليج‪ ،‬فإنها ليسـت كذلك‪ ،‬كما إنها‬
‫ليسـت منحصـرة يف املنطقـة الواقعـة بين البصـرة وبغـداد‪ ،‬وإنما تمتد‬
‫‪66‬‬
‫شـماال إىل بغـداد نفسـها»‪.‬‬

‫ويف ‪ 15‬كانـون الثـاين ‪ 1912‬الفـت حكومـة الهنـد جلنـة خاصـة لدراسـة‬

‫‪ .4‬لونكريــك‪ ،‬العــراق احلديــث مــن ســنة ‪ 1900‬إىل ســنة ‪ ،1950‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص‬
‫ص ‪.116-114‬‬
‫‪ .5‬كانــت املؤسســات الربيطاني ـ�ة الــي نشــطت يف ميــدان مشــاريع ســكك احلديــد هــذه‬
‫قــد أوكلــت إجنــاز أعمــال املســح التفصيلــي لهــذه املشــاريع إىل الضابــط الشــاب يف اجليــش‬
‫الهنــدي أرنولــد ولســن الــذي أصبــح هــو ذاتــه احلاكــم الســيايس العــام أثنــ�اء االحتــال‬
‫الربيطــاين ولعــب دورا خطــرا يف حتديــد مســتقبل العــراق آنــذاك وأشــرف علــى قمــع ثــورة‬
‫العشــرين‪.‬‬
‫‪ .6‬ايرالند‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.24‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪66‬‬

‫احتلال العـراق‪ ،‬وقـد اقرتحـت هـذه اللجنـة الشـروع باحتلال «بلاد العـرب‬
‫الرتكيـة» كمـا كانـت تسمي العـراق آنـذاك‪ ،‬بذريعـة تعزيـز مركـز بريطانيـ�ا يف‬
‫وجـه املوقـف العدايئ الـذي يب�ديه املوظفون األتـراك‪7 7.‬وأبـرق املقيم الربيطاين‬
‫يف بغـداد إىل حكومـة الهنـد وإىل السـفري الربيطـاين يف اسـطنبول يف ‪ 23‬حزيران‬
‫‪ 1913‬قائلا‪:‬‬
‫«نظـرا الحتمـال جتزئـة تركيـا‪ ،‬ومـا جنـده يف الوقـت ذاتـه مـن نشـأة‬
‫تمهيديـة ملناطـق نفـوذ أجنبيـ�ة‪ ،‬فإنـه علـى مـا يظهـر‪ ،‬البـد للحكومـة‬
‫الربيطانيـ�ة أن حتتفـظ بمـا أحرزتـه حتى اآلن من أرجحية يف بلاد ما بني‬
‫‪88‬‬
‫النهريـن‪ ،‬منطقتهـا الطبيعيـة يف الدولـة العثمانيـ�ة»‪.‬‬

‫ً‬
‫وحتقيقـا لهـذه األغـراض نشـطت الدوائـر الربيطانيـ�ة لتعزيـز عالقاتهـا‬
‫بشـيوخ القبائـل يف جنـوب العـراق وبوجهـاء البصـرة‪ ،‬وكان واسـطتها يف هـذا‬
‫السـر بريس كوكـس‪ ،‬املندوب‬ ‫الشـأن الشـيخ خزعل‪ ،‬شـيخ املحمـرة ومن ورائه ِ‬
‫السـايم الربيطـاين يف العـراق مـن بعـد‪.‬‬
‫والواقـع أن بريطانيـ�ا قـد حتركـت الحتلال العـراق حتى قبـل أن تنشـب‬
‫احلـرب مـع تركيـا‪ .‬ففـي أب وأيلـول ‪ 1914‬تـم االتفـاق بين لنـدن ودلهـي علـى‬
‫إرسـال قـوة عسـكرية الحتلال البصـرة‪ .‬ويف ‪ 16‬تشـرين األول حتركـت فعلا‬
‫هـذه القـوة التي عرفـت باسـم «احلملـة د» باجتـاه اخلليـج‪ ،‬وتوقفـت عنـد‬
‫البحريـن يف ‪ 23‬تشـرين األول لتت�أهـب للوثـوب علـى العـراق مباشـرة‪ .‬ويف ‪3‬‬
‫تشـرين الثـاين ‪ 1914‬وصلـت القـوة ميـاه شـط العـرب‪ ،‬أي قبل إعلان احلرب‬
‫رسـميا علـى تركيـا يف ‪ 5‬تشـرين الثـاين ‪ .1914‬ويف ‪ 6‬تشـرين الثـاين احتلـت‬
‫الفـاو لتبـ�دأ زحفهـا باجتاه الشـمال حتى أتمت احتلال كامل الواليـات الثالث‪،‬‬
‫ولتواصـل احتاللهـا العسـكري للبلاد لبضـع سـنوات أخـرى وتشـرع يف حتقيـق‬
‫سياسـاتها التي رسـمتها مـن قبـل‪.‬‬
‫كانـت سياسـة االحتلال الربيطـاين تتجاذبها دوافـع وأغـراض متضاربة‬
‫وترسـم يف مركزيـن خيتلفـان يف استراتيجياتهما رغـم كونهمـا ينطلقـان مـن‬
‫مصالـح اسـتعمارية واحـدة‪ .‬كان هنـاك املركـز الربيطـاين يف الهنـد‪ ،‬أو مـا كان‬
‫يعـرف حبكومـة الهنـد‪ ،‬واآلخـر هـو املركـز الربيطـاين يف الشـرق األوسـط الـذي‬
‫يتخـذ مـن القاهـرة قاعـدة لتحركـه وكان يتلقـى توجيهاتـه مـن لنـدن مباشـرة‪.‬‬
‫‪ .7‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪ .8‬د‪ .‬عبــد الرحمــن الــزاز‪ ،‬محاضــرات عــن العــراق مــن االحتــال حــى االســتقالل‪،‬‬
‫القاهــرة‪ ،‬معهــد الدراســات العربيــ�ة العاليــة‪ 1954 ،‬ص ‪.8‬‬
‫‪67‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫كان احلاكـم العسـكري العـام‪ ،‬الـذي يتلقـى تعليماتـه مـن املركـز األول‪،‬‬
‫يتـوىخ تأمين السـيطرة الربيطانيـ�ة علـى مجتمـع قبلـي مضطـرب‪ ،‬تتن�ازعـه‬
‫والءات مختلفـة‪ ،‬ولـم يسـبق لـه أن أذعـن إىل سـلطة مركزيـة‪ ،‬وظـل يتحين‬
‫الفرصـة للتمـرد عليهـا‪ ،‬وال خيفـي نفـوره مـن حكـم خيتلـف وإيـاه يف الديـن‬
‫واجلنـس‪ .‬وكان رجـال هـذا املركـز يسـعون إىل تطبيـق السياسـات التي درجـوا‬
‫علـى تطبيقهـا يف الهنـد‪ .‬وخربتهـم يف التطبيـق جـاءت حصيلـة التعامـل مـع‬
‫شـعب وتقاليـد وقيـم أخـرى‪ ،‬وكان هـذا املركـز يسـعى إىل حتقيق املشـاريع اليت‬
‫راودتـه طويلا يف جعـل وسـط وجنـوب العـراق مسـتعمرة اسـتيطاني�ة ملحقـة‬
‫بالهنـد‪ .‬وقـد عبرت صحيفة (التايمـز) اللندني�ة عـن نوايا هذا املركـز باقرتاحها‬
‫تهجير ثالثـة ماليين هنـدي وتوطينهـم يف جنـوب ووسـط العـراق‪ 9 9.‬وقـد ظل‬
‫هـذا املركـز يرسـم سياسـاته علـى أسـاس إخضـاع العراقيين بالقـوة والصرامة‬
‫علـى غـرار مـا كان يفعلـه يف الهنـد‪.‬‬
‫أمـا املركـز الثـاين‪ ،‬فـكان ينظـر إىل العـراق يف إطار املشـاريع االسـتعمارية‬
‫التي رسـمت يف إطـار املصالـح الربيطانيـ�ة العامـة يف املنطقـة العربيـ�ة العامـة‬
‫ووفـق اخلطوط اليت انطوت عليها اتفاقية سـايكس‪-‬بيكو بني إنكلرتا وفرنسـا‬
‫وروسـيا لتقاسـم النفوذ فيما حيتل من أرايض الدولة العثماني�ة وبالشـكل الذي‬
‫يتمـاىش وسياسـات اخلـداع واملراوغـة التي سـارت عليهـا بريطانيـ�ا يف التعامل‬
‫مـع العـرب ومباحثـات امللـك حسين ‪ -‬مكماهـون‪ ،‬والوعـود التي قطعـت‬
‫للصهاينـ�ة يف فلسـطني‪.‬‬
‫إىل جانـب هـذه دخلـت عوامل أخـرى تمثلـت أوال يف املقاومة التي أبداها‬
‫الشـعب العـرايق لالحتلال‪ ،‬وافتضـاح اتفاقيـة سـايكس‪-‬بيكو بعـد ثـورة‬
‫أكتوبـر يف روسـيا‪ ،‬وتأثيرات الثورتين‪ ،‬البلشـفية ىف روسـيا والكماليـة ىف تركيا‪،‬‬
‫وانكشـاف زيـف التصريـح األنكلـو‪ -‬فرنسي الـذي وعـد باسـتقالل البلـدان‬
‫العربيـ�ة‪ ،‬وأخيرا دخـول أمريـكا ومبـادئ ولسـن كعنصـر ضاغـط لـم يكـن يف‬
‫حسـبان لنـدن وباريـس‪.‬‬
‫لقـد أظهـرت سـلطات االحتلال العسـكري اسـتهانة واضحـة بمقاومة‬
‫الشـعب وبالتعقيـدات التي واجهتهـا منـذ البدايـة مفرتضـة أنهـا سـتفرض‬
‫الوجـود الربيطـاين كواقـع ال يمكن رده‪ .‬ولقـد لعب مزاج أرنولد ولسـن‪ ،‬احلاكم‬

‫‪ .9‬د‪ .‬عبــد هللا فيــاض‪ ،‬الثــورة العراقيــة الكــرى ســنة ‪ ،1920‬بغــداد‪ ،‬مطبعــة دار الســام‬
‫‪ ،1975‬الطبعــة الثاني ـ�ة‪ ،‬ص ‪ .226‬انظــر أيضــا مــا جــاء يف مذكــرة الســر آرثــر هرتــزل (‪14‬‬
‫آذار ‪ )1915‬بشــأن مســتقبل مــا بــن النهريــن واقرتاحــه بتوطــن هنــود مــن البنجــاب‬
‫والســند يف العــراق‪ .‬د‪ .‬غســان العطيــة‪ ،‬العــراق‪ ،‬نشــأة الدولــة‪ ،1921 - 1908،‬دار الســام‪،‬‬
‫لنــدن‪ ،1988 ،‬ص ‪.175‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪68‬‬

‫العسـكري العـام‪ ،‬وسـلوك ضباطـه الشـباب قليلـي اخلبرة واملعرفـة بنفسـية‬


‫الفـرد العـرايق وبالنظـام القبلـي وتعقيداتـه يف العـراق‪ ،‬دورا ملحوظـا يف إثـارة‬
‫نقمـة النـاس‪ .‬ولـم تأخـذ السـلطات يف احلسـبان املـزاج الديني وبالغـوا يف وزن‬
‫تسـاير‬
‫ً‬ ‫الفـوارق الطائفيـة‪ ،‬كذلك بالغـوا كثريا يف تقدير وزن العناصر اليت كانت‬
‫االحتلال انطالقـا من مصاحلها اخلاصة‪ .‬وقـد دفع هذا األمـر مؤرخا بريطاني�ا‬
‫ال خيفـي تعاطفـه مع السياسـات الربيطاني�ة اليت اتبعت أثنـ�اء االحتالل أن يقر‬
‫بـأن التهمـة التي وجهـت إىل إدارة ولسـن واعتبرت مـن األسـباب التي أدت إىل‬
‫انفجـار الثـورة «تهمة ال يمكن نكرانها أبـدا»‪10 10.‬لقد فرضت اإلدارة الربيطاني�ة‬
‫سـيطرتها العسـكرية علـى حـركات النقـل والطـرق‪ ،‬وأقامـت املعسـكرات يف‬
‫املناطـق املزروعـة‪ ،‬ممـا أدى إىل توقـف الزراعـة فيهـا‪ ،‬وانطمـار قنـوات الـري‪،‬‬
‫وشـددت كثيرا علـى جباية الضرائب واسـتخدام القوة يف جبايتهـا من األغني�اء‬
‫والفقـراء علـى السـواء‪11 11،‬وكانـت تدفع أسـعارا واطئة لقـاء املحاصيل اليت جترب‬
‫املزارعين علـى تسـليمها للسـلطات‪ ،‬وترغمهـم علـى دفـع ضرائـب أكثر ممـا‬
‫كانـوا يدفعـون إىل األتـراك ودون ان حتسـن مـن الطريقـة القديمـة السـيئ�ة يف‬
‫ختمين احلاصلات‪ .‬وىف املـدن يشـكو األهـايل مـن نقـص موظفـي اإلدارة بينما‬
‫تتسـكع أعـداد مزتايـدة مـن املوظفني السـابقني ترفـض السـلطات توظيفهم‬
‫بدعـوى أنهـم خدمـوا يف جهـاز اإلدارة العثمـاين‪.‬‬
‫وزاد مـن وطـأة االحتلال التضخـم النقـدي الـذي ولـده اإلنفـاق الواسـع‬
‫للقـوات واإلدارة الربيطانيـ�ة دون أن يتوفـر العـرض الـكايف مـن السـلع يف‬
‫األسـواق‪ .‬وإذا كانـت فئـات معينـ�ة مـن التجـار واملالكين قـد أثـرت مـن ارتفاع‬
‫األسـعار واملضاربـة فـإن هـذا االرتفـاع الفاحـش يف األسـعار‪12 12‬كاد أن يـؤدي إىل‬
‫مجاعـة يف بغـداد وغريهـا‪.‬‬
‫لقـد سـعت سـلطات االحتلال الربيطـاين إىل حتميـل الشـعب العـرايق‬
‫العـبء المـايل لالحتلال‪ ،‬وليس من قبي�ل املصادفات أن تكـون دائرة اإليرادات‬

‫‪ .10‬لونكريك‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.184‬‬


‫‪ .11‬زادت إيــرادات الضرائــب أيــام االحتــال اىل ثالثــة أضعــاف مــا كانــت عليــه يف العهــد‬
‫الرتكــي‪ ،‬كمــا ذكــرت صحيفــة (المانشســر جارديــن) الربيطاني ـ�ة‪ .‬هــري فوســر‪ ،‬املصــدر‬
‫الســابق‪ ،‬ص ‪.163‬‬
‫‪ .12‬كان ســعر طغــار احلنطــة يف العهــد الرتكــي يــراوح مــا بــن ‪ 8‬و‪ 10‬لــرات‪ ،‬فارتفــع يف‬
‫عهــد االحتــال إىل مئــة لــرة‪ ،‬ويف بغــداد ارتفــع ســعر الطغــار إىل ‪ 120‬لــرة‪ .‬وينقــل عــن‬
‫شــيوخ املشــخاب أن طغــار الشــلب يف العهــد الرتكــي تــراوح ســعره مــا بــن اللــرة الواحــدة‬
‫واخلمــس لــرات‪ ،‬فصــار يف عهــد االحتــال مــا بــن ‪ 35‬و‪ 50‬لــرة‪ .‬الــوردي‪ ،‬اجلــزء اخلامــس‪،‬‬
‫ص ‪.21‬‬
‫‪69‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أول دائـرة حكوميـة جديـدة تؤسسـها هـذه السـلطات‪ .‬وقـد اسـتخدمت‬


‫الضرائـب ذاتهـا كأداة لتسـليط شـيوخ القبائـل علـى أفـراد قبائلهـم‪ ،‬إذ عهـدت‬
‫‪13 13‬‬
‫إىل شـيوخ العشـائر جمـع الضرائـب مـن عشـائرهم لقـاء حصـة وافيـة منهـا‪.‬‬
‫كان األمـر اجلوهـري األول الـذي يشـغل بـال اإلدارة الربيطانيـ�ة املحتلـة‬
‫هـو البحـث عمـا يمكنهـا مـن فـرض سـيطرتها الكاملـة علـى البلاد املحتلـة‪،‬‬
‫وأن تؤمـن سلامة قـوات االحتلال وممثلـي اإلدارة يف املدن واألريـاف‪ ،‬وتأمني‬
‫املـوارد الغذائيـ�ة واملـوارد الماليـة لهـذه القـوات‪ ،‬ومـن ثـم الشـروع بمشـاريعها‬
‫التي كانـت قـد حركتهـا الحتلال البلاد‪ .‬وكانـت هواجسـها هـذه تبـ�دو يف كل‬
‫مـا اختذتـه مـن إجـراءات إداريـة أو تشـريعية‪ .‬ونظـرا لمـا كان يعتمـر الريف من‬
‫عوامـل لالضطـراب واملقاومة‪ ،‬ركـزت هذه اإلدارة معظم نشـاطها للتعامل مع‬
‫القبائل‪.‬‬
‫اجتـه املحتلـون‪ ،‬قبـل كل يشء‪ ،‬إىل اإلبقـاء علـى املؤسسـة القبليـة‪ ،‬ورأوا‬
‫فيهـا جهـازا يمكن أن يسـتخدم لتعزيز نفوذهـم يف الريف واملدين�ة على السـواء‬
‫إذا ما جنحوا يف ضم هذه املؤسسـة إىل صفوفهم واختذوا منها واسـطة للموازنة‬
‫مـع نفـوذ املدينـ�ة‪ .‬وكانـت إجراءاتهـم يف هـذا الشـأن تتكيـف تبعـا لألوضـاع‬
‫السـائدة يف كل منطقـة ومـدى والء رؤسـاء القبائـل لالحتلال الربيطـاين‬
‫ومـدى اسـتعدادهم للتعـاون مـع قـوات االحتلال واحلـكام السياسـيني الذين‬
‫نصبتهـم يف جميـع األقضيـة والنـوايح‪ .‬ففي بعـض املناطق‪ ،‬كما هو الشـأن مع‬
‫القبائـل التي تتوطـن يف وسـط وجنوب دجلـة جرى دعم الرؤسـاء الكبـار وأبقي‬
‫علـى نفوذهـم داخـل العشيرة‪ .‬ويف مناطـق أخـرى مـن الفـرات‪ ،‬األوسـط بوجه‬
‫خـاص‪ ،‬جـرى اصطفـاء بعـض الرؤسـاء مـن بين الرؤسـاء املتن�افسين الذيـن‬
‫تعترف بهـم القبيلـة‪ .‬وعلـى العمـوم كان يتـم هنـا حصر النفـوذ داخل العشيرة‬
‫الواحـدة يف شـيخ واحـد يمكـن االطمئنـ�ان إليـه‪ ،‬وإجيـاد مصلحـة لـه تشـده إىل‬
‫املحتلين اجلـدد‪ ،‬ويفـرض عليـه اخلضـوع إىل مشـورة احلـكام السياسـيني‬
‫الربيطانيين‪ .‬ويعطينـ�ا أيرالنـد مثـاال علـى هـذه السياسـة ىف النمـوذج الـذي‬
‫طبـق يف منطقة سـوق الشـيوخ‪ ،‬فيقـول إن ديكسـن‪ ،‬معاون احلاكم السـيايس‬
‫يف سـوق الشـيوخ عمـل يف عـايم ‪ 1916‬و ‪ 1917‬علـى حصـر السـلطة يف هـذه‬
‫املنطقـة يف يـد شـيخ واحـد اختـاره مـن بين اثنين وعشـرين شـيخا كانـوا علـى‬
‫رأس عشـائرهم أنـذاك‪ 14 14 .‬وتقـول جرتـرود بيـ�ل‪ ،‬اليت لعبت دورا كبريا يف رسـم‬
‫وتطبيـق سياسـات االحتلال واالنتـ�داب فيمـا بعـد ‪:‬‬

‫‪ .13‬فوسرت‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.112-111‬‬


‫‪ .14‬ايرالند‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪70‬‬

‫«أمـا السياسـة التي اتبعناهـا فهـي أن نعيـد للشـيخ نفـوذه وسـلطانه‬


‫‪15 15‬‬
‫ونـؤازره حبيـث جنعلـه مسـؤوال لقـاء ذلـك عـن سـلوك قبيلتـه»‪.‬‬

‫ويذكـر احلسني أن إدارة القبائـل قـد وضع لها نظام مسـتمد من عادات‬
‫وأوضـاع القبائل األفغاني�ة‪:‬‬
‫«كان قـد وضعـه السـر هنري دوبـس يـوم كان مراقبـا للشـؤون الماليـة‬
‫والقضائيـ�ة يف بلوجسـتان قبـل احلـرب العامليـة األوىل‪ .‬فاعرتف بشـيخ‬
‫واحد يف كل قبيلة وأصبح كل شـيخ‪ ،‬عني أو انتخب على هذا األسـاس‪،‬‬
‫مسـؤوال أمـام السـلطة عـن السـلم والنظـام يف قبيلتـه‪ ،‬وعـن القبـض‬
‫علـى املجرمين‪ ،‬وحفـظ خطـوط املواصلات وممتلـكات اإلجنليز‪،‬‬
‫وعـن جمـع الضرائـب‪ .‬ولقـاء ذلـك أعطـى الشـيوخ (املشـاهرات)‬
‫واملسـاعدات‪ ،‬وأحيانـا األسـلحة‪ ،‬فتأيـدت حـدود نفوذهـم‪ ،‬وغـض‬
‫النظـر عـن ضرائبهم‪ .‬وكان كل رئيس يضطر ملواالة السـلطة لئال يفقد‬
‫‪16 16‬‬
‫املسـاعدة واحلظـوة»‪.‬‬

‫ويذكـر آيرالنـد أن املنـح واملخصصـات السـرية التي كانـت تعطـى إىل‬


‫شـيوخ القبائـل يف منطقـة الدليـم ازدادت مـن ‪ 50‬ألـف روبيـ�ة عـام ‪1919‬‬
‫إىل ‪ 279‬ألـف روبيـ�ة عـام ‪ 17 17.1920‬وقـد جلـأت قـوات االحتلال أحيانـا إىل‬
‫اسـتخدام السلاح ضـد العشـائر أو األفخـاذ التي ال ختضـع لسـلطان شـيخ‬
‫املشـاخي الـذي خيتارونـه‪ ،‬كمـا حـدث بالنسـبة إىل بعـض جماعات البو سـلطان‬
‫‪18 18‬‬
‫يف ‪.1918‬‬
‫واسـتخدمت مختلـف الذرائـع لتعزيـز نفـوذ الشـيوخ الكبـار الذيـن‬
‫اصطفتهـم‪ .‬فقـد أصدر اجلنرال مارشـال‪ ،‬قائد قـوات االحتالل‪ ،‬بي�انـا أقر فيه‬
‫حبقـوق الشـيوخ الكبـار يف التصـرف يف األرايض التي كانـوا قـد جتـاوزوا عليهـا‪،‬‬
‫واسـتغل املحتلون ما كان يشـوب (حجج) التملك الصادرة من قبل السلطات‬
‫العثمانيـ�ة من غمـوض وعدم دقة يف حتديد حـدود األرايض املمنوحة للمالكني‬
‫إلحـداث التغييرات املطلوبـة يف حيـازة األرايض وتعيين احلـدود وحقـوق‬
‫‪Bell, G.L, The Letters of Gertrude Bell, Vol. 1.11, London, 1927 .15‬‬

‫‪ .16‬عبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬الثــورة العراقيــة الكــرى‪ ،‬الطبعــة الرابعــة املوســعة‪ ،‬دار الكتــب‪،‬‬
‫بــروت‪ ،1978 ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ .17‬أيرالند‪ ،‬ص ‪.220‬‬
‫‪ .18‬بطاطو‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪71‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫التصـرف بمـا يتفـق وسياسـتهم التي يريـدون تطبيقهـا يف املنطقـة املعينـ�ة‪.‬‬


‫كذلـك جلـأت إىل اسـتخدام األرايض األمرييـة التي لـم تفـوض بعـد‬
‫السـتدراج بعـض الشـيوخ إىل جانبهـم ‪ ،19 19‬وبغيـة تثبيـت نفـوذ الشـيوخ الذين‬
‫ين�اصرونهـم كان احلكام السياسـيون جياهـرون بت�أيي�دهم ويمدونهم بالسلاح‬
‫وبالهبـات والعطايـا ويعفونهـم مـن دفـع الضرائـب املرتتبـ�ة عليهـم‪ 20 20 .‬فقـد‬
‫عمـدوا إىل إعفـاء الشـيخ خزعـل (شـيخ املحمـرة) والشـيخ مبـارك الصبـاح‬
‫(شـيخ الكويـت) اللذيـن كانـا يملكان بسـاتني خنيل واسـعة يف البصـرة‪ ،‬ألنهما‬
‫سـاعداهم يف اسـتمالة بعض شـيوخ اجلنوب‪ .‬كذلك فعلوا مع شـيوخ العمارة‬
‫محمـد العريبي ومجيـد اخلليفـة وفالـح الصيهـود وشـواي الفهـد وسـلمان‬
‫املنشـد وغريهـم‪ .‬ويف املنتفــگ عمـدوا إىل منـح عـدد كبير مـن شـيوخ القبائـل‬
‫التي كانـت تنتمي إىل احتـاد قبائـل املنتفـك الذيـن جاهـروا بالـوالء لربيطانيـ�ا‬
‫مراكـز إداريـة اسـمية ورواتـب شـهرية‪.‬‬
‫لـم حيسـب املحتلـون الربيطانيـون بعقليتهـم العسـكرية املتعجرفـة‬
‫أن سياسـاتهم ذاتهـا سـتؤجج مشـاعر املقاومـة وسـتدفع بهـا إىل االنفجـار‬
‫يف فترة قصيرة‪ .‬حقـا‪ ،‬إن البلاد كمـا أوضحنـا يف الفصـل السـابق لـم تعـرف‬
‫حركـة قوميـة منظمـة حتى يف حـدود ضيقـة‪ ،‬وبوادرهـا لـم تظهر إال بعـد إعالن‬
‫الدسـتور عـام ‪ ،1908‬وإن التمـردات التي تشـهدها البلاد كانـت تمـردات‬
‫قبليـة ضيقـة محكومـة بمصالـح القبيلـة أو االحتـادات القبليـة وأعرافهـا‪ ،‬ولم‬
‫ترفـع رايـة التحـرر القـويم العـام حتى يف أوسـع أشـكالها كتمـردات املنتفـك أو‬
‫غريهـا‪ .‬وحين نشـبت ثـورة الشـريف حسين يف احلجـاز فإنهـا لـم جتـد صـدى‬
‫واسـعا يف العـراق‪ ،‬ولـم يسـع الربيطانيون الذيـن احتلوا العـراق إىل الدعـوة لها‪.‬‬
‫فهـم مـن جانـب كانـوا خيشـون رد الفعـل لـدى املسـلمني يف الهنـد الذيـن كانـوا‬
‫يعـدون الثـورة خروجـا علـى سـلطة اإلسلام وثلمـا لوحدتـه‪ ،‬ومـن اجلانـب‬
‫اآلخـر كانـوا خيشـون مـن الثورة علـى املصالـح االسـتعمارية اليت كانـوا يبيتونها‬
‫للعـراق‪ ،‬لذلـك لـم يعملوا هنا شـيئ�ا ليكسـبوا عـرب العراق للمشـاركة يف حركة‬
‫الشـريف حسين‪ 21 21 .‬وكانـت حركـة اجلهـاد إثـر دخـول القـوات الربيطاني�ة قد‬
‫انتظمت واجته املتطوعني فيها حنو (الشـعيب�ة) ملشـاركة قوات األتراك هناك‬
‫يف املعركـة ضـد هـذه القـوات حتـت شـعار «اجلهـاد ضـد الكفـار»‪ ،‬ولـم خيطـر‬

‫‪ .19‬مكــرم الطالبــاين‪ ،‬يف ســبي�ل إصــاح زراعــي جــذري يف العــراق‪ ،‬شــركة الطبــع والنشــر‬
‫األهليــة‪ ،‬بغــداد‪ ،1969 ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪ .20‬أيرالند‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ .21‬جورج أنطونيوس‪ ،‬يقظة العرب‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ، 1978 ،‬ص ‪.302‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪72‬‬

‫ببـ�ال هـؤالء املجاهديـن أن جياهـدوا دفاعـا عـن وطـن لهـم‪ ،‬وإنمـا كانـوا يـرون يف‬
‫االحتلال اإلنكليزي «حـرب الديـن وفسـاد األخلاق» كما يقـول الـوردي‪ ،‬وأن‬
‫دولـة اإلسلام‪ ،‬الدولـة العثمانيـ�ة‪ ،‬تتعـرض إىل العـدوان‪.‬‬
‫لقـد جـرت تغيرات اجتماعيـة واقتصاديـة عميقـة ىف العـراق أثنـ�اء‬
‫االحتلال‪ .‬فقـد تب�دلـت حيـاة النـاس وقيمهـم االجتماعيـة والسياسـية تبـ�دال‬
‫جوهريـا مـع التغيرات االقتصاديـة التي أحدثهـا االحتلال يف املدينـ�ة والريـف‬
‫علـى السـواء‪ .‬إذ وجـد مـن ينتفـع كثريا مـن االحتلال‪ ،‬ويف مقدمة هـؤالء التجار‬
‫الذيـن تعاطـوا التجـارة باملـواد الغذائيـ�ة واالسـتهالكية الضروريـة واملقاولين‬
‫الذيـن كانـوا يتعاطـون توفير مـا حتتاجه قـوات االحتالل مـن مواد وأيـد عاملة‪،‬‬
‫وشـيوخ القبائـل الذين سـايروا سياسـة املحتلني وضمنـوا األرض واإلعفاء من‬
‫الضرائـب واملنـح واحلظـوة‪ .‬ويف بعـض املـدن‪ ،‬كاملوصـل‪ ،‬نظـر النـاس إىل تقدم‬
‫قـوات االحتلال الربيطـاين حنـو مدنهـم كسـبي�ل لإلنقاذ مـن حالـة املجاعة اليت‬
‫انتهـوا إليهـا‪ .‬ويف بغـداد بـات أصحـاب األعمـال يتطلعـون برغبـة لالحتلال‬
‫الربيطـاين للتخلـص مـن التعامـل بالنقـود الورقيـة الـذي كان يفرضـه األتـراك‬
‫ومـا أحلقـه بمصاحلهـم مـن أضـرار‪.‬‬
‫إال أن اإلنكليز بالغـوا يف تقديرهـم لالنقسـامات الدينيـ�ة والطائفيـة‪،‬‬
‫ويف إمكانيـ�ة كسـب حماسـة النـاس لالحتلال من خلال إنفاق األموال لشـراء‬
‫الذمـم ولـم يأخذوا يف احلسـبان نـزوع العراقيني إىل احلرية وتمسـكهم بعزتهم‬
‫وكرامتهـم وعاملـوا رؤسـاءهم بفظاظـة أحيانـا‪ ،‬وحتى أمـام أفـراد عشـائرهم‪،‬‬
‫وهـم الذيـن تعلمـوا من قبل أن ال يذعنوا إىل السـلطة التي ال تنبع من أعرافهم‪.‬‬
‫لقـد تعاملـوا مـع النـاس من منطـق القـوة واإلكـراه دون أن يت�أملوا ما سـيحدثه‬
‫تعاملهـم هـذا مـن سـخط‪ .‬لقـد انزتعـت مئـات الـدور مـن سـاكنيها يف البصـرة‬
‫مثلا لألغراض العسـكرية وفعلوا الشيء ذاته حيثما تقدموا‪ .‬وأرغم عشـرات‬
‫األلـوف مـن الفالحين علـى تنفيـذ مـا حتتاجـه قـوات االحتلال مـن أعمـال‬
‫دون مقابـل‪ ،‬ويف مواسـم احلصـاد أو الـزرع أحيانـا‪ ٠‬فقـد سـيق األلـوف عنـوة‬
‫ويف ظـروف طبيعيـة قاسـية كمـا يقـول اإلداري اإلجنليزي ه‪ .‬يونـغ للعمـل يف‬
‫مـد سـكة حديـد بصـرة ‪ -‬بغـداد‪ ،‬وكان الفالحـون ‪ -‬العمـال يبيتـون يف العـراء‬
‫ودون أن يوفـر لهـم احلـد األدىن مـن الغـذاء‪ .‬ويذكـر ولسـن‪ ،‬احلاكـم العـام‪ ،‬أن‬
‫اإلدارة العسـكرية اسـتخدمت أربعين ألفـا يف أعمـال السـخرة هـذه‪ ،‬إضافـة‬
‫إىل خمسين ألفـا آخريـن يف نقـل املعـدات العسـكرية‪22 22.‬وكان بعـض شـيوخ‬
‫القبائـل يتعهدون‪ ،‬كمقاولة‪ ،‬إنشـاء الطـرق وأعمال احلفر ملـد األنابيب وغريها‬

‫‪ .22‬ل‪ .‬كوتلــوف‪ ،‬ثــورة العشــرين الوطني ـ�ة التحرريــة يف العــراق‪ ،‬تعريــب الدكتــور عبــد‬
‫الواحــد كــرم‪ ،‬دار الفــارايب‪ ،‬بــروت‪ ،‬طبعــة ثاني ـ�ة منقحــة‪ ،‬آذار ‪ ،1975‬ص ‪.65‬‬
‫‪73‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫من األعمال املماثلة ويسـخرون أفراد عشـائرهم إلجنازها‪23 23 .‬وكانت سـلطات‬


‫االحتلال تسـتوىل علـى قـوارب الفالحين ومواشـيهم لتسـتخدمها يف نقـل‬
‫معداتهـا وبضائعهـا‪ .‬ويف الوقـت الـذي كانت اجلماهري تتضور جوعـا يف املناطق‬
‫التي حيتلهـا األتـراك أو تلـك التي حيتلهـا الربيطانيـون جـراء تدهـور الزراعـة‬
‫بسـبب نسـف الطـرق ومضاربـات التجـار وأخطـار املعـارك كانـت سـلطات‬
‫االحتلال قـد حظـرت رسـميا بيع املـواد الغذائيـ�ة للنـاس إال بعـد أن تليب حاجة‬
‫القـوات املسـلحة الربيطانيـ�ة مـن هـذه املـواد أوال‪24 24 .‬ووقـف املحتلـون موقفـا‬
‫سـلبي�ا مـن حريـة الـرأي‪ ،‬وصـادروا حريـة الصحافـة يف البلاد‪ ،‬وقـد دفعـت‬
‫إجراءاتهـم هنـا إىل تزايـد اإلقبـال علـى تداول ما يتسـرب إىل البلاد من صحف‬
‫عربيـ�ة‪25 25.‬وحسـبوا أنهـم يمكـن التقليـل مـن األثـر السـليب الفتضـاح نواياهـم‬
‫وخططهـم االسـتعمارية بعد نشـر اتفاقية سـايكس‪-‬بيكو بالتضليل والكذب‬
‫والزعـم بـأن مـا نشـر ليـس اتفاقيـة مـا وإنمـا أحاديـث ومـداوالت لـم تأخـذ‬
‫صفـة رسـمية ومحـددة‪ .‬وكان املسـؤولون الربيطانيـون يف العـراق يكذبون على‬
‫رؤسـائهم يف لنـدن بشـأن موقـف الشـعب العرايق مـن االحتلال‪ .‬فكتبت املس‬
‫بيـ�ل إىل اللـورد هاردينـغ‬
‫«‪ ...‬كلمـا كانـت قبضتنـ�ا هنـا قويـة َ‬
‫سـر ذلـك األهـايل‪ ...‬إنهـم ال‬
‫يسـتطيعون أن يتصـوروا حكومـة عربي�ة مسـتقلة‪ .‬كما وأعترف بأين ال‬
‫‪26 26‬‬
‫أسـتطيع كذلـك»‪.‬‬

‫ويف برقية من ولسن‪ ،‬احلاكم العام يف بغداد إىل لندن‬


‫«إن باسـتطاعيت أن أعلـن بثقـة‪ ،‬وتدعمني يف ذلـك خبرة مـن هـم يف‬
‫معيتي مـن الضبـاط السياسـيني‪ ،‬بـأن البلاد ككل ال تتوقـع وال ترغـب‬

‫‪ .23‬د‪ .‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬بدايــات الطبقــة العاملــة يف العــراق‪ ،‬وزارة الثقافــة واإلعــام‪،‬‬
‫بغــداد‪ ،1980 ،‬ص ‪.80‬‬
‫‪ .24‬يتهــم عبــد الــرزاق احلســي ســلطات االحتــال ذاتهــا بإحــداث املجاعــة ويقــول‬
‫إن املحتلــن «احتكــروا األقــوات وابت�اعوهــا بأخبــس األثمــان ثــم باعوهــا بأثمــان عاليــة‬
‫جــدا األمــر الــذي أدى إىل مجاعــة عامــة» (الثــورة العراقيــة الكــرى‪ ،‬ص‪ .)115‬وينقــل‬
‫كوتلــوف عــن ولســن أن حــوايل عشــرة أالف شــخص مــات باملجاعــة يف املوصــل يف شــتاء‬
‫‪.1918/1917‬‬
‫‪ .25‬د‪ .‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬صفحــات مــن تاريــخ العــراق املعاصــر‪ ،‬مكتبــ�ة البدليــي‪،‬‬
‫بغــداد‪ ،1987 ،‬ص ‪.61‬‬
‫‪ .26‬د‪ .‬غسان العطية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ ،220‬هامش ‪.27‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪74‬‬

‫بمثـل هـذه اخلطـة املغامرة السـتقالل كالذي يلمـح به البيـ�ان األنكلو‪-‬‬


‫فرنسي إن لـم نقـل يشير إليـه بوضـوح» ويسـتطرد «إن العـرب‬
‫‪27 27‬‬
‫راضـون باحتاللنـا»‪.‬‬

‫لقـد ظـل الربيطانيـون يلعبون سياسـة ذات وجهني بشـأن مطامعهم يف‬
‫العـراق مـن أجـل أن خيفوا نواياهـم احلقيقية فيه‪ ،‬ويضاربون علـى انعدام وعي‬
‫قـويم عـام وموحـد يف البلاد‪ ،‬حىت فاجأهم هـذا الوعي يف ثورة العشـرين‪.‬‬
‫ليـس مـن الهين حتديـد املسـار الـذي اختـذه تطـور الوعـي السـيايس‬
‫الوطني العـام يف سني االحتلال‪ .‬فلأن البلاد لـم تؤلـف بعـد كيانـا سياسـيا‬
‫متماسـكا واحـدا‪ ،‬وألن النـاس كانـت تتوزعهـم والءات مختلفـة‪ ،‬بـل ومتقلبـة‬
‫أحيانـا‪ ،‬تعـذر يف البـدء أن يتطـور مثـل هـذا الوعي‪ .‬ولكـن حيثما وجـدت عوامل‬
‫حتفـز علـى السـخط‪ ،‬وعناصـر قويـة وذات نفـوذ واسـع وقـادرة علـى جـذب‬
‫اجلماهير الواسـعة وراءهـا‪ ،‬كانـت املواقـع املعينـ�ة‪ ،‬سـواء كانـت مدنـا ًأو ريفـا‬
‫تتحـرك ًمعبرة عـن رغبة النـاس يف التخلص من احلكـم الغريب‪ ،‬تركيـا كان أو‬
‫بريطانيـ�ا‪ .‬لقـد شـملت الرغبـة يف التخلـص مـن احلكـم األجنيب أحنـاء مختلفة‬
‫مـن البلاد‪ ،‬شـملت النجـف وكربلاء واحللـة‪ ،‬وحتـركات كرديـة قادهـا الشـيخ‬
‫محمـود احلفيـد يف السـليماني�ة واملـدن واألرياف املحيطة بها‪ ،‬وحتـركات كردية‬
‫أخـرى يف العماديـة وعقـرة وكفري وبين قبائل كيوان يف أربي�ل‪ ،‬وحتركت عشـائر‬
‫ألبونمـر والعكيـدات وشـمرجربا يف اجلزيـرة وتلعفـر بالتوافـق مـع حتـركات‬
‫جماعـة (العهـد) مـن دير الـزور‪ ،‬وكذلـك حتركات بني عشـائر الفرات األوسـط‬
‫وبنى مالـك ىف شـمال القرنـة‪ .‬واختـذت مواقـف السـكان يف بغـداد والكاظميـة‬
‫والنجف وكربالء أكرث وضوحا يف املطالبة باالسـتقالل ردا على االسـتفتاء الذي‬
‫أجـراه ولسـن‪ ،‬احلاكـم الربيطـاين العـام‪ ،‬لزتييـف إرادة الشـعب‪ .‬فقـد أشـارت‬
‫«مضبطـة» الكاظميين إىل «حكومـة عربيـ�ة للعـراق تمتد من شـمايل املوصل‬
‫إىل اخلليـج العـريب يرأسـها ملـك عـريب مسـلم‪ ...‬علـى أن يكـون مقيـدا بمجلس‬
‫تشـريعي وطني»‪ ،‬وكانـت «مضبطة» بغـداد مفاجـأة للإدارة الربيطاني�ة مما‬
‫اضطرهـا إىل سـحب عمالئهـا مـن االجتمـاع املنعقـد لهـذا الغـرض‪ ،‬وسـارعت‬
‫إىل اعتقـال اثنين مـن زعمـاء احلركـة همـا محمـود السـنوي واحلـاج رشـيد‬
‫الشـبالوي وقـررت إبعادهمـا إىل خـارج العـراق‪ .‬وجـاء يف «املضبطـة» عبـارة‬
‫‪28 28‬‬
‫واضحـة الداللـة‪« :‬طلـب حكومـة عربيـ�ة ال حتميهـا دولـة أوربيـ�ة»‪.‬‬
‫‪ .27‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.231‬‬
‫‪ .28‬محمــودا لعبطــة‪ ،‬بغــداد وثــورة العشــرين‪ ،‬مطبعــة الشــعب‪ ،‬بغــداد‪ ،1977 ،‬ص‪11‬‬
‫و‪.12‬‬
‫‪75‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫لـم يكـن بوسـع احلكومـة الربيطانيـ�ة يف لنـدن أن جتاهـر بأغراضهـا‬


‫االسـتعمارية يف وقـت اشـتدت فيـه الدعـوة إىل حـق تقريـر املصير‪ ،‬حتى لقـد‬
‫اضطـر رئيـس الـوزراء الربيطـاين‪ ،‬أسـكويث‪ ،‬إىل التصريـح يف ‪ 5‬كانـون الثـاين‬
‫‪:1918‬‬
‫«إن جزيـرة العـرب وأرمينيـ�ا وبلاد الرافديـن‪ .‬وسـوريا وفلسـطني‬
‫‪29 29‬‬
‫تسـتحق يف تقديرنـا االعتراف بظروفهـا القوميـة املنفصلـة»‪.‬‬

‫لكـن تطبيقـات اإلدارة الربيطانيـ�ة ىف بغـداد كانـت تذهـب إىل منحى‬


‫آخـر‪ ،‬وشـرعت حتـذر مـن التعلـق باآلمـال الطموحـة‪ .‬بيـ�د أن حتذيـرات هـذه‬
‫اإلدارة لـم تعـد تلقـى هـوى لـدى النـاس لذلـك شـرعت تبحـث عـن طريـق آخر‬
‫يتصـف باملداهنـة‪ ،‬كمـا تذهـب إىل ذلـك وزارة الهنـد يف مذكـرة لهـا بت�اريـخ ‪31‬‬
‫كانـون الثـاين ‪ :1918‬إن خير وسـيلة للتوفيـق بين هـذا التطور وبين مخططات‬
‫بريطانيـ�ا يف العـراق هـو‬
‫«لـو أمكـن إقنـاع الشـعب املعني أو رؤسـائه املحليني ني�ابة عنـه بقبول‬
‫‪30 30‬‬
‫مسـاعدتن�ا وإشـرافنا بموافقتـه ذاتهـا»‪.‬‬

‫لعبـت عوامـل عديدة يف التعجيل بالتطور السـيايس الـذي حصل خالل‬


‫السـنتني أو الثالث اليت اسـتطاعت سـلطات االحتالل أن تبسـط فيها نفوذها‬
‫علـى العـراق‪ ،‬واختـذ هـذا التطور أشـكاال فكريـة وتنظيمية ومن بعد نشـاطات‬
‫سياسـية وعسـكرية تكاملـت مـن بعـد ىف ثـورة العشـرين‪ ،‬وكان هـذا التطـور‬
‫يتسـارع ويتسـع وتعـددت أشـكاله مـع تـوايل النشـاطات واغتنـ�اء احلركـة‬
‫بتجـارب جديدة‪.‬‬
‫إن تـوايل البي�انـات والتصرحيـات اليت حتدثت عن الرغبة يف منح شـعوب‬
‫املنطقـة حقهـا يف تقرير مصائرها حبرية (بيـ�ان اجلرنال مود عند احتالل بغداد‪،‬‬
‫والبيـ�ان األنكلـو‪ -‬فرنسي الصـادر يف تشـرين األول ‪ ،1918‬وإعلان الرئيـس‬
‫األمريكي ولسـن مبادئه األربعة عشـر وإعالن البالشـفة حق تقرير املصري غري‬
‫املشـروط لشـعوب مـا وراء القفقاس القريبـ�ة من احلدود العراقية» شـجعت‬
‫الدوائـر الوطنيـ�ة للحديـث عـن االسـتقالل والوعـي بضرورته وضـرورة العمل‬
‫مـن أجلـه‪ .‬كذلـك شـجع هـذا املنحى النشـاط الكبير الـذي شـهدته سـوريا‬

‫‪ .29‬د‪ .‬غسان العطية‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.346‬‬


‫‪ .30‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.346‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪76‬‬

‫لتأسـيس دولتهـا العربيـ�ة اخلاصة ووجود أعـداد كبرية من الضبـاط العراقيني‬


‫فيها ومشاركتهم النشيطة يف تكوين هذه الدولة واخنراطهم يف نشاط سيايس‬
‫مزتايـد لتحقيـق ذات الغرض يف العراق‪ .‬كذلك شـجع هذا النشـاط جناح الثورة‬
‫الروسـية وحتقيقهـا االنتصار ضد قـوات التدخل األجنبي ويف مقدمتها القوات‬
‫الربيطانيـ�ة التي اختـذت مـن العـراق قاعـدة للتدخـل ولزتويـد قـوات التدخـل‬
‫بالرجـال والسلاح‪ ،‬واقرتاب القوات الروسـية مـن احلدود العراقية الشـرقية‪.‬‬
‫ولعبـت الثـورة الكماليـة يف تركيـا يف صيـف ‪ 1919‬دورهـا يف إثـارة املشـاعر ضـد‬
‫اإلجنليز السـيما بين أوسـاط املوظفين السـابقني الذيـن كانـوا يعرفـون باسـم‬
‫«األفنديـة» وشـجعتهم علـى النشـاط‪ .‬وجـاءت خطـوة احلاكـم العسـكري‬
‫العـام إلجـراء «االسـتفتاء» الذي أرادتـه حكومة لندن للتعرف علـى آراء الناس‬
‫يف املسـتقبل الذي يريدونه لبالدهم‪ ،‬والذي أداره ويلسـن بالشـكل الذي يزيف‬
‫فيـه هـذه اآلراء‪ ،‬نقول جاء هذا االسـتفتاء لينشـط احلركة السياسـية يف البالد‬
‫كثيرا وحيفـز الوطنيين إىل طرح شـعار االسـتقالل بقوة‪.‬‬
‫يف هذه السـنوات أيضا خطت احلركة الوطني�ة خطوات محسوسة حنو‬
‫توحدهـا وبلـورة أهدافهـا وتوجههـا حنـو التنظيم‪ .‬فقـد تكونت منظمات سـرية‬
‫نشـيطة وأقامت لها فروعا يف املدن الرئيسـية منها «حرس االسـتقالل» وكان‬
‫مـن أعضائهـا محمـود رامـز وعلـي البزركان وعـارف حكمـت وآخـرون‪ ،‬وأنضـم‬
‫إليهـا يوسـف السـويدي ومحمـد جعفـر أبـو التمـن ومحمـد الصـدر‪ ،‬وأقامـت‬
‫لهـا فروعـا يف الكاظميـة واحللة والنجـف وكربالء ومدن وقرى أخـرى يف الفرات‬
‫األوسـط‪ ،‬وكانـت حتظـى بت�أييـ�د املرجـع الديني األعلى للشـيعة أيـة هللا محمد‬
‫تقي الشيرازي‪ .‬كذلك أسسـت «جمعيـة العهد العراقية» التي اختذت مقرها‬
‫يف دمشـق فرعا لها يف بغداد وآخر يف املوصل‪ ،‬وكانت توزع املناشير السياسية يف‬
‫املناطق العربي�ة والكردية‪ .‬وتأسسـت جمعية سـرية أخرى باسـم «الشـبيب�ة»‬
‫مـن بين أعضائهـا محمد عبد احلسين وسـعد صالح وسـايم خونـده وصادق‬
‫حبـه وغريهـم‪ ،‬وقـد انضمـت هـذه مـن بعـد إىل «حرس االسـتقالل‪ ...‬وأسـس‬
‫كنـه‪ ،‬الوطني اجلـريء الذي أعـدم يف عـام ‪« 1920‬حـزب الدفاع»‬ ‫عبـد املجيـد ً‬
‫الذي لعب دورا مجيدا يف الدفاع عن الشـخصيات الوطني�ة وتسهيل حتركاتها‪.‬‬
‫وكان يف رأس مـا حققـه الوطنيـون آنـذاك لتسـهيل نضاالتهـم وجـذب‬
‫اجلماهير الشـعبي�ة إليهـا هـو جناحهـم يف جتـاوز احلساسـيات املذهبيـ�ة‬
‫والطائفية‪ ،‬وتوحيد النشـاط السـيايس السني والشـيعي‪ ،‬وعقـد االجتماعات‬
‫واملواكـب املشتركة‪ ،‬وقـد اسـتغلت المآتـم احلسـيني�ة واملوالـد النبويـة‬
‫مناسـبات للجمـع بين اجلماهير السـني�ة والشـيعية يف بغـداد والكاظميـة‬
‫واألعظميـة‪ .‬واختـذوا مـن اجلوامـع الكبيرة املنتشـرة يف بغـداد واملـدن األخـرى‬
‫‪77‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ومـا تتمتـع بـه مـن حرمـات تتردد قـوات االحتلال مـن املسـاس بهـا‪ ،‬أماكـن‬
‫لعقـد االجتماعـات اجلماهرييـة واسـتغالل خطـب اجلمعـة لنشـر الدعايـة‬
‫لالسـتقالل بين اجلماهير البسـيطة‪ 31 31.‬وطـوروا أسـاليبهم النضاليـة‪:‬‬
‫فوزعـوا املنشـورات‪ ،‬وأصـدروا الصحـف ‪ ، 32 32‬ونظمـوا املواكـب واالجتماعـات‬
‫والتظاهـرات‪ ،‬وسـعوا إىل إقامـة االتصـاالت مـع اخلـارج وتعريـف الشـعوب‬
‫‪33 33‬‬
‫األخـرى بقضيـة الشـعب العـرايق‪.‬‬

‫‪ .31‬كتــب الزعيــم الوطــي محمــد جعفــر أبــو التمــن إىل اإلمــام الشــرازي واصفــا مــزاج‬
‫اجلماهــر يف بغــداد‪:‬‬
‫«حــاالت حاضرنــا تتحســن يومــا بعــد يــوم‪ ،‬فلــم يبــق عالــم أو شــريف أو نقيــب أو وضيــع‬
‫إال وتــراه يفتخــر باالشــراك يف اخلدمــات‪ »...‬فيجيبـ�ه الشــرازي‪« :‬ســرنا احتــاد كلمــة األمــة‬
‫البغداديــة واندفــاع علمائهــا ووجوههــا وأعيانهــا إىل املطالبــة حبقــوق األمــة املشــروعة»‬
‫(محمــود العبطــة‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص‪ 20‬نقــا عــن مزهــر الفرعــون‪ ،‬احلقائــق الناصعــة يف‬
‫الثــورة العراقيــة‪ ،‬ص ‪.)69‬‬

‫‪ .32‬أصــدر أحمــد عــزت األعظــي (‪ )1936 - 1884‬عضــو الهيئـ�ة اإلداريــة لفــرع جمعية‬
‫العهــد العراقيــة يف بغــداد يف تمــوز ‪ 1919‬مجلــة (اللســان)‪ ،‬وكانــت املجلــة تنشــر مــا يبعــث‬
‫علــى الثقــة يف نفــوس النــاس‪ ،‬وتعمــل علــى إعدادهــم للتحــرك‪ .‬وصــدرت بعدهــا جريــدة‬
‫(االســتقالل) لصاحبهــا عبــد الغفــور البــدري‪ ،‬وكان يــرأس حتريرهــا قاســم محمــد خضــر‬
‫العلــوي مــن أعضــاء الهيئ ـ�ة اإلداريــة جلمعيــة (العهــد العراقيــة) أيضــا‪ ،‬وكانــت تســعى‬
‫إىل نشــر الدعــوة إىل االســتقالل وأهــداف احلركــة الوطنيــ�ة األخــرى‪ .‬وقــد حتولــت إىل‬
‫مؤسســة شــعبي�ة يدعمهــا الوطنيــون بالمــال والقلــم‪ ..‬كمــا يالحــظ روفائيـ�ل بطــي يف كتابــه‬
‫(الصحافــة يف العــراق)‪ ..‬انظــر‪ ،‬محمــود العبطــة‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪ .41‬وقــد صــدرت‬
‫يف النجــف حينمــا حتــررت مــن نــر االحتــال أيــام ثــورة العشــرين جريدتــان لعبتـ�ا دورا هامــا‬
‫يف إلهــاب مشــاعر النــاس لتأيي ـ�د الثــورة وفضــح مــرايم املحتلــن والدعــوة إىل االســتقالل‪:‬‬
‫األوىل هــي جريــدة االســتقالل وكان الســيد محمــد عبــد احلســن هــو صاحــب االمتيــ�از‬
‫ومحررهــا األســايس‪ ،‬أمــا الثانيـ�ة فكانــت جريــدة (الفــرات) وكان يشــرف عليهــا محمــد باقــر‬
‫الشــبييب‪ ،‬وهومــن مؤســي جمعيــة حــرس االســتقالل الســرية وحيــرر معظــم مقاالتهــا (د‪.‬‬
‫كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬صفحــات مــن تاريــخ العــراق املعاصــر‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪.) 65/64‬‬

‫‪ .33‬يذكــر املستشــرق الســوفييت ف‪-‬أ‪-‬كوركــو‪ -‬كرياجــن يف كتابــه «حركــة التحــرر‬


‫الوطــي يف الشــرق العــريب‪ ،‬بــاد مــا بــن النهريــن» الصــادر يف عــام ‪ 1922‬أن عراقيــن مــن‬
‫بغــداد والبصــرة اشــركوا يف مؤتمــر أرضــروم الــذي عقــده الوطنيــون األتــراك أيــام نضالهــم‬
‫بقيــادة مصطفــى كمــال‪ .‬ويؤكــد املؤلــف الــذي يوصــف باالطــاع الواســع علــى تاريــخ‬
‫تركيــا احلديــث‪ ،‬وجــود اتصــاالت أخــرى بــن الوطنيــن العراقيــن ومصطفــى كمــال وأن‬
‫ً‬
‫وفــدا عراقيــا وصــل إىل ديــار بكــر إلجــراء مباحثــات بــن الطرفــن مــن أجــل النضــال املشــرك‬
‫(د‪ .‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬ثــورة العشــرين ىف االستشــراق الســوفييت‪ ،‬بغــداد‪ ،‬مطبعــة الزمان‪،‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪78‬‬

‫يف الثالثني من حزيران اندلعت ثورة العشـرين بعد أن سـبقتها ومهدت‬


‫لها النشـاطات اليت أشـرنا إليها يف بغداد وكردسـتان وتلعفر والفرات األوسـط‬
‫وكربلاء والنجـف‪ .‬لقـد أظهـرت هـذه النشـاطات أن صـدر الشـعب قـد ضـاق‬
‫مـن سياسـات اإلدارة الربيطانيـ�ة التي كان يهمهـا قبـل كل يشء تأمين وجـود‬
‫وتنقـل قـوات االحتلال وراحتهـا علـى حسـاب أبن�اء الشـعب السـيما فقراءهم‬
‫مـن الفالحين وكاديح املـدن‪ ،‬وبدأت الدعـوات اليت كان يطلقهـا زعماء احلركة‬
‫جتـد الرتحيـب لدى أبنـ�اء الشـعب يف املـدن واألرياف‪.‬‬
‫لـم حتـدث الثـورة بشـكل مفـائج كمـا يصـور أحيانـا‪ :‬يعتقـل شـعالن أبـو‬
‫اجلون يف الرميث�ة فتسـارع عشيرته إىل الهجوم على (السـراي) وتطلق سراحه‬
‫وتن�دلـع الثـورة! لـم حتـدث الثـورة علـى هـذا النحـو‪ ،‬وإن شـكل حـادث الرميثـ�ة‬
‫عالمـة بـارزة يف مجـرى األحـداث‪ .‬فلقـد كانـت نشـاطات بغـداد بوجـه خـاص‬
‫والنشـاطات األخـرى السـيما يف كربلاء والنجـف‪ ،‬تشير كلهـا إىل أن األوضـاع‬
‫مفضيـة إىل ثـورة كبيرة‪ .‬فلقـد توالـت االتصاالت والزيـارات بني قـادة الرأي يف‬
‫بغـداد وكربلاء والنجـف لتبـ�ادل الـرأي وتوحيـد اخلطـط‪ .‬وجاءت وفاة السـيد‬
‫محمـد كاظـم اليزدي وانتقـال الزعامة الديني�ة للشـيعة إىل الشـيخ محمد تقي‬
‫احلائـري الشيرازي املعروف بت�أييـ�ده احلار حلركة املطالبة باالسـتقالل‪ ،‬لزتيد‬
‫يف زخـم احلركـة‪ .‬ويف ‪ 3‬أيـار ‪ 1920‬أعلـن قـرار (سـان ريمـو) القـايض بفـرض‬
‫االنتـ�داب الربيطـاين علـى العـراق‪ ،‬فـزاد يف عـزم احلركـة علـى االنتفـاض‪ .‬ويف‬
‫‪ 26‬أيـار انتخـب متظاهـرو بغـداد عـددا مـن الشـخصيات السياسـية لتقديـم‬
‫مذكـرة للحاكـم العـام‪ .‬وقـد قدمـت املذكـرة فعلا وحتدد يـوم ‪ 2‬حزيـران ‪1920‬‬
‫موعـدا للتـداول فيهـا‪ .‬وكان يومـا مشـهودا‪ ،‬إذ دافـع الوفـد حبـرارة عـن مطالـب‬
‫الشـعب‪ 34 34.‬ورد احلاكـم العـام بعنـف علـى الوفـد وقـال بصراحـة!‬

‫‪ .)1977‬ويذكــر أيضــا أن الشــيخ رضــا الشــبييب غــادر النجــف إىل احلجــاز حامــا رســالة من‬
‫زعمــاء احلركــة الوطنيـ�ة يف النجــف لتعريــف الشــريف حســن باالســتعدادات اجلاريــة يف‬
‫العــراق إلعــان الثــورة وطلــب دعمــه للمطالبــة باالســتقالل وتكويــن دولــة عربيـ�ة يرأســها‬
‫أحــد أجنالــه‪.‬‬

‫‪ .34‬حملت النكرة املطالب التالية‪:‬‬


‫ً‬
‫أوال‪ :‬اإلســراع يف تأليــف مؤتمــر يمثــل األمــة العراقيــة ليعــن مصريهــا ويقــرر شــكل إدارتهــا‬
‫يف الداخــل ونــوع عالقاتهــا باخلــارج‪.‬‬
‫ً‬
‫ثاني�ا‪ :‬منح احلرية للمطبوعات ليتمكن الشعب من اإلفصاح عن رغائب�ه وأفكاره‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثــا‪ :‬رفــع احلواجــز املوضوعــة يف طريــق الربيــد والــرق بــن أحنــاء القطــر أوال‪ ،‬وبــن‬
‫األقطــار املجــاورة‪ ،‬ليتمكــن النــاس هنــا مــن التفاهــم مــع بعضهــم‪ ،‬ومــن االطــاع علــى ســر‬
‫السياســة الراهنــة يف العالــم‪ .‬وقــد اســتهل الوفــد املفــاوض مذكراتــه بالقــول‪« :‬إن الشــعب‬
‫‪79‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫«إنني لـن أتـردد يف االسـتعانة بالسـلطة العسـكرية السـتخدام القـوة‬


‫الكافيـة السـتتب�اب النظـام يف البلاد»‪.‬‬

‫فجـاءت حادثـة اعتقال شـعالن أبو اجلون يف ‪ 30‬حزيـران لتفجر الوضع‬


‫املتـأزم يف منطقـة الفـرات األوسـط برمتهـا‪ ،‬واحتـل الثـوار عـددا مـن املـدن‬
‫واملناطـق يف الفـرات األوسـط وأقامـوا فيهـا حكومـات محليـة تولـت تقديـم‬
‫اخلدمـات للنـاس وصيانـة األمـن والنظـام فيهـا‪ .‬وأثـارت انتصـارات الثـوار يف‬
‫الرارنجيـة وغريهـا حماسـة املناطـق األخـرى للمشـاركة يف الثـورة‪ ،‬كمـا حفـزت‬
‫رسـائل شـيخ الشـريعة األصفهـاين الـذي خلـف الشيرازي يف الزعامـة الديني�ة‬
‫إثـر وفاتـه أيـام الثـورة‪ ،‬يف حتريك الغـراف والناصريـة وغريها‪ ...‬وهكـذا امتدت‬
‫الثـورة إىل الغـراف وسـوق الشـيوخ وديـاىل والفلوجـة وهيـت وعانـة‪ ،‬وحاصـر‬
‫الثـوار مدينـ�ة سـامراء‪ .‬وخشـية انتشـار الثـورة إىل مناطـق أخـرى مـن البلاد‬
‫اسـتغل احلاكم العام وفاة اإلمام الشيرازي فبعث إىل خليفته يف املركز الديين‪،‬‬
‫شـيخ الشـريعة األصفهـاين‪ ،‬داعيـا إيـاه إىل املفاوضـات‪ .‬وقـد أثار طلـب اإلدارة‬
‫الربيطانيـ�ة هـذا االرتبـ�اك ىف صفـوف الثـوار‪ ،‬بين مـن يؤيـد املفاوضـات مـن‬
‫الذيـن شـعروا بوطـأة األضـرار والضحايـا التي حلقـت بهـم وبعشـائرهم وبين‬
‫مـن كان يرفضهـا ويشـدد أن ال مفاوضـات قبـل جلاء أخـر جنـدي بريطـاين من‬
‫العـراق‪ .‬وقـد جـاء رد شـيخ الشـريعة األصفهـاين قاطعـا يف رفضـه التهديـدات‬
‫الربيطانيـ�ة التي حواهـا كتـاب احلاكـم العـام‪.‬‬
‫تعـرض رد الثـوار إىل النقـد‪ 35 35‬ألنـه جـاء قاطعـا يف رفضـه املفاوضـات‬
‫ولـم يعمـل علـى دفـع األمـور لصالـح الثـوار مـن خلال املفاوضـات يف وقـت لم‬
‫تؤكـد فيـه الثـورة قدرتهـا علـى إحلـاق الهزيمـة الكليـة باملحتلين وحتريـر البالد‬
‫منهـم برغـم مـا أحلقتـه بهـم مـن خسـائر كبيرة‪ .‬ال ننسى هنـا أن قيـادة الثـورة‪،‬‬
‫وأغلبهـم مـن السـادة املالكين وشـيوخ العشـائر ورجـال الديـن‪ ،‬لـم تكـن‬
‫تتسـم بالثبـ�ات وتفتقـر إىل الوحـدة والتنظيـم‪ ،‬وتعوزهـا اخلبرة يف التعامـل مع‬
‫عـدو قـوي يتصـف بالدهـاء واملراوغـة‪ .‬ولـم تكـن هـذه القيـادة وعمـوم قيـادة‬

‫قــد انت�دبنـ�ا بمظاهراتــه الــي أقامهــا ليلــة ‪ 26‬مايــو للني�ابــة عنــه‪ ،‬يف مطالبــة الســلطة املحتلــة‬
‫ومفاوضــة رجالهــا بشــأن تنفيــذ ثالثــة مطاليــب جوهريــة يــرى الشــعب ومعظــم قــادة‬
‫أرائــه تنفيذهــا حــاال‪ ،»...‬واختتمــت املذكــرة بالقــول‪« :‬فبصفتن ـ�ا نوابــا عــن أهــايل بغــداد‬
‫والكاظميــة نطلــب إليكــم أن تصادقــوا علــى تنفيــذ هــذه املطاليــب الثالثــة بــكل ســرعة‬
‫ممكنــة» (محمــود العبطــة‪ ،‬ص ‪.)19 ،18‬‬
‫‪ .35‬انظــر‪ ،‬عبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬تاريــخ العــراق الســيايس احلديــث‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص‬
‫‪.145‬‬
‫ربلا لالتحالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪80‬‬

‫فصائلهـا موحـدة املصالـح‪ ،‬كمـا لم تكن تتحـرك وفق خطط مدروسـة ويف إطار‬
‫استراتيجيات واضحـة‪ .‬لذلـك لـم يكـن غريبـ�ا أن تعجـز عـن تلقـف الفرصـة‬
‫املناسـبة إلنقـاذ الثـورة مـن انهيـار محتـوم‪ .‬لقـد حالـت عوامـل عديـدة دون أن‬
‫تسـتطيع الثـورة املجيـدة مـن حتقيـق غاياتهـا‪ .‬فعـدا عن طبيعـة القيـادة ذاتها‪،‬‬
‫كان هنـاك تب�ايـن كبير يف قـدرات الطرفين العسـكرية والفنيـ�ة والماليـة‪ .‬كمـا‬
‫أنهـا اندلعـت يف أماكـن متفرقـة متب�اعـدة دون ترابـط وتنسـيق فيمـا بين قواها‬
‫ودون توقيـت عسـكري مالئـم يف إطار خطـط موحدة عامة‪ ،‬وظلـت التحركات‬
‫جتـري علـى منـوال ما اعتـادت عليه القبائـل من قبـل‪ ،‬ودون أن ترغب العشـائر‬
‫يف دمـج قواهـا وإخضاعهـا إىل قيـادة عامـة واحـدة‪ ،‬كمـا عجـزت عـن جـر مـدن‬
‫ومناطـق أساسـية أخـرى مـن البلاد إىل جانبهـا‪ ،‬وحتى يف الفـرات األوسـط‪،‬‬
‫منطقـة الثـورة األساسـية لـم تنجـر كل القبائـل إىل جانـب الثـورة بت�أثير مـن‬
‫شـيوخها ذوي االرتب�اطـات باحلـكام السياسـيني‪ ،‬ويف حـاالت معينـ�ة أمكـن‬
‫للمحتلين أن يسـتخدموهم ضـد الثـورة‪ .‬ولكننـ�ا نعـود لنسـتدرك‪ :‬إن زعمـاء‬
‫الثـورة بتجربتهـم املحـدودة يف التعامـل مـع الساسـة الربيطانيين البارعين يف‬
‫التحايـل واملراوغـة مـا كان بوسـعهم أن خيرجـوا مـن املفاوضـات‪ ،‬يف ظـل تـوازن‬
‫قـوي ليـس لصاحلهـم‪ ،‬بنتـ�اجئ جديـة‪ .‬ومـع ذلـك فإنهـم أعطـوا بريطانيـ�ا درسـا‬
‫قاسـيا لـم ختـرج منـه بسـهولة وقـد أربـك خططهـا وأرغمهـا علـى أن تبحث عن‬
‫‪36 36‬‬
‫حلـول للمشـاكل التي وجـدت نفسـها فيهـا بوسـيلة أسـلم وكلفـة أقـل‪.‬‬
‫بعـد ثورة العشـرين اجتهـت السياسـة الربيطاني�ة يف العراق يف مسـارين‬
‫يكمـل أحدهمـا اآلخـر‪ :‬إجيـاد أنسـب األوضـاع والعالقـات السياسـية بين‬
‫الطرفين تؤمـن للرأسـمال الربيطـاين نهـب ثـروات البلاد وتبعيتهـا لربيطاني�ا‪،‬‬
‫ومـن اجلانـب األخـر‪ ،‬خلـق قاعـدة اجتماعيـة لهـا مصلحـة يف املحافظـة علـى‬
‫الهيمنـة االسـتعمارية واسـتمرارها‪ ،‬ودون أن يتكفـل دافـع الضريبـ�ة الربيطاين‬
‫باألعبـاء الماليـة لهـذا الوضـع‪.‬‬
‫‪ .36‬يقــدر لونكريــك املبالــغ الــي أنفقــت لقمــع الثــورة بأربعــن مليــون بــاون اســرليين‬
‫وهــذا «يفــوق كثــرا املبلــغ الــذي تــم أنفاقــه علــى احللفــاء العــرب خــال احلــرب يف احلجــاز‬
‫وســوريا» (لونكريــك‪ ،‬العــراق احلديــث ‪ ،1950-1900‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪ .)201‬ويقــدر‬
‫اجلــرال هالديــن القــوات الربيطانيــ�ة يف العــراق يف بدايــة الثــورة ب ‪ 60،200‬جنــدي‬
‫وضابــط وزادت يف نهايــة آب ‪ 1920‬لتصــل إىل ‪ 131،020‬جنــدي وضابــط‪ .‬وإن الربيطانيــن‬
‫كانــوا ينفقــون‪ 519،700‬بــاون اســرليين أســبوعيا‪ .‬وقــدر عــدد القتلــى واجلــرىح واملفقودين‬
‫مــن القــوات الربيطاني ـ�ة بـــ ‪( 2269‬غســان العطيــة‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص‪.)443‬‬
‫‪3‬‬
‫العــراق في ظل االنتداب‬

‫ً‬
‫قلنـا سـابقا إن ثـورة العشـرين‪ ،‬برغـم كونهـا فشـلت يف حتقيـق املطالـب‬
‫التي رفعهـا الثـوار باالسـتقالل‪ ،‬إال أنها أجبرت بريطاني�ا على أن تعيـد النظر يف‬
‫خططهـا اخلاصـة حبكم العراق‪ ،‬وأرغمتها على سـلوك سـبي�ل املنـاورة واخلداع‬ ‫ً‬
‫بدال من اللجوء إىل القوة‪ .‬لذلك سـارت سياسـاتها بعد الثورة يف مسـارين يتمم‬
‫أحدهمـا األخـر‪ :‬األول‪ ،‬أن تسـتعيض باالنتـ�داب عن احلكم الربيطاين املباشـر‪،‬‬
‫أي بإجيـاد لـون مـن احلكـم املحلـي‪ ،‬حكـم عـرايق الشـكل يمـول نفسـه بنفسـه‬
‫وخيلـق الوهـم لـدى العراقيني بأنهم حيكمون أنفسـهم‪ ،‬ويشـرف عليـه مندوب‬
‫سـايم بريطـاين لـه الكلمـة العليـا والنافـذة يف كل األمـور الهامـة‪ ،‬ومستشـارون‬
‫يلحقـون بالـوزارات العراقيـة ويشيرون علـى الـوزراء بمـا ينبغـي فعلـه إزاء كل‬
‫قضيـة‪ ،‬علـى أن حيظـى هذا االنتـ�داب بتفويض مـن الدول األعضـاء يف عصبة‬
‫األمـم‪ .‬أمـا املسـار الثـاين فيتمثـل يف خلـق قاعـدة اجتماعيـة ذات مصلحـة يف‬
‫ديمومـة املصالـح الربيطانيـ�ة يف العـراق وتبعيتـ�ه لها‪.‬‬
‫لتحقيـق اجلانـب األول عملـت بريطانيـ�ا بمـا عـرف عنهـا مـن مهـارة يف‬
‫الدبلوماسـية واملنـاورة علـى تأمين احلصـول علـى موافقـة املجتمـع الـدويل‬
‫علـى انت�دابهـا يف العـراق‪ .‬وكان يقـف أمـام هـذا التفويـض‪ ،‬الدعـوات التي‬
‫حملهـا الرئيـس األمريكـي ولسـن إىل مؤتمـر الصلـح واملتمثلـة بإعطـاء حـق‬
‫تقريـر املصير للبلـدان التي انسـلخت عـن الدولـة العثمانيـ�ة‪ ،‬والتن�اقضـات‬
‫الفرنسـية‪ -‬اإلنكلزييـة بشـأن تقسـيم الغنائـم‪ .‬اسـتطاعت بريطانيـ�ا أن تنـ�ال‬
‫املوافقـة األمريكيـة علـى انت�دابهـا بعـد أن أقنعـت الرئيـس ولسـن بـأن الـدور‬
‫الربيطـاين سـيقتصر علـى إعـداد الشـعب العـرايق إلدارة شـؤونه بنفسـه‪ ،‬وأن‬
‫‪83‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫بريطانيـ�ا تدخـل يف معاهـدة مـع «دولة عراقية « علـى قدم املسـاواة‪ ،‬ويلوح لنا‬
‫آن بريطانيـ�ا حصلـت على هذه القناعة يف إطار صفقة تشـارك فيها الشـركات‬
‫األمريكية النفطية يف شـركة النفط الرتكية اليت أبدلت اسـمها إىل شـركة نفط‬
‫العـراق‪ .‬أمـا التن�اقضـات الفرنسـية‪ ٠‬الربيطانيـ�ة فقـد أمكن حلها على حسـاب‬
‫الدولـة العربيـ�ة الوليدة ىف سـوريا‪ ،‬ودخول القوات الفرنسـية إىل دمشـق وطرد‬
‫فيصـل منهـا‪ 1 1.‬وهكـذا نالـت بريطانيـ�ا يف مؤتمـر سـان ريمو تفويـض الدول‬
‫الظافـرة يف احلـرب العامليـة األوىل على االنت�داب يف العـراق‪ ..‬ومن بعد حصلت‬
‫علـى هـذا التفويـض مـن عصبـة األمـم اليت تشـكلت بموجـب قرار مـن مؤتمر‬
‫الصلـح‪ .‬ولكـي تمـوه بريطانيـ�ا علـى أغراضهـا االسـتعمارية وتنـ�ال قناعـة‬
‫«املجتمـع الـدويل» علـى وجودها يف العـراق‪ ،‬وقناعة العراقيين ىف الوقت ذاته‪،‬‬
‫خرجـت بفكـرة «املعاهـدة» التي تربـط الدولـة اجلديـدة بربيطانيـ�ا وتكفـل‬
‫تنظيـم العالقـات بينهمـا علـى أسـاس «التكافـؤ واملسـاواة»‪ ،‬وتغـدو املشـورة‬
‫التي تقدمهـا للدولـة اجلديـدة أمـرا تقتضيـه «مصلحـة» العـراق ذاتـه والـذي‬
‫حيتـاج إىل «الرعايـة» و»احلمايـة» و»التدريـب» حتى ينهـض علـى أقدامـه‬
‫ويديـر شـؤونه بنفسـه‪ .‬وقـد تكفـل «مؤتمـر القاهـرة» الـذي انعقـد يف ‪ 12‬آذار‬
‫‪ 1921‬برئاسـة تشرشـل‪ ،‬الـذي كان وزيـر ا املسـتعمرات آنـذاك‪ ،‬بأمـر وضـع‬
‫املشـروع يف صفتـه النهائيـ�ة يف صـورة حكـم ملكـي برلمـاين وتنصيـب فيصـل‬
‫ملـكا عليـه‪ ،‬وأن جيـرى كل ذلـك برضـا مـن الشـعب العـرايق ذاتـه‪ .‬علـى هـذا‬
‫النحـو تعلمـت بريطانيـ�ا مـن الثـورة درسـا ثمينـ�ا‪ ،‬أنهـا تسـتطيع أن حتصـل من‬
‫خلال املفاوضـات واملعاهدات ما ال تسـتطيع أن حتصل عليه بالقسـر واإلمالء‬
‫اللذيـن همـا باهظـي التكاليـف‪.‬‬
‫كان ترشـيح فيصـل إىل عـرش اململكـة اجلديـدة أحـد أهـم القـرارات‬
‫التي اختذتهـا وزارة املسـتعمرات الربيطانيـ�ة بشـأن العـراق‪ ،‬كان فيصـل الـذي‬
‫أسـقطت فرنسـا عرشـه يف دمشـق قبـل ذلـك بقليل قـد غدا شـخصية محبطة‬
‫ومهـزوزة وعلـى اسـتعداد للتعـاون مـع بريطانيـ�ا والصهيونيـ�ة لقـاء أي عـرش‪.‬‬
‫ومثلمـا دخـل مع الزعيـم الصهيوين وآيزمـن يف اتفاق يريض مطامـع الصهيوني�ة‬
‫يف فلسـطني يف ربيـع ‪ 1918‬دخـل مـع وزارة املسـتعمرات الربيطانيـ�ة يف اتفـاق‬
‫يتعهـد فيـه بتوقيـع معاهـدة تربـط العـراق بربيطانيـ�ا إذا مـا ضمنـت هـذه‬
‫ترشـيحه إىل عـرش العـراق‪ .‬وهـذا مـا حـدث بالفعـل علـى الرغـم مـن معارضـة‬

‫‪ .1‬يف املقابلــة الــي جــرت بــن فيصــل ولورنــس يف ‪ 7‬كانــون الثــاين ‪ 1921‬للتــداول بشــأن‬
‫ترشــيحه لعــرش العــراق‪ ،‬قــال فيصــل حــول ســوريا والعالقــة مــع الفرنســيني‪« :‬إين ســأقدم‬
‫مــا يطلــب مــن ضمــان بــأال أكيــد للفرنســيني وأكــر مــن هــذا فــإين ســأمنع اآلخريــن مــن‬
‫القيــام بذلــك‪( »..‬غســان العطيــة‪ ،‬ص ‪.)469‬‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪84‬‬

‫الشـعب ‪.2 2‬‬


‫يف ‪ 11‬تمـوز ‪ 1921‬أصـدر مجلـس الـوزراء «العـرايق» برئاسـة عبـد‬
‫الرحمـن النقيـب‪ ،‬قـرارا ينـ�ادي بفيصـل ملـكا علـى العـراق بشـرط أن تكـون‬
‫حكومته دسـتورية‪ ،‬ني�ابيـ�ة‪ ،‬ديمقراطية‪ ،‬مقيدة بالقانـون‪ .‬ولكي تعطي اإلدارة‬
‫الربيطانيـ�ة قيمـة أكبر ملشـروعها هـذا‪ ،‬طلبـت مـن وزارة الداخليـة تنظيـم‬
‫«اسـتفتاء» للسـكان حـول هـذا القـرار‪ .‬وقـد جـاءت نتيجـة «االسـتفتاء»‬
‫لصالـح القـرار بتنصيـب فيصـل بنسـبة ‪ ،%97‬ويالحـظ هنـا أن لـواء كركـوك‬
‫صـوت ضـد فيصـل‪ ،‬ولـم يشترك لـواء السـليماني�ة ىف التصويـت واشترط‬
‫اللـواءان أربيـ�ل واملوصـل أن تنـص البيعـة علـى ضمـان حقـوق األقليـات يف‬
‫‪33‬‬
‫تأسـيس اإلدارات التي وعـدوا بهـا مـن قبـل احللفـاء يف معاهـدة سـيفر‪.‬‬
‫كان فيصـل يسـعى إىل ثالثـة أغـراض يف وقـت واحـد‪ :‬أن يطمـن أوال‬
‫مصالـح بريطانيـ�ا التي منحتـه عـرش العـراق‪ ،‬ويطمـن كذلـك مصلحتـه‬
‫الشخصية ومصلحة عائلته‪ ،4 4‬وأال يتكرر له ىف بغداد ما حدث له يف دمشق‪،‬‬
‫وأخيرا أن جيـري كل ذلـك بمـا حيفـظ لـه هيبتـ�ه يف أعين العراقيين‪ .‬ولذلـك‪،‬‬
‫وطبقـا لمـا ورد يف برقية كوكس‪ ،‬املندوب السـايم‪ ،‬إىل وزير املسـتعمرات ىف ‪16‬‬
‫آب ‪ ،1921‬فـإن فيصـل صارحـه بدواخلـه قائلا‪:‬‬
‫«بصـرف النظـر عن أفكاري الشـخصية جتاه القومية العربيـ�ة فايئ أداة‬
‫للسياسـة الربيطانيـ�ة وكالنـا‪ ،‬حكومـة جاللتـه وأنـا‪ ،‬ىف نفـس القـارب‬
‫ويجـب أن نغـرق معـا أو نعـوم معا‪ .‬ولئن أخفقـت األداة وبالتايل تركت‬
‫حكومتكـم العـراق فسـيكون علـى أنـا أيضـا أن أتـرك كذلـك‪ .‬وبمـا أنـه‬
‫قـد وقـع اختي�اركـم علـي فيجـب عليكـم أن تعاملـوين كواحـد منكـم‬
‫ويجـب أن تثـق يب حكومـة صاحـب اجلاللـة ثقتهـا بكـم‪ :‬فـإن أردتـم يل‬
‫ولسياسـتكم النجـاح فمـن احلماقـة تسـفيهي بأعين النـاس بصـورة‬
‫دائمـة وذلـك جبعلـي ألعوبة مكشـوفة بأيديكـم‪ ،‬واألمر كمـا تقولون ما‬
‫هـو إال بضعـة أشـهر أو بضعـة أسـابيع وإنـه ملـن صاحلكـم بدرجـة أكبر‬
‫أن تظهـروا علـى الفـور بأنني ملـك حقـا‪ ،‬وإنني موضـع ثقة وإنكـم على‬
‫‪ .2‬أميــل تومــا‪ ،‬جــذور القضيــة الفلســطيني�ة‪ ،‬إصــدار منظمــة التحريــر الفلســطيني�ة ودار‬
‫اجلليــل‪ ،‬الطبعــة الثالثــة‪ ،‬دمشــق‪ ،1984 ،‬د‪ .‬غســان العطيــة‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪.478‬‬
‫‪ .3‬احلسين‪ ،‬تاريخ العراق السيايس احلديث‪ ،‬ص ‪.191‬‬
‫ً‬
‫‪ .4‬صــرح تشرشــل الــذي كان وزيــرا للمســتعمرات عنــد افتتـ�اح مؤتمــر القاهــرة أن «فيصــل‬
‫جيــب أن يــدرك بــأن املنحــة الــي تعطــى إىل والــده والضمانــات الربيطاني ـ�ة الــي أعطيــت‬
‫بمناســبة اعتــداء الوهابيــن عليــه تتوقــف كلهــا علــى ســلوك فيصــل نفســه»‪ ،‬آيرالنــد‪،‬‬
‫مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪.246‬‬
‫‪85‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫اسـتعداد لتأييـ�دي‪ .‬إين أتعهـد بـأن اسرتشـد بمشـورتكم يف كل األمـور‬


‫‪55‬‬
‫الهامـة‪.» ...‬‬

‫ويعطينـ�ا مؤتمـر كربلاء الـذي انعقـد يف ‪ 9‬نيسـان ‪ 1922‬للبحـث‬


‫ىف السـبل الضروريـة لـرد اعتـداءات الوهابيين علـى جنـوب غـرب العـراق‬
‫والعشـائر القاطنـة هنـاك‪ ،‬واخللاف الـذي دار حولـه بين فيصـل وكوكـس‬
‫مثـاال صارخـا للعقليـة التي تعامـل بهـا اإلنكليز مـع الدولـة اجلديـدة وملكهـا‪.‬‬
‫فقـد تنـ�ادت القوى املختلفة من رجال دين وعلى رأسـهم املجتهدان الشـيعيان‬
‫السـيدان أبـو احلسـن األصفهـاين واملـرزا حسين النائيني ومهـدي اخلالصي‬
‫وكبـار رجـال الديـن السـنة وزعمـاء العشـائر والسـادة املالكين الذين شـاركوا‬
‫يف ثـورة العشـرين والساسـة الوطنيين ىف بغـداد والكاظميـة واملوصـل وغريها‬
‫مـن املـدن إىل عقـد مؤتمـر يف كربلاء لهـذا الغـرض ولقيـت الدعـوة اسـتجابة‬
‫واسـعة وتقاطـرت الوفـود اليت أمـت كربالء‪ .‬وقد أيـد امللك عقـد املؤتمر حيركه‬
‫عاملان‪ :‬عـداؤه للسـعوديني‪ ،‬ومداهنـة رجـال الديـن الشـيعة واملعارضـة‬
‫التي كان يزتعمهـا جعفـر أبـو التمـن‪ ،‬وأرسـل ممثلا عنـه وزيـر الداخليـة توفيـق‬
‫اخلالـدي‪ .‬لكـن رجـال االنتـ�داب وعلـى رأسـهم بـريس كوكـس‪ ،‬املنـدوب‬
‫السـايم‪ ،‬عارضـوا عقـد املؤتمـر بشـدة وعملـوا علـى إحـداث انشـقاق فيـه مـن‬
‫خلال رؤسـاء العشـائر الذيـن يؤيـدون اإلنكليز أمثـال علـى السـليمان وعـداي‬
‫اجلريـان‪ .‬ونشـب حولـه خلاف بين كوكـس وفيصـل‪ .‬إذ كان األول يـرى فيـه‬
‫دسيسـة مـن البالشـفة والكماليين إلثـارة العراقيني ضـد اإلنكلزي‪ .‬وقد أرسـل‬
‫كوكـس إىل فيصـل رسـالة سـرية قبـل انعقـاد املؤتمـر فيهـا الكثير مما يكشـف‬
‫عـن السياسـة‪ .‬تقـول الرسـالة‪:‬‬
‫«إن السـلطات العسـكرية لديهـا معلومـات محـددة مفادهـا أن‬
‫البالشـفة والكماليين ينسـقون اخلطـط خللـق املصاعـب للحكومـة‬
‫العراقيـة وللسياسـة الربيطانيـ�ة يف العـراق‪ ...‬وقـد تسـلمت قبـل أيـام‬
‫قليلـة مـن الوزيـر املفـوض الربيطـاين يف طهـران نسـخة من نـداء موجه‬
‫مـن النجـف يف ‪ 15‬ربيع األول ‪ -‬تشـرين الثـاين ‪ 1921‬إىل الوزير املفوض‬
‫الرويس وهو يتضمن تهجما على السياسـة الربيطاني�ة ىف العراق وعلى‬
‫امللـك فيصـل‪ ...‬إن اخلطـط الرتكيـة البلشـفية كمـا يعلـم جاللـة امللك‬
‫التـزال مسـتمرة وهـي جتـري يف نفس الوقـت الذي ظهرت فيـه احلركة‬
‫املنبعثـة من النجف بسـبب غارة اإلخوان على العشـائر العراقية واليت‬
‫اسـتغلت التذمـر العام النـاجت عن تلك الغارة‪ ...‬وقـد وصلتين أخبار من‬

‫‪ .5‬غسان العطية‪ ،‬ص ‪.478‬‬


‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪86‬‬

‫مصـدر أعتقـد أنـه حسـن االطلاع مفادهـا أن الدفـاع ضـد هجمـات‬


‫اإلخـوان ليـس سـوى حجـة ظاهريـة وأنـه ليـس السـبب احلقيقـي‬
‫لالجتمـاع الـذي سـيحضره الشـيوخ والعلمـاء يف كربلاء‪ ،‬واملظنـون أن‬
‫هـذه احلركـة هـي يف الواقـع نتيجـة مـا دار يف األوسـاط املطلعـة عـن‬
‫وجـود تعثر يف مفاوضـات املعاهـدة حـول موضـوع االنتـ�داب‪ .‬وان يف‬
‫النيـ�ة ترغيـب امللـك حلضـور ً االجتمـاع يف كربلاء لكـي جيبروه علـى‬
‫طلـب االسـتقالل التـام فـورا مـن احلكومـة الربيطانيـ�ة‪ .‬ويف حالـة‬
‫عـدم إجابـة الطلـب فـإن املتطرفين يف بغـداد يؤيدهـم شـيوخ الفـرات‬
‫الذيـن شـاركوا يف ثـورة العشـرين سـوف يقومـون بتجمع وطني إلرغام‬
‫احلكومـة الربيطانيـ�ة على ما يريـدون‪ .‬ومن أجل الوصـول إىل أهدافهم‬
‫فإنهـم سـيحاولون يف البدايـة احلصـول علـى األسـلحة مـن السـلطات‬
‫‪66‬‬
‫الربيطانيـ�ة حبجـة الدفـاع ضـد اإلخـوان‪.» ...‬‬

‫وبعـد يومين مـن كتابـة هـذه الرسـالة‪ ،‬بعـث كوكـس بربقيـة إىل لنـدن‬
‫كـرر فيهـا مـا ذكـره ىف الرسـالة السـابقة مـن كـون املؤتمـر مـن تدبير البالشـفة‬
‫واألتـراك‪ .‬ويف برقيـة تاليـة إىل لنـدن ذكـر فيهـا‪:‬‬
‫«وتدعـي جرائـد املتطرفين أن املؤتمـر قـد دعـم موقـف امللـك كثيرا يف‬
‫مفاوضاتـه مـع اإلنكليز حـول املعاهـدة علـى أسـاس رفـض االنتـ�داب‬
‫‪77‬‬
‫واحلمايـة واحلصـول‪ ،‬علـى االسـتقالل التـام»‪.‬‬

‫لكـن امللك عـاد واعرتف للمندوب السـايم خبطائه‪ .‬ويف ‪ 29‬نيسـان أبرق‬
‫كوكـس إىل لندن مرة أخـرى يقول‪:‬‬
‫«ال شـك أن األحـداث األخيرة كان لهـا تأثير ممتـاز ىف املعتدلين وىف‬
‫تأديـب فيصـل معـا ‪٠‬فقـد جـاء امللـك اليـوم لرؤيتي راجيـا أال حيصـل‬
‫لـدى حكومـة صاحـب اجلاللـة الربيطانيـ�ة انطبـاع بأنـه يعمـل ضدهـا‬
‫أو يعـارض سياسـتها يف أي حـال مـن األحـوال‪ ،‬وإذا وجـد أنـه قـد أخـذ‬
‫علـى عاتقـه مهمـة ليـس يف مقـدوره إجناحهـا فإنـه سـيعزتل احليـاة يف‬
‫‪88‬‬
‫بريطانيـ�ا‪ ،‬غير أنـه لـن خيسـر صداقتنـ�ا‪.»...‬‬

‫‪ .6‬علــى الــوردي‪ ،‬ملحــات‪ ..‬اجلــزء الســابع‪ ،‬ص ‪ ،153‬نقــا عــن دائــرة الوثائــق العامــة يف‬
‫لنــدن رقــم ( ‪.)371-F.O 7770‬‬

‫‪ .7‬املصدر السابق‪،‬ص ‪.155‬‬


‫‪ .8‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.156‬‬
‫‪87‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وقـد تكـرر األمـر بين كوكـس وفيصـل مـن بعـد عنـد العمـل لتوقيـع‬
‫املعاهـدة األوىل بين بريطانيـ�ا والعـراق‪ .‬وبلغـت صالفـة املنـدوب السـايم‬
‫الربيطـاين حـد أخـذه قائمـة بأسـماء عـدد مـن الزعمـاء الوطنيين املعروفين‬
‫بمعارضتهـم للمعاهـدة بغيـة نفيهـم إىل جزيـرة هنجـام يف املحيـط الهنـدي‬
‫تمهيـدا لتمريـر املعاهـدة وذلـك يف ‪ 25‬آب ‪ ،1922‬ويف اللحظة التي كان األطباء‬
‫حييطـون فيهـا بامللـك إلجـراء عمليـة اسـتئصال الزائـدة الدوديـة وهـي توشـك‬
‫علـى االنفجـار! وقـد رفـض امللـك توقيعهـا وهـو يف هـذه احلـال‪ .‬فأخـذ كوكس‬
‫األمـر بيـ�ده متجـاوزا امللـك‪ ،‬ونفـى يف اليـوم التـايل كال مـن جعفـر أبـو التمـن‬
‫وحمـدي الباجـه يج ومهـدي البصير وأمين اجلرجفجي وعبـد الرسـول كبـه‬
‫وسـايم خونـده وهـم مـن زعمـاء حـزيب الوطني والنهضـة اللذيـن تأسسـا ذلـك‬
‫العـام ملعارضـة االنتـ�داب واالرتبـ�اط بربيطانيـ�ا‪ .‬وأرغـم بعـد ذلـك الشـيخني‬
‫محمـد اخلالصي ومحمـد الصدر على مغـادرة البالد‪ .‬فمـاذا كان موقف امللك؟‬
‫اعتـذر فيصـل عـن مواقفـه وكتـب إىل كوكـس قائلا‪:‬‬
‫«أرى مـن واجبي أن أعبر لكم عن إعجايب الشـديد بالسياسـة احلازمة‬
‫والتدابير الضروريـة التي اختذهـا فخامتكـم بصفتكـم ممثلا حلكومـة‬
‫صاحـب اجلاللـة‪ ،‬لصيانـة املصالـح العامـة واملحافظـة علـى النظـام‬
‫‪99‬‬
‫واألمـن»‪.‬‬

‫وبعـد شـهرين مـن ذلك صدر األمر بنفي الشـيخ مهـدي اخلاليص الذي‬
‫كان يدعـو بقـوة إىل االسـتقالل التـام‪ -‬واحتجاجـا علـى هـذا اإلجـراء التعسـفي‬
‫أعلـن املجتهـدون يف النجـف وكربلاء احتجاجهم وغـادروا العراق‪.‬‬
‫رغـم كل الصعـاب التي واجهتها بريطانيـ�ا يف العراق خالل العشـرين�ات‪،‬‬
‫وأشـكال املقاومـة التي اعرتضـت سـبيلها‪ ،‬اسـتطاعت أن حتقـق مشـروعها يف‬
‫بنـ�اء الدولـة اجلديـدة علـى النحـو الـذي أرادته وجعلـت منه إسـفنجة لتمتص‬
‫كل العناصـر املترددة التي كانـت تصفها باملعتدلـة وكذلك العناصـر اليت أبدت‬
‫معارضتهـا للسياسـات الربيطانيـ�ة يف بدايـات االحتلال واالنتـ�داب‪ ،‬حتى إذا‬
‫أزف عقـد العشـرين�ات علـى االنتهـاء‪ ،‬لـم يتبـق مـن الرعيـل األول الـذي قـاوم‬
‫االحتلال الربيطـاين سـوى أفـراد قالئـل لـم يعـودوا يعبرون عـن روح الشـعب‬
‫احلقيقيـة‪ .‬وقـد جـاء هـذا التحـول باالتفـاق مـع املسـعى الربيطـاين لتكييـف‬
‫أوضـاع البلاد االقتصاديـة واالجتماعيـة باجتـاه خلـق قاعـدة اجتماعيـة‬
‫ضروريـة إلسـناد احلكم الذي أوجدتـه‪ ،‬وبالتايل تبعية العـراق لربيطاني�ا‪ .‬أدرك‬

‫‪ .9‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.194 - 193‬‬


‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪88‬‬

‫االسـتعمار الربيطـاين ببعـد نظـر أن مصالـح رأس المـال الربيطـاين احليوية لم‬
‫تعـد يف األسـاس يف الزراعـة علـى النحـو الـذي كانـت الدوائـر الربيطانيـ�ة ترنـو‬
‫إليـه مـن قبـل‪ ،‬وإنما يف االسـتحواذ علـى مكامن النفـط الغني�ة يف البلاد‪ .‬لذلك‬
‫صرفـت النظـر عـن األفـكار التي نادت بتحويـل العـراق إىل مزرعة قطـن لزتويد‬
‫مصانـع النسـيج يف الهنـد وبريطانيـ�ا علـى غـرار ما فعلـت يف مصـر ‪ ،10 10‬وكذلك‬
‫عـن احلديـث حـول تهجري الهنود إىل العـراق‪ ،‬وانصرفـت إىل البحث عن النفط‬
‫واسـتخراجه‪ ،‬ولـم يكـن مـن بـاب املصادفـات أن يقترن حـل «مشـكلة» واليـة‬
‫املوصـل وضمهـا إىل العـراق بإعلان الدسـتور‪ ،‬وتوقيـع معاهـدة ‪ 1924‬التي‬
‫تقضي باالنتـ�داب ملـدة خمسـة وعشـرين عاما‪ ،‬ومنـح امتي�از اسـتخراج النفط‬
‫إىل شـركة النفـط الرتكيـة التي صـارت تعـرف بشـركة نفـط العـراق‪ ،‬يف آن‬
‫واحـد ويتـم كل ذلـك يف أجـواء مـن الضغط الشـديد لقمـع املعارضة الشـعبي�ة‬

‫‪ .10‬لــم يتخــل الرأســمال الربيطــاين عــن أطماعــه يف الزراعــة العراقيــة دفعــة واحــدة‪ -‬ففــي‬
‫عــام ‪ 1924‬تقــدم جنيــب أصفــر‪ ،‬الفرنــي اجلنســية واملقيــم يف املوصــل‪ ،‬باملشــاركة مــع‬
‫حمــدي الباجــه يج وثابــت عبــد النــور بطلــب للحكومــة العراقيــة ملنحهــم امتيــ�از إنشــاء‬
‫خــزان احلبانيــ�ة والفلوجــة إلرواء األرايض عنــد الفلوجــة‪ .‬وقــد ضمــن الثالثــة االعتمــاد‬
‫المــايل املطلــوب (قــدرت كلفــة املشــروع يومهــا بـــ ‪ 12‬مليــون جني ـ�ه اســرليين) مــن شــركة‬
‫فوركيــس) الربيطانيــ�ة‪ .‬وبعــد املفاوضــات تــم التوقيــع علــى العقــد وقــد تضمــن‪ :‬إجــراء‬
‫اختبــ�ارات اختي�اريــة لزراعــة القطــن بــاآلالت الزراعيــة وعلــى نطــاق جتــاري يف منطقــة‬
‫الفلوجــة علــى الفــرات‪ ،‬ويف ديــاىل‪ .‬ولضمــان إرواء األرايض‪ ،‬نــص العقــد علــى إنشــاء ســد‬
‫علــى الفــرات عنــد الفلوجــة مــع اجلــداول الضروريــة لــه‪ ،‬وحتويــل حبــرة احلبانيــ�ة إىل‬
‫خــزان للميــاه ومــد منفــذ لــه حــى هــور (أبــو دبــس)‪ ،‬وإنشــاء ســد أخــر علــى نهــر ديــاىل‬
‫عنــد الطويلــة‪ .‬وخصصــت للمشــروع أراض مســاحتها ‪ 240‬ألــف دونــم يف الفــرات و‪60‬‬
‫ألــف دونــم يف ديــاىل‪ .‬وجــوزت االتفاقيــة إضافــة أراض أخــرى إذا مــا ظهــر أن كميــات امليــاه‬
‫املحــددة تكفــي لزراعتهــا‪ .‬ويذكــر احلســي يف تاريــخ الــوزارات (ج ‪ ، 1‬ص ‪ )196‬أن الثالثــة‪،‬‬
‫كمــا ظهــر مــن بعــد كانــوا سماســرة لشــركات بريطاني ـ�ة‪ .‬وقــد نــص العقــد علــى جــواز بيــع‬
‫أو حتويــل االمتي ـ�از إىل أيــة شــركة أخــرى خــال ســتة أشــهر مــن توقيعــه‪ .‬وقــد بيــع بالفعــل‬
‫إىل (شــركة اإلنشــاءات الشــرقية) وحولتــه هــذه بدورهــا إىل (شــركة قطــن ديــاىل) وزعمــت‬
‫األخــرة أنهــا عاجــزة عــن حتقيــق املشــروع‪ ،‬وطالبــت بالتعريــض عــن األضــرار الــي حلقــت‬
‫بهــا والــي تســبب فيهــا خــراء احلكومــة (وكانــوا يومهــا مــن اإلنكلــز) فعوضتهــا احلكومــة‬
‫بــأرايض (اللطيفيــة) الــي تبلــغ مســاحتها ‪ )32300‬دونــم وبقنــاة اللطيفيــة الــي شــقتها‬
‫احلكومــة علــى حســابها لصالــح الشــركة‪ ،‬وملكتهــا األرض بالطابــو بســعر روبيتــن للدونــم‬
‫الواحــد‪ ،‬كمــا تعهــدت احلكومــة بتوفــر اليــد العاملــة للمشــروع‪ .‬وقــد بيــع املشــروع بعــد‬
‫ذلــك إىل التاجــر عبــد الهــادي اجللــي (انظــر كتابنــ�ا‪ :‬نصــر ســعيد الكاظــي‪ ،‬احلــزب‬
‫الشــيوعي واملســألة الزراعيــة يف العــراق‪ ،‬مركــز األحبــاث والدراســات االشــراكية يف العالــم‬
‫العــريب‪ ،‬دمشــق‪ ، 1986 ،‬ص ‪.102-101‬‬
‫‪89‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪11 11‬‬
‫الواسـعة‪.‬‬
‫وجـدت بريطانيـ�ا باملقابـل أن الزراعـة واألرض يمكـن أن تكـون ذات نفع‬
‫كبير لهـا ال مـن خلال االسـتثمار املباشـر يف الزراعـة وإنمـا يف اسـتخدامها كأداة‬
‫اقتصاديـة واجتماعيـة وسياسـية إلجيـاد القاعـدة االجتماعيـة التي تضمـن‬
‫تطبيـق سياسـاتها يف العـراق‪ .‬وكان سـبيلها يف ذلـك يتمثـل يف تعزيـز مؤسسـة‬
‫العشيرة ودورهـا االجتماعـي برغـم مـا كانـت تتعـرض لـه مـن ختلخـل بفعـل‬
‫التن�اقضـات االقتصاديـة داخلهـا‪ ،‬واسـتخدامها كأداة يف لعبـة املوازنـة بين‬
‫القـوى األساسـية يف البلاد‪ ،‬واسـتخدام ملكيـة األرض إلرشـاء فئـات معينـ�ة‬
‫معنيـ�ة بإدامـة الوضـع وعالقاتـه‪ ،‬مـع االحتفاظ للشـركات الربيطانيـ�ة يف ذات‬
‫الوقـت بفرصـة احتـكار املتاجـرة باملنتجـات الزراعيـة العراقيـة وحتقيـق األرباح‬
‫الطائلـة منهـا‪.‬‬
‫كانت مؤشـرات التطـور االقتصادي واالجتماعي يف البالد تشير كلها إىل‬
‫أن مؤسسـة العشيرة البـد مفضيـة إىل مواجهة أزمة حقيقية تدفـع إىل تفككها‬
‫وضمـور دورهـا‪ .‬إن حق القبيلـة املتوارث يف االنتفاع املشترك يف (ديرة) القبيلة‬
‫ألغـراض الرعـي والزراعـة بـات يتعـرض إىل التـآكل سـواء بتمكين الشـيوخ‬
‫وأثريـاء املـدن ورجـال احلكـم مـن االسـتحواذ علـى األرايض بوسـائل مختلفـة‬
‫أو بفعـل التحـول التدريجي إىل التعامـل النقـدي وإثقـال الفلاح بالديـون‬
‫و»اخلـاوات» أو بإغـراء الفلاح علـى البحـث عـن مياديـن أخـرى للعمـل خـارج‬
‫القريـة‪ .‬وجـاءت ثـورة العشـرين وما كشـفته من تغيرات وتذبذبـات ونزاعات‬
‫لزتيـد مـن تفـكك العشيرة‪ .‬وشـرع رجـال االنتـ�داب يبحثـون عمـا يعـوض عن‬
‫التضامـن القبلـي الباترياركـي السـابق القائـم علـى االلتزام الصـارم باألعـراف‬
‫القبليـة بتضامـن آخـر يقـوم علـى أسـاس إنـزال الشـيخ مزنلـة عاليـة يف تراتـب‬
‫العشيرة اسـتن�ادا إىل حيـازة األرض أوال‪ .‬ولكـن علـة التفـكك الـذي ينـ�ال مـن‬
‫تماسـك العشيرة تكمـن تمامـا يف التبـ�دل الـذي كان جيـري علـى حيـازة األرض‬
‫‪ .11‬كتبــت الصحيفــة الربيطانيــ�ة (ويستمنســر كازيــت)‪ ،‬يف ‪ 28‬تمــوز ‪ 1924‬أن‬
‫«احلكومــة الربيطانيــ�ة قامــت جبميــع وســائل اإلرهــاب والتهويــل بغيــة احلصــول علــى‬
‫اإلبــرام املنتظــر»‪ .‬ويذكــر أنــه لــم يصــادق علــى معاهــدة ‪ 1924‬ســوى ‪ 27‬نائب ـ�ا مــن أصــل‬
‫‪ 95‬نائب ـ�ا هــم أعضــاء املجلــس التأســييس الــذي جــرى اصطفــاؤه بعنايــة لوضــع الدســتور‬
‫األول للبــاد والتصديــق علــى املعاهــدة‪ .‬وقــد عقــد املجلــس للمصادقــة عليهــا ليــا‪ ،‬وكان‬
‫مديــر شــرطة بغــداد وأحــد مرافقــي امللــك يبحثــون عــن األعضــاء وينزتعونهــم حــى مــن‬
‫أفرشــة النــوم‪ ،‬ورفــض املنــدوب الســايم تأجيــل عقــده حــى لليلــة واحــدة وهــدد حبلــه‪.‬‬
‫انظــر‪ :‬محمــد مظهــر األدهــي‪ ،‬املجلــس التأســييس العــرايق‪ ،‬اجلــزء الثــاين‪ ،‬دار الشــؤون‬
‫الثقافيــة العامــة‪ ،1989 ،‬ص ‪.222 ،221‬‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪90‬‬

‫خارطة العراق لعام ‪ 1925‬يف ظل االحتالل الربيطاين‬

‫ذاتهـا وظهـور تن�اقـض جديـد وأسـايس بني الشـيخ والفلاح يقوم على أسـاس‬
‫اسـتحواذ الشـيخ علـى األرض املشتركة وجتريـد أفـراد العشيرة مـن حقهـم‬
‫املتـوارث فيهـا واإلبقـاء فقـط علـى حقهـم يف العمـل واملحاصصة فيهـا‪ .‬ولذلك‬
‫فلتسـليط الشـيوخ علـى الفالحين واحليلولـة دون انفالتهـم عـن سـلطة‬
‫الشـيخ سـنت التشـريعات املواتيـ�ة مثـل (نظـام دعـاوى العشـائر املدنيـ�ة‬
‫واجلزائيـ�ة) يف عـام ‪ 1918‬والـذي جرى تأكيده يف التعديلات اليت أدخلت عليه‬
‫يف عـام ‪ ،1924‬واسـتكمل هـذا مـن بعـد بقانـون حقـوق وواجبـات الـزراع عـام‬
‫‪ 1933‬الـذي يمنـع الفلاح قانونيـ�ا مـن مغـادرة األرض‪ .‬وسـنت التشـريعات‬
‫األخـرى التي تمكـن الشـيوخ واملالكين مـن تملـك األرض كان أهمهـا قانـون‬
‫تمليـك وحتديـد األرايض األمرييـة يف املـدن والقـرى والقصبـات (‪)1926‬‬
‫‪91‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وقانـون تمليـك األرايض األمرييـة املغروسـة رقـم ‪ 16‬لسـنة ‪ 1927‬وقانـون‬


‫تشـويق الـزراع السـتعمال املضخـات لسـنة ‪ .1926‬وكانت سياسـة االنت�داب‬
‫جتـاه احليـازة تقوم على أسـاس تفضيل رؤسـاء القبائل‪ .‬فيكتب هنري دوبس‪،‬‬
‫الـذي كان يشـرف علـى تطبيـق السياسـة الربيطانيـ�ة يف الزراعـة‪ ،‬إىل املنـدوب‬
‫السـايم يف تمـوز ‪« 1926‬ينبغـي‪ ،‬حيثمـا أمكـن‪ ،‬اإلقـرار باحليـازات املوجـودة‬
‫يف أيـدي رؤسـاء القبائـل‪ ،‬وربمـا إعطائهـم حيـازات تزيـد يف مسـاحتها إىل حد ما‬
‫عـن تلـك اليت حيصـل عليها غريهـم‪ .‬ويف بعض احلـاالت من املمكـن أن نلزمهم‬
‫جبمـع عائـد احلكومـة علـى أن ختصـص لهـم نسـبة معينـ�ة من هـذه اإليـرادات‬
‫لتغطيـة مصروفـات جمعهـا ‪ ...‬إن امللاك القبلـي والفالحين القبليين دونـه‬
‫يمكـن أن يصـان‪ ،‬بفعاليـة أكبر مـن التجـاوز واالعتـداء‪ ،‬بالتقاليـد القبليـة أكرث‬
‫ممـا يمكـن أن يتـم ذلـك بانتظـام بالقوانين المألوفـة»‪ 12 12.‬وقـد عـززت هـذه‬
‫القوانين مـن بعـد بقوانين خطيرة أجـرت تغيرات مهمـة لصالـح الشـيوخ‬
‫واملالكين كقانـون تسـوية حقـوق األرايض لسـنة ‪ 1932‬وقانـون اللزمـة رقـم‬
‫‪ 51‬لسـنة ‪ 1932‬وقانـون العقـر رقم ‪ 55‬لسـنة ‪ 1932‬وقانون حقوق وواجبات‬
‫الـزراع رقـم ‪ 28‬لسـنة ‪ 1933‬وقانـون اسـتمالك األمـوال غير املنقولـة رقم ‪43‬‬
‫لسـنة ‪ . 1934‬وقـد اسـتن�دت كل هـذه القوانني على دراسـات خبراء االنت�داب‬
‫الربيطـاين التي أجراهـا لونكريك (املفتش العـام لدائرة الواردات أيـام االنت�داب‬
‫عـام ‪ 1926‬وأحمـد فهيم‪ ،‬وأرنسـت داوسـن اخلبري الربيطاين الذي كان يشـغل‬
‫وظيفـة املسـاح العـام يف مصـر آنـذاك‪ .‬وقـد أصـدرت قوانين خاصـة لتمليـك‬
‫بعـض األشـخاص أو الشـركات األرايض الزراعيـة‪ ،‬مـن ذلـك تمليـك العائلـة‬
‫المالكـة ‪ 22‬ألـف دونـم بـدون بـدل بقانـون رقـم ‪ 11‬لسـنة ‪ 1928‬والقانون رقم‬
‫‪ 49‬لسـنة ‪ 1928‬لتمليـك شـركة ديـاىل اإلجنلزييـة لزراعـة القطـن ‪ 100‬ألـف‬
‫دونم‪.‬‬
‫إن جتريـد الفالحين مـن األرض كان جيـري تمامـا مـع اإلبقـاء علـى‬
‫الضرائـب الباهظـة التي كانـت تثقـل كواهلهـم بموجـب األعـراف القبلية اليت‬
‫تطـورت مـن قبـل اسـتجابة ملصلحـة الشـيوخ‪ ،‬إضافـة إىل ضرائـب أخـرى كان‬
‫جيري فرضها وجبايتها تعسـفا يف بعض احلـاالت‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬اإلبقاء على احلالة‬
‫املزريـة والتخلـف الفاضـح الذي كان يلـف القرية العراقية‪ .‬أضـف إىل هذا فإن‬
‫اإلصـرار علـى جتريـد الفالحني مـن األرض وإثقالهم بالديـون الباهظة كان من‬
‫شـأنه أن يضيق كثريا من السـوق الوطني�ة وقدرتها على التطور وبالتايل يضيق‬
‫مـن فـرص االسـتثمار يف املياديـن االقتصاديـة األخـرى ويف مقدمتهـا الصناعـة‬
‫الوطنيـ�ة‪ .‬واألنكـى مـن هـذا‪ ،‬أنـه بينمـا ترهـق الدولـة ومـن ورائهـا االسـتعمار‬

‫‪ .12‬نصري سعيد الكاظيم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.104‬‬


‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪92‬‬

‫الربيطـاين كاهـل الفلاح العرايق وتدفع به أكثر إىل الفاقة والبـؤس‪ ،‬كانت تعمل‬
‫علـى أن تزيـد من ثراء الشـيوخ واملالكين‪ .‬فقد هبطت الضريبـ�ة الزراعية على‬
‫الشـيوخ الكبـار يف لـواء الكـوت مـن ‪ 35،325‬دينـ�ارا عـام ‪ 1918‬اىل ‪26،100‬‬
‫دينـ�ار عـام ‪13 13 .1928‬ويـروى آيرالنـد أن أحـد وزراء الماليـة اسـتصدر تشـريعا‬
‫بشـطب بقايـا الضريبـ�ة الزراعية عـن أرض تعود لـه موفرا لنفسـه ثالثة أالف‬
‫دينـ�ارا‪14 14.‬ويف عـام ‪ 1925‬حـاول مجلـس الـوزراء أن يمـد ضريبـ�ة األمالك اليت‬
‫تفـرض علـى املالكين يف املـدن إىل الريف لتشـمل القـرى اليت يزيد عـدد بيوتها‬
‫عـن خمسين بيتـ�ا إال أن املنـدوب السـايم وقـف ضـد هـذا اإلجـراء بزعـم أنـه‬
‫‪15 15‬‬
‫«سـيفتح بابـا واسـعا لالضطهـاد»‪.‬‬
‫لقـد كان يمكـن أن يـؤدي فقـر الفالحين وضآلـة فـرص االسـتثمار‬
‫يف الريـف إىل هجـرة واسـعة للفالحين صـوب املـدن حبثـا عـن العمـل برغـم‬
‫قلـة فـرص العمـل فيهـا يومهـا (وهـو مـا حـدث مـن بعـد حين توفـرت إىل حـد‬
‫مـا فـرص العمـل) إال أن سياسـة اإلبقـاء علـى املؤسسـة القبليـة لألغـراض‬
‫السياسـية‪ ،‬وتعزيـز دور الشـيخ فيهـا‪ ،‬كما كانت تريـد وتعمل دوائـر االنت�داب‪،‬‬
‫حولـت الفالحين إىل أقنـان مـن نـوع معين‪ .‬وجـاء (قانـون حقـوق وواجبـات‬
‫الـزراع) وقبلـه (نظـام دعـوى العشـائر املدنيـ�ة واجلزائيـ�ة) ليكـرس قانونا هذه‬
‫القنانـة املسـتحدثة‪ .‬لقد جـرى التأكيد على العرف اجلـاري يف حتديد العالقات‬
‫الزراعيـة بين مالـك األرض والفلاح‪ ،‬وهـو عـرف تطـور يف ظـل أوضـاع قائمـة‬
‫علـى سـطوة امللاك «واختفـت منه ‪ -‬منـذ زمن بعيـد ‪ -‬أبرز جوانبـ�ه اإلجيابي�ة‪،‬‬
‫ونعني بهـا الديمقراطيـة الفطريـة التي نشـأت يف ظـل الديـرة واحليـاة القبليـة‬
‫السـابقة»‪16 16.‬وبـدال مـن النظـر يف دعـوى العشـائر والعالقـات الزراعيـة أمـام‬
‫املحاكـم وطبقـا للقوانين املعمـول بهـا يف البلاد‪ ،‬تـرك األمـر حلسـمها إىل‬
‫املسـؤولني اإلداريين‪ ،‬إىل رؤسـاء الوحـدات اإلداريـة يف األقضيـة والنـوايح‬
‫ووفقـا لمـا يرون فيه األنسـب السـتقرار األوضـاع يف وحداتهم اإلداريـة‪ ،‬أي بما‬
‫يـريض رؤسـاء القبائـل‪ .‬وألن قانـون حقـوق وواجبـات الـزراع اشترط أن يسـدد‬
‫الفلاح كل مـا بذمتـه مـن ديـون للملاك قبـل مغادرتـه األرض‪ ،‬وهـو شـرط‬
‫تعجيزي أساسـا‪ ،‬وألن القانـون كذلـك قـد جـرد الفلاح مـن حـق االعتراض‬
‫علـى أوامـر امللاك بصفتـه املشـرف علـى إدارة الزراعـة قانونـا‪ ،‬وألنـه ذهـب إىل‬
‫حـد جتويـز النفـي الفـردي واجلماعـي والرتحيـل مـن منطقـة إىل أخـرى‪ ،‬وحتى‬
‫‪ .13‬بطاطو‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫‪ .14‬آيرالند‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.348‬‬
‫‪ .15‬بطاطو‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪ .16‬نصري سعيد الكاظيم‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.114‬‬
‫‪93‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫إىل اجللـد بالسـوط واملقرعـة‪ ،‬فـإن الفلاح يف ظـل هـذه السياسـة قـد حتـول إىل‬
‫قـن حقيقـي مـن أقنـان القـرون الماضيـة‪ .‬كل ذلـك بفضـل نصـاحئ االنتـ�داب‬
‫الربيطـاين وسياسـاته‪ .‬ونتيجـة لهـذا الوضـع نشـأت يف الريـف العـرايق بطالـة‬
‫مقنعـة واسـعة كمـا سنراها مـن بعـد‪ .‬زد علـى ذلـك فـإن امللاك لـم يعـد جيـد‬
‫احلافـز إلدخـال التكنيـك احلديـث يف زراعـة أراضيـه لرخـص األيـدي العاملـة‬
‫التي تتوفـر لديـه‪.‬‬
‫لننظـر اآلن يف أحـوال القطاعـات االقتصاديـة األخـرى وحظهـا مـن‬
‫التطـور واالهتمـام يف ظـل االنتـ�داب وموقـف السياسـات الربيطانيـ�ة منهـا‪.‬‬
‫رغـم أن احلـرب العامليـة األوىل قـد انتهـت وذهبـت معهـا العوامـل‬
‫املباشـرة التي تذرعـت بهـا بريطاني�ا الحتالل العـراق عسـكريا‪ ،‬إال أن قيمة تلك‬
‫العوامـل ظلـت قائمـة مـن زاويـة االستراتيجيات االسـتعمارية يف العالـم‪ .‬إن‬
‫انبثـ�اق دولـة كبيرة معاديـة للرأسـمالية يف روسـيا قريبـ�ا مـن احلـدود العراقية‪،‬‬
‫ومجاهـرة هـذه الدولـة بمناصرتهـا نضـاالت شـعوب الشـرق مـن أجـل التحـرر‬
‫زاد كثريا من أهمية العراق االستراتيجية بالنسـبة لربيطاني�ا وسـعيها للحفاظ‬
‫علـى مواقعهـا يف الهنـد وغريهـا‪ ،‬والحظنـا مـن قبـل كيـف اختـذ العـراق قاعـدة‬
‫النطلاق التدخـل الربيطـاين يف القفقـاس بعـد ثـورة أكتوبـر‪ .‬ولكـن بعـد أن‬
‫حصلـت شـركات البترول العامليـة الكبرى علـى امتيـ�از التنقيـب عـن النفـط‬
‫واسـتخراجه‪ ،‬والتحقـق من وجوده يف العراق بغزارة‪ ،‬نشـأ هنـا عامل جديد كبري‬
‫األهميـة ظـل يدفـع بربيطاني�ا إىل تكييف سياسـاتها يف العراق باجتـاه االحتفاظ‬
‫باملوقـع اخلـاص الـذي حصلـت عليـه هنـا‪.‬‬
‫مـا جيلـب النظـر هنـا أن شـركة نفـط العـراق لـم تسـارع إىل اسـتغالل‬
‫مكامـن النفط العراقية بالسـعات اليت يمليها منطـق األفضليات االقتصادية‪.‬‬
‫فربغـم رخـص النفـط العـرايق لغـزارة كمياته وقـرب مكامنه من سـطح األرض‬
‫وتوفـر الضغـط الـكايف السـتخراجه بكلـف واطئـة قياسـا إىل احلقـول النفطية‬
‫األخـرى يف الـدول املجـاورة‪ ،‬إال أن شـركات النفـط العاملـة يف العـراق ظلـت‬
‫تعامـل النفـط يف العـراق كاحتي�اطـي حين ضمنـت حصولهـا علـى الكميـات‬
‫التي حتتاجهـا مـن حقول النفـط األخرى يف املنطقـة حىت اهتزت قناعتها يف هذا‬
‫األمـر بعـد تأميـم النفـط اإليراين‪ ،‬برغـم أن العراق كان شـديد احلاجـة إىل المال‬
‫ألغـراض التطـور‪ .‬اقترن احلصـول علـى امتيـ�از النفـط واسـتثماره بتصرفـات‬
‫بريطانيـ�ة تكشـف عـن جوهـر االنتـ�داب بصفته شـكال من أشـكال االسـتعمار‬
‫والهيمنـة‪ .‬وأول مـا يشـار إليه هنـا هو أن امتيـ�از النفط كان الغنيمة األساسـية‬
‫التي على أسـاس تقاسـمها أمكـن االتفاق على صيغـة االنتـ�داب الربيطاين كما‬
‫أشـرنا مـن قبـل‪ .‬فربيطانيـ�ا اسـتن�دت إىل وعـد مزعوم منـح فيه وزيـر اخلارجية‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪94‬‬

‫للحكومـة العثمانيـ�ة‪ ،‬سـعيد حليـم‪ ،‬إىل شـركة النفـط الرتكيـة امتيـ�از البحـث‬
‫عـن النفـط واسـتخراجه يف العـراق يف ‪ 28‬حزيـران ‪ .1914‬لكـن هـذا الوعـد‬
‫أصبـح موضـع تسـاؤل بعـد أن انهـارت الدولـة العثمانيـ�ة وسـلطتها‪ ،‬وبدال من‬
‫الرأسـماليني األلمـان الذيـن كانوا يشـاركون يف رأسـمال شـركة النفـط الرتكية‬
‫حـل الفرنسـيون بنسـبة ‪ % 25‬مـن رأسـمالها وأمكن بذلك أن تصفـي بريطاني�ا‬
‫مشـاكلها مـع فرنسـا يف واليـة املوصـل‪ .‬ولمـا جـاء دور الشـركات األمريكيـة‬
‫أمكـن التوصـل معهـا إىل ترضيـة يف عـام ‪ 1928‬وصارت تشـارك بقـدر احلصة‬
‫الفرنسـية وسـكتت أمريـكا علـى االنتـ�داب الربيطاين ومـا خيطط لـه يف العراق‪.‬‬
‫وكجزء من املناورات الربيطاني�ة حول االنت�داب ووالية املوصل وامتي�از النفط‪،‬‬
‫فاحتـت شـركة النفـط الرتكيـة حكومـة مصطفـى كمـال يف تركيا يف عـام ‪1924‬‬
‫بشـأن وعـد الوزيـر العثمـاين سـعيد حليـم رغـم معارضـة احلكومـة العراقيـة‪،‬‬
‫موافقـة احلكومـة الرتكيـة بعد أن فـرض على العـراق أن يدفع‬ ‫ونالـت الشـركة ً‬
‫لرتكيـا ملـدة ‪ 25‬عامـا ‪ % 10‬ممـا حيصـل عليه لقاء امتيـ�از النفط‪ .‬ثم إن الشـركة‬
‫كانـت قـد حصلـت بموجـب االمتيـ�از املوقـع يف ‪ 14‬آذار ‪ 1925‬مـع «احلكومـة‬
‫العراقيـة» على حق اسـتثمار النفط يف ‪ 24‬قطعة مسـتطيلة مسـاحة الواحدة‬
‫منهـا ثمانيـ�ة أميـال مربعة جيري اختي�ارهـا بعد إجراء االختبـ�ارات يف كل املنطقة‬
‫التي يشـملها االمتيـ�از‪ .‬لكنها تعمدت تأخري اسـتثمار موارد العـراق النفطية إىل‬
‫احلـد الـذي أثار تسـاؤالت جلنـة االنتـ�داب الدائمـة يف عصبة األمـم‪ ،‬فتذرعت‬
‫الشـركة بنظـام القطعـة هـذا‪ .‬ولهـذا فرض علـى العـراق بموجب اتفـاق جديد‬
‫يف آذار ‪ 1930‬أن يمنـح الشـركة اسـتثمار كل مـوارد النفـط يف األرايض العراقية‬
‫الواقعـة شـريق نهـر دجلـة باسـتثن�اء واليـة البصـرة واألرايض التي حولـت مـن‬
‫إيـران عـام ‪ 1913‬املعروفـة باسـم نفطخانـة‪ 17 17.‬واملعـروف أن الشـركة حصلت‬
‫الحقـا علـى امتيـ�از البحـث عـن النفـط واسـتثماره يف كل أحنـاء العـراق األخـرى‬
‫باسـم شـركتني أخريين متفرعتين عنهـا‪ .‬وعـادت الشـركة وفرضـت علـى‬
‫العـراق يف تعديـل لالمتيـ�از يف عـام ‪ 1926‬القبـول بدفـع عوائـد ثابتـ�ة بـدال مـن‬
‫طريقـة املشـاركة يف عوائـد األربـاح كمـا ينـص االمتيـ�از األصلـي‪ ،‬وتمديـد مدة‬
‫‪18 18‬‬
‫االمتيـ�از مـن أربـع وسـتني سـنة إىل تسـع وتسـعني سـنة‪.‬‬
‫علـى أن تركيز بريطانيـ�ا علـى النفـط لـم يصرفهـا عـن السـعي لتسـهيل‬
‫نشـاط الرسـاميل الربيطانيـ�ة يف املياديـن االقتصاديـة األخـرى‪ .‬ويالحـظ هنـا‬
‫أنهـا كانـت تتعمـد إلقـاء مـا تعانيـ�ه هـي مـن مصاعـب اقتصاديـة علـى عاتـق‬

‫‪ .17‬ه‪ .‬فوســر‪ ،‬نشــأة العــراق احلديــث‪ ،‬ترجمــة وتعليــق ســليم طــه التكريــي‪ ،‬اجلــزء‬
‫الثــاين‪ ،‬الفجــر للنشــر والتوزيــع‪ ،‬بغــداد‪ ،1989 ،‬ص ‪.414‬‬
‫‪ .18‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.417‬‬
‫‪95‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الدولـة الوليـدة رغـم علـم رجـال االنتـ�داب بعجزهـا عـن حتمـل هـذه األعبـاء‬
‫وعلـى الضـد مـن التوصيـات اليت كانـت خترج بهـا اللجان التي كونهـا االنت�داب‬
‫لدراسـة أوضـاع البلاد االقتصاديـة والمالية وحتملـت الدولـة مصروفات هذه‬
‫اللجـان‪ .‬وقـد أصـرت على اسـتحصال املبالـغ اليت رتبتهـا على العـراق والبالغة‬
‫قرابـة تسـعة ماليني ونصـف مليون روبيـ�ة لقاء املرافـق اليت أقامتهـا ألغراضها‬
‫العسـكرية أثنـ�اء االحتلال وحملـت العـراق قيمتهـا‪ ،‬برغـم أن جلنـة يانـغ التي‬
‫كونتهـا ودفـع العـراق مصروفاتهـا قـد أوصت بإلغاء هـذه الديون لسـوء أوضاع‬
‫‪19 19‬‬
‫العـراق الماليـة‪.‬‬
‫ولـم يسـتهدف االنتـ�داب اختاذ سياسـات جدية لتطوير القـوى املنتجة‪.‬‬
‫ففـي الزراعـة جـرت سياسـة تمليـك املقاطعـات الواسـعة إىل التب�ديـد يف‬
‫األرايض وإنهاكهـا وإهمـال العنايـة بهـا وزراعتهـا بـذات األسـاليب املتخلفـة‬
‫السـابقة‪ .‬واسـتخدمت املضخـة الزراعيـة بإفـراط وبـدون صـرف (بـزل) وأدى‬
‫هـذا إىل تملـح األرض يف مناطـق واسـعة‪ .‬ويف الصناعـة لـم جيـر تـدارك تدهـور‬
‫الصناعـات احلرفيـة والعمـل لتطويرهـا وحتويلهـا إىل صناعـة عصريـة‪ ،‬يف‬
‫الوقـت الـذي لـم تفـرض فيـه أيـة حمايـة أو قيـود علـى االسـترياد‪20 20 .‬وأبعـد‬
‫مـن هـذا فتحت األبـواب أمـام االسـتثمار األجنيب لين�افـس هـذه الصناعات يف‬
‫عقـر دارهـا رغـم أن هـذه الصناعـات كانت تسـد حاجة السـوق املحليـة بكفاءة‬
‫كمـا هـي احلـال مـع صناعـة األحذيـة اليدويـة ومنافسـة شـركة باتـا لهـا‪ .‬وقـد‬
‫اسـتمرت عمليـات التهريب الواسـع واملكشـوف السـيما من الكويـت‪ ،‬دون أن‬
‫تتخـذ أيـة خطـوات جديـة لوقفهـا رغـم مـا تلحقـه بالبالد مـن خسـائر كبرية يف‬
‫العوائـد اجلمركيـة‪.‬‬
‫وفرضـت بريطانيـ�ا علـى العـراق تسـديد أكثر مـن عشـرة ماليين جني�ه‬
‫استرليين يف صـورة أقسـاط سـنوية لقـاء النصيـب الـذي فـرض عليـه مـن‬
‫الديـن العثمـاين العـام بموجـب معاهـدة الصلـح الرتكيـة ‪ -‬الربيطانيـ�ة مـع أن‬
‫العـراق ليـس فقـط لـم يكـن ينتفـع أي يشء مـن هـذا الديـن‪ ،‬ولـم يؤخـذ بـإرادة‬
‫شـعبه‪ ،‬بـل وكانت جتبى منه األموال الكبرية سـنويا إرضاء ملطالب السلاطني‬
‫العثمانيين‪ .‬وأمـر مـن هـذا أن اإلنكلزي كانوا هـم الذين يفاوضون األتـراك ني�ابة‬

‫‪ .19‬عبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬تاريــخ الــوزارات العراقيــة‪ ،‬دار الكتــب‪ ،‬بــروت‪ ،1978 ،‬اجلــزء‬
‫األول‪ ،‬ص ‪.258‬‬
‫‪ .20‬لــم تؤيــد بريطاني ـ�ا احلمايــة إال عندمــا عمــدت اليابــان إىل سياســة إغــراق األســواق‬
‫العراقيــة بأنســجتها الرخيصــة وباتــت منســوجات النكشــاير الــي تصــدر إىل العــراق تواجــه‬
‫منافســة خطــرة‪.‬‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪96‬‬

‫عـن العـراق حـول شـروط تسـديد هـذا الديـن‪21 21.‬وبموجـب االتفاقيـة المالية‬
‫امللحقـة بمعاهـدة ‪ 1924‬ترتب على العراق أن يسـدد حوايل ‪ 9.5‬مليون روبي�ة‬
‫إىل بريطانيـ�ا لقـاء املرافـق التي أنشـأتها ألغـراض احتاللهـا العسـكري للبلاد‬
‫مـن طـرق وجسـور وسـكك وأرصفـة‪ ،‬ويف الوقـت ذاتـه فـرض عليـه أن يوفـر‬
‫لربيطانيـ�ا ألغراضهـا العسـكرية كل مـا حتتاجـه مـن األرايض دون ثمن وتصبح‬ ‫ً‬
‫‪22 22‬‬
‫ملـكا لربيطانيـ�ا‪.‬‬
‫وطـوال عقـد االنتـ�داب والعقـد الـذي يليـه‪ ،‬بقيـت احليـاة املصرفيـة‬
‫يف معظمهـا يف أيـدي البنـوك |لربيطانيـ�ة العاملـة يف العـراق‪ .‬ولـم تعمـل هـذه‬
‫البنـوك علـى اسـتخدام احتي�اطياتهـا مـن األمـوال ألغـراض التنميـة يف العراق‬
‫رغـم احلاجـة الكبيرة لتوظيـف األمـوال‪ .‬وإبـان أزمـة الثالثينـ�ات كانـت هـذه‬
‫البنـوك توجـه اسـتثماراتها إىل مصـر وفلسـطني‪23 23 .‬ويف الوقـت الـذي كانـت‬
‫البلاد حتتـاج أشـد احلاجـة إىل القـروض كانـت هيئـ�ة النقـد العراقيـة املكلفـة‬
‫بإصـدار العملـة العراقيـة تراكـم االحتي�اطيـات وبمقاديـر تفـوق كثيرا مـا كان‬
‫جيـري تداولـه مـن نقد يف العراق‪ ،‬واسـتخدمت هـذه االحتي�اطيـات يف ضمانات‬
‫‪24 24‬‬
‫بريطانيـ�ة أو «إمرباطوريـة»‪.‬‬
‫ً‬
‫أخيرا‪ ،‬مـاذا كان حـظ الصناعـة مـن اهتمـام احلكـم يف فترة االنتـ�داب؟‬
‫لـم يـول الرأسـمال الربيطـاين أهميـة كبيرة لالسـتثمار الصناعـي يف العـراق‬
‫متذرعا بضيق السـوق املحلية وعدم االسـتقرار السـيايس‪ ،‬إضافة إىل انصراف‬
‫بريطانيـ�ا أصلا إىل النفـط والزراعـة مـن قبـل‪ .‬ولذلك لم يؤسـس سـوى معمل‬
‫حللـج القطـن‪ .‬ويف ميـدان النفـط لـم يطـوروا الصناعـة النفطيـة إىل أبعـد مـن‬
‫حفـر اآلبـار واسـتخراج النفـط اخلـام ونقلـه‪ .‬وتهربـت شـركة نفـط العـراق عن‬
‫إنشـاء صناعـة تصفيـة أسـوة بما فعلـت يف إيـران‪ ،‬رغـم أن امتي�از النفـط املوقع‬

‫‪ .21‬حــول مســألة الديــون العثمانيـ�ة انظــر‪ :‬احلســي‪ ،‬تاريــخ الــوزارات‪ ،‬اجلــزء الثــاين‪ ،‬ص‬
‫‪ 187‬ومــا بعدهــا‪.‬‬
‫‪ .22‬انظــر نــص االتفاقيــة الماليــة لــدى عبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬اجلــزء الثــاين‪ ،‬ص ‪– 323‬‬
‫‪.330‬‬
‫‪ .23‬كان الرأســمال الربيطــاين يت�دفــق آنــذاك علــى فلســطني لدعــم املؤسســات الصهيوني�ة‬
‫يف ابتي ـ�اع األرايض ودعــم حركــة الهجــرة وإنشــاء املصانــع عنــد تــل أبيــب (أنــئ مــا يزيــد‬
‫عــن ‪ 70‬مصنعــا هنــاك مــا بــن ‪ 1920‬و‪ )1925‬وقــد بلــغ الرأســمال الربيطــاين واألمريكــي‬
‫يف الثالثينـ�ات ‪ 30‬مليــون جنيـ�ه اســرليين (ســميح ســمارة‪ ،‬العمــل الشــيوعي يف فلســطني‪،‬‬
‫دار الفــارايب‪ ،‬بــروت‪ ،1979 ،‬ص ‪.)104‬‬
‫‪ .24‬ز‪.‬ي‪ .‬هرشــاغ‪ ،‬مدخــل إىل التاريــخ االقتصــادي احلديــث للشــرق األوســط‪ ،‬ترجمــة‬
‫مصطفــى احلســيين‪ ،‬دار احلقيقــة‪ ،‬بــروت‪ ،1973 ،‬ص ‪.318‬‬
‫‪97‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫يف عـام ‪ 1925‬ينـص علـى إنشـاء مصفـى يف كركـوك‪ .‬وكانـت تسـتورد نصيبـ�ا‬
‫مـن الوقـود الـذي حتتاجـه البلاد والـذي حتتاجـه هـي مـن مصفـى عبـادان يف‬
‫إيـران وتنقلـه ببواخـر نهريـة يف دجلـة‪ ،‬آمـا بقيـة ما حتتاجـه البالد فكانـت توفره‬
‫مـن مصفـى صغير أنشئ يف األرايض املحولـة إىل العـراق يف الونـد قـرب خانقني‬
‫ونقلـت إدارة السـكك احلديـد ورش تصليـح سـكك احلديـد مـن الشـعيب�ة إىل‬
‫الشـاجلية يف بغـداد‪.‬‬
‫مقابـل ذلـك‪ ،‬كانـت تعترض سـبي�ل االسـتثمار الصناعـي مـن جانـب‬
‫املمولين العراقيين عقبـات جديـة‪ .‬فإذا مـا حنين�ا جانبـ�ا ضيق السـوق الوطني�ة‬
‫آنـذاك‪ ،‬واالفتقـار إىل روحيـة املسـتثمر اجلـريء والنشـيط لـدى أصحـاب‬
‫األمـوال‪ ،‬واالفتقـار إىل التعليـم الصناعـي لتدريـب األيـدي العاملـة الماهـرة‬
‫ولتخريـج الفنيين الصناعيين الـذي حتتاجهـم الصناعـة العصريـة‪ ،‬وقلـة‬
‫املدخرات الوطني�ة يف األسـاس وانصـراف التجار واملالكني إىل صرف معظم ما‬
‫حيصلـون عليـه علـى مطالـب االسـتهالك التريف؛ فإن سياسـة جدية لم ترسـم‬
‫إلجيـاد حمايـة للصناعـات الوطنيـ�ة الوليدة تغـري أصحاب األمـوال العراقيني‬
‫علـى إنشـاء املشـاريع الصناعيـة‪ .‬مقابـل ذلـك كان باب االسـترياد‪ ،‬السـيما من‬
‫بريطانيـ�ا والهنـد‪ ،‬مفتوحـا علـى مصراعيـه‪ ،‬مما يدفـع املمولين العراقيني على‬
‫التردد‪ .‬ولـم تكـن الدولـة آنـذاك غنيـ�ة املـوارد‪ ،‬وتسـتنفد رواتـب املستشـارين‬
‫الربيطانيين املنتشـرين يف كل الدوائـر واملؤسسـات‪ ،‬ومصروفاتهـم العاليـة‪،‬‬
‫جـزءا كبيرا ممـا حتصـل عليه مـن مـوارد‪ ،‬ولـم يكـن التصنيـع يف رأس أولوياتها‪.‬‬
‫لذلـك كان أصحـاب األمـوال العراقيـون يفضلـون مياديـن االسـتثمار األخـرى‬
‫كاملتاجـرة وبنـ�اء العقـارات بدال مـن توظيف أموالهـم يف املياديـن الصناعية غري‬
‫املضمونـة‪ .‬ومـع ذلـك فقـد شـهدت فترة االنتـ�داب ظهـور بعـض الصناعـات‬
‫الوطنيـ�ة‪ .‬فقـد تـم يف عـام ‪ 1926‬تأسـيس أول معمـل حديث للغزل والنسـيج‬
‫يف الكاظمية هو معمل فتاح باشـا الذي كان يشـغل قرابة مئيت عامل‪ .‬ويف العام‬
‫ذاته أسـس اللبن�اني�ان طبارة وعبود معمال صغريا للسـكائر كان يشغل يف نهاية‬
‫العشـرين�ات أكثر مـن ‪ 100‬عامل‪ .‬وأنشـئت معامل للدباغة احلديثـ�ة يف بغداد‬
‫واملوصـل‪ .‬وأقيمـت معامـل لصناعـة الطابـوق (اآلجـر) احلديـث الـذي يعمـل‬
‫بقـوة البخـار‪ .‬كذلك أنشئ العديد من املطاحـن ومعامل الثلـج وتوليد الكهرباء‬
‫بلـغ عددهـا ‪ 19‬مشـروعا يف نهايـة فترة االنتـ�داب‪ .‬حقـا لقـد نمـا اإلحسـاس‬
‫الوطني بضـرورة التصنيـع احلديـث‪ ،‬وتضطـر كل الـوزارات التي تعاقبت على‬
‫احلكـم إىل أن تـدرج مـا يفيـد أنهـا سـتعمل علـى تشـجيع التصنيـع احلديـث يف‬
‫مناهجهـا الوزاريـة‪ ،‬لكنهـا لـم تكـن تقـرن هـذه الوعـود خبطـوات جديـة‪ -‬فحىت‬
‫عـام ‪ 1927‬لـم يكن جيـري التميزي يف التعريفة اجلمركية بني السـلع املسـتوردة‬
‫االسـتهالكية والسـلع اإلنت�اجيـة‪ .‬والتغيريات التي أدخلـت يف التعريفة يف هذا‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪98‬‬

‫الشـأن يف ذلـك العـام اجتهـت إىل حتفيز مالكـي األرايض علـى نصـب املضخات‬
‫الزراعيـة وأصحـاب العقـارات علـى بنـ�اء العقـارات‪ .‬إن الصناعـات احلرفيـة‬
‫كانـت عاجـزة يف ظـروف البالد آنذاك عن منافسـة البضائع املسـتوردة املماثلة‬
‫مثلمـا كانت عاجزة عن التطور إىل صناعـة عصرية بطاقاتها الذاتي�ة املحدودة‪.‬‬
‫وحتى قانـون تشـجيع املشـاريع الصناعيـة رقم ‪ 14‬لسـنة ‪ 1929‬الـذي انطوى‬
‫علـى بعـض التسـهيالت (كإعفـاء املعـدات املسـتوردة مـن الرسـوم ملـدة ‪15‬‬
‫سـنة وإعفـاء املؤسسـة الصناعيـة املقامـة من دفع الرسـوم علـى املـواد األولية‬
‫املسـتوردة ملـدة ‪ 5‬سـنوات شـرط أال تقل مشـاركة الرأسـمال األجنبي فيها عن‬
‫‪ %50‬وأال تزيـد اليـد العاملـة األجنبي�ة املسـتخدمة فيها عـن ‪ %10‬من مجموع‬
‫اليـد العاملـة يف املشـروع) لـم يكـن ليعينهـا علـى الصمـود والتطـور الواثـق‬
‫دون حمايـة جديـة يف وجـه مزاحمـة أجنبيـ�ة قويـة‪ .‬ويمكننـ�ا أن نتبين موقـف‬
‫االنتـ�داب مـن التصنيـع مـن املوقـف الـذي اختـذه املنـدوب السـايم مـن القـرار‬
‫الـذي أراده امللـك فيصـل يف عـام ‪ 1930‬إلقـراض مشـروع فتـاح باشـا للنسـيج‬
‫‪ 150،000‬روبيـ�ة (‪ 11،250‬دينـ�ارا) كان املشـروع يف أمـس احلاجـة إليهـا‬
‫أيـام األزمـة االقتصاديـة‪ .‬إذ رفـض املنـدوب السـايم املصادقـة علـى إقـراض‬
‫املصنــع‪ ،25 25‬يف الوقـت الـذي كان فيه الشـيوخ واملالكني حيصلون على مختلف‬
‫التسـهيالت واإلعفـاءات الضريبيـ�ة بغيـة مواجهـة األزمـة االقتصاديـة‪.‬‬
‫علـى العمـوم فـإن العراق قـد ودع العقـد الثالث من القرن السـابق وودع‬
‫معه إدارة االنت�داب الربيطاين دون أن يشـهد سـوى ثماني�ة مشروعات صناعية‬
‫تمتعـت بمـا ورد يف القانـون الـذي أشـرنا إليـه‪ ،‬وكانـت جميعهـا مشـروعات‬
‫صغيرة مـن حيث رسـاميلها واملواد املسـتخدمة يف إنت�اجها واليـد العاملة فيها‪.‬‬
‫لقـد غـرس االنتـ�داب الربيطاين فكـرة أن العـراق بلد زراعي غير مؤهل للتصنيع‬
‫احلديـث‪ ،‬وتبن�اهـا رجـال احلكـم الذيـن تدربـوا يف مدرسـته من بعد‪.‬‬
‫رغم أن سـنوات االنت�داب لم تسـجل تطورا كبريا يف امليادين االقتصادية‬
‫واالجتماعيـة املختلفـة‪ ،‬إال أن مـا حصـل هنـا كان كافيـا ألن جيعـل العـراق غير‬
‫واليـات األمـس املفككـة‪ ،‬واملجتمـع الـذي كانـت تتوزعـه الـوالءات املختلفـة‬
‫واألعـراف العشـائرية بـات يشـهد بـذور تطلعـات‬
‫ً‬ ‫القبيلـة‬
‫ً‬ ‫وتهيمـن عليـه ًقيـم‬
‫جديـدة‪ ،‬وحـراكا اجتماعيـا جديـدا ‪ ٠‬ورغـم أن النشـاط الـذي كان يب�ديـه رأس‬
‫المـال األجنبي ظـل هـو العامـل االقتصـادي األمـل واحلاسـم يف مـا كان يظهـر‬
‫مـن تغيرات اقتصاديـة واجتماعيـة‪ ،‬والتعبري السـيايس لهذا النشـاط ينعكس‬
‫يف السياسـات التي كان يرسـمها ويوىص بها رجـال االنت�داب ويلزتم بها ساسـة‬
‫البلاد‪ ،‬إال أن مصالـح طبقيـة وفئويـة خاصـة بـدأت تظهـر تدريجيـا وتعكـس‬

‫‪ .25‬بطاطو‪ ،‬النص اإلجنلزيي‪ ،‬ص ‪.217‬‬


‫‪99‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫نفسـها يف مسـار األحـداث‪ .‬وألن تطـور االقتصـاد الوطني وعمـوم التطـور‬


‫االجتماعـي املرتبـط بـه مـا كان جيـرى وفـق سيرورة طبيعيـة نابعـة مـن شـروط‬
‫هـذا االقتصـاد ذاتـه وكان يتكيـف باسـتمرار بالسياسـات اليت حتددهـا مصالح‬
‫الرأسـمال األجنبي الدخيـل‪ ،‬فـإن التطـور لـم يشـهد انتظامـا أو اتسـاقا يأخـذ‬
‫عامـل الزمـن فيـه مـداه األبعـد وبانتظـام‪.‬‬
‫يف الريف شرع التمايز الطبقي يأخذ مجراه وتسرع يف مسريته مجموعة‬
‫التشـريعات التي تصـب جميعهـا يف اجتـاه تعزيـز امللكيـة أو احليـازة الكبيرة‬
‫اخلاصـة للأرض وجتريد الفالح أكثر فأكرث من فرصته اخلاصة يف االسـتثمار‪.‬‬
‫إن العـرف القبلـي وقيم املؤسسـة القبليـة واإليديولوجيـات املرتبطة بها ظلت‬
‫تقيـد الفلاح وحتـدد مطامحـه وقيمـه وتصوراتـه‪ ،‬وبالتـايل ظلت تشـكل غطاء‬
‫كاحبـا حيـول دون عثـوره علـى فـرص التعبير عـن مصاحلـه الطبقيـة اخلاصـة‪،‬‬
‫وقـد اقتضى األمـر عقـودا أخـرى ليتبين سـعة الهـوة التي تفصلـه عـن الشـيخ‬
‫وملاك األرض‪.‬‬
‫ويف املدينـ�ة كانـت التمايزات الطبقية تشـق سـبيلها ولو ببـطء وبت�داخل‬
‫ملحـوظ‪ .‬فلأن فـرص االسـتثمار محـددة بفعـل هيمنـة الرأسـمال األجنبي لم‬
‫تكـن املدخـرات الماليـة جتـد سـبيلها لالسـتثمار بسـهولة‪ .‬فالتجـارة تهيمـن‬
‫عليهـا الشـركات التجاريـة األجنبيـ�ة والدخـول إىل ميـدان جتـارة االسـترياد‬
‫والتصديـر كان يفترض توفير عالقـات مناسـبة بالرأسـمال األجنبي هنـا‪ .‬ويف‬
‫الريـف حتـد امللكيـة اخلاصـة مـن إمكانيـ�ة االسـتغالل الرأسـمايل يف الزراعـة‬
‫إال مـن خلال نصـب املضخـات الزراعيـة‪ ،‬كمـا حتـد منـه هنـا العقليـة املتخلفة‬
‫التي ختشى إدخـال التطويـرات احلديثـ�ة يف الزراعـة‪ ،‬والفقـر العـام‪ ،‬وانعـدام‬
‫طـرق املواصلات واالسـتقرار واألمـن‪ .‬ولـم يكـن الدخـول إىل ميـدان الصريفـة‬
‫والتأمين هينـ�ا مـع هيمنـة البنـوك وشـركات التأمين الربيطانيـ�ة عليـه وقـد‬
‫تن�اولنـا العقبـات اجلديـة التي ظلـت تعيـق االسـتثمار الصناعـي‪ .‬إزاء هـذه‬
‫األوضـاع كان أصحـاب األمـوال يميلون إىل اسـتثمار أموالهـم يف أكرث من ميدان‬
‫واحـد‪ .‬فقـد كان مـن المألـوف أن يشـارك التاجـر يف نصـب مضخـة زراعيـة ويف‬
‫تملـك العقـارات‪ ،‬وكثير مـن هؤالء مـن وجه أبنـ�اءه إىل جانب ذلك حنـو وظائف‬
‫الدولـة‪ ،‬السـيما وأن املشـاركة يف اجلهـاز احلكـويم وإشـغال املواقـع الهامـة‬
‫فيـه تضمـن للعائلـة مزيـدا مـن املغانـم وصيانـة مصلحتهـا ناهيـك عـن اجلـاه‬
‫املطلـوب‪.‬‬
‫ورغـم أن اجلماعـات احلرفيـة واجهـت ضغطـا شـديدا مـع اتسـاع جتارة‬
‫االسـترياد والتغيرات التدريجيـة احلاصلـة يف أنمـاط االسـتهالك‪ ،‬دون أن جتد‬
‫مـا يدعمهـا مـن جانـب الدولـة رغـم مطالباتهـا املسـتمرة‪ ،‬فإنهـا لـم تكن قـادرة‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪100‬‬

‫علـى التحـول إىل االسـتثمار احلديـث لضألـة قدراتهـا الماليـة والفنيـ�ة أوال‪،‬‬
‫ولسـيادة األجـواء العامـة غير املشـجعة علـى التصنيـع التي أشـرنا إليهـا ثانيـ�ا‪.‬‬
‫وحتـت الضغـط الـذي مارسـه زحـف السـلع الرأسـمالية املماثلـة املسـتوردة‬
‫بـدأت هـذه اجلماعـات تفقـد تماسـكها الـذي كان يصونهـا إىل حـدود معين�ة يف‬
‫إطـار (األصنـاف)‪ ،‬واضطـرت إىل أن تلوذ بالتعاون مع جماعـات العمال وتبين‬
‫ألوانـا مـن التضامـن الطبقـي العمـايل وأسـاليب�ه يف النضـال كمـا سنرى‪.‬‬
‫بيـ�د أن هـذا التطـور اختـذ‪ ،‬يف مجالين مـن مجـاالت التطـور االجتماعـي‬
‫العـام يف املدينـ�ة‪ ،‬أهميـة أكرب يف احلـراك االجتماعي العام ومـا تمخض عنه من‬
‫نتـ�اجئ سياسـية واجتماعية‪ ،‬ونعين بهما الظهور املبكـر للطبقة العاملة والظهور‬
‫الـذي تلاه لالنتلجنسـيا‪ .‬فمع ظهـور كلتا القوتني اكتسـبت املدينـ�ة قوة تفوق‬
‫يف وزنهـا االجتماعـي املؤسسـات األخـرى التي كان يعـول االسـتعمار الربيطـاين‬
‫عليهـا يف لعبـة التوازنـات ونعنى بهما جهاز الدولة واملؤسسـة العشـائرية‪.‬‬
‫الظاهرة األوىل يف تكون الطبقة العمالية يف العراق أنها نشأت باالرتب�اط‬
‫مـع االسـتثمارات األجنبيـ�ة على غـرار ما حـدث يف أغلب بلدان الشـرق األخرى‬
‫ولمـا كان بعـض هـذه االسـتثمارات موسـمية‪ ،‬ترتبـط بموسـم جني بعـض‬
‫املحاصيـل لذلـك كان العمـال هنـا موسـميني‪ .‬وبعـد أن ينتهـي املوسـم يقفلون‬
‫عائديـن إىل ديارهـم‪ ،‬وأغلبهـا يف الريـف‪ ،‬ليمارسـوا عملهـم الزراعـي‪ .‬لذلـك‬
‫ظلـوا حيتفظـون بأفكارهـم وتقاليدهـم الريفيـة‪ .‬وجذبـت األعمـال اإلنشـائي�ة‬
‫التي رافقـت االحتلال الربيطـاين كمـد سـكك احلديـد وأعمـال البنـ�اء وتمهيـد‬
‫الطـرق وبنـ�اء اجلسـور وإنشـاء أرصفـة املينـ�اء وأعمـال احلفـر وإنشـاء معامـل‬
‫الطابـوق واحتي�اجـات الشـحن والتفريـغ ومـا يماثلهـا‪ ،‬كثيرا مـن أبنـ�اء الريـف‬
‫إىل ميـدان العمـل األجير‪ .‬وقـد قـدر عـدد الذيـن اسـتخدموا ملختلـف األغراض‬
‫أثنـ�اء احلـرب ب ‪ 156‬ألـف عامـل‪ ،‬كان منهـم حـوايل ‪ 35،000‬عامـل هنـدي‬
‫اجلنسـية‪ .‬أمـا الباقون فكانوا من جنسـيات عراقيـة (عرب وأكـراد)‪ ،‬وإيراني�ة‪،‬‬
‫‪26 26‬‬
‫كان يعمـل يف مشـاريع السـكك وحدهـا مـن بينهـم أكثر مـن ‪ 24‬ألف عامـل‪.‬‬
‫إىل جانـب هـؤالء أرغـم كثير مـن الفالحين علـى أعمـال السـخرة‪.‬‬
‫وبعـد احلـرب تواصلـت أعمال مد سـكك احلديد القصيرة لربط بعض‬
‫املـدن‪ ،‬وأغلـب هـذه الفروع مـدت حلاجـات االستراتيجية الربيطانيـ�ة لرتتيب‬
‫أوضـاع العـراق وفقـا ملصاحلها‪ .‬ومـع أن عدد العاملني ملد الفـروع اجلديدة كان‬
‫يميـل إىل الهبـوط‪ ،‬فإن عدد عمال السـكك عنـد انتهاء االنتـ�داب الربيطاين بلغ‬
‫أكثر مـن خمسـة آالف عامـل‪ .‬واشـتغل حـوايل ألفـي عامـل يف مينـ�اء البصـرة‪،‬‬
‫‪ .26‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬الطبقــة العاملــة العراقيــة‪ ،‬التكــون وبدايــات التحــرك‪ ،‬دار‬
‫الرشــيد للنشــر‪ ،‬بغــداد‪ ،1981 ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪101‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وحـوايل ‪ 4250‬عاملا يف إنشـاء الطـرق‪ .‬وكان هنـاك مـن يماثلهـم مـن سـواق‬
‫السـيارات‪ 27 27.‬واسـتخدمت شـركة نفـط العـراق أالف العمـال ألغـراض‬
‫التنقيـب واحلفـر واإلنشـاء‪ ،‬وكان مـن هـؤالء سـتة آالف عامـل يف عـام ‪،1932‬‬
‫وهو العام الذي انتهى فيه االنت�داب رسـميا‪ .‬وحىت عام ‪ 1934‬اشـتغل خمسـة‬
‫آالف عامـل يف مـد خطـوط النفـط بين كركـوك والبحـر األبيـض املتوسـط‬
‫ومحطـات الضـخ‪ ،‬وكان كثير مـن هـؤالء مـن العراقيين‪ .‬وإىل جانـب هـؤالء‬
‫عمـل مئـات العمـال يف مشـروعات الصناعـات العراقيـة التي أقيمـت يف فترة‬
‫االنتـ�داب‪ .‬وقـد تضاعـف عـدد العمـال املوسـميني يف تعبئـ�ة وكبـس التمـور يف‬
‫الفترة التي ندرسـها‪ .‬إىل جانـب هـؤالء كان هنـاك مـا يقـرب مـن خمسين ألف‬
‫عامـل يعملـون يف املؤسسـات احلرفيـة الصغيرة يف مجـال احلـدادة واألحذيـة‬
‫واخلياطـة ولـدى الصفاريـن‪ ..‬الـخ‪ ،‬وبسـبب الضعـف الشـديد يف االسـتثمار‬
‫الرأسـمايل هنـا‪ ،‬كان التمييز الطبقـي بين أوسـاط من يعملـون هنا جيـري ببطء‬
‫شـديد‪ ،‬وظلـت احلـال هكـذا لفترة أخـرى مـن الزمـن‪.‬‬
‫يتضـح مـن األرقـام التي أوردناهـا أن أكرب التحشـدات العماليـة كانت يف‬
‫تلـك املؤسسـات التي يملكها أو يديرها اإلجنليز‪ .‬وكان لهذا األمـر أهمية خاصة‬
‫يف كونـه دفـع نضـاالت العمـال يف هـذه املؤسسـات حتى ولـو كانـت نضـاالت‬
‫اقتصاديـة إىل املقدمـة يف النضـال الوطني العـام الـذي خيوضـه الشـعب ضـد‬
‫االسـتعمار الربيطـاين‪.‬‬
‫علـى أن القيمـة األكبر تكمـن فيمـا اقترن بهـذا التمايـز الطبقـي الـذي‬
‫شـهده املجتمـع العـرايق يف تلـك الفترة مـن ظهـور أشـكال يف الوعـي جديـدة‬
‫تمامـا علـى تاريـخ العـراق‪ .‬إذ شـرع العمـال يكتشـفون مـا يوحـد بينهـم مـن‬
‫مصلحـة خاصـة بهـم كعمـال‪ ،‬أي مـا يدعى باكتشـاف الطبقـة لذاتهـا‪ .‬لقد بدأ‬
‫العمـال يدركـون أنهـم يؤلفـون مجموعـة تتماثـل يف الظـروف التي ين�الـون فيها‬
‫نصيبهـم مـن الـرزق وأنهـم بتضامنهـم ونضالهـم املشترك يمكـن أن يزيـدوا‬
‫مـن هـذا النصيـب وأن يصونـوا بعضهـم بعضـا مـن الطـرد‪ ،‬وحيمـوا مصاحلهم‬
‫كعمـال‪ ،‬ويكتشـفون مـن خلال جتربتهـم أن اإلضـراب سلاح ذو قيمـة يف هـذا‬
‫الشـأن‪28 28.‬وكانـت كل هـذه جتـارب رائدة يتعـرف عليها الشـعب ألول مرة‪ .‬لقد‬

‫‪ .27‬كان عــدد الشــاحنات (اللــوري) قــد بلــغ يف عــام ‪1931‬اىل ‪ 700‬شــاحنة (محمــد‬
‫ســلمان حســن‪ ،‬التطــور االقتصــادي يف العــراق‪ ،‬ص ‪.)465‬‬
‫‪ .28‬يذكــر كمــال مظهــر أحمــد نقــا عــن مجلــة (لغــة العــرب) الصــادرة يف تشــرين الثــاين‬
‫‪ 1912‬وعددهــا الصــادر يف كانــون الثــاين ‪ 1914‬آن دباغــي األعظميــة أعلنــوا اإلضــراب‬
‫مرتــن‪ :‬األوىل يف أواخــر ‪ 1912‬مطالبــن برفــع أجورهــم فعــادوا إىل العمــل بعــد أن رفعــت‬
‫أجورهــم‪ ،‬والثانيـ�ة كانــت يف أوائــل كانــون األول ‪ 1913‬وكان يقودهــم مثقــف مــن األعظميــة‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪102‬‬

‫توصـل العمـال أيـام االحتلال الربيطـاين إىل مقاومـة االسـتغالل البشـع الـذي‬
‫مارسـه معهـم عسـكريو االحتلال يف أشـكال أولية غير منظمة وفرديـة أحيانا‪،‬‬
‫وكانـوا يف أغلـب األحيـان يلجـأون إىل الفـرار‪ .‬لقـد مـارس املحتلـون مـع العمـال‬
‫قوانين احلـرب‪ .‬وباإلضافـة إىل الظـروف القاسـية التي كان جيري العمـل فيها‪،‬‬
‫كان اإلجنليز يميزون فيمـا بينهـم يف األجـور والتعامل حسـب اجلنـس واالنتماء‬
‫القـويم‪ ،‬ويعاملونهـم باسـتهتار إىل حـد إطلاق الرصـاص ملنعهـم مـن تـرك‬
‫العمـل والهـروب‪ .‬ولكـن العمـال يطـورون مـن نضاالتهـم والسـيما يف األعمـال‬
‫التي جتـري يف املـدن‪ -‬وكان أول إضـراب ين�دلـع يف مسـفن مينـ�اء البصـرة يف‬
‫صيـف ‪ 1918‬عالمـة بـارزة يف تطـور نضـال العمـال‪ ،‬فقـد شـمل املئـات منهـم‪،‬‬
‫‪29 29‬‬
‫وبـرزت مـن بينهـم قيـادة تتحـدث بلسـانهم ويلتـف العمـال حولهـا‪.‬‬
‫وبعد سـنوات‪ ،‬بدأ العمال يشـعرون حباجتهم إىل تنظيم أنفسـهم‪ .‬ففي‬
‫عـام ‪ 1924‬قـدم محمـد صالح القـزاز وميح الديـن محمد‪ ،‬رئيس قسـم الربادة‬
‫يف املعمـل العسـكري‪ ،‬وقاسـم عبـاس العامـل يف معامل السـكك يف الشـاجلية‪،‬‬
‫طلبـا بت�أسـيس نـاد للعمـال‪ ،‬لكـن إدارة السـكك الربيطانيـ�ة رفضـت الطلـب‬
‫واختـذت إجـراءات إداريـة ضـد مقـديم الطلـب‪ .‬لكـن هـؤالء ظلـوا يقدمـون‬
‫طلباتهـم مـن بعـد‪ .‬وجلـأ العمـال إىل تقديـم (العرائـض) للمسـؤولني أملا يف‬
‫كسـب عطفهم إال أنهم اكتشـفوا من بعد عقم هذا األسـلوب‪ -‬ويف عام ‪1927‬‬
‫بـادر عمـال السـكك إىل شـن أول إضـراب لهـم‪ ،‬طالبـوا فيـه بزيـادة أجورهـم‬
‫لتتن�اسـب مـع أجـور العمـال األجانـب‪ ،‬وصـرف األجـور يف أوقاتهـا املحـددة‪،‬‬
‫وختفيـض أجـور السـكن ملن كان يسـكن الدور التابعـة ملديريه سـكك احلديد‪.‬‬
‫وقـد اسـتجابت اإلدارة إىل بعـض مطالبهـم‪ .‬ويف حزيران ‪ 1928‬قـدم ‪ 45‬عامال‬

‫يدعــى عبــد الهــادي األعظــي‪ ،‬وطالبــوا برفــع أجورهــم بمقــدار ‪« 25%‬فاضطــر أصحــاب‬
‫املعامــل إىل حتقيــق رغبتهــم فعــادوا إىل أشــغالهم» (كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬مصــدر ســابق‪،‬‬
‫ص ‪ .)34‬الدكتــور طــارق نافــع احلمــداين‪ ،‬مالمــح سياســية وحضاريــة يف تاريــخ العــراق‬
‫احلديــث‪ ،‬الــدار العربيــ�ة للموســوعات‪ ،‬بــروت‪ ،1989 ،‬ص ‪.177‬‬
‫‪ .29‬روى يل داود ســلمان يوســف‪ ،‬أحــد قــادة اإلضــراب ذاتــه‪ ،‬وكنــا معتقلــن يف غرفــة‬
‫واحــدة يف معتقــل أبــو غريــب عــام ‪ ،1949‬كيــف اندلــع اإلضــراب‪ ،‬قــال إنــه جمــع العمــال يف‬
‫فــرة الغــداء وكان االســتي�اء قــد بلــغ ذروتــه بــن العمــال وشــرع حيدثهــم عــن الوضــع الســئ‬
‫الــذي يعملــون فيــه‪ ،‬وســحب الحئــة كانــت اإلدارة قــد دونــت فيهــا شــروط العمــل‪ ،‬وراح يقــرأ‬
‫لهــم فقراتهــا واحــدة تلــو األخــرى‪ ،‬وبعــد أن فــرغ مــن تالوتهــا جميعــا ســألهم‪ :‬أيــا منهــا تطبــق‬
‫اإلدارة؟ وحــن تلقــى ردهــم بالنفــي قــذف بهــا إىل شــط العــرب ودعاهــم إىل اإلضــراب‪ ،‬فلبــوا‬
‫جميعهــم اإلضــراب‪ .‬وقــال لهــم قدمــوا إىل إدارة املســفن مذكــرة عرضــوا فيهــا مطالبهــم‪،‬‬
‫وقــد صاغهــا لهــم يوســف ســلمان يوســف وكان آنــذاك شــابا يافعــا يعمــل ككاتــب يف إدارة‬
‫توزيــع الكهربــاء‪[ .‬املؤلــف]‬
‫‪103‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مذكـرة احتجـاج ضـد «املعاملـة القاسـية التي يلقونهـا يف شـركة النفـط أو بايق‬
‫‪30 30‬‬
‫الشـركات األجنبيـ�ة»‪.‬‬
‫ومـع ذلـك‪ ،‬ال تنبغـي املبالغـة يف تقييـم وعـي العمـال حتى ذلـك احلين‪.‬‬
‫ففـي تلـك الفترة ظـل رؤسـاء القبائـل التي ينحـدر منهـا العمـال يمارسـون‬
‫ابزتازهـم باسـم األعـراف القبليـة وينزتعـون بعضـا ممـا ين�الـه العمـال الذيـن‬
‫ينتسـبون إىل قبائلهـم مـن أجـور‪ .‬ولكـن العمـال باملقابـل بـدأوا يتمـردون علـى‬
‫هذه األعراف ودخلوا يف نزاعات مع رؤسـاء قبائلهم حول هذه االسـتقطاعات‪.‬‬
‫يف هـذه الفترة‪ ،‬كذلـك‪ ،‬كان يصعـب وضع حد فاصـل بني احلرفيين والعمال‪،‬‬
‫وكثيرا مـا كانـت جتـري نشـاطات جتمـع بين هاتين الفئتني مـن الشـغيلة‪ ،‬ويف‬
‫الفترة األخيرة مـن االنتـ�داب تأسسـت جمعيات عديدة مـن هذا النـوع‪ .‬وعلى‬
‫العمـوم‪ ،‬فـإذا كان الطابع احلريف يغلب علـى قيادة (جمعية أصحاب الصنائع)‬
‫و(جمعيـة عمـال املطابـع) وأمثالهما فإن قواعـد هذه اجلمعيـات كانت تتكون‬
‫يف الغالـب مـن العمـال‪ .‬لقـد كان احلرفيـون يواجهـون عهـد ذاك وضعـا صعبـا‬
‫السـيما حين أطبقـت األزمة االقتصاديـة على البلاد‪ ،‬لذلك لم يكـن غريب�ا أن‬
‫يبحثـوا عمـن يدعمهـم مـن بين أوسـاط الكادحين ويلـوذون بهم‪.‬‬
‫وعلـى يد (جمعيـة أصحاب الصنائـع) بدأ العمال يشـعرون بالعالقات‬
‫الطبقيـة التي جتمـع فيمـا بينهـم ال علـى نطـاق املؤسسـة الواحـدة أو املدينـ�ة‬
‫علـى نطـاق اوسـع يمتـد إىل أحنـاء أخـرى مـن البلاد‪ .‬فقـد‬ ‫الواحـدة‪ ،‬وإنمـا ُ‬
‫تأسسـت للجمعية شـعب متعددة بني عمال السـكك يف ورشـات التصليح يف‬
‫الديوانيـ�ة وسـدة الهنديـة وأور وقرغـان وغريهـا‪ .‬وأقيمـت لهـا فـروع يف البصرة‬
‫والناصريـة واحللـة وخانقين‪ً .‬ويـروى أن بين أعضـاء اجلمعيـة كانـوا حيتفلون‬
‫بمناسـبة األول مـن أيـار سـرا‪ .‬وأقامـت اجلمعيـة عالقـات لهـا‪ ،‬ولـو بقـدر‬
‫محـدود‪ ،‬مـع احلركـة العمالية يف لبن�ان وسـوريا‪ ،‬ومـع االحتاد العالمي لنقابات‬
‫العمـال يف برلين وبمكتـب العمـل الـدويل‪ .‬ووجهت لهـا الدعوات للمشـاركة يف‬
‫مؤتمـر عالمي للعمـال كان مـن املقـرر عقـده يف عـام ‪ .1933‬وقد حـاول اإلجنلزي‬
‫واحلـكام يف بغـداد أن حيـدوا مـن نشـاطات اجلمعيـة والتضييـق عليهـا وطـورد‬
‫‪31 31‬‬
‫القـزاز والقـادة األخـرون‪.‬‬
‫إن الظهـور املبكـر للطبقـة العاملة وحركتها سـهل لهـا أن تلعب يف حركة‬
‫املجتمـع العامـة دورا يفـوق وزنهـا العددي‪ .‬وسنرى من بعـد أن الطبقة العاملة‬
‫العراقيـة ظلـت حتتفظ بهـذا الدور لفترة أخرى مـن الزمن‪.‬‬

‫‪ .30‬كمال مظهر أحمد‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.127‬‬


‫‪ .31‬املصدر السابق‪ ،‬حيتوي الفصل الرابع كثريا من املعلومات القيمة يف هذا الشأن‪.‬‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪104‬‬

‫األمـر اآلخـر الـذي حيسـن الوقـوف عنـده هنـا هـو الظهير املبكـر‬
‫لالنتلجنسـيا وأثـره‪ .‬الحظنـا مـن قبـل أن عـدد املـدارس االبت�دائيـ�ة يف العـراق‬
‫بلـغ يف عـام ‪ 1913‬مئـة وسـتني مدرسـة فقـط تضـم بين صفوفهـا سـتة‬
‫آالف طالـب‪ .‬إال أن عددهـا هبـط أثنـ�اء االحتلال ومـا بعـده بسـبب احلـرب‬
‫واضطـراب األوضـاع حتى ًبلـغ يف عـام ‪ 1920‬أربعـا وثمانني مدرسـة‪ ،‬لكن عدد‬
‫طلبتهـا زاد إىل ‪ 6743‬طالبـا‪32 32.‬كان هنـاك إحسـاس واسـع أن البلاد ال يمكـن‬
‫أن تقـف علـى أقدامهـا دون نهضـة تعليميـة واسـعة‪ .‬لكـن هـذه الرغبـة ظلـت‬
‫تصطـدم بسياسـة االنتـ�داب مـن جانـب‪ ،‬وبالظـروف املوضوعيـة التي كانـت‬
‫تعيشـها البلاد آنـذاك واليت كانت حتد كثيرا من أفاق الطمـوح‪ .‬ففقر البالد إىل‬
‫املـوارد الماليـة ونـدرة املتعلمين القادرين علـى التعليم باللغـة العربي�ة‪ ،‬ناهيك‬
‫عـن التعليـم بالكرديـة‪ ،‬وقلـة املطابـع‪ ،‬وشـيوع اجلهـل السـيما الوقف السـليب‬
‫مـن تعليـم املـرأة‪ ،‬وعديد من العوامـل األخرى‪ ،‬ظلت تعيق التوسـع يف التعليم‪،‬‬
‫دع عنـك التفكير بالنهـوض بمسـتوى هـذا التعليـم‪ .‬إن اإلجنلزي‪ ،‬الذين شـددوا‬
‫علـى احلكومـة العراقيـة يف االتفاقيـة العسـكرية امللحقـة بمعاهـدة ‪ 1924‬أن‬
‫ختصـص مـا ال يقـل عـن ‪ % 25‬مـن إيـرادات العـراق السـنوية لإلنفـاق علـى‬
‫اجليـش والقـوات املحليـة األخـرى‪ ،‬لـم يوصوا بـأن تزيـد يف مزيانيتهـا للمعارف‬
‫عـن ‪ % 3.9‬يف عـام ‪ .1924‬وعلـى العمـوم‪ ،‬فقـد ظلـت املزيانيـ�ات السـنويات‬
‫املكرسـة للمعـارف تقـل كثيرا عـن االحتي�اجـات امللحـة للنهـوض بالتعليـم‪.‬‬
‫‪ 33 33‬ونتيجـة لذلـك لـم يرتفـع عـدد املـدارس االبت�دائيـ�ة حتى عـام ‪ 1930‬عـن‬
‫‪ 291‬مدرسـة وارتفـع عـدد طالبها مـن ‪ 15,275‬عـام ‪ 1922‬إىل ‪ 30,888‬عام‬
‫‪ .1930‬وارتفـع عـدد املـدارس الثانويـة من أربعـة يف عام ‪ 1922‬إىل ‪ 15‬مدرسـة‬
‫ثانويـة عـام‪ ،1930‬وعـدد طالبهـا ‪ 1863‬طالبـا‪ .‬هـذه هـي الصورة العامـة‪ ،‬أما‬
‫إذا دخلنـا يف تفاصيـل هذه األرقام فسـنجد موقفا متحزيا ضد التعليم يف بعض‬
‫املناطـق السـيما يف املناطـق الكرديـة وموقفـا متحيزا كذلـك من تعليـم اإلناث‪،‬‬
‫وكذلـك «جمود التعليم وابتعاده عن حاجات الشـعب احلياتيـ�ة والوطني�ة»‪.‬‬
‫‪ 34 34‬لقـد كانـت هنـاك حاجـة ملحـة إىل توفير القاعـدة العريضـة مـن الكتبـ�ة‬
‫واملوظفين الصغـار للجهـاز احلكـويم‪ ،‬لذلـك جعـل التعليـم شـبه مجـاين لكـي‬
‫يسـهل على الفئات الشـعبي�ة يف املدن أن ترسل أبن�اءها إىل املدارس االبت�دائي�ة‪،‬‬
‫وقليـل مـن هؤالء من كان يسـعفه احلـظ ليواصل تعليمه يف املـدارس الثانوية‪.‬‬
‫أمـا الدراسـة العاليـة يف الكليات املعدودة آنـذاك والبعثـات إىل اخلارج‪ ،‬فكانت‬

‫‪ .34‬مــن تقريــر مونــرو‪ ،‬وهــي جلنــة مــن اخلــراء مــن (املعهــد األمــي لكليــة املعلمــن) يف‬
‫جامعــة كولومبيـ�ا اآلمريكيــة اســتقدمتها احلكومــة العراقيــة يف عــام ‪ 1932‬لدراســة أحــوال‬
‫التعليــم يف مختلــف مراحلــه (هاشــم جــواد‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪.)107‬‬
‫‪105‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫حكـرا علـى أوالد امليسـورين يف الغالـب‪ 35 35 .‬ومـع ذلـك فـإن هـذه القاعـدة‬
‫التعليميـة الضيقـة لعبـت دورا مهمـا يف حتريـك الشـباب يف املـدن‪.‬‬
‫لقـد جنـح اإلجنليز إىل حـد كبير يف القضـاء علـى الـروح الثوريـة التي‬
‫أججتها ثورة العشـرين‪ ،‬وامتصوا معظم عناصر احلركة الوطني�ة يف إسـفنجة‬
‫احلكـم الـذي أقامـوه وأحزابـه‪ .‬وبالرغـم من بقـاء مظاهـر للمعارضة السـيما يف‬
‫املجالـس الني�ابيـ�ة التي أقيمـت وفـق األسـس التي وضعهـا رجـال االنتـ�داب‪،‬‬
‫وبمـا ال خيـرج عن مصالح االسـتعمار الربيطاين‪ ،‬إال أن الروح الثورية انكمشـت‬
‫كثيرا ولـم تعـد فعالـة‪ .‬لقـد فقـدت احلركـة الوطنيـ�ة قاعدتهـا الشـعبي�ة التي‬
‫كانـت تسـتن�د إليهـا يف ثورة العشـرين‪ ،‬لكنهـا يف فترة االنت�داب صارت تسـتن�د‬
‫إىل قاعـدة شـعبي�ة جديـدة‪ ،‬قاعـدة من نـوع آخر قوامهـا العمال والطلاب‪ .‬لقد‬
‫اسـتطاع االسـتعمار الربيطـاين أن يعبئ إىل جانـب احلكـم الـذي اصطنعـه كل‬
‫املثقفين السـابقني‪ ،‬السـيما مـن بني العسـكريني الذيـن وقفـوا إىل جانب�ه منذ‬
‫البدايـة أو الذيـن ترددوا يف بـادئ األمر وحىت من بني الذين ناصبـوا العداء‪ ،‬وأن‬
‫يصطـاد كذلـك مـن خالل شـبكة اجلهـاز احلكويم ومجالسـه الني�ابيـ�ة كل من‬
‫يسـتطيع اصطيـاده مـن املثقفني الشـباب‪ ،‬وظل أعوانه يمارسـون هذه اللعبة‬
‫يف العقـود التاليـة السـيما وأن ضآلـة فـرص االسـتثمار مـا كانـت لتسـاعد يف‬
‫توفير فـرص كافيـة لتشـغيل الشـباب املثقـف واالسـتعانة خبرياتـه خـارج إطار‬
‫اجلهـاز احلكويم‪.‬‬
‫إال أن العشـرين�ات‪ ،‬باملقابـل‪ ،‬أفـرزت جمهـرة مـن الشـباب املثقـف‬
‫الـذي لعـب دورا مهمـا يف توجيـه قاعـدة شـعبي�ة جديـدة بـدأت تتكـون ملقاومـة‬
‫االسـتعمار الربيطـاين وبلـورة اجتاهـات اجتماعيـة كان مـن شـأنها أن تؤثـر يف‬
‫مسـار األحـداث يف البالد الحقا كما سنرى من بعد‪ .‬وألول مـرة يف تاريخ العراق‬
‫احلديـث‪ ،‬باتـت تطرح علـى اجلماهري قضايـا جديدة ومفاهيم جديـدة لم تكن‬
‫موضـوع تـداول عـام مـن قبـل مثـل مفهـوم التطـور واألسـس العلميـة التي‬
‫يقـوم عليهـا‪ ،‬ومفهـوم التقـدم العلمي واالجتماعـي‪ ،‬ومعنى الصـراع الطبقـي‪،‬‬
‫وقضايـا اإلبـداع والعقالنيـ�ة واحلريـة‪ ،‬وحريـة املـرأة وحقوقهـا االجتماعيـة‪،‬‬
‫واحلريـة الفكريـة‪ .‬ومـع أن مجـاالت العمـل املفتوحـة أمامهـم ظلـت ضيقـة‬
‫وال تتوفـر للعمـل السـيايس والفكـري التقـديم املقومـات الماديـة الضروريـة‪،‬‬
‫فـإن مـا كان يتيسـر مـن مجـاالت النشـر علـى محدوديتهـا وبمـا يقـام مـن‬
‫مظاهـرات واجتماعـات عامـة ‪36 36‬ومـا تأسـس من نـواد وجمعيات كان يسـمح‪،‬‬
‫‪ .35‬يف تلــك الفــرة كانــت هنــاك أربــع كليــات فقــط هــي احلقــوق والصيدلــة والطــب ودار‬
‫املعلمــن العاليــة‪.‬‬
‫‪ .36‬قبي ـ�ل صــاة اجلمعــة يف جامــع احليــدر خانــة يف ‪ 21‬آذار ‪ .1930‬انعقــد اجتمــاع عــام‬
‫ادتنالا لظ يف قارعلا‬ ‫‪106‬‬

‫ولـو حبـدود معينـ�ة‪ ،‬يف توفير الفـرص ألن تلعـب الشـبيب�ة اجلديـدة ومثقفوهـا‬
‫دورهـم اجلـدي‪ ،‬وأن يطرحـوا املفاهيـم اجلديـدة بشـأن املضامين االجتماعيـة‬
‫لالسـتغالل‪.‬‬
‫أعقبتـ�ه مظاهــرات يف بغــداد‪ ،‬وكان مــن بــن اخلطبــاء ســعيد احلاج ثابــت‪ ،‬إبراهيــم الواعظ‪،‬‬
‫إبراهيــم صالــح شــكر‪ ،‬عبــد القــادر إســماعيل‪ ،‬محمــود املــاح‪ ،‬أحمــد عــزت األعظــي‪ ،‬عزيــز‬
‫شــريف‪ .‬ويف ‪ 1‬تمــوز ‪ 1930‬أقيــم اجتمــاع يف الذكــرى العاشــرة لثــورة العشــرين يف النــادي‬
‫الســيايس للحــزب الوطــي خطــب فيــه كل مــن جعفــر أبــو التمــن‪ ،‬ويوســف زين ـ�ل‪ ،‬وفائــق‬
‫الســامرايئ‪ ،‬ومحمــود املــاح‪ ،‬وعبــد القــادر إســماعيل‪ ،‬وإبراهيــم صالــح شــكر‪ .‬ويف كتــاب‬
‫(إبراهيــم صالــح شــكر‪ ،‬حياتــه وأثــاره) أمثلــة علــى اخلطــب الــي كان يســاهم فيهــا هــذا‬
‫الوطــي الغيــور (الكتــاب مــن إعــداد عبــد احلميــد الرشــودي وخالــد محســن إســماعيل‬
‫وجميــل اجلبــوري‪ ،‬وإصــدار دار احلريــة للطباعــة‪ ،‬بغــداد‪ )1978 ،‬ويعطــي كمــال مظهــر‬
‫أحمــد أمثلــة عديــدة للكلمــات العديــدة الــي ألقاهــا محمــود أحمــد الســيد يف االحتفــاالت‬
‫الــي كان يقيمهــا العمــال (انظــر ص ‪ )11‬وكمــا يقــول محمــد صالــح القــزاز رئيــس جمعيــة‬
‫أصحــاب الصنائــع والنقــايب العــرايق األول إن اجلمعيــة املذكــورة وقعــت حتــت تأثــر بعــض‬
‫املثقفــن الثوريــن الذيــن كان يوجــد بينهــم مــن بــدأ يتلمــس طريقــه إىل الفكــر االشــراكي‬
‫ويــأيت يف مقدمتهــم محمــود أحمــد الســيد وحســن الرحــال وعبــد هللا جــدوع وإبراهيــم‬
‫القــزاز الذيــن «كانــوا يشــجعون احلركــة العماليــة ويســاعدونها بــكل مــا توفــر لديهــم مــن‬
‫ســبل» (املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪.)144‬‬
107
‫‪4‬‬
‫بدايــات التوجــه نحو الفكر االشــتراكي‬

‫يف هـذا الفصـل‪ ،‬والفصـل الـذي يليـه‪ ،‬سنسـعى إىل متابعـة السـبل‬
‫املختلفـة التي سـلكها الـرواد األوائـل مـن املثقفين العراقيين للتعـرف علـى‬
‫الفكـر االشتراكي بمدارسـه املختلفـة‪ .‬الفصلان‪ ،‬كمـا يالحـظ ًالقـارئ‪،‬‬
‫متالزمـان‪ ،‬اخلامـس يتمـم مـا بـدأه الرابـع‪ ،‬لكنهمـا متمايـزان أيضـا فبينمـا‬
‫يـؤرخ هـذا الفصـل إىل سـعي الشـبيب�ة العراقيـة قبل وبعـد االحتلال الربيطاين‬
‫إىل معرفـة أفـكار احلريـة واملسـاواة والتقـدم واالشتراكية‪ ،‬والسـبل العفويـة‬
‫أو الهادفـة التي أوصلتهـم إىل مبتغاهـم هـذا‪ ،‬فـإن الفصـل الـذي يليـه سـيت�ابع‬
‫سـعي مـن ظـل حيتفـظ منهـم بأفـكاره االشتراكية مـن أجـل تطويرهـا وسـعيه‬
‫إىل توظيفهـا يف عملـه النضـايل‪ .‬ونالحـظ أن عديـدا مـن الذيـن تـرد أسـماؤهم‬
‫هنـا لـم يبـق عنـد مواقعـه وقناعاتـه األوىل‪ .‬إذ ربما قد اسـتب�دلها إىل احلـد الذي‬
‫بـات حيسـب يف جبهـة اخلصوم أحيانا‪ .‬فمسيرة الفكـر والنضال تظـل هكذا يف‬
‫حركـة دائبـ�ة‪ ،‬بين تقـدم ونكـوص‪ .‬وبالنسـبة إىل املوضـوع العـام الذي ندرسـه‬
‫ونعني بـه مسيرة احلزب الشـيوعي العرايق‪ ،‬فـإن هذه الفرتة التي نتحدث عنها‬
‫يف هذيـن الفصلين تظـل فترة تمهيـد أساسـية تسـهم يف إعطـاء سيرة احلـزب‬
‫خصوصيتـ�ه الوطنيـ�ة‪ .‬وهومـا سـنعاجله مـن بعـد‪.‬‬
‫الذيـن تن�اولـوا نشـأة احلـزب الشـيوعي العـرايق مـن «كتـاب» أجهـزة‬
‫األمـن العراقيـة أو غريهـم ممـن ناصبـوه العـداء‪ ،‬درجـوا علـى القـول إن وكالء‬
‫سـوفييت عملـوا علـى غـرس نواتـات احلـزب الشـيوعي يف العـراق وفـق‬
‫تعليمـات صـدرت عـن األمميـة الشـيوعية‪ ،‬وإن الفكـر الشـيوعي غـرس هنـا‬
‫بمسـعى خـاص لعـب فيـه اليهـود دورا خاصـا وفقـا للصـورة التي رسـمتها‬
‫‪109‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫تقاريـر البوليـس الربيطـاين‪ .‬وحىت األسـتاذ بطاطـو‪ ،‬الذي يتصـف عمله الكبري‬
‫بالتقصي اجلـدي والتجـرد لـم يغامـر بنفـي هـذه املزاعـم من األسـاس رغـم أنه‬
‫خيتلـف عـن السـابقني يف الدوافـع واملنطلقات‪ .‬ومع أن الرجـل يتعمد أال يقطع‬
‫بشيء هنـا‪ ،‬ويبقـي قـدرا مـن الشـك فيمـا تـورده تقاريـر البوليـس‪ ،‬إال أن كثرة‬
‫مـا يـورده مـن شـواهد‪ ،‬وىف اإلطـار البوليسي اجلـذاب الـذي يعـرض فيـه هـذه‬
‫الشـواهد‪ ،‬تدفـع بقارئـه إىل التغـايض عـن التحفظـات التي سـاقها واخـذ األمر‬
‫علـى عالتـه‪ .‬وأكثر مـن هـذا فإنـه يسـوق البدايـات املقابلـة يف مصـر ولبنـ�ان‬
‫وفلسـطني والتي لعبـت فيهـا العناصـر غير العربيـ�ة دورا ملحوظـا يف الدعـوة‬
‫لألفـكار االشتراكية ليهيئ األذهـان إىل قبول ما يورده بشـأن العـراق‪ .‬باملقابل ال‬
‫نذهـب حنـن إىل إنـكار اآلثار التي خلفها بطرس أبـو ناصر لدى بعـض معارفه يف‬
‫الناصريـة مـع حتفظنا علـى تقارير البوليـس‪ ،‬او اآلثار اليت تركها أرسين كيدور‬
‫بين األرمـن أو لـدى بعض طالبه يف املدرسـة السـلطاني�ة اليت صـادف أن يكون‬
‫حسين الرحـال أحـد طالبه فيهـا‪ ،‬أو أثـار غريهم مـن األجانب الذيـن قدموا إىل‬
‫العـراق‪ .‬أمـا عـن دور اليهـود يف املسـألة فنذكر هنا حقيقة ال يمكـن دحضها هي‬
‫أن الشـيوعيني العراقيين اليهـود لـم ينخرطـوا يف صفـوف العمـل الشـيوعي‬
‫إال بعـد أن ظهـر احلـزب وتوجـه إىل سـائر الكادحين واملثقفين‪ ،‬وكان العمـال‬
‫واملثقفـون اليهـود مـن بينهـم‪ .‬واليهـود يف العـراق بعـد هـذا‪ ،‬كانـوا غير اليهـود‬
‫املهاجريـن إىل فلسـطني مـن بلـدان أخـرى‪ .‬لقـد عاشـوا يف العراق منذ عشـرات‬
‫القرون‪ ،‬وشـاركوا أقوامه األخرى سـراءهم وضراءهم ولم يزنووا يف «غيتوات»‬
‫خاصـة‪ ،‬وكانـوا جـزءا أصيلا مـن الشـعب‪ .‬وليـس مـن قبيـ�ل املصادفـات أن‬
‫يعتقـل بعضهـم يف النضـال ضـد عقد معاهـدة ‪ 1930‬وأن يقدموا مـن بعد أول‬
‫شـهيد ضدهـا بعـد احلرب الثانيـ�ة‪ .‬وإذا وجـد بينهم من ناصـر الصهيوني�ة فقد‬
‫وجـد بينهـم مـن وقـف ضدهـا وبقـوة‪ ،‬ووجـد باملقابـل من وقـف مع االسـتعمار‬
‫والصهيونيـ�ة وبقـوة من اجلماعـات األخـرى‪ .‬ومثلما وجد من بينهم الرأسـمايل‬
‫اجلشـع واملـرايب فقـد كان مـن بينهـم أضعـاف هـؤالء مـن العمـال والشـغيلة‬
‫اآلخريـن الذيـن كانـوا يعيشـون حيـاة البـؤس والشـقاء‪.‬‬
‫وقبـل أن نن�اقـش انتشـار الفكـر االشتراكي يف العـراق نشـعر أن مـن‬
‫الضروري أن نتوقف عند مسـألة حساسـة كثريا ما تسـاق هي األخرى للتدليل‬
‫علـى أن االشتراكية كمـا يزعـم‪ ،‬غريبـ�ة علـى مجتمـع كمجتمعنـا‪ ،‬والقيـم التي‬
‫درج عليهـا ترفـض املبـادئ االشتراكية وال تسـتطيع تمثلهـا‪.‬‬
‫ً‬
‫نـود أن نؤكـد أوال أن تربـة العراق لم تكن خالية تماما من أفكار التشـارك‬
‫االجتماعـي واالقتصـادي‪ ،‬وأن مـن اخلطـأ نظريـا اعتبـ�ار االقتصـاد اإلسلايم‬
‫اقتصـادا رأسـماليا خالصنـا وإنمـا هـو يؤمن بأشـكال مختلفة للملكيـة يف وقت‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪110‬‬

‫واحـد بمـا فيهـا امللكيـة العامـة وملكيـة الدولـة إىل جانـب امللكيـة اخلاصـة‪.‬‬
‫وليـس يف اإلسلام احلريـة االقتصاديـة املطلقـة التي ينـ�ادي بهـا إيديولوجيـو‬
‫الرأسـمالية‪ .‬ثـم إن اإلسلام يؤمن بنوع مـن عدالة التوزيع إىل حـد ما‪ ،‬ومن هنا‬
‫جاء القول بالعدالة االجتماعية يف اإلسلام‪ .‬وتتماثل االشتراكية مع األديان يف‬
‫عديـد مـن األوجـه‪1 1 .‬فالقـول بالعـدل املطلـق الذي تنـ�ادي به األديـان تقول به‬
‫االشتراكية حين تدعـو إىل إلغـاء اسـتغالل اإلنسـان لإلنسـان‪ .‬أن القضاء على‬
‫االسـتغالل يف املجتمـع يوجـد األرضيـة الماديـة لنهـوض العـدل االجتماعـي‪.‬‬
‫وحين ينـ�ادي اإلسلام بقاعدة‬
‫«المال مال هللا‪ ،‬ويستخلف هللا اإلنسان فيه»‬

‫فإنـه يعنى أن هللا يسـتخلف يف ملكيـة المال خلقـه جميعا‪ ،‬وهـذا يقابل‬
‫قـول االشتراكية بملكيـة الشـعب العامة‪ .‬ويف احلديـث النبوي‬
‫«الناس شركاء يف ثالثة‪ :‬الماء والكأل والنار»‬

‫فـإن هـذا يقابـل يف عصرنـا القـول باشتراكية مصـادر امليـاه واألرض‬


‫والطاقـة‪ .‬ويجـدر االنتبـ�اه هنـا إىل أن اإلسلام يف العـراق‪ ،‬يف مذهبيـ�ه الشـيعي‬
‫االثني عشـري واحلنفـي‪ ،‬كان دائمـا أكثر تسـامحا وأكثر تقبلا يف تفاعـل‬
‫األفـكار مـن اإلسلام يف أي بلـد أخـر عـريب أو إسلايم‪ .‬وبفعـل عوامـل مختلفة‪،‬‬
‫ليسـت موضـوع حبـث هنـا‪ ،‬كانت البيئـ�ة االجتماعيـة العراقية مصـدر حركات‬
‫اجتماعيـة تنحـو للبحـث عـن مسـاواة بلـون أو بآخـر‪ .‬فعلـى حـدوده الشـرقية‬
‫الشـمالية نشـأت حركـة بابـك اخلـريم‪ ،‬ويف بطاحئـه يف اجلنـوب اندلعـت ثـورة‬
‫الـزجن‪ ،‬وامتـدت احلركـة القرمطيـة لتشـمل جنوبه كله ومـا وراءه‪ ،‬وفيه نشـأت‬
‫دعـوة املعزتلـة ومناداتها حبرية الفكـر‪ ،‬ومنه انطلقت أفكار إخـوان الصفا‪ ،‬ومن‬
‫شـماله شـاعت أسـطورة كاوه احلـداد‪ ..‬ويعطينـ�ا تاريخـه احلديـث نموذجـا‬
‫للدعـوات العفويـة للمسـاواة يف صـورة فرقـة (أهـل احلـق) أو كمـا يدعوهـا‬
‫األكـراد بـــ «حقـه»‪ .‬وحتى العقـود األخيرة مـن القـرن التاسـع عشـر وبدايـة‬
‫العشـرين كانـت األعـراف القبليـة تأخـذ بمبـدأ التصـرف املشترك يف «ديـرة»‬
‫العشرية‪ .‬وكانت تت�ألف من أراض مخصصة للرعي املشرتك وأخرى ختصص‬
‫للزراعـة قـرب مصـادر امليـاه‪ .‬وكانـت األخيرة ال تسـتقر يف أماكـن بعينهـا‪ ،‬وإنما‬

‫‪ .1‬لالســزادة يف هــذا الشــأن‪ ،‬ننصــح بقــراءة فردريــك أجنلــز‪ ،‬حــول تاريــخ املســيحية املبكــر‬
‫الــي نشــرت ألول مــرة عــام ‪ 1894‬يف مجلــة ‪Die Neue Zeit‬‬
‫‪111‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫تسـتب�دل تبعـا لوضـع امليـاه التي ترويهـا وخلصوبتهـا وامتـداد األهـوار إليهـا أو‬
‫احنسـارها عنهـا‪ .‬وكان االنتقـال عـن األرايض التي لـم تعـد تـزرع ال يسـقط حق‬
‫القبيلـة فيها‪ .‬وكانت هناك أعراف خاصة بشـأن تقسـيم هـذه الديرة ألغراض‬
‫الزراعـة‪ .‬ورغـم أن شـيخ العشيرة كان حيصـل علـى حصـة إضافيـة فيهـا بغيـة‬
‫تغطيـة مصروفـات رياسـته التي تفرتضهـا األعـراف املتبعـة‪ ،‬وقـد تنشـأ فيهـا‬
‫كذلـك حقـوق مكتسـبة لبعـض أفـراد القبيلـة‪ ،‬إال أن هـذه الديـرة تظـل علـى‬
‫‪22‬‬
‫العمـوم أرضـا مشتركة لعمـوم القبيلـة‪.‬‬
‫وىف املدينـ�ة العراقيـة كان يمكـن تلمـس عديـد مـن التقاليـد التي حتـض‬
‫علـى التعـاون والتكاتـف والتعامـل املتسـاوي بين سـكان «الطـرف» الواحـد‪.‬‬
‫كان يلمـس املـرء تقاليـد مشتركة ملواجهـة النوازل التي تلحق بسـكان املحلة أو‬
‫الطـرف الواحـد أو بعـض أبن�ائـه علـى أسـاس التعـاون والعمـل املشترك‪.‬‬
‫لنعد إىل احلديث عن دور األممية الشـيوعية يف غرس الفكر االشتراكي‬
‫يف العـراق‪ .‬ال ريـب أن ثـورة أكتوبـر االشتراكية قـد نبهـت شـعوب الشـرق إىل‬
‫مـا كان خيطـط لهـا االسـتعمار الغـريب‪ ،‬ودعتهـا إىل النهـوض للتخلـص مـن كل‬
‫ألـوان االضطهـاد القـويم واالسـتغالل الطبقـي ودلتهـا على سـبي�ل اخلالص‪،‬‬
‫ووجهـت لهـا باالسـم نـداءات تدعوهـا إىل السير يف هـذا السـبي�ل الـذي سـلكه‬
‫قبلهـا الشـعب الـرويس وظفـر حبريتـ�ه وخالصه مـن عبودية حكـم رأس المال‬
‫وكل ألـوان املسـتعبدين‪ ،‬وخصـت الشـعوب العربيـ�ة واألتـراك واإليرانيين‬
‫بت�أكيـد خـاص ألنهـا تقطـن بلدانـا مجـاورة للبالد السـوفيتي�ة‪ ،‬وكشـفت لها ما‬
‫كان يبيتـ�ه املسـتعمرون اإلجنليز والفرنسـيون بالتعـاون مـع القياصـرة الـروس‬
‫مـن خطـط لتمزيـق بلدانهـا واالسـتحواذ عليهـا وفقـا التفاقيـة سـايكس بيكو‪.‬‬
‫لنسـتمع إىل مـا يقولـه أحـد الشـيوعيني العـرب القـداىم يف هـذا الشـأن‪ .‬يقول‬
‫محمـود األطـرش‪ ،‬أبـوداود‪ ،‬أو محمـود املغـريب‪ ،‬الشـيوعي الفلسـطيين ‪-‬‬
‫اجلزائـري‪ ،‬يف مذكراتـه‪:‬‬
‫«أصبـح مـن املعتاد اليوم سـماع نـداءات لينني واحلكومة السـوفيتي�ة‬
‫لشـعوب الشـرق ودعوتهـا إياهـم لتحريـر أنفسـهم مـن سـيطرة قطـاع‬
‫الطـرق االسـتعماريني‪ ،‬أمـا قرائتهـا أو سـماعها يف حينهـا‪ ،‬أي يف أوائـل‬
‫عهـد االحتلال‪ ،‬وألول مـرة‪ ،‬كان يترك أعظـم األثـر يف نفـوس القـراء أو‬
‫املسـتمعني الثوريين‪ ،‬الذيـن لـم يتعـودوا سـماع مثـل هـذه اللهجة من‬
‫املسـتعمرين الغربيين ولـم نـر منهم سـوى العجرفـة والقسـوة والقتل‬
‫والتشـريد‪ .‬أذكـر أنني شـعرت بوقـوف شـعر رأيس عنـد سـماعي ألول‬
‫‪ .2‬لالســزادة بشــأن (الديــرة) يف حيــاة العشــرة العراقيــة واألحــكام املتعلقــة بهــا راجــع‬
‫كتابن ـ�ا‪:‬مواقــفمــناملســألةالزراعيــةيفالعــراقعــندار الــرواداملزدهــرةاصــدار عــام‪.2010‬‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪112‬‬

‫مـرة هـذا النـداء الـذي جـاء فيه‪:‬‬

‫أيهـا املسـلمون يف الشـرق‪ ،‬أيها الفرس واألتـراك والعـرب والهنود‪ ،‬أنتم‬


‫الذيـن كانـت حياتكـم وأموالكـم وحرياتكـم وأوطانكـم طـوال قـرون‬
‫عديـدة سـلعة يف يـد طغـاة أوربا مصـايص الدمـاء‪ ،‬أنتم الذيـن يهددكم‬
‫القراصنـة االسـتعماريون الذيـن أعلنـوا احلـرب القتسـام أوطانكـم‪،‬‬
‫إليكـم جميعـا نتوجـه قائلني‪:‬‬

‫إننـ�ا نعلـن أن املعاهـدات السـرية املتعلقـة بضـم القسـطنطيني�ة‪ ،‬اليت‬


‫عقدهـا القيصـر املخلـوع وصادقـت عليهـا حكومـة كرينسـكي البائـدة‬
‫قـد مزقتهـا اليـوم وألغتهـا حكومـة اجلمهوريـة الروسـية االشتراكية‪..‬‬
‫إن مجلـس مفـويض الشـعب يعلـن أنـه يرفـض ضـم أرايض الغير وان‬
‫القسـطنطيني�ة جيـب أن تبقـى يف أيـدي املسـلمني‪.‬‬

‫ختلصـوا مـن نير املسـتعبدين الذيـن اغتصبـوا أراضيكـم خلال مئـات‬


‫السـنني‪ ،‬ال تدعوهـم بعـد اآلن ينهبـون دياركـم‪ ،‬جيـب أن تكونـوا أنتـم‬
‫أنفسـكم أسـياد بالدكم‪ ،‬جيب أن تنظموا حياتكم كما تشـاؤون‪ ،‬فذلك‬
‫مـن حقكـم وإن مصريكـم هوبين أيديكـم‪.‬‬

‫أيهـا الرفـاق! أيهـا اإلخـوان‪ :‬إننـ�ا نسير حنـو سلام ديمقراطـي شـريف‪،‬‬
‫نسير حنـوه بعزيمة قوية وقدم ثابتـ�ة‪ ،‬إن راياتن�ا حتمـل يف طياتها التحرر‬
‫جلميـع الشـعوب املقهـورة يف العالم‪.‬‬

‫أيها املسـلون يف روسـيا‪ ،‬أيها املسـلمون يف الشـرق‪ ،‬يف هذا الطريق الذي‬
‫نسير عليه حنـو عالم جديد ننتظـر منكم التأيي�د واملسـاعدة »‬

‫الربافدا‪1917/11/5،‬‬

‫ويقول محمود األطرش أيضا‪:‬‬


‫«اخرتقـت أفـكار ثـورة أكتوبـر االشتراكية ونـداءات لينين واحلكومـة‬
‫السـوفيتي�ة املوجهة لشـعوب الشـرق كل اجلدر والسـدود‪ ،‬اليت أقامها‬
‫املسـتعمرون حـول بالدنـا العربيـ�ة‪ ،‬ووصلت إىل أعمق أعمـاق اجلماهري‬
‫العاملـة والفالحين‪ ،‬وكانـت األحاديـث عـن أعمـال ثـورة أكتوبـر‬
‫والبلشـفيك تدور رغـم املنع على كافة األلسـنة‪ ،‬يف املقاهي واملنت�ديات‬
‫‪113‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪33‬‬
‫والطـرق والديـار‪ ،‬وأحيانـا بصـورة مشـوهة»‪.‬‬

‫إن شـهادة محمـود األطـرش‪ ،‬تظـل ذات قيمة خاصة تتجـاوز معاصرته‬
‫لألحـداث بشـخصه‪ ،‬إىل أنـه كان بالـذات أحـد الذيـن كلفتهـم األمميـة‬
‫الشـيوعية لدعـم األعمـال التي كان يبـ�ادر لهـا الشـيوعيون يف سـوريا ولبنـ�ان‬
‫والعـراق مـن بعـد لتأسـيس أحزابهـم الشـيوعية‪ .‬لـم يكـن غريبـ�ا أن تنشـط‬
‫األمميـة الشـيوعية لدعـم القـوى الثوريـة يف املشـرق العـريب يف كفاحهـا ضـد‬
‫اإلمربياليـة الغربيـ�ة‪ ،‬كمـا لـم يكـن غريبـ�ا أن تبـ�ادر األمميـة الثالثـة (األمميـة‬
‫الشـيوعية) إىل مسـاندة محـاوالت رفاقهـا األوائـل مـن الشـيوعيني يف البلدان‬
‫العربيـ�ة لتنظيـم منظماتهـم اخلاصـة‪ .‬وقـد لعبـت ظـروف تاريخيـة يف تيسير‬
‫تكـون مراكـز شـيوعية يف كل مـن مصـر وفلسـطني أوال‪ .‬يف مصـر مـن خلال‬
‫اجلاليـات اليونانيـ�ة واإليطاليـة وغريها التي كانت تقيم يف اإلسـكندرية ومدن‬
‫مصريـة أخـرى‪ .‬ويف فلسـطني مـن خالل هجـرة عناصر شـيوعية يف إطار هجرة‬
‫اليهـود إىل فلسـطني‪ .‬وإذا كان الشـيوعيون األوائـل يف مصـر قـد واجهـوا قمعـا‬
‫عنيفـا بعـد وصـول سـعد زغلـول إىل احلكـم عـام ‪ ،1924‬فـإن الشـيوعيني‬
‫اليهـود يف فلسـطني قـد قابلـوا هـم كذلـك وضعـا عسيرا مثلـث املصـادر‪ .‬فقـد‬
‫حاربهـم االنتـ�داب الربيطـاين بـكل ضـراوة ألنهـم وقفـوا بصالبـة ضـد خطـط‬
‫بريطانيـ�ا لدعـم الصهيونيـ�ة وضـد االسـتعمار الربيطـاين ذاتـه؛ كمـا قابلتهـم‬
‫القـوى القوميـة العربي�ة الفلسطينيــة‪ ،‬السيمــا جناحها املتمثــل بالنشاشـييب‬
‫والفـارويق‪ ،‬بالصـدود والسـعي الدائـب لعـزل اجلماهيــر العربيـ�ة الكادحـة‬
‫عنهـم و ترويـج الشائعــات عنهـم بأنهـم أرسـلوا إلقامــة سـلطة سوفيتيــة يف‬
‫البـلاد ‪ ،4 4‬وألن هـذه القـوى القوميـة كانت ترفض التخلي عـن املوقف املهادن‬
‫مـن االنتـ�داب الربيطـاين‪ ،‬وترفـض تبني أيـة سياسـة حازمـة يف النضـال ضـد‬
‫االسـتعمار والصهيونيـ�ة وتظـل تمني النفـس بإقنـاع بريطانيـ�ا بالوقـوف ضـد‬

‫‪ .3‬محمــود األطــرش‪ ،‬مذكــرات بعنــوان‪ :‬طريــق الكفــاح‪ ،‬مــن فصــل منشــور يف جريــدة‬
‫النــداء البريوتيــ�ة بعنــوان‪« :‬بدايــات احلركــة الشــيوعية يف فلســطني»‪.‬‬
‫‪ .4‬بت�اريــخ ‪ 8‬آذار ‪ 1921‬بعــث رئيــس املؤتمــر العــريب الفلســطيين مذكــرة إىل وزيــر اخلارجية‬
‫الربيطانيـ�ة حــول الهجــرة جــاء فيهــا‪« :‬طالمــا نبهنــا حكومــات احللفــاء أن مهاجــري اليهــود‬
‫الذيــن يؤمنــون فلســطني ينشــرون مبــادئ البلشــفية يف البــاد ويســببون وقــوع الفــن‬
‫فيهــا‪ ،‬ولكنــا قبــل لــم نلــق أذنــا صاغيــة‪ .‬أمــا اليــوم فقــد اعرتفــت احلكومــة بــأن فتنـ�ة يافــا قــد‬
‫تســببت وبــدأت مــن قبــل اليهــود‪ ،‬وإن مهاجريهــم ينشــرون روح البلشــفية يف فلســطني‪،‬‬
‫لهــذا نطلــب مكرريــن إيقــاف الهجــرة اليهوديــة إىل هــذه البــاد حقنــا للدمــاء ومنعــا لســر‬
‫نــار البلشــفية يف الشــرق» (د‪ .‬ماهــر الشــريف‪ ،‬األمميــة الشــيوعية وفلســطني‪-1919 ،‬‬
‫‪ ،1928‬دار ابــن خلــدون‪ ،‬الطبعــة األوىل‪ ،1980 ،‬بــروت‪ ،‬ص ‪.)221‬‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪114‬‬

‫الصهيونيـ�ة وإيقـاف الهجـرة اليهوديـة إىل فلسـطني‪ .‬وىف اجلبهـة الثالثـة كان‬
‫على الشـيوعيني اليهـود أن يواجهوا احلصار الصهيـوين واملطاردة من العناصر‬
‫الصهيونيـ�ة املكشـوفة أومن تلك اليت تدعي االشتراكية وتتبنى الصهيوني�ة يف‬
‫الوقـت ذاتـه‪ .‬وقـد خـاض الشـيوعيون املبدئيـون حتى داخـل صفوفهـم نضاال‬
‫عنيـ�دا ضـد العناصـر املتذبذبة واملترددة‪ .‬ولم جير االعرتاف باحلزب الشـيوعي‬
‫الفلسـطيين مـن جانـب األمميـة الشـيوعية إال بعـد أن التزم بشـرط تعريـب‬
‫احلـزب قيـادة وقاعـدة ومحاربـة امليـول الصهيونيـ�ة دون هـوادة‪ ،‬وقـد عرضـه‬
‫هـذا الشـرط إىل جملـة مـن الهـزات واالنشـقاقات داخلـه وإىل حملـة مطـاردة‬
‫واسـعة مـن قبـل قـوات االنتـ�داب والزمـر الصهيوني�ة املسـلحة‪ ،‬وطـرد العمال‬
‫‪55‬‬
‫مـن الهسـتدروت وغلـق نواديـه‪.‬‬
‫أمـا بالنسـبة إىل العـراق‪ ،‬فـإن األمميـة الشـيوعية‪ ،‬كما سنرى الحقا‪ ،‬قد‬
‫أبـدت اهتمامـا ملحوظـا بمـا كان جيـري فيـه العتبـ�ارات خاصـة تتعلق بسلامة‬
‫الدولـة السـوفيتي�ة‪ ،‬إذ كان الربيطانيـون قـد اختـذوا مـن العـراق إحـدى نقـاط‬
‫االرتـكاز للتدخـل العسـكري ضدهـا‪ ،‬والعتب�ارات عامـة تتعلق باالهتمـام الذي‬
‫حظـي بـه نضال الشـعب العـرايق العني�د ضد االحتلال الربيطاين‪ .‬وقد سـعت‬
‫األمميـة الثالثـة إىل أن تقيـم الصلات مع قـادة احلركة الوطنيـ�ة‪ .‬وقد انعكس‬
‫هـذا االهتمـام بما نشـر يف صحافة األممية الشـيوعية عن شـؤون العـراق‪ .‬لكن‬
‫محـاوالت الكومنترن واألمميـة الشـيوعية لم تذهـب‪ ،‬كما نعتقـد إىل أبعد من‬
‫هـذا يف تلـك الفترة‪ .‬واألحاديـث التي تسـاق بشـأن نشـاط هـذا أو ذاك تسـتن�د‬
‫يف األسـاس إىل تقاريـر البوليـس الربيطـاين والعـرايق يف غالبهـا‪ ،‬وكثير منها يبىن‬
‫علـى الظنـون والوشـايات وعلـى شـهادات ينقلهـا وكالء حتركهم أهـواء خاصة‪،‬‬
‫لذلـك يصعـب أخذها علـى عالتها‪.‬‬
‫قبـل أن نشـرع يف احلديـث عن السـبل اليت سـلكها بعض أبن�اء الشـعب‬
‫العـرايق للتعـرف علـى الفكـر االشتراكي والماركسـية حتديـدا‪ ،‬نـود أن نبـ�دي‬
‫مالحظـة هنـا‪ ،‬يعمـد بعـض النـاس إىل احلديـث عـن دخـول الماركسـية إىل‬
‫العـراق وكأنـه أمـر اسـتثن�ايئ مـا كان ليحصـل لـوال أن مسـاعي هادفـة قـد دبرت‬
‫‪ .5‬لالســزادة بشــأن تطــور احلركــة الشــيوعية يف فلســطني وتعريــب احلــزب الشــيوعي‬
‫الفلســطيين وعالقــة األمميــة الشــيوعية باملســألة‪ ،‬راجــع‪ ،‬باإلضافــة إىل مؤلــف الدكتــور‬
‫ماهــر الشــريف الــذي أشــرنا إليــه يف الهامــش الســابق‪ ،‬كال مــن كتــاب الدكتــور ســليمان‬
‫بشــر‪ ،‬املشــرق العــريب يف النظريــة واملمارســة الشــيوعية‪ ،1928-1918،‬مطبعــة الشــرق‬
‫التعاونيـ�ة‪ ،‬منشــورات القرامطــة‪ ،‬بــا تاريــخ وال مــكان الطبــع لكــن مقدمــة املؤلــف موقعــة‬
‫بـــ القــدس‪ ،‬تشــرين األول ‪ .1977‬وكذلــك كتــاب‪ :‬ســميح ســمارة‪ ،‬العمــل الشــيوعي يف‬
‫فلســطني‪ ،‬الطبقــة والشــعب يف مواجهــة الكولوني�اليــة‪ ،‬تقديــم أميــل حبيــي‪ ،‬دار الفــارايب‪،‬‬
‫بــروت‪.1979 ،‬‬
‫‪115‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫لتسـريبها إىل العـراق‪ ،‬واحلـال أن الذيـن يتحدثون على هذا النحو يتن�اسـون أن‬
‫هـم ذاتهـم قـد أخـذوا صنوفـا مختلفـة مـن أفـكار البورجوازيـة الغربيـ�ة قوميـة‬
‫أو لرباليـة أو فاشـية أو غريهـا مـن مـدارس الفكـر البورجـوازي بـذات السـبل‬
‫وأصبحـت مـن مكوناتهـم الفكريـة‪ ،‬جـزء مـن اإليديولوجيـات التي ينظـرون‬
‫مـن خاللهـا إىل املجتمـع وقضايـاه‪ ،‬بما فيهـا القضية اليت ندرسـها‪ .‬ثـم إن هؤالء‬
‫يتجاهلـون أن األفـكار كانـت والتـزال‪ ،‬منـذ أقـدم األزمنـة حيـث كانـت فـرص‬
‫النـاس لاللتقـاء ببعضهـم قليلـة جـدا وإىل اليـوم حيـث بـات بوسـع املـرء أن‬
‫خياطـب أي امـرئ يف العالـم بلمحـة بصـر‪ ،‬تلتقـي وتتفاعـل وتغتنى ببعضها وال‬
‫يصدهـا أي سـور‪ ،‬السـيما حين تكون هذه مما يسـتجيب إىل مصالـح اجلمهرة‬
‫الغالبـة مـن النـاس‪ .‬والشـعب العـرايق‪ ،‬بعـد كل هـذا‪ ،‬شـعب كثير القـراءة‬
‫ومحـب للجـدل تسـتهويه معرفـة األفـكار لـدى اآلخريـن‪.‬‬
‫دخلـت أفـكار االشتراكية واملسـاواة إىل العـراق عبر مسـارب مختلفـة‬
‫يمكـن إجمالهـا بمـا يلـى؛ عبر مـا كان يدخـل إليـه مـن كتـب ومجلات وصحف‬
‫عربيـ�ة وأجنبيـ�ة مـن بلـدان مختلفة؛ ومـن خالل الصالت املباشـرة التي أقامها‬
‫بعـض العراقيين مـع عناصـر اشتراكية يف خـارج البلاد وداخلهـا؛ وكذلـك عن‬
‫طريـق االلتقـاء بعناصـر شـيوعية يف جبهـات القتـال التي شـارك فيهـا بعـض‬
‫املجنديـن العراقيين؛ وعبر مـا ينقلـه زوار العتب�ات املقدسـة؛ وأخيرا من خالل‬
‫الصلات املنظمة التي أقامتها العناصر اليت الزتمت بالفكر االشتراكي العليم‬
‫باألمميـة الشـيوعية‪ .‬ويالحـظ هنـا أن هـذا التفاعـل الفكـري امتـد لعقديـن‬
‫مـن السـنني قبـل وبعـد االحتلال الربيطـاين‪ .‬ربمـا يكـون العراقيـون قـد عرفـوا‬
‫الدعـوة احلديثـ�ة إىل االشتراكية والسـعي لتحقيقهـا حيـث نشـرت جريـدة‬
‫(الـزوراء) التي كان مدحـت باشـا قـد أصدرها يف بغـداد حني توىل واليـة العراق‬
‫عـام ‪ .1869‬ففـي العـدد ‪ 144‬نشـرت الصحيفـة أنبـ�اء انـدالع كومونـة باريس‬
‫واسـتيلاء العمـال علـى احلكـم هنـاك‪ .‬ورغـم أن الصحيفـة وقفـت موقفـا‬
‫معاديـا مـن الكومونـة‪ ،‬ووصفـت ثوارهـا بالعصـاة‪ ،‬إال أنها بنشـرها أنبـ�اء الثورة‬
‫وتأكيدهـا علـى أنهـا أقامـت حكومـة للفقـراء‪ ،‬وأنها حـددت الضرائـب وأعلنت‬
‫مجانيـ�ة التعليـم ومجاني�ة املرافعات أمام القضاء وأنها نشـرت التعاون وألغت‬
‫التجنيـ�د الدائـم وصـادرت أملاك الكنيسـة الشـائعة‪ ،‬وأنهـا نشـرت برنامجـا‬
‫يسـتجيب إىل مطامـح الفقـراء‪ ...‬بنشـرها هـذا كلـه البـد أن تكـون قـد أثـارت‬
‫اهتمـام قرائهـا بهـذا احلـدث الكبير ودفعتهـم إىل احلديـث عـن االشتراكية‬
‫ومفاهيمهـا‪ ،‬وربمـا أوجـدت شـيئ�ا مـن التعاطـف لـدى بعضهـم‪ .‬مـن املؤسـف‬
‫أن تقصيـات جديـة لـم جتـر يف حـدود علمنـا للتعـرف على مـا حيتويـه الكثري من‬
‫املكتبـ�ات اخلاصـة التي كان يمتلكهـا املتعلمـون العراقيين‪ .‬ويف ظـروف العراق‬
‫اخلاصـة التي لـم تشـهد االسـتقرار والديمقراطيـة طـوال القـرن العشـرين‪،‬‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪116‬‬

‫فـإن مـن الصعـب القـول بـأن هـذه املكتبـ�ات اخلاصة لـم تتعـرض إىل املصادرة‬
‫والتلـف واحلـرق والضيـاع‪ ،‬ويمكنني هنـا أن أورد مثـاال بسـيطا‪ ،‬فأنـا نفسي‬
‫كنـت أملـك يف عـام ‪ 1948‬نسـخة مـن كتـاب لينين (الدولـة والثـورة) املرتجم‬
‫واملطبـوع يف مصـر عـام ‪ 1922‬بعنـوان (مذكـرات لينني عـن احلـروب األوربي�ة‬
‫ماضيهـا وحاضرهـا)‪ ،‬إال أن النسـخة هـذه ضاعـت بعـد اعتقـايل وسـجين يف‬
‫ذلـك العـام يف زحمـة املطـاردات التي تعرضـت لهـا عائلتي مـن بعـد‪ .‬ومـع ذلك‬
‫قـد يوصلنـا البحث اجلدي عنـد توفر الظـروف الديمقراطية املناسـبة إىل أدلة‬
‫تعيننـ�ا علـى معرفـة مـا كان يقـرأه العراقيـون عـن االشتراكية يف مطلـع القـرن‬
‫المـايض‪.‬‬
‫إليـك هـذا املثـال‪ :‬من بني الكتـب اليت كان يملكها سـليمان فييض كتاب‬
‫مرتجـم إىل الرتكيـة عـن الفرنسـية بعنـوان (سوسـيالزم)‪ ،‬أي االشتراكية‪ ،‬وقد‬
‫صـدرت الرتجمـة هذه يف عـام ‪ .1908‬ويقول ناشـرها‪:‬‬
‫«إن الـذي يهمنـا أكثر مـن ترجمـة هـذا الكتـاب هـو حاجـة دولتنـ�ا إىل‬
‫انقالب اجتماعي وديمقراطي للشـعب‪ ،‬وذلك لتطوير الزراعة وجتديد‬
‫وتوسـيع الصناعـة والتجـارة‪ ،‬وإن السـلطة التي ال تمثـل الشـعب ال‬
‫حتقـق الديمقراطيـة‪ ..‬وإن االشتراكية تمثل مصالـح الطبقات الفقرية‬
‫وتفضـح مصالـح األرسـتقراطية‪ ..‬والربجوازيـة الكبيرة وسـيطرة‬
‫املالكين»‪.‬‬

‫ويسـتعرض الناشـر بعدهـا أوضـاع تركيـا االجتماعيـة واالقتصاديـة‬


‫مدافعـا عـن الفالحين والعمـال ومهاجمـا الرجعيـة مـن املالكين واألغنيـ�اء‬
‫املسـتغلني للفالحين والعمـال ويف ختـام كلمتـه يؤكـد الناشـر أن االشتراكية‬
‫لكـي تنتشـر وتتغلغـل فإنهـا حتتـاج إىل الكهربـاء واملؤسسـات الصناعيـة داخـل‬
‫البلـد‪ .‬ويهـدى الكتـاب إىل أصحـاب الفكـرة اإلنسـاني�ة‪ ..‬ويبحـث يف ماهيـة‬
‫‪66‬‬
‫االشتراكية وموقفهـا مـن النقابيـ�ة (السـنديكزيم)‪.‬‬
‫لقـد كانـت أسـماء الكتـاب العـرب التقدميين الداعين إىل املسـاواة‬
‫واالشتراكية كعبـد الرحمـن الكواكبي والدكتـور شـبلي شـميل ونقـوال حـداد‬
‫وفـرح أنطـون وجـوريج نقـوال بـاز وفيليكـس فـارس وغريهـم تتردد علـى لسـان‬
‫األدبـاء واملنوريـن العراقيين‪7 7 .‬فحتى قبـل احلـرب العامليـة األوىل كان أحمـد‬

‫‪ .6‬عامــر حســن فيــاض‪ ،‬جــذور الفكــر االشــراكي والتقــديم يف العــراق‪ ،‬دار ابــن رشــد‪،‬‬
‫بــروت‪ ،1980 ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ .7‬اعتمدنــا فيمــا أوردنــاه مــن معلومــات تاليــة علــى مــا جــاء بــه عامــر حســن فيــاض يف‬
‫‪117‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫عـزت األعظمي الـذي لعـب دورا مرموقـا يف احلركـة املعاديـة لالحتلال‬


‫واالنتـ�داب صديقـا حميمـا للدكتور شـبلي شـميل‪ ،‬وكتـب عنه الكثير يف مجلة‬
‫(لسـان العـرب) التي كانـت تصـدر يف بغـداد‪ .‬وكان الدكتـور شـميل‪ ،‬داعيـة‬
‫االشتراكية ومذهـب التطـور واالرتقـاء‪ ،‬علـى عالقـة وثيقـة بالشـاعر جميـل‬
‫صـديق الزهـاوي وبهبة الدين الشهرسـتاين‪ ،‬وقد أهدي لألخير كتب�ه‪ ،‬وامتدحها‬
‫هـذا يف مجلـة (العلـم) التي كان يصدرهـا يف النجـف وتلقفها الشـباب باهتمام‬
‫كبير‪ .‬وكان كتـاب شـبلي شـميل (أراء شـبلي شـميل) قـد وصـل إىل العـراق يف‬
‫عـام ‪ ،1913‬ويف املتحـف العـرايق نسـخة منـه‪ .‬وطبقـا لمـا يرويـه كل مـن كمـال‬
‫صالـح ومحمـد فاضـل البيـ�ايت (وكالهمـا أصبحـا مـن جماعة حسين الرحال)‬
‫فـإن كتـب الدكتـور شـميل كانـت مقـروءة يف العـراق‪ .‬وحظيت كتابات سلامة‬
‫مـوىس‪ ،‬وكان مـن دعاة االشتراكية الفابي�ة يف بريطانيـ�ا باالهتمام لدى املثقفني‬
‫العراقيين‪ .‬وقـد تن�اولهـا بعضهـم بالكتابـة علـى النحـو الـذي كتبـ�ه محمـود‬
‫أحمـد السـيد وأصحابـه مـن جماعـة الرحـال‪ .‬ويقتبـس حمـدي الباجـة يج يف‬
‫محاضـرات لـه عـن «القيمـة» حتديد ماركس لهـا ‪ ٠‬وكان حمـدي الباجة يج قد‬
‫تأثـر بالزعيـم الشـيوعي الهنغـاري بالكـون حين كان يف هنغاريـا‪ ،‬قبـل احلـرب‬
‫العامليـة األوىل‪ ،‬وحين عـاد إىل العـراق شـارك يف تأسـيس «النـادي العلمي» يف‬
‫بغـداد يف آذار ‪ ،1913‬وشـارك جعفـر أبـو التمـن يف تأسـيس احلـزب الوطني يف‬
‫عـام ‪ .1922‬ونفهـم ممـا كتب�ه عبد الـرزاق عدوة يف مجلة (اللسـان) عام ‪1920‬‬
‫أنـه كان يطلـع علـى األدب الماركسي وانـه كان يت�ابـع تطـور احلركـة الثورية يف‬
‫ألمانيـ�ا وروسـيا‪ ،‬يقـول‪:‬‬
‫«مـن الرجـال العظـام أهل املبـادئ (كارل ماركس) الرجـل الذي هذب‬
‫مذهـب االشتراكية وبـذل مـا لـم يب�ذلـه سـواه يف سـبي�ل حتقيـق مبدئـه‬
‫حىت أسـس االشتراكية العلمية‪ .‬ثـم انتصر للحـزب الديمقراطي الذي‬
‫أسسـه الفيلسـوف السـال‪ .‬ولـم يـزل ماركـس قائمـا وقاعـدا لتأييـ�ده‬
‫وانتشـاره بين طبقـات الشـعب األلمـاين حتى أفنى حياتـه يف هـذا‬
‫السـبي�ل وبعـد وفاتـه قـام مكانـه الدكتـور (بيبـ�ل) أحسـن قيـام»‪.‬‬

‫وتعطينـ�ا رسـالة محمـود أحمد السـيد إىل نقوال حداد شـهادة ذات قيمة‬
‫خاصـة بشـأن عالقـة املثقفين العراقيين عهـد ذاك حبملـة الفكـر االشتراكي‬

‫كتابــه القيــم الــذي أشــرنا إليــه ســابقا‪ ،‬وعلى رســالة الدكتــوراه لعبــد اللطيف الــراوي (الفكر‬
‫االشــراكي يف النقــد واألدب العــريب املعاصــر) واملقابــات الــي أجراهــا الدكتــور عبــد الرضــا‬
‫الطعــان والدكتــور صفــاء احلافــظ وأرشــد الكاظــي ومصــادر أخــرى تــرد اإلشــارة إليهــا يف‬
‫حينهــا وقــد نشــرت يف أعــداد مختلفــة مــن (الثقافــة اجلديــدة)‪.‬‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪118‬‬

‫وبتسـرب األدب االشتراكي إىل العـراق‪ .‬يكتـب السـيد يف عـام ‪:1923‬‬


‫«الرفيق نقوال حداد‪،‬‬

‫«حنـن أهـل العـراق يف معزل عن العالـم‪ ،‬ال صلة لنا باألقطـار الراقية إال‬
‫مـن جهـة واحدة هـي برقيات ‪ -‬رويترز ‪ -‬واحلمد هلل‪.‬‬
‫أمـا العلـم فليـس لنـا منـه إال الفضلات‪ ،‬نريـد أن نصير اشتراكيني‬
‫متعلمين‪ ،‬فلا نـرى كتابـا جنـد فيـه ضالتنـ�ا املنشـودة‪ ،‬وكتابـك عـن‬
‫االشتراكية ‪ -‬وهـو أنـدر عندنـا مـن الكربيـت األحمـر ‪ -‬قرأتـه وقـرأه‬
‫أصحـايب فاسـتفدنا منـه شـيئ�ا‪ ،‬ثم سـألنا عن اشتراكية سلامة موىس‬
‫فلـم جندهـا كافيـة‪ ،‬ثم سـألنا عن غير ذلك مكتب�اتنـ�ا العامـرة فما ظفرنا‬
‫بيشء‪ .‬اضطررنا إىل مخابرة أصحاب «اللومانيتي�ه» يف فرنسـا فأرسـلوا‬
‫لنـا بعضـا مـن كتبهـم وكتالوجاتهـم ولكـن هـذه املطبوعـات بقيـت‬
‫خاصـة لقـراء اللغـة الفرنسـية‪ ،‬أما بقيـة أصحابن�ا قـراء العربيـ�ة‪ ،‬فبقوا‬
‫فاحتين أفواههـم إىل الهـواء‪ .‬مسـاكني ال الوقت سـاعدنا علـى ترجمتها‬
‫ونشـرها لهـم وال العربي�ة‪ ،‬داعني بها عربي�ة مصـر ‪ -‬مطمح أنظار القدم‬
‫‪ -‬جتـود علينـ�ا بشيء مـن هـذا القبيـ�ل‪ ،‬إذن فمـا العمـل؟»‬
‫«هـل خطـر بب�الـك أن تكتـب أو ترتجـم للعربيـ�ة شـيئ�ا عـن كتـب‬
‫االشتراكية العصريـة ‪ -‬تبين لنـا أنظمتهـا وأسـاليبها باحلكـم واإلدارة‬
‫ونبـ�ذة عـن تاريخهـا قبـل ثورتهـا وبعدهـا؟‬
‫أو هـل يمكنـك أن تعلمنـا عـن أسـماء كل الكتـب التي كتبـت بشـأنها أو‬
‫ترجمـت إىل العربيـ�ة؟‬
‫صحيفة احلزب االشتراكي املصري ‪ -‬املجموعة‪ .‬هل يمكنن�ا احلصول‬
‫على أعدادها كلها؟‬
‫وكم هو ثمنها‪ ...‬وممن تطلب؟»‪.‬‬

‫وقـد ًلعبـت العالقـة بين العراقيين والـروس بصـورة مباشـرة أو غير‬


‫مباشـرة دورا ذا شـأن فيمـا حصـل مـن تطـور فكـري يف العـراق احلديـث‪ .‬مـرت‬
‫العالقـة بين البلديـن بأطـوار مختلفـة‪ .‬لقـد كان النظـام القيصـري يف روسـيا‬
‫يبـ�دي اهتمامـا خاصـا بالعـراق‪ ،‬وكان يطمـح إىل إجيـاد موضـع قـدم فيـه يفتـح‬
‫السـبي�ل أمـام روسـيا للدخـول إىل مـا عـرف بامليـاه الدافئـة‪ .‬وكان مسـلمو‬
‫روسـيا ينظـرون إىل العـراق نظـرة احترام وتبجيـل لوجـود العتبـ�ات املقدسـة‬
‫ومراقـد رجـال الديـن الكبـار واألوليـاء املعروفين‪ ،‬وألن كثيرين منهم درسـوا يف‬
‫مدارسـه الدينيـ�ة والفلسـفية‪ .‬وقـد توالـت البعثـات الروسـية لدراسـة أحوال‬
‫‪119‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫العـراق‪8 8 .‬وكان العراقيـون مـن جانبهـم ينظرون بعني الكـره والريب�ة إىل النظام‬
‫القيصـري الـرويس انطالقـا مـن مشـاعرهم الدينيـ�ة‪ ،‬إذ كانـوا يـرون فيـه خطـرا‬
‫يتهـدد اخلالفـة اإلسلامية يف اسـطنبول‪ .‬لذلـك‪ ،‬فحين اندلعـت ثـورة ‪1905‬‬
‫الروسـية ضـد النظـام القيصري استبشـر النـاس يف إيـران وتركيا والعـراق‪ ،‬ألن‬
‫هـذا النظـام كان قد شـارك يف قمع احلـركات املطالبة بالدسـتور يف كل من إيران‬
‫وتركيا‪ .‬وشـارك فرسـان القوزاق الروس شـاه إيران يف قمع احلركة املشـروطية‬
‫التي تزامـن اندالعهـا مـع انـدالع الثـورة الروسـية‪ .‬كذلـك نظـر أحـرار تركيـا‬
‫بعين االرتيـ�اح إىل هـذه الثـورة‪ ،‬وقـد لعبـت دورا محفـزا يف حتريكهـم للمطالبـة‬
‫بالدسـتور وحتـدي السـلطان عبـد احلميد‪ ،‬وهـذا ما حصل فعال يف عـام ‪،1908‬‬
‫وكان البـد ألنبـ�اء |لثـورة الروسـية واحلـال هـذه أن تصـل إىل العـراق وجتـد‬
‫ترحيبـ�ا لـدى بعـض املتعلمني فيـه‪ .‬فقد سـارعت مجلـة (الرقيـب) البغدادية‬
‫لصاحبهـا عبـد اللطيف ثنيـ�ان إىل الرتحيب بالثورة ووصفت روسـيا القيصرية‬
‫بسـجن األحـرار‪.‬‬
‫وكان للـروس عالقـات مـع بعـض زعمـاء األكـراد‪ .‬فحني ضاقت السـبل‬
‫بالشـيخ عبد السلام البارزاين يف ثورته ضد السـلطنة العثماني�ة يف عايم ‪1911‬‬
‫و‪1912‬عبر إىل منطقـة أورميـا لينضـم إىل الـروس وليقـوم مـن هنـاك بعملياتـه‬
‫العسـكرية‪ 9 9 .‬ونشـأت للـروس عالقـات بزعمـاء األكـراد يف (نهـري) يف جنـوب‬
‫تركيـا‪ ،‬وكذلـك مـع زعماء اجلـاف ومع قساوسـة الطائفـة اآلثورية‪.‬‬
‫وحين نشـبت احلـرب العامليـة األوىل تقـدم اجليـش الـرويس عبر‬
‫إيـران حتى اقترب مـن احلـدود العراقيـة الشـرقية‪ .‬ويذكـر العقيـد الركـن‬
‫شـكري محمـود نديـم يف كتابـه (اجليـش الـرويس يف حـرب العـراق) أن الفيلـق‬
‫القفقـايس األول بقيـادة باولـوف كان يف نيسـان ‪ ،1917‬أي بعيـد ثـورة شـباط‬
‫الروسـية‪ ،‬يرابـط يف كل مـن قصـر شـيرين وخانقين‪ ،‬ووصلـت مفـرزة مـن هذه‬
‫القـوات إىل ناحيـة (السـعدية) يف لـواء ديـاىل‪ ،‬كمـا احتلـت قلعـة (شيروان) يف‬
‫التاسـع مـن أيـار ‪ 10 10 .1917‬وكان اجليـش الـرويس يمـر بعـد ثـورة شـباط بفترة‬
‫مـن االضطـراب وتمـوج يف داخله الصراعات السياسـية‪ ،‬وكان نفوذ البالشـفة‬
‫يتنـ�اىم يف أوسـاطه بعـد أن رفعـوا شـعار السلام والدعوة إىل انسـحاب روسـيا‬
‫مـن حـرب اسـتعمارية خيوضهـا كال الطرفين ألغـراض النهـب وال يتمخـض‬
‫‪ .8‬انظــر يف هــذا الشــأن الدكتــور كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬ثــورة العشــرين يف االستشــراق‬
‫الــرويس‪ ،‬بغــداد‪ ،‬مطبعــة الزمــان‪ ،1977 ،‬املقدمــة‪.‬‬
‫‪ .9‬لونكريــك‪ ،‬العــراق احلديــث مــن ســنة ‪ 1900‬إىل ســنة ‪ ،1950‬ترجمــة ســليم طــه‬
‫التكريــي‪ ،‬دار الفجــر‪ ،1988 ،‬بغــداد‪ ،‬اجلــزء األول‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪ .10‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.150‬‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪120‬‬

‫عنهـا سـوى الدمـار الشـامل‪ .‬وحتى قبيـ�ل انـدالع ثـورة أكتوبـر كانـت التـزال‬
‫هـذه القـوات ترابـط يف اجلانـب الشـريق مـن العـراق وتقترب بعـض فصائلهـا‬
‫حتى كفـري‪ .‬وكان اجلنـود الروس يتصلـون باألكراد وحيرضونهـم على اإلجنلزي‪،‬‬
‫لذلـك يشـكو لونكريـك بـأن هـذه االتصـاالت لـم ينتـج عنهـا سـوى « خسـران‬
‫حسـن النيـ�ة بشـكل مؤلـم»‪ 11 11 .‬ويعترف قائـد اجليـش الربيطـاين يف العـراق‬
‫«يسـتحيل علـى املـرء أن يقـدر مـدى تأثير البالشـفة علـى مبعـويث‬
‫الفـرس الذيـن كانـوا يؤمـون كربلاء والنجـف والكاظميـة ألداء فريضة‬
‫الزيـارة‪ ،‬ولكـن احتلال البالشـفة ملدينـ�ة (أنـزيل) قبيـ�ل االنتفاضـة يف‬
‫‪12 12‬‬
‫العـراق أثـر يف إجنـاح دسائسـهم ضدنـا»‪.‬‬

‫تزامنـت ثـورة أكتوبـر االشتراكية مـع التطـور الكبير يف الوعي السـيايس‬


‫لـدى العراقيين أثن�اء االحتالل الربيطـاين والذي أدى إىل انفجار ثورة العشـرين‬
‫علـى النحـو الـذي تابعنـاه يف الفصل الثـاين‪ .‬وقد لعبت أنبـ�اء ثورة أكتوبـر ذاتها‪،‬‬
‫التي كانـت تصـل إىل العـراق عبر قنوات عديـدة‪ ،‬وفضحهـا اتفاقية سـايكس‪-‬‬
‫بيكـو القتسـام البلـدان العربيـ�ة التي انزتعـت مـن العثمانيين‪ ،‬وإعلان الثـورة‬
‫انسـحاب احلكومـة السـوفيتي�ة مـن أيـة تعاقدات كانـت احلكومـة القيصرية‬
‫قـد دخلتهـا مـع الفرنسـيني واإلجنليز ضـد تركيـا والبلـدان العربيـ�ة‪ ،‬واإلقـدام‬
‫علـى تصفيـة القياصـرة املسـتب�دين السيئ السـمعة لدى أوسـاط واسـعة من‬
‫العراقيين‪ ،‬وصمـود الثـورة يف وجـه التدخـل اإلمربيايل الذي شـاركت فيـه أربع‬
‫عشـرة دولـة‪ ،‬السـيما بريطانيـ�ا اليت اختذت مـن العـراق بالذات قاعـدة لتنطلق‬
‫منهـا لشـن احلـرب ضـد الثـورة البلشـفية‪ ،‬والهزيمـة التي أحلقهـا البالشـفة‬
‫بالقـوات الربيطانيـ�ة وحليفاتهـا‪ ،‬والعطـف الـذي أبـداه الكماليـون يف تركيـا‬
‫حنـو الثـورة‪ ،‬وكذلـك تعاطـف الشـعب اإليـراين مـع الثورة البلشـفية الـذي كان‬
‫يتحسسـه العراقيـون مـن خالل الـزوار اإليرانيني الذين شـرعوا يت�دفقون على‬
‫كربلاء والنجـف بعـد توقـف احلـرب‪ ...‬كل هـذه العوامـل سـاعدت يف تطـور‬
‫الوعـي السـيايس لـدى العراقيين وىف تأكيـد عزمهـم علـى مواجهـة االحتلال‬
‫الربيطـاين‪ ،‬لذلـك قوبلـت النـداءات التي كانـت تطلقهـا الثـورة الروسـية‪،‬‬
‫واألمميـة الشـيوعية‪ ،‬وحتـث العراقيين فيهـا علـى العمـل لطـرد اإلنكليز‬
‫بالتعاطـف احلـار وقـد عكسـت تقاريـر البوليـس الربيطـاين اآلثار التي خلفتها‬
‫الثـورة االشتراكية لـدى العراقيين‪ .‬فقـد ورد يف تقريـر للبوليـس بت�اريـخ كانون‬
‫‪ .11‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.162‬‬
‫‪ .12‬د‪ .‬عبــد هللا الفيــاض‪ ،‬الثــورة العراقيــة الكــرى ســنة ‪ ،1920‬بغــداد‪ ،‬مطبعــة دار‬
‫الســام‪ ،1975 ،‬الطبعــة الثانيــ�ة‪ ،‬ص ‪.282‬‬
‫‪121‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الثـاين ‪« 1920‬إن حديـث البلشـفية يف بغـداد يزتايـد» ويقـول تقريـر أخـر يف‬
‫الفترة نفسـها «إن املوضـوع الرئيـس للحديـث خلال األسـبوع هـو زحـف‬
‫‪13 13‬‬
‫البالشـفة»‪.‬‬
‫ويذكـر تقريـر ثالـث صـادر يف ‪ 27‬آذار ‪ 1920‬أن األدبيـ�ات البلشـفية‬
‫وأنبـ�اء األحـداث اجلاريـة يف روسـيا تن�اقـش يف العتبـ�ات املقدسـة حيـث الكثري‬
‫مـن التعاطـف مـع البالشـفة وذلـك بسـبب موقفهـم مـن الربيطانيين يف‬
‫الشـرق‪ .‬ويذكـر التقريـر كذلـك أن احلجـاج الذيـن عـادوا عـن طريـق حلـب قد‬
‫جلبـوا معهـم كتـاب «مبـادئ البلشـفية» وأن الكتاب هـو يف حـوزة محمد رضا‬
‫الشيرازي ابـن املجتهـد األكبر الشيرازي‪ .‬ويذهـب التقريـر إىل حـد الزعـم بـأن‬
‫املجتهـد األكبر الشيرازي قـد أصـدر فتـوى يقـول فيهـا إن البالشـفة هـم مـن‬
‫‪14 14‬‬
‫أصدقـاء اإلسلام‪.‬‬
‫ويف كردسـتان تولـت جماعـة أغلبهـا من أسـرى اجليـش العثمـاين الذين‬
‫أطلـق البالشـفة سـراحهم نشـر أنب�اء ثـورة أكتوبـر‪ ،‬وكان من بني هـذه اجلماعة‬
‫أحـد األكـراد املتعلمين ويدعـى جمـال عرفـان‪ .‬وقـد اغتيـ�ل بدسيسـة مـن‬
‫املحتلين الربيطانيين والرجعيين األكـراد يف مدينـ�ة السـليماني�ة‪ .‬وظهـرت يف‬
‫كويسـنجق جماعـة أخـرى من األسـرى األكـراد العائدين من روسـيا عرفوا بني‬
‫‪15 15‬‬
‫النـاس بالبولشـفيك ألنهـم كانـوا يروجـون الدعـوة للحكـم السـوفييت‪.‬‬
‫وانعكسـت أنبـ�اء ثـورة أكتوبـر وصمـود البالشـفة يف وجـه التدخـل‬
‫االسـتعماري يف جريـديت (االسـتقالل) و (الفـرات) اللتين صدرتـا يف النجـف‬
‫أيـام ثـورة العشـرين وكانت تنطقان باسـم الثـورة‪ ،‬وكذلك يف جريـدة (العراق)‬
‫التي كانـت تصـدر يف بغـداد بت�أييـ�د مـن االحتلال‪ .‬فتكتـب جريـدة (الفـرات)‬
‫التي كان حيررهـا محمـد باقـر الشـبييب يف عددهـا األول حتـت عنـوان «مفهـوم‬
‫البلشـفية»‪:‬‬
‫«ليسـت البلشـفية روسـية بالضـرورة‪ ..‬فالبـد أن تتكيـف يف البلـدان‬
‫األخـرى مـع أخلاق الشـعوب التي تقطـن فيهـا وأحوالهـم الماديـة‬
‫واألدبيـ�ة»‬

‫‪ .13‬د‪ .‬غسان العطية‪ .‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.402‬‬


‫‪ .14‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.423‬‬
‫‪ .15‬جــال الطالبــاين‪ ،‬كردســتان واحلركــة القوميــة الكرديــة‪ ،‬منشــورات النــور‪ ،‬الطبعــة‬
‫األوىل‪ ،‬بغــداد‪ ،1970 ،‬ص ‪.58‬‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪122‬‬

‫وأكـد املقـال علـى أن اسـتي�اء النـاس مـن أحوالهـم األدبيـ�ة واالقتصادية‬


‫ونزوعهـم إىل حتسـينها يسـاعد يف انتشـار أفكارهـا‪ .‬ويف عددهـا الثالـث تكتـب‬
‫الفرات‪:‬‬
‫«خيتلـف تأثير الثـورة باختلاف مقاصد الثـوار‪ .‬فقد تكـون لقلب نظام‬
‫خـاص وإبدالـه بآخـر كثـورة األمـم علـى حكوماتهـا‪ .‬وقـد تكـون لتغيير‬
‫نظـام العالـم كلـه كالثـورة البلشـفية التي أصبـح تأثريهـا عامـا أهـاج‬
‫الشـعوب لطلـب حريتهـا وتب�ديـل نظـام الكـون»‪.‬‬

‫وتكتـب جريـدة (املوصـل) يف العـام ذاتـه‪ ،‬أن فكـر البالشـفة قـد شـاع‬
‫«بين طبقـات العمـال يف املمالـك»‪ .‬وتذكـر جريـدة (االسـتقالل) التي كان‬
‫يشـرف علـى حتريرهـا محمـد عبـد احلسين‪ ،‬الـذي كان قـد عـاد مـن إيـران قبل‬
‫عامين فقـط وكان يتعاطـف مـع ثـورة أكتوبـر هنـاك‪ ،‬يف عددهـا األول الصـادر‬
‫يف ‪ 1920/11/28‬عـن انطباعاتهـا بشـأن الثـورة االشتراكية وحـرب التدخـل‪:‬‬
‫«جيمـع املفكـرون علـى عـدم وجـود قـوة تقـاوم البلشـفية‪ ،‬ألن جنـود‬
‫الـدول حتـارب حبـا بالمـال أو خوفـا مـن العقاب أمـا جنود البولشـفيك‬
‫فإنهـا حتارب عن مبادئ ومعتقدات راسـخة يف قلوبهـم فال جيرفها يشء‬
‫البتـ�ة وشـتان بين احلربني»‬

‫وتكتب يف عددها الثالث الصادر يف ‪:1920/10/10‬‬


‫«إن األفـكار البلشـفية أخـذت تتوسـع يف سـوريا‪ ،‬وإن الرسـائل التي‬
‫كتبهـا لينني وتروتسـكي اليت تبين اعرتافهما باسـتقالل البالد العربي�ة‬
‫قـد انتشـرت يف جميـع أحنـاء سـوريا»‪.‬‬

‫ورغـم أن جريـدة (العراق) كانت تقف إىل جانب االحتالل الربيطاين‪ ،‬إال‬
‫أنهـا لـم تسـتطع أن تتجاهـل أحاسـيس النـاس جتاه الثـورة االشتراكية فتكتب‬
‫يف افتت�احيـة عددهـا الصـادر يف ‪ 15‬حزيـران ‪ 1920‬حتـت عنـوان «املسـألة‬
‫الروسـية واملبـادالت التجاريـة»‪:‬‬
‫«لقـد علـم القـراء أن البولشـفيك منـذ تقلدهـم السلاحني المـادي‬
‫واألديب ‪ -‬املدفـع واملبـدأ ‪ -‬ثبتـوا يف احلـرب كل اإلثب�ات‪ ،‬فكانت سـجاال‬
‫بينهـم وبين مخاصميهـم» و «إن احللفـاء اضطـروا إىل الصلـح مـع‬
‫البولشـفيك كرهـا ال طوعـا خوفا من سـطوتهم وبسـالتهم اليت دفعت‬
‫‪123‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪16 16‬‬
‫بريطانيـ�ا إىل اسـتئن�اف العالقـات التجاريـة مـع روسـيا البلشـفية»‪.‬‬

‫لعبـت املصادفـات دورهـا لكـي يتلقـى بعـض العراقيين أفـكار املسـاواة‬


‫والعدالة واالشتراكية على اختالف مدارسـها وصوال إىل الماركسـية‪ .‬ويعطي‬
‫هـؤالء روايـات متنوعة وطريفة يف هذا الشـأن‪ .‬وقد احتلت املدارس احلكومية‬
‫موقعـا معينـ�ا يف هـذه الروايـات‪ .‬لقـد كانـت املـدارس احلكوميـة التي افتتحتها‬
‫الدولـة العثمانيـ�ة يف بغداد واملـدن الكبرية األخرى‪ ،‬على قلتهـا‪ ،‬توفر نافذة تطل‬
‫منهـا الشـبيب�ة العراقيـة علـى عوالم أخـرى بعيدة وجديـدة‪ .‬يقول اجلـادريج يف‬
‫أوراقـه إنـه تعـرف يف مدرسـة (اإلعداد امللكـي) ‪ -‬وهي مدرسـة إعدادية ‪ -‬على‬
‫مبـادئ الثـورة الفرنسـية على يد أسـتاذ يدعـى محمد غـزايل وكان يهتم اهتماما‬ ‫ً‬
‫كبيرا «بت�دريسـنا حـوادث الثـورة الفرنسـية بـكل تفاصيلها حىت جعلنا نشـعر‬
‫كأننـ�ا عشـنا زمـن الثورة‪ .‬ومنـذ ذلك الوقت تعشـقت مبـادئ الثورة الفرنسـية‬
‫وترسـخت مبادئهـا يف ذهين رسـوخا تامـا وهي «احلريـة والعدالة واملسـاواة»‪،‬‬
‫وال ينسى ان االنقلاب العثمـاين كان مسـتمدا ملبادئـه مـن تلـك األسـس‪ ،‬فكما‬
‫كان سـلوك املعلـم املذكـور متأتيـ�ا مـن روح الثـورة الرتكيـة كنـا حنـن أيضـا غير‬
‫‪17 17‬‬
‫منفصلين عـن تعقـب حـركات جيـش التحريـر الـذي خلـع عبـد احلميـد»‪.‬‬
‫ويـروي بطاطـو أن حسين الرحـال كان تلميـذا الرسين كيـدور‪ ،‬معلـم‬
‫التاريـخ يف املدرسـة السـلطاني�ة يف بغـداد‪ .‬وكان الرحـال يف احلاديـة عشـرة مـن‬
‫عمـره‪ .‬إال أن املؤلـف ال ينبينـ�ا إن كان كيـدور هـذا قـد حتـدث بشيء للرحـال عن‬
‫الماركسـية‪ ،‬وحنـن نشـك أن حديث�ا كهذا قـد تم بالفعل والرحال يف هذه السـن‬
‫الصغيرة‪ .‬كذلـك ال خيربنـا املؤلف أيضا بشيء عن العالقة ما بني تطور أرسين‬
‫كيـدور الفكـري والسـيايس وتطـور الرحـال يف املقابـل‪ .‬وحتى لـو كانـت الصـورة‬
‫التي يعرضهـا لنـا عـن كيـدور‪ ،‬والتي تسـتن�د إىل تقاريـر البوليـس الربيطـاين‪،‬‬
‫صحيحـة تمامـا فـإن قارئـه ال يعرث على رابطة ما بني مسـاري الرجلني سـوى أن‬
‫الرحـال كان يومـا مـا تلميـذا صغيرا للأول‪ .‬كذلـك ال نعثر يف روايتـ�ه عـن رابطة‬
‫مـا بين تطـور أفـكار الشـيوعية يف العـراق وفقـا لالجتـاه الفعلـي الـذي اختذتـه‬
‫وتطـور النشـاط الشـيوعي بين األرمـن يف العـراق الذي جـاء متأخـرا وال نلمس‬
‫اللقـاء بين املسـارين إال يف أوائل األربعين�ات وكان حصيلة نشـاط الشـيوعيني‬
‫يف احلـزب الشـيوعي بني أوسـاط الشـبيب�ة األرمنيـ�ة‪ ،‬كما سـنالحظ الحقا‪ .‬ثم‬
‫إن اللقـاءات التي عقدهـا أرسين كيـدور مـع بعـض األشـخاص الـروس‪ ،‬كمـا‬
‫‪ .16‬عبــد هللا الفيــاض‪ ،‬الثــورة العراقيــة الكــرى‪ ،‬بغــداد‪ ،285-283 ،1963 ،‬وعامــر‬
‫حســن فيــاض ‪ ،133 - 119‬وعبــد اللطيــف الــراوي‪ ،‬ص ‪.20‬‬
‫‪ .17‬كامل اجلادريج‪ ،‬من أوراق كامل اجلادريج‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ 1971 ،‬ص ‪.43‬‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪124‬‬

‫تقـول تقاريـر البوليـس الربيطـاين‪ ،‬الذيـن أوكلـت لهـم مهمـات خاصـة جلمـع‬
‫املعلومـات‪ ،‬حتى وإن صحـت‪ ،‬ال عالقـة لهـا‪ ،‬مـن قريـب أو بعيـد‪ ،‬بالعراقيين‬
‫الذيـن يـدور احلديـث حولهـم‪ ،‬وال ختـرج عـن النشـاطات االسـتخباراتي�ة‬
‫المألوفـة التي جتريهـا كل دولـة يف الـدول األخـرى ذات األهميـة بالنسـبة لهـا‪،‬‬
‫وال ننسى هنـا أن الربيطانيين كانـوا قـد اختـذوا العـراق يومـذاك نقطـة وثـوب‬
‫‪18 18‬‬
‫لتدخلهـم يف جنـوب روسـيا السـوفيتي�ة وشـن احلـرب عليهـا‪.‬‬
‫وحيدثنـ�ا عبـد القـادر إسـماعيل عـن األثـر الـذي خلفـه لديـه معلمـه‬
‫محمـد عبـد احلسين ‪ 19 19‬وحديثـ�ه عـن الثـورة الفرنسـية يف دروس التاريـخ‪.‬‬
‫وتكـرر األمـر مـع زكي خيري ومعلميه فاضـل الشـبالوي وعبد املجيـد راغب يف‬
‫مدرسـة المأموني�ة‪ .‬وتقدم لنا السـيدة سـعدية الرحال‪ ،‬زوجة حسين الرحال‪،‬‬
‫حالـة خاصـة نتوقـف عندهـا قليلا ‪ -‬فنحـن هنـا أمـام سـيدة تتلقـى تعليمهـا‬
‫يف دار املعلمـات وتلتقـي هنـاك بسـيدة أمريكيـة تعاقـدت احلكومـة معهـا‬
‫للتدريـس يف دار املعلمـات ولكـن هـذه السـيدة لـم تكتـف بت�دريـس البنـ�ات‬
‫املنهـاج املقـرر وإنمـا كانـت تضيـف لـه أحاديثهـا عـن االشتراكية والماركسـية‬
‫حتديـدا‪ .‬ونكتشـف أن هـذه املعلمـة هـي مـن أسـرة أمريكيـة عرفـت بعنايتهـا‬
‫يف نشـر األدب الماركسي وكان اخوهـا هـو الـذي أصـدر الطبعـة األمريكيـة من‬
‫(رأس المـال) لـكارل ماركـس‪ ،‬وتغـادر العـراق بعـد عـام ألن احلكومـة لم جتدد‬
‫تعاقدهـا معهـا‪ ،‬ولكـن بعـد ان ختلـف وراءهـا لـدى طالباتهـا بعضـا مـن أثارهـا‬
‫الفكريـة‪.‬‬
‫ويـروي جميل توما أن عالقته بالفكر االشتراكي بـدأت منذ عام ‪-1919‬‬
‫‪ 1920‬بت�أثري أسـتاذ لبن�اين كان يدرس يف ثانوية الهندسـة يف املوصل يدعى عبد‬
‫هللا احلـاج‪ .‬وكان هـذا حيـدث طالبـه عن االشتراكية وتطور الفكر االشتراكي‪.‬‬
‫وكان يسـتمع كذلك إىل محاضرات املستر رايلي املوظف الربيطاين واألسترايل‬
‫األصـل وقـد أصبـح مـن بعد مديـرا ملعـارف املوصـل وكان اشتراكي امليـول وحر‬
‫التفكير وكلـه حيويـة‪ ،‬وكان متواضعـا وال يؤمـن بالبريوقراطيـة كمـا يصفـه‬
‫سـاطع احلصـري يف مذكراتـه‪ ،‬وقـد اسـتمر يدعـو إىل أفـكاره حتى عـام ‪1926‬‬
‫حين تـرك العـراق وعـاد إىل أستراليا ليخـوض غمـار الصحافـة والسياسـة‬

‫‪ .18‬بطاطو‪ ،‬الرتجمة العربي�ة‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬ص ‪ 40‬و‪.42‬‬


‫‪ .19‬عامــر حســن فيــاض‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪ .62‬ونذكــر هنــا أن محمــد عبــد احلســن‬
‫ظــل حيتفــظ بمواقعــه الوطنيـ�ة رغــم تذبذبــه بعــض الوقــت يف الثالثينـ�ات‪ ،‬ويف األربعينـ�ات‬
‫كان علــى عالقــة طيبــ�ة باحلــزب الشــيوعي‪ ،‬وكانــت (دار احلكمــة)‪ ،‬دار نشــر احلــزب‬
‫الشــيوعي‪ ،‬قــد أعلنــت وربمــا نشــرت بالفعــل كتابــا سياســيا لــه عــن التحــرر واالســتقالل‬
‫علــى مــا أذكــر‪.‬‬
‫‪125‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ويقتـل يف الصين بعـد ذلـك وهـو يـؤدى مهماتـه الصحفية‪.‬‬


‫وأسـهمت دور بيـع الكتـب بنصيبهـا يف نشـر األدب االشتراكي السـيما‬
‫الماركسي يف هـذه الفترة‪ .‬فربغـم أن سـلطات االحتلال واالنتـ�داب فيمـا بعـد‬
‫مارسـت ضغطـا للحيلولـة دون ترويـج الكتـب االشتراكية وعملـت للحيلولـة‬
‫دون تسـرب الكتـب واملجلات والصحـف االشتراكية‪ ،‬والماركسـية علـى‬
‫اخلصـوص‪ ،‬إال أن املكتبـ�ات كانـت تعمـل علـى اسـتريادها وبيعهـا للقـراء‪.‬‬
‫وكان الـرواد االشتراكيني علـى عالقـات طيبـ�ة ببعـض أصحابهـا‪ ،‬ونشير هنـا‬
‫إىل عالقـة الـود التي جمعـت مـا بين حسين الرحـال ومحمـود حلمي صاحـب‬
‫(املكتبـ�ة العصريـة) يف سـوق السـراي يف بغـداد‪ .‬وقـد أقنعـه باسـترياد الكتـب‬
‫واملجلات الماركسـية التي كانـت تصدرهـا دار النشـر اخلاصـة باحلـزب‬
‫الشـيوعي الفرنسي عـن طريـق وكالئـه باخلـارج‪ ،‬وقـد تـم لـه فعلا احلصـول‬
‫علـى مـا كان يبتغيـه مـن هـذا األدب‪ ،‬ويذكـر هـو‪ ،‬انـه حصـل عـن هـذا الطريـق‬
‫علـى كتـايب لينين (االسـتعمار أعلـى مراحـل الرأسـمالية) و(الدولـة والثـورة)‬
‫وكذلـك صحيفـة (اللومانيتيـ�ه)‪ ،‬لسـان احلـزب الشـيوعي الفرنسي‪ .‬وكان‬
‫الرحـال الـذي كان جييد الفرنسـية‪ ،‬يتـوىل ترجمة بعض مقاالتهـا ويوزعها على‬
‫أصحابـه‪ .‬وكان مـن عادته‪ ،‬كما يروي هو‪ ،‬أن يطلب سـت نسـخ من كل مطبوع‬
‫باللغـات األجنبيـ�ة‪ .‬ومن بين املكتب�ات اليت تعاونت مع هـؤالء املثقفني املكتب�ة‬
‫العربيـ�ة لصاحبهـا نعمـان األعظمي‪ -‬واضطلعـت مكتبـ�ة مكزني بـدور مهم يف‬
‫توفير األدب االشتراكي‪ ،‬والماركسي خاصـة‪ ،‬للمثقفين الثوريين‪ .‬كان دونون‬
‫مكنزي بريطـاين اجلنسـية اشتراكي الزنعـة‪ .‬وكان قـد أشـرف أوال مـع ابن عمه‬
‫كنـت مكنزي علـى إدارة مكتبـ�ة أسسـها املستشـارون الربيطانيون عـام ‪1920‬‬
‫ويف عـام ‪ 1925‬اشترى دونـون مكنزي هـذه املكتب�ة مـع ابن عمه وظـل يتعاطى‬
‫ببيـع الكتب يف العراق حتى وفاته عام ‪ .1946‬لقد عرف مكزني بتفكريه املتحرر‬
‫وحبـه للعراقيين السـيما املثقفين منهـم‪ .‬وكان يعمل بـكل طيب�ة خاطـر لتلبي�ة‬
‫مـا يطلبـه هـؤالء مـن دور النشـر يف اخلـارج‪ .‬وكان يسـعى إىل أن يـزود مكتبتـ�ه‬
‫بمـا يصدر عن دور النشـر مـن األدب الماركيس وباملؤلفات الكالسـيكية‪ .‬وكان‬
‫ينبـ�ه قـراءه مـن هـؤالء املثقفني إىل أخـر ما يصل مكتبت�ه ويسـهل لهم شـراءها‪.‬‬
‫ويف الوقـت ذاتـه أسـهمت زوجتـه بإقامـة العالقـات مـع احلركـة النسـوية‬
‫العراقيـة وربمـا تكـون هـي وراء ترشـيح أمينـ�ة الرحـال‪ ،‬أخـت حسين الرحـال‬
‫وزوجـة لطفـي بكـر صديق إىل املؤتمر النسـايئ الشـريق‪ ،‬الذي انعقد يف دمشـق يف‬
‫تمـوز ‪ .1930‬ونذكـر أن أمينـ�ة الرحـال قـد غـدت يف أوائـل األربعينـ�ات من قادة‬
‫احلـزب الشـيوعي العـرايق‪.‬‬
‫لـم تغـط لوحتنـ�ا جميـع املثقفين العراقيين الذيـن تعرفـوا علـى‬
‫رتشالا ركفلا وحن هجوتلا تايادب‬ ‫‪126‬‬

‫االشتراكية يف هـذه الفترة املبكرة وليس بوسـعها أن تغطيهم جميعا‪ .‬وسـيظل‬


‫البحـث الـدؤوب يكشـف عناصـر أكثر وأكثر مـن هـؤالء‪ .‬وكمـا الحـظ القـارئ‪،‬‬
‫لعبـت املصادفـة دورهـا يف أغلـب األحيـان‪ .‬وليـس كل الذيـن تأثـروا بالفكـر‬
‫االشتراكي واصلـوا تأثرهم به مـن بعد‪ .‬ويالحظ أن بعضا من هـؤالء لم حيددوا‬
‫لهـم يف تلـك الفترة املبكـرة أغراضـا سياسـية أو فكريـة يوظفـون قراءاتهـم لهـا‬
‫ويطورونهـا علـى هـذا األسـاس‪ ،‬وحتى دون أن يسـعوا‪ ،‬يف الغالـب‪ ،‬إىل ربطهـا‬
‫بالواقـع العـرايق وتسـتخرجوا منهـا اسـتنت�اجات خاصـة‪ .‬وعلـى أيـة حـال فـإن‬
‫أغلـب مـن تأثـر بالفكـر االشتراكي يف تلـك الفترة كانـوا مـن العناصـر الوطني�ة‬
‫التي وقفـت بوضـوح ضـد الهيمنـة الربيطانيـ�ة واملشـاريع التي كانـت ختطـط‬
‫لهـا وتسـعى لتحقيقهـا يف تقريـر مصير البلاد وتطورهـا‪ ،‬وأغلبهم ظـل حيتفظ‬
‫بموقـف تقـديم يف السياسـة والفكـر ويطـوره مـن بعـد كمـا سنرى‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫محــاوالت أولية في العمل المشــترك‬

‫من بني ما أفرزه تطور الوعي السـيايس واالجتماعي يف البالد يف سـنوات‬


‫االنتـ�داب األوىل‪ ،‬امليـل إىل التكتل والعمل املشترك ألغـراض اجلماعة الواحدة‬
‫مـن السـكان‪ .‬وارتب�اطـا بهذا الوعـي اجلديد بـادرت احلكومة يف عـام ‪ 1922‬إىل‬
‫سـن قانـون لتأليـف اجلمعيـات‪ ،‬وبموجب هـذا القانـون أقدمت بعـض القوى‬
‫السياسـية علـى تشـكيل أحـزاب سياسـية‪ ،‬مـن بينهـا احلـزب الوطني العـرايق‬
‫الـذي تزعمـه جعفـر أبـو التمن‪ .‬كذلـك سـارعت اجلماعـات املهنيـ�ة إىل تكوين‬
‫نقابـات وجمعيـات لهـا كنقابة املحامين وجمعية الصيادلـة واجلمعية الطبي�ة‬
‫وغريها‪.‬‬
‫كذلـك حتركـت القـوى العماليـة واجلماعـات احلرفيـة واملثقفـون‬
‫الثوريـون يف هـذا االجتـاه‪ .‬وقـد تابعنـا يف الفصـل الرابـع السـبل التي سـلكها‬
‫املثقفـون الوطنيـون لالقتراب مـن الفكـر االشتراكي‪ .‬لكـن عديـدا منهـم لـم‬
‫يكتـف بالتعـرف علـى الفكـر االشتراكي وحـده‪ ،‬وإنمـا شـرعوا برتويـج فكرهـم‬
‫هـذا والبحـث فيمـا يطـوره‪ ،‬والعمـل املشترك يف الدفـاع عنـه‪ .‬وسـارت حركـة‬
‫املثقفين هـؤالء بموازاة نشـاط مماثل بني احلرفيني الكادحين والعمال يف هذا‬
‫االجتـاه‪ .‬ويف مناسـبات عديدة‪ ،‬كما سنرى‪ ،‬تماسـت احلركتـان وتب�ادلتا التأثري‪،‬‬
‫واسـتعان نشـاط العمـال واحلرفيني بأفكار املثقفين الثوريين‪ ،‬إال أن التفاعل‬
‫بينهمـا لـم يصـل إىل احلد الضـروري لتوليد طاقـة ثورية نوعية جديـدة والوعاء‬
‫احلامـل لهـا الـذي جينبهـا تأثيرات القـوى األخـرى‪ .‬وقـد تطلـب هذا جهـدا أكرب‬
‫ووعيـا أعلـى ىف مرحلـة تاليـة‪ .‬ويعـود هـذا القصـور ىف األسـاس إىل االفتقـار إىل‬
‫النضـج الـذايت لـدى التي�اريـن وإىل فقـدان العنصـر القـادر علـى املـزج الفعـال‬
‫فيمـا بينهمـا وتوليـد احلركـة التي تدفـع بالعمليـة إىل أمـام للسير وفـق آلياتهـا‬
‫اخلاصـة‪.‬‬
‫‪129‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ىف بدايـة العشـرين�ات تكونـت مجموعـة مـن املثقفين الثوريين لعبـت‬


‫الصـدف وعالقـات القرابـة وتقـارب السـكن يف تعـارف بعضهـم علـى بعـض‪،‬‬
‫وقربتهـم مـن بعـض صفـات مشتركة عديـدة أوجـدت فيمـا بينهـم نوعـا مـن‬
‫االسـتقطاب والتماسـك‪ .‬وشـرعت هـذه املجموعـة يف مـد تأثرياتهـا حنـو دائـرة‬
‫أوسـع مـن الشـباب املحيـط بهـا‪ .‬لـم يعـد هـؤالء مجـرد مثقفين هـواة يلتقـون‬
‫مصادفـة بمـن يعرفهـم علـى الفكـر االشتراكي‪ ،‬وإنمـا باتـوا يؤلفـون حلقـة‬
‫حتـرص علـى أن تميز اشتراكيتها وتبحـث عـن تفسيرات ماركسـية لألوضـاع‬
‫السياسـية واالقتصاديـة واالجتماعيـة التي تواجههـا‪ ،‬وتعمـل علـى نشـر مـا‬
‫تتوصـل إليـه مـن اسـتنت�اجات‪ ،‬وتسـعى إىل توسـيع دائـرة القناعة بهـا‪ ،‬وتنربي‬
‫للدفـاع املشترك عـن أفكارهـا ضـد الهجمـات التي يشـنها الفكـر املحافـظ‪،‬‬
‫وتسـعى إىل إجيـاد املنابـر الضروريـة لنشـر أفكارهـا‪ ،‬وتذهـب إىل إجيـاد نـوع مـن‬
‫‪11‬‬
‫املركـزة الضروريـة حـول الشـخصية األساسـية فيهـا‪ ،‬حسين الرحـال‪.‬‬
‫ولـد الرحـال عـام ‪ 1903‬ألب ضابـط يف اجليـش العثمـاين يف القيـادات‬
‫العليـا‪ .‬وكان أبـوه قـد ذهـب إىل ألمانيـ�ا ىف بعثة عسـكرية‪ ،‬وقد أغراه ما شـاهده‬
‫فيهـا ألن يسـعى إىل إرسـال ابنـ�ه‪ ،‬حسين‪ ،‬يف بعثـة حكوميـة للدراسـة هنـاك‪.‬‬
‫وقـد ضمـن نفـوذه العسـكري هـذا األمـر‪ ،‬وهكـذا ركـب حسين الرحـال أول‬
‫قطـار يذهـب إىل ألمانيـ�ا بعـد أن افتتـح خـط برلني ‪ -‬بغـداد عـام ‪ 1916‬ليدرس‬
‫الهندسـة فيهـا‪ .‬وكان حيمـل معـه رسـالة مـن قريـب لـه يف بغـداد موجهـة إىل‬
‫توفيـق اخلالـدي‪ ،‬الشـخصية العراقيـة التي عرفـت بميولهـا اجلمهوريـة‪،‬‬
‫وكان يقيـم يف برلين آنـذاك‪ .‬وتعـرف الشـاب علـى اخلالـدي وصـار يتردد علـى‬
‫مجلسـه الـذي كان يعقـده أسـبوعيا‪.‬‬
‫ويف مدرسـة الهندسـة يف برلين تعـرف على الشـباب األلمـان وأفكارهم‪،‬‬
‫وكان يت�ابـع الصحـف التقدميـة األلمانيـ�ة‪ ،‬وكانـت ألمانيـ�ا يومهـا تمـر بأزمـة‬
‫ثوريـة وتشـيع فيهـا األفـكار االشتراكية‪ ،‬وتـدور فيهـا صراعـات حـادة بين‬
‫مـدارس الفكـر االشتراكي املختلفـة‪ ...‬وقـد قادتـه متابعاتـه إىل التعـرف علـى‬

‫‪ .1‬املعلومــات الــي تــرد هنــا عــن الرحــال وأصحابــه تعتمــد علــى اللقــاءات الــي أجريــت‬
‫مــع الرحــال وبعــض أصحابــه ونشــرت ىف مجلــة (الثقافــة اجلديــدة) يف األعــداد‪ 72 :‬لســنة‬
‫‪ ،1975‬والعدد ‪ 75‬لســنة ‪ ،1975‬والعدد ‪ 9/8‬آب ‪ ،1975‬والعدد‪ 113/ 111‬لســنة ‪1979‬؛‬
‫وطريــق الشــعب العــدد ‪ 1000‬لســنة ‪1977‬؛ وكذلــك مــا ورد عنــد عامــر حســن الفيــاض‪،‬‬
‫مصــدر ســابق؛ ود‪ .‬عبــد اللطيــف الــراوي‪ ،‬أطروحــة دكتــوراه بعنــوان الفكــر االشــراكي‬
‫يف األدب العــرايق املعاصــر؛ وفائــق بطــي‪ ،‬الصحافــة اليســارية يف العــراق‪ ،‬لنــدن‪1980،‬؛‬
‫وكتــاب بطاطــو املعــروف‪ :‬الطبقــات االجتماعيــة القديمــة واحلــركات الثوريــة يف العــراق‪.‬‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪130‬‬

‫الماركسـية‪ .‬وأثن�اء دراسـته اندلعت ثورة السبارتاكيني ‪2 2‬الشيوعيني‪ .‬وكانت‬


‫معـارك الثـورة يف برلين جتـري قريبـ�ا مـن مسـكنه وقـد تيسـر لـه أن يسـتمع‬
‫إىل خطـب روزا لوكسـمبورغ وكارل ليبنخـت وغريهمـا مـن قـادة الثـورة‪ ،‬وأن‬
‫يقـرأ بي�اناتهـا ومطبوعاتهـا‪ ..‬وكان الثـوار مـن أبـاء زمالئه ىف املدرسـة يشـرحون‬
‫لـه وللطلبـة اآلخريـن أهـداف الثـورة وعوامـل اندالعهـا‪ .‬وبعـد إعلان الهدنـة‬
‫بين ألمانيـ�ا واحللفـاء بعـد احلـرب العامليـة األوىل‪ ،‬لـم يعـد بوسـعه أن يواصـل‬
‫الدراسـة لصعوبـات التحويـل اخلـاريج‪ ،‬واضطـر إىل العـودة للعـراق‪ .‬علـى هذا‬
‫النحـو تلقـى الرحـال معارفـه الماركسـية وليـس عن طريق آرسين كيـدور كما‬
‫أراد أن يـويح بطاطـو بذلـك‪ .‬وىف العـراق واصـل قراءاتـه للأدب الماركسي‪،‬‬
‫وضمـن من خالل محمـود حليم‪ ،‬صاحب املكتب�ة العصريـة‪ ،‬احلصول على ما‬
‫تصـدره دار النشـر اخلاصـة باحلـزب الشـيوعي الفرنسي من كتـب ومجالت‪.‬‬
‫ثـم سـافر إىل الهنـد حبـرا‪ ،‬وأمضى فيهـا عامـا التقـى فيـه بصحفـي هنـدي ثوري‬
‫سـاعده يف تطويـر فكـره الماركسي علـى حنـو مـا تعكس قصـة جالل خالـد اليت‬
‫وضعهـا صديقـه محمود أحمد السـيد‪ .‬ويف الهنـد تعلم اإلجنلزييـة‪ ،‬وقد أعانت�ه‬
‫هـذه يف قـراءة مجلـة (الليبر منثلـي) الربيطانيـ�ة التي كان يصدرهـا الشـيوعي‬
‫الهنـدي األصـل بالـم بـات التي عثر عليهـا يف مكتبـ�ة مكنزي‪ .‬كذلـك كان يت�ابـع‬
‫املجلة الشـيوعية الرتكية (رسـم يب أي)‪ .‬وعكف على دراسـة رأس المال الذي‬
‫حصـل عليـه بمسـاعدة مكتبـ�ة مكنزي‪ ،‬والتحـق بكليـة احلقـوق‪.‬‬
‫كان أول مـن تعـرف عليـه مـن أصحابـه محمـود أحمـد السـيد‪ ،‬ابـن رجل‬
‫الديـن وإمـام جامـع احليدرخانة وكان هـو اآلخر قد درس الهندسـة وخترج أثن�اء‬
‫االحتلال‪ ،‬كذلـك قـد زار الهنـد وأمضى فيها بعض الوقـت‪ .‬وقد أثـر الرحال يف‬
‫محمـود أحمـد السـيد ودفعـه إىل تبني الفكـر االشتراكي‪ ،‬وكان كثير النشـاط‪،‬‬
‫ورغـم أنـه كان ينصـرف إىل األدب‪ ،‬والقصـة حتديـدا‪ ،‬إال أنـه بت�أثير الرحـال‪،‬‬
‫صـارت قصصـه حتمـل مضامين اجتماعية‪.‬‬
‫وتعـرف الرحـال علـى عبـد هللا جـدوع الـذي نشـط لدعـم احلركـة‬
‫النقابيـ�ة مـن بعد‪ ،‬ومحمد سـليم فتـاح ومصطفى علـى وإبراهيم القـزاز وعوين‬
‫بكـر صـديق وكمـال صالـح وعبـد احلميـد رفعـت وغريهـم‪ .‬وقـد تعـرف عليـه‬
‫وتأثـر بـه كل مـن عبـد القـادر إسـماعيل وعبـد الفتـاح إبراهيـم وحسين جميـل‬
‫وزكـي خيري وغريهـم‪ .‬وقـد وظف إتقانـه عددا مـن اللغـات ملسـاعدة أصحابه‬
‫يف االطلاع علـى مـا يسـتجد يف الفكـر االشتراكي‪ ،‬إذ كان يرتجـم املقـاالت ممـا‬
‫ينشـر يف الصحافـة الماركسـية باللغـات املختلفـة ويضعهـا حتـت تصـرف‬

‫‪ .2‬أطلــق الشــيوعيني األلمــان اســم (عصبــة الســبارتاكيني) علــى حزبهــم الشــيوعي عنــد‬
‫تأسيســه وأخــذوا االســم عــن ســبارتاكوس‪ ،‬قائــد ثــورة العبيـ�د يف العهــد الرومــاين‪.‬‬
‫‪131‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أصحابـه‪.‬‬
‫وكانـت املجموعـة قـد اختـذت مـن غرفـة محمـود أحمـد السـيد يف جامع‬
‫احليدرخانـة‪ 3 3‬مـا يشـبه املقر الدائم لها‪ ،‬كما كانـت تلتقي يف مقهى (النقيب)‬
‫يف محلـة قنبر علـي لتن�اقـش األفـكار فيمـا بينهـا‪ .‬وكانـت جتتمـع فيمـا بينهـا‬
‫لتن�اقـش األوضـاع العامـة يف البلاد وما يثـ�ار من قضايـا اجتماعيـة واقتصادية‬
‫وقضايـا عامـة أخـرى بهـدف التوصـل إىل وجهـة نظـر موحـدة‪ .‬ورغـم أنهـم لـم‬
‫يتفقـوا علـى اسـم معين ينعتـون بـه مجموعتهـم إال أنهـم اختـذوا لهـم شـعارا‬
‫خاصـا اسـتعاروه مـن حركـة الثـوار اإليطاليين أتبـ�اع غاريب�الـدي وهـو “الـرب‬
‫والشـعب” وكانـوا يريـدون بـه حتريـر الديـن ممـا حلق بـه مـن اوضار وشـعوذة‪،‬‬
‫واإليمـان بالشـعب‪ .‬ولكـن ألنهـم حصـروا نشـاطهم بالقضايـا الفكريـة‪ ،‬ولـم‬
‫يضعـوا نصـب أعينهـم أهدافـا اجتماعيـة وسياسـية يتوجـب أن يعملـوا بين‬
‫اجلماهير لتوعيتهـم بهـا وتعبئتهـم لتحقيقهـا‪ ،‬فـإن هاجـس البحـث عـن إجياد‬
‫شـكل مـن أشـكال الرابطـة املنظمـة فيمـا بينهـم لـم يسـتحوذ علـى اهتمامهم‪.‬‬
‫يف عـام ‪ 1923‬انصرفـت املجموعة إىل تـدارس األوضاع العامة يف البالد‪،‬‬
‫وتوقفـت بشـكل خـاص عنـد االسـتغالل الرأسـمايل األجنبي الـذي يـأيت علـى‬
‫جـل خريات البلاد‪ ،‬وصاغت حصيلة نقاشـاتها ىف تقرير ترجمته إىل الفرنسـية‬
‫وسـعت إىل إيصالـه إىل السـفارة السـوفيتي�ة ىف طهـران مـن أجـل أن تنقلـه إىل‬
‫لينين‪ .‬وقـد سـافر كمـال‪ ،‬أحـد أفـراد املجموعـة (لعلـه كمـال صالـح؟) إىل‬
‫طهـران حاملا التقرير وأوصله بالفعل إىل السـفارة السـوفيتي�ة هنـاك‪ .‬وطبقا‬
‫لمـا يرويـه حسين الرحـال وعبـد الفتـاح إبراهيـم وفاضـل محمـد البيـ�ايت فـإن‬
‫السـفارة نصحتهـم بالتخلي عن النشـاط املسـتقل والعمل ىف صفـوف احلزب‬
‫الوطني العـرايق الـذي يزتعمـه جعفـر أبـو التمـن ‪ 4 4‬ويبـ�دو أنهـم أخـذوا بهـذه‬
‫النصيحـة‪ ،‬إذ انتمى محمـود أحمـد السـيد للحـزب املذكـور واختير إىل جلنـة‬
‫الدعايـة فيـه علـى حنـو مـا يؤكـد محمـد مهـدي البصير الـذي كان عضـو جلنـة‬
‫الدعايـة للحـزب‪ 5 5 .‬وأقـام حسين الرحـال عالقة باحلزب من خلال جعفر أبو‬
‫التمـن وصـار يمـده حبصيلة مـا جيمعه مـن قراءاته للصحف واملجلات العاملية‬
‫عـن األوضـاع يف العالـم واالحتاد السـوفييت على اخلصوص‪ .‬هـذا األمر يضعنا‬
‫أمـام مسـألة دور األمميـة الشـيوعية يف تأسـيس احلـزب‪ ،‬وهـو مـا سـنتوقف‬
‫‪ .3‬كان محمــود أحمــد الســيد‪ ،‬ابــن إمــام جامــع احليدرخانــة‪ ،‬يســكن يف اجلامــع‪ ،‬يف غرفــة‬
‫يمتلــك فيهــا مكتبــ�ة متواضعــة‪ ،‬ويعلــق علــى جدارهــا صــوريت كارل ماركــس وفالديمــر‬
‫لينــن وبينهمــا عالمــة خطــر املــوت (جمجمــة وعظمتــان متقاطعتــان)‪.‬‬
‫‪ .4‬عامر حسن الفياض‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.152‬‬
‫‪ .5‬املصدر السابق‪.‬‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪132‬‬

‫عنـده بعـد أن نفـرغ مـن عـرض نشـاط املجموعة‪.‬‬


‫لـم يكـن للمجموعـة برنامـج محـدد تسـعى لتحقيقـه‪ .‬ويف احلـاالت‬
‫التي حبثـت فيهـا قضايـا سياسـية محددة تكشـفت عـن سـطحية ىف املعاجلة‪.‬‬
‫فقـد أيـد حسين الرحـال اختيـ�ار عبـد الرحمـن النقيب لرئاسـة احلكومـة رغم‬
‫أن هـذا لـم يكـن يمتلـك املواصفـات إلشـغال هـذا املركـز وكان معروفـا بت�أيي�ده‬
‫لالنتـ�داب‪ ،‬ال لشيء إال العتقـاده بأن هـذا االختي�ار خطوة يف الطريـق إىل النظام‬
‫اجلمهـوري؛ وكانـت العفويـة تغلب على نشـاطهم‪ .‬فقد دخلـوا معركة «حترير‬
‫املـرأة» وكرسـوا لهـا معظـم نشـاطهم الفكـري والصحفـي دون أن يرسـموا لهم‬
‫خطـا واضحـا ملعركتهـم أو غايـة سياسـية ينشـدونها مـن ورائـه‪ .‬كان كل مـا‬
‫يشـغل بالهـم هـو أن ينتصفـوا للمـرأة ويهاجمـوا قيمـا وأعرافـا تهضـم حقوقهـا‬
‫ودون أن يفكـروا بـردة الفعـل وأثارهـا‪ .‬علـى أن املعركـة أعانتهـم يف حتديـد‬
‫وجهـات نظرهـم يف قضايـا فكريـة عديـدة كمفهـوم التطـور والعوامـل التي‬
‫تدفـع إليـه‪ ،‬والفهـم المادي للتاريـخ‪ ،‬واجلرب واالختيـ�ار‪ ،‬واألخلاق وما حيكمها‪،‬‬
‫واملسـاواة‪ ..‬الخ من زاوية ماركسـية‪ .‬نشـروا أوال يف بعض الصحف اليت كانت‬
‫تصـدر آنذاك بأسـمائهم الصرحية أحيانا وبأسـماء مسـتعارة يف أحيـان أخرى‪...‬‬
‫وحيـث اتسـعت معركتهـم حـول املـرأة وضاقت أمامهـم فرص النشـر يف املنابر‬
‫األخـرى‪ ،‬أصـدروا صحيفـة خاصـة بهـم‪ ،‬نصـف شـهرية‪ ،‬أطلقـوا عليهـا اسـم‬
‫(الصحيفـة) يف ‪ 28‬كانـون األول ‪ .1924‬وقـد صدرت منها سـتة أعداد‪ ..‬لكنها‬
‫تعرضـت إىل املضايقـات‪ ،‬فاضطـرت إىل التوقـف‪ .‬وبعـد عامين أعـاد عوين بكر‬
‫صـديق إصدارهـا‪ ،‬وقـد صـدر منها عددان ثـم توقفت نهائيـ�ا يف ‪ 27‬أيـار ‪.1927‬‬
‫ورغـم أن (الصحيفـة) قـد أسـهمت يف توضيـح الكثير مـن القضايـا الفكريـة‬
‫التي حظيـت باهتمـام واسـع لـدى املثقفين إال أنهـا خلـت مـن «معاجلـات‬
‫للقضايـا املركزيـة والهامـة‪ ،‬كقضيـة حتريـر الطبقـة العاملـة وكل الكادحين‪،‬‬
‫وقيـادة الربوليت�اريـا للحركـة الثوريـة واملسـألة القوميـة‪ ..‬الـخ رغـم دخولهـم‬
‫أحيانـا يف سـجال شـفوي حـول العديـد مـن املفاهيم الماركسـية وحـول النظام‬
‫‪66‬‬
‫البولشـفي ىف روسـيا» كمـا يذكـر مصطفـى علـى‪ ،‬أحـد أعضـاء املجموعـة‪.‬‬
‫وقـد حـاول أفـراد املجموعة أن يوجـدوا فيما بينهم شـيئ�ا من التخصص‬
‫يف املعاجلـة‪ ،‬إذ انصـرف حسين الرحـال ومحمـد سـليم فتـاح إىل معاجلـة‬
‫القضايـا الفكريـة العامـة‪ ،‬وعبـد احلميـد رفعـت إىل املعاجلـات االقتصاديـة‬
‫ومحمـود أحمـد السـيد إىل األدب وعبـد هللا جـدوع إىل الشـؤون النقابيـ�ة‪ .‬وقـد‬
‫أسـهم جميعهـم يف املعركة الصحفية اليت دارت حول قضيـة املرأة واحلاجة إىل‬
‫حتريرهـا‪ ،‬واختـذوا مـن املسـألة مدخلا للحديـث عـن حتريـر املجتمع بأسـره من‬

‫‪ .6‬من حديث ملصطفى علي إىل (الثقافة اجلديدة)‪ ،‬العدد ‪ 75‬لسنة ‪.1975‬‬
‫‪133‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫املـوروث املتخلـف مـن النظـم والتقاليد والقيـم اليت قيدتـه‪ .‬لقد لعـب الرحال‬
‫الـدور املركـزي يف املجموعـة إال أنه لم يكن يتحلى بمزايـا القائد املنظم واجلريء‬
‫الـذي يسـتطيع أن يقـود املجموعـة واالرتقـاء بهـا إىل مسـتوى نضـايل أعلى وأن‬
‫جماهرييـة‪ .‬وقد جرفته مـن بعد مشـاغل احلياة‬
‫ً‬ ‫يوسـع دائرتهـا لتغـدو منظمـة‬
‫ولـم يعـد يمـارس نشـاطا سياسـيا وفكريـا ذا أهميـة سـوى نشـاطات صحفيـة‬
‫تعـاون فيهـا مـع لطفي بكر صديق ويوسـف متي يف الثالثينـ�ات‪ .‬وواصل بعض‬
‫أصحابـه نشـاطهم السـيما عـوين بكـر صـديق يف ميـدان العمـل الصحفـي وعبد‬
‫هللا جـدوع لتوجيـه العمـل النقـايب ومحمـود أحمـد السـيد يف ميدانـه األديب‬
‫والصحفـي ويف إطـار النشـاطات التي اندلعـت يف أوائـل الثالثينـ�ات‪ .‬إال أنهـم‬
‫جميعـا‪ ،‬ظلـوا حيتفظـون بمواقفهـم الوطنيـ�ة وبمعاداتهـم لالسـتعمار‪ .‬ولعـل‬
‫أفضـل مـا قدمـوه مـن بعـد هـو مسـاهمتهم يف تأسـيس (نـادي التضامـن)‪ .‬يف‬
‫تلـك الفترة وبتوجيـه مـن دوائـر االنتـ�داب الربيطـاين‪ ،‬شـددت احلكومـة مـن‬
‫مكافحتهـا لالشتراكية‪ ،‬وبـدأت حتاصـر العناصـر الثوريـة التي عرفـت بميلهـا‬
‫للفكـر الماركسي‪ .‬وقـد دخلـت يف الرتتيبـ�ات التي اختـذت يف القاهـرة بين دوائر‬
‫البوليـس يف كل مـن مصـر وفلسـطني وسـوريا ملحاربـة الشـيوعية وأقـرت يف‬
‫‪ 27‬نيسـان ‪ 1926‬االتفاقيـة املعقـودة يف هـذا الشـأن‪ 7 7 .‬لذلك حـرص الرحال‬
‫علـى أن يعمـل يف (نـادي التضامـن) مـن وراء يوسـف زينـ�ل املـدرس يف الثانوية‬
‫املركزيـة يف بغـداد واملعـروف بميولـه القوميـة‪ .‬وقـد أصبـح هـذا النـادي املـكان‬
‫الـذي يت�ابـع فيـه الشـباب مـا تنشـره الصحافـة الوطنيـ�ة ىف البلـدان العربيـ�ة‬
‫ويسـتمعون إىل أخبـار املعارضـة العراقيـة وين�اقشـون فيـه القضايـا الوطنيـ�ة‪.‬‬
‫وقـد شـارك فيـه جمهـرة مـن هـؤالء الشـباب الوطنيين الـذي عرفـوا مـن بعـد‬
‫بميولهـم اليسـارية أمثـال زكـي خيري وعزيـز شـريف وعبـد الفتـاح إبراهيـم‬
‫وجميـل تومـا وعاصـم فليـح وعبـد القـادر إسـماعيل ورشـيد مطلـك وقاسـم‬
‫حسـن وحسين جميـل‪.‬‬
‫لنعـد اآلن إىل املسـألة التي أرجأنـا احلديث عنها‪ ،‬ونعين بهـا دور األممية‬
‫الشـيوعية يف تشـكيل حـزب للشـيوعيني يف العـراق‪ .‬أشـرنا يف الفصـل الرابـع‬
‫إىل املزاعـم التي اسـتن�دت إىل تقاريـر البوليـس الربيطـاين القائلـة بـأن األمميـة‬
‫الشـيوعية تـارة‪ ،‬واحلكومة السـوفيتي�ة تـارة أخرى‪ ،‬بثـوا مندوبيهـم ووكالءهم‬
‫هنـا وهنـاك بهـدف السـعي للتأثير يف بعـض العناصـر العراقيـة ودفعهـا إىل‬
‫اعتنـ�اق الشـيوعية وتأليـف حـزب شـيوعي منهـم‪ .‬هكذا يطـرح األمـر بفجاجة‬
‫ملحوظـة ودس رخيـص كمـا تفعـل كتـب األمـن العامـة وعمالؤهـا‪ ،‬أو تـويح‬
‫بهـا كتابـات أخـرى تأثـرت‪ ،‬برغـم موضوعيتهـا‪ ،‬بهـذه التقاريـر‪ .‬والسـؤال الذي‬

‫‪ .7‬عبد الرزاق احلسين ‪ ,‬تاريخ الوزارات العراقية ‪ ,‬املجلد ‪ , 2‬ص ‪60‬‬


‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪134‬‬

‫يطـرح هنـا‪ :‬إذا كان األمـر هكـذا‪ ،‬فلمـاذا تنصـح السـفارة السـوفيتي�ة ىف طهران‬
‫جماعـة الرحـال بالكـف عـن نشـاطها بـدال مـن أن تسـعى إىل تطويـر نشـاطها‬
‫باالجتـاه الـذي يـؤدي إىل تكويـن احلـزب؟ ثـم‪ ،‬مـا هـي النشـاطات الفعلية اليت‬
‫تمـت ملسـاعدة الشـيوعيني يف تكويـن حزبهـم؟‬
‫مـن املؤسـف أن روايـة الرحـال واآلخريـن حـول رد السـفارة السـوفيتي�ة‬
‫ال تذهـب إىل أبعـد مـن هـذه “النصيحـة “العامـة‪ ،‬وال تعطينـ�ا إيضاحـات عـن‬
‫التبريـرات التي سـيقت للمجموعـة بشـأنها‪ ،‬وال تعطينـ�ا شـيئ�ا عـن تقييمـات‬
‫املجموعـة لألوضـاع العراقيـة آنـذاك ورأي السـوفييت فيمـا توصلـت إليـه‪،‬‬
‫وهـل حتدثـوا بشيء حـول تأليـف منظمـة خاصـة؟‬
‫يف اعتقادنـا أن الـرد السـوفييت علـى تقريـر املجموعـة لـم يـأت انطالقـا‬
‫مـن االلتزام باملبـادئ اللينينيـ�ة إزاء املسـألة القوميـة وحسـب‪ ،‬وإنما جـاء أيضا‬
‫ارتب�اطا بمواقف احلكومة السـوفيتي�ة اليت أملتها مصاحلها اخلاصة‪ .‬لنتمعن‬
‫هـذا األمـر مليـا‪ .‬مـن املعـروف أن لينين يف مؤلفـه (مسـودة أطروحـات أوليـة‬
‫حـول املسـألة القوميـة ومسـألة املسـتعمرات) الـذي وضعه يف مطلـع حزيران‬
‫‪ 1920‬وقبيـ�ل املؤتمـر الثـاين لألمميـة الشـيوعية الـذي كان يـراد لـه أن يبحـث‬
‫القضيـة الوطنيـ�ة يف املسـتعمرات‪ ،‬عالـج موقـف العناصـر الشـيوعية مـن‬
‫احلركـة الديمقراطيـة البورجوازيـة ىف املسـتعمرات وأشـباهها‪ .‬ويف األطروحة‬
‫احلاديـة عشـرة مـن هـذا الكتـاب أكد‬
‫«أن مـن واجـب األحـزاب الشـيوعية دعـم حركـة التحـرر الديمقراطيـة‬
‫البورجوازيـة يف هـذه البلـدان‪ ،‬وأن هـذا واجـب العمـال والشـيوعيني يف بلـد‬
‫املرتوبـول الـذي يسـتعمرها قبـل غريهـم‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فليست كل احلركات يف الشرق تستحق تأيي�دا غري مشروط‪.‬‬
‫فالعناصـر الرجعيـة ينبغـي أن تعـارض‪ ،‬بينمـا جيـب أن تن�ال احلركـة الفالحية‬
‫ضـد املالكين وامللكية اخلاصة الكبرية لألرض وبقايا اإلقطـاع كل التأيي�د‪ ،‬وأن‬
‫تشـرب بالـروح الثوريـة‪ .‬وحـذرت األطروحـة كذلـك مـن اعتبـ�ار حركـة التحرر‬
‫الديمقراطيـة ‪ -‬البورجوازيـة يف البلـدان املتخلفـة كحـركات شـيوعية‪ ،‬وأن‬
‫العناصر الشـيوعية ىف الشـرق ينبغي أن تعبأ وتثقف بشـكل تعي فيه مهماتها‬
‫اخلاصـة جتـاه الديمقراطيين البورجوازيين؛ وعلـى األمميـة الشـيوعية أن‬
‫تقيـم حلفـا مؤقتـا مـع الديمقراطيين البورجوازيين يف املسـتعمرات والبلـدان‬
‫املتخلفـة‪ ،‬ولكـن دون أن تن�دمـج بهـم‪ ،‬وأن حتـرص علـى اسـتقالل احلركـة‬
‫الشـيوعية حتى يف شـكلها البـدايئ جـدا‪ ،‬شـارحة للشـعب هـدف اإلمربياليين‬
‫يف إجيـاد دول تعتمـد عليهـم اعتمـادا كليـا يف املياديـن االقتصاديـة والماليـة‬
‫والعسـكرية وإن تزينـت بـزي االسـتقالل‪ .‬وإن علـى الشـيوعي أن يراعي بوجه‬
‫‪135‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪88‬‬
‫خـاص أثـار املشـاعر والعـادات واملعتقـدات التقليديـة»‪.‬‬
‫لدينـ�ا هنـا حالـة نموذجيـة تمامـا‪ .‬العـراق يعلـن دولـة «مسـتقلة»‬
‫ولكـن العناصـر الوطنيـ�ة التي هـي يف جوهرهـا وطبيعـة ارتب�اطاتهـا الطبقيـة‬
‫ديمقراطيـة ‪ -‬بورجوازيـة تعلـن معارضتهـا لهـذا االسـتقالل املزعـوم‪ ،‬ولكـن‬
‫دون أن تقـف مـن األمـر موقفـا حازمـا وثابتـ�ا‪ .‬والعناصر الماركسـية يف سـبيلها‬
‫ألن تكـون نـواة حركـة شـيوعية ثابتـ�ة‪ ،‬تبـ�دى تأيي�دهـا لهـذه العناصـر الوطني�ة‬
‫وتتعـاون معهـا‪ .‬فلمـاذا يطلـب منهـا أن تكـف عـن ممارسـة نشـاطها وحتـل‬
‫نفسـها وتكتفـى بالعمل داخـل احلزب الوطين العـرايق‪ ،‬هذا إذا صحـت الرواية‬
‫املنقولـة عـن حسين الرحـال وعبـد الفتـاح إبراهيـم؟ هـل كانـت «النصيحـة»‬
‫التي تلقتهـا مـن السـفارة السـوفيتي�ة وراء توقـف املجموعـة عـن النشـاط‬
‫املسـتقل كمجموعـة واالكتفـاء فقـط بالنشـاط الصحفـي؟ ولنت�ذكـر أن لينني‬
‫يف املؤتمـر الثـاين للكومنترن قـد أشـار إىل أن مـن الضـروري إنشـاء “فصائـل‬
‫مسـتقلة مـن املكافحين واملنظمات احلزبيـ�ة “يف البلدان املتخلفـة‪ ،‬مصرا على‬
‫اسـتقالل احلركـة الربوليت�اريـة حتى لـو كانـت ىف حالتهـا اجلنينيـ�ة‪ ،‬ولظـروف‬
‫الشـرق املعقـدة ومـا يرتبـط بتكويـن األحزاب الشـيوعية مـن مهمـات معقدة‪،‬‬
‫لـم يطالـب بـأن تأيت هذه األحزاب وهي مسـتقرة وتأخذ شـكلها وتشـرع بعملها‬
‫بنجـاح يف احلـال‪ .‬فلـكل هـذه الوظائـف مسـتلزمات موضوعيـة ضروريـة‬
‫وأوضـاع ذاتيـ�ة ينبغـي توفرهـا‪ .‬فهـل جـاءت هـذه النصيحـة نتيجـة تقييمـات‬
‫كهـذه‪ ...‬أم أن تقديـرات أخـرى أملتهـا؟‬
‫لقـد حدثـت ىف أوربـا سلسـلة مـن التطـورات املهمـة بالنسـبة إىل الدولة‬
‫السـوفيتي�ة الوليـدة فرضـت عليهـا أن تعيـد النظـر ىف سياسـاتها الداخليـة وىف‬
‫عالقاتهـا الدوليـة‪ .‬وأخطـر هـذه التطـورات فشـل الثـورة يف ألمانيـ�ا وهنغاريـا‪،‬‬
‫وتوقيع االتفاقية التجارية األجنلو‪-‬سـوفيتي�ة يف ‪ 1921/3/16‬وعقد معاهدة‬
‫الصلـح مـع بولونيـ�ا يف ‪ .1921/3/18‬ووفقـت الدبلوماسـية السـوفيتي�ة يف‬
‫عقـد معاهـدات صداقـة يف ذلـك العـام مـع إيـران وأفغانسـتان وتركيـا‪ ٠‬وكان‬
‫السـوفييت عنـد انـدالع ثورتهـم وبعدهـا بقليـل يأملـون بانـدالع الثـورات يف‬
‫أوربـا‪ ،‬وكانـت هنـاك بشـائر تغـري بهـذا‪ .‬أمـا وقـد فشـلت الثـورات وتعرضـت‬
‫البلاد إىل املجاعـة‪ ،‬أصبـح احلديـث جيري حول ضـرورة التعايش السـليم بني‬
‫الدولـة السـوفيتي�ة والـدول الرأسـمالية األوربي�ة‪ ،‬كمـا بات لزامـا أن يعاد النظر‬
‫ىف السياسـة االقتصاديـة‪ ،‬واسـتن�ادا إىل هـذا طرحـت السياسـة االقتصاديـة‬

‫‪ .8‬انظــر يف هــذا الشــأن‪ :‬ريزنيكــوف‪ ،‬الكومنــرن والشــرق‪ ،‬الســراتييج والتاكتيــكات الــذي‬


‫ترجمنــاه باســم نصــر ســعيد الكاظــي ونشــره مركــز األحبــاث والدراســات االشــراكية يف‬
‫العالــم العــريب بالتعــاون مــع دار الفــارايب‪ ،‬بــروت‪ ،1987 ،‬ص ‪.79/78‬‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪136‬‬

‫اجلديـدة (‪ )NEP‬التي تعنى عمليـا تقديـم تنـ�ازالت معينـ�ة إىل رأس المـال‬
‫وإبطـاء عمليـة التحويـل االشتراكي‪.‬‬
‫وبالنسبة إىل العالقات مع الشرق‪ ،‬فبالرغم من أن املضمون االجتماعي‬
‫للحركـة التحرريـة ظـل حيظـى بانتبـ�اه الدولـة السـوفيتي�ة‪ ،‬إال أنـه لم يعـد ين�ال‬
‫الرتكيز السـابق‪ .‬وقـد اسـتغلت بريطانيـ�ا هـذا األمـر لتشـدد علـى املطالبـة‬
‫بوقـف نشـاط الكومنترن املعـادي ملصاحلهـا يف الشـرق كأحـد شـروط تنفيـذ‬
‫االتفاقيـة التجاريـة مع الدولة السـوفيتي�ة‪ .‬لقد أصيبت الدوائر االسـتعمارية‬
‫الربيطانيـ�ة بالذعـر جراء نشـاط الكومنرتن اإلعلايم يف الشـرق وانعقاد مؤتمر‬
‫باكـو لشـعوب الشـرق والدعوة اليت أطلقهـا رئيس مكتب األممية الشـيوعية‪،‬‬
‫زينوفييـف‪ ،‬إىل مسـليم الشـرق للنهـوض بوجـه الغاصبين الربيطانيين‬
‫والفرنسـيني‪ .‬ولعل االنفعال الواضح الذي شـاع يف تقاريـر البوليس الربيطاين‬
‫يف تلـك الفترة هـو حصيلـة التوتـر وحالـة التأهـب التي سـادت هـذه الدوائـر يف‬
‫تلـك الفترة‪ .‬وكان للوضـع يف العـراق نصيـب وافـر مـن هـذا الذعـر‪ .‬فعـدا عـن‬
‫املوقـع الستراتييج اخلـاص الـذي حيتلـه العـراق يف مخططـات اإلمربياليـة‬
‫الربيطانيـ�ة ضـد االحتـاد السـوفييت‪ ،‬وللدفـاع عـن الهنـد‪ ،‬فـإن النشـاط الثوري‬
‫للشـعب العـرايق‪ ،‬كمـا عكسـته ثـورة العشـرين واملعارضـة اليت جوبـه بها عقد‬
‫املعاهـدة األوىل يف عـام ‪ ،1922‬بـات يثري قلـق الدوائر االسـتعمارية الربيطاني�ة‪،‬‬
‫وصـارت حتسـب احلسـاب ألى نشـاط كان‪ .‬ولهـذا السـبب يلحـظ املـرء كثرة‬
‫األسـماء التي توردهـا تقاريـر البوليـس الربيطـاين كعملاء للبالشـفة دسـوا‬
‫مـن جانـب األمميـة الشـيوعية كمـا يزعـم‪ 9 9.‬كمـا تلحـظ وفـرة هـذه التقاريـر‬
‫وتعـدد مصادرهـا‪ .‬وإذا كنـا ال نسـتطيع أن نقطـع بمـدى صحـة هـذه التقاريـر‬
‫فإننـ�ا باملقابـل ال نملـك مـا يقطـع بـأن السـوفييت قـد كفـوا أيديهـم عـن دعـم‬
‫احلركـة الوطنيـ�ة العراقيـة‪ .‬ولكـن مـا نسـتطيع أن نؤكـده بشـأن دعـم األممية‬
‫الشـيوعية للحركـة الثوريـة يف العـراق يف هـذه الفترة أمـران‪ :‬أولهمـا التأييـ�د‬
‫الدبلومـايس والسـيايس واملعنـوي الـذي أبدتـه لقـادة احلركـة الوطنيـ�ة ضـد‬
‫االسـتعمار الربيطـاين وسـعيها إىل تبصريهـم حبقيقـة املؤسسـات الدوليـة‬
‫املواليـة لالسـتعمار كعصبـة األمـم‪ ،‬وتوجيههـم حنـو اتبـ�اع السـبل الثوريـة‬
‫املجديـة يف نضالهـم كمـا انعكـس ذلـك يف رسـالة زينوفييـف‪ ،‬رئيـس األمميـة‬
‫الشـيوعية‪ ،‬إىل (جلنـة الدفـاع الوطني عـن بلاد الرافديـن)‪ ، 10 10‬والبيـ�ان الذي‬

‫‪ .9‬انظــر‪ ،‬د‪ .‬ســليمان بشــر‪ ،‬املشــرق العــريب ىف النظريــة واملمارســة الشــيوعية‪ ،‬مطبعــة‬
‫الشــرق التعاونيــ�ة‪ ،‬القــدس‪ ،1977 ،‬ص ‪.51/50‬‬
‫‪ .10‬الثقافــة اجلديــدة‪ ،‬العــدد ‪ ،1‬كانــون الثــاين ‪ ، 1975‬ص ‪102‬؛ وكذلــك الثقافة اجلديدة‪،‬‬
‫العــدد ‪ ،67‬تشــرين الثاين ‪.1974‬‬
‫‪137‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫نشـره الوفد السـوفييت يف مؤتمر لـوزان يف ‪ 20‬كانـون األول ‪ 1922‬والذي أعرب‬


‫فيـه عن دعمـه املطلق ملطالب املندوبني العرب يف سـوريا وفلسـطني والعراق‪.‬‬
‫وكان املندوبـون العـرب ىف املؤتمـر علـى صلـة دائمـة برئيـس الوفـد السـوفييت‪،‬‬
‫وزيـر اخلارجيـة تشيشـرين‪11 11.‬لقـد وقفـت احلكومـة السـوفيتي�ة ضـد نظـام‬
‫االنتـ�داب الـذي فرضتـه القـوى اإلمربياليـة علـى عـدد مـن دول املشـرق العريب‬
‫مـن خلال عصبـة األمـم‪ ،‬وفضحـت حقيقتـه أمـام العالـم‪ .‬فقـد قـال لينين يف‬
‫التقريـر الـذي قدمـه إىل املؤتمـر الثـاين للمنظمات الشـيوعية لشـعوب الشـرق‬
‫يف روسـيا‪:‬‬
‫«إنـه عندمـا جيـري احلديـث عـن توزيـع االنت�دابـات املفروضـة علـى‬
‫املسـتعمرات بين القـوى اإلمربياليـة‪ ،‬فبإمكاننـ�ا أن جنـزم بـأن املقصـود‬
‫يف احلقيقـة هـو توزيـع حـق اسـتثمار غالبيـ�ة سـكان األرض على حفنة‬
‫صغيرة مـن البلـدان األوربيـ�ة»‪.‬‬

‫وتعطينـ�ا الرسـائل املتب�ادلـة بين قـادة احلركـة الوطنيـ�ة ىف العـراق‬


‫واألمميـة الشـيوعية واحلكومـة السـوفيتي�ة الدليـل علـى األهميـة التي كانـت‬
‫توليهـا احلركـة الوطنيـ�ة ىف العـراق للدعـم السـوفييت‪ -‬ففـي ‪ 30‬تشـرين‬
‫األول ‪ 1922‬بعثـت (جلنـة الدفـاع الوطني) التي ضمـت بعـض زعمـاء‬
‫أحلركـة الوطنيـ�ة العراقيـة الذيـن أبعدتهـم سـلطات االنتـ�داب الربيطـاين إىل‬
‫طهـران ومـن بينهـم اخلالصي والصـدر وأوالدهمـا‪ ،‬برسـالة إىل وزيـر اخلارجية‬
‫السـوفيتي�ة يطلبـون فيهـا أن ترفعهـا احلكومـة السـوفيتي�ة إىل مؤتمـر لـوزان‬
‫قالـوا فيهـا‪:‬‬
‫«حنـن املوقعين أدنـاه كبـار زعمـاء بلاد الرافديـن (ميسـوبوتاميا)‬
‫املمثلين يف جلنـة الدفـاع مقدريـن املوقـف الصـادق لدولتكـم جتـاه‬
‫الشـعوب الصغيرة نرفـع لكـم املذكـرة التاليـة لرتفعوهـا بدوركـم إىل‬
‫املؤتمـر ‪ -‬أي مؤتمـر لـوزان‪.‬‬
‫إن شـعب ميسـوبوتاميا بأسـره قلـق بسـبب خـرق اسـتقالله جـراء‬
‫التدخـل ىف شـؤون بلاد الرافديـن (ميسـوبوتاميا)‪ ،‬وإنـه ال يوافـق أبـدا‬
‫علـى معاهـدة التحالـف املعقودة يف ‪ 10‬تشـرين األول عـام ‪ 1922‬واليت‬
‫تبقـى لذلـك مجـردة مـن املفعـول القانـوين‪».‬‬
‫«إن اللجنـة تبلـغ عـن طريـق حكومتكـم املحرتمـة مؤتمـر لـوزان املوقـر‬
‫أنهـا حتتـج ضـد هـذا التدخـل الالقانـوين مـن قبـل إنكلترا‪ .‬ويف اخلتـام‬
‫تعلـن اللجنـة حبـزم أن شـعب ميسـوبوتاميا ال يبخل ببـ�ذل أية تضحية‬

‫‪ .11‬املصدر السابق‪.‬‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪138‬‬

‫يف سـبي�ل الدفاع عن اسـتقالله ووضع حد لإلرهاب اإلنكلزيي والقضاء‬


‫علـى هـذه املعاهـدة اجلائرة‪.‬‬
‫الصدر‪ ،‬اخلاليص‪ ،‬حليم وآخرون»‪.‬‬

‫طهران ‪ 3‬تشرين األول ‪1922‬‬

‫وقـد سـارع تشيشـرين‪ ،‬وزيـر اخلارجيـة السـوفيتي�ة‪ ،‬فـور اسـتالم‬


‫الرسـالة‪ ،‬إىل إرسـالها إىل رئيـس الوفـد الرتكـي عصمـت اينونـو‪ ،‬يرجـوه فيهـا‬
‫رفعهـا إىل مؤتمـر لـوزان بصفتهـا احتجاجـا علـى عقـد املعاهـدة الربيطانيـ�ة ‪٠‬‬
‫‪12 1 2‬‬
‫ا لعراقيـة‪.‬‬

‫‪ .12‬املصــدر الســابق‪ .‬ونشــر هنــا إىل أن املنــدوب الســايم أبــرق إىل وزارة املســتعمرات يف‬
‫لنــدن يف ‪ 9‬كانــون األول ‪ 1922‬مــا يلــي‪« :‬يســتفاد مــن معلومــات موثوقــة اســتلمت هنــا أن‬
‫برقيــة أرســلت إىل موســكو مــن قبــل إبراهيــم حلــي مــن طهــران إىل تشيشــرين وعصمــت‬
‫باشــا احتجاجــا علــى املعاهــدة الربيطاني ـ�ة‪ .‬العراقيــة‪ ،‬وتطلــب إليهمــا الضغــط مــن أجــل‬
‫إلغائهــا يف املؤتمــر‪ .‬وســيكون أمــرا بالــغ األهميــة لنــا إذا أمكــن اكتشــاف مــا إذا كانــت الربقيــة‬
‫قــد وصلــت إىل تشيشــرين أو عصمــت‪ ،‬وإذا كانــت قــد وصلــت إليهمــا فمــن هــي التواقيــع‬
‫األخــرى إىل جانــب توقيــع حلــي»‪ .‬واســتفهمت وزارة املســتعمرات بدورهــا عــن ذلــك مــن‬
‫وزارة اخلارجيــة الربيطاني ـ�ة‪ ،‬الــي أجابــت يف ‪ 15‬كانــون الثــاين ‪ 1922‬كمــا يلــي‪« :‬لــم يكــن‬
‫مــررا لالعتقــاد بــأن الربقيــة كانــت حتمــل تواقيــع األشــخاص التاليــة أســماؤهم باإلضافة إىل‬
‫توقيــع إبراهيــم حلــي‪ :‬محمــد الصــدر‪ ،‬محمــد اخلالــي‪ ،‬اجلــرال ياســن باشــا الهاشــي‪،‬‬
‫اجلــرال مولــود باشــا‪ .‬إال أنــه غــر معــروف مــا إذا كانــت قــد وصلــت فعــا إىل عصمــت باشــا‬
‫وتشيشــرين‪ .‬إن املعلومــات أعــاه جيــب أن تعامــل بدرجــة بالغــة مــن الســرية»‪.‬‬
‫أما نص رسالة األممية الشيوعية فكان كاآليت‪:‬‬
‫«أصدقايئ األعزاء‪:‬‬
‫قــرأت رســالتكم باهتمــام عميــق‪ .‬إن قصــة اســتعباد بــاد الرافديــن المأســاوية تكشــف‪،‬‬
‫يف غايــة الوضــوح‪ ،‬السياســة املرائي ـ�ة الغــادرة الــي تنتهجهــا احلكومــة اإلنكلزييــة‪ .‬ولكــن‬
‫يف أي مــكان تصرفــت اإلمربياليــة الربيطاني ـ�ة خالفــا لذلــك؟ يف الهنــد أم مصــر‪ ،‬أم جنــوب‬
‫أفريقيــا‪ ،‬إن سياســتها واحــدة يف كل مــكان‪ :‬األكاذيــب والغــدر والوحشــية والقســوة‪ .‬وقــد‬
‫قــرأت يف الصحــف‪ ،‬علــى التــو‪ ،‬نب ـ�أ انــدالع تمــرد واســع يف بــاد الرافديــن بســبب األعمــال‬
‫االنتقاميــة املتواصلــة‪.‬‬
‫إن األمميــة الشــيوعية ســتت�ابع‪ ،‬بالطبــع‪ ،‬مجــرى هــذا النضــال البطــويل بأكــر قــدر مــن‬
‫االهتمــام‪ .‬إن محــاوالت اإلنكلــز لــن تنحصــر‪ ،‬علــى األكــر‪ ،‬بإغــراق هــذا التمــرد بدمــاء‬
‫شــعب الرافديــن‪ ،‬بــل ســيحاولون تقويضــه مــن الداخــل عــن طريــق األحابي ـ�ل واخلديعــة‪.‬‬
‫وهنــاك إشــاعات تفيــد أن الربيطانيــن يعزتمــون إصــدار عفــو عــام عــن قــادة حركــة التحــرر‬
‫املبعديــن واملســجونني‪ ،‬وأنهــم علــى اســتعداد حــى ألن يســمحوا للوطنيــن بالدخــول يف‬
‫وزارة األمــر فيصــل اخلائــن‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وحين تسـلم زينوفييـف‪ ،‬رئيـس األمميـة الشـيوعية‪ ،‬نسـخة مـن هـذه‬


‫الرسـالة‪ ،‬سـارع إىل الـرد عليهـا مؤكـدا لزعمـاء احلركـة الوطنيـ�ة العراقيـة أن‬
‫األمميـة الشـيوعية تت�ابـع النضـال البطـويل العـرايق بأكبر قـدر مـن االهتمـام‪،‬‬
‫وحذرهـم مـن مغبة االخنـداع بالسياسـات الربيطانيـ�ة املرائيـ�ة واالطمئن�ان إىل‬
‫منـاورات عصبـة األمـم‪ ،‬وأكـد أن حتـرر بلاد الرافديـن ال يمكـن بلوغـه بمعونـة‬
‫ودعـم دولـة إمربياليـة عـن شـق عصبـة األمـم‪ ،‬بـل بالنضـال املنظـم للجماهير‬
‫الواسـعة يف العـراق ضـد املحتلين‪ .‬وأنهـى رسـالته بت�أكيـد “تعاطـف األمميـة‬
‫‪13 13‬‬
‫الشـيوعية مـع نضـال الشـعب العـرايق مـن أجـل احلريـة‪.‬‬

‫وإنــي لواثــق مــن أن جتربــة المــايض ســوف تدفعكــم لرفــض هــذه التنـ�ازالت املرائيـ�ة‪ .‬فمــن‬
‫الواضــح أن يف نيـ�ة الســر بــريس كوكــس احلصــول علــى أصوات كافيــة إىل جانــب التصديق‬
‫علــى املعاهــدة بــن بريطانيـ�ا والعــراق ولتأمــن حكمــه الدمــوي علــى بــاد الرافديــن‪.‬‬
‫لقــد أشــرتم‪ ،‬يف رســالتكم‪ ،‬إىل أن النظــام الــذي أسســته اإلمربياليــة يف بالدكــم‪ ،‬ينتهــك‬
‫مبــادئ عصبــة األمــم‪ .‬ومــن الواضــح أن ثمــة ســوء فهــم هنــا‪ .‬فالقــوى اإلمربياليــة املنتصــرة‬
‫– إجنلــرا‪ ،‬فرنســا‪ ،‬الــخ ‪ -‬هــي الــي خلقــت عصبــة األمــم بعــد احلــرب‪ ،‬وذلــك كــي تتمكــن‬
‫مــن ســلب املهزومــن بأيســر الســبل‪ .‬وتقــف إنكلــرا نفســها علــى رأس هــذه املؤسســة‬
‫اللصوصيــة‪ .‬وليــس ثمــة فــرق بــن “مبــادئ عصبــة األمــم” و”املبــادئ الســامية” الــي‬
‫تطبقهــا إنكلــرا يف بــاد الرافديــن بقصــف الســكان العــزل مــن اجلــو‪.‬‬
‫وأود أن ألفــت أنظاركــم إىل ســوء الفهــم هــذا‪ ،‬واســمحوا يل أن أطلــب منكــم شــرح ذلــك‬
‫لرفاقكــم‪ ،‬كــي يتجنبــوا العواقــب الوخيمــة الــي ســتنجم‪ ،‬ال محالــة‪ ،‬مــن أيــة فكــرة خاطئــة‬
‫يكونونهــا عــن الطبيعــة احلقيقيــة لمــا يســى بعصبــة األمــم‪ .‬إن حتريــر بــاد الرافديــن ال‬
‫يمكــن بلوغــه بمعونــة ودعــم دولــة إمربياليــة أوعــن طريــق عصبــة األمــم‪ ،‬بــل بالنضــال‬
‫املنظــم للجماهــر الواســعة يف العــراق ضــد املحتلــن‪.‬‬
‫إن إقنــاع اجلماهــر بــأن وضعهــا المــادي ســيكون أيســر وأفضــل بطــرد اإلنكلــز‪ ،‬وشــجب‬
‫كل اخلونــة يف بــاد الرافديــن باحتقــار‪ ،‬وعلــى رأســهم األمــر فيصــل‪ ،‬هــؤالء اخلونــة الذيــن‬
‫جيمعــون ثــروات مــن اضطهــاد الشــعب‪ ،‬وكســب ثقــة البلــدان املجــاورة‪ .‬إن حتقيــق ذلــك‬
‫ســيضمن النصــر النهــايئ لنضالكــم البطــويل ضــد اإلمربياليــة اإلنكلزييــة‪.‬‬
‫إن األمميــة الشــيوعية الــي توجــه ماليــن العمــال والفالحــن الثوريــن يف إنكلــرا وفرنســا‬
‫وألماني ـ�ا وروســيا‪ ،‬الــخ‪ ،‬تؤكــد لكــم تعاطفهــا ودعمهــا لنضالكــم مــن أجــل احلريــة‪.‬‬
‫أيهــا األصدقــاء الشــرفاء‪ ...‬إن كنتــم تعتقــدن أن مــن املفيــد املــيء إىل موســكو‪ ،‬إين أتطلــع‬
‫إىل لقائكــم‪ .‬وإذا جعلــت األحــداث مجيئكــم مســتحيال‪ ،‬فأرجــو أن جتمعــوا وترســلوا الوثائــق‬
‫واملــواد والصــور الفوتوغرافيــة حــط النظــام اإلنكلــزي يف بــاد الرافديــن‪ .‬وإذا كنتــم‬
‫تعتقــدون أن هنــاك إمكانيــ�ة لتأليــف كــراس حــول املســألة‪ ،‬فســيكون مــن املفيــد نشــره‬
‫باللغــات األوربيــ�ة والشــرقية‪.‬‬
‫تقبلوا فائق حتيايت القلبي�ة‬
‫رئيس األممية الشيوعية»‪.‬‬
‫‪ .13‬املصــدر الســابق‪ .‬وكذلــك د‪ .‬ســليمان بشــر‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص‪ 306/305‬ونذكــر‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪140‬‬

‫ويف ‪ 20‬كانـون األول ‪ 1922‬نشـر الوفـد السـوفييت إىل مؤتمـر لـوزان بي�انا‬
‫أعـرب فيـه عـن دعـم احلكومـة السـوفيتي�ة املطلـق ملطالـب املندوبين العـرب‬
‫مـن سـوريا وفلسـطني والعـراق‪ .‬وكان املندوبـون العـرب علـى صلـة دائمـة‬
‫برئيـس الوفـد السـوفييت‪.‬‬
‫ويف السـنوات التاليـة تابعـت األمميـة الشـيوعية أوضـاع العـراق‪،‬‬
‫وسـعت إىل التعـرف علـى القـوى املحركـة يف املجتمـع‪ .‬وعهـدت بمهمـة دراسـة‬
‫هـذه األوضـاع إىل احلزب الشـيوعي الفرنيس واحلزب الشـيوعي الفلسـطيين‬
‫الـذي كان أكثر القـوى الشـيوعية يف املشـرق العـريب نشـاطا واطالعـا وأغرزهـا‬
‫خبرة ىف النضـال‪ .‬وكان أغلـب قادتـه يومـذاك مـن املناضلين اليهـود‪.‬‬
‫يف ‪ 9‬تشـرين األول ‪ 1924‬نشـرت مجلـة (املراسـلة األمميـة) اليت كانت‬
‫تصدرها (األممية الشـيوعية) مقاال بتوقيع إيراندوست‪ ،‬وهو االسم املستعار‬
‫للمنـدوب السـوفييت يف طهران‪ ،‬روتشـتاين‪ ،‬بعنـوان «الصراع علـى املوصل»‪،‬‬
‫ثـم أتبعـه من بعـد بمقال آخر بعنـوان «اتفاقيـة املوصل بين بريطاني�ا العظىم‬
‫وتركيـا»‪ .‬ويف األول مـن نيسـان ‪ 1926‬نشـر ج‪.‬ب‪( .‬جوزيـف بريجـر‪ ،‬وهومـن‬
‫قـادة احلـزب الشـيوعي الفلسـطيين‪ ،‬وأصبـح مـن بعـد أمينـ�ه العـام) حبثـا يف‬
‫‪14 14‬‬
‫مجلـة (املراسـلة األمميـة) بعنـوان (التمايـز الطبقـي يف العـراق)‪.‬‬
‫وبتوجيـه مـن األمميـة الشـيوعية‪ ،‬تأسسـت يف عـام ‪« 1926‬العصبـة‬
‫املناهضـة لالسـتعمار» وكان احلـزب الشـيوعي األلمـاين وأحـزاب شـيوعية‬
‫أدبيـ�ة أخـرى مـن املبادريـن لتأسيسـها‪ ،‬وقـد شـارك يف تأسيسـها شـخصيات‬
‫سياسـية وعلميـه وأدبيـ�ه عاليـة أمثـال؛ جواهـر الل نهـرو ومـدام صـن يـات‬
‫صـن ومحمـد حىت الزعيـم اإلندونيسي وألربت إنشـتاين وبرتراند رسـل وهرني‬
‫باربـوس الـروايئ الفرنسي الكبري‪ .‬وأهم نشـاط نهضت به هـذه العصبة الدعوة‬
‫إىل عقـد (املؤتمـر الـدويل ملقاومـة االضطهـاد الكولنيـ�ايل) يف شـباط ‪ 1927‬يف‬
‫بروكسـل‪ .‬وقـد اشترك يف هـذا املؤتمـر ‪ 174‬مندوبـا عـن ‪ 37‬دولـة‪ .‬وقد شـارك‬
‫ىف املؤتمـر مندوبـون عـن مصر وفلسـطني وسـوريا ‪ ٠‬إال أن املندوبين العراقيني‬
‫إىل املؤتمـر حرمـوا مـن الوصـول إىل املؤتمـر ألن سـلطات االنتـ�داب الربيطـاين‬
‫رفضـت تزويدهـم بــ «الفيز» املطلوبـة‪ .‬وقـد اختير لعضويـة سـكرتارية‬
‫العصبـة عـن البلاد العربيـ�ة محمـد حافـظ عثمـان عـن مصـر ومظهـر البكـري‬

‫هنــا أن مجلــة املراســلة األمميــة نشــرت الرســالة يف ‪ ٠ 1923/5/3‬ووصفــت املجلــة هــؤالء‬


‫الوطنيــن بقولهــا إنهــم كانــوا قــد «أبعــدوا عــن البــاد يف الســنة الماضيــة مــن قبــل اإلنكلــز‬
‫وهــم اآلن موجــودون يف إيــران»‪.‬‬
‫‪ .14‬د‪ .‬سليمان بشري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.305‬‬
‫‪141‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫عـن سـوريا‪ .‬وقـد عهد للبكـري بتكوين جلان تنظيميـة إقليمية مـن بينها جلان‬
‫ىف العـراق وسـوريا وفلسـطني وشـريق األردن‪ ،‬وتكويـن جلنـة مركزيـة لألقطـار‬
‫العربيـ�ة بعنـوان «عصبـة حتريـر األقطار العربيـ�ة» على أن ترتبط هـذه اللجنة‬
‫باللجـان املماثلـة يف كل مـن مصـر واملغـرب‪ .‬وقـد زار البكـري عـام ‪ 1929‬العراق‬
‫لهـذا الغـرض‪ ،‬إال أنـه راح يتصـل باملالكين يف البصـرة مـن املوالين لربيطانيـ�ا‪،‬‬
‫ويف بغـداد راح يمتـدح األوضـاع السياسـية يف العـراق و «االسـتقالل» الـذي‬
‫يتمتـع بـه مقارنـة بسـوريا ىف ظل الهيمنـة الفرنسـية‪ ،‬إىل احلد الـذي اعترب فيها‬
‫‪15 15‬‬
‫داعيـة لربيطانيـ�ا‪ .‬وهكـذا فشـلت مهمتـه مـن األسـاس‪.‬‬
‫وينقـل بطاطـو‪ ،‬اسـتن�ادا إىل تقاريـر البوليـس الربيطاين‪ ،‬أن السـوفييت‬
‫منحـوا تأيي�دهـم جلمعيـة (بين النهريـن) املؤسسـة بين أوسـاط العراقيين‬
‫املبعديـن إىل إيـران‪ ،‬والتي رفعـت رايـة النضـال لتحريـر العـراق أيـام االنتـ�داب‬
‫الربيطاين‪ ،‬وكان من مؤسسـيها الشـيخ مهدي اخلاليص والسيد حسن الصدر‬
‫والسـادة محمد الصدر ومحمد اخلاليص ومحمد رضا الشيرازي وأبو القاسـم‬
‫الكاشـاين‪ ،‬وأن السـوفييت سـعوا إىل تكويـن ما يعـرف بـ” احتـاد العلماء” ليضم‬
‫بين صفوفـه رجـال الديـن الشـيعة الكبـار ىف كل من العـراق وإيـران املناهضني‬
‫‪16 16‬‬
‫لالسـتعمار الربيطـاين‪.‬‬
‫يتضـح ممـا أوردنـاه أن نشـاط األمميـة الشـيوعية انصب يف هـذه الفرتة‬
‫علـى تأييـ�د احلركـة الوطنيـ�ة الثوريـة بوجـه عام‪ ،‬ولـم تتوجه إىل دعم النشـاط‬
‫الهـادف إىل تكويـن منظمـة شـيوعية أو حـزب شـيوعي يتجه إىل جمـع وتوحيد‬
‫نشـاط العناصـر الشـيوعية أو يدفـع يف هـذا االجتـاه‪ .‬وإن نشـاطها املباشـر لـم‬
‫يذهـب إىل أبعـد مـن تقديـم الدعـم الدبلومـايس والسـيايس والدعـايئ‪ ،‬وإجـراء‬
‫الدراسـات الضروريـة للمشـاكل التي تواجـه البلاد أو الدراسـات اخلاصـة‬
‫بأوضـاع املجتمـع‪ .‬ومثلمـا سنرى مـن بعـد‪ ،‬فـإن نشـاطها لدعـم العناصـر‬
‫الشـيوعية يف سـعيها لتكويـن وتطويـر منظمتهـم اخلاصـة لـم جيـر إال يف فترة‬
‫الحقـة‪ ،‬وحتى هـذا تـم يف حدود ضيقـة تمامـا كما يؤكـد ذلك محمـود األطرش‬
‫ىف مذكراتـه‪.‬‬
‫أشـرنا يف الفصـل الرابـع إىل أن حركـة املثقفين السـريني أيـام االنتـ�داب‬
‫الربيطـاين سـارت بمـوازاة حركـة مقابلة جرت بين صفوف العمـال واحلرفيني‬
‫الكادحين كانـت ترتقـي مـن جانبهـا يف أشـكال تنظيمهـا ومضامين نشـاطها‬
‫وأسـاليب كفاحهـا‪ .‬وكانـت احلركتـان تلتقيـان مـع بعضهمـا يف اإلصـرار علـى‬

‫‪ .15‬بطاطو‪ ،‬النص اإلجنلزيي‪ ،1154-1153 ،‬و د‪ .‬بشري‪ ،‬ص‪.341-340‬‬


‫‪ .16‬بطاطو‪ ،‬النص اإلجنلزيي‪ ،‬مره ‪.1147-11450‬‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪142‬‬

‫معـاداة االسـتعمار والدفـاع عـن حقـوق الكادحين‪ ،‬وتطـورت بينهمـا عالقـات‬


‫تعـاون يف مجـرى نضـاالت العمـال وإضراباتهـم‪ ،‬كمـا كانتـ�ا تلتقيـان يف الـدور‬
‫الـذي لعبتـ�ه الصحافـة التقدميـة‪ .‬لـم يكـن هـذا اللقـاء بين احلركتين محض‬
‫مصادفـة‪ ،‬وإنمـا هـو يعكـس اإلحسـاس باحلاجـة إىل االرتقـاء يف كليهمـا ‪٠‬‬
‫ففيمـا كان املثقفـون يتحسسـون احلاجـة إىل اخلـروج على اجلماهير بأفكارهم‬
‫وتصوراتهـم بشـأن السـبي�ل الـذي يتعين سـلوكه للنهـوض بالبلاد وشـعبها‬
‫واختب�ار أفكارهم يف مجرى التطبيق‪ ،‬كان العمال وهم يوسـعون من نضاالتهم‪،‬‬
‫يتحسسـون احلاجة إىل من يعينهم يف صوغ أهدافهم ويرشـد حركتهم ويدلهم‬
‫علـى السـبل األجـدى ويكسـب لهـم عطـف اجلماهير الواسـعة ويعينهـم يف‬
‫فضـح منـاورات اخلصـوم‪.‬‬
‫لـم تكـن الظـروف العامـة مواتيـ�ة لنضـاالت العمـال املطلبيـ�ة عهـد‬
‫ذاك‪ .‬فأغلـب العمـال كانـوا مـن العمـال املوسـميني غير الماهريـن‪ ،‬وكان‬
‫يمكـن اسـتب�دالهم بغريهـم مـن الباحثين عـن العمـل بأجـر بسـهولة السـيما‬
‫وأن عمليـة جتريـد الفالحين من حـق التصـرف يف األرض كانـت توضع موضع‬
‫التطبيـق وفقا لسياسـات االنتـ�داب يف األرض الزراعيـة‪ ،‬والصناعات احلرفية‬
‫تت�دهـور حتـت ضغـط املنافسـة القوية مـن جانب السـلع املسـتوردة‪ ،‬واأليدي‬
‫العاملـة األجنبيـ�ة السـيما الهنديـة منهـا تزاحـم األيـدي العاملـة العراقيـة‪ ،‬وال‬
‫يتمتـع العمـال خببرة طويلـة يف النضـاالت املطلبيـ�ة‪ ،‬وتتفشى بينهـم األميـة‪،‬‬
‫وأهـم مـن ذلـك‪ ،‬كانـوا يفتقـرون إىل كـوادر سياسـية ونقابيـ�ة‪ ،‬والبلاد تفتقـر‬
‫إىل القوانين العماليـة التي يمكـن االسـتن�اد إليها يف املطالبة بتحسين شـروط‬
‫العمـل‪ .‬لقـد واجـه العمـال‪ ،‬مـع هيمنـة اإلدارة األجنبيـ�ة علـى املؤسسـات‬
‫االقتصاديـة الكبرى‪ ،‬ونشـوب األزمـة االقتصاديـة يف العالـم وتأثـر العـراق بهـا‬
‫بفعـل تزايـد ارتب�اطـه بالسـوق الرأسـمالية العامليـة‪ ،‬وضعـا صعبـا‪ ،‬وتوالـت ىف‬
‫مؤسسـات سـكك احلديـد والنفـط عمليـات تقليـص اليـد العاملـة العراقيـة‪،‬‬
‫وخفـض األجـور بشـكل حـاد‪ .‬وبدال مـن أن ختفض هـذه اليد العاملـة األجنبي�ة‬
‫ذات األجـر املرتفـع كثيرا‪ ،‬والـذي يبلـغ بالنسـبة للعامـل الهنـدي‪ ،‬دعـك عـن‬
‫الربيطـاين‪ ،‬أضعـاف أجـر العامل العـرايق ‪ ، 17 17‬كانت تلجأ ملواجهـة ما تعاني�ه من‬
‫مصاعـب اقتصاديـة إىل خفـض سـاعات العمـل بالنسـبة إىل األيـدي العاملـة‬
‫العراقيـة حتى لـم يعـد يتسـلم العامـل العـرايق سـوى أجـور ‪ 12‬يومـا فقـط يف‬
‫‪ .17‬انظــر‪ ،‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬الطبقــة العاملــة‪ ،‬التكــون وبدايــات التحــرك‪ ،‬دار الرشــيد‪،‬‬
‫بغــداد‪ ،1981 ،‬ص ‪.98‬‬
‫ويذكــر هنــا أن الفــارق بــن أجــر العامــل العــرايق وأجــر العامــل الهنــدي أو الربيطــاين يــزداد‬
‫كثــرا إذا أخذنــا باالعتبــ�ار مجموعــة االمتيــ�ازات اإلضافيــة الــي حيصــل عليهــا العامــل‬
‫األجنــي‪.‬‬
‫‪143‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الشـهر الواحـد‪ ،‬يف الوقـت الـذي كانـت تنـ�ال السـلف مـن مزيانيـ�ة الدولـة‬
‫العراقيـة‪ .‬إزاء هـذه احلـال دعـت (جمعية أصحـاب الصنائع) التي تضم عددا‬
‫كبيرا مـن عمـال السـكك إىل اإلضـراب يف ‪ 3‬كانـون األول ‪ .1930‬وقـد شـارك‬
‫يف اإلضـراب مـا ين�اهـز الــ ‪ 1200‬عامـل‪ .‬وقـد جلـأت إدارة السـكك الربيطانيـ�ة‬
‫إىل املنـاورة‪ .‬واضطـرت إىل الرتاجـع أمـام إصـرار العمـال على مطالبهـم‪ .‬ولكنها‬
‫عـادت إىل التحايـل واملراوغـة بهـدف شـق وحدة العمـال‪ ،‬مما دفعهـم إىل إعالن‬
‫اإلضـراب ثانيـ�ة ىف ‪ 26‬شـباط ‪ ،1931‬وسـاهم يف اإلضـراب هـذه املـرة عـدد‬
‫أكبر مـن العمـال‪ ،‬وبتنظيـم أفضـل اسـتخدمت فيـه جتربـة اإلضـراب السـابق‬
‫ومواطـن ضعفـه‪ .‬وقـد لقـى اإلضـراب تأييـ�د العمـال يف مؤسسـات اقتصادية‬
‫كالنفـط‪ ،‬ومـن العمـال يف املـدن األخـرى‪ ،‬ووقـف إىل جانبـ�ه الصحـف الوطنيـ�ة‬
‫واألحـزاب ومعظـم اجلمعيـات األخرى وأوسـاط واسـعة مـن الرأي العـام‪ ،‬وقد‬
‫أحـرج وضـع احلكومـة اليت كانت تسير وراء إرادة رجـال االنتـ�داب‪ .‬وإزاء إصرار‬
‫العمـال علـى مطالبهـم وتمسـكهم بقيادتهـم النقابيـ�ة اضطرت إدارة السـكك‬
‫الربيطانيـ�ة إىل الرتاجـع والتسـليم بمطالـب العمـال‪.‬‬
‫كانـت إضرابـات السـكك املتت�اليـة (بـادر عمـال السـكك إىل إعلان‬
‫اإلضـراب ألول مـرة عـام ‪ )1927‬مدرسـة نضاليـة عـادت بآثـار هامـة علـى‬
‫تطـور وعـي الطبقـة العاملـة العراقيـة‪ ،‬وعلـى اسـتعدادها للنضـال واالنتظـام‬
‫يف منظمـات نقابيـ�ة جريئـ�ة‪ .‬لقـد أصبـح العمـال يشـعرون بأنهـم يؤلفـون‬
‫طبقـة اجتماعيـة ذات شـأن يف املجتمـع‪ ،‬وأنهـم يف حاجـة إىل توحيـد أنفسـهم‬
‫يف منظمـات خاصـة‪ ،‬ويف حاجـة كذلـك إىل توحيـد هـذه املنظمـات مـع غريها يف‬
‫احتـاد عـام واحـد‪ ،‬وأن لهم إخـوة يماثلونهم يف ظـروف العمل واحليـاة يف اخلارج‬
‫وقـد تمثـل هـذا الشـعور يف الصلات اليت سـعت (جمعيـة أصحـاب الصنائع)‬
‫إىل إقامتهـا مـع االحتاد الـدويل لنقابات العمال يف برلني ومنظمـة العمل الدويل‪،‬‬
‫‪18 18‬‬
‫ويف الصلات التي توطـدت لهـا مـع عمـال لبنـ�ان‪.‬‬

‫‪ .18‬كان محمــد صالــح القــزاز قــد أقــام عالقــة مــع فــؤاد الشــمايل الــذي كان يقــود احلركــة‬
‫النقابي ـ�ة العماليــة يف لبن ـ�ان وســوريا‪ ،‬وكان الشــمايل يقــود آنــذاك أيضــا احلــزب الشــيوعي‬
‫يف لبن ـ�ان وســوريا‪ ،‬وقــد بعــث يف تشــرين الثــاين ‪ 1929‬خبمــس نســخ مــن كتابــه (نقابــات‬
‫العمــال) إىل جمعيــة أصحــاب الصنائــع‪ ،‬ووضعــت اجلمعيــة الكتــاب يف متن ـ�اول أعضائهــا‬
‫العمــال وأوصتهــم أن يقــرأوا الكتــاب وأن جيعلــوا مــن صاحبــه “نموذجــا حيتــذى”‪ .‬وحــن‬
‫أصــدر فــؤاد الشــمايل جريــدة «صــوت العمــال» يف آذار ‪ 1930‬كان يرســل نســخا منهــا إىل‬
‫بغــداد‪ ،‬وأصبــح كامــل عبــاس‪ ،‬ســكرتري احتــاد عمــال امليكانيــك مراســا وموزعــا للجريــدة‬
‫يف العــراق‪ .‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬الطبقــة العاملــة العراقيــة‪ ،‬التكــون وبدايــات التحــرك‪،‬‬
‫دار الرشــيد للنشــر‪ ،‬بغــداد‪ ،1981 ،‬ص ‪ .121‬وجــاك كــوالن‪ ،‬احلركــة النقابيــ�ة يف لبنــ�ان‪،‬‬
‫تعريــب نبيــ�ل هــادي‪ ،‬دار الفــارايب‪ ،‬بــروت‪ ,1974 ،‬ص ‪.185‬‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪144‬‬

‫ورغـم أن احلكومـة اشترطت علـى طالبي تأسـيس (جمعيـة أصحـاب‬


‫الصنائـع) و(جمعيـة تعـاون احلالقين) وغريهمـا مـن اجلمعيـات العماليـة‬
‫واحلرفيـة أن يضمنـوا طلـب التأسـيس النـص علـى االمتنـ�اع عـن ممارسـة‬
‫العمـل السـيايس‪ ،‬إال أنهمـا لـم تتقيـدا بهـذا الشـرط يف عملهمـا‪ ،‬وأيـد قادتهمـا‬
‫النشـاط الوطني املناهـض لالنتـ�داب واالنغمـار بالنشـاطات الوطنيـ�ة التي‬
‫اندلعت آنذاك‪ ،‬السـيما اإلضراب العام الذي شـن ضد قانون رسـوم البلديات‬
‫يف سـنة ‪.1931‬‬
‫لنتوقـف هنـا عند نشـاط املثقفني الثوريين يف صفوف العمـال يف غمرة‬
‫هـذه النشـاطات العماليـة‪ .‬توجـه هـؤالء املثقفـون إىل العمـال ومنظماتهـم‬
‫لتعريفهـم باحلقـوق التي يتعين أن يعملـوا مـن أجـل حتقيقهـا‪ ،‬وتزويدهـم‬
‫بالتوجيهـات الضروريـة لتنظيـم العمـل النقـايب‪ ،‬وتعزيز معنوياتهـم النضالية‬
‫وعمـدوا يف هـذا الشـأن إىل إلقـاء املحاضـرات يف مقـرات اجلمعيـات العماليـة‪،‬‬
‫وإىل حتريـر الصحـف التي أصدروهـا أو تلـك التي كانـت تتحـدث باسـمهم‪،‬‬
‫ويف اإلرشـادات الشـخصية التي كانـوا يقدمونهـا لقـادة اجلمعيـات‪ ،‬وتنظيـم‬
‫صفـوف تعليميـة للعمـال أو ملكافحـة األميـة بين أوسـاطهم‪ .‬ففـي احتفـال‬
‫عمـايل أقيـم يف األول مـن أب ‪ 1930‬حتـدث محمـود أحمـد السـيد إىل العمـال‬
‫عـن إضرابـات العمـال ىف سـوريا ولبنـ�ان‪ ،‬واملحـاوالت اإلضرابيـ�ة املبكـرة‬
‫للعمـال العـرب قبـل احلـرب العامليـة األوىل وأهميتهـا‪ ،‬وحتـدث لهـم عـن الدور‬
‫الـذي يلعبـه النـواب العماليـون ىف الربلمانـات األوربيـ�ة للدفـاع عـن حقـوق‬
‫العمـال‪ 19 19.‬ويـروي محمـد صالـح القـزاز أن هـؤالء املثقفين كانـوا يسـاعدون‬
‫احلركـة العماليـة بـكل مـا توفـر لديهـم مـن سـبل ويـأيت يف مقدمتهـم محمـود‬
‫أحمـد السـيد وحسين الرحال وعبد هللا جـدوع وإبراهيم القـزاز‪ 20 20.‬وكان حيرر‬
‫يف مجلة (الصنائع) ملحمد صالح القزاز كل من محمود أحمد السـيد وحسين‬
‫وعبـد الفتـاح إبراهيـم وعبـد هللا جـدوع وعبـد القـادر السـياب (الـذي‬
‫الرحـال ً‬
‫كان عضـوا يف احلـزب الوطني العـرايق وعلـى عالقـة وثيقـة بيوسـف سـلمان‬
‫يوسـف يف البصـرة)‪ .‬ويذكـر أن املشـرفني علـى املجلـة حاولوا أن يغريوا اسـمها‬
‫إىل (صـوت العامـل) إال أن السـلطات املسـؤولة رفضـت هذا التغيير‪ .‬وعملت‬
‫مجلـة (الشـباب) التي أصدرهـا سـعيد السـامرايئ وعبـد القـادر إسـماعيل‬
‫علـى دعـم احلركـة العماليـة‪ ،‬وكان حيـرر فيهـا محمـود أحمـد السـيد ويوسـف‬
‫رجيـب‪ ..‬ولقيـت احلركـة العماليـة الدعـم كذلـك‪ ،‬كمـا يـروي القـزاز‪ ،‬مـن‬
‫مصطفـى علـي (صاحـب جريـدة الوميـض) ومـن علي حيـدر سـليمان (الذي‬

‫‪ .19‬كمال مظهر أحمد‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.120‬‬


‫‪ .20‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.144‬‬
‫‪145‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أصبـح مـن جماعـة األهـايل)‪ .‬وأصـدر عبـد املجيـد حسـن‪ ،‬وهـو عامـل طباعـة‬
‫وعضـو نشـيط يف جمعيـة عمـال املطابـع العراقيـة‪ ،‬جريـدة باسـم “العامـل” يف‬
‫آب ‪ 1930‬كان يكتـب فيهـا إبراهيـم حليم العمر ومحمود أحمد السـيد ولطفي‬
‫بكـر صـديق‪ ،‬ويف خاتمـة املقـال االفتتـ�ايح للعـدد األول مـن اجلريـدة كتبـت‬
‫«وقـل معهـا دائمـا وأبـدا هـذا شـعارنا يف احليـاة حتى تتحقـق أمالنا‪« :‬يـا عمال‬
‫العالم احتدوا»‪ .‬ونشـرت الشـعار يف الوسـط وخبط كبري‪ .‬وخيتتم محمود أحمد‬
‫السـيد مقالتـه يف اجلريـدة بقولـه إن العمـال لن يفـوزوا بهذه احلقـوق (بعد أن‬
‫عددهـا) «إال إذا تضامنـوا ثـم ارتبطـت جمعياتهـم بعضهـا ببعـض حتـت لـواء‬ ‫َ‬
‫جامعــة يصح أن نسميها احتــاد جمعيــات ونقابات العمـال» وتكون غايتها «‬
‫الدفـاع عـن املصالح املشتركة جلمعيات العمال» و «السـعي لوضع تشـريع‬
‫ذي قوانين خاصـة حبمايتهـم وحفـظ حقوقهـم على قـدر ما يسـتطاع يف ظالل‬
‫النظـام االجتماعـي العتيـ�د الـذي جنـري على سـنن�ه مكرهني‪ .‬وحييـا العامل حرا‬
‫أبي�ا»‪.‬‬
‫جلـأت احلكومـة بعـد أن تزايـدت نشـاطات العمـال واتسـع تأثير هـذه‬
‫النشـاطات بين اجلماهير كمـا عكـس اإلضـراب الذي شـن ضـد قانون رسـوم‬
‫البلديـات إىل غلـق اجلمعيـات العماليـة واحلرفية ومطـاردة قادتها ونشـطائها‬
‫كمـا شـنت حملـة واسـعة مـن الضغـط علـى العمـال وصنعتهـا جمعيـات‬
‫مواليـة لهـا لزتييـف إرادة العمـال وتشـتيت وحدتهـم‪ .‬لكـن العمـال النقابيين‬
‫النشـطني واجهـوا هجـوم احلكومـة بصالبـة والتفـوا حـول قياداتهـم‪ ،‬وفوتـوا‬
‫علـى احلكومـة فرصـة خدعهـم إذ تسـللوا إىل اجلمعيـة التي صنعتهـا وهـي‬
‫جمعيـة عمـال امليكانيـك‪ ،‬وانزتعـوا قيادتها وأطلقوا عليها اسـم «احتـاد العمال‬
‫يف العـراق» الـذي رفـع يف احلـال مطلـب تشـريع قانـون خـاص حبمايـة العامـل‬
‫العـرايق وشـنوا حملـة على الشـركات األجنبيـ�ة ومواصلة النشـاط الـذي بدأته‬
‫جمعيـة أصحـاب الصنائـع‪.‬‬
‫أمـران حيسـن أن نتوقـف عندهمـا هنـا‪ .‬أولهمـا أن احلركـة العماليـة لـم‬
‫ترتـق بذاتهـا إىل حركة سياسـية‪ ،‬وثانيهمـا أن املعارضة السياسـية ممثلة حبزيب‬
‫اإلخاء الوطين (ياسين الهاشمي وأصحابه) والوطين العرايق (جعفر أبو التمن‬
‫وأصحابـه) لـم يسـتطيعا أن حيتويا هـذه احلركـة‪ .‬فاحلزبان املذكـوران لم يقفا‬
‫مواقـف حازمـة وثابتـ�ة يف مـؤازرة العمـال يف إضراباتهم‪ ،‬برغم أن أبـو التمن كان‬
‫علـى عالقـة جيـدة بقـادة اجلمعيـات العماليـة‪ .‬ويف احلـاالت التي أيدتهـا فيها‬
‫كانـت تسـعى إىل أن توظف التحركات العمالية ملصاحلها السياسـية اخلاصة‬
‫وتسـتخدمها كورقـة يف معارضتهـا للحكومـة يف هـذا الشـأن أو ذاك ومـن أجـل‬
‫إزاحـة هـذا أو ذاك مـن اخلصـوم السياسـيني‪ ،‬ولـم يكـن السـلوك السـيايس‬
‫ملا لمعلا يف ةيلوأ تالواحم‬ ‫‪146‬‬

‫للمعارضـة ممـا يـريض مـزاج احلركـة العماليـة وقياداتهـا رغـم أن هـذه احلركة‬
‫لـم ختـرج حتى ذلـك احلين عـن إطـار املفاهيـم السياسـية التي كان ينـ�ادي بهـا‬
‫هـذان احلزبـان‪ ،‬برغـم مـا تكنه مـن احترام خـاص جلعفر أبـو التمن‪.‬‬
‫بيـ�د أن احلركـة العماليـة‪ ،‬مـع كل التطـور الـذي مـرت بـه‪ ،‬والتجـارب‬
‫النضاليـة التي خاضتهـا‪ ،‬ظلـت حتصر نفسـها يف األهـداف املطلبيـ�ة‪ ،‬ولم ترتق‬
‫إىل حركـة سياسـية خاصـة‪ ،‬ومـا كان بوسـعها أن حتقـق ذلـك‪ .‬ويرجـع ذلـك‪،‬‬
‫أساسـا‪ ،‬إىل افتقارهـا للوعـي السـيايس الثـوري‪ .‬وأقصى مـا اسـتطاع املثقفـون‬
‫الثوريـون مـن جماعـة الرحـال والشـباب املحيـط بهـم أن يدخلـوه إىل احلركـة‬
‫العماليـة هـو مجموعـة مفاهيـم عامـة تسـتهدف توعيـة الطبقـة العاملـة‬
‫بذاتهـا‪ ،‬مفاهيـم تـدور حـول ضـرورة وحدتهـا وحقوقهـا النقابيـ�ة‪ ،‬واألحـكام‬
‫القانونيـ�ة التي تصـون حقوقهـا‪ ،‬وحاجتهـا إىل التنظيـم النقـايب‪ .‬وحتى حين‬
‫أبـدت الطبقـة اسـتعدادها للتحرك األبعـد‪ ،21 21‬وتدخل يف صراعـات ذات طابع‬
‫سـيايس مـن بعـض الوجوه بشـأن قانون رسـوم البلديـات‪ ،‬فإن هؤالء الشـباب‬
‫لـم يظهـروا قـدرة علـى االرتقـاء بنضـال العمـال ويكشـفوا لهم اجلـذر الطبقي‬
‫ملوقـف السـلطة‪ .‬كانـت مجموعـة الشـباب الثـوري ذاتهـا لـم حتـدد لنفسـها‬
‫أهدافـا سياسـية واضحـة وموقفا طبقيا محـددا ملفاهيمها‪ ..‬كانـت أفكارها غري‬
‫متكاملـة بعـد وما كان بوسـعها وهي بهـذا القصور أن تتوصـل إىل الربط الفعال‬
‫بين مـا حتمل من معـارف واحلركة الفعليـة للجماهري‪ .‬ولذلك تأجـل هذا الربط‬
‫إىل مرحلـة تالية‪.‬‬
‫‪ .21‬نشــر هنــا إىل أن الواعــن مــن بــن العمــال يف ســكك احلديــد يف بغــداد‪ ،‬كانــوا يف حــاالت‬
‫محــدودة حيتفلــون بمناســبة األول مــن أيــار ســرا إمــا يف دار أحدهــم أويف إحــدى عربــات‬
‫القطــار الفارغــة (كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪ .)147‬وينقــل عــن جريــدة‬
‫(العــراق) الصــادرة يف ‪ 3‬أيــار ‪ 1928‬أن دار املعلمــات ومدرســة البنــ�ات املركزيــة اعتادتــا‬
‫يف تلــك الفــرة أن تقيمــا يف األول مــن أيــار حفــا خاصــا تســميه (حفلــة أيــار)‪ .‬ويلــوح‬
‫لنــا أن احتفــال هاتــن املدرســتني بــاألول مــن أيــار ربمــا يعــود إىل تقليــد غرســته املدرســة‬
‫األمريكيــة‪ ،‬املــز كــر‪ ،‬داعيــة االشــراكية الــي أشــرنا إليهــا يف الفصــل الســابق‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫النواتات الشــيوعية األولى‬
‫واألوضــاع التي أحاطت بنشــوئها‬

‫كانـت سـنوات االنت�داب‪ ،‬علـى قصرها ‪ ،1 1‬كافية ألن تكشـف للعراقيني‬


‫طبيعـة احلكـم الذي أنشـأته بريطانيـ�ا يف العـراق‪ ،‬وربطته بها بمعاهـدة ‪1922‬‬
‫التي تفـرض عليـه التبعيـة يف الواقـع بنفـس شـروط االنتـ�داب‪ ،‬وظلـت جتـدد‬
‫وتعـدل حتى أخـذت صيغتهـا النهائيـ�ة يف خاتمـة الفترة يف معاهـدة ‪1930‬‬
‫التي فرضـت عليـه التبعيـة يف اجلوهـر‪ ،‬وتظهـر لـه كذلـك طبيعـة املؤسسـات‬
‫والتشـريعات وحقيقـة الفئـة االجتماعيـة التي تولـت احلكـم فيـه‪ .‬وإذا كانـت‬
‫وظيفة هؤالء احلكام الذين تعاقبوا على دسـت احلكم تنفيذ السياسـات اليت‬
‫كانت ترسـمها دوائر االنت�داب وفقا ملصالح بريطاني�ا والفئات االجتماعية اليت‬
‫ربطـت مصاحلهـا بهـا علـى حنـو مـا رأينـ�ا يف الفصـول الماضيـة‪ ،‬فـإن املعارضـة‬
‫الرسـمية املتمثلـة باملعارضـة الربلمانيـ�ة وأحزابها السياسـية كانـت يف جوهرها‬
‫ال ختـرج عـن مفاهيـم النظـام القائـم‪ ،‬أي‪ ،‬كمـا يقـول حسين جميل ‪:‬‬
‫«لـم يكـن مـن شـأنها أن تهـدم أمـرا مـن مقومـات النظـام أو تضعـف‬
‫كيانـه‪ .‬لذلـك فـإن عناصر املعارضة لم تكن جتد بأسـا مـن أن تنتقل من‬
‫املعارضـة إىل املشـاركة يف احلكـم مـع مـن عارضتـه‪ ،‬إذا رأوا أن مصلحة‬

‫‪ .1‬عهــد مجلــس احللفــاء األعلــى (مجلــس الــدول الــي انتصــرت يف احلــرب العامليــة األوىل‬
‫إىل بريطاني ـ�ا باالنت ـ�داب علــى العــراق يف ‪ 25‬نيســان ‪ ،1920‬وبعــد ثــورة العشــرين كيفــت‬
‫بريطانيـ�ا سياســاتها يف حكــم العــراق وأقامــت نظامــا نصبــت فيــه فيصــل ملــكا عليــه ويف ‪13‬‬
‫تشــرين األول ‪ 1922‬ربطــت العــراق معهــا بمعاهــدة تضمــن لهــا الهيمنــة عليــه بمــا يتفــق‬
‫ومبــادئ االنتـ�داب‪ .‬ويف ‪ 3‬تشــرين األول ‪ 1932‬قبــل العــراق يف عصبــة األمــم والــزم أمامهــا‬
‫جبميــع االتفاقــات الــي أقامهــا االنتـ�داب الربيطــاين ني�ابــة عنــه‪.‬‬
‫‪149‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪22‬‬
‫احلكـم تبرر ذلـك»‬

‫علـى غـرار مـا كان يفعـل ياسين الهاشمي ورشـيد عـايل الكيلاين‬
‫أصحابهمـا يف حـزب الشـعب (أو اإلخـاء الوطني فيمـا بعـد)‪ ،‬أو قـادة احلـزب‬
‫الوطني العـرايق باسـتثن�اء جعفـر أبو التمن الـذي ظل حيتفظ بموقفـه املعارض‬
‫الثابـت مـن االسـتعمار الربيطـاين وأعوانـه مـن العراقيين‪ .‬ولـم يكـن هـؤالء‬
‫الساسـة جيـدون غضاضـة يف التعـاون مـع أي رئيـس كان للوزارة وبغـض النظر‬
‫عـن األسـباب التي حملـت الـوزارة التي سـبقتها علـى االسـتقالة‪.‬‬
‫إزاء هـذه احلـال‪ ،‬نفضـت الشـبيب�ة الثوريـة أيديهـا مـن األطر الرسـمية‬
‫للمعارضـة‪ ،‬وشـرعت تبحـث عـن سـبلها اخلاصة يف العمـل‪ ،‬وتسـعى إىل إجياد‬
‫أطـر جديـدة لنشـاطها السـيايس‪ .‬وإذا كان املثقفـون الثوريـون مـن جماعـة‬
‫الرحال لم يمتلكوا اجلرأة على اإلقدام لتنظيم أنفسـهم يف إطار سـيايس خاص‬
‫فـإن غريهم من الشـبيب�ة الثورية شـرعوا ينظمون أنفسـهم يف جمعيات سـرية‬
‫حملـت منـذ بدايتهـا نزوعـات الشـباب املندفعـة وبـدت أقـرب إىل الهواية منها‬
‫إىل العمـل اجلـاد‪ ،‬مثال ذلك ما يتحـدث عنه زكي خريي يف مذكراته عن جمعية‬
‫« الوفـاء للعهـد» التي ألفهـا مع عبـد الوهاب محمـود وأحمد الشـيخ إلطيف‪،‬‬
‫واجلمعيـة التي كونهـا حسين الرحال وعزيز األعـريج والضابط شـاكر محمود‬
‫شـكري يف أواخـر العشـرين�ات باسـم «االنتقـام لفلسـطني» والتي ماتت وهي‬
‫يف املهـد كمـا يقـول زكـي خيري‪3 3.‬ويـروي عبد الكريم حسـون جـار هللا وهو من‬
‫قـداىم مناضلـي الناصريـة وممـن عمـل مـع يوسـف سـلمان يوسـف يف بدايـة‬
‫الثالثينـ�ات‪ ،‬أن جمعيـة سـرية تأسسـت يف بغـداد عـام ‪ 1924‬ترأسـها توفيـق‬
‫اخلالـدي باسـم (جمعية احتـاد تضامن العـرب) ملحاربة االسـتعمار الربيطاين‪،‬‬
‫كان لهـا فـرع يف البصـرة وأخـر يف الناصريـة ضـم عديـدا مـن العناصـر الوطنيـ�ة‬
‫التي عرفـت فيمـا بعـد بنشـاطاتها الوطنيـ�ة األخـرى‪ ،‬وكان هـو وطالـب فليـح‬
‫مـن بين أعضائها‪ .‬هذه أمثلة تكشـف عـن أمزجة الشـباب آنذاك واسـتعداده‬
‫للعمل السـيايس‪.‬‬
‫ال نملـك لألسـف مـا يدلنـا علـى الكيفيـة التي توصـل بهـا الشـيوعيون‬
‫األوائـل يف البصـرة يف منتصـف العشـرين�ات إىل األفـكار الشـيوعية‪ ،‬ومـن كان‬
‫الرائـد فيهـم‪ .‬ليـس غريبـ�ا أن تسـبق البصـرة غريها يف هـذا‪ .‬فالبصرة‪ ،‬شـأن كل‬
‫املـوائن يف العالـم‪ ،‬ملتقـى أنـاس مـن بلـدان شتى‪ ،‬وليـس غريبـ�ا أن جيـري تب�ادل‬

‫‪ .2‬حسني جميل‪ ،‬احلياة الني�ابي�ة يف العراق‪ ،‬مكتب�ة املثىن‪ ،‬بغداد‪ ،1982 ،‬ص ‪.214‬‬
‫‪ .3‬زكي خريي‪ ،‬صدى السنني يف ذاكرة شيوعي مخضرم‪ ،‬ستوكهولم‪ ،1994 ،‬ص ‪.64‬‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪150‬‬

‫األفـكار فيهـا‪ .‬ويف أجـواء تسـودها األمزجـة مـن النـوع الـذي حتدثنـ�ا عنـه لـن‬
‫يكون أمرا عجبا أن جتد الشـيوعية‪ ،‬السـيما يف تلك السـنوات اليت تلت انتصار‬
‫ثـورة أكتوبـر الباهـرة‪ ،‬مكانـا لهـا بين مـا كان جيـري التداول بشـأنه‪.‬‬
‫تتضـارب املصـادر يف هـذا الشـأن‪ .‬فطبقـا إىل «إخباريـة» أو تقريـر‬
‫قدمـه عبـد احلميـد اخلطيـب يف ‪ 22‬كانـون الثـاين ‪ 1934‬إىل البوليس السـري‪،‬‬
‫وكان آنـذاك يتجسـس حلسـاب البوليـس‪ ،‬إنـه‪ ،‬أي اخلطيـب‪ ،‬اعتنـق األفـكار‬
‫الشـيوعية علـى يـد محمـد غلـوم‪ ،‬مـدرس فـاريس يف املحمـرة‪ ،‬وإنـه كسـب إىل‬
‫هـذه األفـكار آخريـن وكـون منهـم أول حلقـة شـيوعية يف عـام ‪ 1927‬ضمـت‬
‫زكريـا إليـاس دوكا ويوسـف سـلمان يوسـف وداود سـلمان يوسـف وغـاىل‬
‫زويـد‪ .‬وتركـز تقاريـر أخـرى للبوليـس علـى الـدور الـذي نسـب إىل بطـرس أبـو‬
‫ناصـر (بطـرس شـمعون)‪ ،‬وأن يوسـف سـلمان يوسـف وأخـاه األكبر داود‬
‫سـلمان يوسـف وصديقهمـا غـايل الزويـد قـد تعرفـوا عـن طريقـه علـى األفكار‬
‫الشـيوعية وأنهـم كونـوا حلقة من الشـيوعيني يف الناصرية عـام ‪ . 1928‬إال أن‬
‫تقاريـر بوليس أخرى تذكر أن يوسـف سـلمان يوسـف التقى ببطـرس أبو ناصر‬
‫(بطـرس شـمعون) يف البصـرة عـام ‪ 1927‬وتعـرف منـه علـى أفـكار الشـيوعية‬
‫هنـاك‪.‬‬
‫تطـرح تقاريـر البوليـس أبـو ناصـر هـذا كشـخص غامـض لـه اتصاالتـه‬
‫بآخريـن يف إيـران وباكـو‪ .‬وأطلقـت عليـه أسـماء مختلفـة‪ ،‬وأنـه آشـوري األصل‬
‫تنقـل يف عـدة مـدن حتى اسـتقر يف الناصريـة‪ .‬احترف اخلياطـة وكان ماهـرا‬
‫فيهـا‪ ...‬أمـا النـاس يف الناصرية قد عرفته إنسـانا طيب�ا ينشـد اخلير ألصحابه‪،‬‬
‫وال يبخـل علـى زمالئـه اخلياطين بإرشـاداته حـول فنـون اخلياطـة العصريـة‪،‬‬
‫وانـه كان مثقفـا واسـع االطلاع‪ .‬ليـس غريبـ�ا بعـد هذا لرجـل بهـذه األوصاف‪،‬‬
‫ويف ظـروف االضطهـاد الديني والقويم الذي تعرض له اآلشـوريني يف املنطقة‬
‫يف تلـك الفترة‪ ،‬أن يتعـرف علـى األفكار الشـيوعية الراجئة يومهـا‪ ،‬وأن جيد فيها‬
‫سـبيلا خلالصـه وخلاص بنى قومـه وأمثالـه مـن املضطهديـن‪ ،‬وأن يتحـدث‬
‫بهـا إىل اآلخريـن‪ ،‬وأن جيـذب إليه يوسـف سـلمان يوسـف الذي كان مـن جانب�ه‬
‫يتعطـش إىل املعرفـة ويبحـث بـدأب ال يـكل عـن سـبي�ل اخلالص لشـعبه‪.‬‬
‫لقـد عـرف عـن يوسـف سـلمان يوسـف نشـاطه الوطني وحماسـته يف‬
‫هـذا الشـأن منـذ أن كان صبيـ�ا يف البصـرة‪ .‬حيدثن�ا عبـد الكريم حسـون جار هللا‬
‫وكان مـن بين الذيـن عرفـوه جيـدا يف الناصريـة آنـذاك‪ ،‬أن يوسـف كان حيصـل‬
‫علـى أخبـار حتـركات وأسـرار قـوات االحتلال الربيطـاين يف الناصريـة أيـام ثـورة‬
‫العشـرين مـن أحد اشـقائه الـذي كان يعمل مرتجمـا مع هذه القوات‪ ،‬ويسـارع‬
‫إىل إيصالهـا إىل احلـاج روييض أل بشـارة وزمالئه الذين كانـوا يقودون الثائرين‬
‫‪151‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫يف الناصريـة وأريافهـا‪ ،‬كمـا كان يرتجـم لهـم مـا تنشـره الصحافـة الربيطانيـ�ة‬
‫بشـأن الثـورة‪4 4 .‬ويـروي داود سـلمان‪ ،‬أخـوه األكبر‪ ،‬أنـه كان حيـرص علـى تتبـع‬
‫التطـورات السياسـية يف العـراق ومـا حولـه منـذ صبـاه‪ ،‬وال يرتدد عن املشـاركة‬
‫يف النشـاطات السياسـية حيثمـا وجـدت‪ ،‬ويضرب علـى ذلك مثال بمشـاركته‬
‫شـخصيا يف مؤتمـر كربلاء الـذي انعقـد لتـدارس أحـوال العـراق يف أوائـل‬
‫العشـرين�ات ويقـول إنـه كثيرا مـا كان يتغيـب عنـا فجأة وتظـل أمه تقلـق عليه‬
‫حتى يعـود بعد أيام لنعرف أنه كان قد سـافر أو جاب علـى األقدام هذه املنطقة‬
‫أو تلـك بهـدف التعـرف علـى أحـوال النـاس فيهـا‪ ،‬أو شـارك يف نشـاط سـيايس‬
‫مـا‪ .‬خالصـة هـذا كله‪ ،‬أن شـابا بمثـل هذه الصفـات‪ ،‬وكثير القـراءة واالختالط‬
‫والتنقـل‪ ،‬ويجيـد اإلنكلزييـة إىل جانـب العربيـ�ة (ومـن بعد تعلم لغـات أخرى)‬
‫كان البد أن يلتقي باألفكار الشيوعية بلون أو بآخر‪ ،‬وهذا ما حدث‪ ،‬أو كما ينقل‬
‫بطاطـو عـن تقاريـر البوليـس أنـه التقـى ببطـرس أبو ناصـر (بطرس شـمعون)‬
‫يف البصـرة عـام ‪ 1927‬مصادفـة وحتـدث إليـه عـن الشـيوعية‪ .‬أمـا الزعـم بـأن‬
‫بطـرس أبـو ناصـر (بطـرس شـمعون) هـذا هـو موفـد األمميـة الشـيوعية فأمر‬
‫تقـول بـه تقاريـر البوليـس دون أن تؤكـده بينـ�ات جديـة وكمـا رأين�ا مـن قبل أن‬
‫الشـيوعيني السـوفييت لـم حيبذوا إجيـاد تنظيم شـيوعي يومـذاك‪ ،‬وأن أقىص‬
‫ما فعلته األممية الشـيوعية بالنسـبة للعراق هي أن سـعت إىل إعداد دراسـات‬
‫عـن األوضـاع السياسـية واالقتصاديـة يف البالد‪.‬‬
‫اسـتن�ادا إىل رسـالة قيـل إن مهـدي ويف‪ ،‬وكان مـن جماعـة البصـرة‬
‫وصديقا ليوسـف سـلمان‪ ،‬قد أرسـلها من كركوك إىل يوسـف سـلمان يوسـف‬
‫يف الناصريـة وضبطهـا البوليـس‪ ،‬نفهـم أن جماعـة البصـرة كونـت مـا عـرف‬
‫بــ «جمعيـة األحـرار» ويبـ�دو أن البوليـس أطلـق عليهـا اسـم «احلـزب احلـر‬
‫الالديني» ألنهـا ناقشـت بعـض شـؤون الديـن مـن زاويـة غير مألوفـة آنذاك‪.‬‬
‫فطبقـا لبيـ�ان أصدرتـه اجلمعيـة للتعريـف بأهدافهـا دعـت إىل‪:‬‬

‫‪1.‬حتريـر العقـل والـروح واجلسـد ونشـر حريـة التفكير والكلمـة‬


‫والفعـل بـكل الوسـائل املشـروعة‪.‬‬
‫‪2.‬‬
‫‪.‬أالعمل بال هوادة‪ ،‬وبكل الطرق القانوني�ة‪ ،‬من أجل فصل‬
‫الدين عن كل الشؤون الزمني�ة‪ ،‬أي عن «السياسة» و «التعليم»‬
‫و «احلياة العائلية» ‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫‪ .4‬عبــد الكــرم حســون جــار هللا‪ ،‬تصــدع البشــرية مــن ضــال ويــات االســتب�داد‬
‫والعبوديــة‪ ،‬املكتبــ�ة العصريــة‪ ،‬صيــدا ‪ -‬بــروت‪ ،‬آب ‪ ،1969‬ص ‪.29‬‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪152‬‬

‫‪.‬باالحتجاج بقوة‪ ...‬على أي عمل ديين يضر بوحدة‬


‫الشعب‪.‬‬
‫‪3.‬نشر التسامح الديين يف كل البلدان العربي�ة‪.‬‬
‫‪4.‬يتـم حتقيـق هـذه األهـداف بالتغييرات التشـريعية‪...‬‬
‫وباملشـاركة يف االنتخابـات الني�ابيـ�ة‪.‬‬
‫‪5.‬فضـح مـدى احنـراف رجـال الديـن يف سـلوكهم عـن اجلوهـر‬
‫اإلنسـاين للديـن‪ ،‬أخذيـن يف االعتبـ�ار أن األديـان كانـت السـبب‬
‫الرئيسي يف التفرقـة‪ ،‬وأن الهدف األسمى للجمعية هـو توحيد قوى‬
‫الشـعب املبعثرة‪.‬‬
‫‪6.‬عقـد اجتماعـات عامـة بهـدف تعريـف النـاس بأحـدث األفكار‬
‫العلميـة واالجتماعيـة‪ ،‬واطالعهـم علـى آخـر التطـورات الدولية‪.‬‬
‫‪7.‬حترير املرأة العربي�ة من أغالل االحنطاط واجلهل‪.‬‬
‫‪8.‬ترويج مشاعر الزمالة بني الناس‪.‬‬
‫‪9.‬تشـجيع املـدارس الوطنيـ�ة العربيـ�ة فقـط واعتبـ�ار البلـدان‬
‫العربيـ�ة كبلـد واحـد‪.‬‬

‫وتقـول مصـادر البوليـس‪ ،‬كمـا ينقـل بطاطـو‪ ،‬إن الربنامـج مـوىح به من‬
‫‪55‬‬
‫قبـل شـيوعيني لبن�انين‪.‬‬
‫ليـس لدينـ�ا مـا يوضـح مـا إذا كان الشـباب الذيـن اعتنقوا الشـيوعية يف‬
‫البصـرة قـد اختـذوا مـن هـذه اجلمعيـة واجهـة علنيـ�ة لنشـاطهم الشـيوعي أو‬
‫أنهـم طـوروا جمعيتهـم هذه وطـوروا أهدافها لتغـدو مجموعة شـيوعية‪ ،‬املهم‪،‬‬
‫أن اجلمعيـة أثـارت اهتمامـا واسـعا‪ .‬فكمـا تقـول تقاريـر البوليـس إن أفكارهـا‬
‫تن�اقـش يف «كل مـكان لتجمـع سـيايس»‪ .‬ربما تعمد البوليـس أن يبني أحاديث‬
‫الشـيوعيني عـن الديـن وعـن ممارسـات رجـال الديـن‪ ،‬وربمـا بالـغ فيهـا ليثير‬
‫عليهـم العقليـة املحافظـة يف املجتمـع‪ ،‬رغـم أن ما رفعـوه من شـعارات ال تمس‬
‫الديـن ذاتـه وإنمـا تن�اولـوا ممارسـات رجـال الديـن واملـوروث املتخلـف الـذي‬
‫تعتمـده الفئـات االجتماعية املسـتغلة باسـم الديـن لتضمن اسـتمرار منافعها‬
‫اخلاصـة‪ .‬مـن اجلانـب املقابـل‪ ،‬فـإن ضحالـة جتربـة هـؤالء الشـباب‪ ،‬السـيما‬
‫يف مسـائل حساسـة كهـذه مـا كانـت لتعينهـم يف إدراك املزالـق اخلطـرة التي‬

‫‪ .5‬بطاطو‪ ،‬النص اإلجنلزيي‪ ،‬ص ‪.407‬‬


‫‪153‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫كانـت العناصـر االسـتفزازية جترهـم إليهـا‪ .‬وال نسـتبعد أيضـا أنهم لم حيسـنوا‬
‫التعامـل معهـا‪ .‬على العموم‪ ،‬فإن الشـيوعيني يف البصرة اسـتطاعوا أن يوجدوا‬
‫لهـم موضـع قـدم ال يسـتهان به يف املدينـ�ة‪ ،‬ويدلل علـى ذلك الدور الـذي لعبوه‬
‫يف حتريك اجلماهري يف إضراب رسـوم البلديات يف عام ‪ 1931‬كما سنرى الحقا‪،‬‬
‫واحتفـاظ احلركـة الشـيوعية بسـمعة جديـة يف املدينـ�ة بعـد ضـرب احلـزب‬
‫الشـيوعي يف الثالثينـ�ات‪ ،‬والتي سـاعدت‪ ،‬كمـا سنرى‪ ،‬يف اسـتعادة نشـاطه‬
‫بعـد سـنوات‪ .‬خالصـة األمـر‪ ،‬إن عديـدا مـن الشـباب الشـيوعي ظل يتمسـك‬
‫جبمعيتـ�ه ومـن هـؤالء‪ ،‬عـدا يوسـف سـلمان يوسـف الـذي كان لولبهـا‪ ،‬وغـاىل‬
‫الزويد وداود سـلمان يوسـف‪ ،‬كان هناك مهدي ويف (الذي انتقل إىل الناصرية‬
‫مـن بعـد ليفتـح مكتبـ�ة لبيـع الكتـب فيها بالتعـاون مع يوسـف سـلمان) وعبد‬
‫القـادر السـياب (وهـو مـن أهـايل أبـو اخلصيـب وصاحب جريـدة النـاس‪ ،‬وقد‬
‫انسـحب مـن اجلمعية بعد أن أغراه نوري السـعيد بعضويـة مجلس النواب)‪،‬‬
‫وظافـر صالـح‪ ،‬وعبـد محمـد‪ ،‬وحنـا باليـا‪ ،‬وأندريـا عيسى‪ ،‬وجورج اسـطيفان‪،‬‬
‫وعبـد الوهـاب محمـود‪ ،‬وسـايم نـادر‪ ،‬وحسـن عياش‪.‬‬
‫وإىل الشـمال من البصرة‪ ،‬شـهدت الناصرية‪ ،‬املدينـ�ة اجلنوبي�ة األخرى‬
‫التي عرفـت بوسـطها االجتماعي الثوري منـذ العهد العثماين وثورة العشـرين‪،‬‬
‫نشـاطا مماثلا‪ .‬وكان يعـرف فرع احلـزب الوطين العرايق يف املدين�ة الذي نشـط‬
‫فيـه الشـيوعيون بطابعـه الثـوري املميز‪ .‬وقـد دخـل الشـباب الثـوري يف املدين�ة‬
‫وأريافهـا يف نزاعـات وصدامـات معروفـة مـع السـلطة يف ذلـك العهـد‪ .‬وإىل‬
‫جانـب احلـزب الوطني العـرايق أقـام بعضهـم صلات مـع جماعـة األهـايل بعـد‬
‫أن تأسسـت يف أوائـل الثالثينـ�ات‪ ،‬وكان علـى راس فـرع احلـزب الوطين العرايق‬
‫مناضـل شـيوعي أو صديـق وثيـق الصلـة بهـم هو عبـد اجلبار حسـون جار هللا‪،‬‬
‫وكان يعـرف جبرأتـه وصالبت�ه ومزنلته االجتماعية املحرتمـة ىف املدين�ة‪ .‬ويف هذه‬
‫الفترة بالـذات ينتقـل يوسـف سـلمان يوسـف إىل الناصريـة ليعمـل يف معمـل‬
‫صغير للثلـج والطحـن تملكه عائلته ولينشـط يف تثقيف الشـباب وتنظيمهم‪.‬‬
‫ولـد يوسـف سـلمان يوسـف يف بغـداد عـام ‪ .1901‬وكانـت عائلتـه قـد‬
‫انتقلـت قبـل عقـد تقريبـ�ا مـن (القـوش) كمـا يـروى رفيقـه وصديقـه جميـل‬
‫تومـا‪ .‬ونظـرا ألحـوال العائلـة االقتصاديـة الصعبـة‪ ،‬انتقلـت العائلـة إىل‬
‫البصرة‪ ..‬وهناك أحلق بمدرسـة السـريان االبت�دائي�ة يف عام ‪ .1908‬ويف الثالثة‬
‫عشـرة مـن عمـره أدخـل يف مدرسـة (الرجـاء الصالح)‪ ،‬وهي مدرسـة تبشيرية‬
‫أمريكيـة‪ .‬وكانت كلتا املدرسـتني تعطيان دروسـهما باإلجنلزييـة‪ ،‬مما مكنه من‬
‫إتقـان اللغـة اإلجنلزييـة‪ .‬وإثر مـرض والده يف عـام ‪ 1916‬وتردي أوضـاع العائلة‬
‫اقتصاديـا‪ ،‬أضطـر إىل أن يترك املدرسـة وينصـرف إىل العمـل‪ .‬وكانـت القـوات‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪154‬‬

‫الربيطانيـ�ة قـد احتلـت البصـرة آنـذاك‪ .‬عمـل مسـتخدما يف املينـ�اء يف محطـة‬


‫توليـد الكهربـاء‪ .‬ويف املينـ�اء احتـك الشـاب الصغير بالعمـال وتابـع أوضـاع‬
‫عملهـم الصعبـة‪ .‬وكان أول نشـاط لـه وهـو يف هـذه السـن املبكـرة أن صـاغ‬
‫للعمـال املضربين يف املسـفن (الدوكيارد) عـام ‪ 1918‬مذكـرة باللغة اإلجنلزيية‬
‫يعرضـون فيهـا أوضاعهم القاسـية ويطالبون بتحسـينها وبزيـادة أجورهم كما‬
‫روى للمؤلـف أخـوه األكبر داود سـلمان يوسـف وكان يقـود اإلضـراب‪ .‬ويف عـام‬
‫‪ 1919‬انتقـل مـع عائلتـه إىل الناصريـة ليسـاعد أخـاه داود يف تشـغيل مطحنـة‬
‫صغيرة أقامهـا هنـاك‪ .‬كانـت مناطـق املنتفـك تمـوج آنـذاك باحلركـة‪ .‬وقـد‬
‫أصبحـت الناصريـة مركز حتشـيد للمقاومة ضد القـوات الربيطاني�ة‪ .‬فقد كان‬
‫املجتهـد الكبير السـيد محمد سـعيد احلبويب قد توجـه إليها ليتخـذ منها مركزا‬
‫للمقاومـة‪ ،‬وحتـرك اعجمي باشـا السـعدون وكثير مـن رؤسـاء عشـائر الفـرات‬
‫األوسط للغرض ذاته‪ .‬وقدم إىل املدين�ة الزعيم الكردي الشيخ محمود احلفيد‬
‫علـى رأس قـوة كرديـة كبيرة مـن اخليالة‪ .‬ومـع أن املدينـ�ة لم تسـتطع الصمود‬
‫طويلا أمـام الزحـف الربيطـاين املدجـج بالسلاح احلديـث‪ ..‬إال أن احلقد على‬
‫الربيطانيين ظل يسـتعر يف املدين�ة وأريافها‪ ،‬وظلت العشـائر تواصل عمليات‬
‫العرقلـة أمـام تقـدم القـوات الربيطاني�ة مع نهر الغـراف باجتاه الكـوت‪ .‬وعندما‬
‫نشـبت ثورة العشـرين نشـطت العناصر الثورية يف املدينـ�ة وأريافها‪ ،‬وأحلقوا‬
‫بقـوات االحتلال أضـرارا ال يسـتهان بهـا‪ .‬يف مثـل هـذه األجـواء عـاش يوسـف‬
‫سـلمان يوسـف صبـاه‪ ،‬وقـد أشـرنا مـن قبـل إىل أنه كان يـزود احلـاج روييض آل‬
‫بشـارة‪ ،‬رئيس عشـائر (احلميرة) باملعلومات عـن حتركات القـوات الربيطاني�ة‬
‫التي كان حيصـل عليهـا مـن أخيـه األصغـر الـذي كان يعمـل مرتجمـا لـدى هـذه‬
‫القـوات‪ .‬وقـد أشـار هـو أثن�اء التحقيق معـه يف عـام ‪ 1947‬إىل األثر الـذي تركته‬
‫يف نفسـه ثـورة العشـرين وأنهـا نمت لديه حـب وطنه‪ .‬ويف دفاعـه أمام محكمة‬
‫جـزاء بغـداد يف ‪ 18‬كانـون الثـاين ‪ 1947‬قـال قولتـه املعروفـة‪:‬‬
‫«لقـد انغمـرت يف النضـال الوطني قبـل أن أكـون شـيوعيا‪ ،‬وبعـد أن‬
‫احلقيقـة مـا ينـ�ايف أو يتمايـز مـع معتقـدي‬
‫صـرت شـيوعيا‪ ،‬لـم أجـد يف ً‬
‫الوطني قبـل أن أكـون شـيوعيا وبعـد أن صـرت شـيوعيا‪ ،‬سـوى أنني‬
‫صـرت أشـعر بمسـؤولية أكبر إزاء وطني وأنـا شـيوعي»‪.‬‬

‫بعـد الثـورة‪ ،‬ظـل يتنقـل مـا بين البصـرة والناصريـة‪ .‬ويف هـذه الفترة‬
‫انكـب علـى الدراسـة الذاتيـ�ة موظفـا يف هـذا قدراتـه باللغـة اإلجنلزييـة‪ ،‬وظـل‬
‫هـذا ديدنـه طـوال حياتـه‪ .‬وكما يذكـر يف دفاعه أمـام حاكم جزاء بغـداد أنه صار‬
‫يدرس كل ما يتيسـر له من التاريخ العريب واإلسلايم السـيما تاريخ احلركات‬
‫‪155‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الوطنيـ�ة‪ ،‬ودرس االقتصـاد السـيايس والفلسـفة‪ ،‬ويت�ابـع ما تنشـره الصحافة‬


‫العربيـ�ة واألجنبيـ�ة عـن جتـارب الشـعوب‪ .‬يف عـام ‪ ،1927‬وربمـا قبلـه‪ ،‬أصبـح‬
‫شـيوعيا‪ ،‬وشـرع ينشـط للدعـوة إىل الشـيوعية‪ ،‬وكـون يف البصـرة جماعتـه‬
‫الشـيوعية كمـا الحظنا‪.‬‬
‫وانصـرف إىل دراسـة أوضـاع النـاس املحيطين بـه‪ .‬وكان مـن عادتـه أن‬
‫جيـوب املناطـق اليت حتيـط باملدين�ة اليت يسـتقر فيها‪ .‬وقد شـمل جتواله مناطق‬
‫واسـعة مـن الناصريـة والبصـرة والكويـت وعربسـتان‪ ،‬وكان يضمـن رسـائله‬
‫ومقاالتـه إىل الصحـف مشـاهداته وأحـوال الكادحين يف املناطـق التي يزورها‪،‬‬
‫وكانـت هـذه الصحـف كالشـباب والبالد واألهايل من بعد تنشـر هذه الرسـائل‬
‫باهتمـام‪ .‬يقول عبد القادر إسـماعيل‪ ،‬املدير املسـؤول جلريـده األهايل عن هذه‬
‫الرسائل‪:‬‬
‫«كانـت أخبـار الناصريـة تغـذي جريـدة األهـايل‪ ،‬وتوطـد شـعبيتها‪.‬‬
‫فكانـت تلكـم الرسـائل تعكـس أحـوال الصرائـف املهرتئـة واألزقـة‬
‫الضيقـة املغمـورة يف الطين اآلسـن وعليهـا جيـرى صبيـ�ان حفـاة عـراة‬
‫يتضـورون جوعـا‪ ...‬وتتحـدث عـن حيـاة قـرى الناصريـة وعمالهـا‬
‫وفالحيهـا كيـف يكـدون وقـد أضناهـم العمل الشـاق وسـياط اإلقطاع‬
‫تلهـب ظهورهـم وتفجـر دماءهـم‪ .‬وتتحـدث الرسـائل عـن طبقـات‬
‫الشـعب الوطنيـ�ة‪ ...‬وحتـوي الرسـال ألوانـا وأمواجـا جديـدة آنئـ�ذ عـن‬
‫‪66‬‬
‫كفـاح الفالحين‪.»...‬‬

‫ويف آذار ‪ 1930‬امتـد جتوالـه هـذا ليشـمل سـوريا ولبنـ�ان وفلسـطني‬


‫وشـريق األردن وحـاول أن ينفـذ إىل مصـر إال أنـه منـع مـن الدخـول إليهـا‪ .‬وحين‬
‫طـرق سـمعه نشـاط نـوري السـعيد لعقـد معاهـدة ‪ 1930‬مـع بريطانيـ�ا أسـرع‬
‫بالعـودة إىل العـراق ليسـهم يف النشـاط ضـد عقدهـا‪.‬‬
‫وىف الناصريـة يلتقـي يف أواخـر العشـرين�ات ببطـرس أبـو ناصـر (بطرس‬
‫شـمعون) مـن جديـد وكان هذا قد اسـتقر فيها حىت أبعده البوليـس عن العراق‬
‫يف عام ‪.1934‬‬
‫يف الناصريـة نشـط يوسـف سـلمان يوسـف لتنظيـم الشـباب الثـوري‬
‫حولـه ودفعهـم إىل العمـل اجلماهيري‪ .‬وقـد التفـت حولـه مجموعـة منهـم‬
‫ضمـت كال مـن عبـد اجلبـار حسـون جـار هللا (الـذي كان يـرأس فـرع احلـزب‬
‫الوطني العـرايق هنـاك) وأخيـه عبـد الكريـم حسـون جـار هللا‪ ،‬وعبـد الرحمـن‬
‫‪ .6‬احتاد الشعب‪ ،‬العدد الصادر بت�اريخ‪.1959/2/20 .‬‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪156‬‬

‫داود‪ ،‬وعبـد اجلبـار غفـوري‪ ،‬وحميـد مجيد دبـة‪ ،‬وعبد الوهـاب (وكان أصحابه‬
‫دعونـه باألعمى لضعـف بصـره) ويتعاطـف وإيـاه ضيـاء شـكارة املـدرس‬
‫يف ثانويـة املدينـ�ة والشـاعر طالـب فليـح‪ .‬وانضـم إىل املجموعـة مهـدي ويف‬
‫الـذي انتقـل مـن البصـرة ليفتتـح مـع يوسـف سـلمان مكتبـ�ة لبيـع الكتـب‬
‫والصحـف عـام ‪ .1929‬وقـد لعبـت هـذه املجموعـة دورا كبيرا يف حتريـك فـرع‬
‫احلـزب الوطني العـرايق ومد نفـوذه كثيرا يف املدينـ�ة وأريافها‪ .‬وبـرز دوره‪ ،‬بوجه‬
‫خـاص‪ ،‬يف اإلعـداد إىل إضـراب عـام يف الناصريـة لتأييـ�د اإلضـراب العـام الـذي‬
‫تشـنه بغـداد ضـد قانـون رسـوم البلديـات‪ .‬وكان اإلعـداد لإلضـراب جيـرى‬
‫بإشـراف يوسـف سـلمان يف ديـوان عبـد اجلبار حسـون جـار هللا‪7 7.‬وقـد أضرب‬
‫معظـم متاجـر املدينـ�ة ومقاهيهـا‪ ،‬وسـارت اجلماهير يف تظاهـرات اصطدمـت‬
‫بالشـرطة وجـرت بينهمـا مناوشـات بالعصي واحلجـارة‪ ،‬واسـتخدم البوليـس‬
‫الرصـاص لتفريـق املتظاهريـن فسـقط اثنـ�ان مـن املتظاهريـن قتلـى‪ ،‬وجـرح‬
‫آخـرون‪ .‬واعتقـل عـدد مـن املتظاهريـن وكان مـن بينهـم شـيوعيون‪ ،‬فتوالـت‬
‫برقيـات االحتجاج ونشـرت الصحـف‪ ،‬ويف مقدمتهـا جريدة (األهـايل) برقيات‬
‫االحتجـاج والتقاريـر التي كان يزودهـا بهـا يوسـف سـلمان يوسـف‪.‬‬
‫بعـد عـام‪ ،‬يف ‪ 13‬كانـون األول ‪ ،1932‬شـهدت شـوارع الناصريـة يف‬
‫مسـاء ذلـك اليـوم مناشير كتبـت علـى ورق أحمـر ويف أعالهـا شـعار (يـا عمـال‬
‫العالـم احتـدوا) وشـعار (عـاش احتـاد جمهوريـات العمـال والفالحين يف البالد‬
‫العربيـ�ة) وموقعـة بــ ‪« :‬عامـل شـيوعي» جـاء فيهـا‪:‬‬
‫«أيهـا العمـال‪ ...‬إن الشـوارع تغـص بالعاطلين عـن العمـل وليـس‬
‫لـدى نسـائهم وأطفالهـم مـا يسـد الرمـق‪ ..‬فهـل فكـرت احلكومـة يف‬
‫مسـاعدتهم يف مثـل هـذا البرد القـارس‪ .‬ال يشء مـن هـذا قـد حـدث‪.‬‬
‫فاحلكومـة ليسـت سـوى عصابـة معاديـة للشـعب‪.‬‬
‫أيهـا العمـال؛ للشـعب حقـوق ال يمكـن أن يؤمنهـا إال بالقـوة‪ .‬هـذا مـا‬
‫يعلمنـا إيـاه التاريـخ‪ ..‬ال أحـد يشـعر ببـؤس إال العامـل نفسـه وال أحـد‬
‫حيـس بأثـم اجلـوع إال اجلائـع نفسـه‪ ...‬فلمـاذا نلـوم الذين يأكلـون ثمار‬
‫عملنا‪ ،‬وحنن الذين نشـجعهم على نهبها؟ ال خيدعكم اسـم هذا أو ذاك‬
‫ألنـه مـن األعيـان أو األغنيـ�اء أو ألنـه مـن عائلـة كبيرة‪ ...‬إن كل الرذائـل‬
‫تـأيت مـن العوائـل الكبيرة التي يزعـم أنهـا شـريفة‪ ،‬بينمـا ال شـرف إال يف‬
‫العمـل وليـس الشـريف إال العامـل والفلاح‪.‬‬
‫أيهـا الرفـاق؟ كونـوا شـجعانا؟ إننـ�ا نن�اضـل مـن أجـل كرامتنـ�ا وحياتنـ�ا‬
‫ومـن اجـل خير األجيـال القادمـة‪.‬‬

‫‪ .7‬عبد الكرم حسني جار هللا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.68‬‬


‫‪157‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫فـإىل األمـام أيهـا العمـال‪ ..‬إىل األمـام يف سـبي�ل العمـل املثمـر واحلريـة‬
‫‪88‬‬
‫والرفـاه؟ عامـل شـيوعي»‪.‬‬

‫وقـد أثار توزيع البي�ان ضجة واسـعة يف املدينـ�ة‪ ،‬ويف الليلة التالية عادت‬
‫البي�انـات احلمـراء إىل الظهـور ثانيـ�ة‪ ..‬فهرعت قـوات البوليـس ملداهمة بعض‬
‫الـدور واعتقـال أعضـاء الهيئـ�ة اإلداريـة لفـرع احلـزب الوطين العـرايق وغريهم‬
‫مـن العناصـر املعروفـة بنشـاطها السـيايس‪ ،‬إذ كانـت حتسـب أن فـرع احلـزب‬
‫الوطني هـو وراء هـذه البي�انـات‪ ،‬وكان مـن بين املعتقلين ضياء شـكارة وسـليم‬
‫احلريـري ومحمـد حسـن القطيفـي ويوسـف جربائيـ�ل الصيـديل واملحـايم‬
‫حسين حداد‪.‬‬
‫لكـن الشـيوعيني واصلـوا‪ ،‬كمـا يـروي عبـد الكريـم جـار هللا ‪ ،9 9‬توزيـع‬
‫منشـوراتهم ولكـن‪ ،‬هـذه املـرة علـى احلشـود التي كانـت تقـف يف محطـات‬
‫القطـار الصاعـد لتلتحـق بمواكـب عـزاء احلسين املتجهـة إىل كربلاء‪ ،‬وقـد‬
‫وزعـت يف محطـة قطـار السـماوة والديوانيـ�ة وكربلاء‪ ،‬وكانـوا خيفونهـا يف أحـد‬
‫القـدور الكبيرة املوضوعـة يف عربة األمتعـة واملعدة للطبخ حين تصل املواكب‬
‫إىل كربلاء‪.‬‬
‫وظهـرت بي�انـات أخـرى يف الناصريـة‪ ،‬وازدادت الدعايـة الشـيوعية يف‬
‫املدينـ�ة وتن�اقلـت األيـدي الرتجمـة العربيـ�ة لــ «البيـ�ان الشـيوعي» لماركـس‬
‫وأجنلـز‪ .‬لقـد أثـار النشـاط الشـيوعي سـلطات املدينـ�ة وظلـت حتسـب أن وراء‬
‫هـذا النشـاط فـرع احلـزب الوطني العـرايق‪ ،‬لذلـك بـادرت يف ‪ 21‬شـباط ‪1933‬‬
‫إىل اعتقـال رئيـس الفـرع‪ ،‬عبد اجلبار حسـون جار هللا وعدد مـن أعضاء هيئت�ه‬
‫اإلداريـة والنشـطاء فيـه وكان مـن بين املعتقلين يوسـف سـلمان يوسـف‪.‬‬
‫وشـنت حملـة واسـعة إلجبـار أعضـاء احلـزب الوطني علـى االسـتقالة منـه‪.‬‬
‫وقـد تصاعـدت حملـة االحتجـاج إلطلاق سـراح املعتقلين فيرىم احلـزب‬
‫الوطني العـرايق ومعتمـده العـام جعفـر أبـو التمـن بـكل ثقلـه لهـذا الغـرض‪.‬‬
‫ونشـطت جريـدة األهـايل والصحـف الوطنيـ�ة األخـرى إىل نشـر االحتجاجـات‬
‫والتن�ديـد باإلجـراء احلكـويم‪ .‬فاضطـر متصـرف اللـواء (أي املحافـظ) إىل‬
‫إطلاق سـراح بعضهـم‪ ،‬واسـتثىن منهـم يوسـف سـلمان يوسـف وعبـد اجلبـار‬
‫حسـون جـار هللا وآخريـن‪ .‬ويف التحقيق‪ ،‬وأمام املتصرف‪ ،‬أصر يوسـف سـلمان‬

‫‪ .8‬نقــا عــن النــص اإلجنلــزي لبطاطــو (ص ‪ ،)428‬أمــا النــص األصلــي فمحفــوظ لــدى‬
‫البوليــس يف اإلضبــارة رقــم ‪ 1058‬وتاريــخ ‪ 14‬كانــون األول ‪.1932‬‬
‫‪ .9‬عبد الكريم حسون جار هللا‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.83‬‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪158‬‬

‫يوسـف أنـه ليـس مـن احلـزب الوطني العـرايق وإنمـا هـو شـيوعي‪ ،‬مـن احلزب‬
‫الشـيوعي العـرايق‪ ،‬وأنـه مؤمـن بمبادئـه الشـيوعية وراح حياضـر يف املحققين‬
‫عـن الشـيوعية وانقسـام املجتمع بني رأسـماليني مسـتغلني وجماهير كادحة‪.‬‬
‫كمـا تقـول تقاريـر البوليـس‪ ،‬فأحيـل املوقوفين إىل املحاكمـة بتهمـة التبشير‬
‫بالشـيوعية‪ ،‬ويجء مـن بغـداد بموقوفين آخريـن لنفـس الغـرض وهـم‪ :‬أحمـد‬
‫جمـال الديـن وعبـد احلميـد اخلطيـب‪ .‬ويف املحكمـة دافـع يوسـف سـلمان‬
‫يوسـف عـن الشـيوعية‪ ،‬إال أن احلاكـم عبـود الشـاليج‪ ،‬وكان رجلا وطنيـ�ا‬
‫مشـهودا لـه بالزناهـة ‪ ،10 10‬أفـرج عـن املتهمين وبضمنهم يوسـف سـلمان‪ ،‬إذ لم‬
‫جيـد يف قانـون العقوبـات البغـدادي مـا حيـرم الشـيوعية‪ .‬وقد سـارع يوسـف إىل‬
‫االختفـاء فـور اإلفـراج عنـه واالنتقـال إىل بغـداد‪.‬‬
‫وكان مـن أثـر تصاعـد العمـل الشـيوعي يف الناصريـة ومـا دار حـول‬
‫املحاكمـات مـن أحاديـث أن امتـد النشـاط الشـيوعي مـع نهـر الفـرات إىل‬
‫الشـمال‪ ،‬ووجـد الشـيوعيون يف كل من السـماوة والديواني�ة مواقـع أقدام لهم‪.‬‬
‫ويـروى علـى محمـد الشـبييب‪ ،‬وهومـن مناضلـي النجـف املعروفين‪،‬‬
‫أن مجموعـة مـن شـباب النجـف كونـوا يف عـام ‪ 1930‬جماعـة عرفـت باسـم‬
‫(العاصفـة احلمـراء)‪ ،‬وقـد ضمـت إىل جانبـ�ه كال من هادي اجلبـوري ومرتىض‬
‫فـرج هللا‪ ،‬وكان يتصـل بهـا ويزودهـا بالكراسـات االشتراكية والشـيوعية مـن‬
‫بغـداد كل مـن أحمـد جمـال الديـن وصـادق كمونـة‪ ،‬وكان لهـذه املجموعـة‬
‫عالقـات بيوسـف إسـماعيل وعبـد القـادر إسـماعيل وتصلهـا منهمـا األدبي�ات‬
‫الشـيوعية رغـم أنهـا كانـت تركـز أكثر علـى األدب‪.‬‬
‫رغـم أن بغـداد كانـت هـي السـباقة إىل التعـرف علـى الفكـر االشتراكي‪،‬‬
‫والماركسي منـه حتديـدا‪ ،‬كمـا رأينـ�ا مـن قبـل‪ ،‬إال أن النشـاط لرتويـج وتنظيـم‬
‫الشـيوعية قـد تأخـر فيها عن مثيلـه يف الناصريـة والبصرة‪ ،‬وربما يعـود هذا إىل‬
‫فقدانهـا العنصـر الدينـ�ايم النشـيط ذي االحتـكاك الفعـال بأوسـاط العمـال‬
‫والكادحين الـذي يمكنـه أن يسـتقطب حولـه الشـباب الثـوري علـى غـرار مـا‬
‫حـدث يف البصـرة والناصرية‪ .‬ومع أن العناصر الماركسـية مـن جماعة الرحال‬
‫ظلـت تواصـل نشـاطها‪ ،‬ولـم تبخـل يف تقديـم معارفهـا للمنظمـات العماليـة‬
‫النقابي�ة‪ ،‬وظلت نقاشـاتهم نشـطة يف الصحافة وحتتفظ حبماستها وحيويتها‪،‬‬
‫والشـباب الثـوري الـذي أخـذ يربز مـن بني الطلاب حيتك بهم وحيث عن سـبل‬
‫مجديـة يف العمـل السـيايس‪ ،‬وأظهـر اسـتعداده للعمـل وتقديـم التضحيات يف‬
‫أكثر مـن مناسـبة‪ ،‬إال أن اخلطوة التي كان ينبغي أن تتم‪ ،‬وهـي تنظيم العناصر‬
‫‪ .10‬ظــل عبــود الشــاليج حيتفــظ بموقفــه الوطــي وبفكــره التقــديم‪ ،‬وقــد أصبــح يف‬
‫األربعينــ�ات مــن قــادة احلــزب الوطــي الديمقراطــي‪.‬‬
‫‪159‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫املبعثرة يف منظمـة جهاديـة مهيـأة للعمـل الثـوري يف اللحظـات التي تتطلـب‬


‫العمـل‪ ،‬لـم تتـم‪ ،‬وظلـت العناصـر الشـيوعية تعمل بشـكل فردي‪.‬‬
‫ومـع ذلـك‪ ،‬كان البـد للحيـاة أن تأخـذ مسـارها‪ .‬إذ مالـت العناصـر‬
‫الشـيوعية إىل التعـارف مـع بعضهـا وسـارت باجتـاه تكويـن هـذه املنظمـة‬
‫الواحـدة‪ .‬هنـا ينبغـي أن نتوقـف عنـد حقيقـة معينـ�ة غابت عـن الذيـن تن�اولوا‬
‫تطـور النشـاط الشـيوعي يف بغـداد يف السني الثلاث التي سـبقت تأسـيس‬
‫احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ .‬هـذه احلقيقة يستشـفها املرء من مذكرات حسـن‬
‫عبـاس |لكربـاس ‪ 11 11‬أحـد مؤسسي احلـزب الشـيوعي العرايق‪ .‬يتضـح من هذه‬
‫املذكـرات أن اللولـب الـذي كان يعـرف العناصـر الشـيوعية األوىل يف بغـداد‬
‫ويربطهـا ببعضهـا كان يوسـف سـلمان يوسـف بالـذات‪ .‬يـروى حسـن عبـاس‬
‫أن يوسـف سـلمان هـو الـذي عرفه وعـرف عبد الرحمـن داود (وهـو من عناصر‬
‫الناصريـة كمـا رأين�ا سـابقا وكان يدرس يف مدرسـة الصنائع ومـن خالله تعرف‬
‫حسـن الكربـاس بيوسـف) بقاسـم حسـن وجبميـل تومـا وبنـوري روفائيـ�ل‬
‫وبمهـدي هاشـم وبمـوىس حبيب‪ .‬ويبـ�دو أن انتقاله إىل بغداد بعـد أن أفرج عنه‬
‫يف الناصريـة وتعـذر اختفائـه طويلا يف الناصريـة‪ ،‬البلـدة الصغيرة‪ ،‬قـد سـهل‬
‫عليـه مهمـة تعريـف العناصـر ببعضها‪ ،‬ودفعهـا أو حتفزيها لكـي ختطو اخلطوة‬
‫املنشـودة وهـي إجياد املنظمـة املوحدة املطلوبـة‪ .‬وقد اقرتن سـعيه هذا بظروف‬
‫موضوعيـة مواتيـ�ة سـنأيت علـى ذكرهـا مـن بعـد‪.‬‬
‫يف مقدمـة العناصـر الشـيوعية يف بغـداد يـأيت عاصـم فليـح‪ .‬عرفنـا قبال‬
‫أن عاصـم كان قـد انضـم إىل نـادي التضامـن وكان يعمـل كذلـك يف صفـوف‬
‫احلـزب الوطني العـرايق‪ ،‬وكان يسـكن يح (بـاب الشـيخ) وهو ذات الحي الذي‬
‫سـكنه محمود أحمد السـيد وعبد القادر إسـماعيل وقاسم حسـن‪ .‬كان عاصم‬
‫مـن مواليـد ‪ 1905‬شـابا رقيقـا يمتهـن اخلياطـة ويكتـب القصـة‪ ،‬متكتمـا‬
‫ومتحفظـا كمـا يصفه حسـن الكربـاس يف مذكراته‪ ،‬ويقول عنه حسين جميل‬
‫إنـه «بعمرنـا أو يكبرين بسـنة أو اثنني‪ ،‬وكان متحـرر الفكر واجتاهاتـه قريب�ة من‬
‫تفكرينـا وبمفاهيـم ذلـك الوقـت نسـميه (تقدميا)‪ ،‬وكانـت اجتاهاتــه طيب�ة»‪.‬‬
‫‪ 12 12‬ويذكـر بطاطـو يف اجلـدول (‪ )4-1‬أن عاصـم تلقـى أفـكاره الشـيوعية عـن‬
‫«هايـك أغوبيـ�ان املعـروف بكوميكـوف يف عـام ‪ .»1928‬لكننـ�ا لم نعثر يف املنت‬
‫علـى توضيـح لـدور آغوبيـ�ان هـذا‪ ،‬وإن كان يرجـع املصـادر التي اسـتقت منهـا‬
‫مجموعـة عاصـم فليـح يف بغـداد إىل (اجلامعـة الشـيوعية لـكاديح الشـرق)‬
‫‪ .11‬املذكــرات التــزال مخطوطــة وهــي بعنــوان (ســر نضاليــة) وقــد وضعهــا يف تشــرين‬
‫الثــاين ‪ ٠ 1982‬وقــد أهداهــا إىل األرشــيف احلــزيب مشــفوعة بتحياتــه احلــارة‪.‬‬
‫‪ .12‬الثقافة اجلديدة‪ ،‬بواكري احلركة الوطني�ة‪ ،‬العدد ‪ ،111‬تشرين الثاىن‪1978 ،‬‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪160‬‬

‫يف موسـكو‪ ،‬و(الرابطـة ضـد اإلمربياليـة)‪ ،‬و(جلنـة بيروت الشـيوعية) (انظـر‬


‫ص ‪ 62‬و ‪ 64‬مـن الكتـاب الثـاين‪ ،‬الطبعـة العربيـ�ة)‪ .‬اإلشـارة إىل جامعـة‬
‫كاديح الشـرق مفهومـة ألن عاصـم قـد درس فيهـا‪ ،‬واإلشـارة إىل الرابطـة ضـد‬
‫اإلمربياليـة مفهومـة هـي األخـرى إذ كان عاصـم يرتاسـل معهـا يف عـام ‪،1928‬‬
‫ولكـن مـا هـو غير مفهـوم دور جلنـة بيروت الشـيوعية‪ .‬إن حسين جميـل يف‬
‫لقائـه مـع (الثقافـة اجلديـدة) ‪13 13‬يذكـر أنـه قـد عـرض عليـه فـؤاد الشـمايل‪،‬‬
‫أمين عـام احلـزب الشـيوعي اللبنـ�اين‪ ،‬حين التقـاه يف عـام ‪ ،1931‬السـفر إىل‬
‫موسـكو للدراسـة يف مدرسـة كاديح الشـرق‪ ،‬لكنه اعتذر إذ كان يدرس احلقوق‬
‫يف دمشـق‪ ،‬ورشـح لـه لـذات الغـرض عاصـم فليـح‪ .‬وقـد وافـق فـؤاد الشـمايل‬
‫علـى الفكـرة واتصل بعاصم ودبر أمر سـفره إىل موسـكو وسـافر بالفعل يف ذلك‬
‫العـام وظـل يـدرس فيها حىت نهاية صيـف ‪ 1934‬حني عاد ليرأس املجموعات‬
‫الشـيوعية التي احتـدت فيمـا بينهـا وكونـت (جلنـة مكافحـة االسـتعمار) لكن‬
‫هـذا كلـه قـد جـرى يف وقـت تـال‪ .‬ويف مذكـرات القائـد الشـيوعي اللبنـ�اين آرتني‬
‫مادويـان ‪ ، 14 14‬الـذي كان علـى رأس النشـاط لتأسـيس املنظمـة الشـيوعية‬
‫األرمنيـ�ة يف لبنـ�ان املعروفـة باسـم (سـبارتاك)‪ ،‬وتـرأس كذلـك عمليـة توحيـد‬
‫املنظمـة املذكـورة مـع احلـزب الشـيوعي اللبنـ�اين السـوري وأصبـح عضـوا‬
‫يف جلنـة بيروت املركزيـة‪ ،‬ال نعثر علـى أثـر لهـذا الـذي يدعـوه بطاطـو هايـك‬
‫أغوبيـ�ان‪ .‬ربمـا يكـون قـد وجـد رفيـق أرمني بهـذا االسـم‪ .‬لكـن املؤلـف ال يشير‪،‬‬
‫علـى خلاف عادته لألسـف‪ ،‬إىل املصـدر الذي اسـتقى منه هـذه املعلومة‪ .‬على‬
‫أيـة حـال‪ ،‬إن سـكناه يف بـاب الشـيخ قريبـ�ا مـن شـيوعيني أو يسـاريني آخرين‪،‬‬
‫وتـردد بعـض أصحابـه اليسـاريني علـى محـل خياطتـه‪ ،‬وعالقتـه بالصحـف‬
‫املعروفـة خبطهـا اليسـاري إذ كان ينشـر فيهـا مـا يضعـه مـن قصـص‪ ،‬وتنشـر‬
‫إعالنـات عـن محـل خياطتـه‪ ..‬كل هـذه قـد سـاعدته يف التعـرف علـى الفكـر‬
‫الشـيوعي ويغـدو شـيوعيا‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬فإن اإلشـارة إىل هايك آغوبيـ�ان تضعنا‬
‫أمـام مسـألة أخـرى‪ .‬يتحـدث آرتين مادويـان عـن فـروع منظمـة سـبارتاك‬
‫الشـيوعية األرمني�ة ويشير إىل أن املنظمة افتتحت لها فرعا يف املوصل بمبادرة‬
‫مـن هايكـزون كاسـكاني�ان وباشتراك خمسـة أعضـاء‪ ،‬وإن كان كاسـكاني�ان هذا‬
‫«قد سـاهم الحقا يف مسـاعدة احلزب الشـيوعي العرايق» دون أن يتحدث عن‬
‫طبيعـة هـذه املسـاعدة ومتى تمـت‪.‬‬
‫وقريبـ�ا مـن مسـكن عاصـم فليـح يف بـاب الشـيخ‪ ،‬كان يسـكن قاسـم‬
‫حسـن‪ ،‬الشـاب الـذي كان يدرس احلقـوق يف مطلع الثالثين�ات‪ ،‬وقد مر اسـمه‬

‫‪ .13‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪ .14‬أرتني مادويان‪ ،‬حياة على املرتاس‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪ ،1986 ،‬ص ‪.45‬‬
‫‪161‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫كمـا رأينـ�ا يف محاكمـات الناصريـة‪ ،‬وهنـاك التقى بيوسـف سـلمان‪ .‬وقد عرف‬
‫بـرده علـى كراس عبد الفتاح ابراهيم حول (الشـعبي�ة) والـذي احتوى الربنامج‬
‫الـذي طرحـه أصحـاب جريـدة (األهـايل) للتعريـف بأهدافهـم‪ ،‬وأصبـح الـرد‬
‫يعـرف بـرد الشـيوعيون علـى الشـعبيني‪ .‬وكان لبـق احلديث‪.‬‬
‫ويلتقـي بهـؤالء جميـل تومـا‪ ،‬املهندس الـذي عاد مـن أمريكا عـام ‪1932‬‬
‫وهـو يعتنـق الشـيوعية‪ .‬بـدأت عالقـة جميـل تومـا بالفكـر االشتراكي يف فترة‬
‫مبكـرة يف املوصـل أيـام كان يـدرس يف ثانويـة الهندسـة علـى يـد أسـتاذ لبنـ�اين‬
‫كان يـدرس فيهـا يدعـى عبـد هللا احلاج‪ ،‬ورايلي األسـتاذ األسترايل الذي أشـرنا‬
‫إليـه سـابقا‪ .‬ويف عـام ‪ 1924‬سـافر إىل بيروت يف بعثـة دراسـية وهنـاك تعـزز‬
‫احنيـازه إىل الفكـر االشتراكي‪ ،‬وواصـل دراسـته العليـا يف أمريـكا‪ .‬وبعـد عامين‬
‫عـاد إىل العـراق ليعمـل يف سـكك احلديـد‪ .‬وخلال عامين قضاهمـا يف السـكك‬
‫توطـدت عالقاتـه بالعمـال النقابيين وبمحمـد صالح القـزاز بوجه خـاص‪ .‬ثم‬
‫عـاد مـرة أخـرى إىل أمريـكا‪ ،‬وكان يرتدد على مدرسـة أسسـها احلزب الشـيوعي‬
‫األمريكـي تدعـى مدرسـة العمـال ‪ ،Workers School‬ويف هـذه املـرة احنـاز كليـة‬
‫للشـيوعية‪ .‬وحين عـاد ليعمل يف سـكك احلديد مـن جديد أفاد مـن عمله ومن‬
‫تنقلـه بين بغـداد والبصـرة لتوطيـد عالقـات الشـيوعيني يف بغـداد برفاقهم يف‬
‫البصـرة والناصريـة مـن خالل يوسـف سـلمان يوسـف‪.‬‬
‫وإىل جانـب جميـل توما كان هناك نوري روفائي�ل وكان قد عاد من أمريكا‬
‫هـو اآلخـر حاملا معـه أفـكار الشـيوعية‪ ،‬وينضـم إىل النشـاط الشـيوعي الذي‬
‫كان يمارسـه جميـل تومـا‪ .‬والتقـى بيوسـف سـلمان يوسـف يف كـراج لتصليـح‬
‫السـيارات علـى شـارع الكيلاين كان يملكـه أحـد أقـارب نـوري‪ ،‬وقـد حتـول هـذا‬
‫الكـراج إىل ما يشـبه املنت�دى الذي يلتقي فيه الشـيوعيني ومـن بني الذين كانوا‬
‫يترددون علـى (الكراج) يوسـف إسـماعيل وكان صديقـا لنوري روفائيـ�ل‪ ،‬وأخا‬
‫لعبـد القـادر إسـماعيل‪ ،‬وكان إذاك الزال يدرس القانـون يف كلية احلقوق‪ .‬وكان‬
‫ميـاال للحديـث‪ ،‬واحلديـث النظـري بوجـه خـاص‪ .‬ويلتقـي مع هؤالء عـدد أخر‬
‫مـن الشـيوعيني‪ :‬مهـدي هاشـم‪ ،‬عامـل الالسـلكي يف (نقـرة السـلمان)‪ ،‬وكان‬
‫يلتقـي بيوسـف سـلمان يف الناصريـة؛ وأخـوه هـادي هاشـم‪ ،‬معلـم ابت�دائيـ�ة يف‬
‫بغـداد‪ ،‬وقـد قبـض عليـه يف عـام ‪ 1935‬وأبعـد إىل إيـران‪ ،‬وهـو غري هادي هاشـم‬
‫األعظمي الـذي كان عضـوا يف املكتب السـيايس للحـزب وانهار عـام ‪ 1963‬بعد‬
‫انقلاب شـباط وتعـاون مـع االنقالبين يف مطاردة الشـيوعيني؛ وعبـد الرحمن‬
‫داود الطالب يف مدرسـة الصناعة‪ ،‬وهومن الناصرية وصديق يوسـف سـلمان‬
‫ومـن الذيـن عملـوا معه هنـاك؛ وإىل جانـب هـؤالء كان هناك زكى خيرى‪ ،‬وكان‬
‫ينشـط يف نـادى التضامـن ومـن بين الشـباب الذين قـادوا مظاهـرات الطالب‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪162‬‬

‫يف أواخـر العشـرين�ات؛ وحسـن عبـاس الكربـاس القـادم من النجـف والطالب‬


‫املتحمـس مـن مدرسـة الصناعـة؛ ومعلـم اللغـة اإلجنلزييـة مـوىس حبيـب‪،‬‬
‫ويوسـف متي‪ ،‬وتلتف حول هؤالء دائرة أخرى‪ ،‬أوسـع‪ ،‬مـن معارفهم وأقربائهم‬
‫‪15 15‬‬
‫مـن الشـباب الثـوري الـذي يتعاطـف وإياهـم يف نشـاطهم وأفكارهـا‪.‬‬
‫لقـد بـدا هـؤالء الشـباب أكثر تصميمـا علـى السير يف طريـق النضـال‬
‫الشـيوعي مـن أسلافهم‪ ،‬وبدا أيضا‪ ،‬أنهم يعون تبعات السير يف هـذا الطريق‪.‬‬
‫لقـد بـات هؤالء يدركـون أن النظرية الماركسـية اليت يؤمنون بها سلاح للعمل‬
‫وليـس للتأمـل أويف أفضـل احلـاالت مـادة للمسـاجالت الصحفيـة‪ .‬كمـا بـدا‬
‫أنهـم أميـل إىل توحيـد قواهـم‪ ،‬ومـع مـرور الزمـن بـدأت أعـداد منهـم يف هـذه‬
‫املدينـ�ة أو تلـك تعمـل كمجموعـة مرتابطـة‪ .‬وكانـت أوضـاع البلاد السياسـية‬
‫واالجتماعيـة تدفـع بهـم حنـو هـدف واحـد وهـو االحتـاد يف منظمة واحـدة تعمل‬
‫لتوجيـه اجلماهير‪.‬‬
‫كانـت البلاد قـد اجنـرت إىل األزمـة االقتصاديـة التي عمـت معظـم‬
‫البلـدان الرأسـمالية منـذ ‪ 1929‬حبكـم انسـداد االقتصـاد العـرايق عبر التصدير‬
‫واالسـترياد باالقتصـاد الرأسـمايل الربيطـاين بالدرجـة األوىل‪ .‬بيـ�د أن الضربـات‬
‫التي حلقـت بـه كانت قاسـية حقـا‪ ،‬إذ كان العراق بلـدا فقريا ال يملك مـن املوارد‬
‫سـوى مـا تعود بـه جتارة تصديـر املنتجـات الزراعيـة‪ ،‬النب�اتيـ�ة واحليوانيـ�ة‪ ،‬وما‬
‫تـدره جتـارة الترا نسـيت‪ .‬لقـد جـر االخنفـاض احلـاد يف الطلـب اخلـاريج علـى‬
‫‪16 16‬‬
‫منتجـات العـراق هـذه إىل اخنفـاض حاد مقابـل يف أسـعار املنتجـات الزراعية‪.‬‬
‫وقـد لعبـت االحتـكارات الربيطانيـ�ة التي تهيمـن على جتـارة التصديـر دورها يف‬
‫تدهـور األسـعار يف داخـل العـراق حتى بالقيـاس إىل أسـعارها يف أسـواق لنـدن‪.‬‬
‫ففيمـا كان يبـ�اع الطغـار (طنين) الواحد من الشـعري يف أسـواق لنـدن يومذاك‬
‫‪ .15‬أصبحــت مدرســة الصناعــة واحــدة مــن مراكــز النشــاط الشــيوعي قبــل وبعــد‬
‫تأســيس احلــزب‪ .‬وقــد أسســت يف العشــرين�ات إلعــداد أيــد عاملــة ماهــرة‪ .‬كان مــن مجمــوع‬
‫طالبهــا البالــغ عددهــم ‪ 80‬طالبــا ‪ 17‬طالبــا منهــم يعتنــق الشــيوعية أو يتعاطــف معهــا‪،‬‬
‫مــن بينهــم حســن عبــاس الكربــاس أحــد مؤســي احلــزب وعبــد الرحمــن داود أول طبــاع‬
‫للحــزب وفــداء شــفيق وزكــي ســعيد وقــد نشــط الثالثــة لتكويــن مركــز شــيوعي يف ثكنــة‬
‫(الكرنتينــ�ة) العســكرية يف النصــف الثــاين مــن الثالثينــ�ات‪ ،‬وفيهــا اعتنــق الشــيوعية يف‬
‫منتصــف الثالثينــ�ات الشــيوعي املعــروف يعقــوب مصــري‪.‬‬
‫‪ .16‬فــاذا كانــت األرقــام القياســية ألســعار صــادرات املنتجــات النب�اتيــ�ة ‪%163.4‬‬
‫و‪ %146.3‬و ‪ %168.3‬للســنوات ‪1927‬و ‪ 1928‬و ‪ 1929‬علــى التــوايل (قياســا إىل ســنة‬
‫األســاس ‪ )1938‬فإنهــا يف عــام ‪1930‬و ‪ 1931‬و ‪ 1932‬و‪ 1933‬بلغــت علــى التــوايل‪:‬‬
‫‪ %83.8‬و ‪ %87.8‬و ‪ %98.7‬و ‪ %90.2‬أنظــر محمــد ســلمان حســن‪ ،‬التطــور االقتصــادي‬
‫يف العــراق‪ ،‬امللحــق اإلحصــايئ‪ ،‬ص ‪.603 ،602‬‬
‫‪163‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪17 17‬‬
‫(‪ )1930‬بمـا يعـادل ‪ 120‬روبيـ�ة‪ ،‬كان يبـ�اع يف العـراق بثلـث قيمتـه فقـط‪.‬‬
‫ويف عـام ‪ 1928‬جلـأ منتجـو التمـور إىل إتالفهـا بـدال مـن بيعهـا باألسـعار التي‬
‫يعرضهـا جتـار التصديـر (وأغلبهـم وأكربهـم كان مـن األجانـب)‪ ،‬بـل ورفـض‬
‫‪18 18‬‬
‫املصـدرون قبـول التمـور مـن املنتجين ألدىن سـبب خلال الثالثينـ�ات‪.‬‬
‫وقـد جنـم عـن هـذا تدهـور احليـاة املعاشـية للكادحين يف املدينـ�ة والريـف على‬
‫السـواء‪ .‬وجـاءت تشـريعات احلكومـة وإجراءاتهـا لزتيـد يف الطين بلـة‪ .‬ففـي‬
‫عـام ‪ 1932‬صـدر قانـون تسـوية حقـوق األرايض رقـم ‪ 50‬وقانـون اللزمـة رقـم‬
‫‪ 51‬لسـنة ‪ 1932‬وقانون حقوق وواجبات الزراع رقم ‪ 28‬لسـنة ‪ ،1933‬وكانت‬
‫قـد صـدرت قبلهـا قوانين أخـرى مكنـت أثريـاء املـدن من وضـع اليد علـى كثري‬
‫مـن األرايض الزراعية باسـم تطوير الزراعة ونصـب املضخات‪ .‬وكانت حصيلة‬
‫كل هـذه القوانين أن جـرد الفلاح من حـق التصرف بـاألرض وتمليك الشـيوخ‬
‫ووجهـاء املـدن وأثريائهـا ورجـاالت احلكـم املقاطعـات الواسـعة مـن األرض‪،‬‬
‫وإجبـار الفالحين علـى زراعتهـا وفـق مـا يشـاءون‪ .‬وخرجـت احلكومـة علـى‬
‫الكسـبة واحلرفيين بقانـون رسـوم البلديـة لسـنة ‪ 1931‬الـذي فـرض أعبـاء‬
‫ماليـة علـى جميـع فئـات الشـغيلة يف املـدن بمـن فيهـم احلمالين وصباغـي‬
‫األحذيـة والباعـة املتجولين وأمثالهـم‪ .‬وشـنت املؤسسـات الصناعيـة‪،‬‬
‫األجنبيـ�ة أوال كالسـكك والنفـط واملينـ�اء وتلتهـا الشـركات األهليـة‪ ،‬حملـة‬
‫واسـعة لتقليـص العاملين وخفـض أجورهم وتقليـص يوم العمـل‪ ،‬مما احلق‬
‫أضـرارا فادحـة بـكاديح املـدن‪ .‬وقد عمـت اآلثار السـيئ�ة لإلجـراءات احلكومية‬
‫وسياسـاتها االقتصاديـة لتشـمل فئـات السـكان األخـرى أيضـا‪.‬‬
‫وعلـى الصعيـد السـيايس‪ ،‬أقـدم نـوري السـعيد‪ ،‬رئيـس الـوزراء آنـذاك‪،‬‬
‫وباسـم إنهـاء االنتـ�داب ودخـول العـراق (عصبـة األمـم) علـى ربـط البلاد اليت‬
‫صـار يزعم أنها غدت مسـتقلة اسـتقالال تامـا‪ ،‬بمعاهدة جائـرة تعطى بريطاني�ا‬
‫مجموعة من االمتي�ازات العسـكرية والسياسـية والمالية وغريها هي معاهدة‬
‫‪.1930‬‬
‫لقـد ظن املسـتعمرون الربيطانيون وأعوانهـم يف العراق أنهم قد وفقوا يف‬
‫إجيـاد الوضع السـيايس املناسـب يف البلاد على النحو الذي يضمـن لهم وللفئة‬
‫احلاكمـة املكاسـب التي يبتغونهـا‪ .‬وكانـت حسـاباتهم تقـوم علـى أسـاس أن‬
‫البلاد لـم تعـد قادرة علـى أن تفـرز معارضة جدية للوضـع الذي نشـأ‪ .‬إذ يمكن‬

‫‪ .17‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬صفحــات مــن تاريــخ العــراق املعاصــر‪ ،‬منشــورات مكتبــ�ة‬
‫البدليــي ‪ ،1987‬ص ‪ ،98‬نقــا عــن جريــدة العالــم العــريب‪ ،‬العــدد الصــادر يف ‪ 21‬حزيــران‬
‫‪.1930‬‬
‫‪ .18‬محمد سلمان حسن‪ ،‬املصدر السابق ص ‪.141‬‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪164‬‬

‫أن يكسـب إىل صـف الوضـع القائـم أي عنصـر يبـ�دي معارضـة رسـمية سـواء‬
‫بمنحـه األرض أو املوقـع الـوزاري أو كـريس الني�ابـة أو عضويـة مجلـس األعيان‬
‫أو إحلاقـه جبهـاز الدولـة البريوقراطـي يف منصـب كبير (مدير عـام أو متصرف)‬
‫أمـا املعارضـة غير الرسـمية فيتكفلها القمـع‪ .‬ولم تكـن هذه احلسـابات خالية‬
‫مـن أسـاس‪ .‬فحىت أقصى املعارضني يف احلزبني الرئيسـيني للمعارضة؛ اإلخاء‬
‫الوطني والوطني العـرايق راح يبـ�دى اسـتعداده لقبـول قواعـد اللعبـة لـم يشـذ‬
‫عنهـم سـوى معـارض واحـد هـو أبـو التمـن‪ ،‬لكـن هـذا بعـد أن ختـاذل أصحابـه‬
‫أثـر االنسـحاب من العمل السـيايس واكتفـى بهذا احتجاجا علـى الوضع‪ ،‬وكان‬
‫هـذا بالـذات هو ما يريده املسـتعمرون‪ .‬وهكـذا باتت اجلماهري السـاخطة دون‬
‫إطـار سـيايس جيمعهـا وينظمها ويدفع بها إىل سـاحة املعارك السياسـية‪ .‬وكان‬
‫الشـيوعيون الذيـن اختـذوا مـن احلزب الوطني إطـارا لتحركهم من أكثر الذين‬
‫تضـرروا بهـذا األمر‪.‬‬
‫لكـن مـا أخطـأ احلـكام يف حسـابه هـو أن هـذه اجلماهير التي شـرعت‬
‫ختـوض غمـار املعـارك اجلماهرييـة الواسـعة باتـت تعطيهـا جناحاتهـا األوليـة‬
‫الثقـة أكثر فأكثر بقدرتهـا علـى املنازلـة فتن�دفـع إىل العمـل‪.‬‬
‫تميزت تلكـم السـنوات بنشـاط جماهيري واسـع‪ .‬وقـد بـدا أن هـذا‬
‫النشـاط أخذ بالتوسـع‪ ،‬وتشـارك فيه قوى جديدة هي غري القوى اليت خاضت‬
‫ثـورة العشـرين ومـا تالهـا مـن معـارك سياسـية يف أوائـل العشـرين�ات‪ .‬يف عـام‬
‫‪ 1927‬وإثـر فسـخ عقـد املدرس اللبنـ�اين أنيس النصـويل وإبعاده عـن البالد إثر‬
‫تأليفـه ونشـره كتابـا لـم يراع فيـه الواقـع املذهيب يف البالد وعد مسـا بالشـيعة‪،‬‬
‫وبـدال مـن الـرد عليـه ردا ديمقراطيـا وتفنيـ�د أفـكاره املتحيزة‪ ،‬عمـد مـن بي�دهم‬
‫مقاليـد األمـور إىل فصلـه عـن العمـل وإبعـاده مخفـورا عن العـراق‪ .‬هنـا ين�دفع‬
‫طالبه يف املدرسـة الثانوية إىل التظاهر احتجاجا على األسـلوب الالديمقراطي‬
‫يف التعامـل مـع املـدرس النصويل ويف سـبي�ل “احلرية الفكريـة” وكان يف مقدمة‬
‫الذيـن تظاهـروا طالبـه من الشـيعة‪ ،‬واصطـدم الطلبـة بالبوليس‪.‬‬
‫كانت تلك أول املعارك‪ ..‬مطلبها جديد تماما على السياسـة يف العراق‪..‬‬
‫«احلريـة الفكريـة»‪ ،‬والقائمـون بهـا جـدد تمامـا علـى احليـاة السياسـية‪..‬‬
‫الطلاب الشـباب‪ ..‬وميدانهـا غير املياديـن املعهـودة يف السياسـة العراقيـة‪..‬‬
‫الشـارع‪.‬‬
‫بعـد عـام نقـل يوسـف زينـ�ل‪ ،‬رئيـس نـادي التضامـن‪ ،‬إىل أعضـاء ناديـه‬
‫نبـ�أ سـماعه من زمالئه يف مدرسـة االليانس أن الداعيـة الربيطاين للصهيوني�ة‪،‬‬
‫ألفريد موند‪ ،‬قادم لزيارة العراق بعد أن زار بلدانا عربي�ة أخرى وقوبل حيث حل‬
‫بالسـخط والتظاهـر‪ .‬سـمع الشـباب مـن أعضـاء النادي‪ :‬حسين جميـل وزكي‬
‫‪165‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫خيري وعزيز شـريف وغريهم هذا النب�أ فشـرعوا يدعـون زمالءهم من الطالب‬
‫إىل التظاهـر واعـدوا الالفتـات املطلوبـة‪ ،‬ويف موعـد وصولـه سـار الطلاب مـن‬
‫الثانويـة املركزيـة ومـن دار املعلمين االبت�دائيـ�ة وكانـت آنـذاك قبالـة األوىل يف‬
‫الكـرخ يف تظاهـرة منظمـة ترفع الالفتـات اليت تنـ�دد بالصهيوني�ة وباالسـتعمار‬
‫الربيطـاين الـذي يرعاهـا وبوعد بلفور‪ ،‬وكانت تتوقف يف السـاحات لتسـتمع إىل‬
‫اخلطبـاء مـن أمثـال حسين الرحـال‪ ،‬وينضـم إليهـا النـاس وظلـت تطـوف يف‬
‫شـوارع بغـداد حتى أخر النهـار بعد أن زاد املشـاركون فيها عن عشـرين ألفا من‬
‫مختلـف الفئـات االجتماعية‪.‬‬
‫وللمـرة الثانيـ�ة تواجه احلكـم قوى جديـدة‪ ،‬واعية ومنظمة‪ ،‬وبأسـاليب‬
‫جديـدة‪ ،‬ولـم يكـن يملـك إزاءهـا سـوى تهريـب “الضيف” مـن شـوارع فرعية‪،‬‬
‫ومداهمـة البيـوت ليلا العتقال الشـباب املنظمني‪ ،‬وحـل نـادى التضامن بعد‬
‫أن جـرى تفريـق املتظاهريـن مـن قبـل الشـرطة بالعنـف وسـاهمت الشـرطة‬
‫اخليالـة يف القمـع أيضا‪.‬‬
‫ويف الثالثين مـن حزيـران ‪ 1930‬تـم التوقيـع علـى املعاهـدة العراقيـة ‪٠‬‬
‫الربيطانيـ�ة سـيئ�ة الصيـت‪ ،‬ومـا أن أعلـن عنهـا حىت توالـت برقيـات االحتجاج‬
‫مـن كل صـوب‪ ،‬ووجـد الشـعب الكـردي مـن جانبـ�ه أن املعاهـدة أهملـت كليـة‬
‫حقوقـه وجتاهلـت الوعـود التي قطعـت لـه مـن قبـل بشـأن حـق تقريـر املصير‬
‫طبقـا لمـا جـاء يف معاهدة سـيفر‪ .‬وقـد أثار نشـرها غضب الشـعب الكردي من‬
‫زاخـو حتى خانقين‪ ،‬وىف السـليماني�ة انفجـر السـخط يف السـادس مـن أيلول يف‬
‫مظاهـرات عارمـة قوبلـت مـن جانـب احلكومة بالرصـاص واعتقال عـدد كبري‬
‫مـن املثقفين‪ .‬وقـد عـرف هـذا اليـوم بأيلـول األسـود و”شـه يش ره يش”‪ ،‬أي‬
‫السـادس األسـود‪.‬‬
‫كيف قابلت أحزاب املعارضة هذه املعاهدة؟‬
‫حزبـا املعارضـة الرسـميان وقفـا منهـا موقفـا مترددا مـن الناحيـة‬
‫العمليـة‪ .‬فحـزب اإلخاء الوطين‪ ،‬حزب ياسين الهاشمي ورشـيد عـايل الكيالين‬
‫وأصحابهمـا‪ ،‬لـم يشـر بـأي يشء قاطـع إىل املعاهـدة يف منهاجـه الـذي صادقـت‬
‫عليه وزارة الداخلية يف ‪ ،1930/11/25‬واكتفى بالقول يف البن�د الثاين “العمل‬
‫علـى تأليـف رأي عـام عـرايق ملكافحـة كل مـا مـن شـأنه أن يشـوب اسـتقالل‬
‫البلاد بأيـة شـائب�ة‪ ،‬أو خيـل بالوحـدة العراقية‪ ،‬أو ينـ�ايف أحكام القوانين”! وبعد‬
‫ثلاث سـنوات ألـف رشـيد عـايل الـوزارة وسـكت علـى املعاهـدة‪ ،‬وحذا ياسين‬
‫الهاشمي حـذوه بعـد سـنتني حين ألـف الـوزارة أيضـا ‪ ٠‬أمـا احلـزب الوطني‬
‫العـرايق فقـد قـدم “عريضـة” مشتركة مـع حـزب التـآيخ الوطني إىل امللـك‬
‫طالبـا فيهـا “اسـتعمال نفـوذه الشـخيص بعـدم التوقيع علـى املعاهـدة” وأبرقا‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪166‬‬

‫إىل عصبـة األمـم برفـض املعاهـدة ورفـض االنضمـام إىل عصبـة األمـم علـى‬
‫أساسـها‪ ،‬وانتهـى األمـر‪.‬‬
‫وتنـ�ادى بعـض شـباب بغـداد‪ ،‬وأكرثهـم مـن الطلاب‪ ،‬إىل إضـراب عـام‬
‫وعقـد اجتمـاع سـيايس يف ‪ 22‬أيلـول ‪ 1930‬وإقامـة مظاهـرات يف مسـاء اليـوم‬
‫املذكور‪ ،‬فكان رد احلكومة إلقاء القبض على هؤالء الشـباب وسـاقت بعضهم‬
‫إىل املحاكـم وحكمـت علـى خمسـة منهم باحلبس ملدة سـتة أشـهر وعلى اثنني‬
‫بثلاثـة أشـهر‪ ،‬وعطلـت بعض صحـف املعارضة‪.‬‬
‫وقـد تابعنـا يف الفصـل اخلامـس احلركـة اإلضرابيـ�ة بني عمال السـكك‬
‫يف كانـون األول ‪ 1930‬ويف شـباط ‪ 1931‬والصراعـات التي دارت بعدها لضرب‬
‫احلركة النقابيـ�ة الوليدة‪.‬‬
‫كشـفت اجلماهير عـن سـخطها علـى األوضـاع العامـة‪ ،‬االقتصاديـة‬
‫والسياسـية‪ ،‬وبوجه خاص وكان يف اإلضراب العام الذي أعلنت�ه جماهري بغداد‬ ‫ً‬
‫أوال ثـم تبعهـم سـكان املدن األخـرى احتجاجا علـى قانون رسـوم البلديات‪ ،‬ويف‬
‫املقاطعـة العامـة لشـركة كهربـاء بغـداد بعد اإلضـراب العام بسـنتني‪.‬‬
‫يف حزيـران ‪ 1931‬صـدر قانـون رسـوم البلديـات الـذي يضيـف أعبـاء‬
‫ثقيلـة علـى الكادحين يف وقـت كانـت فيـه األزمـة االقتصاديـة تطبـق علـى‬
‫البلاد وكان الناس يئنـون من وطأتها‪ ،‬فقابلته اجلماهري‪ ،‬والسـيما التنظيمات‬
‫احلرفيـة والعماليـة باالسـتنكار‪ .‬إذ سـارع رؤسـاء اجلمعيـات العماليـة‬
‫واحلرفيـة ويف مقدمتهـم محمـد صالـح القـزاز إىل االجتمـاع يف مقـر (جمعيـة‬
‫أصحـاب الصنائـع) واختـاروا وفدا مـن بينهم برئاسـة القزاز ملقابلة املسـؤولني‬
‫ومطالبتهـم بإلغـاء القانـون اجلديـد وبمطالـب عماليـة أخـرى‪ .‬وإزاء مماطلـة‬
‫ورفـض احلكومـة بـادرت اجلمعيـات للدعـوة إىل اإلضـراب العـام وحـددت لـه‬
‫يـوم اخلامـس مـن تمـوز‪ ،‬وقـد اسـتجابت اجلماهير الواسـعة للدعـوة‪ ،‬وبرغـم‬
‫التهديـدات احلكوميـة أقفـرت بغـداد وأصبحـت‪ ،‬كمـا يقـول احلسني‪ ،‬يف‬
‫حالـة مـن الكآبة والسـكون‪ ،‬شـملت جميع مرافقهـا احلياتي�ة‪ ،‬وقلمـا رأتها منذ‬
‫قـرون خلـت‪ .‬فقـد أقفلـت املدينـ�ة عـن بكـرة أبيهـا‪ ،‬فلا حركـة جتـارة وال حركـة‬
‫بيـع وشـراء وال حركـة نقـل وسير‪ ،‬وامتـدت «الثـورة الصامتـة» إىل بعقوبـة‬
‫والكاظميـة والفلوجـة واألعظميـة والكـرادة واحللة والكوفـة وكربالء والنجف‬
‫والرمـادي والكـوت والناصريـة وسـوق الشـيوخ وشـهربان وخانقين والبصـرة‪،‬‬
‫ثـم مـا عتمت أن عمت القطـر بكامله‪ .‬وتطور اإلضـراب إىل حركة وطني�ة عامة‬
‫تنـ�ادي بسـقوط الـوزارة وتطالـب بوضـع حـد للظلـم واالسـتب�داد‪ 19 19 .‬ولكـن‬

‫‪ .19‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات العراقية‪ ،‬اجلزء الثالث‪،‬‬


‫‪167‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫احلكومـة قابلـت اجلماهير بإجـراءات قمعيـة شـملت معظم املـدن‪ .‬وأصدرت‬


‫مرسـوما ينطـوي علـى عقوبات عديدة جتاه كل من يدعـو إىل اإلضراب وحيرض‬
‫عليه ‪.‬‬
‫وىف الناصريـة والبصـرة تطـور اإلضـراب إىل صدامـات داميـة‪ .‬ففـي‬
‫هاتين املدينتين تقدمـت العناصـر الثوريـة والشـيوعية خباصـة صفـوف‬
‫اجلماهير املتظاهـرة‪ ،‬وسـقط عديـد مـن القتلـى واجلـرىح يف كال املدينتين‪،‬‬
‫وسـارعت بريطانيـ�ا إىل إرسـال دارعـة لتقـف علـى مقربة مـن البصـرة‪ ،‬وأنزلت‬
‫قـوات عسـكرية إىل املدينـ�ة حبجـة حمايـة الشـركات األجنبيـ�ة‪ ،‬ونقلـت قـوات‬
‫عسـكرية عراقيـة بالطائـرات والقطـار إىل البصـرة لقمـع اجلماهير الغاضبـة‪،‬‬
‫وهـرع نـوري السـعيد بنفسـه ليشـرف علـى عمليـة القمـع‪ ،‬واسـتخدم «نظـام‬
‫دعـاوى العشـائر» ضـد املضربين يف املدينـ�ة؛ وانتقامـا مـن العامـل الشـيوعي‬
‫حسـن عيـاش الـذي كان يقـود اجلماهير املتظاهـرة أمـر باعتقالـه وقتلـه وهـو‬
‫رهـن االعتقـال‪ .‬ولكـن احلكومـة برغم كل مـا أقدمت عليه من قمـع‪ ،‬اضطرت‬
‫إىل الرتاجـع وألغـت بعـض الرسـوم‪ ،‬واضطـرت إىل االعتراف بأنـه حتـول إىل‬
‫«إضـراب سـيايس وينطـوي علـى االنقضـاض علـى النظـام» حسـبما يقـول‬
‫أدمنـدس‪ ،‬املستشـار اإلجنليزي لـوزارة الداخليـة‪ .‬لقـد كان اإلضـراب مناسـبة‬
‫لكـي يكشـف عـن قـدرة الشـيوعيني علـى حتريـك اجلماهير وتوجيههـا‪ ،‬وقـد‬
‫بـان ذلـك يشـكل جلـى يف البصـرة والناصريـة‪ ،‬واضطـر نـوري السـعيد إىل‬
‫اإلقـرار يف مجلـس النـواب بأن «بعض اجلمعيات السـرية هي التي دفعت إىل‬
‫اإلضـراب»‪.‬‬
‫وجـاءت املناسـبة الثانيـ�ة ليختبروا قدرتهـم علـى حتريـك اجلماهير‬
‫وتعبئتهـا بعـد عامين‪ .‬ومـرة أخـرى كانـت املنظمـات النقابيـ�ة العماليـة هـي‬
‫البادئـة بالتحـرك وليـس أحـزاب املعارضـة الرسـمية‪ .‬وكان الدافـع اقتصاديـا‪.‬‬
‫فربغـم تـأزم الوضـع االقتصـادي يف البلاد وتدهـور أسـعار املحاصيل اسـتمرت‬
‫شـركة كهربـاء بغـداد األجنبيـ�ة يف فـرض أجـور عاليـة علـى وحـدات الكهربـاء‬
‫املسـتهلكة (‪ 28‬فلسـا للوحـدة الواحـدة)‪ .‬ورغـم املطالبـات املسـتمرة خبفض‬
‫هـذه التسـعرية العاليـة‪ ،‬كانـت الشـركة تصـر علـى إبقائهـا‪ .‬لذلـك تنـ�ادت‬
‫اجلمعيـات العماليـة واحلرفيـة إىل مقاطعتهـا‪ ،‬وقـرر مجلـس احتـاد نقابـة‬
‫العمـال يف بغـداد إعلان املقاطعـة الرسـمية يف تشـرين الثـاين ‪ ٠ 1933‬وكانـت‬
‫املقاطعـة منظمـة حقـا‪ .‬ويقـول احلسني إن جماعـة األهـايل قـد لعبـت «دورا‬
‫رئيسـيا فيهـا» ‪20 20.‬والواقـع أن ليـس جماعـة (األهـايل) هـي وحدهـا مـن لعـب‬
‫هـذا الـدور‪ ،‬وإنمـا كان هنالـك عناصـر من جماعـة الرحـال الماركسـية وكذلك‬

‫‪ .20‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات العراقية‪ ،‬اجلزء الرابع‪،‬‬


‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪168‬‬

‫عناصـر مـن الشـباب الشـيوعي يف بغـداد‪ ،‬ويذكـر حسـن عبـاس الكربـاس يف‬
‫رسـالة إىل املؤلـف‪ ،‬أنـه هـو والشـيوعيني يف مدرسـة الصنائـع التي كان يـدرس‬
‫فيهـا‪ ،‬وغريهم‪ ،‬كانوا يطوفون يف شـوارع بغداد ليلا حيرضون أصحاب املحالت‬
‫واحلوانيـت علـى إطفـاء املصابيـح الكهربائيـ�ة ويزودونهـم بالشـموع‪ ،‬وكانـوا‬
‫يؤمنـون مقـر احتـاد العمـال لتشـجيع العمـال علـى مواصلـة املقاطعـة‪.‬‬
‫لقـد كشـفت حملـة املقاطعـة عـن حاجـة اجلماهير إىل قيـادة جريئـ�ة‬
‫تتـوىل توجيههـا وتعطـى مضامين سياسـية للنشـاط الكبير الـذي تنهـض به‪،‬‬
‫خاصـة وأن احلـزب الوطني العـرايق والـذي كانـت تلتـف حولـه لـم يعجـز فقط‬
‫أن يكشـف لهـا عـن اجلوهر السـيايس لسياسـات احلكـم جتاهها‪ ،‬وإنما سـار يف‬
‫ذات اخلـط الـذي سـار فيه حـزب املعارضة الثـاين‪ ،‬اإلخاء الوطني‪ ،‬وجلأ زعيمه‬
‫جعفـر أبـو التمـن إىل االحتجـاج السـليب وأعلـن اعزتالـه عـن العمـل السـيايس‬
‫يف ذات اللحظـة التي كانـت فيهـا احلاجـة ماسـة إىل االرتفـاع بالنضـاالت‬
‫اجلماهرييـة إىل مسـتوى أعلـى‪ .‬مـن اجلانـب الثالـث‪ ،‬فـإن جماعـة (األهـايل)‬
‫لـم تطـرح حتى ذلـك احلين مهمـة تكويـن حـزب سـيايس وتتجـه إىل تعبئـ�ة‬
‫اجلماهير يف إطـاره برغـم أنهـا كانـت تتعاطف ومطالـب اجلماهير وتدعمها يف‬
‫صفحـات جريـدة (األهـايل)‪.‬‬
‫وإذ وجـد الشـيوعيون أن اإلطـار السـيايس الـذي كانـوا يتخـذون منـه‬
‫واجهـة لنشـاطهم قـد زال‪ ،‬بـات مـن الضـروري العمـل لتوحيـد قواهـم يف إطـار‬
‫سـيايس خـاص بهـم‪ ،‬واخلـروج علـى النـاس بشـعاراتهم اخلاصة‪ ،‬السـيما وأن‬
‫اجلماهير باتـت تعرفهـم‪ ،‬وتلمـس تعاطفهـم مـع نشـاطاتها‪.‬‬
‫يف تلـك اللحظـة التاريخيـة كان الشـباب العـرايق يمـر بفترة دقيقـة‪ .‬لـم‬
‫تعـد املعارضـة الرسـمية‪ ،‬أي املعارضـة “الربلمانيـ�ة” تـريض مزاجـه الثـوري‬
‫وشـرع يبحـث عن سـبل جديـدة‪ .‬وكانت تطرح عليـه بدائل مختلفـة‪ ،‬وعليه أن‬
‫خيتـار واحـدا منهـا ‪ ٠‬ولعل ما كتب�ه يونس السـبعاوي يف جريدة (السياسـة) يف ‪٠‬‬
‫‪ 1‬آذار ‪ 1931‬يعكـس هـذه املعانـاة احلقيقيـة‪.‬‬
‫«إن الشـباب يبقـى بأيـدي الكتـاب واملرتجمين‪ ،‬يتلاعبـون بـه حسـب‬
‫قـدرة أسـلوبهم وموضوعهـم‪ ،‬وال يـأيت العهـد الـذي تتخير فيـه جهة إال‬
‫بعـد حين تصرفـه يف التنقـل مـن كتـاب إىل أخـر‪ ،‬وهـذه احليرة شـملت‬
‫الذيـن أخـذوا ينقلـون نتـ�اج العقـول الغربيـ�ة‪ ،‬وضعـف هـؤالء جعلهـم‬
‫يترددون بين هـذا املذهـب أو ذاك‪ .‬فمنهـم مـن يقـول أختير مذهـب‬
‫كارل ماركـس للمجتمـع‪ ،‬وأخـر يقـول لنتطـرف مـع لينين‪ ،‬وثالـث‬
‫يقـول لنتعقـل مع غوسـتاف لوبـون‪ ،‬ورابع يقـول لنأخذ مبدأ نيتشـه يف‬
‫القـوة‪ ..‬وهكـذا اضطربـت عليهـم املنـايح واضطربـت من ورائهـا ألوف‬
‫‪169‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪21 21‬‬
‫الشـباب»‪.‬‬

‫كانـت تطـرح يف السـاحة السياسـية ثالثـة بدائـل تنطلـق مـن مواقـع‬


‫إيديولوجيـة مختلفـة تعكـس مـن جانبهـا مصالـح وتطلعـات طبقيـة أخـذة‬
‫بالبروز والتبلـور‪ .‬وإذا كانـت حـدود هـذه القـوى لـم تكـن قـد توضحـت بعـد‪،‬‬
‫وتداخلـت عناصرهـا إىل حـدود معينـ�ة يف بـادئ األمـر ولـم حيـدد اجلميـع‬
‫مواقعهـا‪ 22 22،‬إال أن هـذا األمـر تمايـز مـن بعـد مـع اتضـاح املالمـح الطبقيـة‬
‫للمجتمـع ‪.‬‬
‫كان هنـاك الفكـر القـويم الـذي راح يكثر احلديـث عـن البعـث العـريب‬
‫الشـامل الـذي «يهـز الكيـان العـام هـزا أساسـيا» وال أسـاس لالطمئنـ�ان إىل‬
‫الكيـان القائـم‪ ،‬وأن اإليديولوجيـة القوميـة تقـوم علـى اإليمـان بالقـوة‪ .‬ففـي‬
‫كلمـة ألقاها سـايم شـوكت يف خريـف ‪ 1933‬بعنوان «صناعة القـوة» أوضح‬
‫أن القـوة أهـم مـن الثروة والعلـم‪ ،‬وأنها الرتبة التي تنبت عليها بـذرة احلق‪ ،‬وإذا‬
‫أرادت األمـة أن تعيـش بعـز فعليهـا االعتنـ�اء بالقـوة ويعنى بها “إتقـان صناعة‬
‫املـوت» ودعـا إىل أن يكـون العـراق (بروسـيا) العـرب لتحقيق الوحـدة العربي�ة‪،‬‬

‫‪ .21‬خــري العمــري‪ ،‬يونــس الســبعاوي‪ ،‬ســرة ســيايس عصــايم‪ ،‬دار الشــؤون الثقافيــة‬
‫العامــة‪ ،‬بغــداد‪ ،1986 ،‬ص ‪ .36‬و غوســتاف لوبــون ‪ G. Lebon 1931 -1841‬هــو‬
‫فرنــي‪ ،‬مــن فالســفة علــم االجتمــاع‪ ،‬صاحــب نظريــة العــروق املمتــازة‪ .‬وتقــوم نظريت ـ�ه‬
‫علــى أن لــكل عــرق خواصــه الثابت ـ�ة بمعــى أن العوامــل االجتماعيــة ال يمكــن أن تب ـ�دل مــن‬
‫طبيعــة اخلــواص الــي حيملهــا العــرق‪ ،‬وأن |لعــروق تتفــاوت مــن حيــث املســتوى تبعــا لهــذه‬
‫اخلــواص‪ .‬وقــد أفــاد الفكــر الفــايش كثــرا مــن أفــكار لوبــون هــذه مثلمــا أفــاد مــن أفــكار‬
‫الفيلســوف األلمــاين نيتشــه الــي تمجــد القــوة‪.‬‬
‫‪ .22‬يــروي حســن جميــل انــه وعبــد القــادر إســماعيل كونــا مــع آخريــن مجموعــة ملعارضــة‬
‫معاهــدة ‪ ،1930‬وقــد ضمــت عديديــن مــن بينهــم عزيــز شــريف وفائــق الســامرايئ ويونــس‬
‫الســبعاوي وخليــل كنــه وجميــل عبــد الوهــاب وآخــرون‪ .‬وقــد أعــدت املجموعــة بي�انــا‬
‫سياســيا وطبعتــه ودعــت إىل عقــد اجتمــاع عــام فألقــي القبــض علــى بعــض مــن أعــده‬
‫وحكمتهــم املحكمــة باحلبــس ملــدة أربعــة أشــهر‪ ،‬وبعــد أن خرجــوا مــن الســجن فكــرت‬
‫اجلماعــة بإصــدار كراريــس لنشــر الوعــي الســيايس بدأهــا حســن جميــل بكــراس عنوانــه‪:‬‬
‫«إنكلــز يف جزيــرة العــرب» وأعلنــت عــن الكــراس الثــاين باســم «عــدم التعــاون»‪ ،‬أي‬
‫املقاطعــة الســلبي�ة لإلنكلــز علــى غــرار مــا جيــري يف الهنــد علــى أن يعــده فائــق الســامرايئ‪،‬‬
‫لكــن الكــراس لــم يصــدر إذ بــدأ اخلــاف يــدب بســبب املوقــف مــن النظــام االجتماعــي بــن‬
‫مــن أصبــح مــن دعــاة «القوميــة» وبــن مــن اجتــه إىل «الشــعبي�ة» ومــن حديــث حلســن‬
‫جميــل مــع الثقافــة اجلديــدة‪ ،‬تشــرين الثــاين ‪.)1979‬‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪170‬‬

‫ودعـا يف منهاجـه إىل «صهـر األقليـات القوميـة يف األقطـار العربيـ�ة»‪ 23 23 .‬وقـد‬


‫جـاء ظهـور وتصاعـد «الفكر القـويم» يف العراق مـع تصاعد النازيـة يف ألماني�ا‬
‫وانزتاعهـا السـلطة‪ ،‬والقـت أسـاليب املغامـرة وأفـكار السـوبرمان ودعـوات‬
‫نيتشـه إىل عبـادة القـوة هـوى يف نفـوس «القوميين»‪ .‬وقـد انضـم دعـاة الفكر‬
‫القـويم إىل (نـادي املثنى) الـذي تأسـس يف عـام ‪ 1935‬وإىل (جمعيـة اجلـوال‬
‫العريب)‪.‬‬
‫وكانـت (الشـعبي�ة) هـي البديـل الثـاين‪ ،‬وهـي جماعـة ضمـت عـددا من‬
‫الشـباب الديمقراطـي‪ ،‬وقـد أصبحـت تعـرف باسـم (جماعـة األهـايل) نسـبة‬
‫إىل جريـدة (األهـايل) التي أصدرتهـا لتعبر عـن أفكارهـا وكان أقطابهـا أربعـة‪:‬‬
‫عبـد القادر إسـماعيل وحسين جميـل وعبد الفتـاح إبراهيم ومحمـد حديد ويف‬
‫أوائـل ‪ 1933‬انضـم إىل اجلماعـة كامـل اجلادريج بعد أن ختلى عـن حزب اإلخاء‬
‫الوطني‪ .‬ويف ‪ 1932/1/2‬صـدرت جريـدة األهـايل لتعبر عـن أفـكار اجلماعـة‪،‬‬
‫وقـد خلصـت أفكارهـا برسـالة نشـرتها بعنـوان «الشـعبي�ة املبـدأ الذي تسـعى‬
‫األهـايل لتحقيقـه»‪ .‬إضافـة إىل هـذه حرصـت اجلماعـة أن توضـح أراءهـا يف‬
‫املقـاالت االفتت�احيـة للجريـدة‪ .‬وقـد دعـت اجلريـدة إىل حتديد سـاعات العمل‬
‫ب ‪ 8‬سـاعات‪ ،‬وإىل تكويـن النقابـات وعارضت قانون حقـوق وواجبات الزراع‪.‬‬
‫وأعطـت احلركـة الوطنيـ�ة مضمونـا اجتماعيـا وجـاء هـذا بفعل تأثـر املجموعة‬
‫بأفـكار الماركسـية‪ .‬وأقامت اجلماعة عالقات وديـة مع العناصر اليت تقف إىل‬
‫يسـارها‪ .‬فـكان يوسـف إسـماعيل حيـرر يف جريـدة األهـايل الربقيـات اخلارجية‪.‬‬
‫ويوسـف سـلمان يوسـف يزودهـا بتقاريـر عـن أوضـاع الفالحين والعمـال‬
‫يف الناصريـة بتوقيـع «مراسـلكم»‪ .‬ويتعـاون معهـا جميـل تومـا‪ .‬ولـم تكتـف‬
‫اجلماعـة بمـا نالتـه مـن تأييـ�د مـن خلال اجلريـدة‪ ،‬وإنمـا سـعت إىل اسـتغالل‬
‫مياديـن أخـرى‪ ،‬فعمـدت إىل تأسـيس (جمعيـة السـعي ملكافحـة األميـة)‬
‫ووافـق جعفـر أبـو التمـن علـى االنضمام إليهـا‪ ،‬وكذلـك انضم لها عـدد كبري من‬
‫املثقفين ومـن العاملين يف السياسـة‪ .‬ثـم أردفتهـا بت�أسـيس (نـادي بغـداد) يف‬
‫‪ 25‬تشـرين الثـاين ‪ ،1933‬وكانـوا يريـدون به كسـب الشـباب‪ .‬وأخيرا أقدمت‬
‫اجلماعـة علـى تكويـن تنظيـم سـري أسـموه «الشـعبي�ة» التي أصبـح جعفـر‬
‫أبـو التمـن رئيسـا لهـا وعبـد الفتـاح إبراهيـم سـكرتريا ومحمـد حديـد محاسـبا‪٠‬‬
‫ومـع مضي الوقـت أصبحـت عضوية هـذه اجلمعية تتفـاوت ما بين ‪ 40‬و‪50‬‬
‫عضـوا كان مـن بينهـم بعـض املثقفين‪ ،‬األكـراد‪ .‬وكان مـن بين الذيـن ضمتهم‬
‫هـذه اجلمعيـة صـادق كمونه وعبد هللا سـالم ومحمد حسـن الطريحي وناظم‬

‫‪ .23‬جعفــر عبــاس حميــدي‪ ،‬التطــورات السياســية يف العــراق ‪ ، 1953 - 1941‬مطبعــة‬


‫النعمــان‪ ،‬النجــف‪ ،1976 ،‬ص ‪.187‬‬
‫‪171‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الزهـاوي ويوسـف عـز الديـن إبراهيـم ومحمـد صالـح القـزاز ونصـرة الفاريس‪.‬‬
‫ولكـي تعـرف جماعـة األهـايل بأفكارهـا واألهـداف التي تسـعى إىل‬
‫حتقيقهـا نشـرت مجموعـة مـن الرسـائل أسـمتها (رسـائل األهـايل)‪ .‬تن�اولـت‬
‫يف إحداهـا عـرض وشـرح املبـادئ التي تقـوم عليهـا الشـعبي�ة‪ .‬وتقوم الشـعبي�ة‬
‫علـى أسـاس اجلمـع بين الديمقراطيـة اللرباليـة ورأسـمالية الدولـة‪ .‬ويف عـام‬
‫‪ 1935‬أصـدر عبـد الفتاح إبراهيم كراسـة (مطالعات يف الشـعبي�ة) شـرح فيها‬
‫املبـادئ التي طرحتهـا الشـعبي�ة يف مقاالتهـا يف (األهـايل) ويف رسـائلها‪ .‬ويفهـم‬
‫مـن هـذه املطالعـات أن احلكومة هي يف نظر الشـعبي�ة مؤسسـة تقوم بشـؤون‬
‫الدولـة خلدمـة السـواد األعظـم مـن السـكان الذيـن يؤلفـون الشـعب بمفهوم‬
‫الشـعبي�ة مـن أجـل حتقيـق االطمئنـ�ان والرفـاه والتقـدم ومراقبة تعـاون األفراد‬
‫والهيئـ�ات لهـذا الغـرض‪ .‬وبهـذا املعنى تدعـو الشـعبي�ة إىل سـيطرة الدولـة‬
‫علـى احليـاة االقتصاديـة‪ .‬ولتحقيـق سـيادة الشـعب دعـت (املطالعـات)‬
‫إىل قيـام هيئـ�ات تمثـل الفالحين والعمـال وسـائر الطبقـات تمثيـلا حقيقيـا‬
‫ورفـع معـارف أفـراد الشـعب لتمكينـ�ه مـن إبـداء آرائهـم يف القضايـا العامـة‪.‬‬
‫ثـم ناقشـت (املطالعـات) عالقـة الشـعبي�ة بالديمقراطية وقالـت إنها ختتلف‬
‫عـن الديمقراطيـة الرأسـمالية‪ ،‬وانتقـدت التمثيـ�ل النبـ�إيب يف الديمقراطيـة‬
‫الرأسـمالية وقالـت إنـه يفتقـر إىل الشـروط االقتصاديـة والثقافيـة اليت تمكن‬
‫السـواد األعظـم مـن الشـعب مـن املسـاهمة فيـه‪ .‬وحتدثـت عـن االشتراكية‬
‫وقالـت إن الشـعبي�ة وإن اتفقـت مـع االشتراكيني يف محاربـة اسـتغالل الفـرد‬
‫جلهـود األخريـن واعتب�ار العمـل املنتج السـبي�ل الوحيد للحصول على أسـباب‬
‫العيـش إال أنهـا ختتلـف عـن االشتراكية يف كونهـا ال تقـر بالصـراع الطبقـي وال‬
‫حتصـر السـلطة يف العمـال الصناعيين وتوزيـع احلقـوق املدنيـ�ة علـى أسـاس‬
‫ذلـك‪ ،‬وال تقـر بالدعـوة إىل األمميـة‪ .‬وتعتقـد الشـعبي�ة أن الشـيوعية حتـارب‬
‫األديـان وال حتتفـظ بالنظـام العائلـي إال بمقـدار مـا يتفـق والصالـح العـام‬
‫وبمقـدار مـا تتطلبـه مصلحـة الشـعب‪ ،‬وهـي تعتقـد أنهـا السـبي�ل األقـل كلفة‬
‫واألقـرب يف الوقـت للوصول إىل الهدف‪ .‬وهاجمـت (املطالعات) األنظمة اليت‬
‫تسمي نفسـها ب «االشرتاكية الوطني�ة» أي النظام النازي يف ألماني�ا والفايش‬
‫يف إيطاليـا وقالـت عنهـا إنهـا مؤامـرة دبرهـا رأس المـال ملقاومـة االشتراكية‬
‫وترويـج مصاحله بإثارة احلماسـة والعنف واإلرهـاب‪ .‬وتن�اولت (املطالعات)‬
‫موضوعـة «القوميـة» والحظـت أن تاريخ «القومية» ملطـخ بالدماء ومملوء‬
‫بالفظائـع واملظالـم واألكاذيـب‪ ،‬وأن ما تروجه «القومية» ليس سـوى وسـيلة‬
‫السـتغالل الشـعوب لصالـح الفئـات احلاكمـة وحدهـا‪ ،‬وللتدليـل علـى هـذا‬
‫اسـتعرضت السـلوك الـذي سـارت عليـه «القوميـة» قبـل وبعد الوصـول إىل‬
‫احلكـم‪ .‬وأنهـا إذا سـعت لتحريـر بعـض األمـم إنما تفعل ذلـك مقابل اسـتعباد‬
‫وألا ةيعويشلا تاتاونلا‬ ‫‪172‬‬

‫عشـرات غريهـا هـذا باإلضافـة إىل احلـروب املدمـرة التي تشـعلها‪.‬‬


‫أمـا بالنسـبة إىل البلـدان العربيـ�ة فقـد أقـرت الشـعبي�ة بضـرورة توحيـد‬
‫اجلهـود بين البلـدان اليت تربطهـا وحدة التاريـخ لتخليص الشـعب من قبضة‬
‫االسـتعمار واسـتغالل األفـراد‪ ،‬وهـي ترحـب باحتـاد البلاد العربيـ�ة حتـت نظام‬
‫وحكومـة شـعبي�ة لتحقيـق سـعادة الشـعب‪ .‬ولكـن هـذا التعـاون يف سـبي�ل‬
‫اخللاص النهـايئ مـن يـد املسـتعمرين جيـب أن يسـبقه العمل لتنظيم شـؤون‬
‫البالد وحتسين أحوال الشـعب االقتصادية واالجتماعيـة إىل احلد الذي جيعل‬
‫باالسـتطاعة حتقيـق التعـاون للوصول إىل هدف الشـعبي�ة وإىل احتـاد يبىن على‬
‫‪24 24‬‬
‫أسسـها املتينـ�ة‪.‬‬
‫تلـك كانـت األوضـاع السياسـية واالقتصاديـة التي سـبقت وترافقـت‬
‫مـع تأسـيس احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬ويف الفصـل القـادم سـنتن�اول عمليـة‬
‫تأسـيس احلـزب ونشـاطه بعـد التأسـيس‪.‬‬
‫‪ .24‬اعتمدنــا فيمــا أوردنــاه عــن الشــعبي�ة وأفكارهــا علــى مــا أورده حســن جميــل يف‬
‫مقابالتــه الــي نشــرت يف أجــزاء ثالثــة يف (الثقافــة اجلديــدة) مــع الدكتــور صفــاء احلافــظ‬
‫يف تشــرين األول والثــاين وكانــون األول مــن عــام ‪ ،1978‬وكذلــك مــا أورده حســن جميــل‬
‫يف كتابــه‪ :‬احليــاة الني�ابيــ�ة يف العــراق ‪ ،1953 - 1941‬موقــف جماعــة األهــايل منهــا؛ ومــا‬
‫أورده فــؤاد حســن الوكيــل يف كتابــه‪ :‬جماعــة األهــايل يف العــراق‪ ،‬دار الرشــيد‪ ،‬بغــداد‪1979 ،‬؛‬
‫وأخــرا مذكــرات كامــل اجلــادريج‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫تأســيس الحزب الشــيوعي العراقي‬

‫يب�دو أن عام ‪ 1934‬قد حسـم األمر بالنسـبة للشـيوعيني األوائل بشـأن‬


‫توحيـد منظماتهـم‪ .‬فقـد صـح عزمهـم يف هـذا العـام علـى تأسـيس حزبهـم‬
‫اخلـاص‪ .‬يف األول مـن تشـرين الثـاين ‪ 1933‬قـدم جعفـر أبـو التمـن كتابـا إىل‬
‫املؤتمـر العـام للحـزب الوطني العـرايق يعلـن فيـه اعزتالـه العمل السـيايس‪ .‬إثر‬
‫ذلـك أعلـن بعـض أعضـاء املؤتمـر وقـف عمـل احلـزب وتبعهـم اآلخـرون بعـد‬
‫فترة قصيرة‪ .‬وحبـل احلـزب الوطني العرايق تكـون املعارضـة احلزبي�ة الرسـمية‬
‫قـد توقفت بعد أن سـبقه حـزب املعارضة اآلخر‪ ،‬اإلخاء الوطين‪ ،‬إىل حل نفسـه‬
‫والتخلـي عـن معارضـة االرتبـ�اط بربيطانيـ�ا‪ .‬وحبـل احلـزب الوطني فقـدت‬
‫جماهري واسـعة املنرب السـيايس الذي كانت تعرب من خالله‪ ،‬وبرغم محدوديت�ه‪،‬‬
‫عـن معارضتهـا لسياسـات احلـكام املوالية لربيطاني�ا‪ ،‬أما بالنسـبة للشـيوعني‬
‫الذيـن اختـذوا منـه مجـاال مناسـبا وعلنيـ�ا لتحركهـم بين اجلماهير دفاعـا عـن‬
‫القضيـة الوطنيـ�ة‪ ،‬وعـن قضايـا اجلماهير األخرى كما هـو الشـأن يف الناصرية‬
‫والبصـرة بوجـه خـاص‪ ،‬فقـد وضعهم احلـل أمام مسـألة ملحة وعاجلـه‪ ،‬وهي‬
‫العمـل إلجيـاد منظمتهـم اخلاصـة السـرية‪ ،‬ويف ذات الوقـت السـعي لتوفير‬
‫املنابـر العلنيـ�ة اليت تدعم نشـاطهم السـري‪ .‬وقد تلمس الشـيوعيون حاجتهم‬
‫الماسـة هـذه خلال حتركهـم بين النـاس لدعـم املبـادرة إىل مقاطعـة شـركة‬
‫الكهربـاء يف بغـداد البلجيكيـة ‪ ٠‬الربيطانيـ�ة التي بدأتهـا نقابـات العمـال يف ‪5‬‬
‫كانـون األول ‪ 1933‬واسـتمرت حتى ‪ 2‬كانـون الثـاين ‪ .1934‬ففـي هـذه األيـام‬
‫كثـف الشـيوعيون من لقاءاتهم ببعضهم كثريا‪ ،‬ونشـطوا للتعـارف فيما بينهم‬
‫وتوحيـد اجلماعـات املبعثرة‪ ،‬كما يروي حسـن عباس الكرباس‪ ،‬أحد مؤسسي‬
‫احلـزب‪ .‬فيقـول إن زميلـه‪ ،‬الطالـب يف مدرسـة الصناعـة‪ ،‬عبـد الرحمـن داود‪،‬‬
‫وهـو مـن أهـايل الناصرية قد عرفـه بـ «األسـطة» وكان هذا لقبـا يطلقونه فيما‬
‫‪174‬‬
‫‪175‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫بينهـم علـى مـن يريـدون تبريـزه مـن أصحابهـم (واألسـطة بالعاميـة العراقيـة‬
‫رئيـس العمـل ومـن يتقنـه) واألسـطة هـذا كان يوسـف سـلمان يوسـف الـذي‬
‫كان يلتـف حولـه الشـباب الشـيوعي يف الناصرية والبصرة‪ .‬ومـن يومها أصبح‬
‫الكربـاس شـديد االرتبـ�اط بـه‪ -‬ويـروي أيضـا أن يوسـف سـلمان كان هـو الذي‬
‫عرفـه بقاسـم حسـن وأوصـاه بالعمـل معـه‪ .‬كذلـك عرفـه جبميـل تومـا ونـوري‬
‫روفائيـ�ل ومهـدي هاشـم ومـوىس حبيـب‪ .‬ويلـوح أن يوسـف سـلمان بعـد تركه‬
‫الناصريـة والتجائـه إىل بغداد نشـط كثريا يف تعريف شـيوعي بغـداد املبعثرين‬
‫ببعضهـم‪ ،‬وتوثيق روابطهم بشـيوعيي الناصرية والبصرة‪ ،‬وحثهم على تكوين‬
‫منظمتهـم املوحـدة‪ .‬وبالفعـل سـاروا يف هذا االجتـاه وكونوا منظمتهم املنشـودة‬
‫(جلنـة مكافحـة االسـتعمار واالسـتثمار) التي أبدلـت اسـمها بعـد أشـهر إىل‬
‫احلـزب الشـيوعي العـرايق والتي ضمـت كل الشـيوعيني يف بغـداد والبصـرة‬
‫والناصريـة والديوانيـ�ة والعمـارة‪ .‬وهكـذا ظهـر إىل الوجـود احلـزب الشـيوعي‬
‫العرايق‪.‬‬
‫ومـع ذلـك تظـل هنـا تسـاؤالت عديـدة تتطلـب احلسـم قبـل متابعـة‬
‫الطريـق املجيـد الـذي سـلكه هـذا احلـزب كيف تـم تأسـيس احلـزب‪ ،‬ومن هم‬
‫مؤسسـوه‪ ،‬ومتى تـم تأسيسـه؟‬
‫ال نملك‪ ،‬لألسف‪ ،‬من البين�ات المادية ما يكفي لتوفري اإلجابة القاطعة‬
‫علـى هـذه التسـاؤالت‪ ،‬وتظـل هناك حاجـة إىل مزيد مـن التقصي‪ .‬وبصراحة‪،‬‬
‫فـإن احلـزب الشـيوعي العرايق لم يتعامل مع هذه املسـألة تعاملا علميا‪ .‬فلقد‬
‫مـرت علـى احلـزب أوقـات كان بوسـعه أن يدقـق هـذا األمـر وبسـهولة‪ .‬فعـدا‬
‫عـن توفـر الفـرص لالطلاع على الوثائـق لدى دوائـر البوليس‪ ،‬كان املؤسسـون‬
‫املتعـارف عليهـم أحيـاء‪ ،‬وكان بوسـعه احلصـول علـى معلومـات وافيـة منهـم‬
‫بشـأن هـذه املسـألة أو غريهـا‪ .‬لقـد ظل احلـزب حيتفل هـو واجلماهير املحيطة‬
‫بـه‪ ،‬كل عـام‪ ،‬بذكـرى تأسيسـه يف احلـادي والثالثين مـن آذار ‪ ،1934‬فعلـى أي‬
‫أسـاس اسـتن�د يف هـذا التحديـد؟ حـري بنـ�ا أوال أن نذكـر أن تقليـد االحتفـال‬
‫بميلاد احلـزب أريس ألول مـرة يف سـجن بعقوبـة املركـزي عـام ‪ 1954‬حين‬
‫كان جيتمـع هنـاك معظـم السـجناء الشـيوعيني الذيـن عاشـوا مـع يوسـف‬
‫سـلمان يوسـف فهـد يف سـجن الكـوت‪ ،‬وكان علـى رأس العمـل احلـزيب آنـذاك‬
‫حميـد عثمـان بما عـرف عنه من ميـل إىل اختاذ القـرارات العاجلة وغري املسـبب�ة‬
‫واملدروسـة جيـدا‪ .‬فقد جـاء يف التقرير املعـروف بعنوان (جبهـة الكفاح الوطين‬
‫ضـد االسـتعمار واحلـرب) الصـادر عـن احلـزب يف اوائـل أذار ‪« :1954‬يف ‪31‬‬
‫أذار سـيكمل حزبنـ�ا عامـه العشـرين مـن عمره املجيـد»‪ .‬وكتبت مجلـة (كفاح‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪176‬‬

‫السـجني الثـوري)‪ 1 1‬يف عددهـا التاسـع عشـر الصـادر يف ‪ 23‬نيسـان ‪ 1954‬أن‬


‫احلـزب الشـيوعي العـرايق قـد تأسـس يف احلـادي والثالثين مـن آذار ‪.1934‬‬
‫ال نذكـر اليـوم كيـف ورد هـذا التاريـخ املحـدد ومن الـذي قال بـه‪ ،‬ولكن‪،‬‬
‫كمـا هـو واضـح‪ ،‬إن هذا التحديد جـاء اعتمادا على الذاكرة وحدها‪ .‬بعد أسـبوع‬
‫مـن ذلـك ظهـرت جريـدة احلـزب املركزيـة يف عددها الثالـث والصـادر يف األول‬
‫من أيار‪ 1954‬وهـي حتمـل ذات اإلشـارة إىل تأسـيس احلـزب اسـتن�ادا إىل مـا‬
‫ذكـره الشـيوعيون القدماء يف السـجن‪.‬‬
‫يف التقريـر الـذي ألقاه يوسـف سـلمان يوسـف (فهد) أمـام الكونفرنس‬
‫األول للحـزب عـام ‪ ،1944‬أي قبـل عشـر سـنوات مـن تاريـخ صـدور العـدد‬
‫املذكـور مـن (كفـاح السـجني الثـوري)‪ ،‬واملعـروف باسـم (قضيتنـ�ا الوطنيـ�ة)‬
‫جاء‪:‬‬

‫«لقـد أدى نضـال الطبقـة العاملـة العراقيـة لتأليـف نقابـات لها عام‬
‫‪ 1929‬ولتأليـف حزبهـا الشـيوعي عـام ‪ 1934‬والقيـام بإضرابـات‬
‫‪22‬‬
‫جماعيـة ومظاهـرات سياسـية عديـدة»‪.‬‬

‫إن لهـذا التحديـد قيمة كربى فيما حنن بصدده‪ .‬فقائله‪ ،‬أوال‪ ،‬هو يوسـف‬
‫سـلمان يوسـف بالـذات الشـخص الـذي لعـب أكبر األدوار يف إرسـاء دعائـم‬
‫الشـيوعية يف العـراق‪ ،‬ويف تأسـيس احلـزب بالـذات؛ وثانيهـا أن القـول بـه يـأيت‬
‫يف تقريـر مهـم وخيضـع للتدقيـق‪ ،‬ويف أول مؤتمـر يعقـده احلزب منذ تأسيسـه؛‬
‫وثالثهـا أن القـول جـاء بعـد عشـر سـنوات فقـط مـن وقائـع التأسـيس وذاكـرة‬

‫‪ .1‬أصــدر الشــيوعيون الســجناء يف (ســجن نقــرة الســلمان) صحيفــة حائطيــة باســم‬


‫(الســجني الثــوري)‪ .‬وقــد صــدر منهــا بضعــة أعــداد‪ ،‬وكان ذلــك يف عــام ‪ .1953‬وعندمــا‬
‫نقــل الســجناء الشــيوعيون مــن الســجون املختلفــة إىل (ســجن بعقوبــة املركــزي) أصــدروا‬
‫هنــاك مجلــة (كفــاح الســجني الثــوري) وكانــت حبجــم (فــول ســكوب)‪ ،‬وتكتــب باليــد‬
‫نســختني‪ ،‬إحداهمــا حيتفــظ بهــا داخــل الســجن ليطلــع عليهــا الســجناء الشــيوعيون‪ ،‬أمــا‬
‫النســخة األخــرى‪ ،‬فتهــرب إىل احلــزب يف خــارج الســجن‪ .‬وقــد صــدر منهــا مــا يزيــد عــن‬
‫عشــرين عــددا‪.‬‬
‫وكانــت حتتــوي معاجلــات فكريــة وسياســية وتاريخيــة‪ .‬ويف غمــرة الهجمــات البوليســية‬
‫علــى بيــوت املناضلــن يف خــارج الســجن‪ ،‬وكذلــك يف الغــارة الــي شــنها البوليــس علــى‬
‫الســجناء الشــيوعيني يف ســجن بعقوبــة عــام ‪ 1954‬والــي صــادر بهــا كل ممتلكاتهــم‪،‬‬
‫احتجــزت دوائــر األمــن كل مــا صــدر مــن هــذه املجلــة مــن أعــداد‪.‬‬
‫‪ .2‬يوســف ســلمان يوســف (فهــد)‪ ،‬مؤلفــات الرفيــق فهــد‪ ،‬بغــداد‪ ،‬مطبعــة الشــعب‪،‬‬
‫‪ ،1973‬ص ‪.100‬‬
‫‪177‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫القائـل ال شـك فيهـا هنا‪.‬‬


‫وإذا مـا عدنـا إىل مذكـرات حسـن عبـاس الكربـاس‪ ،‬وهـو أحـد الذيـن‬
‫أسـهموا يف التأسـيس جنـد يف هـذا الشـأن مـا يلـي‪:‬‬

‫«احلـزب علـى حـد فهمي ‪ -‬هـو ظاهـرة لنشـاط وعمـل اجتماعـي‬


‫معين وفـق فلسـفة معينـ�ة هـي الماركسـية ‪ -‬اللينينيـ�ة لطبقـة مـن‬
‫النـاس‪ ،‬ال يمكـن أن ينبثـق للوجـود فجـأة كعمـل جاهـز ومهيـأ آنيـ�ا‪،‬‬
‫وإنمـا هـو ينمـو ويظهر للوجـود كظاهـرة اجتماعية حية خلال فرتات‬
‫(زمـن) تطـول أو تقصر حسـب مقتضيـات البيئـ�ة اليت يتكـون فيها‪.‬‬
‫«مـر يف أول أمـره بفترات ثلاث‪ ،‬سـميتها فترة لقـاح األفـكار وفترة‬
‫املخـاض‪ ،‬ثـم إعلان الـوالدة‪ .‬فـاألوىل انتهـت عـام ‪ ،1933‬والثانيـ�ة‬
‫اسـتغرقت عـام ‪ 1934‬وهـي التي حفلـت بنشـاط التأسـيس وتهيئـ�ة‬
‫املطبعـة األوىل‪ ،‬والثالثـة هـي فترة عـام ‪ 1935‬حصـل فيهـا اإلعلان‬
‫المـادي لكيـان احلـزب بمنشـوره األول يف ‪ 1935/3/14‬ثـم واصـل‬
‫‪33‬‬
‫جهـاده حتـت رايـة جريدتـه األوىل (كفـاح الشـعب)»‪.‬‬

‫ويضـع الكربـاس قائمـة بأسـماء الذيـن يعتربهـم مؤسسي احلـزب‬


‫وحسـب أهميتهـم يف عمليـة التأسـيس وهـي علـى النحـو التـايل‪:‬‬
‫‪2.‬حسن عباس‬ ‫‪1.‬يوسف سـلمان (فهد‬
‫فيما بعد)‬
‫‪4.‬يوسف إسماعيل‬ ‫‪3.‬عاصم فليح‬
‫‪6.‬عبد الرحمن داود‬ ‫‪5.‬قاسم حسن‬
‫‪8.‬موىس حبيب‬ ‫‪7.‬مهدى هاشم‬
‫‪9.‬نوري روفائي�ل‬

‫ً‬
‫ويعلق على القائمة قائال ‪:‬‬

‫«هـؤالء كانـوا هـم القائمين يف احلركـة يف بغـداد والتحضيرات خالل‬


‫عـايم ‪ 1934 - 1933‬حتى قيام احلزب وعلى تماس مباشـر بعضهم‬
‫مـع بعـض‪ ،‬علمـا أن يوسـف سـلمان كان لـه أيضـا بعـض األصدقـاء‬
‫واملجنديـن واملؤيديـن يف البصـرة والناصريـة ومـن األسـماء التي‬
‫سـمعتها يف حينـ�ه اسـم زكريـا إلياس وسـايم نـادر وظافـر يف البصرة‪،‬‬
‫وربمـا كان لعاصـم أيضـا مـن املؤيديـن‪ ،‬ولكـن حسـب مشـاهدايت‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪178‬‬

‫ال أسـتطيع أن أعتبر أحـدا غير ذوي األسـماء التسـعة‪ ،‬هـم مـن‬
‫املؤسسين القائمين»‪.‬‬

‫ويالحـظ كذلـك أن ثالثـة مـن هـؤالء وهـم يوسـف اسـماعيل ونـوري‬


‫روفائيـ�ل ومـوىس حبيـب قد انسـحبوا يف «فرتة املخـاض»‪ ،‬أي يف عـام ‪.1934‬‬
‫‪44‬‬

‫ويشـار هنـا إىل أنـه اسـتبعد مـن قائمتـه جميـل تومـا‪ ،‬رغـم أنـه يعرفـه جيـدا‬
‫وممـن جمـع يوسـف سـلمان بينهما‪ .‬وحنـن ال نسـتبعد أن يكون جميـل توما قد‬
‫نفـر مـن االرتبـ�اط التنظيمي ألنـه كمـا قـال هـو عن نفسـه‪:‬‬

‫«كنـت فـردي الزنعـة‪ ،‬وكنـت أحـب تعليـم اآلخريـن وال أحـب‬


‫‪55‬‬
‫تنظيمهـم » ‪.‬‬

‫علـى هـذا النحـو تتطابـق روايـة الكربـاس مـع مـا جاء به يوسـف سـلمان‬
‫فهـد يف تقريـره الـذي أشـرنا إليه من أن عـام ‪ 1934‬هو عام التأسـيس‪ .‬ويضعنا‬
‫القـول ب ‪ 31‬أذار ‪ 1934‬حتديـدا أمـام إشـكال أخـر‪ .‬فالثابـت أن عاصـم فليـح‬
‫الـذي اختير كمناضـل أول للحـزب لـم يعـد مـن موسـكو حيـث كان يـدرس يف‬
‫(مدرسـة كاديح الشـرق)‪ ،‬إال بعد منتصف عام ‪( 1934‬يف ‪ 18‬أب ‪ 1934‬طبقا‬
‫لتقاريـر البوليـس‪ ،‬وتتفـق هـذه مـع روايـة الرفيق محمـود األطرش الـذي يقول‬
‫«يف أوائـل صيـف ‪ 1934‬وصـل الرفيـق العـرايق عاصـم إىل بيروت قادمـا مـن‬
‫موسـكو بعـد إتمـام دراسـته وتوجـه عـن طريـق لبنـ�ان إىل العـراق»)‪ .‬يف املقابل‬
‫لـم يغـادر يوسـف سـلمان يوسـف قاصـدا موسـكو ليلتحـق بمدرسـة كاديح‬
‫الشـرق إال يف كانـون األول ‪ 1934‬حسـبما يـروى الكربـاس‪ .‬وهكـذا فالتأسـيس‬
‫إذن جـرى بين هذيـن التاريخين‪ ،‬ومـرة أخـرى تؤكـد لنـا روايـة الرفيـق محمـود‬
‫األطـرش هـذا األمـر‪ .‬فيشير إىل أن عاصـم‬

‫«بعـد ذهابـه إىل العـراق ببضعـة شـهور أعلمنـا بمجيء فهـد‪ ،‬سـلمان‬
‫يوسـف‪ ،‬إىل بيروت يف طريقـه للدراسـة يف موسـكو‪ .‬وبمـا أنني لـم‬
‫أتمكـن مـن مقابلتـه سـنة ‪ 1930‬حين أىت إىل فلسـطني‪ ،‬لذلـك‬
‫صممـت علـى مقابلتـه شـخصيا للتعـارف واالطلاع علـى حقيقـة‬
‫أوضـاع احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ .‬أتذكـر أنـه تـم لقاؤنـا بواسـطة‬
‫الرفيـق نقـوال شـاوي قـرب مبنى الكليـة األمريكيـة‪ .‬بعـد التعـارف‬
‫جـرى احلديـث بيننـ�ا عـن الوضـع يف العـراق‪ ،‬وعلـى أحـوال احلـزب‬
‫‪ .4‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪ .22‬واحلــق إن مــوىس حبيــب اســتمر يواصــل العمــل يف احلــزب‬
‫كمــا يشــر زكــي خــري ص ‪.94‬‬
‫‪ .5‬بطاطو‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬الرتجمة العربي�ة‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.81‬‬
‫‪179‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الشـيوعي العـرايق الفتي‪ .‬وكان أول مـن أعلمني بتكوينـ�ه يف العـراق‪،‬‬


‫بعـد عـودة الرفيـق عاصـم‪ ،‬كان تكوينـ�ه أول خطـوة جيـدة حققهـا‬
‫‪66‬‬
‫الشـيوعيون العراقيـون»‪.‬‬

‫ويستطرد األطرش ويقول‪:‬‬


‫«كان الرفيـق فهـد أو سـلمان يوسـف سـلمان [األطـرش يلفـظ‪.‬‬
‫االسـم علـى طريقـة اجلزائريين بتقديـم اسـم العائلـة علـى االسـم‬
‫األول والشـخيص – املؤلـف] متفائلا جـدا بمسـتقبل احلـزب‬
‫‪77‬‬
‫الشـيوعي العـرايق»‪.‬‬

‫أمـا االعتراض الـذي يثيره بطاطـو والـذي يشـكك بكـون التأسـيس‬


‫قـد تـم يف عـام ‪ ،1934‬وإنمـا يف عـام ‪ 1935‬اسـتن�ادا إىل أن قاسـم حسـن‪ ،‬أحـد‬
‫العناصر األساسـية يف التأسـيس‪ ،‬لم يطلق سـراحه من االعتقال يف الناصرية‬
‫إال يف ‪ 24‬كانـون الثـاين ‪ 1935‬فمـردود هـو اآلخـر‪ 8 8.‬ففـي االسـتمارة التي دونها‬
‫قاسـم حسـن بنفسـه يف تاريـخ‪ 1935/7/16‬للمشـاركة يف املؤتمـر السـابع‬
‫للكومنترن ممثلا للحزب الشـيوعي العرايق والذي انعقـد يف ‪ 25‬تموز‪ 20 -‬آب‬
‫‪ 1935‬يقـول‪:‬‬

‫«نشـطت منـذ عـام ‪ 1932‬مـع مجموعـة شـيوعية‪ ،‬واشتركت يف‬


‫تشـكيل مجموعـة شـيوعية وقـدت املنظمـة» ثـم يـردف ذلـك بقولـه‬
‫«بقيـت يف السـجن ملـدة ‪ 4‬أشـهر يف نهايـة عـام ‪ 1934‬حيـث اتهمـت‬
‫بت�أسـيس حـزب شـيوعي يف العـراق‪ ،‬ووضعـت يف عـام ‪ 1935‬بسـبب‬
‫االنتفاضـة حتـت إمـرة املحكمـة العسـكرية قبـل أن أتمكـن مـن‬
‫‪99‬‬
‫ا لهـرب»‪.‬‬

‫ومعروف أن حملة واسـعة قد شـنت يف خريف ‪ 1934‬ضد الشـيوعيني‬


‫يف وزارة (علـي جـودت األيـويب) ويعلق مؤلـف (تاريخ الـوزارات العراقية) على‬

‫‪ .6‬محمــود األطــرش‪ ،‬فصــول مختــارة مــن ذكرياتــه‪ ،‬جريــدة (النــداء) البريوتيـ�ة‪ 1 ،‬تشــرين‬
‫األول‪.1989 ،‬‬
‫‪ .7‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪ .8‬بطاطو‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪ ،82‬هامش ‪.44‬‬
‫‪ .9‬ماهــر الشــريف‪ ،‬مــن األرشــيف الســري للكومنــرن‪ ،‬اســتمارات املشــاركني مــن البلــدان‬
‫العربيـ�ة يف املؤتمــر الســابع للكومنــرن‪ ،‬مجلــة (النهــج)‪ ,‬العــدد ‪ ,33‬ســنة ‪ ,1990‬ص ‪103‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪180‬‬

‫هذه احلملـة بقوله‪:‬‬

‫«انتشـرت األفـكار الشـيوعية بين األهلين يف بغـداد انتشـارا كبيرا‬


‫أيـام هـذه الـوزارة‪ ،‬واشـتبهت الشـرطة بعـدد مـن الكتـاب واملحامني‬
‫بثهـم هـذه السـموم يف العـراق‪ ،‬فقبضـت عليهـم يف يـوم ‪ ٤‬تشـرين‬
‫األول ‪ 1934‬وسـاقتهم إىل الناصريـة إلجـراء محاكمتهـم فيهـا‪ ،‬وبعـد‬
‫أن لبثـوا يف السـجن مـدة‪ ،‬ظهـرت بـراءة البعـض منهـم‪ ،‬وحكـم علـى‬
‫‪10 10‬‬
‫البعـض اآلخـر بعقوبـات منوعـة»‪.‬‬

‫مـن مقارنـة األحـداث واألقـوال ببعضهـا يت�أكـد أن تأسـيس احلـزب قد‬


‫تـم يف النصـف الثـاين مـن عـام ‪ ،1934‬واألرجـح أنـه قد أخذ شـكله النهـايئ بعد‬
‫عـودة عاصـم فليـح يف آب ‪ 1934‬وقبـل احلملـة التي يشير إليهـا احلسنى يف ‪4‬‬
‫تشـرين األول ‪ ،1934‬وأن يوسـف سـلمان يوسـف قـد لعـب فيـه دورا رئيسـيا‬
‫ومباشـرا لكنـه أثـر ان ال يتصدر نشـاط املنظمـة الوليدة ألنه كان خيطط للسـفر‬
‫إىل موسـكو لغـرض الدراسـة‪ ،‬وقد تـم ذلك فعال يف كانـون األول من عام ‪1934‬‬
‫كمـا يؤكـد الكربـاس يف قوله‪:‬‬

‫«‪ ..‬وعليـه أصبـح القائمـون علـى التأسـيس يف فترة صـدور أول‬


‫منشـور للحـزب هـم سـتة أشـخاص بمـن فيهـم اللولـب األقـدم‬
‫يوسـف سـلمان «فهـد» الـذي سـبق أن غـادر العـراق يف نهايـة‬
‫‪11 11‬‬
‫‪.»1934‬‬

‫أطلـق الشـيوعيون املؤسسـون علـى منظمتهـم الوليـدة اسـم «جلنـة‬


‫مكافحـة االسـتعمار واالسـتثمار» كمـا يـروي زكـي خيري‪ 12 12 .‬لكنهـم عـادوا‬

‫‪ .10‬عبد الرزاق احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات العراقية‪ ،‬اجلزء الرابع‪ ،‬ص ‪.34‬‬
‫‪ .11‬حسن عباس الكرباس‪ ،‬مخطوطة املذكرات‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪ .12‬زكــي خــري‪ ،‬صــدى الســنني يف ذاكــرة شــيوعي عــرايق مخضــرم‪ ،‬ســتوكهولم‪،1994 ،‬‬
‫ص ‪80‬؛ ويســميها حســن الكربــاس يف رده علــى تســاؤاليت يف هــذا الشــأن بـــ “جمعيــة‬
‫مكافحــة االســتعمار» ويؤكــد أن ال زيــادة علــى ذلــك‪ ،‬لكنــه يف مذكراتــه يقــول إن أول‬
‫منشــور أصــدره احلــزب كان بتوقيــع «جلنــة مكافحــة االســتعمار واالســتثمار»‪ ،‬ويف موضــع‬
‫أخــر مــن مذكراتــه يقــول إن منشــوره األول الصــادر يف ‪ 1935/3/14‬كان بتوقيــع «جلنــة‬
‫مكافحــة االســتعمار واالســتثمار» لكنــه عــاد وشــطب «واالســتثمار» وأبقــى علــى «جلنــة‬
‫مكافحــة االســتعمار» فقــط (الكربــاس‪ ,‬املذكــرات‪ ,‬ص ‪ .) 33‬أمــا بطاطــو‪ ،‬فاســتن�ادا إىل‬
‫تقاريــر البوليــس يســميها ب»اجلمعيــة ضــد االســتعمار»‪ ،‬ويؤكــد هــذا أيضــا أن املنشــور‬
‫الــذي كان حيمــل عنــوان «مــاذا نريــد» والــذي وزع يف النجــف يف ‪ 12‬آذار ‪ 1935‬واملحفوظــة‬
‫‪181‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫واسـتب�دلوا هـذا االسـم يف العـام التـايل باسـم «احلـزب الشـيوعي العـرايق»‪.‬‬


‫ال نملـك أيـة وثيقة تشير إىل الصـورة اليت أخذها تنظيم احلـزب وقواعد‬
‫العمـل التي أخـذ بها وتوزيـع مراكز املسـؤولية واملهمـات اليت أوكلـت إىل الرفاق‬
‫القياديين ومواقـع العمـل التي نشـط فيهـا احلـزب‪ ..‬الـخ‪ ،‬لكننـ�ا نفهـم مـن‬
‫مذكـرات الشـيوعيني األوائـل أن عاصـم فليـح كان علـى رأس احلـزب‪ ،‬وظـل‬
‫يقـود النشـاط حتى اعتقالـه يف أيلـول ‪ ،1935‬وكان يف السـجن يبعـث مـن‬
‫خلال أمـه التي كانت تتصـف بالـذكاء واجلرأة واإلخلاص للحـزب مالحظاته‬
‫إىل رفاقـه الذيـن تولـوا قيـادة النشـاط‪ .‬وكان قاسـم حسـن يسـاعد عاصـم‬
‫فليـح يف إدارة العمـل حتى اعتقالـه‪ ،‬كمـا الحظنـا يف خريـف ‪ 1934‬وإرسـاله إىل‬
‫الناصريـة مـع عـدد مـن الشـيوعيني ملحاكمتهـم مع آخريـن بتهمـة التحريض‬
‫علـى انتفاضـة فلايح سـوق الشـيوخ والفـرات األوسـط يف مطلـع ‪ ،1935‬وأن‬
‫زكـي خيري ويوسـف متي قـد ضمـا إىل الهيئـ�ة القياديـة يف تمـوز ‪.1935‬‬
‫برغـم أن الشـيوعيني األوائـل جنحـوا أخيرا يف خلـق حزبهـم املوحـد‪،‬‬
‫وأوجـدوا املركـز املطلـوب إال أن احلـزب الـذي أوجـدوه كان يعـاين مـن عيـوب‬
‫جعلـت مـن السـهل ضربـه وتهشـيمه وهـو يف سـني�ه األوىل‪ .‬كان يفتقـر أوال إىل‬
‫القيـادة القويـة القادرة على إجياد التماسـك الضـروري‪ .‬وكان يعاين من الفردية‬
‫وعـدم االنسـجام يف قيادتـه وضعـف االنضباط بين صفوفه‪ .‬وكانـت املقاهي‪،‬‬
‫كما تكشـف املذكرات‪ ،‬هي املكان املفضل للشـيوعيني لتب�ادلـوا األفكار ويثريوا‬
‫املناقشـات والثرثـرة يف أغلـب األحـوال حىت شـاع من بعد مصطلح «شـيوعيي‬
‫املقاهـي»‪ ،‬وقـد أورثـوا هذه العادة السـيئ�ة إىل اجليـل التايل‪ ،‬وتطلـب األمر من‬
‫احلـزب مـن بعـد نشـاطا دؤوبـا لتخليصـه مـن عـادة الثرثـرة يف املقاهـي‪ .‬وقـد‬
‫التفـت احلـزب منـذ أيامـه األوىل إىل هـذا العيـب وكتبـت (كفـاح الشـعب)‬
‫تنتقـد الشـيوعيني الذيـن «تـرن» أصواتهـم يف املقاهـي‪ .‬وكان مـن السـهل‪،‬‬
‫واحلـال هـذه‪ ،‬أن ختترق قـوى الشـيوعيني‪ .‬ومـع أن البوليـس العـرايق لـم يكـن‬
‫يملـك الرباعـة واخلبرة والتقنيـ�ات املتطـورة ملطـاردة الشـيوعيني‪ ،‬إال أنـه كان‬
‫يتمتـع بمشـورته اخلبراء الربيطانيين‪ ،‬وقـد سـارع هـؤالء إىل تكويـن وتطويـر‬
‫نســخة منــه يف املركــز الوطــي حلفــظ الوثائــق ‪ -‬ملــف وزارة الداخليــة ‪ -‬ســجالت البــاط‬
‫امللكــي كان بتوقيــع (اللجنــة املركزيــة جلمعيــة ضــد االســتعمار) (مجلــة الثقافــة اجلديــدة‪،‬‬
‫العــدد ‪ ،132‬تمــوز ‪ ،)1981‬ويف مقــال نشــره ص‪ .‬بيتيوخــان يف مجلــة (الشــرق الثائــر) يف‬
‫عددهــا الرابــع ســنة ‪ )1935‬بعنــوان (انتفاضــة ثوريــة يف العــراق) يــرد «إن اللجنــة املركزيــة‬
‫للجنــة مكافحــة االســتعمار واالســتثمار» وزعــت بي�انــا مطــوال حتــت شــعار «إىل الثــورة‪ ،‬إىل‬
‫الســاح‪ ،‬إىل الكفــاح» (الثقافــة اجلديــدة‪ ،‬أيــار‪ .)1971 ،‬يب ـ�دو مــن هــذا أن احلــزب وقــع‬
‫منشــوراته بتواقيــع عديــدة‪ .‬والتســمية الــي أوردهــا زكــى خــري‪ ،‬كانــت متداولــة بــن عديــد‬
‫مــن رفــاق احلــزب يف منتصــف األربعينـ�ات وقــد ســمعتها مــن عديديــن‪.‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪182‬‬

‫الـكادر العـرايق املتخصـص يف مكافحـة النشـاط السـيايس‪ ،‬والشـيوعي علـى‬


‫اخلصـوص‪ ،‬وأرسـلوا عـددا مـن ضبـاط البوليـس العراقيين إىل إنكلترا حتى‬
‫قبل تأسـيس احلـزب للتدرب على مكافحة العمل الشـيوعي السـري‪ ،‬وعادت‬
‫أول دفعـة مـن هـؤالء‪ ،‬وكانـوا أربعـة‪ ،‬بعـد تأسـيس احلـزب بقليـل‪.‬‬
‫واحلـق‪ ،‬إن احلـزب الشـيوعي العرايق واجه منذ حلظـة وجوده‪ ،‬بل وحىت‬
‫قبـل أن يتوحـد الشـيوعيون يف منظمـة واحـدة‪ ،‬قمعـا بوليسـيا اسـتهدف قطع‬
‫السـبي�ل أمـام الشـيوعيني للتغلغل بين اجلماهري‪ .‬فقد اعتقل أحد مؤسسـيه‪،‬‬
‫قاسـم حسـن‪ ،‬بعـد أشـهر قليلـة مـن تأسيسـه‪ ،‬ثـم تلا ذلـك اعتقـال مؤسـس‬
‫آخـر هـو حسـن عبـاس الكربـاس وهـو يـوزع أول منشـور يصـدره احلـزب يف ‪14‬‬
‫آذار ‪ 1935‬يف بغـداد‪ ،‬واعتقـل رئيسـه‪ ،‬عاصـم فليح‪ ،‬حىت بدون حجـة قانوني�ة‪،‬‬
‫واعتقـل مهـدي هاشـم‪ ،‬املؤسـس الرابـع‪ ،‬بذريعـة توزيعـه بي�انـات للحـزب يف‬
‫الفـرات األوسـط إبـان التمـرد العشـائري الـذي نشـب أيـام حكومـة ياسين‬
‫الهاشمي‪ .‬واعتقـل عديـد مـن أعضائـه بذرائـع مختلفـة‪ .‬وكان عبـد احلميـد‬
‫اخلطيـب الذي نشـط كعميـل للبوليس يصطنـع احليل لإليقاع بالشـيوعيني‬
‫وأنصارهـم‪ .‬وقـد وفـق البوليس كما يذكر حسـن عبـاس الكربـاس وزكي خريي‬
‫إىل جتنيـ�د العديـد مـن أنصـار احلـزب إىل مخبريـن الصطيـاد أعضـاء احلـزب‬
‫وأنصارهـم‪ .‬وقـد أشـرنا إىل احلملـة الواسـعة التي شـنتها حكومـة علـي جودت‬
‫األيـويب ضـد عناصـر احلـزب بعـد أشـهر مـن تأسيسـه بدعـوى أن احلـزب كان‬
‫حيـرض علـى انتفاضـات الفالحين يف سـوق الشـيوخ والفـرات األوسـط‪ .‬لقـد‬
‫اسـتهدفت أعمال القمع هذه تفويت الفرصة على احلزب لكي يرسـخ أقدامه‬
‫ويعالـج نواقصـه ويطـور أعضـاءه وعيـا وتنظيمـا‪ .‬وكان كل ذلـك جيـري دون أن‬
‫تكـون هنـاك قوانني حترم الشـيوعية وتعاقب على ترويجهـا ‪ ٠‬وأكرث من هذا أن‬
‫الدوائـر الربيطانيـ�ة كانـت تغـض النظر عن نشـر الفكـر الفايش وتشـجع عليه‬
‫يف تلـك الفترة لتجعـل منـه مصـدة يف وجـه انتشـار الفكـر الشـيوعي يف العراق‪.‬‬
‫لـم يكـن بوسـع حـزب صغير العـدد ‪ 13 13‬وقليـل اخلبرة ويفتقـر إىل‬
‫اإلمكانيـ�ات الماديـة التي تعين�ه على التحرك الواسـع بين اجلماهري أن ينهض‬
‫بأعمـال كبيرة يف سـني�ه األوىل‪ .‬ولكـن مـع ضالـة جتربتـ�ه ومحدوديـة إمكاني�اتـه‬

‫‪ .13‬طبقــا لمــا أوردتــه مجلــة (كفــاح الســجني الثــوري) يف عددهــا الرابــع عشــر (‪ )1954‬أن‬
‫عــدد الشــيوعيني يف البصــرة والناصريــة كان حــوايل ‪ 60‬رفيقــا يف عــام ‪ .1932‬ويقــدر حســن‬
‫عبــاس الكربــاس عــدد أعضــاء احلــزب يف بدايــة تأسيســه (ربمــا يف بغــداد وحدهــا) خبمســن‬
‫رفيقــا (مــن رســالة إىل املؤلــف)‪ .‬ويالحــظ بطاطــو اســتن�ادا إىل تقاريــر البوليــس واملقابــات‬
‫الــي أجراهــا أن جريــدة (كفــاح الشــعب) كانــت تــوزع ‪ 500‬نســخة يف عــام ‪ ،1935‬بطاطــو‪،‬‬
‫الكتــاب الثــاين‪ ،‬ص ‪ )91‬ويؤيــد ذلــك زكــي خــري يف مذكراتــه (ص ‪.)96‬‬
‫‪183‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫والظـروف الصعبـة اليت أحاطت بنشـاطه ونقـاط الضعف الذاتي�ة اليت أشـرنا‬
‫إليهـا سـعى حتى يف تلـك الفترة املبكـرة جـدا مـن حياتـه أن خيـوض يف قضايـا‬
‫أساسـية تواجـه نضـال الشـيوعيني عـادة‪ ،‬ويف رأس هـذه القضايا يأيت السـعي‬
‫إلقامـة روابـط باجلماهير الكادحـة‪ ،‬والعنايـة بالتحالفـات الوطنيـ�ة والسـعي‬
‫لتجميـع القـوى الوطنيـ�ة يف املرحلـة املعينـ�ة مـن النضـال الوطني‪ ،‬واجلمـع‬
‫بين العملين السـري والعلني‪ ،‬وحتديد املوقـف من القضيـة القوميـة‪ ،‬العربي�ة‬
‫والكرديـة‪ .‬ال يعني هـذا بالطبـع أن احلـزب قـد أرىس السياسـات الصحيحـة‬
‫والدقيقـة يف كل هـذه القضايـا‪ ،‬لكنـه حـاول علـى أيـة حـال‪ ،‬وبقـدر ما سـمحت‬
‫لـه ظروفـه الصعبـة أن يوضـح للجماهير العالقة ما بين البؤس الذي تعيشـه‬
‫وسياسـات احلـكام وأسـيادهم املسـتعمرين‪ ،‬واجتهـت بي�اناته وبشـكل صائب‬
‫حنـو تبيـ�ان األسـاس الـذي تقوم عليه سياسـات هـؤالء احلـكام‪ .‬ففـي البي�انات‬
‫األوىل التي أصدرهـا احلـزب يف ربيـع ‪ ،1935‬واعتقـل عـدد مـن أعضائـه وهـم‬
‫يوزعونهـا يف بغـداد والنجـف والبصـرة والناصريـة وغريهـا‪ ،‬حـدد احلـزب‬
‫األهداف اليت يتعني للجماهري الشـعبي�ة من عمال وفالحني وجنود أن تن�اضل‬
‫مـن أجلهـا‪ ،‬وأن تسـعى لتمتين روابطهـا الكفاحيـة فيمـا بينهـا علـى أساسـها‪،‬‬
‫ويمكـن تلمـس هـذا مـن البيـ�ان األول الـذي وزعتـه اجلمعيـة‪ 14 14 .‬ونالحـظ هنا‬
‫أن البيـ�ان ركـز علـى مطالـب العمـال والفالحين ويلـوح لنـا أنـه عكـس روحيـة‬
‫سياسـات الكومنترن آنـذاك‪ .‬وسـتكون لنـا عـودة مـع هـذا املوضـوع‪.‬‬

‫بي�ان جمعية مكافحة االسـتعمار‬


‫إىل العمـال والفالحين‪ ،‬إىل اجلنود والطالب‪ ،‬إىل كل املضطهدين!‬
‫علـى سـواعدنا قامـت الثـورة العراقيـة األوىل‪ ،‬حنـن جماهير العمـال‬
‫والفالحين‪ ،‬ومـن طبقتنـ�ا جـاءت اآلالم والتضحيـات وعشـرات‬
‫األلـوف من الضحايا‪ ..‬وذهبت املنافع إىل الرأسـماليني واإلقطاعيني‬
‫وكبـار املوظفين‪ ..‬ولـم يكـن نصيبنـ�ا سـوى اجلـوع والبرد واملـرض‬
‫الـذي ال يرحـم‪ ..‬وقطيع من محصلـي الضرائب الذين ليسـت لديهم‬
‫ذرة مـن الرحمـة أو اإلنسـاني�ة‪.‬‬
‫واليـوم‪ ،‬فـإن اإلنكليز والطبقـة احلاكمـة شـركاء يف اتفـاق يهـدف إىل‬

‫‪ .14‬ينفــي حســن الكربــاس أن يكــون هــذا البي ـ�ان هــو البي ـ�ان األول ويصــر علــى أن البي ـ�ان‬
‫األول الــذي وزعــه بنفســه يف ليلــة ‪ 14‬آذار ‪ 1935‬واعتقــل علــى إثــر توزيعــه تضمــن‬
‫كمطلــب أول قلــع قاعــديت ســن الذبــان والشــعيب�ة الربيطانيتــن‪ .‬وهــو مطلــب تضمنت ـ�ه‬
‫فعــا البي�انــات األخــرى الــي سنشــر إليهــا وربمــا يعــود االلتب ـ�اس إىل دوائــر البوليــس الــي‬
‫ضبطــت هــذه البي�انــات وحفظتهــا يف ملفاتهــا‪.‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪184‬‬

‫اإلبقـاء علـى االضطهـاد واالسـتغالل اللذيـن نعـاين منهمـا‪ ..‬ولقـد‬


‫أصبـح النفـط واملـواد اخلـام األخـرى حكـرا علـى اإلنكليز‪ ،‬وحتـول‬
‫العـراق إىل سـوق لبضائعهـم ولرأسـمالهم الفائـض‪ ،‬وإىل قاعـدة‬
‫حربيـ�ة موجهـة ضـد الشـعوب املجـاورة وضـد أي طمـوح للحريـة‬
‫يمكـن أن تفكـر فيـه األقطـار العربيـ�ة‪ .‬إن الطبقـة احلاكمـة مـن‬
‫ناحيتهـا‪ ،‬تنهـب عائـدات الضرائـب‪ ،‬وتسـتحوذ علـى األرايض وتبني‬
‫القصـور علـى شـواطئ دجلـة والفـرات‪ ،‬يف الوقـت الـذي جتـوع فيـه‬
‫ماليين العمـال والفالحين‪ ،‬ويزنفـون دمـا ويتلـوون مـن األلـم‪.‬‬
‫علينـ�ا أن نضـع حدا ألوضاع وصلت إىل هذا احلـد من الظلم وصارت‬
‫ال تطـاق‪ .‬إننـ�ا نطالـب بتغيير أسـس احليـاة مـن جذورهـا لصالـح كل‬
‫الطبقـات املنتجـة‪ ..‬لرنفـع صوتنـ�ا ثانيـ�ة يف األرض‪ ،‬وليتقـدم هـادرا‬
‫يـزرع الرعـب يف قلـوب مضطهدينـ�ا‪ ..‬وليتقـدم أبنـ�اء املـدن والقـرى‪،‬‬
‫العامـل والفلاح‪ ،‬ال يفرقهـم مذهـب أو عـرق مؤيديـن باملفكريـن‬
‫الثوريين‪ ،‬جنبـ�ا إىل جنـب‪ ،‬لتحقيـق املرحلـة األوىل مـن النضـال‪:‬‬
‫• إللغـاء كل الديـون التي علـى الفالحين‪ ،‬وإنقاذهـم مـن الضرائب‬
‫املرهقـة‪ ،‬وتوزيـع األرايض األمرييـة علـى فقرائهـم‪ ،‬وتأمين‬
‫القـروض الالزمـة لهـم‪.‬‬
‫• ضمـان حريـة العمـال يف االجتماع والكالم‪ ..‬وإعـادة فتح نواديهم‬
‫ونقاباتهـم؛ وسـن قانـون حلمايـة العمـال‪ ..‬ضـد الفصـل الكيفـي‬
‫وتأمينهـم ضـد اجلـوع يف شـيخوختهم؛ وتطبيـق يـوم عمـل بثماين‬
‫سـاعات يف جميـع مواقـع العمـل العراقيـة وتلـك التي يملكهـا‬
‫األجانـب‪.‬‬
‫يسـقط االسـتعمار اإلجنليزي؛ تسـقط كل املعاهـدات االسـتعبادية!‬
‫عاشـت اجلبهة املوحـدة ضد اإلمربيالية وضـد مضطهدي الفالحني‬
‫‪15 1 5‬‬
‫والعمـال‪.‬‬

‫ويذهـب البيـ�ان الـذي وزع يف النجـف يف ‪ 21‬آذار ‪ 1935‬إىل تفصيـل أكثر‬


‫يف األهـداف التي ينشـدها احلـزب‪ .‬ويالحـظ يف هـذا البيـ�ان أنـه يتوقـف أكثر‬
‫عنـد املطالـب السياسـية العامـة للشـعب‪:‬‬

‫ماذا نريد؟‬
‫لـم حنمـل السلاح ونثـور ونقـف بوجـه املسـتعمرين وأتب�اعهـم ممـن‬

‫‪ .15‬مرتجم عن اإلجنلزيي لبطاطو‪ ،‬ص ‪.433/32‬‬


‫‪185‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫فرضـوا فرضـا علـى العـراق وحسـبوا مـن أبن�ائـه‪ ،‬مـن أجـل أشـخاص‬
‫معدوديـن غايتهـم واحـدة (وإن اختلفـوا بالوصـول إليهـا وكونـوا‬
‫صـورا بشـكله بهـذه البلاد‪ ،‬يغشـون اجلماهير فتحسـب أن فريقـا‬
‫منهـم يعمـل لصاحلنـا) وحنـن دافعـو الضرائـب اجليـاع‪ .‬إنمـا هـي‬
‫ثـورة مـن الصميـم‪ ،‬علـة قوامهـا يف صدورنا سـنني عديـدة‪ ،‬وهي اآلن‬
‫تتفجـر ال لتريض وتشـبع جشـع أشـخاص معدوديـن‪ :‬الهاشمي‪،‬‬
‫املدفعـي‪ ،‬السـعيد‪ ،‬األيـويب‪ ،‬العسـكري‪ ،‬وغريهـم‪ ،‬وغريهـم‪ .‬كلهـم‬
‫جربـوا‪ ،‬وكلهـم جـاءوا إىل احلكـم فلـم حيـدث أي تب�ديـل ملمـوس‬
‫يف حيـاة املاليين الكادحـة مـن اجلماهير‪ .‬بالعكـس‪ ،‬كل منهـم قـام‬
‫بقسـمه مـن إغاللنـا بقيود العبوديـة‪ ،‬املعاهـدات وذيولهـا‪ ،‬اتفاقيات‬
‫النفـط املجحفـة حبقوقنـا‪ ،‬مشـاريع أصفـر واللطيفيـة ومشـروع‬
‫احلبانيـ�ة‪ ..‬الـخ‪.‬‬
‫حنن نريد‪:‬‬
‫ً‬
‫قلـع سـن أم الذبـان والهنيـ�دي والشـعيب�ة من األسـاس‪ ،‬ال‬ ‫أوال‪:‬‬
‫نريـد أيـة قاعـدة حربيـ�ة لإلنكليز‪.‬‬
‫ً‬
‫تعديـل املعاهـدة مـن األسـاس وجعلهـا بشـكل معاهـدة‬ ‫ثانيـ�ا‪:‬‬
‫بين النـد والنـد‪ ،‬ال بين سـيد وعبـد‪ ،‬مصبوغـة بألـوان كاشـفة‪.‬‬
‫ً‬
‫ال نريـد أن توافـق احلكومـة بصـورة باتـة علـى مشـروع‬ ‫ثالثـا‪:‬‬
‫سـكة حديـد حيفا‪-‬بغـداد‪ ،‬إذ هـو طريـق اسـتعباد وغـل لنـا ولألجيال‬
‫اآلتيـ�ة‪.‬‬
‫ً‬
‫رابعـا‪ :‬نريـد إبـدال اتفاقيـة النفـط بشـكل يكـون لصاحلنـا‪ ،‬علـى‬
‫أن نقـر ذلـك حنـن أبنـ�اء الشـعب‪.‬‬
‫ً‬
‫خامسـا‪ :‬ختفيـض الرواتـب الضخمـة لكبـار املوظفين والـوزراء‬
‫ختفيضـا محسوسـا‪.‬‬
‫ً‬
‫سادسـا‪ :‬توزيـع جميع األرايض األمريية حاال على فقراء الفالحني‪.‬‬
‫ً‬
‫سـابعا‪ :‬إلغـاء جميـع الديـون املرتاكمـة علـى الفالحين وختفيـض‬
‫الضرائـب ختفيضـا كبيرا‪.‬‬
‫ً‬
‫ثامنـا‪ :‬سن قانون حماية العمال‪.‬‬
‫ً‬
‫تاسـعا‪ :‬نريـد حـاال‪ ،‬الضـرب علـى أيـدي بعـض الصحـف املعلومة‬
‫التي تتنـ�اول أجورا مـن اجلهـات األجنبيـ�ة املعروفة يف بغداد للتبشير‬
‫بالدعايـة االسـتعمارية حلكوماتهـا وعلاوة على ذلك تتنـ�اول رواتب‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪186‬‬

‫مـن املخصصـات السـرية التي هـي نفـس الضرائـب التي جبيـت منا‬
‫بالسـياط‪ ،‬هـؤالء الذيـن يشـتمون الثـورة ورجالهـا املخلصين وإال‬
‫فسيرون جزاءهـم منـا إن لـم تتخـذ التدابير الفعالـة حبقهـم‪.‬‬
‫ً‬
‫عاشـرا‪ :‬نريـد انتخابـا مباشـرا حـرا‪ ،‬أي ال مـن منتخبين ثانويين‪،‬‬
‫الشـكل االسـتعماري الـذي يلعـب مـن ورائـه االسـتعمار‪.‬‬
‫ً‬
‫نريـد إخـراج جميـع العناصـر التي تعمـل على بث‬ ‫حاديعشـرا‪:‬‬
‫التفرقة بني أبن�اء الشعب العرايق الواحد املتكاتف األفراد من البالد‪.‬‬

‫‪16 16‬‬
‫اللجنة املركزية جلمعية ضد االسـتعمار‬

‫كان مـن أوىل مسـاعي احلـزب للعمـل بين اجلماهير التوجـه حنـو إجيـاد‬
‫عالقـات بالعمـال وخلـق نقـاط ارتـكاز يسـتن�د إليهـا يف نشـر دعايتـ�ه بينهـم‬
‫السـيما بين عمـال السـكك يف بغـداد واملينـ�اء يف البصـرة والنفـط يف كركـوك‪.‬‬
‫ويـروى الرفيـق محمـود األطـرش‪ ،‬أن يوسـف سـلمان يوسـف حين التقـاه يف‬
‫بيروت عـام ‪ 1935‬كان متفائلا بمسـتقبل احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬ويقـول‬
‫إنـه «أخبرين بوجـود بعض الصلات بعمـال البترول‪ ،‬وبإمكاني�ة تكويـن حركة‬
‫نقابيـ�ة واسـعة مـن مختلـف املهـن والصناعـات يف العـراق»‪ 17 17.‬ويتحـدث‬
‫الكربـاس يف مذكراتـه أنـه كان ينشـط يف دعوتـه بين عمـال السـكك وبين‬
‫عمـال معامـل التصليـح امليكانيكـي يف منطقـة (سـيد سـلطان علـي) وشـارع‬
‫(العرصـة) و(النعمـان) يف بغـداد آنـذاك‪ .‬ويتحـدث كذلـك زكـي خيري عـن‬
‫مسـاعيهم إلجيـاد عالقـات مـع عمـال السـكك‪.‬‬
‫لقـد أظهـرت األيـام أن تفـاؤل يوسـف سـلمان يوسـف لـم يكـن بلا‬
‫أسـاس‪ .‬فقـد اضطـرت حكومـة ياسين الهاشمي إىل إصـدار قانـون العمـل‬
‫رقـم ‪ 72‬لسـنة ‪ 1936‬حتـت ضغـط املطالبـة العماليـة التي كان الشـيوعيون‬
‫والديمقراطيـون و(الشـعبيون) وراءهـا‪ .‬واعترف القانـون حبـق العمـال يف‬
‫التنظيـم النقـايب‪ ،‬وحقهـم يف التعويـض عـن العطـل األسـبوعية والسـنوية‬
‫الرسـمية‪ ،‬والتمتـع بإجـازات اعتي�اديـة مدفوعة األجـر‪ ،‬وخـول القانون مجلس‬
‫الـوزراء بتحديـد سـاعات العمـل ألصناف العمال حسـب صناعاتهـم وحرفهم‬
‫وجنسـهم وأعمارهـم‪ .‬ومـع أن كثيرا مـن هـذه احلقـوق لـم توضـع موضـع‬
‫‪ .16‬نشــرت مجلــة (الثقافــة اجلديــدة) يف عددهــا ‪ 132‬تمــوز ‪ 1981‬صــورة البيــ�ان نقــا‬
‫عــن نســخة محفوظــة يف املركــز الوطــي حلفــظ الوثائــق‪ ،‬ملــف وزارة الداخليــة‪ ،‬ســجالت‬
‫البــاط امللكــي‪ .‬واملواقــع الــي يشــر إليهــا البي ـ�ان كانــت قواعــد حربي ـ�ة بريطاني ـ�ة (ســن أم‬
‫الذبــان = قاعــدة احلباني ـ�ة) و(الهني ـ�دي = معســكر الرشــيد)‪.‬‬
‫‪187‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫التطبيـق وجـرى جتاهلهـا مـن بعـد‪ ،‬إال أن اإلقـرار بهـا قانونـا كان مكسـبا كبيرا‬
‫وسلاحا يمكـن أن يشـهره العمال يف مطالباتهم‪ .‬وانعكسـت حتـركات العمال‪،‬‬
‫السـيما مـع االنفـراج النسبي يف احلريـات الـذي أعقـب انقلاب بكـر صـديق يف‬
‫حملـة مـن اإلضرابـات كان الشـيوعيون مـن أنشـط املحركين فيهـا كإضـراب‬
‫عمـال املينـ�اء يف ‪ 24‬آذار ‪ ،1937‬وإضـراب عمـال الشـركة الوطنيـ�ة للسـيكاير‬
‫يف بغـداد‪ ،‬وعمـال شـركة نفـط العـراق يف كركـوك‪ ،‬وإضـراب عمـال القاعـدة‬
‫العسـكرية الربيطانيـ�ة يف احلبانيـ�ة‪ ،‬وإضـراب عمـال إنشـاء سـد الكـوت‪..‬‬
‫الـخ‪ .‬وقـد اعرتفـت تقاريـر البوليـس بنشـاط الشـيوعيني بين العمـال‪ .‬ففـي‬
‫تقريـر بعنـوان «حـركات العمـال والشـيوعيني» جـاء أن توزيـع املنشـورات‬
‫داخـل محطـة غـريب بغـداد قـد ازداد «ملحاولـة بـث الفتنـ�ة بين العمـال وحثهم‬
‫لإلضـراب عـن العمـل بمناسـبة ختفيـض أجـور منتسبي السـكك احلديديـة‬
‫يضـاف إىل عـدم فتـح نقاباتهـم وجمعياتهـم‪ ،‬وأن الشـيوعيني املتحديـن مـع‬
‫هـؤالء العمـال حياولون اسـتغالل هـذا االسـتي�اء»‪ 18 18 .‬ويف أيلـول ‪ 1935‬وزعت‬
‫منشـورات شـيوعية يف قاطـرات سـكك احلديـد واملحطـات حتث العمـال على‬
‫اإلضـراب بسـبب التخفيـض الـذي كانـت قـد أعلنتـ�ه احلكومـة مـن أجورهـم‬
‫‪19 19‬‬
‫بنسـبة ‪ % 5‬كان املتهـم الرئيسي فيهـا املهنـدس الشـيوعي جميـل تومـا‪.‬‬
‫جـاء تأسـيس احلـزب يف الوقـت الـذي حتفـزت جماهير الفالحين إىل‬
‫االنتفـاض يف مناطـق واسـعة مـن البلاد‪ ،‬وكان عليـه أن حيـدد موقفـا واضحـا‬
‫مـن حتـركات الفالحين‪ .‬كان يـدرك الدوافع اليت قامت عليها سياسـات احلكم‬
‫يف املسـألة الزراعيـة‪ .‬وهـي يف كل األحـوال ال تراعـي مصالـح الفالحين‪ .‬ولئلا‬
‫يطيـش سـهم السـخط الشـعيب يف متاهـات الصراعـات احلزبيـ�ة واملصالـح‬
‫الشـخصية لرجـاالت احلكـم ومـن يتحالـف معهـم مـن رؤسـاء القبائل‪ ،‬سـارع‬
‫إىل إصـدار عـدد مـن البي�انـات بعضهـا بتوقيـع اللجنـة املركزية للجنـة مكافحة‬
‫االسـتعمار واالسـتثمار‪ ،‬وبعضها بتوقيـع جلنة الفرات األوسـط للحزب‪ ،‬صاغ‬
‫فيهـا املطالـب التي يتعين علـى الفالحين أن ين�اضلـوا مـن أجلهـا إىل جانـب‬
‫املطالـب الوطنيـ�ة العامـة‪ .‬وقـد لعـب الشـيوعيون يف الناصريـة دورا فعـاال يف‬
‫حتريـك الفالحين يف سـوق الشـيوخ‪ .‬وجديـر بالذكـر هنـا أن حتريـض فلايح‬
‫سـوق الشـيوخ يرجع إىل سـنوات سـابقة كان يمارسـه يوسف سـلمان يوسف‪.‬‬
‫فقد بذل مسـعى خاصا لتعريف الفالحني جبوهر االسـتغالل الذي يتعرضون‬
‫لـه والعوامـل اليت تدفع إىل تشـديده‪ .‬وقد نشـأت‪ ،‬كما يروى أخوه داود سـلمان‬
‫يوسـف‪ ،‬صداقـة خاصـة جمعـت مـا بين يوسـف سـلمان يوسـف وريسـان‬

‫‪ .18‬الثقافة اجلديدة‪ ،‬العدد ‪ ،132‬ص ‪٠1981‬‬


‫‪ .19‬فؤاد الوكيل‪ ،‬ص ‪.354‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪188‬‬

‫الكاصـد‪ ،‬شـيخ بني خيكان‪ ،‬الذي قـاد االنتفاضـة الفالحية هناك عـام ‪.1935‬‬
‫‪ 20 20‬اختـذ احلـزب موقفـا عمليـا ومحددا حتديـدا واضحا من مطالـب الفالحني‪.‬‬
‫فطالـب بتوزيـع األرايض األمينـ�ة علـى الفالحين‪ ،‬أي توزيـع األرايض التي‬
‫يتصـرف فيهـا الفالحـون فعال ولم تملـك بعد ألحـد‪ ،‬وإن كان جيري االسـتحواذ‬
‫عليهـا بموجـب القوانني التي أصدرتها الدولـة آنذاك‪ .‬كانت هـذه تؤلف أغلب‬
‫األرايض الزراعيـة‪ .‬لقد أصدرت الدولة قانون تسـوية حقـوق األرايض رقم ‪50‬‬
‫لسـنة ‪ 1932‬وقانـون اللزمـة رقم ‪ 51‬لسـنة ‪ 1932‬أيضا‪ .‬وكانـت تهدف منهما‬
‫تمليـك الشـيوخ ورجـاالت احلكـم وأثريـاء املـدن األرايض الزراعية التي توارث‬
‫الفالحـون أبـا عـن جـد زراعتهـا وفقـا حلـق العشيرة يف الديـرة املشتركة‪ .‬فبعـد‬
‫سـت سـنوات فقـط مـن الشـروع يف تطبيـق قانـون التسـوية األوىل اسـتحوذ‬
‫املالكـون عمـا يزيـد عـن مليونني ونصـف املليـون مـن األرايض األمريية‪ .‬أضف‬
‫إىل ذلـك‪ ،‬فـإن احلكومـات املتعاقبـة كانـت تشـدد علـى الفالحين لتسـديد‬
‫حصـة مالكـي األرايض‪ ،‬آل السـعدون‪ ،‬واحلصـة التي فرضهـا رجـال االحتالل‬
‫الربيطـاين باسـم «السـركله» إىل رؤسـاء العشـائر حتى قبـل تسـديد الضريبـ�ة‬
‫احلكوميـة وبالرغـم مـن أن الشـيوخ هـؤالء قـد أعلنوا عـن تن�ازلهم عـن «حق»‬
‫السـركله هـذا‪ 21 21 .‬وطالب احلزب بقوة بإلغاء جميـع القروض والرهني�ات اليت‬
‫تتعلـق بـاألرض‪ .‬لقد كان إغـراق الفالحني بالديون جزءا من املمارسـة المألوفة‬
‫والدائمـة التي يلجـأ إليهـا مالكـو األرايض إلرغـام الفالحين علـى اخلضـوع‬
‫إلرادتهـم وربطهـم بـاألرض ولكن بعـد أن حرموهم من حق التصـرف احلر فيها‬
‫حتى ولـو كانـت أرايض أمرييـة والفلاح يزرعها بموجـب نظـام املحاصصة‪ .‬ولم‬
‫يكتـف املالكـون باإلكراه االقتصـادي وحده وإنما شـفعوه باإلكـراه القانوين من‬
‫خلال تشـريع قانـون حقـوق وواجبات الـزراع‪.‬‬
‫ولـم يقصر احلزب خطابـه على الفالحني وحدهم أيـام االنتفاضة وإنما‬
‫تعداهـم إىل مخاطبـة اجلنود (الذيـن هم أبن�اء الفالحني يف األسـاس) من أجل‬
‫أن يقفـوا إىل جانـب الفالحين ويرفضـوا األوامـر التي تصـدر إليهـم بضربهـم‪،‬‬
‫‪22 22‬‬
‫وخاطبهـم ببيـ�ان خـاص‪.‬‬

‫‪ .20‬مــن حديــث لــداود ســلمان يوســف للمؤلــف‪ .‬وبشــأن االنتفاضــة وتطوراتهــا راجــع‬
‫كتابنــ�ا‪ :‬نصــر ســعيد الكاظــي‪ ،‬احلــزب الشــيوعي واملســألة الزراعيــة يف العــراق‪ .‬مركــز‬
‫األحبــاث والدراســات االشــراكية يف العالــم العــريب‪ ،‬دمشــق‪ ،1986 ،‬ص ‪.146-140‬‬
‫‪ .21‬املصدر السابق‪ ،‬الفصل اخلامس‪.‬‬
‫‪ .22‬وزعــت جمعيــة ضــد االســتعمار يف منطقــة أبــو صخــر البي ـ�ان التــايل‪« :‬أيهــا اجلنــود‬
‫والضبــاط‪ ..‬يــا مــن نشــقوا نســيم هــذه البــاد ونشــأوا علــى حــب اإلخــاص لهــا‪ ،‬أنتــم يــا‬
‫مــن يدخركــم الشــعب للــذود عــن كيانــه وليــس لتحطيــم هــذا الكيــان‪ .‬أنتــم يــا مــن تعهدتــم‬
‫‪189‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫لقـد أثـار نشـاط احلـزب يف صفـوف اجليـش هلـع احلـكام‪ .‬كان هـؤالء‬
‫خيشـون أن يمـد الشـيوعيون أيديهـم إىل هـذه األداة اخلطيرة التي اصطنعوهـا‬
‫يف األسـاس لتصبـح القـوة التي يرهبون بها الشـعب‪ .‬وقد جربوهـا فعال يف قمع‬
‫انتفاضـات الفالحين التي أشـرنا إليهـا‪ ،‬ويف قمـع تظاهـرات الشـعب الكـردي‬
‫املطالبـة باحلقـوق القوميـة يف السـليماني�ة يف ‪ 6‬أيلـول األسـود عـام ‪. 1930‬‬
‫ويتحـدث كل مـن زكـي خيري وحسـن عباس الكربـاس عن نشـاط احلزب بني‬
‫صفـوف فـوج املخابـرة يف (الكرنتينـ�ة) يف بغـداد‪ .‬وقـد جـاء بعض هذا النشـاط‬
‫محـض مصادفـة توفرت‪ ،‬كما يذكر زكـي خريي يف مذكراتـه ملخاطبة مجموعة‬
‫مـن جنـود فـوج املخابـرة كان يضمهم تنظيم خاص سـري تكـون عفويا من بني‬
‫السـاخطني علـى النظـام الذيـن ال تتوفـر لهـم فرصـة التعبري عن هذا السـخط‬
‫بعـد أن أغلقـت أبـواب املعارضـة الرسـمية أبوابهـا ‪ ،23 23‬بينمـا جـاء بعضـه اآلخر‬
‫بفعـل نشـاط الشـيوعيني الذيـن كانـوا جينـدون إجباريـا كمـا حـدث للشـيوعي‬
‫القديـم عبـد الرحمـن داود الذي شـاءت الصدفة أن جينـد إىل ذات فوج املخابرة‬
‫الـذي يلتقـي ببعـض مراتبـ�ه زكـي خيري ويوسـف متي‪ ،‬ويركـزان كثيرا مـن‬
‫اهتمامهمـا بتثقيفهـم وتنظيمهـم‪ .‬وتعطـي اجلهـود التي بذلوهـا بين اجلنـود‬
‫ثمارهـا وتمتـد اخلاليـا الشـيوعية يف اجليـش إىل اللـواء الثـاين يف كركـوك حتى‬
‫قـارب عـدد اجلنـود واملراتـب الذيـن التفـوا حـول احلـزب األربعمئـة جنـدي‬
‫وضابط صف‪ .‬إال أن هذا النشـاط لم يكسـب إىل جانب�ه ضباطا‪ .‬غري أن العمل‬

‫األمــة لتعزيــز قواهــا وليــس لقلعهــا وحتطيمهــا‪ ،‬ال تغرنكــم احلكومــة واألوامــر واحلــكام‬
‫الذيــن ال يتكلمــون إال باســم االســتعمار وال يمثلــون إال مصاحلهــم‪ .‬فاســتهينوا بهــم وال‬
‫جتعلــوا للظاملــن اجلائريــن طريقــا يف أن يغــرروا بكــم ويدفعونكــم إىل قتــال إخوانكــم وآبائكم‬
‫وأهلكــم وذحب أطفالكــم‪ .‬هــؤالء الثائــرون هــم أنفســهم رجــال الثــورة العراقيــة الذيــن عرفــوا‬
‫بتضحياتهــم‪ ،‬وهــم ال يثــورون اليــوم إال يف ســبي�ل اســرجاع حقوقهــم املغتصبــة واســرداد‬
‫حرياتهــم املســلوبة‪ ،‬وال تتبعــوا أقــوال الظاملــن الذيــن لــم يكونــوا باألمــس إال جواســيس‬
‫لالســتعمار فانبشــوا عــن ماضيهــم‪ ،‬وهاهــم اليــوم يقومــون بقســطهم مــن معاضــدة‬
‫احلــركات االســتعمارية الــي حتــاول اســتعبادنا وخنــق حريتن ـ�ا خنقــا نهائي ـ�ا‪ ..‬اعلمــوا أيهــا‬
‫اجلنــود والضبــاط بــأن النــار الــي توجهونهــا علــى إخوانكــم ال تقــع إال علــى جماجمكــم‪،‬‬
‫فضررهــا واقــع عليكــم‪ ،‬وأن الطعنــة الــي تصوبونهــا علــى بــي جلدتكــم وأمتكــم ال تتجــه إال‬
‫حنــو صدوركــم وال تمــزق إال أحشــاءكم‪ ،‬هيــا وجهــوا قواتكــم حنــو عدوكــم احلقيقــي الــذي‬
‫هــو كائــن موجــود بــن ظهرانيكــم وإىل االنضمــام إىل صفــوف الثــوار وضــرب املســتمر بمــا‬
‫عندكــم مــن قــوة وإيمــان وارجعــوا كيــد عدوكــم يف حنــره وإىل النضــال ألجــل االســتقالل‬
‫الناجــز أيهــا األبطــال» (الثقافــة اجلديــدة‪ ،‬العــدد ‪ ،132‬ص‪ ،1981‬نقــا عــن النســخة‬
‫املحفوظــة يف املركــز الوطــي حلفــظ الوثائــق ‪ -‬ملــف وزارة الداخليــة ‪ -‬ســجالت البــاط‬
‫امللكــي)‬
‫‪ .23‬زكي خريي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪190‬‬

‫الدائـب لكسـب القوى يف صفوف اجليش لـم يقرتن بعمل جدي ملراعاة أوضاع‬
‫اجليـش اخلاصـة واالهتمـام بتطوير الوعـي والضبط الصارم وااللزتام بسـرية‬
‫العمـل فيـه‪ .‬وهكـذا اسـتطاعت أجهـزة االسـتخبارات العسـكرية أن جتمـع‬
‫املعلومـات الكافيـة عـن هـذا النشـاط وتوجـه لـه ضربـة قاضيـة تـأىت عليـه من‬
‫األسـاس وتعتقـل خمسـة وسـتني جنديـا وضابـط صـف وحتيلهـم إىل املحاكـم‬
‫وحتيـل معهـم زكـي خيري ويوسـف ميت وحسـن عبـاس الكربـاس‪ ،‬وحتكم على‬
‫بعـض اجلنـود باإلعـدام ثـم ختفـض األحـكام إىل السـجن ملـدد مختلفـة‪ .‬ولكي‬
‫حتـول دون اتسـاع النفـوذ الشـيوعي يف اجليـش مسـتقبال‪ ،‬سـارعت حكومـة‬
‫جميـل املدفعـي إىل تعديل قانـون العقوبات البغدادي واسـتصدرت الفقرة ‪89‬‬
‫أ سـيئ�ة الصيـت التي حتكـم باإلعـدام علـى كل من يـروج الشـيوعية يف القوات‬
‫املسـلحة حاسـبة أنهـا سـتضع حـدا وإىل األبـد للنشـاط الشـيوعي يف اجليـش‪،‬‬
‫وهومـا لـم يتحقـق بالطبـع‪ ،‬كمـا سنرى يف فصـول قادمة‪.‬‬
‫أعـارت قيـادة احلـزب اهتمامـا خاصـا بالنشـر كوسـيلة للتعبير عـن‬
‫رأس احلـزب يف القضايـا العامـة التي تواجهـه‪ ،‬وسـارعت إىل تأمين أجهـزة‬
‫طباعـة خاصـة باحلـزب‪ ،‬وكانـت مـن النـوع البسـيط جهـاز رونيـو وطابعـه‬
‫والـورق اللازم‪ ..‬الـخ‪ .‬وتـوىل أحـد كـوادر احلـزب القـداىم‪ ،‬عبـد الرحمـن داود‬
‫الـذي تـدرب يف الناصريـة علـى يـد يوسـف سـلمان يوسـف‪ ،‬تأمين إخفـاء‬
‫هـذه األجهـزة والعمـل عليهـا‪ .‬وكانـت طليعـة نشـاط احلـزب يف هـذا البـاب‬
‫البي�انـات التي صـدرت لدعـم االنتفاضـة الفالحية يف الفرات األوسـط وسـوق‬
‫الشـيوخ‪ .‬ولـم يكتـف احلزب بنشـر البي�انـات وإنما قـرر إصدار صحيفة سـرية‬
‫منتظمـة‪ .‬ويف نهايـة تموز ‪ 1935‬صـدرت (كفاح الشـعب) وعرفت الصحيفة‬
‫نفسـها بأنهـا (لسـان حـال العمـال والفالحين) و(تصدرهـا اللجنـة املركزيـة‬
‫للحـزب الشـيوعي العـرايق) وكانـت تلـك أول مـرة يعلـن فيهـا احلـزب هويتـ�ه‬
‫كحـزب شـيوعي‪ .‬وزينـت عنوانهـا باملطرقـة واملنجـل وحتتهمـا جنمـة خماسـية‪،‬‬
‫وشـعار ماركـس (فلرتتعـش الطبقـات احلاكمـة أمـام الثـورة الشـيوعية‬
‫فليـس للربوليت�اريـا مـا تفقـده فيهـا سـوى قيودهـا وأغاللهـا وتـرحب مـن ورائهـا‬
‫عالمـا بأسـره»‪ .‬ظهـرت مـن اجلريـدة سـتة أعداد‪ ،‬خمسـة منهـا أعدتهـا قيادة‬
‫احلـزب أمـا السـادس فقـد أصـدره اجلنـود الشـيوعيون ووزعـوه هـم‪ .‬طرحـت‬
‫اجلريـدة أهـداف احلزب األساسـية يف تلـك املرحلة من كفاحـه‪ ،‬وتتمثل بإلغاء‬
‫معاهـدة ‪ 1930‬العراقيـة‪ ٠‬الربيطانيـ�ة‪ ،‬وإلغـاء قاعديت سـن الذبـان (احلباني�ة)‬
‫والشـعيب�ة العسـكريتني الربيطانيتني‪ ،‬وضمان حرية الشـعب‪ ،‬وحق الشعب‬
‫الكـردي يف االسـتقالل الكامـل‪ ،‬وضمـان احلقـوق الثقافيـة لـكل األقليـات‬
‫القوميـة يف العـراق‪ ،‬وتوزيـع األرايض علـى الفالحين‪ ،‬وإلغـاء كل ديـون األرض‬
‫ورهوناتهـا‪ ،‬ومصـادرة مـا يملكـه املسـتعمرون مـن مصـارف وحقـول نفـط‬
‫‪191‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وسـكك حديـد وغريها ونزع ملكيـة العقارات الزراعية الكبرية‪ ،‬وتركزي السـلطة‬
‫يف أيـدي العمـال والفالحين‪ ،‬وأخيرا إطلاق الثـورة االجتماعيـة ‪ -‬بلا تأخير ‪-‬‬
‫يف كل مجـاالت احليـاة األخـرى وحتريـر النـاس مـن أشـكال اخلضـوع املتنوعـة‪.‬‬
‫ووقفـت اجلريـدة إىل جانـب نضـال الشـعوب العربيـ�ة ضـد املسـتعمرين‬
‫اإلنكليز والفرنسـيني‪ ،‬والسـيما الشـعب الفلسـطيين الـذي كان خيـوض ثـورة‬
‫ضـد االنتـ�داب الربيطـاين معلنـة احتجاجهـا «بقـوة سـواعد عشـرات االلـوف‬
‫مـن عمـال وفلايح العـراق ضـد السياسـة الغاشـمة والطـرق اإلجراميـة التي‬
‫تتبعهـا السـلطات االسـتعمارية الربيطانيـ�ة جتـاه شـيوعيي فلسـطني واألحرار‬
‫الثائرين»‪24 24 .‬وكانت (كفاح الشـعب) تصدر بـ ‪ 500‬نسـخة علما أن النسخة‬
‫الواحـدة كان جيـري تداولهـا مـن قـارئ آلخـر‪.‬‬
‫وتعلـم احلـزب الوليـد أن جيمـع بين العمـل السـري والعلني‪ ،‬وهـو‬
‫درس ثمين كـرره فيمـا بعـد يف فترات تاريخيـة الحقـة‪ .‬وأبـرز مـا اسـتطاع أن‬
‫حيققـه يف هـذا الشـأن آنـذاك التعـاون مـع بعـض الصحـف واالسـتفادة منهـا‬
‫للدعـوة إىل أفـكاره وشـعاراته‪ .‬فعـدا عـن نشـاطه ىف (األهـايل) كانـت (عطارد)‬
‫لصاحبهـا محمـد القشـطيين أوىل املجلات التي وضعت نفسـها حتـت تصرف‬
‫الشـيوعيني‪ ،‬وقـد نشـط فيهـا كثيرا الشـيوعي الشـاب يوسـف متى‪ ،‬وقـد‬
‫لقيـت املجلـة رواجـا كبيرا‪ ،‬وحين تعرضت للتعطيـل بعد أن صدر منها سـبعة‬
‫أعـداد صـدرت (فينيـس) يف صيـف ‪ 1934‬لتعـوض عـن (عطـارد) لكـن هـذه‬
‫تعرضـت هـي األخـرى للتعطيـل بعـد أن هاجمـت الفكـر الفـايش واملسـاعي‬
‫لرتويجـه يف العـراق‪ .‬ويف ‪ 1936‬وبعـد أن تعطلـت (كفـاح الشـعب) صدرت يف‬
‫احللـة مجلة (احلكمـة) لصاحبها رؤوف اجلبوري لتنشـر الفكر الماركيس‪ ،‬ثم‬
‫صـدرت (الغـد) لتعـوض عـن (احلكمـة) بعـد أن تعطلـت هـذه‪.‬‬
‫ويـروي الكربـاس أن احلـزب ضـم جهـوده إىل جانـب جمعيـة اإلصلاح‬
‫الشـعيب إلصـدار صحيفـة مشتركة عرفـت باسـم (احلـارس)‪ ،‬وكـرس زكـي‬
‫خيري ويوسـف متي للعمـل فيهـا – وقـد اسـتغل زكـى خيري صفتـه كمراسـل‬
‫للجريـدة يف البصـرة لالتصال بعمال املين�اء والسـعي لتأسـيس نقابة لهم‪ .‬وإىل‬
‫جانـب العمـل مـع (احلـارس) عمـد احلـزب إىل دعـم عبـد القـادر اسـماعيل يف‬
‫إعـادة إصـدار (األهـايل)‪ ،‬ودعـم اجلواهـري يف إصـدار جريدتـه (االنقلاب)‪.‬‬
‫ونظـم احلـزب بالتعـاون مـع الرفـاق يف احلـزب الشـيوعي اللبنـ�اين‬
‫والسـوري اسـترياد الكراريـس الماركسـية املطبوعـة يف بيروت‪ ،‬واسـتفاد‪ ،‬كمـا‬
‫يـروي الكربـاس‪ ،‬مـن وجـود الديمقراطـي ناظـم حميـد كمعـاون لكمـرك بغداد‬

‫‪ .24‬كفاح الشعب‪ ،‬العدد ‪ 2‬آب ‪. 1935‬‬


‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪192‬‬

‫والـذي تربطـه أواصـر صداقـة بقاسـم حسـن‪ ،‬لتسـهيل أمـر دخـول الكراريـس‬
‫مـن سـوريا‪.‬‬
‫مـن أخطـر مـا واجـه احلـزب يف تلـك الفترة حتديـد املوقـف الصائـب‬
‫والدقيـق مـن مسـألة التحالفـات الطبقيـة والسياسـية التي دعـا إليهـا يف ذلك‬
‫الوقـت‪ ،‬واملوقـف مـن جماعـة (الشـعبي�ة) بوجـه خـاص‪ .‬كان اختبـ�ارا عسيرا‬
‫يف قـدرة الشـيوعيني آنـذاك يف رسـم السياسـة الدقيقـة يف هـذا الشـأن وهـم‬
‫خيطـون أوىل خطواتهـم يف العمـل السـيايس‪ .‬واحلـق‪ ،‬إن هـذا االختبـ�ار لـم يكـن‬
‫لهـم وحدهـم‪ ،‬وإنمـا هـو اختبـ�ار مماثـل لسياسـة الشـيوعية األمميـة ولتعاليم‬
‫الكومنترن يف هـذا الشـأن‪.‬‬
‫كانـت سياسـات (األمميـة الشـيوعية) يف البلـدان املسـتعمرة والتابعـة‬
‫يف مؤتمراتهـا األوىل تقـوم علـى أسـاس دعم النضـال املعـادي لإلمربيالية الذي‬
‫كانـت ختوضه احلركات الوطني�ة‪ ،‬والسـعي لربط هـذه احلركات يف حلف متني‬
‫مـع الدولـة االشتراكية (االحتـاد السـوفييت) وحركـة الطبقـة العاملـة الثوريـة‬
‫يف البلـدان الرأسـمالية مـن جانـب‪ ،‬ومـن اجلانـب األخـر دعـم النضـال الـذي‬
‫خيوضـه الشـيوعيون لتكويـن أحزابهـم الثورية وربـط النضال من أجـل التحرر‬
‫الوطني يف بلدانهـم بالنضـال مـن أجل حترير الفالحين من قيـود اإلقطاع (كما‬
‫رأينـ�ا يف الفصـل الرابع)‪.‬‬
‫ولكـن يف املؤتمـر السـادس لألممية الشـيوعية عـام ‪ 1928‬خـرج املؤتمر‬
‫بسياسـة «املواجهـة الطبقيـة»‪ ،‬سياسـة «طبقـة ضـد طبقـة»‪ ،‬وكان هـذا‬
‫اخلـط يتفـق والتحـوالت الفكرية والسياسـية اليت نادى بها احلزب الشـيوعي‬
‫يف االحتـاد السـوفييت يف تلـك السـنة‪ .‬فبعـد فشـل الثـورة يف ألمانيـ�ا وسـقوط‬
‫اجلمهوريـة السـوفيتي�ة يف هنغاريـا‪ ،‬وهبـوط املوجـة الثورية التي تصاعدت يف‬
‫أوربـا إثـر انتصار ثورة أكتوبر يف روسـيا‪ ،‬مال الوضع يف بلدان أوربا إىل االسـتقرار‬
‫وصـار احلديـث جيـري عـن «االسـتقرار النسبي للرأسـمالية»‪ .‬وقـد اسـتمرت‬
‫هـذه احلـال طـوال الفرتة ما بني ‪ 1923‬و‪ .1928‬ويف عام ‪ 1928‬شـرع سـتالني‬
‫خبطـه اليسـاري يف االحتـاد السـوفييت‪ ،‬وكان يعتقـد أن الرأسـمالية مقبلـة علـى‬
‫فترة عصيبـ�ة تشـجعه على هذا نـذر األزمـة االقتصادية اليت نشـبت بعد عام‪.‬‬
‫وسيرا علـى هذا اخلط شـرع الكومنترن يؤكـد أن تن�اقضات الرأسـمالية مقبلة‬
‫علـى االنفجـار‪ ،‬وأن البورجوازيـة لـن تسـتطيع السـيطرة على األزمـة القادمة‪.‬‬
‫وكان هـذا اخلـط يتفق وسياسـة سـتالني يف تشـديد الصراع الطبقـي يف االحتاد‬
‫السـوفييت وتصفيـة كل العناصـر الرأسـمالية يف املدينـ�ة والريف وبسـرعة‪.‬‬
‫هـذا اخلـط القائـم علـى تشـديد الصـراع الطبقـي‪ ،‬امتـد إىل كل‬
‫املسـتعمرات‪ ،‬بغـض النظـر عـن درجـة تطـور هـذه البلـدان ومـدى نمـو وتبلـور‬
‫‪193‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الطبقـة العاملـة وقدرتهـا علـى منازلـة البورجوازيـة الوطني�ة‪ .‬أضـف إىل ذلك‪،‬‬
‫فـإن الطبقـة العاملـة اليت خترج تـوا من رحم الريـف واألصنـاف احلرفية كانت‬
‫عاجـزة موضوعيـا عـن حتقيق «الطهـر الطبقي» الـذي كانت تشـدد عليه هذه‬
‫السياسـة‪.‬‬
‫انعكـس خـط الكومنترن هـذا علـى سياسـة احلـزب الشـيوعي العـرايق‪.‬‬
‫ولذلـك جـاءت (كفاح الشـعب) يف عددهـا الثالث (‪ )1935‬تدعـو إىل النضال‬
‫مـن أجـل «تركيز السـلطة يف أيـدي العمـال والفالحين» ومـن أجـل «إطلاق‬
‫الثـورة االجتماعيـة ‪ -‬بلا تأخير ‪ -‬يف كل مجـاالت احلياة األخـرى وحترير الناس‬
‫مـن أشـكال اخلضـوع املتنوعـة»‪ .‬وكان بعـض الشـيوعيني األوائـل‪ ،‬حتى قبل‬
‫أن يؤسسـوا حزبهـم ويصـدروا جريدتهـم وينـ�ادوا بهـذه األهـداف‪ ،‬قـد اختـذوا‬
‫موقفـا متشـددا مـن القـوى الديمقراطيـة اليسـارية األخـرى‪ ،‬كمـا عكـس‬
‫ذلـك رد قاسـم حسـن علـى «الشـعبي�ة»‪ ،‬وكمـا عكسـت ردود يوسـف متي‬
‫املتشـددة يف مجلـة (عطـارد) علـى «الشـعبي�ة»‪ .‬لقـد أثـار الشـيوعيون‪ ،‬بوجه‬
‫خـاص‪ ،‬الهجـوم الـذي شـنت�ه «الشـعبي�ة» علـى مفهـوم «الصـراع الطبقـي»‬
‫وترديدهـا افتراءات الدعايـة االسـتعمارية عـن موقـف الشـيوعية مـن الديـن‬
‫والعائلـة‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن موقـف الشـيوعيني مـن جماعـة «الشـعبي�ة» لـم‬
‫يكن متجانسـا‪ .‬ففي حني كان قاسـم حسـن وحسـن عباس الكرباس ويوسف‬
‫متى يقفـون موقفـا متشـددا مـن اجلماعـة ويـرون فيهـا امتـدادا لفكـر األمميـة‬
‫الثانيـ�ة يف احلركـة الثوريـة يف العـراق‪ ،‬كان يوسـف سـلمان يوسـف وجميـل‬
‫تومـا ونـوري روفائيـ�ل يتعاونـون مـع اجلماعـة املذكورة‪ ،‬وينشـطون يف مراسـلة‬
‫جريدتهـا‪ ،‬األهـايل‪ .‬مـن اجلانـب املقابـل عمـل كامـل اجلـادريج‪ ،‬كمـا يالحـظ‬
‫زكـي خيري علـى إبعادهـا عـن خطهـا الراديـكايل وحتويلهـا إىل الطريـق الليربايل‪.‬‬
‫‪ 25 25‬وقـد سـعى إىل أن حيـد مـن كتابـات الشـيوعيني يف (األهـايل) لـوال املوقـف‬
‫الرافـض الـذي وقفـه عبـد القـادر إسـماعيل‪ 26 26 .‬ويـروي محمـود األطـرش أنـه‬
‫«كان جبانـب احلزب الشـيوعي العـرايق النائش جماعة مـن الوطنيني الثوريني‬
‫ملتفـة حـول جريـدة (األهـايل) وعلـى رأسـهم املحـايم عبـد القـادر اسـماعيل‪،‬‬
‫وقـد الحظنـا مـن رسـائل ونشـرات الرفـاق الشـيوعيني يف العـراق‪ ،‬وجـود حملة‬
‫انتقـادات شـديدة ونضـال ضد هـذه اجلماعة مـن الوطنيني الثوريين‪ .‬عندها‬
‫توجهنـا إليهـم راجين منهم إعادة النظـر يف موقفهم هذا‪ ،‬وقلنا لهـم حنن ال نود‪،‬‬
‫أيهـا الرفـاق األعزاء‪ ،‬التدخل يف شـؤونكم الداخلية وأنتم تفهمون قضاياكم خري‬
‫منـا‪ ،‬إال أننـ�ا نالحـظ أن انتقاداتكـم ونصالكـم ضد هذه اجلماعـة من الوطنيني‬

‫‪ .25‬زكي خريي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.78‬‬


‫‪ .26‬كامل اجلادريج‪ ،‬مذكرات كامل اجلادريج‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪ ،1970 ،‬ص ‪.45‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪194‬‬

‫الثوريين‪ ،‬وإن كانـت علـى حـق يف كثير مـن األمـور‪ ،‬إال أنـه خيشى أن تنسـيكم‬
‫العـدو األسـايس‪ ،‬العـدو األكبر‪ ،‬أال وهـو اإلمربياليـون الربيطانيـون وعميلتهـم‬
‫الرجعيـة املحليـة»‪ .‬ويضيـف «منـذ ذلـك العهد لـم نطالع ال يف رسـائل احلزب‬
‫الشـيوعي العـرايق وال يف أدبي�اتـه أي حتامـل على اجلناح الوطني الثوري للحركة‬
‫‪27 27‬‬
‫التحرريـة يف العـراق»‪.‬‬
‫للحقيقـة‪ ،‬نذكـر هنا أن الشـيوعيني العراقيني عهـد ذاك لم تنفع معهم‬
‫نصيحـة محمـود األطرش‪ ،‬بقدر ما فعل التبـ�دل الذي طرأ على خط الكومنرتن‬
‫قبـل انعقـاد املؤتمر السـابع والدعوات اليت أطلقها جـوريج ديمرتوف وغريه من‬
‫قـادة األمميـة الشـيوعية إىل إعادة النظر باخلط اليسـاري املتشـدد الذي اختذه‬
‫املؤتمـر السـادس لألمميـة الشـيوعية واملتمثـل بشـعار «طبقـة ضـد طبقة»‪،‬‬
‫واسـتب�داله بشـعار «اجلبهـات املوحـدة ضـد الفاشـية واجلبهـات الوطني�ة يف‬
‫املسـتعمرات والبلدان التابعة»‪.‬‬
‫لقـد كانـت البورجوازيـة الصغيرة واملتوسـطة تواجـه يف العـراق وضعـا‬
‫صعبـا حتـت تأثير األزمـة االقتصاديـة التي عانـت منهـا البلاد طويلا ‪ ٠‬كذلك‬
‫فـإن تدهـور الصناعـات احلرفيـة املتواصـل كان يزيـد مـن بـؤس احلرفيين‬
‫(البورجوازيين الصغـار)‪ .‬لقـد انعكسـت األوضـاع املتدهـورة لهـذه الفئـات‬
‫االجتماعيـة علـى مزاجها وسـلوكها السـيايس‪ ،‬وسـخطها ومعارضتهـا للهيمنة‬
‫االسـتعمارية ونشـاطاتها الثوريـة‪ .‬ورفعـت شـعارات سياسـية واقتصاديـة‬
‫كانـت لهـا أصداء واسـعة بني أوسـاط العمال ألنهـم هم أيضا كانـوا يعانون من‬
‫ذات األوضاع الصعبة اليت حاقت بالبالد‪ ،‬السـيما وأن وشـاجئ اجتماعية كانت‬
‫التـزال تربـط العمال بهذه الفئـات االجتماعية‪ .‬إن ضعـف التمايز الطبقي كان‬
‫يدفـع إىل تشـابك املصالـح والنظـرات واملواقـف السياسـية واإليديولوجيـة‬
‫عامـة‪ .‬وكانـت الشـعبي�ة تعبيرا عـن تشـابك هـذه املصالـح والنظـرات‪ .‬مـن‬
‫اجلانـب املقابـل‪ ،‬فـإن الظـروف الصعبـة التي أحاطـت باحلـزب منـذ نشـأته‬
‫األوىل لـم تـدع لـه الفرصة لكي يطـور جتربت�ه يف هذا الشـأن ولم توفـر له الوقت‬
‫املناسـب لكـي يتماسـك كحـزب للكادحين يشـق دربـه وسـط هـذه املصاعـب‬
‫السياسـية واإليديولوجيـة‪.‬‬
‫جـاءت فرصـة مشـاركة احلـزب يف املؤتمـر السـابع لألمميـة الشـيوعية‬
‫(الكومنترن) مناسـبة هامـة بالنسـبة للتعـرف املباشـر علـى خبرة األحـزاب‬
‫الشـقيقة‪ ،‬السـيما يف البلاد التي تقـارب ظروفهـا أوضـاع العـراق‪ .‬كان املؤتمـر‬
‫قـد انعقـد يف ظـروف بالغة الدقة‪ ،‬إذ اسـتطاعت الفاشـية يف ألمانيـ�ا أن تقبض‬
‫‪ .27‬يوســف خطــار احللــو‪ ،‬أوراق مــن تاريخنــا‪ ،‬ج ‪ ،2‬دار الفــارايب‪ ،‬بــروت‪ ,1992 ,‬ص‬
‫‪.167‬‬
‫‪195‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫على السـلطة‪ ،‬وشـرعت تكشـف عن أطماعها التوسـعية وتدق طبول احلرب‬


‫وتتوعـد هـذا وذاك‪ ،‬وتفاقمـت النعـرات العنصرية ونزعـات التعصب القويم‬
‫يف كل مـكان‪ ،‬وكان الشـيوعيون يف كل بلـد يـرون أنهـم مقبلين علـى أيـام صعبـة‬
‫بعـد أن وضـع الفاشـيني‪ ،‬وبتشـجيع مـن الـدول الرأسـمالية الكبرى األخـرى‬
‫الشـيوعيني علـى رأس قائمـة أعدائهـم الذيـن تنبغـي تصفيتهـم‪ ،‬ويجـري‬
‫احلديـث عـن العمـل للتخلـص مـن الدولـة االشتراكية األوىل‪ ،‬ورغـم أن هـذه‬
‫الدولـة كانـت تتقـدم بسـرعة‪ ،‬اال أنها حتسسـت اخلطـر القادم‪ ،‬وبـدأت احلياة‬
‫فيهـا تصطبغ شـيئ�ا فشـيئ�ا بألوان احلـرب الداكنة‪ .‬ويف العراق أخـذت الدعاية‬
‫إىل الفاشـية تتعـاىل كثيرا‪ ،‬ويتحـرك غروبـا‪ ،‬الوزيـر املفـوض األلمـاين بنشـاط‬
‫ملحوظ‪ ،‬وينشـر يف أوسـاط الشـباب «القويم» احلديث عن القوة والتسـلح‬
‫واألفـكار العنصريـة ويـردد سـايم شـوكت وأضرابـه هـذه األفـكار بين طلاب‬
‫املدارس‪.‬‬
‫يف هـذا اجلـو انعقـد املؤتمـر السـابع للكومنترن‪ .‬وكان احلـزب قـد قرر أن‬
‫يوفـد عاصـم فليح املسـؤول األول للحـزب ليمثله أمام املؤتمر‪ -‬ولهـذا‪ ،‬غادر يف‬
‫أواخـر تمـوز ‪ ،1935‬لكن السـلطات األمني�ة الفرنسـية يف حلـب مزيته وأعادته‬
‫إىل العـراق‪ ،‬إنـذاك قـرر احلـزب إرسـال قاسـم حسـن بدال عنـه‪ ،‬وقد سـافر هذا‬
‫فعلا والتقـى بيوسـف خطـار احللو ورضـوان احللو يف اسـطنبول وكانـا يزمعان‬
‫السـفر إىل موسـكو حلضـور املؤتمـر السـابع لألمميـة ممثلين عـن احلـزب‬
‫الشـيوعي السـوري ‪ -‬اللبنـ�اين واحلـزب الشـيوعي الفلسـطيين علـى التـوايل‪.‬‬
‫وقـد شـارك يف أعمـال املؤتمـر أحـد عشـر مندوبـا عـن األحـزاب الشـيوعية يف‬
‫البلـدان العربيـ�ة‪ ،‬ثالثـة مـن فلسـطني وثالثـة مـن سـوريا ولبنـ�ان‪ ،‬واثنـ�ان مـن‬
‫اجلزائـر‪ ،‬ومنـدوب واحـد مـن كل مـن مصـر والعـراق وتونـس‪.‬‬
‫وطبقـا لالسـتمارات التي يتعين علـى املندوبين إمالؤهـا ليحـق لهـم‬
‫املشـاركة‪ ،‬جـاء يف االسـتمارة التي دونهـا قاسـم حسـن مـا يلـي‪:‬‬
‫العراق‬ ‫البلد‬
‫قاسم حسن‬ ‫االسم احلزيب‬
‫ناشموف بيميل‬ ‫االسم يف املؤتمر‬
‫عريب‬ ‫القومية‬
‫مواليد عام ‪1910‬‬ ‫سنة الوالدة‬
‫من منشأ بورجوازي صغري مثقف‬ ‫املنشأ االجتماعي‬
‫لم أنه الدراسات العليا‬ ‫مستوى التعليم‬
‫لم أدرس يف أية مدرسة حزبي�ة‬ ‫هل درست يف مدرسة حزبي�ة‪ ..‬أين ومىت؟‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪196‬‬

‫صحفي خالل ‪ 3‬سنوات‬ ‫املهنة‪ ،‬ومنذ مىت تعمل بها؟‬


‫مصدر املعيشة حاليا‬
‫لم أعمل يف فرع الكومنرتن‬ ‫يف أي فـرع من فـروع الكومنرتن تنشـط ومنذ‬
‫مىت؟‬
‫لم أكن عضوا يف أي حزب أخر‬ ‫هل كنت عضوا يف حزب آخر؟‬
‫أنشـط منـذ عـام ‪ 1932‬مـع مجموعـة‬ ‫مـا هـي املهمـة التي تقـوم بهـا منـذ املؤتمـر‬
‫شـيوعية‪ ،‬واشتركت يف تشـكيل مجموعـة‬ ‫السـادس للكومنترن؟‬
‫شـيوعية وقـدت املنظمـة‬
‫هـل لوحقـت مـن الشـرطة‪ ،‬وكـم سـنة بقيـت يف السـجن ملـدة ‪ 4‬أشـهر يف نهايـة‬
‫عـام ‪ ،1934‬حيـث اتهمـت بت�أسـيس حزب‬ ‫أمضيـت يف السـجون؟‬
‫شـيوعي يف العراق‪ ،‬ووضعت يف عام ‪،1935‬‬
‫بسـبب االنتفاضـة‪ ،‬حتـت إمـرة املحكمـة‬
‫العسـكرية قبـل أن أتمكـن مـن الهـرب‬
‫لم أشرتك يف أي مؤتمر‬ ‫هل اشرتكت يف مؤتمرات عاملية سابقا؟‬
‫قدمت من البالد‬ ‫هل قدمت من بلدك أم من املهجر؟‬
‫هـل أنـت عضـو يف الربلمـان أم يف مجلـس لست عضوا يف برلمان أويف مجلس بلدي‬
‫بلـدي؟‬
‫العربي�ة واإلجنلزيية وقليل من الفارسية‬ ‫ما هي اللغات اليت تعرفها؟‬
‫التوقيع‬
‫التاريخ ‪1935/7/16‬‬
‫وحين قـدم ممثـل احلـزب الشـيوعي العـرايق طلـب احلـزب لالنتسـاب‬
‫إىل األمميـة‪ ،‬اعترض ممثـل القسـم املختـص يف األمميـة الشـيوعية بشـؤون‬
‫احلركـة الشـيوعية يف البلـدان العربيـ�ة قائلا إن القسـم املذكـور ال يملـك أيـة‬
‫وثيقـة عـن احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬وطلـب تأجيـل البـت بالطلـب حتى‬
‫يتيسـر للجنـة التنفيذية أن تدرسـه‪ ،‬فوافق املؤتمر على ذلـك وتأجل النظر فيه‬
‫ملـدة سـتة أشـهر‪ ،‬واعتبر مندوب احلـزب مراقبـا فقـط‪ .‬وبالفعـل درس الطلب‬
‫وتقـرر قبـول احلزب يف األممية الشـيوعية عضوا كامل احلقـوق يف عام ‪.1936‬‬
‫وإىل جانـب املؤتمـر السـابع لألمميـة انعقـد اجتمـاع األمميـة النقابيـ�ة احلمراء‬
‫(الربوفنترن)‪ ،‬وقـد شـارك فيـه يوسـف سـلمان يوسـف الـذي كان يـدرس يف‬
‫مدرسـة كاديح الشـرق ممثلا عـن العمـال يف العـراق‪.‬‬
‫تكمـن أهميـة املؤتمـر السـابع لألمميـة الشـيوعية يف كونـه تصـدى إىل‬
‫مهمـات غايـة يف األهمية كانت تواجه احلركة الشـيوعية العامليـة يومذاك‪ .‬إن‬
‫صعود الفاشـية إىل دسـت احلكم يف ألماني�ا وإيطاليا وتعاونهما مع العسـكرية‬
‫‪197‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫اليابانيـ�ة كان يعني أن العالـم أصبـح يواجـه خطـر انفجـار حـرب عامليـة مدمرة‬
‫آخـذة باالقتراب بسـرعة‪ .‬وكان هـذا يطـرح علـى احلركـة الشـيوعية مهمـة‬
‫صـوغ االستراتييج والتكتيـك الضروريين للحركـة العماليـة لتحشـيد أوسـع‬
‫القـوى للوقـوف يف وجـه هـذا اخلطـر املحـدق‪ .‬علـى هذا األسـاس طـرح جوريج‬
‫ديمتروف‪ ،‬القائـد البلغـاري يف سـكرتارية الكومنترن‪ ،‬مهمـة العمـل احلثيـث‬
‫والفـوري إلقامـة اجلبهـة الشـعبي�ة الواسـعة يف البلـدان الرأسـمالية ضـد‬
‫الفاشـية واجلبهـة الوطني�ة ضد االسـتعمار يف املسـتعمرات والبلـدان التابعة‪.‬‬
‫كذلـك ناقـش املؤتمـر طبيعـة الفاشـية والعوامـل التي تدفـع إىل ظهورهـا‪،‬‬
‫وأبـان أن الفاشـية ال تـدل فقـط على ضعـف حركة الطبقـة العاملـة وإنما تدل‬
‫أيضـا علـى ضعـف البورجوازيـة وعجزهـا عـن احلكـم بأسـاليب الديمقراطية‬
‫البورجوازيـة المألوفـة‪ ،‬ولذلـك باتـت تلجـأ إىل اإلرهـاب والتضليـل وسـيلتني‬
‫أساسـيتني لتثبيـت سـلطانها‪ .‬إن الفاشـية ليسـت‪ .‬سـلطة فـوق الطبقـات‪،‬‬
‫وهـي ليسـت سـلطة البورجوازيـة الصغيرة‪ ،‬رغـم أنهـا تسـتفيد مـن حتشـيد‬
‫البورجوازية الصغرية وحثالة الربوليت�اريا حولها‪ ،‬إنها سـلطة رأس المال الكبري‬
‫وهـي منظمـة االضطهاد اإلرهـايب ضد الطبقـة العاملة وكل العناصـر الثورية‪،‬‬
‫وهـي تعتمـد الديماغوجيـة والتعصب القـويم يف تعاملها مـع اآلخرين‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫ليـس غريبـ�ا ادعاؤهـا الدفـاع عـن احلقـوق املسـلوبة والتظاهـر بالديمقراطيـة‬
‫واالشتراكية ومهاجمـة الفـوىض وفسـاد اجلهـاز البريوقراطي البورجـوازي من‬
‫أجـل أن تسـتميل إىل جانبهـا قـوى الشـغيلة غير الواعيـة‪.‬‬
‫وقـد أعـار املؤتمـر السـابع للكومنترن انتب�اهـا خاصـا يف القـرار املفصـل‬
‫الـذي اختذه بعنوان «مهمات األحزاب الشـيوعية يف البلـدان العربي�ة يف الكفاح‬
‫مـن أجـل جبهـة شـعبي�ة ضـد اإلمربياليـة» إىل وضـع األحـزاب الشـيوعية يف‬
‫املنطقـة‪ .‬فقـد الحظـت سـكرتارية األمميـة أن هـذه األحـزاب ظلـت لفترة‬
‫طويلـة مجموعات بعيدة عن اجلماهري بسـبب انعزاليـة تكتيكاتها‪ ،‬ودعتها إىل‬
‫أن تعمـل حبـزم على مسـاندة احلركة التحرريـة الوطني�ة‪ ،‬والوطنيين الثوريني‬
‫علـى اخلصـوص‪ .‬وانتقـد القـرار تعلـق هـذه األحـزاب بالثـورة االشتراكية‬
‫والتعبير عـن أهدافهـا بشـعارات مجـردة ال يفهمهـا الشـعب‪ ،‬وهجومهـا علـى‬
‫الوطنيين ‪ -‬اإلصالحيين‪ .‬وأكد القـرار أن على الشـيوعيني يف البلدان العربي�ة‬
‫أن يدركـوا إدراكا عميقـا أنهم مسـئولون عن مصائر شـعوبهم وبلدانهم وعليهم‬
‫تقـع مسـؤولية النتيجـة اليت ينتهـي إليها النضـال من أجل االسـتقالل الوطين‬
‫واالنعتـاق االجتماعـي‪ ،‬وقـال إنهـم ورثـة وحمـاة أفضـل التقاليـد الوطنيـ�ة‬
‫والثقافيـة لشـعوبهم‪.‬‬
‫وخـص الكومنترن الشـيوعيني العراقيني بقوله‪ :‬إن الهدف األسـاس يف‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪198‬‬

‫العـراق هـو إقامـة حركة وطنيـ�ة ‪ -‬حترريـة ثوريـة جماهريية‪ ،‬وتوحيـد العناصر‬
‫الوطنيـ�ة الثوريـة يف حـزب قانـوين جماهريي يرفـع برنامجـا ديمقراطيا عريضا‪.‬‬
‫وكان مـن رأي السـكرتارية أن القرابـة واللغـة والتضامـن الـذي جيمـع‬
‫الشـعوب العربيـ�ة يف النضـال ضـد اإلمربياليـة ويف سـبي�ل االسـتقالل الوطني‬
‫تطـرح علـى األحـزاب الشـيوعية يف املنطقـة مهمـة تأمين صلات منظمـة‬
‫تنظيمـا جيـدا بينهـا لغـرض تبـ�ادل املعلومـات والتجـارب واملسـاعدة وتركيز‬
‫احلملات وإصـدار النـداءات والتعـاون يف نشـر األدب السـيايس والدوريـات‪.‬‬
‫ويف الوقـت الـذي أكد فيـه ديمرتوف أهمية الروابـط املتين�ة بني األحزاب‬
‫الشـيوعية يف البلـدان العربيـ�ة عارض فكرة تكوين منظمـة حزبي�ة عربي�ة عامة‬
‫موحـدة‪ ،‬كمـا عـارض الطـرح غير الناضـج لشـعار تأسـيس جمهوريـة عربيـ�ة‬
‫موحـدة فـورا‪ .‬وكان يـرى أن هـذه الفكـرة نابعـة مـن تفكير قائـم علـى الرغبـة‪.‬‬
‫‪ 28 28‬لقـد كان الشـيوعيون يف بلـدان املشـرق العـريب يعملـون يف أوائـل الثالثينـ�ات‬
‫مـن أجـل إجيـاد شـكل مـن التنسـيق وتبـ�ادل اخلبرة بين األحـزاب الشـيوعية‬
‫واملنظمـات الثوريـة يف األقطـار العربي�ة يف املشـرق من أجل انتزاع أكرث ما يمكن‬
‫مـن مطالبهـا اليوميـة والعمـل لتحقيـق االسـتقالل الوطني والديمقراطيـة‬
‫كخطـوة أوىل يف طريـق حتقيـق الوحـدة بين الشـعوب العربيـ�ة‪ ،‬كمـا يذكـر‬
‫محمـود األطـرش يف مذكراتـه‪ .‬وقـد بـادر احلزب الشـيوعي السـوري ‪ -‬اللبن�اين‬
‫إىل عقـد مؤتمـر للمثقفين الثوريين العـرب يف زحلـة سـنة ‪ 1934‬لوضـع‬
‫مشـروع وحـدوي عـريب‪ .‬وبمبـادرة من األممية الشـيوعية صـدرت يف باريس يف‬
‫أيلـول ‪ 1933‬جريدة (الشـرق العريب) كأداة إعالميـة ثورية توجيهية وحدوية‪،‬‬
‫وكانـت تقـوم بـدور لسـان حـال لألحـزاب الشـيوعية السـيما يف سـوريا ولبنـ�ان‬
‫والعـراق‪ -‬وكانـت تدخـل سـرا إىل سـوريا ولبنـ�ان ألن السـلطات الفرنسـية‬
‫منعـت دخولهـا العلني‪ .‬ويف خريـف ‪1935‬اجتمـع مندوبـون عـن مختلـف‬
‫األحـزاب الشـيوعية العربيـ�ة وتوصلـوا إىل أن االحتـاد العـريب االختيـ�اري بين‬
‫األقطـار العربي�ة املسـتقلة هو أنسـب األشـكال للتقارب والتعـاون بني األقطار‬
‫العربيـ�ة يف الظـرف القائـم آنـذاك‪ .‬وسـتكون لنا وقفـة مطولة مع هـذا املوضوع‬
‫اجلوهـري يف الفصـول القادمـة‪.‬‬
‫عـاد قاسـم حسـن مـن املؤتمر وهو مشـبع بفكـرة السـعي احلثيث لعقد‬
‫اجلبهـة الشـعبي�ة ضـد االسـتعمار‪ ،‬وكان قـد تـوىل قيـادة احلـزب بعـد أن شـرع‬
‫عاصـم فليـح باالنـزواء عـن العمـل السـيايس‪ .‬اجتـه قاسـم حسـن للعمـل مـن‬
‫أجل اجلبهة الشـعبي�ة ويف هذا الشـأن تقول مذكرات حسـن عبـاس الكرباس‪:‬‬
‫‪ .28‬أ‪ .‬ريزنيكــوف‪ ،‬الكومنــرن والشــرق‪ ،‬ترجمــة نصــر ســعيد الكاظــي‪ ،‬مركــز األحبــاث‬
‫والدراســات االشــراكية يف العالــم العــريب‪ ،‬دار الفــارايب‪ ،‬بــروت‪ ،1987 ،‬ص ‪.342‬‬
‫‪199‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫«بعـد مـرور وقـت مـن عـام ‪ 1936‬صـار قاسـم حسـن ينقـل إلينـ�ا‬
‫أخبـارا عـن صالت احلـزب باجلماعات السياسـية األخـرى املعارضة‬
‫وعلـى األخـص الشـعبيني منهـم‪ ،‬ويصـور لنـا العمـل معهـم علـى‬
‫أسـاس مـا يسمى باجلبهـة الشـعبي�ة‪ ،‬ويـأيت يف مقدمـة الشـعبيني‬
‫هـؤالء جعفـر أبـو التمـن ثـم كامـل اجلـادريج وعبـد الفتـاح ابراهيـم‬
‫وعبـد القـادر اسـماعيل وغريهـم‪ .‬والشـعبيون بدورهـم تضافـروا مـع‬
‫حكمـت سـليمان‪ ،‬وهـذا األخري مع بعـض ضباط اجليش‪ ،‬فتشـكلت‬
‫املعارضـة التي أدت إىل حصـول االنقلاب العسـكري يف ‪ 29‬تشـرين‬
‫‪29 29‬‬
‫أول ‪ 1936‬الـذي أسـقط حكومـة ياسين الهاشمي»‪.‬‬

‫يف ‪ 29‬تشـرين األول ‪ 1936‬حـدث انقلاب بكـر صـديق‪ .‬إن االنقلاب‪،‬‬


‫إذا تغاضينـ�ا عـن الطمـوح الشـخيص لقائـده العسـكري‪ ،‬بكـر صـديق‪ ،‬وسـعيه‬
‫إىل االندمـاج السـريع بلعبـة الصراع على السـلطة اليت اسـتهوت عناصر الفئة‬
‫احلاكمـة يف الفترة التي تلـت انتهاء حكـم االنت�داب‪ ،‬واسـتخدام اجليـش كأداة‬
‫رئيسـية لهـذا الصـراع‪ ،‬نقـول إذا تغاضينـ�ا عـن هـذا‪ ،‬فـإن االنقلاب كان تعبيرا‬
‫عـن سـخط فئـات واسـعة‪ ،‬السـيما مـن سـكان املـدن‪ ،‬علـى األوضـاع السـيئ�ة‬
‫التي آل إليهـا العـراق علـى أيـدي الفئـة احلاكمـة التي تعاونـت مـع االسـتعمار‬
‫الربيطـاين بعـد إعلان اسـتقالله الشـكلي‪ .‬بيـ�د أن االنقلاب جـاء‪ ،‬مـن جانـب‬
‫آخـر‪ ،‬تعبيرا عـن فقـدان الثقـة لـدى الشـعب بأسـاليب الديمقراطيـة الزائفـة‬
‫واألالعيـب «االنتخابيـ�ة»‪ ،‬التي أريـد منهـا أن تكـون مصيـدة لشـراء الذمـم‬
‫ومصـدة تنتهـي عندهـا ألـوان املعارضـة البورجوازيـة‪ ،‬وتعبيرا أيضـا عـن يأس‬
‫الربجوازيـة الوطنيـ�ة ‪ -‬اإلصالحيـة مـن القـدرة علـى تب�ديـل الوضـع اسـتن�ادا‬
‫إىل حـركات جماهرييـة واسـعة لكنهـا عفويـة يف الغالـب‪ ،‬كمـا لـم يكن بوسـعها‬
‫االسـتن�اد إىل القاعـدة الريفيـة وهـي يف وعيهـا املتخلف كانت ختضـع للعالقات‬
‫القبليـة األبويـة‪ ،‬وتـورط رؤسـاء أغلـب القبائـل يف لعبة املنافسـة علـى األرض‬
‫واملصالـح واجلـاه‪ .‬لذلـك اجتهـت هـذه املعارضـة صـوب اجليـش لتتخـذ منـه‬
‫أداتهـا يف التغيير الـذي تنشـده‪.‬‬
‫جنـح بكـر صـديق‪ ،‬الـذي عـرف قبـل االنقلاب بقسـوته يف ضـرب تمـرد‬
‫العشـائر يف الفرات األوسـط‪ ،‬وكان قد أبدى قبي�ل االنقالب استعداده للتعاون‬
‫مـع جماعـة «الشـعبي�ة»‪ 30 30 .‬وتألفـت الـوزارة اجلديـدة برئاسـة حكمـت‬
‫سـليمان الـذي كان قـد انضـم إىل اجلماعـة يف عـام ‪ ،1935‬وكان وسـيطهم إىل‬

‫‪ .29‬مذكرات حسن عباس الكرباس‪ ،‬مخطوطة‪ ،‬ص ‪.57‬‬


‫‪ .30‬فؤاد حسني الوكيل‪ ،‬جماعة األهايل‪ ،‬دار الرشيد‪ ،‬بغداد‪ ،1979 ،‬ص ‪.367‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪200‬‬

‫التعـاون مـع بكـر صـديق‪ 31 31 .‬وجـاءت حكومـة االنقلاب لتجمـع بين اجتاهين‬
‫متن�اقضين‪ :‬اجتـاه ديمقراطـي لبرايل تمثلـه جماعـة «الشـعبي�ة»‪ ،‬وأخـر معـاد‬
‫للديمقراطيـة يمثلـه العسـكريون وعلـى رأسـهم بكر صـديق‪ .‬وقد تضمـن بي�ان‬
‫االنقلاب عـددا مـن املطالـب الشـعبي�ة كحريـة الصحافـة وإجـازة النقابـات‬
‫العماليـة ووعـودا إصالحيـة‪ ،‬لكنـه سـكت عـن املعاهدة مـع بريطانيـ�ا ومال إىل‬
‫تطمينهـا‪.‬‬
‫وجـد االنقلاب الرتحيـب لـدى القـوى التقدميـة يف العالـم‪ ،‬ووصفتـه‬
‫صحافـة الكومنترن باحلكـم الوطني ذي املسـحة التقدميـة‪ 32 32 .‬ويف الداخـل‬
‫سـارع الشـيوعيون إىل مسـاندة االنقلاب‪ ،‬واندفعـوا إىل حتريـك اجلماهير‬
‫لتأييـ�ده‪ ،‬وسـارعوا إىل إصـدار منشـور باسـم احلـزب الشـيوعي العـرايق يعلـن‬
‫تأييـ�ده لالنقلاب يف األول مـن تشـرين الثـاين‪ 33 33 .‬ونظمـوا بالتعـاون مـع‬
‫جماعـة (األهـايل) عددا مـن املظاهرات يف مـدن مختلفة كانت أكربهـا يف بغداد‬
‫والبصـرة بقيـادة الشـيوعيني‪ .‬ففـي ‪ 1936/11/3‬انطلقـت مظاهـرة كبيرة‬
‫نظمهـا وقادهـا الشـيوعيون مـن الكـرادة الشـرقية علـى قـرع الطبـول‪ ،‬وكان‬
‫أغلـب املشـاركني فيهـا مـن الشـغيلة الفقـراء وكانـوا يـرددون هتافـات تطالـب‬
‫باخلبز للجيـاع واألرض للفالحين وتنـ�دد بالفاشـية والتقـت بمظاهـرة أخـرى‬
‫صغيرة للطلاب كان يقودهـا الشـيوعيون أيضـا عنـد جامـع احليدرخانـة يف‬
‫‪34 34‬‬
‫شـارع الرشـيد‪.‬‬
‫وقـد سـارعت حكومـة االنقلاب إىل اإلفـراج عـن الصحـف املعطلـة‪،‬‬
‫وأجـازت جمعيـة اإلصلاح الشـعيب التي كان وراء تأسيسـها كل مـن جماعـة‬
‫«الشعبي�ة» واحلزب الشيوعي العرايق‪ ،‬وأطلقت سراح السجناء السياسيني‬
‫ويف مقدمتهـم مهـدي هاشـم وزكـي خيري وأجـازت إدخـال الكتـب التقدميـة‬
‫بمـا فيهـا الماركسـية‪ ،‬وأفرجـت عـن املحكومين يف حتـركات الفـرات األوسـط‬
‫وسـوق الشـيوخ والزييديـن والبارزانيين‪ .‬لقـد أنعشـت هـذه اإلجـراءات مـن‬
‫وضـع احلـزب وزادت مـن قـدرة الشـيوعيني علـى التحـرك‪ ،‬كذلـك زادت مـن‬
‫‪ .31‬لــم يكــن جميــع قــادة «الشــعبي�ة» راغبــن يف التعــاون مــع بكــر صــديق‪ ،‬فقــد رفض عبد‬
‫الفتــاح ابراهيــم ذلــك وانســحب مــن اجلماعــة بعــد أن رفضــت اجلماعــة األخــذ بنصيحتــه‬
‫بعــدم التعــاون (بطاطــو‪ ،‬الكتــاب األول‪ ،‬ص ‪ ،)340‬فــؤاد الوكيــل‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص‬
‫‪.367‬‬
‫‪ .32‬س‪ .‬عبــود (محمــود األطــرش)‪ ،‬مجلــة املراســلة األمميــة‪ ،‬األمميــة الشــيوعية‪ ،‬شــباط‬
‫‪.1937‬‬
‫‪ .33‬حسن عباس الكرباس‪ ،‬مذكرات‪ ،‬ص ‪.59‬‬
‫‪ .34‬فؤاد الوكيل‪ ،‬ص ‪385‬؛ زكي خريي‪ ،‬ص ‪102‬؛ بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫‪201‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫جـرأة احلركـة العماليـة علـى التحـرك‪ ،‬فقد أضرب عمـال شـركة بلفوربيت اليت‬
‫كانـت تبين سـد الكـوت وعمال احلياكـة يف النجف وعمال شـركة باتا لألحذية‬
‫وعمـال املينـ�اء وعمـال الفنـادق واملطاعـم يف بغـداد وعمـال النفـط وعمـال‬
‫‪35 35‬‬
‫أمانـة العاصمـة وعمـال شـركة الدخـان األهليـة وعمـال البنـ�اء وغريهـم‪.‬‬
‫وقـد جـاءت إضرابـات العمـال لترد علـى بكـر صـديق الـذي أنكـر وجـود الطبقـة‬
‫العاملـة وحاجتهـا إىل حركـة سياسـية ثوريـة تمثلهـا‪ .‬وقـد سـمح تدفـق الكتب‬
‫والكراريـس الماركسـية املطبوعة يف لبن�ان باتسـاع نشـر الوعـي الماركيس بني‬
‫اجلماهير‪.‬‬
‫مـن املناسـب أن نتحـدث قليال عن امتـداد الوعي الماركيس إىل أوسـاط‬
‫جماهير اليهـود الكادحـة‪ .‬لقـد سـبق لبعـض اليهـود املثقفين أن عمـل يف إطـار‬
‫احلركـة الوطنيـ�ة العامـة‪ ،‬وأسـهم بعضهـم يف النشـاطات اجلماهرييـة ضـد‬
‫معاهـدة ‪ 1930‬العراقيـة ‪ -‬الربيطانيـ�ة‪ ،‬وكان سـليم زلـوف مـن بين الذيـن‬
‫اعتقلـوا لدعوتهـم إىل التظاهـر ضـد عقـد املعاهـدة‪ .‬وكانـت مجلـة (احلاصـد)‬
‫التي أصدرهـا املحـايم أنـور شـاؤول قـد ضمـت صوتهـا إىل جانـب الصحـف‬
‫التقدميـة الداعيـة إىل االسـتقالل والتقـدم االجتماعـي‪ ،‬إال أن نشـاطا لـم جيـر‬
‫حتى منتصـف الثالثينـ�ات لكسـبهم إىل صـف احلزب الشـيوعي‪ ،‬والقـول بأن‬
‫مجموعـة شـيوعية مـن الشـباب اليهـودي العـرايق قـد تكونـت برئاسـة يهـودا‬
‫شـالوم ‪ 36 36‬منـذ ‪ 1931-1930‬ال يعـززه أي دليـل وال يؤكـده أي مصـدر آخـر‪.‬‬
‫بعـد انقلاب بكـر صـديق واتسـاع النشـاط الثـوري سـعى احلـزب إىل أن يمـد‬
‫نفـوذه إىل أوسـاط الكادحين اليهـود – وقد روى يل الشـيوعي املعـروف يعقوب‬
‫مصـري (أبـو سـرود) أنـه تعـرف علـى الشـيوعية واحلـزب الشـيوعي يف عـام‬
‫‪ 1937‬عندمـا كان يـدرس يف مدرسـة الصناعة الرسـمية‪ .‬ويف ذلك الوقت أيضا‬
‫اسـتطاع حسـن عبـاس الكربـاس الـذي كان يعمـل آنـذاك يف جريـدة (األهـايل)‬
‫أن يكسـب إىل صـف احلـزب نعيم طويـق الـذي كان يعمل يف جريـدة (الزمان)‬
‫املجـاورة جلريـده (األهـايل)‪ ،‬ومـن خاللـه ضـم الكربـاس إىل احلـزب كال مـن‬
‫يوسـف مكمـل وشـوعة (لعلـه شـوعة بطاط) ويعقـوب كوهني ‪ ، 37 37‬وسـنعود‬
‫يف الفصـول القادمـة إىل احلديـث عـن بعـض هـؤالء‪.‬‬

‫‪ .35‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.418‬‬


‫‪Rony Gabbay, Communism and Agrarian Reform in Iraq, Grom Helm, .36‬‬
‫‪.London, 1978, p 50‬‬
‫ويذكر كباي أن من هؤالء يوسف بلبول وفؤاد عجيم‪.‬‬

‫‪ .37‬مذكرات حسن الكرباس‪ ،‬ص ‪.79‬‬


‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪202‬‬

‫لـم تمـض علـى االنقلاب سـوى بضعـة شـهور حتى جاهـر بكـر صـديق‬
‫ومـن ورائـه حكمت سـليمان عـن موقفهما املعـادي للديمقراطية وشـرع يتهدد‬
‫ويتوعـد القـوى الديمقراطيـة والشـيوعيني بوجـه خـاص‪ ،‬وانطلقـت حملـة‬
‫ضاريـة معاديـة للشـيوعية يف الصحافـة واملجالـس والربلمـان‪ .‬واحلـق إن هذه‬
‫احلملـة لـم تسـتهدف الشـيوعيني وحدهـم وإنما اسـتهدفت االجتـاه التقديم‬
‫بعامـة اإلصالحيين والديمقراطيين الثوريين والشـيوعيني‪ .‬وقـد اسـتخدم‬
‫شـعار محاربـة الشـيوعية لكـي يسـهل حتشـيد أوسـع القـوى بمـن فيهـم‬
‫املحافظين ضـد الديمقراطيين‪ .‬وقـد اصطف يف اخلـط املنـاوئ للديمقراطية‬
‫اجتاهـات مختلفـة‪ .‬فربغـم أن الدوائـر االسـتعمارية الربيطانيـ�ة اطمأنت إىل أن‬
‫حكومـة االنقلاب لن تمس املعاهدة العراقية ‪ -‬الربيطاني�ة بيشء وقد سـكتت‬
‫عنهـا تمامـا يف تصرحيـات املسـؤولني‪ ،‬وأن منهـاج جمعية اإلصالح الشـعيب قد‬
‫غـض النظـر هـو اآلخر عن املعاهدة املذكـورة‪ ،‬إال أن التغيري الـذي حصل لم جيد‬
‫االرتيـ�اح لديهـا‪ ،‬وجـاء بالطريقـة التي ال تطمئن لهـا السـيما وأنهـا ال ترتـاح إىل‬
‫تدخلات ضبـاط اجليـش الكبـار يف توجهات سياسـة البلاد‪ ،‬وأبدت السـفارة‬
‫الربيطانيـ�ة عـدم ارتي�احهـا بوجـه خاص مـن املنهاج الـذي طرحه وزيـر المالية‪،‬‬
‫جعفـر أبـو التمن‪ ،‬املتعلـق بتعديل ضريب�ة الدخـل‪ ،‬ومراقبة املصـارف‪ ،‬وإدخال‬
‫تشـريع يضمـن اسـتثمار أمـوال العراقيين املودعـة لـدى التأمين يف العـراق‪،‬‬
‫واعتبرت أنهـا «تتضمـن خططـا قـد تسـبب صعوبـات ملصالـح بريطانيـ�ا‬
‫التجاريـة»‪ 38 38 .‬زد علـى هـذا‪ ،‬فـإن وجـود التيـ�ار التقـديم يف احلكـم ال ترتـاح لـه‬
‫البت�ة‪.‬‬
‫ولـم تكن حتـركات الدكتور غروبـا‪ ،‬الوزير املفوض األلماين‪ ،‬تتفق أساسـا‬
‫مـع اجتـاه القوى الديمقراطية‪ .‬لقد كان يلتقي يوميا عمليا مع حكمت سـليمان‬
‫وبكـر صـديق‪ ،‬كمـا كانـت لـه عالقـات مـع عبـد اللطيـف نـوري‪ ،‬الشـخصية‬
‫العسـكرية الثانيـ�ة‪ ،‬ومـع نـايج األصيـل‪ ،‬وزيـر اخلارجيـة‪ ،‬وكان يدعـم بقـوة‬
‫الضبـاط العسـكريني القوميين يف اجليـش بزعامـة صلاح الديـن الصبـاغ‪.‬‬
‫لقـد أبـدى غروبـا اسـتي�اءه مـن الهتافـات والالفتات التي حملهـا املتظاهرون يف‬
‫شـوارع بغـداد التي نـددت بالفاشـية‪ ،‬إال أن حكمـت سـليمان ووزيـر خارجيتـ�ه‬
‫‪39 39‬‬
‫سـارعا إىل االعتـذار منـه‪ ،‬ووصفاهـا بـــ «األخطـاء املؤسـفة»‪.‬‬
‫وجـاءت املعارضـة األشـد لربنامـج وخطـط القـوى الديمقراطيـة مـن‬
‫جماعـة مالكـي األرايض الكبـار وشـيوخ العشـائر التي شـرعت تتخـوف‬
‫‪ .38‬جنــدة فتــي صفــوة‪ ،‬العــراق يف الوثائــق الربيطاني ـ�ة‪ ،‬مركــز دراســات اخلليــج العــريب‪،‬‬
‫جامعــة البصــرة‪ ،1983 ،‬ص ‪.438‬‬
‫‪ .39‬الوكيل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.432‬‬
‫‪203‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ممـا حيملـه هـذا الربنامـج بشـأن األرض‪ ،‬علـى الرغـم مـن أن برنامـج جمعيـة‬
‫اإلصلاح الشـعيب لـم يتجـه بوضـوح إىل تصفيـة ملكيـة هـؤالء املالكين الكبار‬
‫أو يتخـذ مـا حيـول دون سـعيهم إىل االسـتحواذ على مزيد مـن األرايض األمريية‬
‫وفقـا للقانـوين تسـوية حقـوق األرايض ومنحهـا باللزمـة‪ ،‬وتصفيـة أسـاليب‬
‫االسـتغالل اإلقطاعـي وإنمـا جـرى احلديث عن إحيـاء وتوزيـع األرايض املوات‬
‫‪ 40 40‬فقـط‪.‬‬
‫ولكـن أشـد النـار اليت وجهـت للتيـ�ار الديمقراطي جاء مـن «القوميني»‬
‫ودون أن يكـون هنـاك أي مبرر لهذا العداء سـوى اخللاف اإليديولويج واحلقد‬
‫املتأصـل علـى الشـيوعية‪ .‬ولـم يكن هـذا التحامـل بمعزل عـن دسـائس غروبا‪.‬‬
‫لقـد خـرج صـراع «القوميين» مـع جماعـة األهـايل والشـيوعيني عـن حـدود‬
‫الصـراع الفكـري إىل مجابهـة يوميـة وحتريـض ال ينقطـع‪ ،‬واسـتغلوا طمـوح‬
‫بكـر صـديق الشـخيص وعـداءه للديمقراطيـة لإليقـاع بين تيـ�اري االنقلاب‬
‫املتن�اقضين أصلا‪ ،‬وقد بلغت ذروة مسـاعيهم يف هذا الشـأن باملقابلة املعروفة‬
‫التي تمـت يف وزارة الدفـاع بين محمـود الشـيخ علـي وبكـر صـديق والتي صـرح‬
‫األخري بعدها بقوله «ليس العراق تربة صاحلة للشيوعية»‪ 41 41 .‬وبهذا يكونون‬
‫قـد أرسـوا تقليـدا للتن�افـر والعـداء والصراعـات الدمويـة امتـد إىل عقـود تاليـة‬
‫مـن تاريـخ العـراق احلديـث‪ ،‬دون أن يكـون لذلـك مـا يبرره‪ ،‬فال الشـيوعيني أو‬
‫الديمقراطيين عـادوا الوحـدة العربيـ�ة كما سنرى‪ ،‬كمـا لم يكونوا أقـل إخالصا‬
‫أو اندفاعـا مـن غريهـم يف الدفـاع عـن احلقـوق القوميـة للشـعب الفلسـطيين‪،‬‬
‫ولـم تثبـت األيـام عمليـا مـن بعـد صحـة اخلـط «القـويم» يف كال املسـألتني‬
‫مثلمـا لـم يثبـت خطأ اخلـط الذي سـار عليه الشـيوعيون فيهما‪ .‬وحتى يف تلك‬
‫األيـام‪ ،‬أي يف عـام ‪1936‬و ‪ 1937‬كان الشـيوعيون والقوميـة ممثلين بيونـس‬
‫السـبعاوي وقاسـم حسـن‪ ،‬يعملـون سـوية علـى تهريـب السلاح إىل ثـوار‬
‫فلسـطني حتى احلـدود األردنيـ�ة ليتكفل فـؤاد نصـار‪ ،‬الشـيوعي األردين‪ ،‬الذي‬
‫أصبـح مـن بعـد زعيما للحـزب الشـيوعي األردين‪ ،‬إيصالهـا إىل املواقـع املطلوبة‬
‫يف فلسـطني‪ ،‬علمـا أن السـبعاوي أثبـت إخالصه خلطه القـويم وضىح حبياته‬
‫يف سـبي�ل هـذا اخلـط دون أن يقلـل ذلـك مـن قناعتـه بالتعـاون مع الشـيوعيني‬
‫‪42 42‬‬
‫واليسـاريني عامـة‪.‬‬

‫‪ .40‬انظــر كتابنــ�ا‪ :‬نصــر ســعيد الكاظــي‪ ،‬احلــزب الشــيوعي واملســألة الزراعيــة يف‬
‫العــراق‪ ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪ .41‬الوكيل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.423‬‬
‫‪ .42‬بطاطو‪ ،‬الرتجمة العربي�ة‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.113 - 112‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪204‬‬

‫باملقابـل‪ ،‬فـإن حدة العداء الـذي قوبل به االنقالب حىت منـذ أيامه األوىل‬
‫مـن القوى اليت تضررت منه‪ ،‬دفعت اليسـار مـن جانب�ه إىل رد فعل مقابل تمثل‬
‫يف املبالغـة يف إضفـاء الصفة الشـعبي�ة علـى االنقالب‪ ،‬وعدم االنتبـ�اه الكايف إىل‬
‫التن�اقـض اجلـذري الـذي انطـوى عليه هذا االنقلاب‪ ،‬ولم يعط االنتبـ�اه الكايف‬
‫إىل أن اجلنـاح الـذي يقبـض علـى السـلطة فعال هـو جنـاح معـاد للديمقراطية‬
‫ويتحين الفـرص لتصفيـة شـريكه يف احلكـم‪ ،‬وقـد رىم هذا اليسـار بـكل ثقله‬
‫إىل جانـب قيـادة االنقلاب ودعـا إىل تشـديد اخلنـاق علـى معارضيـه‪ ،‬وكان‬
‫اجلواهـري صـادق التعبير عن هـذا اليسـار بقوله‪:‬‬

‫فربمـا كان يف إرخائه الضرر‬ ‫وضيق احلبل واشـدد من خناقهم‬

‫انطالقا من العمل لتحقيق شـعار اجلبهة الشـعبي�ة‪ ،‬كرس الشـيوعيون‬


‫كل طاقاتهـم للعمـل يف (جمعيـة اإلصلاح الشـعيب) برغم أن حكمت سـليمان‬
‫وبكـر صديق سـعيا إىل التدخل يف شـؤونها وحاوال حتويلهـا إىل حزب حكويم بعد‬
‫إعـادة النظـر يف منهاجهـا والتخفيـف مـن راديكاليتـ�ه‪ 43 43 .‬ويبـ�دو أنهـم ختلـوا أو‬
‫كادوا أن يتخلـوا عـن العمـل لتنظيمهـم اخلـاص‪ ،‬وانصرف حتى قادتهم للعمل‬
‫يف صحـف جمعيـة اإلصلاح الشـعيب‪ ،‬إذ انصـرف كل مـن زكي خريي ويوسـف‬
‫متي إىل العمـل يف جريـدة (احلارس) التي أصدرتها اجلمعيـة‪ ،‬وانصرف مهدي‬
‫هاشـم إىل العمـل يف جريـدة (االنقلاب) لصاحبهـا محمـد مهـدي اجلواهـري‪،‬‬
‫والتي كرسـت نفسـها لـذات األغـراض‪ ،‬وقاسـم حسـن وعبـاس الكربـاس إىل‬
‫العمـل يف (األهـايل) حني أعيـد إصدارها‪.‬‬
‫لقـد وقـع قـادة احلـزب الشـيوعي جميعهـم يف سـوء تقديـر للوضـع‬
‫السـيايس الـذي نشـأ‪ .‬وربمـا تكون قـد أثـرت عليهم تقديـرات صحـف األممية‬
‫الشـيوعية و «النصـاحئ» اليت يشير إليها محمـود األطرش كمـا ذكرنا من قبل‪،‬‬
‫وسـاعدت يف دفعهـم يف هـذا االجتـاه‪ .‬فلقـد وصفـت القيـادة املدنيـ�ة لالنقلاب‬
‫بأنهـا ذات «مطامـح اشتراكية» وبعضهـا ذات «مطامـح اشتراكية علميـة»‬
‫واآلخـرون «طوباويـون» ولكـن النظـام ككل «تقـديم بوجـه عـام»‪ 44 44 .‬ونشـأ‬
‫عـن هـذا أن بعضهـم صـار يـرى أن مـا اسـتجد فيـه الكفايـة ولذلـك آثـر أن‬
‫يكـف عـن العمـل أصلا‪ .‬فقـد آثـر عاصـم فليـح االنـزواء عـن العمـل السـيايس‬

‫‪ .43‬فؤاد الوكيل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.424‬‬


‫‪ .44‬روين كبــاي‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪ 52‬نقــا عــن‪ :‬ر‪ .‬فينــول‪ ،‬يف صحيفــة (الشــرق الثائــر)‬
‫العــدد ‪ ،1937 ،1‬ص ‪ 31‬و س‪ .‬عبــود يف صحيفــة (األمميــة الشــيوعية) شــباط ‪،1937‬‬
‫‪( 151‬وســليم عبــود هــو محمــود األطــرش)‬
‫‪205‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وفضـل الدعـة وراحـة البـال ورأى آخـرون «أن حكومـة االنقلاب سـتحقق‬
‫للطبقـة العاملـة كل مـا تصبـو إليـه مـن السـعادة والرخـاء»‪ ...‬و «أن ال حاجـة‬
‫للربوليت�اريـا العراقيـة للنضـال املنظـم» الـذي مـن شـأنه «أن يثير غضـب بكـر‬
‫‪45 45‬‬
‫صـديق والعناصـر امللتفـة حولهـا» كمـا حتدثـت (الشـرارة) عنهـم مـن بعـد‪.‬‬
‫حتى فاجأهـم بكـر صـديق يف تصرحياتـه املعاديـة للشـيوعية‪ ،‬وكان ال يريـد منهـا‬
‫الشـيوعية وحدهـا وإنمـا اليسـار بمجموعـه‪ ،‬حتى بلـغ األمر حبكمت سـليمان‪،‬‬
‫رئيـس الـوزراء‪ ،‬أن أعلـن يف مجلـس النـواب ختوفـه حتى مـن اسـتخدام كلمـة‬
‫(الفقـراء) لئلا يفهـم املقصـود بهـا هـو الشـيوعية وقـال‪:‬‬

‫«وبصفتي رئيـس احلكومـة أقول يـا جماعة إن هـذه احلكومة بعيدة‬


‫كل البعـد عـن الشـيوعية وعن كل كلمة يشـتم منها راحئة شـيوعية»‬

‫مما دفع النائب الشاعر معروف الرصايف إىل أن يرد قائال‪:‬‬

‫«إن الـذي أفهمـه مـن كالم فخامـة رئيـس الـوزراء يف هـذه املـرة‬
‫ويف غريهـا هـو أنـه يتحفـظ ويتحـذر كل احلـذر مـن أن يسـمع أو أن‬
‫يتكلـم بكلمـة تـدل علـى الشـيوعية أو يشـتم منهـا راحئـة الشـيوعية‬
‫وأفهـم أيضـا أن هنـاك أناسـا يريـدون يف طـي اخلفـاء أن يضعـوا حتت‬
‫أقـدام احلكومـة مزالـق مـن ثلـوج الشـيوعية‪ .‬إن هـذا الشيء غريب‪.‬‬
‫الشـيوعية مبدأهـا معلـوم‪ ،‬ومبدأهـا عـال وسـام جـدا‪ ،‬فليت شـعري‬
‫مـن هـم هـؤالء الذيـن يريـدون أن يقاوموا هـذا املبدأ السـايم‪ .‬إن هذا‬
‫املبـدأ ال يقـاوم إال بشـيئني إمـا بثقافـة عاليـة أو بقوة غاشـمة عظيمة‬
‫‪46 46‬‬
‫جـدا»‪.‬‬

‫بعـد اسـتقالة وزراء جماعـة (األهـايل) مـن حكومـة حكمـت سـليمان‬


‫وسـقوط حكومـة االنقلاب بعـد مقتـل بكـر صـديق يف املوصـل‪ ،‬شـددت القوى‬
‫اليمينيـ�ة مـن هجومهـا علـى اليسـار الديمقراطـي عامـة والشـيوعيني خاصة‪،‬‬
‫وجلـأت إىل أسـاليب االغتيـ�ال يف تصفيـة خصومهـا مـن اليسـار‪ .‬وقـد تعـرض‬
‫عبـد القـادر اسـماعيل إىل ثلاث محـاوالت لالغتيـ�ال‪ ،‬وأخيرا أسـقطت عنـه‬
‫وعـن أخيـه يوسـف اسـماعيل اجلنسـية‪ ،‬وأسـقطت اجلنسـية عـن مهـدي‬
‫هاشـم وسـفر مخفـورا إىل إيـران ليعتقـل هنـاك حىت دخـول اجليش السـوفييت‬
‫يف إيـران يف بدايـة احلـرب العامليـة الثاني�ة‪ ،‬وزاد يف الطني بلـة أن دبت اخلالفات‬
‫‪ .45‬د‪ .‬كمــال مظهــر أحمــد‪ ،‬صفحــات مــن تاريــخ العــراق املعاصــر‪ ،‬ص ‪ ،52‬نقــا عــن‬
‫(الشــرارة)‪ ،‬العــدد ‪ 21‬تشــرين الثــاين ‪ ،1942‬ص ‪.7‬‬
‫‪ .46‬الوكيل‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.430‬‬
‫ارعلا يعويشلا بزحلا سيسأت‬ ‫‪206‬‬

‫الشـخصية العميقـة بين قـادة احلـزب‪ .‬ولـم تفلـح املسـاعي التي بذلـت يف‬
‫اإلطـار احلـزيب إىل تسـوية املشـاكل الداخليـة ذات الطابـع الشـخيص ‪ ،47 47‬ولـم‬
‫يعـد جيـري التقيـد بقواعـد العمـل السـري والضبـط احلـزيب‪ ،‬ويف هـذه األجـواء‬
‫جـاءت الهجمـة التي شـنتها االسـتخبارات العسـكرية لتصفيـة التنظيمـات‬
‫الشـيوعية بين اجلنـود يف كركـوك وبغـداد واعتقـال قرابـة ‪ ٦٥‬جنديـا وضابـط‬
‫صـف‪ ،‬واعتقـال زكـى خيرى ويوسـف متى وحسـن عبـاس الكربـاس وعبـد‬
‫الرحمـن داود‪ ،‬والـدور املشين الـذي لعبـه قاسـم حسـن يف تأليـب بعـض‬
‫اجلنـود املتهمين ضـد خصميـه‪ ،‬زكـي خيري ويوسـف متي وحبـس اجلميع يف‬
‫النهايـة‪ ،‬جـاءت كل هـذه لتصفي عمل احلـزب املنظم واملمركـز يف تلك املرحلة‪،‬‬
‫وسـارعت احلكومـة يف هـذه األجـواء أيضـا إىل إدخـال تعديـل علـى المـادة ‪89‬‬
‫مـن قانـون العقوبـات البغـدادي بإضافـة فقـرة تقضي باحلكـم باألعـدام علـى‬
‫كل مـن يـروج الشـيوعية‪ ،‬وبأيـة وسـيلة كانـت‪ ،‬بين القـوات املسـلحة‪ ،‬والتي‬
‫اسـتخدمت مـن بعـد‪ ،‬كمـا سنرى‪ ،‬ملحاربـة الشـيوعية بشـكل فـظ‪.‬‬
‫ولكـن‪ ،‬وبرغـم الدمـار الواسـع الـذي حلـق باحلـزب‪ ،‬ويف املركـز منـه‬
‫بالـذات‪ ،‬خلفـت هـذه املرحلـة مـن نضـال احلـزب أمريـن‪ :‬ذكـرى نضـال مجيد‬
‫للشـيوعيني ظل عالقا يف األذهان ولعب كحافز يح سـاعد يف اسـتعادة حيويت�ه‬
‫وتنظيمـه بعد سـنوات قالئل‪ ،‬والثـاين بقاء مجموعات شـيوعية تواصل العمل‬
‫فعلا يف عـدد مـن املواقع كالسـكك احلديـد يف بغـداد وعمال النفـط يف كركوك‬
‫ومثقفـي وطالب بغـداد‪ ،‬ويف النجف والعمـارة والديواني�ة والناصرية‪ ،‬السـيما‬
‫يف البصـرة‪.‬‬
‫‪ .47‬مذكــرات حســن الكربــاس‪ ،‬واإلشــارة هنــا إىل الــزاع الشــخيص بــن زكــي خــري‬
‫وقاســم حســن‪.‬‬
‫‪8‬‬
‫إعــادة تأســيس الحزب والحرب العالميــة الثانية‬

‫يف اليـوم الثالـث مـن أيلـول ‪ 1939‬أعلنـت بريطاني�ا احلرب علـى ألماني�ا‬
‫وحذت فرنسـا حذوهـا يف احلال‪.‬‬
‫لم يكن العراق قد استرد أنفاسـه بعد من أثار الوضع االقتصادي السئي‬
‫الـذي خلفتـه سـنوات األزمـة االقتصاديـة التي امتـدت مـن عـام ‪ 1929‬حتى‬
‫عـام ‪ 1933‬حين داهمتـه احلـرب العاملية الثانيـ�ة‪ ،‬فأورثه مصاعـب اقتصادية‬
‫جسـيمة عاىن منها الشـعب كثريا السـيما جماهري الشـغيلة يف املدينـ�ة والريف‬
‫علـى السـواء‪ .‬فلقـد هبطـت كميـات املنتجـات الزراعيـة واحليوانيـ�ة التي‬
‫اعتـادت البلاد تصديرهـا سـنويا هبوطـا كبيرا‪ ،‬وكانـت هـذه تؤلـف النصيـب‬
‫األكبر ممـا توفـره البلاد مـن دخـل إذ كان اليـزال تصديـر النفـط محـدودا حتى‬
‫ذلـك احلين‪ .‬فلقـد بلغـت نسـبة معـدل مـا يصدر مـن منتجـات زراعيـة خالل‬
‫سـنوات احلرب (‪ %62.1 )1945 - 1940‬فقط من حجمها يف سـنة األساس‬
‫(‪ ،)1939‬ونسـبة معـدل مـا يصـدر مـن منتجـات حيوانيـ�ة يف هـذه السـنوات‬
‫لـم يـزد علـى ‪ %129.3‬عمـا كانـت عليـه يف سـنة األسـاس‪ .‬وباملقابل فإن نسـبة‬
‫حجـوم املـواد املسـتوردة خلال احلـرب هبطـت هـي األخـرى إىل ‪ %72.3‬عمـا‬
‫كانـت عليـه يف سـنة األسـاس ذاتها‪ .‬وإذا كانت نسـبة أسـعار الصـادرات خالل‬
‫احلـرب قـد ارتفعـت إىل ‪ %345.4‬بالنسـبة ألسـعار املنتجـات الزراعيـة و‬
‫‪ %149.1‬بالنسـبة إىل الصـادرات احليوانيـ�ة‪ ،‬فـإن نسـبة أسـعار االسـترياد ات‬
‫ارتفعـت هـي األخـرى إىل‪ %210‬عمـا كانت عليه يف سـنة األسـاس‪ .‬فـإذا أضفنا‬
‫إىل هذيـن العاملين عاملا مؤثـرا أخـر هـو تعاظم عدد املسـتهلكني كثيرا بفعل‬
‫وجـود القـوات الربيطانيـ�ة الكبيرة‪ ،‬املرابطـة فيـه أو المـارة يف أراضيـه ومـا جـره‬
‫مـن تفاقـم التضخـم النقـدي‪ ،‬تتضـح حينئـ�ذ قتامـة األوضـاع السياسـية التي‬
‫حاقـت بالعمـال وشـغيلة املـدن بالدرجـة األوىل الذيـن عانـوا من ارتفاع أسـعار‬
‫‪208‬‬
‫‪209‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫املنتجـات الزراعيـة األساسـية وأسـعار املسـتوردات علـى السـواء وفقـدان‬


‫الضـرورات احلياتيـ�ة مـن األسـواق أحيانـا‪ 1 1 .‬ولـوال العوائـد التي كانـت حتصل‬
‫عليهـا البلاد مـن تصديـر النفـط‪ ،‬وهي لـم تكن كبيرة يومـذاك‪ ،‬والعوائـد اليت‬
‫حتصـل عليهـا مـن اخلدمـات واالسـتثمارات األجنبيـ�ة األخـرى‪ ،‬لمـا تيسـر لهـا‬
‫‪22‬‬
‫أبـدا معادلـة ميزان املدفوعـات‪.‬‬
‫لقـد حتملـت البلاد كثيرا جـراء حتكـم الدوائـر االسـتعمارية حبيـاة البالد‬
‫االقتصاديـة‪ .‬فعـدا عـن األسـعار االحتكاريـة التي فرضتهـا شـركات التصديـر‬
‫الربيطانيـ�ة التي هيمنـت علـى جتـارة التصديـر عامـة وشـركات النقـل البحـري‬
‫والتأمين حبجـة ظـروف احلـرب‪ ،‬فإنهـا كانـت تتعمـد االمتنـ�اع عـن الشـراء‪،‬‬
‫ويف الوقـت ذاتـه تعرقـل التصديـر إىل الـدول األخـرى مـن أجـل أن ترغـم التجـار‬
‫العراقيين علـى بيـع املحاصيـل التي ال يتوفـر لهـا اخلـزن الفني الـذي حيفظهـا‬
‫مـن التلـف بأقـل األسـعار‪ .‬فقـد ظلـت ألـوف األطنـان‪ ،‬مـن احلنطـة والشـعري‬
‫والتمـور‪ ،‬مكدسـة يف أسـياف البصـرة دون أن جتـد مـن يقـدم علـى شـرائها ألن‬
‫الشـركات الربيطانيـ�ة تمتنـع عـن شـرائها وتمانـع يف الوقـت ذاتـه يف بيعهـا إىل‬
‫أيـة دولـة لهـا عالقـة بـدول املحـور (ألمانيـ�ا وإيطاليـا) حتى تدنت أسـعارها إىل‬
‫حـد كبير‪ ،‬يف الوقـت الـذي كانـت بريطانيـ�ا تسـمح لشـركاتها يف التعامـل مـع‬
‫تركيـا ذات العالقـات اجليـدة بـدول املحـور‪ ،‬وتفتح لرتكيـا االعتمـادات الكبرية‬
‫وال ترفـض تعاملهـا مـع دول املحـور‪ 3 3 .‬وجـرى الشيء ذاتـه مـع تصدير الشـعري‬
‫العـرايق‪ -‬واضطـر التجـار العراقيـون إىل بيعه مـن بعد إىل الشـركات الربيطاني�ة‬
‫بأسـعار واطئـة‪4 4 .‬وكـررت األمـر مـع القطـن يف عـام ‪ ،1940‬ولكـن حين أمكـن‬
‫للعـراق أن يبيعـه إىل اليابـان قبـل أن تدخـل احلـرب ثـارت ثائـرة بريطانيـ�ا‬
‫واعتبرت األمـر عملا عدوانيـ�ا تقـدم عليـه احلكومـة العراقيـة‪.‬‬

‫‪ .1‬د‪ .‬محمــد ســلمان حســن‪ ،‬التطــور االقتصــادي يف العــراق‪ ،‬املكتب ـ�ة العصريــة‪ ،‬صيــدا ‪-‬‬
‫بــروت‪ ،‬عــن جــدول رقــم ‪ 23‬ص‪ ،237‬وجــدول رقــم ‪12‬ص ‪.115‬‬
‫‪ .2‬انظــر‪ ،‬هرشــاغ‪ ،‬ز‪.‬ي‪ ،‬مدخــل إىل التاريــخ االقتصــادي احلديــث للشــرق األوســط‪،‬‬
‫ترجمــة مصطفــى احلســيين‪ ،‬دار احلقيقــة‪ ،‬بــروت ‪ ،1973‬ص ‪ .344-343‬ويالحــظ‬
‫محمــد ســلمان حســن (ص‪ )424 - 423‬أن نســبة العجــز التجــاري خــال احلــرب إىل‬
‫قيمــة جتــارة التصديــر كانــت حــوايل ‪ .79%‬وقــد واكــب هــذا االخنفــاض يف العجــز التجــاري‬
‫أمــران‪ :‬هبــوط كبــر يف جتــارة االســترياد وزيــادة يف أرصــدة العــراق اإلســرليني�ة‪ .‬وإن ثــروة‬
‫احلــرب جنمــت عــن نفقــة القــوات األجنبيــ�ة وأربــاح جتــارة الرتانســيت واخلدمــات الــي‬
‫قدمتهــا الســكك واملينــ�اء‪ ،‬وعوائــد النفــط‪ ،‬إضافــة إىل هبــوط املســتوردات‪.‬‬
‫‪ .3‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات‪ ،‬ج ‪ ،5‬ص ‪.169‬‬
‫‪ .4‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪210‬‬

‫لقـد فاقمـت احلـرب كثيرا مـن سـوء األوضـاع االقتصاديـة يف بلـد لـم‬
‫يمتلـك القـدرة بعـد للوقـوف علـى أقدامـه يف ظـروف حـرب شـاملة‪ ،‬ويفتقر يف‬
‫األسـاس إىل املرونـة الكافيـة للتكيف مـع أوضاع احلرب بسـبب ضعف القوى‬
‫املنتجـة فيـه وانقطـاع أو هبـوط إمكاني�ة تزويـده بـاألدوات االحتي�اطيـة واملواد‬
‫األوليـة التي حتتاجهـا صناعاتـه علـى قلتهـا أصلا‪ .‬وقد دفعـت حالـة التضخم‬
‫التي سـادت األسـواق العراقيـة إىل تمايـز كبير بين دخـول الفئـات االجتماعية‬
‫املختلفـة‪ ،‬وإىل تغيرات كبيرة يف اإلنفـاق واالدخـار ويف أنمـاط االسـتهالك‪.‬‬
‫وزاد مـن وطـأة الضائقـة االقتصاديـة التي كانـت تعانيهـا اجلماهير‬
‫الكادحـة تدفـق أعداد كبرية مـن القـوات الربيطاني�ة ومن الالجئين البولونيني‬
‫بعـد أن احتـل األلمـان بولونيـ�ا‪ ،‬واعتمادهـا يف أغلب ما حتتاجه من مـواد غذائي�ة‬
‫علـى اإلنتـ�اج املحلي‪ .‬وطبقا لما أوردته املجموعـة اإلحصائي�ة لعام ‪1944/43‬‬
‫كان طلـب القـوات الربيطانيـ�ة علـى املـواد الغذائيـ�ة قـد بلـغ ‪ %43.9‬مجمـوع‬
‫‪55‬‬
‫الطلـب علـى املنتجـات العراقيـة يف عـام ‪ 1943‬و‪ %27.7‬يف عـام ‪.1944‬‬
‫وأكثر مـن هـذا كانـت تصـدر املنتجـات العراقيـة مـن القمـح والشـعري والـرز‬
‫لسـد احتي�اجـات القـوات الربيطانيـ�ة يف املناطـق األخرى من الشـرق األوسـط‪،‬‬
‫يف الوقـت الـذي كانـت جماهير الشـعب العـرايق تتضورجوعـا‪ ،‬وتدفـع مقابلهـا‬
‫أثمانـا واطئـة وثابتـ�ة‪ ،‬وال حتـول أقيامهـا وكذلـك أقيـام اخلدمـات واملشتريات‬
‫الربيطانيـ�ة يف داخـل البلاد إىل مبالـغ قابلـة للصـرف يمكـن االسـتفادة منهـا‬
‫لسـد احتي�اجـات البالد من الضروريـات من مصادر أخرى وإنمـا تودع يف بنوك‬
‫إجنلترا يف صـورة أرصـدة إسترليني�ة قابلـة للتسـديد بعـد احلـرب!‬
‫كذلـك كانـت القـوات الربيطانيـ�ة تسـتحوذ لقـاء أرصـدة إسترليني�ة‬
‫تسـدد بعد احلرب على خدمات سـكك احلديد واملينـ�اء والطريان واملواصالت‬
‫ومحطـات الكهربـاء والمـاء وعلـى جهد مـا بين ‪ 35%‬إىل‪ 40%‬من عـدد العمال‬
‫يف العـراق‪ .‬زد علـى ذلـك حتملـت البلاد أعبـاء توسـيع منشـآت املينـ�اء ليسـهل‬
‫اسـتقبال القطـع البحريـة وتفريـغ البضائـع العسـكرية وخزنهـا‪ ،‬وإحاطـة‬
‫املعسـكرات الربيطانيـ�ة ومخازنهـا بالسـدود حلمايتهـا مـن الفيضانـات وفتـح‬
‫القنـوات لتصريـف امليـاه الفائضـة‪ ،‬وإنشـاء القناطـر واجلسـور ومـد خـط‬
‫حديـد كركـوك ‪ -‬أربيـ�ل وبن�اء جسـر خشبي كبري عرب شـط العـرب لتأمني عبور‬
‫القطعـات العسـكرية الربيطانيـ�ة وحموالتهـا العسـكرية إىل إيـران‪ ،‬ومنحـت‬
‫القـوات الربيطانيـ�ة تسـهيالت واسـعة يف النقـل النهـري‪ ،‬وأراض مجانيـ�ة‬
‫إلنشـاء املعسـكرات والتسـهيالت التي حتتاجهـا ضـرورات النقـل العسـكري‬

‫‪ .5‬هوشــيار معــروف‪ ،‬االقتصــاد العــرايق بــن التبعيــة واالســتقالل‪ ،‬وزارة اإلعــام‪،1975 ،‬‬
‫بغــداد‪ ،‬ص‪.381‬‬
‫‪211‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫كفتـح الطـرق يف بغـداد وغريهـا‪.‬‬


‫ونشـطت حركـة تهريـب واسـعة لبعـض السـلع الضروريـة كالسـكر‬
‫والشـاي وغريهمـا إىل إيـران يف الوقـت الـذي حصـر فيـه توزيـع هـذه املـواد‬
‫بالبطاقات‪ .‬واختذت وزارة المالية قرارا يقيض باسـتيفاء (رسـوم االسـتهالك)‬
‫علـى املحصـوالت الزراعيـة والتي تعـادل ‪ % 10‬وضريب�ة تنظيم جتـارة احلبوب‬
‫‪ %1‬مـن املزارعين عينـ�ا‪ ،‬وتضـع هـذه املـواد املسـتوفاة حتـت تصـرف القـوات‬
‫الربيطانيـ�ة‪ ،‬علـى أن تدفع أثمانها أرصدة إسترليني�ة وبأسـعار مخفضة‪ .‬وعلى‬
‫هـذا النحـو وضع حتـت تصرف هذه القـوات أكرث من ‪ 150‬ألف طـن من التمور‬
‫سـنويا وكميـات كبيرة مـن الصـوف والقطـن وبـذور السمسـم‪ ،‬كل هـذه‪ ،‬ىف‬
‫الوقـت الـذي كان الشـعب الـكادح يدفـع أسـعارا مضخمة لقاء مـا حيصل عليه‬
‫مـن بعـض مـا حيتاجه من املـواد الغذائي�ة األساسـية‪ ،‬فقـد بلغ سـعر كيس الرز‬
‫الواحـد ‪ 12‬دينـ�ارا بعـد أن كان سـعره دينـ�ارا واحـدا فقـط قبـل احلـرب‪ ،‬وثمـن‬
‫الوزنـة الواحـدة مـن القمـح (‪ 100‬كغـم) مـا بين خمسـة إىل سـتة دنانير بعـد‬
‫أن كان سـبعة دراهـم فقـط قبـل احلـرب‪ 6 6 .‬ويف ظـل هـذه األوضـاع نشـطت‬
‫املحاربـة علـى األسـعار واملمارسـات االحتكاريـة والتعامل ىف السـوق السـوداء‪،‬‬
‫وتضـرب جريـدة (القاعـدة) لسـان احلزب الشـيوعي العرايق يف شـباط ‪1943‬‬
‫مثلا علـى ذلـك قائلـة أن «ال مشـكلة تمويـن يف العـراق بـل جريمـة احتـكار»‬
‫إن سـبعة عشـر شـيخا‪ ...‬يف ناحيـة (املجـر الصغير) كانـوا يزرعـون مقاطعـات‬
‫شاسـعة بالقمح والشـعري والـرز‪ ،‬وكانت أرباحهم السـنوية تبلـغ (‪)287400‬‬
‫دينـ�ار وهـو مبلـغ ضخم حبسـاب ذلـك الوقـت‪ .‬واسـتخدمت بريطانيـ�ا ظروف‬
‫احلـرب هـذه لشـراء ذمـم رؤسـاء العشـائر والـوزراء واملتنفذيـن يف الدولـة‪.‬‬
‫ويضـرب اللـورد كرومر (املقيم الربيطاين األسـبق يف مصر) مثـاال على ذلك‪ ،‬أن‬
‫الربيطانيين‪ ،‬الذين اسـتحوذوا على السـكك وإدارتها باسـم احلاجـة احلربي�ة‪،‬‬
‫خصصـوا قاطـرات شـحن لقـاء أجـور اسـمية لهـؤالء ليؤجروها بدورهـم إىل من‬
‫حيتاجهـا بعشـرة أمثـال أجورهـا االسـمية‪ ،‬أو يمنحونهـم (حتاويـل التمويـن)‬
‫بأثمـان رسـمية واطئـة ويمهـدون لهـم بيعهـا بأضعـاف هـذا السـعر فيمـا بعـد‪.‬‬
‫محطـات بنزيـن يف‬‫ً‬ ‫وعمـدت شـركات النفـط إىل السـماح لهـؤالء بت�أسـيس‬
‫‪77‬‬
‫محلات رئيسـية‪ ،‬وكانـت هـذه توفـر لهـم مبالـغ كبيرة سـنويا‪.‬‬
‫حملـت احلـرب معهـا‪ ،‬إىل جانـب اآلثـار التى حتدثنـ�ا عنهـا‪ ،‬عـددا مـن‬
‫التغيرات االقتصاديـة واالجتماعيـة ذات األهميـة الكبيرة يف أوضـاع املجتمـع‬
‫آنـذاك‪.‬‬
‫‪ .6‬القاعدة‪ ،‬جريدة احلزب الشيوعي املركزية‪ ،‬آذار ‪ ، 1944‬العدد ‪.16-3‬‬
‫‪ .7‬عبد الرزاق احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات العراقية‪ ،‬اجلزء السادس‪ ،‬ص ‪.223‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪212‬‬

‫فلقـد حفـز ارتفـاع أسـعار احلاصلات الزراعيـة السـعي لتوسـيع رقعـة‬


‫األرايض الزراعيـة‪ .‬وللتشـجيع علـى إحياء األرايض وزراعتها عمـدت الدولة إىل‬
‫ختفيـض الرسـوم علـى نصـب املضخـات الزراعيـة‪ ،‬وشـطب الديـون املرتاكمـة‬
‫علـى املالكين‪ .‬وبفضل تزويـدات «اإلعـارة والتأجير» األمريكية اسـتخدمت‬
‫اجلـرارات واحلاصـدات السـيما ىف املناطـق الديمية يف املوصـل‪ ،‬وتولت الدولة‬
‫إنشـاء قنـوات جديـدة للإرواء وتطهير اجلـداول واألنهـر‪ ،‬وعملـت علـى توفير‬
‫البـذور الزراعيـة ومكافحـة احلشـرات واآلفـات الزراعيـة‪ .‬علـى هـذا النحـو‬
‫زيـدت املسـاحات املزروعـة بنسـبة ‪ .%30‬لكـن إجـراءات الدولـة هـذه اجتهـت‬
‫جميعهـا ملصلحـة املالكين‪ ،‬وقـد أردفتهـا بإصـدار قانـون بيـع األرايض األمريية‬
‫الصرفـة لعـام ‪ 1940‬بهـدف تمكين املالكين مـن االسـتيلاء علـى األرايض‬
‫السـيما يف املناطـق اإلروائيـ�ة‪.‬‬
‫وبفعـل ظـروف احلـرب وحتـول العـراق إىل ممـر دويل‪ ،‬نشـطت كذلـك‬
‫جتـارة الرتانسـيت‪ .‬إن اتسـاع املضاربـة وتنـ�ايم جتـارة الرتانسـيت‪ ،‬واتسـاع‬
‫عمليـات التهريب عملت جميعها على توسـيع التجارة الداخليـة‪ ،‬وإثراء أعداد‬
‫كبيرة مـن الناس الذين تعاطوا التجارة‪ ،‬كمـا زادت يف أعداد العاملني يف ميدان‬
‫التجـارة‪ .‬وارتب�اطـا بهـذا نمـت احلركة املصرفيـة‪ .‬فأنئش يف عـام ‪ 1941‬مصرف‬
‫الرافديـن‪ ،‬وتلاه إنشـاء مصـرف الرهـون والعقـار‪ ،‬وانقسـم املصـرف الزراعي‪-‬‬
‫الصناعـي إىل مصرفين‪ ،‬زراعـي وصناعـي‪ ،‬وافتتـح البنـك العـريب فرعـا لـه يف‬
‫بغداد‪.‬‬
‫وفـرت احلـرب وضعـا مناسـبا إىل حـد مـا لنمـو الصناعـة‪ .‬فلقـد توفـر‬
‫الطلـب الضـروري بعـد أن اخنفـض االسـترياد بفعـل صعوبـات النقـل البحـري‬
‫مـن جانـب ونمـو املدخـرات عند فئـات كثرية من النـاس‪ ،‬كما أن احلـرب وفرت‬
‫حمايـة طبيعيـة لإلنتـ�اج الصناعـي املحلـى مـا كانت حتـرص عليهـا احلكومات‬
‫مـن قبـل يف سياسـاتها‪ .‬إال أن نمـو الصناعة اصطـدم بمحدوديـة إمكاني�ة توفري‬
‫مكائن اإلنت�اج ومسـتلزمات اإلنت�اج األخرى‪ ،‬ومع ذلك أمكن التوسـع يف بعض‬
‫املياديـن الصناعيـة اعتمـادا على تطوير اإلمكانيـ�ات الذاتي�ة للبلاد‪ .‬وعلى هذا‬
‫األسـاس نمـت صناعـة النسـيج الصـويف والسـيكاير والصناعـات اجللديـة‬
‫والطابـوق واألواين الزجاجيـة والـكايش وصناعـة الزيـوت النب�اتيـ�ة والصابـون‬
‫والبيرة وأعـواد الثقـاب واألصبـاغ واألواين الزجاجيـة والعـدد اليدوية ومعاصر‬
‫الدبـس‪ ،‬وتكاثـرت ورشـات تصليـح السـيارات والكائـن‪ .‬ولكـن علـى العمـوم‪،‬‬
‫كانـت معظـم هـذه املشـاريع الصناعيـة صغيرة مـن حيـث حجـم رأس المـال‬
‫املوظـف واأليـدي العاملة املسـتخدمة فيهـا وطاقاتها اإلنت�اجية‪ .‬هـذه احلركة‬
‫التصنيعيـة‪ ،‬علـى محدوديتها‪ ،‬زادت يف أعـداد األيدي العاملـة األجرية ورفعت‬
‫‪213‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مـن مهاراتهـا ومن تنـوع هذه املهارات‪ .‬كذلك زاد يف اليـد العاملة حاجة القوات‬
‫الربيطانيـ�ة ألداء كثير مـن األعمال‪.‬‬
‫لقـد أظهـر إحصـاء عـام ‪ 1947‬أن ‪ %38‬مـن األيـدي القادرة علـى العمل‬
‫لـم جتـد الفرصـة الفعليـة للتشـغيل‪ ،‬وكان يعين هـذا يف إطار سـوق عمل ضيقة‬
‫كمـا الحظنـا‪ ،‬ضغطـا كبيرا علـى أجـور العاملين فعلا وعـن أوضـاع عملهـم‪،‬‬
‫وتن�اميـا يف حجـم الفئـات الهامشـية يف املـدن‪ ،‬واتسـاع أعداد املسـتهلكني على‬
‫حسـاب املنتجين‪ 8 8.‬لقـد اجنـذب مئـات األلـوف مـن سـكان الريف حنـو املدن‪،‬‬
‫السـيما الكبيرة منهـا حبثـا عـن العمـل ىف األسـاس‪ ،‬وامتـدت أحيـاء واسـعة من‬
‫املهاجريـن كانـت تكتـظ فيهـا الصرائـف مـن القصـب والطين‪ ،‬ال تتوفـر فيهـا‬
‫أدىن الشـروط الصحيـة الضروريـة‪ .‬لقـد كشـفت نتـ�اجئ إحصـاء السـكان لعـام‬
‫‪ 1947‬أن سـكان املـدن نمـا نمـوا مطلقـا ونسـبي�ا يف هـذه الفترة‪ ،‬وبـات يؤلـف‬
‫قرابـة ‪ %38‬مـن مجمـوع سـكان البالد بعـد أن كان ال يزيد علـى ‪ %25‬فقط عام‬
‫‪ ،1930‬وكان من شـأن هذا أن زادت األهمية السياسـية للمدين�ة على حسـاب‬
‫الريف‪.‬‬
‫ومـع أن نمـوا قـد حصـل يف اإلنفـاق احلكـويم علـى التعليـم قياسـا إىل‬
‫سـنوات االنتـ�داب ومـا بعدهـا‪ ،‬وأن نسـبة مزيانيـ�ة املعـارف إىل املزيانيـ�ة العامة‬
‫ارتفع من حوايل ‪ %6‬يف العشـر سـنوات األوىل من احلكم «الوطين» (سـنوات‬
‫االنتـ�داب) إىل حـوايل ‪ %11‬يف الفترة مـا بين ‪ 1939/38‬حتى ‪ ،1945/44‬إال‬
‫أن هـذا اإلنفـاق ظـل ضئيـلا بالقيـاس إىل التوسـع يف اسـتغالل مرافـق البلاد‬
‫ونمـو احليـاة الصناعيـة والتجاريـة واالجتماعيـة يف كافة أحناء البلاد‪ ،‬ويف املدن‬
‫الكبيرة خاصـة‪ ،‬وظـل الغرض منه سـد حاجة اجلهاز احلكـويم من املوظفني‪،‬‬
‫ويتخلـف كثيرا عن احتي�اجـات البالد إىل اخلبرات واملهـارات يف جوانب احلياة‬
‫االقتصاديـة‪ .‬فلـم يتخـرج مـن طلاب الزراعة حىت عـام ‪ 1944/43‬سـوى ‪78‬‬
‫طالبـا فقـط؛ ولـم يتخـرج مـن املدرسـتني الصناعيتين الوحيدتين (يف بغـداد‬

‫‪ .8‬يالحــظ بطاطــو أن أجــور العمــال الكبــار غــر الماهريــن تراوحــت يف عــام ‪ 1914‬مــا بــن‬
‫‪ 33-25‬فلســا‪ ،‬ويف عــام ‪ 1935‬بلغــت مــا بــن ‪ 40‬و‪ 60‬فلســا‪ ،‬أمــا يف عــام ‪ 1942‬فكانــت‬
‫مــا بــن ‪ 75 - 40‬فلســا (جــدول ‪ ،14-6‬ص‪ .)168‬وتذكــر القاعــدة (أيلــول ‪ 1943‬وكانــون‬
‫األول ‪ )1943‬أن عمــال الســكك لــم ين�الــوا ســوى ‪ 20 – 10‬فلســا زيــادة يف أجودهم كل ســنة‬
‫ونصــف‪ ،‬وأنهــم كانــوا جيــرون علــى العمــل اإلضــايف حــى يصــل يــوم العمــل إىل ‪14‬ســاعة‬
‫وربمــا أكــر أحيانــا ومــن يرفــض يغــرم‪ ،‬وتذكــر رســالة نشــرتها (القاعــدة) أن العمــال الذيــن‬
‫يعملــون يف املعســكر الربيطــاين يف (الشــعيب�ة) كانــوا يتعرضــون إىل الضــرب والســجن يف‬
‫ســجون هيئــت قــرب مواقــع العمــل‪ ،‬وكانــوا يضطــرون إىل الهــرب أحيانــا تاركــن مــا لهــم‬
‫مــن أجــور‪.‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪214‬‬

‫‪99‬‬
‫واملوصـل) حتى ذلـك العـام سـوى ‪ 351‬طالبـا‪.‬‬
‫ولكـن علـى العمـوم‪ ،‬وبرغـم قصـور التعليـم الفاضـح عـن سـد حاجـة‬
‫البلاد‪ ،‬فـإن عـدد الطلاب يف املـدارس االبت�دائيـ�ة والثانويـة والكليـات زاد‬
‫بشـكل كبير عمـا كان عليـه أيـام االنتـ�داب‪ .‬ففـي عـام ‪ 1927‬بلـغ عـدد طلاب‬
‫املـدارس االبت�دائيـ�ة والثانويـة (بمـا فيهـا املتوسـطة) علـى التـوايل ‪26،706‬‬
‫و‪1،322‬طالبـا‪ .‬إال أنـه بلـغ يف عـام ‪ 1945‬يف كال املسـتويني ‪104،688‬و‬
‫‪ 12،173‬علـى التـوايل‪10 10 .‬ويعني هـذا مـن الزاوية اليت ندرسـها زيـادة ملحوظة‬
‫يف وزن هـذه الفئـة االجتماعيـة يف حيـاة البلاد االجتماعيـة والسياسـية‪.‬‬
‫كانـت فترة احلـرب شـديدة الوطـأة علـى اجلماهير‪ ،‬السـيما ىف املـدن‪،‬‬
‫وزادت كثيرا مـن السـخط العـام علـى احلـكام الذيـن أظهـروا خنوعـا مـذال‬
‫للمحتلين الربيطانيين‪ ،‬وأوجـدت تربـة صاحلـة لنمو النشـاط الثـوري املناوئ‬
‫للمسـتعمرين وأذنابهـم‪ .‬يف مثـل هـذه األوضـاع عـاود احلـزب نشـاطه أو‬
‫تأسيسـه باألحـرى‪.‬‬
‫انتهـت اجلولـة األوىل من كفاح الشـيوعيني بعد تأسـيس حزبهم بتفرق‬
‫شـمل قادته بني من أطبقت عليه السـجون (زكي خريي ويوسـف ميت وحسن‬
‫عبـاس الكربـاس) وبين من أسـقطت عنه اجلنسـية وأبعد عن البلاد (مهدي‬
‫هاشـم)‪ ،‬ومـن خـرج عليـه أو آثـر االنـزواء أو االبتعـاد (قاسـم حسـن وعاصـم‬
‫فليـح ونـوري روفائي�ل) وبـدا أن صفحة النضال الشـيوعي قد طويـت أو هكذا‬
‫توهـم احلـكام وأسـيادهم‪ ،‬وداخلهـم الرضـا عمـا فعلـوه‪ :‬إذ باتـت الشـيوعية‬
‫محرمـة قانونـا بعـد أن أضيفـت إىل قانـون العقوبـات البغـدادي أحـكام رادعـة‬
‫يمكـن أن تشـهر بوجـه كل مـن ينـ�ادي بها مـن جديد‪ ،‬كمـا اسـتطاعوا أن يكونوا‬
‫جهـازا قمعيـا للمالحقـة والتحـري اكتسـب خبرة نظريـة وعمليـة‪ ،‬وبـدا لهـم‪،‬‬
‫وهـذا هـو األهـم واألخطـر‪ ،‬نفـور مـن املبـادئ الشـيوعية لـدى بعـض املثقفين‬
‫القوميين حتى باتـت حتسـب مـن «السـموم» كمـا حيلو لعبـد الرزاق احلسني‬
‫(مؤلـف تاريـخ الـوزارات) أن ينعتهـا‪.‬‬
‫حيـث يكـرر الشـيوعيون قولهـم إن حركتهم تنبـع من حاجـة موضوعية‬
‫يدفـع إليهـا الوضـع البائـس الـذي تعانيـ�ه الطبقـة العاملـة والكادحين عامـة‪،‬‬

‫‪ .9‬هاشــم جــواد‪ ،‬مقدمــة يف كيــان العــراق االجتماعــي‪ ،‬مطبوعــات جمعيــة الرابطــة‬


‫الثقافيــة‪ ،‬مطبعــة املعــارف‪ ،‬بغــداد‪ ،1946 ،‬ص ‪.115‬‬
‫‪ .10‬هاشــم جــواد‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪115-114‬؛ والدكتــور موســيس ديرهاكوبيــ�ان‪،‬‬
‫حالــة العــراق الصحيــة يف نصــف قــرن‪ ،‬منشــورات وزارة الثقافــة واإلعــام‪ ،1981 ،‬بغــداد‪،‬‬
‫ص ‪.98‬‬
‫‪215‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وتدفـع إليهـا حاجـة البالد إىل التقـدم والرغبة يف حل املتن�اقضـات اليت أوجدتها‬
‫األوضـاع الطبقيـة يف املجتمع‪ ،‬وأن الماركسـية كفلسـفة اجتماعيـة هي األقدر‬
‫علـى تبيـ�ان طريـق اخللاص مـن هـذه املتن�اقضـات‪ ..‬يتهمـون يف العـادة بأنهـم‬
‫يـرددون إيديولوجيـا حفظوهـا كمسـلمات دون أن يكـون لهـا أسـاس مـادي‪،‬‬
‫لكنـك لـو تسـاءلت عـن سـر هـذا «اإليمـان» الـذي تعجـز عـن فلـه حملات‬
‫اإلرهـاب الضاريـة املتالحقـة واملتعاقبـة‪ ،‬فلـن حتظـى جبواب شـاف مـن أولئك‬
‫الذيـن ظلـوا ين�اصبونهـم العداء‪.‬‬
‫أشـرنا يف خاتمـة الفصـل السـابع إىل أن حملـة القمـع التي انصبـت علـى‬
‫احلـزب لـم تصـف منظمـات احلـزب كليـة‪ ،‬وأن ركائـز حزبيـ�ة ظلـت تواصـل‬
‫عملهـا هنـا أو هناك‪ ،‬وثمـة تعاطف مع أفكاره وشـعاراته يف البصرة وبني عمال‬
‫السـكك والنفـط والكليـات يف بغـداد ويف بعض املـدن وبني الشـباب اليهودي‪.‬‬
‫لكنهـا باتـت ركائـز مشـتت�ة‪ ،‬ال توجههـا قيـادة موحـدة‪ ،‬وال تتحرك وفق سياسـة‬
‫واحـدة‪ .‬ومـع أن هـذه احلـال لـم تـدم طويلا‪ ،‬إال أن حالـة التشـتت ظلـت‪ ،‬مـع‬
‫ذلـك‪ ،‬قرابـة السـنني وبعـض السـنة‪ .‬وقـد لعبـت البصـرة‪ ،‬مـرة أخـرى‪ ،‬دور‬
‫الريـادة يف إعـادة التأسـيس‪ ،‬وكان أبـرز الشـيوعيني فيهـا عبـد هللا مسـعود‬
‫القريني الـذي كان يـدرس يف كليـة احلقـوق يف بغـداد‪.‬‬
‫لقـد اسـتطاع القريني أن يربـط مـا بين نشـاط الشـيوعيني يف البصـرة‬
‫والشـيوعيني يف كليـات بغـداد وامتـد شـيئ�ا فشـيئ�ا ليشـمل الشـيوعيني يف‬
‫املواقـع األخـرى‪ .‬إال أن هـذا النشـاط ظـل محـدودا جـدا وينصـرف ىف األسـاس‬
‫إىل التثقيـف‪.‬‬
‫يف كانون الثاين من عام ‪ 1938‬عاد يوسـف سـلمان يوسـف من موسـكو‪.‬‬
‫وكمـا كان يفعـل يف سـابق نضالـه‪ ،‬راح يـدرس احلـال التي انتهـى إليهـا احلزب‪،‬‬
‫ووضـع املنظمـات احلزبيـ�ة اليت سـلمت مـن مالحقة البوليـس‪ ،‬والتقـى رفاقه‬
‫وأصدقـاءه القـداىم ىف البصـرة والناصريـة وبغـداد واسـتمع إىل تصوراتهـم‬
‫وأفكارهـم بشـأن العمـل املقبـل‪ .‬كانـت املجموعـات املتن�اثـرة تتطلـع إىل مـن‬
‫يقودهـا فوجـدت فيـه هـذا القائـد‪ .‬وكان الكثيرون منهـم يعرفونـه شـخصيا‬
‫مـن قبـل أو سـمعوا عنـه‪ ،‬وأخيرا اسـتقر يف بغـداد ليشـتغل كعامـل يف معمـل‬
‫كيميـاوي صغير كان يملكـه األخـوان الشـيوعيان جميـل جموعـة‪ ،‬الـذي كان‬
‫يـدرس الكيميـاء يف دار املعلمين االبت�دائيـ�ة‪ ،‬وخليـل جموعـة‪ .‬ثـم كرس نفسـه‬
‫كليـة للعمـل احلـزيب بعـد أن ضمنـت املنظمـة الشـيوعية يف بغـداد أمر معاشـه‬
‫وذلـك يف نهايـة عـام ‪ .1940‬وكانـت باكـورة نشـاط املنظمـة إصـدار جريـدة‬
‫مركزيـة للحـزب باسـم «الشـرارة» يف كانـون األول ‪.1940‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪216‬‬

‫كانـت تواجهـه مهمـات أساسـية عديـدة وهـو ينكـب علـى بنـ�اء احلـزب‬
‫مـن جديـد ‪ -‬تعين عليـه أوال أن يعمـل مـع قيـادة تربـت يف وسـط نضـايل حمـل‬
‫معـه املعايـب اليت أشـرنا إليها مـن قبل وأدت إىل تشـتت�ه‪ .‬كانت هنـاك الفردية‬
‫الطاغيـة التي تنفـر مـن كل ضبـط‪ ،‬وكانـت هنـاك ثرثـرة املقاهـي واالفتقـار إىل‬
‫االحتراس واحلـذر‪ ،‬والنعـدام فـرص النضـال العلني‪ ،‬اجتـه صـوب احلـزب‬
‫الشـيوعي كثير مـن الناقمين علـى األوضـاع ألنـه اإلطـار الوحيـد الـذي ينفتح‬
‫أمامهـا للنضـال الثـوري دون أن تدرك بوعـي كاف التبعات الثقيلـة اليت ترتتب‬
‫علـى املشـاركة ىف نضـال شـيوعي سـري تالحقـه أجهـزة البوليـس‪ .‬ويف حـزب‬
‫ثـوري مالحـق‪ ،‬وال يمتلـك اخلبرة الضروريـة ملواجهـة االحتمـاالت الصعبـة‪،‬‬
‫ويعـوزه الوعـي النظـري الـذي يعين�ه على تفـادي املطبات‪ ،‬تغـدو املهمة صعبة‬
‫جـدا ملـن ينبري حللها‪.‬‬
‫كان يتعين علـى قيـادة احلـزب أن حتقـق عـددا مـن املهمـات امللحـة‪ .‬كان‬
‫عليهـا أن توطـد املنظمـات القائمـة وتبعـث لديهـا الثقـة بنفسـها‪ ،‬وكان عليهـا‬
‫إعـادة حلمتهـا ببعضهـا حـول قيـادة مركزيـة واحـدة وتتحـرك كجـزء ضمـن‬
‫كل واحـد‪ .‬كذلـك كان يتوجـب السـعي حثيثـ�ا لتوسـيع هـذه القاعـدة احلزبيـ�ة‬
‫واعتمـاد خطـاب يعنى قبـل كل يشء بمشـاكل اجلماهير امللحـة يف املنطقـة‬
‫املعينـ�ة‪ ،‬وتعمـل علـى رفـع وعـي الشـغيلة‪ ،‬وتنويرهـا حباجتهـا إىل التنظيـم‬
‫باعتبـ�اره الوسـيلة الضروريـة وامللحـة لتجميـع قواهـا يف الدفـاع عـن مصاحلها‬
‫الطبقيـة‪.‬‬
‫زد علـى هـذا‪ ،‬كان يتعين علـى قيـادة احلـزب أن تنبري لدراسـة أحـوال‬
‫البلاد االقتصاديـة واالجتماعيـة لتعيين األهـداف العامـة لنضـال احلـزب‪،‬‬
‫وأن حتـدد موقفهـا من القضايا السياسـية املعقدة اليت واجهت البلاد‪ .‬وأخريا‪،‬‬
‫وليـس آخـرا‪ ،‬تربيـ�ة كادر حـزيب قـادر علـى قيـادة املنظمـات احلزبيـ�ة جبـدارة‬
‫ورفاقيـة‪.‬‬
‫كانـت أول مسـألة كبيرة تواجـه احلـزب هـي حتديـد املوقـف السـيايس‬
‫املناسـب مـن احلـرب التي نشـبت بين دول املحـور واحللفـاء‪ .‬لم يكـن احلزب‬
‫الشـيوعي العـرايق هـو وحـده من اصطـدم بمعضلة احلـرب‪ ،‬ال يف داخـل العراق‬
‫وحـده وإنمـا يف بلـدان كثيرة‪ .‬كانـت الفاشـية قـد شـرعت تـدق طبـول احلـرب‬
‫منـذ أن تسـلم النازيـون يف ألمانيـ�ا السـلطة‪ ،‬وسـارعت إيطاليـا الفاشـية إىل‬
‫احتلال احلبشـة‪ ،‬ثـم تـواىل قضـم الـدول وابتلاعهـا‪ .‬كل املؤشـرات كانـت تدل‬
‫علـى أن العالـم مقبـل علـى حـرب شـاملة سـتنجر إليهـا البشـرية يف كل مـكان‪.‬‬
‫وكان البـد للعـراق أن ينجـر إليهـا‪ ،‬شـاء ذلـك أم أىب‪ ،‬حبكـم ارتب�اطـه بمعاهدة مع‬
‫أحـد الطرفين املرشـحني للحرب‪ ،‬وحبكـم هيمنة فئة حاكمـة ربطت مصلحتها‬
‫‪217‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫كليـة بمصلحـة هـذا الطـرف ولـم تعـد تفكـر بـأي يشء آخـر سـوى التسـليم بمـا‬
‫يمليـه اإلجنليز‪ ،‬وحبكـم قربـه مـن السـاحات التي تلتهـب فيهـا املعارك‪.‬‬
‫من جانب آخر كانت الفئة احلاكمة اليت مارسـت أسـاليب التعسـف يف‬
‫التعامـل مع الشـعب وجلأت إىل القمع يف محاربة القـوى التقدمية‪ ،‬قد عمدت‬
‫إىل تشـجيع الدعايـة الفاشـية يف البلاد لتجعـل منهـا مصـدة حتول دون اتسـاع‬
‫األفـكار الشـيوعية والقـوى التقدميـة عامـة‪ ،‬ثـم ألن هـذه الدعايـة تسـتجيب‬
‫أصلا إىل طبيعتهـا ذاتهـا بصفتها جماعـة تميل إىل احلكم القائم على التسـلط‬
‫والغطرسـة‪ .‬ثـم إن الناس لم ينسـوا بعد أسـاليب الغدر واالحتيـ�ال اليت جلأت‬
‫إليهـا بريطانيـ�ا خالل احلرب العامليـة األوىل ونكثها للعهود اليت قطعتها للعرب‬
‫وغدرهـا بهـم يف فلسـطني وغريهـا‪ .‬من اجلانـب املقابل فإن القـوى «القومية»‬
‫لـم تتعـظ بالـدرس الربيطـاين والفرنسي وأثـرت أن جتـرب حظهـا هـذه املـرة مع‬
‫الفاشسـت غير حاسـبة أن هـؤالء هـم يف اجلوهـر مـن نفـس طين�ة الرأسـمالية‬
‫الكبيرة التي حتكـم احللفـاء ولكـن بفظاظـة ووقاحـة أكبر‪ ،‬ولـم تتعـظ بالمـآل‬
‫الـذي انتهـت إليـه شـعوب أوربـا علـى أيـدي الفاشـيني ونسـيت املصير الـذي‬
‫حـل باحلبشـة وهي ليسـت ببعيـدة عنهـم وباملصري الليبي أيضا‪.‬‬
‫مـن جانـب ثالث‪ ،‬بـدت احلـرب وكأنها طبعـة ثاني�ة من احلـرب العاملية‬
‫األوىل‪ .‬الـدول الرأسـمالية الكبرى تنقسـم إىل طرفين ينـ�ازع أحدهمـا اآلخـر‬
‫مـن أجـل اقتسـام مناطـق النفـوذ‪ ،‬أو علـى األقل بـدا األمـر وكأن ألمانيـ�ا النازية‬
‫تبحـث عمـا دعتـه بــ «املجـال احليـوي» والـذي ظهرانـه ال يتوقـف عنـد حـد‪،‬‬
‫وأنـه يتسـع بقـدر مـا تتسـع انتصـارات ألمانيـ�ا وأطماعهـا‪ ،‬واحللفـاء باملقابـل‬
‫يرفضـون التخلـي عـن موقـع الصـدارة الـذي أحـرزوه وهـم علـى اسـتعداد ألن‬
‫يطعمـوا الوحـش النـازي بمـا يشـغله مؤقتـا‪.‬‬
‫ولكـن جـاء تسـاقط الـدول األوربيـ�ة الواحـدة تلـو األخـرى أمـام زحـف‬
‫القـوات النازيـة لزييـد يف اضطـراب الصـورة حىت حـل االنهيار املفائج لفرنسـا‪،‬‬
‫الدولـة الكبيرة‪ ،‬ليقلـب كل احلسـابات‪ .‬كانـت شـعوب البلـدان املسـتعمرة‬
‫والتابعـة تـرى أن ليـس بوسـع بريطاني�ا وفرنسـا أن حتـارب من أجـل «احلرية»‬
‫كمـا تزعمـان‪ ،‬إذ همـا بالـذات تنكـران احلريـة علـى الشـعوب التي تسـتحوذان‬
‫عليهـا‪ ،‬لذلـك لـم تكـن الوعـود والتصرحيـات التي تطلقهـا بريطاني�ا جتـد صدى‬
‫إجيابيـ�ا لـدى الشـعب العـرايق والشـعوب العربيـ�ة األخـرى‪.‬‬
‫باملقابـل‪ ،‬مـا كان بوسـع اليسـار العـرايق عامـة أن يؤمـن بالوعـود التي‬
‫يطلقهـا دعـاة املحـور‪ ...‬ومـا كان أيضـا يبـ�دي ارتي�احـه جتـاه حتـركات أمين‬
‫احلسـيين‪ ،‬مفتي فلسـطني‪ ،‬وأصحابـه الذيـن التجـأوا إىل العـراق‪ ،‬وتدخالنهم‬
‫املشوشـة يف السياسـة العراقيـة والنابعـة مـن وجهـة نظـر ضيقـة كانـت تنظـر‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪218‬‬

‫إىل كل مـا يواجـه الشـعب العـرايق مـن زاويـة القضيـة الفلسـطيني�ة وحدهـا‪.‬‬
‫‪11 11‬‬

‫ومـا كانـوا يت�أملـون أو يعينهـم أصلا وقـع السياسـات التي يرونهـا ويضغطـون‬
‫لفرضهـا علـى قضيـة الشـعب العـرايق ذاتـه‪ .‬وقـد ظـل الفلسـطينيون‪ ،‬علـى‬
‫اختلاف فصائلهـم‪ ،‬يتعاملـون مـع قضايا الشـعب العـرايق من زاويـة املصلحة‬
‫اخلاصـة بفلسـطني‪ ،‬إال فيمـا نـدر‪ .‬لقـد بلـغ تدخـل مفتي فلسـطني‪ ،‬أمين‬
‫احلسـيين‪ ،‬ىف شـؤون العـراق اخلاصـة حـدا جعـل منـه «املحـور الـذي تـدور‬
‫حولـه املزاعـم الوطنيـ�ة‪ .‬وكان هـذا يعتبر كل تفاهم مـع اإلجنلزي خيانـة للقضية‬
‫‪12 12‬‬
‫العربيـ�ة» علـى حـد قـول طـه الهاشمي يف مذكراتـه‪.‬‬
‫يف الرابـع والعشـرين مـن أيلـول ‪ ،1940‬صـدر عـن احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق بيـ�ان يوضـح وجهـة نظـر احلـزب مـن قضيـة احلـرب الشـائكة التي‬
‫اندلعـت بين املحـور واحللفـاء‪ .‬ويبـ�دو أنـه أول بيـ�ان مطبـوع خيـرج بـه احلـزب‬
‫إىل الشـعب بعـد إعـادة تأسيسـه‪ .‬ونشير هنـا إىل أن البيـ�ان قـد وقـع مـن جانب‬
‫«الهيئـ�ة التنفيذيـة للحـزب الشـيوعي العـرايق»‪ ،‬أي أن جلنـة مركزيـة للحزب‬
‫لـم تؤلـف بعـد حتى ذلـك احلين‪ ،‬أو أن اللجنـة التي أدارت نشـاط احلـزب لـم‬
‫تسـتقر بعـد علـى تسـمية نفسـها باسـم اللجنـة املركزيـة‪ .‬وليـس لدينـ�ا مـا‬
‫يوضـح مـن هـم الذيـن يؤلفـون هـذه الهيئـ�ة التنفيذيـة‪ ،‬وهـل هـي ذاتهـا التي‬
‫ألفـت يف أكتوبـر ‪ 1941‬اللجنـة املركزيـة للحـزب‪ 13 13 .‬كذلـك ال نعرف مـا إذا كان‬
‫يوسـف سـلمان يوسـف قـد شـارك أو استشير يف وضـع البيـ�ان أم ال‪ ،‬إذ هـو لـم‬
‫حيترف العمـل احلـزيب إال يف آخـر عـام ‪ 1940‬كما يـروي القريين لبطاطو وتشير‬
‫‪14 14‬‬
‫تقاريـر البوليـس‪.‬‬
‫إن قـراءة متأنيـ�ة للبيـ�ان تكشـف أن احلـزب لـم يقـف موقفـا عمليـا‬
‫ومسـؤوال مـن هـذه املسـألة الشـائكة‪ ،‬واعتمـد يف معاجلتـه اخلطـاب البالغي‬
‫أكثر مـن حتديـد موقـف عملـي يمكـن للشـعب أن حياسـب يف ضوئه سياسـات‬
‫احلـكام إزاء املسـألة‪ .‬إنـه أقـرب لمـا يصطلـح عليـه يف السياسـة بـــ «تسـجيل‬
‫موقـف» ليـس غير‪ .‬ويبـ�دو هذا جليـا يف بعـض النقاط التي انطوى عليهـا‪ .‬إنه‬
‫يطالـب بتكويـن حلـف دفاعـي يصون حيـاد البالد العربيـ�ة ويصد أيـة محاولة‬
‫لالعتـداء عليهـا‪ ،‬لكنـه لـم يوضـح ممـن يريـد أن يتكـون هـذا احللـف‪ ،‬ومـا هـي‬

‫‪ .11‬نــاىج شــوكت‪ ،‬ســرة وذكريــات ثمانــن عامــا‪ ،‬منشــورات مكتب ـ�ة اليقظــة العربي ـ�ة‪،‬‬
‫بغــداد‪ ،1990 ،‬ص ‪.439‬‬
‫‪ .12‬املصدر السابق‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ص ‪.431‬‬
‫‪ .13‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬اجلدول ‪ ، 1-6‬ص ‪.104‬‬
‫‪ .14‬بطاطو‪.103 ،‬‬
‫‪219‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫قدراتـه الفعليـة لصـد االعتـداء‪ ،‬وإىل أي حـد يمكـن حتقيـق هـذه الفكـرة عمليـا‬
‫ىف تلـك الظـروف املعقـدة؟ ودعوتـه األمة العربيـ�ة إىل الكفاح ضـد احلرب دون‬
‫هـوادة وبـكل مـا تملك مـن قوة‪ ،‬دون أن يوضح شـكل هذا الكفـاح الذي يقرتحه‬
‫والقـوى اليت سـتنخرط فيه‪ ...‬الـخ‪ ،‬وأخريا مطالبت�ه بإجلاء اجليوش األجنبي�ة‬
‫عـن البلـدان العربيـ�ة يف الوقـت الـذي تسـتعر فيـه احلـرب فعلا وجيـوش‬
‫املحـور تتحفـز للهجـوم على احلـدود الغربيـ�ة ملصر‪ .‬ومن حـق املرء أن يتسـاءل‪،‬‬
‫ومـاذا سـيكون املوقـف لـو أن القـوى العسـكرية املرابطـة يف البلاد العربيـ�ة‬
‫رفضـت االنسـحاب‪ ،‬وهـي سترفض بالتأكيـد؟ ومـا هـي الصورة التي يقرتحها‬
‫للمقاومـة؟ ليسـت البلـدان العربيـ�ة هـي وحدهـا التي ابتليـت بهـذا اخليـار مـا‬
‫بين االحتلال الفـايش واالسـتعمار الربيطـاين‪ .‬علـى العمـوم‪ ،‬كانـت الدعـوة‬
‫إىل احليـاد قـد شـاعت لـدى القـوى اليسـارية يف العالـم‪ ،‬إذ اعتبرت احلـرب‬
‫نزاعـا بين القـوى اإلمربياليـة‪ ،‬وكان مـا يشـغل بـال الشـعوب يف تلـك األيـام أن‬
‫تتخلـص مـن قيود االسـتعمار الربيطـاين والفرنيس اجلاثم علـى صدورها فعال‬
‫أكثر مـن اهتمامهـا بمحاربـة الفاشـية والنازيـة‪15 15 .‬وفيمـا يلـي نـص البيـ�ان‪:‬‬

‫إىل الشعب العرايق الكريم‬


‫يـا أبنـ�اء شـعبن�ا عماال وفالحين‪ ،‬جتـارا ومثقفني‪ ،‬وقـادة مخلصني‪ ،‬يا‬
‫رجال احلكم املسـؤولني!‬
‫إن احلـزب الشـيوعي العـرايق احلريـص علـى سلامة بالده والسـاهر‬
‫علـى مصلحـة أبنـ�اء وطنه‪ ،‬يـرى من أقـدس واجباته ىف هـذه الظروف‬
‫العصيبـ�ة أن يسـتصرخكم لاللتفـاف حـول راية التحـرر الوطين وفقا‬
‫لألسـس الرشـيدة التالية‪:‬‬

‫‪1.‬لمـا كانـت احلـرب القائمـة اليـوم بين ألمانيـ�ا وإيطاليـا مـن جهـة‬
‫وإنكلترا مـن جهـة أخـرى حربا اسـتعمارية‪ ،‬حرب نهب وسـلب القتسـام‬
‫العالـم مـن جديـد علـى حسـاب األمـم الضعيفـة‪ ،‬ولمـا كانـت بالدنـا‬
‫العربيـ�ة معرضـة إىل خطـر هـذا التقسـيم وقـد تكـون واقعـة يف حـدود‬
‫خارطتـه فعلا‪ ،‬وجـب علينـ�ا كدولـة أن نقـف مـن هـذه احلـرب موقفـا‬
‫حياديـا تامـا‪ .‬وأمـا موقفنا جتاهها‪ -‬كأمـة – موقف كفاح ال يفقـه للهوادة‬
‫معنى‪ .‬إننـ�ا نكافـح هـذه احلـرب بـكل مـا لدينـ�ا مـن قـوة دفعـا لألضـرار‬
‫‪ .15‬جواهــر الل نهــرو‪ ،‬قصــة حيــايت‪ ،‬ترجمــة مــروان اجلابــري‪ ،‬املكتــب التجــاري للطباعــة‬
‫والتوزيــع والنشــر‪ ،‬بــروت‪ ،1990 ،‬ص ‪ .495‬ونذكــر هنــا أن هــذا الوقــف مــن احلــرب وجــد‬
‫مــن يتعاطــف معــه حــى يف إجنلــرا ذاتهــا كهــاري بوليــت‪ ،‬زعيــم احلــزب الشــيوعي الربيطــاين‬
‫آنــذاك‪.‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪220‬‬

‫اجلسـيمة‪ ،‬األضـرار االقتصاديـة واالجتماعيـة التي أحلقتها بن�ا وسـعيا‬


‫وراء حتررنـا الوطني بصـورة نهائيـ�ة‪.‬‬
‫‪2.‬لمـا كان كل إقليـم مـن بالدنـا العربيـ�ة أعجـز مـن أن يصـون حيـاده‬
‫التـام منفـردا بصورة عمليـة وجب على الـدول العربي�ة أن تبـ�ذل قصارى‬
‫جهودهـا لتأليـف حلـف دفاعـي مشترك يصـون حيادهـا ويقـف حصنـا‬
‫منيعـا لـرد أي اعتـداء يقـع علـى إحداهـا‪ .‬ويجـب علينـ�ا كمواطنين أن‬
‫نقـف كتلـة مرتاصـة ىف وجـوه أعدائنـ�ا وآن نهـب للدفاع عن حـدود بالدنا‬
‫العربيـ�ة املقدسـة إذا ما حـاول معتد ما انتهاك حريتهـا‪ .‬ودفعا لاللتب�اس‬
‫نعلـن للشـعب الكريـم أن احللـف الـذي نريـده والدفـاع الـذي نتخـذه‬
‫جيـب أن يتحققـا حتت رايـة حرة وإال فـإن الدفاع جبانب األجنيب املسـتمر‬
‫دفاع عـن االسـتعمار‪.‬‬
‫‪3.‬بمـا أن وجـود اجليـوش األجنبيـ�ة ىف بعـض مدننـ�ا العربيـ�ة يعـرض‬
‫أموالنـا للتدمير وأبن�ائنـ�ا رجـاال ونسـاء‪ ،‬شـيوخا وأطفـاال خلطـر القصف‬
‫مـن قبـل القـوى اجلويـة املعاديـة لتلـك اجليـوش‪ ،‬فإننـ�ا نطالـب بإحلاح‬
‫جلاء هاتيـك اجليـوش إىل حيـث ال يبقـى أي مبرر للـدول املعاديـة يف‬
‫قصـف مدننـ�ا ‪ ٠‬وإننـ�ا نعلـن بصراحـة بـأن قصـف اإلسـكندرية يقـض‬
‫مضاجعنـا وضـرب حيفـا والقدس حيرق قلوبنـ�ا فما على أبنـ�اء هذه األمة‬
‫إال أن يرفعـوا أصواتهـم عاليـة مطالبين بوجوب جالء اجليـوش لنصون‬
‫أرواح أبن�ائنـ�ا الغاليـة‪ ،‬كمـا أنن�ا نعـارض قيام أية حركـة هجومية من قبل‬
‫القـوى األجنبيـ�ة اليت اسـتضافتها وعدا ذلك فإنن�ا نطالـب بإبعاد كل قوة‬
‫أجنبيـ�ة عـن منابع النفط يف العراق وعن السـكك احلديديـة ودرء عنهما‬
‫األخطـار ألن النفـط أهـم منابـع خرياتنـ�ا وأن السـكك احلديديـة عامـل‬
‫جـدي يف حياتنـ�ا االقتصاديـة فحمايتهمـا بالصـورة األنفـة أمـر ضـروري‬
‫للغاية‪.‬‬
‫‪4.‬بالنظـر إىل األثـر السيئ الـذي أحدثتـ�ه هـذه احلـرب يف حياتنـ�ا‬
‫االقتصاديـة‪ ،‬إذ وقـف دوالب التجـارة إىل حـد كبير وسـادت البطالـة‬
‫وارتفعـت األسـعار ارتفاعـا فاحشـا واخنفضـت أجـور العمـال إىل نصف‬
‫املسـتوى الـذي كانـت عليه قبـل احلرب ‪ -‬بالنظر إىل ذلـك كله جيب على‬
‫احلكومـة أن تأخـذ علـى عاتقهـا إنعـاش احليـاة االقتصاديـة‪ ..‬حالـة‪..‬‬
‫أو بنسـب تزيـد أجـور العمـال وحتديـد األسـعار ومراقبتهـا‪ ..‬ىف حتسين‬
‫عالقاتهـا االقتصاديـة معنـا‪.‬‬
‫‪5.‬بمـا أن حتقيق األسـس الـواردة أعاله ضروري لسلامة بالدنا وعامل‬
‫فعـال يف حتـرر وطننـ�ا ندعـو أبنـ�اء شـعبن�ا احلبيـب‪ ،‬السـيما الزعمـاء‬
‫‪221‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫املخلصين‪ ،‬إىل العمـل علـى بعـث احليـاة الدسـتورية يف هـذه الربـوع‪،‬‬


‫تلك احلياة اليت تعترب شـرطا أساسـيا ىف حتقيق األسـس التي أوضحناها‬
‫أنفـا‪ ،‬فحريـة الـكالم والنشـر واالجتمـاع‪ ،‬التي هـي مـن حقـوق الشـعب‬
‫األساسـية املقدسـة واملنصـوص عليهـا يف الدسـتور مسـألة جوهريـة يف‬
‫تنظيـم الشـعب نفسـه سياسـيا ونقابيـ�ا ‪ -‬أحـزاب ونقابـات‪ .‬وتنظيـم‬
‫الشـعب نفسـه يؤلـف سـورا ال يقـوى أحـد علـى اخرتاقـه‪.‬‬

‫وختامـا نكـرر دعوتنـ�ا إىل أبنـ�اء شـعبن�ا عمـاال وفالحين‪ ،‬جتـارا‬


‫ومثقفين‪ ،‬وقـادة مخلصين‪ ،‬ورجـال احلكـم املسـؤولني إىل السير‬
‫كتلـة واحـدة حتـت علـم االنعتـاق اخلفـاق‪.‬‬
‫‪1940/9/24‬‬
‫‪16 16‬‬
‫الهيئ�ة التنفيذية للحزب الشـيوعي العرايق‬

‫علـى هـذا النحـو جاء بي�ان احلـزب‪ ،‬وهو‪ ،‬على أية حـال‪ ،‬كان وليد ظروف‬
‫العـراق اخلاصـة واملعقـدة آنـذاك‪ .‬لقد كانت السـنة األوىل من احلـرب العاملية‬
‫الثانيـ�ة سـنة اضطـراب وصـراع سـيايس شـديد ومنـاورات ال تنقطـع يف العراق‬
‫كان قطباهـا يف جانـب نوري السـعيد الذي كانـت تتن�ازعه الرغبة يف أن يسـتغل‬
‫ظروف احلرب ليضم سـوريا إىل العراق وسـعى إىل أن يكسـب رضا تركيا حول‬
‫األمر مقابل «التن�ازل» لها عن القسـم الشـمايل (؟) من كردسـتان العراق ‪،17 17‬‬
‫ولـم يتردد يف أن يشـعر بريطانيـ�ا أنـه على اسـتعداد لوضـع القوات العسـكرية‬
‫العراقيـة حتـت تصرف بريطاني�ا يف جبهات القتـال يف مصر أو غريها لقاء حتقيق‬
‫هـذه السياسـة‪ -‬ويف اجلانـب اآلخـر كان مفتي فلسـطني ومـن ورائـه صلاح‬
‫الديـن والثالثـة اآلخرون من عقداء اجليـش الذين كانوا يهيمنون على اجليش‬
‫العـرايق وعلـى السياسـة العراقيـة يومـذاك يدفعـون باألمـور باجتـاه اسـتغالل‬
‫األوضـاع التي نشـأت بفعل احلرب لتحرير فلسـطني مـن الهيمنـة الربيطاني�ة‬
‫والصهيونيـ�ة حتى لو تطلب األمر التعـاون مع ألماني�ا الهتلريـة ودخول احلرب‬
‫إىل جانبهـا عمليـا‪ .‬مـن جانبهـا كانت بريطانيـ�ا تنوى وتعـد الحتالل العـراق منذ‬
‫صيـف ‪ 1940‬واختـاذه القاعـدة األساسـية لتحركها ىف الشـرق األوسـط‪ .‬كانت‬
‫هـذه التن�اقضـات احلادة تعكس نفسـها ىف تب�دالت وزاريـة متالحقة‪ ،‬ويف قطع‬
‫العالقـات مـع ألمانيـ�ا ولكـن مـع اإلبقـاء علـى العالقـات الدبلوماسـية الكاملـة‬

‫‪ .16‬نقــا عــن الصــورة الفوتوغرافيــة للبيــ�ان املنشــورة يف كتــاب فائــق بطــي‪ ،‬الصحافــة‬
‫اليســارية يف العــراق‪ ،‬لنــدن‪ ،1985 ،‬ص ‪ 59‬وقــد بــدت بعــض أجزائــه غــر واضحــة‪.‬‬
‫‪ .17‬نايج شوكت‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬ص ص ‪.379-370‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪222‬‬

‫مـع إيطاليـا وغض النظر عن نشـاط سـفريها يف الدعايـة إىل الفاشـية واملحور‪،‬‬
‫ويف رفـض إعلان احلـرب علـى ألمانيـ�ا ولكـن مـع الوقـوف إىل جانـب بريطانيـ�ا‬
‫واإلبقـاء علـى املعاهـدة العراقيـة ‪ -‬الربيطاني�ة وااللتزام بنصوصهـا‪ ،‬ويف صراع‬
‫حـاد علـى السـلطة بين عبـد اإللـه‪ ،‬الـويص علـى العـرش‪ ،‬ونـوري السـعيد من‬
‫جانـب‪ ،‬ومفتي فلسـطني والعقـداء األربعـة وأصحابهـم مـن اجلانـب املقابـل‪.‬‬
‫والواقـع إن سياسـة بريطانيـ�ا يف العـراق ذاتهـا قـد أسـهمت إىل حـد بعيـد يف‬
‫وصـول الوضـع يف العـراق إىل هـذا المـأزق ألنهـا هـي التي أوجـدت نظـام احلكم‬
‫القائـم يف العـراق واآلليـة التي يسير عليهـا يف تمشـية أمـوره وهي التي اختارت‬
‫العناصـر التي تولـت املسـؤولية فيـه وكونت منهـا فئة حاكمـة توارثـت تقاليد‬
‫احلكـم واملصالـح املرتبطـة بـه‪ ،‬وهـي اليت مهـدت للدعاية الفاشـية وسـاعدت‬
‫يف انتشـارها بينمـا ضيقـت كثريا على الفكر اليسـاري عامة يف البلاد‪ ،‬وهي اليت‬
‫سـلكت ما سـلكت ىف فلسـطني وعـززت الصهيوني�ة فيهـا إىل احلد الـذي أوجد‬
‫عقدة نفسـية لـدى جماهري الشـعب‪.‬‬
‫بعـد خمسـة أشـهر مـن صـدور البيـ�ان الـذي حتدثنـ�ا عنـه‪ ،‬عـاد احلـزب‬
‫إىل تكـرار طرحـه بشـأن احلـرب يف العـدد الثالـث مـن جريـدة (الشـرارة)‬
‫الصـادر يف شـباط ‪ ،1941‬وكـرر فيـه الدعـوة إىل النضـال مـن أجـل تكويـن‬
‫جبهـة وطنيـ�ة موحـدة (بـدال مـن «كتلـة واحـدة» كمـا يف األول تتفـق علـى‪:‬‬

‫‪1.‬املحافظة على حياد العراق يف احلرب الراهنة‪.‬‬


‫‪ 2.‬منع حتويل العراق إىل ساحة معركة للجيوش املتحاربة‪.‬‬
‫‪3.‬العمـل علـى إقامـة حتالـف عـريب للدفـاع املشترك واملحافظـة علـى‬
‫حيـاد البلدان العربي�ة ويجب أن يكـون التحالف «نظيفا» ويدعمه‬
‫تعـاون عـريب على املسـتوى الشـعيب ومن خالل املنظمات الشـعبي�ة‬
‫العربي�ة‪.‬‬
‫‪4.‬إقامـة عالقـات جتاريـة مـع كل الـدول «لتخليـص بلدنـا مـن األزمـة‬
‫االقتصاديـة التي غـرق فيهـا نتيجـة الرتب�اطاتنـ�ا اخلاصـة بقـوى‬
‫‪18 1 8‬‬
‫معينـ�ة » ‪.‬‬

‫وقـد ظـل موقفـه هـذا مـن احلـرب حتى غـزت القـوات الهتلريـة االحتـاد‬
‫السـوفييت فتب�دلـت الصـورة من األسـاس‪ ،‬وتغير موقف الشـيوعيني وغريهم‬
‫مـن الديمقراطيني عامة من هذه احلـرب وصاروا جياهرون بت�أيي�دهم للموقف‬
‫‪ .18‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪223‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الربيطـاين مـن احلـرب حىت القضـاء على الفاشـية وهذا مـا سـنتن�اوله الحقا‪.‬‬
‫بعـد صـدور بي�اين احلـزب اللذين أشـرنا إليهمـا توالت األحداث بسـرعة‬
‫يف العـراق حتى اندلعـت أحـداث أيـار التي عرفت باسـم (حركـة مـارس أو أيار)‬
‫أو (حركـة رشـيد عـايل الكيلاين)‪ ،‬واصطدمت فيهـا القوات العراقيـة بالقوات‬
‫الربيطانيـ�ة‪ .‬فمـاذا كان موقـف احلـزب الشـيوعي العـرايق من هـذه احلركة؟‬
‫اختـذت حالـة البلاد يف الشـهور األوىل مـن عـام ‪ 1941‬وضعـا متفجـرا‬
‫ينطـوي علـى مختلـف االحتمـاالت‪ ،‬وبلغـت التن�اقضات بين العقـداء األربعة‬
‫الذيـن عرفـوا باسـم «املربـع الذهبي» الذين كانـوا يهيمنون علـى اجليش ومن‬
‫ورائهم أمني احلسـيين‪ ،‬مفيت فلسـطني‪ ،‬ومن يسـايرهم من العناصر القومية‬
‫مـن جانـب‪ ،‬والبلاط امللكـي ونـوري السـعيد واملسـايرين اآلخريـن للسياسـة‬
‫الربيطانيـ�ة مـن اجلانـب املقابـل‪ ،‬نقـول بلغـت هـذه التن�اقضـات ذروتهـا‪،‬‬
‫وكانـت حصيلتهـا أن اضطر طه الهاشمي‪ ،‬رئيس الوزراء‪ ،‬إىل تقديم اسـتقالته‬
‫وتشـكيل حكومـة جديدة برئاسـة رشـيد عايل الكيلاين تضم مناصـري العقداء‬
‫املذكورين من الساسـة «القومييون»‪ ،‬ولكن دون أن حتظى اسـتقالة الهاشيم‬
‫أو اسـتزيار الكيلاين وصحبـه بموافقـة الـويص علـى العـرش طبقا للدسـتور‪ ،‬إذ‬
‫كان هـذا قـد فـر مـن بغـداد إىل القاعـدة الربيطانيـ�ة يف (احلبانيـ�ة) ومـن هنـاك‬
‫طـار إىل البصـرة والتجـأ إىل دارعـة بريطانيـ�ة كانـت ترسـو يف شـط العـرب‪،‬‬
‫وراح يطلـق نداءاتـه منهـا معلنـا عـدم اعرتافـه بتشـكيل وزارة الكيلاين‪ ،‬فتلجـأ‬
‫حكومـة الكيلاين باملقابل إىل جمـع مجلس األمة وإبطال وصايتـ�ه على العرش‬
‫واسـتب�داله بـويص جديـد‪« ،‬الشـريف شـرف»‪ .‬وقـد اسـتغلت بريطانيـ�ا هـذه‬
‫األوضـاع‪ ،‬وانشـغال األلمـان بهجومهـم علـى جزيـرة كريـت‪ ،‬فكثفـت وجودها‬
‫العسـكري يف البصـرة‪ ،‬مسـتغلة تـردد احلكومـة اجلديـدة ىف اختـاذ سياسـة‬
‫محـددة جتـاه إنـزال القـوات الربيطانيـ�ة ورغبتهـا يف جتنب االصطـدام املتعجل‪،‬‬
‫وكانـت قيـادة اجليش العرايق تتسـم بالضعـف ولم تكن تتقيـد بإطاعة األوامر‬
‫اخلاصـة بتنفيـذ اخلطـط العسـكرية واحلربيـ�ة املقـررة كمـا يعرتف بذلـك أبرز‬
‫هـؤالء العقـداء‪ ،‬صلاح الديـن الصبـاغ‪ 19 19.‬وتطـورت األحـداث مـن بعـد إىل‬
‫حـد االصطـدام الفعلـي يف احلبانيـ�ة‪ .‬ورغـم أن تن�اسـب القـوى العسـكرية بني‬
‫الطرفين كان إىل جانـب القـوات العراقيـة‪ ،‬إال أن ضعـف القيـادة العسـكرية‬
‫العراقيـة لـم يفـوت فقـط فرصة احتلال قاعـدة احلبانيـ�ة اجلويـة الربيطاني�ة‬
‫وفـرض مسـاومة لصالـح العـراق‪ ،‬السـيما وأن الوضـع العسـكري الربيطاين يف‬
‫مصـر‪ ،‬لـم يكـن يف صالـح إمـداد القـوات الربيطانيـ�ة يف العـراق بالدعـم الـكايف‪،‬‬
‫وإنمـا سـمح للقـوات الربيطانيـ�ة أن تسـتعني بتفوقهـا اجلـوي لقصـف مواقـع‬

‫‪ .19‬نايج شوكت‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ص ‪.455‬‬


‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪224‬‬

‫اجليـش العـرايق املرابـط عنـد تلال احلبانيـ�ة وحتطيـم جميـع طائراتـه القليلـة‬
‫العـدد والقديمـة‪ ،‬وإجبـاره على االنسـحاب مـن هضبة احلباني�ة املشـرفة على‬
‫قاعـدة احلبانيـ�ة‪ ،‬واندفعـت القـوات الربيطانيـ�ة للهجـوم علـى مواقـع القوات‬
‫العراقيـة وأسـرت ‪ 26‬ضابطـا و ‪ 400‬جنـدي‪ .‬ثـم واصلـت تقدمهـا باجتـاه‬
‫الفلوجـة‪ ،‬وقـد سـارعت بريطانيـ�ا إىل تعزيـز قواتهـا يف احلبانيـ�ة بوحـدات مـن‬
‫(الفيلق العريب) يف شـرق األردن بقيادة كلوب باشـا‪ ،‬وبقوات أخرى من اخليالة‬
‫واملشـاة‪ .‬وقـد تـرددت القيـادة العراقيـة حتى ىف تدمري جسـر الفلوجـة مما فتح‬
‫السـبي�ل للقـوات الربيطانيـ�ة للتقـدم صـوب بغـداد‪ .‬وكان مفيت فلسـطني وراء‬
‫القـادة العسـكريني ينفـخ فيهـم ويدفعهـم حتى إىل رفـض وسـاطة تركيـة كان‬
‫يمكـن أن حتتفـظ للحـكام بمـاء الوجـه‪ ،‬وكان يؤكـد لهـم أن قبـول الوسـاطة‬
‫الرتكيـة خيانـة وطنيـ�ة جيب جتنبها وأقنـع العقيد صالح الديـن الصباغ بوجهة‬
‫‪20 20‬‬
‫نظـره فأعلـن هـذا أن «ال مفاوضـة قبـل اجللاء»‪.‬‬
‫أثـارت احلركـة حماسـة الشـعب العـرايق بأسـره‪ ،‬وقـد أيـدت القـوى‬
‫الوطنيـ�ة‪ ،‬علـى اختالفهـا‪ ،‬موقـف التحـدي الـذي اختذتـه حكومة الكيلاين‪ .‬إن‬
‫الظـروف لـم تكـن مواتيـ�ة للدخـول ىف عمليـة حتـد كبيرة كهـذه‪ ،‬إال أن الشـعب‬
‫اندفـع بإخلاص وبمعنويـة عاليـة‪ ،‬إىل تأييـ�د احلركـة كرهـا باالسـتعمار‪.‬‬
‫كان الوضـع السـيايس يف البلاد قبـل انـدالع احلـرب العامليـة الثانيـ�ة يتصـف‬
‫باالضطـراب‪ ،‬فقـد تـواىل تأليـف احلكومـات منـذ أن صفي انقلاب بكر صديق‬
‫دون أن تضمـن أيـة واحـدة منهـا االسـتقرار الـذي ينشـده الشـعب‪ ،‬ولقـد فتح‬
‫انقلاب بكـر صـديق الباب أمـام املغامـرات وأمام تدخـل مزتايد من جانـب قادة‬
‫اجليـش يف توجيـه سياسـة البلاد‪.‬‬
‫لقد عاىن الشـعب طويال من التعامل الربيطاين االقتصادي والسـيايس‪،‬‬
‫ومـن املعاملـة املذلـة علـى أيـدي كورنواليـس وغيره مـن املستشـارين واخلرباء‬
‫الربيطانيين الذيـن كانـوا يرسـمون ويوجهـون سياسـة البلاد ويشـرفون علـى‬
‫تطبيقهـا‪ ،‬وكان الشـعب يتطلـع إىل اليـوم الـذي ينزع فيـه أغلال الهيمنـة‬
‫الربيطانيـ�ة‪ -‬كذلـك كان يت�ألم من أعماقه للجرائم اليت كان يرتكبها االسـتعمار‬
‫الربيطـاين والفرنسي والصهيونيـ�ة ضـد أشـقائه يف فلسـطني وسـوريا ولبنـ�ان‪.‬‬
‫وقـد ألهبـت مشـاعره ثورة الشـعب الفلسـطيين ضـد االحتالل الربيطـاين عام‬
‫‪ ،1936‬كمـا أثـار سـخطه اقتطاع لواء اإلسـكندرونة من ًشـمال سـوريا دون أن‬
‫حتـرك (حكومتـه)‪ ،‬واحلكومـات العربيـ�ة األخرى سـاكنا‪.‬‬
‫كان لـدى الشـباب الذيـن وفـر لهـم اتسـاع التعليـم والنشـر فرصـة أكبر‬
‫‪ .20‬عبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬األســوار اخلفيــة يف حركــة الســنة ‪ 1941‬التحرريــة‪ ،‬الطبعــة‬
‫اخلامســة‪ ،‬مركــز األجبديــة‪ ،‬بــروت‪ ،1982 ،‬ص ‪.223‬‬
‫‪225‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ملقارنـة التخلـف الـذي يلـف البلاد بالتقـدم الـذي حتققـه أمـم أخـرى مجـاورة‬
‫أو قريبـ�ة ليخرجـوا منهـا بإحسـاس عميـق بضـرورة إجـراء تغيير مـا‪ ،‬ولكـن دون‬
‫أن تتوفـر لـه فـرص الوعـي الثـوري السـليم لتحديـد اجتـاه التغيير وطبيعتـه‬
‫والسـبل املوصلـة إليـه‪ .‬إن القمـع الـذي واجهته القـوى الديمقراطيـة ومحاربة‬
‫النشـاط والفكـر الديمقراطـي عامـة وحجب أنبـ�اء النجاحات التي كان حيققها‬
‫البنـ�اء السـوفييت عملـت علـى إبعـاد اجلماهير الكادحـة الواسـعة عـن تلمـس‬
‫سـبي�ل اخللاص الثـوري‪ .‬يف املقابـل وجـدت األفـكار والدعايـة الفاشـية تربـة‬
‫خصبـة لـدى فئات واسـعة من الشـبيب�ة اليت كانت تكـره االسـتعمار الربيطاين‬
‫الـذي يؤلـف عقبـة كأداء تعترض سـبيلها إىل االسـتقالل والوحـدة ويف ذات‬
‫الوقـت تفتقـر إىل الوعـي الضـروري لكـي تـدرك مـا يوحد ومـا يفرق بين القوى‬
‫االسـتعمارية‪ ،‬الغربيـ�ة منهـا والفاشـية‪ .‬لذلـك انسـاقت هـذه الشـبيب�ة وراء‬
‫دعايـة املحـور جريـا على قاعـدة «عدو عـدوي صديقي» ووجدت ىف السياسـة‬
‫الالسـامية‪ ،‬املعاديـة لليهـود‪ ،‬التي اتبعهـا النازيون يف ألماني�ا كسياسـة رسـمية‬
‫لهـم مناسـبة للتشـفي ممـا كانـت تلحقـه الصهيونيـ�ة بالشـعب العـريب يف‬
‫فلسـطني برغـم أن هـذه السياسـة كانـت تعزز مواقـع الصهيوني�ة يف فلسـطني‬
‫بمئـات األلـوف مـن الذيـن كانـت تدفـع بهـم للهجـرة إىل فلسـطني وجتـد‬
‫الرتحيـب مـن الدوائـر الصهيونيـ�ة واالنتـ�داب الربيطـاين‪ .‬لذلـك مـا إن جلـأت‬
‫مجموعـة رشـيد عـايل الكيالين والعقـداء األربعـة ومن ورائهم مفيت فلسـطني‪،‬‬
‫أمين احلسـيين إىل املجاهـرة خبالفاتهـا مـع بريطانيـ�ا‪ ،‬وتطـور اخللاف إىل حـد‬
‫االصطـدام املسـلح يف ‪ 2‬أيـار ‪ 1941‬حتى اندفعـت اجلماهير إىل تأييـ�د احلركـة‬
‫حبماسـة كبيرة دون أن تعـي وعيـا كافيـا طبيعـة قيـادة احلركـة‪.‬‬
‫كان الوجـه اآلخـر للحركـة‪ ،‬ونعني بـه طبيعة قيـادة احلركـة وارتب�اطاتها‬
‫واجتاهاتهـا الفكريـة والسياسـية‪ ،‬هو ما ينبغي أن يسـتوقف النظـر حقا‪ .‬كانت‬
‫بـوادر احلركـة «القومية» ىف العراق قد انبثقت من بني من عرفوا ب «األعيان‬
‫مـن مالكين وجتـار‪ .‬وقد أسـهم هـؤالء يف النضـال القـويم العـريب للتخلص من‬
‫نير السـيطرة العثمانيـ�ة باسـم الالمركزيـة أوال ومـن بعـد يف «الثـورة العربي�ة»‬
‫إلنشـاء دولـة عربيـ�ة واحـدة‪ .‬غري أن هـذا الرعيـل األول انتهى‪ ،‬كما هـو معروف‪،‬‬
‫إىل التعـاون مـع املحتلين الربيطانيين وتطمين مصالـح الفئـات االجتماعيـة‬
‫التي مثلوهـا مـن خلال الدولـة اجلديدة التي تعـاون الطرفـان على تأسيسـها‪.‬‬
‫أمـا الرعيـل الثـاين مـن «القومني» فقد انبثـق يف أوائل الثالثينـ�ات من بني تلك‬
‫الفئـات االجتماعيـة التي تضـررت مصاحلهـا كثيرا بفعـل احلواجـز احلدودية‬
‫التي أوجدهـا التجـزيء الـذي أدخلـه الربيطانيـون والفرنسـيون علـى املشـرق‬
‫العـريب‪ ،‬وتغلغـل رأس المـال األجنبي ومـا حملـه معـه مـن تغيرات يف أنمـاط‬
‫اإلنتـ�اج واالسـتهالك‪ .‬إىل جانب ذلـك كان هذا الرعيل يعكس بقدر معني حالة‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪226‬‬

‫اإلحبـاط والضيـق الـذي كانـت تشـعر بـه هـذه الفئـات جتـاه احلواجـز الماديـة‬
‫واملعنويـة التي كانـت تقيمهـا الفئـات االجتماعيـة التي سـبقتها إىل دسـت‬
‫احلكـم حفاظـا علـى مصاحلهـا الطبقيـة التي كانـت آخـذة بالتبلـور ومصالـح‬
‫أسـيادها املسـتعمرين‪ ،‬كمـا كان يعكـس أخيرا حالـة اإلحبـاط والسـخط التي‬
‫عمـت البلـدان العربي�ة جراء سـلوك الدول االسـتعمارية جتـاه القضايا العربي�ة‬
‫األساسـية كالوحـدة وفلسـطني وغريهمـا‪ .‬لكـن هـذه اجلماعـات «القوميـة»‬
‫علـى كرههـا لالسـتعمار وسـخطها علـى أعوانـه لـم تسـتطع أن حتـرر نفسـها‬
‫مـن تصـورات وتطلعـات الفكـر القـويم السـابق‪ ،‬ولـم تعـط لدعوتهـا القوميـة‬
‫مضمونـا ديمقراطيـا‪ ،‬كمـا لـم حتـرر نفسـها أيضـا مـن االرتب�اطـات السياسـية‬
‫واالجتماعيـة التي كانـت تشـدها إىل حملـة هـذا الفكـر‪ ،‬وزاد يف تشـوش وعيهـا‬
‫وتطلعاتها تأثرها بالفكر الفايش وافتت�انها بفلسـفته‪ .‬وبسـبب من افتقارها إىل‬
‫وضـوح الرؤية والوعي السـيايس‪ ،‬فإنها أسـلمت قيادتهـا إىل عناصر احندرت ىف‬
‫الغالـب مـن تلك الفئات االجتماعية اليت تعاونت مع االسـتعمار ودخلت معه‬
‫يف ارتب�اطـات مـن قبـل‪21 21 .‬ولم ختتلف سـلوكيات وأسـاليب هـذه اجلماعات يف‬
‫العمـل السـيايس عن أسـاليب الذين سـبقوها‪ .‬ولذلك سـهل لدعـاة النازية أن‬
‫‪22 22‬‬
‫يكسـبوا تعاطفهـا مـن خلال التظاهـر بمناصـرة القضايـا العربيـ�ة‪.‬‬

‫‪ .21‬كان رشــيد عــايل الكيــاين قــد انشــق عــن حــزب اإلخــاء الوطــي ليؤلــف الــوزارة ويؤيــد‬
‫معاهــدة ‪ 1930‬وذلــك يف عــام ‪ .1933‬ويف عــام ‪ 1940‬آلــف الــوزارة وكان مــن بــن أعضائهــا‬
‫نــوري الســعيد وآخــرون عرفــوا بمواالتهــم لربيطانيـ�ا‪ .‬وقــد ظــل العقــداء األربعــة يتمســكون‬
‫بالتعــاون مــع نــوري الســعيد وبقــوة حــى أقنعهــم مفــي فلســطني بالتخلــي عــن هــذا‬
‫التعــاون قبــل أشــهر قليلــة مــن احلركــة وشــرعوا يميلــون إىل الكيــاين‪( .‬أنظــر احلســي‪،‬‬
‫تاريــخ الــوزارات‪ ،‬اجلــزء اخلامــس‪ ،‬الهامــش رقــم ‪ )1‬وانظــر ايضــا (حســن جميــل يف حديث�ه‬
‫إىل مجلــة الثقافــة اجلديــدة عــن بواكــر احلركــة الوطني ـ�ة والتقدميــة ىف العــراق ‪ -‬الثقافــة‬
‫اجلديــدة‪ ،‬كانــون الثــاين ‪ ،1979‬العــدد ‪ 12‬و‪.)13‬‬
‫‪ .22‬برغــم كل املحــاوالت الــي بذلهــا نــايج شــوكت (وكان يشــغل وزارة الدفــاع يف وزارة‬
‫الكيــاين) يف مفاوضاتــه الثــاث الــي أجراهــا مــع فــون بابــن‪ ،‬الســفري األلمــاين يف اســطنبول‬
‫آنــذاك‪ ،‬والــي عــرض فيهــا اســتعداد العــراق والقوميــن العــرب لتأييـ�د ألمانيـ�ا يف حربهــا مــع‬
‫بريطاني ـ�ا إذا مــا الزتمــت ألماني ـ�ا «وهــي الدولــة الوحيــدة الــي ال مطامــع اســتعمارية لهــا‬
‫يف العــراق وال يف بقيــة البلــدان العربي ـ�ة» علــى حــد قولــه (ســرة وذكريــات‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص‪403‬‬
‫) بت�أييــ�د العــرب يف نيــ�ل اســتقاللهم وختليــص فلســطني مــن تبعــات وعــد بلفــور وحــق‬
‫الشــعب الفلســطيين بتشــكيل دولتــه املســتقلة‪ ،‬يف صــورة بيــ�ان يــذاع أو ينشــر‪ ،‬فكانــت‬
‫حصيلــة هــذه املفاوضــات الســرية بي ـ�ان أذيــع مــن محطــات اإلذاعــة يف برلــن ورومــا لــم‬
‫يتضمــن أي يشء ممــا كان يرجــوه نــايج شــوكت برغــم أن هــذا قــدم مجموعــة نقــاط تــم‬
‫التفاهــم عليهــا مــع فــون بابــن يف لقائهمــا الســابق (كمــا يقــول هــو يف ص ‪ )410‬ولــم خيــرج‬
‫البي ـ�ان إال عــن أحاديــث عامــة عــن التمني ـ�ات والتعاطــف دون أن يقطــع بــيء ‪.‬‬
‫‪227‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أثارت احلركة حماسـة الشـعب العرايق بأسـره‪ ،‬وأيدتها القوى الوطني�ة‬


‫علـى اختالفهـا‪ .‬وأفتى رجـال الديـن الكبـار مـن الشـيعة والسـنة يف تأيي�دهـا‪.‬‬
‫وبرغـم أن الظـروف التي كانـت حتيـط بالبلاد لـم تكـن مواتيـ�ة للدخـول يف‬
‫عمليـة حتـد كبيرة كهـذه‪ ،‬واجلميـع يعرفـون ضعـف التسـليح العـرايق‪ ،‬إال أن‬
‫الشـعب اندفـع بكل إخالص إىل تأييـ�د احلركة‪ ،‬ورأى فيها تعبريا عن التمسـك‬
‫بكرامتـه وتطلعـه إىل االسـتقالل الكامـل‪ .‬وكان احلـزب الشـيوعي العـرايق مـن‬
‫أوائـل الذيـن أيدوهـا ‪ -‬ففـي اليـوم الثـاين الندالعهـا أصـدر احلـزب بي�انـا يدعـو‬
‫فيـه اجلماهير إىل االلتفـاف حـول حكومـة الدفـاع الوطني وتقديـم الدعـم غري‬
‫املحـدود لها‪.‬‬
‫ويبـ�دو أن البيـ�ان قـد وضـع ووزع دون علـم يوسـف سـلمان يوسـف‪ .‬إذ‬
‫أنـه حالمـا اطلـع علـى البيـ�ان بعـد توزيعـه سـارع إىل االعتراض علـى خلـوه من‬
‫االشتراطات الضروريـة اليت ينبغـي أن تقرتن بهذا الدعم‪ ،‬وبضغط منه سـارع‬
‫احلـزب يف اليـوم السـابع مـن أيـار إىل تقديم رسـالة خاصة إىل رئيـس احلكومة‬
‫عبر فيهـا عـن تأييـ�ده للحركـة‪23 23 .‬وأكـد علـى أهميـة االعتمـاد علـى الشـعب‬

‫‪ .23‬فيمــا يلــي هــذه الرســالة مأخــوذة عــن الرتجمــة اإلجنلزييــة لنصهــا الــذي أورده بطاطــو‬
‫يف الصفحــة ‪:454/453‬‬

‫«فخامة رئيس الوزراء رشيد عايل الكيالين املحرتم‬

‫إن احلــزب الشــيوعي العــرايق يهــئ فخامتكــم علــى مــا كســبتم مــن محبــة ودعــم بــن‬
‫النــاس‪ ...‬ويقــدر تقديــرا كامــا مــدى صعوبــة املســؤولية الــي تتحملونهــا يف هــذه املرحلــة‬
‫احلرجــة مــن تاريخنــا‪ ...‬وإذا كان ال يســتطيع أن يعــر عــن مشــاعر التعاطــف بطريقــة‬
‫قانونيـ�ة‪ ،‬فإنــه لــم يتماهــل عــن اســتخدام الوســائل األخــرى‪ .‬وربمــا يكــون يف بي�انــه املعــروف‬
‫قــد ســبق اآلخريــن يف اإلشــادة باحلركــة وتعريــف الشــعب بمعناهــا احلقيقــي‪ .‬واحلــزب‬
‫بدعمــه هــذا لــم يكــن يتصــرف مصادفــة أو اعتب�اطــا‪ ،‬وإنمــا طبقــا إىل املقاييــس العلميــة‬
‫املســتمدة مــن التعاليــم الثوريــة لماركــس ولينــن‪ ...‬وســتكون هــذه التعاليــم دليلنــا يف‬
‫تقييــم أي احنــراف قــد تتخــذه احلركــة يف املســتقبل‪.‬‬

‫إن احلــزب يؤمــن ‪ -‬وهــذا مــا أوضحــه تمامــا يف (الشــرارة) ‪ -‬بضــرورة االعتمــاد املطلــق علــى‬
‫قــوة الشــعب الــذي ينبغــي لهــذه الغايــة أن يســمح لــه بالتمتــع بكامــل حقوقــه الدســتورية‪.‬‬
‫واالعتمــاد علــى أيــة قــوة أخــرى غــر الشــعب‪ ،‬أو الســر بطريقــة ال تتفــق وطموحاتــه‬
‫ســيكون خيانــة ال تغتفــر‪ ،‬وعلــى هــذا األســاس وبهــذه الــروح ومدفوعــا بإحساســه بالواجــب‬
‫الوطــي‪ ،‬يشــعر احلــزب بأنــه مدعــو ألن يعــرض علــى فخامتكــم رأيــه فيمــا يتعلــق بأمــور‬
‫معين ـ�ة ضــارة باحلركــة الوطني ـ�ة‪.‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪228‬‬

‫أوال‪ ،‬يأســف احلــزب الشــيوعي‪ ،‬بــل ويشــمزئ‪ ،‬مــن أعمــال االســتفزاز املدبــرة ضــد إخوانن ـ�ا‬
‫اليهــود مــن قبــل صنائــع اإلمربيالســتي�ة الربيطانيــ�ة مــن جهــة ودعــاة اإلمربيالســتي�ة‬
‫األلمانيــ�ة مــن جهــة أخــرى‪ .‬إن انتهــاك احلرمــات واقتحــام البيــوت وســلب املمتلــكات‬
‫وضــرب النــاس وحــى قتلهــم ليســت‪ ،‬يــا صاحــب الفخامــة‪ ،‬مخالفــة للقانــون والعدالــة‬
‫فحســب‪ ،‬بــل وإنهــا أمــور تتعــارض مــع التصــرف الطبيعــي لهــذه األمــة ونزوعهــا حنــو الكــرم‬
‫والشــهامة والنبـ�ل‪ .‬إن أمثــال هــذه األعمــال اإلجراميــة تــيء إىل ســمعة احلركــة الوطنيـ�ة‬
‫وتــؤدي إىل انشــقاق اجلبهــة الوطنيـ�ة املوحــدة‪ ،‬وبالتــايل إىل الفشــل‪ ،‬ومــن يســتفيد مــن هــذا‬
‫غــر االســتعمار؟ إنن ـ�ا إذ نب ـ�دي عــدم موافقتن ـ�ا‪ ،‬فإنن ـ�ا ال ننكــر بشــكل مــن األشــكال وجــود‬
‫خونــة ينتمــون إىل الطائفــة اليهوديــة الذيــن وقفــوا إىل جانــب عصابــة عبــد اإللــه ونــوري‬
‫الســعيد وأتب�اعهمــا الشــريرة‪ ،‬لكننـ�ا نشــعر أن العقــاب ال جيــب أن يعمهــم جميعــا‪ ،‬اســتن�ادا‬
‫إىل مــواد القانــون‪.‬‬
‫ثاني ـ�ا‪ :‬حنــن مــن القائلــن يف أن املديريــة املعني ـ�ة بالدعايــة جيــب أن توجــه الشــعب العــرايق‬
‫علــى أســاس خطــوط وطني ـ�ة ســليمة‪ ،‬لكنن ـ�ا الحظنــا مــع األســف أنهــا احنرفــت يف ســبل‬
‫ال تــؤدي إال إىل إيــذاء النــاس‪ ...‬ولــم نعــد نســمع مؤخــرا إال قــرع الطبــول حــول «القضيــة‬
‫العادلــة» لقــوى املحــور‪ ...‬وال شــك أنكــم تتفقــون معنــا‪ ،‬ياصاحــب الفخامــة‪ ،‬أن هــذه‬
‫القــوى ليســت أقــل إمربيالســتي�ة مــن بريطاني ـ�ا‪.‬‬

‫ثالثــا‪ :‬هنــاك مســألة املســاعدة األجنبيـ�ة‪ .‬لقــد صرحتــم مــرارا أن احلركــة الوطنيـ�ة مصانــة‬
‫مــن أيــة تشــويهات أجنبي ـ�ة‪ .‬إن االعتمــاد علــى مســاعدة أيــة دولــة إمربيالســتي�ة ال يعــي‬
‫ســوى خيانــة احلركــة وســقوطها يف أحضــان إمربياليــم أخــر‪ ،‬وهذا مــا ال يرغب فيــه فخامتكم‬
‫بالتأكيــد‪ ..‬إننـ�ا نشــر إىل هــذه النقطــة نظــرا للنشــر الواســع االنتشــار و النســوب إىل مصــدر‬
‫مســؤول والقائــل بــأن قــوات أجنبي ـ�ة ســتصل إىل العاصمــة للدفــاع عــن اســتقالل العــراق‬
‫جنبـ�ا إىل جنــب مــع اجليــش العــرايق الباســل‪ ،‬فــإذا صــح هــذا‪ ،‬خالفــا لمــا نأمــل‪ ،‬فهــذا يعــى‬
‫أن حركتن ـ�ا الوطني ـ�ة قــد تلطخــت‪ ،‬وأصبحــت جــزءا مــن احلــرب اإلمربيالســتي�ة الثاني ـ�ة‪،‬‬
‫وهــى حــرب حذرنــا بالدنــا باالبتعــاد عنهــا‪ ...‬باإلضافــة إىل هــذا‪ ،‬لقــد أكدنــا يف المــايض‬
‫ونؤكــد اليــوم مــرة أخــرى‪ ،‬أن الدولــة الوحيــدة الــي نســتطيع االعتمــاد عليهــا دون أن خناطــر‬
‫ولــو بــذرة مــن ســيادتن�ا الوطنيــ�ة هــي االحتــاد الســوفييت‪ -‬وحنــن نعتقــد آن فخامتكــم‬
‫تشــاطرونن�ا هــذا الــرأي‪ -‬ربمــا يعتقــد البعــض خطــأ آن مســاعدة االحتــاد الســوفييت ســتجر‬
‫وراءهــا تغلغــل الشــيوعية إىل هــذا البلــد‪ ،‬ولكــن يكفــي اإلشــارة هنــا أن االحتــاد الســوفييت‬
‫ســاعد تركيــا وإيــران يف حربهمــا مــن أجــل االســتقالل ومــع ذلــك ظــل البلــدان غري شــيوعيني‪.‬‬
‫زد علــى هــذا أن الشــيوعية ليســت رزمــة يمكــن للمــرء أن حيملهــا مــن دولــة إىل أخــرى‪ ،‬وإنمــا‬
‫هــي حركــة جماهرييــة تنبــع مــن شــروط اإلنتــ�اج والتوزيــع االقتصــادي يف املقــام األول‪.‬‬
‫هنــاك مســألة أخــرى تتعلــق بالســجناء السياســيني‪ ..‬يؤســفنا أن عطفكــم لــم يشــمل‬
‫اجلنــود الشــيوعيني البواســل الذيــن صــدرت ضدهــم أحــكام يف ‪.1938‬‬
‫‪ ...‬بودنا أن نكرر طلباتن�ا السابقة بضرورة مكافحة األسعار العالية لواد العيشة‪.‬‬
‫ويف اخلتــام‪ ،‬لقــد رأين ـ�ا مــن املناســب أن نعــر لكــم عــن وجهــات نظرنــا برســالة خاصــة إىل‬
‫فخامتكــم بــدال مــن أن نفعــل ذلــك ببيـ�ان علــي موجــه إىل اجلمهــور لكــي نوفــر لكــم الفرصــة‬
‫‪229‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الـذي ينبغـي أن يتمتـع بـكل حقوقه الدسـتورية‪ ،‬وأشـار فيهـا إىل عـدم ارتي�احه‬
‫لألعمـال االسـتفزازية لتي اسـتهدفت املواطنني اليهـود‪ ،‬وأرجع هـذه األعمال‬
‫إىل تدبري أدوات االسـتعمار الربيطاين وإىل اسـتفزازات دعاة النازية‪ ،‬ونب�ه إىل أن‬
‫هـذه األعمـال تيسء إىل سـمعة احلركـة وإىل إحـداث الفرقة يف صفـوف القوى‬
‫الوطنيـ�ة‪ .‬وشـدد علـى أن تتجـه الدعايـة إىل مـا ينفـع القضيـة الوطنيـ�ة‪ ،‬ونبـ�ه‬
‫إىل أنهـا احنرفـت للدعايـة إىل قضايـا املحـور‪ ،‬وىف هـذا مـا يلحـق الضـرر بالنـاس‪.‬‬
‫وحذر من االعتماد على مسـاعدة أية دولة إسـتعمارية ألن ذلك يمهد السـبي�ل‬
‫إىل السـقوط يف أحضـان اسـتعمار آخـر‪ ،‬وأن احلركـة بهـذا سـتصبح جـزءا مـن‬
‫احلـرب اإلمربياليـة‪ ...‬وأن الدولـة الوحيـدة اليت يمكن اعتمادها يف هذا الشـأن‬
‫هـي االحتـاد السـوفييت‪ .‬ورد علـى الذيـن يقولـون بـأن املسـاعدة السـوفيتي�ة‬
‫سـتأيت معهـا بالشـيوعية‪ ،‬مشيرا إىل أن دوال أخـرى كرتكيـا وإيـران تلقـت‬
‫املسـاعدات السـوفيتي�ة دون أن تتحوال إىل بلدين شـيوعيني‪ ،‬ثم إن الشـيوعية‬
‫«حركـة جماهرييـة تنبـع مـن شـروط اإلنتـ�اج والتوزيـع االقتصـادي بالدرجـة‬
‫األوىل»‪ .‬وطالبـت املذكـرة بإطلاق سـراح اجلنود الشـيوعيني السـجناء الذين‬
‫سـجنوا منـذ عـام ‪ ،1938‬وتبـ�ادل االعتراف مـع االحتـاد السـوفييت يف ‪ 17‬أيـار‪.‬‬
‫وأنهـى احلـزب رسـالته مشيرا إىل أنـه آثـر أن يـودع أفـكاره رسـالة خاصـة لكنـه‬
‫لـن يتردد عـن نشـرها إذا مـا تلمـس أي احنـراف يف أهـداف احلركة عـن مصالح‬
‫الشـعب‪ .‬واسـتجابت احلكومـة إىل طلـب احلـزب باإلفـراج عـن السـجناء‬
‫الشـيوعيني وأطلقـت سـراح عبـد الرحمـن داود وعلـي عامـر واآلخريـن وحين‬
‫علـم احلـزب بـأن احلكومـة تفكـر ىف احلصـول علـى مسـاعدات عسـكرية مـن‬
‫االحتـاد السـوفييت من خالل الشـخصية الديمقراطية املعروفـة ناصر الكيالين‬
‫أبـدى اسـتعداده إلرسـال أحـد أعضاء احلزب إىل موسـكو لهذا الغـرض‪ ..‬إال أن‬
‫األحـداث توالـت بسـرعة وانهارت احلركـة وفر قادتها إىل إيـران والتجأ بعضهم‬

‫للعمــل بهــدوء لمــا فيــه صالــح احلركــة الوطنيـ�ة‪ ،‬لكننـ�ا لــن نــردد عــن نشــر وجهــات النظــر‬
‫هــذه إذا لســنا أي احنــراف عــن أهــداف احلركــة كمــا حددهــا حزبن ـ�ا‪ .‬حنــن ندعــم الشــخص‬
‫بمقــدار مــا ينفــع الشــعب‪ ،‬ورســالتن�ا تتلخــص يف خدمــة الشــعب‪ ،‬والشــعب وحــده»‪.‬‬

‫‪ 7‬أيار ‪1941‬‬
‫احلزب الشيوعي العرايق‬

‫ونعيــد القــول يف أن هــذه هــي ترجمــة لمــا نشــره بطاطــو باإلجنلزييــة مــن النــص العــريب‬
‫ســعين�ا أن تــأيت مقاربــة للغــة املســتخدمة آنــذاك‪ .‬ونشــر إىل أن بطاطــو لــم ينشــرها بنصهــا‬
‫تمامــا لكــن مــا حــذف منهــا عبــارات متكــررة ال تــيء إىل املعــى كمــا يقــول‪ -‬ويشــر أيضــا‬
‫أنــه اطلــع عليهــا رشــيد علــي الكيــاين يف شــباط ‪ 1964‬وأكد هــذا اســتالمها فعــا‪( .‬بطاطو‪،‬‬
‫النحــر اإلجنلــزي‪.)455 ،‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪230‬‬

‫إىل إيطاليـا وألمانيـ�ا‪.‬‬


‫لقـد أثبتـت األحـداث أن حتفظـات احلـزب كانـت يف موضعهـا‪ ،‬وأن‬
‫شـكوكه إزاء بعـض قادتهـا لـم تكـن بلا أسـاس‪ .‬لقـد برهن هـؤالء أنهـم قصريو‬
‫النظـر يف السياسـة‪ ،‬وغير أكفـاء يف اجلانـب العسـكري‪ ،‬ولـم يدركـوا يف الوقـت‬
‫املناسـب أن بريطانيـ�ا كانـت تسـعى إىل أن جترهـم إىل االصطـدام‪ .‬إذ كمـا يقول‬
‫تشرشـل‪ ،‬رئيـس الـوزراء الربيطـاين‪ ،‬يف برقيـة لـه إىل قـادة القـوات العسـكرية‬
‫الربيطانيـ�ة يف الشـرق األوسـط‪:‬‬

‫«لـم يكـن يف اإلمـكان جتنب التدخل يف العراق‪ ،‬كان علين�ا أن نؤسـس‬


‫قاعـدة يف البصـرة‪ ،‬وأن نراقب هذا املين�اء بغيـــة املحافظــة على نفط‬
‫‪24 24‬‬
‫إيـران عنـد اللــزوم»‬

‫ويف برقية له إىل وزير خارجيت�ه‪ ،‬قال تشرشل أيضا‪:‬‬

‫«جيـب أن يفهـم السـر كنهـان كورنواليـس (السـفري الربيطـاين يف‬


‫بغـداد – املؤلـف)أن مـا يهمنـا بالدرجـة األوىل مـن إرسـال اجلنـود إىل‬
‫العـراق‪ ،‬هـو إنشـاء وتغطية قاعـدة التجمـع يف البصـرة‪ ،‬وأن ما حيدث‬
‫يف شـمالها مـن تلـك البلاد ‪ -‬فيمـا عـدا احلبانيـ�ة ‪ -‬يـأيت يف الدرجـة‬
‫الثانيـ�ة مـن األهميـة يف الوقـت احلاضـر‪ .‬نسـتهدف مـن حقوقنـا‬
‫املنصـوص عليهـا يف املعاهـدة تغطيـة هـذا اإلنـزال‪ ،‬وحتـاىش سـفك‬
‫الدمـاء‪ ،‬ولكـن عنـد الضـرورة علينـ�ا أن نسـتعمل القـوة إىل أقصى‬
‫حدودهـا لضمـان هذا اإلنـزال‪ ،‬لهذا‪ ،‬فإن وضعنـا يف البصرة ال يتوقف‬
‫‪25 25‬‬
‫علـى املعاهـدة حسـب‪ ،‬بـل علـى حـدث جديـد نـائش عـن احلـرب»‪.‬‬

‫كذلـك‪ ،‬فـإن التعويـل علـى جنـدة عسـكرية مـن ألمانيـ�ا‪ ،‬والـذي ظـل‬
‫يؤكـده مفتي فلسـطني واسـتطاع أن يقنـع القـادة العسـكريني بـه‪ ،‬لـم يكن له‬
‫مـا يبرره‪ .‬لقـد كانـت اخلطـط العسـكرية األلمانيـ�ة العليـا واملقـرة مـن جانـب‬
‫هتلـر تقـوم علـى أسـاس أن كل حتـرك ألمـاين علـى اجلبهـة الشـرقية وبضمنهـا‬
‫الشـرق األوسـط‪ ،‬خيضع أوال وقبـل كل يشء إىل مقتضيات خطة «بارباروسـا»‬
‫وكان يـراد بهـا الهجـوم علـى االحتاد السـوفييت كما هـو مبيت‪ .‬وكانـت تقديرات‬
‫األلمـان تقوم على أسـاس أن الهجـوم على االحتاد السـوفييت واحتالله يتطلب‬

‫‪ .24‬عبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬األســرار اخلفيــة يف حركــة الســنة ‪ 1941‬التحرريــة‪ ،‬مركــز‬


‫األجبديــة‪ ،‬بــروت‪ ،1982 ،‬ص ‪.410‬‬
‫‪ .25‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.408‬‬
‫‪231‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫خمسـة شـهور فقـط‪ ،‬وبعدهـا يمكـن للجيـش األلمـاين «الظافـر» أن يتجه إىل‬
‫اجلنـوب لتصفيـة الوجود الربيطاين يف كل الشـرق األوسـط‪ ،‬وانشـغال األلمان‬
‫باحتلال جزيـرة كريـت كان جـزءا ممهـدا لتنفيـذ هـذه اخلطـة‪ .‬ولذلـك كان‬
‫األلمـان يرغبـون يف تأجيل حترك العراق ضـد بريطاني�ا‪ .‬ومن هنا لم تكن النجدة‬
‫املنتظرة سـوى ثماين عشـرة طائرة ألماني�ة واثنيت عشـرة طائـرة إيطالية‪ ،‬حتتاج‬
‫إىل نـوع مـن البنزيـن غير متوفـر يف العـراق‪ ،‬ولـم تثمـر مشـاركتها يف القتـال عن‬
‫‪26 26‬‬
‫يشء ذي قيمـة جديـة‪.‬‬
‫كان مـا يـدور يف ذهـن هـؤالء القـادة أن يسـتفيدوا مـن الوضـع الـذي‬
‫نشـأ لتحريـر البلـدان العربيـ�ة ىف املشـرق العـريب مـن نير اإلمربياليـة الربيطاني�ة‬
‫والفرنسـية‪ ،‬وباملقابـل كانـت بريطانيـ�ا‪ ،‬ومـن يؤيدهـا مـن احلـكام‪ ،‬تـرى أنهـا ال‬
‫يمكـن أن تشـعر باالطمئنـ�ان إىل وضعهـا يف العـراق وبالتـايل يف املنطقـة إذا لـم‬
‫تتخلـص مـن سـيطرة‪( ،‬املربـع الذهبي) علـى اجليـش العـرايق‪ ،‬لذلـك شـرعت‬
‫تتحـرك علـى النحـو املعـروف‪ .‬كانـت حسـابات القـادة العراقيين تقـوم علـى‬
‫نـوع مـن املقامـرة علـى الوضـع احلـرج الـذي كانـت تعانيـ�ه بريطانيـ�ا يف مصـر‬
‫وشـمال أفريقيـا‪ ،‬وعلـى االعتقـاد‪ ،‬الـذي ظـل املفتي احلسـيين يغذيـه‪ ،‬بـأن‬
‫بريطانيـ�ا لـن تصمـد طويال أمام قـوة ألماني�ا املتعاظمة السـيما بعـد أن احتلت‬
‫فرنسـا ودول أوربيـ�ة عديـدة وسـخرت إمكاناتهـا خلدمـة أغراضهـا احلربيـ�ة‪،‬‬
‫ولـذا فـإن مـن مصلحـة العـرب أن يقامـروا علـى احلصـان الـراحب‪ ،‬وهـو ألمانيـ�ا‪.‬‬
‫ولهـذا فحني وصف يوسـف سـلمان يوسـف (وسنسـميه بعد هـذا بفهد‪ ،‬وهو‬
‫االسـم احلـزيب الـذي اشـتهر بـه منـذ ذلـك احلين) يف تقريـره إىل الكونفرنـس‬
‫احلـزيب األول يف آذار ‪ ،1944‬احلركـة باملغامـرة فإنـه لـم يكن يتجنى عليها‪ .‬فقد‬
‫كانـت مغامـرة لم حتسـب جيد ا‪ ،‬وكان يمكـن تدارك بعـض أخطارها من خالل‬
‫الوسـاطة الرتكيـة‪27 27.‬ومـع أن املغامـرة قد تنطوي على االندفاع غري املحسـوب‬

‫‪ .26‬غضبــان الســعد‪ ،‬حركــة مايــس ودورهــا ىف تاريخنــا الوطــي‪ ،‬الفكــر اجلديــد‪ ،‬العــدد‬
‫‪ ،190‬الصــادر يف ‪1976/5/8‬؛ وكذلــك العــدد ‪ 191‬الصــادر يف ‪1976/5/15‬؛ وانظــر‬
‫أيضــا ن‪ .‬و‪ .‬أوانيســان‪ ،‬معهــد االستشــراق ‪ -‬يرفــان‪ ،‬أرمينيـ�ا‪1976 ،‬؛ وانظــر أيضــا‪ :‬األســرار‬
‫اخلفيــة للحســي‪ ،‬ص ‪.54‬‬
‫‪ .27‬حــن طرحــت مســألة الوســاطة الرتكيــة لوقــف القتــال يف اجتمــاع الــوزارة‪ ،‬كان رئيــس‬
‫الــوزراء ميــاال لقبــول الشــروط الرتكيــة يف ‪ 12‬أيــار وتتكــون مــن وقــف العمليــات احلربي ـ�ة‬
‫العراقيــة وانســحاب القــوات العراقيــة‪ ،‬واملوافقــة علــى إنشــاء قواعــد عســكرية بريطاني ـ�ة‬
‫حلمايــة مــرور القــوات الربيطانيــ�ة إىل األردن مقابــل االعــراف بــوزارة الكيــاين‪ .‬كذلــك‬
‫وافــق عليهــا بقيــة أعضــاء الــوزارة إال أن أحــد الضبــاط بعــد أن وافــق هــو اآلخــر أخــذ رأي‬
‫املفــي بشــأنها فعــاد بعدهــا ينـ�دد بالوســاطة وينعــت املوافقــة عليهــا باخليانــة‪ .‬جنــدة فتــي‬
‫صفــوت‪ ،‬العــراق ىف مذكــرات الدبلوماســيني األجانــب‪ ،‬مكتب ـ�ة التحريــر‪ ،‬بغــداد‪ ،‬الطبعــة‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪232‬‬

‫إال أن فهـد لـم يصفهـا بالتهـور كمـا يـورد بطاطـو يف حديثـ�ه عن موقـف احلزب‬
‫‪28 28‬‬
‫مـن احلركـة وتقييمـه لهـا‪.‬‬
‫كيـف نظـر الشـيوعيون إىل احلركـة مـن بعـد؟ لـم يثبـت احلـزب عنـد‬
‫تقييـم واحـد لهـا‪ ...‬ويعـود ذلـك يف األسـاس إىل أنـه أخضـع تقييماتـه لهـا إىل‬
‫األغـراض العمليـة التي تواجـه نضالـه يف األوضـاع املختلفـة‪ .‬ففـي العـدد‬
‫السـابع مـن (الشـرارة) والصـادر يف الشـهر التـايل لهـا‪ ،‬الحـظ عليهـا كونهـا لـم‬
‫تسـارع إىل إعطاء الشـعب حقوقه الدسـتورية لينظم نفسه حزبي�ا ونقابي�ا وبذا‬
‫حيمي مؤخـرة اجليـش‪ ،‬وحتدث عن عدم تـوازن القوى‪ ،‬وتفيش اجلاسوسـية يف‬
‫اجليـش واإلدارة‪ ،‬ومـع ذلـك قـال إن «املعركـة أعطـت درسـا عمليا‪ ،‬وكشـفت‬
‫بوضـوح موقـع كل طبقـة ىف النضـال التحريـري»‪ .‬وىف العـدد الثامـن مـن‬
‫(الشـرارة) الصـادر بعـد خطـاب «الـويص علـى العـرش» يف ‪ 14‬تمـوز ‪1941‬‬
‫(تنـ�اول ابـن خلـدون) اخلطاب بالتحليل والذي اسـتعرض الـويص فيه خالفه‬
‫مـع رشـيد عايل الكيلاين‪ ،‬والحظ أن اخلطاب «لم يسـلم من غموض ىف بعض‬
‫نواحيـه اخلطيرة» وقـال‪:‬‬

‫«ال نـرى مـن املصلحـة ىف يشء معاجلـة ما خفي من نـوايح اخلطاب‪،‬‬


‫ال ألن تلـك النقـاط اخلافيـة ال تستسـيغ املناقشـة واملعاجلـة‪ ،‬بـل‬
‫ألن إماطـة اللثـام عـن حقيقتهـا ال يضيـف إىل االعتقـاد السـائد يف‬
‫األوسـاط الشـعبي�ة شـيئ�ا»‪.‬‬

‫هـل يفهـم مـن هـذا أنه حيمـل الويص مسـؤولية مـا حدث‪ ،‬وأن الشـعب‬
‫قـد انتهـى إىل أن عبـد اإللـه قـد سـاير الربيطانيين ونفـذ مـا رسـموا مـن خطـط‬
‫الحتلال البلاد؟ ثـم لمـاذا ال ينبغـي أن يمـاط اللثـام عمـا خفـي إذا كان يف ذلـك‬
‫مـا يسـاعد يف االرتفـاع بوعـي الشـعب؟ وخيلـص إىل أن احلكومـات املتعاقبـة‬
‫اعتمـدت تدخـل اجليش كوسـيلة للوصول إىل السـلطة‪ .‬ولو أن الشـعب تمتع‬
‫حبقوقـه الدسـتورية لمـا كان هنـاك مربر لتدخـل اجليش‪ .‬لكن فهـد يف مقال له‬
‫يف (القاعـدة) اعتبر تأييـ�د احلـزب للحركـة يف حزيـران ‪( 1943‬ولـو كان تأييـ�دا‬
‫ضمـن حـدود) باعتب�ارهـا حركـة جماهرييـة خطـأ سياسـيا ألنـه لـم يلتفـت إىل‬
‫الرجـال الذيـن سيروها‪ ،‬والذيـن كانوا يعملون مباشـرة بتعاليم هتلـر وصنائعه‬

‫الثاني�ة‪ ،1984 ،‬ص ‪.167‬‬


‫‪ .28‬انظــر الرتجمــة العربيــ�ة لبطاطــو‪ ،‬الكتــاب الثــاين‪ ،‬ص ‪ ،115‬وقــارن مــا ورد هنــا مــع‬
‫مــا محــدد يف تقريــر (قضيتن ـ�ا الوطني ـ�ة) لفهــد املنشــور ضمــن (مؤلفــات الرفيــق فهــد)‪،‬‬
‫مطبعــة الشــعب‪ ،‬بغــداد‪ ،1973 ،‬ص ‪.108‬‬
‫‪233‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مـن أمثـال املفتي‪ 29 29 .‬وبعـد عقـد مـن هـذا دعاهـا احلـزب يف (القاعـدة) يف‬
‫نيسـان ‪ 1953‬حبركـة (فاشـية)‪ ،‬لكنـه عـاد بعـد ثلاث سـنوات ليشـيد بهـا‬
‫متأثـرا بعالقاتـه مع القـوى القومية آنـذاك‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وبرغـم أن احلكم األخري‬
‫جـاء كمسـعى للكشـف عـن جوهـر حركـة االنبعـاث القـويم العـريب باعتب�ارهـا‬
‫حركـة معاديـة لالسـتعمار وتنزع إىل حتريـر الشـعوب العربي�ة ووحدتهـا‪ ،‬إال أنه‬
‫أغفـل مـا كابـده مضمـون احلركـة القومية خلال العقـود الثالثة مـن متغريات‬
‫جوهريـة‪ ،‬كمـا أنـه لـم يعـط اهتمامـا إىل الظـروف امللموسـة التي أحاطـت‬
‫باحلركـة يف حينهـا‪.‬‬
‫لعـل القـارئ قـد الحـظ أننـ�ا توقفنـا كثيرا عنـد هـذه القضيـة‪ ،‬ذلـك‬
‫ألن هـذه كانـت إحـدى النقـاط التي تب�اعـد عندهـا القوميـون والشـيوعيون‬
‫يف العـراق‪ ،‬وللمـرة الثانيـ�ة لـم يكـن القوميـون علـى حـق‪ .‬فعـدا عـن التوقيـت‬
‫اخلاطـئ والضـار جـدا للبلاد والشـعب‪ ،‬فـإن احلركـة لـم تدلـل علـى حكمـة يف‬
‫السياسـة‪ ،‬إذ مـا كانـت هنـاك ضـرورة ألن تدفـع باألمـور دفعـا حتى حيشـرك‬
‫اخلصـم ىف زاويـة‪.‬‬
‫إن اندفـاع اجلماهير لتأييـ�د احلركـة أمـر مفهـوم ألنهـا كانـت فرصة لكي‬
‫تنفـس فيهـا عن أحقادها جتاه االسـتعمار وصنائعه‪ .‬لكن هـذا ال يعفي احلركة‬
‫مـن النقـد‪ .‬لقـد ورط أمين احلسـيين‪ ،‬مفيت فلسـطني‪ ،‬العراق حكومة وشـعبا‬
‫باحلركـة ألنـه كان يبحـث عـن أيـة فرصـة ينتقـم فيهـا مـن بريطانيـ�ا حتى ولـو‬
‫حتالـف مـع الشـيطان‪ ،‬وسـاعتها لـم تكـن تهمـه مصالـح العـراق أوال ‪ 30 30‬وحين‬
‫حانـت سـاعة اجلـد وكان البد من اللجوء إىل الشـعب وتعبئتـ�ه للمقاومة هرب‬
‫املفتي والقـادة العسـكريون ورشـيد عـايل الكيلاين و» القوميـون» اآلخـرون‬
‫وتركـوا بغـداد ليسـتبيحها الفاحتـون؛ وكان يونس السـبعاوي محقـا تمام احلق‬
‫حين عرب سـاخطا‪:‬‬
‫‪31 31‬‬
‫«أرأيت القواد تركونا وهربوا‪ ..‬أهذه هي الشـهامة واملروءة»‪.‬‬

‫‪ .29‬القاعــدة‪ ،‬العــدد اخلامــس‪ ،‬حزيــران ‪ ٠ 1943‬أمــا بشــأن اتصــاالت املفــي واملســاعدات‬


‫الماليــة الــي كان يتلقاهــا مــن ألمانيـ�ا وإيطاليــا انظــر (احلســي‪ ،‬تاريــخ الــوزارات‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‬
‫‪ )217‬و(إســماعيل أحمــد باغــي‪ ،‬حركــة رشــيد علــي الكيــاين‪ ،‬دار الطليعــة‪ ،‬بــروت‪،1974 ،‬‬
‫ص ‪ 221‬و‪.)300‬‬
‫‪ .30‬ناىج شوكت‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.439‬‬
‫‪ .31‬خــري العمــري‪ ،‬يونــس الســبعات ســرة ســيايس عصــايم‪ ،‬دار الشــؤن الثقافيــة‬
‫العامــة‪ ،1986 ،‬ص ‪.103‬‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪234‬‬

‫بعـد انتهـاء حركـة مايس تصرفـت بريطاني�ا يف العراق تصـرف الفاحتني‪،‬‬


‫وجعلـت منـه مركـزا لتحشـيد قواتهـا ىف الشـرق األوسـط يتوسـط مـا بين‬
‫الهنـد ومصـر واالحتـاد السـوفييت‪ ،‬واختـذت منـه‪ ،‬كمـا رأينـ�ا ىف بدايـة الفصـل‪،‬‬
‫أحـد املصـادر األساسـية لزتويـد قواتهـا العسـكرية ىف املنطقـة باملـؤن‪ .‬ولكـي‬
‫تضمـن هيمنتهـا الكاملـة علـى البلاد نشـرت ضباطهـا يف مختلـف األلويـة‬
‫وزودتهـم بالصالحيـات الكافيـة للتدخـل يف شـؤون إدارتهـا‪ ،‬ووجهـت الدعايـة‬
‫‪32 32‬‬
‫يف البلاد بمـا يتفـق وأغراضهـا ال احلربيـ�ة فقـط وإنمـا االسـتعمارية أيضـا‪.‬‬
‫وبـدال مـن أن تعمـل علـى توفير الفرصـة للشـعب لكـي يمـارس الديمقراطيـة‬
‫ىف حياتـه السياسـية واالجتماعيـة وبـذا تكون قد سـاعدت ىف محاربة الفاشـية‬
‫ومحـو اآلثـار التي خلفتهـا الدعاية الفاشـية طوال العقد السـابق‪ ،‬اسـتمرت يف‬
‫توجيـه حـكام البلاد علـى مواصلة التضييق على حريات الشـعب الدسـتورية‬
‫وظـل احلـكام يصلـون إىل السـلطة بالطـرق الالشـرعية السـابقة بـدال مـن أن‬
‫خيتارهـم الشـعب‪ .‬ورغـم أن القـوى الديمقراطية عامـة كانت تسـاند بريطاني�ا‬
‫يف محنتهـا دعمـا للجبهـة الديمقراطيـة العاملية‪ ،‬فإن بريطانيـ�ا ظلت تمارس يف‬
‫العـراق سياسـتها االسـتعمارية‪ ،‬وتن�اسـت أن وعي الشـعب لم يعد هـو الوعي‬
‫الـذي عرفتـه مـن قبـل لذلـك كان ينظـر إليهـا نظـرة الفـاحت املسـتغل وينتظـر‬
‫الفرصـة للتخلـص منهـا ومـن أعوانهـا ‪ ٠‬والكثير مـن هـذا‪ ،‬فإنهـا عهـدت ىف‬
‫تطبيـق سياسـتها ىف العـراق إىل أنـاس خربهـم الشـعب مـن قبـل يف محاربتهـم‬
‫حلرياتـه وحقوقـه الديمقراطيـة أمثـال كورنواليـس‪ ،‬سـفريها التي فرضتـه‬
‫خالفـا لألعـراف الدوليـة بصفتـه موظفـا يف وزارة الداخليـة العراقيـة خلال‬
‫الثالثينـ�ات‪.‬‬
‫كانـت املسـألة الثانيـ�ة التي تطلبـت حلا سـليما مـن احلزب هـي حتديد‬
‫املوقـف السـليم من قضية االسـتقالل ىف تلك الفترة‪ .‬كانت حكومتـا بريطاني�ا‬
‫وفرنسـا قـد أضفتـا بسياسـاتهما التسـاومية مـع هتلـر طابعـا مزيفـا علـى هذه‬
‫احلـرب‪ ،‬مظهـرا خارجيـا ينـ�ايف حقيقتهـا بوصفهـا حربـا ضـد الفاشـية‪ .‬وقـد‬
‫آمنـت سياسـات تشـمربلني وديالديـه يف مؤتمـر ميونيـخ وغيره لهتلـر ابتـلاع‬

‫‪ .32‬انظــر تقريــر كينهــان كورنواليــس الســنوي املوجــه إىل تشرشــل يف عــام ‪ 1945‬يف كتــاب‬
‫مؤيــد إبراهيــم الونــداوي‪ ،‬العــراق يف التقاريــر الســنوية للســفارة الربيطاني ـ�ة‪ ،‬دار الشــؤون‬
‫الثقافيــة العامــة‪ ،1992 ،‬ص ‪ ،42-32‬ويف هــذا التقريــر يعــرف الســفري الربيطــاين آن‬
‫بريطانيــ�ا كانــت تســعى إىل تعزيــز موقعهــا ليــس للحاضــر وحــده وإنمــا للمســتقبل‪ ،‬وأن‬
‫بريطانيــ�ا زرعــت البــاد باملوظفــن الربيطانيــن أكــر مــن أي وقــت مــى‪ ،‬ويعــرف يف‬
‫التقريــر أن املثقفــن العراقيــن ينجذبــون إىل أفــكار الشــيوعية‪ ،‬وأن النقــد املوجــه يرتــدي‬
‫ثي�ابــا شــيوعية‪ ،‬ويؤكــد أهميــة العــراق بالنســبة إىل بريطاني ـ�ا ملوقعــه االســراتييج ونفطــه‬
‫وعالقاتــه‪ ،‬وألن االحتــاد الســوفييت وأمريــكا ين�افســان بريطاني ـ�ا فيــه‪.‬‬
‫‪235‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫عـدد مـن الـدول األوربي�ة الصغيرة واحدة بعد األخـرى حىت انتهى األمـر بانهيار‬
‫فرنسـا ‪ ٠‬لكـن نهضـة عـدد مـن شـعوب أوربـا وحـرب املقاومـة الشـعبي�ة التي‬
‫اندلعـت ىف فرنسـا وبلـدان أخـرى‪ ،‬والتفـاين الـذي أبـداه الشـعب الربيطـاين يف‬
‫وجـه النازيـة ورفضـه التسـاوم علـى حرياتـه كانت تعطـى للحرب معنى أعمق‬
‫يـدل علـى طابعهـا احلقيقـي بصفتهـا حربـا إنسـاني�ة ضـد الفاشـية املتوحشـة‬
‫ويف املسـتعمرات عملـت السياسـات االسـتعمارية التي ظلـت تسـلكها‬
‫إنكلترا وفرنسـا علـى تمويـه هـذه احلقيقـة‪ .‬وربمـا سـاعدت سياسـة االحتـاد‬
‫السـوفييت يف التوقيـع مـع ألمانيـ�ا على معاهدة عـدم االعتداء (برغـم أنها كانت‬
‫تكتيـكا موقتـا لكسـب الوقـت وخرقتهـا ألمانيـ�ا بهجومهـا الغـادر علـى االحتـاد‬
‫السـوفييت يف آب ‪ )1941‬علـى خلـق الوهـم لـدى األحـزاب الشـيوعية وكثير‬
‫مـن احلـركات اليسـارية بشـأن طبيعـة احلـرب احلقيقيـة‪ .‬وىف العـراق جـاءت‬
‫ممارسـات بريطانيـ�ا لزتيـد أكثر يف الضـرر الـذي أحلقـه هـذا الوهـم‪ .‬فعـدا عـن‬
‫املـرارة واإلحبـاط اللذيـن خلفهما فشـل حركـة مايس‪ ،‬فـإن بريطاني�ا اسـتغلت‬
‫انتصارهـا لتفـرض إرادتهـا املطلقـة علـى البلاد خالفا لنصـوص املعاهـدة اليت‬
‫تربـط البلديـن‪ ،‬فقـد اسـتغلت احلـرب ضـد الفاشـية للرتويـج إىل اسـتعمارها‬
‫وسـيطرتها ونهـب خيرات البلاد وإىل نشـر الفسـاد الواسـع يف املجتمـع‪ .‬وقـد‬
‫زاد هـذا الوضـع مـن العـبء الـذي انصـب علـى القـوى الديمقراطيـة لتوضيح‬
‫طبيعـة احلـرب‪ .‬ورغـم أن صمـود الشـعب السـوفييت وجيشـه الـذي قـارب‬
‫األسـطورة يف موسـكو وسـتالينغراد ولينينغـراد وحتولـه إىل مرحلـة الهجـوم‬
‫الشـامل واملتواصل‪ ،‬واملقاومة الرائعة لشـعوب اليونان ويوغوسلافيا وفرنسا‬
‫والرنويـج والصين وغريهـا‪ ،‬واندحـار قـوات املحـور ىف شـمال إفريقيـا‪ ،‬وتفـاىن‬
‫الشـعب الربيطـاين يف الدفـاع عـن وطنـه‪ ،‬قد فضحـت جميعها زيـف الدعاوى‬
‫التي كان يروجهـا عملاء املحـور يف العـراق عـن جبروت الـدول الفاشـية‪ ،‬إال أن‬
‫النضـال الفكـري الـذي شـنت�ه القـوى الديمقراطية يف البالد قد أسـهم بقسـط‬
‫كبير يف هـذا الشـأن‪ .‬وكان للحـزب الشـيوعي العـرايق نصيبـ�ه األكبر يف هـذا‬
‫النضـال فقـد ظلـت صحفـه السـرية (الشـرارة) و(القاعـدة) بعدهـا‪ ،‬تواصل‬
‫عمليـات توضيح الفاشـية‪ ،‬فكرا وممارسـة‪ ،‬واإلشـادة باجلبهـة الديمقراطية‪.‬‬
‫وأسـهمت املجلات العلني�ة اليت كان يشـرف عليها (املجلـة) و(املثل العليا) يف‬
‫هـذه احلملـة‪ .‬وكان يشـدد بوجه خاص علـى ضرورة الربط ما بين النضال من‬
‫أجـل التحـرر مـن نير اإلمربياليـة والنضـال ضـد الفاشـية‪ .‬والربـط مـا بين هذا‬
‫النضـال والعمـل لتلبي�ة مطالب الشـعب احليوية‪ .‬ففي مطلـع ‪ 1942‬اختذت‬
‫اللجنـة املركزيـة يف اجتمـاع كامل لها قرارا بشـأن املوقف من احلـرب قالت فيه‬
‫إن هـذه احلـرب‬
‫ناثلا ةيملاعلا برحلاو بزحلا سيسأت ةداعإ‬ ‫‪236‬‬

‫«هـي حـرب اإلنسـاني�ة التقدميـة ضـد أخطـر عـدو عرفـه العالم‪ ،‬فال‬
‫عجـب إن رأينـ�ا األمـم املسـتقلة وغير املسـتقلة حتـارب الفاشسـتي�ة‬
‫ألن الفاشسـتي�ة تريـد أن حترمهـا اسـتقاللها وحريتهـا وأن تقـوض‬
‫حضارتهـا التي قضـت يف تشـيي�دها قرونـا عديـدة‪ ،‬وحتـارب األمـم‬
‫غير املسـتقلة ضـد الفاشسـتي�ة ألن انتصـار األخيرة معنـاه القضـاء‬
‫علـى آمـال ومسـاعي األمـم والشـعوب اليت قضـت عدة أجيـال وهى‬
‫تن�اضـل مـن أجـل حرياتهـا واسـتقاللها‪ ،‬فانتصـار الفاشسـتي�ة معناه‬
‫العبوديـة والفنـاء لسـكان املسـتعمرات والـدول التابعـة»‪.‬‬

‫وقال القرار أيضا‪:‬‬

‫«إن اعتـداء وحـوش الفاشسـتي�ة علـى األرايض املصريـة وقصفهـم‬


‫للمـدن املصريـة والفلسـطيني�ة ومحاوالتهـم اسـتغالل الـروح‬
‫الوطنيـ�ة لـدى اجلماهير العربيـ�ة يف العـراق وفلسـطني‪ ..‬الـخ‬
‫وتوجيههـا توجيهـا معاكسـا للقضية العربيـ�ة أي أنهم حاولـوا بالفعل‬
‫اسـتغالل شـعورنا الوطني ليفتحوا بـه ديارنا العزيزة علـى مصراعيها‬
‫‪33 33‬‬
‫ليدخلوهـا بين تصفيـق رتلهـم اخلامـس وزغاريـده»‪.‬‬

‫ويف اجتمـاع للجنـة املركزيـة عقـد يف ‪ 17‬أيـار ‪ 1942‬قـدم الرفيـق فهـد‪،‬‬


‫السـكرتري العـام للحـزب‪ ،‬تقريـرا قـال فيـه‪:‬‬

‫«إن احلكومـة احلاضـرة تكافـح النازيـة‪ ،‬ولكـن جيـب أال ننسى يف‬
‫الوقـت نفسـه أن أعضـاء احلكومة أنفسـهم هـم الذين كانـوا حياربون‬
‫الديمقراطيـة يف الداخـل»‪.‬‬

‫وإذا كانـت قـد سـعت لتطهير اجليـش مـن كثير مـن العناصـر املثيرة‬
‫للفتن‪ ،‬وأنهـا قـد سـمحت يف ميـدان النشـر باحلديـث عـن كفـاح االحتـاد‬
‫السـوفييت فلا جيـب أن ننسى أن هنـاك حاجـة إىل تطهير أجهـزة الشـرطة‬
‫واملعـارف وسـائر دوائـر الدولـة‪« ..‬ويجـب أن ننتزع احلقـوق الديمقراطية من‬
‫احلكومـة انزتاعـا وبمختلـف الوسـائل»‪ .‬ودعـا يف تقريره إىل خلـق «حركة عامة‬
‫ضـد الفاشسـتي�ة والعمـل علـى تنظيمهـا وتوجيههـا»‪ ،‬ويرد على مـن يدعوهم‬
‫بالرتوتسـكيني مـن اليسـاريني الذيـن كانـوا يرفضـون مناصـرة «اجلبهـة‬
‫الديمقراطيـة العامليـة» ويدعـون إىل احليـاد باسـم مصلحـة الوطن السـامية‪،‬‬
‫ويرفضـون العمـل مـن أجـل الديمقراطيـة ويدعـون إىل محاربـة الرأسـمالية‪،‬‬

‫‪ .33‬الشرارة‪ ،‬العدد ‪ ،5‬شباط ‪.1942‬‬


‫‪237‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وينبـ�ه إىل أن هـؤالء يتجاهلـون خطـر الفاشسـتي�ة علـى جميـع الشـعوب بمـا‬
‫‪34 34‬‬
‫فيهـا الربوليت�اريـا العامليـة واالحتـاد السـوفييت والشـعب العـرايق‪.‬‬
‫ولكـن املالحـظ هنـا أن صياغـات احلـزب ملواقفـه مـن هـذه املسـألة‬
‫الدقيقـة لـم ختـل مـن ارتبـ�اك‪ ،‬وتتردد يف حتديـد مسـؤولية احلـكام‪ ،‬السـيما‬
‫رئيـس الـوزراء‪ .‬نـوري السـعيد ‪ -‬يف املواقـف واملمارسـات الالديمقراطيـة‪ ،‬ولم‬
‫يـراع فيهـا مـزاج اجلماهير التي كانـت تعـاين املـرارة واإلحبـاط بعد فشـل حركة‬
‫مايـس‪ .‬حقـا إن األوضـاع كانـت دقيقـة وحساسـة بعد فشـل احلركـة وهروب‬
‫قادتهـا وجلـوء بعضهم إىل بلـدان املحور‪ ،‬إال أن املعاجلـة‪ ،‬على صحتها املبدئي�ة‪،‬‬
‫لـم تـأت متماسـكة ودقيقـة يف لغتهـا‪ ،‬ولـم حتـدد بدقة ووضـوح موقـف احلكام‬
‫ومسـؤوليتهم‪ ،‬ألن هـذه احلكومـة لم تكن تؤمن حقا بضـرورات تمتني اجلبهة‬
‫الديمقراطيـة العامليـة قـدر اهتمامهـا بانتصار بريطانيـ�ا‪ ،‬الدولة التي أوجدتهم‬
‫وصانتهـم مـن غضـب الشـعب‪ .‬ويتضـح هـذا بوجـه خـاص حين يتحـدث‬
‫احلـزب عـن املسـؤولية يف إجـراءات احلكومـة غير الديمقراطيـة‪ ..‬فبـدال مـن‬
‫أن يعزوهـا إىل طبيعـة احلكـم الرجعـي املعـادي للجماهير وحلقوقهـا وحركتهـا‬
‫الديمقراطيـة‪ ،‬يرجعهـا إىل تصـرف سيئ أو إىل دسيسـة تدبرها أجهزة السـلطة‬
‫القمعيـة‪ ،‬أو «تطبخهـا الرجعيـة» (مـن هـي؟!) إلبعـاد الشـقة بين العناصـر‬
‫الشـعبي�ة الديمقراطيـة وبين احلكومـة واحلليفـة‪ ..‬ويتنـ�اىس أن احلكومـة‬
‫ذاتهـا كانـت تت�ألـف مـن ممثلـي هـذه القـوى الرجعيـة‪...‬‬
‫وربمـا يكـون لالضطراب الـذي عاناه االحتاد السـوفييت يف األشـهر األوىل‬
‫مـن الهجـوم األلمـاين والهزائـم التي حلقت به واخلسـائر التي مين بهـا يف بداية‬
‫احلرب أثرها يف ارتب�اك املعاجلة اليت نشير إليها‪ ،‬واحلزب يف األشـهر األوىل من‬
‫بدايـة إعـادة تأسيسـه؛ كذلـك ربمـا كان للصراعـات الداخلية اليت بـدأت تطفو‬
‫علـى السـطح منذ ذلك الوقت مـع تعقد األحداث دورها هـي األخرى‪ .‬ولكن ما‬
‫هـو أهـم مـن ذلك شـيوع النظـرة السـتاليني�ة يف رؤية األحـداث العامـة وحتديد‬
‫املوقـف منهـا‪ .‬فبموجـب هـذه النظـرة فـرض احلزب على نفسـه اسـتحقاقات‬
‫إضافيـة ال ضـرورة سياسـية عمليـة لها‪ .‬لكـن املهم هنـا‪ ،‬أن لغة احلـزب أخذت‬
‫تصفـو وحتليالتـه شـرعت تـزداد متانـة ليـس جتـاه هـذه املسـألة وحدهـا‪ ،‬وإنما‬
‫إزاء عـدد مـن املسـائل األخـرى وىف مقدمتهـا جتـاه عراق مـا بعد احلـرب‪ ،‬وكانت‬
‫هـذه التحليلات تـزداد قـوة وتماسـكا مـع تعاظم الثقـة بالنصـر يف احلرب ضد‬
‫الفاشـية مـن جانب‪ ،‬ومـع تن�ايم الثقة بالنفس اليت جنمت عن توسـع وترسـخ‬
‫مواقـع احلـزب واتسـاع جماهرييتـ�ه‪ ،‬وتن�ايم احلركـة الديمقراطيـة العامة من‬
‫جانـب آخر‪.‬‬
‫‪ .34‬الشرارة‪ ،‬العدد ‪ ،10‬مايس ‪.1942‬‬
‫‪9‬‬
‫«حزب شــيوعي‪ ..‬ال اشــتراكية ديمقراطية»‬

‫َ‬
‫لمـاذا خنـص هـذه الرسـالة باحلديـث؟ ولمـاذا نتعجـل احلديـث عنهـا‬
‫رغم انها صدرت يف مطلع ‪ ،1944‬أي بعد خمس أو سـت سـنوات من الشـروع‬
‫مـر كثير مـن األحـداث يف‬‫بعمليـة إعـادة التأسـيس‪ ،‬ويف غضـون هـذه الفترة ً‬
‫حيـاة الشـعب عامـة ويف حيـاة احلـزب الداخليـة أيضـا‪ .‬الرسـالة‪ ،‬يف تقديرنـا‪،‬‬
‫تعطـي تفسيرا للكثير ممـا حـدث‪ ،‬وتسـلط األضـواء بقـدر كاف علـى املنهـج‬
‫الـذي سـلكه احلـزب‪ ،‬أو باألحرى قائد احلزب واملشـرف على تأسيسـه وبن�ائه‪،‬‬
‫يوسـف سـلمان يوسـف (فهـد) ملواجهـة هـذه األحـداث‪ ،‬وهـو منهـج صـارم يف‬
‫حتديداتـه‪ ،‬وغـدا‪ ،‬تاريخيـا‪ ،‬املقيـاس الـذي تقـاس عليـه السياسـات احلزبيـ�ة‬
‫الداخليـة مـن بعد‪.‬‬
‫جـاءت الرسـالة ردا علـى تسـاؤالت طرحهـا الصديـق (مقـدام)‪ ،‬عزيـز‬
‫عبـد الهـادي‪ ،‬الضابط املعتقـل يف معتقل (العمـارة) يسـتوضح فيها مجموعة‬
‫مـن القضايـا الهامـة التي تواجه األحزاب الشـيوعية السـيما تلك التي تن�اضل‬
‫بشـكل سـري‪ ،‬تمهيدا لتقديمه طلب االنتسـاب إىل احلزب الشـيوعي العرايق‪.‬‬
‫وألن الرسـالة كانـت قـد وضعـت يف فترة عصيب�ة من حيـاة احلزب‪ ،‬فرتة‬
‫تـوايل االنشـقاقات يف صفـوف احلـزب‪ ،‬وتبـ�ادل االتهامـات والطعـون‪ ،‬وألنهـا‬
‫اجتهـت كذلـك إىل معاجلة قضايا عقدية كان يدور حولها اخلالف حبدة‪ ،‬جاءت‬
‫عنيفـة وحـادة وتميـل إىل القطـع الصـارم‪ ..‬وألن األفـكار والتصـورات واألحكام‬
‫التي جـاءت بهـا صدرت عن إنسـان اتصـف بالزناهـة واإلخلاص للقضية اليت‬
‫نـذر نفسـه لهـا إىل أبعـد احلـدود‪ ،‬ولكونـه لـم يكتـف بتقديـم األقـوال املجانيـ�ة‬
‫علـى غـرار مـا فعـل خصومـه‪ ،‬وإنمـا قـدم حياتـه رخيصـة إلثبـ�ات مصداقيتـ�ه‪،‬‬
‫اكتسـبت هـذه الرسـالة يف تاريخ احلزب موقعـا خاصا‪ ،‬وضعها فـوق املحاكمة‬

‫‪239‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪240‬‬

‫والنظـر‪ ،‬وصـارت تطبـع بعـد ذلـك املرة تلـو األخـرى‪ ،‬كلمـا واجه احلـزب وضعا‬
‫صعبـا وكأنمـا يـراد منهـا تذكير قارئيهـا مـن الشـيوعيني باملواقف التي يتوجب‬
‫أن يقفـوا عندهـا باحترام خاص‪.‬‬
‫إن الرسـالة تعطـي صـورة جلية لتاريـخ احلزب يف فرتة إعادة التأسـيس‪،‬‬
‫وتوضـح العوامـل الداخليـة واملحيطـة التي حكمـت تطـوره يف السـنوات التي‬
‫جيـري احلديـث عنهـا‪ .‬لنت�ذكـر أوال أن املبـادئ اليت اشـتملت عليهـا واليت تتعلق‬
‫باألسـس التي بنيـت عليهـا األحـزاب الشـيوعية يف ظـروف العمل السـري‪ ،‬قد‬
‫صيغـت وشـرحت وفقـا للنمـوذج الـذي جسـده احلـزب الشـيوعي يف االحتـاد‬
‫السـوفييت‪ ،‬ولكـن ليس يف الصـورة اليت كان عليها أيام لينين يف زمن القيصرية‬
‫برغـم أن الرسـالة تؤكـد ذلـك‪ ،‬وإنمـا وفقـا للصـورة التي رسـمتها السـتاليني�ة‬
‫للحـزب وللينينيـ�ة آنذاك‪ ،‬إنها تعبري عن الفهم السـتاليين للبلشـفية‪ ،‬واملصدر‬
‫الـذي غـدت السياسـة السـتاليني�ة تسـتقي منـه يف معاجلاتهـا لـكل األمـور‬
‫السياسـية واالقتصاديـة والفكريـة‪ ،‬وال ننسى هنـا أن صيغـة «الماركسـية‬
‫‪-‬اللينينيـ�ة» قـد ابت�دعهـا وصاغهـا سـتالني بعـد وفاة لينين‪ ،‬وقد طـورت هذه‬
‫الصيغـة مـن بعـد لتغـدو «الماركسية‪-‬اللينيني�ة‪-‬السـتاليني�ة»‪.‬‬
‫لنت�ذكـر هنـا بعـض احلقائـق التي نعتقـد أنهـا أثـرت يف سيرة احلـزب‬
‫وطبعـت ذهنيـ�ة الذيـن قـادوه بآثارهـا‪ .‬لقـد بـدأت عمليـة تأسـيس احلـزب يف‬
‫أوائـل الثالثينـ�ات يف وقـت كانـت مسيرة السـتاليني�ة تفـرض سـلطانها يف كل‬
‫منـايح احليـاة يف االحتـاد السـوفييت‪ ،‬وتمتد أثارهـا بعيدا يف أرجـاء العالم‪ .‬وحني‬
‫أعيـد تأسيسـه كانـت السـتاليني�ة قـد صفـت كل معارضيهـا وخرجـت علـى‬
‫العالـم وهـي تعلـن «انتصـار االشتراكية الكامـل»‪ ،‬وكانـت املركزيـة املطلقـة‬
‫يف احلـزب الشـيوعي السـوفييت قـد غـدت ركنـا أساسـيا يف بنيـ�ة احلـزب وإن‬
‫تسـمت باملركزيـة الديمقراطيـة‪ .‬وكان سـتالني يؤكـد يف خطبـه وكتاباتـه‬
‫مقولتـه بشـأن احتـدام الصـراع الطبقـي مـع انتصـار االشتراكية‪ ،‬وجعـل مـن‬
‫خصومـه يف احلـزب وعلـى رأسـهم بوخاريـن خصومـا للحـزب واالشتراكية‪،‬‬
‫وتوالـت عمليـات التصفيـة لـكل هـؤالء اخلصـوم بمـن فيهـم تروتسـكي الـذي‬
‫كان قـد فـر مـن البلاد منـذ عـام ‪ ،1929‬ودبـر أمـر قتلـه يف املكسـيك‪ .‬وهكـذا‬
‫غـدا كل معـارض خلـط سـتالني داخـل احلـزب أو خارجـه عـدوا طبقيـا‪ ،‬وعلـى‬
‫املنـوال ذاتـه وبمطابقـة سـتالني باحلـزب أصبـح كل معـارض داخـل احلزب أو‬
‫خارجـه عـدوا طبقيا ال يريد لقضية الطبقة العاملة اخلري‪ .‬كان يوسـف سـلمان‬
‫يوسـف (فهـد) قـد درس يف االحتـاد السـوفييت يف جلة هـذه العمليـة‪ ،‬وعاد وهو‬
‫متأثـر بهـذه السـتاليني�ة إىل احلـد الـذي بـات يقـول‪:‬‬
‫‪241‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫«وأصبـح مـا يقولـه قائدهـم األكبر سـتالني ومـا يأمـر بـه واجبـا‬
‫مقدسـا وأمـرا مطاعـا ليـس فقـط مـن قبـل أعضـاء احلـزب والطبقـة‬
‫الربوليت�ارية السـوفيتي�ة والشـعوب السـوفيتي�ة بل ومن الربوليت�ارية‬
‫العامليـة والشـعوب»‬

‫وكان احلـزب الشـيوعي السـوفييت بالنسـبة لـه النمـوذج األعلـى الـذي‬


‫ينبغـي أن حيتـذى «إن هـذه امليزات للحـزب البلشـفي مكنتـ�ه مـن الوصـول إىل‬
‫أعلـى مرتبـ�ة يف التنظيـم»‪ .‬ولكيلا نظلم الرفيق فهد نسـارع إىل القـول بأن هذه‬
‫الفكـرة قناعـة جميـع األحـزاب الشـيوعية وقادتهـا يومذاك‪.‬‬
‫جـرت عمليـة إعـادة التأسـيس يف ظـروف عصيبـ�ة هـي ظـروف احلـرب‬
‫العامليـة الثانيـ�ة التي كان فيهـا كل يشء قيـد املراهنـة‪ .‬ويف العـراق ازدادت هـذه‬
‫ضـراوة بفعـل االحتلال الربيطـاين الثـاين واملضاعفـات التي جـر إليهـا فشـل‬
‫حركـة رشـيد علـي الكيلاين‪ ،‬ودعايـات املحـور وظـروف االعتقـال واألحـكام‬
‫العسـكرية‪ ،‬وانعـدام احلريـات الديمقراطيـة واحليـاة احلزبيـ�ة‪ ،‬وتواصـل‬
‫املالحقـات البوليسـية‪ .‬يف هـذه األوضـاع كانـت الزنعـات الفرديـة حنـو املركزية‬
‫الشـديدة والرغبـة يف التسـلط والتشـدد غير املبرر الـذي تدفـع إليـه العقليـة‬
‫البريوقراطيـة ختتلـط حباجـات الضبط الدقيق املشـروع الذي يسـتلزمه العمل‬
‫السـري والصـراع ضـد فظاظـة اإلجـراءات البوليسـية‪.‬‬
‫جـرت إعـادة تأسـيس احلـزب الشـيوعي العـرايق والسـاحة السياسـية‬
‫يف البلاد ختلـو كليـة مـن وجـود أي حـزب أو تنظيـم سـيايس‪ ،‬وقد حرم الشـعب‬
‫عامـة مـن حقوقـه الديمقراطية‪ ،‬وقد حـرم املوظفون واملسـتخدمون‪ ،‬وهم جل‬
‫جمهـرة متعلمي البلاد مـن العمـل السـيايس‪ ،‬كذلـك حيـل قانونـا دون اخنـراط‬
‫املنتمين إىل القـوات املسـلحة مـن ضبـاط أو جنـود أو شـرطة يف النشـاط‬
‫السـيايس واحلـريب‪ .‬إزاء هـذه احلـال تغـدو للعمـل السـيايس السـري جاذبيـ�ة‬
‫خاصـة‪ ،‬برغـم أن املشـاركة فيـه قـد تعـرض صاحبهـا إىل خطـر االعتقـال‬
‫واحلبـس وحتى اإلعـدام‪ .‬ثـم إن أغلـب الذيـن ينخرطـون يف هـذا النشـاط ال‬
‫حيسـبون لهـذا األمـر احلسـاب الكايف يف بـادئ األمر‪ .‬لقد كان احلزب الشـيوعي‬
‫العـرايق الـذي ظـل يعمـل سـرا ولوحـده مركـز جـذب لـكل الذيـن يهـوون منازلة‬
‫احلكـم الرجعـي علـى هواهـم‪ ،‬وفيه جيد أي عنصـر ال يطيق القيـود اليت يضعها‬
‫هـذا احلكـم علـى احلريـات متنفسـا عـن سـخطه‪ .‬والواقـع فإنـه كان ينـ�در أن‬
‫ينخـرط يف صفـوف احلـزب مـن كان قـد درس قبـل انتمائـه للحـزب أهدافـه‬
‫والقواعـد التنظيميـة التي يأخـذ بهـا وعـن وعـي كامـل‪ ،‬وهـي لـم توضـع أصلا‬
‫بوثيقـة خاصـة إال بعد سـنوات‪ .‬ومعىن هذا‪ ،‬أن هناك متسـعا لبروز اختالفات‬
‫مسـتقبال يف مجـرى العمـل السـيايس‪ .‬يف البلـدان التي تسـودها الديمقراطيـة‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪242‬‬

‫لـن يكـون لهـذه االختالفـات كبير شـأن‪ ،‬ولكـن يف األحـزاب السـرية حيـث قـد‬
‫يتعـرض األعضاء بسـبب مالبسـاتها إىل خطر االنكشـاف وما قـد يرتتب عليه‬
‫مـن مضايقـات أمنيـ�ة تغدو االختالفـات وما ينجم عنها مـن خصومات مصدر‬
‫خطـر حقيقـي على احلـزب ومنظماته‪ ،‬لذلك تميـل األمور يف األحزاب السـرية‬
‫إىل التشـدد يف مقاييسـها‪.‬‬
‫جـرت إعـادة التأسـيس بقيـادة مناضـل شـيوعي تـرىب وتثقـف‪ ،‬كمـا‬
‫أشـرنا‪ ،‬يف عـز انتصـار السـتاليني�ة يف االحتـاد السـوفييت‪ ،‬وعلـى أيـدي مـن‬
‫شـارك يف احلملـة التي تمخـض عنهـا تصفيـة كثير مـن اخلصـوم السياسـيني‬
‫يف السـجون واملعتقلات‪ ،‬ورأى كيـف حتـول احلـزب واملنظمـات االجتماعيـة‬
‫إىل منظمـات شـبه عسـكرية ال تسـمح بأيـة اختالفـات‪ ،‬وبهـدف التعجيـل‬
‫األقصى ببنـ�اء الصناعـة وتطويـر التعـاون الزراعـي لـم يعـد هنـاك مـن يعير‬
‫كبير اهتمـام إىل مراعـاة الظـروف املوضوعيـة‪ ،‬وسـادت اإلرادويـة واألسـاليب‬
‫القسـرية‪ ..‬وىف حـال كهـذه يغـدو للذيـن يقبضـون مقاليـد األمـور مزنلـة تفوق‬
‫مزنلتهـم يف الظـروف االعتي�اديـة ويتكـرس تراتـب هـريم يف احلـزب والدولـة‪،‬‬
‫وتصبـح للبريوقراطيـة اليـد العليـا يف كل مـكان‪ ،‬وتـذوي الديمقراطيـة لتحـل‬
‫محلهـا مركزيـة مفرطـة‪ .‬يف مثـل هـذا اجلـو تثقـف يوسـف سـلمان يوسـف يف‬
‫(مدرسـة كاديح الشـرق)‪ .‬هـذا هـو جانـب واحـد مـن العملة‪ .‬أمـا جانبهـا الثاين‬
‫فهـو تكوينـ�ة هـذا الرجـل وخصالـه الذاتيـ�ة‪.‬‬
‫لقـد عـاش هـذا القائـد كل حياتـه مـع الشـعب وللشـعب كمـا رأينـ�ا‬
‫يف الفصـول السـابقة‪ .‬أحـب الشـعب بإخلاص‪ ،‬وكانـت سـعادته أن يلتقـي‬
‫بالعمـال والفالحين‪ ،‬يشـاركهم حياتهـم البسـيطة‪ ،‬وهـذا مـا جيمـع عليـه كل‬
‫الذيـن التقـوا به منذ مطلع شـبابه وحىت استشـهاده‪ .‬كان جم النشـاط ال يرتدد‬
‫عـن النهـوض بـأي عمـل تتطلبـه احلـال‪ ،‬إىل جانـب أنـه ذو عقليـة مبدعـة كمـا‬
‫يؤكـد جميـع الذيـن عايشـوه ويـروون عـن ذلـك أمثلـة عديـدة‪ .‬وقد بـذل جهدا‬
‫كبيرا مـن أجـل أن يثقـف ذاتـه‪ .‬أحب نضالـه الوطني والشـيوعي‪ ،‬وكان عظيم‬
‫اإلخلاص لقضيتـ�ه‪ .‬إن كل الذيـن حاربـوه يف فترات معينـ�ة إمـا أنهـم انتهـوا‬
‫ولـم يعـد يذكـر لهـم الشـعب مأثـرة جديـة وطواهـم النسـيان‪ ،‬أو أنهـم عـادوا‬
‫إىل صفـوف احلـزب وصـاروا مـن الذيـن حيبونـه عـن صـدق بمـن فيهـم الذيـن‬
‫تعرضـوا إىل نقـده اللاذع‪ .‬عـاش حياتـه زاهـدا يف كل يشء ذايت‪ .‬هكـذا كان حين‬
‫راح يتجـول يف كل أحنـاء البلاد مشـيا علـى األقـدام مـن أجـل أن يتعـرف علـى‬
‫همـوم الكادحين مباشـرة‪ ،‬وهكـذا كان حين عـاد ليقـود احلـزب مـن جديـد‪.‬‬
‫والذيـن زاملـوه يف السـجن ظلـوا يعتبرون لقاءهـم بـه ومعايشـتهم لـه أكبر‬
‫سـعادة نالوهـا يف حياتهـم‪ ...‬وظلـوا يـروون حتى أدق التفاصيـل عـن سـلوكه‬
‫‪243‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ويتمثلـون بهـا‪ ...‬هـل كانـت هـذه نـوع من «عبـادة الفـرد» على حنو مـا قيل عن‬
‫غيره مـن القـادة الشـيوعيني‪ ،‬أم أن الرجـل كان حقـا كمـا يصفون؟ يقـول كامل‬
‫اجلـادريج‪ ،‬زعيـم احلـزب الوطني الديمقراطـي إن «فهـدا أظهـر ثقـة بالنفـس‬
‫وصلـت حـد الوقاحـة» لكـن بطاطـو يعلـق علـى هـذه الثقـة البالغـة بالنفـس‬
‫والتي كانـت تبعد عنه السياسـيني واملفكرين السياسـيني كانت مصـدر إلهام‬
‫للعـوام مـن النـاس الذيـن كانت عالقاته بهم هي األنشـط‪ 1 1.‬كمـا ينقل بطاطو‬
‫عـن بهجـت العطيـة مديـر األمـن العـام قولـه «كانـت لـدى فهـد حجـج قويـة‬
‫لإلقنـاع‪ ،‬ولديـه موهبـة تفسير األمور بطريقة واضحـة وبسـيطة»‪ 2 2.‬ويعلق‬
‫بطاطـو يف موضـع آخـر‪:‬‬

‫«ويعترف حتى أعتى خصومـه‪ ،‬بـأن أحـدا يف احلـزب مـا كان يبزه يف‬
‫‪33‬‬
‫جتميـع النـاس وقيادتهـم»‪.‬‬

‫وال بـأس أن ننقل هنا شـهادة مناضل كـردي معروف هو صالح احليدري‬
‫وهـو يتحـدث عن أول لقاء له مـع فهد عام ‪:1944‬‬

‫«كان مظهـره مظهـر عامـل تـرك العمـل لتـوه‪ ،‬فمالبسـه اعتي�اديـة‬


‫ليـس فيهـا أي أثـر لألناقـة‪ ،‬وقـد لبـس ثوبا قديمـا دون أي ربـاط‪ ،‬وقد‬
‫طالـت حليتـ�ه بعـض اليشء وكثر فيها البيـ�اض‪ ،‬إذ كان عمـره آنذاك‬
‫حـوايل اخلمسـة واألربعين عاما‪ ،‬أما شـعر رأسـه فكان كثـا‪ ،‬وقد ظهر‬
‫الشـيب علـى أطرافـه‪ .‬أمـا قامتـه فتميـل إىل القصـر وجسـمه ملـى ء‬
‫بعـض الشيء‪ ،‬ذو نظـرات حادة رغـم ضعف بصره‪ ،‬وسـقوط أهداب‬
‫عينيـ�ه مـن جهتـه السـفلى» ويسـتطرد يف موضـع آخـر «لقـد أشـيع‬
‫عـن فهـد أشـياء كثيرة منهـا؛ حبـه للزعامـة والسـيطرة‪ ،‬عـدم جدارته‬
‫ولياقتـه للمركـز الـذي كان يشـغله‪ ،‬بعـض املسـائل الالمبدئيـ�ة‬
‫والشـخصية‪ ،‬إال أنين حسـب مـا توصلت إليه من جتربيت الشـخصية‬
‫معـه ومعرفتي بـه عن كثـب (حيث عشـت معه حـواىل ثماني�ة أشـهر‬
‫يف سـجن الكوت عام ‪ )1948‬أنه كان مثاال للقائد الشـعيب يف سـلوكه‬
‫اليـويم وعالقاتـه الرفاقيـة ويف تفهمـه لقضايـا شـعبه واسـتيعابه‬
‫‪44‬‬
‫للنظريـة‪ ،‬إال أنـه كان معتـدا بنفسـه وبرأيـه»‪.‬‬

‫‪ .1‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.142‬‬


‫‪ .2‬بطاطو‪ ،‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪ .3‬بطاطو‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪ .4‬مذكــرات صالــح احليــدري (مخطوطــة)‪ ،‬ص ‪ ،126‬وهنــاك مقاطــع كثــرة أخــرى‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪244‬‬

‫يالحـظ املـرء أنني تعمـدت إن أورد شـهادات شـخصيات غير شـيوعية‪،‬‬


‫وبعضهـا معاديـة‪ ،‬أو أنهـا كانـت يف احلـزب لفترة معينـ�ة واختلفـت معـه‬
‫وخرجـت عليـه (صالـح احليدري)‪ .‬لكن أمايم اآلن شـهادة خاصـة كتبها رجل‬
‫وهـو يف السـابعة والسـبعني مـن عمـره‪ ،‬واليـزال حيـا وهـو يف الثالثـة والثمانين‬
‫مـن عمـره‪ ،‬يعيـش وحيـدا مـع كتبـ�ه وذكرياته يف شـقة يف دمشـق‪ .‬هذه شـهادة‬
‫مثاليـة‪ .‬فصاحبهـا رغـم شـيخوخته حيتفـظ بذاكـرة عجيبـ�ة‪ .‬كنت قـد التقيت�ه‬
‫يف بغـداد عـام ‪ 1946‬وهـو شـاب ممتلـئ احليويـة‪ ،‬ذكرتـه ببعـض مـن كنـت‬
‫ألتقيهـم يف دار احلكمـة‪ ،‬وهـي دار للنشـر أسـهم يف تأسيسـها هـو فانطلـق‬
‫حيدثني عـن كثير منهـم ويسـألين عـن هـذا أو ذاك‪ ...‬اليـزال حيتفـظ كمـا قلت‬
‫بذاكـرة حيـة وبفكـر صـاف ويتحـدث بسالسـة وبلغـة متينـ�ة‪ .‬والشـهادة بعـد‬
‫هـذا صـادرة عـن شـخص لـم ين�افـس أحـدا علـى منصـب أو جـاه‪ ،‬جـاء العـراق‬
‫الجئـا بعـد أن احتلـت القـوات الرتكيـة مدينتـ�ه‪ ،‬اإلسـكندرونة‪ ،‬وهـو قـويم‬
‫تفكيره‪ ،‬وظـل خيلـص إلحساسـه القـويم العـريب حتى اآلن‪ ،‬ورغم أنه‬‫ً‬ ‫عـرويب يف‬
‫تثقـف ماركسـيا يف العـراق وانضـم إىل الشـيوعيني وخـاض معهـم نضاالتهـم‬
‫السـرية والعلنيـ�ة‪ ،‬واكتسـب اجلنسـية العراقيـة‪ ،‬ويف غضـون أربـع سـنوات‪،‬‬
‫وحبماسـة وإخلاص‪ ،‬بـات مـن الوجـوه البارزة للحـزب الشـيوعي العـرايق‪ .‬ولم‬
‫حيتمـل احلـكام الرجعيـون نشـاطه فأسـقطوا عنـه اجلنسـية العراقيـة ودفعوا‬
‫بـه إىل خـارج احلـدود‪ .‬الشـهادة طويلـة‪ ،‬لكنني سـأقتبس منهـا بضعة سـطور‪.‬‬
‫واضعهـا هـو محمـد علـي الزرقـة الـذي عـاش والرفيـق فهـد يف منزل خـاص يف‬
‫محلـة الشـيخ عمـر وبالقـرب مـن جامـع عبـد القـادر الكيلاين‪ .‬وخلال السـنة‬
‫والنصـف التي عاشـاها سـوية يف هـذا البيـت لوحدهمـا اسـتطاع الزرقـة أن‬
‫يتعـرف علـى شـخصية فهـد بدقائقهـا وأحبـه بصـدق كرفيـق وكإنسـان‪.‬‬
‫يقول الزرقة عن أول لقاء معه‪:‬‬

‫الرفيـق زكـي محمـد بسـيم قدمني إىل رفيـق جديد لـم أعرف‬ ‫يف منزل ً‬
‫عنـه شـيئ�ا‪ .‬كان ربـع القامـة يف اخلامسـة واألربعين مـن العمـر ‪-‬‬
‫حسـب تقديـري ‪ -‬هـادئ الطبـع قليـل الـكالم حيسـن االسـتماع وال‬
‫يشـارك إال بكلمـة أو بكلمتين‪ ...‬ولكنـه كان حيسـم بهمـا احلديـث‬
‫الـذي نن�اقشـه بأفضـل وأصـح صـورة‪ .‬وعرفـت أخيرا أنـه الرفيـق فهـد‪.‬‬
‫كنـت أعـرف أنـه مـن أصـل عمـايل (يوسـف سـلمان) مـن منطقـة‬
‫الناصريـة‪ .‬وأنـه تـدرج يف صفـوف العمـال وزار االحتـاد السـوفييت‬

‫أوردهــا احليــدري يف مذكراتــه عــن فهــد كشــف فيهــا عــن احرتامــه العميــق لــه وعــن حبــه‬
‫ليــس كقائــد فقــط وإنمــا كأب أيضــا‪.‬‬
‫‪245‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ورافـق ديمتروف يف الكومنترن والتقـى هنـاك خبالـد بكـداش‪ .‬لذلـك‬


‫كانـت آراؤه وأحكامـه قويـة إىل درجـة لـم تبهـرين فقـط بـل أدهشـتين‪.‬‬
‫لقـد أتيـح يل مـرارا‪ ،‬حتى وأنـا طالـب‪ ،‬يف األشـهر األخيرة من دراستي‬
‫أن ألتقـي بـه‪ .‬كان لقـايئ األول ‪ -‬األنـف الذكـر ‪ -‬يف منزل الشـهيد‬
‫زكـي بسـيم الكائـن يف زقـاق ضيـق مـن أزقـة احليدرخانـة القريب�ة من‬
‫دار احلكومـة‪ ،‬فـكان احلديـث عامـا‪ .‬وكنـت معروفـا مـن الطلاب‬
‫املهتمين بالدراسـة [ختـرج الزرقة من قسـم االجتمـاع يف دار املعلمني‬
‫العاليـة بامتيـ�از ‪ -‬املؤلـف] فسـألين عـن مدرستي وعـن درويس وعن‬
‫املدرسين وعـن أهميـة مـا يلقونـه مـن دروس‪.‬‬
‫سـألين مـا هـو اختصاصـك؟ قلـت‪ :‬االجتمـاع‪ .‬وكان علـم االجتمـاع‬
‫واسـعا يشـمل اجلغرافيـا والتاريـخ‪ .‬وما هـو الكتاب الـذي يكون مدار‬
‫دراسـتكم يف علـم االجتمـاع؟ قلـت‪ :‬كتـاب علـم االجتمـاع ل (ماكس‬
‫ويبر) وهـو كتـاب كبري وشـامل‪.‬‬
‫قال‪ :‬فقط؟‪ ...‬قلت؛ أهمها ‪ ...‬ألنه جامع وشـامل‪.‬‬
‫ً‬
‫قـال‪ :‬كيف يعرف (ماكس ويرب) الدولة‪ ...‬مثال؟‬
‫وأجمعـت فكـري وقلـت‪ :‬يعـرف الدولـة بأنهـا املؤسسـة االجتماعيـة‬
‫األكبر التي تضـم جميـع املؤسسـات‪ ...‬تنسـق بينهـا حبيـث تسـتقيم‬
‫يف ظلهـا األمـور‪.‬‬
‫قال‪ :‬خلدمة من؟‬
‫قلت‪ :‬خلدمة املجتمع ككل‪ ...‬لضمان اسـتمراره ونموه وبقائه‪.‬‬
‫فابتسـم وأردف‪ :‬ألـم تـدرس يف حلقتـك احلزبيـ�ة النظـام الطبقـي‬
‫يف املجتمـع‪ ،‬وصـراع الطبقـات‪ ...‬وتب�ايـن مصاحلهـا‪ ...‬فلمـن تقـدم‬
‫الدولـة ‪ -‬وهـي املؤسسـة األكبر ‪ -‬خدماتها من هـذه الطبقات؟ ومن‬
‫تمثـل ‪ -‬أصلا ‪ -‬مـن هـذه الطبقـات املتصارعـة؟‬
‫قلـت‪ :‬تمثـل الطبقـة األقـوى‪ ...‬ويف مجتمعاتنـ�ا احلاليـة‪ :‬تمثـل‬
‫البورجوازيـة مالكـة الرأسـمال وتنظـم العمـل خلدمـة مصاحلهـا‬
‫هـي حتى ولـو جتـاوزت علـى مصالـح غريهـا مـن الطبقـات‪ .‬قـال‪:‬‬
‫أحسـنت‪ ،‬فهـي إذن (أي الدولـة) بقوانينهـا وأنظمتها‪ ...‬ليسـت أكرث‬
‫مـن مقرعـة تقـرع ظهـور العمـال والكادحين‪ .‬تنظـم املجتمـع وتديره‬
‫للوصـول إىل هـذا الهـدف الـذي يدعـم سـلطتها وحيميهـا‪ ...‬ألـم تكـن‬
‫كذلـك يف جميـع العصـور‪ ،‬منـذ ظهـرت امللكيـة اخلاصـة وانقسـم‬
‫املجتمـع إىل طبقـات مالكـة (أي حاكمـة) وطبقـات مسـتغلة (أي‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪246‬‬

‫محكومـة)‪ ،‬الدولـة مجـرد عصـا يف يـد احلـكام؟‬


‫أليسـت القوانين والقواعـد واملؤسسـات أسـلحة لهـا‪ ...‬ال ترتدد عن‬
‫اسـتخدامها يف حروبهـا‪( ...‬يف صراعهـا الطبقي) ‪ ...‬هـذه هي مهمتها‬
‫األساسـية‪ .‬وهـي‪ ،‬إذن‪ ،‬ليسـت للمجتمع ‪ -‬لكل املجتمـع ‪ -‬كما يقول‬
‫كتابـك الكبير‪ ..‬بـل خلدمة الطبقـة احلاكمة‪.‬‬
‫كان كل مـا قالـه صحيحـا‪ .‬ومقنعـا‪ ..‬وكان علـي أن اوافـق‪ ..‬دون أن‬
‫يكـون ألحـكايم‪ ..‬أو آلراء (ماكـس ويبر) القـوة القادرة علـى الصمود‬
‫أمـام املنطـق الماركسي كمـا عبر عنـه الرفيق فهـد‪ ...‬حين�ذاك‪ .‬وسـار‬
‫احلديـث هكـذا بقيـة اجللسـة‪ ...‬وتضاءلـت أمـام أقوالـه السـديدة‬
‫كل معلومـايت اجلامعيـة‪ ...‬وبـدت سـطحية أمـام تفسيرات هـذا‬
‫القائـد العمـايل الفـذ‪ .‬وبـدا يل‪ ،‬يف أول لقـاء يل معـه‪ ،‬عمالقـا‪ ...‬وعالما‬
‫متفوهـا تفـوق علـي بسـهولة وأذرى علـويم االجتماعية الكالسـيكية‬
‫التي كنـت أعتقـد أنني قـد أحسـنت دراسـتها‪ .‬فاسـتوعبت قشـورها‬
‫ولـم أسـتطع الغـوص إىل أعماقهـا‪ ،‬إىل مضامينها الفلسـفية وحقيقة‬
‫مدلوالتهـا كمـا فعـل‪.‬‬
‫لـم خيبرين أحد مـن الرفـاق احلاضرين أنـه الرفيق فهد‪ .‬ولكـن منطقه‬
‫عرفني بـه‪ .‬وافرتقنا يومها دون أن يصرح يل بشـخصه‪.‬‬

‫ويتحدث الزرقة عنه بعد أن عاشا سوية يف املزنل الذي أشرنا إليه‪:‬‬

‫كان موقـع البيـت املنزوي بين األزقة‪ ،‬وقدسـية اليح املجـاور للجامع‬
‫الكبير وكثرة األغـراب الذيـن يؤمـون الحي عاملا مفيـدا لصـرف‬
‫األنظـار عنـه‪.‬‬
‫كان الـذي يدهشني يف سـلوك الرفيـق فهـد أنـه لـم يكـن قائـدا منظما‬
‫فـذا وموجهـا عميـق النظـر وبعيـده‪ ،‬قـادرا علـى التنظير الفكـري‬
‫وحتليـل األحـداث وفلسـفة أسـبابها ووضـع الشـعارات املنطقيـة‬
‫املقبولـة للمرحلـة وأسـلوب نشـرها فحسـب‪ ،‬بـل كان إىل ذلـك عاملا‬
‫بارعـا كأكثر عمـال الطباعـة مهـارة‪ .‬كان يصلح أجـزاء املطبعـة ويهئي‬
‫حروفهـا ويكتـب مقاالتهـا ويصفهـا مهيـأة للطبـع ويقـوم بنفسـه‬
‫بطبعهـا ورزمهـا‪ ،‬يفعـل كل ذلـك ‪ -‬معـا ‪ -‬وبمنتهـى الرباعـة والدقـة‬
‫والتنظيـم‪.‬‬
‫وكنـت أتقـدم ملسـاعدته أحيانـا‪ ..‬ولكـن كل مسـاعدة لـه كانـت تب�دو‬
‫ضئيلـة بالنسـبة لعملـه الكبير الـذي ال يتوقـف ال يف الليـل وال يف‬
‫النهـار‪.‬‬
‫‪247‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫كان الرفيـق فهـد يعيـش يف هذا البيت معيشـة املتصوفين والرهبان‪.‬‬


‫وكنـت أحلـظ كيف كان يكـرس كل حلظة من حلظـات الليل والنهار‪،‬‬
‫إلجنـاز القضيـة التي وهب نفسـه لها‪ ،‬علـى أكمل وجه‪.‬‬
‫كان الرفيـق فهـد يف حـدود اخلامسـة واألربعين ‪ -‬كمـا حـددت ذلـك‬
‫مـن وجهـة نظـري ‪ -‬هكـذا كان يبـ�دو يل كالشـاب النشـيط املقبـل‬
‫دائمـا علـى العمـل بـكل أشـكاله الفكريـة والتنظيميـة واليدويـة‪.‬‬
‫وكان قـوي البنيـ�ة ‪ -‬كمـا كنـت أراه ‪ -‬جـم النشـاط‪ .‬والغريـب أنـه يف‬
‫جميـع حواراتـه وأحاديثـ�ه العاديـة التي حضرتهـا يف بعـض سـهراته‬
‫مـع الرفـاق‪ ..‬أو يف تصرفاتـه الشـخصية‪ ،‬لـم يشـر إىل اجلنـس أو‬
‫الكحـول‪ ..‬أو يقـرب مـن ذلـك حبسـب عليم ورفقتي شـبه الدائمة له‬
‫يف هـذه الشـهور مـن عـايم ‪ 1945‬و‪ - 1946‬وكان ذلـك يثير يف املزيـد‬
‫مـن اإلعجـاب بـه وإكبـاره‪.‬‬

‫هكـذا كان فهـد حين تـرأس احلـزب الشـيوعي العـرايق وحين خلـص‬
‫جتربتـ�ه وهـو يقـوده يف كـراس (حـزب شـيوعي‪ ..‬ال اشتراكية ديمقراطيـة)‪.‬‬
‫كانـت املهمـة األساسـية واألوىل التي واجهـت احلـزب يف األربعينـ�ات‬
‫هـي ترسـيخ وحدتـه وتماسـكه وتصليـب أعضائـه ورفـع وعيهـم السـيايس‬
‫وإحـكام تنظيمـه‪ ،‬باختصـار ختليصـه مـن العيـوب التي دفعـت إىل تقويضـه‬
‫يف الثالثينـ�ات‪ .‬فــ «التنظيـم» كمـا يقـول حسين الشـبييب يف مقدمـة كـراس‬
‫(حزب شـيوعي ‪ ٠٠‬ال اشرتاكية ديمقراطية) «هو الذي يعطي النظرية الثورية‬
‫احلزب يف الظـروف املعين�ة»‪.‬‬ ‫واخلطـة األساسـية قوتهمـا ومعناهما يف نضـال ً‬
‫لكـن هـذا التنظيـم ال يمكـن أن يكون فعاال وراسـخا إذا افتقـر إىل الوحدة‪ .‬ولكن‬
‫وفـق أيـة شـروط يمكـن وينبغـي أن تقـوم هذه الوحـدة؟ هـذا التسـاؤل يضعنا‬
‫وجهـا لوجـه أمـام كـراس (حـزب شـيوعي‪ ..‬ال اشتراكية ديمقراطيـة)‪.‬‬
‫منـذ البدايـة يضعنـا الكـراس أمـام حقيقـة مـرة‪ .‬إن الرفيـق فهـد يؤكـد‬
‫يف بـدء رسـالته أن املوضوعـات التي يطرحهـا الصديـق (مقـدام)‪ ،‬وهـي كلهـا‬
‫تـدور حـول األسـس التي يقـوم عليهـا تنظيـم احلـزب الشـيوعي الـذي يمارس‬
‫عملـه سـرا «ال يمكـن فهمهـا وإتقانهـا إال بدراسـة مـا كتبـ�ه ماركـس ‪ -‬أجنلـز ‪-‬‬
‫لينين ‪ -‬سـتالني» وتتبـع حركـة الطبقـة العاملـة يف أدوارهـا الثالثـة املتمثلـة‬
‫باألمميـات الثلاث‪ .‬واحلـال أن مـا كان يف متن�اول الشـيوعيني والديمقراطيني‬
‫عامـة يف العـراق يومـذاك مـن األدب الماركسي بالعربيـ�ة ال يزيـد عـن بضعـة‬
‫مؤلفـات جيـرى تداولهـا سـرا طبعهـا احلـزب يف مطبعتـه السـرية‪ ،‬وكانـت‬
‫(موجـز تاريـخ احلـزب الشـيوعي يف االحتـاد السـوفييت) الذي صيغ بمـا يتلاءم‬
‫واخلـط السـتاليين‪ ،‬وصـورت فيـه الصراعـات واخلالفـات التي جـرت يف‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪248‬‬

‫احلركـة االشتراكية الديمقراطيـة الروسـية‪ ،‬وىف احلـزب البلشـفي خاصة من‬


‫وجهـة نظـر سـتالني جتاه هـذه اخلالفات‪ .‬و(أسـس اللينيني�ة) وهـو من تأليف‬
‫سـتالني‪ ،‬والـذي قـدم التبريـر النظـري لوجهـة النظـر هـذه وإىل جانـب هذيـن‬
‫الكتابين كان جيـري تـداول (البيـ�ان الشـيوعي) لماركـس وأجنلـز‪ ،‬املطبـوع يف‬
‫سـوريا‪ ،‬يف حدود ضيقة جدا‪ ،‬ورواية األم ملكسـيم غوركي‪ .‬كان بوسـع من جييد‬
‫اإلجنلزييـة أن حيصـل علـى األدب الماركيس‪ ،‬والسـيما مطبوعات (ويشـارت)‬
‫التي كان يصدرهـا احلـزب الشـيوعي الربيطـاين مـن مكتبتي (مكنزي)‬
‫و(العـراق)‪ ..‬ولكـن الذيـن جييـدون اإلجنلزيية هـؤالء كانوا قلة صغيرة‪ ،‬ويمكن‬
‫للمـرء أن يسـتدل مـن هـذا علـى الفقـر النظـري لـدى رفـاق احلـزب‪.‬‬
‫وعلـى هـذا‪ ،‬كان يصعـب علـى الشـيوعيني‪ ،‬أن يتفهمـوا األسـس التي‬
‫يقـوم عليهـا التنظيـم‪ ،‬كمـا أراد فهد‪ ،‬وبات األمـر كله مرهونا بما تلقنـه القيادة‪.‬‬
‫فـإذا أضفنـا إىل هذه املعادلة قسـاوة األوضاع اليت كان جيري النضال الشـيوعي‬
‫فيهـا‪ ،‬أمكنن�ا أن نتصور احلال اليت سـتكون عليها القاعـدة احلزبي�ة إزاء قيادتها‬
‫والديمقراطيـة وتعدديـة اآلراء حيـال الضبط احلزيب‪.‬‬
‫يؤكـد فهـد يف الرسـالة أن التنظيـم برغـم أنـه ليـس جوهـر القضيـة التي‬
‫ين�اضـل احلزب من أجلها لكنـه «ضرورة تاريخية لكل مراحل حركتن�ا للوصول‬
‫إىل الهـدف النهـايئ»‪ ،‬احلـزب هو وسـيلة الربوليت�اريـة إىل بلوغ هدفهـا الذي هو‬
‫بنـ�اء االشتراكية‪ ،‬وأكد كذلك على أن التنظيم يتطـور وينمو ويتكامل ديالكتي�ا‬
‫مـع تطـور احلركة وتكاملها وباالرتبـ�اط مع حركة املجتمـع والظروف املحيطة‪.‬‬
‫«لذلـك ال يمكـن أن تكـون لـه قاعـدة ثابتـ�ة يركـن لها مهمـا كانت الظـروف‪ ،‬أي‬
‫أنـه ليـس حبقيقـة مطلقـة‪ ،‬لكنـه ىف الوقت نفسـه لـه قواعـد ثابت�ة بالنسـبة إىل‬
‫مرحلـة احلركـة والظروف املالبسـة‪ ،‬وبالنسـبة الختبـ�ارات الطبقـة ىف األقطار‬
‫األخـرى‪ ،‬علـى أال تكـون هـذه االختب�ارات [يريـد بها التجـارب ‪ -‬املؤلف] وصفة‬
‫جاهـزة تعطى لـكل حالة مـن احلاالت»‪.‬‬
‫وشـدد علـى أن يكـون احلـزب مركزيـا ‪ -‬غير مفـكك‪ ،‬لكـي يسـتطيع‬
‫مقارعـة العـدو املوحـد‪ .‬ويقتبس من لينني قولـه إنه ىف الظروف احلاسـمة من‬
‫الضـروري ليـس فقط إقصـاء اإلصالحيني عن جميع املراكز ذات املسـؤولية يف‬
‫احلـزب بـل قـد يكون مـن املفيـد أيضـا إقصاء شـيوعيني طيبين قـد يت�ذبذبون‬
‫أو يكشـفون عـن ميـل التذبـذب حنـو الوحـدة مـع اإلصالحيين (التأكيـد مـن‬
‫املؤلـف)‪ .‬لكـن مـا جـرى هنا أن اإلقصـاء لم يقتصر علـى املراكز ذات املسـؤولية‬
‫وحدهـا‪ ،‬إنمـا تعـداه إىل احلـزب مـن األسـاس‪ .‬غير انـه عـاد وقبـل يف صفـوف‬
‫احلـزب بعـض هـؤالء بعـد أن تبينـوا خطأهـم يف ظـرف آخـر‪ ..‬األمـر إذن يقبـل‬
‫األخـذ والـرد وليـس البتر دائمـا هـو العلاج الوحيد‪.‬‬
‫‪249‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫علـى أن الشيء املهـم الذي ظل يؤكـده‪ ،‬والذي يتطلب التمعـن جيدا أنه‬
‫ال يمكـن نسـخ جتـارب اآلخريـن نسـخا ‪ ٠‬فلـكل بلـد ظروفـه اخلاصة التي تملي‬
‫تغيرياتهـا اخلاصـة يف أشـكال هذا التنظيـم‪ ،‬وأن احلقيقة ال يمكـن تبينها إال يف‬
‫بوتقـة التطبيق‪.‬‬
‫من النقاط األساسـية اليت تسـتحق التوقف جيـدا‪ ،‬تنبيهه يف موضعني‬
‫على حقيقة جوهرية وهي رغم كونه يؤكد ضرورة االنتب�اه إىل املبادئ اللينيني�ة‬
‫التي قـادت البالشـفة إىل الظفـر يف روسـيا عـام ‪ ،1917‬ومكنتهـم مـن سـحق‬
‫املتدخلين األجانـب والشـروع ببنـ�اء نظامهـم االشتراكي‪ ،‬إال أنـه يشـدد علـى‬
‫أهميـة أن يتوصـل احلزب الشـيوعي إىل نظريت�ه الوطني�ة اخلاصـة‪ .‬إن االنتب�اه‬
‫منـذ ذلـك احلين إىل هـذه املسـألة احليويـة كان ينبغـي أن يكـون مفتـاح سـعي‬
‫متواصـل لتطويـر اإلبـداع النظـري يف احلـزب وفقـا لظـروف البلاد وتقاليدهـا‬
‫وجتنيـب احلـزب مطبـات التقليـد اجلامـد والدوغماتيـ�ة الغبيـ�ة‪ .‬ففـي مجـرى‬
‫حديثـ�ه عـن الـكادر الـذي يتوجـب علـى احلـزب أن يعمـل علـى خلقـه وتربيتـ�ه‬
‫وتثقيفـه مـن أجـل سـد النقـص يف احلـزب أساسـا ومجابهـة الطـوارئ والتهيؤ‬
‫للمسـتقبل الـذي كان يتوقـع فيـه نمـو احلـزب كثيرا‪ ،‬قال‪:‬‬

‫علينـ�ا قبـل كل يشء أن نوفـر لرفاقنـا األدبيـ�ات الثوريـة وحتثهـم علـى‬


‫الدراسـة ونطلـب منهـم أن يتسـلحوا بالنظريـة الثوريـة إذ (بـدون‬
‫نظريـة ثوريـة ال يمكـن أن تكـون حركـة ثوريـة ‪ -‬لينين) وعلينـ�ا أن‬
‫نتعهـد بت�دريبهـم وننسـق لهـم املواضيـع الواجـب تفهمهـا وأن نضـع‬
‫لهـم مناهـج دراسـية ونرقـب تطبيقهـا وأن نبني ثقافتهـم علـى ضـوء‬
‫حالتنـ�ا الثوريـة وعلـى ضـوء احلالـة الداخليـة وعلـى ضـوء احلالـة‬
‫الدوليـة وتطوراتهـا‪ .‬ويشء آخـر أريـد أن ألفـت نظـر رفـايق إليـه هو أن‬
‫النظريـة الثوريـة التي تقـود احلركـة الثوريـة ال تصبـح نظريـة حيـة‬
‫مـا لـم يربهـن التطبيق علـى صحتهـا‪ ،‬وأن الماركسـية ليسـت وصفة‬
‫‪55‬‬
‫جاهـزة تعطـى لـكل احلـاالت‪.‬‬

‫وعـاد يف (مسـتلزمات كفاحنا الوطين) بعد عامني ليؤكـد هذه الضرورة‬


‫وقال‪:‬‬

‫إن النضـال ضـد االسـتعمار يسـتلزم أن تكـون لـدى املنظمـات‬


‫املجاهـدة نظريـة وطنيـ�ة علميـة واضحـة‪ .‬نظريـة ال تنفصـل عنهـا‬
‫أشـكال التنظيـم وأسـاليب العمـل‪ .‬نظريـة واضحـة ال تعطـي مجـاال‬

‫‪ .5‬مؤلفات الرفيق فهد‪ ،‬ص ‪.48‬‬


‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪250‬‬

‫للمهرجين واملرتدديـن لتحريفهـا وتلطيفهـا بالشـكل الـذي يتفـق‬


‫ونزعاتهـم‪ ،‬نظريـة تعتمـد علـى اجلماهري الشـعبي�ة يف الكفـاح وتالئم‬
‫‪66‬‬
‫املرحلـة التي يتمخـض عنهـا تطـور املجتمـع‪.‬‬

‫إن قـارئ الرسـالة يتلمـس املـرارة التي يكتـب بهـا فهـد برغـم أن احلـزب‬
‫قـد جتـاوز أخطر املراحل يف إعادة تأسيسـه‪ ،‬وشـرع يف االسـتعداد ملرحلة جديدة‬
‫تبشـر بنمـوه واتسـاع نفـوذه بين اجلماهير ومـرد ذلـك يف تقديرنـا اإلحسـاس‬
‫العميـق باخلسـارة اليت أحلقتها اجلماعات املنشـقة بمسيره احلـزب‪ .‬وإذا كنا‬
‫نـرى التشـديد والتفريـط اللذيـن عومـل بهما املثقفـون يف تلك الفترة قد أحلقا‬
‫باحلـزب أضـرارا كان يمكـن جتنبهـا‪ ،‬فإننـ�ا حنمـل العناصـر التي أصـرت علـى‬
‫أن حتتفـظ بمـوروث التسـلكات غير السـليمة يف النضـال التي عرفتهـا الفترة‬
‫السـابقة جانبهـا مـن املسـؤولية أيضـا‪ .‬لقد اسـتنفدت االنشـقاقات يف احلزب‬
‫وتصفيتهـا وجتـاوز أثارهـا جهـدا كبيرا كان يمكـن توظيفـه يف اإلعـداد للمرحلـة‬
‫التاليـة واملرتقبـة مـن نضـال احلزب‪.‬‬
‫كانـت أوىل هـذه االنشـقاقات قـد جـرت يف تمـوز ‪ 1942‬حين اسـتغل‬
‫ذنـون أيـوب (قـادر) ويوسـف هـارون زخلـة (محمـود) وعبـد امللـك عبـد‬
‫اللطيـف نـوري‪ ،‬وجـورج تلـو‪ ،‬تمـرد أحـد رفـاق احلـزب‪ ،‬يعقـوب كوهين‬
‫(فاضـل) علـى قـرار اللجنة املركزية اليت حاسـبت�ه على طروحاتـه (و كان عضو‬
‫خليـة) الفكريـة التي تنكر وجـود الطبقة العاملـة العراقية وقدرتهـا على قيادة‬
‫النضـال الثـوري‪ ،‬وقولـه بـأن االشتراكية يف العـراق يمكن أن تتحقـق على أيدي‬
‫الطلبـة واملثقفين والبورجوازية الصغرية عموما‪ ،‬وليـس الطبقة العاملة‪ ،‬اليت‬
‫ال تملـك الوعـي الـكايف والتجربـة النضاليـة‪ ،‬وغير املنظمـة أساسـا‪ ،‬وأصـدروا‪،‬‬
‫أي املجموعـة املذكـورة‪ ،‬بي�انـا يهاجمـون فيـه قيـادة احلـزب‪ .‬فسـارعت اللجنـة‬
‫املركزيـة للحـزب إىل االجتمـاع يف ‪ 16‬أب ‪ ،1942‬واختـذت قـرارا بطـرد قـادر‬
‫ومحمـود وفاضـل واآلخريـن الذيـن شـاركوهم يف عملهـم االنشـقايق‪ ،‬مـن‬
‫احلـزب‪ -‬وردا علـى هذا القرار شـرعت الكتلة املنشـقة إىل الدعـوة لعقد مؤتمر‬
‫للحـزب لينتخـب «قيـادة شـرعية» كمـا تقـول وليقـر نظامـا داخليـا وبرنامجـا‬
‫للحـزب‪ ،‬وهـي الدعـوة التي ناقشـها فهـد مـن بعـد يف رسـالة (حزب شـيوعي‪..‬‬
‫ال اشتراكية ديمقراطيـة) وحتـدث فيهـا عـن الشـروط والظـروف التي ال يصح‬
‫يف إطارهـا عقـد مؤتمـر حلـزب سـري يواجـه ضغطـا بوليسـيا متصلا واملخاطر‬
‫التي تنجـم عـن عقـده يف مثل هـذه الظـروف‪ .‬إن التبريـرات اليت يقدمهـا يف هذا‬
‫الشـأن لـم تكـن تفـي بالـرد على دعـوة الكتلـة إىل عقـد املؤتمـر‪ ،‬والتي أصبحت‬
‫تعـرف بكتلـة (إىل األمـام) نسـبة إىل اجلريـدة السـرية التي أصدرتهـا بهـذا‬
‫‪ .6‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.217‬‬
‫‪251‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫االسـم‪ .‬إن علـة امتنـ�اع فهـد عـن عقـد املؤتمـر تكمـن‪ ،‬كمـا نـرى‪ ،‬يف رغبتـ�ه أن‬
‫يـأيت املؤتمـر موحـد اآلراء وخاليـا مـن اخلالفـات‪ .‬والدليـل علـى ذلـك‪ ،‬أنـه دعـا‬
‫إىل عقـد الكونفرنـس األول‪ ،‬وبعـده بعام‪ ،‬املؤتمـر األول‪ ،‬دون أن تكون األوضاع‬
‫البوليسـية التي أحاطـت باحلـزب قـد تغيرت‪ .‬لكـن الـذي تغير هـو األوضـاع‬
‫احلزبيـ�ة الداخليـة ذاتهـا واملتمثلـة خبـروج املخالفين يف الـرأي‪.‬‬
‫وعلـى أيـة حـال‪ ،‬فقـد سـارعت الكتلـة للكشـف عـن حقيقـة موقفهـا‬
‫مـن النشـاط الشـيوعي السـري‪ .‬ففـي أعقـاب حملـة شـنها البوليـس على من‬
‫يشـك يف كونهـم شـيوعيني سـارعوا‪ ،‬أي أعضـاء الكتلـة‪ ،‬إىل إصـدار بيـ�ان مـن‬
‫جانبهـم يدينـون فيـه العمـل السـري ويصفونـه بالعمـل التخريبي‪ ،‬وشـرعوا يف‬
‫العمـل إلقنـاع الشـيوعيني بترك العمل السـري‪ -‬وهاجـم ذنون أيـوب يف مجلة‬
‫(املجلـة) الرفيـق فهـد هجومـا عنيفـا‪ ،‬وواصلـوا احلديث عـن املؤتمر املنشـود‪،‬‬
‫وراحـوا يـرددون أن ال شـرعية للحـزب بلا مؤتمر يقـر منهاجه ونظامـه الداخلي‬
‫وينتخـب جلنـة مركزية شـرعية‪.‬‬
‫بعـد أشـهر مـن حتـرك «املؤتمريـن» هـؤالء‪ ،‬كمـا أصبحـوا يدعـون‪ ،‬بـدأ‬
‫حتـرك جديـد بطلـه هـذه املـرة عبـد هللا مسـعود القريني وكان يعـرف باسـم‬
‫(ريـاض)‪ ،‬اسـمه احلـزيب‪ .‬ويشير مجـرى األحـداث أن هـذا كان يعـد حلركتـه‬
‫علـى مهـل‪ .‬كان عبـد هللا مسـعود القريني أثنـ�اء اخللاف مـع ذنـون أيـوب يف‬
‫معتقـل الفـاو‪ .‬وكانـت جريـدة احلزب تشـن حملـة متصلة إلطالق سـراحه هو‬
‫وعبـد اجلبـار غفـوري وعبـد العزيـز عبـد الهـادي وحميـد رشـيد أبـو النامليـت‬
‫بصفتهـم ديمقراطيين جـرى اعتقالهـم وإبعادهـم إىل الفـاو ظلمـا ‪ -‬ويف ‪27‬‬
‫نيسـان ‪ 1942‬أطلـق سـراحه فجـأة إثـر االعتـداء الـذي تعـرض لـه علـى أيـدي‬
‫املعتقلين «القوميين»‪ 7 7.‬وعـاد ليعمـل يف قيـادة احلـزب كعضـو للمكتـب‬
‫السـيايس وليـس إىل منصبـه السـابق كسـكرتري للحـزب (رغم أنـه كان بوصفه‬
‫سـكرتريا يتلقـى التوجيـه مـن فهـد)‪ .‬ويبـ�دو أن هذا التغيير يف املركز قـد أغاظه‬
‫ولكنـه أضمـر غيظـه ولم يعترض‪ ،‬وعمل يف بدايـة األمر وفق هـذا الرتتيب دون‬
‫حتفـظ‪ .‬لكنـه راح يعمـل بهـدوء‪ ،‬ومـن وراء فهـد ورفاقـه اآلخريـن إلجيـاد كتلـة‬
‫تؤيـده داخـل اللجنة املركزيـة‪ .‬ويالحظ هنـا أن رفاق هذه املجموعـة وهم وديع‬
‫طليـة ونعيـم طويـق وصفـا ء مصطفـى جميعهـم ممـن عمـل يف الثالثينـ�ات‪.‬‬
‫وهكـذا انقسـمت اللجنـة املركزيـة إىل مجموعتين‪ :‬واحدة تلتف حول يوسـف‬
‫سـلمان يوسـف وتت�ألف مـن داود الصائغ (حنظـل) وأمين�ه الرحـال (فاطمة)‬
‫وحسين محمـد الشـبييب (صـارم( وزكـي محمـد بسـيم )حـازم(‪ ،‬واألخـرى‬
‫تت�ألـف مـن القريني (ريـاض) ووديع طويـق وصفـاء مصطفى (كاظـم وظافر‬

‫‪ .7‬انظر بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.155‬‬


‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪252‬‬

‫وكـرادي) وتفجـرت أزمـة اللجنـة املركزيـة وسـكرتري احلـزب يسـتعد للسـفر‬


‫إىل االحتـاد السـوفييت حلضـور االجتمـاع الـذي تقـرر أن تعقـده األمميـة الثالثة‬
‫مؤسسي احلـزب‬‫ً‬ ‫(الكومنترن) لتقريـر حلهـا‪ ،‬وقـد جـاء مهـدي هاشـم (أحـد‬
‫والـذي أبعـد إىل إيـران وصـار يعمـل يف صفـوف حـزب تـودة) موفـدا مـن قيـادة‬
‫حـزب تـودة ليصطحـب الرفيق فهـد لهذا الغرض‪ .‬ويـروى بطاطو‪ ،‬اسـتن�ادا إىل‬
‫روايـات القريني وداود الصائـغ ووديـع طليـة وكذلـك نشـرة داخليـة أصدرهـا‬
‫احلـزب يف أيـار ‪ 1943‬محفوظـة لدى البوليـس‪ ،‬أن األزمة بدأت قبل سـفرهما‬
‫بثلاثـة أو أربعـة أيام‪ ،‬عندما اقرتح فهد يف اجتمـاع للجنة املركزية حضره مهدي‬
‫هاشـم إسـقاط عضويـة وديـع طليـة مـن اللجنـة املركزيـة لعـدم انضباطـه‬
‫والفتقـاره إىل الكفـاءة‪ ،‬ولكسـله‪ .‬ولكن اللجنـة املركزية اليت تغيـب عن حضور‬
‫اجتماعهـا زكـي بسـيم النشـغاله بمهمـة خاصـة وحسين الشـبييب الـذي كان‬
‫آنـذاك معلمـا يف العمـارة‪ ،‬لـم حتسـم األمـر‪ ،‬ألن مجموعـة القريني انبرت فـورا‬
‫للدفـاع عـن وديـع طليـة وراحـت تهاجـم فهـد وحتـول األمـر إىل نـزاع حـاد‪ ،‬ويف‬
‫جلسـة أخـرى للجنـة املركزية ظل النزاع قائما‪ ،‬ويف اجللسـة الثالثة تغيب فهد‬
‫عـن حضورهـا وحملـت أمينـ�ة الرحال رسـالة منـه تقول إنـه يغادر البلاد‪ ،‬وإنه‬
‫يفـوض عبد هللا مسـعود لرئاسـة احلزب يف غيابـه‪ ،‬ويدعو اللجنـة املركزية إىل‬
‫أن تتوصـل إىل حـل رفـايق للنزاع املعلـق‪ .‬وحتـدث الرفيـق مهـدي هاشـم مشيرا‬
‫إىل املهمـة التي يصطحـب فيهـا الرفيـق فهـد‪ ،‬وعـن أهميـة تكاتـف أعضـاء‬
‫اللجنـة املركزيـة وخطـر اسـتمرار اخلالفـات يف صفوفهـا‪ ،‬ودعاهـم إىل رص‬
‫صفـوف احلـزب‪ .‬وقـد أيـد جميع أعضـاء اللجنة املركزيـة ما ذهب إليـه الرفيق‬
‫الضيـف‪ ،‬وأدانـوا امليـول التكتلية واالنشـقاقية‪ ،‬واتفقت اللجنـة املركزية على‬
‫ضـرورة عقـد مؤتمـر يتوىل وضع نظـام داخلـي وبرنامج للحـزب وينتخب جلنة‬
‫مركزيـة‪ .‬واتفقـوا يف ذات الوقـت وباإلجمـاع أن ال يشء مـن هـذا يتـم حىت يعود‬
‫الرفيـق فهـد‪ 8 8.‬ولكـن يظهـر أن الكتلـة املذكـورة كانـت تبيت أمرا أخـر‪ -‬فبعيد‬
‫سـفر فهـد بأيام سـارع كـرادي‪ ،‬أحد أعضـاء الكتلـة (لعله صفـاء مصطفى) إىل‬
‫سـرقة مطبعـة احلـزب ونقلهـا إىل مـكان خـاص (وكان جيـرى فيها يومهـا إعداد‬
‫طبـع بيـ�ان خـاص أعدتـه إحـدى منظمـات األلويـة حـول الغلاء والتالعـب‬
‫باألسـعار)‪ ،‬وتنكـرت الكتلـة إىل قـرار اللجنـة املركزيـة اإلجماعـي وبـادرت إىل‬
‫عقـد مؤتمـر للحـزب دون أن تشـعر رفـاق اللجنة املركزيـة اآلخرين‪ ،‬واسـتثنت‬
‫مـن الدعـوة إىل حضـور املؤتمر كل املنظمات احلزبي�ة اليت تشـعر أنهـا لن توافق‬
‫علـى خطواتهـا‪ ،‬أي اقتصـرت علـى مؤيديهـا فقـط‪ -‬وكان هـذا املؤتمـر الـذي‬
‫عقـد يف ‪ 20‬تشـرين الثـاين ‪ ،1942‬أي بعـد ‪ 16‬يومـا مـن سـفر سـكرتري احلـزب‬
‫قـد ضم سـتة وعشـرين عضوا‪ .‬وقـد أسـمته الكتلة مؤتمـر «وعـي الربوليت�اريا‬
‫‪ .8‬بطاطو‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.156-155‬‬
‫‪253‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫العراقيـة « وقالـت عنه إنه «مؤتمر عام للحزب الشـيوعي العـرايق»‪ .‬وانتخب‬
‫«املؤتمـر» هـذا جلنـة مركزيـة مـن ‪ 11‬عضـوا اسـتبعد منهـا كل مؤيـدي فهـد‪،‬‬
‫كمـا انتخـب القريني سـكرتريا للحـزب‪ .‬ومـع ذلـك أبقـوا علـى فهـد وحـده يف‬
‫قـوام اللجنـة املركزيـة التي انتخبوهـا‪ .‬واسـتولت الكتلـة علـى جريـدة احلزب‪،‬‬
‫الشـرارة‪ ،‬ومكتبـ�ة احلـزب ووثائقـه‪ ،‬وأصـدروا العـدد احلـادي والعشـرين مـن‬
‫(الشـرارة) وفيـه يعلنـون عـن تشـكيلتهم اجلديدة وعـن املؤتمر الـذي عقدوه‪.‬‬
‫إذاك سـارع األعضـاء اآلخـرون يف اللجنـة املركزيـة إىل االجتمـاع‬
‫وناقشـوا مـا حصـل يف احلـزب وأصـدروا تقريـرا إىل الشـعب كشـفوا فيـه مـا‬
‫أقدمـت عليـه مجموعـة ريـاض مـن عمـل ختريبي‪ ،‬وبينـوا لـه أنهـم لـم يدعـوا‬
‫إىل حضـور املؤتمـر وأن الشـرارة لـم تعـد تمثـل احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬وأنه‬
‫قـد تـم االتفـاق وباإلجمـاع علـى إصـدار نشـرة جديـدة خاصـة باحلـرب باسـم‬
‫(القاعـدة) تعبيرا عـن موقـف قاعـدة احلـزب الرافـض ملوقـف األربعـة الذيـن‬
‫خانـوا احلـزب‪ ،‬أي ريـاض وجماعتـه‪ ،‬واسـتنكروا يف قـرار آخـر إقـدام احلكومـة‬
‫علـى إلغـاء امتيـ�از املجلـة الديمقراطيـة (املثـل العليـا) التي كانـت تصـدر يف‬
‫(النجـف)‪ ،‬وطالبـوا بإطالق سـراح الديمقراطيني املعتقلين‪ ،‬ودعوا احلكومة‬
‫إىل حتقيـق مطالـب اجلماهير االقتصاديـة وحرياتهـا الديمقراطيـة‪ ،‬كذلـك‬
‫دعـوا القـوى الديمقراطيـة يف البلاد إىل تكويـن جبهـة وطنيـ�ة موحـدة تضـم‬
‫جميـع الديمقراطيني باسـتثن�اء أولئـك الذين «انفضحـت اعمالهم التخريبي�ة‬
‫بصـورة عامـة وأشـخاصا كانـوا رفاقـا طـردوا مـن احلـزب مـن جـراء مؤامراتهـم‬
‫وخياناتهـم‪ .‬وأنهـوا بي�انهم بمناشـدة رفاق احلزب جميعا إىل مضاعفة النشـاط‬
‫بين اجلماهير»‪9 9 .‬وقـد صـدرت (القاعدة) فعال يف أواخر كانـون الثاين ‪.1943‬‬
‫وحين عـاد فهـد يف منتصـف نيسـان ‪ 1943‬حـاول ريـاض وجماعتـه‬
‫أن يلعبـوا معـه ذات اللعبـة‪ ،‬وأن يكسـبوه إىل صفهـم‪ ،‬وفاوضـوه علـى إبقائـه‬
‫يف جلنتهـم مقابـل ختليـه عـن أعضـاء اللجنـة املركزيـة املؤيديـن لـه وإال فإنهـم‬
‫سـيعمدون إىل فضحـه‪ .‬فرفـض عرضهـم وقطـع املفاوضـات معهم‪ .‬ويف نشـرة‬
‫داخليـة للحـزب صـدرت بقـرار مـن اللجنـة املركزيـة‪ ،‬عـرض فهـد ألعضـاء‬
‫احلـزب العمـل االنشـقايق الـذي أقـدم عليـه (ريـاض) وجماعتـه خالفـا لمـا‬
‫كان قـد اتفـق عليـه يف اللجنـة املركزيـة وهـم بضمنهـا‪ ،‬ودعوتهـم إىل مؤتمـر غري‬
‫شـرعي‪ ،‬وانتخابهـم جلنـة مركزيـة غير شـرعية‪ ،‬وطالبهـم بالتخلـي عـن كل مـا‬
‫‪10 10‬‬
‫أقدمـوا عليـه‪ ،‬ووضـع أنفسـهم حتـت تصـرف احلـزب بـدون أي شـرط‪.‬‬
‫‪ .9‬تقريــر اللجنــة املركزيــة للحــزب الشــيوعي العــرايق يف اجتماعهــا املنعقــد يف كانــون األول‬
‫‪ ،1942‬مؤلفــات فهــد‪ ،‬ص ‪.385‬‬
‫‪ .10‬بطاطو‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.159‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪254‬‬

‫وقـد واجـه جماعة ذنون أيـوب حركة عبد هللا مسـعود القريين ومؤتمره‬
‫بالسـخط‪ ،‬وصـدرت جريدتهـم السـرية (إىل األمـام) يف ‪ 3‬كانـون الثـاين ‪1943‬‬
‫وهـي تعبر عـن اسـتنكارها للمؤتمـر املذكـور ألن القريني وجماعتـه جتاهلوهـم‬
‫ولـم يدعوهـم إىل حضـور املؤتمـر‪ ،‬ووصفـوه ب «املؤتمـر الزائـف» و «املشـكل‬
‫‪11 11‬‬
‫الديمقراطيـا»‪.‬‬
‫وتشـاء الصـدف أن تمتحـن جديـة عبـد هللا مسـعود وجماعتـه‪ ،‬فإثـر‬
‫حملـة بوليسـية وجهت ملطاردة الشـيوعيني عامة‪ ،‬ألقي القبـض على القريين‬
‫وكل أعضـاء جلنتـ�ه املركزيـة وأعضـاء مؤتمرهـم‪ ،‬وكذلـك علـى أعضـاء مـن‬
‫احلـزب الشـيوعي العـرايق (القاعـدة) كان مـن بينهـم داود الصائـغ‪ ،‬واسـتطاع‬
‫‪12 12‬‬
‫فهـد أن خيـادع البوليـس وينجـو مـن االعتقـال‪.‬‬
‫وكشـفوا لألمـن أسـرار منظمتهـم ‪ ، 13 13‬ودخلـوا مـع احلكومـة يف‬
‫مسـاومات عرضـوا فيهـا اسـتعدادهم للكـف عـن إصـدار جريدتهـم وحـل‬
‫منظمتهـم لقـاء إطلاق سـراح جماعتهـم املوقوفين ومنـح احلريـة ألي عنصـر‬
‫ديمقراطـي «لتأليـف حـزب ديمقراطـي» ونشـروا لهـذا الغـرض مجموعة من‬
‫املقـاالت يف العـدد العاشـر واألخير مـن جريدتهـم يف حزيـران ‪ 1943‬يعرضـون‬
‫فيهـا مقرتحاتهـم هـذه وتبريراتهـم لهـا‪ ،‬وجميعهـا تكشـف عـن روح املخاتلـة‬
‫واالنتهازيـة واالستسلام‪ .‬وسـارعت جماعـة (إىل األمـام) بدورهـا إىل إيقـاف‬
‫إصـدار جريدتهـا (إىل األمـام) يف ‪ 14‬حزيـران ‪ ، 1943‬متذرعين يف بيـ�ان لهـم‬
‫بـأن «االسـتمرار يف إصـدار صحـف متعارضـة لن يكون لـه إال تأثير مهلك على‬

‫‪ .11‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.157‬‬


‫‪ .12‬روى فهــد يف الســجن مــن بعــد كيــف تمكــن مــن اإلفــات مــن االعتقــال‪ ،‬قــال‪ :‬كان‬
‫هنــاك طــرق علــى البــاب وحــن ذهــب ليفتــح بــاب الــدار ســأله البوليــس إن كان يوســف‬
‫ســلمان يوســف يســكن يف هــذه الــدار‪ ،‬فــأدرك يف احلــال أن البوليــس لــم يمــزوه وكانــوا‬
‫حيملــون بأيديهــم صــورة لــه أيــام شــبابه فلــم يمــزوه‪ ،‬فأشــار لهــم أنــه يقطــن يف الطابــق‬
‫الثــاين‪ ،‬فســارعوا للصعــود هنــاك وســارع هومــن جانبــ�ه للخــروج مــن الــدار والهــروب‪.‬‬
‫‪ .13‬يذكــر صالــح احليــدري يف مذكراتــه‪ ،‬املخطوطــة (ص‪« :)19‬قيــل إنــه وجــد حبــوزة‬
‫عبــد هللا مســعود قائمــة بأســماء وأعضــاء منظمتــه» ولكــن جماعتــه الــي أصــدرت العــدد‬
‫العاشــر واألخــر مــن الشــرارة (حزيــران ‪ )1943‬طرحــت مجموعــة أســئلة علــى قرانهــا‬
‫وجــاء يف الســؤال الســادس قولهــم‪« :‬مــا الــذي جيــب عملــه يف حالــة خيانــة أحــد الرفــاق يف‬
‫أوضــاع وظــروف مختلفــة” وأردفــت ذلــك يف ســؤالها الســابع‪« :‬مــا الــذي جيــب عملــه فيمــا‬
‫لــو اســتمرت احلكومــة علــى اعتقــال األحــرار الديمقراطيــن والشــيوعيني واســتعمالها‬
‫الوســائل غــر املشــروعة يف التحقيــق» (انظــر مؤلفــات الرفيــق فهــد‪ ،‬ص ‪.)69، 68‬‬
‫‪255‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الشـيوعيني املخلصين ولـن يكـون أقـل مـن تدمير مقصـود»‪.‬‬


‫‪14 14‬‬

‫وقـدم كثري مـن أعضاء جماعة (الشـرارة) طلبا للعودة إىل احلزب باسـم‬
‫«الوحـدة بين الشـيوعيني» ولكـن بشـرط أن تت�ألـف جلنـة مركزيـة مؤقتـة‬
‫يتكافـأ فيهـا الطرفـان‪ ،‬احلـزب وجماعتهـم‪ ،‬وتتـوىل هـذه اللجنـة اإلعـداد لعقد‬
‫مؤتمـر حـزيب تنبثـق عنـه جلنـة مركزيـة جديـدة‪ .‬وقـد أبدى احلـزب اسـتعداده‬
‫لقبـول عودتهـم كأفـراد وليـس كمجموعـة‪ ،‬ورفـض األخـذ بمقرتحهـم بشـأن‬
‫تأليـف جلنـة مؤقتـة موضحـا أن هـذا املقترح يعني تكويـن قيادتين وإجيـاد‬
‫سياسـتني وهـذا يعني انتفـاء وحـدة اإلرادة والعمـل يف احلـزب‪ ،‬كمـا أن عقـد‬
‫مؤتمر يف حال كهذه ال يمكن أن حيقق سـوى صخب فارغ وتشـوش إيديولويج‪.‬‬
‫لكـن االنشـقاقيني لـم يسـلموا بمـا طـرح احلـزب‪ ،‬وإنمـا سـارعوا إىل‬
‫توحيـد قواهـم مـع جماعـة (إىل األمام) ملنافسـة احلزب بقوة أكبر‪ .‬وقد عرفت‬
‫املنظمـة التي جمعـت بين فلـول الطرفين باسـم «وحـدة النضـال» ورفعـت‬
‫هـذه شـعار وحـدة جميـع الشـيوعيني ىف منظمـة واحـدة‪ ،‬واجتهـوا إىل كسـب‬
‫العناصـر الكرديـة الماركسـية إىل جانبهـم‪ .‬وقـد كانـت أول خليـة ماركسـية ىف‬
‫أربيـ�ل قـد تكونت بمسـعى من صالح احليدري وضمت رشـيد قـادر (وكان من‬
‫العناصـر اليسـارية يف حـزب هيوا) وشـوعة مخلـوف والطالب األرمني أواكيم‬
‫أواكيميـان يف عـام ‪ .1943/42‬وكانـت هـذه املجموعـة حتصـل عـن طريـق‬
‫أنصارها يف بغداد على النشـرات السـرية للحزب الشـيوعي العرايق‪ ،‬وتستعني‬
‫بمجلـة (املجلة) يف نشـر الفكر اليسـاري يف كردسـتان‪ ،‬وكذلـك بما حتصل عليه‬
‫مـن جريـدة (صـوت الشـعب) السـورية ‪ -‬اللبن�انيـ�ة‪ .‬وحين انشـقت كتلـة‬
‫ذي النـون ايـوب‪ ،‬سـارع النشـطاء منهـا‪ ،‬خليـل جموعـة وعلـي ياسين وداود‬
‫حبيـب وعبـد امللـك عبـد اللطيـف نـوري إىل االتصـال باملجموعـة الماركسـية‬
‫الكرديـة وأقنعوهـا باالنضمـام إليهـم‪ ،‬وهـذا مـا حصـل بالفعـل‪ ،‬ولكـن حين‬
‫احنلـت مجموعـة إىل األمـام‪ ،‬كمـا الحظنـا‪ ،‬يف صيـف ‪ 1943‬رفضـت مجموعـة‬
‫أربيـ�ل أن حتـل نفسـها ‪ -‬ويف هـذه الفترة كسـبوا إىل جانبهـم آخريـن كان مـن‬
‫بينهـم عنصـر جديـد جيد هـو املال شـريف عثمان رنكـه رزاين‪ ،‬الطالـب الديين‪،‬‬
‫والـذي صـار يعـرف مـن بعـد بامللا عـروس‪ ،‬أي امللا الـرويس‪ ،‬وقـد تعـرض هذا‬
‫الرفيـق إىل اضطهـاد القـوى الرجعيـة وتشـنيعها‪ .‬لقد تسـببت أوضـاع احلرب‬
‫يف إحلـاق األضـرار حبيـاة النـاس‪ ،‬وكان املالكـون اإلقطاعيـون يسـتحوذون على‬
‫كميات كبرية من السـكر والشـاي واألقمشـة ببطاقات تموين مزورة ليبيعوها‬
‫إىل فقـراء النـاس الذيـن هـم يف أمـس احلاجـة لهـا بأسـعار باهظة‪ .‬لذلـك كانت‬
‫دعايـة املجموعـة الماركسـية تلايق تعاطفـا مـن جانـب الكادحين‪ .‬وكانـت‬

‫‪ .14‬من (بي�ان إىل رفاق السالح)‪ ،‬نشر يف ‪ 16‬حزيران ‪ ،1943‬بطاطو‪ ،‬ص ‪160‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪256‬‬

‫انتصـارات اجليـش األحمر مـن جانبها بدأت تشـجع الشـبيب�ة الكردية على أن‬
‫تعيـد النظـر بمواقفهـا السياسـية ومفاهيمها‪ ،‬ولذلك بات بوسـع الشـيوعيني‬
‫األكـراد أن يتحركـوا بقـوة أكبر السـيما بين الطلاب وبين الشـبيب�ة يف حـزب‬
‫(هيـوا) القـويم‪ ..‬وانتهـوا إىل تشـكيل منظمـة خاصـة باسـم (كومـه يل ميللت‬
‫‪ -‬حـزب الشـعب)‪ ،‬وأصدروا نشـرة تكتب باليد باسـم (ده نكـي كورد ‪ -‬صوت‬
‫األكراد)‪ .‬وقد اسـتطاعت أن تكسـب إىل جانبها مجموعة نشـطة من الشـباب‬
‫بينهـم نافـع يونـس وحميـد عثمـان ومـوىس سـليمان وهاشـم عبـد هللا وشـيخ‬
‫محمـد (شـيخه شـه ل) وعزيـز محمـد وقرين دوغرمجي وحيىي سـليم وأنور عبد‬
‫هللا (دلسـوز) وجوهـر حسين وآخرين‪ .‬وقـد وجدت جماعة الشـرارة اجلديدة‬
‫قبـل أن حتـل نفسـها موضـع قـدم لهـا بينهـم وأصـدرت صحيفـة سـرية باللغـة‬
‫الكرديـة تعـرف باسـم (بليسـه) أي الشـرارة‪ ..‬لكنهـا توقفـت مـع حـل جماعـة‬
‫الشـرارة اجلديـدة‪.‬‬
‫يف هـذه اللحظـة دخلـت امليدان‪ ،‬كما رأينـ�ا‪( ،‬وحدة النضـال)‪ ،‬وكان على‬
‫رأس هـذه املنظمـة صفـاء مصطفـى ومحمـد توفيـق حسين ويوسـف زخلـة‬
‫وابراهيـم نـايج شـميل وحميـد هنـدي ووديـع مروكـي ويعقـوب مصـري ونعيم‬
‫بـدوي وعبـد اجلبار وهبي وفريد األحمر وحسين عبد العال‪ .‬وقد سـافر صفاء‬
‫مصطفـى‪ ،‬وكان علـى رأس املنظمـة‪ ،‬إىل أربي�ل والتقى باملجموعـة الكردية‪ ،‬وتم‬
‫االتفـاق بينهمـا على أن ينضم الشـيوعيون األكـراد إىل «وحدة النضال‪ ،‬شـرط‬
‫أن يتكـون فـرع كـردى للمنظمـة لـه جلنـة خاصة تقـوده ويصدر جريـدة خاصة‬
‫بـه باللغـة الكرديـة‪ ،‬وأن يدخـل يف قـوام اللجنـة املركزيـة لوحـدة النضـال اثن�ان‬
‫مـن اجلماعـة الكرديـة‪ ،‬وهكذا تكونـت جلنة الفرع مـن صالح احليـدري ونافع‬
‫يونـس ورشـيد قـادر‪ ،‬وترشـح صالـح احليـدري ونافـع يونـس لالنضمـام إىل‬
‫اللجنـة املركزيـة ل «وحـدة النضـال»‪ ،‬وأصـدروا جريـدة باللغة الكردية باسـم‬
‫(يه كيه يت تيكوشـن ‪ -‬أي وحدة النضال)‪ .‬إال أن انضمام اجلماعة الكردية إىل‬
‫وحـدة النضـال دفـع ملا شـريف عثمـان إىل االلتقاء بفهـد يف بغـداد وانضمامه‬
‫إىل احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬وسـعيه إىل تكويـن تنظيـم خـاص باحلـزب يف‬
‫أربيـ�ل‪ .‬وقـد احنـاز إىل جانب�ه كل من حيىي سـليم وجوهر حسين دزه يئ وأنور عبد‬
‫هللا (دلسـوز)‪.‬‬
‫إال أن التفـكك والثرثـرة التي عرفـت بهمـا (وحـدة النضـال) يف بغـداد‬
‫عكسـت آثارهـا يف كردسـتان‪ .‬وكمـا يالحـظ صالـح احليـدري يف مذكراتـه أنـه‬
‫هـو ونافـع يونـس الحظـا «أثنـ�اء اجتماعـات اللجنـة املركزيـة لوحـدة النضـال‬
‫عـدم االنسـجام بين أعضائهـا واملناقشـات احلـادة الدائـرة بينهـم‪ ،‬إضافـة إيل‬
‫كيـل االتهامـات من بعض األعضـاء إىل غريهم‪ -‬لقد كان لولـب احلركة محمد‬
‫‪257‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫توفيق حسين ويوسـف زخلـة‪ ،‬وكان االثن�ان مـن طراز املثقفين الذين جييدون‬
‫الكتابـة والـكالم‪ ،‬ولكنهمـا لم يكونـا يف احلقيقة قادة حلزب سـيايس ثـوري»‪.‬‬
‫‪15 15‬‬

‫يف ‪ 14‬كانـون األول ‪ 1943‬أطلـق سـراح داود الصائـغ (حنظـل) مـن‬


‫التوقيـف‪ .‬وجتنبـ�ا للمخاطـر التي قـد تنجـم عـن مراقبـة حتركـه مـن جانـب‬
‫البوليـس‪ ،‬طلـب منـه احلـزب أن يتوقـف عـن النشـاط لبعـض الوقـت‬
‫ويتجنـب االتصـال بهـذا أو ذاك مـن رفاقـه صيانـة لهـم‪ ،‬وهـو إجـراء مألـوف يف‬
‫العمـل السـري‪ .‬إال أن داود الصائـغ اعتبر األمـر إهانـة شـخصية لـه‪ ،‬فرفـض‬
‫أمـر احلـزب‪ ،‬وتمـرد عليـه‪ ،‬متهمـا قيـادة احلـزب‪ ،‬وفهـد بالـذات‪ ،‬بالدكتاتورية‬
‫واالسـتب�داد‪ ،‬وسـارع إىل جمع األعـوان وإجياد كتلة خاصة به وأسـماها «رابطة‬
‫الشـيوعيني العراقيين» وأصـدر نشـرة خاصـة باسـم «العمـل» يف نيسـان‬
‫‪ .1944‬وكمـا فعـل اآلخـرون‪ ،‬شـرع يطالـب بعقـد مؤتمـر للحـزب ينتخـب‬
‫قيـادة شـرعية‪ ،‬وراح حيمـل احلـزب مسـؤولية االنشـقاقات التي أقـدم عليهـا‬
‫اآلخـرون وسمى حتركاتهـم باالنتفاضـات‪ ،‬مـع أنـه كان أدرى مـن غيره بطبيعـة‬
‫هـذه االنشـقاقات‪ ،‬وكان علـى رأس مـن قـاوم أحدهـا وعلـى رأس احلـزب حين‬
‫أصـدر (القاعـدة) ردا علـى اسـتيلاء القريني علـى الشـرارة ومطبعـة احلـزب‬
‫(إذ كان فهـد خـارج العـراق يومهـا ‪ -‬كمـا رأينـ�ا)‪ .‬ورفعـت (العمـل) شـعارا لهـا‪:‬‬
‫«التفـوا حـول (العمـل) لتكويـن حزب شـيوعي عـرايق موحـد»‪ .‬ورغـم أن هذه‬
‫الكتلـة لـم تسـتطع أن تصبـح منظمـة جماهريية‪ ،‬وجـاءت يف الوقـت الذي كان‬
‫احلـزب قـد حيظـى بت�أييـ�د جماهيري واسـع بني أوسـاط العمـال والطلاب‪ ،‬إال‬
‫أنهـا اسـتطاعت أن تكـون لهـا أنصـارا يف اجليـش‪ ،‬السـيما بين جنـود ومراتـب‬
‫الطيران‪ ،‬وىف مدينـ�ة املوصـل‪ ،‬وبين عمال النسـيج يف الكاظميـة‪ .‬وكان من أبرز‬
‫مـن انتمى إليهـا مـن الضبـاط سـليم الفخـري وغضبـان السـعد وعبـد القـادر‬
‫هللا ويـردي وحسين الـدوري ومهـدي صالـح الدريعـي وعايـد قاطع العـوادي‪،‬‬
‫وانضـم إليهـا أيضـا كاظـم حمـدان وأكرم حسين وعمـر محمد الياس وحسين‬
‫الـوردي وفـاروق برتـو وصـادق الفلايح وعبـد األمير عبـاس وجبـار عبـود وعلى‬
‫عبـاس وفخـري السـعيد‪ 16 16.‬وافتتحـت لهـا مكتبـ�ة يف شـارع غـازي (الكفـاح)‪.‬‬
‫لنعـد إىل احلديـث عـن كـراس «حـزب شـيوعي‪ ..‬ال اشتراكية‬
‫ديمقراطيـة» الـذي كان يضعـه فهـد يف فرتة انشـقاق داود الصائغ بالـذات‪ ،‬لما‬
‫لهـذا الكـراس مـن عالقـة بالتطـورات الداخليـة اليت حدثـت يف احلـزب يف تلك‬
‫الفترة ولمـا لـه أيضـا مـن عالقـة حبيـاة احلـزب الراهنـة حيـث ين�اضـل احلـزب‬
‫يف ظرفين أو باألحـرى يف ثالثـة ظـروف مختلفـة تمـام االختلاف تتفـاوت بين‬
‫‪ .15‬صالح احليدري‪ ،‬املذكرات‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ .16‬مذكرات عمر الياس (مخطوطة)‪.‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪258‬‬

‫العلنيـ�ة املشـروطة والسـرية يف أقصى حدودهـا‪ .‬تـرى مـا العالقة بين الضبط‬
‫والديمقراطيـة؟ وهـل الديمقراطيـة معادلـة للرباليـة؟ وهـل يمكـن أن توجـد‬
‫الديمقراطيـة يف ظـروف العمـل السـري القاسـية واإلرهـاب البوليسي؟ ومـا‬
‫املقيـاس يف املركزيـة املطلوبـة يف أيـة منظمـة سياسـية أو اجتماعيـة؟ وكيـف‬
‫يمكـن حتقيـق االنسـيابي�ة املطلوبـة يف العمـل يف النضـال احلـزيب وختطـي‬
‫العقبـات التي يضعهـا اخلصم؟ وباملقابل مـا هي هذه الديمقراطيـة إذا جتردت‬
‫عـن العالقـات الرفاقيـة احلميمـة ومـا تتطلبـه وتولـده مـن ثقـة تعين الرفيـق‬
‫احلـزيب علـى اإلبـداع يف نضالـه؟ ومـا هـو دور الوعـي وصفـاؤه يف خلـق اجلـو‬
‫الديمقراطـي داخـل اخلليـة أو اللجنـة احلزبيـ�ة؟ لقـد عـاد إىل صفـوف احلـزب‬
‫كثير مـن الرفـاق الذيـن انشـقوا عليـه‪ ،‬وعديـد منهـم أبـدع كثيرا يف نضالـه من‬
‫بعـد وتفـاىن فيـه إىل حـد االستشـهاد البطـويل وحبميـة دفاعـا عـن القضيـة‬
‫املشتركة‪ ،‬قضيـة احلـزب‪ ..‬أفال يدل هذا علـى أن ابتعاده يف فترة قبلها لم يكن‬
‫يعكـس جوهـره احلقيقـي وأن من غير الضـروري‪ ،‬واحلق يقال‪ ،‬وصـم اجلميع‬
‫باخليانـة واملـروق؟ وإىل أي حـد كان احلديـث سـليما عـن املثقفين والتحامـل‬
‫عليهـم باسـم الدفـاع عـن اإليديولوجيـا الربوليت�اريـة؟ حنـن نعتقـد أن الكتـاب‬
‫انطـوى علـى كثير مـن التشـدد غير املبرر يف الوقـت الـذي انطـوى علـى حـرص‬
‫مقابـل علـى مصلحة احلـزب‪ .‬وبني هـذا وذاك‪ ،‬البد أن يكون قـد تعرض عديد‬
‫مـن املناضلين إىل أحـكام جائـرة كان يمكـن تداركهـا‪ ،‬وهـذا بالطبـع ال يعني أن‬
‫جميـع الذيـن نشـطوا للتكتـل واالنشـقاق كانـوا مـن هـذا البعـض‪.‬‬
‫وعلـى أيـة حـال‪ ،‬فـإن للرسـالة أهميتهـا السياسـية إىل جانـب أهميتهـا‬
‫الفكريـة والتنظيميـة‪ .‬لقـد أوجـد نشـرها واالنصـراف إىل دراسـتها يف خاليـا‬
‫احلـزب ثقـة كبيرة لـدى رفـاق احلـزب يف القـدرة علـى حتـدي وختطـي العقبـات‬
‫التي أوجدتهـا االنشـقاقات‪ ،‬وعودتهـم علـى خـوض الصراعـات الفكريـة ضـد‬
‫القـوى التي ختالفهـم يف الـرأي‪ ،‬وأوجـدت ترابطـا روحيـا بين القيـادة والقاعـدة‬
‫كان ضروريا يف خوض املعارك الواسـعة التالية‪ ،‬وأبعدت عن الناس املحيطني‬
‫باحلـزب صـورة االنهيـار الـذي انتهى إليه احلـزب يف الثالثين�ات إثـر تعرضه إىل‬
‫الصراعـات الشـخصية يف قيـادة احلـزب‪.‬‬
‫رغـم أن االنشـقاقات والنشـاطات التخريبيـ�ة للكتـل التي انشـقت عن‬
‫احلزب قد اسـتنفدت منه كثريا من اجلهد‪ ،‬إال أن العوامل املوضوعية النتشـار‬
‫الفكـر الشـيوعي وتعاظـم االسـتعداد لـدى اجلماهير الواسـعة لالخنـراط يف‬
‫النضـال ضـد املسـتعمرين وأعوانهـم احلـكام الرجعيين‪ ،‬السـيما بين العمـال‬
‫والطلبـة‪ ،‬قـد أوجدت وضعا أفضل لنضـال احلزب‪ ،‬وملد نفـوذه بني اجلماهري‪.‬‬
‫وكان يتضـح أكثر فأكثر أن انتهـاء احلـرب‪ ،‬والـذي كان يبـ�دو وشـيكا‪ ،‬سـيضع‬
‫‪259‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫البالد أمام وضع جديد يتطلب الدراسـة اجليدة ورسـم السياسات الضرورية‬
‫وتعيين األهـداف بدقـة‪ ،‬وأنه سـيضع احلزب الشـيوعي بوجه خـاص والقوى‬
‫الوطنيـ�ة عامـة أمـام وضـع يتطلـب التأهـب يف كل امليادين‪.‬‬
‫ثـم إن هـذه االنشـقاقات املتت�اليـة وضعت احلـزب وقيادته أمـام اختب�ار‬
‫جـدي‪ ،‬وأثـارت احلميـة لدى أعضـاء احلـزب وكادره للذود عنـه‪ ،‬وحفزتهم على‬
‫التماسـك‪ ،‬ويف ذات الوقـت حفزتهـم إىل السـعي لكسـب دمـاء جديـدة للحزب‬
‫السـيما بين العمـال الذيـن شـرعوا يتحركـون آنـذاك‪ ،‬السـيما يف املشـاريع‬
‫الكبيرة‪ ،‬ودفعتهـم إىل مضاعفـة اجلهـد للتعويـض عمـا حلـق باحلـزب مـن‬
‫خسـائر جـراء هـذه االنشـقاقات‪ .‬زد علـى ذلـك‪ ،‬فـإن نضـال احلـزب الفكـري‪،‬‬
‫والتوضيحـات التي قدمهـا قائـد احلـزب لتوضيـح خطـه السـيايس‪ ،‬ومحاولته‬
‫إعطـاء تفسير نظـري لمـا حـدث يف صفـوف احلـزب‪ ،‬زادت جميعها مـن الوعي‬
‫السـيايس ملناظليـه وألعـداد واسـعة مـن الشـبيب�ة التي كانـت تقبـل علـى‬
‫االنضـواء حتـت رايتـ�ه‪.‬‬
‫ويبـ�دو أن قيـادة احلـزب قـد توصلـت إىل أن الظـروف باتـت ملحة لعقد‬
‫مؤتمـر حـزيب‪ .‬فمـن جانـب أصبحـت صفـوف احلـزب أكثر جتانسـا وتماسـكا‪،‬‬
‫وباتـت أوضـاع البلاد العامـة تتطلـب حتديـدا أشـمل وأدق يف األهـداف‬
‫والسياسـات‪ ،‬وطالمـا كان مـن املؤمـول أن تتوسـع صفـوف احلـزب مع اتسـاع‬
‫هيبـ�ة االشتراكية يف العالـم مـع تـوايل انتصـارات اجليـش السـوفييت صـار من‬
‫الضـروري أن توضـح أكثر اخلطـوط التي يبنى عليهـا احلـزب‪ ،‬لذلـك قـررت‬
‫قيـادة احلـزب عقـد كونفرنـس للحـزب ينهـض بهـذه املهمـات أوال وليكـون‬
‫ممهـدا لعقـد املؤتمـر الوطني للحـزب يف فترة قريبـ�ة تاليـة‪.‬‬
‫انعقـد الكونفرنـس األول يف أوائـل آذار ‪ 1944‬يف دار عامـل السـكك‬
‫علـي الرتكـي يف محلـة الشـيخ عمـر‪ ،‬وحضـره ثمانيـ�ة عشـر رفيقـا‪ 17 17.‬ويالحـظ‬
‫مـن أسـماء احلاضريـن أن الكونفرنـس ضـم املدعويـن مـن املنظمـات احلزبي�ة‬
‫األساسـية التي التفـت حـول قيـادة الرفيـق فهـد وهـي منظمـات بغـداد‬
‫والبصـرة والعمـارة والناصريـة والنجـف وعمال السـكك واألرمـن‪ .‬افتتح فهد‬

‫‪ .17‬حضــر الكونفرنــس كل مــن يوســف ســلمان يوســف‪ ،‬وزكــي محمــد بســيم‪ ،‬وحســن‬
‫محمــد الشــبييب‪ ،‬وأحمــد عبــاس (عبــد تمــر)‪ ،‬وكريكــور بدروســيان‪ ،‬وســايم نــادر‪ ،‬وعبــد‬
‫الوهــاب عبــد الــرزاق‪ ،‬وظافــر صالــح دوكا‪ ،‬وحســن طــه‪ ،‬ومحمــد علــي الشــبييب‪ ،‬ومرتــى‬
‫فــرج هللا‪ ،‬ومحمــد علــي خضــر‪ ،‬وداود ســلمان يوســف‪ ،‬وحميــد مجيــد دبــة‪ ،‬ومــا شــريف‬
‫عثمــان‪ ،‬ومالــك ســيف‪ ،‬ومــوىس محمــد نــور‪ ،‬وســتيفان ســراكيان‪ .‬وحســقيل ابراهيــم‬
‫صديــق ني�ابــة عــن يهــودا ابراهيــم صديــق‪ .‬واســتثنيت أمين ـ�ة الرحــال ألغــراض الصيانــة‪.‬‬
‫ولــم حيضــر يهــودا ابراهيــم صديــق (عضــو اللجنــة املركزيــة) ألســباب عائليــة‪.‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪260‬‬

‫الكونفرنـس بتقريـر أعده حـول الوضع السـيايس بعنـوان (قضيتنـ�ا الوطني�ة)‬


‫تنـ�اول فيـه االنعكاسـات املحتملـة لهزيمـة قـوى املحـور الفـايش والتي كانـت‬
‫تلـوح يف األفـق آنـذاك‪ ،‬علـى العالـم وعلـى العـراق بوجـه خـاص‪ .‬والحـظ‪ ،‬عـن‬
‫حـق‪« ،‬أن الشـعوب يف العالـم لـم تعـد ترىض لنفسـها االسـتمرار علـى العيش‬
‫وفـق النسـق القديـم»‪ ،‬وهـذا ما حـدث بالفعـل‪ ،‬إذ هبت الشـعوب يف كل مكان‬
‫وأجـرت تغيرات كبيرة يف خارطـة العالـم السياسـية‪ .‬ودعـا القـوى الواعية من‬
‫الشـعب العـرايق إىل اإلسـراع يف تنظيـم اجلماهير للمطالبـة حبق تقريـر املصري‪.‬‬
‫وحتـدث عـن وضـع البلاد الداخلـي والحـظ أن العـراق كان ذليلا لربيطانيـ�ا‬
‫يف سياسـته اخلارجيـة‪ ،‬أمـا يف سياسـته الداخليـة فإنـه يسير وفـق مـا تمليـه‬
‫مصلحـة اإلمربياليـة‪ ،‬ودسـتوره معطـل وال أثـر للتمثيـ�ل الشـعيب وال يملك من‬
‫الديمقراطيـة سـوى اسـمها‪ .‬وعـرض يف التقرير أسـاليب النهب اليت يمارسـها‬
‫االسـتعمار والعوامـل التي تعرقـل التصنيـع‪ ،‬وأدان االسـتغالل الـذي ينصـب‬
‫علـى الفلاح جـراء العالقـات شـبه اإلقطاعية السـائدة يف الريـف‪ .‬وحتدث عن‬
‫نمـو الطبقـة العاملـة واتسـاع نضاالتهـا وشـدد علـى أهميـة نضـال العمال من‬
‫أجـل حقوقهـم الديمقراطيـة‪ ،‬وضـرورة ربط نضالهـم من أجل التنظيـم النقايب‬
‫بالنضـال الشـعيب العـام مـن أجـل الديمقراطيـة‪ ،‬وأكـد أهميـة النضـال ضـد‬
‫الغلاء ومـن أجـل حتسين األحـوال املعاشـية للشـعب‪.‬‬
‫وقـدم زكي محمد بسـيم (حـازم) تقريرا حول العمل بني الشـباب‪ ،‬ونب�ه‬
‫إىل أن قاعـدة احلـزب تت�ألـف مـن الشـبيب�ة العماليـة والطالبيـ�ة‪ ،‬وأن الطلبـة‬
‫بصفتهـم أكثر فئـات املجتمـع جتمعـا ودين�اميكية وثقافـة فإنهـم املؤهلني لنقل‬
‫األفـكار الثوريـة للعمـال‪ ،‬ومـن هنا تـأيت أهمية جرهـم إىل النضـال‪ ،‬وحتدث عن‬
‫اسـتخدام اللجـان الثقافيـة واالجتماعيـة يف الكليـات واملـدارس الثانويـة مـن‬
‫أجـل جـر الطلاب إىل العمـل السـيايس‪ .‬كذلـك حتـدث عـن أهميـة نشـر الـروح‬
‫الثقافيـة والنقـد العلمي وحريـة الفكـر وتطويـر الـروح الوطنيـ�ة بين الطلبـة‬
‫وتطويـر عالقاتهـم الثقافيـة مـع طلبـة البلـدان العربيـ�ة الشـقيقة والشـبي�ه‬
‫الديمقراطيـة العامليـة‪.‬‬
‫وتنـ�اول حسين محمد الشـبييب يف تقرير قدمـه إىل الكونفرنس موضوع‬
‫التثقيـف احلـزيب وأهمية التسـلح بالنظريـة الماركسـية ‪ -‬اللينينيـ�ة‪ ،‬ودعا إىل‬
‫أهميـة االرتقـاء بالتثقيـف احلـزيب الماركيس يف اخلاليـا احلزبيـ�ة وأهمية توفري‬
‫املصـادر الماركسـية باللغـة العربيـ�ة‪ ،‬ودعـا إىل ضـرورة إعـداد دراسـات عراقية‬
‫عـن مشـاكل البالد ىف ضـوء النظريـة الماركسـية ‪ -‬اللينيني�ة‪.‬‬
‫ناقـش الكونفرنـس‪ ،‬بعـد اسـتماعه إىل التقاريـر الثالثـة وتدقيقهـا‪،‬‬
‫مسـودة (امليثـ�اق الوطني) التي وضعهـا فهـد وبعـد التـداول فيهـا أقرهـا‪ .‬وقـد‬
‫‪261‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫غطـى امليثـ�اق املطالـب امللحة التي ين�اضل الشـعب لتحقيقها يف تلـك املرحلة‪.‬‬
‫وبهـذا املعنى لـم يكـن برنامجـا شـامال للحـزب الشـيوعي بل ولـم يغـط أهدافه‬
‫الشـاملة للمرحلـة الديمقراطيـة‪ .‬ويف تقديرنـا أنـه لـم يكـن يسيرا أن ينبري‬
‫احلـزب إىل معاملـة مهمات كبرية كهذه‪ ،‬وقد صيغت مـواده بلغة عامة يعوزها‬
‫التحديـد والتدقيـق‪ ،‬ويبـ�دو أنهـا لـم تسـتن�د إىل دراسـات معمقـة‪ ،‬إذ لـم تكـن‬
‫ظـروف احلـزب يومهـا‪ ،‬الذاتيـ�ة أو املحيطـة‪ ،‬تسـاعد يف إجـراء دراسـات كهذه‪.‬‬
‫فقـد جتنـب امليثـ�اق النظـر ىف بعـض القضايـا األساسـية التي تواجـه االقتصاد‬
‫الوطني مثـل املوقـف مـن امتيـ�ازات النفـط واحلاجـة إىل إعـادة النظـر فيهـا‪ ،‬أو‬
‫حتى تأكيـد املطالبـة بتنفيـذ بنودها كاملـة‪ .‬ويف املسـألة الزراعية صـاغ مطالبه‬
‫وفق أسـس ينـ�درج بعضها يف إطـار النضال لتنمية االقتصـاد الوطين كمحاربة‬
‫العوامـل التي تؤخر تطـور الزراعة ولكـن دون أن يدخل يف حتديد هـذه العوامل‪،‬‬
‫والنضـال إللغـاء احتـكار الشـركات األجنبي�ة علـى املنتجات الزراعيـة‪ .‬وين�درج‬
‫بعضهـا يف صلـب املشـكلة الزراعيـة‪ ،‬ونعين بها ملكيـة األرض وما يتفـرع منها‪.‬‬
‫وقـد حـدد احلـزب مطالبـه بشـأنها يف النضـال لوقـف نهـب أرايض الفالحين‬
‫واملالكين الصغـار وإيقـاف نهـب األرايض األمرييـة بـأي لـون كان‪ ،‬وتوزيـع‬
‫األرايض علـى الفالحين مباشـرة بقطع صغيرة وبدون بـدل‪ ،‬وتزويد الفالحني‬
‫بالقـروض والبـذور‪ ،‬وإلغـاء الضرائـب واخلـاوات التي يفرضهـا الشـيوخ‬
‫والسـراكيل‪ ،‬وأخيرا دعـا إىل تأسـيس التعاونيـ�ات الزراعيـة بين الفالحين‪.‬‬
‫وقـد ختطـى احلـزب بربنامجه الزراعي هـذا آنذاك برامج جميـع األحزاب‬
‫السياسـية األخـرى علـى اختلاف فلسـفاتها التي إمـا لـم حتـدد موقفـا واضحـا‬
‫ومحـددا مـن مسـألة نهب األرايض الزراعيـة األمريية بصـورة تفويض بالطابو‬
‫أو منـح باللزمـة‪ ،‬أو حتى باإلجـارة املباشـرة كمـا هـو األمـر مـع أرايض العمـارة‬
‫ومـا يماثلهـا‪ .‬وكذلـك لـم يتحـدث بعضهـا عـن توزيـع األرايض الزراعيـة علـى‬
‫الفالحين‪ ،‬أو يف أفضـل األحـوال دعـت إىل توزيـع األرايض املسـتصلحة أو‬
‫األمرييـة املغرقـة بقطـع صغيرة علـى الفالحين‪.‬‬
‫ولـم يذهـب بشـأن العمـال إىل أبعـد مـن تطبيـق احلقـوق التي جـاء بهـا‬
‫قانـون العمـال واملطالبـة بضمـان اجتماعـي ضـد البطالـة والشـيخوخة‪ .‬ودعـا‬
‫إىل ختفيـف الضرائـب عـن كاهـل ذوي الدخـل الصغير وختفيـف الضرائـب غري‬
‫املباشـرة عـن الشـعب‪ ،‬وإعفـاء احلرفيين وأصحـاب احلوانيـت عـن رسـوم‬
‫البلديـات‪.‬‬
‫ونـادى بتوسـيع التعليـم والنهـوض بـه‪ ،‬وإىل النهـوض بأوضـاع املـرأة‪،‬‬
‫ودعـا إىل مسـاواتها بالرجـل ىف احلقوق السياسـية واالجتماعيـة واالقتصادية‪.‬‬
‫وطالـب امليثـ�اق الوطني ىف إحـدى مـواده باالعتنـ�اء باجلنـدي املكلـف‪ ،‬بصحته‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪262‬‬

‫وتغذيتـ�ه وتثقيفـه وتربيتـ�ه تربيـ�ة وطني�ة‪ ،‬والكـف عن التعامل معه بأسـاليب‬


‫غير ديمقراطيـة‪ ،‬ودعـا إىل تنظيـف اجليـش مـن العناصـر الرجعيـة واملعاديـة‬
‫للمصالـح الوطني�ة‪.‬‬
‫وكـرس ثلاث مـواد‪ ،‬وبتفصيـل أكبر عـن العالقـات مـا بين الشـعوب‬
‫العربي�ة‪ ،‬ونادى بالعمل من أجل اسـتقالل البلدان العربي�ة املسـتعمرة واملحمية‬
‫وىف مقدمتها فلسـطني‪ ،‬وبالسـعي الستكمال اسـتقالل العراق وسوريا ولبن�ان‬
‫ومصـر‪ ،‬ودعـا إىل النضـال ضـد الصهيونيـ�ة‪ ،‬وإىل العمـل مـن أجـل التعـاون‬
‫االجتماعـي بين الشـعوب العربيـ�ة ومنظماتهـا الشـعبي�ة‪ ،‬وتوحيـد جهودهـا‬
‫للنهـوض حبياتهـا االقتصاديـة والثقافيـة واالجتماعيـة‪ ،‬وإىل رفـع احلواجـز‬
‫الكمركيـة‪ ،‬وتسـهيل التبـ�ادل التجـاري‪.‬‬
‫وتن�اول مسألة املساواة القومية ىف داخل البالد وقال‪:‬‬

‫«سـنن�اضل يف سـبي�ل إجيـاد مسـاواة حقيقيـة يف احلقـوق لألقليـة‬


‫القوميـة الكرديـة مـع مراعـاة حقـوق اجلماعـات القومية واجلنسـية‬
‫الصغيرة كالرتكمـان واألرمـن والزييديـة»‪.‬‬

‫سـنتوقف عنـد هـذا الشـعار قليلا ألنـه أثـار كثيرا مـن النقـد مـن بعـد‬
‫السـيما بين املثقفين األكـراد‪ ،‬وألننـ�ا نريـد منـه مدخلا للحديـث عـن املسـألة‬
‫التي طرحناهـا قبـل قليـل‪ ،‬ونقصـد بهـا الصياغـة العموميـة وغير املحـددة‬
‫لبعـض أهدافـه التي أوردهـا يف امليثـ�اق الوطني‪ .‬لنت�ذكـر أوال أن احلـزب‬
‫الشـيوعي العـرايق كان أول حـزب سـيايس يف العـراق يطـرح حـق تقريـر املصير‬
‫للشـعب الكـردي‪ ،‬بوصفـه قوميـة متميزة لهـا كل احلـق ىف تقريـر مصريهـا‬
‫بنفسـها وكان ذلـك علـى صفحـات (كفـاح الشـعب) يف عـام ‪ 1935‬كمـا رأينـ�ا‬
‫يف الفصـل السـابع‪ .‬وهـو يف هـذا الشـأن سـبق حتى القـوى القوميـة الكرديـة‪،‬‬
‫وحتى املثقفين األكراد‪ .‬ولو عدنا إىل الشـعارات السياسـية التي رفعتها القوى‬
‫السياسـية مـن بعـد‪ ،‬علـى اختالفهـا‪ ،‬فلـن جنـد مـن جتـرأ إىل أن يشير إىل حـق‬
‫الشـعب الكـردي يف تقريـر مصيره‪ ،‬وأن أبعـد مـا ذهبـت إليـه هـذه القـوى ىف‬
‫األربعينـ�ات هـو املطالبـة باملسـاواة‪ ،‬وأحيانـا مسـاواة يف حدود ضيقـة كالتعليم‬
‫أو اسـتخدام اللغـة الكرديـة يف الدوائـر احلكوميـة واملـدارس أو تعمير األلويـة‬
‫الكرديـة أو شـمول املنطقـة بكاملهـا ببطاقـات التمويـن‪ ..‬الـخ‪ 18 18.‬واحلـركات‬

‫‪ .18‬يقــول منهــج احلــزب الوطــي الديمقراطــي يف هــذا الشــأن‪« :‬إن الوطــن العــرايق ميــدان‬
‫للتعــاون احلــر علــى أســاس املصلحــة املشــركة بــن العــرب واألكــراد وغريهــم مــن العناصــر‬
‫الــي يتكــون منهــا العراقيــون‪ ،‬حيــرم كل منهــا اآلخــر يف جــو تســوده احلريــة واملســاواة‬
‫‪263‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫القوميـة الكرديـة سـواء تلـك التي اختذت صيغـة تنظيمـات قومية مثـل حزب‬
‫(هيـوا) أو حتـركات مسـلحة كاحلركـة البارزانيـ�ة‪ ..‬لـم تذهـب كثيرا يف التعبير‬
‫عـن األحاسـيس القوميـة للشـعب الكـردي‪ ،‬وظلـت حتصـر نفسـها باملطالـب‬
‫اإلصالحيـة‪ ،‬وظلـت تتخلـف وراء شـعار احلـزب الشـيوعي العـرايق الداعـي‬
‫إىل حـق تقريـر املصير‪ -‬إن فهـم اجلماهير ووعيهـا السـيايس للقضيـة آنـذاك‪،‬‬
‫واسـتعدادها النضـايل‪ ،‬مـا كان يذهـب إىل أبعـد وأشـمل يف حتديـد املوقـف مـن‬
‫هـذه القضيـة‪ .‬وكان يتطلـب االرتقـاء بالوعـي السـيايس مـن خلال النضـال‬
‫الفعلـي السـتيعاب مـا هـو أعلـى‪.‬‬
‫وقـد دخـل اإلجنليز‪ ،‬واألمريـكان مـن بعـد‪ ،‬يف املعمعـة‪ ،‬وشـرعوا يقيمون‬
‫الصلات مـع هـذا أو ذاك مـن زعمـاء العشـائر الكرديـة والساسـة األكـراد مـن‬
‫أجـل اسـتخدام القضيـة الكرديـة وتوجيههـا الوجهـة التي ختـدم سياسـاتهم‬
‫ومشـاريعهم يف املرحلـة املعينـ�ة يف العـراق أو يف املنطقـة ككل‪ .‬وكانـوا يف كل مـرة‬
‫يلجـأن إىل ضـرب تلـك احلركات اليت أسـهموا هم ذاتهـم يف إثارتها كلمـا بدا لهم‬
‫أن مصلحتهـم املنشـودة قـد حتققـت وأن لهـم أن ينفضـوا أيديهـم منهـا‪ ،‬ولـم‬
‫يترددوا حتى عـن اسـتخدام طائراتهـم العسـكرية لهـذا الغـرض‪.‬‬
‫وكان يتعني على احلزب الشـيوعي العرايق أن يتصدى لهذه التدخالت‪.‬‬
‫وقـد اسـتنكر ىف بيـ�ان معـروف لـه صـدر يف عـام ‪ 1945‬الـدور الربيطـاين يف‬
‫قمـع احلركـة البارزانيـ�ة ومشـاركة الطائـرات الربيطانيـ�ة يف عمليـات التنكيـل‬
‫العسـكرية‪ ،‬واسـتنكر املجـزرة البشـرية التي تعـرض لهـا البارزانيـون‪ ،‬وطالب‬
‫بوقفهـا وبإطلاق سـراح املعتقلين وتلبيـ�ة مطالـب احلركـة والتحقيـق يف‬
‫الدسـائس التي دبـرت للتنكيـل بالبارزانين‪ .‬لكـن البيـ�ان لـم يتوقـف بعمـق‬

‫والعــدل» (مذكــرات كامــل اجلــادريج وتاريــخ احلــزب الوطــي الديمقراطــي‪ ،‬دار الطليعــة‪،‬‬
‫بــروت‪ ،‬الطبعــة األوىل‪ ،1970 ،‬ص ‪ .)97‬ويف منهــاج حــزب االحتــاد الوطــي (عبــد الفتــاح‬
‫ابراهيــم وجماعتــه) جــاء يف المــادة الرابعــة املعدلــة يف املؤتمــر الثــاين للحــزب‪« :‬حتقيــق‬
‫املســاواة بــن جميــع العراقيــن يف حقــوق املواطنــة وواجباتهــا مــن غــر تميــز يف القوميــة‬
‫والديــن واملذهــب‪ ،‬وتوســيع املجــال ألن يمــارس الشــعب الكــردي يف العــراق حقوقــه‬
‫القوميــة يف اإلدارة املحليــة والتعليــم وإحيــاء لغتــه وســائر خصائصــه القوميــة مــن دون‬
‫إخــال بســامة الوحــدة العراقيــة (جريــدة صــوت السياســة‪ ،‬العــد ‪ 29 ،87‬آذار ‪،1947‬‬
‫نقــا عــن جعفــر عبــاس حميــدي‪ ،‬التطــورات السياســية يف العــراق‪ ،‬مطبعــة النعمــان‪،‬‬
‫النجــف‪ ، 1975 ،‬ص ‪ .)296‬أمــا حــزب الشــعب وجريدتــه الوطــن (عزيــز شــريف‬
‫وجماعتــه‪ ،‬فقــد جــاء يف المــادة الثانيـ�ة مــن أهدافــه والــي تن�اولــت احلريــات الديمقراطيــة‬
‫جــاء قولــه‪« :‬باملســاواة التامــة بــن القوميــات واجلماعــات الــي يت�ألــف منهــا الشــعب‬
‫العــرايق» ولــم يذهــب عزيــز شــريف إىل حــق تقريــر املصــر إال بعــد أن حتــول للعمــل الســري‬
‫يف كراســه الــذي أصــدره عــام ‪.1950‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪264‬‬

‫للكشـف عـن دالالت احلركـة القوميـة برغـم طابعهـا العشـائري‪ .‬وسـنالحظ‬


‫عنـد احلديـث عـن املؤتمـر الوطني أن فهـد نبـ�ه إىل التحـركات األمريكيـة يف‬
‫املنطقـة الكرديـة‪.‬‬
‫ويف نيسـان مـن عـام ‪ ،1945‬نشـرت (القاعـدة) نـداء من فهـد يدعو فيه‬
‫املناضلين األكـراد إىل تأسـيس حـزب كـردى جماهريي تقديم جـاء فيه‪:‬‬

‫«أيهـا املواطنـون الواعـون مـن كافـة طبقـات الشـعب الكـردي‪ ،‬إن‬


‫قضيـة شـعبكم أمانـة يف عنقكـم‪ ،‬فـأدوا األمانـة جتـاه شـعبكم الـذي‬
‫أجنبكـم‪ .‬قـودوه إىل السـبي�ل املؤديـة إىل خالصـه مـن الوضـع السيئ‬
‫الـذي هـو فيه‪ .‬ألفوا املنظمة الشـعبي�ة الكردية بشـكل يتفق وظروف‬
‫الشـعب الكـردي‪ ،‬منظمـة ختـدم مصاحلـه‪ ،‬اعملـوا وسـتجدون مـن‬
‫حزبنـ�ا كل تأييـ�د ومسـاعدة»‬

‫وبعد شهر قالت (القاعدة) يف تشرين الثاين ‪:1945‬‬

‫«إن حـق تقريـر املصير لـكل أمـة وقوميـة مـن املبـادئ واألهـداف‬
‫لألحـزاب الشـيوعية يف العالـم أجمـع بمـا فيهـا احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق‪ .‬إن حزبنـ�ا الشـيوعي العـرايق‪ ،‬حـزب العمـال والفالحين‪،‬‬
‫حـزب جماهير شـعبن�ا العـرايق بأسـره‪ ،‬ين�اضـل يف سـبي�ل مصالـح‬
‫جماهير الشـعب كافـة مـن أجـل حريـة اجلميـع‪ ،‬وبهـذا يضمـن‬
‫للشـعب الكـردي وجلماهيره الكادحـة التنظيمـات الضروريـة التي‬
‫تمكنـه مـن تبيـ�ان رأيـه ىف البقـاء االختيـ�اري أو االنفصـال متى تـم‬
‫للعـراق حتـرره مـن ريقـة االسـتعمار أو عنـد ظـروف تالئـم الشـعب‬
‫الكـردي وىف مصلحـة جماهيره الكادحـة» (التأكيـد مـن عندنـا ‪-‬‬
‫املؤلـف)‪.‬‬

‫أمـا وصـف األكـراد باألقليـة القوميـة يف امليثـ�اق الوطني والـذي أثـار‬


‫حساسـية القوميين األكـراد‪ ،‬فنحسـب أنـه لـم يكـن يـراد منـه االنتقـاص مـن‬
‫أهميـة القوميـة الكرديـة‪ ،‬وإنمـا اإلشـارة فقـط إىل القيمـة احلسـابي�ة ال أكرث‪ ،‬إذ‬
‫كانـت اإلحصـاءات الرسـمية تقـدر السـكان األكـراد حبـدود ‪ 793‬ألـف نسـمة‬
‫مـن مجمـوع أربعـة ماليين و ‪ 675‬ألـف نسـمة يف عـام ‪ ،1945‬أي أن نسـبتهم‬
‫إىل مجمـوع سـكان البلاد كانـت ال تزيـد عـن ‪ % 17‬فقط‪ 19 19 .‬وقـد عاتب صالح‬

‫‪ .19‬د‪ .‬محمد سلمان حسن‪ ،‬التطور االقتصادي يف العراق‪ ،‬جدول رقم ‪ ،5‬ص ‪.59‬‬
‫‪265‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫احليـدري فهـدا حني التقـاه يف عام ‪ 1946‬علـى وصف األكـراد باألقلية وطالبه‬
‫بتعديـل األمـر‪ ،‬فأجابه‪:‬‬

‫«يمكنكـم أن تثقـوا بالـذي ترونـه هـو األدق حىت ينعقـد املؤتمر الثاين‬
‫‪20 20‬‬
‫ليعـدل الصياغـة ألن األمـر مـن حقوقـه هـو»‪.‬‬

‫وعلـى أيـة حـال‪ ،‬عـاد احلـزب ودقـق صياغتـه يف هـذه املسـألة‪ .‬ففـي‬
‫املقدمـة التي صـدر بهـا الطبعـة الكرديـة ملنهـاج حـزب التحـرر الوطني الـذي‬
‫قدمتـه الهيئ�ة املؤسسـة للحـزب إىل احلكومـة يف ‪ 22/9/1945‬لنيـ�ل اإلجازة‬
‫الرسـمية جـاء ‪« 21 21‬يعطـي حزبنـ�ا األهميـة العظمى لبلـوغ شـعبن�ا إىل أهدافـه‬
‫التحرريـة ‪ -‬ىف جبهـة وطنيـ�ة أساسـها الصداقـة العربي�ة ‪ -‬الكرديـة والطوائف‬
‫واألجنـاس التي يت�ألـف منهـا شـعبن�ا العـرايق‪ ،‬صداقـة تقـوم علـى أسـاس‬
‫التسـاوي التـام يف احلقـوق واحترام وتعـاون متقابـل يف مياديـن احليـاة كافة‪ ،‬إذ‬
‫ال يمكـن أن تقـوم جبهـة وطنيـ�ة صحيحـة دون وحـدة الهـدف ووحـدة النضال‬
‫للشـعب العـرايق وخصوصـا لقوميتيـ�ه الرئيسـيتني‪ ،‬العربي�ة والكرديـة‪ ،‬اللتني‬
‫اتفقـت مصاحلهمـا التحرريـة واللتين ال يمكـن إلحداهمـا بلـوغ أهدافهـا‬
‫االجتماعيـة ‪ -‬العمرانيـ�ة دون تعـاون أخـوى مشترك‪.‬‬
‫إن حزبنـ�ا‪ ،‬حـزب التحـرر الوطني‪ ،‬خيتلف اختالفـا جوهريا عـن األحزاب‬
‫الوطنيـ�ة القديمـة ىف أمريـن جوهريني‪ ،‬أولهمـا اعتماده علـى الصداقة العربي�ة‬
‫‪ -‬الكرديـة كأسـاس للحركـة الوطنيـ�ة التحرريـة عندنـا‪ ،‬صداقـة تقـوم علـى‬
‫اعتراف بالتسـاوي التـام يف احلقـوق وعلـى إلـزام القوميـة الكبيرة علـى إخـراج‬
‫هـذا االعتراف مـن حيز النظريـة إىل ميـدان التطبيـق والتحقيـق‪ .‬وثانيهمـا أن‬
‫حزبنـ�ا يعتمـد ىف حتقيـق أهدافـه علـى نضـال اجلماهير الشـعبي�ة وىف مقدمتهـا‬
‫العمـال والفالحـون ومثقفـو الشـعب»‪.‬‬
‫وإىل نفـس الشيء ذهـب منهاج حـزب التحـرر الوطين ذاتـه‪ .‬فقد نصت‬
‫مادتـه الرابعة حتـت عنوان الوحـدة الوطني�ة‪:‬‬

‫«ويعمـل حزبنـ�ا من أجـل تثبيت الوحدة الوطني�ة بين جميع طبقات‬

‫‪ .20‬نقــا عــن مــام قــادر‪ ،‬أحــد املناضلــن القــداىم املعروفــن يف أربيـ�ل (مــن حديــث جــرى‬
‫بيـ�ه وبــن املؤلــف يف حزيــران ‪.)1999‬‬
‫‪ .21‬مــن الرســالة الثالثــة لرســائل التحــرر الــي كانــت تصــدر يف خريــف ‪ 1945‬بعنــوان‪:‬‬
‫التحــرر‪ .‬رســائل التحــرر الوطــي والثقافــة الواعيــة‪ ،‬وكانــت تصدرهــا الهيئــ�ة املؤسســة‬
‫حلــزب التحــرر الوطــي يف صــورة مجلــة‪.‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪266‬‬

‫الشـعب وأقسـامه التي يهمهـا اسـتقالل العـراق وتقدمـه وانتصـار‬


‫النظـام الديمقراطـي فيـه‪ ،‬ويـرى حزبنـ�ا أن حجـر الزاويـة لبنـ�اء هـذه‬
‫الوحـدة هـو الصداقـة واألخـوة بين القوميتين الرئيسـيتني التي‬
‫يت�ألـف منهمـا الشـعب العـرايق‪ ،‬بني العـرب واألكراد‪ ،‬صداقـة مبني�ة‬
‫علـى أسـاس االحترام املتبـ�ادل واملسـاواة التامـة يف جميـع احلقـوق‬
‫‪22 22‬‬
‫السياسـية والثقافيـة واالقتصاديـة دون تمييز أو حتديـد»‪.‬‬

‫بعـد أن انفـض الكونفرنـس األول وأصـدر امليثـ�اق الوطني الـذي حـدد‬


‫األهـداف امللحـة التي ين�اضل احلزب مـن أجلها‪ ،‬انطلق احلزب بنشـاط للعمل‬
‫بين اجلماهير‪ ،‬وجـاءت انتصـارات اجليـش السـوفييت وزحفـه حنو الغـرب من‬
‫عـم‬
‫الـذي ً‬‫أجـل القضـاء علـى قـوى الفاشـية وهـي يف عقـر دارهـا لتعـزز امليـل ً‬
‫أوسـاطا واسـعة مـن الشـبيب�ة املتعلمـة بين الطلاب والعمـال‪ ،‬عربـا وكـردا‬
‫ومـن االنتمـاءات القوميـة األخـرى‪ ،‬للتوجـه حنـو الديمقراطيـة‪ ،‬واالسـتعداد‬
‫اجلماهيري للعمـل احلـزيب والتنظيـم النقـايب‪ .‬وقـد عـزز معنويـات اجلماهير‬
‫وثقتهـا بالنضال املكاسـب السياسـية األوليـة اليت حققتها يف ذلـك العام‪ .‬ففي‬
‫‪ 25‬أب ‪ 1944‬أقيمت العالقات الدبلوماسـية بني العراق واالحتاد السـوفييت‪.‬‬
‫وبعـد شـهر مـن ذلـك اسـتطاع عمال السـكك أن حيصلـوا على حقهـم يف العمل‬
‫النقـايب ويعقـدوا مؤتمرهـم يف تشـرين الثـاين ‪ .1944‬وقـد انعكسـت هـذه‬
‫النجاحـات األوليـة علـى حيـاة احلـزب ذاتـه‪ .‬فقـد نمـت صفوفـه السـيما بين‬
‫العمـال والطلاب‪ ،‬واقيمـت لـه صلات أوليـة مـع الفالحين وركائـز يف بعـض‬
‫القـرى‪ ،‬وكذلـك بعـض العسـكريني‪ ،‬ومـر العـام دون أن يعكـر نضـال احلـزب‬
‫مشـاكل داخليـة جديـة‪ .‬لهـذه األسـباب كلهـا وبغيـة تعزيـز مواقـع احلـزب‬
‫واسـتكمال اسـتعداده ملرحلـة مـا بعد احلـرب‪ ،‬وما يقترن بها من توسـع منتظر‬
‫يف اندفـاع اجلماهير للعمل السـيايس‪ ،‬قررت قيادة احلزب عقـد املؤتمر الوطين‬
‫األول للحـزب‪ .‬وهـذا مـا تـم يف أذار ‪.1945‬‬
‫ففـي ذلـك الشـهر‪ ،‬انعقـد يف بيـت يهـودا ابراهيـم صديـق يف الصاحليـة‬
‫(الكـرخ) يف بغـداد املؤتمـر الوطين األول للحزب الشـيوعي العرايق‪ .‬وقد حضره‬
‫سـبعة وعشـرون مندوبـا يمثلـون مختلـف املنظمـات احلزبيـ�ة العاملـة يف ذلك‬
‫احلين‪ ،‬أي بزيـادة تسـعة مندوبين عـن أولئـك الذيـن حضـروا الكونفرنـس‬
‫األول قبـل عـام‪ -‬وقـد شـارك فيـه إىل جانـب املنظمـات السـابقة التي بعثـت‬
‫بمندوبيهـا إىل الكونفرنـس‪ ،‬مندوبـون عـن املنظمـة احلزبيـ�ة لعمـال السـكك‪،‬‬
‫وعـن املنظمـة احلزبيـ�ة يف اجليـش واملنظمـة احلزبيـ�ة يف (املسـيب)‪.‬‬

‫‪ .22‬زكي خريي وسعاد خريي‪ ،‬تاريخ احلزب الشيوعي العرايق‪ ،1984 ،‬ص ‪.115‬‬
‫‪267‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫تركـزت أعمـال املؤتمـر الوطين علـى التنظيـم‪ ،‬والنقاش إلقـرار (النظام‬


‫الداخلـي) للحزب‪ ،‬ولذلك أطلق عليه اسـم «مؤتمـر التنظيم» وقد جرى حتت‬
‫شـعار «قـووا تنظيـم حزبكـم – قـووا تنظيـم احلركـة الوطنيـ�ة»‪ .‬وقـد اسـتهل‬
‫املؤتمـر فهـد بقـراءة تقريـر أعـده للمؤتمـر اسـتعرض فيـه أهـم مـا حـدث خالل‬
‫العـام الـذي أعقـب الكونفرنـس األول‪ ،‬وشـدد فيـه علـى أن املهمـة التي تواجـه‬
‫الشـعب اآلن هـي السـعي مـن أجـل تنظيـم الطالئـع الواعيـة مـن الشـعب يف‬
‫منظمـات حزبيـ�ة ونقابيـ�ة وأكـد أن االسـتعمار لـم يسـتطع أن يفـرض هيمنت�ه‬
‫علـى البلاد إال بعـد أن حطـم «جميـع أشـكال التنظيمـات املعنيـ�ة وبصـورة‬
‫خاصـة تنظيمـات الطبقـة العاملة‪ ،‬وتركها دون سلاح تدافع به عن نفسـها»‪.‬‬
‫وكان لهـذا التأكيـد قيمتـه‪ ،‬إذ أن عديـدا مـن الديمقراطيين املعروفين كان‬
‫يرفـض حتى ذلـك احلين أو يتردد عـن اإلقـدام علـى تأليـف أحـزاب سياسـية‬
‫وطلـب إجازتهـا‪ ،‬أو أنهـم يتقاعسـون عـن مواصلـة النضـال لفرضهـا ملجـرد أن‬
‫احلكومـات الرجعيـة ترفـض النظـر يف طلبات اإلجـازة أو تتب�اطأ يف االسـتجابة‬
‫‪23 2 3‬‬
‫لهـا‪.‬‬
‫ناقـش املؤتمـر بعدهـا تقريـرا سياسـيا أعـده السـكرتري العـام بعنـوان‪:‬‬
‫«حـول الوضـع العالمي والداخلـي» تنـ�اول فيـه االنتصـارات املتالحقـة التي‬
‫كان حيققهـا اجليـش السـوفييت الـذي يتجـه صـوب برلني‪ .‬وحتدث عن سـلوك‬
‫االسـتعمار الربيطـاين يف العـراق‪ ،‬وقـال‪:‬‬

‫«إن الشـعب العـرايق حيتفـظ حبقـه الكامـل يف املطالبة بمنـع التدخل‬


‫األجنبي يف شـؤون العـراق اإلداريـة (السياسـية) واالقتصاديـة‬
‫واالجتماعيـة‪ ،‬حبقـه يف املطالبـة بإلغـاء جميـع االمتيـ�ازات املضـرة‬
‫بمصاحلـه وباسـتقالله والتي لـم يكـن لـه رأي يف إعطائهـا»‬

‫ونبـ�ه إىل خطـر التن�افـس األمريكـي الربيطـاين علـى العـراق‪ ،‬وكانت تلك‬
‫اول إشـارة تب�ديهـا قـوة سياسـية إىل هـذا اخلطر الـذي اتضح جليا يف السـنوات‬
‫التاليـة‪ .‬وقـال إن التن�افـس االسـتعماري األمريكـي الـذي ظهـر منـذ أكثر مـن‬
‫سـنة بشـكل اقتصـادي ‪ ٠‬االسـتحواذ علـى مصـادر نفطيـة يف بلاد العـرب ‪-‬‬
‫ثـم الدفـاع عـن القضيـة الصهيونيـ�ة يظهـر اآلن بشـكل جديـد‪ ..‬ويشير هنـا‬
‫إىل النشـاطات التي يقـوم بهـا الصحفـي األمريكـي هارولـد الـذي شـرع جيـري‬

‫‪ .23‬انظــر يف هــذا الشــأن كامــل اجلــادريج‪ ،‬مذكــرات كامــل اجلــادريج‪ ،‬ص ‪ ،59‬والــي‬
‫يقــول فيهــا‪« :‬إنــي ال أتفــق مــع اإلخــوان الذيــن يريــن إمكانيــ�ة تأليــف حــزب رســي يف‬
‫الوقــت احلاضــر‪ ،‬فالســلطات ال توافــق علــى ذلــك‪ ،‬فضــا عــن أننـ�ا غــر مســتعدين للقيــام‬
‫بــه»‪ ،‬هــذا يف عــام ‪.1943‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪268‬‬

‫االتصـاالت بالشـخصيات الكرديـة ويكيـل الوعـود لألكـراد بتوحيـد املناطـق‬


‫الكرديـة‪ ..‬وقـال‪:‬‬

‫«إننـ�ا ننبـ�ه إخواننـ�ا األكـراد إىل أن قضيتهم الوطنيـ�ة مرتبطة بقضية‬


‫العـراق التحرريـة‪ ،‬وأن حريـة األكـراد يف العـراق ال تأتيهـم عـن طريـق‬
‫الوعـود االسـتعمارية مـن هـذا املستر أو ذاك بـل بالنضـال املشترك‬
‫مـع العـرب مـن أجـل اسـتكمال اسـتقالل العـراق‪ .‬إن حزبنـ�ا يدعو إىل‬
‫الصداقـة العربيـ�ة الكرديـة‪ ،‬إىل النضـال املشترك مـن أجـل قضيـة‬
‫‪24 24‬‬
‫العـرب واألكـراد علـى السـواء »‪.‬‬
‫وناقـش املؤتمـر الوطني األول مسـودة النظـام الداخلـي‪،‬‬
‫وأقرهـا‪ .‬كذلـك أجـرى تعديلات علـى امليثـ�اق الوطني‪ .‬شـدد‬
‫النظـام الداخلـي علـى الطابـع الطبقـي للحـزب بوصفـه الطليعـة‬
‫السياسـية للطبقـة العاملـة العراقيـة إال أن األهداف اليت يسـعى‬
‫إىل حتقيقهـا ال تعـود بالتقـدم والرفاهيـة على العمـال وحدهم‪ ،‬بل‬
‫علـى طبقات الشـعب العـرايق الكادحة عامـة‪ -‬وأبان أنـه وإن كان‬
‫حزبـا سـريا‪ ،‬إال أنـه يتطلـع إىل الظـروف التي تسـاعده يف العمـل‬
‫العلني‪ ،‬وأن سـريت�ه أملتهـا الظـروف املنافيـة للديمقراطيـة التي‬
‫تسـود البلاد‪.‬‬

‫جـاء النظـام الداخلـي علـى غـرار «حـزب شـيوعي‪ ،‬ال اشتراكية‬


‫ديمقراطيـة» مشـددا علـى املركزيـة وعلـى الضبـط احلديـدي‪ .‬ورغـم أنه منح‬
‫املؤتمـر الوطني السـلطة العليـا يف احلـزب‪ ،‬إال أنـه لـم يتحـدث عـن الطريقـة‬
‫التي يتـم فيهـا اختيـ�ار منـدويب املؤتمـر‪ ،‬وإن كان يفهـم أنها ال خترج عـن تلك اليت‬
‫وصفهـا الكراس املشـار إليه‪ .‬غير أنه‪ ،‬أي النظام الداخلـي‪ ،‬ينص على أن تكون‬
‫للعمـال والفالحين نسـبة عاليـة يف التمثيـ�ل‪ ..‬أمـا كـم هـذه النسـبة فال إشـارة‬
‫إىل ذلـك‪ ،‬وأن املؤتمـر ينعقـد كل سـنتني‪ ،‬وقـد يدعـى إىل اجتماعات اسـتثن�ائي�ة‬
‫إذا تطلـب األمـر‪ .‬والصالحيـات التي يعطيهـا للجنـة املركزية وللسـكرتري العام‬
‫تؤكـد علـى املركزيـة الشـديدة داخـل احلـزب‪ .‬وباسـتثن�اء اخللية احلزبيـ�ة اليت‬
‫نـص النظـام الداخلـي يف الفقرة ك من المادة ‪ 48‬علـى أن تنتخب منظمها ملدة‬
‫سـنة واحـدة‪ ،‬واملرشـح عـادة من قبـل اللجنة املسـؤولة عن اخللية‪ ،‬فـإن جميع‬
‫اللجـان األخـرى (باسـتثن�اء اللجنـة املركزيـة) التي تعلوهـا يف املرتبـ�ة احلزبيـ�ة‬
‫ال تنتخـب مسـؤولها‪ .‬وال يوضـح النظـام الداخلـي الطريقـة التي يتـم فيهـا‬
‫اختيـ�ار مسـؤويل اللجـان املنطقيـة أو املحليـة أو اللجـان األخـرى‪ .‬ولكننـ�ا نفهـم‬
‫‪ .24‬انظر مؤلفات الرفيق فهد‪ ،‬ص ‪.134‬‬
‫‪269‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مـن الفقـرة ر مـن المـادة ‪ 40‬أن منظـم اللجنـة املحليـة يرشـح منظمي اخلاليـا‬
‫واللجـان‪ .‬ومثلمـا علمنـا أن اخلليـة تنتخـب منظمهـا‪ ،‬ولكـن ما األمـر مع منظم‬
‫اللجنـة املحليـة؟ أمـا بالنسـبة إىل منظمي اللجـان املنطقية أو املحليـة فال يشء‬
‫يف النظـام الداخلـي يشير إىل كيفيـة اختي�ارهم‪ ،‬لكننـ�ا نفهم من المـادة ‪ 25‬اليت‬
‫تتحـدث عـن مسـؤوليات السـكرتري العـام أن مـن واجباتـه «اختيـ�ار األعضـاء‬
‫املجربين األكفـاء للمراكـز واملهـام احلزبيـ�ة احلساسـة»‪ ،‬وتعطـى المـادة ‪13‬‬
‫الفقـرة ‪ -‬ك اللجنـة املركزيـة ‪ -‬أو باألحـرى مكتبهـا السـيايس أو السـكرتري‬
‫العـام‪ ،‬احلـق يف تنحيـة أعضاء جلـان الفـروع واملناطق وأعضاء اللجنـة املحلية‪،‬‬
‫وتنحيـه جلـان بكامـل أعضائهـا ىف حالـة تقصريهـا أو احنرافهـا وترشـيح أعضـاء‬
‫جـدد بـدال مـن املقالين‪ ،‬ولهـا أن تنتـ�دب مـن يقـوم بمهمـة املنظـم أو سـكرتري‬
‫اللجنـة املحليـة وجلنـة الفـرع التي ينقـص أعضاءهـا التجربـة الكافيـة يف‬
‫األعمـال احلزبيـ�ة‪ .‬وال يتحـدث النظـام الداخلـي عـن الديمقراطية بشيء رغم‬
‫أنـه يشير إىل أن بنـ�اء احلـزب قائـم علـى املركزيـة الديمقراطيـة‪ ،‬اللهـم إال حـق‬
‫اخلليـة احلزبيـ�ة يف انتخـاب منظمهـا‪ ،‬رغم أن ترشـيحه يأيت من األعلـى‪ ..‬بزعم‬
‫أن الرفـاق ال يعـرف بعضهـم نشـاط البعـض اآلخـر‪ ..‬مـع أن الرفـاق يف اخلليـة‬
‫الواحـدة يعـرف بعضهـم بعضا يف هذا املسـتوى مـن التنظيـم يف الغالب‪ .‬وعلى‬
‫أيـة حـال‪ ،‬إنـه يعطي للجنـة املركزية حـق إلغاء املقـررات الصادرة عـن الهيئ�ات‬
‫األوطـأ عندمـا تكـون تلـك املقـررات مخالفـة ملبـادئ احلـزب وملقـررات هيئ�اتـه‬
‫العليـا أو عـدم مالءمتهـا لسياسـة احلـزب املتبعـة آنـذاك (المـادة ‪ - 13‬ي) ‪...‬‬
‫ويف كل األحـوال لـم يترك أية فرصـة لألخذ والـرد وإن كان التطبيق قد أشـار إىل‬
‫حـاالت مـن االعتراض‪.‬‬
‫وأنهـى املؤتمـر أعمالـه بانتخـاب جلنـة مركزيـة ضمت‪ :‬يوسـف سـلمان‬
‫يوسـف‪ ،‬حسين محمـد الشـبييب‪ ،‬زكـى محمـد بسـيم‪ ،‬سـايم نـادر‪ ،‬أحمـد‬
‫عبـاس (عبـد تمـر)‪ ،‬كريكور بدروسـيان‪ ،‬يهـودا ابراهيـم صديق‪ ،‬مالك سـيف‪،‬‬
‫ملا شـريف عثمـان‪ ،‬حسين طـه‪ ،‬وأعضـاء احتيـ�اط‪ :‬اسـماعيل أحمـد‪ ،‬موىس‬
‫محمـد نـور‪ ،‬محمـد علـي الزرقـة‪ ،‬علـي محمـد الشـبييب‪ ،‬عبـد الوهـاب عبـد‬
‫الـرزاق‪ ،‬داود سـلمان يوسـف‪ ،‬حسـقيل ابراهيـم صديـق‪ ،‬ظافـر صالـح‪.‬‬
‫ورغـم أن المادة اخلامسـة عشـرة من النظـام الداخلي الـذي أقره املؤتمر‬
‫نصـت علـى أن تعقد اللجنـة املركزية اجتماعـا كامال (األعضاء واملرشـحني إىل‬
‫اللجنـة) كل سـتة أشـهر‪ ،‬إال أنهـا لـم جتتمع يف الواقـع إال متريـن‪ ،‬األوىل يف أيلول‬
‫‪ 1945‬والثانيـ�ة يف صيف ‪.1946‬‬
‫أعطـى عقـد املؤتمـر الوطني وجناحـه والوثائـق والقـرارات التي اختذهـا‬
‫دفعـة قويـة لعمـل احلـزب‪ ،‬ورفعـت مـن هيبتـ�ه يف أعين اجلماهير الكادحـة‪،‬‬
‫يطارقميد ةيكارتشا ال ‪..‬يعويش بزح«‬ ‫‪270‬‬

‫وىف الوسـط السـيايس الديمقراطـي‪ .‬وقـد أثـر الوضـع اجلديـد علـى جماعـة‬
‫(وحـدة النضـال) التي كانـت تتحجج بذريعـة أن احلـزب لم يعقد مؤتمـرا ولم‬
‫ينتخـب جلنتـ�ه املركزيـة‪ ،‬أمـا وقـد عقـد هذا املؤتمـر وانتخبـت جلنتـ�ه املركزية‬
‫فلـم يعـد مـن مبرر لوجـود العمـل املسـتقل‪ .‬لذلـك سـارعت هـذه املنظمـة إىل‬
‫حـل نفسـها وإىل أن يقـدم أغلـب أعضائهـا وبعض مـن قادتها طلـب العودة إىل‬
‫صفـوف احلـزب ىف نيسـان ‪ 1945‬كأفـراد ودون أي شـروط‪ .‬وقـد قبـل احلـزب‬
‫أغلـب أعضـاء املنظمـة وبعضـا مـن قادتهـا (يوسـف هـارون زخلـة وابراهيـم‬
‫نـايج) بينمـا ختلـى بعـض أعضـاء جلنتهـا املركزيـة عـن العمـل احلـزيب (صفـاء‬
‫مصطفـى ومحمـد توفيـق حسـنني) وانضم بعضهـم إىل حزب الشـعب (وديع‬
‫(حميد‬
‫ً‬ ‫طليـة وعبد اجلبار وهيب وحسين عبـد العال) أو حزب االحتـاد الوطين‬
‫هنـدي)‪ .‬طلـب قادة الفـرع الكردي للمنظمـة اللقاء بفهد‪ ،‬وقد تـم اللقاء فعال‪،‬‬
‫وشـارك فيـه مـن اجلانـب الكـردي صالـح احليـدري ونافـع يونـس وعلـي عبـد‬
‫هللا املهنـدس‪ ،‬واشترطوا النضمـام الفرع إىل احلـزب أن تت�ألف له جلنة خاصة‬
‫بـه وجريـده خاصـة بـه أيضـا‪ ،‬وختويلـه بعـض صالحيـات اللجنـة املركزيـة‪.‬‬
‫غير أن فهـد‪ ،‬كمـا يذكـر احليـدري يف مذكراتـه‪ ،‬رفـض املناقشـة على الشـروط‬
‫التي طرحوهـا‪ .‬إال أنهـم اتفقـوا مـع زكـي محمد بسـيم علـى أن يعملـوا يف أربي�ل‬
‫بالتعـاون مـع امللا شـريف‪ ،‬غري أن هـذا رفض االسـتجابة إىل طلبهـم بالتعاون‪.‬‬
‫وقـد دفعهـم هـذا املوقـف إىل أن يوقفوا تعاونهـم مع احلزب‪ -‬وشـرعوا بتكوين‬
‫حـزب شـيوعي خـاص بهـم أطلقوا عليه اسـم (احلزب الشـيوعي يف كردسـتان‬
‫العـراق) وأصـدروا جريـدة لهـم باسـم (شـورش)‪ .‬ويقـول احليـدري إنهـم‬
‫مـا كانـوا يؤمنـون بوجـود حزبين شـيوعيني‪ ،‬وإنهـم كانـوا يعتبرون إجراءهـم‬
‫مؤقتـا‪ ،‬وينتهـي حالمـا يوافـق احلـزب الشـيوعي العـرايق بوجهة نظرهم بشـأن‬
‫االسـتقالل الـذايت للشـيوعيني األكـراد‪ .‬واسـتلهموا فكـرة فهـد بتكويـن حـزب‬
‫جماهيري تقـديم لألكـراد وسـارعوا إىل تكويـن مثـل هـذا احلـزب أطلقـوا‬
‫عليـه اسـم رزكاري (حـزب التحـرر الكـردي)‪ .‬وقـد ظل هـؤالء الثوريـون األكراد‬
‫يواصلـون عملهـم املسـتقل حتى صيـف ‪ ،1946‬اذ انضمـت غالبيتهـم اىل‬
‫احلـزب الشـيوعي العـرايق بعـد تأسـيس حـزب بـاريت ديمكـرايت كـورد (احلـزب‬
‫الديموقراطـي الكـردي) وحـل حـزب شـورش ورزكاري‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫«قــووا تنظيــم حزبكــم‪ ...‬قووا تنظيم الحركــة الوطنية»‬

‫حتدثنـ�ا يف بدايـة الفصـل الثامـن عـن التدهـور املريـع يف حيـاة الفئـات‬


‫الشـعبي�ة خلال احلـرب العامليـة الثانيـ�ة والـذي جنـم عـن االضطـراب الـذي‬
‫حلـق حبركتي االسـترياد والتصديـر والنقـل البحري وتدفـق القـوات الربيطاني�ة‬
‫إىل البلاد وتفاقـم مشـاكل التمويـن واألسـعار واملضاربات‪...‬الـخ‪ ،‬والحظنا أن‬
‫حظ الفئات الشـعبي�ة‪ ،‬السـيما شـغيلة املدن وصغار املوظفني واملسـتخدمني‬
‫مـن البـؤس واحلرمـان هـو األكرب‪ .‬وقـد نمت خلال تلـك السـنوات التجمعات‬
‫السـكني�ة الفقيرة يف املـدن املؤلفـة مـن أكـواخ الطين والقصـب الصغيرة يف‬
‫داخـل بغـداد والبصـرة واملدن الكبيرة األخرى وعلى حواشـيها أمثـال الصرافية‬
‫والكسـرة وبسـتان احلـاج محسـن والشـاكرية والعاصمـة وغريهـا يف بغـداد‬
‫واحلسـيني�ة وشـط الترك يف البصـرة‪ .‬لقـد جنـم عـن الهجـرة الواسـعة مـن‬
‫الفالحين إىل املـدن الكبيرة واالخنـراط يف احليـاة البائسـة للفئـات الهامشـية‬
‫فيهـا تغيرات مقابلـة ىف احلياة االجتماعية لهـذه املدن‪ ،‬وىف أهميتها السياسـية‬
‫وىف موازيـن القـوى الطبقيـة فيها‪ .‬ويف الريف أيضا‪ ،‬اتسـعت الهـوة بني أغني�اء‬
‫الريـف وفقرائـه‪ ..‬ولـم يعد شـيوخ العشـائر ومالكـو األرايض يرتضـون باحلياة‬
‫السـابقة علـى مـا فيهـا مـن تـرف‪ ،‬وإنما باتـوا يؤثـرون حيـاة القصـور الفخمة يف‬
‫املـدن والسـيارات الفارهـة واحتسـاء اخلمور ولعب الـورق‪ .‬ومع أن هـذه الفرتة‬
‫لـم تشـهد نشـاطات فالحيـة واسـعة دفاعـا ًعـن األرض‪ ..‬إال أنهـا سـجلت مـع‬
‫‪11‬‬
‫ذلـك أوىل بوادرهـا ولـو بشـكل محـدود جـدا‪.‬‬

‫‪ .1‬كانــت أوىل النشــاطات الفالحيــة دفاعــا عــن األرض يف هــذه الفــرة قــد بــدأت يف لــواء‬
‫املوصــل يف ‪ 16‬أيلــول ‪ 1941‬حــن هــب الفالحــون الزييديــون يف قريــة رومبــوس شــمال‬
‫ســنجار لــرد محــاوالت شــيوخ شــمر (أل اليــاور) للتجــاوز علــى أراضيهــم‪ .‬وقــد ســارعت‬
‫‪272‬‬
‫‪273‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫عمــل الحــزب بيــن العمال‬


‫لقـد كانـت تلـك فترة مناسـبة لكـي ينشـط احلـزب الشـيوعي العـرايق‬
‫ويبنى قواعـده ويمد نفوذه السـيما وأن احلظر على احليـاة احلزبي�ة ظل قائما‪،‬‬
‫وال مجال ألى نشـاط سـيايس حزيب بني اجلماهري سـوى النشاط السري‪ .‬أدرك‬
‫احلـزب‪ ،‬ببعـد نظـر‪ ،‬أن الطبقـات االجتماعيـة باتـت مالمحهـا تبـ�دو بوضـوح‬
‫أكبر ومصاحلهـا تتمايـز‪ ،‬وبالتـايل فإنهـا سـتعمد إىل البحـث عـن السـبل التي‬
‫تعبر مـن خاللهـا عـن مصاحلهـا الطبقيـة‪ ،‬وسـتطرح قضيـة التنظيـم احلـزيب‬
‫كأبـرز مهمـة مباشـرة تواجه احلركة الوطني�ة‪ .‬إن االسـتعمار الربيطـاين وأعوانه‬
‫لـم يوفـق إىل تمريـر معاهداتـه وتثبيـت نفـوذه إال بعـد أن ضمـن تفـكك قـوى‬
‫الشـعب وتصفيـة احليـاة احلزبيـ�ة‪ .‬ومـع أن احلـزب سـعى إىل أن يمـد نشـاطه‬
‫إىل الكادحين عامـة‪ ،‬إىل كل القـوى التي تتحـرق إىل اخلالص من نري االسـتعمار‬
‫والرجعيـة وتبحـث عـن السـبل لتطـور وتقـدم العـراق‪ ،‬إال أنه ركـز بوجه خاص‬
‫علـى الطبقـة العاملة السـيما يف املؤسسـات اليت حيتشـد فيها العمال كسـكك‬
‫احلديـد والنفـط واملينـ�اء‪ ،‬ويف مواقـع العمـل حيـث يعمـل العمال لـدى القوات‬
‫الربيطانيـ�ة‪ ،‬ويف املؤسسـات الصناعية العراقية الكبرية واملتوسـطة كشـركات‬
‫النسـيج والسـكاير‪ ،‬كذلـك ركـز علـى التحشـدات الطالبيـ�ة يف الكليـات‬
‫واملـدارس الثانويـة‪ .‬وحـرص علـى أن يت�ابـع مشـاكل العمـال ومـا يتعرضـون‬
‫لـه مـن جتـاوزات علـى أيـدي إدارات العمـل يف صحفـه‪ ،‬ومـا كانـت (الشـرارة)‬
‫العمـال التي تتحـدث عـن أوضاعهـم‪.‬‬ ‫و (القاعـدة) مـن بعـد ختلـو مـن رسـائل ً‬
‫كان كثير مـن هـؤالء العمـال قـد جـاءوا تـوا من الريـف‪ ،‬وكانـوا يولـون أهمية إىل‬
‫روح التضامـن التي درجـوا عليهـا يف القبيلـة‪ ،‬ويعطـون للدعم الـذي حيظون به‬
‫وللحديـث عـن قضاياهـم قيمـة تفـوق أحيانـا القيمـة احلقيقيـة لهـذا الدعـم‬
‫نابعـة مـن إحساسـهم بالنخـوة‪ .‬وكان ممـا يعينـ�ه يف مـد نفـوذه يف التحشـدات‬
‫العمالية خلو السـاحة من منظمات سياسـية منافسـة‪ .‬إن احنسـار املد القويم‬
‫بعد ضرب نادي املثىن وبؤر الدعوة إىل الفاشـية‪ ،‬وخلو السـاحة السياسـية من‬
‫أحـزاب بورجوازيـة ديمقراطيـة يمكـن أن تنشـط بين العمـال جلرهـم وراءهـا‪،‬‬
‫وتصاعـد هيبـ�ة االحتـاد السـوفييت بفعـل انتصاراتـه املتت�اليـة‪ ،‬كل هـذه كانـت‬
‫تعينـ�ه علـى نشـر دعايتـ�ه بين العمـال‪ .‬وقـد سـاعده كذلـك علـى التغلغل بني‬
‫عمـال السـكك والنفط بوجـه خاص‪ ،‬حرصـه يف دعايت�ه الشـفوية والصحفية‬
‫الســلطة إىل ضــرب الفالحــن إرضــاء لشــيوخ شــمر املوالــن لربيطانيــ�ا ‪ -‬ويف الفــرة مــا‬
‫بــن ‪ 1944‬و ‪ 1948‬دخلــت عشــرة البومتيــوت القاطنــة مــا بــن ســنجار وتلعفــر يف نــزاع‬
‫مــع شــيوخ شــمر لصــد اعتداءاتهــم علــى أرايض الفالحــن‪ ،‬ثــم توالــت بعــد ذلــك حتــركات‬
‫الفالحــن‪ .‬انظــر كتابن ـ�ا (احلــزب الشــيوعي واملســألة الزراعيــة يف العــراق) إصــدار مركــز‬
‫الدراســات االشــراكية‪ ،‬الفصــل الســابع‪.‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪274‬‬

‫علـى أن ينمي بينهـم العالقـات الطبقيـة وصهـر اجلماعـات األثنيـ�ة والدينيـ�ة‬


‫يف بوتقـة النضـال الطبقـي الواحـد والرفاقيـة الطبقيـة الواحـدة‪ .‬وكانـت‬
‫املعاملـة الفظـة التي تتعامـل بهـا اإلدارات اإلجنلزييـة مـع العمـال‪ ،‬واحنيـاز‬
‫احلـكام الرجعيين إىل جانـب هـذه اإلدارات تعطى للنشـاطات العمالية طابعا‬
‫سياسـيا معاديـا لالسـتعمار والرجعيـة‪ ،‬لذلـك كان يسـهل عليهـم أن يتلمسـوا‬
‫الوشـيجة التي تربطهـم بالنضـال السـيايس الـذي يدعوهم احلزب الشـيوعي‬
‫إىل االخنـراط فيـه‪ ،‬وكانـوا ينظـرون إىل األحاديـث والرسـائل التي ينشـرها عـن‬
‫أحوالهـم نظرتهـم إىل يشء مسـلم بـه‪ :‬هـذا حزبهـم‪ ،‬واحلديث الذي ينشـره أمر‬
‫‪22‬‬
‫مفهـوم ومفـروغ منـه باعتبـ�اره ممثلهـم‪.‬‬

‫‪ .2‬يف مــا يلــي نمــاذج ممــا تنشــره صحافــة احلــزب عــن العمــال‪« :‬إن رئيــس املعمــل (املســر‬
‫هولــك ) يعمــل دائمــا علــى أجبــار العمــال يف معمــل الشــاجلية علــى العمــل اإلضــايف ليــا‬
‫نهــارا‪ ،‬وخاصــة الرباديــن منهــم‪ ،‬حــى بلغــت ســاعات العمــل الــي يكدحــون خاللهــا أربــع‬
‫عشــرة ســاعة يف اليــوم‪ ،‬وقــد مــى علــى اشــتغالهم علــى هــذه الصــورة أكــر مــن شــهر‬
‫األمــر الــذى جعــل صحــة هــؤالء العمــال تســوء يومــا بعــد آخــر‪ -‬وإذا مــا طلــب أحدهــم مــن‬
‫الرئيــس املذكــور فرصــة للذهــاب إىل املستشــفى فــا حيصــل منــه أكــر مــن عشــر دقائــق‪،‬‬
‫وإذا تأخــر عــن ذلــك حيســم مــن راتبـ�ه أجــرة نصــف يــوم جــراء تأخــره‪ -‬وعــاوة علــى ذلــك‪،‬‬
‫صــادف يــوم األحــد املوافــق ‪ 1947/11/7‬أن انتهــى العمــال مــن عملهــم الليلــي الــذي‬
‫أنهــك قواهــم مــن جــراء الســهر وكــرة ســاعات العمــل الــي اشــتغلوها وأرادوا اخلــروج مــن‬
‫املعمــل كاملعتــاد‪ ،‬غــر أن الرئيــس (املســر هولــك) منعهــم مــن اخلــروج‪ ،‬وأراد إجبارهــم على‬
‫مواصلــة العمــل إىل ثمــاين ســاعات أخــرى‪ ،‬وقــد خــرج هــؤالء العمــال محتجــن علــى أمــره‬
‫املجحــف حبقهــم‪ ،‬فلــم يعبــأ هــذا الرئيــس اجلائــر باحتجاجهــم‪ ،‬وغــرم العمــال بقطــع أجــرة‬
‫يومــن مــن كل عامــل مســتهزئا بهــم وبصحتهــم» (القاعــدة‪ ،‬كانــون األول‪.)1943 ،‬‬

‫ويف رســالة أخــرى‪ ،‬علقــت اجلريــدة علــى املعاملــة الســيئ�ة الــي يلقاهــا عمــال معمــل‬
‫التصليــح املتحــرك رقــم ‪ 31‬التابــع للجيش الربيطــاين على أيدي رؤســاء العمال العســكريني‬
‫ومذكرتهــم يف هــذا الشــأن‪ ،‬وأشــارت إىل أن هــؤالء الرؤســاء ال يتقيــدون بالقوانــن العراقيــة‪،‬‬
‫وأنهــم يرغمــون العمــال العراقيــن علــى العمــل بســبب طبيعــة عملهــم العســكري‪ ،‬وأن‬
‫مــا مــن مؤسســة عراقيــة تقبــل النظــر يف دعــوى تقــام ضــد املؤسســات العســكرية‪ ،‬وألن‬
‫العمــال يفتقــرون إىل التنظيــم النقــايب‪ -‬وتنهــي تعليقهــا بقولهــا‪« :‬إن القوانــن العراقيــة‬
‫جيــب أن حتــرم مــن اجلميــع‪ ،‬ويجــب أن يعرفــوا أيضــا أن العامــل العــرايق لــم يعــد بإمكانــه‬
‫التنـ�ازل عــن حقــه‪ ،‬إذ أن هــذا احلــق مرتبــط حبياتــه وحيــاة عيالــه ومرتبــط بكرامتــه الوطنيـ�ة‬
‫وعزتــه الشــخصية» (القاعــدة‪ ،‬أيلــول‪ .)1943 ،‬ونشــرت اجلريــدة يف عــدد آخــر عريضــة‬
‫قدمهــا ‪ 300‬عامــل ىف واحــد مــن معامــل اجليــش الربيطــاين مطالبــن بدفــع مــا اقتطــع مــن‬
‫أجــور العمــال عــن يــوم عاشــوراء‪ ،‬وطالبــت بدفــع مــا يطالــب بــه العمــال مذكــرة بمــا نــص‬
‫عليــه قانــون العمــل يف هــذا الشــأن (القاعــدة‪ ،‬شــباط‪.)1943 ،‬‬
‫‪275‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫لقـد كان يمكـن للتوتـر النفسي بين العمـال (ويصـح هـذا علـى فئـات‬
‫شـعبي�ة أخـرى كالطلاب أيضـا) أن جيـد متنفسـا لـو كانـت هنـاك تنظيمـات‬
‫نقابيـ�ة ومهنيـ�ة‪ ،‬إال أن خلـو السـاحة مـن تنظيمـات كهـذه كان النشـطاء مـن‬
‫العمـال والشـغيلة عامـة ال جيـدون أمامهـم فرصـة للتنفيـس عن سـخطهم إال‬
‫مـن خلال احلـزب الشـيوعي وصحفـه‪.‬‬
‫كان العمـال يئنـون مـن وطـأة االسـتغالل والتعسـف دونمـا نصير‬
‫أو مرشـد حتى جاءهـم احلـزب الشـيوعي لريسـم لهـم بلغـة مفهومـة‪ ،‬ومـن‬
‫خلال عمـال يعرفونهـم جيـدا انبثقـوا مـن بين أوسـاطهم‪ ،‬شـعارات النضـال‬
‫الضروريـة علـى اجلبهتين السياسـية واالقتصادية‪ ،‬لذلـك اجنذبوا إليـه بقوة‪،‬‬
‫واسـتجابوا إىل نداءاتـه للعمـل مـن أجـل التنظيـم النقـايب أو لإلضرابـات وأخريا‬
‫للعمـل السـيايس‪ ،‬وكانـت صحفـه تنتقـل مـن يـد إىل أخـرى وتقـرأ للعمـال‬
‫األميين ولنسـائهم‪ ..‬وقـد ظـل هـذا التقليـد سـاريا مـن بعـد مـع صحفـه‬
‫العلنيـ�ة أيضـا‪ 3 3 .‬كانـت كثرة الرسـائل التي تصـل إىل اجلريـدة تعكـس اتسـاع‬
‫نشـاط احلـزب بين العمـال‪ .‬وكان أبـرز إجنـازات احلـزب هنـا جناحـه ىف تعبئـ�ة‬
‫أوسـاط عمـال واسـعة للعمـل النقـايب‪ ،‬وتعبئـ�ة اجلماهير العماليـة يف مواقـع‬
‫حتشـداتها األساسـية وغير األساسـية إىل العمـل اإلضـرايب‪ ،‬إىل جانـب جتنيـ�ده‬
‫أشـجع وأوعـى العناصـر العماليـة وأكرثهـا اسـتعدادا للعمـل والتضحيـة مـن‬
‫أجـل الطبقـة العاملـة ىف صفوفـه‪ .‬وقد كان نشـاط احلـزب الشـيوعي التعبوي‬
‫والتحريضي املتواصـل بين العمـال جيد صـداه يف تنـ�ايم اسـتعدادهم للتحرك‬
‫اإلضـرايب والنقـايب كلمـا اقرتبـت احلـرب مـن نهايتهـا مثلمـا توقـع هـو‪ .‬كان أول‬
‫مـن أضـرب هـم عمـال سـكك احلديـد وكان ذلـك ىف ‪ 6‬تشـرين الثـاين ‪.1941‬‬
‫وقـد أصـدر العمـال املضربـون بي�انـا عبروا فيـه عـن حسـهم الطبقـي وفهمهـم‬
‫‪ .3‬يــروي بطاطــو (النــص اإلجنلــزي‪ ،‬ص ‪« )621‬كان احلــزب الشــيوعي قــد جنــح يف جعــل‬
‫نفســه جــزءا مــن حيــاة عمــال الســكك احلديديــة‪ ،‬كمــا أنــه تعلــم التعبــر بشــكل واضــح‬
‫عــن األفــكار الــي تضــج بهــا أذهانهــم بشــكل غــر منظــم‪ ،‬وإىل درجــة أنهــم صــاروا يــرون‬
‫أنفســهم يف الصــوت الــذي يتحــدث احلــزب بــه»‪ .‬وربمــا كانــت جتــدر املالحظــة هنــا أنــه يف‬
‫إحــدى املظاهــرات ‪ -‬وكمــا الحــظ منظــم حــزيب باعــراض ‪ -‬انفجــر عمــال «بســطاء»‪ ،‬كانــوا‬
‫ىف حالــة متأثــرة‪ ،‬ىف صيحــات هــادرة وبصــورة غــر متوقعــة «عــاش احلــزب الشــيوعي حــزب‬
‫عمــال الســكك احلديديــة»‪.‬‬
‫وأذكــر أنن ـ�ا‪ ،‬عبــد الســام الناصــري‪ ،‬وابراهيــم منصــور‪ ،‬وأنــا‪ ،‬كنــا نــزور محتشــدا ألكــواخ‬
‫العمــال يف شــط الــرك يف البصــرة عــام ‪ ،1946‬وكنــت أحمــل بيــ�دي جريــدة (العصبــة)‬
‫لســان احلــزب آنــذاك‪ ،‬ودخلنــا كــوخ أحــد العمــال‪ ،‬وكانــت زوجتــه توقــد نــارا لتعــد الشــاي‬
‫كمــا يبــ�دو‪ ،‬وملحــت اجلريــدة يف يــدي‪ ،‬فســارعت‪ ،‬حــى قبــل أن يــرد زوجهــا التحيــة‪ ،‬إىل‬
‫القــول «حــات أبــوك‪ ،‬مــا تكلــي شــحاجيه علين ـ�ا العصبــة اليــوم؟» أي «حبيــاة أبيــك‪ ،‬أال‬
‫تقــل يل مــا تتحــدث بــه العصبــة عنــا اليــوم؟»‪.‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪276‬‬

‫للعالقـة التي تربـط مـا بين الفئـة احلاكمـة والطبقـة الرأسـمالية‪ ،‬وممـا‬
‫جـاء يف بي�انهـم «يـا عمـال السـكك احلديديـة كافـة‪ ،‬إن تالعـب املحتكريـن‬
‫االسـتغالليني الوحوش يف أسـعار املواد املعيشـية‪ ،‬ذلك التالعب الذي أدى إىل‬
‫ارتفـاع جميـع املـواد املعيشـية ارتفاعـا هائلا مخيفا‪ ،‬هـو موجه بالدرجـة األوىل‬
‫إىل قطـع اخلبز عنكـم وعـن أطفالكـم‪ ..‬إن هـذا الغلاء املصطنـع سـبب�ه إهمال‬
‫املسـؤولني وأصحابهـم الرأسـماليني الذيـن يريـدون اإلثـراء على حسـابكم»‪..‬‬
‫ودعـا عمال شـركة الكهربـاء إىل اإلضراب وأصـدروا بي�انا بهذا الشـأن‪ .‬وامتدت‬
‫‪44‬‬
‫اإلضرابـات لتشـمل معمـل باتـا لألحذيـة‪ ،‬ومعامـل عـزرا والصبـاح وسـالم‬
‫لألحذيـة‪ ،‬وعمـال السـيكاير‪ ،‬وعمـال معامـل الطحين‪ ،‬وأضـرب يف عـام ‪1941‬‬
‫عمـال سـينما الرشـيد ىف البصـرة‪ ،‬وىف حزيـران ‪ 1942‬أضـرب عمـال البرادة يف‬
‫معسـكر الرشـيد‪ ،‬ويف الفترة مـا بين تمـوز ‪ 1943‬وتشـرين األول ‪ 1944‬أعلـن‬
‫أحـد عشـر إضرابـا يف معامـل الثلـج والنجـارة واملطاحـن ومعسـكر الرشـيد‬
‫ومصلحي العربـات يف النجف والسـماوة ومدرسـة الصنائع العسـكرية وعمال‬
‫‪55‬‬
‫شـركة يب أو دي للنفـط ىف البصـرة‪.‬‬
‫وأكـدت دعايـة احلـزب علـى تطبيـق قانـون العمـال رقـم ‪ 72‬لسـنة‬
‫‪ 1936‬الـذي ظـل مهملا منذ تشـريعه‪ ،‬وعلـى املطالبة بمنح العمـال حقوقهم‬
‫النقابيـ�ة‪ .‬وكان احلـزب إىل جانـب نشـر كل مـا يتعلـق بنشـاط العمـال يف هـذا‬
‫الشـأن‪ ،‬يسـعى إىل تعريفهـم باخلطـوات اليت يتعين أن يسـلكوها‪ ،‬فكان يضع‬
‫لهـم صيـغ الطلـب‪ ،‬ويرشـدهم إىل تنظيـم الوفـود ‪ ٠‬ويف هـذا الشـأن يكتب فهد‬
‫يف (القاعـدة)‪:‬‬

‫إننـ�ا نطلـب إىل رفاقنـا العمال الذيـن قدموا طلبات بت�أليـف النقابات‬
‫أن‪:‬‬
‫‪1.‬يميزوا طلبهـم بعريضـة يرفعونهـا إىل رئيـس الـوزراء مصحوبـة‬
‫بمضابـط تأييـ�د مـن مئـات وألـوف العمـال املسـتعدين إىل‬
‫توقيعهـا‪،‬‬
‫‪2.‬تأليـف وفـد كبير مـن املؤسسين ومـن عمـال صناعاتهـم ملقابلة‬
‫املراجـع املسـؤولة‪ ،‬وربمـا مـن األوفـق أن حيمـل الوفـد عريضـة‬
‫التمييز إىل رئيـس الـوزراء‪،‬‬

‫‪ .4‬جعفــر عبــاس حميــدي‪ ،‬التطــورات السياســية يف العــراق‪ ،‬النجــف‪ ،‬مطبعــة النعمــان‪،‬‬


‫ص ‪. 132‬‬
‫‪ .5‬املعلومــات اخلاصــة باإلضرابــات مســتقاة ممــا نشــر مــن أخبــار ورســائل يف جريــديت‬
‫(الشــرارة) و(القاعــدة) يف أعــداد مختلفــة‪.‬‬
‫‪277‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪3.‬أن حيـدد عمـال بغـداد يومـا لإلضـراب يسـمونه يـوم النقابـة يف‬
‫حالـة عـدم إجابـة طلباتهـم خلال مـدة معلومـة (ال تزيـد علـى‬
‫‪66‬‬
‫اخلمسـة عشـر يومـا)‪.‬‬

‫وعـاد يف أيلـول مـن العـام ذاتـه ليكتـب يف (القاعـدة) مقـاال افتت�احيـا‬


‫بعنـوان‪« :‬النقابـة شـعار العمـال اليـوم» أشـار فيـه إىل أن احلركـة املجيدة اليت‬
‫تضـرب رقمـا قياسـيا من حيث نشـاطها واليت تكللـت بإجازة أربـع نقابات حىت‬
‫اآلن تتصـف بكونهـا حركـة عماليـة نقابيـ�ة وليـدة ظـروف خاصـة هـي‪:‬‬
‫•حرمـان الطبقـة العاملـة مـن كل شـكل مـن أشـكال التنظيـم العلين‬
‫خلال السـنوات العشـر األخيرة‪،‬‬
‫•نمـو الصناعـة خلال الفرتة املذكـورة نموا مطـردا رافعة نمـو الطبقة‬
‫العاملـة العراقية نمـوا كبريا‪،‬‬
‫•متاعـب الطبقـة العاملـة العراقيـة املتأتيـ�ة مـن ظـروف احلـرب‬
‫العامليـة ومـن األوضـاع الشـاذة األخـرى‪.‬‬
‫ويشـرح للعمـال بلغـة مفهومـة مـن غالبيتهـم وبعبـارات محـددة‬
‫وواضحـة ضـرورة أن تمتـد احلركـة النقابيـ�ة لتشـمل جميـع العمـال ويذكرهم‬
‫بـأن حل املشـاكل اليت تتطلب املعاجلـة خارج محالت العمـل كقضية االحتكار‬
‫والغالء ومسـاكن العمال والصحة والقضايا االجتماعية والتثقيفية والبطالة‬
‫وغريهـا مـن املهمـات الكبرى ال يكفـي حللهـا نضـال قسـم صغير مـن الطبقـة‬
‫العاملـة بـل تتطلـب جهـاد أكرثيـة الطبقـة العاملـة منتظمـة ىف نقابـات كبيرة‬
‫ثابت�ة وتسـندها جماعات وطني�ة سياسـية وغري سياسـية وىف مقدمتها احلزب‬
‫الشـيوعي العـرايق‪ .‬وبهـذا الشـكل‪ ،‬وباللغة التي يدركونها يكون قـد أوضح لهم‬
‫ضـرورة االرتقـاء حبركتهـم النقابيـ�ة لتكويـن احتـاد أكرب يشـمل الطبقـة برمتها‪،‬‬
‫ولربطهـا بالنضـال األشـمل للشـعب لكـي يعدهـم للخـروج مـن إطـار النضـال‬
‫االقتصـادي الضيـق إىل النضـال السـيايس األشـمل واألعلـى‪ .‬وحيذرهـم مـن‬
‫أن تقبـض الفئـات ذات العالقـة بأربـاب العمـل بفكرهـا وارتب�اطاتهـا اخلاصـة‬
‫مـن (أسـطوات) ورؤسـاء عمـل وغريهـم علـى قيـادات النقابـات‪ ،‬الذيـن هـم‬
‫بتفكريهـم وبأسـلوب معيشـتهم أقـرب إىل الطبقـة البورجوازيـة مـن طبقـة‬
‫العمـال‪ ،‬وهـو بهـذا يسـعى يف محاولـة أوليـة وعمليـة ليعرفهـم باالنتهازيـة يف‬
‫احلركـة العماليـة‪ .‬ويدعـو أبنـ�اء الشـعب إىل مسـاندة احلركـة النقابيـ�ة التي‬
‫تن�امـت آنـذاك باعتب�ارهـا‪ :‬أوال‪ ،‬اجلبهـة األوىل والوحيـدة آنـذاك يف النضـال‬

‫‪( .6‬القاعدة)‪ ،‬العدد ‪ 4‬و‪ ،5‬آذار ‪.1944‬‬


‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪278‬‬

‫الوطني الديمقراطـي ألنهـا فتحـت البـاب للنضـال وللتنظيـم النقـايب الـذي‬


‫البـد أن تتبعه أشـكال أخـرى من التنظيم السـيايس الديمقراطـي‪ ،‬وثاني�ا‪ ،‬ألنها‬
‫تهـدف إىل رفـع مسـتوى الطبقـة العاملـة العراقيـة التي هـي أكرب طبقـة مدني�ة‬
‫‪77‬‬
‫بين اجلماعـات العراقيـة‪.‬‬
‫لقـد اضطـرت احلكومـة إزاء ضغـط العمـال والعمـل الدعـايئ للحـزب‬
‫والصحافـة الديمقراطيـة إىل إجـراء بعـض التعديلات علـى قانـون العمـل‬
‫شـملت حتسين‪ ،‬حالـة العمـل للنسـاء وزيـادات يف األجـور بالنسـبة أليـام‬
‫العمـل يف العطـل والعمـل اإلضـايف ومنـع تشـغيل األطفـال‪ .‬كمـا اضطـرت إىل‬
‫إجـازة بعـض النقابـات‪ ،‬لكنهـا لم تسـمح للعمـال احلكوميين والعمـال الذين‬
‫يشـتغلون لـدى املصالح األجنبيـ�ة بالتنظيم النقـايب‪ .‬ومع ذلـك‪ ،‬فقد اضطرت‬
‫إىل منـح إجـازة العمل النقايب إىل عمال السـكك واملين�اء وهما مركزان أساسـيان‬
‫لتحشـد العمـال‪ .‬علـى العمـوم‪ ،‬أجيزت يف عـايم ‪ 1944‬و‪ 1945‬سـت عشـرة‬
‫نقابـة عماليـة‪ ،‬كان الشـيوعيون يقـودون اثنتي عشـرة نقابـة منهـا‪ ،‬أمـا األربـع‬
‫األخـرى فقـد تألفـت قياداتهـا مـن عناصـر كانـت تنتمي إليـه سـابقا لكنهـا‬
‫ابتعـدت عنـه وانضمـت إىل أحـزاب يسـارية أخـرى (حـزب الشـعب واالحتـاد‬
‫الوطني)‪ ،‬ولكـن بعـد توقـف هذيـن احلزبين عـن النشـاط السـيايس مـن‬
‫بعـد وانضمـام خيرة عناصرهمـا الثوريـة إىل احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬انفـرد‬
‫احلـزب الشـيوعي بقيـادة احلركـة النقابيـ�ة العماليـة حتى نهاية العقـد التايل‪.‬‬
‫ورغـم أن احلكومـة لـم تسـمح بتكويـن احتـاد عـام لنقابـات العمـال يومـذاك‪،‬‬
‫إال أن النقابـات املجـازة طـورت فيمـا بينهـا تنسـيقا وتعاونـا يعبر عـن املصالـح‬
‫املشتركة للعمال‪ .‬وقد حتول مقر نقابة عمال سـكك احلديد يف شـارع المأمون‬
‫بفضـل نشـاط القادة النقابيني الشـيوعيني فيها إىل مقر لهيئـ�ة ارتب�اط خاصة‬
‫لتوحيـد وتنسـيق النشـاط النقـايب آنـذاك‪.‬‬
‫تـويخ احلـزب أال يغـايل يف تقديـره لقـوة وإمكانيـ�ات احلركـة النقابيـ�ة‬
‫العماليـة يومـذاك‪ .‬وبوصفهـا حركـة وليـدة تتطـور يف ظـروف تنعـدم فيهـا‬
‫احلريـات الديمقراطية‪ ،‬كذلك تفتقر إىل جتربـة عريقة يف التنظيم االجتماعي‪،‬‬
‫ويسـود اجلهـل واألميـة أوسـاط اجلماهري العماليـة‪ ،‬والتزال التقاليـد املوروثة‬
‫عـن الصناعـات احلرفيـة تسـود أوسـاط واسـعة منهـا‪ ،‬سـعى احلـزب إىل أن‬
‫حييطهـا بعنايـة خاصـة ويعتىن برتبيـ�ة كادرها ويسـاعدها ىف اكتسـاب التجربة‬
‫الضروريـة‪ .‬كتـب فهـد ىف هـذا الشـأن ‪:‬‬

‫جيـب أن تعين واجبـات هـذه احلركـة النقابيـ�ة تعيينـ�ا دقيقـا يتفـق‬

‫‪( .7‬القاعدة)‪ ،‬أيلول ‪. 1944‬‬


‫‪279‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وصفتهـا‪ ،‬ويتفـق وظـروف الطبقـة العاملـة يف املرحلـة الراهنـة‪ ،‬فكل‬


‫تقديـر زائـد للحركـة العمالية فـوق طابعها النقايب حيرفها عن سـبيلها‬
‫الصحيـح ويفصـل بين الطليعة وطبقتهـا‪ ،‬أو على األقـل‪ ،‬بينها وبني‬
‫األكرثيـة السـاحقة مـن العمـال‪ .‬وكذلك اإلقلال من أهميـة احلركة‬
‫مـن قبـل الطليعـة يفصلهـا عـن الطبقـة ووضـع احلركـة حتـت نفـوذ‬
‫عناصـر ال تعمـل يف صالـح الطبقـة‪ ،‬أوقـد تـؤدي بسـيطرة العناصـر‬
‫‪88‬‬
‫الفاسـدة علـى احلركـة إلخضاعهـا وقتلهـا قبـل أن تنمـو وتقـوى‪.‬‬

‫تـرى إىل أي حـد كان احلـزب يلتزم يف التطبيـق بهـذا اخلـط؟ ليـس مـن‬
‫الهين إعطـاء جـواب قاطـع على هـذا التسـاؤل املشـروع‪ .‬إن معاينـ�ة إضرابات‬
‫العمـال يف عـايم ‪ 1945‬و ‪ 1946‬قـد تسـاعدنا يف حل هذا اإلشـكال‪ .‬لقد ارتأت‬
‫احلكومـة بعـد انتهاء احلرب الثاني�ة ومن ورائها االسـتعمار الربيطاين أن ختفف‬
‫مـن بعـض القيـود السياسـية التي ظلـت تغـذى التوتـر القائـم بين الشـعب‬
‫واحلكـم‪ .‬وكان إجراؤهـا األول يف هـذا الشـأن إجـازة بعـض النقابـات العماليـة‬
‫كمـا رأينـ�ا ‪ ٠‬غير أن أزمـة احلكـم يف العـراق كانـت أعمـق ممـا بـدا لالسـتعمار‬
‫وأعوانـه‪ ،‬إذ اسـتغلت احلركـة الوطني�ة بمختلف فصائلها من اليسـار واليمني‬
‫احلريـات اجلزئيـ�ة التي أطلقـت لتشـدد مـن نضالهـا الوطني والديمقراطـي‬
‫وتوسـعه وتعمقـه‪ .‬وكانـت الطبقـة العاملـة يف مقدمـة القـوى الفاعلـة يف هـذا‬
‫النضـال‪ ،‬كمـا تصـدر النشـاط الـذي تـويخ احلـزب الشـيوعي كفـاح احلركـة‬
‫الوطنيـ�ة وحتـول إىل رأس رمـح لتفجير األزمـة والكشـف عن املـرايم احلقيقية‬
‫خلطـة االسـتعمار وأعوانـه‪.‬‬
‫كان الستراتيج الـذي رسـمه احلكـم وأسـبابه ملواجهـة ظـروف مـا بعـد‬
‫احلـرب واشـتداد الضغـط الذي تب�ديه القوى الوطني�ة عامة يقوم على أسـاس‬
‫عـزل العناصـر األكثر تشـددا والزتامـا باملطالـب الديمقراطيـة عـن مجمـوع‬
‫احلركـة وإضعافهـا وضربهـا ثـم االجتـاه إىل التضييـق علـى القـوى األخـرى‬
‫وضربهـا‪ .‬ويلمـس املـرء آثـار هـذا الستراتيج يف امليدانين السـيايس والنقـايب يف‬
‫التعامـل مـع احلـزب الشـيوعي ومسـاعيه للعمـل العلني‪ ،‬ومـع نقابـة عمـال‬
‫السـكك‪ .‬سنرئج احلديـث عـن تطبيقـات هـذه السياسـة ىف امليدان السـيايس‬
‫إىل فرصـة تاليـة ونتوقـف هنـا عند امليـدان النقايب لعالقـة األمـر بالتماثل الذي‬
‫أثرناه‪.‬‬
‫لقـد اضطـرت حكومـة حمـدي الباجـه ىج حتـت ضغـط العمـال والقوى‬
‫الديمقراطيـة إىل إجـازة سـت عشـرة نقابـة عماليـة مـن بينهـا نقابـة عمـال‬

‫‪( .8‬القاعدة)‪ ،‬أيلول ‪.1947‬‬


‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪280‬‬

‫السـكك واملينـ�اء ولكنهـا حجبـت اإلجـازة عـن نقابـة عمـال النفـط‪ ،‬وسـارعت‬
‫القـوى والصحـف الديمقراطيـة إىل احتضان احلركـة النقابيـ�ة العمالية‪ .‬وكان‬
‫أول اختبـ�ار جلديـة احلكـم ىف االسـتجابة ملطالب العمال ىف حتسين أوضاعهم‬
‫املعاشـية اإلضـراب الـذي أعلنه عمال السـكك‪ .‬كانت خطة احلـزب يف البداية‬
‫تقوم على أسـاس تعزيز النقابة أوال بالعمل على دفع العمال لاللتفاف حولها‪،‬‬
‫السـيما يف حتشـدات السـكك األساسـية‪ ،‬ويف مقدمتهـا معامـل (الشـاجلية)‬
‫التي تتـوىل أعمـال التصليـح والصيانـة ويعمـل فيها آنـذاك ‪ 1265‬عاملا‪ .‬وقد‬
‫حتقـق للحـزب مـا أراد‪ .‬إذ حتى أوائـل ‪ 1945‬انضـم إىل النقابـة ما يزيـد عن ثلث‬
‫مجمـوع عمـال سـكك احلديـد يف جميـع البلاد‪ 9 9.‬وقـد انتخـب املؤتمـر األول‬
‫للنقابـة الـذي انعقـد يف ‪ 7‬نشـرين الثاين ‪ 1944‬مجلسـا لإلشـراف علـى النقابة‬
‫يت�ألـف مـن اثني عشـر عضـوا‪ ،‬كان الشـيوعيون منهم عشـرة‪ ،‬ومكتبـ�ا إلدارتها‬
‫يت�ألـف مـن سـبعة أعضـاء‪ ،‬أربعـة منهـم مـن الشـيوعيني‪ .‬ويبـ�دو أن القاعـدة‬
‫العماليـة يف السـكك كانـت تلـح يف اختـاذ موقـف متشـدد إزاء األوضـاع املزريـة‬
‫التي كانـوا يعانـون منهـا يف ظـل اإلدارة الربيطانيـ�ة‪ ،‬وأن النقابـة باتـت تواجـه‬
‫ضغـط هـذه القاعـدة‪ ،‬إال أن احلـزب كان قـد «خفـف من حدة مطالـب النقابة‬
‫وشـكاواها أو هـو كبحهـا» ‪.‬‬
‫كمـا يالحـظ بطاطـو‪ ،‬إال أن اسـتمرار جمود احلزب علـى موقفه هذا كان‬
‫مـن شـأنه أن يفقـده نفـوذه بين العمـال‪ 10 10.‬لذلـك اضطر إىل النزول عند رغبة‬
‫العمـال‪ ،‬مـع أن إضرابهـم الـذي كانـوا يزمعـون إعالنـه لـم يكـن هـو األول‪ ،‬فقـد‬
‫سـبق أن جربـوا اإلضـراب مـن قبـل وخبروا متاعبـه‪ .‬أضـرب عمـال الشـاجلية‬
‫عـن العمـل اإلضـايف يف يـوم ‪ 10‬نيسـان ‪ 1945‬وأرفقوا إضرابهـم بتقديم مذكرة‬
‫تطالـب برفـع األجـور وبإرجـاع عامل مفصـول‪ ،‬وهـددوا باإلضراب الشـامل إذا‬
‫لـم جتـب مطالبهم وحـددوا يـوم ‪ 15‬نيسـان ‪ 1945‬موعـدا إلضرابهم الشـامل‪.‬‬
‫لكـن اإلدارة (اجلنرال سـمث) جتاهلـت الطلـب‪ ،‬ولذلـك ففـي اليـوم املحـدد‬
‫أضـرب جميـع عمـال السـكك يف بغـداد‪ ،‬وامتـد اإلضـراب ليشـمل بعـض‬
‫املحطات األخرى السـيما الرئيسية منها ىف السماوة والبصرة واملوصل‪ ،‬وشمل‬
‫اإلضـراب غالبيـ�ة عمال السـكك يف البلاد ‪ ٠‬وقد أحدث دويا كبريا يف األوسـاط‬
‫السياسـية السـيما بعد أن انربى احلزب الشيوعي العرايق إىل مساعدة العمال‪،‬‬
‫إذ سـارعت (القاعـدة) للدفـاع عـن قضايا العمال ونـددت بـاإلدارة الربيطاني�ة‬
‫للسـكك وبموقـف احلكومـة مـن اإلضـراب‪ .‬إذ أن هـذه ردت علـى مطالبـة‬
‫العمـال بتشـكيل جلنـة برئاسـة شـخص معـروف بزنعتـه الفاشـية املعاديـة‬

‫‪ .9‬انظر هامش رقم (‪ )36‬لدى بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪.277 ،‬‬


‫‪ .10‬بطاطو‪ ،‬ك‪ ,2‬ص ‪.277‬‬
‫‪281‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫للعمـال وبارتب�اطاتـه القديمـة مـع دول املحـور وبدعواتـه للفكـر العنصـري هـو‬
‫الدكتـور سـايم شـوكت‪ ،‬وسـارعت هـذه اللجنـة إىل مسـاندة اجلرنال سـمث‪،‬‬
‫واشترطت أال ينظـر يف أي مطلـب للعمـال قبـل إنهـاء اإلضـراب‪ .‬إال أن العمال‬
‫رفضـوا هـذا الشـرط‪ ،‬فسـارعت اللجنـة إىل الطلب مـن رئاسـة احلكومة لغلق‬
‫نقابـة عمـال السـكك بذريعـة أن تأليف النقابات كان سـابقا ألوانـه بالنظر لما‬
‫عليـه العمـال مـن عدم نضـوج ال يف احليـاة االجتماعية فحسـب بـل يف الناحية‬
‫الثقافيـة أيضـا ممـا جيعـل النقابـات ألعوبـة بأيـدي املغرضين (الحـظ كيـف‬
‫يتحـدث سـايم شـوكت عن جميـع النقابات – املؤلـف) وذوي الزنعـات املخلة‬
‫بالنظـام وسلامة اململكـة‪ ،‬فقـد أصبحـت هـذه الـوزارة مقتنعـة بـأن الوقت لم‬
‫‪11 11‬‬
‫حيـن لتأسـيس نقابـة كهـذه‪.‬‬
‫وبـادرت احلكومـة إىل إبطـال إجـازة نقابـة عمـال السـكك‪ .‬ولـم تكتـف‬
‫بذلـك‪ ،‬وإنمـا جلـأت إىل األسـاليب اإلرهابيـ�ة إلرغـام العمـال علـى إنهـاء‬
‫إضرابهـم‪ .‬فقـد قطعـت مديريـة السـكك المـاء عـن أكـواخ العمـال وهدمـت‬
‫بعضهـا‪ ،‬واعتقـل البوليس النشـطاء مـن املضربني‪ ،‬وهدد رئيـس الوزراء جبلب‬
‫العمـال الهنـود ليحلهـم محـل العمـال املضربين‪ .‬لكـن العمـال صمـدوا بوجـه‬
‫تهديـدات احلكومـة‪ ،‬وتظاهـرت نسـاء العمـال‪ ،‬وقدمـن املذكـرات يف تأييـ�د‬
‫مطالـب أزواجهـن إىل رئيـس احلكومـة وإىل رئيـس مجلـس النـواب واألعيـان‪.‬‬
‫وحتتفـظ ملفـات البوليـس العـرايق بعرائـض موقعـة بتوقيـع شمسـة العـارف‬
‫وحتمـل ‪ 125‬توقيعـا‪ ،‬وأخـرى بتوقيع وضحة بنت حسين وحتمـل ‪ 271‬توقيعا‪.‬‬
‫وقـد أثـارت أسـاليب اإلرهـاب التي اتبعـت مـع عمـال السـكك سـخط عمـال‬
‫البالد‪ ،‬وسـارعت نقابات عمال امليكانيك والبنـ�اء والتجارة والكهرباء واألحذية‬
‫والسـجاير‪ ،‬واملطابـع واخلياطـة إىل تأليـف وفـد مشترك قابـل املسـؤولني‬
‫احلكوميين وقدمـوا مطالـب مشتركة قالـوا فيهـا إنهـم يعتبرون الضربـة التي‬
‫وجهـت إىل عمـال السـكك موجهـة إىل جميـع عمـال العـراق وهـم حيتجـون‬
‫علـى الطـرق التي اتبعتهـا الشـرطة جتـاه العمـال وعوائلهـم وأن احلـل الوحيـد‬
‫إلنهـاء اإلضـراب هـو إجابـة مطالـب العمـال‪ ،‬وأن موقـف مديريـة السـكك‬
‫وتعنتهـا سـيؤدي إىل تفاقـم احلالـة وإىل إعالن اإلضـراب من قبل كافـة العمال‬
‫العراقيين يف املصانـع واملشـاريع احلكوميـة واألهليـة‪ ،‬وأخيرا طالبـوا بإطلاق‬
‫سـراح رئيـس نقابـة عمـال السـكك والنسـيج واألعضـاء اآلخريـن وفتـح نقابة‬
‫عمـال السـكك‪ .‬ورغـم أن املديريـة جلـأت إىل سـوق كثري مـن العمـال إىل العمل‬
‫دون رضاهـم‪ ،‬إال أن اإلضـراب لـم يتوقـف إال بعـد أن اضطر اجلرنال سـمث إىل‬

‫‪ .11‬جعفــر عبــاس حميــدي‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪ ،155‬نقــا عــن كتــاب وزارة الشــؤون‬
‫االجتماعيــة املوجــه إىل ســكرتارية مجلــس الــوزراء‪.‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪282‬‬

‫الوعـد بزيـادة أجـور العمـال والوعـد بإعـادة بنـ�اء البيـوت املهدمـة وإعـادة فتـح‬
‫النقابـة‪ .‬لكنـه يف ذات الوقـت سـارع إىل تأليـف مـا دعـاه بــ « جلـان العمـل»‬
‫علـى غـرار جلـان العمـل يف النظـام الفـايش اإليطـايل‪ ،‬بيـ�د أن العمـال قاطعـوا‬
‫هـذه اللجـان وأسـموها (جلان سـمث)‪ .‬لكـن اإلدارة الربيطاني�ة عـادت ونكثت‬
‫بوعودهـا وشـنت حملـة واسـعة لطـرد ومالحقـة العمـال النشـيطني‪ .‬إزاء‬
‫ذلـك عـاد العمـال لإلضـراب ىف ‪ 27‬شـباط ‪ .1946‬وقـد شـمل اإلضـراب كافـة‬
‫اخلطـوط‪ .‬وقـد فضـح احلـزب الشـيوعي العـرايق يف بيـ�ان أصـدره يف األول مـن‬
‫آذار ‪ 1946‬فظاعـة التدخـل االسـتعماري يف شـؤون الدولـة وعجـز السـلطات‬
‫احلكوميـة جتـاه هـذا التدخـل ‪ 12 12‬وأعلـن سـخطه علـى هـذا االضطهـاد الـذي‬
‫يوجـه ضـد العمـال‪ ،‬ودعـا العمـال وقـوى الشـعب كافـة إىل مسـاندة العمـال‬
‫املضربين‪ .‬واسـتجابة إىل هـذا النـداء أضرب عمـال املطابـع يف ‪ 5‬آذار ليوم واحد‬
‫طالبـوا فيه بتشـريع نظـام خاص بالنقابـات وإعادة فتح نقابة عمال السـكك‪،‬‬
‫وقـد تعطلـت كافـة الصحـف اليوميـة عـن الصـدور باسـتثن�اء صحيفـة (الرأي‬
‫العـام) للجواهـري‪ ،‬التي تعمـد العمـال صدورهـا لكـي تـزود الـرأي العـام بأنبـ�اء‬
‫اإلضـراب وتطوراتـه‪.‬‬
‫إىل جانـب إضـراب السـكك هذا امتـدت موجة من اإلضرابـات العمالية‬
‫شـملت عمـال النسـيج يف بغـداد (تشـرين األول ‪ ٠)1945‬وأضـرب عمـال‬
‫السـجاير يف شـركة الدخـان األهليـة (آذار ‪ ،)1946‬وعمـال املطابـع (ايلـول‬
‫‪ ،)1946‬والبرق والربيـد والتلفـون (أيلـول ‪ ،)1946‬وشـركة الكهربـاء (أيلـول‬
‫‪ ،)1946‬وعمـال التجـارة يف بغـداد (أيلـول ‪ ،)1946‬وعمـال سـيكاير الدخـان‬
‫األهليـة (يف أيلـول ‪ 1946‬أيضـا) وتأييـ�دا لهـم أضـرب جميـع عمـال السـجاير‪،‬‬
‫ويف أيلـول أيضـا أضـرب عمـال املينـ�اء ىف البصـرة‪.‬‬
‫غري أن أهم اإلضرابات العمالية وأبعدها أثرا يف احلياة السياسـية للبالد‬
‫كان إضـراب عمـال النفـط يف كركوك املعروف باسـم «إضـراب كاورباغي»‪ .‬يف‬
‫‪ 3‬تمـوز ‪ 1946‬أضـرب خمسـة آالف مـن عمـال النفـط مطالبين باالعتراف‬
‫حبقهـم يف التنظيـم النقـايب‪ ،‬وزيـادة احلـد األدىن لألجـور من ‪ 80‬فلسـا إىل ‪250‬‬
‫فلسـا‪ ،‬واسـتحداث نظـام ضمـان ضـد املـرض والعجـز والشـيخوخة‪ ،‬ووقـف‬
‫الطـرد الكيفـي للعمـال‪ .‬وقـد قـادت اإلضـراب جلنـة مـن العمـال الشـيوعيني‬
‫وأصدقائهـم ضمـت دخنـا يلـده وجـون صاكيـان وحنـا اليـاس (عضـو مجلـس‬
‫الرقابـة يف نقابـة عمـال السـكك امللغـاة وأحـد قـادة إضـراب عمـال السـكك يف‬
‫عـام ‪ 1945‬الذيـن فصلـوا من العمـل)‪ .‬وضمت اللجنة كذلـك العمال حكمان‬
‫فـارس الربيعـي وفاضـل جـواد رسـول كريـم‪ ،‬وقـد أطلـق عليهـا اسـم جلنـة‬

‫‪ .12‬نص البي�ان نشرته مجلة (الثقافة اجلديدة) يف عددها ‪ 132‬الصادر يف عام ‪.1981‬‬
‫‪283‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫املفاوضـات وكان يقودهـا العامـل الشـيوعي حنـا اليـاس‪ .‬وإىل جانبهـا كانـت‬
‫هنـاك جلـان فرعيـة موزعـة علـى أقسـام الشـركة املختلفـة‪ .‬وألـف احلـزب إىل‬
‫جانـب هـذه جلنـة حزبيـ�ة تشـرف علـى اإلضـراب تت�ألـف مـن الشـيوعيني‪:‬‬
‫حنـا اليابـس وطـه التورنجي ودخنـا يلـده وحنـا جربائيـ�ل وحكمـان فـارس‪.‬‬
‫وكانـت اللجنـة املحليـة للحـزب ىف كركـوك تتـوىل إعـداد الكلمـات التي تلقى يف‬
‫اجتماعـات العمال يف حدائـق كاورباغي باللغات العربيـ�ة والكردية والرتكماني�ة‬
‫والسـرياني�ة‪ .‬وقـد عمـل الشـيوعيون علـى تعبئـ�ة سـكان مدينـ�ة كركـوك‬
‫إلسـناد اإلضـراب‪ .‬وطـوال أيـام اإلضـراب االثني عشـر كان العمـال يقيمـون‬
‫االجتماعـات واملسيرات ويتـوىل اخلطبـاء فيهـا فضح السياسـة االسـتعمارية‬
‫جـن جنـون السـلطة وشـركة‬ ‫والنهـب الـذي تمارسـه شـركات النفـط‪ .‬لذلـك َ‬
‫النفـط ودبـرت مجـزرة للعمـال املضربين الذيـن كانـوا جيتمعـون يف بسـتان‬
‫كاورباغـي بعيـدا عـن املدينـ�ة يف ‪ 12‬تمـوز راح ضحيتهـا ‪ 16‬قتيـلا و‪ 27‬جرحيـا‪.‬‬
‫وقـد حاولـت احلكومـة (وكان يرأسـها آنـذاك أرشـد العمـري) أن تلقـي تبعـة‬
‫هـذه املجـزرة علـى عاتـق العمال املضربين‪ .‬إال أن جلنـة التحقيق الرسـمية اليت‬
‫ألفتهـا احلكومـة ذاتها بعد أن «بلغ االسـتنكار واالسـتهجان واالحتجاج حدودا‬
‫ال تطـاق» ‪ 13 13‬للتحقيـق يف اجلريمـة برئاسـة أحمـد الطـه‪ ،‬نائـب رئيس محكمة‬
‫اسـتئن�اف بغـداد أثبتـت يف حتقيقها أن العمال لم يرتكبوا شـيئ�ا مخالفا للقانون‬
‫ولـم يكـن يف اجتماعهـم مـا خيىش منه علـى األمن وأنهـم كانوا عزال من السلاح‬
‫وكانـوا يتحركـون حتـت مراقبة الشـرطة وأن الشـرطة قد جتـاوزت يف عملها حد‬
‫املعقـول يف تشـتيت املجتمعين وأن اإلدارة اوقفـت أشـخاصا ليـس لهـم يـد‬
‫يف التحريـض علـى نفـس احلـادث‪ 14 14.‬وقـد اعترف عبـد هللا القصـاب وزيـر‬
‫الداخليـة الـذي اضطـر إىل االسـتقالة أن العمـال‪:‬‬

‫«لـم يقومـوا بأيـة حركـة تسـتدعي إصـدار األوامـر بتفريقهـم‪،‬‬


‫وإطلاق الرصـاص عليهـم‪ ،‬تلـك األوامـر التي يسـتنكرها كل ذي‬
‫‪15 15‬‬
‫ضمير يح»‪.‬‬

‫ويف اليـوم التـايل اندفعـت جماهير كركـوك للتظاهـر بأعـداد كبيرة‬


‫يتقدمهـا وفـد مـن العمـال وهـو حيمـل مذكـرة تطالـب بالتحقيـق يف اجلريمـة‬
‫ومعاقبـة املسـؤولني عنهـا وإجابـة مطالب العمـال‪ .‬وقد اضطرت الشـركة إىل‬
‫‪ .13‬عبد الرزاق احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات العراقية‪ ،‬اجلزء السابع‪ ،‬ص ‪.121‬‬
‫‪ .14‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪ .15‬مــن كتــاب اســتقالة عبــد هللا القصــاب‪ ،‬وزيــر الداخليــة يف حكومــة أرشــد العمــري‪،‬‬
‫املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪.124‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪284‬‬

‫ً‬
‫الرضـوخ ملطالـب العمـال وزادت احلـد األدىن لألجـر إىل ‪ 140‬فلسـا يف اليـوم‪،‬‬
‫وأدخلـت زيـادات أخـرى يف األجـور‪ .‬إال أن احلكومـة رفضـت منـح العمـال حـق‬
‫فتـح نقابتهـم‪ .‬لقـد أثـار نبـ�أ املجـزرة املروعـة مشـاعر السـخط لـدى جماهير‬
‫الشـعب يف البلاد كلهـا‪ ،‬ودفـع مختلـف األحـزاب السياسـية املجـازة إىل‬
‫االحتجـاج واملطالبـة بتنحيـة حكومـة أرشـد العمـري‪ .‬لقـد رفـع هـذا اإلضـراب‬
‫املشـاعر الوطنيـ�ة والطبقيـة لـدى عمـال البلاد‪ ،‬وحفزهـم إىل العمـل لتوحيـد‬
‫صفوفهـم‪ .‬فاحتجاجـا علـى تقديـم ‪ ٢٢‬عاملا مـن عمـال النفـط إىل املحاكـم يف‬
‫كركـوك قـدم ممثلو ‪ 14‬نقابة عمالية مذكرة مشتركة إىل رئيـس الوزراء طالبوا‬
‫فيهـا بمحاكمـة شـركة النفـط املسـؤولة عـن تهربهـا مـن تطبيـق قوانين البالد‬
‫املرعيـة ومسـؤوليتها املباشـرة وغير املباشـرة عـن املذحبـة‪ ،‬ومحاكمـة رجـال‬
‫وإرجـاع‬
‫ً‬ ‫اإلدارة املسـؤولني عـن األمـر بإطلاق النـار علـى العمـال املضربين‬
‫العمـال ًاملفصولين واالعتراف بنقابـة عمال النفـط‪ .‬وقد لعب اإلضـراب دورا‬
‫ملحوظـا يف مـد نفـوذ احلـزب يف األقضيـة والنـوايح التابعـة للـواء كركـوك ويف‬
‫‪16 16‬‬
‫مدينـ�ة كركـوك ذاتهـا السـيما بين الطلاب‪.‬‬
‫لقـد أظهـرت النشـاطات العماليـة التي اسـتعرضناها املزايـا النضاليـة‬
‫العاليـة التي تتمتـع بهـا الطبقـة العاملـة العراقيـة والتقـدم امللمـوس يف وعيهـا‬
‫الطبقـي والوطني الذي حتقق يف تلـك الفرتة‪ -‬ولكن هل بالـغ احلزب يف تقييمه‬
‫لقـدرات احلركـة العماليـة النضاليـة‪ ،‬وهـل حملهـا فـوق مـا تطيق ودفـع بها إىل‬
‫خـوض معـارك تفـوق قدراتهـا الفعليـة كثيرا وأدت إىل تصفيـة نقاباتهـا؟ لقـد‬
‫وجهـت بعـض القـوى‪ ،‬السـيما حـزب الشـعب وعزيـز شـريف بالـذات‪ ،‬اللـوم‬
‫للحـزب ألنـه دفـع عمـال السـكك إىل اإلضـراب وألنـه وجه النـار إىل االسـتعمار‬
‫واحلكـم املحلـي ىف أن واحـد‪ ،‬وأن تدخـل احلـزب الشـيوعي يتخـذ مـن جانـب‬
‫احلكومـة ذريعـة لضـرب العمـال وتشـديد القمـع ضدهم‪.‬‬
‫ربمـا تكـون هـذه اإلضرابـات قـد انطـوت علـى أخطـاء يف التكتيـك يف‬
‫هـذا أو ذاك‪ ،‬كان يمكـن تالفيهـا وجتنيـب العمـال دفـع اسـتحقاقات إضافيـة‪،‬‬
‫السـيما وان هـذه اإلضرابـات كانـت جتـري يف وسـط عمـايل يفتقـر إىل التجـارب‬
‫النضاليـة العريقـة يف مياديـن اإلضـراب واالحتجـاج‪ ،‬إال أن هـذه اإلضرابـات‬
‫كانت مدرسـة إلشـاعة الوعي السـيايس والنقايب الواسـع بني العمال‪ ،‬ورفعت‬
‫لديهـم اإلحسـاس بضـرورة التضامـن الطبقـي إىل مسـتويات أعلـى بكثير ممـا‬
‫كانـت تب�ديـه الطبقـة العاملـة مـن قبـل‪ ،‬كمـا أن هـذه اإلضرابـات قـد قدمـت‬
‫مسـاهمتها الهامـة يف املعركـة السياسـية التي خاضتهـا القـوى الوطنيـ�ة ضـد‬
‫احلكومات الرجعية ومن ورائها االسـتعمار وأكسبت اجلماهري جتارب غني�ة ىف‬

‫‪ .16‬مذكرات يوسف حنا (أبو حكمت)‪ ،‬مطبعة التعليم العايل‪ ،‬أربي�ل ص ‪.39‬‬
‫‪285‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫النضـال نفعتهـا ىف معاركهـا املقبلة من بعـد‪ ٠‬إن الذين يفكرون بمجرد حسـاب‬
‫الـرحب واخلسـارة يف مـا حتققـه احلركـة اإلضرابيـ�ة من منافـع ماديـة أو ما يعرف‬
‫بــ «االختيـ�ارات العقالنيـ�ة» علـى غـرار مـا تفعـل النقابـات العماليـة يف الدول‬
‫الرأسـمالية العريقـة‪ ،‬يسـقطون مـن حسـابهم أن ظـروف النضـال الثـوري يف‬
‫العـراق لـم ختضـع أبـدا إىل حسـابات كهـذه‪ ،‬ليـس ألن الشـيوعيني العراقيين‬
‫ال يعيرون االهتمـام حلسـابات كهـذه‪ ،‬وإنمـا ألن العـدو الطبقـي ظـل يرفـض‬
‫األخـذ بمثـل هـذا املبـدأ‪ ،‬ويلجـأ دائمـا إىل العنـف واإلرهـاب لتحطيم أيـة حركة‬
‫معاديـة‪ .‬وقـد توصـل إىل فهـم مثـل هـذا املنطـق عديـد مـن السياسـيني الذيـن‬
‫كانـوا قـد المـوا احلـزب علـى مواقفـه «املتشـددة»‪ ،‬بمـن فيهـم العناصـر التي‬
‫عـرف عنهـا تمسـكها الشـديد بالعقالنيـ�ة‪ .‬ثم إن هـذه النضـاالت العمالية قد‬
‫سـاعدت يف تربيـ�ة كادر نقـايب مرمـوق قـاد احلركـة النقابيـ�ة ليس يف هـذه الفرتة‬
‫وحدهـا وإنمـا يف العقـود التاليـة أمثـال‪ :‬علـي شـكر وميخائي�ل بطرس وحسـاين‬
‫علـي واألخويـن حسين وعبود حمزة وعباس سـميج وإسـحق شيرازي وجورج‬
‫مرقـص‪ ،‬ومـن بعد زاهـد محمد وعبد الرضـا هويش من عمال السـكك‪ ،‬وعبد‬
‫احلسـن جبـار وجاسـم حسـن وابراهيـم منصـور وناصـر عبـود وحميـد خبـش‬
‫مـن عمـال املينـ�اء‪ ،‬وهـادى طعين مـن ميكانيـك البصـرة‪ ،‬واسـطيفان ستراك‬
‫وحنـا اليـاس وتومـا شـابا وحكمـان فـارس الربيعـي مـن عمـال النفـط وسـلمان‬
‫الـوادي مـن البرق والتلفـون وأرا خاجـادور مـن عمال اإلنشـاءات وربيع شـهاب‬
‫مـن الغـزل والنسـيج ومحمـد اسـماعيل وهـادي مهـدي وعلـي شـهربنلي وعلي‬
‫البلـداوي وأنـور رشـيد مـن عمـال املطابـع ومويش يعقـوب من عمـال اخلياطة‬
‫وشـاكر محمـود مـن عمـال النجـارة‪ ،‬وقـد انضـم إىل هـؤالء مـن بعـد عناصـر‬
‫عماليـة أخـرى قـادت احلركـة النقابيـ�ة أمثـال صـادق الفلاىح وحسين علوان‬
‫وكليبـ�ان صالـح وعبـد القـادر عياش وكاظـم الدجيلي ومحمد غضبـان ومحمد‬
‫عسـكر وحكمت كوتاين‪ .‬إن الذين حيسـبون األمور وفق منطق الرحب واخلسـارة‬
‫ال يدخلـون يف حسـاباتهم األربـاح غير املنظـورة التي عـادت علـى الشـعب مـن‬
‫وراء حتـركات العمـال هـذه‪ ،‬نضـرب علـى سـبي�ل املثـال هنـا أن عمـال النفـط‬
‫املضربين يف كركـوك أقامـوا عالقـات مـع اجلنـود يف الشـوارع وكانـوا خيطبـون‬
‫من على شـاحنات اجليش أمام ثكنة عسـكرية وكان اجلنود يسـتمعون إليهم‬
‫بتعاطـف وتأييـ�د‪17 17 .‬إن العقليـة املتشـددة يف احلـزب اليت كانـت تقيس األمور‬
‫باملقاييـس السـتاليني�ة يومـذاك‪ ،‬التقـت بمـزاج حاد ولـده البـؤس واالضطهاد‬
‫الـذي لـم ينقطـع طوال سـنوات احلـرب العصيب�ة الـذي عاناه العمـال‪ ،‬وكانت‬
‫حصيلـة هـذا االلتقـاء إضرابات عنيفة ال تقبل باملسـاومة بسـهولة‪ .‬والواقع إن‬

‫‪ .17‬جعفــر عبــاس حميــدي‪ ،‬ص ‪ ،439‬نقــا عــن برقيــة قائــد الفرقــة الثانيــ�ة إىل وزارة‬
‫الدفــاع املرقمــة ‪ 3577‬يف ‪ 15‬تمــوز ‪.1946‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪286‬‬

‫هـذا النـوع مـن التشـدد ظـل يصبـغ ال هـذه احلـركات وحدهـا وإنمـا تلـك التي‬
‫تلتهـا مـن بعـد وصـوال إىل ثـورة ‪ 14‬تموز‪.‬‬

‫امتــداد نشــاط الحــزب إلــى الريف‬


‫مـن األمـور التي جتلـب االنتبـ�اه حقـا تأخـر احلـزب وبشـكل ملحـوظ يف‬
‫هـذه الفترة عـن االهتمـام باملسـألة الزراعيـة والعمـل الفعـال بين الفالحين‬
‫يف بلـد تؤلـف املسـألة الزراعيـة فيـه واحـدة مـن القضايـا األساسـية اقتصاديـا‬
‫وجـل سـكانه آنـذاك مـن الفالحين‪ .‬لقـد كان الكتـاب ذوو‬ ‫وسياسـيا وثقافيـا‪ُ ،‬‬
‫الفكـر االشتراكي هـم السـباقون يف العـراق إىل تنـ�اول البحـث يف شـؤون الريف‬
‫والبـؤس الـذي يعيش فيه الفالحون‪ .‬وكان الشـيوعيون أيضا هـم أول من اجته‬
‫إلقامـة الروابـط النضاليـة مـع الفالحين‪ .‬وقـد سـبق أن أشـرنا إىل جـوالت عبد‬
‫القـادر اسـماعيل يف ريـف العمـارة ومعاجلاتـه بشـأن أوضـاع الفالحين فيهـا‪،‬‬
‫وكذلـك نشـاط يوسـف سـلمان يوسـف بين فلايح الناصريـة والعالقـات‬
‫التي أقامهـا مـع فلايح سـوق الشـيوخ بوجـه خـاص‪ ،‬ونشـاط احلـزب بعـد‬
‫تأسيسـه يف تأييـ�د الفالحين‪ .‬وواصـل كتابـه هذا التقليـد بعد إعادة تأسيسـه‪.‬‬
‫فروايـة (الدكتـور ابراهيـم) لذنـون أيـوب التي كان ينشـرها يف مجلـة (املجلـة)‬
‫تب�اعـا اسـتمرار لهـذا االهتمـام‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن بطاطـو كان محقـا يف مالحظـة‬
‫أن أعـداد (الشـرارة) التي ظـل يواصـل احلـزب إصدارهـا حتى خريـف ‪1942‬‬
‫نـادرا مـا كانـت تنشـر أخبـارا عـن الفالحين‪18 18 .‬ونالحظ حنـن أن منهـاج (حزب‬
‫الوحـدة الوطنيـ�ة الديمقراطـي) الـذي تقـدم بطلـب إجازتـه بدفـع مـن احلزب‬
‫الشـيوعي العـرايق يف مطلـع عـام ‪ ،1942‬لـم يقـدم أيـة مطالب محـددة وجدية‬
‫للمسـألة الزراعيـة والفالحيـة‪ ،‬فقد طالب بـ «شـمول ضريب�ة الدخـل املزتايدة‬
‫دخـل املالكين واملزارعني الكبار وفرض ضريب�ة على األرض لتسـتطيع الدولة‬
‫القيـام باإلصالحـات العامـة» وكذلـك‪:‬‬

‫«إلغـاء القوانين والقواعـد الزراعيـة اجلائـرة وسـن قوانين تكفـل‬


‫حتسين حـال الفلاح واختـاذ تدابير جديـة يف إحيـاء األرايض املـوات‬
‫وتوزيعهـا علـى الفالحين‪ ،‬وبعبـارة أدق‪ ،‬تعميـم امللكيـة الفرديـة‬
‫الصغيرة لتحقـق حتريـر الفلاح عمليـا واخلـروج بـه مـن الظلمـة إىل‬
‫‪19 1 9‬‬
‫ا لنـور»‪.‬‬

‫‪ .18‬بطاطو‪ ،‬النص اإلجنلزيي‪ ،‬ص ‪.610‬‬


‫‪( .19‬الشرارة)‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬شباط ‪.1942‬‬
‫‪287‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫سـعى احلـزب إىل حتديـد طبيعـة النظـام االجتماعـي يف الريـف ارتب�اطـا‬


‫بمسـعاه لتحديـد طبيعـة النظـام االقتصـادي ‪ ٠‬االجتماعـي القائـم يف البلاد‪،‬‬
‫وهنـا ال نعثر علـى دراسـات متكاملـة‪ ،‬وإنمـا هـي محـاوالت وردت يف إطـار‬
‫معاجلـات تن�اولـت مشـكالت سياسـية واقتصاديـة خاصـة‪.‬‬
‫إن أقـدم مـا يتوفر لدين�ا يف هذا الشـأن هو املقالة اليت نشـرتها (القاعدة)‬
‫يف عددهـا الثـاين الصـادر يف شـباط ‪ 1943‬بتوقيع خليل‪ ،‬ونظنه الرفيق حسين‬
‫الشـبييب‪ ،‬حـول مشـكلة التمويـن ويـرى أن األزمـة التي تعانيها البلاد تعاونت‬
‫علـى خلقهـا «اإلقطاعيـة العراقيـة» التي بلغـت «دور شـيخوختها وانهيارهـا‬
‫منـذ زمـن بعيـد‪ ،‬وهـي تتفاهـم مـع البورجوازيـة األجنبيـ�ة ‪ -‬ويقصـد بهـا رأس‬
‫المـال الربيطـاين ‪ -‬تلـك البورجوازيـة اليت هـي ذاتها كانت تفاهمـت والتحمت‬
‫مـع إقطاعيـة بالدهـا على حسـاب الشـعب‪ »..‬وتالحـظ املقالـة أن اإلقطاعية‬
‫يف العـراق تتربجـز حبافـز من املضاربة باحلبـوب‪ ،‬وتضرب املقالـة مثال بما جيري‬
‫مـن متاجـرة يف احلبـوب مـن جانـب شـيوخ القبائـل يف لـواء العمـارة‪ .‬ومـع ذلـك‬
‫فـإن (خليـل) لـم يوضـح األسـس التي يقـوم عليهـا مفهومـه عـن اإلقطـاع‪،‬‬
‫مثلمـا لـم يوضـح فهد وهـو يرد على خطـاب العـرش يف كانون الثاين عـام ‪1943‬‬
‫األسـاليب اإلقطاعيـة التي يتمتـع حبـق ممارسـتها قانونـا أو تقليـدا شـيوخ‬
‫العشـائر واملالكـون والسـراكيل والتجـار واملسـؤولة إىل جانـب نهب الشـركات‬
‫األجنبيـ�ة عـن فقـر الشـعب العـرايق‪ .‬وتعطـي (القاعـدة) يف عدديهـا السـابع‬
‫والثامـن وصفـا لنظـام (التعبـة) السـاري يف زراعـة النخيـل ىف لـواء البصـرة‪،‬‬
‫والبـؤس الـذي يتعـرض لـه التعـاب علـى أيـدي مالكـي األرايض‪ ،‬ويف األرايض‬
‫احلكوميـة‪ ،‬واألسـاليب التي تتبـع لنهـب التعـاب‪ .‬ويف الكونفرنـس األول‬
‫للحـزب (آذار ‪ )1944‬أعطـى فهـد يف تقريـره السـيايس حتديـدا أكثر وضوحـا‬
‫لطبيعـة النظـام القائـم يف الريـف‪ ،‬ويالحـظ أنـه برغـم العالقـة اإلقطاعيـة‬
‫والقبليـة التي تربـط املنتـج احلقيقي‪ .‬الفلاح‪ ،‬بطبقـات وجماعات ال شـأن لها‬
‫بالعمـل الفعلـي وبرغـم وجود اإلقطاعية واملشـيخة القبلية فيـه‪ ،‬إال أن طبيعة‬
‫اإلنتـ�اج القديمـة التي كانـت تلازم العصـر القبلـي واإلقطـاع قد تركـت مكانها‬
‫لإلنتـ�اج البضائعـي‪ ،‬وأن الوحـدة اإلقطاعيـة الزراعيـة الباترياركيـة التي كانـت‬
‫تنتـج لسـد احتي�اجاتهـا‪ ،‬أي لالكتفـاء الـذايت‪ ،‬أصبحـت اليـوم تنتـج للسـوق‪،‬‬
‫تنتـج بضاعـة‪ ،‬وحتى تنتجهـا لتصـدر إىل خـارج القطـر‪ ،‬أي أن الفلاح أصبـح ‪٠‬‬
‫أحـب أم كـره ‪ ٠‬مرتبطـا باإلمربياليـة‪ ،‬فهـو يقابلهـا كبائـع حلاصالتـه‪ ،‬كمشتر‬
‫لبضائعهـا‪ .‬هـذه احلقيقـة ذاتهـا‪ ،‬أي إنتـ�اج البضاعـة‪ ،‬دفعـت بورجوازيـة املدن‬
‫وكبـار الشـيوخ السـتثمار األرايض بطـرق رأسـمالية‪ ،‬وشـجعتهم علـى نصـب‬
‫املضخـات الزراعيـة وتوسـيع أراضيهـم واسـتخدام العمـال الزراعيين‪ ،‬وباتـوا‬
‫هـم يرتبطـون بدافـع املصلحـة االقتصاديـة بالشـركات واملصـارف األجنبيـ�ة‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪288‬‬

‫وبالنفـوذ األجنبي السـيايس‪ .‬وينتهـي التقريـر إىل القـول‪:‬‬

‫«وهكـذا يتربجـز مالكـو األرايض وشـيوخ اإلقطـاع عندنا‪ ،‬ويسيرون‬


‫مـع الزمـن أمـا أسـاليب اسـتثمارهم ونهبهـم الفلايح فيسير بعكس‬
‫الزمـن‪ ،‬يرجـع أكثر فأكثر إىل اخللـف‪ ،‬إىل نهـب صريـح بالقـوة‪ ،‬نهـب‬
‫منظـم تسـنده «القوانين» و «العـادات املرعية» وتسـنده السـلطة‬
‫‪20 20‬‬
‫السياسـية بـكل قواهـا»‪.‬‬

‫ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن محـاوالت حتديـد طابـع النظـام السـائد يف الريـف هـذه‬
‫ال تـرىق إىل مسـتوى الدراسـات الضروريـة التي كان يتعين وضعهـا‪ .‬فهـي ال‬
‫تغطـي مشـكالت الزراعـة والريـف عامـة وبرتابـط عضوي وهـي كثيرة التنوع‪،‬‬
‫وال حتـدد خصائـص النظـام التي تميزه عـن النظـم السـائدة يف أريـاف البلـدان‬
‫املجـاورة مثلا‪ ،‬وال تلتفـت إىل مسـألة التمايـز بين الفالحين الـذي كان قـد‬
‫بـدأ حبكـم اتسـاع العالقـات السـلعية ىف الريـف‪ ،‬ولـم تعالـج أثـر العالقـات‬
‫القبليـة يف التضامـن الطبقـي يف الريـف وإن كان قـد انتبـ�ه إىل مـا جيـري عليـه‬
‫مـن تطـور‪ ،‬ولـم يسـع إىل البحـث عـن أشـكال التب�اينـ�ات التي تمليهـا أوضـاع‬
‫الزراعـة املتنوعـة ذاتهـا وأثرهـا يف مواقـف الفالحين‪ .‬لقـد كانـت هنـاك حاجـة‬
‫ملحـة حقـا إىل دراسـة مـا ألـت إليه أوضـاع الريـف بتفصيـل كبري وفـق املناطق‬
‫املختلفـة ومعاينـ�ة األبعـاد التي انتهـت إليهـا تطـور ملكيـة األرض بغيـة حتديد‬
‫الشـعارات امللموسـة والسياسـات الضروريـة التي جتـذب الفالحين إىل‬
‫النضـال الثـوري والتي تعين احلـزب يف االمتـداد إىل الريـف يف قطـر كان جـل‬
‫سـكانه مـن الفالحين‪ .‬والتوقـف عنـد مفهـوم «ملكيـة التصـرف» وإعطـاء‬
‫إيضاحـات كافيـة للتفريـق بين ملكية الدولـة للأرض الزراعية أو مـا يعرف ب‬
‫«األرض األمرييـة» يف مسـتوياتها املختلفـة «األمرييـة الصرفـة» و «األرض‬
‫املفوضـة بالطابـو» و «األرض املمنوحـة باللزمة» لما لهـذا التفريق من أهمية‬
‫عمليـة يف التصـرف الفعلـي بـاألرض‪ ،‬ولماذا لم يرفع شـعار تأميـم األرض‪ ،‬كما‬
‫تنـ�ادي‪21 21‬باعتبـ�ار أن األرض تملكهـا الدولـة فعلا بموجـب قوانين األرض يف‬
‫العـراق‪ ،‬وأن مـا يـدور حولـه النزاع هـو «حـق التصـرف» بهـا فقـط‪ .‬فلمـاذا لـم‬
‫حيـدث هـذا‪ ،‬السـيما وأن فهـد قـد عـرف حبرصه علـى التعـرف الدقيق واملباشـر‬
‫علـى سـاحة النضـال التي يعمـل فيهـا وقد تعـزز لديه األمـر وال شـك من خالل‬
‫دراسـته يف مدرسـة كاديح الشـرق لتعاليـم لينين حـول املسـألة الزراعيـة‪ ،‬وأن‬

‫‪( .20‬القاعدة)‪ ،‬العدد ‪ ،16-3‬آذار ‪1944‬؛ ومؤلفات الرفيق فهد‪ ،‬ص ص‪.98-95‬‬
‫‪ .21‬انظــر كتابنــ�ا‪ :‬احلــزب الشــيوعي واملســألة الزراعيــة يف العــراق‪ ،‬الفصــل األول‪ ،‬ص‬
‫ص‪.34-19‬‬
‫‪289‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الكتـل التي انشـقت علـى احلـزب كانـت تلـح بوضـع برنامـج زراعـي للحـزب؟‬
‫احلـق‪ ،‬إن احلـزب يف ظـروف النضـال القاسـية التي واجههـا ومحدودية‬
‫طاقاتـه املؤهلـة نظريـا وضألـة روابطـه بالريـف مـا كان بوسـعه أن ينهـض‬
‫بمهمـة واسـعة ومتشـعبة اجلوانـب كهـذه آنـذاك‪ ،‬ويزيـد ىف صعوبتهـا فقـر‬
‫الدراسـات العلميـة علـى مسـتوى البلاد ونـدرة اإلحصـاءات أو انعدامهـا يف‬
‫اجلوانـب التفصيليـة‪ ،‬والتخلـف املريـع يف املواصلات واألمـن يف الريف‪ .‬وكان‬
‫مـن الطبيعـي بطاقته املحدودة ومحدوديـة جتربت�ه وتكوينـ�ه التارييخ أن يتجه‬
‫إىل تدعيـم ركائـزه بني أوسـاط العمال والطالب وكاديح املـدن اآلخرين‪ ،‬كما أن‬
‫صراعاتـه الداخليـة قـد اسـتنفدت كثيرا مـن جهـده‪ .‬ومع ذلـك‪ ،‬وحيثمـا أمكن‬
‫أن يتخفـف مـن األعبـاء اإلضافيـة وتوفـرت لديـه اإلمكانـات‪ ،‬اجتـه إىل دراسـة‬
‫أوضاع الريف ومد النشـاط إليه‪ .‬ففي أيلول ‪ 1943‬نشـرت (القاعدة) شـرحا‬
‫ضافيـا لنظـام (التعبـة) يف بسـاتني خنيـل البصـرة‪ .‬وطبقـا لمـا يرويـه بطاطـو‪،‬‬
‫نشـرت (القاعـدة) يف آذار ‪« 1944‬توجيهـات قـد أرسـلت إىل اخلاليـا احلزبي�ة‬
‫يف املناطـق القريبـ�ة مـن الريـف‪ ،‬تطلـب منهـم دراسـة مشـاكل هـذه القـرى‬
‫وأوضـاع احليـاة فيهـا دراسـة دقيقـة» ‪22 22‬واسـتن�ادا إىل هـذا‪ ،‬كما يب�دو‪ ،‬نشـرت‬
‫(القاعـدة) الصـادرة يف أيلـول ‪ 1944‬تقريـرا مطـوال بتوقيـع «فلاح الكميت»‬
‫‪ 23 23‬حتـت عنـوان (حصـة الفلاح بـاألرض)‪ ،‬كمـا نشـرت يف العـدد ذاتـه مقالـة‬
‫أخـرى بعنـوان (مـن مشـاكل الريـف)‪ .‬ويالحـظ أن املقالين جـاءا دون رابطـة‬
‫بأحـداث معينـ�ة علـى خلاف مـا كان ينشـر باسـم رسـائل العمـال والفالحين‪،‬‬
‫ممـا يـدل أنهمـا جاءتـا كـرد للتوجيهـات املشـار إليهـا آنفـا ‪24 24‬أو أنهمـا اقتطعـا‬
‫مـن التقاريـر التي ترفـع مـن جلـان املناطـق أو اللجـان املحليـة إىل قيـادة احلزب‬
‫دون أن يـراد بهـا النشـر إال أن هـذه اقتطعتهـا ونشـرتها لتحفيز اللجـان األخـرى‬
‫لالحتـذاء بها‪.‬‬
‫لـم يكـن بوسـع احلـزب‪ ،‬بقـواه املحـدودة وظـروف اإلرهـاب واملالحقـة‬
‫لكـوادره وأعضائـه عهـد ذاك أن خيطـط توسـعه‪ ،‬واملياديـن التي يتوسـع فيهـا‬

‫‪ .22‬بطاطو‪ ،‬النص اإلجنلزيي‪ ،617 ،‬استن�ادا إىل(القاعدة)‪ ،‬العدد ‪ ،4،5‬آذار ‪.1944‬‬


‫‪ .23‬نرجــح أن يكــون التقريــر واملقالــة مــن وضــع مــوىس محمــد نــور العضــو املرشــح للجنــة‬
‫املركزيــة حــى عــام ‪ ،1947‬والعضــو الكامــل فيهــا بعــد عــام‪ ،‬وكان يــدرس يف كميــت‪ ،‬وذا‬
‫مزنلــة اجتماعيــة وديني ـ�ة محرتمــة باعتب ـ�اره مــن كبــار «ســادة» العمــارة‪( .‬املؤلــف)‬
‫‪ .24‬التقريــر طويــل يصنــف الفالحــن حســب شــروط تعاقدهــم علــى زراعــة األرض‬
‫(الســتات واخلمــاس والربــاع والنصــاف‪ ،‬والضرائــب الــي جتتــى مــن كل واحــد منهــم ومــن‬
‫ينشــد االســزادة جيــد نــص التقريــر يف كتابنــ�ا (احلــزب الشــيوعي واملســألة الزراعيــة يف‬
‫العــراق‪ ،‬ص ‪.)217/216‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪290‬‬

‫السـيما يف األريـاف حيـث تعـم األميـة وال توجـد طـرق مواصلات أو بريـد‬
‫منتظـم‪ ،‬ولذلـك كثيرا مـا كان يمتد نشـاطه هنـا أو هناك بمحـض املصادفات‪،‬‬
‫أو حبكـم عالقـات هـذا الرفيـق أو ذاك باملنطقـة أو املدينـ�ة أو القريـة التي جـاء‬
‫منهـا‪ .‬ومـع ذلـك كان ينتبـ�ه احلـزب جيـدا إىل العوامـل املسـاعدة هنـا والتأكيـد‬
‫عليهـا‪ .‬خـذ علـى سـبي�ل املثـال مسـألة االسـتفادة مـن معلمي املـدارس‬
‫االبت�دائيـ�ة‪ .‬إن هـؤالء حبكـم ارتب�اطهـم بعمـل محترم ال مجـال فيـه لالبتزاز أو‬
‫االرتشـاء أو كسـب اجلـاه والنفـوذ أو يمكن اسـتخدامه للتسـلط‪ ،‬وألن غالبي�ة‬
‫املنخرطين فيـه هـم مـن الفئـات الفقرية التي سـدت يف أوجهها فـرص التعليم‬
‫العـايل‪ ،‬والرتب�اطهـم بعمل فكـري يف األسـاس‪ ،‬كانوا يؤلفون فئة يسـهل حتركها‬
‫بين النـاس للدعـوة إىل مثل اخلير والتقدم‪ .‬وقـد توصل احلـزب إىل إدراك هذه‬
‫احلقيقـة مبكـرا‪ ،‬لذلـك جرى التأكيـد على إجياد ركائـز للحـزب يف دور املعلمني‪.‬‬
‫وقـد أظهـرت األيـام مـن بعـد انـه أصـاب يف ذلـك‪ .‬فلقـد كان املعلمـون يمـدون‬
‫نفـوذه عميقـا ىف املـدن والقـرى علـى السـواء‪ ،‬وكانـوا يؤلفـون نسـبة عاليـة مـن‬
‫كـوادره‪ .‬ويمتـد نفوذ احلـزب يف العادة حيث تكون البيئـ�ة االجتماعية مواتي�ة‪.‬‬
‫إن النـاس الذيـن يطبـق عليهـم البـؤس يرحبـون بمـن يأخـذ بأيديهـم ويعرب عن‬
‫شـقائهم ويدلهـم علـى طريـق اخللاص‪ ،‬لهـذا وجـدت منظمـة احلـزب يف لواء‬
‫العمـارة أن الظـروف مواتيـ�ة لنشـاطها‪ .‬فقـد عرف هـذا اللـواء برثائه سـابقا‪ ،‬إذ‬
‫كان يمـد البلاد بنصيـب هـام مـن احتي�اجاته إىل احلبوب السـيما الـرز‪ ،‬وكذلك‬
‫األسـماك‪ .‬لكنـه عـرف باملقابـل بسـطوة شـيوخه وبـؤس فالحيـه‪ .‬إن سـبعة‬
‫عشـر شـيخا مـن شـيوخ ألبومحمـد وأل أزيـرج وبني الم وألبـودراج وبين سـعيد‬
‫كانـوا يضعـون أيديهـم بالتواطـؤ مـع احلكومـة علـى مـا يقـرب مـن مليونين‬
‫ونصـف املليـون دونـم مـن األريض األمرييـة الصرفـة وافـرة اخلصوبـة وامليـاه‪.‬‬
‫وتشـاء املصادفـات أن ينقـل إىل العمـارة يف عـام ‪ 1942‬حسين محمـد‬
‫الشـبييب‪ ،‬املعلـم والشـاعر النجفـي‪ ،‬عضـو اللجنـة املركزيـة للحـزب آنـذاك‪،‬‬
‫للتعليـم يف مدارسـها االبت�دائيـ�ة‪ .‬وكان طبيعيـا أن يوطـد عالقاتـه مـع معلمي‬
‫اللـواء‪ ،‬وأن يفكـر يف مـد نفـوذ احلـزب إىل فلايح اللـواء الذيـن يئنـون مـن‬
‫جير الشـيوخ‪ ،‬وأن يسـتعني لذلـك بمعلمي املـدارس االبت�دائيـ�ة واملوظفين‬
‫الصحيين ىف األريـاف‪ ،‬ويجند لهذا الغرض مجموعة من املعلمني النشـطني‪:‬‬
‫مالـك سـيف ومـوىس محمد نور وجـواد الصايف وعبـد علـوان واملوظف الصيح‬
‫محمـد نبيـ�ه‪ ،‬ودفعهـم إىل العمـل لكسـب بعـض الفالحين‪ ،‬ومـن خاللهـم مـد‬
‫نفـوذ احلـزب يف قـرى اللـواء‪ .‬لقـد أظهـرت هـذه املجموعـة والتي انضـم إليهـا‬
‫مـن بعـد محمـد علـي الزرقة‪ ،‬املـدرس السـوري األصل وعضـو اللجنـة املركزية‬
‫للحـزب الحقـا‪ ،‬كفـاءة عاليـة ووطدت نفـوذ احلزب كثيرا يف مدن اللـواء وقراه‪.‬‬
‫وكان أهـم مـا حققته كسـبها مجموعة من الفالحني ذوي النفوذ يف عشـائرهم‪:‬‬
‫‪291‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫فعـل ضمـد ومجيد املال خليفة ‪25 25‬وسـالم سـريح وخلـف اجلمايل وحيج مهدي‬
‫وعبـد الواحـد كـرم وعلـي الشـيخ كمبـار الهـادي وعلـي طاهـر‪ ،‬وامتـد النشـاط‬
‫حتى امللايل وقـراء املنابـر الذيـن كانـوا يتنقلـون بني العشـائر حتى أبعدهـا‪ ،‬وقد‬
‫انتمى بعضهـم إىل احلـزب‪ .‬وردا علـى هـذا النشـاط عمدت سـلطات اللـواء إىل‬
‫نقـل املعلمين الذيـن تشـك يف نشـاطهم السـيايس مـن مركـز اللـواء‪ ،‬ومنهـم‬
‫حسين محمـد الشـبييب إىل مـدارس القـرى والنـوايح‪ ،‬وكأنمـا أرادت بذلـك أن‬
‫توفـر لهـؤالء فرصـا أوفـر للنشـاط الثـوري‪ .‬أمـا حسين الشـبييب فقـد اسـتقال‬
‫وسـافر إىل بغـداد لزتايـد احلاجـة إليـه هنـاك يف مركـز احلـزب‪ .‬وقـد سـاعدت‬
‫هـذه التنقلات يف توسـيع نشـاط احلـزب يف أقضيـة ونـوايح اللـواء‪ ،‬كالكحلاء‬
‫وكميـت واملشـرح وامليمونـة واملجـر الكبير وحتى علـي الغـريب وشـيخ سـعد‪.‬‬
‫شـجعت النجاحـات األوليـة التي حتققـت ىف لـواء العمـارة ىف كسـب‬
‫الدعـاة الشـيوعيني مـن بين صفـوف الفالحين علـى أن خيطـو احلـزب‬
‫خطـوة أبعـد يف ميـدان العمـل مـع الفالحين علـى أسـاس مخطـط يت�ألـف مـن‬
‫شـقني أولهمـا حتريـك العناصـر الطيبـ�ة ىف املـدن مـن بين الذيـن يتعاملـون مع‬
‫الفالحين بوجـه خـاص وذوي العالقـة احلسـنة بهـم لتكوين جمعيـات تدعى‬
‫بــ «جمعيـة أصدقـاء الفلاح‪ ،‬تعمـل علـى أسـاس قانـوين‪ ،‬وتهـدف إىل توعيـة‬
‫الفالحين وتعريفهـم حبقوقهـم وسـاندتهم يف الوقـوف بوجـه االعتـداءات‬
‫التي يتعرضـون لهـا علـى أيـدي الشـيوخ وحوشـيتهم أو شـحنتهم (شـرطتهم‬
‫اخلاصـة) وللتخلـص من أشـكال اخلاوات واألتـاوات اليت تفـرض عليهم‪ .‬أما‬
‫ثانيهمـا فيتجـه إىل توعية الفالحني ذاتهم بضرورة إنشـاء اجلمعيات التعاوني�ة‬
‫اإلنت�اجية واالسـتهالكية حيثما توفرت األوضاع املناسـبة لذلك‪ -‬ومن أهداف‬
‫هـذه اجلمعيـات املطالبـة بفتـح املـدارس واملسـتوصفات وتنظيـم ختطيـط‬

‫‪ .25‬كان فعــل ضمــد ينتــي إىل (الشراشــحة) الذيــن هــم فخــذ مــن عشــرة ألبــو عبــود مــن‬
‫قبيلــة ألبــو محمــد وكان هــو وعشــرته يقطنــون مقاطعــة (اجلندالــة) إحــدى مقاطعــات‬
‫الشــيخ مجيــد اخلليفــة‪ ،‬أحــد كبــار شــيوخ ألبــو محمــد يف (املجــر الكبــر)‪ .‬ولكن الشراشــحة‬
‫اضطــروا حتــت اضطهــاد مجيــد اخلليفــة إىل الــزوح إىل أرايض أل إزيــرج وســكنوا يف أرايض‬
‫مطلــك الســلمان‪ .‬وصــار فعــل يعمــل كمحاصــص هنــاك‪ .‬لكــن هــذا اإلقطاعــي ضــاق‬
‫ذرعــا بــدوره بنشــاط فعــل واضطــره إىل الهجــرة يف عــام ‪ 1948‬إىل بغــداد‪ ،‬وظــل يعيــش‬
‫فيهــا حــى وفاتــه عــام ‪ .1968‬أمــا مجيــد‪ ،‬فــكان يعمــل كمــا للشــيخ مجيــد اخلليفــة‪.‬‬
‫ولكــن هــذا شــرع يضطهــده بعــد أن اكتشــف نشــاطه الشــيوعي واضطــره إىل الهجــرة إىل‬
‫مدين ـ�ة العمــارة أوال‪ ،‬ولكنــه واصــل عملــه الشــيوعي هنــاك دون تــردد‪ ،‬واســتدعاه احلــزب‬
‫هــو وعائلتــه ليحــرف العمــل احلــزيب يف بغــداد‪ ،‬واختــذت دار العائلــة مكانــا إلخفــاء مطبعــة‬
‫احلــزب املركزيــة‪ ،‬وانصرفــت العائلــة بمجموعهــا إىل النشــاط احلــزيب حــى دوهمــت الــدار‬
‫مــن جانــب البوليــس يف خريــف ‪ 1948‬وزج جميــع أفرادهــا يف الســجون‪.‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪292‬‬

‫القـرى وبنـ�اء دور الفالحين‪ .‬وبالفعـل تألفـت يف العمـارة جمعيـة أصدقـاء‬


‫الفالحين ضمـت هيئتهـا املؤسسـة إىل جانـب بعـض الفالحين املعروفين؛‬ ‫ُ‬
‫فعـل ضمـد ومجيد مال خليفـة وبعض احلرفيني واملعلمين وصغار املوظفني‪.‬‬
‫وتقدمـت بطلبهـا إىل وزارة الداخليـة لنيـ�ل اإلجازة القانونيـ�ة مرفقة مع الطلب‬
‫نظامهـا الداخلـي وبرنامـج العمـل يف خريـف ‪ ،1945‬وسـارعت إىل نشـر هاتين‬
‫الوثيقتين يف الصحـف‪ 26 26.‬ورغـم أن السـلطات رفضـت إجـازة اجلمعيـة‪ ،‬إال‬
‫أنهـا واصلـت العمـل والدعـوة بين الفالحين لفترة معينـ�ة مسـتغلة ظـروف‬
‫االنفـراج النسبي يف النشـاط السـيايس واحلـريب الـذي حتقـق طيلـة وجـود‬
‫الشـخصية الوطنيـ�ة املعروفـة سـعد صالـح يف وزارة الداخليـة يف ربيـع ‪.1946‬‬
‫وقـد انبرى الشـيوعيون يف بعض النـوايح‪ ،‬ويف مقدمتهم املعلمني الشـيوعيون‬
‫إىل تنظيـم إعـداد وتوزيـع بطاقـات التمويـن على املئـات من العوائـل الفالحية‬
‫التي كانـت محرومـة منهـا سـابقا‪ .‬لقـد أثمـر كل هـذا النشـاط تعاطفـا بين‬
‫الفالحين مـع احلـزب الشـيوعي وحـزب التحـرر الوطني‪ ،‬املنظمـة السياسـية‬
‫العلنيـ�ة التي كونهـا ‪ -‬حتى سـاهم بعـض الفالحين يف التوقيع علـى العرائض‬
‫والربقيـات املطالبـة بإجـازة حزب التحـرر الوطين برغم ما يعـرف عن الفالحني‬
‫مـن احرتاس شـديد ‪ -‬فقد أرسـل فالحـون برقيـة إىل وزارة الداخليـة‪ ،‬جاء فيها‪:‬‬

‫«ال يهـدأ بالنـا إال بعـد اعرتافكـم حبـزب اجلماهير‪ ،‬حـزب التحـرر‬
‫الوطني»‪.‬‬

‫وقـد شـنت علـى أثرها حملة اعتقـاالت بني الفالحني شـملت ‪ 18‬فالحا‬
‫يف ناحيـة كميـت و‪ 7‬فالحين ىف ناحية شـيخ سـعد‪ ٠‬وكان الشـيوعيون يعقدون‬
‫جتمعـات للفالحين حيدثونهـم فيهـا عـن نضـاالت إخوانهـم مـن عمـال وكاديح‬
‫املـدن وإضراباتهـم‪ .‬ومـن املمتـع أن نذكـر هنـا أن الفالحين يف هـذه التجمعـات‬
‫تعرفـوا علـى نضـال أشـقائهم السـودانيني ونضـاالت الشـعب السـوداين‬
‫مـن أجـل اسـتقالله كمـا كانـت تنشـرها مجلـة (أم درمـان) التي كان يصدرهـا‬
‫األشـقاء السـودانيون ىف القاهـرة‪ ،‬وأخبـار نضـاالت الشـعب الفلسـطيين ضـد‬
‫االسـتعمار والصهيونيـ�ة مـن خلال مـا كانـت تنشـره مجلـة (الغد) التي كانت‬
‫تصدرهـا عصبـة التحـرر الوطني‪ 27 27.‬لقـد أرعـب نشـاط اجلمعيـة الشـيوخ‬
‫اإلقطاعيين‪ ،‬ودفعهـم إىل االسـتعانة بالبوليس لشـن حملة مـن اإلرهاب على‬
‫الفالحين النشـطني وحـرق بيوتهـم‪ ،‬وقـد اضطـر عديـد منهـم إىل الهجـرة عـن‬

‫‪ .26‬جريــدة (الــرأي العــام)‪ ،‬العــدد ‪ 9 ،1377‬تشــرين الثــاين‪ ،1945 ،‬نقــا عــن جعفــر‬
‫عبــاس حميــدي‪ ،‬ص ‪.363‬‬
‫‪ .27‬من حديث لعبد علوان مع املؤلف‪.‬‬
‫‪293‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ديارهـم‪ .‬بيـ�د أن الفالحين عامـة ظلـوا يذكـرون مآثر احلـزب ويتطلعـون إليه‪،‬‬
‫وقـد انعكـس ذلك مـن بعد ىف توجهات احلـركات الفالحية التي خاضها فالحو‬
‫أل إزيـرج بعـد سـنوات‪ .‬كذلـك سـهلت العمـل احلـزيب بين أوسـاط الفالحين‬
‫الذيـن هاجـروا إىل بغـداد والبصـرة‪.‬‬
‫وقـد شـجعت جتربـة لـواء العمـارة ىف مجـال العمـل الفلايح أن ينشـط‬
‫احلـزب ىف مناطـق أخـرى مـن البلاد‪ .‬ووفـق إىل غـرس ركائـزه يف ريـف أربيـ�ل‪،‬‬
‫وكانـت أوىل خاليـاه هنـاك يف قريـة (قـازي خانـه‪ :‬الواقعـة ىف سـهل أربيـ�ل ‪-‬‬
‫منطقـة دزه ىي‪ ،‬وأتبعهـا بعـد أشـهر ىف إنشـاء خليـة أخـرى يف قريـة (كربـه تبـ�ه)‬
‫يف قضـاء كويسـنجق‪ ،‬ويف عينـكاوه‪ ،‬قـرب أربيـ�ل‪ .‬وأقـام مثـل هـذه الركائـز بين‬
‫جماعـات (حقـه) ‪ 28 28‬املوزعـة بين ألويـة أربيـ�ل والسـليماني�ة وكركـوك‪ ،‬وىف‬
‫(احلويجـة) يف كركـوك‪ .‬وجنـح احلـزب يف إجيـاد ركائـز لـه يف برزنجـه وعـه ربـت‬
‫يف لـواء السـليماني�ة‪ ،‬ومثلهـا يف بهـرز والزهيرات يف لواء ديـاىل‪ ،‬ويف أبو اخلصيب‬
‫يف البصـرة‪.‬‬
‫وإذا كان نشـاط احلـزب يف املعامـل والكليـات واملناطـق الشـعبي�ة قـد‬
‫عـاىن كثيرا مـن الهجـوم الـذي شـن منـذ صيـف ‪ 1946‬لتصفيـة مـا حتقـق يف‬
‫فترة االنفـراج النسبي يف عهـد حكومـة توفيـق السـويدي‪ ،‬فـإن النشـاط يف‬
‫الريـف قـد أفـاد مـن أوضـاع الريـف اخلاصـة وضعف سـطوة البوليـس لينجو‬
‫مـن الضربـات الماحقـة‪ ،‬وكانـت الثمـرة األوىل للنشـاط الشـيوعي يف حتريـك‬
‫الفالحين وتعبئتهـم وقيادتهـم يف حتـركات فالحيـة واسـعة ضـد املالكين يف‬
‫انتفاضـة فلايح (عربـت) عـام ‪ 1948/1947‬والتحـركات التي تأثـرت بهـا يف‬
‫‪29 29‬‬
‫(وارمـاوه) و(هوريـن) و(شـيخان) وغريهـا‪.‬‬
‫ومثلمـا عمـل الشـيوعيون يف ريـف العمـارة علـى إجيـاد روابـط وثيقة مع‬
‫الفالحين‪ ،‬عمـل املعلـم جعفـر الربزنجي واسـعد بـاين خيلان الـذي كان يـدرس‬
‫الديـن‪ ،‬ومـن بعـد أخـوه أحمـد باين خيلان على مـد النشـاط إىل الريـف يف (عه‬
‫ربـت) و)وارمـاوه) و(بـاين خيلان) و(هوريـن) و(شـيخان) واملناطـق املجاورة‬
‫‪ .28‬كانــت جماعــات (حقــه) تؤمــن بنــوع مــن املســاواة الطوباويــة و بمشــاعية األرض‬
‫وبنــوع مــن امللكيــة املشــركة‪ ،‬ويبــ�دو أنهــا مــن مخلفــات حــركات ماضيــة قديمــة‪ ،‬وكان‬
‫أفرادهــا يلبســون مالبــس بســيطة‪ ،‬خشــنة‪ ،‬وكان قــد تعــرف عليهــم يوســف ســلمان‬
‫يوســف (فهــد) وأقــام عالقــة صداقــة بزعيــم هــذه اجلماعــات (مــام رضــا)‪ ،‬غــر أن نهــب‬
‫األرايض وزحــف العالقــات الســلعية يف الريــف قــد شــتت هــذه اجلماعــة‪.‬‬
‫‪ .29‬اعتمدنــا فيمــا أوردنــاه عــن النشــاط الفــايح يف لــوايئ الســليماني�ة وأربي ـ�ل علــى مــا‬
‫حتــدث بــه الرفيــق أحمــد بــاين خيــان الــذي أســهم يف قيــادة حــركات الفالحــن يف عربــت‬
‫وهوريــن وشــيخان‪ ،‬والرفيــق كريــم أحمــد‪.‬‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪294‬‬

‫يف جنـوب لـواء السـليماني�ة وأعـايل لـواء ديـاىل‪ ،‬واسـتطاعوا أن جينـدوا للحـزب‬
‫عناصـر فالحيـة عديـدة من أمثـال محمد فرج مام عول وحسـن مال نـادر وعبد‬
‫القـادر صـويف وحـاج عبـد الرحيـم وخطيـب جامـع عـه ربـت ملا قـادر محمـد‬
‫الـذي لعـب دور ملحوظـا يف حركـة عـه ربـت‪.‬‬
‫ومـع أن هـذه احلـركات لـم تنتـ�ه دائمـا بانتصـارات كبيرة للفالحين‪ ،‬إال‬
‫أنهـا سـاعدت كثريا يف تطويـر وعيهم وتعزيز تضامنهم ويف لفهـم حول احلزب‪،‬‬
‫كمـا عملـت علـى احلـد مـن جتـاوزات املالكين وسـراكيلهم‪ .‬لقـد وسـعت هـذه‬
‫التحـركات مـن أفـاق الفالحين وعلمتهـم أن قضاياهـم ال تنفصـل عـن قضايـا‬
‫الشـعب العامـة‪ ،‬وأدركـوا بتجربتهـم اخلاصـة طبيعـة السـلطة التي تقمعهم‪،‬‬
‫ومـن هـي الطبقـات واجلماعـات التي تقـف إىل جانبهـم‪ .‬كمـا سـاعدت‬
‫الشـيوعيني كثيرا يف حتسين أسـاليب عملهـم مـع الفالحين‪.‬‬

‫نشــاطات الحــزب بيــن الطالب‬


‫أعـار احلـزب اهتماما خاصـا للعمل بني الطالب‪ .‬كانوا يؤلفون الشـرحية‬
‫األكبر مـن متعلمي املجتمـع‪ ،‬ويسـهل النشـاط يف أوسـاطهم لعوامـل خاصـة‬
‫تتعلـق بهـم كشـبيب�ة تتحشـد بأعـداد كبيرة يف مواقـع محـددة‪ ،‬وبوسـعها‬
‫أن تقـرأ وتسـتوعب مـا ينشـر‪ ،‬وحتركهـا فـورة الشـباب وتتطلـع إىل التقـدم‬
‫وحتفزهـا روحهـا العلميـة إىل التقصي والبحـث‪ ،‬وتنزع حنـو حريـة الفكـر‪ .‬وألن‬
‫طلبـة الكليـات آنـذاك ونسـبة كبيرة مـن طلاب الثانويـة يتجمعـون يف بغـداد‬
‫حيـث توجـد قيـادة احلـزب وكادره األسـايس املتقـدم‪ ،‬سـهلت هـذه احلقيقـة‬
‫عمـل احلـزب فيمـا بينهـم‪ .‬ويف هـذا مـا يفسـر تركـز كثري مـن نشـاطات احلزب‬
‫يف بغـداد‪ .‬وحبكـم ثقافتهـم وانتظـام حياتهـم كانـوا يبـ�دون اسـتعدادا سـريعا‬
‫لالنتظـام يف احلـزب‪.‬‬
‫ال ينفـرد احلـزب الشـيوعي العـرايق يف التوجـه حنـو الطلاب والسـعي‬
‫لكسـبهم إىل صفـه‪ .‬فمثـل هـذا التوجـه وجـد مثيلـه لـدى األحـزاب الشـيوعية‬
‫األخـرى‪ .‬لقـد لعـب الطلاب‪ ،‬واملثقفـون عامـة‪ ،‬دور الناقـل للفكـر الثـوري‬
‫إىل الطبقـات الكادحـة‪ .‬وكان هنـاك عاملان مواتيـ�ان لنشـاط احلـزب بين‬
‫الطلاب‪ :‬أولهمـا أن الكفـاح ضـد االسـتعمار وأعوانـه مـن احلـكام الرجعيين‬
‫واملالكين أوجـد نوعـا مـن التحالـف املوضوعـي بين طبقـات الشـعب يسـهل‬
‫النشـاطات املشتركة بين الطلاب وحتركهـم بسـرعة؛ وثانيهمـا أن احلركـة‬
‫الوطنيـ�ة عبر مطالبتهـا املسـتمرة بنشـر التعليـم بين أوسـاط الشـعب عامـة‬
‫اسـتطاعت أن تفـرض مقاييـس موضوعية يف قبول الطلاب بغض النظر عن‬
‫‪295‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫انتماءاتهـم الطبقيـة والقوميـة وحتى الدينيـ�ة واملذهبي�ة إىل حد مـا ‪ ٠‬وإذا كانت‬
‫أعبـاء الدراسـة يف بعض الفروع العلمية باهظة بالنسـبة للكادحني وقد فرض‬
‫هـذا األمـر حتديـدات معينـ�ة يف توجـه الطلاب للدراسـة يف بعض الكليـات‪ ،‬إال‬
‫أن توفـر ظـروف مواتيـ�ة باملقابل‪ ،‬كاألقسـام الداخليـة وتوفر الغـذاء املجاين وما‬
‫شـاكل‪ ،‬سـهل ألبن�اء بعض الفئـات الفقرية التوجه إىل كليـات ومدارس معين�ة‪.‬‬
‫وكان لهـذا األمـر أثـره يف نمـو نشـاط احلـزب يف هـذه الكليـة واملدرسـة أو تلـك‪.‬‬
‫فضلا عـن أن احلـزب قـد أعـار انتب�اهـه اخلـاص إىل بعـض الكليـات واملدارس‬
‫وتركيز جهـده فيهـا أخـذا باالعتبـ�ار األوسـاط التي سـيتجه إليهـا خريجـو هـذه‬
‫املـدارس والكليـات واملهـن التي سـيحرتفونها وأهميتهـا بالنسـبة إىل سياسـاته‬
‫للعمـل بين اجلماهري‪.‬‬
‫وكان يف خطابـه املوجـه حنـو الطلاب حريصـا علـى مراعـاة مـا يتميزون‬
‫بـه‪ .‬وكان يأخـذ باالعتبـ�ار التنـوع القويم والديني والطبقي بينهـم‪ .‬كان الطلبة‬
‫جيـدون لديـه مـا يـريض فضولهـم العليم ومـا يسـتجيب إىل طبعهم املتمـرد‪ .‬زد‬
‫علـى ذلـك‪ ،‬أن السـاحة هنـا كانـت ال تعـرف أفـكارا عريقة وراسـخة تعيـق كثريا‬
‫انتشـار الفكـر الماركسي‪ .‬إذ لـم تكـن للقيـم واألفـكار املحافظة جاذبيـ�ة بينهم‪.‬‬
‫ولم يكن اإلسلام السـيايس يلقى قبوال واسعا يومذاك‪ .‬لكن الفكر «القويم»‬
‫«العـرويب»‪ ،‬وإن كان يمـر يف تلـك السـنوات يف وضـع عصيـب يسـعى فيـه إىل‬
‫التخلـص مـن أثـار الدعايـة الفاشـية ويجاهـد للوصـول إىل أصالـة خاصـة بـه‪،‬‬
‫إال أنـه ظـل على عدائه للشـيوعية وللفكر الماركيس‪ ،‬وكان يؤلف قوة منافسـة‬
‫ال يسـتهان بهـا تغذيهـا من جانـب املظالم اإلمربيالية يف فلسـطني وغريها‪ ،‬كما‬
‫جتـد يف املقابـل مـا يزيـد يف انفعاليتهـا يف خطـاب احلـزب الشـيوعي املوجـه إىل‬
‫اجلماهير الـذي لـم يسـتطع أن جيمع حبذاقـة بني الدفـاع عن الكادحين اليهود‬
‫ضـد التجـاوزات العنصريـة من جهـة‪ ،‬والدعوة إىل شـعاراته القومية السـليمة‬
‫إزاء فلسـطني وغريهـا مـن اجلهـة االخـرى وهـذا مـا سـنعود إليـه بتفصيـل أكرب‬
‫يف موضـع آخـر مـن هـذا الكتـاب‪ .‬وبرغـم أن الفكـر الماركسي املطـروح كان‬
‫هشـا وغير مشـذب ويعـوزه التدقيـق وال تسـنده الدراسـات املعمقـة والسـيما‬
‫املحليـة األصيلـة والرصينـ�ة‪ ،‬ومشـرب بـروح الغطرسـة السـتاليني�ة‪ ،‬إال أن‬
‫الفكـر البورجـوازي باملقابـل والـروح الرباغماتيـ�ة لـم يرسـخا أقدامهمـا بعـد‪.‬‬
‫علـى العمـوم‪ ،‬كان امليـدان فسـيحا لنشـاط الطلاب الشـيوعيني يف الكليـات‬
‫واملـدارس يف تلـك الفترة‪ .‬مـن اجلانـب املقابـل‪ ،‬كان اخنـراط أعـداد واسـعة مـن‬
‫الطلاب يف صفـوف احلـزب واملنظمـات التي تعمـل بإرشـاده‪ ،‬والتفـاف أعـداد‬
‫كبيرة حولهـم‪ ،‬ومسـاهمتهم يف النشـاطات السياسـية التي كان يدعـو لهـا‪،‬‬
‫أضفـى علـى حركة احلزب حماسـة واندفاعـا واضحين‪ .‬وكان بطاطو على حق‬
‫حين الحـظ أن نشـاط احلـزب كان يت�أثـر موسـميا يف صعـوده ونزولـه حبسـب‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪296‬‬

‫دوام الطلاب يف مدارسـهم أو انصرافهـم عنهـا يف العطـل‪ .‬ومـع أننـ�ا نتحفـظ‬


‫علـى اجلـداول التي أوردهـا بشـأن نسـب عضويـة فئـات السـكان يف صفـوف‬
‫احلـزب وجلانـه والتي اسـتن�د يف وضعهـا على ما جـاء يف سـجالت البوليس وما‬
‫يـديل بـه املعتقلون مـن معلومات وغريها ‪ -‬وحنـن أدرى بطبيعة هذه املعلومات‬
‫التي يـدىل بهـا أثن�اء التحقيـق ‪ -‬فإن األرقام التي يوردها تظل مع ذلـك ذات نفع‬
‫يف تعزيـز الصـورة العامـة التي كانـت عليهـا بنيـ�ة احلـزب‪ .‬ومـن هـذه األرقـام‬
‫يتضـح أن نسـبة عـدد املنضوين مـن الطالب يف صفـوف احلزب تقـارب الربع‬
‫‪30 30‬‬
‫وقـد تزيـد قليلا عـن نسـبة العمـال‪.‬‬
‫ثـم إن هنـاك مسـألة تاريخيـة حيسـن بنـ�ا أن نشير إليها‪ ،‬وهـي أن بعض‬
‫ركائـز احلـزب بين طلاب الكليات واملـدارس الثانويـة يف بغداد‪ ،‬كانـت من بني‬
‫تلـك التي جنـت من التصفية الواسـعة اليت تعرض لها احلـزب يف الثالثين�ات‪..‬‬
‫وكان اسـتمرارها يف البقـاء والعمـل واحـدا مـن العوامـل التي مكنـت فهـد‬
‫وأصحابـه مـن إعـادة تأسيسـه ونشـاطه يف األربعينـ�ات‪ ..‬وكان لهـذه احلقيقـة‬
‫أهميتهـا يف توسـيع املنظمـات الطالبيـ�ة ورسـوخها يف الفترة الالحقـة‪.‬‬
‫عنيـت صحـف احلـزب بنشـر أخبـار الطلاب ونشـاطاتهم السياسـية‪،‬‬
‫كمـا اهتمت بنشـر األخبار عن أوضاعهم املعاشـية وشـكواهم مـن التالعب يف‬
‫األقسـام الداخلية إذا ما وجدت‪ .‬نذكر على سـبي�ل املثال ما نشـرته (الشـرارة)‬
‫يف نيسـان ‪ 1942‬يف انتقـاد صبيحـة الهاشمي‪ ،‬مديـرة ثانوية البنـ�ات‪ ،‬يف توجيه‬
‫الطالبات وجهة عنصرية‪ .‬وتنشـر (الشـرارة) بمناسبة يوم املرآة يف عام ‪1942‬‬
‫مقـاال بقلـم ليلـى تنتقد فيه بشـدة التميزي الطبقـي يف القبول يف املـدارس وغلق‬
‫بعـض ريـاض األطفـال‪ .‬ويف (القاعـدة) آب ‪ 1943‬ينتقـد مراسـل اجلريـدة‬
‫يف املوصـل هبـوط نسـبة النجـاح يف مـدارس اللـواء‪ .‬وتنشـر (القاعـدة) يف آذار‬
‫‪ 1944‬رسـالة مطولـة من دار املعلمني الريفيـة يف الزعفراني�ة (بغداد) تتحدث‬
‫عـن سـوء تغذيـة الطلاب وعـدم العناية بنظافـة الطعام املعـد‪ ،‬وسـوء العناية‬
‫الصحيـة‪ ،‬كمـا تنتقـد نظـام الدراسـة يف الـدار‪ .‬وقـد اهتمـت صحـف احلزب يف‬
‫هـذه الفترة بمسـاعي الطلاب مـن أجـل التنظيـم‪ .‬ففـي مايـس ‪ 1942‬تنشـر‬
‫(الشـرارة) رسـالة مطولـة عـن نـداء وجهـه الطلاب الديمقراطيـون يف كليـة‬
‫احلقوق يدعون فيه إىل عقد مؤتمر طاليب يضم ممثلني عن كل كلية ومدرسـة‬
‫لعقـد اجتمـاع عـام حيضـره هـؤالء املندوبـون للتعبير عـن تضامـن الطلاب‬
‫العراقيين جلبهـة الشـعوب املوحـدة ضـد الفاشـية‪ .‬ويذكـر نـداء الطلبـة‬
‫الديمقراطيني يف كلية احلقوق أن دعوتهم هذه تأيت اسـتجابة لالسـتفتاء الذي‬
‫أجرتـه مجلـة (املجلـة)‪ ،‬والتي اسـتطلعت فيـه رأي مثقفـي العـراق يف تأليـف‬

‫‪ .30‬بطاطو‪ ،‬اجلدول أ ‪ ،40‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص‪.410‬‬


‫‪297‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫جبهة شـعبي�ة موحدة تقود الشـباب ملناصرة اجلبهة املعادية للقوى الفاشـية‪.‬‬
‫كذلـك فإنـه يـأيت تضامنـا مـع نشـاط الطلاب العـرب يف دمشـق يف هذا الشـأن‬
‫أيضـا‪ ،‬ومـع مؤتمـر الشـباب الهنـدي الديمقراطـي الـذي سـيحضره ممثلـون‬
‫عـن القـوى الديمقراطيـة يف العالـم‪ .‬وعـادت يف أعـداد تاليـة إىل تأكيـد هـذا‬
‫النـداء‪ .‬ونشـرت القاعـدة يف أكثر مـن عـدد أخبـار اإلضـراب الـذي شـنه طالب‬
‫مدرسـة الصناعة العسـكرية للمعاملة السـيئ�ة اليت يلقونها والرواتب الهزيلة‬
‫التي حيصـل عليهـا اخلريجـون منهـا‪ .‬بغيـة تسـهيل نشـاطات الطلبـة لتكويـن‬
‫احتاداتهـم الطالبيـ�ة‪ ،‬دعاهـم إىل االهتمام بت�أليـف اللجان الطالبيـ�ة لألغراض‬
‫الثقافيـة‪ ،‬العلميـة والفني�ة والرياضية‪ ،‬وكذلك العناية بالنشـاطات الرتفيهية‬
‫وتنظيم السـفرات وما إليها‪ ..‬واختاذها كوسـيلة لتعبئ�ة الطالب واالقرتاب من‬
‫مجاميعهـم وتدريبهـم على التنظيم‪ .‬وقـد أظهرت التجربـة يف بعض الكليات‪،‬‬
‫أن هـذه اللجـان ضرورية حقـا ونافعة يف حتريك الطلاب وتوحيدهم‪ .‬ويف العام‬
‫الـدرايس ‪ 1945/1944‬نشـط الطالب يف كلية احلقـوق ودار املعلمني العالية‬
‫مـن أجـل تكويـن احتـادات طالبيـ�ة‪ .‬وعمـد احلـزب إىل تأليـف جلنـة طالبيـ�ة‬
‫حزبيـ�ة ملتابعـة هـذا النشـاط ضمـت حمـزة سـلمان عـن كليـة احلقوق وجاسـم‬
‫حمـودي الزيـدي (دار املعلمين العاليـة) وجـورج تلو(كليـة الهندسـة)‪ ،‬وكان‬
‫يشـرف عليهـا يهـودا ابراهيـم صديـق( اللجنـة املركزيـة)‪ .‬وتألفـت إىل جوارها‬
‫جلنـة طالبيـ�ة حلـزب التحـرر الوطني ضمـت عبـد الوهـاب القيسي (كليـة‬
‫احلقـوق) وعبـد اللطيـف السـعدي (كليـة احلقـوق) وعبـد الكريم شـاكر (دار‬
‫املعلمين العالية) وشـاهر الشـاوي (مدرسـة التجـارة)‪ ،‬ويشـرف عليها محمد‬
‫علـي الزرقـة عضـو الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني واملرشـح للجنـة‬
‫املركزيـة للحـزب الشـيوعي العرايق‪.‬‬
‫لـم تكـن دوائـر األمـن غافلـة عن هـذا النشـاط‪ ،‬وكانـت تبـ�دي قلقها من‬
‫توسـعه‪ ،‬إال أنهـا كانـت ختشى املجاهـرة بمالحقتـه لما قـد يثريه مـن متاعب مع‬
‫الـرأي العـام والدوائـر السياسـية‪ ،‬ولذلـك راحـت تبحث عـن الفرص املناسـبة‬
‫لضربـه‪ ،‬وكانـت حتـرض عمـادات الكليـات وإدارات املـدارس للتضييـق علـى‬
‫الطلبـة النشـيطني‪ ،‬وكانـت هـذه جتـد دعمـا مـن املستشـار الربيطـاين لـوزارة‬
‫املعـارف‪ .‬وجاءتهـا الفرصـة لضـرب هـذا النشـاط األول حين نشـط بعـض‬
‫الطلبـة الشـيوعيني جلمـع التواقيـع علـى عريضـة لتأييـ�د عمـال السـكك‬
‫املضربين‪ ،‬فاعتقـل البوليـس حمـزة سـلمان وزيـاد اخلفـايج واألخريـن‪ .‬إال أن‬
‫الطلاب ظلـوا يواصلـون ضغطهـم إلجـازة احتاداتهـم الطالبيـ�ة‪ ،‬وقـد جنحـوا‬
‫فعلا يف دار العلمين العاليـة يف فـرض احتادهـم الشـرعي يف العـام الـدرايس‬
‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪298‬‬

‫‪ ،1945‬وفـازت القائمـة التي رشـحتها منظمـة احلـزب يف الكليـة‪ ،31 31‬ويف عـام‬
‫‪ ،1946‬جنـح طلاب كليـة الطـب يف فـرض احتادهـم الطلايب وكان مـن بين‬
‫الهيئـ�ة اإلداريـة بعـض الشـيوعيني‪ .‬ولكـن البوليـس اسـتغل إضـراب الصف‬
‫التحضيري يف دار العلمين العاليـة يف ‪ 1945/12/12‬عـن الدراسـة مطالبين‬
‫بإعـادة النظـر يف املنهـاج الـدرايس‪ ،‬فشـنت بالتعـاون مـع املستشـار الربيطـاين‬
‫لـوزارة املعـارف وعمادة الدار اليت كان يشـغلها بالوكالة الدكتور خالد الهاشمي‬
‫املعـروف بعدائـه للقـوى الديمقراطية ومسـاعده الدكتور عبد العزيـز الدوري‪،‬‬
‫حملـة أحبطـت فيـه اإلضـراب الـذي اتسـع ليشـمل جميـع طلاب الكليـة بعد‬
‫أن اعتـدى العميـد على إحـدى الطالبات بالضرب‪ ..‬وبـادرت إىل فصل عدد من‬
‫الطلاب لعـام درايس أو بعضـه‪ ،‬وكان من بني املفصولني بعـض أعضاء الهيئ�ة‬
‫اإلداريـة لالحتـاد‪ ،‬وسـارعت إىل إلغـاء إجـازة احتـاد الطلاب‪ .‬لكـن اإلضـراب‬
‫أثـار ضجـة سياسـية واسـعة امتـدت إىل الربلمـان حيـث طالـب بعـض النواب‬
‫بالتحقيـق يف األمـر والبحـث يف مطالـب الطلاب املضربين‪.‬‬
‫لقد شـجعت النجاحات األولية اليت حققها الشـيوعيون يف دار املعلمني‬
‫العاليـة الطلاب الشـيوعيني يف الكليـات األخـرى‪ .‬وقـد لعـب الطلاب يف عـام‬
‫‪ ،1946‬السـيما بعـد أن انضـم الشـيوعيون األكـراد والشـيوعيون يف منظمـة‬
‫(وحـدة النضـال) السـابقة إىل صفـوف احلـزب‪ ،‬وإجـازة األحـزاب السياسـية‬
‫الديمقراطيـة والقوميـة أيام وزارة توفيق السـويدي‪ ،‬دورا نشـيطا يف التحركات‬
‫اجلماهريية اليت انطلقت يف ربيع وصيف ذلك العام‪ .‬وكان أول شـهيد شـيوعي‬
‫طالـب يف ثانويـة التجـارة هـو شـاؤول طويـق‪ ،‬الـذي استشـهد يف مظاهـرة ‪28‬‬
‫حزيـران والتي سـنتحدث عنهـا يف إطار النشـاطات اجلماهريية للحـزب يف عام‬
‫‪ 1946‬يف الفصـل التـايل‪ .‬ومـع ذلـك فـإن هـذه النشـاطات لـم تكـن يف الواقـع‬
‫سـوى املقدمة للنشـاطات الطالبي�ة الواسـعة اليت شـهدتها (وثب�ة كانون) وما‬
‫بعدهـا‪ ،‬كما سنرى‪.‬‬

‫العمــل بيــن النســاء‬


‫مـن املياديـن التي حظيت باهتمـام احلزب يف هـذه الفرتة‪ ،‬ميـدان العمل‬
‫بين النسـاء‪ .‬لقـد أعـار احلـزب منـذ نشـأته األوىل االهتمـام لكسـب النسـاء‬

‫‪ .31‬مــن بــن مــن ضمتهــم القائمــة الشــيوعيون‪ :‬بــدر شــاكر الســياب وممــدوح اآللــويس‬
‫وعزيــز ســباهي وعبــد اجلبــار احللفــي ومــن أصدقــاء احلــزب عبــد اجلليــل علــي الطاهــر‬
‫وإنعــام الدليــي وأخريــن‪ ،‬ويف كليــة الطــب كان مــن بــن الفائزيــن بعضويــة احتادهــا فــاروق‬
‫برتــو و قتيب ـ�ة الشــيخ نــوري‪.‬‬
‫‪299‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫إىل جانبـ�ه وحثهـن علـى مشـاركة الرجـل يف نضالـه الوطني العـام ومـن أجـل‬
‫حقوقهـن الديمقراطيـة‪ ،‬واحلقـوق الديمقراطية العامة لكل الشـعب‪ .‬ويف بلد‬
‫كالعـراق‪ ،‬تفصل فيه التقاليد االجتماعية املرأة عن املشـاركة الواسـعة وحبريه‬
‫يف احليـاة االجتماعيـة‪ ،‬وتفـرض حـول حركتهـا عديـدا مـن القيـود‪ ،‬ال يعود من‬
‫الهين على املرأة االندفاع للمشـاركة يف العمل السـيايس‪ .‬ولـذا كان من مهمات‬
‫الثوريين األوىل العمـل لتحريـر املـرأة مـن القيـود التي تعيـق حركتهـا‪ .‬ويذكـر‬
‫القـارئ املعركـة التي خاضهـا الماركسـيون األوائـل يف صحيفـة (الصحيفـة)‬
‫يف أواسـط العشـرين�ات دفاعـا عـن املـرأة‪ -‬ومـع أن فترة التأسـيس األوىل لـم‬
‫تمتـد طويلا لتعطـي احلـزب الفرصـة لكسـبها للعمـل املباشـر‪ ،‬إال أن احلزب‪،‬‬
‫حتى يف أيامـه األوىل‪ ،‬انتبـ�ه إىل ضـرورة كسـب املـرأة‪ .‬وقـد سـاهمت النسـاء يف‬
‫بعـض عوائـل الشـيوعيني األوائل يف النضـال إىل جانب أزواجهـن أو أبن�ائهن أو‬
‫إخوتهن‪ .‬وحيدثن�ا حسـن عباس الكرباس يف مذكراته عن الشـجاعة واحلماسة‬
‫التي كانـت تب�ديهـا أم عاصـم فليح وهي تنجـز املهمات احلزبي�ة التي يكلفها بها‬
‫ابنهـا‪ .‬لكـن تلـك كانـت حـاالت فردية لعبت فيهـا املصادفـة والعالقـة العائلية‬
‫الـدور األسـايس‪ .‬أمـا يف املرحلـة التاليـة‪ ،‬أي يف األربعينـ�ات‪ ،‬فقـد اختـذ العمـل‬
‫بين النسـاء بعـدا آخـر‪ .‬حـرص احلـزب أوال علـى تعريـف املـرأة بـأن لهـا قضيـة‬
‫يتعين أن تعمـل لهـا‪ ٠‬وكان حيـرص يف يـوم املـرأة العالمي أن يكـرس عـددا مـن‬
‫صحفـه‪( ،‬الشـرارة) آو(القاعـدة)‪ ،‬للحديـث عن قضايا املـرأة‪ ،‬ويعهد بتحريره‬
‫إىل رفيقـات احلـزب ليحدثـن أخواتهـن عـن أوضـاع املـرآة يف العـراق وحقوقهن‬
‫واحلاجـة إىل تكاتفهن لتحسين هذه األوضـاع والدفاع عن هذه احلقوق‪ .‬وكان‬
‫أول نشـاط نسـوي ينظمـه احلـزب املظاهـرة التي نظمتهـا بعـض نسـاء بغـداد‬
‫للمطالبة بتوفري اخلزب للناس يف مطلع عام ‪ ،1942‬وقد سـرن يف شـارع الرشـيد‬
‫وهـن حيملـن نداء موجهـا للويص على العـرش ولرئيس الـوزراء ورئيس مجلس‬
‫النـواب يطالبـون فيـه بإقالـة جلنـة التمويـن املركزيـة والتحقيـق مـع أعضائهـا‬
‫لتالعبهـم بغـذاء الشـعب‪ ،‬ودعين إىل تشـكيل جلـان شـعبي�ة تتـوىل مراقبـة‬
‫نشـاط جلـان التمويـن‪ ،‬وإىل مصـادرة أمـوال املحتكريـن‪ ،‬وإنشـاء جلـان تراقب‬
‫األسـعار‪ ،‬وإىل ضـرورة املتاجرة مع االحتاد السـوفييت لتوفير القمح للعراق‪ .‬وقد‬
‫اعترض البوليس مسيرة النسـاء وأجربهن على التفـرق‪32 32 .‬وكررن مظاهرتهن‬
‫يف اليـوم التـايل‪ ،‬وتعرضـن مـرة أخـرى ملطـاردة وقمـع البوليس‪.‬‬
‫ويف أيـار ‪ ،1943‬وبمناسـبة افتتـ�اح شـارعني يف الكـرخ واالحتفـاالت اليت‬
‫أقامتهـا أمانـة العاصمـة لهـذا الغـرض‪ ،‬خرجـت مجموعـات مـن نسـاء الكـرخ‬
‫بتوجيـه مـن احلـزب يف مظاهـرة ترفـع شـعارات تطالـب‪« :‬اخلبز للشـعب‬

‫‪( .32‬الشرارة)‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬السنة الثاني�ة‪ ،‬شباط ‪.1942‬‬


‫»ةينطولا ةكرحلا ميظنت اووق ‪...‬مكبزح ميظنت اووق«‬ ‫‪300‬‬

‫واملـوت للمحتكريـن»‪ ،‬و «الضـرب علـى أيـدي املحتكريـن واملهربين» و‬


‫«مصـادرة حاصلات الشـيوخ واإلقطاعيين فـورا لتأمين اخلزب للنـاس بأثمان‬
‫تتن�اسـب ودخلهم» ‪ ،‬وقد انضم إىل املظاهرة كثري من الرجال فسـارع البوليس‬
‫‪33 33‬‬
‫إىل تفريـق املظاهـرة واعتقـال بعـض املشـاركات واملشـاركني فيهـا‪.‬‬
‫ومـع اتسـاع نشـاط احلـزب‪ ،‬اجتـه إىل حـث املـرأة علـى النضـال يف‬
‫خطين متوازيين؛ أحدهمـا خـط حـزيب يسـتهدف كسـب رفيقـات يف صفـوف‬
‫احلـزب‪ .‬واجتـه‪ ،‬لهـذا الغـرض‪ ،‬البحـث عنهـن يف املواقـع التي تسـتطيع فيـه‬
‫املـرأة التحـرك‪ ،‬يف الكليـات واملـدارس ويف ميـدان العمـل‪ ،‬إىل جانـب العمـل مـن‬
‫خلال العالقـات العائليـة للمناضلين الشـيوعيني‪ ،‬وقـد جنـح بالفعـل يف إجياد‬
‫ركائـز للعمـل الشـيوعي بين النسـاء يف بغـداد والبصرة واملـدن الكبيرة األخرى‪.‬‬
‫وختصـص بعضهـن ألداء مهمـات املراسـلة احلزبيـ�ة ونقـل األدبيـ�ات احلزبيـ�ة‪.‬‬
‫وقـد تعرضـن لالعتقـال واحلبـس أسـوة برفاقهـن‪ .‬وقـد ظـل رفـاق احلـزب‬
‫يذكـرون الـدور اجلـريء الـذي لعبتـ�ه يف ذلـك الوقـت نزيهـة الدليمي وألـن‬
‫يوسـف وزكيـة خليفـة وعمومـة مصـري (عميـدة مصـري) وسـعيدة مشـعل‬
‫(سـعاد خيري) وأختاهـا حبيبـ�ة وكلير‪ ،‬وعديـد مـن الرفيقـات األخريـات‪.‬‬
‫أمـا اخلـط الثـاين الذي سـلكه احلزب للعمل بني النسـاء‪ ،‬فكان النشـاط‬
‫الديمقراطـي العـام‪ .‬فأسـوة بنشـاط احلـزب الديمقراطـي يف مياديـن العمـل‬
‫اجلماهيري األخـرى‪ ،‬سـعى احلـزب هنـا أيضـا إىل حتفيز النسـاء إىل االنتظـام‬
‫يف منظمـة ديمقراطيـة تأخـذ علـى عاتقهـا العمـل لتعبئـ�ة النسـاء وتثقيفهـن‬
‫حبقوقهـن وبالسـعي للدفـاع عنهـا‪ .‬تكتـب (القاعـدة) تعقيبـ�ا علـى مقـال‬
‫للرفيقـة (مناضلـة) بمناسـبة يـوم املـرآة قائلـة‪:‬‬

‫«ننشـر مقالـة الرفيقـة مناضلـة كمـا جاءنـا منهـا‪ ،‬ونلفـت يف الوقـت‬


‫نفسـه نظـر الرفيقـة إىل نقـص يف مقالهـا «دفعها إليه حتمسـها الزائد‬
‫وحبهـا حلزبهـا الشـيوعي‪ ،‬فاعتبرت الطريـق الوحيـد لتحريـر املـرأة‬
‫هـو الدخـول يف احلـزب الشـيوعي‪ ،‬فنأمـل أن تصحـح هـذا النقـص‬
‫ثـان تبين فيـه اإلمكانيـ�ات األخـرى لنضـال املـرأة العراقيـة‬
‫بمقـال ِ‬
‫واجلماعـات األخـرى التقدميـة التي بإمكانهـا‪ ،‬ويجـب أن تشـجع‬
‫وتسـاعد املـرأة يف نضالهـا‪ ،‬لمـا للحركـة النسـائي�ة مـن ارتبـ�اط متين‬
‫‪34 34‬‬
‫حبركـة التحـرر الوطني‪ ،‬وباحلركـة الديمقراطيـة بصـورة عامـة»‪.‬‬

‫‪ .33‬فهد‪ ،‬مؤلفات الرفيق فهد‪ ،‬ص ‪. 234‬‬


‫‪( .34‬القاعدة)‪ ،‬العدد ‪ ،5 ،4‬آذار ‪.1944‬‬
‫‪301‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وتذكـر الدكتـورة نزيهـة الدلييم التي كانت آنذاك تـدرس الطب يف كلية‬
‫الطـب يف بغـداد أنهـا‪ ،‬بتوجيـه مـن احلـزب‪ ،‬فاحتـت السـيدة عفيفـة رؤوف‬
‫‪35 35‬‬

‫بشـأن تكويـن منظمـة ديمقراطيـة للنسـاء العراقيـات‪ ،‬فرحبـت هـذه باألمـر‬


‫ترحيبـ�ا حـارا‪ ،‬وسـارعت النسـاء الديمقراطيـات اللـوايت كـن يعملـن يف جلنـة‬
‫مكافحـة النازيـة والفاشـية أمثـال عفيفـة رؤوف ونزيهـة رؤوف وروز خـدوري‬
‫وسـعديه الرحـال وفكتوريـا نعمـان وعفيفـة البسـتاين إىل حتويـل اللجنـة مـع‬
‫انتهـاء احلـرب إىل رابطـة نسـاء العـراق‪ .‬وقـد نشـطت الرابطـة بين النسـاء‬
‫وعقـدت اجتماعـا عاما يف عام ‪ 1945‬يف الثانوية املركزية للبن�ات حضرته قرابة‬
‫‪ 400‬امـرأة‪ ،‬وتقـرر فيـه إصدار مجلة باسـم (حترير املـرأة)‪ ،‬صدر منهـا عددان‪.‬‬
‫وقـد ظلـت هـذه الرابطة تعمل حىت حلها نوري السـعيد يف عـام ‪ ،1947‬وضمها‬
‫إىل احتـاد النسـاء العـرايق‪ .‬وكانـت املناضلات العاملات يف هـذه الرابطـة نـواة‬
‫منظمـة رابطـة الدفـاع عـن حقـوق املـرأة التي تكونـت يف اخلمسـين�ات بتوجيـه‬
‫‪36 36‬‬
‫مـن احلـزب أيضـا‪.‬‬
‫‪ .35‬السيدة عفيفة رؤوف هي زوجة األستاذ عبد الفتاح ابراهيم‪.‬‬
‫‪ .36‬من حديث مسجل للدكتورة نزيهة الدلييم مع املؤلف يف ‪.1999/11/7‬‬
‫‪11‬‬
‫الحــزب وأوضاع مــا بعد الحرب‬

‫كان احلـزب قـد أدرك ببعـد نظـر ان البلاد مقبلـة علـى وضـع جديد بعد‬
‫احلـرب ال يعـود معـه يف وسـع احلـكام الرجعيني ومـن ورائهم رجال االسـتعمار‬
‫الربيطـاين أن حيكمـوا البلاد بالطريقـة التي سـاروا عليهـا خلال احلـرب‪ .‬كان‬
‫قائـد احلـزب محقـا يف قولـه إن بريطانيـ�ا قد اسـتغلت‪ ،‬وهـي حليفتنـ�ا‪ ،‬ظروف‬
‫احلـرب وتسـيري املجهـود احلـريب للتدخل والسـيطرة على شـؤون الدولـة عندنا‬
‫وعلـى مرافـق البلاد احليويـة‪ ،‬وبالرغـم مـن ابتعـاد مياديـن احلرب عـن بالدنا‪،‬‬
‫وبالرغـم مـن اقرتاب احلـرب من نهايتهـا‪ ،‬وبالرغم من تصرحياتهـا عن احرتامها‬
‫حلقـوق الشـعوب يف اختيـ�ار احلكـم الـذي تريـد ‪ ،1 1‬وبالرغـم مـن جميـع ذلـك‪،‬‬
‫فتدخلهـا يـزداد يومـا بعـد يـوم أوسـع وأوسـع‪ ،‬وقـد أصبـح تدخلهـا مفضوحـا‬
‫لـدى اجلميـع وممقوتـا مـن اجلميـع‪ .‬باسـتثن�اء املسـتفيدين مـن هـذا الوضـع‪.‬‬
‫واحنطـت سـمعتها األدبيـ�ة لـدى اجلماهير الشـعبي�ة أكثر مـن أي وقـت مىض‪،‬‬
‫واحتكاراتهـا تهيمـن علـى مواردنـا أكثر فأكثر‪ ،‬وشـباك عالقاتهـا العامـة تنشـر‬
‫ولم يعد يسـندها يف البقاء هنا سـوى سلاحها احلريب وعالقاتها غري املشـروعة‬

‫‪ .1‬اإلشــارة هنــا إىل تصريــح األطلــي املعــروف الــذي أصــدره كل مــن الرئيــس األمريكــي‬
‫روزفلــت ورئيــس الــوزراء الربيطــاين تشرشــل يف ‪ 14‬أب ‪ 1941‬والــذي أعلنــا فيــه عــن الــزام‬
‫دولتيهمــا جبملــة مــن املبــادئ الــي تنــص علــى أنــه ليــس للدولتــن أيــة مطامــع إقليميــة‪،‬‬
‫ومعارضتهمــا أيــة تغيــرات إقليميــة ال تتفــق ورغبــات الشــعوب‪ ،‬وإنهمــا يقــران حبــق‬
‫الشــعوب يف اختي ـ�ار نــوع احلكــم يف بلدانهــا‪ ،‬وإعــادة احلقــوق بالســيادة إىل تلــك الشــعوب‬
‫الــي احتلــت أوطانهــا بالقــوة‪ ،‬واإلقــرار حبريــة التجــارة والتعــاون االقتصــادي الــدويل والعمــل‬
‫حلفــظ الســام ونــزع الســاح وحريــة اســتخدام البحــار (احلســي‪ ،‬تاريــخ الــوزارات‪ ،‬اجلــزء‬
‫اخلامــس‪ ،‬ص ‪.)114/113‬‬
‫‪303‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪304‬‬

‫‪22‬‬
‫مـع املتنفذيـن الذيـن ترتبـط مصاحلهـم الشـخصية مـع مصاحلهـا‪.‬‬
‫صـار الشـعب جياهـر برفضـه االسـتمرار علـى العيـش وفـق األسـلوب‬
‫القديم‪ ،‬ولم يعد خافيا عقم السبي�ل الذي سار عليه احلكم‪ ،‬وعربت كل القوى‬
‫الوطنيـ�ة عـن سـخطها علـى األوضـاع السياسـية واالقتصاديـة واالجتماعيـة‬
‫التي يعيشـها الشـعب‪ ،‬وطالبـت جميعهـا بإنهـاء األحـوال االسـتثن�ائي�ة التي‬
‫فرضـت يف ظروف احلرب واحلاجة الماسـة إىل إطلاق احلريات الديمقراطية‬
‫وإلغـاء الرقابـة علـى الصحافـة وإجازة األحـزاب السياسـية‪ ،‬واشـتدت احلملة‬
‫علـى احلكومـة القائمـة آنـذاك وانعكسـت حتى يف الربلمان‪.‬‬
‫يف غمـرة هـذا الوضـع املتوتـر‪ ،‬عقـدت اللجنـة املركزيـة يف أيلـول ‪1945‬‬
‫اجتماعـا كاملا ناقشـت فيـه احتمـاالت الوضـع وتوصلـت إىل أن أزمـة احلكـم‬
‫سترغم احلـكام على اختاذ خطـوات لتصريف هذه األزمـة‪ ،‬وأن على احلزب أن‬
‫يتخـذ خطـوات ضروريـة لالسـتفادة مـن الظـروف اليت ستنشـأ واختذ قـرارات‬
‫هامـة يف هـذا الشـأن‪ ،‬مـن بينها التقـدم بطلب إجـازة حزب علني يكونه احلزب‬
‫‪33‬‬
‫وتت�ألـف هيئتـ�ه املؤسسـة مـن رفـاق موثوقين ال خيرجـون عـن توجيهاتـه‪.‬‬
‫وتكليـف مجموعـة مـن رفـاق احلـزب اليهـود بالتقـدم لطلـب إجـازة منظمـة‬
‫ديمقراطيـة تكافـح ضـد الصهيونيـ�ة ‪ ،4 4‬وتأسـيس دار للنشـر‪ ،‬وحتفيز العمـال‬

‫‪ .3‬كانــت جتربــة احلــزب األوىل يف هــذا الشــأن قــد جــرت يف بدايــة عــام ‪ 1942‬حــن تقــدم‬
‫عبــد هللا مســعود القريــي ومحمــد صالــح حبــر العلــوم وآخــرون‪ ،‬بطلــب إجــازة حــزب‬
‫ســيايس باســم (حــزب الوحــدة الوطنيــ�ة الديمقراطــي) وقــد تضمــن برنامجــه تأليــف‬
‫جبهــة وطني ـ�ة موحــدة بالتعــاون مــع ســائر املنظمــات الوطني ـ�ة‪ ،‬وتمتــع الشــعب حبقوقــه‬
‫الدســتورية والديمقراطيــة وجعــل االنتخابــات علــى درجــة واحــدة‪ ،‬والعمــل ملســاواة املــرأة‬
‫بالرجــل‪ ،‬وحــق األقليــات بممارســة تقاليدهــا القوميــة والتعليــم بلغاتهــا‪ ،‬وحتقيــق الوحــدة‬
‫العربيــ�ة علــى أســاس كونفــدرايل‪ ،‬ومطالــب اجتماعيــة واقتصاديــة عديــدة‪ .‬ونقــد نشــر‬
‫برنامــج احلــزب يف جريــدة (الشــرارة) العــدد اخلامــس‪ ،‬شــباط ‪ 1942‬ولكــن احلكومــة‬
‫رفضــت الطلــب‪ ،‬ومــات املشــروع مــع انشــقاق عبــد هللا مســعود القــرين‪.‬‬
‫وجــاءت املحاولــة الثانيــ�ة حــن شــجع احلــزب حيــى قاســم وتوفيــق منــر وابراهيــم‬
‫الدركــزيل وعبــد الرحيــم شــريف وأخــرن علــى التقــدم بطلــب إجــازة حــزب ســيايس باســم‬
‫(حــزب الشــعب) يف عــام ‪ 1943‬فماطلــت احلكومــة واكتفــت بإجــازة جريــدة لهــم باســم‬
‫(الشــعب)‪ .‬إال أن خالفــا نشــب بــن حيــى قاســم وجماعتــه بعــد أن انفــرد باجلريــدة الــي‬
‫أجــزت باســمه وخــرج عليهــم وعلــى اخلــط الوطــي أساســا‪ .‬إال أن جماعتــه ظلــت تطالــب‬
‫بإجــازة احلــزب‪ ،‬ثــم انضــم إىل املجموعــة عزيــز شــريف وأبعدهــم عــن احلــزب الشــيوعي‪،‬‬
‫وقــد نالــت اإلجــازة كمــا ســرى‪.‬‬
‫‪ .4‬يذكــر يعقــوب مصــري‪ ،‬أبــو ســرود‪ ،‬أن فكــرة إنشــاء منظمــة العصبــة قــد انبثقــت عــن‬
‫اللجنــة احلزبيـ�ة الــي كان هــو فيهــا‪ ،‬والــي كانــت تضــم رفاقــا مــن اليهــود وغــر اليهــود‪ ،‬وقــد‬
‫‪305‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫علـى تأليـف النقابـات العماليـة‪ ،‬والعمـل لتكويـن منظمـات ديمقراطيـة‬


‫ملسـاعدة الفالحين علـى النحـو الـذي رأينـ�ا يف الفصـل السـابق‪.‬‬
‫وبموجـب هـذه القـرارات‪ ،‬قـدم يعقـوب مصـري وسـرور صالـح قطـان‬
‫وابراهيـم نـايج ويعقـوب سـحيق ورفـاق آخـرون طلبـا إىل وزارة الداخليـة يف‬
‫‪ 12‬أيلـول ‪ 1945‬للسـماح لهـم بت�أسـيس جمعيـة باسـم (عصبـة مكافحـة‬
‫الصهيونيـ�ة) وأرفقـوا طلبهـم بالنظـام األسـايس للمنظمة‪ .‬وقد جـاء يف طلبهم‬
‫«حنـن نعتقـد‪ ،‬إخالصـا‪ ،‬بـأن الصهيونيـ�ة خطـر علـى اليهـود مثلما هي‬
‫خطـر على العـرب وعلى وحدتهم القومية‪ .‬وحنـن إذ نتصدى ملكافحتها‬
‫عالنيـ�ة وعلـى رؤوس األشـهاد‪ ،‬إنمـا نعمـل ذلك ألننـ�ا يهـود وألنن�ا عرب‬
‫يف نفـس الوقت»‬

‫وحيلـل الطلـب املشـكلة اليهودية ويؤكـد أن لها جذورا عميقـة يف النظام‬


‫االجتماعـي‪ ،‬وأن الذيـن يصـرون علـى املحافظة علـى امتي�ازاتهـم وعلى العيش‬
‫متطفلين علـى دمـاء أبنـ�اء الشـعب هـم الذيـن جيعلـون اليهـود كبش الفـداء‪..‬‬
‫أمـا الصهيونيـ�ة فهـي حركـة اسـتغاللية رجعيـة تسـعى إىل اسـتغالل مـا يقـع‬
‫علـى اليهـود مـن مظالـم مـن جانـب الطبقـات االسـتغاللية يف مجتمعاتهـم‬
‫لتسـخرهم من أجل أغراضها الرأسـمالية االسـتغاللية‪ ..‬ويقول املؤسسـون يف‬
‫طلبهم ‪:‬‬
‫«ولمـا كانـت قضيـة فلسـطني هـي قضيـة البلاد العربيـ�ة بأسـرها فال‬
‫يمكـن إذن أن نقـف إال جبانـب عـرب فلسـطني»‪.‬‬

‫وجاء يف املنهاج‪:‬‬
‫«إن أهـداف العصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة وفضـح أعمالهـا ونواياهـا‬
‫بين جماهير الشـعب العـرايق‪ ،‬السـيما بين اليهـود»‪.‬‬

‫وحتـدث الربنامـج عـن الوسـائل املباشـرة التي ستسـلكها يف حتقيـق‬

‫رفــع االقــراح إىل قيــادة احلــزب وأيــده فهــد‪ ،‬وجــرى التحــرك مــن بعــد علــى النحــو الــذي‬
‫حتدثن ـ�ا عنــه ‪ -‬مــن رســالة يعقــوب مصــري إىل الدكتــور عبــد اللطيــف الــراوي‪ ،‬انظــر‪ :‬عبــد‬
‫اللطيــف الــراوي‪ ،‬عصبــة مكافحــة الصهيونيـ�ة يف العــراق ‪ ،1946 - 45‬دار وهــران‪ ،‬دمشــق‪،‬‬
‫‪ ،1986‬ص ‪.229‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪306‬‬

‫أهدافهـا ومـن بينهـا إصـدار صحيفة‪ ،‬وإصـدار املنشـورات والكراريـس وإقامة‬


‫االجتماعـات وإلقـاء املحاضـرات وعـرض الرقـوق السـينمائي�ة والتعـاون مـع‬
‫املؤسسـات التي تكافـح الصهيونيـ�ة يف العـراق ويف البلـدان العربيـ�ة الشـقيقة‬
‫واالشتراك يف املؤتمـرات العامليـة املعاديـة للصهيونيـ�ة وإصـدار املطبوعـات‬
‫باللغـات األجنبيـ�ة لفضـح الصهيونيـ�ة وشـرح قضيـة فلسـطني العادلـة‪،‬‬
‫وفضـح عملاء الصهيونيـ�ة أمـام جماهير اليهـود‪ ،‬ومحاربة النفـوذ االقتصادي‬
‫الصهيـوين الـذي حيـاول السـيطرة على البلاد العربيـ�ة اقتصاديـا والقضاء على‬
‫الصناعـات الوطنيـ�ة الناشـئة‪.‬‬
‫أمـا الوسـائل غري املباشـرة فهـي‪ ،‬كما قـال الربنامج‪ ،‬العمـل على مكافحة‬
‫النعرات الطائفية اليت تمزق وحدة الشعب العرايق‪ ،‬وبث الروح الديمقراطية‪،‬‬
‫ومعاجلـة مشـاكل اليهـود االجتماعيـة التي ختلـق التذمـر وتفسيرها تفسيرا‬
‫علميـا‪ ،‬وفضـح أولئـك الذين يريدون اسـتغاللها لبث الدعايـة الصهيوني�ة بني‬
‫‪55‬‬
‫جماهير اليهـود‪ ،‬السـيما الشـباب منهـم‪.‬‬
‫وراحـت الهيئـ�ة املؤسسـة تطـوف علـى رجـال السياسـة يف البلاد علـى‬
‫اختلاف مشـاربهم وأفكارهم السياسـية‪ ،‬وحتصل منهم علـى التصرحيات اليت‬
‫تؤيـد نشـاطهم وتب�اركه بمـن فيهم رئيـس احلكومة آنذاك‪ ،‬حمـدي الباجه يج‬
‫وأبـدى هـؤالء الساسـة اسـتعدادهم ملسـاعدتها‪ .‬وشـرعت الهيئ�ة املؤسسـة يف‬
‫عملهـا‪ ،‬وقـد تلقـت الهيئـ�ة املؤسسـة برقيـات التأييـ�د مـن جمعيـة عمـال بيت‬
‫جـاال يف فلسـطني‪ ،‬وجمعيـة العمـال العـرب يف غـزة ومـن اللجنـة التنفيذيـة‬
‫ملؤتمـر العمـال العـرب يف يافـا وجمعيـة العمـال العـرب يف بئر السـبع ومـن‬
‫عصبـة التحـرر الوطني يف حيفـا‪.‬‬
‫وبمناسـبة يـوم وعـد بلفـور أصـدرت الهيئـ�ة املؤسسـة بي�انـا فضحـت‬
‫فيـه النوايـا الغـادرة التي كانـت تبيتهـا بريطانيـ�ا للشـعب العـريب‪ ،‬وتآمرهـا مـع‬
‫الصهيونيـ�ة ضـد إرادة الشـعب الفلسـطيين‪ ،‬وقالـت إنهـا تعلـن‪:‬‬
‫«باسم يهود العراق استنكارها لهذا الوعد واحتجاجها عليه»‬

‫وقالـت مخاطبـة اليهـود الذيـن يفكـرون بـأن حـل مشـكلة االضطهـاد‬


‫الـذي يتعـرض لـه اليهـود يف أوربـا يمكـن أن يتـم بالهجـرة إىل فلسـطني‬

‫‪ .5‬مركــز الدراســات الفلســطيني�ة‪ ،‬عصبــة مكافحــة الصهيونيــ�ة‪ ،‬جامعــة بغــداد‪ ،‬جلنــة‬


‫توثيــق القضيــة الفلســطيني�ة‪ ،1977 ،‬ص ‪.14‬‬
‫‪307‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫«إن (حـل) فلسـطني هـو فضلا عـن أنـه ال حيـل املشـكلة اليهوديـة‪،‬‬
‫فهـو اعتـداء صريـح غاشـم علـى حقـوق الشـعب العـريب ال يمكـن أن‬
‫يرضـاه أي إنسـان حـر‪ ...‬وحنـن بصفتنـ�ا يهـودا وعربـا يف نفـس الوقـت‬
‫نعلـن اسـتنكارنا لوعـد بلفـور واحتجاجنـا عليـه‪ ،‬وندعـو كل مواطـن‬
‫للنضـال مـن أجل اسـتقالل فلسـطني اسـتقالال تامـا وتأليـف حكومة‬
‫ديمقراطيـة عربيـ�ة فيهـا‪ ،‬ومنـع الهجـرة إىل فلسـطني وإيقـاف انتقـال‬
‫‪66‬‬
‫األرايض إىل الصهاينـ�ة»‪.‬‬

‫إال أن حكومـة حمـدي الباجـه يج لـم تكتـف بمماطلـة الهيئـ�ة املؤسسـة‬


‫للعصبـة فقـط‪ ،‬وإنمـا راحـت تعرقل نشـاطها‪ ،‬رغـم أن القانـون كان جييز لها أن‬
‫تعمـل للدعايـة للمنظمـة يف إطـار القانـون طالمـا لـم ترفـض احلكومـة طلـب‬
‫اإلجـازة بعـد‪ .‬وقـد داهـم البوليـس مقـر الهيئـ�ة املؤسسـة وانتزع اللوحـة التي‬
‫تشير إليها وحجز بعض موجوداتها من الصحف واملجالت ونسـخا من البي�ان‬
‫املشـار إليـه‪ .‬ورفضت أن تسـمح لهـا بإقامة اجتمـاع احتجاجا على وعـد بلفور‪.‬‬
‫غير أن املنظمـة ظلـت تواصـل عملهـا ولـم تضعـف عزيمـة الرفـاق املؤسسين‬
‫أمـام العقبـات التي شـرعت السـلطات تضعهـا يف طريقهـا‪ .‬ففـي اجتمـاع عام‬
‫عقدتـه القـوى الوطنيـ�ة بمناسـبة وعـد بلفـور‪ ،‬شـاركت الهيئ�ة املؤسسـة فيه‪،‬‬
‫ألقـى نعيـم سـلمان‪ ،‬أحـد املؤسسين للمنظمة‪ ،‬كلمـة بالني�ابـة عنها قـال فيها‪:‬‬
‫«لقـد عرفنـا يف الصهيونيـ�ة حركـة اسـتعمارية وحنـن باعتب�ارنـا يهـودا‬
‫واعين نقـف يف وجه كل حركة اسـتعمارية مهمـا كان لونها ومهما كانت‬
‫أسـبابها ومـن أي صـوب أتـت‪ .‬لقد عرفناهـا حركة تب�اعد بين اليهودي‬
‫ومواطنيـ�ه الذيـن يعيشـون علـى أرض الوطـن يشـاركهم خرياتهـا‬
‫وثمارهـا‪ ،‬ولذلـك لـم نتردد يف إعلان جهادنـا ضدهـا صراحة ولـم نرض‬
‫بـل ولـن نـرىض بغير عراقنـا بديلا‪ ،‬وسـوف لـن تلين قناتنـ�ا حتى جنهـز‬
‫‪77‬‬
‫عليهـا باالشتراك مـع إخواننـ�ا العـرب يف جميـع أحنـاء البلاد العربيـ�ة»‪.‬‬

‫وحتقيقـا للقـرار بشـأن تكوين حزب علين باسـم (حزب التحـرر الوطين)‬
‫تقـدم كل مـن حسين محمـد الشـبييب (عضـو املكتـب السـيايس للحـزب)‬
‫ومحمـد حسين أبـو العيـس وسـالم عبيـ�د النعمـان ومحمـود صالـح السـعيد‬
‫وعبـد اجلبـار حسين جـار هللا وأخريـن بطلـب تأسـيس حـزب سـيايس يف ‪22‬‬
‫‪ .6‬مركــز الدراســات الفلســطيني�ة‪ ،‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪ ،33‬نقــا عــن جريــدة (الــرأي‬
‫العــام) العــدد ‪ 1371‬الصــادر يف ‪ 2‬تشــرين الثــاين ‪.1945‬‬
‫‪ .7‬جعفر عباس حميدى‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.400/399‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪308‬‬

‫أيلـول ‪ 1945‬بهـذا االسـم‪ ،‬وأرفقـوا طلبهـم بربنامج احلـزب ونظامـه الداخلي‪.‬‬


‫وقـد جـاء الربنامـج تطويـرا للميثـ�اق الوطني للحـزب الشـيوعي العـرايق‪.‬‬
‫ففي باب (االستقالل والسيادة الوطني�ة) جاء‪:‬‬
‫«يثمـن حزبنـ�ا‪ ،‬ويضـع يف مقدمـة كل يشء وفـوق كل يشء اسـتقالل‬
‫الوطـن العـرايق والسـيادة الوطنيـ�ة‪ ،‬ويدعـو ويعمـل حزبنـ�ا مـن أجـل‬
‫تعديـل جميـع املعاهـدات واالتفاقيات املعقـودة بينن�ا وبين بريطاني�ا‪..‬‬
‫حبيـث تلغـى جميـع االتفاقيات والربوتوكـوالت اليت تفـرض علين�ا بقاء‬
‫قواعـد عسـكرية أجنبي�ة أو جيوش أجنبي�ة يف بالدنـا وتفرض امتي�ازات‬
‫عسـكرية‪ ..‬وسياسـية واقتصاديـة وغريهـا‪.‬‬
‫إن حزبنـ�ا يؤمـن بمبـدأ حـق كل شـعب يف تقريـر مصيره‪ ،‬وعلـى هـذا‬
‫األسـاس‪ ،‬يعترف جلميع الشـعوب املجـاورة والبعيدة حبقهـا الكامل يف‬
‫احلريـة واالسـتقالل وحبقهـا يف الدفـاع عـن هـذا احلـق»‪.‬‬

‫وجاء يف مادته الثاني�ة‪:‬‬


‫«املبـدأ الديمقراطـي‪ :‬يدعـو حزبنـ�ا ويعمـل يف سـبي�ل نظـام احلكـم‬
‫الديمقراطـي الـذي يتن�اسـب ومرحلـه قطرنـا التاريخيـة ضمـن التطور‬
‫العالمي الراهـن باعتبـ�اره الوسـيلة الوحيـدة لتطمين رغبـات وطمـوح‬
‫شـعبن�ا للتقـدم االجتماعـي والعمـراين‪.‬‬
‫إننـ�ا ندعـو ونعمـل مـن أجـل رفـع مخلفـات احلكـم البائـد والقوانين‬
‫والنظـم العشـائرية املكتوبـة واملحفوظـة‪ ،‬وإللغـاء القوانين العثماني�ة‬
‫والهتلربـة التي ال تالئـم وضعنـا ولرفـع القوانين االسـتثن�ائي�ة وجميـع‬
‫القوانين التي تمنع أو حتد من ممارسـة الشـعب للحريات الشـائعة يف‬
‫األقطـار الديمقراطيـة الكبرى‪.‬‬
‫يدعـو حزبنـ�ا ويعمـل مـن أجـل حقـوق الشـعب االنتخابيـ�ة وتوسـيعها‬
‫وجعلهـا حـرة‪ ،‬وعلـى درجة واحـدة‪ ،‬وشـاملة جلميع البالغين‪ ،‬من اجل‬
‫برلمان تتمثل فيه سـلطة الشـعب احلقة‪ ،‬من أجل حكومة تسـتن�د إىل‬
‫أكرثيـة هـذا الربلمـان وتعمـل ملصلحة الشـعب‪ ،‬من أجل جهـاز حكويم‬
‫ديمقراطـي نظيف‪.‬‬
‫يدعـو حزبنـ�ا ويعمـل مـن أجـل اهتمـام الشـعب بانتخـاب مجالـس‬
‫إداريـة لها حق اإلشـراف واملراقبـة‪ ،‬وين�اضل ويدعو الشـعب لالهتمام‬
‫باملجالـس البلديـة حبيث ينتخـب أعضاؤها جميعهـم والرئيس انتخابا‬
‫حـرا غير مقيـد باعتبـ�ارات اجتماعيـة أو تملكيـة»‪.‬‬
‫‪309‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وبالنسبة إىل اجليش قال الربنامج‪:‬‬


‫«‪ -3‬الدفـاع الوطني‪ :‬يدعـو ويعمـل احلـزب لتقويـة جيشـنا الوطني‬
‫وجعلـه جيشـا عصريـا وعلى اسـتعداد أبـدا للدفاع عن حيـاض الوطن‬
‫وعـن كرامـة الشـعب وسـيادته الوطنيـ�ة‪ ،‬لزتويـده بأحـدث اآلليـات‬
‫واملعـدات وبالعلـوم والفنـون احلربيـ�ة احلديثـ�ة‪ ،‬لتثقيـف اجلنـدي‬
‫وتربيتـ�ه الرتبيـ�ة الوطنيـ�ة الديمقراطيـة‪ ،‬لالعتنـ�اء بمرتبـ�ه وملبسـه‬
‫وغذائـه ووسـائل تسـليت�ه‪ ،‬ويدعـو حزبنـ�ا ويعمـل علـى رفع األسـاليب‬
‫غير الالئقـة التي يعامل بهـا اجلندي كالضرب والسـجن والعقـاب وما‬
‫أشـبه»‪.‬‬

‫وبشأن الوحدة بني قوميات الشعب قال‪:‬‬


‫«‪ -4‬الوحـدة الوطنيـ�ة‪ :‬ويعمـل حزبنـ�ا مـن أجـل تثبيـت الوحـدة‬
‫الوطنيـ�ة بين جميـع طبقـات الشـعب وأقسـامه اليت يهمها اسـتقالل‬
‫العـراق وتقدمـه وانتصـار النظـام الديمقراطـي فيـه‪ ،‬ويـرى حزبنـ�ا أن‬
‫حجـر الزاويـة لبنـ�اء هـذه الوحدة هـو الصداقـة واألخوة بين القوميتني‬
‫الرئيسيتني اللتني يت�ألف منهما الشعب العرايق‪ ،‬بني العرب واألكراد‪،‬‬
‫صداقـة مبني�ة على أسـاس االحترام املتب�ادل واملسـاواة التامة يف جميع‬
‫احلقـوق السياسـية والثقافيـة واالقتصاديـة دون تمييز أو حتديـد‪.‬‬
‫وكذلـك يدعـو حزبنـ�ا إىل الصداقـة واألخـوة بين العـرب واألكـراد مـن‬
‫جهة وبني اجلماعات القومية واجلنسـية الصغرية اليت تسـكن العراق‬
‫كالرتكمـان واألرمـن وغريهـم والدفـاع عـن حقـوق هـذه اجلماعـات يف‬
‫اللغـة والثقافـة القوميـة واملسـاواة التامـة يف احلقـوق دون أي تمييز أو‬
‫حتديد»‪.‬‬

‫وجـاء يف المـادة السادسـة مـن الربنامـج بشـأن نضـال احلـزب ضـد‬


‫ا لصهيونيـ�ة‪:‬‬
‫«يـرى حزبنـ�ا يف النشـاط الصهيـوين االسـتعماري خطـرا ال يهـدد‬
‫فلسـطني فحسـب‪ ،‬بـل البلاد العربيـ�ة بأسـرها‪ ،‬ألنهـا عـدا عـن كونهـا‬
‫حركـة اسـتعمارية عنصريـة فاشـية‪ ،‬فهـي يف الوقـت ذاتـه أداة رجعيـة‬
‫بأيـدي الـدول االسـتعمارية الكبرى وسلاحا تشـهره ضـد احلركـة‬
‫التحرريـة العربيـ�ة‪ ،‬لذلك يدعو حزبن�ا ويعمل علـى مقاومة الصهيوني�ة‬
‫عندنـا ويسـاعد شـعبن�ا العـريب يف فلسـطني ماديـا ومعنويـا يف كفاحـه‬
‫ضـد اخلطـر الصهيـوين»‪.‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪310‬‬

‫ودعـا احلـزب إىل نضـال الشـعوب العربيـ�ة املشترك ضـد االسـتعمار‬


‫ولتحـرر البلـدان العربيـ�ة‪ ،‬ورفـع االمتيـ�ازات العسـكرية والسياسـية‬
‫واالقتصاديـة عـن األقطـار العربيـ�ة املسـتقلة‪ .‬وطـور برنامجـه االقتصـادي‬
‫قياسـا إىل امليثـ�اق الوطني للحـزب الشـيوعي‪ .‬هنا جيـري احلديث عن اسـتثمار‬
‫ثـروات القطـر الطبيعية‪ :‬النفط والرواسـب املعدنيـ�ة والغابـات واملياه لغرض‬
‫تصنيـع القطـر‪ ،‬والعمـل لتحـرر العملـة العراقيـة مـن االرتبـ�اط بمصـارف‬
‫لنـدن وتأسـيس مصـرف وطني مركـزي حتصـر فيـه العملـة العراقيـة واألموال‬
‫والودائـع العائدة للدولـة‪ ،‬ودعا إىل تصنيع البالد من جانب األفراد واجلماعات‬
‫واحلكومـة‪ ..‬ودعـا إىل النضـال ضـد الشـركات االحتكاريـة اليت تتحكـم بتجارة‬
‫البلاد وبالنقـل البحـري وحتـدث عن حقوق العمـال والفالحني وحـق الفالح يف‬
‫حيـازة أرض خاصـة بـه وإنقـاذه مـن اسـتغالل املالكين والسـراكيل‪ ،‬لكنـه لـم‬
‫يتحـدث بشيء عـن االسـتيلاء علـى امللكيـات الكبيرة‪ .‬ودعـا إىل‪:‬‬
‫«االهتمـام باملثقفين باعتب�ارهـم حملة منـار ثقافتن�ا الوطنيـ�ة والعلوم‬
‫وخير وسـيلة لذلـك هي اإلسـراع يف تصنيـع القطـر وإدخال األسـاليب‬
‫احلديثـ�ة يف الزراعـة وبهـذا يمكـن توظيـف عـدد كبير مـن مثقفينـ�ا يف‬
‫إدارة هـذه املشـاريع‪ ،‬ويف توسـيع التعليم العايل اجلامعي‪ ،‬ويف تأسـيس‬
‫املشـاريع واملعاهـد الفني�ة»‬

‫وطلـب بمسـاواة املرأة بالرجل سياسـيا واجتماعيـا واقتصاديا‪ ،‬وبتطوير‬


‫التعليـم وتوسـيعه‪ ،‬والعنايـة بصحـة اجلماهير وتوفير السـكن للشـغيلة يف‬
‫املـدن والريف‪.‬‬
‫لـم تلـب حكومـة حمـدي الباجـه يج طلـب الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب‬
‫التحريـر الوطني‪ ،‬لكنها لم ترفض الطلب‪ ،‬وهذا يعىن‪ ،‬حبسـب القانون‪ ،‬أن من‬
‫حـق الهيئـ�ة املؤسسـة أن تواصل نشـاطها الدعايئ حىت جياب الطلـب باملوافقة‬
‫أو الرفـض‪ .‬كذلـك كان يعطيهـا القانون احلـق يف رفع طلبها إىل مجلـس الوزراء‬
‫إذا مـا رفـض وزيـر الداخلية الطلب ليصـدر املجلس قراره بالرفـض أو القبول‪.‬‬
‫ولمـا لـم جتـب الهيئـ�ة املؤسسـة بالرفـض بـادرت هـذه إىل العمـل واختـذت مـن‬
‫مكتب املحايم سـالم عبي�د النعمان‪ ،‬عضو الهيئ�ة املؤسسـة‪ ،‬يف شـارع الرشـيد‬
‫مقـرا لهـا‪ ،‬وراحـت تصـدر املطبوعـات للتعريـف بربنامـج احلـزب وطرائقـه يف‬
‫العمـل‪ ،‬واسـتقبال الوفـود التي كانـت تتقاطـر مـن األلويـة املختلفـة للتعبير‬
‫عـن تأيي�دهـا للهيئـ�ة املؤسسـة‪ ،‬وبادر احلـزب الشـيوعي العرايق إىل شـن حملة‬
‫واسـعة لتأييـ�د طلب الهيئ�ة املؤسسـة والضغـط إلجازة احلـزب‪ .‬واختذ الرفيق‬
‫زكـي محمـد بسـيم مـن مقـر الهيئـ�ة املؤسسـة مقـرا لـه لإلشـراف علـى كامـل‬
‫‪311‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫النشاط‪.‬‬
‫قابلـت احلكومـة مـن جانبهـا هـذا النشـاط بإجـراءات قمعيـة‪ ،‬إذ بادرت‬
‫إىل إحالـة الهيئـ�ة املؤسسـة لعصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة إىل املحاكـم إثـر‬
‫إصدارهـم البيـ�ان الـذي أشـرنا إليـه بمناسـبة وعـد بلفـور‪ ،‬بزعـم أنهـم ألفـوا‬
‫جمعية سياسـية دون أن يسـتحصلوا مـن احلكومة إذنا بذلـك‪ -‬ولكن محكمة‬
‫جـزاء بغـداد أفرجـت عنهـم‪ ،‬ألنهـم لـم يتعـدوا حـدود مـا أجـازه القانـون‪ .‬وردت‬
‫احلكومـة بتمييز الدعـوى‪ ،‬إال أن محكمـة التمييز ردت الدعـوى هـي األخـرى‪،‬‬
‫وأيـدت مـا ذهـب إليـه حاكـم جـزاء بغـداد‪ .‬وبـادر البوليـس بعدهـا إىل اعتقـال‬
‫حسين محمـد الشـبييب‪ ،‬رئيـس الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني‪،‬‬
‫بذريعـة أن أخـاه ذو عالقـة بالنشـرات الشـيوعية!!‬
‫إذاك سـارع احلـزب الشـيوعي العـرايق إىل الـرد علـى إجـراءات احلكومـة‬
‫التعسـفية بتقديـم مذكـرة ضافيـة يف احلـادي والعشـرين مـن تشـرين الثـاين‬
‫‪ ١٩٤٥‬إىل رئيـس الدولـة وإىل رئيس مجلس األمة (النـواب واألعيان)‪ ،‬ووجهها‬
‫أيضـا إىل رؤسـاء كل مـن بريطانيـ�ا والواليـات املتحـدة واالحتـاد السـوفييت‪،‬‬
‫وإىل رؤسـاء الـدول العربيـ�ة؛ مصـر وسـوريا ولبنـ�ان‪ ،‬حيتـج فيهـا علـى احلكومة‬
‫العراقيـة وعلـى «حليفتهـا بريطاني�ا العظىم‪ ،‬لسـلوكهما املخالـف والبعيد كل‬
‫البعـد عـن القواعـد واملبـادئ الديمقراطيـة»‪.‬‬
‫واسـتعرض احلـزب يف مذكرتـه مـا عانـاه الشـعب مـن جـوع وحرمـان‬
‫طـوال سني احلـرب مسـاهمة منـه يف املجهـود احلريب املشترك ضد الفاشـية‪،‬‬
‫أملا أن ينتهـي كل ذلـك مـع انتهـاء احلـرب والنصـر علـى الفاشـية‪ .‬إال أن‬
‫احلكومـة العراقيـة ومـن ورائهـا بريطانيـ�ا واصلتـا اضطهـاد الشـعب حتى بعد‬
‫انتهـاء احلـرب وحتقيق النصر‪ .‬واسـتعرض احلزب يف مذكرتـه ما عاناه ويعاني�ه‬
‫العمـال وحرمانهـم مـن حقوقهم النقابي�ة‪ ،‬وكذلك ما عاناه الشـباب يف كلياتهم‬
‫ومدارسـهم ملجـرد مطالبتهم بت�أسـيس احتادات طالبي�ة‪ .‬وحتدثـت املذكرة عما‬
‫القـاه ويالقيـه الشـعب الكردي من اضطهـاد‪ ،‬وكيف تصم احلكومـة العراقية‬
‫أذانهـا عـن سـماع شـكاويه ومطالباتـه باإلصلاح وقال‪:‬‬
‫«إن سـلوك احلكومـة العراقيـة وحليفتهـا احلكومـة الربيطانيـ�ة جتـاه‬
‫الشـعب الكـردي ال يتفـق وأبسـط مبـادئ احلـق والعدالـة‪ ،‬ومنافاتـه‬
‫حلقـوق األكـراد الذيـن يؤلفـون ربـع سـكان العـراق ولهـم كل احلـق يف‬
‫التمتـع باحلريـات الدسـتورية والديمقراطيـة»‪.‬‬

‫واسـتنكرت املذكـرة موقـف احلكومـة العراقيـة من مطالبـة اجلماعات‬


‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪312‬‬

‫الوطنيـ�ة حبقهـا يف تأليـف األحـزاب السياسـية وإصدار الصحـف‪ ..‬وقالت‬


‫إن موقـف احلكومـة العراقيـة هـذا مـن حـق املواطنين العراقيين يف‬
‫تأليـف األحـزاب وتنكيلهـا بمـن يتقـدم بطلـب هـذا احلـق أمـر ال يتفـق‬
‫مـع ألـف بـاء الديمقراطية وحنن ال ندري كيف تسـتطيع هذه احلكومة‬
‫تسـمية نفسـها بالديمقراطيـة وتسـميه النظـام القائـم بالنظـام‬
‫الديمقراطـي يف حين أنهـا تنكـر على الشـعب العـرايق حقـه يف التنظيم‬
‫السـيايس وحقـه يف االجتمـاع والنشـر وغيره‪.‬‬

‫ثـم حملت املذكـرة على إصرار احلكومة يف العراق على التمسـك بقانون‬
‫مكافحة الشـيوعية باسـم «منع الدعايات الضارة» وقالت‬
‫إن احلكومـة يعميهـا تعصبها عـن رؤية الظروف اليت شـرع فيها قانون‬
‫الدعايـات املضـرة‪ ،‬إنـه شـرع عندمـا كان جنـم غروبـا يت�ألـق يف سـماء‬
‫العـراق‪ ،‬عندمـا كان رجال بريطاني�ا هنا ينهجون السياسـة اليت وضعها‬
‫وبشـر بهـا املستر تشـمربلن‪ ،‬سياسـة الرتاجـع أمـام املعتـدي‪ ،‬سياسـة‬
‫إعطـاء الفاشسـت كل مـا طلبـوه‪ ...‬فأيـن تلـك الظـروف مـن ظروفنـا‬
‫الراهنـة؟‪ ...‬إن هـذا القانـون ال يشـرف احلكومـة العراقيـة ألن وجـوده‬
‫دليـل علـى عـدم ديمقراطيتهـا‪ ،‬وألنـه يسـاعد‪ ،‬كمـا سـاعد يف السـابق‪،‬‬
‫علـى تهيئـ�ة البيئـ�ة التي تلـد وتـريب األفـكار والعناصر الفاشـية‪.‬‬

‫وهاجمـت موقـف احلكومـة مـن الصهيونيـ�ة ومنعهـا الشـعب العـرايق‬


‫مـن التعبير عـن سـخطه علـى الصهيونيـ�ة‪ ،‬وضربـت مثلا علـى ذلـك بموقـف‬
‫احلكومـة مـن الهيئـ�ة املؤسسـة ملكافحـة الصهيونيـ�ة‪.‬‬
‫وتن�اولـت املذكـرة يف األخير الفسـاد الـذي يعـم اجلهـاز احلاكـم‪ ،‬وقالـت‬
‫إنـه جهـاز غير ديمقراطـي وال خيـدم مصالـح الشـعب‪ ،‬وحملـت علـى الطريقـة‬
‫التي جيـري فيهـا جتنيـ�د أنصـار احلكـم إىل مجلـس النـواب‪ .‬واختتـم احلـزب‬
‫مذكرتـه بقولـه‪:‬‬
‫إننـ�ا نطلـب إىل بريطانيـ�ا أن تنهـي سـيطرتها التي فرضتهـا علـى وطننـ�ا‬
‫لغـرض تسـيري املجهـود احلـريب‪ ،‬وأن تكـف عـن التدخـل يف شـؤون‬
‫دولتنـ�ا وأن تنهـى امتي�ازاتهـا العسـكرية وغريهـا اليت تمس باسـتقاللنا‬
‫وبسـيادتن�ا الوطنيـ�ة‪ ...‬إن شـعبن�ا‪ .‬املحـروم مـن حقوقـه الديمقراطية‬
‫والتنظيـم السـيايس ‪ ٠‬حيتفـظ حبقـه الكامـل يف رفـض كل معاهـدة أو‬
‫اتفاقيـة تعقدهـا‪ ،‬أو تصريـح تـديل بـه‪ ،‬احلكومـة القائمـة‪ ،‬إذ أنهـا ال‬
‫‪313‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫يمكـن أن تمثلـه وهـي حتبـس حقوقـه الديمقراطيـة‬

‫وطالبـت بإلغـاء القوانين االسـتثن�ائي�ة والرجعيـة واملحاكـم اإلداريـة‬


‫والعرفيـة وإطلاق سـراح املعتقلين السياسـيني املتهمين بالشـيوعية‬
‫واملعتقلتين حبـوادث حركـة بـارزان وغريهـا وإقامـة نظـام حكـم ديمقراطـي‪.‬‬
‫وضعـت مذكـرة احلـزب‪ ،‬إىل جانـب االنتقـادات التي حملتهـا الصحافة‬
‫الوطنيـ�ة واملعارضين يف مجلـس النـواب‪ ،‬السياسـة الربيطانيـ�ة يف العـراق‪،‬‬
‫وارتب�اطـا بذلـك سياسـة احلكـم يف العـراق‪ ،‬يف موضـع دقيـق‪ .‬ويبـ�دو أن مـن‬
‫كان بي�دهـم مقاليـد احلكـم شـعروا أنهـم يف حاجـة إىل كسـب الوقـت لتكييـف‬
‫السياسـة العامـة يف العـراق بما يتفق مـع األوضاع اجلديدة التي تمخض عنها‬
‫االنتصـار علـى الفاشـية مـن جانـب وحاجـة بريطانيـ�ا إىل تسـوية أوضاعهـا يف‬
‫عمـوم املنطقـة‪ ،‬وأن ال منـاص مـن إجـراء تغييرات يف طريقـة احلكـم ووجـوه‬
‫احلـكام تسـمح ببعـض التنفيـس لتصريـف األزمـة السياسـية التي باتـت‬
‫تطبـق علـى البلاد‪ .‬يف هـذا اجلـو السـيايس خـرج الـويص علـى العـرش علـى‬
‫الشـعب خبطابه يف السـابع والعشـرين من كانـون األول ‪ 1945‬والـذي تواترت‬
‫املعلومـات علـى انـه أعـد يف السـفارة الربيطانيـ�ة‪ 8 8 .‬وفيـه يقـر بضـرورة إجـراء‬
‫تعديلات ضرورية يف سياسـة احلكـم تؤمن ما دعاه بالصيانـة االجتماعية من‬
‫ضمـان اجتماعـي ضد العجز والشـيخوخة وتأمين ضد البطالـة وتوفري العمل‬
‫وضمانـه للعاملين‪ ..‬الخ وبالعـدل االجتماعـي‪ ،‬واحلاجة إىل إعـداد جيل جديد‬
‫يتـوىل أعبـاء احلكـم واملسـؤولية‪ ،‬واألهـم مـن كل ذلـك‪ ،‬ضـرورة فسـح املجـال‬
‫لظهـور األحـزاب والهيئـ�ات السياسـية «التي لـم يعد يصـح بقاء البلاد خالية‬
‫منها» وإعداد الحئة قانون جديد لالنتخابات «تسـمح للناخبني اإلفصاح عن‬
‫‪99‬‬
‫رغائبهـم‪ ،‬وتمكنهـم مـن توجيـه سياسـة البلاد توجيهـا ديمقراطيـا كاملا»‪.‬‬
‫و «نصحـت» السـفارة الربيطانيـ�ة بتغيير بعض الوجـوه يف احلكام بعد‬

‫‪ .8‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات‪ .،‬ويقول الدكتور فاضل حسني يف كتابه (تاريخ‬


‫احلــزب الوطــي الديمقراطــي)‪« :‬واملفهــوم أن اإلنكلــز ونــوري الســعيد‪ ،‬هــم الذيــن أشــاروا‬
‫عليــه بإلقــاء هــذا اخلطــاب لتهدئــة الشــعب وكســب الوقــت لكــي يعــودوا بعــد قليــل إىل‬
‫األســاليب التقليديــة يف االســتب�داد» (احلســي‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪)31‬؛ وينقــل جعفــر عبــاس‬
‫حميــدى عــن محمــد فخــري اجلميــل‪ ،‬أحــد رجــاالت السياســة املعروفــن يف العهــد امللكــي‪،‬‬
‫أن اخلطــاب قــد وضــع يف الســفارة الربيطانيـ�ة‪ .‬وأنــه جــاء مفاجئــا لرجــال السياســة‪ .‬وحنــن‬
‫ال نســتبعد ذلــك بعــد أن جــاء حــزب العمــال للحكــم يف بريطانيـ�ا يف األجــواء السياســية الــي‬
‫ســادت العالــم بعــد احلــرب‪.‬‬
‫‪ .9‬احلسين‪ ،‬اجلزء السادس‪ ،‬ص ‪.318‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪314‬‬

‫ً‬
‫أن ظلـت وزارة حمـدي الباجـه يج حتكـم البـلاد أكثر من عشـرين شـهرا وقبلها‬
‫وزارات نوري السـعيد ملعظم سني احلرب‪ .‬كذلك نصحــت بالتسـليم ببعض‬
‫مطالـب الشـعب‪ .‬تطبيقـا لهـذا عهــد باحلكـم إىل توفيـق السـويدي الــذي‬
‫ضمـت وزارتـه بعـض الشخصيــات الوطني�ة اليت لـم تكن ختفـي معارضتها يف‬
‫الربملــان مثـل سعــد صالح جريـو وعبد الوهـاب محمـود وعبد الهادي الظاهــر‬
‫‪ ،10 10‬وطلـب إليـه أن ينفـذ مـا جـاء يف خطـاب العـرش الـذي أشـرنا إليـه‪.‬‬
‫سـارع احلـزب الشـيوعي العـرايق إىل إصـدار بيـ�ان يف األول مـن آذار‬
‫‪ 1946‬أعلـن فيـه أن مطالـب الشـعب الرئيسـية ال يمكـن أن حتققهـا الـوزارة‬
‫اجلديـدة‪ ،‬ألن عديـدا مـن أعضائهـا هم من مؤيـدي األوضاع القائمـة‪ .‬وطالب‬
‫بإلغـاء القوانين االسـتثن�ائي�ة واألحـكام العرفيـة وإطلاق سـراح املوقوفين‬
‫واملسـجونني السياسـيني والسـماح بت�أليف األحـزاب السياسـية واجلمعيات‬
‫وإصـدار الصحـف وإعـادة نقابـة عمـال سـكك احلديـد املعطلة ووضـع قايض‬
‫جديـد لالنتخابـات‪ ،‬وغلـق مكاتـب ودوائـر الدعايـة واجلاسوسـية الربيطاني�ة‪.‬‬
‫كذلـك طالـب جبلاء اجليـوش الربيطانيـ�ة عـن العـراق وسـحب ضباطهـا‬
‫ووكالئهـا السياسـيني مـن األلويـة والعاصمـة‪ ،‬وإعـادة النظـر يف املعاهـدة‬
‫العراقيـة الربيطانيـ�ة ووضـع حـد ملنـاورات بريطانيـ�ا الراميـة إىل إجيـاد تكتلات‬
‫باسـم (احتـاد العـراق وشـرق األردن) و(سـوريا الكبرى) وبعـث (ميثـ�اق سـعد‬
‫‪11 11‬‬
‫آبـاد)‪.‬‬
‫يف ‪ 23‬شـباط ‪ ،1946‬عهـد إىل توفيـق السـويدي بتشـكيل الـوزارة‬
‫اجلديدة‪ .‬إال أن هذه الوزارة ما كان بوسـعها أن تنقل البالد إىل وضع جديد حقا‬
‫يتيح للشـعب أن يمارس سيادته وحقوقه الديمقراطية كاملة‪ .‬كان االستعمار‬
‫الربيطـاين يدرك أنه لم يعد بوسـعه أن يتجاهل كليـة مصالح الطبقات األخرى‬
‫جميعهـا دون أن يفقـد مصاحلـه هـو أيضـا‪ ،‬واحلـل بالنسـبة لـه يكمـن يف إجيـاد‬
‫أي مخـرج شـرط أن تضمـن مصاحلـه ومشـاريعه‪ ،‬وهـذا يعني جتـزئ احللـول‪،‬‬
‫وليـس إطالقهـا كاملـة‪ .‬وقـد أدرك حتى اجلنـاح اليميني يف احلركـة الوطنيـ�ة‬
‫ذلـك‪ 12 12.‬وهـذا مـا حـدث تمامـا‪ .‬إذ أنهـا أقدمـت علـى تشـريع قانـون جديـد‬

‫‪( .11‬القاعدة)‪ ،‬العدد ‪ 7‬السنة الرابعة‪ 1 ،‬آذار‪.1946‬‬


‫‪ .12‬يقــول الشــيخ محمــد مهــدي كبــة‪ ،‬زعيــم حــزب االســتقالل‪ ،‬يف مذكراتــه (يف صميــم‬
‫األحــداث‪ ،‬ص ‪« )111‬لــم يكــن الــويص‪ ،‬وال الطبقــة احلاكمــة‪ ،‬وال متبعوهــم مــن اإلنكلــز‪،‬‬
‫جاديــن يف تنفيــذ هــذه السياســة اجلديــدة الــي أعلــن عنهــا الــويص‪ ،‬ولــم نكــن وال الساســة‬
‫والعناصــر الوطنيــ�ة األخــرى الــي بــادرت إىل تأليــف األحــزاب واجلمعيــات السياســية‬
‫واثقــن مــن حســن ني ـ�ة القائمــن يف احلكــم وحدهــم يف انتهــاج السياســة الــي أعلــن عنهــا‬
‫الــويص‪ ،‬غــر أنن ـ�ا وبــايق الزمــاء مــن رجــال األحــزاب األخــرى رأين ـ�ا مــن واجبنـ�ا انتهــاز هــذه‬
‫‪315‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫لالنتخابـات لكنـه ظـل علـى درجتين‪ ،‬ولـم يضمـن للمـرأة حقهـا يف الرتشـيح أو‬
‫التصويـت‪ .‬وألغت مرسـوم االعتقال الذي صدر بعـد حوادث ‪ 1941‬وأطلقت‬
‫سـراح مـن كان محتجـزا يف املعتقـل إال أنهـا أبقـت علـى املوقوفين السياسـيني‬
‫بتهمـة الشـيوعية‪ .‬واحتجـت يف مذكـرة قدمتهـا إىل السـفارة الربيطانيـ�ة حـول‬
‫التوصيـات التي قدمتهـا جلنـة التحقيـق األنكلـو‪ -‬أمريكيـة بشـأن فلسـطني‬
‫لكنهـا سـارعت إىل مباركـة عبـد هللا بـن احلسين‪ ،‬أمير شـرق األردن‪ ،‬وتهنئتـ�ه‬
‫بالنتـ�اجئ التي حققهـا مـن زيارتـه إىل لنـدن يف شـباط ‪ 1946‬مـع أن هـذه الزيـارة‬
‫تمـت للتفـاوض معـه علـى تقسـيم فلسـطني بين العـرب واليهـود وضـم‬
‫القسـم العـريب إىل «دولـة» شـرق األردن واملنـاداة بعبـد هللا ملـكا علـى الدولـة‬
‫اجلديـدة‪ ،‬وهـو مـا حـدث بالفعل مـن بعـد‪ .‬وأجـازت يف الثاين من نيسـان طلب‬
‫الهيئ�ات املؤسسـة خلمسـة أحزاب للمالكني األحرار والبورجوازية املتوسـطة‬
‫والربجوازيـة الصغيرة لكنهـا حجبـت اإلجـازة عـن حـزب للعمـال والفالحين‪،‬‬
‫حـزب التحـرر الوطني‪ ،‬رغـم أنـه كان أكرثهـا نفـوذا بين اجلماهير بدعـوى أن‬
‫بعـض طالبي تأسيسـه لهـم عالقـة باحلـزب الشـيوعي العرايق غير املجـاز‪ .‬أما‬
‫بالنسـبة إىل عصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة فـإن وزارة السـويدي لم جتزهـا إال لما‬
‫طلبـت السـفارة العراقيـة يف لنـدن مـن وزارة اخلارجيـة العراقيـة «العمـل على‬
‫إجيـاد جمعيـة يهوديـة يف العـراق تعمل علـى مكافحـة الصهيونيـ�ة وأطماعها يف‬
‫فلسـطني‪ ،‬وتعـرف جلنـة التحقيق األنكلـو‪ -‬أمريكية عـن موقف يهـود العراق‬
‫السـليب جتاه األطمـاع الصهيوني�ة ومعارضتهم لها» كمـا يقول تقرير البوليس‬
‫العـرايق يف ‪ 19‬حزيـران ‪ 13 13.1946‬وبالفعـل مـا إن أدت مهمتهـا هـذه حىت بادرت‬
‫إىل غلقهـا كمـا سنرى‪ .‬وبالرغـم مـن أن الـوزارة وعدت بمنـح الصحافـة حريتها‬
‫إال أنهـا لـم تمنـح بعـض الوطنيين األحـرار حـق إصـدار الصحـف التي تقدمـوا‬
‫بطلـب إلصدارهـا باسـم (التحـرر) و(احلقيقـة) و(احلريـة) رغـم توفـر جميع‬
‫الشـروط القانونيـ�ة‪ ،‬ورغـم تن�ازلهـم عـن الـورق املخصـص لهـا‪ ،‬وكانـت شـحة‬
‫الـورق يومهـا ذريعـة تلجـأ لهـا احلكومـات آنـذاك للتملـص مـن منـح إجـازات‬
‫إصـدار الصحـف‪ ،‬وأجـازت بعـض األحزاب السياسـية إال أنهـا ماطلت يف فتح‬
‫فـروع لهـا يف األلويـة رغـم أن القانـون ال جييز للإدارات املحليـة أن تعرقـل ذلك‪.‬‬
‫أدرك احلـزب كل ذلـك‪ ،‬وان هـذه الـوزارة لـن يطـول بهـا العمـر كثيرا وأن‬
‫االسـتعمار وأعوانـه لـن يطيقـوا امتـداد فترة االنفـراج النسبي يف احلريـات إىل‬

‫الفرصــة لتنظيــم احليــاة السياســية يف البــاد‪ ،‬وجميــع العناصــر الوطنيــ�ة فيهــا‪ ،‬ونشــر‬
‫الوعــي الســيايس الوطــي بــن أبنــ�اء الشــعب»‪.‬‬
‫‪ .13‬جعفر عباس حميدي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.401‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪316‬‬

‫أكثر مـن بضعـة شـهور‪ ،‬وهـذا مـا جـرى فعلا ‪ 14 14‬لهـذا‪ ،‬تعين عليـه أن يسـتثمر‬
‫أيـام النشـاط «العلني» هـذه إىل أبعـد احلـدود‪ .‬كان علـى راس مهماتـه أن‬
‫يوضـح للجماهير الواسـعة الشـعارات األساسـية التي يتعين أن تن�اضـل مـن‬
‫أجلهـا بعـد احلـرب وطبيعـة املرحلـة التي تمـر بهـا احلركـة الوطنيـ�ة‪ ،‬وان يرفع‬
‫مـن وعيهـا السـيايس مـن اجـل ان تقطـع علـى االسـتعمار الربيطـاين وأعوانـه‬
‫طـرق النكـوص إىل األوضـاع السـابقة ومواصلة مـا انقطع من مشـاريع يبيتها‬
‫بعـد أن بـات مـن املتعـذر االسـتن�اد إىل معاهـدة ‪ 1930‬لتن�افيها مـع الحئة األمم‬
‫املتحـدة‪ ،‬وأن يعمـل مـن أجـل جتميـع القـوى الوطنيـ�ة يف جبهة واحـدة تتصدى‬
‫للمشـاريع التي بـدأ التحضير لهـا كما دل علـى ذلك عقـد االتفاقيـة العراقية ‪-‬‬
‫الرتكيـة‪ ،‬وأن يسـعى إىل تعبئـ�ة وتنظيـم أقصى مـا يمكـن مـن القـوى لتطويـق‬
‫حتـركات القـوى الرجعيـة‪ ،‬وكان يـدرك انـه كلمـا حشـد قـوى أكبر حـول احلزب‬
‫ال يعـود مـن السـهولة علـى السـلطة أن تمـد ذراعهـا لضربـه‪.‬‬

‫السعي لتأسيس حزب التحرر الوطني‬


‫كانت خطة احلزب هي أن يزج جميع الشيوعيني للعمل يف حزب التحرر‬
‫الوطني كدعـاة ومنظمين لـه‪ ،‬ويف مجـرى النضـال يتـم تشـخيص العناصـر‬
‫الكفـؤة والثابتـ�ة واألكثر وعيـا العاملـة يف حـزب التحـرر الوطني لرتشـيحها إىل‬
‫صفـوف احلـزب الشـيوعي‪ .‬وعلـى هـذا األسـاس انطلـق الشـيوعيون لبـث‬
‫الدعـوة إىل حـزب التحـرر الوطين وإىل توزيع وشـرح برنامجه بنطاق واسـع جدا‬
‫بعد أن طبع باللغتني العربي�ة والكردية‪ ،‬وتنظيم منتسـبي�ه يف منظمات محلية‬
‫ومهنيـ�ة‪ .‬بيـ�د أن احلـدود بين التنظيمين الشـيوعي والتحرري زالـت يف مجرى‬

‫‪ .14‬ينقــل طــه الهاشــي يف مذكراتــه (اجلــزء الثــاين‪ ،‬ص ‪ )126‬مــا رواه عبــد الهــادي‬
‫الظاهــر‪ ،‬وزيــر االقتصــاد بالوكالــة يف وزارة توفيــق الســويدي املذكــورة‪ ،‬يف هــذا الشــأن‪« :‬إن‬
‫وزارة الســويدي قامــت بكثــر مــن األعمــال الــي أغضبــت اإلنكلــز‪ ،‬ومــن جملتهــا مطالبــة‬
‫احلكومــة اإلنكلزييــة بدفــع ضريبــ�ة الدخــل عــن ســبائك الذهــب الــي باعتهــا احلكومــة‬
‫اإلنكلزييــة بواســطة املصــرف الشــريق‪ ،‬ودفــع أجــور الســكك احلديديــة واملطالبــة بإشــراك‬
‫العراقيــن يف شــراء أســهم النفــط كمــا جــاء يف نــص االتفاقيــة‪ ،‬إذ أن للعراقيــن احلــق بــأن‬
‫يشــروا عشــرين باملئــة مــن األســهم الــي تصــدر جديــدا‪ ،‬وكان هــذا الطلــب جــرى زمــن‬
‫توليــي وكالــة لــوزارة االقتصــاد‪ ،‬واملطالبــة بت�دريــب العراقيــن علــى شــؤون النفــط وبي ـ�ان‬
‫عــدد الذيــن تدربــوا منهــم علــى هــذه األمــور حــى يســتطيعوا أن حيلــوا محــل األجانــب قبــل‬
‫انتهــاء املــدة املعينـ�ة» (نقــا عــن علــي كاشــف الغطــاء‪ ،‬ســعد صالــح يف مواقفــه الوطنيـ�ة‪،‬‬
‫بغــداد‪ ،‬مطبعــة الرايــة‪.)1989 ،‬‬
‫‪317‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫العمـل الكثيـف مـن جهـة وحبكـم أن الضغـط املتواصـل الـذي ركزتـه السـلطة‬
‫للقضـاء علـى حـزب التحرر الوطني وعرقلة نشـاطاته لم يبق ضمـن تنظيماته‬
‫فعلا سـوى العناصـر النشـيطة والراسـخة التي كانـت يف الواقـع قـد تشـربت‬
‫بشـعارات احلـزب الشـيوعي وأهدافـه‪ ،‬فهـي تقـرأ صحيفتـه (القاعـدة)‪،‬‬
‫وتتثقـف بالماركسـية وشـيئ�ا فشـيئ�ا كانـت تـروض علـى ضبـط احلـزب‬
‫الشـيوعي وتعتـاد حياتـه الداخليـة‪ ،‬ومـع األيـام باتـت تمـارس العمـل السـري‬
‫وعـودت نفسـها علـى أعبائـه ومتاعبـه وصـارت تتقـن أسـاليب�ه وتقني�اتـه‪.‬‬
‫جلـأت الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني إىل إصـدار رسـائل‬
‫دوريـة باسـم (رسـائل التحـرر) بعضهـا دراسـات مطولـة يف صورة كتـب تعالج‬
‫األهـداف التي ين�اضـل احلـزب لتحقيقهـا‪ .‬وقـد صـدر مـن هـذه (االسـتقالل‬
‫والسـيادة الوطنيـ�ة) حلسين محمـد الشـبييب و(اجلبهـة الوطنيـ�ة املوحـدة)‬
‫للشـبييب أيضـا و(اقتصادنـا الوطني) ملحمـد علـي الزرقـة و (مسـتوانا الصحي‬
‫وكيـف نرفعـه) للدكتـور رشـيد معتـوق‪ .‬وبعضهـا اآلخـر يف صـورة مجلـة تضـم‬
‫مقـاالت سياسـية يف الدعـوة إىل شـعارات احلـزب ونشـاطاته‪ ،‬وقد صـدر منها‬
‫ثالثـة أو أربعـة أعـداد‪ .‬ووضـع صاحـب مجلـة (واسـط)‪ ،‬وهـي مجلـة مغمـورة‬
‫كانـت تصـدر يف الكـوت‪ ،‬مجلته حتـت تصرف الهيئ�ة املؤسسـة للحـزب‪ ،‬فعهد‬
‫احلـزب إىل محمـد علـي الزرقـة برئاسـة حتريرهـا ‪ -‬وكان يوقـع باسـم مـازن ‪-‬‬
‫وحتولـت إىل مجلـة واسـعة االنتشـار‪.‬‬
‫عالـج حسين محمـد الشـبييب موضـوع (االسـتقالل والسـيادة‬
‫الوطنيـ�ة) مـن زاويـة جديـدة علـى الفكـر السـيايس يف العـراق يومـذاك‪ .‬وقـال‬
‫وهـو يهـدي كتابـه «إىل كل شـعب مناضـل حـر حيرقـه االسـتعمار بنـ�اره‪ ،‬إىل كل‬
‫شـعب يـدرك أن ال خلاص مـن شـقائه وجهلـه وبؤسـه وأمراضـه إال بالتحـرر‬
‫مـن نير االسـتعمار‪ ،‬بالكفـاح لتفكيـك أغاللـه وفصـم عـراه‪ ،‬إىل كل شـعب حـر‬
‫يـدرك أن ال خلاص مـن االسـتعمار إال بنشـر الوعـي الصحيـح وبالكفـاح وفـق‬
‫نظريـة علميـة توائـم مرحلـة تطـوره االجتماعـي‪ ،‬أرفع هـذه الرسـالة» ووقعها‬
‫بــ ‪ :‬حسين محمـد الشـبييب‪ ،‬عضـو الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني‪،‬‬
‫بغـداد‪ ،‬املوقـف العـام ‪ ، 1946/2/5‬إذ كان قد وضع كتابـه وهو اليزال موقوفا‬
‫بتهمـة أن أخـاه كان حيـوز نشـرات شـيوعية!!‬
‫وضع مقدمة الكتاب يوسـف سـلمان يوسـف فهد‪ -‬وقد سعى أن يؤكد‬
‫يف املقدمـة مثلمـا يؤكـد املؤلف يف منت الكتاب أن مفهوم االسـتقالل والسـيادة‬
‫الوطنيـ�ة تطـور باالرتبـ�اط مـع التطـورات التي حصلـت يف العالم جـراء احلرب‬
‫التي شـنت علـى الفاشـية واالنتصـار عليهـا‪ .‬فلـم يعـد االسـتقالل والسـيادة‬
‫الوطنيـ�ة يعىن مجرد املفهوم السـيايس لالسـتقالل وإنما بات شـديد االرتب�اط‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪318‬‬

‫بالديمقراطيـة االجتماعيـة التي تضمـن جلماهير الشـعب‪ ،‬كل الشـعب‪ ،‬ال‬


‫الطبقـات العليـا املتملكـة وحدهـا‪ ،‬وإنما بعمالـه وفالحيه وشـغيلته ومثقفيه‪،‬‬
‫احليـاة الكريمـة‪ .‬ويؤكد كذلـك على أن مفهوم االسـتقالل والسـيادة الوطني�ة‬
‫ينطـوي علـى ثالثـة أقاليـم جتمـع بينهـا وحـدة عضويـة‪ .‬ورغـم أنـه ال يمكـن أن‬
‫جيـري احلديـث عـن هـذه اجلوانـب الثالثـة بقـدر واحـد مـن األهميـة‪ ،‬إذ تظـل‬
‫لالسـتقالل السـيايس قيمـة خاصـة‪ ،‬وال يمكـن حتقيـق التطـور اجلـدي يف‬
‫احليـاة االقتصاديـة واالجتماعيـة للبلاد مـا لـم يقـض الشـعب بي�ديـه علـى‬
‫زمـام السـلطة السياسـية‪ ،‬وأن العـراق ال يمكـن أن حيـل قضايـاه االقتصاديـة‬
‫واالجتماعيـة إذا لـم يسـتكمل اسـتقالله‪.‬‬
‫ويالحـظ املؤلـف أن احلرب الثاني�ة اليت انتهت بدحر الفاشـية عسـكريا‬
‫وسياسـيا وفكريـا قـد أكـدت حـق الشـعوب ىف تقريـر مصائرهـا‪ .‬إن تقريـر‬
‫املصير مبـدأ حيـث ينتهـي حـل القضيـة الوطنيـ�ة حلا حاسـما يقضي علـى‬
‫جميـع اجلـذور الماديـة والفكريـة‪ ،‬االقتصادية والسياسـية‪ ،‬التي تعرقل تقدم‬
‫الشـعوب وازدهارهـا يف جميـع نـوايح حياتهـا‪ .‬إن الشـعوب خاضـت احلرب يف‬
‫كل البلـدان علـى أسـاس‬
‫«حماية اسـتقاللها والقضاء على كل تدخل أجنيب يف شـؤونها‪ ،‬وتطهري‬
‫بالدهـا مـن العناصر والفئات الرجعية اليت ال تفكر باملصالح الشـعبي�ة‬
‫وال تعمـل للكرامـة القوميـة‪ ،‬للتخلص مـن األنظمة الباليـة اليت تعرقل‬
‫تقدمهـا ورفـع مسـتواها‪ ،‬وتغري أسـلوب حياتها تغريا جوهريـا إىل حيث‬
‫رفاههـا وسـعادتها‪ ،‬التخلـص مـن كل مـا يعيـق نشـاطها السـيايس‬
‫وحيـد مـن حرياتهـا الديمقراطيـة وازدهارهـا االقتصـادي‪ ،‬التخلـص‬
‫مـن االضطهـاد القـويم والفـروق العنصريـة وكل مـا يعرقـل وحدتهـا‬
‫الوطني�ة‪ ،‬التخلص من النفوذ االسـتعماري واالسـتثمار األمربيالستي‬
‫ونهـب ثرواتهـا الوطني�ة»‪.‬‬

‫ويشير املؤلـف إىل الرابطـة مـا بين ضمـان االسـتقالل الوطني وحفـظ‬
‫السلام مـا بين الشـعوب‪ .‬ويشـدد علـى أن مفهـوم االسـتقالل الوطني‬
‫بالنسـبة للعـراق يتطلـب العمـل لتثبيـت الوحـدة الوطني�ة بني جميـع طبقات‬
‫الشـعب وأقسـامه التي يهمهـا اسـتقالل العـراق وتقدمـه وانتصـار النظـام‬
‫الديمقراطـي فيـه‪ .‬وجعـل حجـر الزاويـة يف هذه الوحـدة الصداقـة واألخوة بني‬
‫القوميتين الرئيسـيتني اللتين يت�ألـف منهمـا الشـعب العـرايق‪ ،‬بين العـرب‬
‫والكـرد‪ ،‬صداقـة مبني�ة على أسـاس االحرتام املتب�ادل واملسـاواة التامة يف جميع‬
‫احلقـوق السياسـية والثقافيـة واالقتصاديـة‪ ،‬دون تمييز أو حتديـد‪ ،‬وأن ندعـو‬
‫‪319‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫إىل الصداقـة واألخـوة بين العـرب والكـرد مـن جهـة وبين اجلماعـات القوميـة‬
‫واجلنسـيات الصغـرى التي تسـكن العـراق كالرتكمـان واألرمـن وغريهمـا‪،‬‬
‫والدفـاع عـن حقـوق هـذه اجلماعـات يف اللغـة والثقافـة القوميـة واملسـاواة‬
‫التامـة يف احلقـوق دون تمييز أو حتديـد ‪ -‬وأن نقـاوم كل فـرد أو جماعـة أو حركة‬
‫تسـعى بت�أثير طائفـي أو عنصـري لتصديـع هـذه الوحـدة وإضعافهـا‪.‬‬
‫ويتحـدث عـن العالقـة بين مفهـوم االسـتقالل السـيايس وسـعادة‬
‫الشـعب ورفاهـه‪ .‬ويؤكـد بوجـه خـاص بالنسـبة إىل العـراق العالقـة مـا بين‬
‫االسـتقالل واإلصلاح الزراعـي‪ .‬ويشـدد علـى العالقـة مـا بين الديمقراطيـة‬
‫وانتفـاء االسـتعمار‪ .‬فحيـث يوجـد اسـتعمار ال توجـد ديمقراطيـة‪ ..‬علـى هـذا‬
‫األسـاس ال يصـح وصـف بلـدان املرتوبـول بالديمقراطيـة طالمـا هـي ختضـع‬
‫بلـدان املسـتعمرات إرضـاء ملصاحلهـا‪.‬‬

‫حزب التحرر الوطني ينشط من أجل الجبهة الوطنية الوحدة‬


‫كانـت مهمـة جمع كل القـوى الوطنيـ�ة يف جبهة موحدة للوقـوف يف وجه‬
‫مـا كان خيططه االسـتعمار وأعوانه للبالد مهمة ملحـة‪ .‬كانت اجلبهة الوطني�ة‬
‫املوحدة كسلاح سـيايس قد جربها عديد من الشـعوب وبرهنت على أهميتها‪.‬‬
‫إن اجلبهـة‪ ،‬عـدا عن كونها جتمع وتنسـق ما بني القوى املشتركة فيها وتوجهها‬
‫بصـورة مركـزة حنـو نقطـة واحـدة حتددهـا قيـادة اجلبهـة‪ ،‬فإنهـا تشـجع فئـات‬
‫واسـعة مـن خـارج هـذه القـوى علـى أن تركـز النـار علـى هـذه النقطـة أيضـا‪.‬‬
‫العمـل املوحـد وضمـن املجموعـة املوحـدة يظـل دائما أكثر تأثريا مـن عمل ذات‬
‫األطـراف ولكـن علـى انفراد ‪ ٠‬الفرد يف إطـار املجموعة هو أقـوى وأصلب منه لو‬
‫كان منفـردا‪ .‬ومـا يصـح على الفرد يصح علـى املنظمـات‪ .‬وألن التاريخ تصنعه‬
‫الشـعوب تظـل احلاجـة قائمـة دائمـا لتحشـيد اوسـع القـوى‪ .‬وألن الطبقـات‬
‫والفتـات االجتماعية يف الشـعب الواحـد ذات مصالح وتطلعـات ورؤى وأفكار‬
‫مختلفـة فذلـك يعني أن هنـاك حاجـة إىل جهـاز‪ ،‬منظمـة‪ ،‬للتنسـيق بين هـذه‬
‫التب�اينـ�ات‪ .‬لقـد كان يصـح احلديـث عـن حتشـيد كل القـوى يف حـزب واحـد‬
‫حين لـم يكن بوسـع اجلماهري الواسـعة من الشـغيلة‪ ،‬مـن العمـال والفالحني‬
‫والكادحين اآلخريـن‪ ،‬أن يميزوا مصلحتهم الطبقية اخلاصـة يف غمرة النضال‬
‫الوطني العـام‪ ،‬حين لـم تكـن لديهـا اخلبرة والوعـي الـذي يعينهـا يف إدراك مـا‬
‫يكمـن وراء مواقـف الطبقـات املتملكـة‪ .‬أمـا بعـد أن تمايـزت هـذه املصالـح‬
‫وبالتـايل النظـرات واملواقـف‪ ،‬ونمـت الطبقـة العاملـة‪ ،‬وشـرعت تكسـب‬
‫النضـج الـذي يعينهـا يف تمييز مصلحتهـا ومصالـح حلفائهـا مـن الكادحين‬
‫اآلخريـن‪ ،‬وتكدسـت لديها اخلربة الكافية إلدراك ما يكمـن وراء مواقف وأفكار‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪320‬‬

‫وحتـركات الطبقـات املتملكـة مـن الطبقـات ذات املصلحـة يف النضـال ضـد‬


‫االسـتعمار‪ ،‬بـات ال يصـح احلديـث عـن حـزب واحـد جلميـع القـوى‪ .‬والواقع‪،‬‬
‫إن ممثلـي الطبقـات املتملكـة هـم ذاتهـم ال يؤمنـون بشـعار احلزب الواحـد ‪،15 15‬‬
‫هـذا يف حـدود احلركـة الديمقراطيـة‪ ،‬أما إذا نظرنـا إىل احلركـة بنطاقها الوطين‬
‫األوسـع الـذي يضـم قـوى وطنيـ�ة أخـرى تتب�ايـن نظراتهـا إىل حـد أبعـد> فـإن‬
‫احلديـث عـن احلـزب الواحد ال يعود يصـح مطلقا‪ .‬ومع أن الدعـوة إىل اجلبهة‬
‫الوطنيـ�ة املوحـدة كان يـراد بهـا أن جتمـع القـوى الديمقراطيـة وحدهـا إال أن‬
‫التجربـة التاريخيـة برهنـت علـى قصور هـذه النظـرة‪ ..‬وأن هنـاك حاجة جدية‬
‫إىل تطويـر الدعوة لتشـمل كل القـوى الوطني�ة اليت تعادي االسـتعمار وأعوانه‪،‬‬
‫وهـذا مـا حصـل بالفعـل يف العقـد التايل‪.‬‬
‫ويضـع حسين محمـد الشـبييب يـده علـى نقطـة مهمـة وهـي التب�اين يف‬
‫نظـرة املعسـكرين إزاء الديمقراطيـة التي ينبغـي أن تتوفـر داخـل تنظيمات كل‬
‫منها‪ ،‬فإذا كانت الطبقات الشعبي�ة تفرز قياداتها يف مجرى النضال‪ ،‬ويفرتض‬
‫نظريـا هنـا أن يتـم األمـر بصـورة ديمقراطيـة‪ ،‬فـإن الربجوازيـة احلـرة «حتـاول‬
‫اختـاذ جميـع القيـود والتحفظـات خوفـا مـن فقدانهـا قيادتهـا يف منظماتهـا»‪.‬‬
‫ويالحـظ أن الدعـوة إىل دمـج الديمقراطيين يف حـزب واحـد قـد صـدر مـن‬
‫جانـب ممثلـي الفئـات اليت تت�أرجـح يف مصاحلهـا وأفكارها بني جنـايح احلركة‬
‫الديمقراطيـة الرئيسـيني; بين حركـة البورجوازيـة احلـرة وحركـة الطبقـة‬
‫العاملـة والفالحين‪ ،‬وذريعتهـم يف األمـر كـون الدعـوة إىل اجلبهـة الوطنيـ�ة‬
‫املوحـدة صـدرت عن حزب معني بعينـ�ه ويعنون به احلزب الشـيوعي‪ ،‬ولذلك‬
‫فإنهـم ال يريـدون األخـذ بها‪ .‬ويرد الشـبييب على هـذا ان اجلبهـة الوطني�ة جتربة‬
‫عامليـة‪ ،‬وهـي ليسـت ملـكا حلـزب معين و»الدعـوة لهـا مـن جانب حـزب ما ال‬
‫تبرر عـدم األخـذ بهـا»‪ ،‬ثـم هـم لـم يذكـروا شـيئ�ا عـن معايـب اجلبهـة ليبرروا‬
‫رفضهـم لهـا‪ ،‬وإنمـا جتاهلوهـا فقـط‪ ،‬وحاولـوا نشـر سـتار مـن السـكوت حولها‬

‫‪ .15‬جتــددت الدعــوة إىل احلــزب الديمقراطــي الواحــد عــام ‪ 1945‬وعقــد اجتمــاع يف دار‬
‫كامــل اجلــادريج يف ‪ 24‬آب ‪ 1945‬ترأســه كامــل اجلــادريج‪ .‬وقــد حضره إىل جانــب اجلادريج‬
‫ناصــر الكيــاىل وذونــون أيــوب ومحمــد حديــد وهاشــم جــواد وعبــد الفتــاح ابراهيــم وخدوري‬
‫خــدوري وحيــى قاســم وحســن جميــل وناظــم الزهــاوي ومحمــد صالــح حبــر العلــوم ومحمــد‬
‫مهــدي اجلواهــري جميــل تومــا وأخريــن ولــم يســفر االجتمــاع عــن تأليف حــزب واحــد‪ ،‬وكان‬
‫قطبــا اخلــاف اجلــادريج مــن جانــب وعبــد الفتــاح ابراهيــم مــن جانــب أخــر‪ .‬وقــد خلــص‬
‫عبــد الفتــاح ابراهيــم رأيــه يف قولــه‪« :‬أرى أن جيتمــع التقدميــن جميعــا يف حــزب وطــي ال‬
‫ماركــي وال شــيوعي وال اشــراكي وال نطلــب أكــر مــن حــزب وطــي»‪ .‬أمــا اجلــادريج فقــد‬
‫خلــص رأيــه بقولــه؛ «إذا رأيتــم أن تؤلفــوا حزبــا واحــدا فأنــا شــخصيا أرغــب أن أكــون خــارج‬
‫نطاقــه» (كامــل اجلــادريج‪ ،‬مذكــرات كامــل اجلــادريج‪.)74،72،‬‬
‫‪321‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫بدعوتهـم بإحلـاح إىل (احلـزب الواحـد)‪ ،‬وواضـح أنهـم يريـدون بها عـزل حزب‬
‫التحـرر الوطني وبالتـايل عزل احلـزب الشـيوعي‪ ،‬إذ هم يقصدون مـن دعوتهم‬
‫إىل دمـج األحـزاب‪ ،‬األحـزاب املجـازة وحدهـا‪ ،‬وبهـذا يلتقـون بسياسـة احلكـم‬
‫ذاتهـا اليت تسـتهدف جتـزئ الديمقراطيـة‪ ،‬أي قصرها على جماعـة دون أخرى‪.‬‬
‫ويضيـف الشـبييب ‪:‬‬
‫وحنـن نتمنى مـن صميـم قلوبنـ�ا أن تن�دمـج األحـزاب الديمقراطيـة‬
‫الثالثـة املرخصـة يف حزب واحـد‪ ،‬إذ أن أصحاب هذه األحزاب جميعهم‬
‫يقولـون إن مناهجهـم وأهدافهـم واحـدة‪ ،‬ونضيـف أيضا بأن أسـاليبهم‬
‫يف العمـل هـي أيضـا واحـدة أو يمكـن توحيدهـا‪ ،‬فعسى أن جيتمـع‬
‫اإلخوان جميعهم يف حزب واحد فزتال»الضغائن واألناني�ة الشـخصية‬
‫واملهاتـرات» بين اجلماعات الديمقراطية تلـك اليت هول خطرها دعاة‬
‫«احلـزب الواحـد» لغـرض حمـل اجلماهير يف األحـزاب األخـرى علـى‬
‫قبـول فكرتهـم‪ .‬أمـا حنـن فنكافح مـن أجل جبهـة وطني�ة موحـدة وعدم‬
‫االندمـاج بـأي حـزب آخر‪ ،‬وسـوف نبقـى نكافح مـن اجل ذلـك‪ ،‬كما جند‬
‫أن مـن واجـب كل ديمقراطـي وطني أن يقـف ضـد هـذا امليـل الـذي بدا‬
‫من السـلطات املسـؤولة لتجـزئ الديمقراطيـة أي قصرها على جماعة‬
‫‪16 16‬‬
‫دون أخـرى‪.‬‬

‫بـدأ احلـزب الشـيوعي العـرايق الدعـوة إىل اجلبهـة الوطنيـ�ة املوحـدة مع‬
‫طلـب إجـازة العمـل القانـوين حلـزب الوحـدة الوطنيـ�ة الديمقراطـي يف مطلـع‬
‫‪ 17 17.1942‬لـم تكـن هنـاك وقتئ�ذ أحزاب قائمـة‪ ،‬ولكن كانت هناك مجموعات‬
‫مـن الديمقراطيين يلتفـون حـول هـذا املحـور أو ذاك كاملجموعـة التي تلتـف‬
‫حـول جريـدة األهـايل وتلـك اليت تكـون مجموعة الرابطـة (عبد الفتـاح ابراهيم‬
‫وجماعته)‪.‬‬
‫وحين شـرعت الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني بالعمـل بادرت‬
‫إىل تقديـم الرسـائل التي كانـت تصدرها بنـ�داء وجهتـه إىل اجلماعـات الوطني�ة‬
‫كافـة قائلة‪:‬‬
‫«هـذه رسـائل قررت الهيئ�ة املؤسسـة حلـزب التحرر الوطني إصدارها‬
‫دوريـا لتعالـج فيهـا مشـاكل العـراق اآلنيـ�ة يف هـذه املرحلـة مـن حركتن�ا‬

‫‪ .16‬حســن محمــد الشــبييب‪ ،‬اجلبهــة الوطنيــ�ة الوحــدة‪ ،‬مطبعــة دار احلكمــة‪ ،‬بغــداد‪،‬‬
‫‪ ،1946‬ص ‪.21/20‬‬
‫‪( .17‬الشرارة)‪ ،‬العدد اخلامس‪ ،‬شباط ‪.1942‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪322‬‬

‫الوطنيـ�ة‪ ،‬وهـى تدعـو كل وطني مخلـص إىل العمـل لتحقيـق أهدافهـا‬


‫الوطنيـ�ة وأمانيهـا القوميـة يف جبهـة وطنيـ�ة موحدة»‪.‬‬

‫ثـم عـادت يف تاريـخ ‪ 1945/12/24‬إىل تقديـم املذكـرة األوىل يف هـذا‬


‫الشـأن‪ ،‬بمناسـبة الدعـوة اليت وجههـا محمد مهـدي اجلواهري علـى صفحات‬
‫جريدتـه (الـرأي العـام) لعقـد اجلبهـة‪ ،‬وأيـدت هـذه الدعـوة وقالـت‪:‬‬
‫«إننـ�ا نـرى إمكانيـ�ة الدخـول فـورا يف اتفاقيـات مبدئيـ�ة تمهـد السـبي�ل‬
‫لقيـام جبهـة وطني�ة موحدة رصينـ�ة طالما ال توجد أحزاب سياسـية يف‬
‫الوقـت احلاضـر معترف بهـا قانونا»‬

‫وطرحـت املذكـرة األهـداف التي تراهـا الهيئـ�ة مـا يصلـح أن يلتـف‬


‫الديمقراطيـون حولهـا‪ ،‬وتتلخـص يف النضـال من أجـل حق التنظيم السـيايس‬
‫وغير السـيايس وإلغاء القوانني االسـتثن�ائي�ة وحرية النشـر واالجتماع والدفاع‬
‫عـن اسـتقالل البلاد والسـيادة الوطنيـ�ة‪.‬‬

‫ثـم أتبعتهـا بمذكـره ثانيـ�ة طويلـة ناقشـت فيهـا قـول البعـض إن قيـام‬
‫الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني بهـذه الدعـوة ذاتهـا‬
‫«مـا هـو إال منـاورة القصـد منهـا إحـراج بعـض الوطنيين أكثر ممـا هو‬
‫إخلاص لفكـرة اجلبهـة ذاتهـا» وإنهـا «شـعار أجـوف»‬

‫وقالت يف ردها‬
‫«حنـن ال نـدري كيـف نربهـن علـى إخالصنـا أكرث مـن شـروعنا يف العمل‬
‫وإعلان اسـتعدادنا لقبـول أي رأي يتفـق عليـه الوطنيـون ‪ -‬يـؤدي إىل‬
‫‪18 18‬‬
‫قيـام اجلبهـة الوطنيـ�ة املوحـدة»‪.‬‬

‫وانتقـدت املذكـرة سياسـة االنتظـار والرتيـث يف كونها تسـاعد على بقاء‬


‫اخللاف بين اجلماعـات طالمـا عملـت كل منهـا باسـتقالل عن األخـرى‪ ،‬وأنها‬
‫تسـاعد الرجعيـة يف ضـرب كل جماعـة وطنيـ�ة علـى حـدة‪ .‬وتذكـر املذكـرة بـأن‬

‫‪ .18‬حســن محمــد الشــبييب‪ ،‬اجلبهــة الوطنيــ�ة املوحــدة‪ ،‬رســائل التحــرر‪ ،‬مطبعــة دار‬
‫احلكمــة‪ ،‬بغــداد‪ ،1946 ،‬ص ‪.76‬‬
‫‪323‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫فكـرة عـزل جماعـة بعينهـا عـن الكفـاح الوطين قد أضـرت كثريا بنضـال بعض‬
‫الشـعوب وتضـرب أمثلـة عديـدة علـى ذلـك‪ .‬ثـم تقـدم خطتهـا العمليـة لعقـد‬
‫اجلبهـة وتت�ألـف مـن سـت نقاط‪:‬‬

‫‪1.‬أن تضـم هيئـ�ة اجلبهـة ممثلين اثنين عـن كل مـن اجلماعـات‬


‫التاليـة‪ :‬جماعـة األهـايل‪ ،‬جماعـة حـزب الشـعب‪ ،‬جماعـة األسـتاذ‬
‫عبـد الفتـاح ابراهيـم‪ ،‬جماعـة عصبة مكافحـة الصهيونيـ�ة‪ ،‬جماعة‬
‫حـزب التحـرر الوطني‪ ،‬ومـن صاحـب جريـدة (الـرأي العـام)‪،‬‬
‫وصاحـب جريـدة (الشـعب)‪.‬‬
‫‪2.‬أن يكون التصويت ديمقراطيا‪ ،‬أي باألكرثية املطلقة‪.‬‬
‫‪3.‬جيوز قبول جماعات أخرى إىل اجلبهة إذا حصلت املوافقة‪.‬‬
‫‪4.‬جيـوز انتمـاء املواطنين األفـراد إىل اجلبهـة ككل دون أن يكونـوا‬
‫ملزمينباالنضمـامأليـةجماعـةمـناجلماعـاتالتيتؤلـفاجلبهـة‪.‬‬
‫‪5.‬تضـع اجلبهـة الطـرق العمليـة لتنفيـذ املطالـب التي قامـت‬
‫عليهـا وقراراتهـا نافـذة علـى اجلميـع‪.‬‬
‫‪6.‬ضـرورة وضـع منهـاج شـامل للجبهـة تكـون أسسـه املطالـب‬
‫األربعـة التي تقدمنـا بهـا دعوتنـ�ا‪.‬‬

‫وتنتهي املذكرة باملالحظة التالية‪:‬‬


‫«إن هيئـ�ة مؤسسي حزبن�ا‪ ،‬التحـرر الوطين‪ ،‬تعتقد أن هـذه هي اخلطة‬
‫العمليـة التي يمكـن تأليـف اجلبهـة الوطنيـ�ة علـى أساسـها‪ ،‬ولكنهـا‬
‫تعلـن أن هـذه اخلطـة قابلـة للتعديـل والنقـاش وترجـو أن تفصـح كل‬
‫جماعـة عـن رأيها فيها‪ ،‬وإذا لـم توافق عليها كليا‪ ،‬فلتب�دي رأيها اخلاص‬
‫يف الطريقـة العمليـة التي تراهـا هي‪ ،‬علـى أن تكون أيضـا موضع نقاش‬
‫مختلـف اجلماعات»‪.‬‬

‫وحني تقدمت الهيئ�ات املؤسسـة بطلباتها إلجازة أحزابها الديمقراطية‬


‫عـادت الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني وقدمـت إىل هـذه الهيئـ�ات‬
‫مذكرتهـا الثالثـة أشـارت فيهـا إىل دعواتهـا السـابقة يف هـذا الشـأن والضـرورة‬
‫امللحـة لقيـام اجلبهة‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪324‬‬

‫«ألن مطالب شـعبن�ا الرئيسـية عظيمة وواسعة ال يمكن حتقيقها دون‬


‫قيـام جبهـة تضـم جميع طبقات شـعبن�ا ومراتبـ�ه وأقسـامه اليت يهمها‬
‫أن يتحـرر العراق من ربقة االسـتعمار»‪.‬‬

‫وانتهت املذكرة بالتأكيد على ضرورة النضال املشرتك لتحقيق‪:‬‬

‫‪ 1.‬تعزيز استقالل العراق وسيادته الوطني�ة‬


‫‪ 2.‬تطبيق النظام الديمقراطي يف العراق وضمان احلريات الشـعبي�ة‬
‫وتوسيعها‬

‫وقالت أخريا‪:‬‬
‫«تـرى هيئتنـ�ا أن ال مانـع مـن األخـذ خبطتن�ا التي تقدمت بها سـابقا مع‬
‫تعديـل يالئـم الظـروف اجلديـدة اليت ظهرت فيهـا األحـزاب والهيئ�ات‬
‫السياسـية‪ .‬إال أن القوى الديمقراطية والسـيما حزب الشـعب‪ ،‬وعزيز‬
‫شـريف وعبـد الفتـاح ابراهيـم بالـذات‪ ،‬كانـت ترفـض اإلصغـاء إىل‬
‫‪19 19‬‬
‫نـداءات حـزب التحـرر الوطني املتكـررة هـذه»‪.‬‬

‫عصبة مكافحة الصهيونية‬


‫بت�اريـخ ‪ 16‬آذار ‪ ،1946‬أجازت وزارة توفيق السـويدي (عصبة مكافحة‬
‫الصهيونيـ�ة) بعـد أن ظـل طلـب تأسيسـها معلقـا منـذ ‪،1945/9/12‬‬
‫وتعرضـت الهيئـ�ة املؤسسـة إىل كثير مـن الضغـط وتعـرض رئيسـها‪ ،‬يوسـف‬

‫‪ .19‬أذكــر أن الرفيــق حســن محمــد الشــبييب أعطــاين رســالة موجهــة إىل األحــزاب‬
‫الديمقراطيــة الثالثــة الــي كانــت تقيــم ســاعتها اجتماعــا جماهرييــا عامــا يف مقــر حــزب‬
‫االحتــاد الوطــي يف (جديــد حســن باشــا) وطلــب أن أوصلهــا إىل منظــي االجتمــاع لتقــرأ‬
‫كواحــدة مــن رســائل التحيــة املوجــه للحاضريــن‪ .‬حملتهــا إىل هنــاك وطلبــت مــن منظــي‬
‫االجتمــاع مــا أراده الرفيــق‪ ،‬إال أن عبــد الرحيــم شــريف وكان أحــد عرفــاء االجتمــاع‪ ،‬اعرتضــي‬
‫ورفــض أن تقــرأ رغــم إحلــايح‪ .‬وعــدت بهــا إىل الرفيــق الشــبييب‪ ..‬فالتفــت إىل احلاضريــن‪،‬‬
‫وكانــوا كمــا أذكــر ســالم عبيـ�د النعمــان ويهــودا صديــق ونعيــم ســلمان وآخريــن‪ ،‬وقــال هــل‬
‫رأيتــم؟ يرفضــون منــا حــى رســالة التحيــة‪ ،‬وطلــب مــي أن أقرأهــا‪ ،‬فقرأتهــا وكانــت ال تزيــد‬
‫عــن دعــوة صادقــة إىل توحيــد القــوى‪ ..‬بعــد ســنوات ذكـ َـرت الرفيــق أبــو رائــد‪ ،‬عبــد الرحيــم‬
‫ً‬
‫شــريف وكنــا نعمــل ســوية يف مكتــب هيئـ�ة حتريــر (احتــاد الشــعب) بالواقعــة‪ ،‬فعلــق آســفا‪:‬‬
‫ً‬
‫«كمــا أضعنــا مــن الفــرص حقــا» ( املؤلــف)‪.‬‬
‫‪325‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫هـارون زخلـة‪ ،‬إىل التوقيـف واملكافحـة‪ .‬اختـذت عصيـة مكافحـة الصهيونيـ�ة‬


‫مقـرا لهـا يف الكـرخ‪ ،‬وعقـدت مؤتمرهـا األول يف ‪ 13‬نيسـان ‪ 1946‬وانتخبـت‬
‫هيئـ�ة إداريـة كان مـن بينهـا يوسـف هـارون زخلـة رئيسـا ويعقـوب مصـري‬
‫سـكرتريا ومسـرور صالـح قطـان محاسـبا ومحمد حسين أبو العيـس وآخرين‬
‫أعضـاء‪ .‬وبعـد أيـام مـن إجـازة املنظمـة أجيز لهـا إصـدار جريـدة يوميـة باسـم‬
‫(العصبـة) علـى أن يكـون محمـد حسين أبـو العيـس املحـايم مديـرا مسـؤوال‬
‫لهـا‪ .‬وقـد صـدرت الصحيفـة يف ‪ 7‬نيسـان ‪ .1946‬وكانـت منبرا ليـس فقـط‬
‫للمعاديـن للصهيونيـ�ة واالسـتعمار والداعين إىل نصـرة الشـعب العـريب يف‬
‫فلسـطني‪ ،‬وإنمـا باتـت لسـانا لـكل الكادحين يف العـراق واملعبر عـن مطالبهـم‬
‫وأداة لنشـر الوعـي الثـوري بين صفـوف الشـباب‪ ،‬ولذلـك سـرعان ما كسـبت‬
‫شـعبي�ة واسـعة ‪ ،20 20‬رغـم أنهـا لـم تعـش إال إىل ‪ 7‬حزيـران وهـو يـوم تعطيلهـا‪.‬‬
‫كانـت جريـدة العصبـة سلاحا ماضيـا أشـهره احلـزب يف وجـه االسـتعمار‬
‫وأعوانـه‪ .‬وحتتـل مكانـة خاصـة فيمـا نشـرته علـى قصر املـدة اليت صـدرت فيها‬
‫سلسـلة املقـاالت التي نشـرتها لفهد بعنـوان (حنن نكافـح‪ ،‬يف سـبي�ل من وضد‬
‫مـن نكافح؟) و(مسـتلزمات كفاحنا الوطني) و(البطالة‪ :‬أسـبابها وعالجها)‪.‬‬
‫كان لهـذه السالسـل مـن املقـاالت‪ ،‬السـيما الثانيـ�ة منهـا‪ ،‬وقـع هائـل علـى‬
‫الشـبيب�ة آنـذاك‪ ،‬وحتولـت إىل مـادة غنيـ�ة للتثقيـف والدعايـة‪ ،‬ليـس للجيـل‬
‫الـذي عاصرهـا وحـده وإنمـا لألجيـال التالية من بعـد‪ .‬إن قارئ هذه السالسـل‬
‫اليـزال جيـد فيهـا شـيئ�ا مـن الراهنيـ�ة واحليويـة حتى اآلن‪.‬‬
‫لقـد صـدر مـن جريـدة (العصبـة) ‪ 51‬عـددا فقـط‪ ،‬إال أنهـا كانـت كافية‬
‫مـن أجـل أن ختلـد ذكـرى هـذه الصحيفـة املكافحـة‪ ،‬إذ لعبـت دورا سياسـيا‬
‫كبيرا‪ ،‬حتريضيـا وتثقيفيـا‪ .‬لقد ظلـت الصحيفة تثقف بالعالقـة الطبقية اليت‬
‫جتمـع مـا بين االسـتعمار والصهيونيـ�ة باعتب�ارهمـا وجهين لعملـة واحـدة هـي‬
‫الرأسـمالية االحتكاريـة‪ .‬وقـال زخلـة‪ ،‬رئيـس العصبـة‪:‬‬
‫«إن الصهيونيـ�ة هـي التعبير الصـادق للرغبـات واملصالـح الطبقيـة‬
‫للرأسـمالية اليهوديـة يف إنكلترا وأمريـكا ولالحتـكارات االسـتعمارية‬
‫اإلنكلزييـة واألمريكيـة»‬

‫‪ .20‬وقــد شــجعها اإلقبــال الــذي وجدتــه يف أيامهــا األوىل علــى أن ترفــع شــعارا عريضــا يف‬
‫صــدر صفحتهــا األول يقــول؛ ىف ســبي�ل عصبــة خبمســة أالف نســخة‪ .‬وقــد بــدا هــذا الشــعار‬
‫يومهــا نــداء خياليــا‪ ،‬إذ أن أوســع اجلرائــد اليوميــة بيعــا آنــذاك مــا كانــت تزيــد عــن أربعــة‬
‫أالف نســخة‪ .‬لكــن النشــاط الكبــر الــذي بــذل يف توزيعهــا إىل أبعــد التجمعــات والزوايــا‬
‫أمكنهــا أن حتقــق شــعارها هــذا‪.‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪326‬‬

‫نصف قرن من السـلوك الذي سـارت عليه الدوائر احلاكمة يف إسـرائي�ل‬


‫يف تعاملها مع عرب فلسـطني والعرب يف البلدان املجاورة ويف تعاملها أيضا مع‬
‫بعـض الفئـات اليهوديـة يؤكد صحة مـا ذهبت إليه (العصبـة) يف «أنن�ا ال نرى‬
‫يف الفاشـية والصهيونيـ�ة سـوى توأمين لبغـى واحـدة‪ ،‬هي العنصريـة محظية‬
‫االسـتعمار»‪ .‬كمـا ظلت تؤكد على أن السياسـات الالديمقراطية اليت سـارت‬
‫عليهـا احلكومـات العربي�ة‪ ،‬املعادية لشـعوبها العربي�ة واملوالية لالسـتعمار‪ ،‬لن‬
‫تضمـن حتريـر فلسـطني‪ ..‬وهذا ما أكدتـه احلياة املرة بعـد األخرى‪.‬‬
‫وتظل الدراسـة اليت أعدها يوسـف هارون زخلة‪ ،‬رئيس عصبة مكافحة‬
‫الصهيونيـ�ة‪ ،‬حـول الصهيونيـ�ة بعنـوان (الصهيونيـ�ة عـدوة العـرب واليهـود)‬
‫مـن خيرة مـا كتـب يف هـذا الشـأن‪ .‬ورغـم أن أكثر مـن نصـف قـرن قـد َ‬
‫مـر علـى‬
‫صـدور هـذا الكتـاب‪ ،‬وجـرت منـذ ذلـك احلني تغيرات كبيرة على املؤسسـات‬
‫التي قامـت الصهيونيـ�ة عليهـا‪ ،‬إال أن الكتـاب اليـزال حيتفـظ بقيمتـه يف فهـم‬
‫األفـكار التي تقـوم عليهـا الصهيونيـ�ة والسياسـات التي تسير عليها‪.‬‬
‫لقـد عاشـت عصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة قرابـة ثالثـة أشـهر‪ ،‬إال أنهـا‬
‫خلال هـذه املـدة القصيرة نهضت بنشـاط كبري فـاق مـا كان يتوقع منهـا كثريا‪.‬‬
‫ففـي هـذه األشـهر الثالثـة عقـدت اثنين وعشـرين اجتماعـا عامـا يف بغـداد‬
‫كان حيضرهـا ألـوف املواطنين مـن مختلـف الطبقـات واألديـان واملهـن‪ .‬وحني‬
‫أعلنـت جلنـة التحقيـق األنكلـو‪ -‬أمريكيـة عـن توصياتهـا املنافيـة ملصالـح‬
‫العـرب يف فلسـطني‪ ،‬نظمـت العصبـة اجتماعـات شـعبي�ة عامة يوميـة‪ ،‬وصل‬
‫عـدد احلاضريـن يف بعضهـا خمسـة آالف مواطـن‪ ،‬لفضـح خطـط االسـتعمار‬
‫والصهيوني�ة يف فلسطني‪ .‬ويف البصرة عقد فرع املنظمة اجتماعني جماهرييني‬
‫كبيريـن‪ .‬كل ذلـك كان يتـم برغـم االضطهـادات واملحاكمـات املتواصلـة التي‬
‫تعـرض لهـا قادتها‪.‬‬

‫الحزب في ميدان النشر‬


‫وخنتـم اسـتعراضنا هـذا باحلديـث عـن النشـاط الـذي أبـداه احلـزب‬
‫يف ميـدان النشـر يف تلـك الفترة‪ .‬كان احلـزب يـدرك أهميـة النضـال الفكـري‬
‫واحلاجـة إىل توفير مصـادر التثقيـف اجلديـة للشـبيب�ة املتطلعـة إىل املعرفـة‪،‬‬
‫وكانـت مصـادر التثقيـف آنـذاك بائسـة حقـا‪ .‬فعـدا عـن األعـداد القليلـة التي‬
‫تسـربت مـن مجلـة (أم درمـان) التي كان يصدرهـا الشـيوعيون السـودانيون‬
‫يف القاهـرة‪ ،‬ومـن مجلـة (الغـد) التي كانـت تصدرها عصبـة التحـرر الوطين يف‬
‫فلسـطني‪ ،‬وقليـل مـن الكتـب املرتجمـة يف مصـر وقليـل ممـا أصـدره املثقفـون‬
‫‪327‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫اللبن�انيـون‪ ..‬لـم يكـن هناك مـا يطفئ ظمأ الشـباب الـذي كان يتلهف للتعرف‬
‫علـى الثقافـة الماركسـية بقـوة‪ .‬لذلـك‪ ،‬فكـر احلـزب يف أن يعمـل لتأسـيس دار‬
‫نشـر خاصـة بـه‪ ،‬وقـد سـبق لنـا أن رأينـ�ا أن االجتمـاع الكامـل للجنـة املركزيـة‬
‫يف صيـف ‪ 1945‬قـد اختـذ قـرارا بهـذا الشـأن‪ .‬ولهـذا كلـف الرفيـق محمـد علـي‬
‫الزرقـة بإنشـاء شـركة جتاريـة مسـاهمة للطباعة والنشـر باسـم (دار احلكمة)‬
‫وأن يكـون هـو مديرهـا املسـؤول‪ .‬وقـد نشـط الرفيـق زيـاد‪ ،‬وكان هـذا هو اسـمه‬
‫احلـزيب‪ ،‬لتأسـيس الـدار واسـتطاع أن جيمـع خالل شـهرين أكرث من سـتة أالف‬
‫دينـ�ار وكان هـذا مبلغـا كبيرا يف يومهـا‪ ،‬كتربعـات لقاء أسـهم يف الدار‪ .‬واشترت‬
‫الشـركة مطبعـة مسـتعملة وأسسـت مكتبـ�ة بـذات االسـم‪ .‬وخلال الفترة‬
‫القصيرة التي عاشـتها الشـركة‪ ،‬أصـدرت كثيرا مـن الكتـب والكراريـس يف‬
‫مواضيـع مختلفـة يف السياسـة واالقتصـاد واألدب وحتى يف العلـوم‪ .‬وحتولـت‬
‫مكاتبهـا إىل ما يشـبه النادي السـيايس يؤمه املثقفون والصحفيون والساسـة‪،‬‬
‫وكانـت الكتـب املهيـأة للنشـر‪ ،‬كما يقـول الزرقة‪ ،‬كثيرة تتجاوز العشـرات حني‬
‫‪21 21‬‬
‫أغلقـت الـدار ونهـب البوليـس محتوياتهـا‪.‬‬

‫هجوم رجعي معاكس‬


‫أقلـق النشـاط الكبير الذي أبـداه احلزب الشـيوعي ومنظماتـه العلني�ة‪،‬‬
‫واالنعكاسـات التي تركهـا هـذا النشـاط لـدى األحـزاب التي نالـت إجازتهـا‪،‬‬
‫الدوائـر االسـتعمارية واحلكـم الرجعـي يف البلاد‪ ،‬لهـذا‪ ،‬راحـت هـذه الدوائـر‬
‫ختطـط للعـودة بالبلاد إىل األوضـاع السـابقة‪ ،‬وكانـت خطوتهـا األوىل يف هـذا‬
‫الشـأن إزاحـة حكومـة السـويدي واإلتي�ان حبكومة تمهد السـبي�ل لربـط العراق‬
‫بمـا كانـت تبيتـ�ه مـن مشـاريع يف الشـرق األوسـط‪ .‬ودفعـت‪ ،‬لهـذا الغـرض‪،‬‬
‫بمجموعـة مـن أعضـاء مجلـس األعيـان إىل االمتنـ�اع عـن حضـور جلسـات‬
‫املجلـس املكرسـة للتب�احـث بشـأن املزيانيـ�ة العامـة وإقرارهـا‪ .‬ولمـا عجـزت‬
‫وزارة السـويدي عـن توفير النصـاب يف مجلـس األعيـان‪ ،‬اضطـرت إىل تقديـم‬
‫اسـتقالتها‪ -‬فعهـد باحلكـم إىل أرشـد العمـري‪ ،‬وتألفـت وزارتـه يف ‪ 1‬حزيـران‬
‫‪ .1946‬وكانـت أول خطـوة خطتهـا احلكومـة اجلديـدة فصـل أعـداد كبيرة‬

‫‪ .21‬محمــد علــي الزرقــة‪ ،‬مــع الرفيــق الشــهيد فهــد (يوســف ســلمان)‪ ،‬دمشــق ‪،1993‬‬
‫معــد علــى الكومبيوتــر‪ -‬وممــا يذكــره الزرقــة يف هــذا الشــأن‪ ،‬أن الــدار اشــرت كل مــا خلفــه‬
‫الشــاعر العــرايق الكبــر معــروف الرصــايف مــن مخطوطــات‪ ،‬وقد نشــرت دار احلكمــة إحداها‬
‫بعنــوان (علــى أبــواب ســجن آيب عــاء) مــع مقدمــة ضافيــة للزرقــة‪ ،‬أمــا األخريــات فقــد‬
‫صادرهــا البوليــس عندمــا اســتوىل علــى الــدار ومحتوياتهــا‪ ،‬ومــن بينهــا مكتبت ـ�ه اخلاصــة‬
‫الــي كانــت تضــم مــا يقــرب مــن خمســة آالف كتــاب‪.‬‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪328‬‬

‫مـن ذوي األفـكار الماركسـية وامليـول اليسـارية يف جهـاز الدولـة ‪ ،22 22‬وسـارعت‬
‫إىل تعطيـل جريـدة (العصبـة) يف ‪ ،1946/6/6‬خالفـا للقانـون الـذي ال جييز‬
‫تعطيـل صحيفـة تنطـق بلسـان جمعيـة سياسـية مجـازة إال بقرار مـن املحكمة‬
‫وليـس بقـرار إداري‪ ،‬كمـا فعلـت حكومـة العمـري‪ .‬ولـم تكتـف بذلـك‪ ،‬وإنمـا‬
‫سـارعت إىل اعتقـال رئيـس عصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة وبعـض أعضـاء‬
‫الهيئـ�ة اإلداريـة ألنهـا نشـرت اقرتاحـا يدعـو إىل إقامـة مظاهرة سـلمية تطالب‬
‫بعـرض قضيـة فلسـطني علـى مجلـس األمـن‪ .‬وكانـت كلمـا أفرجـت املحاكـم‬
‫عـن أعضـاء الهيئـ�ة اإلداريـة لعصبـة مكافحـة الصهيوني�ة ومنتسـبيها تسـارع‬
‫هـي إىل اعتقالهـم واعتقـال أعضـاء مـن الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر‬
‫الوطني ومناصريهـا بتهـم توزيـع بيـ�ان يشـجب مشـروع تقسـيم فلسـطني أو‬
‫توزيـع بيـ�ان باسـتنكار تصريـح ترومـان حـول فلسـطني أو تنظيـم وفـد ملقابلـة‬
‫مجلـس الـوزراء أو نشـر بيـ�ان للـرد علـى افتراءات وكالـة أنبـ�اء بريطانيـ�ة بشـأن‬
‫موقـف العصبـة مـن الصهيونيـ�ة وأحيانـا بـدون تهمـة أو بـدون آمر مـن محاكم‬
‫‪23 2 3‬‬
‫حتقيـــق‪.‬‬
‫وامتـدت يـد اإلرهـاب لتشـمل صحـف األحـزاب املجـازة وغريهـا‪ ،‬حتى‬
‫كتـب اجلـادريج يف ‪ 6/23‬منـددا بإجـراءات احلكومـة للتضييـق علـى حريـة‬
‫الصحافـة‪ ،‬وأشـار إىل أنهـا هـذه األيـام القليلـة مـن حكمها عطلت ثلاث جرائد‬
‫سياسـية وسـحبت امتيـ�از مجلـة أدبيـ�ة وأنـذرت جريدتين ولفتـت نظـر ثالث‬
‫‪24 24‬‬
‫جرائـد وصـادرت عـددا مـن إحـدى املجلات قبـل توزيعـه‪.‬‬
‫خاض احلزب‪ ،‬السـيما ىف بغداد‪ ،‬يف هذه الفرتة‪ ،‬سلسـلة من املظاهرات‬
‫للمطالبـة بشـعارات احلـزب األساسـية‪ ،‬واحتلت مـن بينها قضيـة الدفاع عن‬
‫فلسـطني وفضح مشـاريع االسـتعمار الربيطاين بشأنها وبشـأن ما كان خيطط‬
‫لـه السـتب�دال معاهـدة ‪ 1930 ٠‬بأخـرى‪ ،‬مكانا بـارزا بني هذه الشـعارات‪ .‬كانت‬
‫أوىل هذه املظاهرات تلك اليت خرج فيها طالب الكليات يف ‪ 10‬أيار ‪ .1946‬هذه‬
‫املظاهـرة حتتـاج إىل وقفـة خاصـة ألن مالبسـات معينـ�ة دارت بشـأنها ‪ ٠‬كانـت‬
‫قـد جـاءت إىل بغـداد يف ‪ 16‬آذار ‪ 1946‬جلنـة التحقيـق األنكلـو‪ .‬أمريكية بدعوة‬
‫مـن احلكومـة العراقيـة‪ .‬وقبـل يومني مـن وصولهـا إىل العراق أصـدرت عصبة‬
‫مكافحـة الصهيونيـ�ة بي�انـا (وقبلهـا كانـت قـد رفعـت مذكرتين إىل احلكومات‬
‫العربيـ�ة واجلامعـة العربيـ�ة) أوضحـت فيهـا كلهـا أن االسـتعمارين الربيطـاين‬
‫واألمريكـي يلجـأن إىل إيفـاد اللجـان التحقيقيـة للتمويـه علـى مشـاريعهما‬
‫االسـتعمارية التي ال نفـع للعـرب فيهـا مطلقا حلـل قضية فلسـطني بما يريض‬
‫املطامـع الصهيونيـ�ة وإدامة االنت�داب الربيطـاين‪ ..‬لذلك دعت عصبة مكافحة‬

‫‪ .24‬اجلادريج‪ ،‬مذكرات اجلادريج‪ ،‬ص ‪.106‬‬


‫‪329‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الصهيونيـ�ة إىل مقاطعـة اللجنـة ورفـع القضية الفلسـطيني�ة إىل األمم املتحدة‬
‫علـى أسـاس إلغـاء االنتـ�داب الربيطـاين واسـتقالل فلسـطني اسـتقالال تامـا‬
‫وتمكين الشـعب الفلسـطيين من تأليـف حكومـة وطنيـ�ة ديمقراطية تضمن‬
‫مصالـح وحقـوق جميـع سـكان فلسـطني احلاليين دون تمييز يف العنصـر‬
‫والدين‪.‬‬
‫لكـن هـذه اللجنـة جـاءت إىل العـراق‪ ،‬وبـدال مـن أن تقاطـع‪ ،‬قوبلـت‬
‫باحلفـاوة مـن قبـل املسـؤولني يف احلكـم‪ ،‬واسـتمعت إىل بعـض الشـهادات‪،‬‬
‫ومـن بين مـن قابلوهـا رضـا الشـبييب واجلـادريج ومحمـد مهـدي كبـه‪ 25 25 .‬ثـم‬
‫عـادت لتصـدر قـرارات تصـب كلهـا ىف مصلحـة الصهيونيـ�ة‪ .‬إثـر صـدور هـذه‬
‫القـرارات تنـ�ادت القـوى الوطنيـ�ة كافـة إىل اإلضـراب العـام يف ‪ 10‬أيـار ‪.1946‬‬
‫وشـاء احلـزب الشـيوعي والهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني وعصبـة‬
‫مكافحـة الصهيونيـ�ة أن يقـرن اإلضـراب العـام بمظاهـرات طالبيـ�ة لتعميـق‬
‫االحتجـاج‪ .‬ويف الوقـت املحـدد جتمعـت حشـود الطلاب من مختلـف الكليات‬
‫يف كليـة الهندسـة‪ ،‬ومـن هنـاك انطلقـت مظاهرتهـم باجتـاه بـاب املعظـم مرورا‬
‫بثكنة (الكرنتين�ة) العسـكرية‪ ،‬فقابلها الضباط واجلنود بالتصفيق والتهليل‪،‬‬
‫وسـارت حتى بن�ايـة الوقف العام وكانت ترفع الشـعارات اليت تسـتنكر قرارات‬
‫جلنـة التحقيـق املذكـورة وتطالـب ‪ ٠‬باسـتقالل فلسـطني‪ .‬فهاجمهـا البوليـس‬
‫وأرغمهـا علـى التفـرق‪.‬‬
‫يف اليـوم التـايل‪ ،‬هاجمتهـا صحافـة األحـزاب والصحافـة احلكومية على‬
‫السـواء بدعـوى أن املظاهـرة أخلـت بقدسـية اإلضـراب العـام‪ ،‬وكأن التظاهـر‬
‫االحتجـايج ين�اقـض اإلضـراب االحتجـايج‪ ..‬وردت العصبـة على هـذا الهجوم‬
‫بسلسـلة مقاالت يوسـف سـلمان فهـد املعروفة بعنـوان (مسـتلزمات كفاحنا‬
‫الوطني)‪ ،‬والتي فند فيها الذرائع اليت اسـتن�د إليها كاتبـو املقاالت اليت انتقدت‬
‫احلـزب الشـيوعي وحتـدث عـن األسـاليب التكتيكيـة التي يتعين للحركـة‬
‫الوطني�ة أن حتسـن اسـتخدامها لرتكزي ضغطها على االسـتعمار وأعوانه‪ .‬إذاك‬
‫اسـتغلت احلكومـة موقـف األحزاب هـذا لتسـارع إىل غلق جريـدة (العصبة)‪،‬‬
‫واضطـرت السـفارة الربيطانيـ�ة واحلـكام الرجعيين إىل اإلسـراع بتنفيـذ مـا‬
‫عزمـوا عليـه وهـو إزاحـة وزارة السـويدي واإلتيـ�ان حبكومـة تعامـل الشـعب‬
‫بالعنـف وتعيـد األوضـاع إىل سـابق عهدها تمهيـدا لما كان يبيت من مشـاريع‪.‬‬
‫لكـن احلـزب الشـيوعي العـرايق لـم يسـلم بمـا كانـت ختطـط لـه هـذه‬
‫القـوى‪ .‬فدعـا جماهير بغـداد إىل التظاهـر يف ‪ 28‬حزيـران ‪ ،1946‬وكان يريـد‬

‫‪ .25‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات‪ ،‬اجلزء السابع‪ ،‬ص ‪.16‬‬


‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪330‬‬

‫مـن هـذه املظاهـرة أن تكـون بدايـة ملعركـة أكبر ترغـم العمـري علـى التنيح عن‬
‫احلكـم‪ .‬ومـع أن قوات البوليس اسـتعدت لتفريق املتظاهريـن واحليلولة دون‬
‫سيرهم يف الشـارع بالقـوة‪ ،‬إال أن اجلماهير اليت كانت تتحشـد ىف شـارع األمني‬
‫والشـوارع التي تتفـرع منـه‪ ،‬ظهرت يف السـاعة التاسـعة والربع مـن صباح يوم‬
‫اجلمعة (‪ 28‬حزيران) ىف سـاحة زبي�دة‪ ،‬وانضمت إىل بعضها بسـرعة متن�اهية‬
‫حاملـة الفتاتهـا التي تنـ�دد باإلرهـاب وأزاحـت قـوات البوليـس التي حاولـت‬
‫صدها وسـارت يف شـارع األمني ثم يف الرشـيد حىت جسـر األحرار (وكان يعرف‬
‫يومها باسـم جسـر مود تيمنا باسـم القائد الربيطاين الذي فتح بغداد يف احلرب‬
‫العامليـة األوىل) ثـم عبرت جسـر األحـرار مـن هنـاك باجتـاه الصاحليـة وقـد‬
‫حتولـت إىل مظاهـرة كبيرة لـم يعـد بوسـع البوليـس تفريقهـا برغـم كثافتـه‪ ،‬ثم‬
‫اجتهـت صـوب السـفارة الربيطاني�ة يف الشـواكة‪ ..‬إذاك جلأت قـوات البوليس‬
‫إىل فتـح النـار علـى املتظاهريـن فسـقط خمسـة تـويف أحدهـم وهـو شـاؤول‬
‫طويـق الشـيوعي اليهـودي والطالـب يف ثانويـة التجـارة‪ ،‬وكانـت تلك هـي املرة‬
‫األوىل بعـد احلـرب التي يلجأ فيها البوليـس إىل الرصاص لتفريـق املتظاهرين‪.‬‬
‫تركـت املظاهـرة صـدى سياسـيا واسـعا ممـا دفـع األحـزاب جميعهـا‪ ،‬بمـا فيهـا‬
‫حـزب االسـتقالل القـويم الـذي لـم ُ‬
‫يكـن الـود للحـزب الشـيوعي يومهـا ‪،26 26‬‬
‫إىل إصـدار احتجاجـات منفـردة ومجتمعـه واسـتغلت األمـر لتهاجـم إجـراءات‬
‫احلكومـة للضغـط علـى صحـف األحـزاب وطالبـت بإعـادة النظـر يف سياسـة‬
‫احلكـم وإطلاق سـراح املوقوفين السياسـيني‪.‬‬
‫إال أن وزارة العمـري لـم تصـم أذنيهـا عـن احتجاجـات القـوى الوطنيـ�ة‬
‫وحسـب‪ ،‬وإنمـا أردفـت جريمتهـا يف ‪ 28‬حزيـران بأخـرى أكبر وأبشـع يف‬
‫كاورباغـي (كركـوك) إذ ضربـت بالنـار عمـال النفـط املضربين ضـد شـركة‬
‫النفط األجنبي�ة (انظر الفصل العاشـر)‪ ،‬واليت راح ضحيتها سـتة عشـر عامال‬

‫‪ .26‬ابتـ�دأ حــزب االســتقالل مذكرتــه االحتجاجيــة الــي رفعهــا بهــذه املناســبة إىل احلكومة‬
‫بقولــه‪« :‬إن حلــزب االســتقالل رأيــه اخلــاص يف تلــك اجلماعــة الــي أســمت نفســها‬
‫«حــزب التحــرر الوطــي» ويف عصبــة مكافحــة الصهيونيـ�ة‪ ،‬غــر أن ذلــك كلــه ال يمنعنــا مــن‬
‫االحتجــاج علــى التصــرف الشــاذ الــذي بــدا مــن قــوات الشــرطة جتــاه املظاهــرات الســلمية‬
‫الــي قامــت بهــا تلــك اجلماعــة يــوم اجلمعــة الماضيــة» (احلســي‪ ،‬اجلــزء الســابع‪ ،‬ص‬
‫‪ .)116‬ويف املذكــرة الــي قدمهــا حــزب االســتقالل إىل احلكومــة احتجاجــا علــى مجــزرة‬
‫كاورباغــي يف ‪ 16‬تمــوز ‪ 1946‬عــاد وكــرر نفــس النــرة التحريضيــة‪« :‬وقــد حاولــت الــوزارة‬
‫القائمــة أن تتخــذ مــن حــوادث املظاهــرات الــي قــام بهــا نفــر معلــوم مــن النــاس‪ ..‬الــخ» وقــد‬
‫ظلــت هــذه النــرة الــي تنطــوي علــى العــداء املتأصــل الــذي ال مــرر لــه تتكــرر لألســف يف‬
‫كتابــات بعــض القوميــن يف مناســبات تاليــة كذلــك‪.‬‬
‫‪331‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وامـرأة وطفلا وأكثر مـن ثالثين جرحيـا ‪ ، 27 27‬فتعالـت االحتجاجـات مـن جديد‬
‫وبقـوة أكبر حملـت وزيـر الداخلية علـى االسـتقالة واالحتجاج هو اآلخـر‪ .‬فدعا‬
‫احلـزب الشـيوعي جميـع املنظمـات الوطنيـ�ة إىل توحيـد جهودهـا للوقـوف‬
‫بوجـه إرهـاب حكومـة العمـري وإسـقاطها‪ ،‬السـيما وأن هـذه اجلريمـة اقرتنت‬
‫بتحـد جديـد وخطير للمشـاعر الوطنيـ�ة تمثـل بموافقـة احلكومـة علـى إنـزال‬
‫قـوات بريطانيـ�ة يف البصـرة تهديـدا للحركـة اإلضرابيـ�ة للعمـال اإليرانيين يف‬
‫مصـايف عبـادان‪ .‬ولـم يكتـف احلـزب بإصـدار بيـ�ان يف السـابع مـن آب يسـتنكر‬
‫فيـه إنـزال هـذه القـوات ويطالـب جبلاء جميـع القـوات القديمـة واجلديـدة‪،‬‬
‫وإنمـا نظـم مظاهـرة جماهرييـة يف ‪ 9‬أيلـول ‪ 1946‬سـارت يف شـارع الرشـيد من‬
‫احليدرخانـة حتى اصطدمـت بالبوليـس يف الشـورجة احتجاجـا علـى إنـزال‬
‫القـوات الربيطانيـ�ة يف البصـرة‪ .‬وكانـت ترفـع الشـعارات التاليـة‪:‬‬
‫•نـزول القـوات الربيطانيـ�ة اجلويـة ىف البصـرة اعتـداء علـى سـيادتن�ا‬
‫وامتهـان لكرامتنـ�ا‪ ،‬نريـد اجللاء حاال‪.‬‬
‫•نطالب بت�أسيس دولة عربي�ة ديمقراطية مستقلة ىف فلسطني‪.‬‬
‫•نطالـب باالعتراف بعصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة وحبـزب التحـرر‬
‫الوطني‪.‬‬
‫•يسقط اإلرهاب ضد العمال ونقاباتهم‪.‬‬
‫وكان يسير يف مقدمـة املتظاهريـن حسين محمـد الشـبييب وبعـض‬
‫أعضـاء الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطني‪ ،‬وكان الشـبييب مـن بين‬
‫املتظاهريـن اجلـرىح وقـد اعتقـل هـو ومحمد حسين أبـو العيس وآخـرون على‬
‫إثرهـا‪.‬‬
‫وإذ أحسـت الدوائر االسـتعمارية وأعوانها أنها عجزت بوسائل اإلرهاب‬
‫أن تقضى علـى مقاومـة الشـعب‪ ،‬وأن اسـتمرار العمري يف احلكم سـيعود على‬
‫املشـاريع التي تعدهـا بالضرر‪ ،‬بـادرت إىل إزاحـة حكومته وأتت بنوري السـعيد‬
‫إىل احلكـم ليمهد بأسـاليب�ه الماكرة السـبي�ل مليجء حكومة أخـرى تكون مهمتها‬
‫‪28 28‬‬
‫عقـد املعاهـدة اجلديـدة مـع بريطانيـ�ا التي كان يعـد لها يف اخلفـاء‪.‬‬

‫‪ .27‬انظــر يف هــذا الشــأن مــا كتبـ�ه الســيد جهــاد الونــداوي‪ ،‬أحــد حــكام كركــوك يف جريــدة‬
‫التــآيخ‪( ،‬انظــر احلســي‪ ،‬اجلــزء الســابع‪ ،‬ص ‪.)117‬‬
‫‪ .28‬يقــول مصطفــى العمــري يف مذكراتــه إنــه تــردد أن يكلــف أرشــد العمــري ثانيـ�ة باحلكــم‬
‫إال أن هــذا أخفــق ثانيـ�ة بعــد النكــر الــذي قــام ضــد وزارتــه املســتقيلة من قبــل املعارضــة وإذا‬
‫باإلنكلــز يصــرون علــى إســناد رئاســة الــوزارة إىل نــوري الســعيد ليمهــد الطريــق أمــام صالــح‬
‫حلا دعب ام عاضوأو بزحلا‬ ‫‪332‬‬

‫لقـد كان ذلـك العـام حافلا حبـق بنضاالتـه‪ ،‬برهـن احلـزب فيـه علـى‬
‫حيويتـ�ه وعلـى اتسـاع نفـوذه‪ ،‬واجلمـع الفعـال بين العمـل العلني والسـري‪.‬‬
‫جــر ليقــوم بتنفيــذ السياســة املرســومة مــن قبلهــم‪ .‬ويقــول توفيــق الســويدي كذلــك‬
‫يف مذكراتــه‪« :‬إن األمــر قــد تــم يف منتصــف الليــل بربقيــة أرســلها بيفــن وزيــر اخلارجيــة‬
‫الربيطاني ـ�ة إىل الــويص يرجــوه فيهــا بــأن ال يفســح املجــال الســتمرار وزارة أرشــد العمــري يف‬
‫أعمالهــا عــن طريــق تأليــف وزارة ثانيـ�ة يكــون أرشــد نفســه رئيســا لهــا» (احلســي‪ ،‬اجلــزء‬
‫الســابع‪ ،‬ص ‪.)133‬‬
‫‪12‬‬
‫عام عصيب‬

‫يف الرابـع عشـر مـن تشـرين الثـاين‪ ،‬قدم أرشـد العمـري اسـتقالة وزارته‪،‬‬
‫وبذلـك طويـت صفحـة حالكـة كانـت قـد اتـت علـى اآلمـال التي شـاعت مـع‬
‫االنفـراج النسبي يف األوضـاع السياسـية للبلاد الـذي اقترن بإجـازة بعـض‬
‫األحـزاب والصحـف‪.‬‬
‫انتهـت املعركـة ضد حكومة أرشـد العمـري املغرقة يف رجعيتهـا وإرهابها‬
‫بانتصـار فرضتـه القـوى الوطنيـ�ة مجتمعـة‪ ،‬ولعـب فيـه احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق دورا متميزا عـزز مواقعـه كثيرا بين اوسـاط اجلماهير‪ .‬ولكـن هـذا‬
‫االنتصـار كان محـدودا ولـم يتحقق دون خسـائر كبرية‪ .‬لقد أمكن إسـقاط وزارة‬
‫فظـة يف تعاملهـا مـع الشـعب‪ ،‬وأعطـى هـذا ثقـة للحركـة الوطنيـ�ة وأحزابهـا‬
‫السياسـية يف قدرتهـا علـى مقارعـة االسـتعمار والرجعيـة‪ ،‬وامتـدت هـذه‬
‫الثقـة إىل اجلماهير الشـعبي�ة الواسـعة‪ ،‬وحفزتهـا إىل االلتفـاف حـول األحـزاب‬
‫السياسـية‪ ،‬وبالنسـبة إىل احلـزب الشـيوعي فإنـه خـرج منها بمكاسـب عديدة‬
‫تمثلـت باتسـاع جماهرييتـ�ه كثيرا‪ ،‬وتنشـئة وتدريـب كـوادره علـى خـوض‬
‫النزاالت يف كل املياديـن العلنيـ�ة والسـرية‪ .‬ولكـن جبهـة وطنيـ�ة موحـدة لـم‬
‫تتحقـق برغـم احلاجة الماسـة إليهـا‪ ،‬وظلت بعـض األطـراف الوطني�ة ترفض‬
‫مبـدا اجلبهـة املوحـدة مـن األسـاس‪ ،‬وإذا مـا بـادرت إىل اعمـال مشتركة فإنهـا‬
‫تتعمـد إبعـاد قـوى احلـزب الشـيوعي ومنظماتـه‪ ،‬وظلـت هـذه األعمـال‬
‫املشتركة محـدودة‪ .‬وإذا كان يصـح احلديـث عـن املكاسـب بالنسـبة للحـزب‬
‫الشـيوعي العـرايق‪ ،‬فلا يصـح يف املقابـل التغافـل عن اخلسـائر التي حلقت به‪،‬‬
‫أغلقـت ًعصبـة مكافحـة الصهيوني�ة‪،‬‬ ‫وهـي ليسـت قليلـة علـى اية حـال‪ .‬فقـد ً‬
‫وخسـرت اجلماهير الشـعبي�ة بغلقها منبرا مهمـا للدعاية والتثقيـف والتعبئ�ة‬
‫يف النضـال ضـد الصهيونيـ�ة واالسـتعمار‪ ،‬وشـملت موجـة الفصـل اليت طالت‬
‫‪334‬‬
‫‪335‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫القـوى اليسـارية أعـدادا ليسـت بالقليلـة بين صفـوف رفاقـه ومؤازريـه‪.‬‬


‫وتعـرض كثير من أعضائـه وكـوادره إىل االعتقـال‪ ،‬وطالت موجـة االعتقاالت‬
‫بعـض قادتـه وكـوادره وعلـى رأسـهم حسين محمـد الشـبييب ومحمد حسين‬
‫أبـو العيـس وعلـي شـكر وجاسـم حمـودي الزيـدي ويوسـف هـارون زخلـة‬
‫ويعقـوب مصـري وحمزة سـلمان وآخرين‪ .‬وإذا كانـت وزارة العمري قد أرغمت‬
‫علـى التنحي فـإن الـوزارة اليت حلـت محلهـا‪ ،‬وإن لم جتابه الشـعب باألسـاليب‬
‫العنيفـة التي سـارت عليهـا الوزارة السـابقة لهـا‪ ،‬إال أنهـا جلأت إىل وسـائل أكرث‬
‫خبثـ�ا ودهـاء لتمريـر املهمـة اليت جـاءت مـن أجلها وهـي التمهيد حلكومـة تأخذ‬
‫علـى عاتقهـا إعـادة ربـط البلاد بربيطانيـ�ا بمعاهـدة جديـدة‪ .‬إن مجيء نـوري‬
‫السـعيد إىل احلكـم وجناحـه يف اإليقـاع حبزبين مـن األحـزاب العلني�ة اخلمسـة‬
‫يف الشـباك التي نصبهـا باسـم إجـراء انتخابـات ني�ابيـ�ة حـرة واإلتيـ�ان بمجلـس‬
‫نواب «محايد» مؤهل ألن ينظر يف املشـاريع املنوي عقدها‪ ،‬أعطى االسـتعمار‬
‫والرجعيـة الثقـة بأنهـا لـم ختـرج مهزومـة‪ ،‬وأنهـا باتـت يف وضـع أفضـل ملنازلـة‬
‫احلركـة الوطنيـ�ة والسير قدمـا يف املشـاريع املرسـومة‪ .‬لكـن املهـم يف األمـر أن‬
‫موقـف احلـزب الشـيوعي اجلـريء واملؤثـر فـرض علـى القـوى الرجعيـة أن‬
‫تتحسـب كثريا يف التأثريات اليت سـترتكها خطواتها يف مكافحة الشـيوعية قبل‬
‫أن ختطـو يف هـذا االجتـاه‪ .‬وقـد دفع األمر بالصحف الربيطانيـ�ة إىل أن حتمل على‬
‫قسـاوة التدابير املتخذة مـن قبل حكام العـراق ونصحت بأن تكافح الشـيوعية‬
‫بالرتفيـه عـن أحوال العمال وحتسين ظروفهم املعاشـية والصحيـة واضطرت‬
‫احلكومـة الربيطانيـ�ة إىل إعلان سـخطها علـى وزارة العمـري وأشـارت بوجوب‬
‫‪11‬‬
‫إقا لتهـا‪.‬‬
‫يف احلـادي والعشـرين من تشـرين الثـاين ‪ ،1946‬جاء نوري السـعيد إىل‬
‫احلكـم وراح يشـيع يف األوسـاط السياسـية أن مهمتـه هـذه املـرة ال تزيـد عـن‬
‫تكويـن حكومـة محايدة حيبذ أن تشـارك فيها األحـزاب لتتوىل إجـراء انتخابات‬
‫حـرة ويتنحى هـو بعدهـا ليفسـح يف املجـال إىل وزارة تنبثـق عـن هـذا املجلـس‬
‫وتتـوىل هـي النظـر يف قضايـا البالد الرئيسـية ويف مقدمتهـا عالقاتـه بربيطاني�ا‪.‬‬
‫وعلـى هـذا األسـاس دخـل يف مفاوضـات مع حـزيب الوطني الديمقراطي‬
‫واألحـرار مـن أجـل أن يشـاركاه يف احلكـم‪ .‬وكان يريـد مـن هـذه املشـاركة أن‬
‫تزكـي انتخاباتـه يف أعين اجلماهير‪ .‬إن مـايض نـوري السـعيد‪ ،‬وتشـكيلة‬
‫الـوزراء الرجعيين الذيـن أراد أن يشـاركوه والشـائعات التي دارت حـول‬
‫املهمـات املرسـومة لوزارتـه‪ ،‬وطبيعـة اجلهـاز اإلداري الـذي يتـوىل اإلشـراف‬
‫علـى االنتخابـات‪ ،‬والتقييـ�د علـى احلريات العامـة وحجب الصحـف الوطني�ة‬

‫‪ .1‬عبد الرزاق احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات العراقية‪ ،‬ص‪.130‬‬


‫بيصع ماع‬ ‫‪336‬‬

‫واعتقـال وسـجن املناضلين الوطنيين‪ ،‬مـا كانـت جميعها تبرر االطمئنـ�ان إىل‬
‫وعود نوري السـعيد بشـأن االنتخابات‪ .‬ولكن نوري السـعيد اسـتطاع أن خيدع‬
‫كامـل اجلـادريج بمعسـول الـكالم إىل احلـد الـذي صـار هـذا يتحـدث فيـه عـن‬
‫النوايـا احلسـنة لهـذا الثعلـب الماكـر‪:‬‬
‫«والواقـع إن هنـاك إشـكاال يف املوقـف السـيايس الراهـن‪ .‬ففـي الوقت‬
‫الـذي حيـاول فيه فخامـة رئيس الـوزراء إظهار نواياه احلسـنة يبـ�دو أنه‬
‫يف الوقـت نفسـه مضغـوط عليـه مـن قبـل حـزب أو فئـة أو جماعـة أو‬
‫‪22‬‬
‫طائفـة أو كتلـة‪»..‬‬

‫والكتلـة يف رأي اجلـادريج هـي صالـح جبر وصـادق البصـام‪ .‬كان واضحا‬
‫للشـيوعيني وجلمهـرة واسـعة مـن الـرأي العـام أن االنتخابـات اليت يزمـع نوري‬
‫السـعيد إجراءهـا ال ختتلـف يف يشء عـن مثيلاتهـا السـابقات‪ ،‬حتى أن مؤرخـا‬
‫كعبـد الـرزاق احلسني لـم خيـف «أن التدخـل رافقهـا منذ بدايتها بشـكل سـافر‬
‫مفضـوح» ويف موضـع آخـر يقول‬
‫«وقبيـ�ل موعـد غلق بـاب الرتشـيح‪ ،‬يجء باملتصرفين إىل بغـداد وزودوا‬
‫بقوائـم النـواب الذيـن أريـد تعيينهـم‪ ،‬فخرجـت االنتخابـات مـن طـور‬
‫التدخـل إىل طـور خطري‪ ،‬هـو التعيني الصرف الذي أصبحـت الني�ابة به‬
‫‪33‬‬
‫(منصبـا) ا ال يمـت إىل التمثيـ�ل الشـعيب بصلـة»‪.‬‬

‫فجـر موقـف حـزب البورجوازيـة الوطنيـ�ة هـذا أزمـة يف جبهـة اليسـار‬


‫العراقيـة‪ .‬فقـد بـادر حـزب الشـعب واالحتـاد الوطني إىل مهاجمـة احلـزب‬
‫الوطني الديمقراطـي بعنـف‪ ،‬وكان هـذا بالـذات مـا ابتغـاه نـوري السـعيد‬
‫إلضعـاف جبهـة اليسـار‪ .‬أدرك احلـزب الشـيوعي العـرايق خطـورة املوقـف‪،‬‬
‫وبـات عليـه أن يتحـرك بسـرعة لتـدارك الوضـع‪ ،‬ونشـط يف هـذا السـبي�ل علـى‬
‫عـدة جبهـات‪ .‬كان عليـه أوال أن يعري أمام اجلماهري نوايا نوري السـعيد وتذكري‬
‫الشـعب بمايض قطب الرجعية العراقية‪ .‬فسـارع لهذا الغرض حسين محمد‬

‫‪ .2‬اجلادريج‪ ،‬مذكرات اجلادريج‪ ،‬ص ‪.139‬‬


‫‪ .3‬احلســي‪ ،‬اجلــزء الســابع‪ ،‬ص ‪ .158‬ويذكــر هنــا أن جريــدة (الرائــد) لصاحبهــا أمــن‬
‫أحمــد‪ ،‬نشــرت قائمــة بأســماء النــواب الذيــن “ســيفوزون” يف االنتخابــات قبــل إجرائهــا بيــوم‬
‫واحــد‪ ،‬كمــا أعدتهــا وزارة الداخليــة‪ -‬وعندمــا أعلنــت نتــ�اجئ االنتخابــات جــاءت مطابقــة‬
‫لمــا نشــرته جريــدة (الرائــد) ســوى أن ســلمان الشــيخ داود فــاز عــن العمــارة وليــس عــن‬
‫الرمــادي !!‬
‫‪337‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الشـبييب‪ ،‬وكان موقوفـا يف املوقـف العام‪ ،‬إىل تقديم مذكـرة إىل وزير الداخلية يف‬
‫‪ 21‬كانـون األول ‪ 1946‬عـن الهيئـ�ة املؤسسـة حلزب التحـرر الوطين يدين فيها‬
‫األسـاليب الالديمقراطيـة والالوطنيـ�ة التي تسير عليهـا الـوزارة‪ ،‬وأوضـح أن‬
‫هـذه اإلجـراءات اسـتمرار للخطـط املرسـومة ملقاومـة حركة الشـعب الوطني�ة‬
‫‪44‬‬
‫ومصـادرة حرياتـه الديمقراطيـة حلملـه علـى السـكوت جتـاه مـا يـراد بـه‪.‬‬
‫وحتـرك احلـزب بهـدوء لتبصير احلـزب الديمقراطـي الوطني بمخاطـر‬
‫البقـاء يف حكومـة نـوري السـعيد ووجـه إىل كامـل اجلـادريج نفسـه نـداء خاصـا‬
‫باسـم حـزب التحـرر الوطني قـال فيـه‪:‬‬
‫«ذهلنا يف البداية الشتراك حزبكم يف حكومة نوري السـعيد‪ ..‬ملعرفتن�ا‬
‫بعمـق الهوة التي تفصلكم عن جماعة من النـاس عملت طوال حياتها‬
‫السياسـية علـى تعزيز املشـاريع االسـتعمارية‪ .‬ولكن بي�اناتكـم العامة‬
‫منـذ ذلك احلني ألقـت الضوء علـى دوافعكم‪.‬‬

‫وعلـى العمـوم‪ ،‬فـإن قناعتنـ�ا هـي أن نـوري السـعيد ال ينـوي شـيئ�ا أكثر‬
‫مـن جتميـع مجلـس نـواب بأكرثيـة رجعيـة ومن ثـم تشـكيل وزارة جتدد‬
‫املعاهـدة مـع بريطاني�ا‪.‬‬

‫ولهـذا فإننـ�ا نقترح عليكـم إعـادة النظـر يف مسـألة تعاونكـم مـع هـذه‬
‫احلكومـة‪ ..‬إنكـم ال تفعلـون أكثر من منحهـا ‪ -‬يف أعني الشـعب والرأي‬
‫العـام العالمي ‪ -‬صفـات ديمقراطيـة هـي منهـا بـراء كليـا‪ ..‬وكلمـا طال‬
‫‪55‬‬
‫اشتراككم فيهـا‪ ..‬سـهل عليهـا إجنـاز أغراضهـا احلقيقيـة»‪.‬‬

‫باملقابـل‪ ،‬كثـف فهـد حتركاتـه لالتصـال بقـادة األحـزاب الديمقراطيـة‬


‫سـعيا منـه إىل وضع حد لتبـ�ادل االتهامات وتـدارك اخلالفات بينهم بما حيفظ‬
‫جلبهـة اليسـار قوتهـا‪ ،‬والتقـى بكامـل اجلـادريج وبرفقتـه زكي محمد بسـيم يف‬
‫داره بهـدف إقناعـه بضـرورة سـحب ممثـل احلـزب (محمـد حديـد) مـن وزارة‬
‫‪66‬‬
‫نـوري السـعيد‪.‬‬
‫وأصـدر احلـزب الشـيوعي بي�انـا وزعـه علـى نطـاق واسـع كشـف فيـه‬

‫‪ .4‬جعفر عباس حميدي‪ ،‬التطورات السياسية يف العراق‪ ،‬ص ‪.368‬‬


‫‪ .5‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪ .6‬مديريــة التحقيقــات اجلنائي ـ�ة‪ ،‬موســوعة ســرية خاصــة باحلــزب الشــيوعي العــرايق‬
‫الســري‪ ،‬مطبعــة احلكومــة‪ ،‬بغــداد‪ ،1949 ،‬ص‪.210‬‬
‫بيصع ماع‬ ‫‪338‬‬

‫أن املجموعـة التي تقـوم باالنتخابـات هـي ذاتهـا التي تآمـرت إلسـقاط وزارة‬
‫السـويدي والتي جـاءت بأرشـد العمـري إىل احلكـم‪ ،‬وهـي ال يمكـن أن تكـون‬
‫محايـدة‪ ،‬وفضـح الغـرض الـذي تنشـده الدوائـر االسـتعمارية مـن هـذه‬
‫االنتخابـات‪.‬‬
‫ومارس الضغط السـيايس يف الشـارع من خالل املظاهرات اجلماهريية‬
‫التي كان يريـد منهـا فضـح طبيعـة حكومـة نـوري السـعيد املعاديـة للشـعب‪،‬‬
‫والتي ال يمكـن أن تكـون محايـدة بأيـة حـال‪ .‬ومـع ذلك‪ ،‬ظـل اجلـادريج يرفض‬
‫بعنـاد أن يصغـي إىل نصـاحئ احلـزب ونقده‪ .‬فحين وجهت إليـه يف املؤتمر األول‬
‫للحـزب الوطني الديموقراطـي أسـئلة حـول موقفـه مـن مظاهـرات حـزب‬
‫التحـرر الوطني قال‪:‬‬
‫«إن جماعـة التحرر إذا كانوا يريـدون من وراء مظاهراتهم إحراج موقف‬
‫حزبنـ�ا مـن الـوزارة وحملـه علـى االنسـحاب فإنهـم يف ذلـك مخطئـون‬
‫ألن حزبنـ�ا مسـتقل بأعمالـه وسياسـته وخططـه ال يت�أثـر إال باملصلحـة‬
‫‪77‬‬
‫العامـة كمـا يراهـا هـو»‪.‬‬

‫ولكـن إزاء الضغـط الـذي تعـرض لـه احلـزب الوطني الديمقراطـي مـن‬
‫داخلـه ومـن خارجـه بعـد افتضـاح تزويـر االنتخابـات‪ ،‬اضطـر ممثلا احلزبني‪،‬‬
‫الوطني الديمقراطـي واألحـرار‪ ،‬إىل االسـتقالة مـن حكومة نوري السـعيد‪ .‬بي�د‬
‫أن احلـزب الوطني الديمقراطي واصل املشـاركة يف االنتخابـات حبجة أنه يريد‬
‫منها «حمل الشـعب على ممارسـة حقوقه الدسـتورية وامتحان رجال احلكم‬
‫يف إثبـ�ات صـدق نواياهـم وتصرحياتهم»‪ ٠‬لكنه عاد وسـحب نوابـه من املجلس‬
‫النيـ�ايب بعـد أن فـاز بأربعـة مقاعـد‪ ،‬لكـن نوابـه الثالثـة الذيـن فـازوا يف البصرة‪،‬‬
‫وهـم عبـد الهـادي البجـاري وعبـد اجلبار امللاك وجعفر البـدر‪ ،‬رفضـوا التخلي‬
‫عـن مقاعدهـم اليت فـازوا بهـا وأثروا االنسـحاب مـن احلزب!‬
‫كانـت تلـك جولـة سياسـية مهمة علمـت رفاق احلزب الشـيوعي درسـا‬
‫املتأرجـح عندمـا تتعقـد األمـور‪ .‬لكـن‬
‫ً‬ ‫ثمينـ�ا يف سـلوك البورجوازيـة السـيايس‬
‫اجلولـة لـم تتحقـق دون ثمـن‪ ،‬وثمـن قاس جـدا‪ .‬لقد اضطـر فهد‪ ،‬كمـا روى هو‬
‫لرفاقـه يف سـجن الكـوت من بعد‪ ،‬أن يكثر من حركته وتنقالتـه وأن يتخلى عن‬
‫تشـدده املعتـاد يف التحـرك السـري والتردد علـى بيـوت عديـدة بهـدف تـدارك‬
‫األوضـاع التي تعرضـت لهـا احلركـة الوطنيـ�ة‪ .‬ويف غمرة هذا النشـاط الواسـع‬
‫الـذي كانـت تتن�اهـى أخباره إىل البوليس‪ ،‬شـدد هـذا كثريا مـن مراقبت�ه‪ ،‬وخالل‬

‫‪ .7‬اجلادريج‪ ،‬مذكرات اجلادريج‪ ،‬ص ‪.140‬‬


‫‪339‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫خمسـة شـهور كـرر غاراتـه علـى البيوت اليت يشـتب�ه بهـا‪ ،‬فعرث على فهـد وزكي‬
‫محمـد بسـيم وعزيـز عبـد الهـادي يف واحد من هـذه البيـوت يف ‪ 18‬كانـون الثاين‬
‫‪88‬‬
‫‪.1947‬‬
‫لـم خيامـر البوليـس الشـك يف أنـه لـن حيصـل مـن فهـد علـى يشء‪ ،‬لذلك‬
‫ركـز يف تعذيبـ�ه علـى اآلخريـن‪ ،‬وربمـا تكـون هيبت�ه السياسـية قـد فرضت على‬
‫البوليـس هـذا املوقف‪ .‬وعلى أية حـال‪ ،‬وطبقا إىل توصياته احلزبي�ة هو‪ ،‬سـارع‬
‫كادر احلـزب إىل نقـل مطبعـة احلـزب ووثائقـه إىل بيـوت حزبيـ�ة أخـرى واختـذ‬
‫إجـراءات الصيانـة الالزمـة‪ .‬منـذ البدايـة أعلـن أنـه سـكرتري احلزب العـام‪ ،‬ولم‬
‫يضـف إىل هـذه املعلومـة التي لـم تكـن خافيـة علـى البوليـس بالطبـع أي يشء‬
‫أخـر‪ ،‬وكان يف التحقيـق وىف املحكمـة مـن بعـد كلمـا سـئل عن تنظيمـات احلزب‬
‫وعـن مسـؤوليات الذيـن يقودونهـا‪ ،‬وأيـة معلومـة التي يمكـن أن ينتفـع منهـا‬
‫البوليـس يف محاربـة احلـزب وكشـف تنظيماتـه وكـوادره جييـب أنـه سـكرتري‬
‫احلـزب ومـن واجبـه أن يكـون أول مـن حيافظ علـى نظامـه وان ال يبوح بـأي أمر‬
‫يكشـف عـن تشـكيالت احلزب‪.‬‬
‫سـأله بعـض رفاقـه يف سـجن الكـوت ألـم يكـن مـن االفضـل أال يعترف‬
‫باسـمه وهويتـ�ه احلزبيـ�ة؟ فأجابهـم إن السـلطة الرجعيـة كانـت عازمـة علـى‬
‫قتلنـا‪ ،‬فلمـاذا نسـهل لهـا هـذه املهمـة؟ لماذا جنعـل عمليـة اغتي�النـا خافية على‬
‫اجلماهير ونعين دوائـر البوليـس يف إنـكار اعتقالنـا من األسـاس وتزعـم أنها لم‬
‫تعتقـل فهـد وإنمـا اعتقلت شـخصا أخر؟ كنـا نريد مـن اإلعالن عـن هويتن�ا أن‬
‫ندفـع الـرأي العـام العـرايق واألميم للدفاع عنـا وإنقاذنا من املـوت املؤكد وهوما‬
‫حصـل بالفعل‪.‬‬
‫لقـد فـرض الرفيـق فهـد هيبتـ�ه حتى علـى دوائـر البوليـس‪ ،‬ولعـل يف‬
‫وصـف بهجـت العطيـة‪ ،‬مديـر األمـن العام له مـن أنه يملـك قابلية كبيرة على‬
‫اإلقنـاع‪ ،‬مـا يكشـف بـأي ثبـ�ات وثقـة كان يتحـدث وهـو يف قبضـة البوليـس‪.‬‬
‫ظلـت مسـألة إلقـاء القبض على يوسـف سـلمان فهـد ورفاقـه اآلخرين‬
‫غامضـة‪ ..‬كيـف اهتـدى البوليـس إىل دار ابراهيـم نـايج الذي اعتقـل فيه فهد؟‬
‫هـل ألن صاحـب الـدار شـخص عـرف بنشـاطه السـيايس‪ ،‬وبنشـاطه ضـد‬
‫الصهيونيـ�ة بوجـه خـاص يف عصبـة مكافحة الصهيونيـ�ة‪ ،‬وكانـت داره من بني‬
‫الـدور العديـدة التي دوهمـت فعثر فيهـا علـى قائـد احلـزب مصادفة كما فسـر‬
‫هـو األمـر؟ ألـم يكـن من احلكمة‪ ،‬وهـو ذو اخلبرة يف التخفـي‪ ،‬أن يتجنب الرتدد‬
‫علـى دار كهـذه؟‪ ..‬ام أن األمـر كان حصيلـة مصادفـة أخـرى؟ يطـرح صالـح‬

‫‪( .8‬القاعدة)‪ ،‬العدد ‪ ،3‬حزيران ‪.1947‬‬


‫بيصع ماع‬ ‫‪340‬‬

‫احليـدري (وهـو يف تلـك الليلـة وكـوادر طالبيـ�ة أخـرى علـى موعد للقـاء بفهد)‬
‫يف مذكراتـه احتمـاال أخـر‪ :‬يقـول إنـه قبـل اعتقـال فهـد كان قـد ألقـي القبـض‬
‫علـى خدجيـة عبـد الـرزاق (وكانـت تنشـط يف مجال نقـل املراسلات احلزبي�ة)‪،‬‬
‫وقـد تعرضـت إىل التعذيـب فاعرتفـت بأنهـا التقـت بفهـد يف دار ابراهيـم نايج‪،‬‬
‫وعلـى هـذا األسـاس داهـم البوليـس هـذا البيـت‪ 9 9 .‬أمـا دوائـر البوليـس فلهـا‬
‫روايـة أخـرى توردهـا يف كتابهـا (أضـواء علـى احلركـة الشـيوعية يف العـراق)‪،‬‬
‫فهـي ترجـع األمـر إىل معلومـات زودهـا بهـا وكيلهـا فاضـل فعـل وكان يعمـل يف‬
‫التلفونـات (وليـس يف السـيكاير كما يذكر الكتاب) وحشـرت اسـم فعل ضمد‬
‫أيضـا الـذي عـرف بنشـاطه بين فلايح العمـارة للتشـابه يف االسـم ليـس غري‪.‬‬
‫وقـد جـرت محاكمـة فهـد ورفاقـه يف محكمـة جـزاء بغـداد برئاسـة عبـد‬
‫العزيـز اخليـاط‪ .‬وقـد تطـوع للدفـاع عنهـم عديد مـن املحامين الديمقراطيني‬
‫املعروفين يف مقدمتهـم كامـل قزانجي وتوفيـق منير وشـريف الشـيخ‪ .‬وقـد‬
‫اختـذ فهـد مـن املحكمـة منبرا للدفـاع عـن احلـزب وأفـكاره وشـعاراته‪ ،‬وكانـت‬
‫الصحـف تتبـ�ارى فيمـا بينهـا لنشـر املرافعـات التي أحدثـت ضجـة واسـعة‬
‫وصـارت النسـخة منهـا تبـ�اع بأضعـاف سـعرها‪.‬‬
‫رغـم مقاطعـات القـايض املتكـررة واملنفعلـة‪ ،‬راح فهـد يتحـدث عـن‬
‫الشـيوعية كمـا يفهمهـا‪ ،‬ورد علـى الذيـن يصطنعـون التعـارض مـا بين العمل‬
‫الشـيوعي والوطني وقـال‪ :‬لقـد انغمـرت يف النضـال الوطني قبـل أن أكـون‬
‫شـيوعيا‪ ،‬وبعـد أن أصبحـت شـيوعيا‪ ،‬فلـم أجـد يف احلقيقـة مـا ينـ�ايف أو مـا‬
‫يتمايـز مـع معتقـدي الوطني‪ ،‬قبـل أن أكـون شـيوعيا وبعـد أن صرت شـيوعيا‪،‬‬
‫سـوى أين صرت أشـعر بمسـؤولية أكرث إزاء وطين وأنا شـيوعي‪ .‬وهاجم القانون‬
‫الرجعـي الـذي حيـرم العمل الشـيوعي ووصفه بامليـت تاريخيا‪ .‬ورغـم اعرتاض‬
‫احلاكـم علـى هـذا الوصـف وتذكيره بـأن شـتم القوانني يؤلـف جريمـة‪ ،‬واصل‬
‫احلديـث عـن الظروف اليت أحاطت بتشـريع هذا القانون أيـام تصاعد الدعوة‬
‫إىل الفاشـية يف البلاد‪ ..‬وقـال‪:‬‬
‫«حنـن يف سـبي�ل عـداء االسـتعمار ال نتردد عـن التضحيـة حتى إذا‬
‫اعتربتنـ�ا املحكمـة املوقـرة مقصريـن يف تنفيـذ بعـض القوانين»‪.‬‬

‫وأشـار إىل ان مـا دفـع احلـزب للعمـل سـرا يبرره عـداؤه لالسـتعمار و‬
‫«للمحكمـة املوقـرة أن تـدرس مواقفنـا الوطنيـ�ة وحتكـم علينـ�ا بهـذه النظرة»‪،‬‬
‫وأضـاف‪:‬‬
‫‪ .9‬صالح احليدري‪ ،‬مذكراته املخطوطة‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪341‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫«إن حزبنـ�ا سـري من ناحية واحدة وهي عدم إظهار تشـكيالت احلزب‬
‫ألننـ�ا كنـا مطارديـن‪ ،‬أمـا مناهجنـا وشـعاراتن�ا وأهدافنـا فهـي واضحـة‬
‫ومنشـورة علـى اجلمهور»‪.‬‬

‫وىف نهايـة املرافعـات أحـال عبـد العزيـز اخليـاط مجمـوع املتهمين إىل‬
‫محكمـة اجلـزاء الكبرى ملنطقـة بغـداد للنظـر يف الدعـوى‪ ،‬وقـد ضمـن قـرار‬
‫االتهـام واإلحالـة سـبا وشـتما بذيئـ�ا للحـزب وللمتهمين‪.‬‬
‫لقد عرف عن عبد العزيز اخلياط هذا عداؤه الشـديد للشـيوعية‪ ،‬وكان‬
‫ال خيفـي حتاملـه علـى املتهمين بنشـاطاتهم الوطنيـ�ة السـيما إذا كانـوا متهمني‬
‫بالشـيوعية أو بعالقاتهـم حبـزب التحـرر الوطني وقد أصبح مضـرب املثل على‬
‫‪10 10‬‬
‫الفسـاد يف جهـاز القضـاء إىل جانـب شـاكر العـاين وخليـل أمين‪.‬‬
‫ويف الثـاين والعشـرين مـن حزيـران ‪ ،1947‬جـرت محاكمـة قـادة احلزب‬
‫يف املحكمـة الكبرى‪ ،‬وكانـوا يف اليـوم الثامن مـن إضرابهم عن الطعـام احتجاجا‬
‫علـى األوضـاع السـيئ�ة التي عوملـوا بها يف معتقـل أبو غريـب‪ .‬وىف دفاعه أشـار‬
‫فهـد إىل أن احلزب‬
‫«يفخـر بـأن تنسـب إليـه جميـع األعمـال والنشـاط السـيايس الوطين‬
‫والعمـايل الـذي حـدث يف العـراق يف السـنوات القليلـة الماضيـة‪ ،‬ولكن‬
‫احلقيقـة جيـب أن تقـال وهـي أن حزبنـ�ا لـم خيلـق احلركـة الوطنيـ�ة يف‬
‫العـراق‪ ،‬وليـس هـو الوحيـد يف حقـل النضـال الوطني‪ .‬فهنـاك عناصـر‬
‫وطنيـ�ة عملـت وتعمل‪ ،‬وهناك عناصر عماليـة واعية تدرك مصاحلها‬
‫العماليـة ومصاحلهـا الوطنيـ�ة‪ ،‬وهناك أحـزاب وطني�ة أجيزت حديث�ا‪،‬‬
‫وهـذه جميعـا تعمـل بنظرياتهـا وأسـاليبها املختلفـة يف بـث الوعـي‬
‫الوطني بين اجلماهير»‬

‫وراح يف دفاعـه الطويـل يتحدث عـن الدوافع العميقة اليت حتفز جماهري‬
‫الشـعب العـرايق للنضـال ضـد االسـتعمار ومـن أجـل حرياتهـا الديمقراطيـة‪.‬‬
‫واختتـم دفاعـه بقوله‪:‬‬
‫«إننـ�ا نقـف أمام محكمتكم املوقـرة وحنن ال نطلب الرحمـة ألن الرحمة‬
‫للمذنـب وألننـ�ا ال نريـد حمايـة أنفسـنا ومصلحـة أشـخاصنا وإنمـا‬
‫نريـد العـدل ألننـ�ا نريـد حمايـة سـمعة القضـاء العـرايق الـذي حنـرص‬

‫‪ .10‬اجلادريج‪ ،‬مذكرات اجلادريج‪ ،‬ص ‪.448‬‬


‫بيصع ماع‬ ‫‪342‬‬

‫علـى سـمعته ألننـ�ا حنـرص علـى سـمعة مصالـح الوطـن العـرايق‪ .‬إذ أن‬
‫الديمقراطيـة التي ال تتسـع لنشـاط أشـد املناضلين صالبـة وأكرثهـم‬
‫عنـادا وأدراهـم بأسـاليب االسـتعمار ونوايـاه ال يمكـن أن تكـون‬
‫ديمقراطيـة يقرهـا الـرأي العـام العالمي احلـر»‪.‬‬

‫لكـن احلـكام املرتشين الذيـن مـا كان يهمهـم سـمعة القضـاء العـرايق‪،‬‬
‫قـد أصـدروا أحكامهم سـلفا‪ .‬وهكذا أصـدرت املحكمة الكربى حكمهـا يف الرابع‬
‫والعشـرين مـن حزيـران ‪ 1947‬بإعـدام يوسـف سـلمان فهـد وزكـي محمـد‬
‫بسـيم وابراهيـم نـايج‪ ،‬وحكمـت علـى اآلخريـن باألشـغال الشـاقة املؤبـدة‬
‫وباحلبـس ملـدد مختلفـة‪ .‬فسـارع احلـزب يف ‪ 27‬حزيـران ‪ 1947‬إىل إرسـال‬
‫مذكـرة احتجاجيـة إىل الـويص علـى العـرش وأرسـل صـورا منهـا إىل رؤسـاء‬
‫الـدول الكبرى بواسـطة سـفرائهم يف بغداد وإىل سـكرتري منظمـة األمم املتحدة‬
‫ورؤسـاء احلكومـات العربيـ�ة ورؤسـاء األحزاب فيهـا‪ .‬وقد فندت املذكـرة التهم‬
‫التي وجهـت إىل قـادة احلـزب وطالبـت اجلهـات التي أرسـلت إليهـا بالتدخـل‬
‫لـدى احلكومـة العراقيـة إللغـاء األحـكام واإلفـراج عنهـم‪.‬‬
‫وقـد قوبلـت األحـكام حبملـة واسـعة مـن االسـتنكار ليـس فقـط مـن‬
‫جانـب األحـزاب واملنظمات والصحف الشـيوعية واليسـارية يف بلـدان عديدة‬
‫يف الوطـن العـريب والعالـم‪ ،‬بـل حتى من أوسـاط أخرى هالهـا أن حيكـم باإلعدام‬
‫مناضلـون لـم يقرتفـوا شـيئ�ا سـوى دفاعهـم عـن األفـكار التي يؤمنون بهـا‪ .‬وقد‬
‫عبر كثير مـن شـرفاء العالـم بمـن فيهـم بعـض رجـال الديـن عـن اسـتنكارهم‬
‫لهـذه األحـكام‪ 11 11 .‬و «قامـت قيامـة الصحـف األجنبيـ�ة يف اخلـارج وأخـذت‬
‫تنـ�دد بالعدالـة العراقيـة» كمـا يقـول احلسني‪ 12 12 .‬وإزاء الضجـة التي أثارتهـا‬
‫الصحـف الربيطانيـ�ة ضـد األحـكام اضطـرت السـفارة العراقيـة يف لنـدن أن‬
‫احلكـم يف‬ ‫تصـدر بي�انـا تزعـم فيـه أن املحكومين كانـوا حياولـون قلـب نظـام ً‬
‫البلاد‪ .‬وحين عرضت األحـكام على محكمة التمييز للمصادقة طبقـا للقانون‬
‫عـارض رئيـس محكمـة التمييز الربيطـاين اجلنسـية املستر بريجـارد التصديق‬
‫علـى احلكـم وقطـع السـبي�ل علـى جهـود احلكومة حلمـل محكمـة التميزي على‬
‫‪13 13‬‬
‫تصديـق القـرار كمـا يـروي اجلـادريج‪.‬‬
‫‪ .11‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫‪ .12‬احلسين‪ ،‬اجلزء السابع‪ ،‬ص ‪.193‬‬
‫‪ .13‬يف مجلــس ضــم كامــل اجلــادريج وناظــم الزهــاوي وأخريــن‪ ،‬دار احلديــث حــول فســاد‬
‫جهــاز القضــاء حتــدث اجلــادريج عــن ارتقــاء بعــض احلــكام وقــال إن أحــد وزراء العدليــة‬
‫الســابقني أخــذ ‪ 800‬دين ـ�ار مــن املخصصــات الســرية ووزعهــا علــى ثالثــة حــكام بعــد أن‬
‫‪343‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫علـى إثـر ختفيـض األحـكام نقـل املحكومين إىل سـجن الكـوت‪ .‬وليـس‬
‫هنـاك مـا يشير إىل السـبب الذي دفـع احلـكام إىل اختي�ار سـجن الكـوت جلمع‬
‫السـجناء الشـيوعيني‪ .‬أالن الكـوت كانـت يف أحضـان واحـدة مـن أكبر العوائل‬
‫اإلقطاعيـة يف البلاد؟ ‪14 14‬أم ملجـرد إبعادهـم عـن بغـداد والتخلـي مـن تأثرياتهـم‬
‫السياسـية املحتملـة؟ املهـم هنـا أن الرفيـق فهد سـعى إىل أن يغرس ويرسـخ يف‬
‫السـجن تقاليـد سـار عليهـا الشـيوعيون مـن بعـد يف كل سـجونهم تقـوم علـى‬
‫أسـاس العيـش الرفـايق املشترك واملنظـم واملنضبـط‪ ،‬والسـعي للمحافظـة‬
‫على صحتهم النفسـية واجلسـدية وتثقيفهم سياسـيا ومدرسـيا بالقدر الذي‬
‫تسـمح بـه أوضـاع السـجن والظـروف السياسـية التي تمـر بالبلاد‪ ،‬وتربيتهـم‬
‫بالـروح احلزبيـ�ة وتنمية قدراتهـم املعنوية على الصمود والتصـدي‪ ،‬حىت حتول‬
‫سـجن الكـوت إىل مدرسـة إلعـداد املناضلين الثوريين‪ ،‬وقـد نفـع احلـزب هذا‬
‫كثيرا‪ ،‬ولـم يكـن مـن النـادر أن تسـمع مـن يعبر لـك مـن بين املناضلين آنـذاك‬
‫عـن رغبتـ�ه يف أن يسـجن لبعـض الوقـت لينعم بصحبـة الرفيق فهـد‪ .‬وقد ظل‬
‫السـجناء الشـيوعيون لسـنوات طويلـة مـن بعـد يتمثلـون بالطريقـة التي حل‬
‫بهـا هـذه املشـكلة أو تلك‪.‬‬
‫أضـف إىل ذلـك فإنـه عمـل علـى أن ينظـم صلـة بمـن يقـود احلـزب مـن‬
‫بعـده خـارج السـجن ويعطيـه توجيهاتـه يف عديـد مـن القضايـا الهامـة‪ .‬ومـع‬
‫أن هـذه القيـادة تصرفـت يف بعـض القضايـا‪ ،‬كمـا سنرى‪ ،‬وفقـا لمـا تصورتـه‬
‫ورسـمته هـي‪ ،‬أو حتـت ضغـط األحـداث التي واجهتهـا‪ ،‬إال أنهـا انتفعـت كثيرا‬
‫مـن املالحظـات واألفـكار التي كان يب�ديها‪ .‬ومع ذلـك ظل اختي�اره لهـذه القيادة‬
‫موضـع تسـاؤل‪ .‬لـم يكـن قـد تبقـى مـن أعضـاء اللجنـة املركزيـة حيـث اعتقل‬
‫فهـد سـوى يهـودا ابراهيم صديـق وكريكور بدروسـيان يف بغداد‪ ،‬ومالك سـيف‬
‫يف البصـرة وسـايم نـادر مرتضى يف مصـح يف لبنـ�ان‪ ،‬وملا شـريف يف أربيـ�ل‪.‬‬

‫حكمــوا يف قضيــة معين ـ�ة‪ .‬فقاطعــه رؤوف اجلــادريج‪ :‬هــل إنــك متأكــد مــن ذلــك؟ فأجــاب‬
‫كامــل اجلــادريج‪ :‬نعــم لــو لــم أتأكــد لمــا كنــت أوجــه هــذا االتهــام اخلطــر إىل القضــاء‪.‬‬
‫واســتطرد‪« :‬كان يف حينــ�ه قــد أخــرين صبيــح ممتــاز عندمــا كان يشــغل وكالــة مدينــ�ة‬
‫العدليــة العامــة بــأن جمــال بابــان قــد اســتدعى ثالثــة حــكام ممــن حكمــوا فهــد وجماعتــه‬
‫باإلعــدام ووزع عليهــم مبلــغ ‪ 800‬دينـ�ار مــن املخصصــات الســرية كتشــجيع لهــم‪ -‬وقــال‬
‫صبيــح يف حين ـ�ه إنــه هــو نفســه الــذي وزع املبلــغ املذكــور حبضــور جمــال بابــان‪ .‬وأضــاف‬
‫صبيــح قائــا إن جمــال تدخــل تدخــا فعليــا يف محكمــة التميــز حلمــل املحكمــة علــى‬
‫تصديــق احلكــم ولكــن اجلهــود الــي بذلهــا املســر بنجــارد رئيــس محكمــة التميــز كانــت‬
‫قــد حالــت دون رغبــة الوزيــر يف حين ـ�ه‪ -‬وقــد أيــد يل ذلــك فيمــا بعــد أحــد حــكام محكمــة‬
‫التميزي»(اجلــادريج‪ ،‬مذكــرات اجلــادريج‪ ،‬ص ‪.)448‬‬
‫‪ .14‬كانت ملكية محمد األمري وإخوته تبلغ ما يزيد عن ‪ 442‬ألف مشارة (دونم)‪.‬‬
‫بيصع ماع‬ ‫‪344‬‬

‫وانضـم إليهـم أحمـد عبـاس (عبـد تمـر) بعـد أن برأتـه املحكمـة الكبرى‪ .‬ولمـا‬
‫كان كريكـور بدروسـيان ال جييـد التحـدث بالعربيـ�ة‪ ،‬احنصـر عملـه بين األرمـن‬
‫وحدهـم‪ ،‬وأظهـر ملا شـريف تـرددا وجزعـا‪ .‬ولـم يظهـر عبـد تمـر اسـتعدادا‬
‫أعضائها‬
‫ً‬ ‫للعمـل القيـادي‪ .‬لذلـك فقـد نهـض بعمـل اللجنـة املركزيـة اثن�ان مـن‬
‫فقـط‪ ،‬همـا يهـودا صديـق ومالـك سـيف بعـد أن انتقـل مالـك إىل بغـداد أيضا‪.‬‬
‫وإىل جانـب هـؤالء كان هنـاك مرشـحون للجنـة املركزيـة هـم ناقع يونـس وعلي‬
‫الشـبييب وحسـقيل ابراهيـم صديـق واسـماعيل أحمـد ومـوىس محمـد نـور‪.‬‬
‫وعندمـا اسـتقر فهـد يف سـجن الكـوت أوىص أن يضـم إىل اللجنـة املركزيـة كل‬
‫مـن نافـع يونس واسـماعيل أحمد وجاسـم حمودي‪ ،‬وأضيف إىل مرشـحيها كل‬
‫مـن عبـد الـرزاق مطـر وعبـد السلام الناصـري ويوسـف حنـا‪.‬‬
‫أصيـب احلـزب يف البـدء بذهـول عـام لفداحـة اخلسـارة التي حلقـت به‬
‫باعتقـال قائـده‪ .‬إن تربيـ�ة احلـزب علـى املركزيـة الشـديدة‪ ،‬وتميز فهـد خبربتـه‬
‫ودرايتـ�ه ومعارفـه النظرية الواسـعة قياسـا إىل اآلخرين الذين كانوا يشـاركونه‬
‫القيـادة أوجـد نوعا مـن االتكال‪ ..‬حىت إذا حلت السـاعة أفـاق احلزب بمن بقي‬
‫يف قيادتـه وكادره وأعضائـه علـى هـول الكارثة‪.‬‬
‫ولكن سـرعان ما أدركت كوادر احلزب أن عليها أن تشـمر عن سـواعدها‬
‫للتعويـض‪ ...‬وقليلا قليلا دارت عجلـة العمـل احلـزيب‪ ،‬ووجـد كادر احلـزب‬
‫نفسـه يف دوامة النشـاط من جديد‪ ٠‬وكان عضو اللجنة املركزية‪ ،‬يهودا ابراهيم‬
‫صديـق (ماجـد)‪ ،‬املدرس يف كلية الزراعة‪ ،‬وبرغم املخاطر اجلسـيمة‪ ،‬اسـتطاع‬
‫أن يتصـل بفهـد وهـو يف معتقـل أبـو غريـب مرتين‪ .‬وقـد أوىص فهـد أن يسـارع‬
‫ماجـد إىل اسـتدعاء كمـال (مالـك سـيف)‪ ،‬مسـؤول املنطقة اجلنوبيـ�ة وعضو‬
‫اللجنـة املركزيـة‪ ،‬ويسـلمه قيـادة احلـزب املباشـرة‪ ،‬وأرسـل هـذا يسـتدعيه إىل‬
‫بغـداد ولكـن دون أن يبلغه بتوصية فهد بأن يكون هو املسـؤول األول ويسـلمه‬
‫املسـؤولية‪ .‬واسـتطاعت الرفيقـة إيلين‪ ،‬زوجة ابراهيم نـاىج‪ ،‬أن ّ‬
‫تهـرب يف املرة‬
‫الثانيـ�ة‪ ،‬مقالـة لفهـد لكـي تصـدر كافتت�احيـة لعـدد مـن (القاعـدة) يصـدر‬
‫ألول مـرة بعـد اعتقالـه‪ ،‬وكان بعنـوان «مغـزى الهجـوم الرجعـي ضـد العناصـر‬
‫الديمقراطيـة» يقـول فيـه إن احلكومـة «ختشى عرقلـة احلـزب الشـيوعي‬
‫للمشـاريع االسـتعمارية ومنهـا معاهـدة العـراق وشـرق األردن‪ ،‬واملعاهـدة‬
‫العراقية‪-‬الرتكيـة»‪ 15 15 .‬وصـدرت (القاعـدة) وهـي حتمـل املقـال املذكور فرفع‬
‫تال‬
‫مـن معنويـات أعضـاء احلـزب‪ .‬ثـم عـادت (القاعـدة) إىل الصـدور يف عـدد ٍ‬
‫وهـي تنقـل أصـداء املحاكمـات يف الداخـل واخلـارج‪.‬‬

‫‪( .15‬القاعدة)‪ ،‬العدد ‪ ،3‬السنة اخلامسة‪ ،‬حزيران ‪.1947‬‬


‫‪345‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وقـد لعـب مرشـح اللجنـة املركزية حسـقيل ابراهيـم صديق (شـجاع)‪،‬‬


‫الطالـب يف كليـة احلقـوق‪ ،‬دورا مشـهودا يف العمل على تـدارك الوضع القيادي‬
‫للحـزب‪ ،‬وكان يعـرف بين كـوادر احلـزب باسـم (حامـد) لـم يكـن علـى قـدر‬
‫كبير مـن الـذكاء أو املعـارف النظريـة‪ ،‬لكنـه كان يتميز باإلخلاص والنشـاط‬
‫والشـجاعة‪ .‬وقد اسـتطاع أن يقود منظمة بغداد‪ ،‬وكانت هي املنظمة املركزية‬
‫للحـزب‪ ،‬يف ذلـك الوقـت الصعب ويبعث لـدى رفاقه الثقة بالنفـس واإلقدام‪.‬‬
‫ويف أوائـل صيـف ‪ 1947‬انتقـل مالك سـيف مـن البصرة إىل بغداد بعد أن سـلم‬
‫قيـادة املنطقـة اجلنوبيـ�ة إىل اسـماعيل أحمـد الـذي كان اليـزال آنـذاك مرشـحا‬
‫للجنـة املركزيـة‪ ،‬لينضـم إىل مركـز احلـزب الـذي بـات يتكـون فعلا مـن يهـودا‬
‫ومالـك وحامـد‪ .‬وكانـت تنشـأ أحيانـا ازدواجيـة يف العمـل‪ .‬إذ كان مالـك يتصـل‬
‫بمنظمي مناطـق بغـداد واملنطقـة اجلنوبيـ�ة‪ ،‬ويتصـل يهـودا بهـم أيضـا وخيبر‬
‫مالـك بمـا اتفـق عليـه معهم‪.‬‬
‫وحين اسـتقر فهـد يف سـجن الكـوت يف تمـوز ‪ ،1947‬سـارع إىل حسـم‬
‫هـذه االزدواجيـة وعـاد ليكـرر يف توصية ثانيـ�ة إن يتسـلم مالك مسـؤولية إدارة‬
‫نشـاط احلـزب‪ .‬ولكـن ماجـد ظل خيفـي على مالـك كامـل أبعاد العمـل احلزيب‪.‬‬
‫ويف نهايـة حزيـران ‪ 1947‬بلغـه أن البوليـس يبحـث عنـه‪ ،‬فسـارع إىل االنتقـال‬
‫إىل غرفـة اسـتأجرها يف (عكـد النصـارى)‪ ،‬ويف ‪ 22‬تمـوز ‪ 1947‬تـرك بغـداد إىل‬
‫شـقالوة (ألنـه خشي أن يعاوده مرض السـل) ولكن بعد أن سـلم قيـادة العمل‬
‫إىل (حامـد)‪ ،‬أخيـه‪ ،‬وليـس إىل مالـك‪ .‬ولكن حامد اعتقل يف أواخر آب‪ .‬واسـتقر‬
‫يهـودا يف كركـوك‪ ،‬ومـن هنـاك أراد أن يديـر العمل يف الشـمال بينمـا يدير مالك‬
‫العمـل يف اجلنـوب إال أن مركـز احلـزب يف بغـداد كان قـد أقـام اتصـاال منتظمـا‬
‫مـع فهـد يف سـجن الكـوت‪ .‬وكان فهد يت�ابع نشـاط يهـودا وال يبـ�دي ارتي�احه إىل‬
‫تصرفاتـه وتعاملـه مـع مالـك‪ .‬أخيرا احتكـم االثنـ�ان لـدى فهـد‪ ،‬فاحنـاز هـو إىل‬
‫جانـب مالـك‪ .‬لكـن مالك هـذا لم يكـن يف واقع احلـال ليفضل يهـودا بيشء ذي‬
‫قيمـة للحـزب‪ .‬فال هـو يتمزي بذكاء عـال‪ ،‬وال بتجربـة نضالية أغزر وال بشـجاعة‬
‫وتصميـم وثبـ�ات أكثر‪ ،‬واسـتطاع أن خيفي خبثـ�ه بدهاء‪ .‬وكالهما وجـد يف مركز‬
‫احلـزب لظـروف تاريخيـة ليـس إال‪ .‬والتجربـة القصيرة لوجـود كل منهمـا على‬
‫رأس العمـل احلـزيب ال تعطـى ألحدهما مزية على اآلخـر‪ 16 16 .‬واحلق إن وجودهما‬
‫علـى رأس نشـاط احلـزب وتزاحمهمـا علـى املسـؤولية األوىل كان ثمرة التشـدد‬
‫باملركزيـة يف اصطفـاء الكادر والعمل احلزيب عامة ولعنتـ�ه يف ذات الوقت‪ ،‬وهي‬
‫لعنـة جـرت علـى احلزب كثيرا مـن املتاعب مـن بعد‪.‬‬

‫‪ .16‬لقــد قــدر يل أن أعمــل مــع كليهمــا‪ ،‬وعرفتهمــا عــن كثــب‪ ،‬باإلضافــة إىل أنــي كنــت‬
‫أعــرف مالــك ســيف شــخصيا حــى قبــل أن أخنــرط يف نضــال احلــزب‪( .‬املؤلــف)‬
‫بيصع ماع‬ ‫‪346‬‬

‫لقـد كان احلـزب حيـذر القوى الديمقراطية يف البالد مـن أن الهجوم على‬
‫احلـزب الشـيوعي سـيعقبه هجـوم عـام علـى احلركـة الوطنيـ�ة الديمقراطية‪،‬‬
‫وأن هـذا الهجـوم ليس سـوى تمهيد ملشـاريع اسـتعمارية يراد ربط العـراق بها‪.‬‬
‫وقـد صـح مـا توقعـه احلـزب وإن تفـاوت مـا نـال كل حـزب مـن واحـد إىل أخـر‪.‬‬
‫فقـد تعـرض احلزب الوطني الديمقراطـي إىل املضايقات فأحيـل اجلادريج إىل‬
‫املحاكمـة لنشـره مقـاالت حـول املعاهدة العراقيـة ‪ -‬الرتكية وحجـزت (صوت‬
‫األهـايل) ومطبعـة األهايل‪ .‬ويف ‪ 23‬أيلـول ‪ 1947‬أبطلت وزارة الداخلية رخصة‬
‫حـزب االحتـاد الوطني بذريعـة أنـه خـرج علـى األهـداف التي أجيز مـن أجلهـا‪،‬‬
‫وألنـه عمـد إىل تشـكيل نظـام «اخلاليـا اخلطـر»‪ ،‬واعتمـد يف إيراداتـه علـى‬
‫مصـادر مجهولـة وأنـه حيـث علـى الثـورة وخلـق االضطرابـات‪ -‬ويف اليـوم ذاتـه‬
‫بـادرت وزارة الداخليـة إىل إبطـال رخصـة حـزب الشـعب بالذرائـع ذاتهـا التي‬
‫اسـتخدمت ضـد حـزب االحتـاد الوطني‪ .‬ولعـل القـارئ الحـظ أن الهجـوم علـى‬
‫األحـزاب علـى هـذا النحـو جـاء بعـد أن فـرغ احلكم مـن محاكمـة فهـد وإيداعه‬
‫يف السـجن‪ .‬وسنرى مـن بعـد أن األمـر جيـري يف كل مرة علـى هذا النحـو؛ هجوم‬
‫علـى احلـزب الشـيوعي ثـم يعقبه هجـوم علـى عمـوم احلركـة الوطني�ة‪.‬‬
‫وكانـت ردود أفعـال األحـزاب الوطنيـ�ة جتـاه اإلرهـاب الـذي انصب على‬
‫احلركـة العامـة قد تفاوتت من حزب إىل آخر‪ .‬فبالنسـبة إىل حزب البورجوازية‬
‫الوطنيـ�ة‪ ،‬الوطني الديمقراطي‪ ،‬فقد انشـغل بقضاياه الداخليـة اليت تفاقمت‬
‫بفعـل هـذا الضغط‪ ،‬وانصرف إىل مناقشـة حتديـد اجتاه احلـزب الالحق وفق ما‬
‫جـاء يف «مذكرة االشتراكية الديمقراطية» اليت صاغ فيهـا اجلادريج تصوراته‬
‫عـن التطـور الـذي يقرتحـه للحـزب الوطني الديمقراطـي‪ .‬وامللفـت للنظـر أن‬
‫اجلـادريج يصـوغ فكـره «االشتراكي – الديمقراطـي» ويطـرح مذكرتـه بهـذا‬
‫الشـأن يف الوقـت الـذي يبلـغ فيـه الهجوم علـى احلزب الشـيوعي ذروتـه‪ ،‬فهل‬
‫خامر اجلادريج االعتقاد يف أن السـاحة السياسـية سـتخلو من الشـيوعية وأن‬
‫الوقـت هـو األنسـب لطـرح الفكـر البديـل؟ وعلـى أيـة حـال إن تبني اجلـادريج‬
‫لالشتراكية الديمقراطيـة يدلـل علـى تعاظـم هيب�ة االشتراكية عامليا‪.‬‬
‫أمـا بالنسـبة إىل حـزب االحتـاد الوطني فإنـه كـف عـن العمـل مـن‬
‫األسـاس‪ ،‬وتفـرق أعضـاؤه‪ ،‬وأبـدى بعضهـم رغبتـ�ه يف االنضمـام إىل احلـزب‬
‫الوطني الديمقراطـي‪ ،‬ولـم تسـفر التغييرات التي أجراهـا يف تنظيمـه قبل حله‬
‫عـن أمـر جـدي‪ .‬أمـا بالنسـبة إىل حـزب الشـعب‪ ،‬فإنـه واصـل عملـه السـيايس‬
‫بصـورة شـبه سـرية‪ ،‬ومـال إىل التعـاون مـع احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ .‬وقـد‬
‫سـاهم بعـض قادتـه مـن املحامين يف الدفـاع عـن فهـد ورفاقـه يف املحكمـة‪،‬‬
‫ودخـل مـع احلـزب يف جلنـة التعـاون الوطني التي ضمـت إىل جانـب احلـزب‬
‫‪347‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الشـيوعي العـرايق كال مـن اجلنـاح التقـديم مـن الوطني الديمقراطـي وكامـل‬
‫قزانجي وجماعتهـا‪ ،‬واحلـزب الديمقراطي الكردي وحزب الشـعب‪ ،‬وقد لعبت‬
‫هـذه اللجنـة دورا ملحوظـا يف وثبـ�ة كانـون كمـا سنرى الحقـا‪.‬‬
‫بعـد أن اجتـاز احلـزب الشـيوعي العـرايق الوضـع الصعـب الـذي خلقـه‬
‫اعتقـال قائـده‪ ،‬وبت�أثير موقفـه يف املحاكمـة‪ ،‬بـدأ يسترد عافيتـ�ه وتـزداد قـواه‬
‫كمـا ونوعـا‪ ،‬السـيما بعـد أن انتظمـت اتصاالت احلـزب بفهد يف سـجن الكوت‬
‫وبـدأت قيـادة امليـدان تتلقـى توجيهاتـه‪ ،‬وقـد رفـع هـذا من هيبـ�ة احلـزب‪ ،‬مما‬
‫شـجع بعـض اجلماعـات الشـيوعية التي ظلـت خارجـه علـى االنضمـام إليـه‪.‬‬
‫ففـي نهايـة العـام انضمـت جماعـة اللجنـة الوطنيـ�ة الثوريـة بتوصيـة مـن‬
‫رئيسـها زكـي خيري الـذي كان آنـذاك سـجين�ا يف سـجن الكـوت إىل احلـزب‬
‫وكانـت تضـم إىل جانـب زكي خريي ‪ 25‬مناضال من املثقفني من بينهم شـريف‬
‫الشـيخ وعلـي الطعـان وجاسـم الطعـان وخالـد السلام وخلـوق أمين زكـي‪.‬‬
‫ووضع شـريف الشـيخ جريدته (األسـاس) حتـت تصرف احلـزب‪ ،‬وقد لعبت‬
‫اجلريـدة دورا مهمـا‪ .‬كذلـك حـل داود الصائـغ جماعتـه اليت كانت تعرف باسـم‬
‫(رابطـة الشـيوعيني العراقيين) وأوقـف إصـدار جريدتـه (العمـل) السـرية‪،‬‬
‫وأوىص رفاقـه باالنضمـام فـرادى إىل احلـزب الشـيوعي‪ ،‬والتحـق هـؤالء فعلا‬
‫باحلـزب وأصبـح بعضهـم من كـوادر احلزب‪ ،‬وكان مـن بنب أعضائهـا الضباط‬
‫العسـكريون‪ ،‬سـليم الفخـري وغضبـان السـعد وحسين الـدوري‪ ،‬واملحـايم‬
‫جلال عبـد الرحمـن‪ ،‬وعمـر محمـد اليـاس وأكـرم حسين وبهنـام شـماس توما‬
‫وجبـار عبـود وآخـون‪ .‬ورغم أن هـذه املجموعة لم تكن بالكبيرة‪ ،‬إال أنها خدمت‬
‫احلـزب يف بعـض املواقـع التي كانت تتواجـد فيها بشـكل مؤثر‪ :‬املوصـل وجنود‬
‫الطيران‪ ،‬وبين الضبـاط‪ ،‬وقـدم يوسـف متي طلبـا للعـودة إىل احلـزب‪.‬‬
‫وقـد زاد يف قوة احلزب واحلركة اليسـارية عامـة روح التعاون اليت بدأت‬
‫تشـيع بين صفـوف احلركـة الديمقراطيـة السـيما يف مجـرى العمـل املشترك‬
‫ضـد معاهـدة بورتسـماوث‪ .‬وهو ما سـنت�ابعه يف الفصـل التايل‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫الحــزب الشــيوعي ووثبة كانون‬

‫حين وضعت احلـرب العامليـة الثاني�ة أوزارهـا‪ ،‬وجدت بريطاني�ا نفسـها‬


‫يف وضـع جديد يف الشـرق األوسـط‪ .‬فقـد أنهكت كثريا بفعل احلـرب وما حلقها‬
‫مـن دمـار وغـدت ىف تبعيـة ماليـة للواليـات املتحـدة بعـد أن توقفـت هـذه عـن‬
‫دعمهـا باملسـاعدات وفقـا لقانـون اإلعـارة والتأجير الـذي سـارت عليـه خلال‬
‫احلـرب‪ .‬وارتبطـت باالستراتيجية األمريكيـة اجلديـدة التي رسـمها ترومـان‬
‫وتشرشـل يف فولتن عـام ‪ 1946‬الوجهة ضـد االحتاد السـوفييت‪ .‬ورغم أن الهند‬
‫والباكسـتان قـد نالتـا اسـتقاللهما السـيايس إال أن املصالـح الربيطانيـ�ة فيهمـا‬
‫ويف جنـوب آسـيا كانـت يف حاجـة إىل ما يصونهـا ‪ ٠‬ونتيجة للخسـائر اليت حلقت‬
‫بالسـيطرة الربيطاني�ة ىف أسـيا‪ ،‬زادت األهمية اليت باتت توليها بريطاني�ا للقارة‬
‫األفريقية وبات احلفاظ على املواقع الربيطاني�ة فيها ذا أهمية خاصة‪ ،‬وأصبح‬
‫العسـكريون الربيطانيـون ينظرون إىل وجود القواعد واملطارات واملسـتودعات‬
‫والوحـدات اإلداريـة الربيطانيـ�ة التي انبثقـت يف كل الشـرق األوسـط خلال‬
‫احلـرب باعتب�ارهـا ذات قيمـة كبيرة ىف ضـوء االعتبـ�ارات اجلديـدة‪ .‬وجـاءت‬
‫االستراتيجية األمريكيـة ‪ -‬الربيطانيـ�ة اجلديـدة املعاديـة لالحتـاد السـوفييت‬
‫لزتيـد كثيرا مـن أهميـة هـذه االعتبـ�ارات‪ .‬إزاء هـذا كله شـرعت بريطانيـ�ا تؤكد‬
‫أنها ىف حاجة إىل أن تعيد النظر ىف مجمل عالقاتها ىف الشـرق األوسـط‪ ،‬السـيما‬
‫يف العراق‪.‬‬
‫يف اجلانـب املقابـل‪ ،‬كانـت الفئـة احلاكمـة يف العـراق تت�أمـل وضعهـا يف‬
‫ضـوء اعتب�اريـن أساسـيني‪ :‬يف جانـب منهمـا السـعي للحفـاظ علـى عالقاتهـا‬
‫التحالفيـة بربيطانيـ�ا علـى النحـو الـذي يأخـذ باالهتمـام تشـابك مصاحلهـا‬
‫بمصالـح الرأسـمال الربيطـاين وإن بقاءها كفئة حاكمة ومتسـلطة بات مرهونا‬
‫بدعـم بريطانيـ�ا‪ .‬لكنهـا يف اجلانـب املقابـل باتـت ختشى تزايـد سـخط الشـعب‬
‫‪349‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪350‬‬

‫علـى اسـتمرار االرتبـ�اط بربيطانيـ�ا لعوامـل داخليـة وقوميـة‪ ،‬لذلـك سـعت إىل‬
‫أن جيـري التعديـل يف العالقـة وكأنـه يسـتجيب إىل مطامـح الشـعب ويبـ�دو‬
‫وكأنـه يصـون للبلاد اسـتقاللها وسـيادتها‪ .‬وكان مـا يشـغلها حقـا أن يؤمـن لها‬
‫علـى الصعيـد العـريب وضعـا يدفـع عنهـا تهمـة السير يف ركاب اإلمرباطوريـة‬
‫الربيطانيـ�ة‪ ،‬وأن تسير األمـور يف داخـل البلاد بالهـدوء املناسـب الـذي حيـول‬
‫دون بـروز أوضـاع مماثلـة لمـا جـرى يف عـام ‪ .1946‬لذلك شـرعت تتحرك حبذر‬
‫شـديد ودونمـا عجلـة مـن أمرهـا‪.‬‬
‫بعـد أن اضطـرت وزارة أرشـد العمـري علـى االسـتقالة‪ ،‬كمـا رأينـ�ا يف‬
‫الفصـل احلـادي عشـر‪ ،‬جـرت محـاوالت إلسـناد احلكـم إىل هـذا أو ذاك بمـن‬
‫فيهـم أرشـد العمـري ثانيـ�ة‪ ،‬لكـن بريطانيـ�ا أصـرت أن تسـند الـوزارة اجلديـدة‬
‫إىل نـوري السـعيد ليمهـد الطريـق أمـام صالـح جبر ليقـوم بتنفيـذ السياسـة‬
‫املرسـومة مـن قبلهـا ‪ ،1 1‬وكان يقصـد بالتمهيـد املطلوب اإلتيـ�ان بمجلس ني�ايب‬
‫يصـادق علـى املعاهـدة البديلـة عـن معاهـدة ‪ 1930‬دون ضجـة‪ ،‬واملصادقـة‬
‫علـى مـا يرتبـط بهـا مـن مشـاريع وأهمهـا عقـد املعاهـدة العراقيـة الرتكيـة اليت‬
‫كان قـد توصـل نـوري السـعيد إىل االتفـاق بشـأنها مـع األتـراك وهـو خـارج‬
‫احلكـم والتي تنـ�درج ضمـن التمهيـد االستراتييج لتطويـق االحتاد السـوفييت‪،‬‬
‫وكذلـك لضـرب أي حتـرك مـن جانـب الشـعب الكـردي‪ ،‬وكذلك عقـد معاهدة‬
‫تربـط مـا بين العـراق واألردن تضمـن دعم اململكـة اجلديدة التي اصطنعت يف‬
‫األردن والتي كان يـراد لهـا أن تضـم األجـزاء التي ختصـص للعـرب ىف فلسـطني‬
‫بعـد تقسـيمها‪ ،‬ولتكـون ركنـا مـن أركان الكتلة الشـرقية التي تسـعى بريطاني�ا‬
‫لتحقيقهـا‪ ،‬وأداة لقمـع االضطـراب الـذي قـد حيـدث يف أحـد البلديـن طبقـا‬
‫للمـادة السادسـة ىف املعاهـدة‪ .‬وقـد حقـق نـوري السـعيد كل املهمـات التي جـاء‬
‫مـن أجلهـا إىل احلكـم وزاد فيهـا أن وجـه ضربـة شـديدة إىل احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق‪ ،‬الفصيـل األكرث عنـادا يف معارضة املشـاريع اليت يراد حتقيقهـا‪ .‬حىت إذا‬
‫أتمـت حكومـة نـوري السـعيد هـذه املهمـات اسـتقال ويجء بصالـح جبر بديلا‬
‫لـه كمـا كان مخططـا‪ 2 2.‬ويقـول احلسني‪ ،‬إن صالـح جبر قـد اختار زملاءه من‬
‫‪ .1‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات‪ ،‬اجلزء السابع‪ ،‬ص ‪.133‬‬
‫‪ .2‬يقــول توفيــق الســويدي يف مذكراتــه‪« :‬وكانــت املســاعي مبذولــة مــن قبــل ملصلحــة‬
‫صالــح جــر‪ ،‬كــي خيلــف نــوري الســعيد‪ .‬وهــذه املســاعي كانــت تصــدر مــن جهــات عديــدة‬
‫حــى قيــل بــأن أكرثها كانــت تمونــه دوائــر االســتخبارات الربيطانيـ�ة» (مذكرات الســويدي‪،‬‬
‫ص ‪ ،457‬نقــا عــن احلســي‪ ،‬اجلــزء الســابع‪ ،‬ص ‪ .)165 - 164‬ويؤكــد فيليــب داريب هــذا‬
‫أيضــا يف كتابــه (سياســة الدفــاع الربيطاني ـ�ة شــرق الســويس بقولــه‪« :‬أصبــح صالــح جــر‬
‫رئيســا للــوزراء يف آذار ‪ 1947‬حــن عمــد نــوري الســعيد بعــد تزييــف االنتخابــات لضمــان‬
‫فــوز مؤيديــه إىل االســتقالة لصالــح خلــف ينفــذ السياســة الــي يرســمها لــه وىل العهــد‬
‫‪351‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الـوزراء السـابقني الذيـن كانت السـفارة الربيطانيـ�ة ترتاح إىل اسـتزيارهم‪ .‬ولم‬
‫خيـف؛ صالـح جبر الغرض من مجيء وزارته‪ .‬إذ وضـع يف رأس منهاجـه الوزاري‬ ‫ِ‬
‫تعديـل املعاهـدة العراقيـة الربيطانيـ�ة‪ ،‬وكان هذا املنهاج قـد «وضعت صيغته‬
‫باالشتراك مـع السـفارة الربيطانيـ�ة وأحكمـت آياتـه بويح اخلطة املرسـومة يف‬
‫‪33‬‬
‫دوائـر الـوزارة اخلارجيـة بلنـدن»‪.‬‬
‫قوبلـت حكومـة صالـح جبر بمعارضـة إجماعيـة فـور تأليفها مـن جميع‬
‫أطـراف احلركـة الوطنيـ�ة‪ .‬واحلكومـة مـن جانبهـا سـارعت إىل الكشـف عـن‬
‫نواياهـا‪ .‬بـدأت أوال بالعمل علـى إضعاف مقاومة احلركة الوطنيـ�ة عامة إدراكا‬
‫منهـا أن مشـاريعها لـن تتحقـق إذا مـا ظلـت هـذه احلركـة علـى قوتهـا‪ ،‬وشـمل‬
‫قمعهـا جميـع أطـراف احلركـة الوطنيـ�ة‪ .‬فبـادرت إىل غلـق جريـدة (الوطـن)‬
‫لسـان حـزب الشـعب‪ .‬وىف ‪ 30‬أيـار أغلقـت جريـدة (السياسـة) لسـان حـزب‬
‫االحتـاد الوطني وجريده (صوت األهايل) لسـان احلزب الوطني الديمقراطي‪.‬‬
‫ويف ‪ ٩‬حزيـران عطلـت مجلـة (الوادي) وصحـف ومجالت أخـرى تن�اصر حزب‬
‫االسـتقالل‪ ،‬وأعيـدت محاكمـة الضباط األكـراد األربعة الذيـن التحقوا حبركة‬
‫البـارزاين وحكمـوا باإلعـدام (ونفـذ هـذا احلكـم يف ‪ 19‬حزيـران ‪ ،)1947‬ويف‬
‫الرابـع والعشـرين مـن الشـهر ذاتـه حكـم علـى قـادة احلـزب الشـيوعي العرايق‬
‫باإلعـدام‪ ،‬ويف األول مـن تمـوز قـدم اجلـادريج إىل املحاكمـة إلصـداره كراسـا‬
‫يهاجـم املعاهـدة العراقية ‪ ٠‬الرتكية‪ ،‬كذلك حوكم عبـد الفتاح ابراهيم‪ ،‬واعتقل‬
‫عزيـز شـريف لبعـض الوقـت‪ ،‬ويف ‪ 29‬أيلـول أقدمـت علـى غلق حزيب الشـعب‬
‫واالحتـاد الوطني بدعـوى حتبي�ذهمـا املبادئ الهدامـة واحلث على الثـورة وخلق‬
‫االضطرابـات‪.‬‬
‫كان املشـروع االسـتعماري العـام الـذي أريـد حتقيقـه قـد عـرف باسـم‬
‫(مشـروع الشـرق األوسـط) ويقـوم على أسـاس تكويـن حلف عسـكري يضم‬
‫الـدول العربيـ�ة يف املشـرق العـريب ودول ميث�اق سـعد أباد (تركيا والعـراق وإيران‬
‫وأفغانسـتان)‪ ،‬والعـراق‪ ،‬كمـا يالحـظ‪ ،‬حلقة الوصـل بني املجموعتين‪ .‬وكانت‬
‫اخلطـوة األوىل لتحقيقـه قـد جـرت بعقـد اتفاقيـة العـراق وتركيـا‪ ،‬والعـراق‬
‫واألردن‪ ،‬علـى أن تعقبهـا مباشـرة اخلطـوة التاليـة وهـي االتفاقيـة اجلديـدة‬

‫ونــوري الســعيد‪ .‬وقــد دعــا ويل العهــد عضــو مجلــس األعيــان صالــح جــر إىل تشــكيل وزارة‬
‫جديــدة يف ‪ 29‬آذار يف حــن انســحب اجلــرال نــوري إىل مجلــس األعيــان لتوجيــه تابعــه مــن‬
‫وراء الكواليــس» (فــران هزيلتــون‪ ،‬اجلوانــب العســكرية ملعاهــدة بورتســموث‪ ،‬ترجمــة عبــد‬
‫اإللــه النعيــي‪ ،‬دار بابــل‪.)1987 ،‬‬
‫‪ .3‬صــدر الديــن شــرف الديــن‪ ،‬ســحابة بورتســموث‪ ،‬ص ‪ ،42‬واملؤلــف مــن أصحــاب‬
‫صالــح جــر (نقــا عــن احلســي‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪.)166‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪352‬‬

‫التي يـراد منهـا ربط العـراق وبريطانيـ�ا طبقا للمشـروع اجلديـد‪ ،‬وبذلك يكتمل‬
‫املخطـط بربـط دول املشـروع الشـرق أوسـطية ‪ ٠‬العربيـ�ة بإنكلترا وأمريـكا‪.‬‬
‫بـدأ العمـل للمعاهـدة العراقيـة ‪ -‬الرتكيـة منـذ حكومـة الباجـه يج‪ ،‬أي‬
‫منـذ ‪ ،1945‬والغريـب أن الوفـد العـرايق الـذي تـوىل املفاوضة بشـأنها مع تركيا‬
‫كان برئاسـة نـوري السـعيد الـذي لـم يكـن يشـارك يف احلكـم آنـذاك‪ .‬وجـاءت‬
‫بنـود االتفاقيـة التي تـم التوصـل إليهـا يف حينهـا منافيـة ملصالـح الشـعب‬
‫العـرايق‪ ،‬والشـعب الكـردي بوجـه خـاص‪ .‬وحين عـاد نـوري السـعيد بهـا كانت‬
‫وزارة السـويدي يف احلكـم‪ ،‬فصادقـت عليهـا هـذه‪ ،‬ولكـن وضعـت حتفظين‪،‬‬
‫أولهمـا أال ختالـف االتفاقيـة الزتامـات العـراق إزاء اجلامعـة العربيـ�ة‪ ،‬وثانيهمـا‬
‫أن العـراق يفهـم مـن املعاهـدة أن تركيـا تشـاطر العـراق يف النظـر إزاء املسـألة‬
‫الفلسـطيني�ة‪ .‬لكـن االتفاقيـة لـم تعـرض علـى الربلمـان للمصادقـة عليهـا ال‬
‫يف أيـام السـويدي أو أرشـد العمـري أو نـوري السـعيد‪ ،‬رغـم أنهـم تعاقبـوا علـى‬
‫احلكـم واملعاهـدة يف انتظـار من يصادق عليهـا‪ ،‬حىت جاءت حكومـة صالح جرب‬
‫فعرضـت علـى الربلمـان الـذي كان قـد أعده نوري السـعيد‪ ،‬فصـادق عليها يف ‪7‬‬
‫حزيـران ‪ 1947‬ولكـن بعـد أن حـذف صالـح جبر التحفظين اللذيـن أدخلتهمـا‬
‫‪44‬‬
‫حكومـة السـويدي‪.‬‬
‫ويف نيسان ‪ ،1947‬وقع العراق واألردن معاهدة تربط فيما بينهما‪ ،‬كانت‬
‫قـد أوحـت بهـا احلكومـة الربيطانيـ�ة ‪ 5 5‬وكان أخطـر مـا فيهـا مـا جـاء يف مادتهـا‬
‫اخلامسـة التي تقضي بتوحيد مسـاعي الطرفين لرد أعمـال االعتـداء على أي‬
‫منهمـا دون اإلشـارة إىل اجلامعـة العربيـ�ة‪ ،‬وكذلـك مـا جـاء يف المادة السادسـة‬
‫(الفقـرة ج) التي تنـص علـى‪« :‬إذا اقتضى األمـر اختـاذ تدابير‪ ،‬أو إجـراءات‬
‫مشتركة‪ ،‬لقمـع االضطـراب أو الفتنـ�ة» اليت حتدث يف أحد البلديـــــــن ‪ ، 6 6‬وىف‬
‫البـال هنـا كيف سيرت بريطاني�ا قواتهـا ىف األردن لضرب حركـة مايس ‪.1941‬‬
‫كانـت املباحثـات حـول املعاهـدة اجلديـدة بين العـراق وبريطانيـ�ا قـد‬
‫بـدأت منـذ عـام ‪ 1946‬حـول هذا اجلانـب أو ذاك مما يشـغل بال العسـكريني‬
‫الربيطانيين‪ .‬وقـد تلـكأت بريطانيـ�ا يف الدخـول يف املفاوضـات مـع احلـكام‬
‫العراقيين بشـأنها انتظـارا لما تسـفر عنه املفاوضـات مع مصر بشـأن معاهدة‬
‫‪ 7 7 1936‬ويف ‪ 19‬تمـوز ‪ ،1946‬اجتمـع الـويص علـى العـرش مـع بيفـن‪ ،‬وزيـر‬
‫اخلارجيـة الربيطانيـ�ة حـول األمـر وقـال‪:‬‬

‫‪ .5‬احلسين‪ ،‬اجلزء السادس‪ ،‬ص ‪.313‬‬


‫‪ .6‬احلسين‪ ،‬اجلزء السابع‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫‪ .7‬فران هزيلتون‪ ،‬ترجمة عبد اإلله النعييم‪ ،‬ص‪ ،18‬و ‪٠ 19‬‬
‫‪353‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫«إن حكومتـه لـن تتخـذ موقفـا رسـميا مـن إعـادة النظـر يف معاهـدة‬
‫‪ 1930‬حتى انتهـاء املفاوضـات مـع مصـر»‬

‫‪8 8‬‬
‫وهذا ما كانت بريطاني�ا ترغب يف سماعه أيضا‪.‬‬
‫يف ‪ 18‬أيلـول ‪ ،1946‬تـم االتفـاق بين فاضـل اجلمـايل (وكان وزيـر‬
‫اخلارجيـة يف حكومـة أرشـد العمري) وبيفن علـى أن إجراء مباحثات عسـكرية‬
‫سـرية أمـر مرغـوب فيـه رغـم أن مـا كان يشـغل بـال اجلمـايل آنـذاك هـو أمـر‬
‫الشـيوعيني «الذيـن يثيرون املتاعـب»‪ ،‬وقـال بشـأن املعاهـدة بوضـوح إنهـم‬
‫مـن الناحيـة العسـكرية يدركـون احلاجـة إىل معونـة بريطانيـ�ا العسـكرية يف‬
‫الدفـاع ولكنـه تسـاءل عمـا إذا لـم يكـن باإلمـكان إرسـاؤها علـى أسـاس مغايـر‪.‬‬
‫واتفـق الطرفـان علـى ضـرورة إجـراء مباحثـات عسـكرية سـرية قبـل الشـروع‬
‫باملفاوضـات السياسـية‪.‬‬
‫وجـرت املباحثـات العسـكرية سـرا يف بغـداد يف ‪ 17‬أيـار ‪ ،1947‬وقـد‬
‫تـم االتفـاق فيهـا علـى أن ختطيـط الدفـاع عـن الشـرق األوسـط الـذي حيتـل‬
‫العـراق فيـه موقعـا ستراتيجيا ينبغـي أن يكـون شـامال مـع تعـاون العـراق‬
‫وبريطانيـ�ا تعاونـا وثيقـا وتعـاون الـدول العربيـ�ة فيمـا بينها ومـع بريطانيـ�ا‪ .‬ويف‬
‫هـذه املفاوضـات حـدد بدقـة الـدور الـذي ينهض بـه اجليـش العـرايق والقوات‬
‫الربيطانيـ�ة يف العـراق‪ ،‬ويتلخـص بــ‬
‫«االتفـاق علـى أن الـدور الذي ينبغي تنظيم اجليش العرايق وتسـليحه‬
‫وتدريبـ�ه لالضطلاع بـه هـو الـدور املحـدد يف مداخلـة املمثلين‬
‫العسـكريني الربيطانيين‪ ،‬أي؛ الـذود عـن العـراق ضـد عـدوان أي جـار‬
‫مـن جريانـه والتعاون مع القـوات الربيطاني�ة العاملـة يف العراق ضد أية‬
‫‪99‬‬
‫قـوة كبرى واحلفـاظ علـى القانـون والنظـام يف سـائر أحنـاء العـراق»‪.‬‬

‫وكان احلـكام قلقين مـن رد الشـعب‪ .‬لذلـك‪ ،‬صـرح صالـح جبر يف‬
‫االجتمـاع األخير‪:‬‬
‫«إن املعاهـدة احلاليـة ليـس لهـا شـعبي�ة يف صفـوف األمـة وإذا أجربنـا‬
‫الشـعب علـى االسـتمرار ىف قبولهـا سـنمهد الطريـق ملعـاداة بريطانيـ�ا‬

‫‪ .8‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.19‬‬


‫‪ .9‬فران هزيلتون‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.21‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪354‬‬

‫‪10 10‬‬ ‫ً‬


‫عـداء مزتايـدا كالنـا يريـد جتنبـ�ه»‪.‬‬ ‫العظمى‬

‫كما كانوا خيشون ردة الفعل القومية‪.‬‬


‫«فرغـم موافقـة اجلانـب العـرايق علـى مجلـس الدفـاع املشترك‬
‫الـذي اقترح تشـكيله‪ ،‬مـن وجهـة النظـر العسـكرية‪ ،‬فإنـه لـم يكـن‬
‫علـى اسـتعداد لبحثـه يف هـذه املرحلـة‪ ،‬ألنـه كان مـن الهـام أال يبـ�دو أن‬
‫العـراق ينتهـج سياسـة تتعـارض مع السياسـة اليت تتبعهـا دول عربي�ة‬
‫‪11 11‬‬
‫أخـــرى»‪.‬‬

‫ويف ‪ 11‬تمـوز ‪ ،1947‬أبلـغ اجلمـايل (وهـو يف هـذه املـرة وزيـر للخارجيـة يف‬
‫حكومـة صالـح جبر) زميلـة الربيطـاين أن الـويص علـى العـرش يرغـب يف حبـث‬
‫أمـر املعاهـدة يف آب من ذلك العام‪ ،‬فأجابه هذا «إن برناميج لتحديث ترتيب�ات‬
‫الدفاع عن الشـرق األوسـط انتكس بأكمله من جراء امتن�اع احلكومة املصرية‬
‫عـن القبـول بمـا اتفقـت عليـه مـع صـديق باشـا» (اإلشـارة هنـا إىل رفـض‬
‫احلكومـة املصريـة التي أعقبت حكومة صديق باشـا جتديد معاهـدة ‪1936‬مع‬
‫اإللـه وبرفقتـه فاضـل اجلمـايل‪ ،‬وجـرت املباحثـات مـع‬ ‫بريطانيـ�ا)‪ .‬وجـاء عبـد ً‬
‫اخلارجيـة الربيطانيـ�ة سـرا‪ .‬وأكـد اجلمـايل أن املعاهـدة املعدلـة ينبغـي أال‬
‫تتضمـن مـا مـن شـأنه أن يعطـى روسـيا السـوفيتي�ة أو املعارضـة اليسـارية أو‬
‫اليمينيـ�ة يف العـراق سـبب�ا للنقـد‪ .‬واقترح أن تكـون املعاهـدة‬
‫«عامـة يف مجملهـا وان تسـتن�د إىل مفهـوم الصداقـة والتحالـف مـن‬
‫دون أيـة بنـود محددة بدقـة حول القواعد اجلويـة‪ .‬فالعالقات الوثيقة‬
‫بين البلديـن سـتؤمن للربيطانيين كل مـا يريدونه من تسـهيالت‪ .‬ولم‬
‫يكـن باسـتطاعة الربيطانيين أن يقبلـوا أي يشء حيتـوي هـذا القـدر من‬
‫‪12 12‬‬
‫الغمـوض»‪.‬‬

‫‪ .10‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.23‬‬


‫‪ .11‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.22‬‬
‫‪ .12‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪ .25‬ولقــد خلصــت الســفارة الربيطانيـ�ة ىف بغــداد املســألة الــي‬
‫تطلبــت كثــرا مــن املباحثــات يف التقريــر الــذي قدمتــه إىل وزارة اخلارجيــة الربيطانيـ�ة‪« :‬كان‬
‫األمــر الرئيــس إجيــاد شــكل مــن الكلمــات يمكــن احلكومــة العراقيــة احلاليــة مــن إعطائن ـ�ا‬
‫مــا يف الواقــع مــن دون التوقيــع علــى وثيقــة يمكــن أن جتعلهــم مــرىم لســهام الــرأي العــام‬
‫العــرايق والعــريب» (فــران هزيلتــون‪.)29 ،‬‬
‫‪355‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫لقـد سـعى املتفاوضـون يف بغـداد يف تشـرين الثـاين ‪ 1947‬مـن كال‬


‫اجلانبين العـرايق والربيطـاين‪ ،‬إىل أن جتـري املفاوضـات يف السـفارة الربيطانيـ�ة‬
‫حرصـا علـى االحتفـاظ بسـريتها‪ .‬لكـن (القاعـدة) جريـدة احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق املركزيـة خرجـت إىل الـرأي العـام يف تشـرين الثـاين ‪ 1947‬وهـي تتهـم‬
‫حكومـة صالـح جبر بإجـراء مفاوضـات سـرية مـع بريطانيـ�ا تعيـد النظـر‬
‫باملعاهـدة التي تربط العـراق بها‪ ،‬وأنها ختفـى حقيقة مفاوضاتها عن الشـعب‪،‬‬
‫وأردفـت أقوالهـا هـذه باملطالبـة بإسـقاط حكومـة صالـح جبر‪.‬‬
‫واسـتعدادا ملواجهـة األوضـاع املقبلـة نشـط احلـزب إىل تكتيـ�ل القـوى‬
‫اليسـارية يف إطار(جلنـة التعـاون الوطني) يف تشـرين األول ‪ ،1947‬وضمـت‬
‫اللجنة ممثال عن احلزب الشـيوعي العرايق (عبد السـتار زبري) وحزب الشعب‬
‫(عبـد الرحيـم شـريف) وحـزب رزكاري كـورد (عبـد القـادر رشـيد) واجلنـاح‬
‫التقـديم مـن احلـزب الوطني الديمقراطـي (عبـد احلسين جـواد الغالـب)‪،‬‬
‫واختير كامـل قزاتجي ليكـون رئيسـا لهـذه اللجنـة‪ ،‬ويف رسـالة خاصـة بعـث بها‬
‫فهـد من سـجن الكـوت إىل قيادة احلزب يف بغداد أشـاد فيها بسـعي احلزب إىل‬
‫تأليـف (جلنـة التعـاون الوطين) وأوصاهـم بقيادتها وتوسـيع نشـاطها وتركزي‬
‫ثقـل عملهـا يف ذلـك الوقـت علـى قضيتي اخلبز واحلريـة‪ .‬وأوصاهـا أيضـا بـأن‬
‫حتافـظ علـى اسـتقالل احلـزب وأال تعطـي مجاال للتدخـل أو التصـرف ىف أموره‬
‫وتنظيماتـه دون أن يعنى ذلـك التقليـل مـن نشـاط اللجنـة‪ 13 13 .‬وقـد كان يريـد‬
‫مـن هـذه اللجنة‪ ،‬آن تتحول حقـا إىل قائدة للجماهري الواسـعة من خالل العمل‬
‫َ‬
‫للدفـاع عـن ألـح القضايـا اليت تشـغل بـال الشـعب وكانتـ�ا اخلبز واحلرية‪.‬‬
‫لقـد كانـت مسـألة اخلبز‪ ،‬السـيما ىف املـدن الكبيرة منهـا بوجـه خـاص‪،‬‬
‫قـد تفاقمـت وباتـت تقلـق النـاس حقـا‪ .‬لقـد كانـت طوابير النـاس التي ختتلط‬
‫فيهـا النسـاء بالرجال واألطفال تتجمـع أمام أفران اخلزب يف بغداد منذ السـاعة‬
‫الرابعـة فجـرا ومـا قبلهـا انتظـارا للحصـول علـى بضعـة أرغفـة من اخلبز الذي‬
‫تعافـه النفـس مـا إن يبرد‪ ،‬إذ كان خيبز مـن خلطـة عجيبـ�ة ال يؤلف القمـح فيها‬
‫سـوى نسـبة ضئيلـة‪ .‬كانـت تلـك أزمـة حقيقية ظـل النـاس يذكرونهـا من بعد‬
‫طويلا‪ ،‬السـيما الفقـراء منهـم الـذي يؤلـف اخلبز املكـون الرئيسي يف غذائهـم‬
‫اليـويم‪ .‬وفـد نشـأت األزمـة يف األسـاس حبافـز الدفـاع عـن مصالـح املالكين‬
‫الكبـار الذيـن بـات صالـح جبر يدافـع عـن مصاحلهـم بصراحـة منـذ أن صاهـر‬
‫أحـد اإلقطاعيين الكبـار يف احللة (عـداي اجلريان)‪ .‬فربغم أن املوسـم الزراعي‬
‫لعـام ‪ 1947/1946‬كان مـن أسـوأ املواسـم الزراعيـة‪ ،‬فـإن حكومـة صالـح جرب‬
‫أذنـت بتصديـر القمـح والشـعري إرضـاء للمالكين الكبـار رغـم أن غرفـة جتـارة‬

‫‪ .13‬مديرية التحقيقات اجلنائي�ة‪ ،‬موسوعة سرية خاصة‪ ،‬املوسوعة األوىل‪ ،‬ص ‪.233‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪356‬‬

‫بغـداد قـد حـذرت مـن مغبـة االسـتخفاف بمعاجلـة هـذه املسـألة وطالبـت‬
‫بمنـع تصديـر الشـعري واالسـتيلاء على امليسـور منه خللطـه مع القمـح وتوفري‬
‫اخلبز املخلـوط للشـعب‪ .‬لكنهـا بـدال مـن ذلـك كانـت تمنـح إجـازات التصديـر‬
‫دون حسـاب‪ 14 14 .‬ويعترف التقريـر السـنوي للسـفارة الربيطانيـ�ة يف بغـداد بأن‬
‫التصديـر جـاء إرضـاء لضغـط مالكـي األرايض املتنفذيـن‪ 15 15 .‬وقـد تواصلـت‬
‫عمليـات التصديـر حتى بعـد أن صـدر قـرار بمنـع تصديـر الشـعري‪ .‬وقـد دفعت‬
‫األزمـة إىل أن حيتـج بعـض أعضـاء مجلـس النـواب الـذي كان قـد تـم اختيـ�اره‬
‫بعنايـة‪ ،‬بينمـا ظـل رئيـس الـوزراء‪ ،‬صالـح جبر‪ ،‬يسـخر مـن القائلين بوجـود‬
‫األزمـة مـن األسـاس‪ .‬وكان لتجاهـل هذه احلالـة اخلطرية أن زاد اسـتي�اء الناس‬
‫‪16 16‬‬
‫كثيرا‪ ،‬وكان لـه أثـره الكبير يف انفجـار سـخط النـاس بعـد فترة قصيرة‪.‬‬
‫كانـت نقطـة االختالف التي دار حولها جدل كثري يف املشـاورات العراقية‬
‫الربيطانيـ�ة هـي املوقـف مـن وجـود القـوات الربيطانيـ�ة يف العـراق يف حالـة‬
‫السـلم‪ .‬إذ كانـت احلركـة الوطنيـ�ة‪ ،‬السـيما احلـزب الشـيوعي العرايق‪ ،‬تشـدد‬
‫علـى ضـرورة جلاء القـوات الربيطانيـ�ة طالمـا انتهـت احلـرب‪ ،‬ولـم يعـد ثمـة‬
‫مبرر لوجـود هـذه القـوات‪ .‬وكانـت احلكومـة ختشى مما ينجـم عن جتاهـل هذا‬
‫املطلـب الوطني يف الوقـت الـذي يعتبر الربيطانيـون وجـود هـذه القـوات يف‬
‫العـراق ركنا أساسـيا يف مشـروع (دفاع الشـرق األوسـط) الذي تعقـد املعاهدة‬
‫يف إطـاره‪ .‬فسـارع نوري السـعيد إىل تـدارك املوقف بما يتفق ورغبـة بريطاني�ا إذ‬
‫عـرف «زمـن السـلم» بأنـه الزمـن الـذي تصبـح فيـه جميـع املعاهـدات املربمة‬
‫فيمـا بعـد احلرب سـارية املفعول‪ ،‬وللعراقيين «أن يدعوا» وحـدات عملياتي�ة‬
‫إىل القواعـد‪ ،‬ولكـن إىل أن حيني ذلك الوقت يمكن اعتب�ار األوضاع بأنها مازالت‬
‫أوضـاع زمـن احلـرب وينبغـي أن يمنح العسـكريون املوجـودون يف القواعد حق‬
‫االسـتمرار يف اسـتخدامها حبريـة‪ .‬وقبـل أن تصبـح معاهـدات السلام سـارية‬
‫املفعـول سيشـكل مجلـس الدفـاع املشترك ويضطلـع برفـع التوصيـات حـول‬
‫‪17 17‬‬
‫القـرارات العسـكرية يف العـراق‪.‬‬
‫يف ‪ 28‬كانـون األول ‪ ،1947‬دعـا الـويص على العـرش إىل اجتماع يعقد يف‬
‫قصـره حضـره رؤسـاء الـوزراء السـابقون وبعـض احلـكام التقليديين‪ .‬ويف هذا‬
‫االجتمـاع تبـ�ارى املتكلمـون يف احلديـث عـن حاجـة العـراق إىل االرتبـ�اط بدولـة‬
‫أجنبيـ�ة‪ ،‬وأن هـذه الدولـة جيـب أن تكـون بريطانيـ�ا‪ .‬لكـن االجتمـاع كشـف عن‬
‫خـوف الفئـة احلاكمـة من رفض الشـعب وجود القـوات الربيطانيـ�ة يف العراق‬
‫يف زمن السـلم‪ .‬لكن أقطابها ذهبوا إىل حد القول بأنهم يقدمون حىت «سـطوح‬
‫دورهـم» لتكـون مطـارات لربيطانيـ�ا إذا دعـت احلاجـة (حمـدي الباجـه يج)‬

‫‪ .17‬فران هزيلتون‪ ،‬ص ‪.31‬‬


‫‪357‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وأن العـراق يف هـذه احلالـة يكـون كلـه مطـارا لربيطانيـ�ا (عبد املهـدي)‪ ،‬وذهب‬
‫بعضهـم إىل حـد أن العـراق هـو الـذي حيتـاج للوجـود الربيطـاين يف العـراق «ألن‬
‫هـذه البلاد ال تنضـم إىل الشـيوعية» (صـادق البصام)‪.‬‬
‫صعـد الشـيوعيون هجومهـم علـى املشـاريع الني تدبـر للعـراق يف عـدد‬
‫تـال مـن (القاعـدة) صـدر يف كانـون األول ‪ ،1947‬وحـذروا مـن األخطـار التي‬ ‫ٍ‬
‫تنتظـره يف املباحثـات النهائيـ�ة الني سـتجري يف لنـدن‪ ،‬ودعوا «سـائر املواطنني‬
‫الشـرفاء» إىل توحيـد الصفـوف يف النضـال املشترك مـن أجـل كسـر قيـود‬
‫معاهـدة ‪ 1930‬واسـتب�دال حكومة صالح جرب حبكومـة ديمقراطية‪ .‬وهاجمت‬
‫األحـزاب الوطنيـ�ة األخـرى» مـا تمخـض عنـه اجتماع أقطـاب الفئـة احلاكمة‬
‫يف قصـر الرحـاب‪ ،‬وأدانـت كـون احلكومـة الين تفـاوض بريطاني�ا لـم تنبثق عن‬
‫إرادة الشـعب وال تسـتن�د إىل مجلس ني�ايب يمثل األمة تمثيلا حقيقيا‪ 18 18 .‬ومع‬
‫ذلـك‪ ،‬أصـرت الفئـة احلاكمـة علـى مواصلـة سـعيها لعقـد املعاهـدة اجلديدة‪،‬‬
‫وألفـت وفدا برئاسـة رئيس الوزراء وعضوية فاضـل اجلمايل (وزير اخلارجية)‬
‫وشـاكر الـوادي (وزيـر الدفاع) ونـوري السـعيد وتوفيق السـويدي له صالحية‬
‫املفاوضـة والتوقيـع‪ .‬ويف ‪ 3‬كانـون الثـاين ‪ 1948‬نقلـت وكاالت األنبـ�اء تصرحيـا‬
‫لفاضـل اجلمـايل أشـاد فيـه بمعاهـدة ‪ 1930‬وقـال إن النقـد الذي وجـه لها «ال‬
‫يمـت إىل احلـق بنصيـب»‪ ،‬وإن األحـزاب هـي التي كانـت وراء هـذا النقـد‪ ،‬وإن‬
‫بريطانيـ�ا قـد أقرت بـأن الظروف والتجـارب تقتيض تعديال من شـأنه أن يكفل‬
‫املسـاواة يف مصاحلهمـا املشتركة‪ ،‬وإن رئيس الوزراء سيرأس وفـدا للمفاوضة‬
‫بشـأن تعديلهـا‪ .‬وقـد قوبل التصريـح باسـتهجان كل القوى الوطنيـ�ة‪ .‬واضطر‬
‫رئيـس الـوزراء إىل تكذيبـ�ه يف اليـوم التـايل‪ .‬إال أن نشـر التصريـح ألهب مشـاعر‬
‫الطلبـة يف الكليـات واملعاهـد‪ ،‬فتظاهـروا يف اليـوم اخلامـس مـن كانـون الثـاين‬
‫‪ 1948‬واصطدمـوا بالبوليـس الـذي اسـتخدم الهـراوات واألسـلحة الناريـة‬
‫لتفريقهـم‪ ،‬وأصيـب عـدد مـن الطلبـة جبـروح واعتقـل بعضهـم‪ .‬وقـد أثـارت‬
‫أعمـال البوليـس اسـتنكار الهيئ�ة التدريسـية لكليـة احلقوق بشـدة‪ ،‬وتقدمت‬
‫األحـزاب باالحتجاجـات علـى موقـف احلكومـة مـن الطلاب املتظاهريـن‪.‬‬
‫فسـارع صالـح جبر وكان اليـزال يف بغـداد إىل جمـع مجلـس الـوزراء علـى الفـور‬
‫واختـذ قـرارا بتعطيـل الدراسـة يف كليـة احلقـوق ألجـل غير مسمى وإحالـة عدد‬
‫مـن الطلاب إىل املحاكمـة بتهمـة التحريـض علـى التظاهـر‪ ،‬وسـافر الوفـد‬
‫املفـاوض يف ذات اليـوم‪ .‬يف اليـوم التـايل (‪ 6‬كانـون الثـاين) أضربـت جميـع‬
‫الكليـات واملعاهـد العاليـة تضامنـا مع طالب كليـة احلقوق‪ .‬فرد جمـال بابان‪،‬‬
‫وكيـل رئيـس الوزراء‪ ،‬ببيـ�ان يتهم فيه الطالب بالشـغب وبمبادرتهم إىل ضرب‬

‫‪ .18‬كامل اجلادريج‪ ،‬املذكرات‪ ،‬ص ‪.171‬‬


‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪358‬‬

‫البوليـس باحلجـارة وبإطلاق العيـارات الناريـة علـى البوليس وجـرح بعضهم‬


‫وأن بين املتظاهريـن أشـخاص مـن حملـة املبـادئ الهدامـة‪ .‬لكـن احلكومة إىل‬
‫‪19 19‬‬
‫جانـب ذلـك اضطـرت إىل الرتاجـع عـن إيقـاف الدراسـة يف كليـة احلقـوق‪.‬‬
‫كانـت قيـادة احلـزب الشـيوعي يف بغـداد ترقـب تطـور األحـداث‪ .‬وقـد‬
‫عمـدت منذ األسـبوع األول لكانون الثـاين إىل تأليف جلنة من ممثلي املنظمات‬
‫احلزبي�ة يف الكليات بغية قيادة وتوجيه الشـيوعيني يف النشاطات اجلماهريية‬
‫ضـد املعاهـدة‪ .‬ودخـل يف قـوام هذه اللجنـة الرفاق حسين الوردي وفـاروق برتو‬
‫مـن كليـة الطـب وأنـور محمـد وجعفـر اللبـان مـن دار املعلمين العاليـة‪ ،‬وعمـر‬
‫علـي الشـيخ ورضـا جليـل عـن كليـة الهندسـة‪ ،‬وخلـوق أمين زكـي عـن كليـة‬
‫احلقـوق وإىل جانـب هـذه اللجنة دعا (جلنة التعـاون الوطين) إىل تأليف جلنة‬
‫تنسـق ما بني نشـاطات الطلبة اليسـاريني مـن األحزاب اليت تنتمي إىل (جلنة‬
‫التعـاون الوطني) ‪ ٠‬ولـم يقصـر تنسـيقه علـى املنظمـات اليسـارية وحدهـا‪،‬‬
‫وإنمـا وسـعه ليشـمل الطلاب املؤيديـن للحـزب الوطني الديمقراطـي وحزب‬
‫االسـتقالل‪ .‬وعهـد إىل اللجنـة األوىل مفاوضـة ممثلـي احلزبين املذكوريـن يف‬
‫الكليـات‪ ،‬وتكللـت مسـاعي ممثلـي الطلبة مـن االجتاهات املختلفة يف تنسـيق‬
‫وتوحيـد نشـاطاتها ضـد املعاهـدة‪ .‬وكان اإلضـراب الـذي أشـرنا إليـه مـن ثمـار‬
‫هـذا العمـل املشترك‪ ،20 20‬وكان التنسـيق الـذي تنشـده اللجنتـ�ان يتفـاوت ىف‬
‫مـداه وأغراضـه‪ .‬فبينمـا كانـت اللجنـة األوىل تركـز تنسـيقها علـى النشـاطات‬
‫املوجهـة ضـد معاهـدة بورتسـموث‪ ،‬فـإن اللجنـة الطالبيـ�ة املنبثقـة عـن جلنـة‬
‫التعـاون كانـت ال تكتفـي بهذه وإنما تسـعى للتـداول يف عامة الوضع السـيايس‬
‫والتأكيـد علـى النضـال الديمقراطـي وحتديد شـعاراته‪ .‬ومـع أن الطلاب كانوا‬
‫هـم املبادريـن إىل التظاهـر‪ ،‬إال أن اجلماهير الشـعبي�ة الواسـعة كانـت تنضـم‬
‫إىل مظاهراتهـم بأعـاد كبيرة محولـة إياهـا إىل مظاهـرات جماهرييـة واسـعة‬
‫لعامـة الشـعب‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن بطاطـو كان علـى حـق حين الحـظ أن احلزب‬
‫لـم يسـتعد االسـتعداد الـكايف ملواجهـة تطـور األحـداث ‪ 21 21‬التي كانـت جتـري‬
‫بسـرعة‪ .‬إن االسـتعدادات التي اختـذت كانـت تتـم علـى مسـتوى املنظمـات‬
‫احلزبيـ�ة الطالبيـ�ة‪ .‬أمـا لـدى املنظمـات احلزبيـ�ة األخـرى يف بغـداد فقـد كانـت‬
‫تتـم يف الغالـب دون مركزة وتبعا إىل مبـادرات املنظمني‪ ،‬أو يف أفضل األحوال يف‬

‫‪ .20‬د‪ .‬فــاروق برتــو‪ ،‬مــن ذكريــات احلركــة الطالبيــ�ة يف وثبــ�ة كانــون الثــاين‪ ،‬الثقافــة‬
‫اجلديــدة‪ ،‬العــدد ‪ .293‬كذلــك مــا أدىل بــه مالــك ســيف ىف التحقيــق‪ ،‬املوســوعة الســرية‪،‬‬
‫املوســوعة األوىل‪ ،‬ص‪.292 ،61‬‬
‫‪ .21‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين ص ‪،207‬‬
‫‪359‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مشـاورات سـريعة ‪ .22 22‬وقـد جـرت بإحلـاح من فهـد الذي طالب قيـادة امليدان‬
‫‪23 23‬‬
‫بإجـراء اسـتعدادات جديـة إلنـزال كل قـوات احلـزب إىل الشـارع‪.‬‬
‫فـور وصـول الوفـد احلكويم املفـاوض إىل لندن‪ ،‬شـرع بإجـراء محادثاته‬
‫وتـم االتفـاق علـى صيغـة للمعاهـدة تـريض مصالـح بريطانيـ�ا تمامـا‪ ،‬ولكـن‬
‫يعـرض فيهـا وجـود القـوات الربيطانيـ�ة وكأنـه قـد جـاء بدعـوة مـن احلكومـة‬
‫العراقيـة‪ ،‬دون أن يكـون هنـاك جلاء لهـذه القـوات ‪ ،24 24‬ويف ‪ 10‬كانـون الثـاين‬
‫وقعـت املعاهـدة باألحـرف األوىل‪ .‬وأرسـلت مسـودتها إىل بغـداد يف ‪ 13‬كانـون‬
‫الثـاين‪ -‬وبعـد ثالثـة أيـام نشـر جمـال بابـان يف بغـداد نـص املعاهـدة اجلديـدة‪.‬‬
‫وجوبهـت بانتقـادات شـديدة مـن جميع القـوى الوطني�ة‪ .‬وقـرر الطالب إعالن‬
‫اإلضـراب عـن الدراسـة ملـدة ثالثـة أيـام ابتـ�داء مـن ‪ 17‬كانـون الثـاين‪ .‬ويف اليـوم‬
‫الثالـث مـن اإلضـراب (‪ 19‬كانـون الثـاين) تظاهـر طلاب الكليـات حتى البـاب‬
‫الشـريق وهـم يـرددون الهتافـات بسـقوط املعاهـدة ووزارة صالـح جبر ثـم‬
‫عـادوا واجتهـوا إىل مجلـس الربلمـان ثـم سـاروا إىل بـاب املعظم ليتفرقـوا هناك‪.‬‬
‫فسـارعت احلكومـة إىل إصـدار بي�ان تصف فيه الطلبـة باملخربني وتهدد باختاذ‬
‫أشـد اإلجـراءات ملنـع تكـرر املظاهـرات‪.‬‬
‫لكـن الطلاب قـرروا حتـدي احلكومـة‪ .‬ففـي اليـوم التـايل (‪ 20‬كانـون‬
‫الثـاين) اجتـه الطلاب إىل بـاب املعظـم‪ ،‬ويف السـاعة الثامنة والنصـف صباحا‪،‬‬
‫اندفـع الطالـب الشـيوعي ىف دار املعلمين العاليـة‪ ،‬جعفـر اللبان ‪ ،25 25‬إىل وسـط‬
‫شـارع باب املعظم‪ ،‬وهتف بسـقوط املعاهدة فردد الطالب من كل مكان هتافه‬
‫وجتمهـروا فـورا وسـاروا بمظاهـرة حاشـدة ضمـت طلاب الكليـات واملعاهـد‬
‫واملـدارس الثانويـة‪ .‬فقابلهـم البوليـس بالعنـف وفرقهـم‪ ،‬لكـن املظاهـرات‬
‫عـادت لتظهـر يف أماكـن متفرقة من شـارع الرشـيد واتصلت ببعضهـا‪ ،‬وحاصر‬
‫حشـود منهـا بن�ايـة مديريـة التحقيقـات اجلنائيـ�ة (مديريـة األمـن العامـة من‬
‫بعـد) وهـي تهتـف بسـقوط املعاهـدة وحبريـه الشـعب‪ ،‬فلجـأ البوليـس إىل‬
‫ضربهـا بالرصـاص وأوقـع باملتظاهريـن عـددا مـن اإلصابـات بينهـا أربعـة مـن‬
‫القتلـى باإلضافـة إىل عـدد كبير مـن اجلـرىح‪ .‬وقـد شـارك يف مظاهـرات هـذا‬
‫اليـوم العاصـف كادحـو بغـداد بشـكل واضح السـيما عمال الشـاجلية‪ ،‬وكانت‬

‫‪ .22‬من ذكريات املؤلف‬


‫ً‬
‫‪ .23‬بطاطو‪ ،‬ص ‪ :207‬نقال عن حديث لمالك سيف‪.‬‬
‫‪ .24‬فران هزيلتون ص ‪.32‬‬
‫‪ .25‬ترأس بعد أشهر احتاد الطلبة العام‪.‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪360‬‬

‫املنظمات الشـيوعية العمالية يف املحالت قد نشـطت لتعبئ�ة اجلماهري وزجها‬


‫يف الشـارع‪.‬‬
‫يف يـوم ‪ 21‬كانـون الثـاين‪ ،‬اسـتعد الطلاب مـن كل الكليـات لتشـييع‬
‫جثمـان الشـهيد شـمران علوان الذي استشـهد ىف مظاهـرات األمس من معهد‬
‫الطـب العـديل عبر كليـة الطـب التي تقـع داخـل املستشـفى امللكـي‪ .‬ولكـن مـا‬
‫إن حتركـت املظاهـرة حىت شـرع البوليـس يطـارد املتظاهرين داخل املستشـفى‬
‫حتى مبنى الكليـة وراح يمطـره بالرصـاص‪ .‬وبرغـم احتجـاج عمـادة الكليـة‬
‫الطبيـ�ة ومطالبتهـا بسـحب قـوات البوليـس إىل خـارج املستشـفى إال أن هـذه‬
‫ظلـت حتاصـر الطلاب وكانـت تضـرب كل من يقترب مـن الكليـة بالرصاص‪.‬‬
‫فأصيـب أحدهـم برأسـه وتن�اثـر مخـه‪ ،‬إذاك اندفـع الطلاب وهـم يصرخـون‬
‫وجميـع‬
‫ً‬ ‫لهـول اجلريمـة وحملـوا أشلاءه إىل عميـد الكليـة‪ ،‬ممـا حمـل هـذا‬
‫أسـاتذة كليتي الطـب والصيدلة وجميع أطباء املستشـفى إىل االسـتقالة فورا‪.‬‬
‫وتن�اقلـت جماهير بغـداد واملـدن العراقيـة األخـرى أنبـ�اء هـذه اجلريمـة املروعة‬
‫وانطلقـت املظاهـرات الصاخبـة يف الكـرخ والرصافـة واألعظميـة وامتـدت إىل‬
‫البصـرة والسـليماني�ة واملوصـل ممـا أفـزع وكيـل رئيـس الـوزراء فأبـرق هـذا إىل‬
‫رئيـس الـوزراء يف لنـدن يسـتنجد بـه وحيثـه علـى اإلسـراع بالعـودة إىل بغـداد‪.‬‬
‫لقـد أرعـب الوضـع املتفجـر يف بغـداد وامتـداد املظاهـرات إىل املـدن‬
‫األخـرى الفئـة احلاكمـة‪ ،‬فدعـا الـويص علـى العـرش إىل اجتمـاع يف البلاد‬
‫يف مسـاء ذلـك اليـوم لرؤسـاء الـوزارات السـابقني ورئيـس مجلـس األعيـان‬
‫والنـواب وممثلـي األحـزاب املعارضـة وبعـض الساسـة املعارضين اآلخريـن‪.‬‬
‫دافـع ممثلـو احلكومـة عـن املعاهـدة بينمـا انتقدهـا اآلخـرون بشـدة‪ ،‬وانتقـدوا‬
‫موقـف احلكومـة يف تعاملهـا مـع الشـعب الغاضـب‪ .‬بعـد االجتمـاع أعلـن‬
‫الـويص يف بيـ�ان لـه رفـض املعاهـدة وقـال إنهـا ليسـت صاحلـة لتوطيـد دعائم‬
‫الصداقـة بين البلديـن ووعد بأنه «سـوف ال تربم أية معاهـدة ال تضمن حقوق‬
‫البلاد وأمانيهـا»‪.‬‬
‫قوبـل البيـ�ان مـن أحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة باالرتيـ�اح واالطمئن�ان‪،‬‬
‫وسـارعت إىل تطمين الشـعب ودعوتـه إىل اخللـود والسـكين�ة‪ .‬أمـا احلـزب‬
‫الشـيوعي العـرايق واألحـزاب املتحالفـة معـه يف جلنـة التعـاون الوطني‪ ،‬فقـد‬
‫اعتبرت االجتمـاع والبيـ�ان الـذي صـدر عنـه وسـيلة من وسـال ختدير الشـعب‬
‫وإسـكاته‪ ،‬ودعـت اجلماهير إىل مواصلـة التظاهـر حتى إسـقاط احلكومة اليت‬
‫عقـدت املعاهـدة وإلغاء املعاهدتني‪ 1930 ،‬وبورتسـموث إلغاء تامـا‪ .‬ويف لندن‬
‫لـم يـرض رئيـس الوزراء عـن البي�ان الذي صدر عـن اجتماع البلاط‪ ،‬وهدد بأنه‬
‫سـيعود ويقضي علـى «مثيري القالقل»‪.‬‬
‫‪361‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫جـاء تصريـح رئيـس الـوزراء ليؤكـد وجهة نظـر القـوى اليسـارية‪ ،‬وليثري‬
‫اجلماهير ويؤكـد لهـا أن الفئـة احلاكمـة تـراوغ لكسـب الوقت‪ .‬لذلـك خرجت‬
‫يف اليـوم التـايل بأعـداد هائلـة سـارت يف مظاهـرات حاشـدة مـن بـاب املعظـم‬
‫حتى البـاب الشـريق ويف السـاحات الكبيرة تتوقـف لتصغـي إىل اجلواهـري‬
‫وإىل اخلطبـاء‪ .‬ويف البـاب الشـريق‪ ،‬وقـف كامـل قزانجي‪ ،‬ممثـل جلنـة التعـاون‬
‫الوطني ليخاطـب اجلماهير ويدعوهـا إىل االلتقـاء يف اليـوم التـايل واأليـام التي‬
‫تليـه ومواصلـة تظاهراتهـا حتى تسـتقيل حكومة صالـح جرب وتلغـى املعاهدة‪.‬‬
‫لقـد بذلـت أحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة الثالثـة‪ ،‬الوطني الديمقراطـي‬
‫واالسـتقالل واألحـرار كل مـا تسـتطيعه إلقنـاع اجلماهير بالكف عـن التظاهر‬
‫نـزوال عنـد وعـد الـويص‪ ،‬إال أن اجلماهير التي خبرت أسـاليب الفئـة احلاكمـة‬
‫املراوغـة لـم تصـغ إىل نصاحئهـا وجـاءت يف اليـوم التـايل وبأعـداد غفيرة إىل بـاب‬
‫املعظـم لتواصـل مظاهراتهـا‪ .‬ومـن هنـاك انطلقـت اجلماهير‪ ،‬نسـاء ورجـاال‬
‫وبقيـادة ممثلـي جلنـة التعـاون الوطني‪ ،‬وكانـت شـعاراتها وهتافهـا تعكـس‬
‫بوضوحهـا وحتديدهـا خـط احلـزب الشـيوعي ‪ ، 26 26‬ذلـك ألن قيـادة احلـزب قـد‬
‫أصـدرت يف اليـوم السـابق تعميمـا يشـدد علـى ضـرورة مواصلـة احلركـة بعزم‬
‫وتصميـم واالرتفـاع بمسـتواها‪ ،‬إذ أن خفـض مسـتوى املعركـة معنـاه إعطـاء‬
‫الفرصـة حلكومـة صالـح جبر لتجـذب أنفاسـها‪ .‬وقـد حـذر احلـزب ىف تعميمه‬
‫مـن اندسـاس عملاء السـلطة بين املتظاهريـن والهتـاف بهتافـات ضـارة ال‬
‫تتفـق وأهـداف احلركـة وشـعاراتها املقـررة‪ .‬وقـد لوحـظ أن كثيرا مـن الشـباب‬
‫القـويم قـد شـارك ىف مظاهـرات ذلـك اليـوم برغـم تشـديد الزعمـاء القوميين‬
‫علـى عـدم التظاهـر وحـاول أكرث مـن خطيب اعتراض املتظاهريـن والدعوة إىل‬
‫الكـف عـن التظاهـر طالمـا أن الويص قد وعـد باالمتن�اع عـن إبرام أيـة معاهدة‬
‫ال تسـتجيب ملصالـح البلاد‪ .‬كذلـك لوحـظ أن كثريا مـن العسـكريني‪ ،‬ضباطا‬
‫ومراتـب وجنـودا‪ ،‬انضمـوا إىل اجلماهري املتظاهرة وهم يرتـدون مالبس مدني�ة‪.‬‬
‫وعنـد تمثـال السـعدون‪ ،‬تت�ابـع اخلطبـاء مـن القـوى الديمقراطيـة مشـددين‬
‫علـى مواصلـة النضـال حتى إسـقاط حكومـة صالـح جبر‪.‬‬
‫ويف الرابـع والعشـرين جتـددت املظاهـرات يف شـارع الرشـيد والكـرادة‬
‫الشـرقية وغريهـا‪ ،‬وقـد حاولـت جهـات حكوميـة (ضيـاء جعفـر ‪ -‬وزيـر‬

‫‪ .26‬مــن املؤســف أن جعفــر عبــاس حميــدي‪ ،‬وكذلــك احلســي إىل حــد مــا‪ ،‬يأخــذان مــا ورد‬
‫يف تقاريــر البوليــس بشــأن مــا زعمــه مــن شــعارات وهتافــات هتــف بهــا يف املظاهــرات علــى‬
‫عالتهــا ‪ -‬ممــا ال يمكــن أن يفعلــه الشــيوعيون بــأي حــال مــن قبيــ�ل «عــاش فهــد لينــن‬
‫العــراق» ومــا شــاكل ذك‪.‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪362‬‬

‫املواصلات واألشـغال)‪ 27 27‬إثـارة احلـزازات الطائفيـة وتذيع منشـورات خالية‬


‫مـن التوقيـع تـدس علـى احلركـة الوطنيـ�ة وتهاجـم الشـيوعية متهمـة إياهـا‬
‫بالتحريـض علـى إشـعال نـار احلـرب األهليـة وهـدم كيـان اململكـة وصـرف‬
‫األنظـار عـن القضيـة الفلسـطيني�ة محاربـة رئيـس الـوزراء ألنـه شـيعي! إال أن‬
‫اجلماهير اسـتهجنت هـذه البي�انـات التي كانـت توزعهـا الشـرطة بسـياراتها‬
‫ودراجاتهـا‪ ،‬وقابلهـا الساسـة الشـيعة أمثـال رضـا الشـبييب وجعفـر حمنـدي‬
‫‪28 28‬‬
‫باالسـتي�اء ووصفوهـا بالدجـل السـيايس‪.‬‬
‫عـاد الوفـد العـرايق املفـاوض إىل البلاد عـن طريـق مطـار احلبانيـ�ة‬
‫العسـكري يـوم ‪ 26‬كانـون الثـاين‪ ،‬ودخـل رئيـس الـوزراء بغـداد سـرا‪ .‬وسـارع‬
‫إىل عقـد اجتمـاع ملجلـس الـوزراء يف قصـر الرحـاب‪ .‬وفيـه أصـر صالـح جبر‬
‫علـى سياسـة القمـع‪ .‬وكان أول عمـل لـه بعـد االجتمـاع أن أصـدر بي�انـا يدعـو‬
‫فيـه للمعاهـدة وينـ�ادي باخللـود والسـكين�ة «وتـرك كل مـا مـن شـأنه اإلخالل‬
‫باألمـن والنظـام»‪ ،‬فـردت عليـه اجلماهري فـورا باملظاهرات يف مختلـف األحياء‬
‫الشـعبي�ة يف بغداد واملدن األخرى‪ .‬وعلى عادة الشـعب يف مناسـبات كهذه راح‬
‫الرصـاص يلعلـع يف الهـواء يف كل مـكان‪ .‬وعمـد املتظاهـرون يف ليـل ‪ 26‬كانـون‬
‫الثـاين إىل نصـب املتاريـس يف الشـوارع يف بعـض األحيـاء الشـعبي�ة مثـل فضوة‬
‫عـرب يف بـاب الشـيخ‪ .‬وأصـدرت اللجنـة املركزية للحـزب الشـيوعي العرايق يف‬
‫تلـك الليلـة بي�انـا وزع يف سـاعته ويف اليوم التـايل تدعو فيـه إىل مواصلة النضال‬
‫حتى قبر معاهـدة بورتسـموث وإسـقاط وزارة صالـح جبر وتشـكيل حكومـة‬
‫وطنيـ�ة ديمقراطيـة‪ ،‬وفنـدت التهـم التي كيلـت للمتظاهريـن ووصـف نضـال‬
‫الشـعب ضـد املعاهـدة بالثـورة الشـيوعية والسـعي إلثـارة احلـرب األهليـة‪،‬‬
‫وقالـت إن اخلطـر يـأيت مـن تدخـل االسـتعمار يف بلدنـا‪ .‬يف تلـك الليلـة أيضـا‬
‫اجتمـع ممثلـو الطلبـة مـن الشـيوعيني والقوميين وتدارسـوا خططهـم لليـوم‬
‫التـايل واحلاسـم‪ ،‬والتقـى وفـد منهـم قـادة األحـزاب للتـداول بشـأن الغـد‪ .‬كان‬
‫واضحـا أن كال الطرفين بات يسـتعد للمعركـة الفاصلة يف الغـد‪ ..‬وقد انتقلت‬
‫املبـادرة للتصـدي للحكومـة ومعاهدتهـا إىل أيـدي اجلماهير الشـعبي�ة‪ ،‬وإىل‬
‫الكادحين واألحيـاء الشـعبي�ة الفقيرة بالـذات‪ ،‬واسـتنفر احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق كل قـواه‪ .‬إزاء تصاعـد األمـر بهذا الشـكل اخلطري‪ ،‬ارتبك رئيـس الوزراء‬
‫وأراد االسـتقالة إال أن الـويص ومـن ورائـه اإلجنليز شـجعوه علـى مواصلـة‬
‫‪29 2 9‬‬
‫ا لقمـع‪.‬‬

‫‪ .27‬احلسين‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪.271‬‬


‫‪ .28‬احلسين‪ ،‬ج‪ ،7‬وجعفر عباس حميدي‪ ،‬ص ‪.536-535‬‬
‫‪ .29‬للتعــرف علــى موقــف الــويص مــن هــذا األمــر‪ ،‬انظــر مــا جــاء يف كتــاب اســتقالة صالــح‬
‫‪363‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫يف صبـاح ‪ 27‬كانـون الثـاين‪ ،‬حتركـت اجلماهير مـن كل مـكان يف بغـداد‪.‬‬


‫وفيما كانت قوى البوليس تشـدد على اجلماهري والطلبة يف باب املعظم لتحط‬
‫دون انطالقهـا يف شـارع الرشـيد كانـت جمـوع الشـعب يف الشـواكة وقنبر علـي‬
‫والفضـل وبـاب الشـيخ وعلـى امتداد شـارع غازي (شـارع الكفـاح) والكاظمية‬
‫والكـرادة الشـرقية واألعظميـة تتظاهـر وتشـتبك مـع قـوات البوليس‪ ،‬وشـرع‬
‫النـاس يهاجمـون مراكـز البوليـس‪ .‬ويف بـاب املعظـم شـددت جماهير الطلبـة‬
‫وأبنـ�اء الشـعب اآلخريـن صراعهـا مـع البوليـس لكسـر احلصـار الـذي فرضـه‬
‫وأحرقـوا سـيارة لـوري للشـرطة‪ ،‬فـرد عليهـم بإطلاق الرصاص وسـقط هناك‬
‫عـدد مـن القتلـى بينهم جعفـر اجلواهـري وقيس األلـويس‪ ..‬لقد حتولـت بغداد‬
‫يومـذاك إىل سـاحة حـرب حقيقيـة‪ ،‬فقـد احتـل البوليـس مداخـل الطـرق‬
‫الفرعيـة‪ ..‬وراحـت سـياراته املصفحـة جتـوب الشـوارع الرئيسـية واملياديـن‬
‫العامـة‪ ،‬ونصبـت الرشاشـات فـوق األبنيـ�ة العالية ومـآذن املسـاجد‪ ..‬لقد هاج‬
‫النـاس يف كل مـكان‪ ..‬حتى أن تقريـرا للبوليـس وصـف احلـال بــ «هيـاج جنوين‬
‫مسـلح ينـ�ذر بقيـام ثورة داخليـة يف بغـداد»‪ ،‬وراحت جمـوع املتظاهرين الذين‬
‫كانـوا ينطلقـون مـن كل مـكان حتاصـر قـوات البوليـس‪ ،‬وعنـد مركـز العبخانـة‬
‫أحرقـوا دراجـات ناريـة للبوليـس وهاجـم املتظاهـرون مبنى جريـدة (التايمس‬
‫العراقيـة) التي تصـدر باإلجنلزييـة واملركـز الثقـايف الربيطـاين وأشـعلوا فيهـا‬
‫النـار‪ ..‬ويف األعظميـة خـاض املتظاهـرون قتـاال حقيقيـا مـع البوليـس‪ ،‬وعـاد‬
‫رئيـس الـوزراء يهدد الشـعب الثائر مرة أخـرى‪ ..‬تركزت محـاوالت املتظاهرين‬
‫علـى محاولـة عبـور اجلسـر «العتيـك» الـذي صـار يعـرف منـذ ذلـك اليـوم‬
‫جبسـر الشـهداء‪ .‬الـذي نصبـت علـى جانبيـ�ه الرشاشـات علـى مئذنـة جامـع‬
‫«اآلصفيـة» يف الرصافـة ومئذنـة جامع «حنـان» يف الكرخ والتي كانت تصب‬
‫رصاصهـا علـى املتظاهريـن الذيـن حياولـون عبـور اجلسـر فقتـل العديـد منهم‬
‫وأصيـب اآلخـرون باجلـراح بينمـا كان البعـض لكثافـة النـار يقذفون بأنفسـهم‬
‫مـن فـوق اجلسـر إىل نهـر دجلة لكنهم لـم يكفوا عـن محاوالتهم حتى توفقوا ىف‬
‫عبورهـم تتقدمهـم فتـاة شـابة صـارت مـن يومها تعـرف بفتـاة اجلسـر والتقوا‬
‫بعمـال السـكك القادمين مـن الكـرخ‪.‬‬
‫ً‬
‫ويف السـاعة الواحـدة والنصـف ظهـرا مـن ذلـك اليـوم املشـهود‪ ،‬شـرع‬
‫أقطـاب السـلطة يت�داولـون األمـر فيمـا بينهـم تلفونيـ�ا السـتخدام اجليـش يف‬
‫ضـرب اجلماهري واسـتقدام قوات مدرعة من معسـكر املسـيب لهـذا الغرض‪،‬‬
‫ويذكـر صالـح صائب اجلبـوري يف مذكراته أن وزارة الداخليـة طلبت من وزارة‬

‫جــر (احلســي‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪)281‬؛ وبشــأن تدخــل اإلجنلــز املباشــر يف هــذه التطــورات انظــر‬
‫حديــث حكمــت ســليمان إىل احلســي (هامــش رقــم ‪ ،٢‬ص‪.)289‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪364‬‬

‫الدفـاع إرسـال فوجين مـن اجليـش ملعاونـة الشـرطة يف ضـرب الشـعب وأن‬
‫األخيرة قـد كلمـت رئيـس أركان اجليـش بشـأن هـذا الطلـب ‪ .30 30‬وىف املوصـل‪،‬‬
‫اسـتنجد مديـر الشـرطة بآمـر موقـع املوصـل ملسـاعدته يف قمـع اجلماهير‬
‫الغاضبـة‪ ،‬ويف السـليماني�ة وكركـوك أشـعلت اجلماهير الغاضبـة النـار يف‬
‫مراكـز اإلرشـاد الربيطـاين هنـاك‪ ..‬ولكـن يبـ�دو أن أقطـاب احلكـم ومـن ورائهم‬
‫الدوائـر الربيطانيـ�ة‪ ،‬خافـوا مـن احنياز اجليـش إىل جانب الشـعب‪ ،‬فعدلوا عن‬
‫اسـتخدامه لهـذا الغـرض‪ .‬يف ذلـك اليـوم عمـت املظاهـرات ىف املـدن األخـرى‪،‬‬
‫فشـملت كربلاء والنجـف والبصـرة والناصريـة واحللـة وبعقوبـة وكركـوك‬
‫واملوصـل‪ ،‬وىف بعـض املـدن دخـل املتظاهـرون يف اصطدامـات عنيفـة مـع‬
‫البوليـس «عرضـت املوقـف احلكـويم للحـرج» كمـا يقـول احلسني‪ .‬يف غمرة‬
‫هـذه األوضـاع العنيفة أقدم عشـرون نائب�ا من مجلس النواب على االسـتقالة‬
‫وتبعهـم رئيـس املجلس باالسـتقالة‪ ،‬وحذا حذوهـم كل من وزيـر المالية ووزير‬
‫الشـؤون االجتماعيـة‪ .‬يف تلـك اللحظـة كان الـويص ونـوري السـعيد ومحمـد‬
‫الصـدر يت�داولـون فيمـا يمكـن أن يـؤول إليـه األمـر‪ .‬وفيمـا كان نـوري السـعيد‬
‫يشـدد علـى مواصلـة القمـع للحفـاظ علـى «كرامـة احلكومـة» كان الصـدر‬
‫يدعـو إىل تـدارك األمـر بإقالـة احلكومـة خشـية أن تفلـت األمـور مـن أيديهـم‪.‬‬
‫واضطـر االثنـ�ان‪ ،‬نـوري السـعيد والـويص‪ ،‬مرغمين علـى األخـذ بنصيحـة‬
‫الصـدر وأوعـز إىل صالح جرب بتقديم اسـتقالته‪ ،‬وسـارع نوري السـعيد وصالح‬
‫جبر وتوفيق السـويدي إىل الفرار مـن بغداد‪ ،‬وخرج الويص على الشـعب ببي�ان‬
‫يدعـوه فيـه إىل اخللـود دون أن يشير بشيء إىل املعاهـدة اجلديـدة أو القديمـة‪.‬‬
‫وحـاول اإلنكليز والـويص أن يعهـدوا باحلكـم إىل أرشـد العمـري‪ ،‬واتصـل هـذا‬
‫برؤسـاء األحـزاب وبعـض املعارضين‪ ،‬إال أنـه لـم جيد لديهـم الرتحيـب للتعاون‬
‫معـه‪ ،‬لذلـك اجتهـت األنظـار للبحث عن شـخصية لم جترب يف احلكـم من قبل‬
‫ويمكـن أن يبعـث املوقـف منهـا البلبلـة والتردد‪ ،‬ووجـدوا ضالتهـم يف السـيد‬
‫محمـد الصـدر‪ ،‬رئيـس مجلـس األعيـان ليؤلـف وزارة أغلـب عناصرهـا مـن‬
‫الذين خدموا االسـتعمار وعرفوا بمعاداتهم للجماهري وحلركتها الديمقراطية‪،‬‬
‫وليـس فيهـم مـن عـرف بمواقفـه الوطنيـ�ة سـوى رئيـس حـزب االسـتقالل‬
‫(الـذي أعطـي حقيبـ�ة وزاريـة ثانويـة ‪ -‬وزارة التمويـن) ومحمـد رضا الشـبييب‬
‫(الـذي أشـغل وزارة املعـارف)‪ .‬وقـد رفض حـزب األحرار املشـاركة فيهـا‪ ،‬بينما‬
‫لـم تعـرض علـى احلـزب الوطني الديمقراطيـة املشـاركة فيهـا مـن األسـاس‬
‫بدعـوى أنـه حـزب يسـاري‪ .‬إن نظـرة واحـدة إىل تكويـن الـوزارة اجلديـدة تكفي‬
‫ملعرفـة طبيعتهـا والغـرض مـن اإلتيـ�ان بهـا ‪ ،31 31‬وال عبرة هنـا ملشـاركة ممثـل‬
‫‪ .30‬احلسين‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪.277-275‬‬
‫‪ .31‬ضمــت الــوزارة إىل جانــب الصــدر‪ ،‬جميــل املدفعــي (رئيــس وزراء ســابق) وحمــدي‬
‫‪365‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫حـزب االسـتقالل فيهـا‪ ،‬إذ أن مشـاركته ال تغير مـن الطبيعـة العامـة للـوزارة‪.‬‬
‫إن رئيـس الـوزراء ذاتـه فقـد ماضيـه الوطني املعـروف منـذ زمـن بعيـد وبـات‬
‫يسـاير األوضاع والسـبل اليت درجـت عليها الفئة احلاكمـة‪ ،‬وكل مزيته أنه كان‬
‫«يتجنـب اختبـ�ار القـوة» مـع نضـال القـوى الوطنيـ�ة‪ ،‬عـدا عـن جهلـه الكامل‬
‫بالعمـل احلكـويم كمـا يقول تقرير السـفارة الربيطاني�ة السـنوي عنـه ‪ .32 32‬لقد‬
‫يجء بهـذه الـوزارة كمـا يقـول فهـد‪:‬‬
‫«ال لتحـدث تغييرا أساسـيا يـريض طلبـات جماهري شـعبن�ا بـل لتهدئ‬
‫النـاس وترجـع امليـاه إىل مجاريهـا األوىل‪ ،‬وهـذا يعني إعطـاء املسـتعمر‬
‫وأذنابـه الوقـت الـكايف حلبـك مؤامراتهـم والقيـام ب( كـوب ديتـ�ا) أي‬
‫بأخـذ السـلطة ثانيـ�ة عـن طريـق العنـف والتآمـر»‪.‬‬

‫وحـددت رسـالة فهـد الربنامج الـذي يتعني علـى احلـزب أن ين�اضل من‬
‫أجلـه‪ ،‬واملوقـف الـذي يتعين أن يقفـه مـن األحـزاب والقـوى األخـرى‪ ،‬وطالب‬
‫بـأن ينشـر احلـزب بي�انـا يلخـص فيـه مـا كانـت تسـعى لتحقيقـه وزارة صالـح‬
‫جبر تنفيـذا خلطط االسـتعمار‪.‬‬
‫«ويجـب تضمين البيـ�ان املطاليـب الوطنيـ�ة اآلنيـ�ة وجتنيـ�د اجلماهري‬
‫ودفعهـا للمطالبـة بهـا عـن طريـق العرائـض والوفـود واملظاهـرات‪،‬‬
‫ومـن الضـروري اإلحلـاح وإحـراج احلزبين (الوطني الديمقراطـي)‬
‫و(األحـرار) لدفعهمـا إىل التمسـك واملطالبـة بتحقيـق بي�انهمـا ‪. 33 33‬‬

‫الباجــه يج (رئيــس الــوزراء ســابق) وأرشــد العمــري (رئيــس وزراء ســابق) وقــد شــغلوا‬
‫وزارات الداخليــة واخلارجيــة والدفــاع علــى التــوايل‪ ،‬كمــا ضمــت وزراء ســابقني معروفــن‬
‫بعدائهــم للحركــة الديمقراطيــة مثــل عمــر نظــي ومصطفــى العمــري وصــادق البصــام‬
‫وأخريــن‪.‬‬
‫‪ .32‬يقــول تقريــر الســفارة الربيطانيـ�ة املرســل إىل وزارة اخلارجيــة إن احلكومــة الــي خلفت‬
‫حكومــة صالــح جــر «كانــت ذات نمــط متحفــظ ومزتمــت حيــث أنهــا احتــوت ممثــا واحــدا‬
‫لألحــزاب الــي شــاركت بــدور كبــر يف تنظيــم الشــغب‪ .‬وقــد احتــوت بشــكل مقصــود طبقــة‬
‫جــرى ضمهــا بشــكل مرتــب مــن الــوزراء الســابقني ورؤســاء الــوزارات الســابقني‪ .‬غــر أنها لم‬
‫تملــك سياســة وإخــاص داخلــي وكان يرتأســها رجــل ديــن صالــح مهيــب القــوة كان جلهلــه‬
‫الكامــل يف العمــل احلكــويم ولعزمــه علــى جتنــب اختب ـ�ار القــوة مــع القــوى العابث ـ�ة ســبب�ا‬
‫جعــل العــراق ينحــدر إىل مســتوى قريــب مــن الفوضويــة» (د‪ .‬مؤيــد ابراهيــم الونــداوي‪،‬‬
‫العــراق يف التقاريــر الســنوية للســفارة بانيـ�ة ‪ ،1958. 1944‬دار الشــؤون الثقافيــة العامــة‪،‬‬
‫بغــداد‪ ،1992 ،‬ص ‪.)87‬‬
‫‪ .33‬أصــدرت األحــزاب السياســية العلنيـ�ة (الوطــي الديمقراطــي واألحــرار واالســتقالل)‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪366‬‬

‫وإن مـن أهـم مـا جيـب التشـديد عليـه هـو إلغـاء معاهـديت ‪1930‬‬
‫وبورتسـموث‪ ،‬وجلاء اجليـوش األجنبيـ�ة‪ ،‬واحلريـات الديمقراطيـة‪،‬‬
‫وحريـة التنظيـم النقايب‪ ،‬وتوفير اخلزب اجليد للنـاس‪ ،‬واالقتصاص من‬
‫وزارة صالـح جبر ومديـر الشـرطة إلجرامهـم الـدينء وسـفك دمـاء أبن�اء‬
‫الشـعب األبريـاء واالقتصـاص مـن نـوري السـعيد عميـل االسـتعمار‬
‫األول وبطـل مشـاريعه‪ ،‬وحـل املجلـس النيـ�ايب وتأليف حكومـة مؤقتة‬
‫مـن حـزيب األحـرار والوطني الديمقراطـي‪ ،‬أو منهمـا ومـن عناصـر‬
‫وطنيـ�ة نظيفـة‪ ،‬واملطالبـة (يف مناسـبات) بإطلاق سـراح املسـجونني‬
‫واملوقوفين السياسـيني وعلـى أن يكـون هـذا شـرط لتأييـ�د حكومـة‬
‫تت�ألـف مـن هذيـن احلزبين املذكوريـن»‪.‬‬

‫وشددت رسالة فهد لقادة احلزب‬


‫«جيب أن ُيفهموا اجلماهري آن مقاييسـها لوزن وطني�ة أي وزارة هو قبل‬
‫كل يشء يف موقفها من املطالب الوطني�ة الديمقراطية األنفة الذكر»‪.‬‬

‫وبشـأن التكتيـكات التي يتعين علـى احلـزب أن يسير عليهـا حـددت‬


‫رسـالة فهـد‪:‬‬
‫« ‪ .1‬املحافظـة علـى وحـدة الصفـوف يف احلركـة الوطنيـ�ة ويجـب أال‬
‫يـؤدي اىل اختلاف جـزيئ إىل اختلاف كلـي‪ ،‬أي إذا هـم لـم يأتـوا معنـا‬
‫ببعـض النقـاط فيجـب أال يـؤدي ذلـك إىل القطيعـة ومـن الضـروري‬
‫االسـتفادة مـن جميـع العناصـر الوطنيـ�ة علـى مختلـف نزعاتهـا‬
‫االجتماعيـة التي تريـد أن تمشي ولـو إىل نصـف الطريـق‪.‬‬

‫‪ .2‬مـن الضـروري تنشـيط احلركـة بين العمـال وربـط حركتهـم‬

‫بعد سقوط وزارة صالح جرب بي�انا تضمن املطالب التالية‪:‬‬


‫« ‪ - 1‬إبطال معاهدة بورتسموث اجلائرة‪ ،‬وإعالن ذلك دون إبطاء‪،‬‬
‫‪ - 2‬إجراء التحقيق الدقيق يف إطالق النار ضد أبن�اء الشعب وتعيني املسؤولني عنه‪،‬‬
‫‪َ - 3‬حل املجلس الني�ايب القائم وإجراء انتخابات جديدة حرة‪،‬‬
‫‪ .4‬احرتام احلريات الدستورية‪،‬‬
‫‪ - 5‬إفساح املجال للنشاط احلزيب‪،‬‬
‫‪َ .6‬حل مشكلة الغذاء بشكل يوفر للشعب قوته»‬
‫(جعفر عباس حميدي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪ ،552‬نقال عن جريدة صوت األحرار العدد‬
‫‪ 29 ،466‬كانون الثاين ‪.1948‬‬
‫‪367‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫حبركـة الطلاب وباحلركـة بصـورة عامـة‪ ،‬وباإلمـكان دفعهـم اآلن مـن‬


‫أجـل املطالبـة حبقوقهـم النقابيـ�ة إىل جانـب نضالهـم من أجـل القضايا‬
‫الوطنيـ�ة العامـة‪ .‬ومـن الضـروري حمـل عمال السـكك والبرق والربيد‬
‫علـى املطالبـة بإطلاق سـراح قـادة النقابـات املسـجونني‪.‬‬

‫‪ .3‬قـووا صالتكـم باخلـارج (ويقصـد خـارج بغـداد‪ ،‬أي منظمـات‬


‫احلـزب ىف األلويـة‪ ،‬وهـذا مـا يفهـم مـن سـياق الفقـرة وليـس االتصال‬
‫باألحزاب الشـيوعية األجنبي�ة كما ذهبت املوسوعة ألغراض محاكمة‬
‫فهـد باالتصـال مـع األحـزاب األجنبي�ة خـارج البلاد – املؤلـف) وابعثوا‬
‫إليهـم باسـتمرار بأخبـار مـا جيـري عندكـم وبمـا جيـب عملـه لكي تنسـق‬
‫اجلهـات نشـاطها مـع نشـاطكم وهكـذا تصبـح احلركـة شـاملة القطر‬
‫‪34 34‬‬
‫وغير مقتصـرة علـى بغـداد فتقـوى احلركـة وتصبـح أوسـع وأعمـق»‪.‬‬

‫ويف ضـوء التطـورات اليت حصلت يف الوضع السـيايس يف البالد يف الفرتة‬


‫الالحقـة‪ ،‬أرسـل فهد رسـائل أخـرى ضمنها توجيهاته بشـأن سياسـات احلزب‬
‫ومواقفـه وبشـأن التكتيـكات النضاليـة التي سـار عليهـا والتي سـنتن�اولها يف‬
‫الفصـل التايل‪.‬‬
‫لقـد دخلـت وثبـ�ة كانـون الثـاين ‪ 1948‬كواحـدة مـن املعـارك العظمى‬
‫التي خاضهـا الشـعب يف سـبي�ل حريتـ�ه وسـعادته‪ ،‬وغـدت أمثولـة يتغنى بهـا‬
‫الشـعب وحيتذيهـا ىف معاركـه الوطنيـ�ة الالحقـة‪ ،‬وقـد اسـتخلصت منهـا‬
‫طالئـع الشـعب دروسـا غنيـ�ة حرصـت علـى تطبيقهـا يف معاركهـا الالحقـة‬
‫ضـد الرجعيـة واالسـتعمار‪ .‬فقـد تعلم منها الشـعب معنى الوحـدة يف الكفاح‪،‬‬
‫ومـن أجـل أن ختـوض معركـة ناجحة يلـزم أن ختوضهـا يف بقاع الوطـن املختلفة‬
‫يف آن واحـد‪ .‬لقـد أرعـب الفئـة أن تتحـرك اجلماهير ال ىف بغـداد وحدهـا‪ ،‬وال ىف‬
‫مدينـ�ة بعـد أخـرى يمكـن ضربهـا الواحـدة بعـد األخـرى‪ ،‬وإنمـا يف جميـع أحنـاء‬
‫العـراق مـرة واحـدة‪ .‬كذلـك دللـت الوثبـ�ة علـى عمـق األخـوة العربيـ�ة الكردية‪.‬‬
‫فحين كان يتحـدث محمـد صالـح حبـر العلـوم ثـم يتلـوه صالـح رشـدي مـا كان‬
‫أحـد يميز بين العـريب ابـن النجـف والكـردي ابـن السـليماني�ة‪ .‬ولقد ذعـر حكام‬
‫بغـداد كثيرا حين تن�اهـى لهـم أن أبن�اء السـليماني�ة وكركـوك أقدمـوا على حرق‬
‫مراكـز اإلرشـاد الربيطـاين ىف املدينتين‪ .‬لقد صور عملاء االسـتعمار وكأن األمر‬
‫حتـرك مـن شـباب الكليـات يمكـن حصـره وضربـه ببعـض سـرايا اخليالـة مـن‬
‫‪ .34‬املوســوعة الثاني ـ�ة‪ ،‬ص ‪ .237‬ويالحــظ هنــا أن الرســالة تنقطــع فجــأة ممــا يدلــل آن‬
‫الرســالة لهــا تتمــة لــم تنشــر إمــا ألســباب يف التصحيــف أو لســبب أخــر يعرفــه البوليــس‬
‫الــذي نشــرها‪.‬‬
‫نوناك ةبثوو يعويشلا بزحلا‬ ‫‪368‬‬

‫البوليـس حتى جاءهـم اجلواب احلاسـم يف حترك جموع العمال من الشـاجلية‬


‫وكاديح بـاب الشـيخ وفضـوة عـرب وقنرب علـي والفضـل واجلعيفر واملشـاهدة‬
‫وغريهـا واندفـاع الفالحين املهاجرين إىل بغداد املعروفني باسـم (الشـركاوية)‬
‫و(الشـراكوة) مـن الشـاكرية وخلـف السـدة احلفـاة البائسين‪ .‬ويف غمـرة هذا‬
‫التالحـم الرائـع مـا كنـت جتـد فرصـة للتمييز بين ديـن وأخـر ومذهـب وأخـر‬
‫عال وعلى اسـتعداد‬ ‫وقوميـة وأخـرى وغني وفقري‪ .‬لقـد دللت الوثب�ة علـى وعي ٍ‬
‫كبير خلـوض املعـارك‪ ،‬وقـد جـاءت لتتـم سلسـلة النضـاالت املتت�ابعـة التي‬
‫خاضهـا الشـعب منـذ نهايـة احلـرب‪ ،‬وردا علـى االضطهـاد الـذي انصـب على‬
‫القـوى الوطنيـ�ة جميعهـا والشـيوعيون يف مقدمتهم‪ .‬ولقد فهـم اإلخوة العرب‬
‫يف جميـع أقطارهـم أنهـا انتصـار لنضاالتهـم هـم أيضـا ضـد املشـاريع التي يـراد‬
‫تكبيـ�ل أوطانهـم بهـا‪ .‬وقالـت عنهـا جريـدة (النـداء) القاهريـة أن الشـعب‬
‫العـرايق لـم ينقـذ نفسـه فقـط‪ ،‬بـل أنقذ جميـع الشـرق العـريب من الوقـوع حتت‬
‫السـيطرة االسـتعمارية‪ 35 35.‬وكتـب خالـد بكـداش يف مجلـة الطريـق‪:‬‬
‫«أعجوبـة؟! كال‪ :‬ليسـت هـي األعجوبـة‪ .‬لـو لـم تكـن ‪ -‬تلـك كانـت‬
‫األعجوبـة كذلـك»‪.‬‬

‫وحتيي عصبـة التحرر الوطين الفلسـطيني�ة الشـعب العـرايق على نصره‬


‫يف نشـرة داخليـة (العصبـة) حتـت عنـوان «لقـد بقـي العـراق‪ ..‬وفر اجلبنـ�اء»‪،‬‬
‫ويكتـب الرفيـق فـؤاد نصار (أبـو خالد)‪:‬‬
‫«الشـعب العـرايق يلقـن االسـتعمار والرجعيـة درسـا قاسـيا أدرك‬
‫الشـعب أن احلـق إىل جانبـ�ه وليـس ذلـك فقـط بـل تبين اآلن أن القـوة‬
‫إىل جانبـ�ه أيضـا»‪.‬‬

‫ويقول أبو خالد‪:‬‬


‫«حنـن هنـا ىف فلسـطني‪ ،‬إذ يريـد االسـتعمار أن يضعنـا بين فكيـه‬
‫لزيدردنـا لقمـة مغموسـة بـإدام مـن دمـاء‪ ،‬نبتهـج اليـوم لالنتصـار الذي‬
‫أحرزه الشـعب العرايق الشـقيق على االسـتعمار واخلونة الذين وجدوا‬
‫بين ظهرانينـ�ا ‪ -‬عـن فهـم وعـن غير فهـم ‪ -‬مـن حـاول التستر عليهـم‬

‫‪ .35‬جريــدة الزمــان اللبن�اني ـ�ة‪ 30 ،‬كانــون الثــاين ‪ 1948‬نقــا عــن كتــاب عبــاس حميــدي‪،‬‬
‫ص ‪546‬؛ وجريــده النــداء القاهريــة‪ 5 ،‬شــباط ‪ ،1948‬نقــا عــن عبــاس حميــدي أيضــا‪،‬‬
‫ص ‪.546‬‬
‫‪369‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫حتـت سـتار العروبـة والقوميـة وحتـت سـتار محنـة فلسـطني‪ .‬إن نوري‬
‫السـعيد وصالـح جبر وأضرابهمـا يف العالـم العـريب ليسـوا مـن العروبة‬
‫يف يشء‪ ،‬إنما هم عبي�د االسـتعمار داسـهم الشـعب العرايق حتت نعاله‪.‬‬
‫إن محنـة فلسـطني لـن حتـول دون فضـح هـذه العناصـر‪ ،‬بـل تتطلـب‬
‫فضحهـا ألنهـا بت�آمرهـا مـع االسـتعمار‪ ،‬أوصلـت فلسـطني إىل محنتهـا‬
‫‪36 3 6‬‬
‫احلاضـرة»‪.‬‬

‫‪( .36‬العصبــة) نشــرة داخليــة تصدرهــا وحتررهــا عصبــة التحــرر الوطــي‪ 1 ،‬شــباط‪،‬‬
‫‪ ،1948‬رقــم ‪ 1‬طبعــت يف مطبعــة النصــر ‪ -‬يافــا‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫هجــوم وهجوم مضاد‬

‫ً‬
‫طـوال األشـهر التي تلـت الوثبـ�ة‪ً ،‬عاشـت البلاد وضعـا خاصـا وفريـدا‪.‬‬
‫وصالبتها‬
‫ً‬ ‫بعزمهـا‬
‫ً‬ ‫فلقـد خرجـت اجلماهري مـن املعركة ظافرة‪ .‬لقد اسـتطاعت‬
‫واسـتعدادها العـايل للتضحيـة أن تدحـر خصومهـا وتوجـه ضربـة عنيفـة إىل‬
‫مشـاريعهم يف املنطقـة‪ ،‬ألغـت معاهـدة حيكـت بعنايـة وأسـقطت وزارة‬
‫موغلـة بعدائهـا للشـعب‪ .‬علـى هذا األسـاس ظلت تمـارس ضغطهـا مدفوعة‬
‫بإحسـاس النصـر الـذي حققتـه يف تلـك األيـام املجيـدة‪ ،‬واسـتطاعت أن تنتزع‬
‫املبـادرة يف الشـارع وحتتفـظ بهـا ألسـابيع تاليـة‪ ،‬كما لم تسـتطع قـوى البوليس‬
‫أن تتجـاوز اندحارهـا املشين بسـرعة‪ ،‬وبقيـت تعـاين مـن هبـوط املعنويـات‬
‫لبعـض الوقـت‪.‬‬
‫واصلـت اجلماهير الشـعبي�ة ضغطهـا على احلكـم‪ ،‬واختذ هـذا الضغط‬
‫أشـكاال عـدة ومياديـن مختلفـة‪ ،‬وخاضتـه جماعـات منوعـة‪ .‬واسـتطاعت‬
‫احلركة الثورية‪ ،‬وىف مقدمتها احلزب الشـيوعي‪ ،‬أن تفرض قدرا من احلريات‬
‫الديمقراطيـة‪ ،‬وأن تمارسـها فعلا‪ ،‬كحريـة التظاهر واالجتمـاع واإلضراب وأن‬
‫تنتزع شـيئ�ا مـن حـق التنظيـم االجتماعي‪.‬‬
‫انصرفـت أطـراف الصـراع بعـد (الوثبـ�ة) إىل تأمـل األحـداث التي مـرت‬
‫بهـا واخلـروج منـه باسـتنت�اجات ضروريـة لتحديـد خطـوط حتركهـا املقبـل‬
‫كل حسـب خربتـه وقدراتـه‪ .‬واعتمـدت سـرعة تصـرف كل طـرف علـى مـدى‬
‫اسـتعداده وجتربتـ�ه وقدرتـه علـى إعـادة ترتيـب صفوفـه وسـعة القـوى التي‬
‫يتطلـب حتريكهـا‪ .‬وبوجـه عـام‪ ،‬يمكننـ�ا القـول إن حتـرك أعـداء الشـعب‪ ،‬مـن‬
‫دوائـر اسـتعمارية ودوائـر رجعيـة مرتبطـة بهـا لتنظيـم هجومهـا املضاد بأسـرع‬
‫ممـا توقعتـه القـوى الوطنيـ�ة‪ .‬وإذا كانـت جبهـة اخلصـم قـد ارتبكـت يف األيـام‬

‫‪371‬‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪372‬‬

‫األوىل التي تلـت (الوثبـ�ة)‪ ،‬ولم تتحرك بشـكل موحد رغم أنهـا عادت ونظمت‬
‫صفوفهـا مـن بعـد‪ ،‬وحـددت غاياتها بوضـوح‪ ،‬فإن جبهة الشـعب قـد ارتبكت‬
‫باملقابـل ولـم تسـتطع أن تسترجع الوحـدة التي حققتهـا يف الشـارع‪ ،‬كذلـك لم‬
‫تسـتطع أن حتتفـظ باملبـادرة طويلا واضطـرت بعد أشـهر قليلة إىل اختـاذ حالة‬
‫الدفاع‪.‬‬
‫ففـي اليـوم الثـاين الـذي أعقـب (الوثبـ�ة) اجتمـع رؤسـاء األحـزاب‬
‫السياسـية التي بقيت يف سـاحة العمـل العلين(الوطني الديمقراطـي واألحرار‬
‫واالسـتقالل) وتداولـوا بشـأن املوقـف من الوضع السـيايس الذي نشـأ وانتهوا‬
‫إىل إصـدار بيـ�ان مشترك يطالـب بعـدم إسـناد الـوزارة إىل أشـخاص ال يطمئن‬
‫إليهـم الشـعب نظـرا إىل ماضيهـم (وكان يـدور احلديـث يومهـا عـن إسـنادها‬
‫إىل ارشـد العمـري)‪ ،‬ويدعـو إىل إبطـال معاهـدة بورتسـموث وإعلان ذلـك‬
‫دون إبطـاء وإجـراء حتقيـق دقيـق عـن إطلاق النـار ضـد أبنـ�اء الشـعب وتعيين‬
‫املسـؤولني عنـه‪ ،‬وحل املجلس النيـ�ايب وإجراء انتخابات حـرة واحرتام احلريات‬
‫الدسـتورية وإفسـاح املجال للنشـاط احلزيب وحل مشـكلة الغذاء بشـكل يوفر‬
‫للشـعب قوتـه‪ .‬وانتهـى بيـ�ان األحـزاب إىل اعتبـ�ار هـذه املطالـب هـي املطالـب‬
‫‪11‬‬
‫امللحـة التي يرونهـا ضروريـة للصالـح العـام‪.‬‬
‫وكمـا عرفنـا‪ ،‬فقـد دخـل ممثـل حـزب االسـتقالل وزارة الصـدر وصـار‬
‫يدافـع عنهـا حبماسـة‪ .‬أمـا احلزبـان اآلخـران فإنهمـا لـم يعارضـا تشـكيلها برغم‬
‫أنهـا ضمـت عديـدا مـن العناصـر املعروفـة بماضيها املعـادي حلركة الشـعب‪،‬‬
‫لكنهمـا لـم يؤيداهـا يف ذات الوقـت‪ .‬وكانـت خطـوة األحـزاب الثالثـة هـذه هـي‬
‫األوىل يف تفـكك الوحـدة التي تكونـت بين قـوى الشـعب يف مجـرى الصـراع‬
‫الـذي دار أيـام الوثبـ�ة‪ ،‬رغـم أن هـذه الوحدة كانت هشـة يف األسـاس‪ .‬فبدال من‬
‫اسـتغالل الظروف اليت نشـأت للمسـاهمة مـع كل القوى التي خاضت معارك‬
‫الوثبـ�ة‪ ،‬ومواصلـة أشـكال التشـاور الـذي جرى بين هذه القـوى أيـام (الوثب�ة)‬
‫أثـرت أن تنفـرد لوحدهـا بذريعـة أنهـا أحـزاب مجـازة‪ ،‬ولـم تسـع حتى للتشـاور‬
‫مـع احلزبين اللذيـن كانـا مجازيـن مثلهـا قبـل عـام وكانـا يشـاركانها العمـل‬
‫السـيايس العلني‪ ،‬ولـم يكـن مـن الصحيـح أن توافـق ضمنـا علـى إجـراء منـاف‬
‫للحريـات الديمقراطيـة اختذتـه وزارة صالـح جبر ذاتهـا تمثل يف سـحب إجازيت‬
‫حـزب الشـعب وحزب االحتاد الوطين‪ .‬وسنرى أن هذه األحـزاب عادت وكررت‬
‫موقفهـا بعـد أن تطـورات األحـداث خلال األربعني يوما التي تلـت (الوثب�ة)‪..‬‬
‫كمـا كررتـه بعـد عقـد من السـنني‪.‬‬

‫‪ .1‬احلسين‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪.289‬‬


‫‪373‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أمـا الفئـة احلاكمـة ومـن ورائهـا دوائـر االسـتعمار الربيطـاين‪ ،‬فإنهـا وإن‬
‫كانـت قـد أثـرت الرتاجـع بعـد الهجـوم العاصـف الـذي شـنت�ه قـوى الشـعب‪،‬‬
‫إال أنهـا سـعت إىل أن تضبـط تراجعهـا هـذا وتقـدر خطواتهـا بعنايـة‪ ،‬وىف ذات‬
‫الوقـت كانـت تشـن هجمات مضـادة خاطفة لكـي تضمن حدود هـذا الرتاجع‪.‬‬
‫فقـد أصـرت أن تدخـل يف صلـب الـوزارة ويف أهـم حقائبهـا وزراء مجربين‬
‫ومعروفين بعدائهـم للشـعب وحرياتـه‪ ،‬وأوعـزت إىل أحدهم (عمـر نظيم) أن‬
‫يشـن هجوما مضادا مكشـوفا ومحسـوبا للدفاع عن معاهدة بورتسـموث منذ‬
‫األيـام األوىل للـوزارة حتى ولو اقتىض األمـر أن يضيح بمنصبه آلخر من طينت�ه‪.‬‬
‫وبـادر صالـح جبر ذاتـه أن يبعـث مـن (الهاشـمية) التي فـر إليهـا خوفـا مـن‬
‫غضـب الشـعب يف ‪ ،1948/2/3‬أي بعـد أقل من أسـبوع من إسـقاط وزارته‪،‬‬
‫برقيـة يدافـع فيهـا حبـرارة عن معاهـدة بورتسـموث ويهاجـم فيها بـكل صالفة‬
‫احلركـة الوطنيـ�ة ويصفهـا بــ «احلركـة الرعنـاء اليت دبرتهـا العناصـر املعلومة‬
‫التي تريـد السـوء بالبلاد» يف الوقـت الـذي كانـت فيـه احلركـة الوطنيـ�ة علـى‬
‫اختلاف فصائلهـا تطالـب بمحاسـبت�ه والقصـاص منه ومـن شـركائه‪ ،‬وخيتتم‬
‫برقيتـ�ه بقوله‪:‬‬
‫«أمـا التسـرع باختـاذ قـرار مـا حتـت تأثير هـذا اجلـو املشـبع بالدعايـات‬
‫السـيئ�ة‪ ،‬فمعناه اسـتمرار العمل بمقتىض معاهدة حزيران سنة ‪1930‬‬
‫‪22‬‬
‫ويف هـذا نفـع لربيطانيـ�ا وضـرر علـى العـراق»‬

‫ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن احلكومـة لـم حتـرك سـاكنا رغـم مطالبـة الشـعب‬
‫بمحاسـبت�ه‪ ،‬حتى ولـم تـرد عليه ولو باللسـان‪ .‬صحيـح أن احلكومـة قد اختذت‬
‫قرارا بإلغاء معاهدة بورتسـموث‪ ،‬وأنها ألفت جلنة للقيام بالتحقيق يف حوادث‬
‫املظاهـرات الوطنيـ�ة واملسـؤولني عـن إطالق الرصـاص‪ ..‬إال أنهـا أقدمت على‬
‫ذلـك اضطـرارا ألنهـا مـا كانـت تملـك خيـارا آخـر إزاء ضغـط الشـعب‪ .‬لكنهـا‬
‫ظلـت حتتفـظ بالتحالـف مع بريطانيـ�ا بموجب معاهـدة ‪ ،1930‬ولـم تتخذ أي‬
‫إجـراء حبـق الذين تسـببوا يف قتـل العشـرات يف أيـام (الوثبـ�ة)‪ .‬كان واضحا أنها‬
‫تبغـي امتصـاص نقمة اجلماهري واالسـتعداد للهجوم املضاد الشـامل‪ .‬وقد بدأ‬
‫الهجـوم أوال بتمهيـد اختذ شـكل اعتـداءات على املواكب واملظاهرات الشـعبي�ة‬
‫كانـت تقـوم بهـا زمـر تتخـذ الدين غطـاء لتحركهـا وتضع علـى أذرعتهـا الفتات‬
‫خـط عليهـا عبارة «يـد هللا»‪.‬‬
‫كيـف سـلك احلـزب الشـيوعي العـرايق وقـوى اليسـار األخـرى يف تلـك‬

‫‪ .2‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.294‬‬


‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪374‬‬

‫الفترة؟ يف الشـارع واصلـت مظاهراتهـا الشـعبي�ة يف صـورة مواكـب لتشـييع‬


‫الشـهداء وإلحيـاء أربعيني�اتهـم ويف شـكل وفـود للتعزيـة كانـت تـؤم بغـداد مـن‬
‫االلويـة األخـرى‪ ..‬الخ‪ ،‬وكانت تتخذ من هـذه املواكب فرصة لتأكيد مطالباتها‬
‫بتحقيـق الشـعارات الوطني�ة‪ .‬ولـم تقتصر املظاهرات على بغـداد وحدها وإنما‬
‫شـملت مدنا أخرى‪ .‬وقد شـهدت السـليماني�ة أعنفها‪ ،‬إذ هاجم املتظاهرون دار‬
‫العالقـات الربيطانيـ�ة وحطمـوا جهـازا لإلذاعـة كان قـد نصـب هنـاك منـذ عام‬
‫‪33‬‬
‫‪ 1941‬للدعايـة لربيطانيـ�ا واالفتراء علـى احلركـة الوطنيـ�ة‪.‬‬
‫كانـت قـوى البوليـس قـد انـزوت‪ ،‬لكـن الزمر التي حتدثنـ�ا عنها هـي اليت‬
‫تكفلـت باالعتـداء بشـكل غـادر علـى مظاهـرات الشـعب وإرهـاب اجلماهير‪،‬‬
‫وكانـت هـذه الزمـر تمـارس اعتداءاتهـا حتـت شـعار «مكافحـة اإلحلـاد» و‬
‫«مكافحـة الشـيوعية» و «الدفاع عن هويـة العراق القومية» دون أن تتحرك‬
‫احلكومـة وشـرطتها لوقـف اعتداءاتهـا علـى املظاهـرات اآلمنة‪ .‬وقـد تعرضت‬
‫لالعتـداء مواكـب ال ترفـع شـعارات سياسـية‪ .‬فقـد تعـرض وفـد لـواء العمـارة‬
‫قـرب (امليـدان) وهو ال حيمل سـوى الفتـات تطالب بتقسـيم األرايض الزراعية‬
‫يف اللـواء علـى الفالحين‪ ،‬وتطالـب بإنقـاذ العمارة مـن عزلتها (ويومهـا لم تكن‬
‫املدينـ�ة واللـواء بمجموعـه مرتبطـا ببغـداد أو البصـرة بطرق مواصلات مبلطة‬
‫ويتعـرض لالنعـزال بفعل األمطـار والفيضانات) و «نريد خزبا‪ ،‬نريد كسـاء»‪،‬‬
‫فتصـدت لـه هذه الزمر وبأيديهـا العىص واخلناجر ومزقـوا الالفتات وأحرقوها‬
‫وهتفـوا بسـقوط الشـيوعية كمـا يعترف تقريـر للبوليـس‪ 4 4.‬لقـد أثـارت هـذه‬
‫االعتـداءات اسـتنكار اجلماهير وسـخطها‪ ،‬وقـد اضطرت األحزاب السياسـية‬
‫املجـازة إىل اسـتنكارها ىف بيـ�ان مشترك ىف ‪ 6‬آذار‪ .‬لكـن هـذه األحـزاب جلـأت يف‬
‫املقابـل إىل اسـتنكار حمـل الشـعارات اليت لم ترفعهـا هي‪ ،‬واعتربت الشـعارات‬
‫|ألخـرى «شـعارات اسـتفزازية» وأنهـا «ال تأتلف وحرمة املواكـب» يف حني أن‬
‫مواكـب املتظاهريـن التي نظمها احلزب الشـيوعي والقوى اليسـارية لم حتمل‬
‫مـن الشـعارات سـوى مـا كان يطالـب بـه النـاس ويعبر عـن مصاحلهـم مثـل‬
‫«املطالبـة بمحاكمـة جلادي الشـعب وسـفاكي الدمـاء» و «إلغـاء معاهـدة‬
‫‪ »1930‬و «إطلاق احلريـات الديمقراطيـة» و «إطلاق سـراح املعتقلين‬
‫واملسـجونني السياسـيني والبارزانيين»‪ ،‬ويبـ�دو أن مـا دعتـه هـذه األحـزاب‬
‫بالشـعارات االسـتفزازية هـو هـذا الشـعار بالـذات‪ ،‬متجاهلـة أن هـؤالء‬
‫السـجناء السياسـيني لـم يدفعـوا إىل السـجون إال ألنهـم قـد دافعـوا بإخلاص‬
‫عن الشـعارات الوطني�ة والشـعبي�ة‪ .‬وتـردف األحزاب البورجوازية اسـتنكارها‬
‫هـذا بقولها‪:‬‬

‫‪ .3‬جعفر عباس حميدي‪ ،‬ص ‪.557‬‬


‫‪375‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫نن�اشـد هـؤالء جميعهـم االنصـراف إىل أعمالهـم االعتي�اديـة‪ ،‬والكـف‬


‫عـن املواكـب واملظاهرات‪ ،‬لكيما يتجـه العمل إىل حتقيق أماين الشـعب‬
‫ومطاليبـ�ه جبـو يسـوده الهـدوء‪ ،‬وبـذاك يتسـع املجـال لألحـزاب‬
‫‪55‬‬
‫والهيئـ�ات‪ ،‬واملعنين بالشـؤون العامـة‪ ،‬متابعـة القيـام بواجباتهـم‪.‬‬

‫وهـذا هـو بيت القصيـد‪ .‬فلتدع اجلماهير للبورجوازيـة أن تت�دبر األمور!‬


‫ولكـن وفـق أيـة مصالـح؟ واضـح أن البورجوازيـة هنـا ال تـرى أن هنـاك مـن‬
‫يضارعهـا ىف قيـادة الشـعب‪ ،‬وظلـت تلعـب لعبتهـا املفضلـة وهـى أن تمسـك‬
‫العصـا مـن وسـطها وتبحـث عـن املوازنـة‪ ،‬وتتنـ�اىس أن اللعبـة هنـا ال حتتمـل‬
‫املوازنـة‪ ،‬إمـا مصلحـة الشـعب أو ضدها‪ ،‬حىت إذا غلب الشـعب علـى أمره بعد‬
‫أشـهر‪ ..‬نفضـت البورجوازيـة الوطنيـ�ة أيديهـا مـن القضيـة وغلقـت األبـواب‬
‫وقالـت‪ :‬فليت�دبـر الشـعب أمـره‪ ..‬وهـذا مـا سـنأيت عليـه تاليـا‪.‬‬
‫حقـا‪ ،‬إن خبرة احلـزب الشـيوعي‪ ،‬والسـيما قيادتـه ىف امليـدان‪ ،‬وجتاربـه‬
‫النضاليـة وقدراتـه الذاتيـ�ة ومعارفـه النظريـة وأوضاعـه التنظيميـة‪ ،‬لـم تكـن‬
‫جميعهـا ممـا يؤهلـه إىل خـوض املعـارك النضاليـة بثقـة عاليـة وبتكتيـكات‬
‫مؤكدة النجاح‪ ،‬إال أن احلزب أمكنه أن خيفف من آثار نواقصه هذه باحلماسـة‬
‫العاليـة واالسـتعداد العـايل للتضحيـة الذي كان يتمتـع به أعضـاؤه وكادره‪ ،‬وال‬
‫يفوتنـ�ا هنـا أن نشير إىل أن الغالبيـ�ة العظمى مـن أعضائـه وكـوادره ومؤازريـه‬
‫كانـوا شـبابا يت�دفـق حيويـة وال يتردد عن خوض املعـارك‪ .‬لكن نقطـة الضعف‬
‫األساسـية‪ ،‬كعـب أخيـل القاتـل‪ ،‬كانـت تكمـن يف قيـادة امليـدان‪ ،‬ليـس فقط يف‬
‫كونهـا لـم تكـن مؤهلـة ألن تقـود معـارك من هـذا الـوزن‪ ،‬وإنمـا كانت منشـغلة‬
‫بزناعاتها الشـخصية‪ .‬وصحيح أن فهد ورفيقيه يف املكتب السـيايس سـعوا إىل‬
‫تزويد قيادة (مالك ‪ -‬يهودا) من سـجنهم بالتوجيهات واملالحظات أوال بأول‪،‬‬
‫إال أن هـذه كانـت تت�أخـر بالضـرورة عـن سير األحـداث‪ ..‬كانـت األحداث تسير‬
‫بسـرعة تزيـد عـن سـرعتها ىف األيـام االعتي�ادية‪ ،‬وكانـت تتطلب مبـادرة عالية‬
‫وال حتتمـل التب�اطـؤ وهـذا ما كانـت تفتقر إليه قيـادة امليدان‪ .‬فـإذا أضفنا إىل كل‬
‫هـذا أن تقاليـد العمـل احلـزيب التي نشـأت أصلا علـى املركزيـة املفرطـة كانـت‬
‫تضعـف روح املبـادرة واإلبـداع لـدى القاعـدة‪ ،‬أمكننـ�ا أن نتصـور بـأي مسـتوى‬
‫مـن الضعـف كانـت قيـادة (مالـك ‪ -‬يهـودا) تقـود احلـزب يف تلـك األيام‪.‬‬
‫وينطـرح هنـا سـؤال جـاد كـرر نفسـه بعـد عقـد مـن السـنني‪ :‬لمـاذا لـم‬
‫تبـ�ادر قيـادة امليـدان إىل التفكير بعقـد مؤتمـر أو كونفرنـس لقـادة املنظمـات‬
‫احلزبيـ�ة لتتـ�دارس وإياهـم موقـف احلـزب العـام مـن الوضـع السـيايس الـذي‬
‫‪ .5‬احلسين‪ ،‬ج ‪ ،7‬ص ‪.299‬‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪376‬‬

‫نشـأ ورسـم اخلطـوات اليت يتعين اختاذهـا‪ ،‬وتشـخيص العناصـر ذات القدرة‬
‫لتعزيـز املركـز القيـادي بهـا؟ ولماذا لـم تفاحت فهـد بهذا الشـأن؟ ولماذا لـم يب�ادر‬
‫هـو إىل توجيههـم بهذا االجتاه؟ لألسـف خلت الرسـائل التي كان يبعث بها فهد‬
‫سـنعتمد التواريـخ التي‬‫مـن السـجن بعـد الوثبـ�ة مـن تاريـخ إرسـالها‪ .‬لكننـ�ا ً‬
‫أشـار إليهـا بطاطـو والتي توصـل إليهـا كمـا يبـ�دو اسـتن�دا إىل مالحظـات مالك‬
‫سـيف‪ .‬مـن هـذه نفهـم أن الرسـالة التي أوىص فيهـا بإعـادة تشـكيل اللجنـة‬
‫املركزيـة خـارج السـجن واملرشـحني إليهـا ‪ 6 6‬قـد أرسـلت يف أيـار ‪ ،7 7 1948‬أي‬
‫بعـد أربعة أشـهر ثمينـ�ة جدا من حياة احلـزب‪ .‬أضف إىل هـذا‪ ،‬أن مركز احلزب‬
‫يف بغـداد لـم يتعـزز بموجـب هـذه التوصيـة إال بعضـو واحـد فقـط هـو مصعب‬
‫(جاسـم حمـودي الزيـدي) رغـم أن هـذا العنصـر كان نشـيطا حقا وأكثر نضجا‬
‫مـن مالـك نفسـه‪ ،‬ىف وقـت كانـت فيـه حاجـة مركـز احلـزب ىف بغـداد إىل أكثر‬
‫مـن هـذا بإحلـاح‪ .‬فقـد انـزوى محمـود (عبـد تمـر) وأثـر أن ينصـرف إىل العمـل‬
‫النقـايب وحـده‪ ،‬وسـعيد (سـايم نـادر) يف املصـح يف لبنـ�ان‪ ،‬و(كامـو) مكـرس‬
‫للعمـل بين األرمـن وال يصلـح للعمـل بين اجلماهير العربيـ�ة‪ ،‬و(ناصـر) و(هه‬
‫لـو) كانـا يقـودان العمل يف البصرة وأربيـ�ل على التوايل‪ .‬وتدلنا الرسـالة املذكور‪،‬‬
‫إضافـة إىل ذلـك‪ ،‬كـم كانـت ضحلـة خبرة املسـؤول األول التنظيميـة‪ .‬الرسـالة‬
‫التي بعـث بهـا فهـد يف ‪ 1948/5/17‬ردا على التقرير الذي بعث بـه إليه يهودا‬
‫صديـق‪ ،‬نفهـم أنـه‪ ،‬أي فهـد‪ ،‬لـم يكـن يعتقـد أن الظـروف آنـذاك مواتيـ�ة حتى‬
‫لعقـد اجتمـاع للجنـة املركزيـة‪ .‬إذ يقـول‪:‬‬
‫«لعـل أن يكـون باإلمـكان يف املسـتقبل تنظيـم اجتماعـات اللجنـة‬
‫املركزيـة بعـد أن تتوفـر الظـروف واإلمكانيـ�ات الجتماعهـا‪ ،‬ومـن‬
‫الضـروري أن يكـون مفهومـا أن جمـع مثـل هـذه اللجـان غير ميسـور‬
‫‪88‬‬
‫دائمـا‪ ،‬وال فائـدة فيـه إذا كانـت الظـروف غير مسـاعدة»‪.‬‬

‫ولكـن األهـم‪ ،‬أن توقيـت اجتماعـات اللجنـة املركزيـة املوسـعة‬


‫واالعتي�اديـة كمـا يقرتحهـا فهد يف رسـالته تدل أنـه كان اليزال حتى ذلك احلني‬
‫ينظـر إىل قـدرات الكـوادر احلزبيـ�ة علـى التحرك بمنظـار األوضاع التي كان هو‬
‫فيهـا علـى رأس احلـزب خـارج السـجن‪ ،‬ولـم يأخـذ باحلسـبان مـا حـاق بدوائـر‬
‫األمـن ووكالئهـا مـن ارتبـ�اك يف األيـام التي تلـت الوثبـ�ة والـذي يسـاعد كـوادر‬

‫‪ .6‬انظر صورة الرسالة يف مؤلفات الرفيق فهد‪ ،‬ص ‪.463‬‬


‫‪ .7‬انظر صورة الرسالة يف مؤلفات الرفيق فهد‪ ،‬ص ‪.463‬‬
‫‪ .8‬املصدر السابق‪.‬‬
‫‪377‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫احلـزب يف التحـرك فعال‪ .‬إن قيـادة احلزب وكادره يف تلك األيـام دون ما يتطلبه‬
‫الوضـع كثيرا‪ ..‬هـذا حق‪ ،‬ولكـن كانت هناك حاجة ماسـة إىل جمعهـم يف مؤتمر‬
‫أويف كونفرنـس علـى األقـل لبحث سياسـات وخطط احلزب العامـة فور انتهاء‬
‫الوثبـ�ة‪ ،‬وكانـت تتوفـر لـدى احلـزب اإلمكاني�ات الفعليـة لعقده لو كانـت قيادة‬
‫امليـدان تملـك املبـادرة واجلـرأة الضروريتين لعقـده‪ ،‬ولـو ختلى فهد عـن نظرته‬
‫املتشـددة جتـاه عقـد املؤتمـرات‪ ،‬وال حنسـب أن ضـرورات الصيانـة هـي التي‬
‫كانـت تعيـق عقـده يف ظـروف التردد واالنكمـاش التي سـادت أجهـزة القمـع‪.‬‬
‫صحيـح أن جتربـة ومعـارف الـكادر احلـزيب آنـذاك مـا كانـت تتمخض‪ ،‬لـو عقد‪،‬‬
‫عـن نتـ�اجئ ذات نوعيـة خطيرة‪ ،‬إال أن تبـ�ادل الـرأي بين عـدد كبير مـن الـكادر‬
‫كان سـينقل نضـال احلـزب إىل مسـتوى أعلى وال شـك‪ ،‬وربما كان سيسـاعد ىف‬
‫تشـخيص العناصـر األكثر تأهيلا للمركـز القيـادي‪.‬‬
‫علـى أيـة حـال‪ ،‬سـاعدت توجيهـات فهـد‪ ،‬وإن كانت تـأيت متأخـرة أحيانا‬
‫عـن مسيرة األحـداث‪ ،‬يف رسـم خـط احلزب بعـد (الوثبـ�ة)‪ .‬فعدا عن الرسـالة‬
‫التي بعث بها يف شـباط ‪ ،1948‬والتي أوضحت الغرض من ميجء وزارة الصدر‬
‫والتكتيـكات ًالتي يتعين سـلوكها لالحتفـاظ بضغـط الشـعب (انظـر الفصل‬
‫الثالـث عشـرا‪ ،‬فإنـه عـاد مـن بعـد ليؤكـد هـذا األمـر ثانيـ�ة‪ .‬ففـي رسـالة بعثهـا‬
‫ىف أخـر شـباط عـاد وأكـد ضـرورة تقويـة الصلات حبـزيب الوطني الديمقراطـي‬
‫واألحـرار والسـعي جلرهمـا إىل التعـاون مـع احلزب الشـيوعي‪.‬‬
‫ويف رسـالة بعـث بهـا يف ‪ 19‬آذار ‪ ،1948‬رسـم خطـة مفصلـة للحـزب‬
‫بشـأن املوقـف مـن االنتخابـات ونبـ�ه إىل أنـه طالمـا لـم يعين بعـد موعـد‬
‫لالنتخابـات مـن الضـروري أن يرفـع شـعار «ال انتخابـات حـرة واألحـرار ىف‬
‫السـجون» وشـعار «إطلاق احلريـات الديمقراطيـة» احلزبيـ�ة والنقابيـ�ة‬
‫وغريهـا‪ ،‬وشـعار «تنظيـف اجلهـاز اإلداري»‪ .‬خصوصـا ذلـك الـذي لـه صلـة‬
‫باالنتخابـات‪ .‬أمـا بشـأن دخولهـا أو مقاطعتهـا فإنـه يعتمـد علـى الظـروف اليت‬
‫ستسـود وقتئـ�ذ علـى ضـوء مـا يتحقـق مـن املطالـب املذكـورة إذ مـن اخلطأ بل‬
‫مـن اجلريمـة الدخـول يف انتخابـات قد ال تأيت بفائدة للشـعب وقـد تصرفه عن‬
‫نضالـه وتفقـده انتصاراتـه‪ ،‬كمـا أنه من اخلطـأ أيضا الوقوف موقفا سـلبي�ا من‬
‫االنتخابـات إذا كان فيهـا فائـدة أو بعـض الفائـدة وهـذا يتوقـف علـى اسـتعداد‬
‫اجلماهير للنضـال واالسـتمرار يف النضـال‪ ،‬فـإذا اسـتطاعت أن حتصـل علـى‬
‫مطاليـب يف نضالهـا يف الشـوارع فمـن اجلريمـة خداعهـا بانتخابـات مـزورة‬
‫حبكـم اجلهـاز الفاسـد القائـم‪ ،‬وإذا كانـت اجلماهير قـد تعبـت مـن النضـال‬
‫فمـن اخلطـأ زجهـا يف نضـال ثـوري خيسـرها فائـدة الـرحب الربلمـاين‪ ،‬وإن كان‬
‫جزئيـ�ا لذلـك فباسـتطاعتكم أن تتصلـوا بنـ�ا حالمـا جيـد أمـر بهـذا اخلصـوص‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪378‬‬

‫عـن طريق إرسـال إحـدى العائالت املعتمد عليهـا‪ .‬وهذا يكون أضمـن إذ يكون‬
‫واملؤثـرة ويقين�ا من الوقـوع يف خطأ‬
‫بعـد دراسـة وفحـص كل الظـروف املحيطة ً‬
‫واألخطـاء يف مثـل هـذه الظـروف تكلـف غاليـا‪.‬‬

‫وبشـأن العالقـة مـع األحـزاب اليسـارية الحـظ أن فتـور العالقـة مـع‬


‫رؤسـاء املنظمـات التي تعاونـت مـع احلـزب الشـيوعي يف إطـار جلنـة التعـاون‬
‫الوطني‪ ،‬ال ينبغـي أن تدفـع احلـزب إىل إهمـال تعـاون أتب�اعهـم مـع احلـزب‪،‬‬
‫وكانـت هـذه املنظمـات قـد أصـدرت نشـرة داخليـة مضـادة للحـزب‪ ..‬لكنـه‬
‫طالـب قيـادة احلـزب أن تواجـه األمـر بصـدر أرحـب وكتـب‪« :‬أمـا عـن إصـدار‬
‫نشـرتهم الداخليـة ضدنـا (فسـامحوهم) وال بأس مـن إيصالها لنا لكـي نقرأها‬
‫حنـن ونسـامحهم بدورنـا»‪.‬‬
‫ونبـ�ه قيـادة امليـدان كذلـك إىل جتاهـل مـا سـيقوله «الديمقراطيـون»‬
‫بشـأن إصـدار (اجلريـدة) إذا مـا نشـأت ضـرورة إىل إصدارها (ليـس واضحا ما‬
‫يقصـده بــ «اجلريدة» أهـي (القاعدة) أو (األسـاس) أو أخرى غريهما فيقول‪:‬‬
‫«إذا وجدتـم ضـرورة إلصـدار اجلريـدة فلا ختافـوا مـن خـوف‬
‫الديمقراطيين‪ ،‬فـإن خوفهـم كثيرا مـا يـؤدي إىل اندحـار احلركـة إذا لـم‬
‫تـزل هـذا اخلـوف حركـة اجلماهير ونشـاط حزبنـ�ا»‪.‬‬

‫ويبـ�دو أن قيـادة امليـدان قـد بـات يداخلهـا القنـوط ألن احلكومـة ال‬
‫تسـتجيب إىل مطالـب الشـعب‪ ،‬لذلـك يدعوهـا فهـد إىل العمـل لرفـع حماسـة‬
‫اجلماهير‪:‬‬
‫أمـا عـن عـدم تلبيـ�ة احلكومـة ملطالـب الشـعب فاعملـوا علـى إدامـة‬
‫وإنهـاض حماسـة اجلماهير وهيئوهـا إىل مظاهـرة كبيرة يف بغـداد‬
‫ومظاهـرات ىف وجهـات القطر حتمل شـعارات املطاليب األنفة وشـعارا‬
‫جديـدا «نريـد حكومة تنفذ مطالب الشـعب» أو شـعار «ال انتخابات‬
‫حـرة علـى يـد حكومـة ال تسـتجيب ملطالـب الشـعب» واعملـوا علـى‬
‫‪99‬‬
‫تعميـم هـذا الشـعار يف كل مـكان‪.‬‬

‫نشـط احلـزب بعـد الوثبـ�ة علـى جبهتين‪ :‬جبهـة العمـال وجبهـة‬


‫الطلاب‪ ،‬ودشـن النضـال علـى جبهـة جديـدة‪ ،‬عريضـة ومؤثـرة‪ ،‬هـي جبهـة‬

‫‪ .9‬مؤلفات الرفيق فهد‪ ،‬ص ‪.456‬‬


‫‪379‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الفالحين‪ .‬لقـد سـبق للحـزب أن خـاض النضـال علـى اجلبهتين األوليين يف‬
‫نشـاطه هـذه املـرة يف كليهمـا اتسـم بالسـعة والعمق‪،‬‬
‫مناسـبات سـابقة‪ .‬إال أن ً‬
‫ورسـخ مواقعـه فيهمـا كثيرا‪.‬‬
‫بعـد انتصـار الوثبـ�ة بقليـل‪ ،‬ويف غمـرة األفـراح التي عمـت الكليـات‬
‫واملـدارس للـدور املشـرف الـذي لعبـه الطلاب يف (الوثبـ�ة) الوطنيـ�ة‪ ..‬نشـط‬
‫الطلبـة لفـرض احتاداتهـم الطالبي�ة وممارسـة حقهـم يف التنظيم سـواء يف تلك‬
‫الكليـات التي عرفـت هـذه االحتـادات مـن قبـل كـدار املعلمين العاليـة‪ ،‬أويف‬
‫الكليـات األخـرى التي حيـل دون انتخابها يف السـابق‪ .‬فبادروا إىل تشـكيلها على‬
‫أسـاس ديمقراطي‪ ،‬أي على أسـاس انتخابات طالبي�ة حرة يسـاهم فيها جميع‬
‫الطلبـة‪ .‬أمـا يف املـدارس الثانوية واملتوسـطة فقد ماطلت اإلدارات يف السـماح‬
‫للطلاب بانتخـاب ممثليهـم إىل االحتـادات‪ .‬إال أن الطلاب والطالبـات فرضـوا‬
‫األمـر علـى كثير مـن املـدارس الثانويـة واملتوسـطة وأجـروا انتخابـات فيهـا‬
‫وانتخبـوا ممثليهـم‪ ،‬واضطـرت اإلدارات إىل التسـليم باألمـر‪ .‬وجـاءت حصيلـة‬
‫االنتخابـات يف أغلـب الكليـات واملـدارس إىل جانـب الطلاب اليسـاريني‬
‫والسـيما الشـيوعيني‪ .‬وقـد أزعج هذا السـلطة مثلما أزعج القـوى القومية من‬
‫مناصـري حزب االسـتقالل وغريه‪ ،‬واليت شـرعت تبعد نفسـها عـن التعاون مع‬
‫الطلاب اليسـاريني أكثر فأكثر‪ .‬وشـددت القـوى الديمقراطيـة علـى ضـرورة‬
‫عقـد مؤتمـر عـام للطلبـة وتأليـف احتـاد عـام لطلبـة العـراق‪ ،‬وتألفـت جلنـة‬
‫حتضرييـة لهـذا الغـرض وقدمـت مسـودة ميثـ�اق عـام لغـرض مناقشـته يف‬
‫املؤتمـر وتعديـل مـا يـراه والتصديـق عليه‪ .‬وقـد شـاركت ىف أعمال هـذه اللجنة‬
‫كل القـوى‪ ،‬لكـن ممثلـي القـوى القومية بـدأوا يف اللجنـة التحضرييـة وخارجها‬
‫يضعـون العقبـات أمـام عقـد املؤتمـر‪ ،‬وكانـوا يعملـون يف هـذا بالتوافـق مـع‬
‫إدارات املعاهـد واملـدارس التي راحـت تضـع مختلـف العراقيـل وتبـث الدعـوة‬
‫إىل مقاطعـة املؤتمـر واحليلولـة دون عقـده‪ .‬فتذرعـوا تـارة بانعـدام احلاجـة إىل‬
‫تكويـن احتـاد عـام للطلبة مـع وجود احتـاد عـام للمعاهـد العالية‪ .‬وتـارة بدعوى‬
‫أن طلاب املـدارس غير مؤهلين للمشـاركة يف تكويـن احتـاد عـام‪ ،‬أو بذريعـة‬
‫اقتراب االمتحانـات واحلاجـة إىل تأجيله لكيال يلهي الطلاب عن حتضرياتهم‪.‬‬
‫وسـخر حـزب االسـتقالل واحلكومـة بعـض الصحـف للحملـة علـى املؤتمـر‬
‫وعاقديـه‪ ،‬وبثـت احلكومـة مـن دعتهـم بــ «املربين» إىل الكليـات واملـدارس‬
‫لــ «إفهـام» الطلاب «خطـر» املؤتمـر و «احنرافـه» عـن «السـبي�ل الطلايب‬
‫القويـم» ويف بعـض احلـاالت كان الطلاب القوميـون يقفـون ضـد مطالـب‬
‫الطلاب العامـة ملجـرد أن مـن كان يدعـو لهـا أو يرفعهـا طلاب ديمقراطيـون‪.‬‬
‫ورفضـت السـلطات أن تسـمح بعقده يف إحدى القاعات العامـة‪ .‬إال أن اللجنة‬
‫التحضرييـة للمؤتمـر قررت عقـده يف أية سـاحة عامة‪ .‬وقد وقع اختيـ�ار اللجنة‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪380‬‬

‫احلزبيـ�ة الطالبيـ�ة للحـزب الشـيوعي العـرايق علـى (سـاحة السـباع) التي‬


‫أسـماها احلـكام القوميين مـن بعـد بـ «ميـدان الهاشمي» يف محلة البوشـبل‪،‬‬
‫وهـي منطقـة شـعبي�ة أغلـب قاطنيهـا مـن عمـال شـارع الشـيخ عمـر‪ ،‬وأعـد‬
‫احلـزب لهـا حراسـة قويـة مـن منظماتـه العماليـة‪.‬‬
‫ويف الرابـع عشـر مـن نيسـان ‪ ،1948‬انعقـد املؤتمـر يف السـاحة املذكـورة‬
‫وحضـره ألـوف الطلبـة مـن أعضـاء املؤتمـر املخولين واجلماهير الطالبيـ�ة‪.‬‬
‫وشـارك فيـه ممثلـو (‪ )51‬معهـدا ومدرسـة مـن مجمـوع ‪ 60‬معهـدا ومدرسـة‬
‫فيهـا احتـاد منتخـب للطلبـة‪ .‬وقـد قـدر عـدد الذيـن حضـروا حفلـة االفتتـ�اح‬
‫بــ ‪ .6000 - 5000‬وألقـى الشـاعر الكبير محمـد مهدي اجلواهـري قصيدته‬
‫املعروفـة (يـوم الشـهيد)‪ .‬وقـد اسـتمع املؤتمـر الـذي واصـل عملـه ليومين إىل‬
‫كلمـات ممثلـي احتـادات الطالب يف عدد من الكليات واملـدارس حتدثوا فيه عن‬
‫حاجـة البلاد إىل جامعـة‪ ،‬و «مشـاكل األقسـام الداخليـة» و «الدفـاع عن حق‬
‫الطلبـة الطبيعـي يف انتخـاب احتاداتهم» ومشـاكل «البعثات» و «األسـاليب‬
‫التربويـة الشـاذة» و «ضـرورة عقـد مؤتمـر لطالب البلاد العربيـ�ة» وتن�اولت‬
‫كلمـات املندوبين أوضـاع الزراعـة والصناعـة والتجـارة يف البلاد ومـا يعرقـل‬
‫تطورهـا‪ ،‬واحلريـات الديمقراطيـة التي ضمنهـا الدسـتور‪ ،‬وعن نضـال الطلبة‬
‫واجلماهير‪ ،‬وعـن دور الطلبـة يف (الوثب�ة)‪ ،‬وعن السياسـة العامة اليت يتوجب‬
‫علـى االحتـاد العـام أن يسير عليهـا‪ ،‬وعن العالقـة ما بين العلم والسـلم‪ .‬واختذ‬
‫املؤتمـر عددا مـن القرارات ومن بينها االحتجاج علـى االعتداءات اليت يتعرض‬
‫لهـا الطلبـة‪ ،‬واالحتجاج على غلـق كلية فيصل‪ ،‬ونداء ملقاطعة مكاتب اإلرشـاد‬
‫الربيطانيـ�ة‪ ،‬وحتيـة لنضلات الشـعب يف فلسـطني ومصـر وليبيـ�ا وغريهـا مـن‬
‫القـرارات‪ .‬وانتخـب املؤتمر مجلسـا تنفيذيا لـ «احتاد الطلبـة العام» تألف من‬
‫‪ 23‬عضـوا كان للشـيوعيني فيـه اثن�ا عشـر مقعدا‪ .‬كذلك انتخـب املؤتمر جلنة‬
‫سـكرتارية مـن سـبعة أعضـاء‪ ،‬خمسـة منهـم كانـوا شـيوعيني‪ ،‬كمـا كان منهـم‬
‫السـكرتري العـام الحتـاد الطلبـة العـام‪ ،‬جعفـر اللبـان‪ ،‬الطالـب الشـيوعي يف دار‬
‫املعلمين العاليـة‪ .‬واختـذ املؤتمـر قـرارا باالنضمـام إىل احتـاد الطلاب العالمي‪.‬‬
‫ورغـم أن االحتـاد لـم يعـش طويلا‪ ،‬إذ تعـرض للهجـوم الرجعي الذي شـن على‬
‫القـوى الديمقراطيـة بمجموعهـا‪ ،‬ويف مقدمتهـا احلـزب الشـيوعي العـرايق يف‬
‫صيـف العـام ذاتـه‪ .‬كمـا تعـرض كثيرا إىل تهويشـات ومضايقـات السـلطة‪،‬‬
‫وحيـل بينـ�ه وبين العمـل‬
‫ً‬ ‫والقـوى والصحـف «القوميـة» منـذ األيـام األوىل‪،‬‬
‫لتحقيـق العديـد مـن شـعاراته وقراراتـه‪ ،‬إال أنـه ظـل حيـا يف وجـدان الطلبـة‬
‫وأذهانهـم لسـنوات طويلـة مـن بعـد‪ ،‬وظلـت تقاليـد العمـل فيـه حيـة‪ ،‬وقـد‬
‫‪381‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪10 10‬‬
‫واصـل مسيرته وشـارك ىف نضـاالت الشـعب ىف عقـد اخلمسـين�ات‪.‬‬
‫اجلبهـة الثانيـ�ة التي افتتحهـا احلزب لالرتفاع بوعي الشـعب وتشـديد‬
‫ضغطـه علـى احلكـم كانـت جبهـة العمـال‪ .‬لقـد اسـتجابت الطبقـة العاملـة‬
‫العراقيـة إىل دعايـة احلـزب وحتريضـه بعـد الوثبـ�ة بيسـر أكبر‪ ،‬واتسـعت‬
‫حركتهـا اإلضرابيـ�ة كثيرا حتى كادت أن تشـمل معظـم التحشـدات العماليـة‪.‬‬
‫وكمـا كتبـت صحيفـة (صـوت األحـرار) لسـان حـزب األحـرار يف يومهـا‪:‬‬
‫بصفوفهـم خيرتقـون الشـوارع يوميـا‪ ،‬ويملـؤون الفضـاء‬ ‫العمـال ً‬
‫«إن ً‬
‫صراخـا وعويلا مطالبين النظـر يف شـؤونهم املعاشـية‪ ،‬ويـكاد ال يمـر‬
‫يـوم إال وجندهـم هاجئين ماجئين يسـدون املسـالك والطـرق علـى‬
‫المـارة يف مظاهراتهـم الصاخبـة‪ ،‬مناديـن بمطالبهـم املكتــوبة علـى‬
‫‪11 11‬‬
‫الشــــــعارات»‪.‬‬

‫وكان أول مـن بـادر إىل اإلضـراب يف تلك األيام هم عمـال النفط يف (عني‬
‫زالـه) جنـوب املوصـل‪ -‬ففـي شـباط ‪ ،1948‬أضـرب عمـال النفـط يف احلقـل‬
‫املذكـور مطالبين بزيـادة أجورهـم وخفـض سـاعات العمـل إىل ‪ 45‬سـاعة يف‬
‫األسـبوع‪ ،‬وإجـازة نقابـة عمـال النفـط‪ .‬واسـتمر إضرابهم لعشـرة أيـام‪ .‬ويف ‪18‬‬
‫آذار ‪ 1948‬أضـرب عمـال السـكك يف بغـداد لنفـس املطالـب‪ .‬ثـم عـادوا إىل‬
‫اإلضراب يف ‪ 14‬نيسان للمطالب ذاتها وشكلوا جلنة لإلضراب قادها العامالن‬
‫رضـا احلـاج هويـش وزاهـد محمـد‪ ،‬وقـد حـاول البوليـس قمـع اإلضـراب‪،‬‬
‫واعتقـل للغرض نفسـه عـددا من العمال مـن بينهم زاهد محمـد‪ .‬لكن العمال‬
‫حتـدوا السـلطة‪ ،‬ويف منتصـف ليلـة ‪ 16‬نيسـان قـاد العامـل الشـيوعي عبـاس‬
‫سـميج مظاهـرة ضمـت عمـال السـكك يف الشـاجلية وعوائلهـم سـارت حنـو‬
‫دار رئيـس الـوزراء يف الكاظميـة مطالبـة بإجـازة نقابـة عمـال السـكك وإطلاق‬

‫‪ .10‬اســتن�دنا فيمــا أردنــاه مــن معلومــات عــن املؤتمــر والهيئـ�ات والقــرارات الــي تمخضــت‬
‫عنــه علــى الكــراس الــذي أصــدره احتــاد الطلبــة العــام والــذي حيمــل عنــوان (رد مكتــب‬
‫ســكرتارية احتــاد الطلبــة العــام علــى تهويشــات أبطــال البيــ�ان الصغــر) وقــد طبــع يف‬
‫مطبعــة احلضــارة عــام ‪ ،1950‬وهويــرد علــى بيـ�ان أصــدره الطــاب «القوميــون» ليــرروا‬
‫فيــه مقاطعتهــم ملؤتمــر الســباع‪ .‬كذلــك اســتقين�ا مــن مقالــة الدكتــور فــاروق برتــو الــي‬
‫أوردت ذكرياتــه الشــخصية يف هــذا الشــأن (الثقافــة اجلديــدة‪ ،‬العــدد ‪)293‬؛ ومــا أورده‬
‫بطاطــو عــن املؤتمــر‪ ،‬الكتــاب الثــاين‪ ،‬ص ‪.274‬‬
‫‪( .11‬صــوت األحــرار)‪ 3 ،‬نيســان ‪ ،1948‬نقــا عــن حبــث مســحوب بالرونيــو أعــده الدكتــور‬
‫يوســف اليــاس والدكتــور عبــد العزيــز وطبــان حــول نشــأة وتطــور الطبقــة العاملــة يف‬
‫العــراق إىل معهــد العمــل العــريب يف اجلزائــر‪ ،‬عــام ‪.1979‬‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪382‬‬

‫سـراح العمـال املعتقلين زاهـد محمـد ورفاقـه‪ ،‬وأحاطـوا بـدار رئيـس الـوزراء‬
‫وهـم يـرددون الهتافـات ولـم يتفرقـوا إال بعـد أن وعدهم رئيس الـوزراء بتحقيق‬
‫مطالبهـم‪ .‬واتسـع اإلضـراب بعـد أن ماطلـت مديريـة السـكك‪ ،‬إذ انضـم إىل‬
‫عمـال الشـاجلية عمـال السـكك يف غـريب بغـداد ويف شـمال بغـداد‪ ،‬ويف أقسـام‬
‫الهندسـة والطباعـة واملخـازن وحتى عمـال اخلدمـات يف سـكك احلديـد مـن‬
‫فالحين وكناسين وغريهـم‪ .‬وأصدرت جلنة اإلضـراب نداءات متعـددة دعت‬
‫فيهـا العمـال إىل االحتـاد ومواصلة التحـدي حىت حتقيق النصـر‪ .‬وأصدر احلزب‬
‫الشـيوعي بي�انـا هاجـم فيه موقـف احلكومة وإدارة السـكك من العمـال‪ ،‬ودعا‬
‫العمـال املضربين إىل مواصلـة إضرابهـم بصالبـة حتى حتقيـق مطالبهـم‪ ،‬وقـد‬
‫اضطـرت مديريـة السـكك إزاء إصـرار العمـال إىل توقيـع بيـ�ان مشترك مـع‬
‫جلنـة اإلضـراب تعلـن فيـه أن ال مانـع لديهـا مـن أن يؤلـف العمـال نقابـة لهـم‪،‬‬
‫وإعـادة العمـال املفصولين خلال سـنة ‪ ،1948‬ودفـع أجـور أيـام اإلضـراب‪.‬‬
‫لكنهـا كعادتهـا عـادت إىل التسـويف يف حتقيـق مطالـب العمـال‪ ..‬لذلـك عادوا‬
‫إىل اإلضـراب يف ‪ 12‬أيـار حتى فاجأهـم إعلان األحـكام العرفيـة يف البلاد‪.‬‬
‫وشـهد آذار حركـة إضرابيـ�ة بين عمـال النسـيج يف بغـداد بدأهـا عمـال‬
‫نسـيج محمـد صالـح يف األعظميـة وتبعهـم مـن بعد عمـال معمل نسـيج فتاح‬
‫باشـا يف الكاظميـة‪ ،‬وكان العمـال خيرجـون يف مظاهـرات حتى وزارة الشـؤون‬
‫االجتماعيـة‪ ،‬وكانـت آنـذاك يف شـارع الرشـيد (السـنك)‪.‬‬
‫وخاض عمال املين�اء سلسـلة من اإلضرابات بدأت يف ‪ ٤‬نيسـان وتكررت‬
‫يف ‪ ٦‬نيسـان و‪ 2‬أيـار و‪ 18‬أيـار مطالبني بزيادة أجورهم وحتسين أوضاع عملهم‬
‫والكـف عـن مضايقـة عملهـم النقـايب‪ .‬وكانـوا يعقـدون اجتماعـات حاشـدة‬
‫ويوميـة يف مقـر نقابتهم يف (املعقـل) ويتوىل فيها القادة النقابيون الشـيوعيون‬
‫عبـد احلسـن جبـار وابراهيـم منصـور وغريهـم إلقـاء اخلطـب واملحاضـرات‬
‫لتثقيـف العمال‪.‬‬
‫وأسـهم يف احلركـة اإلضرابيـ�ة يف البصـرة عمـال البلديـة‪ ،‬وقـد لقـي‬
‫إضرابهـم مسـاندة واسـعة مـن جماهير البصـرة‪ ،‬وتبعهـم عمـال السـفن‬
‫(الدوكيـارد) يف العشـار‪ ،‬وعمـال مشـروعي المـاء والكهرباء‪ ،‬ويف بغـداد أضرب‬
‫كذلـك عمـال شـركة السـمنت العراقيـة‪ ،‬وعمـال شـركة هولـوي لإلنشـاءات‬
‫التي كانـت تتـوىل إنشـاء اجلسـر احلديـدي يف الصرافيـة‪ ،‬ويف كركـوك أضـرب‬
‫عمـال النفـط‪.‬‬
‫وكان أضخـم اإلضرابـات وأطولهـا وأبعدهـا أثرا إضراب عمـال النفط يف‬
‫‪ K3‬قـرب حديثـ�ة‪ .‬ومحطـة ‪ K3‬هي أكبر املحطات الواقعة علـى خط األنابيب‬
‫إىل البحـر األبيـض املتوسـط إىل طرابلـس وحيفـا‪ .‬وكانـت خطـوط األنابيـب‬
‫‪383‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫هـذه هـي الوحيـدة يومـذاك التي تنقـل النفـط العـرايق اىل األسـواق اخلارجية‪.‬‬
‫واملحطـة مبنيـ�ة علـى رابيـ�ة تشـرف علـى قـرى (احلقالنيـ�ة) و(بروانـه)‬
‫و(حديثـ�ة)‪ ،‬ويعمـل فيهـا أكثر مـن ألفـي عامـل جـاءوا إليهـا مـن أحنـاء مختلفة‬
‫مـن البلاد ومـن أديـان وقوميـات مختلفـة‪ .‬كانـت تقـود اإلضـراب جلنـة مـن‬
‫العمـال كان على رأسـها العامل الشـيوعي (شـنور عـوده) وكان معلما مفصوال‬
‫ألسـباب سياسـية عام ‪ 1946‬وجاء يعمل هنا كرباد‪ .‬وتفرع عن اللجنة القائدة‬
‫جلـان فرعية تولت اإلشـراف على متطلبات العمـال املضربني وحماية املحطة‬
‫مـن التخريـب‪ -‬حتى توزيـع البانزين يف محطـات الضخ كان خيضـع إىل مراقبة‬
‫جلنـة اإلضـراب وموافقتها‪.‬‬
‫وكانـت مطالـب العمـال تنحصـر يف زيـادة أجورهـم ومعادلتهـا بمـا‬
‫يتقاضـاه أقرانهـم يف كركـوك‪ .‬وإعطائهـم املخصصـات اليت منحـت إىل رفاقهم‬
‫يف كركـوك‪ ،‬وطالبـوا بأجـور العمـل اإلضـايف‪ ،‬وبتحسين الطعـام الـذي يقـدم‬
‫لهـم‪ ،‬وغريهـا مـن املطالـب التي ختـص جوانـب حياتهـم األخـرى‪ .‬وقـد توسـع‬
‫اإلضـراب ليشـمل عمـال النفـط يف محطـات الضـخ األخـرى مثـل ‪K2 , H1‬‬
‫‪ . H2, H3, T1‬جـرت مفاوضـات بين العمـال وممثلـي شـركة النفـط‪ ،‬إال أن‬
‫نت�اجئهـا لـم ترض العمـال لذلك واصلـوا إضرابهـم‪ .‬وقد وقفـت حكومة الصدر‬
‫بقـوة إىل جانـب شـركة النفـط‪ .‬وبعثـت وزارة الشـؤون االجتماعيـة بكتـاب إىل‬
‫الشـركة تطالبها بالتشـدد يف تدقيق السـلوك السـيايس للعمال عند تعيينهم‪،‬‬
‫واقرتحـت أن يتـم ذلـك عـن طـرق دوائر األمـن‪ .‬وسـارعت السـفارة الربيطاني�ة‬
‫مـن جانبهـا إىل حتذيـر احلكومـة مـن أن أرواح الربيطانيين يف املحطـة باتـت‬
‫يف خطـر‪ .‬علـى هـذا األسـاس شـرعت احلكومـة ىف اختـاذ اإلجـراءات لكسـر‬
‫اإلضـراب‪ .‬وأصـدر متصـرف اللـواء بي�انـا هـدد فيـه بـأن الشـركة سـتفصل‬
‫كل عامـل ال يعـود إىل عملـه يف الوقـت املحـدد‪ ،‬وسـتتخذ احلكومـة اإلجـراءات‬
‫الشـديدة جتـاه كل من يعترض عامال يعود إىل عمله‪ .‬وبادرت الشـركة إىل قطع‬
‫والكهربـاء عـن بيـوت العمـال‪ .‬وجتاهلت احلكومـة مذكرة للعمـال وقعها‬
‫ً‬ ‫المـاء‬
‫‪ 3118‬عاملا يشـكون فيهـا مـن سياسـة الشـركة اجلائـرة حنوهـم‪ .‬وقـد لقـي‬
‫اإلضـراب مسـاندة واسـعة مـن كافـة النقابـات العماليـة‪ ،‬واحتـج أهـايل القرى‬
‫املحيطـة علـى اإلجـراءات التي جلـأت إليهـا الشـركة واحلكومة إلرغـام العمال‬
‫علـى العمـل‪ -‬ولقـي اإلضـراب تعاطفـا حـارا مـن جانـب الصحـف الوطنيـ�ة‪،‬‬
‫وكتـب محمـد مهـدي اجلواهـري مقـاال افتت�احيـا يف جريـدة (العصـور) حتـت‬
‫عنـوان (أيريـدون إعـادة مذحبـة كاوورباغـي؟ )‪ .‬لـم تكتـف احلكومـة بتجاهـل‬
‫نـداءات العمـال‪ ،‬بل دخلت الشـرطة يف سـياراتها املسـلحة يف ‪ 11‬مايـس (أيار)‬
‫إىل مخيـم العمـال داخل املحطة وأجربت بعضهم بالقـوة على العودة إىل العمل‬
‫بينمـا تمكـن اآلخـرون مـن اإلفلات من بطـش البوليس وسـاروا خـارج املحطة‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪384‬‬

‫متجهين يف مسيرة احتجاجيـة حنـو بغـداد سيرا علـى األقـدام‪ .‬وقـد وجـدوا يف‬
‫طريقهـم تعاطفـا حـارا مـن فلايح القرى وسـكان املـدن الذيـن كانـوا يزودونهم‬
‫بالطعـام وبوسـائط النقـل التي تنقلهـم إىل مدينـ�ة بعـد أخـرى‪ .‬إال أن قـوات‬
‫البوليـس عـادت وهاجمتهـم عنـد (الفلوجـة) وكانـت األحـكام العرفيـة قـد‬
‫أعلنـت يف البلاد باسـم حـرب فلسـطني‪ ..‬واعتقلت جلنـة اإلضـراب ‪15‬عامال‬
‫آخـر وأحالتهـم جميعـا إىل املجلـس العـريف العسـكري باسـم تهديد أمـن البالد!‬
‫وهكـذا انتهـى هـذا اإلضـراب العمـايل ومسيرتهم البطوليـة التي ظلـت أجيال‬
‫‪12 12‬‬
‫املنطقـة تتن�اقـل أخبارهـا وتشـيد بهـا‪.‬‬
‫لقـد تميزت احلركـة اإلضرابيـ�ة يف تلـك األيـام بالوعـي العـايل وبالسـعة‬
‫والتضامـن واملثابـرة واالنتظـام‪ .‬ولم تقتصـر مطالب العمال على زيـادة األجور‬
‫وحتسين أوضـاع العمل ومـا يماثلها من مطالـب وإنما جتاوزتهـا إىل اإلضرابات‬
‫التضامني�ة والرتكزي على حق التنظيم النقايب‪ ،‬واملساهمة يف النشاط السيايس‬
‫العـام‪ .‬واحتفلـت نقابـات العمال يف ذلك العـام بالعيد األميم للعمـال يف األول‬
‫مـن أيـار‪ ،‬إذ عقـد عمال بغـداد اجتماعا عاما يف إحدى دور السـينما‪ ،‬كذلك فعل‬
‫عمـال البصـرة الذيـن أضافـوا إىل اجتماعهـم السير بمظاهـرة كبيرة يف شـوارع‬
‫املدين�ة‪.‬‬
‫لقـد أرعبـت هـذه احلركـة العماليـة الواسـعة واملتواصلـة البورجوازيـة‬
‫العراقيـة جبناحيهـا‪ ،‬الكومبرادوري املتعـاون مـع االسـتعمار والوطني املتمثـل‬
‫باألحـزاب العلنيـ�ة الثالثـة‪ .‬وقـد تـردد يف حينهـا أن نـوري السـعيد قـد صـرح يف‬
‫اجللسـة املشتركة ملجليس النواب واألعيان يف تشرين الثاين ‪ 1948‬أن أحداث‬
‫كانـون الثـاين (ويعني بهـا «الوثبـ�ة») لم ختفـه بقدر مـا أخافته أحداث نيسـان‬
‫وأيـار (ويعني بهـا إضرابـات العمال)‪ .‬وقد وصفـت مجلة تريبيـون الربيطاني�ة‬
‫الوضـع يف العـراق يف شـهري آذار ونيسـان بقولهـا‪:‬‬
‫«إن الوضـع احلـايل يف العـراق هـو حبالـة شـديدة مـن الثـورة‪ .‬وإن هـذا‬
‫الوضع تعبري عن االسـتي�اء العام ضـد احلكومة وضد الطبقة احلاكمة‬
‫‪13 13‬‬
‫وضـد اإلجنليز بالدرجـة الرئيسـية»‪.‬‬

‫‪ .12‬اعتمدنــا فيمــا أوردنــاه بشــأن إضرابــات العمــال علــى تقريــر د‪ .‬يوســف اليــاس ود‪.‬‬
‫عبــد العزيــز وطبــان الــذي أشــرنا إليــه؛ وعلــى كتابن ـ�ا (مســاهمة يف كتابــة تاريــخ احلركــة‬
‫العماليــة يف العــراق)؛ ومــا أقــره بطاطــو يف الفصــل الثــاين عشــر مــن كتابــه الثــاين‪ ،‬ص ‪221‬‬
‫و‪287-280‬؛ وجعفــر عبــاس حميــدي‪ ،‬يف كتابــه‪ :‬التطــورات السياســية يف العــراق ‪.1941‬‬
‫‪،1953‬ص ‪.573 - 557‬‬
‫‪ .13‬جعفر عباس حميدي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.573‬‬
‫‪385‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫تعـود بدايـات النزاع بين الفالحين واملالكين يف عـه ربـت والقـرى‬


‫املحيطـة بهـا حتى بانيخيلان وده ردويـن إىل مـا قبـل الوثبـ�ة‪ ،‬إىل عـام ‪1947‬‬
‫واسـتمر هـذا النزاع يف عـه ربـت حتى خريـف ‪ ،1948‬أمـا يف بانيخيلان والقرى‬
‫األخـرى فقـد امتـد إىل مـا بعد ذلـك‪ .‬وقد تأثر هـذا النزاع باألوضاع السياسـية‪،‬‬
‫وبالنشـاط السـيايس للحزب الشـيوعي العرايق بني الفالحني بصورة مباشـرة‪.‬‬
‫ويرجـع نفـوذ احلـزب بين الفالحين هنـا إىل وجـود عـدد مـن رفـاق احلـزب يف‬
‫املنطقـة‪ ،‬ويف مقدمتهـم أسـعد بانيخيلاين وأخيـه أحمـد بانيخيلاين (أبـو سـه‬
‫ربـاز)‪ .‬وكانـت ملكيـة األرض يف املنطقة ختتلـف فيما بينها‪ .‬فبينمـا كان بعضها‬
‫ملـكا للفالحين يف صـورة ملكيـات صغيرة‪ ،‬كانـت هنـاك أراض أمرييـة أخـرى‬
‫يسـتأجرها الفالحـون‪ ،‬فيمـا كانـت أرايض بانيخيالن وده ره دوين ملكا حلسـن‬
‫بـك اجلـاف (وهو مالك كبري) وختتلـف الزراعات يف هذه القـرى‪ .‬فبعضها يزرع‬
‫القمـح والشـعري‪ ،‬بينمـا يـزرع بعضهـا األخـر الشـلب (الـرز) والتبـغ ومحاصيـل‬
‫صيفيـة أخـرى‪ .‬لقـد اسـتطاعت عائلة الشـيخ محمـود احلفيد أن تمـد نفوذها‬
‫إىل مناطـق عـه ربـت وحين عمـد إىل تقسـيم أراضيه بين أوالده كانـت هذه من‬
‫نصيـب ابنـ�ه الشـيخ لطيـف‪ .‬وقد عامـل هذا الفالحني بقسـوة وفـرض عليهم‬
‫كثيرا من اإلتـاوات‪.‬‬
‫وكان نشـاط الشـيوعيني هنـا يـدور حـول املطالبـة أوال بمطالـب‬
‫جماهرييـة عامـة‪ .‬ولكن منذ تشـرين الثاين ‪ 1947‬تطورت حركـة الفالحني إىل‬
‫نـزاع مكشـوف مع الشـيخ لطيف إذ ضربـوا وكالءه وطردوهم مـن القرية برغم‬
‫حتذيراتـه‪ .‬فأرسـل هـو ‪ 400‬مـن رجالـه املسـلحني إىل القريـة وقبضـوا علـى‬
‫بعـض الفالحين الذين تمردوا عليه وجلدوهم أمام أنظار سـكان القرية‪ .‬إال أن‬
‫عملـه هـذا لقي االسـتنكار الواسـع يف كل لواء السـليماني�ة‪ ،‬ونشـطت منظمات‬
‫احلـزب الشـيوعي للدعـوة إىل مناصـرة الفالحين‪ .‬فسـارعت احلكومـة إىل‬
‫إرسـال جلنـة تسـوية حقـوق األرض يف املنطقـة‪ .‬ولمـا كان الفالحـون يملكـون‬
‫الوثائـق التي تؤكـد ملكيتهـم للأرض جـاءت قـرارات التسـوية لصاحلهـم إال‬
‫أن الشـيخ لطيـف لـم يلتزم بهـا ‪ ٠‬يف هـذا املنعطـف جـاء انتصـار الشـعب يف‬
‫الوثبـ�ة فرفـع هـذا معنويـة الفالحين كثيرا‪ .‬واضطـرت احلكومـة حتت ضغط‬
‫املنظمـات الشـيوعية واملوقـف الصلـب للفالحين أن جترب الشـيخ لطيف على‬
‫مغـادرة املنطقـة والكـف عـن التحـرش بالفالحين‪ .‬إن عمق مقاومـة الفالحني‬
‫مـن جانـب وتزايـد نـذر اإلرهـاب يف البلاد بعـد إعلان األحـكام العرفيـة دفـع‬
‫كال الطرفين إىل القبـول بتسـوية تقـوم علـى أسـاس إقـرار الشـيخ لطيـف‬
‫حبـق الفالحين يف األرض‪ ،‬والكـف عـن جمـع اإلتـاوات منهـم مقابـل أن يدفـع‬
‫الفالحـون للملاك ثمـن احلاصـل لقـاء االنتفـاع بميـاه الـري اليت يدعـي املالك‬
‫ملكيتهـا‪( .‬راجـع يف هذا الشـأن مذكـرات أحمـد بانيخيالين)‪ .‬وسـنأيت فيما بعد‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪386‬‬

‫علـى التطـورات التي حصلـت يف املنطقـة يف السـنوات التاليـة‪.‬‬


‫الحظنـا أن الفئـة احلاكمـة شـرعت تعـد عدتهـا السـتعادة املبـادرة مـن‬
‫الشـعب منـذ األيـام األوىل اليت تلت (الوثبـ�ة)‪ .‬فربغم أن صفوفهـا قد ارتبكت‬
‫يف األيـام األوىل إال أنهـا سـارعت لتلملـم قواهـا ‪ ٠‬وكان يهمهـا أوال أن تفكك قوى‬
‫الشـعب مسـتهدفة بوجه خاص عزل قوى احلزب الشـيوعي‪ .‬فاستطاعت أن‬
‫تبعـد «القوميين» من مناصـري حزب االسـتقالل وغريه عن القـوى الوطني�ة‬
‫الديمقراطيـة‪ ،‬وجنحـت يف جرهـم للمشـاركة يف احلكم وكسـب تأيي�دهم له‪ .‬إذ‬
‫راحـت تـويح لهـم أن مشـاركتهم يف وزارة الصـدر هـو مكانهـم الطبيعـي ولذلك‬
‫باتـوا يعارضـون كل دعـوة تنـ�ال منهـا رغـم أنهـم كانـوا ممثلين فيهـا حبقيبـ�ة‬
‫ثانويـة (وزارة التمويـن) ولـم يكـن ممثلهـم فيهـا مؤثـرا‪ ،‬وذهبـوا إىل حـد أنهـم‬
‫عارضـوا يف جلنـة احتـاد املعاهـد العاليـة للطلبـة طـرح شـعار «تمثيـ�ل األحزاب‬
‫يف الـوزارة ضـرورة وطنيـ�ة ملحـة» ‪ 14 14‬وتن�اسـوا هنا حىت حلفاءهـم املعتادين يف‬
‫احلزبين الوطني الديمقراطـي واألحرار‪.‬‬
‫وكانـت الدوائـر االسـتعمارية تؤجـج لديهـم العـداء ضـد الشـيوعية‬
‫مسـتغلة بوجـه خـاص نشـاط اليهـود يف صفـوف احلـزب الشـيوعي فيمـا‬
‫هـم ال يميزون بين اليهوديـة كديـن والصهيونيـ�ة كمذهـب سـيايس‪ .‬وأمكـن‬
‫لرجـال االسـتعمار واملتعاونين معـه أن جيندوهـم ضـد احلـزب واليسـار عامة‪.‬‬
‫وحتـت سـتار «القوميـة» ومحاربة «اإلحلـاد» ومعـاداة «الصهيونيـ�ة» أمكن‬
‫لهـؤالء أن جينـدوا فئـات أخـرى مـن العناصـر املتخلفـة والتي أشـرنا إليهـا مـن‬
‫قبـل وكانـت حتيـط أذرعتهـا التي حتمـل العصي وتضـرب املتظاهريـن حتـت‬
‫سـمع البوليـس وبصـره‪ ،‬بعبـارة «يـد هللا»‪ .‬لقـد تـردد يف حينهـا أن عناصـر من‬
‫«اإلخـوان املسـلمني» قـد نشـطت آنـذاك‪ ،‬وأنهـا أسـهمت يف االعتـداء علـى‬
‫املظاهـرات واملواكـب حتـت شـعار محاربـة «اإلحلـاد»‪ .‬ال نملـك مـا يؤكـد هذه‬
‫الشـائعات وإن كان ناقلوهـا يرددونهـا وكأنهـا حقيقـة مسـلم بهـا‪ .‬إال أن تقريـرا‬
‫ملديريـه الشـرطة العامـة مرسلا إىل وزارة الداخليـة يف كانـون األول ‪ 1948‬قـد‬
‫حتـدث عن نشـاط للمفوضية السـعودية كان قد جرى مع بعـض أعضاء حزب‬
‫االسـتقالل أيـام الوثبـ�ة‪ .‬فهـل ثمـة عالقـة بين تلـك الشـائعات واعتـداءات‬
‫‪15 15‬‬
‫جماعـة «يـد هللا» ومـا يتحـدث بـه تقريـر مديريـة الشـرطة العامـة‪.‬‬
‫لقـد حتولـت تلك االعتـداءات وسـيلة أشـهرتها القوى الرجعيـة للهجوم‬
‫علـى قـوى احلـزب الشـيوعي واليسـار عامـة‪ ،‬يف وقـت كانـت تتحـرج فيـه مـن‬

‫‪ .14‬كراس سكرتارية احتاد الطلبة‪ ،‬مصدر سابق‪،‬ص‪. 8‬‬


‫‪ .15‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.215‬‬
‫‪387‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫اسـتخدام البوليس لفض النشـاطات اجلماهريية بصورة مكشوفة‪ .‬ويعطين�ا‬


‫االعتـداء علـى طلاب كليـة فيصـل وهـم يف كليتهم مثـاال على هذه السياسـة‪.‬‬
‫كانـت كليـة فيصل‪ ،‬وهـي ثانوية خاصة أوىص بت�أسيسـها املستشـارون‬
‫الربيطانيـون ىف املعـارف‪ ،‬مكرسـة لتعليـم الطلاب املتفوقين يف عمـوم البلاد‬
‫بعـد عـام ‪ ،1941‬وكان جيـري التعليـم فيهـا باللغـة اإلجنلزييـة وتديرهـا إدارة‬
‫بريطانيـ�ة وفـق برامـج خاصـة هـي أرفع مـن برامـج الثانويـات العامـة األخرى‪.‬‬
‫وقـد اختير لهـا يف البدايـة قصـر عبـد الهادي اجللبى جبـوار (مدينـ�ة احلرية) يف‬
‫الكاظمية‪ ،‬ثم نقلت من بعد إىل األعظمية‪ .‬وكانت اخلطة أن يبعث خريجوها‬
‫إىل إنكلترا ملواصلـة تعليمهـم‪ .‬وقـد حتولـت هـذه الكليـة إىل واحـدة مـن معاقـل‬
‫احلزب الشـيوعي‪ ،‬وسـاهم عديد من منتسـبيها ىف احلركة اليسـارية واحلزب‬
‫الشـيوعي بوجه خاص‪ ،‬أمثال عامر عبد هللا ونوري عبد الرزاق وحمزة سـلمان‬
‫وهـادي عبـد الرضـا وعبـد الـرزاق مطـر وباقـر ابراهيـم وديل مريـوش وزاهـد‬
‫محمـد وواركيـس سـركيس وسـايم أحمـد وكثيريـن غريهم‪ .‬وبسـبب إضراب‬
‫طويـل عـن الدراسـة أقـدم عليـه ُطالبهـا يف عـام ‪ 1947‬احتجاجـا علـى تعامـل‬
‫إدارة الكليـة الفـظ مـع طالبهـا‪ ،‬فصـل عديـد مـن الطلاب‪ ..‬ومـع ذلـك ظـل‬
‫نفـوذ احلـزب الشـيوعي فيها واسـعا‪ .‬وقد سـاهم طالبها حبماسـة مـع الطالب‬
‫اآلخريـن يف وثبـ�ة كانـون‪ .‬وألن الكليـة تقـع يف وسـط اجتماعي معـاد لالجتاهات‬
‫اليسـارية‪ ،‬أصبحـت هدفا لالعتداءات بعد الوثب�ة‪ ،‬حتى بلغ احلال أن أقدمت‬
‫زمـر مـن العناصـر «القوميـة» يف األعظميـة‪ ،‬بالتعـاون مـع أجهزة األمـن‪ ،‬على‬
‫االعتـداء علـى طلاب الكليـة وهـم فيهـا يف وضـح النهـار يف السـادس مـن آذار‪،‬‬
‫وقـد شـمل اعتداؤهـم جميـع الطلبـة ودون تمييز‪ ،‬وتسـببوا يف جـرح ‪ 37‬طالبـا‬
‫منهـم‪ .‬لكـن احلكومـة بدال من معاقبـة املعتدين عمدت إىل غلـق الكلية وإعادة‬
‫جميـع الطلبـة إىل مدنهـم وفرضـت عليهم الـدوام يف املـدارس الثانويـة العامة‪.‬‬
‫لقـد أثـار هـذا االعتـداء اإلجرايم سـخط الطلبة يف الكليـات واملـدارس األخرى‪.‬‬
‫وقـد حـال ممثلـو القوى القوميـة يف جلنة احتاد طلبـة املعاهد العاليـة أن حيولوا‬
‫دون احتجـاج اللجنـة على هذا االعتـداء‪ ،‬إال أن غالبي�ة أعضاء اللجنة أحرجتهم‬
‫وصـدر بيـ�ان عنهـا يدين االعتـداء‪ .‬ويف ذات الوقت دعـت إىل التضامن واالحتاد‬
‫يف سـبي�ل حتقيـق األمـاين الوطنيـ�ة‪ ،‬واضطـر حـزب االسـتقالل إىل مشـاركة‬
‫احلزبين اآلخريـن‪ ،‬الوطني الديمقراطي واألحرار‪ ،‬إىل اسـتنكار االعتـداء ولكن‬
‫مـع اسـتنكار مـا دعتـه بالشـعارات االسـتفزازية يف ذات الوقـت وهـي إمـا لـم‬
‫ترفـع أصلا أو أن عناصـر اسـتفزازية كانـت تتعمـد رفعهـا للـدس عبر القـوى‬
‫‪16 16‬‬
‫الثوريـة‪.‬‬

‫‪ .16‬ىف الشــهادة الــي قدمهــا الشــهيد كامــل قزانــي أمــام محكمــة الشــعب لــدى‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪388‬‬

‫بعـد وثبـ�ة كانـون أطلـق سـراح زكـي خيري مـن الكـوت بعـد أن أمضى يف‬
‫السـجن والتوقيـف قرابـة السـنتني‪ .‬ومـع أنـه لم يكن آنـذاك عضـوا يف احلزب‬
‫الشـيوعي‪ ،‬إال أنـه كان ضمـن تنظيـم الشـيوعيني يف السـجن‪ 17 17 .‬وكمـا يذكـر‬
‫هـو يف مذكراتـه‪ ،‬كان علـى عالقـة وديـة بفهـد‪ .‬وكمـا يقـول ايضـا «خرجـت من‬
‫السـجن سـعيدا ال ملحـض حريتي بـل ألنين أيضـا حللـت عقـديت إزاء احلزب»‪.‬‬
‫‪ 18 18‬وتشـاور مـع رفاقـه يف (اللجنـة الوطنيـ�ة الثوريـة)‪ ،‬ويف إطـار األوضـاع‬
‫العامـة التي سـادت القـوى الثوريـة بعـد الوثب�ة‪ ،‬اقتنـع اجلميع حبـل منظمتهم‬
‫املذكـورة واالنتمـاء كأعضـاء إىل احلـزب الشـيوعي العـرايق‪.‬‬
‫وكان مـن بين الذيـن انتمـوا إىل احلـزب مـن أعضـاء املنظمـة املذكـورة‬
‫املحـايم شـريف الشـيخ‪ ،‬وهومـن عانـه مـن عائلـة معروفـة بنضالهـا الوطني‪،‬‬
‫وممـن تطوعـوا للدفـاع عـن فهـد ورفاقـه يف محاكمتهـم‪ ،‬وكان قـد حصـل منـذ‬
‫سـنوات على امتي�از جريدة يومية باسـم (األسـاس) وقد وضعها حتت تصرف‬
‫احلـزب‪ .‬ومـن أعضـاء املنظمـة أيضا جاسـم الطعـان وخالـد السلام وغريهما‪.‬‬
‫صـدرت (األسـاس) يف ‪ 3‬نيسـان ‪ .1948‬ولـم تعمـر طويلا‪ ،‬فقـد صدر‬
‫منهـا ثمانيـ�ة وأربعـون عـددا‪ ،‬وأغلقتهـا احلكومـة بعد إعلان األحـكام العرفية‪.‬‬
‫وسـرعان ما حتولت الصحيفة إىل جريدة واسـعة االنتشـار‪ ،‬وكان كتاب احلزب‬
‫يتولـون كتابة مقاالتها االفتت�احية‪ ،‬وقد لعبت اجلريدة دورا حتريضيا وتثقيفيا‬
‫كبيريـن‪ .‬ومـن خاللها بات احلزب ينشـط لالتصـال باملنظمـات الديمقراطية‬
‫الدوليـة كاحتـاد النسـاء الديمقراطـي العالمي واحتـاد الشـبيب�ة الديمقراطيـة‬
‫محاكمــة بهجــت العطيــة (مديــر األمــن العــام قبــل ‪ 14‬تمــوز) حتــدث عــن هــذه الشــعارات‬
‫االســتفزازية فقــال وهــو يتحدث عــن مظاهــرة ‪ 1948/1/23‬اليت كان يتقدمها «أثن�اء ســر‬
‫املظاهــرة صــرت أســمع هتافــات عرفــت أنهــا هتافــات مدسوســة علــى املظاهــرة ليســت مــن‬
‫الهتافــات الــي تســتوجبها الظاهــرة يف ذلــك الظــرف‪ ،‬هتافــات حبيــاة الشــيوعية‪ ،‬هتافــات‬
‫حبيــاة اجلمهوريــة احلمــراء‪ ،‬هتافــات يف ذلــك الوقــت ضــد البــاط» (محكمــة الشــعب‪،‬‬
‫اجلــزء ‪ ،8‬ص ‪ .)23/22‬واســتن�دنا بشــأن االعتــداء علــى كليــة فيصــل علــى مــا جــاء لــدى‬
‫احلســي‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪ 299‬وجعفــر حميــدي‪ ،‬ص ‪ 558‬ومــا جــاء يف (الثقافــة اجلديــدة)‬
‫العــدد ‪ ،294‬ص ‪ ،116‬ومــا جــاء يف رد مكتــب ســكرتارية احتــاد الطلبــة العــام‪ ،‬ص ‪.8‬‬
‫‪ .17‬يــروي صالــح احليــدري يف مذكراتــه (القســم األول‪ ،‬ص‪ ،)142‬أنــه كان مــن عــادة‬
‫فهــد يف ســجن الكــوت أن يســتضيف الســجناء السياســيني الوطنيــن الذيــن يودعــون يف‬
‫الســجن يف التنظيــم الــذي أوجــده ألســبوع‪ ،‬وبعــد األســبوع خيريهــم بــن البقــاء مــع تنظيــم‬
‫الشــيوعيني أو العيــش علــى انفــراد أو مــع السياســيني اآلخريــن مــن غــر الشــيوعيني‪ .‬وقــد‬
‫فعــل هــذا مــع محمــد الســعدون مــن احلــزب الوطــي الديمقراطــي‪ ،‬واقــرح علــى الســجناء‬
‫الشــيوعيني األكــراد اســتضافة عــوين يوســف لكنهــم رفضــوا‪.‬‬
‫‪ .18‬زكي خريي‪ ،‬صدى السنني يف ذاكرة شيوعي عرايق مخضرم‪ .‬ص ‪.140‬‬
‫‪389‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫العالمي وغريهمـا‪.‬‬
‫‪19 19‬‬

‫مـن بين اإلجـراءات التي اضطـرت حكومـة الصـدر علـى اختاذهـا حـل‬
‫املجلس الني�ايب الذي جاء به نوري السـعيد وذلك يف ‪ 22‬شـباط ‪ .1948‬وكانت‬
‫كل القـوى السياسـية الوطنيـ�ة قـد طالبـات حبلـه‪ .‬وفـور الشـروع باإلعـداد‬
‫لالنتخابـات بـدا واضحـا أن الفئـة احلاكمـة كانـت قـد أعـدت العـدة لفـرض‬
‫مجلـس نيـ�ايب يسـتجيب لما ختطط لـه‪ ،‬وأنها لن تتردد عن التدخـل بأية صورة‬
‫كانـت لفـرض مرشـحيها‪ .‬ففـي ‪ 21‬آذار ‪ ،1948‬اجتمـع رؤسـاء العشـائر يف دار‬
‫محسـن أبـو طبيـخ واختـذوا قـرارا يدعـو إىل «مقاطعـة كل دعايـة وكل عمـل‬
‫خيالـف منطـوق القوانين املرعيـة‪ ،‬والديانـات املعترف بهـا‪ ،‬وعـدم التفريـق‬
‫بين الطوائـف‪ ،‬والعناصـر‪ ،‬ومقاومـة الهدامين والطائفيين والعنصريين‬
‫والشـيوعني» و «تأييـ�د كل هيئـ�ة تطبـق القوانين وتراعـى العـدل»‪ ،‬وكانـوا‬
‫يعنـون بـكل هـذا الوقـوف ضـد مرشحي القـوى التقدميـة عامـة وهـذا مـا دلـت‬
‫عليـه حتركاتهـم‪ .‬وقـد بـدا «التدخـل يف االنتخابـات ظاهـرة ال يمكـن التستر‬
‫‪20 20‬‬
‫عليهـا‪ ،‬فكانـت معـارك كثيرا مـا أودت حبيـاة األبريـاء»‪.‬‬
‫خـاض احلـزب الشـيوعي العـرايق االنتخابـات طبقـا لتوجيهـات فهـد‪.‬‬
‫واالنتخابـات آنـذاك لـم تكـن مباشـرة‪ ،‬وإنمـا جتـري علـى درجتين‪ ،‬ينتخـب‬
‫الذكـور فقـط أوال بضـع عشـرات مـن املنتخبين الثانويين‪ ،‬وهـؤالء ينتخبـون‬
‫مـن بعـد واحدا مـن املرشـحني للني�ابـة ىف الدائرة املعينـ�ة‪ ،‬ويتعني على املرشـح‬
‫أن يدفـع تأمينـ�ات تبلـغ ‪ 100‬دينـ�ار‪ ،‬ويكـون هـذا املبلـغ إيـرادا لبلديـة القضـاء‬
‫إذا لـم حيصـل املرشـح علـى ‪ %10‬مـن أصـوات الدائـرة االنتخابيـ�ة‪ .‬وكانت هذه‬
‫الطريقـة تسـمح أكثر بالتالعـب والتهديـد إىل حـد بعيـد‪ .‬أمـا أعضـاء مجلـس‬
‫األعيـان فكانـوا يعينـون بـإرادات ملكيـة‪ .‬وكان جميعهـم مـن الفئـة احلاكمـة‪.‬‬
‫كانـت تلـك هـي املـرة األوىل اليت يشـارك فيها احلـزب الشـيوعي يف االنتخابات‬
‫الربلمانيـ�ة‪ ،‬ورغـم أن أعضـاءه لـم يكونـوا قـد تمرسـوا بالنشـاطات االنتخابي�ة‪.‬‬
‫ومـع أن الرجعيـة شـرعت تمـارس ضغطهـا إال أن األوضـاع السياسـية التي‬
‫سـادت البلاد بعـد الوثبـ�ة كانـت التـزال توفـر للشـيوعيني بعـض احلريـة يف‬
‫التحـرك‪ .‬وفـد دخـل احلـزب احلملـة االنتخابيـ�ة منفـردا يف بعـض الدوائـر أو‬
‫بالتعاطـف مـع بعـض القـوى اليسـارية أو املسـتقلني الديمقراطيين يف دوائـر‬
‫أخـرى‪ .‬وعلـى هـذا األسـاس رشـح احلـزب شـريف الشـيخ‪ ،‬وامللاك الكـردي‬
‫املسـتقل محمد هماوند عن السـليماني�ة‪ .‬ويف بغداد رشـح أحد مؤازريه‪ ،‬محمد‬
‫زكـي عبـد الكريـم عـن الدائـرة األوىل‪ .‬ورشـح يف البصـرة اثنين مـن أعضائـه‬
‫‪( .19‬املوسوعة السرية) الثاني�ة‪ ،‬ص ‪.279‬‬
‫‪ .20‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات‪ ،‬ج‪ ،7‬ص ‪.325‬‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪390‬‬

‫أحدهمـا عبـد الهـادي ابراهيـم‪ ،‬ويف العمـارة سـاند بـكل ثقلـه هناك املرشـح عن‬
‫حـزب الشـعب املحايم عبـد الرزاق زبري‪ ،‬وسـاند كذلك بقوة املرشـح يف املوصل‬
‫املحـايم كامـل قزانجي‪ .‬وكان واضحـا يف الدوائـر التي رشـح فيهـا أو سـاند أحـد‬
‫املرشـحني الديمقراطيين أن الفـوز سـيكون مـن نصيبـ�ه‪ ،‬وتأكـد هـذا مـن فـوز‬
‫قوائـم املنتخبين الثانويين اليت اختارهـا ىف البصرة والسـليماني�ة والعمارة‪ .‬ويف‬
‫بعضهـا (السـليماني�ة) جـاء الفـوز سـاحقا‪ 21 21 .‬وقـد اسـتغل احلـزب احلملـة‬
‫االنتخابيـ�ة لنشـر شـعاراته وأفـكاره بصـورة واسـعة‪ .‬وكان يعقـد لهـذا الغـرض‬
‫اجتماعـات جماهرييـة حتضرهـا أعـداد كبيرة مـن النـاس‪ .‬وكمثـال علـى ذلـك‪،‬‬
‫‪22 22‬‬
‫نذكـر هنـا االجتماعـات االنتخابيـ�ة التي كان يعقدهـا يف مقهى ابراهيـم عرب‬
‫‪ ،‬وهـي مقهـى واسـعة تكتـظ عـادة بطلاب الكليـات‪.‬‬
‫بيـ�د أن األمـور تغيرت بشـكل مفـائج ومعاكـس بعـد أن أعلنـت األحكام‬
‫العرفية يف ‪ 15‬أيار حبجة حماية مؤخرة اجليش الذي أرسـل إىل فلسـطني بزعم‬
‫حتررهـا‪ ،‬إذ بـدأت حملـة املطـاردات واالعتقـاالت ضـد الشـيوعيني وكل القوى‬
‫الوطنيـ�ة املعارضـة‪ ،‬ولـم يسـلم مـن التدخـل السـافر والعـدايئ حتى مرشحي‬
‫حـزب االسـتقالل يف بعـض الدوائـر‪ ،‬واسـتخدم التدخـل الـذي مارسـته قـوى‬
‫عشـائرية وشـقاوات وزمر مسـلحة مأجـورة حىت القوة املسـلحة وإطلاق النار‬
‫وقتـل األبريـاء ممـا حمـل جميع األحـزاب‪ ،‬العلنيـ�ة منهـا والسـرية إىل مقاطعة‬
‫االنتخابـات‪ ،‬وبلـغ احلـال أن أقدمـت السـلطة علـى اعتقـال بعـض املرشـحني‬
‫إىل املجلـس النيـ�ايب وكان من بني هؤالء مرشـح احلزب يف السـليماني�ة‪ ،‬شـريف‬
‫الشـيخ‪ .‬وللتدليـل علـى غـرض احلكومـة مـن تزويـر االنتخابات سـارع احلزب‬
‫يف بيـ�ان إىل اجلماهير إىل نشـر تقريـر وضعـه املسـؤول عن تسـيري دفة النشـاط‬
‫التجسسي الربيطـاين ىف العراق‪.‬‬
‫خاطب البي�ان أبن�اء الشعب بكافة طبقاته وقومياته قائال‪:‬‬
‫إليكـم أيهـا األحـزاب الوطنيـ�ة‪ ،‬إليكم أيها العـرب واألكـراد وإليكم أيها‬
‫العمـال والفالحـون وإليكـم يـا أبنـ�اء العشـائر ورجـال الدين مـن خلفاء‬
‫الشيرازي واخلالصي واملؤتمين بهمـا‪ ،‬إليكـم أيهـا الطلاب واملثقفـون‬
‫والكسـبة والتجـار واملهنيـون‪ .‬إليكـم أيهـا املواطنـون الشـرفاء‪ .‬رجـاال‬
‫ونسـاء ومن جميع األديان والقوميـات والطوائف نوجه نداءنا وحتذيرنا‬
‫إياكـم باخلطـر املحـدق بشـعبن�ا ووطنـا مـن جـراء خطـط االسـتعمار‬

‫‪ .21‬بهــاء الديــن نــوري‪ ،‬مذكــرات بهــاء الديــن نــوري‪ ،‬مطبعــة جامعــة صــاح الديــن‪ ،‬ط ‪،2‬‬
‫آذار ‪ ،1995‬كردســتان العــراق‪ ،‬ص ‪.47‬‬
‫‪ .22‬جعفر عباس حميدي‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪. 588‬‬
‫‪391‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫الراميـة إىل إغـراق وطننـ�ا العزيـز بالدماء لكي حيقق املسـتعمرون تنفيذ‬
‫مشاريعهم‪..‬‬

‫وبعـد أن يذكـر البيـ�ان الشـعب بوثبتـ�ه حيدثه عـن محاوالت االسـتعمار‬


‫وأعوانـه سـلب مكاسـبها‪ ،‬وسـعيهم إىل اإلتيـ�ان بمجلـس يتمـم مـا بـدأه صالـح‬
‫جبر ونـوري السـعيد بالتصديـق علـى معاهـدة بورتسـموث أو أخـرى شـبيهة‬
‫بهـا ‪ -‬ثـم ينشـر تقريـر |ملسـؤول عـن التجسـس الربيطـاين يف العـراق‪( -‬لـم‬
‫جتـرؤ املوسـوعة السـرية ملديريـة الشـرطة العامـة أن تنشـر الوثيقـة اخلطيرة‬
‫خشـية افتضاح أمرها رغم أن احلزب الشـيوعي قد نشـرها بشـكل واسـع فعال‬
‫واكتفـت بنشـر بيـ�ان احلزب وحده) ‪ ، 23 23‬وقـد تضمن التقرير مخططا متكامال‬
‫ملحاربـة احلركـة الشـيوعية والوطنيـ�ة عامـة تسـتن�د أساسـا علـى إثـارة الفتن‬
‫والصراعـات القوميـة والدينيـ�ة‪ .‬واختتمـت اللجنـة املركزيـة بي�انهـا بالقـول‪:‬‬
‫إننـ�ا نذكركـم بـأن لـدى الشـعب املجاهـد القـوى الوطنيـ�ة الكافيـة‬
‫لصـد كل هجـوم اسـتعماري معـاد وإلحباط جميـع دسـائس ومؤامرات‬
‫املسـتعمرين وخدامهـم‪ .‬فسيروا إىل األمـام يف جبهـة وطنيـ�ة موحـدة‬
‫خلقتهـا وثبتنـ�ا التحرريـة األخيرة‪.‬‬

‫أثـار تصاعـد احلركـة الثوريـة يف األشـهر التي تلـت (الوثبـ�ة) قلـق الفئة‬
‫احلاكمـة ومـن ورائهـا الدوائـر االسـتعمارية الربيطانيـ�ة‪ .‬وكان ممـا يشـغل بال‬
‫هـذه الدوائـر الطريقـة التي تعالـج فيها احلالـة املتأزمـة يف البلاد دون أن تؤدي‬
‫إىل تفاقـم األمـور‪ .‬بيـ�د أن وراء هـذا النمـو يف احلركـة الثوريـة عوامـل ضعـف‬
‫أساسـية متأصلـة‪ .‬فقيـادة امليـدان الشـيوعية لم تكن أساسـا مؤهلـة ألن تقود‬
‫املـد الثـوري بنجـاح وعـن ثقـة‪ ،‬وأن تطـور نضـال الشـعب وجتعله أكثر فاعلية‪،‬‬
‫وترغـم خصمهـا علـى الرتاجـع يف معركـة بعـد أخـرى وطبقـا إىل خطـة واضحـة‬
‫األهـداف‪ ،‬وإنمـا تركـت هـذا النضال إىل عفويـة اجلماهري يف الشـارع‪ .‬ولم يكن‬
‫هنـاك مـن الكوادر الشـيوعية املجربة ما يكفي السـتيعاب التوسـع امللحوظ يف‬
‫عضويـة احلـزب واالرتقـاء بمسـتواه النضـايل‪ ،‬ولـم حتـدد قيـادة احلـزب خطـة‬
‫معينـ�ة السـتيعاب أعضـاء حزب التحرر الوطني داخل احلزب الشـيوعي وكان‬
‫هـؤالء قـد صمـدوا وواصلـوا نضالهـم رغـم اإلرهاب الـذي انصب علـى احلركة‬
‫الوطنيـ�ة منـذ عـام ‪ ،1947‬وخاضـوا حتت قيـادة احلـزب الشـيوعي النضاالت‬
‫العلنيـ�ة والسـرية واملظاهـرات واإلضرابـات قبـل الوثبـ�ة وخاللهـا ومـا بعدهـا‪.‬‬

‫‪ .23‬مديرية الشرطة العامة‪ ،‬املوسوعة السرية‪ ،‬ص ‪.251‬‬


‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪392‬‬

‫والواقـع إنهـم عوملـوا معاملـة األعضـاء الشـيوعيني دون أن يوضـح لهـم هـذا‬
‫األمـر‪ .‬والنشـاط الثـوري املشترك خلال الوثب�ة بين القـوى الوطني�ة لـم يطور‬
‫إىل جبهـة وطنيـ�ة تلتزم بهـا كل القـوى الوطنيـ�ة وتتحـدى بهـا قـوى االسـتعمار‬
‫والرجعيـة‪ ،‬وظلـت الدعـوة إىل العمل اجلبهـوي قاصرة على إطالق الشـعارات‬
‫وترديـد الهتافـات‪ .‬بـل العكس فـإن األحـزاب البورجوازية الوطنيـ�ة ختلت حىت‬
‫عـن أشـكال التنسـيق التي أمكـن التوصـل إليهـا يف الشـارع أيـام الوثبـ�ة‪ .‬لقـد‬
‫كانـت البورجوازيـة الوطنيـ�ة ختشى تصاعـد احلركـة الثوريـة‪ ،‬والسـيما قـوى‬
‫الشـيوعيني بمقـدار مـا ختشى اإلرهـاب االسـتعماري‪ ،‬وملالينـ�ة األخير لم تكن‬
‫تتردد يف التضحيـة بـاألول‪ .‬وكان اجلـادريج يف مذكرتـه عـن االشتراكية صرحيا‬
‫يف معاجلـة هـذا األمـر حينمـا قـال إنـه كلما ابتعـد عن احلـزب الشـيوعي‪ ،‬وعن‬
‫سياسـة «روسـيا اخلارجيـة» كسـب تأيي�د الكثيريـن من «الطبقة املتوسـطة‬
‫وغريهـم»‪ ..‬ممـن ين�اصرونـه قلبيـ�ا ولكنهـم ال جيـرؤون علـى االنتمـاء إليـه‪.‬‬
‫خلوفهـم مـن السـلطة التي قـد تعتبر انتماءهـم إىل حزبنـ�ا ‪-‬علـى حـد قولـه‪-‬‬
‫انتمـاء إىل حـزب شـيوعي أو حـزب شـبه شـيوعي‪.‬‬
‫لقـد ظـل حزب البورجوازيـة الوطني�ة الديمقراطية‪ ،‬ال يتردد مطلقا عن‬
‫التعـاون مع حزب االسـتقالل والـذي هو‪ ،‬كما يـرى اجلادريج‪:‬‬
‫حـزب بعيـد كل البعد عن الديمقراطية‪ ،‬وهو دكتاتـوري الزنعة ومؤمن‬
‫بـم بــ «االشتراكية الوطنيـ�ة» ‪-‬باملعنى الـذي يفهمـه الفاشـيون – كل‬
‫اإليمـان‪ ،‬فهو قـويم متطرف يف قوميت�ه يعتقد بالزعامـة الفردية ولكنه‬
‫ال يسـتطيع الظهـور بهـذا املظهر ولذلـك اضطر إىل أن يعلـن منهاجا هو‬
‫‪24 24‬‬
‫غير منهاجـه احلقيقـي مـن جميـع النـوايح‬

‫يف حين كان يتعمـد عدم التعاون مع احلزب الشـيوعي بمختلف الذرائع‬
‫رغم نضال احلزب الشـيوعي العنيـ�د من أجل الديمقراطية‪.‬‬
‫ومـع تصاعـد احلركـة اإلضرابيـ�ة للعمـال واحلركـة الطالبيـ�ة أحـس‬
‫أقطـاب الفئـة احلاكمـة خبطـورة الوضـع فعلا‪ ،‬وأملـوا أن جيـدوا يف مناشـدة‬
‫األحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة للقـوى الثوريـة بالتزام الهـدوء والكـف عـن‬
‫التظاهـر يف الشـارع مـا خيفـف مـن أزمتهـم‪ .‬يقـول تقريـر السـفارة الربيطانيـ�ة‬
‫املرسـل إىل وزارة اخلارجيـة الربيطانيـ�ة عـن أحـداث عـام ‪ 1948‬يف العـراق‪:‬‬
‫رغـم أن احلكومـة رفضـت معاهـدة بورتسـموث يف اسـتجابة لصخـب‬

‫‪ .24‬اجلادريج‪ ،‬مذكرات اجلادريج‪ ،‬ص ‪.205‬‬


‫‪393‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫األحـزاب قـررت حل الربلمـان‪ ،‬إال أن اإلضرابات والتظاهرات اسـتمرت‬


‫كل يـوم يف بغـداد‪ .‬إن تنظيم هذه األعمال أصبح اآلن من عمل األحزاب‬
‫اليسـارية السرية‪ ،‬ولم جتد (نفعا) مناشـدة األحزاب الشرعية للركون‬
‫‪25 25‬‬
‫اىل الهـدوء يف الثـاين مـن آذار‪.‬‬

‫وكانـت ثالثـة األثـايف أن تأيت شـعارات قيـادات امليدان وتكتيكاتها بشـأن‬


‫القضيـة الفلسـطيني�ة‪ ،‬وهـو مـا سـنعاجله يف فصل قـادم‪ .‬وكانت قضيـة بالغة‬
‫احلساسـية آنـذاك – مرتبكـة وال تـدل على التـوازن‪ ،‬ولم تلزتم كلية بمـا كان قد‬
‫رسـمه قائـد احلـزب يف سـجنه‪ ،‬وتثير البلبلـة بين صفوفـه وصفـوف مؤازريه‪،‬‬
‫وتدفـع بعالقاتـه مـع القـوى الوطنيـ�ة األخـرى إىل التوتـر‪ ،‬وسـهلت للحكومـة‬
‫مهمتهـا كثريا‪.‬‬
‫يف هـذه اللحظـة بالـذات‪ ،‬تـأيت الفرصة «الذهبيـ�ة» اليت كانـت تتحينها‬
‫الفئـة احلاكمـة لتعلـن احلكومـة األحـكام العرفيـة وتشـن هجومهـا الواسـع‬
‫علـى احلـزب الشـيوعي واحلركـة الوطنيـ�ة عامـة مـع بـدء بريطانيـ�ا سـحب‬
‫قواتهـا مـن فلسـطني ونشـوب احلـرب فيهـا بين العـرب واليهـود‪ .‬وكمـا يقول‬
‫تقريـر السـفارة الربيطانيـ�ة يف بغـداد «كان من حسـن حظ احلكومـة أن تدخل‬
‫اجليـوش العربيـ�ة يف فلسـطني حيـث أن ذلـك منحهـا عـذرا لفـرض قانـون‬
‫األحـكام العرفيـة»‪ 26 26 .‬وكان أول ثمـرة جتنيهـا أن تسـتطيع مـن خاللهـا فـرض‬
‫الربلمـان الـذي كانـت تريـده‬
‫«وربمـا كان الربلمـان الـذي انبثـق ليـس أسـوأ مـن ذلـك الـذي حـل غير‬
‫أن تأليفـه كان قـد تـم باسـتخدام ذات األسـلوب الذي جرى به تشـكيل‬
‫املجلـس السـابق والـذي بسـبب�ه تعـرض للنقـد بوصفـه مجلسـا غير‬
‫‪27 27‬‬
‫ممثـل للشـعب»‪.‬‬

‫كمـا أعطـت األحـكام العرفية ذريعة لتمنـع احلكومة جميـع اإلضرابات‬


‫واملظاهـرات وتغلـق النقابـات العماليـة وتلغـي احتـاد الطلبة وتعطـل الصحف‬
‫الوطنيـ�ة‪ ،‬ويف مقدمتها (األسـاس)‪.‬‬
‫بعـد أن أنهـت حكومـة الصـدر االنتخابـات وجـاءت باملجلـس الـذي‬

‫‪ .25‬العراق يف التقارير السنوية للسفارة الربيطاني�ة‪ ،‬ص ‪.87‬‬


‫‪ .26‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫‪ .27‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.88‬‬
‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪394‬‬

‫تريـده الفئـة احلاكمـة واختـذت مـا أريـد مـن إجـراءات اسـتقالت غري مأسـوف‬
‫عليهـا لتـأيت بـدال منهـا حكومـة مزاحـم الباجـه يج‪ -‬ورغـم أن إسـناد الـوزارة إىل‬
‫مزاحـم الباجـه يج الـذي كان قـد ابتعـد عـن العمـل السـيايس املباشـر يف بغـداد‬
‫منـذ إضـراب رسـوم البلديـات عـام ‪ 1930‬أمـر خيالـف األعـراف الدسـتورية‬
‫التي كان معمـوال بهـا وهـو أن يكـون رئيـس الـوزراء عضـوا يف مجلـس النـواب‬
‫أو األعيـان‪ ،‬إال آن أحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة ليـس فقـط لـم تكـن تملـك‬
‫اجلـرأة علـى االعتراض وإنمـا سـارعت‪ ،‬كمـا فعلـت مـع محمـد الصـدر ونوري‬
‫السـعيد قبلـه‪ ،‬إىل االطمئن�ان إىل وعوده ومزاعمه بأنه ينـوي القيام بإصالحات‬
‫مهمـة‪ ،‬وبصفـة خاصـة «توجيـه اجلهـاز احلكـويم إىل الكـف عـن اضطهـاد‬
‫الهيئ�ات الشـعبي�ة السياسـية اليت تعمل حقا يف سـبي�ل النظام الديمقراطي»‪،‬‬
‫ويسـتطرد اجلـادريج‪:‬‬
‫«كان فخامتـه يعتبر حزبنـ�ا ‪ -‬كمـا ظهـر مـن أحاديثـ�ه ‪ -‬ىف مقدمـة‬
‫الهيئـ�ات الشـعبي�ة السياسـية التي تعمـل يف الصميـم يف سـبي�ل بنـ�اء‬
‫الصـرح الديمقراطـي لهـذه البلاد إن لـم يكـن الهيئـ�ة الوحيـدة التي‬
‫‪28 28‬‬
‫تسـتحق اإلعجـاب يف نظـره‬

‫وهكـذا ابتلـع حـزب البورجوازيـة الوطنيـ�ة الطعـم كعادتـه‪ ،‬بـل وسـارع‬


‫إىل أن جيـد لـه العـذر يف تنكـره لوعـوده بانشـغاله يف قضية فلسـطني‪ ،‬وكأن حل‬
‫القضيـة الفلسـطيني�ة يمكـن أن يتـم علـى آيـدي حـكام كالذيـن ضمتهـم وزارة‬
‫مزاحـم الباجـه يج‪ -‬واألكثر مـن هـذا أنهـا‪ ،‬أي أحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة‪،‬‬
‫ظلـت سـادرة يف غيهـا برغـم أن النـار بـدأت توجـه بقـوة إىل احلـزب الشـيوعي‬
‫وأن شـررها سـين�الها هـي أيضـا وال شـك‪ ،‬حتى جـاء تمـوز فعـاد نـوري السـعيد‬
‫إىل نشـاطه السـيايس‪ ،‬وعـاد صالـح جرب إىل بغـداد‪ ،‬وحل شـاكر الـوادي يف وزارة‬
‫الدفـاع‪ ،‬وعين فاضـل اجلمـايل سـفريا يف وزارة اخلارجيـة وضـم عمـر نظمي‬
‫إىل الـوزارة‪ ..‬حتى إذا اشـتدت مالحقـة احلـزب الشـيوعي وانكشـف السـاتر‬
‫الدفاعـي الـذي كانـت تلـوذ به األحـزاب العلني�ة وبدأت تنوشـها النار‪ ،‬سـارعت‬
‫هـذه إىل االنـزواء وأعلنـت جتميـد نشـاطها ودعـت الشـعب إىل أن يت�دبـر أمـره‬
‫بنفسه !‬
‫يضعنـا بطاطـو يف احلديـث عـن الوثبـ�ة ومـا بعدهـا (الفصـل الثـاين‬
‫عشـر مـن كتابـه الثـاين) أمـام قضيـة مهمـة تقتضي التدقيـق وهـي موقـف‬
‫احلـزب الشـيوعي العـرايق مـن البورجوازية الوطنيـ�ة ىف تلك الفترة‪ .‬فيقول إن‬

‫‪ .28‬اجلادريج‪ ،‬مذكرات كامل اجلادريج‪ ،‬ص ‪.258‬‬


‫‪395‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫(الوثبـ�ة) تركـت بصماتها أيضا على سياسـة احلزب‪ ،‬وبشـكل عـام فإنها أدت‬
‫إىل جتـذر (راديكاليـة) أكبر يف املواقـف‪ .‬ولكن احلزب تأثر أيضـا‪ ،‬يف هذا املجال‪،‬‬
‫باخلـط الـذي اختـذه (مكتـب املعلومـات لألحـزاب الشـيوعية والعماليـة)‬
‫الـذي أسـس خلال اجتمـاع عقـد يف بولنـدا يف أيلـول (سـبتمرب) ‪ ،1948‬وربمـا‬
‫كان لهـذا أن يفسـر سـبب ميـل احلـزب يسـارا يف صياغاتـه النظريـة ببروز‬
‫أكبر منـه يف تكتيكاتـه الفعليـة‪ .‬ويشـرع بعدهـا يف احلديـث عـن «الثـورة‬
‫البورجوازيـة الديمقراطيـة» حتـت «قيـادة الربوليت�اريـة»‪ ،‬وكـون املسـلمات‬
‫الكامنـة وراء هـذا املنظـور معاديـة لإلمربياليـة واإلقطـاع والبورجوازية بشـكل‬
‫ال يقبـل التسـويات» وكانـت «معـاداة البورجوازيـة هـذه هـي اجلديـد يف‬
‫التوجـه املسـتجد»‪ ،‬ويسـتن�د يف هـذا إىل وثيقـة قـال إنهـا رسـمت لتعريـف‬
‫األعضـاء بالصياغـة اجلديـدة للجنـة املركزيـة للموقـف العـام للحـزب وإىل‬
‫نشـرة داخليـة قـال إنهـا حملـت عنـوان «جوهـر حركتن�ا مـن أجل االسـتقالل»‬
‫مؤرخـة يف شـباط ‪ ،1948‬ويربـط كل هذا باملناقشـات التي دارت بني املنظرين‬
‫السـوفييت واليوغوسلاف اليت سـبقت تأسـيس مكتب املعلومـات لألحزاب‬
‫الشـيوعية والعماليـة‪ ،‬والـذي كانـت رابطـة الشـيوعيني اليوغوسلاف أحـد‬
‫مؤسسـيه النشـيطني يف بدايتـ�ه‪ 29 29 .‬حنـن ال نشـك أن مثقفـي احلـزب آنـذاك‬
‫كانـوا قـد انتبهـوا إىل التغيرات العميقـة التي طـرأت علـى مفهويم االسـتقالل‬
‫والديمقراطية بت�أثري احلرب اليت خاضتها الشعوب ضد الفاشية والنت�اجئ اليت‬
‫جنمـت عنهـا‪ ،‬وأن هـذه التغيرات قـد أكـدت بنحو خـاص املضمـون االجتماعي‬
‫العميـق لـكال املفهومين‪ ،‬وأن حـق الطبقـات االجتماعيـة الكادحـة يف العيـش‬
‫السـعيد يف أوطـان حـرة صـار حيظـى باهتمام يفـوق مـا كان يفهم منهما سـابقا‪.‬‬
‫وكتابـا حسين محمـد الشـبييب عـن االسـتقالل والسـيادة الوطنيـ�ة واجلبهـة‬
‫الوطنيـ�ة املوحـدة اللـذان قـدم لهمـا فهـد يؤكـدان على هـذا الفهم اجلديـد‪ .‬إال‬
‫أن احلـزب ظـل يؤكـد علـى الـدور الـذي تلعبـه البورجوازيـة الوطنيـ�ة وسـعى‬
‫مـن أجلـه‪ .‬حنـن نشـك أن تكـون هـذه النشـرة الداخلية اليت يشير إليهـا بطاطو‬
‫قـد عممـت علـى كـوادر احلـزب آنـذاك علـى األقـل‪ ،‬واملؤلـف أحدهـم‪ .‬وحنن ال‬
‫نريـد أن ننفـي هـذه الواقعـة اسـتن�ادا إىل الذاكـرة‪ ،‬وإنمـا هي مناقضة لمـا ورد يف‬
‫رسـائل فهـد مـن السـجن‪ ،‬وقد كان حريا بـه أن ينتب�ه إىل ما فيها من شـطط عن‬
‫خطـه قبـل غيره‪ ،‬ورسـائله ىف هـذا الشـأن تعطـي إيضاحـات كافيـة‪.‬‬
‫ففـي الرسـالة التي بعـث بهـا يف األيـام التي تلـت (الوثبـ�ة) مباشـرة أكد‬
‫علـى الـدور الذي يمكـن أن يلعبه احلزبان‪ ،‬الوطين الديمقراطـي واألحرار‪ ،‬ونب�ه‬
‫إىل ضـرورة اإلحلـاح عليهمـا للتمسـك بمـا جـاء يف بي�انهمـا املشترك واملطالبـة‬

‫‪ .29‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.221-220‬‬


‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪396‬‬

‫بتحقيقـه‪ ،‬بـل وذهـب إىل أبعـد مـن ذلـك‪ ،‬إىل الدعـوة لتأليـف حكومـة مؤقتـة‬
‫منهمـا‪ ،‬أو منهمـا ومـن عناصـر وطنيـ�ة نظيفـة‪ ،‬وأن تأييـ�د احلـزب الشـيوعي‬
‫حلكومـة مـن هذيـن احلزبين مشـروط فقـط بإطلاق سـراح املسـجونني‬
‫واملوقوفـون السياسـيني‪ .‬وأكـد ضـرورة أن يعمـل احلـزب على محافظـة وحدة‬
‫صفـوف احلركـة الوطنيـ�ة وأال يسـمح ألي اختلاف جـزيئ ىف القطيعـة‪ .‬وأن‬
‫«مـن الضروري االسـتفادة من جميـع العناصر الوطني�ة علـى مختلف نزعاتها‬
‫االجتماعيـة التي تريـد أن تمشي ولـو إىل نصف الطريق»‪ 30 30 .‬ويف رسـالة تالية‬
‫حـول موقف احلـزب من االنتخابات شـدد فهد على ضرورة التعـاون االنتخايب‬
‫مـع احلزبين علـى أال يسير احلـزب الشـيوعي بذيـل أحـد‪ ،‬وأن املقيـاس لهـذا‬
‫التعـاون هـو املوقـف مـن املطالـب اجلماهرييـة‪ ،‬وبوجـه خـاص موقفهمـا مـن‬
‫قضيـة إطلاق سـراح السـجناء السياسـيني وعلـى أسـاس جبهـة «انتخابي�ة»‬
‫موحدة يسـتثىن منها حزب االسـتقالل وأن يعرتفا للحزب الشـيوعي‪ ،‬برتشـيح‬
‫مـن يريـد ترشـيحه يف املناطـق التي لـه فيهـا تفـوق سـاحق فيعطـون أصواتهـم‬
‫ملرشـحيه‪ ،‬كمـا أنه سـيوىص جماعاته وأصدقـاءه بالتصويت ملرشحي احلزبني‬
‫‪31 31‬‬
‫حيثمـا ال يوجـد لـه مرشـحون‪.‬‬
‫ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن فهـد كان ال يريـد أن يتوقـف تعـاون احلـزب وإياهم على‬
‫مقاييسـهم هـم لتحـرك اجلماهير‪ ،‬إذ أن «خوفهـم كثيرا مـا يـؤدي إىل اندحـار‬
‫احلركـة» ‪ 32 32‬وأن حركـة اجلماهير ونشـاط احلـزب الشـيوعي همـا الكفيلان‬
‫بإزاحـة هـذا اخلـوف‪ .‬وقـد برهنـت أحـداث نهايـة العـام علـى بعـد نظـر فهـد يف‬
‫هـذا الشـأن‪ .‬لقـد كان احلزبـان يصـوالن ويجـوالن طالمـا كان احلـزب قويـا‬
‫ويسـتطيع أن ينـ�ازل الرجعيـة بقـوة‪ ٠٠‬لكنهمـا خافـا وجمـدا حزبيهمـا حين‬
‫ادلهمـت اخلطـوب ووجهـت للحـزب ضربـات قويـة‪ .‬وقـد حـذر فهـد ماجـد‬
‫(يهـودا صديـق) ىف رسـالة خاصـة له من االعتقـاد اخلاطئ بأن السـر يف امتن�اع‬
‫األحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة عـن التعـاون مـع احلـزب الشـيوعي نـائش‬
‫عـن موقفهـا مـن بعـض شـعاراته‪ ،‬ونبهـه إىل أن «مواقـف الديمقراطيين يف‬
‫اجلبهـة املوحـدة معلومـة وقديمـة ولهـا بواعـث عميقة ال صلـة لها برفع شـعار‬
‫وبهتـاف»‪ 33 33‬واضـح أن النشـرة الداخليـة التي يشير إليهـا بطاطـو‪ ،‬إن صـح‬
‫توزيعهـا علـى احلـزب‪ ،‬لـم تكـن ذات تأثير يف السياسـة العامـة للحـزب حتى‬
‫ذلـك احلين‪.‬‬
‫‪ .30‬املوسوعة السرية الثاني�ة‪ ،‬ص ‪.237‬‬
‫‪ .31‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪.240‬‬
‫‪ .32‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.241‬‬
‫‪ .33‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.229‬‬
‫‪397‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أمـا الزعـم بـأن موقـف احلـزب الشـيوعي العـرايق مـن البورجوازيـة قـد‬
‫تأثـر باخلـط الذي اختـذه الكومنفـورم (مكتب املعلومـات لألحزاب الشـيوعية‬
‫والعمالية) فغري وارد أساسـا‪ .‬فالكومنفورم تأسـس يف الشـهر التاسـع من عام‬
‫‪ ،1948‬ثـم إن احلـزب الشـيوعي العرايق لم يطلع على النشـاط التحضريي له‪،‬‬
‫ولـم تكـن لديـه صـورة واضحـة عن اخلالفـات بين الكومنفـورم والشـيوعيني‬
‫اليوغسلاف‪ .‬فحين التقـى الصحفـي الهنـدي الشـيوعي الدكتـور راناجـت‬
‫كوهـا شـريف الشـيخ صاحـب جريدة (األسـاس) ومرشـح احلزب الشـيوعي‬
‫للني�ابـة عـن السـليماني�ة‪ ،‬وكان علـى اتصـال مباشـر بقيـادة احلـزب وينسـق‬
‫نشـاطه معها‪ ،‬سـأله عمـا إذا كان قد وصل إىل احلزب بيـ�ان الكومنفورم فأجابه‬
‫‪34 34‬‬
‫الشـيخ بالنفـي‪.‬‬
‫ومـع ذلـك فـإن ما يـورده بطاطو ربمـا يكون قد اسـتن�د إىل خواطـر وأفكار‬
‫هـذا الرفيـق أو ذاك مـن مثقفـي احلـزب‪ .‬ويالحـظ الدكتور عزيز احلـاج يف هذا‬
‫الشـأن أن يهـودا صديـق يف صيـف ‪( 1948‬وكانـا قـد عاشـا قرابـة أسـبوعني يف‬
‫بيـت حـزيب واحـد‪ ،‬وكانا يتب�ادالن األفكار بشـأن سياسـة األحزاب الشـيوعية ىف‬
‫املسـتعمرات يف منظـور سـتالني) كان يميـل إىل االعتقـاد بـأن دور البورجوازيـة‬
‫العراقيـة قـد انتهـى‪ ،‬بـل ويذهـب حتى إىل إنهـاء دور قسـم مـن البورجوازيـة‬
‫الصغيرة‪ ،‬وانـه «كان يأخـذ باملخطط السـتاليين اخلاص ببعض املسـتعمرات‬
‫املتطـورة والتي جيـب فيهـا عـزل البورجوازيـة كلهـا» وهو يعـزو هذه األفـكار إىل‬
‫األثـر الـذي أحدثتـ�ه اخلالفـات مع اجلـادريج وعزيز شـريف‪ 35 35 .‬ويذكر احلاج‬
‫أيضـا أن املسـؤولني عـن إدارة احلـزب بعـد اعتقـال مالـك ويهـودا واآلخريـن ‪-‬‬
‫كمـا سنرى ‪ -‬كانـوا قـد اتفقـوا علـى إصـدار بي�ان للشـعب ضـد حكومـة مزاحم‬
‫الباجـه يج التي خلفـت حكومـة الصـدر وقـد وضـع مسـودته عزيز احلـاج وقد‬
‫تضمنـت عبارات قاسـية علـى احلزب الوطني الديمقراطي فاعترض أحدهم‬
‫مشيرا إىل أن هـذا خيالـف مـا يذهـب إليـه فهـد‪ ،‬فحذفـوا تلـك العبـارات‪ ،‬وقـد‬
‫كبـس هـذا البيـ�ان وهـو يف الطبـع حين داهـم البوليـس البيـت الـذي كانت فيه‬
‫املطبعـة يف ‪ ، 1948/12/11‬ويضيـف إىل ذلـك أنـه قـد تبين صحـة ذلـك حني‬
‫زج به يف سـجن نقرة السـلمان يف شـباط ‪ 1949‬إذ نقل له سـالم عبي�د النعمان‪،‬‬
‫وكان علـى رأس املنظمـة ىف السـجن‪ ،‬أن فهـد قبـل أن يؤخـذ مـن السـجن إىل‬
‫إعـادة محاكمتـه قال‪:‬‬
‫أنا مستعد أن أحمل اجلادريج على كتفي لو وافق على جبهة معـنا‪.‬‬
‫‪36 36‬‬

‫‪ .34‬املوسوعة السرية الثاني�ة‪ ،‬ص ‪.283‬‬


‫داضم موجهو موجه‬ ‫‪398‬‬

‫وقـف احلـزب الشـيوعي العـرايق يصـارع القـوى املعادية للشـعب برغم‬


‫اختلال ميزان القـوى لصالـح األخيرة بعـد احلـرب يف فلسـطني وبعـد أن‬
‫تفككـت وحـدة القـوى الوطنيـ�ة‪ ،‬وجتـرد مـن كل حلفائـه واشـتدت خالفاته مع‬
‫القـوى اليسـارية األخـرى إثر نشـره وثيقة (ضوء علـى القضية الفلسـطيني�ة)‬
‫والـردود العنيفـة التي كان يتوالهـا زكـي خيري علـى طروحات عزيز شـريف يف‬
‫جريـدة (الوطـن)‪ .‬مـن الناحيـة الذاتيـ�ة ظـل احلـزب يعـاين من نواقـص جدية‬
‫يف قيادتـه‪ .‬صحيـح أنـه قد ضـم‪ ،‬كما الحظنا سـابقا‪ ،‬عناصر جديـدة إىل اللجنة‬
‫املركزيـة‪ ،‬إال أن نصيـب املركـز يف بغـداد منها ظل دون احلاجة يف وقت اشـتدت‬
‫فيـه اخلالفـات بين يهـودا ومالـك وراح األول يفكـر يف مغـادرة البلاد ويبحـث‬
‫عـن حـل مضمـون لهـذا األمـر وكان فهد ورفاق املكتب السـيايس يف السـجن إىل‬
‫جانـب مغادرتـه وأعلمـوا املسـؤول األول برأيهم هـذا‪ .‬وقد كان فهـد يلح بتعزيز‬
‫الـكادر املحترف وتوفير المـال اللازم إلعالتـه‪ .‬واحلـال يف بعـض األلويـة ذات‬
‫األهميـة بالنسـبة إىل نشـاط احلـزب لـم تكـن أفضـل مـن بغـداد‪ .‬ففـي إحـدى‬
‫رسـائل فهـد نالحـظ انـه يبـ�دي امتعاضـه مـن بقـاء العمـارة وديـاىل والنجـف‬
‫دون منظـم‪ .‬ولـم يكـن خيطر ببـ�ال قيادة امليـدان أن تعمل على تقديـم القيادات‬
‫مـن األسـفل وتنشـط الديمقراطيـة داخل احلـزب لتصعيـد الكـوادر املطلوبة‪،‬‬
‫وظلـت تفكـر بالعقليـة القديمـة لتعزيـز القيـادة مـن األعلـى‪ ،‬وراحـت تفكـر‬
‫باالسـتعانة بعبـد القـادر اسـماعيل ومحمـد علـي الزرقـة لهـذا الغـرض‪ .‬ويب�دو‬
‫أن فهـد لـم يكـن يعير هذا احلـل كثريا مـن االهتمام‪ ،‬فـردا على تقدير يهـودا بأن‬
‫االسـتعانة بالرفيقين املذكوريـن لتعزيـز العمـل القيـادي هـو خري ضمان لسير‬
‫األمـور يقـول فهد‪:‬‬
‫إنكـم وضعتم هذه القضية بشـكل مغلوط فإن الشـخصني املذكورين‬
‫ليـس لهمـا أي صفة ختولهما حق اإلشـراف علـى القيـادة احلزبي�ة وهما‬
‫إن جـاءا سـيقومان باألعمـال التي ستسـند إليهمـا مـن قبـل املسـؤول‪،‬‬
‫وإذا ارتـؤي فيمـا بعـد ضمهمـا إىل اللجنـة املركزيـة فهـذا أمـر يعـود إىل‬
‫‪37 37‬‬
‫املسـتقبل‪.‬‬

‫املسـؤول األول (فهد) يف السـجن تكشف عن‬ ‫ً‬ ‫إن الرسـائل املتب�ادلة بني‬
‫عجـز قيـادة امليـدان عـن أن تلعـب دورا قياديـا حقـا وتفتقـر إىل املبـادرة حتى يف‬
‫املسـائل التنظيميـة الروتيني�ة‪.‬‬
‫نظـم احلـزب سلسـلة مـن املظاهـرات اجلماهرييـة يف بغـداد بهـدف‬

‫‪ .37‬املوسوعة السرية الثاني�ة‪ ،‬ص ‪.228‬‬


‫‪399‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫االحتجـاج علـى التغيرات الوزاريـة التي جـاءت بأقطـاب بورتسـموث ثاني�ة إىل‬
‫احلكـم‪ .‬ففـي ‪ 1948/9/17‬نظم احلزب مظاهرة كبرية يف الكاظمية‪ ،‬بعد يوم‬
‫واحـد فقـط مـن حملـة للبوليس اعتقل فيها ‪ 41‬شـخصا من أصل ‪ 59‬شـخصا‬
‫طلـب قائـد القـوات العسـكرية اعتقالهـم‪ .‬وكان متظاهـرو الكاظميـة يهتفون‬
‫ضـد ربـط البلاد باملعاهدات مـع بريطانيـ�ا من جديـد‪ ،‬واملطالبة باجللاء‪ .‬لكن‬
‫البوليس قمع املظاهرة بالقوة واعتقل ‪ 90‬شـخصا‪ .‬وقد دار جدل واسـع داخل‬
‫احلـزب حـول هـذه املظاهـرة واختيـ�ار املوقـع الـذي جـرت فيـه‪ .‬آنـذاك لـم تكـن‬
‫ثمـة مواصلات سـهلة ومنتظمـة بين بغـداد والكاظميـة‪ ،‬والذهـاب والعـودة‬
‫منهـا وإليهـا يتـم عرب جسـر خشبي يفصلها عـن األعظميـة‪ ،‬وكان بوسـع مفرزة‬
‫صغيرة مـن البوليـس أن تتحكـم باملراقبـة والتفتيـش عنـد رقبـة اجلسـر‪ .‬ومن‬
‫السـهل تمييز الشـباب الغربـاء يف املدينـ�ة الشـيعية السـيما اليهـود منهم حني‬
‫كانـت تفـائج مـن تشـتب�ه بـه وتطلـب منـه أن يعـد األئمـة االثين عشـر‪ .‬ويف ‪26‬‬
‫تشـرين األول نظـم مظاهـرة أخـرى انطلقت من احليدرخانة يف شـارع الرشـيد‬
‫اعتقـل فيهـا ‪ 17‬شـخصا وأردفهـا بث�الثـة يف ‪ 5‬تشـرين الثاين ألقـي القبض فيها‬
‫علـى ‪ 58‬شـخصا‪ .‬وهكـذا خسـر احلـزب يف غضـون شـهر ونصـف ‪ 206‬مـن‬
‫مناضليه‪.‬‬
‫واسـتغل احلـزب ما تيسـر لـه من فـرص ىف الصحافة العلنيـ�ة‪ .‬فقد كان‬
‫ينشـر يف جريـدة (الـرأي العـام) للجواهـري و(العصـور) لصاحبهـا سـليم طـه‬
‫التكريتي و(السلام) للدكتـور عبـد الوهـاب العسـكري و(السـيار) حلسين‬
‫مـروة و(صـوت اجلماهير) للمحـايم جلال عبـد الرحمـن‪ .‬واسـتطاع أحـد‬
‫رفـاق احلـزب (صلاح اخلـزريج) أن حيصـل علـى امتيـ�از صحيفة يومية باسـم‬
‫(الهـادي) ووضعهـا حتـت تصـرف احلزب‪ .‬ويف ‪ 29‬تشـرين الثـاين ‪ 1948‬صدر‬
‫العـدد األول منهـا وهـو حيمـل افتت�احيـة بعنوان «يف سـبي�ل قضيتنـ�ا الوطني�ة»‬
‫خلصـت بشـكل مكثـف األفـكار التي طرحهـا الرفيـق فهـد يف مقاالتـه املعروفة‬
‫«مسـتلزمات كفاحنا الوطني�ة» فسـارعت احلكومة إىل غلقها يف اليوم الثاين‪.‬‬
‫علـى العمـوم‪ ،‬فـإن احلـزب الـذي كان أحـوج مـا يكـون إىل تأمـل أوضاعـه‬
‫السياسـية والفكريـة والتنظيميـة‪ ،‬ويعيـد النظـر يف عالقاتـه ويتـ�دارك نقـاط‬
‫ضعفـه يف صـد الهجـوم الرجعـي الـذي بـدأ يوجـه ضـده‪ ،‬أشـغل نفسـه ىف‬
‫سلسـلة مـن املعارك السياسـية واملناظـرات الصحفية على جبهـات مختلفة‪،‬‬
‫وقـد اسـتمر هـذا اخلـط حتى بعـد أن اعتقلـت قيادتـه يف ‪.1948/10/12‬‬
‫‪15‬‬
‫الحزب الشــيوعي العراقي والمســألة الفلســطينية‬

‫إن تاريـخ احلـزب الشـيوعي العـرايق يمتـد إىل عقـود طويلـة‪ ،‬واألحـداث‬
‫تتشـابك فيـه تشـابكا كثيرا‪ .‬ومشـاركة احلـزب الشـيوعي العـرايق يف األحداث‬
‫األساسـية التي تهـم الشـعب العـرايق لـم تكـن مشـاركة عابـرة أو صـادرة عـن‬
‫جديـة وأصيلـة ومـن قـوة لهـا‬
‫كانـت مشـاركة ً ً‬
‫ً‬ ‫قـوة ثانويـة يف املجتمـع وإنمـا‬
‫وزنهـا يف املجتمـع‪ .‬وألن حديثـ�ا كثيرا‪ ،‬بـل وكثيرا جـدا‪ ،‬قـد قيـل بشـأن مواقـف‬
‫احلـزب الشـيوعي‪ ،‬السـيما العقديـة كتلك اليت نعاجلهـا يف هذا الفصـل‪ ،‬وهذا‬
‫احلديـث الكثير جـدا قـد اكتسى مع مـرور الزمـن الطويل قشـرة صلبـة مادتها‬
‫األساسـية النظـرة الذاتيـ�ة للمتحدثني حنو هـذا احلزب وحتزبهم معـه أو ضده‪،‬‬
‫صـار يتعين علـى الباحـث ان يضـع يف حسـبانه أن مـا سـيقوله سـيتطلب‪ ،‬كما‬
‫يقـول األسـتاذ كريـم مـروة‪ ،‬املزيـد مـن التعميـق واملزيـد مـن النقـاش واملزيـد‬
‫مـن الديمقراطيـة واملزيـد مـن الهدوء واالتـزان والنفـس الطويل‪ .‬كمـا يتطلب‬
‫العـزوف عـن لغـة التخويـن‪ ،‬مـن جهـة‪ ،‬ولغـة الرفـض العشـوائي�ة مـن جهـة‬
‫ثانيـ�ة‪ 1 1 .‬وأسـأل القـارئ عـذرا لـو أنين أطلت يف حدييث يف هـذا املوضوع الدقيق‬
‫واحلسـاس‪ ،‬ولـو عـدت قليلا إىل وراء‪ ،‬ولو اسـتعنت كثيرا باملقتبسـات ألنن�ا يف‬
‫حاجـة إىل دعـم مـا نسـوقه بالشـواهد‪ .‬وسـأطالب القـارئ‪ ،‬السـيما ذلـك الذي‬
‫خيالفني الـرأي أن يطيل نفسـه‪ ،‬وأن يتعامل معي بنفس التعامـل الديمقراطي‬
‫الـذي سـألزم نفسي به‪.‬‬
‫أذكـر القـارئ‪ ،‬أوال‪ ،‬بـأن الماركسـيني األوائـل كانـوا هـم السـباقني إىل‬

‫‪ .1‬مــن (‪ )1‬كريــم مــروة‪ ،‬جــدل الصــراع مــع إســرائي�ل وجــدل الســام معهــا‪ ،‬دار الفــارايب‪،‬‬
‫بــروت‪ ،1994 ،‬ص ‪27‬‬

‫‪401‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪402‬‬

‫الدعـوة إىل التظاهـر ضـد زيـارة الداعيـة الصهيـوين الوزيـر الربيطـاين ألفريـد‬
‫مونـد يف عـام ‪ ،1928‬ويف مقدمـة مـن اعتقلتهم احلكومـة يف املظاهرة الصاخبة‬
‫ضـد ألفريـد مونـد كان حسين الرحـال وعزيـز شـريف وعبـد الفتـاح ابراهيـم‬
‫وزكـي خيري‪.‬‬
‫وقـد تـدرج نضـال الشـيوعيني لنصـرة الشـعب العـريب الفلسـطيين يف‬
‫محنتـ�ه مـع تنـ�ايم قـوة حزبهم مـن بعـد‪ .‬وكانت صحيفتهـم (كفاح الشـعب)‬
‫قـد أعلنـت يف عددهـا الثـاين الصـادر يف أب ‪ 1935‬عـن احتجاجهـا بقـوة ضـد‬
‫السياسـات اليت سـلكها االنت�داب الربيطاين يف فلسـطني والقمع الذي يمارسه‬
‫ضـد ثـوار الشـعب الفلسـطيين‪ .‬وتعـاون الشـيوعيون العراقيـون والقوميـون‬
‫لتهريـب السلاح إىل الثوار الفلسـطينيني بعد انقالب بكر صـديق‪ ،‬وكان يعمل‬
‫لهـذا الغـرض يونـس السـبعاوي مـع قاسـم حسـن وبالتعـاون مـع فـؤاد نصـار‬
‫أحـد قـادة عصبـة التحـرر الوطني الفلسـطيني�ة‪ ،‬وقائـد احلـزب الشـيوعي‬
‫‪22‬‬
‫األردين بعـد ذلـك‪.‬‬
‫حـدد احلـزب الشـيوعي العـرايق موقفـه الواضـح مـن الصهيونيـ�ة يف‬
‫ميث�اقـه الوطني الـذي اختـذه الكونفرنـس األول عـام ‪ ،1944‬وقـال‪:‬‬
‫«نن�اضل من أجل االسـتقالل والسـيادة الوطني�ة لفلسـطني واألقطار‬
‫العربيـ�ة املسـتعمرة واملحميـة‪ ،‬ومـن أجـل اسـتكمال اسـتقالل العـراق‬
‫وسـوريا ولبنـ�ان ومصـر‪ ،‬ضـد الصهيونيـ�ة وضـد الـدول املسـتعمرة‪،‬‬
‫مباشـرة أوعـن طريق املعاهـدات واالنتـ�داب واحلماية للبلاد العربي�ة‪،‬‬
‫وضـد محـاوالت واعتـداءات اسـتعمارية جديـدة وضـد تثبيـت النفوذ‬
‫األجنبي بـأي شـكل كان يف البلاد العربيـ�ة»‪.‬‬

‫وطـور احلـزب موقفـه هـذا يف برنامـج حـزب التحـرر الوطني وقـال يف‬
‫مادتـه السادسـة‪:‬‬
‫«يـرى حزبنـ�ا يف النشـاط الصهيـوين االسـتعماري خطـرا ال يهـدد‬
‫فلسـطني فحسـب‪ ،‬بـل البلاد العربيـ�ة بأسـرها‪ ،‬ألنهـا عـدا عـن كونهـا‬
‫حركـة اسـتعماريه عنصريـة فاشـية‪ ،‬فهـي يف الوقـت ذاتـه أداة رجعيـة‬
‫بأيـدي الـدول االسـتعمارية الكبرى وسلاحا تشـهره ضـد احلركـة‬
‫التحرريـة العربيـ�ة‪ ،‬لذلك يدعو حزبن�ا ويعمل علـى مقاومة الصهيوني�ة‬
‫عندنـا ويسـاعد شـعبن�ا العـريب يف فلسـطني ماديـا ومعنويـا يف كفاحـه‬
‫ضـد اخلطـر الصهيـوين»‪.‬‬

‫‪ .2‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.112‬‬


‫‪403‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫إن مـا يميز موقـف الشـيوعيني مـن الصهيونيـ�ة عـن موقـف القوميين‬
‫منهـا كـون الشـيوعيني قـد ربطـوا دائمـا بين مصالـح الصهيونيـ�ة ومصالـح‬
‫اإلمربياليـة‪ .‬ويذهـب أميل توما عن حـق إىل أن الكولوني�الية الربيطاني�ة تصبح‬
‫صهيونيـ�ة قبل نشـوء احلركـة الصهيوني�ة‪ .‬هـل يف األمر مفارقة؟ لنقـرأ وإياه ما‬
‫كتب�ه باملريسـتون‪ ،‬وزير اخلارجية الربيطاين‪ ،‬يف ‪ ٢٥‬أيلول ‪ 1840‬بشـأن املسـألة‬
‫السـورية (وكانـت سـوريا يومهـا تشـمل سـوريا ولبنـ�ان وفلسـطني واألردن)‬
‫فيقترح إقامـة مسـتعمرة بريطانيـ�ة وهـي حتتـاج إىل المـال والعمـل ويقول‪:‬‬
‫«إن العربانيين يرتقبـون العـودة إىل سـوريا ولذلـك فإذا ضمنـت الدول‬
‫قوانين حتقـق املسـاواة يف سـوريا وتبـ�دد شـكوك العربانيين فعندئـذ‬
‫يسـتنفرهم النـداء فيخرجـون برثواتهـم وصناعاتهـم‪ ..‬إن اسـتعمار‬
‫العربانيين سـوريا هـو أرخـص وأضمـن أسـلوب لزتويـد هـذه املناطـق‬
‫القليلـة السـكان حباجاتهـا»‪.‬‬

‫وبعـد ربـع قـرن (‪ )1876‬عـاد وحتـدث باملريسـتون ذاتـه عـن اليهـود‬


‫بوصفهم جتارا بارزين‪ ،‬وقال إن سـوريا حتتاج إىل رأس مال وسـكان‪ ..‬واسـتنتج‬
‫أن اليهـود يسـتطيعون تزويدهـا باألمريـن‪ .‬وسـأل‪ :‬أوليس لربيطانيـ�ا مصلحة‬
‫يف ذلـك؟ ويسـتطرد جيـب أن تصـون إجنلترا سـوريا لنفسـها‪ ..‬أال تسـتدعى‬
‫السياسـة إذن أن تنمي إجنلترا‪ ،‬وهـي دولـة جتاريـة حبريـة عظمى‪ ،‬قوميـة‬
‫اليهـود وأن يرجـع إليهـا فضـل اسـتيطان اليهـود ىف فلسـطني؟ ‪ 3 3‬إن إيديولويج‬
‫اإلمربياليـة أو الصهيونيـ�ة ال خيرجـون عـن جوهـر مـا قالـه باملريسـتون‪.‬‬
‫على هذا األسـاس رأى الشـيوعيون أن القضية الفلسـطيني�ة هي قضية‬
‫قوميـة ال يمكـن حلهـا بـدون نضـال ثـوري ضـد اإلمربياليـة التي عملـت علـى‬
‫إجياد املشـكلة وسـعت إىل تطويرها طبقا إىل تطور مصاحلها يف املنطقة‪ .‬ثم إن‬
‫الشـيوعيني‪ ،‬اطالقـا مـن نظريتهـم الطبقيـة‪ ،‬نظروا إىل املسـألة نظـرة طبقية‪.‬‬
‫إن الصهيونيـ�ة كفكـر وكحركـة هـي‪ ،‬يف رأيهـم‪ ،‬تعبري عـن مصالـح البورجوازية‬
‫اليهوديـة‪ ،‬وإن مـن مصلحة هذه البورجوازية السياسـية أن تعمل على كسـب‬
‫العمـال وجماهير الشـغيلة عامـة إىل جانبهـا وجتني�دهـم خلدمـة مشـاريعها‪..‬‬
‫وهـي يف هـذا ال ختـرج عـن النهـج الـذي سـارت فيـه البورجوازيـة يف كل مـكان‪.‬‬
‫لذلك يتعني على الشـيوعيني الذين ينطلقون من التعبري عن مصالح الطبقة‬
‫العاملـة وشـغيلة الفكـر واليد أن ين�اضلوا إلنقـاذ هؤالء من براثـن اإليديولوجيا‬

‫‪ .3‬د‪ .‬أميــل تومــا‪ ،‬جــذور القضيــة الفلســطيني�ة‪ ،‬منظمــة التحريــر الفلســطيني�ة‪ ،‬دار‬
‫اجلليــل‪ ،‬دمشــق ‪ ،1984‬الطبعــة الثالثــة‪ ،‬ص ‪.11‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪404‬‬

‫الصهيونيـ�ة وتصفهـم حبقيقتهـا يف كل مـكان‪ ،‬حتى يف فلسـطني ذاتهـا بعـد أن‬


‫أمكنهـا أن ختدعهـم وتغريهـم بـكل وسـيلة إىل الهجـرة إليهـا واالنضـواء حتـت‬
‫لوائها‪.‬‬
‫ويف بلـد كالعـراق‪ ،‬حيـث كانـت توجـد أقليـة يهوديـة تركـزت يف املـدن‬
‫الرئيسـية‪ ،‬السـيما يف بغـداد‪ ،‬واسـتوطنت العـراق منـذ مـا قبـل امليلاد بقـرون‪،‬‬
‫وغـدت يف ثقافتهـا وتقاليدهـا وعاداتها جزءا من أجزاء الشـعب العرايق‪ ،‬وكانت‬
‫تنقسـم إىل طبقـات وفئـات اجتماعيـة أسـوة بغريهـا من أجـزاء املجتمـع األخر‪،‬‬
‫كان مـن غير الطبيعـي أال تنشـط الصهيونيـ�ة مـن أجـل أن جتد لها مواقع لنشـر‬
‫أفكارهـا وتنمية املشـاعر القوميـة الصهيوني�ة‪ ،‬وتنيم بينها الرغبـة يف االلتحاق‬
‫باليهـود االخرين يف فلسـطني‪ ،‬وقـد ذهبت إىل حد تقديم طلب فعلي للسـماح‬
‫لهـا رسـميا بالنشـاط‪ .‬وكان مـن الطبيعـي‪ ،‬يف املقابـل‪ ،‬أن يعمـل الشـيوعيون‬
‫هـم أيضـا لتعريـف الشـباب اليهـودي مـن الشـغيلة اليهوديـة بمـا تدبـره لهـم‬
‫الصهيونيـ�ة‪ ،‬وأن يسـعوا إىل جتني�دهـم يف النضـال ضدهـا وضـد اإلمربياليـة‬
‫التي أوجدتهـا وسـاندتها‪ ،‬وكان مـن املنطقي أن يميزوا بني الصهيونيـ�ة كحركة‬
‫سياسـية عنصريـة ورجعيـه وبين اليهوديـة كديـن وجـد هنـا‪ ،‬إن لـم يكـن قـد‬
‫انبثـق مـن تربـة العـراق بالـذات قبـل قـرون‪ ،‬بينمـا وقـف «القوميـون» موقفـا‬
‫معاكسـا مـن هـذا‪ .‬فهـم لـم يميزوا بين فقـراء اليهـود وأغني�ائهـم‪ ،‬بين عمالهم‬
‫وبروجوازيتهـم‪ ،‬كمـا لم يمزيوا بين اليهودية والصهيونيـ�ة إىل احلد الذي طلب‬
‫فيه السـيدان فائق السـامرايئ واسـماعيل الغانم يف مجلس النواب عام ‪1950‬‬
‫بوجـوب ترحيـل كل اليهـود مـن العـراق بضمنهـم الراغبين يف البقـاء ومصـادرة‬
‫أمالكهـم مـن قبـل احلكومـة‪ 4 4 .‬وكانت نسـبة الـذي يفضلون البقـاء يف العراق‬
‫تفـوق كثيرا مـن كان يرغـب يف الهجـرة‪ .‬وحنسـب أن القـارئ سـيعذرنا لـو أننـ�ا‬
‫توقفنـا قليلا عنـد عمليـة تهجير اليهـود العراقيين إىل فلسـطني واألدوار التي‬
‫لعبتهـا األطـراف املختلفـة يف هذا الشـأن‪.‬‬
‫حين أعلـن عـن قيـام دولـة إسـرائي�ل يف فلسـطني أوعـزت احلكومـة‬
‫الربيطانيـ�ة إىل احلكومـة العراقيـة لتشـريع قانـون جييز لليهـود أن يهاجـروا‬
‫إليهـا بهـدف دعمهـا وتعزيـز قوتهـا‪ .‬فاسـتجابت احلكومـة العراقيـة يف احلـال‪،‬‬
‫وتقدمـت بالحئـة قانونيـ�ة إىل مجلـس النـواب يف ‪ 2‬آذار ‪ 1950‬تقيض بإسـقاط‬
‫اجلنسـية عـن كل يهـودي يرغـب يف الهجـرة‪ ،‬علـى أن يسـري هـذا القانـون ملـدة‬
‫سـنة مـن تاريـخ تنفيـذه‪ ،‬وطلبـت مـن مجلـس النـواب مناقشـة الحئتهـا هـذه‬
‫بطريقـة االسـتعجال‪ .‬وقـد حتقـق لهـا مـا أرادت‪ .‬إذ أقرهـا املجلـس النيـ�ايب‬

‫‪ .4‬عبــد العزيــز اجلــزاين‪ ،‬حــزب االســتقالل العــرايق ‪ ،1958 - 1946‬التجربــة الفكريــة‬


‫واملمارســة السياســية‪ ،‬ال إشــارة إىل الناشــر ومــكان النشــر‪ ،1994 ،‬ص ‪.79‬‬
‫‪405‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫ثـم مجلـس األعيـان يف ‪ 4‬آذار ‪ .1950‬ووضعـت مختلـف التسـهيالت لنقـل‬


‫املهاجريـن بمـا فيهـا تنظيـم رحلات جويـة غير قانونيـ�ة‪ ،‬والطيران مـن بغـداد‬
‫إىل إسـرائي�ل مباشـرة‪ .‬وكانـت الشـرطة العراقية تشـرف بنفسـها علـى تهريب‬
‫مـن يرغـب من اليهود إىل إيران بالسـيارات احلكومية إما عـن طريق خانقني أو‬
‫عـن طريـق شـط العـرب؛ ولكن رغم كل هـذا‪ ،‬فلم يترك العراق سـوى ‪ 23‬ألف‬
‫نسـمة يف نهايـة العـام مـن مجموع ما يزيـد عن ‪ 135‬ألف نسـمة‪ .‬لذلك عمدت‬
‫الدوائـر الصهيونيـ�ة إىل تفجير القنابـل يف األحيـاء السـكني�ة اليهوديـة‪ ،‬ويف‬
‫محلات العبـادة اليهوديـة‪ ،‬بغيـة إحـداث الرعب بني أوسـاط اليهـود وحملهم‬
‫علـى الهجـرة‪ .‬وكانـت الصحف القومية من جانبها‪ ،‬السـيما جريـدة (اليقظة)‬
‫لصاحبهـا سـلمان الصفـواين‪ ،‬تثير الهلـع بين أوسـاط اليهـود بمـا تنشـره مـن‬
‫‪55‬‬
‫مقـاالت تهديديـه وعنصريـة‪.‬‬
‫األمـر اآلخـر الـذي نـود التأكيـد عليـه هـو أن «القوميين» حتركـوا دائمـا‬
‫مـن هـذه املسـألة مـن منطلـق العـداء للشـيوعية‪ -‬حنـن نفهـم الدوافـع التي‬
‫كانـت حتـرك البورجوازيين الكومبرادور الذيـن ربطـوا مصاحلهـم بمصالـح‬
‫الرأسـمال األجنبي يف عدائهـم للشـيوعية‪ ..‬إال أن عـداء القوميين الذيـن كونوا‬
‫نـادي املثنى وحـزب االسـتقالل بعـد ذلـك للشـيوعية وللحـزب الشـيوعي ال‬
‫يقـوم علـى أسـاس موضوعي ومفهـوم سـوى االنسـياق وراء املصالـح الطبقية‬
‫املمـزوج بنظـرة عنصريـة فاشـية‪ ،‬وحقـد خاص منشـأه دفـاع الشـيوعيني عن‬
‫نظرتهـم يف التمييز ما بني اليهودية والصهيوني�ة وثب�ات الشـيوعيني يف عدائهم‬
‫لإلمربياليـة وموقفهم املناوئ ملشـاريع الوحدة العربي�ة املشـبوهة اليت تداخلها‬
‫مصالـح أخـرى غير مصلحة وحدة الشـعوب العربيـ�ة اخلالصة‪ .‬وهـم يف هذا ال‬
‫خيتلفـون عـن غريهـم مـن دعـاة القوميـة يف البلـدان العربيـ�ة األخـرى‪ .‬فاللجنـة‬
‫املركزيـة للمؤتمـر العـريب الفلسـطيين الثالـث يف تقريرهـا الـذي قدمتـه يف آذار‬
‫‪ 1921‬إىل ونسـتني تشرشـل مـا كانـت ترفـض الهجـرة اليهوديـة علـى أسـاس‬
‫رفـض الصهيونيـ�ة وإنمـا لكـون املهاجريـن ينتمي أكرثهـم إىل عناصـر بلشـفية‬
‫ثوريـة» وأنـه «بعـد حتقيـق وعـد بلفـور سـيؤم فلسـطني مـن روسـيا وبولونيـ�ا‬
‫نفايـة القـوم مـن الرجـال والنسـاء املتشـربني بمبادئ البلشـفية» بـل ويذهب‬
‫التقريـر يف حتريضـه ليصـل إىل ماركـس‪ 6 6 .‬إن سـميح سـمارة محـق تمامـا يف‬
‫تعقيبـ�ه علـى هـذا املوقـف حين يقول‪:‬‬
‫«لكـن هـذا املوقف سـوف يبقـى مقولة ثابتـ�ة ىف أدبي�ات وسياسـة هذه‬
‫القـوى‪ ،‬الرجعية يف احلركة الوطني�ة الفلسـطيني�ة علـى امتداد العقود‬

‫‪ .5‬احلســي‪ ،‬تاريــخ الــوزارات العراقيــة‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪ 162-159‬وانظــر أيضــا عبــد الــرزاق‬
‫الصــايف‪،‬كفاحنــاضــدالصهيوني ـ�ة‪،‬إصــدار طريــقالشــعبومنظمــةالتحريــر الفلســطيني�ة‪.‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪406‬‬

‫الثالثـة القادمـة‪ ،‬إذ طالمـا أن هذه القوى لم تتخل عـن رهانها بإمكاني�ة‬
‫حتييـ�د اإلمربياليـة الربيطانيـ�ة وجذبهـا‪ ،‬فسـوف تبقـى محافظـة‬
‫علـى مقولـة اجلمـع بين الشـيوعية والصهيونيـ�ة نتيجـة ملعرفتهـا‬
‫بالعـداء الثابـت واالستراتييج بين اإلمربياليـة واحلركـة الشـيوعية‬
‫‪77‬‬
‫العامليـــــة»‪.‬‬

‫لقـد وقـف الشـيوعيون‪ ،‬كمـا رأينـ�ا يف الفصـل الثامـن‪ ،‬إىل جانـب حركـة‬
‫رشـيد عـايل الكيلاين‪ ،‬وعبروا عـن تأيي�دهـم لهـا ببيـ�ان إىل الشـعب‪ ،‬ثـم أردفـوه‬
‫بمذكـره خاصـة إىل رئيـس الـوزراء بنفـس املنحى‪ ،‬لكنهـم وقفوا ضـد محاوالت‬
‫أمين احلسـيين‪ ،‬مفتي فلسـطني وأصحابـه يف جـر احلركـة إىل التحالـف مـع‬
‫الفاشـية ودفعهـم زعمـاء احلركـة إىل مغازلـة النازيـة‪ ،‬والتجـأوا مـن بعـد إىل‬
‫ألمانيـ�ا الهتلريـة‪ .‬وقد كان الشـيوعيون يـرون من غري املنطقي معاداة اسـتعمار‬
‫لالرتمـاء يف أحضـان اسـتعمار آخـر أشـد فظاظـة‪ ،‬رغـم مـا يف هـذا مـن تشـف‬
‫مـن بريطانيـ�ا التي طالما نكثـت بالوعود التي قطعتها للعـرب‪ ،‬ونكايـة باليهود‬
‫الذيـن كان يضطهدهـم هتلـر‪ .‬وقـد كان هـذا يثير اليسـار العـرايق ويعمـق يف‬
‫الضغائـن بين الطرفين‪ .‬لقـد كان كال اجلانبين يعمق السـلبي�ات يف عالقاتهما‬
‫ببعضهمـا‪ ،‬ولم يسـع كالهمـا إىل تطوير نقاط التعاون التي يلتقيان فيها‪ ،‬وظال‬
‫ينكصـان إىل مواقعهمـا املتحفظـة‪ ،‬بـل والعدائيـ�ة‪ ،‬عنـد كل منعطـف حـاد‪.‬‬
‫علـى هـذه اخللفيـة بنى احلـزب الشـيوعي العـرايق مواقفـه حيـال‬
‫القضيـة الفلسـطيني�ة يف النصـف األول مـن األربعينـ�ات‪ .‬يف ‪ 12‬أيلـول ‪1945‬‬
‫تقـدم الرفـاق يعقـوب مصـري وسـرور صالـح قطـان وابراهيـم نـايج وآخريـن‬
‫بطلـب إجـازة منظمـة ملحاربـة الصهيوني�ة باسـم عصبـة مكافحـة الصهيوني�ة‪.‬‬
‫ورغـم أن هـذه املنظمـة لـم تنشـط «إال لفترة قصيرة ال تتعـدى الثالثـة أشـهر‬
‫بعـد إجازتهـا إال أنهـا تركت أثـرا كبريا يف احلياة السياسـية يف حينـ�ه» كما يقول‬
‫مركـز الدراسـات الفلسـطيني�ة يف جامعـة بغـداد‪ 8 8 .‬وكان أول عمـل للهيئـ�ة‬
‫املؤسسـة حتى قبـل إجازتهـا أن أصـدرت بي�انا إىل الشـعب بمناسـبة وعد بلفور‬
‫يف ‪ 2‬تشـرين الثـاين ‪ 1945‬جـاء معبرا عـن فهـم واضـح ومحـدد للمشـكلة يف‬
‫فلسـطني إذ قـال‪:‬‬
‫«إن حـل املشـكلة اليهوديـة يتـم حبـل مشـكلة البلـدان التي يعيـش‬
‫فيهـا اليهـود‪ ،‬أمـا «حـل» فلسـطني فهـو فضال عـن أنه ال حيل املشـكلة‬
‫اليهوديـة‪ ،‬فهـو اعتـداء صريـح غاشـم علـى حقـوق الشـعب العـريب ال‬
‫‪ .8‬جامعــة بغــداد‪ ،‬مركــز الدراســات الفلســطيني�ة‪ ،‬عصبــة مكافحــة الصهيونيـ�ة‪ ،‬تشــرين‬
‫األول ‪ ،1977‬ص ‪.8‬‬
‫‪407‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫يمكـن أن يرضـاه أي إنسـان حـر‪ .‬وحنـن بصفتنـ�ا يهـودا وعربـا بنفـس‬


‫الوقـت نعلـن اسـتنكارنا لوعـد بلفـور واحتجاجنـا عليـه‪ ،‬وندعـو كل‬
‫مواطـن إىل النضـال مـن أجـل اسـتقالل فلسـطني اسـتقالال تامـا‬
‫وتأليـف حكومـة ديمقراطية عربيـ�ة فيها‪ ،‬ومنع الهجـرة الصهيوني�ة إىل‬
‫فلسـطني وإيقـاف انتقـال األرايض إىل الصهاينـ�ة»‪.‬‬

‫واختتمت العصبة بي�انها بالشعارات التالية‪:‬‬


‫عاشـت‬
‫ً‬ ‫«عـاش نضـال العـرب يف سـبي�ل حرياتهـم واسـتقاللهم!‬
‫فلسـطني عربيـ�ة مسـتقلة ديمقراطية! عاش الشـعب العـرايق متآخيا‬
‫متضامنـا متحـدا! ليسـقط وعـد بلفـور املشـؤوم وليسـقط االسـتعمار‬
‫‪99‬‬
‫ولتسـقط الصهيونيـ�ة!»‪.‬‬

‫ورفعـت مظاهـرات احلـزب يف عـام ‪ 1946‬ومـن بينهـا املظاهـرة التي‬


‫نظمهـا ضـد إنـزال قوات بريطانيـ�ة جديدة يف البصـرة إثر إضـراب عمال النفط‬
‫يف عبـادان أربعـة شـعارات فقـط كان واحـدا منهـا يقـول‪:‬‬
‫«نطالـب بت�أسـيس دولـة عربيـــــة ديمقراطيـة مسـتقلة يف‬
‫‪10 1 0‬‬
‫فلســــــطني » ‪.‬‬

‫يف ‪ 16‬آذار ‪ 1946‬قدمـت إىل العـراق جلنـة التحقيـق اإلنكلزييـة‪.‬‬


‫األمريكيـة للتحقيـق يف قضيـة فلسـطني‪ .‬وقـد وقفـت عصبـة‬
‫مكافحـة الصهيونيـ�ة‪ ،‬ومـن ورائهـا احلـزب الشـيوعي‪ ،‬موقفـا‬
‫سـلبي�ا مـن هـذه اللجنـة‪ ،‬وأوضحت أنها ليسـت إال سـتارا مهلهال‬
‫خيتفـي وراءه االسـتعمار الربيطـاين‪ .‬األمريكـي‪ ،‬وأن سياسـة‬
‫تأليـف وإيفـاد اللجـان التحقيقيـة قـد أثبتتـ�ا للعـرب أنهـا عديمـة‬
‫الفائـدة لهـم‪ ،‬باإلضافـة إىل أنهـا مضـرة بقضيتهـم ألنهـا تـريم إىل‬
‫املماطلـة والتسـويف وإىل إشـغال العـرب عـن قضيتهـم بقصـد‬
‫القيـام بهجـوم جديد لدعـم الصهيوني�ة وتثبيت أقدام االسـتعمار‬
‫يف فلسـطني‪ .‬والحظـت العصبـة أنـه يف الوقـت الـذي ترسـل فيـه‬

‫‪ .9‬املصــدر الســابق‪ ،‬ص ‪ .33‬ونذكــر هنــا أن عصبــة مكافحــة الصهيوني ـ�ة أجــزت رســميا‬
‫يف ‪ 16‬أنــار ‪ ،1946‬وألغيــت إجازتهــا بقــرار إداري يف ‪ 27‬حزيــران ‪ 1946‬كمــا ادعــت دوائــر‬
‫البوليــس الــي بلغــت اجلمعيــة بالقــرار يف ‪ 29‬حزيــران ‪.1946‬‬
‫‪ .10‬جعفر عباس حميدي‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.367‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪408‬‬

‫هـذه اللجنـة للتحقيـق كمـا يقولـون‪ ،‬يعمـد الربلمـان األمريكي إىل‬


‫إقـرار الهجـرة إىل فلسـطني‪ ،‬وتنقـض بريطانيـ�ا كتابهـا األبيـض‬
‫الـذي اختذتـه هـي عـام ‪ 1939‬وتسـمح بالهجـرة إىل فلسـطني‪،‬‬
‫وتعمل يف ذات الوقت إىل شـطر فلسـطني عمليا إىل جزئني لتقيم‬
‫يف أحدهمـا دولـة فلسـطيني�ة وقاعـدة عسـكرية لهـا‪ ،‬يف الوقـت‬
‫الـذي لـم يتطلـب األمـر حلـل املشـكلة سـوى إلغـاء االنتـ�داب‬
‫وتأليـف حكومـة وطنيـ�ة ديمقراطيـة مسـتقلة‪ .‬وتنهـى العصبـة‬
‫مذكرتهـا باإلعلان عـن مقاطعتهـا للجنـة التحقيـق األنكلـو‪-‬‬
‫أمريكيـة‪ ،‬وتعلـن أن حـل قضيـة فلسـطني ال يتـم إال عـن طريـق‬
‫توحيـد نضـال الشـعوب العربيـ�ة‪ ،‬واعتمادهـا بالدرجـة األوىل‬
‫علـى كفاحهـا الوطين املشترك ورفع قضية فلسـطني إىل مجلس‬
‫األمـن علـى أسـاس‪:‬‬

‫ً‬
‫‪1.‬إلغاء االنت�داب‪ ،‬واستقالل فلسطني استقالال تاما‪.‬‬
‫‪2.‬تمكين الشـعب الفلسـطيين مـن تأليـف حكومـة وطنيـ�ة‬
‫ديمقراطيـة تضمـن مصالـح وحقـوق جميـع سـكان فلسـطني‬
‫احلاليين دون تمييز يف العنصـر والديـن‪.‬‬
‫كان منطقيا أن يقاطع احلزب الشيوعي العرايق جلنة التحقيق األنكلو‪-‬‬
‫أمريكيـة ويدعـو اآلخريـن إىل مقاطعتهـا ألن الذين يؤلفون اللجنـة هم بالذات‬
‫الذيـن تسـببوا يف نشـوء املشـكلة‪ ،‬وهـم ال يكفـون حىت مـع إجراءاتهـم املزعومة‬
‫للتحقيـق عـن مواصلة مشـاريعهم لصالح الصهيوني�ة وضد مصالح الشـعب‬
‫الفلسـطيين‪ ..‬فعن أي يشء حيققون؟ وما الذي يسـتهدفونه من حتقيقهم؟ أال‬
‫يعني حتقيقهـم مواصلـة خداعهـم؟ ثـم أال يعني اإلدالء بالشـهادات أمام جلنة‬
‫كهـذه القبـول عـن طيـب خاطـر باالخنـداع واملسـاهمة باللعبـة الني يريدهـا‬
‫املستعمرون؟‬
‫وجـاءت التوصيـات التي صـدرت عـن هـذه اللجنـة بعـد انتهـاء جولتهـا‬
‫يف املنطقـة لتؤكـد النوايـا السـيئ�ة للذيـن ألفوهـا‪ ،‬إذ أوىص تقريرهـا بالسـماح‬
‫ملئـة ألـف يهـودي بالهجـرة إىل فلسـطني فـورا‪ ،‬وفتـح بـاب الهجـرة دون تقيي�د‪،‬‬
‫ورفـع القيـود عـن بيـع أملاك العـرب إىل اليهـود‪ .‬لقـد كانـت عصبـة مكافحـة‬
‫الصهيونيـ�ة علـى حق حين قاطعت اللجنة بينما كان اجلـادريج ومحمد مهدي‬
‫كبـة واآلخريـن الذيـن أدلوا بشـهاداتهم أمامها مخطئني‪ .‬وكانـت العصبة على‬
‫كل احلـق أيضـا حين أعلنـت يف بيـ�ان لهـا إثر صـدور توصيـات اللجنـة املذكورة‬
‫‪409‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫قائلة‪:‬‬
‫«كنـا علـى حـق عندمـا قاطعنـا جلنـة التحقيـق‪ ،‬ولـم ختطـئ تقديراتنـ�ا‬
‫جتـاه هـذه اللجنـة املؤلفـة مـن الربيطانيين أصحـاب وعـد بلفـور‬
‫املشـؤوم املهيمنين علـى فلسـطني باسـم االنتـ�داب ومـن األمريـكان‬
‫سـند الصهيونيـ�ة ودعـاة فتـح أبـواب فلسـطني للهجـرة‪ ،‬وقـد برهـن‬
‫الواقـع علـى صحـة تقديرنـا لهذه اللجنـة االسـتعمارية‪ ،‬ولـم تفد معها‬
‫شـهادات مختلـف الهيئـ�ات يف البلاد العربيـ�ة التي مثلـت أمامهـا»‪.‬‬

‫علـى أثـر صـدور توصيـات اللجنـة األنكلـو‪ -‬أمريكيـة التي أشـرنا إليها‪..‬‬
‫سـارعت األحـزاب املجـازة اخلمسـة إىل دعـوة اجلماهير لإلضـراب العـام يف‬
‫‪ 10‬أيـار ‪ .1946‬لكـن العصبـة وحـزب التحـرر الوطني ومـن ورائهمـا احلـزب‬
‫الشـيوعي العـرايق رأوا أن اإلضـراب العـام وحـده لـن يكفـي للتعبير عن سـخط‬
‫اجلماهير وأن من الضـروري أن توفر لها فرصة التعبري عن احتجاجها بالتظاهر‬
‫أيضـا‪ .‬فهـل يف هـذا األمـر مـن ضير؟ وهـل يتن�اقـض اإلضـراب االحتجـايج مـع‬
‫التظاهـر االحتجـايج وكتابـة املقالـة االحتجاجيـة ومـع أي لـون أخـر مـن ألـوان‬
‫االحتجـاج؟ ومـن قـال إن لإلضرابـات «قدسـية» خاصـة ال جيـوز املسـاس‬
‫بهـا؟ دعـت منظمـة احلـزب الطلاب يف الكليـات إىل التظاهـر‪ ..‬فلبى الطلاب‬
‫نداءهـا‪ ،‬وخرجـت جماهريهـم يف مظاهـرة مـن كليـة الهندسـة ترفـع شـعارات‬
‫(ال مفاوضـات‪ ،‬ال مسـاومات‪ ،‬نريـد عـرض قضيـة فلسـطني علـى مجلـس‬
‫األمـن) و(نريـد فلسـطني عربيـ�ة حـرة ديمقراطيـة) و(ناضلـوا مـن أجـل جالء‬
‫اجليـوش االسـتعمارية عن البلاد العربي�ة)‪ ،‬وسـارت جبوار ثكنـة (الكرنتين�ة)‬
‫فقابلهـا الضبـاط واجلنود بالهتاف والتصفيق وسـارت برغـم محاوالت ممثلي‬
‫األحـزاب العلنيـ�ة لصدها حىت اقرتبت من باب املعظـم فاصطدمت بالبوليس‬
‫الـذي أجربهـا علـى التقهقـر حتى الكرنتينـ�ة فتطـوع الضبـاط واجلنـود بضرب‬
‫البوليـس بالعصي واحلجـارة‪ 11 11 .‬فـأي ضير يف كل هذا؟‪ ..‬ثـم من أعطى بعض‬
‫األحـزاب احلـق يف تقديـر حدود وشـكل احتجاج اجلماهري؟‪ ..‬وما هو أشـد مرارة‬
‫أنهـا لـم تكتـف بمحاوالتهـا للتعـاون مـع قـوات البوليـس للحيلولـة دون تظاهر‬
‫الطلاب‪ ،‬أو اخلروج من كلية الهندسـة حيـث حاصرتهم فيها قوات البوليس‪،‬‬
‫وإنمـا خرجت صحفها يف اليوم التايل وهي تشـن حملـة ضارية على (العصبة)‬
‫وجريدتهـا وحتمـل يف صدر صفحتها األوىل مانشـيت�ات مثـل (العصبة ملكافحة‬
‫الصهيونيـ�ة أم ملكافحـة الوطنيـ�ة؟) و(أحـزاب للتحـرر أم للتخريـب)‪ .‬مـن حق‬
‫املـرء أن يتسـاءل أيـن هـي مكافحـة الوطنيـ�ة؟ أهي يف الدعـوة إىل جلاء القوات‬

‫‪ .11‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.407‬‬


‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪410‬‬

‫االسـتعمارية؟ وتلتقـط حكومـة أرشـد العمـري رأس اخليـط وتسـارع إىل غلـق‬
‫جريـدة (العصبـة) يف ‪ 6‬حزيـران بعـد أن دعـت اجلماهري إىل التظاهر بمناسـبة‬
‫اجتمـاع ممثلـي احلكومـات العربيـ�ة يف بلـودان‪ ،‬برغـم أن غلـق اجلريـدة ال جيـوز‬
‫قانونا إال بقرار من محكمة باعتب�ارها لسـان حال هيئ�ة سياسـية مجازة قانونا‪..‬‬
‫فلـم تنبـس الصحـف األخـرى بشيء ضد هـذا اخلـرق حلريـة الصحافة؟‬
‫لقـد كان فهـد‪ ،‬قائـد احلزب الشـيوعي‪ ،‬ينظـر إىل تظاهـر اجلماهري ليس‬
‫فقـط كشـكل من أشـكال االحتجاج ضد املوقـف املعاكس ملصالح الشـعب يف‬
‫هـذه املسـألة أو تلـك‪ ،‬وإنما كذلك مناسـبة لتدريب اجلماهري ورفـع معنوياتها‬
‫علـى التحـدي وتعزيـز ثقتها بمـا تملك من قوة علـى املنازلة‪ .‬على هذا األسـاس‬
‫دفـع إىل التظاهـر يف ‪ 28‬حزيـران ‪ 1946‬احتجاجـا علـى املظالـم التي كانـت‬
‫ترتكـب يف فلسـطني على أيـدي رجـال االسـتعمار والصهيوني�ة (انظـر الفصل‬
‫الثـاين عشـر)‪ .‬وسـقط يف املظاهـرة شـهيدا شـاؤول طويـق‪ ،‬الطالـب يف ثانويـة‬
‫التجـارة والعضو يف احلزب الشـيوعي وعصبة مكافحـة الصهيوني�ة‪ ،‬أفال يؤكد‬
‫هـذا مصداقيـة مـا كانـت تردده (عصبـة مكافحـة الصهيوني�ة) عن نفسـها؟ يف‬
‫أيـار ‪ ،1947‬ويف اجتمـاع طـارئ لبحـث القضية الفلسـطيني�ة‪ ،‬قـررت اجلمعية‬
‫العامة لألمم املتحدة تأليف جلنة حتقيق دولية ضمت كال من الهند والسـويد‬
‫وكنـدا وأستراليا وإيـران وبيرو وهولنـدا وتشيكوسـلوفاكيا ويوغوسلافيا‬
‫وغواتيمـاال واألورغـواي لبحـث القضيـة الفلسـطيني�ة واقتراح احللـول لهـا‪.‬‬
‫وزارت اللجنـة فلسـطني واسـتمعت إىل شـهادات قـادة الصهيونيـ�ة وغريهـم‪.‬‬
‫أمـا قـادة احلركـة القوميـة العربيـ�ة التقليديـون يف فلسـطني‪ ،‬والتي كانـت قـد‬
‫تعاونـت مـع جلنـة التحقيـق األنكلـو‪ .‬أمريكيـة‪ ،‬فقـد قاطعـت جلنـة التحقيـق‬
‫الدوليـة التي كونتها األمـم املتحدة‪ ،‬بـل وذهبت إىل حد فـرض مقاطعة اللجنة‬
‫علـى العـرب يف البلـدان العربي�ة األخـرى ونظمت حملة دعايـة ضدها‪ ،‬ومنعت‬
‫الصحـف العربيـ�ة مـن ذكـر أي يشء عـن أهدافهـا‪ ،‬كمـا تقـول وثيقـة لعصبـة‬
‫التحـرر الوطني يف فلسـطني‪ 12 12 .‬ومـع أن الشـيوعيني الفلسـطينيني الزتمـوا‬
‫بقـرار مقاطعـة اللجنـة املذكـورة رغبـة منهـم يف صيانة الوحـدة الوطنيـ�ة ليس‬
‫غير‪ ،‬إال أنهـم بـادروا إىل تقديـم مذكرة ضافية حـول القضية طالبـوا فيها جبالء‬
‫القـوات الربيطانيـ�ة وتصفيـة االنتـ�داب وإقامـة دولـة ديمقراطيـة مسـتقلة يف‬
‫فلسـطني حتفظ حقوق جميع السـكان‪ .‬وعلى هذا املنوال سـار الشـيوعيون يف‬
‫البلـدان العربيـ�ة األخـرى ومن بينهم رفاق احلزب الشـيوعي العـرايق‪ .‬ونذكر أن‬
‫الـدول العربيـ�ة‪ ،‬مصـر والعراق وسـوريا ولبن�ان والسـعودية‪ ،‬قـد صادقت على‬
‫قـرار األمـم املتحـدة بت�أليـف اللجنـة وحتديد مهماتهـا وأسـلوب عملها‪.‬‬

‫‪ .12‬سميح سمارة‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص ‪.275‬‬


‫‪411‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫لقـد عجـزت القيادة القومية التقليدية يف فلسـطني‪ ،‬ومـن ورائها القوى‬


‫القوميـة يف املشـرق العـريب‪ ،‬عـن أن تنظـر بعمـق إىل التحـوالت التي كانت جتري‬
‫يف فلسـطني بفعـل مكائـد االسـتعمار الربيطـاين وتعـاون العناصـر الرجعيـة‪،‬‬
‫وتأخـذ بعين االعتبـ�ار التحـوالت الديموغرافيـة يف احللـول التي تقرتحهـا حلل‬
‫املشـكلة‪ ،‬وإنمـا كانـت ترفـض األخـذ بشـعار الدولـة الديمقراطية‪ ،‬ولـم تكلف‬
‫نفسـها اخلـروج عـن مثاليتهـا السياسـية والتفكير جبـد فيمـا يمكـن أن تـؤول‬
‫إليـه األمـور إذا مـا تمسـكت حتى النهايـة بشـعار الرفـض املطلـق‪ .‬ولـم تـدرك‬
‫أنهـا ليسـت وحدهـا هـي ‪ -‬ومـن ورائها حكومـات تمائل االسـتعمار وتقـول أكرث‬
‫ممـا تفعـل ‪ -‬عاجـزة عـن فرض احلل الـذي تريده هـي والذي يقـوم على عروبة‬
‫فلسـطني فقـط‪ .‬ومضى نصـف قـرن علـى الكارثـة وهـي إىل اآلن تعجـز عـن‬
‫فرض هذا احلل حىت يف جزء يسير من فلسـطني‪ .‬لقد كان هناك واقع سـيايس‬
‫معين يتمثـل يومهـا بوجـود ‪ 650‬ألف يهـودي باتـوا يؤلفون آنـذاك ثلث تعداد‬
‫السـكان يف فلسـطني‪ ،‬ويمتلكـون يف أيديهـم مركـز التطـور الرأسـمايل يف البلاد‬
‫ويرفضـون مغـادرة البالد وتسـاندهم قوى دولية مؤثرة‪ ،‬فكيـف يمكن التعامل‬
‫مـع هـذا الواقع؟‬
‫لنتتبـع مسلسـل األحـداث يف هيئـ�ة األمـم املتحـدة‪ .‬يف صيـف ‪1946‬‬
‫طالـب االحتـاد السـوفييت يف األمـم املتحـدة جبلاء القـوات الربيطانيـ�ة عـن‬
‫فلسـطني وإعالن اسـتقاللها ‪ ٠‬واتصـل وفده بعدد من ممثلـي حكومات الدول‬
‫العربيـ�ة يف منظمـة األمـم عارضـا «اسـتعداد حكومـة االحتـاد السـوفييت لدعم‬
‫النضـال الفلسـطيين مـن اجل جلاء القـوات الربيطاني�ة وحتقيق االسـتقالل»‬
‫كمـا يـروي محمد عـزة دروزه‪ 13 13 .‬ولكن‪ ،‬ونتيجة لالرتبـ�اط وااللزتامات العربي�ة‬
‫‪ -‬الربيطانيـ�ة‪ ،‬رأت وفـود حكومـات الـدول العربيـ�ة أال تفتـح (ملفـا) لعالقات‬
‫عربيـ�ة ‪ -‬روسـية ألنـه وحسـب اعتقادهـا ‪ -‬قـد يسيء ويؤثـر علـى اسـتمرارية‬
‫العالقـات العربيـ�ة ‪ -‬الربيطانيـ�ة!!»‪ 14 14 .‬وبعـد أن فشـلت املشـاريع التي‬
‫اقرتحتهـا بريطانيـ�ا وأمريـكا حلـل املشـكلة‪ ،‬اضطـرت بريطانيـ�ا‪ ،‬بعـد أن فشـل‬
‫أيضـا مشـروعها لفـرض الوصايـة علـى فلسـطني مـدة خمـس سـنوات‪ ،‬أن‬
‫تطـرح القضيـة علـى األمـم املتحـدة‪ .‬ووافقـت اجلمعيـة العامة لألمـم املتحدة‬
‫يف ‪ 28‬نيسـان ‪ 1947‬علـى أن تدعـو ممثلـي الوكالـة اليهوديـة والهيئـ�ة العربيـ�ة‬
‫العليـا للمشـاركة يف مناقشـة املسـألة‪ .‬ويف ‪ 14‬أيار ‪ 1947‬ألقـى غروميكو‪ ،‬وزير‬

‫‪ .13‬مهــدي عبــد الهــادي‪ ،‬املســألة الفلســطيني�ة ومشــارع احللــول السياســية؛ ‪– 1934‬‬


‫‪ ، 1974‬منشــورات املكتبــ�ة العصريــة‪ ،‬صيــدا‪ ،‬بــروت‪ ،‬الطبعــة األوىل‪ ،‬تمــوز ‪ ،1975‬ص‬
‫‪.113‬‬
‫‪ .14‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.113‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪412‬‬

‫خارجيـة االحتـاد السـوفييت‪ ،‬خطابا أمـام اجلمعية العامة لألمـم املتحدة عرض‬
‫فيهـا موقـف بلاده‪ .‬قـال غروميكو‪:‬‬
‫‪ ..‬ثمـة مشـروعات كثيرة لتنظيـم مسـتقبل فلسـطني وحـل املشـكلة‬
‫اليهوديـة وبينهـا توجـد املشـروعات اآلتيـ�ة‪:‬‬

‫‪ - 1‬تكويـن (دولـة واحدة) عربي�ة ويهوديـة‪ ،‬يتمتع فيها العرب واليهود‬


‫حبقوق متساوية‪.‬‬
‫‪( - 2‬تقسيم فلسطني) إىل دولة عربي�ة وأخرى يهودية‪.‬‬
‫‪ - 3‬إنشـاء دولـة عربيـ�ة (صرفـة) يف فلسـطني دون اعتبـ�ار حلقـوق‬
‫السـكان اليهـود‪.‬‬
‫‪ - 4‬إنشـاء دولـة يهوديـة (صرفـة) يف فلسـطني دون اعتبـ�ار حلقـوق‬
‫العـرب‪.‬‬

‫يسـكن يف فلسـطني عرب ويهود‪ ،‬وكالهما شـعب له جذوره التاريخية‬


‫يف فلسـطني‪ ،‬التي أصبحـت وطـن هذيـن الشـعبني اللذيـن لكليهمـا‬
‫مكانـة يف حياتهـا االقتصاديـة والثقافيـة‪ ..‬فلا التاريـخ وال الظـروف‬
‫احلاليـة يف فلسـطني تبرر أي حل من جانب واحد ملشـكلة فلسـطني‪..‬‬
‫إن احللـول املتطرفـة ‪ -‬إنشـاء دولـة يهوديـة (صرفـة) أو إنشـاء دولـة‬
‫عربيـ�ة (صرفـة) ‪ -‬ال حتـل املشـكلة الفلسـطيني�ة املعقـدة‪ ،‬ولـن تـؤدي‬
‫إىل اسـتقرار العالقـات بني العـرب واليهود‪ ،‬واحلل العـادل البد أن يبىن‬
‫علـى االعتراف باملصالـح املشتركة للشـعبني يف فلسـطني‪.‬‬

‫وهكـذا خـرج الوفـد السـوفييت‪ ،‬كمـا يقـول الكاتـب الفلسـطيين مهـدي‬


‫عبـد الهـادي‪ ،‬بنتيجـة هامة‪ ،‬وهي أنـه ال يمكن حماية مصالح الشـعبني العريب‬
‫واليهـودي إال بتكويـن (دولـة عربيـ�ة يهوديـة ديمقراطيـة مسـتقلة) يكون لكل‬
‫مـن الشـعبني فيها حقـوق‪ ،‬متسـاوية‪ .‬ويضيـف أندريـه غروميكو‪:‬‬
‫ومـن املعـروف أن هـذا احلـل مرغـوب فيـه داخـل فلسـطني نفسـها‪.‬‬
‫فالتاريـخ احلديـث‪ ،‬ال يدلنا فقط على أمثلة التفريـق الديين واجلنيس‬
‫املوجـودة يف بعـض الـدول إىل اآلن لسـوء احلـظ‪ ،‬إنما يدلنـا أيضا بأمثلة‬
‫كثيرة علـى شـعوب مختلفـة فيمـا بينهـا ويتمتـع كل منهـا بفـرص غير‬
‫محـدودة ملصلحة جميع سـكان الدولـة‪ ..‬كذلك فإن إنشـاء دولة عربي�ة‬
‫يهوديـة (موحـدة) يتمتـع فيها العـرب واليهود حبقوق متسـاوية يمكن‬
‫اعتب�اره أحد احللول املمكنة للمسـألة الفلسـطيني�ة ملصلحة الشعبني‬
‫وجلميع سـكان فلسـطني وألمن وسلام الشرق األوسـط‪ .‬وإذا ظهر أن‬
‫‪413‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫احلـل غري عملي بسـبب سـوء العالقات بين العرب واليهـود فالبد من‬
‫(تقسـيم فلسـطني) إىل دولتني عربيـ�ة ويهودية‪.‬‬

‫وينتهي إىل القول‪:‬‬


‫وأنـا أكـرر أن هـذا احلـل ال جيـب األخـذ بـه إال إذا ثبـت أن العالقـات بين‬
‫العـرب واليهـود تبلـغ مـن السـوء حـدا يمتنـع فيـه التعـاون السـليم‬
‫‪15 15‬‬
‫بينهمـا والـذي ال يـرىج مـن أي إصلاح‬

‫ويعقب مهدي عبد الهادي بقوله‪:‬‬


‫« ونذكـر انـه لـم يتعـد موقـف احلكومـات الـدول العربيــة االسـتماع‬
‫إىل خــطاب غروميكـو‪ ،‬دون أن يقـوم أي مسـؤول عـريب علـى دراسـته أو‬
‫مناقشـته أو إجــراء حـوار حولـه علـى أي مسـتوى أو ربمـا كان االهتمـام‬
‫العـريب الشديــد بتحـركات بريطانيـ�ا وأمريـكا وسياسـتهما بالنسـبة‬
‫‪16 16‬‬
‫للمسـألة الفلسـطيني�ة أثـره يف ذلـك»‪.‬‬

‫وانتهـت مناقشـات اجلمعيـة العامـة لألمـم املتحـدة باختـاذ قـرار تأليف‬


‫جلنـة دوليـة للتحقيق وتقديم املقرتحـات إال أن الهيئ�ة العربيـ�ة العليا قاطعتها‬
‫علـى حنـو مـا رأينـ�ا سـابقا‪ .‬لقـد حبثـت القضيـة الفلسـطيني�ة يف األمـم املتحـدة‬
‫مـع شـروع الـدول اإلمربياليـة بمـا عـرف بــ «احلـرب البـاردة» وتأجيـج العداء‬
‫للشـيوعية‪ ،‬هـذا أوال‪ ،‬ولـم يكـن بالوسـع ثانيـ�ا التغافـل عـن توازنـات القـوى‬
‫الدوليـة التي كانـت معاكسـة للمصالـح العربيـ�ة السـيما إذا أخذنـا باحلسـبان‬
‫املوقـف املهـزوز للحكومـات العربيـ�ة املمالئـة لإلمربياليـة‪ .‬أمـا األمـر الثالـث‬
‫فيتمثـل باجلمـود الـذي يطبـع التكتيـكات العربيـ�ة الفلسـطيني�ة بوجـه خاص‬
‫التي لـم تترك مجـاال يف االختيـ�ار والتي كان يشـرف عليهـا شـخصية ممقوتـة‬
‫دوليـا هـي أمين احلسـيين‪ ،‬مفتي فلسـطني‪.‬‬
‫يف ‪ 29‬تشـرين الثـاين ‪ ،1947‬أصـدرت اجلمعيـة العامـة لألمـم املتحـدة‬
‫قرارهـا بتقسـيم فلسـطني إىل دولتين عربيـ�ة ويهوديـة طبقـا لتوصيـة أكرثيـة‬
‫أعضـاء اللجنـة حسـب خرائـط أعـدت سـلفا‪ ،‬كمـا قـررت تدويـل القـدس‪،‬‬
‫وتعـاون الدولتين اقتصاديـا‪.‬‬
‫‪ .15‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.115 - 114‬‬
‫‪ .16‬املصدر السابق‪.‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪414‬‬

‫فكيـف سـلك احلـزب الشـيوعي العـرايق إزاء تطـور األحـداث علـى هـذا‬
‫النحـو؟ قابـل الشـعب باسـتنكار شـديد قـرار هيئـ�ة األمـم املتحـدة بتقسـيم‬
‫فلسـطني‪ .‬وكان احلـزب الشـيوعي العـرايق الـذي تثقـف بالدولـة الواحـدة مـن‬
‫أوائـل مـن عارض القرار‪ ،‬وشـارك الطالب الشـيوعيون يف املظاهرات الطالبي�ة‬
‫التي زجـت يف كانـون األول ‪ 1947‬احتجاجـا على قرار التقسـيم‪ .‬لقد جاء القرار‬
‫صدمـة للشـيوعيني العراقيين‪ ،‬وقـد سـارعت قيـادة امليـدان ألخـذ رأي فهـد يف‬
‫السـجن فـرد علـى تسـاؤالتها بقوله‪:‬‬
‫«‪ ...‬أمـا عـن قضيـة فلسـطني فلـم نتوصـل إىل أكثر مـا توصلتـم عـدا‬
‫يشء واحـد هـو ذكركـم لقومية يهودية يف فلسـطني‪ ،‬فهذا ربمـا كان غري‬
‫صحيـح‪ .‬فـكل مـا يف األمـر أن االحتـاد [ويريـد بـه االحتـاد السـوفييت –‬
‫املؤلـف] ربمـا قـال بوجـوب األخذ بنظـر االعتبـ�ار بضعة مئـات األلوف‬
‫مـن اليهـود الذيـن سـبق وأصبحـوا من سـكان فلسـطني‪ ،‬فهـذا ال يعين‬
‫أنهـم قوميـة وال يعين عدم االهتمام بهم ومع هذا فليسـت هذه النقطة‬
‫جوهريـة باملوضـوع‪ .‬فموقـف االحتـاد السـوفييت جـاء نتيجـة محتمـة‬
‫لألوضـاع واملؤامـرات واملشـاريع االسـتعمارية‪ ،‬املوضـوع هـو وجـوب‬
‫إلغـاء االنتـ�داب وجلاء اجليـوش األجنبيـ�ة عـن فلسـطني وتشـكيل‬
‫دولـة ديمقراطيـة مسـتقلة كحـل صحيـح للقضيـة‪ ،‬ومـن واجبنـ�ا أن‬
‫نعمـل لهـذا حتى األخير ولكـن إذا ال يمكـن ذلـك بسـبب مواقـف رجال‬
‫احلكومـات العربيـ�ة ومؤامراتهـم مـع اجلهـات االسـتعمارية فهـذا ال‬
‫يعني أننـ�ا نفضـل حلا أخـر علـى احلـل الصحيـح‪ ،‬ونرى مـن األوفـق أن‬
‫تتصلـوا بإخواننـ�ا يف سـوريا وفلسـطني وتسـتطلعوا رأيهـم يف تعيين‬
‫‪17 17‬‬
‫املوقـف»‪.‬‬

‫يف ضـوء مالحظـات فهـد وزعـت اللجنـة املركزيـة رسـالة داخليـة إىل‬
‫أعضـاء احلـزب يف أوائـل كانـون األول ‪ 1947‬حـددت موقـف احلـزب مـن‬
‫املسـألة والـذي يتمثـل بالرفـض القاطـع لتقسـيم فلسـطني‪ ،‬جـاء فيـه‪:‬‬

‫«لقـد وفـر موقـف االحتـاد السـوفييت خبصـوص التقسـيم للصحـف‬


‫املرتزقـة ومأجـوري اإلمربياليـة فرصـة ال للتشـهري باالحتـاد السـوفييت‬
‫فقـط‪ ،‬بـل أيضـا باحلركـة الشـيوعية يف البلـدان العربيـ�ة‪ ..‬ولذلك على‬
‫احلـزب الشـيوعي أن جيـدد موقفـه مـن القضية الفلسـطيني�ة حسـب‬
‫اخلطـوط التي انتمى إليهـا والتي يمكـن تلخيصهـا بمـا يلي‪:‬‬
‫‪ .17‬فهد‪ ،‬مؤلفات فهد‪ ،‬ص ‪448‬؛ واملوسوعة السرية الثاني�ة‪ ،‬ص ‪.232‬‬
‫‪415‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪.‬أإن احلركـة الصهيونيـ�ة حركـة عنصريـة دينيـ�ة رجعيـة‪،‬‬


‫ومزيفـة بالنسـبة إىل اجلماهير اليهوديـة‪.‬‬
‫‪.‬بإن الهجـرة اليهوديـة‪ ..‬ال حتل مشـكالت اليهـود املقتلعني‬
‫مـن أوربـا‪ ،‬بـل هـي غـزو منظـم تديـره الوكالـة اليهوديـة‪..‬‬
‫واسـتمرارها بشـكلها احلـايل‪ ..‬يهـدد السـكان األصليين يف‬
‫حياتهـم حبريتهـم‪.‬‬
‫‪.‬جإن تقسـيم فلسـطني عبـارة عن مشـروع إمربيـايل قديم‪..‬‬
‫يسـتن�د إىل اسـتحالة مفرتضـة للتفاهم بني اليهـود والعرب‪.‬‬
‫‪.‬دإن شكل حكومة فلسطني ال يمكنه أن يتحدد إال من قبل‬
‫الشـعب الفلسـطيين‪ ،‬الذي يعيش يف فلسـطني فعال‪ ،‬وليس‬
‫مـن قبـل األمم املتحـدة أو أية منظمة أو دولـة أو مجموعة دول‬
‫أخرى‪..‬‬
‫‪.‬هإن التقسيم سـيؤدي إىل إخضاع األكرثية العربي�ة لألقلية‬
‫الصهيونيـ�ة يف الدولة اليهودية املقرتحة‪.‬‬
‫‪.‬وإن التقسـيم وخلـق دولة يهودية سيزيد مـن اخلصومات‬
‫العرقيـة والدينيـ�ة وسـيؤثر جديا على آمال السلام يف الشـرق‬
‫األوسط‪.‬‬
‫ولـكل هذه األسـباب فإن احلزب الشـيوعي يرفض بشـكل قاطع خطة‬
‫‪18 18‬‬
‫التقسـيم‪»...‬‬

‫بـدأت األجـواء السياسـية بالتوتـر مـع اقتراب تنفيـذ التقسـيم وحتـرك‬


‫احلكومـات العربيـ�ة إلرسـال جيوشـها إىل فلسـطني‪ .‬واختـذ تأييـ�د االحتـاد‬
‫السـوفييت للتقسـيم ذريعـة لتسـعري العـداء للشـيوعية‪ ..‬وبـات وكأن االحتـاد‬
‫السـوفييت هو الذي يقف وراء التقسـيم وليس اإلنكلزي واألمريكان‪ ،‬وجرى عن‬
‫عمـد جتاهل دعواتـه امللحة إىل تكويـن الدولة الديمقراطية املسـتقلة واملوحدة‬
‫يف فلسـطني وحتذيـره مـن أن اسـتمرار حالة العـداء والتعصب القائمة سـتدفع‬
‫باألمـور إىل التقسـيم‪.‬‬
‫ومـع أن دوافـع عديـدة قـد تضافـرت خللـق حالـة التوتـر هـذه مـن بينهـا‬
‫االعتـداءات علـى املواكب واخلالفات الطالبي�ة اليت اشـتدت إثـر عقد (مؤتمر‬

‫‪ .18‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.257/256‬‬


‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪416‬‬

‫السـباع) ومـا اقترن بها من اعتـداءات وطرد مـن الكليات واملعاهـد واحلمالت‬
‫الصحفيـة والدعائيـ�ة املتقابلـة وعـودة الـوزراء البورتسـموثيني إىل التحـرك‬
‫مـن جديـد‪ ،‬برغـم هـذه كلهـا‪ ،‬فـإن تطـورات القضيـة الفلسـطيني�ة املتسـارعة‬
‫واملـذاحب التي تعـرض لهـا الفلسـطينيون علـى أيـدي العصابـات الصهيونيـ�ة‬
‫واحلملات الدعائيـ�ة والسياسـية والعسـكرية‪ ،‬قـد رفعـت جميعها مـن حرارة‬
‫األجـواء السياسـية واخلالفـات احلزبيـ�ة كثريا‪ ،‬السـيما بني القواعـد‪ ،‬وصارت‬
‫هـذه تتبـ�ادل النعـوت وتزداد التحرشـات فيما بينها‪ ،‬كما كانـت الصحف تنفخ‬
‫كثيرا يف أوار اخلالفـات هـذه‪.‬‬
‫يف أوائـل نيسـان ‪ ،1948‬خرجـت مظاهـرات طالبيـ�ة وصفهـا أصحابهـا‬
‫بــ «املظاهـرات القوميـة» لكنهـا يف واقـع احلـال لم تقتصـر علـى «القوميني»‬
‫ممـن كانـوا ينضـوون حتت رايـة حزب االسـتقالل وحدهـم‪ ،‬وإنما ضمـت أيضا‬
‫العناصـر التي كانـت تسير وراء سـايم شـوكت الذيـن عرفـوا باسـم «البعـث‬
‫القـويم»‪ ،‬واإلخـوان املسـلمني‪ ،‬وغريهـم‪ ،‬وتسـاندهم اجلماعـات الرجعيـة‬
‫التي اختـذت مـن «العروبـة» و «الديـن» سـتارا إلخفـاء حتركاتهـا املعاديـة‬
‫للشـعب‪ .‬وقـد جـرت هـذه املظاهـرات قبـل عقـد مؤتمـر الطلبـة يف (سـاحة‬
‫السـباع)‪ ،‬وكانـت تنـ�ادي بــ «العروبة» و «الدين» وتشـدد بوجـه خاص على‬
‫شـعار «فلسـطني عربي�ة‪ ..‬فلتسـقط الشـيوعية» وقد أثارت هـذه املظاهرات‬
‫الهلـع لدى أوسـاط واسـعة من العاملني يف األسـواق السـيما من اليهـود‪ ،‬وكان‬
‫أصحـاب املحلات يسـارعون إىل غلـق محالتهـم خوفا مـن النهـب والتخريب‪،‬‬
‫وقـد هوجمـت علـى إثرهـا كليتـ�ا الهندسـة ودار املعلمين العاليـة ورجمـت‬
‫الطالبـات والطلاب باحلجـارة‪ ..‬وقـد كانـت كل هـذه االعتـداءات جتـري حتـت‬
‫رايـة (الدفـاع عـن فلسـطني)‪.‬‬
‫ردا ً علـى هـذه املظاهـرات بـادر احلـزب الشـيوعي العـرايق إىل تنظيـم‬
‫مظاهـرة جماهرييـة يف ‪ 16‬نيسـان ‪ 1948‬حشـد لهـا أعـدادا كبيرة مـن النـاس‬
‫مـن مختلـف الطبقـات واجلماعـات‪ ،‬سـارت يف شـارع الرشـيد مـن البـاب‬
‫الشـريق تتقدمهـا كوكبـة مـن راكبي الدراجـات الناريـة حتى بـاب املعظـم‪.‬‬
‫وقـد عـززت هـذه املظاهـرة بسـعتها وحسـن تنظيمهـا وبهتافاتهـا التي شـددت‬
‫علـى قضايـا الشـعب امللحـة الثقة لـدى جماهير بغـداد‪ ،‬وأشـاعت االطمئن�ان‬
‫السـيما بين جمــاهري اليهود بهتافهــا املتواصـــل « حنـن إخوان اليهود وأعـــداء‬
‫‪19 1 9‬‬
‫الصهيونيــــــــة»‪.‬‬

‫‪ .19‬مــن املؤســف أن يعمــد املــؤرخ عبــد الــرزاق احلســي (ج ‪ ،7‬ص ‪ )204‬إىل تشــويه‬
‫موقــف احلــزب الشــيوعي مــن قضيــة فلســطني‪ ،‬فيتحــدث يف نهايــة ‪ 1947‬عــن موقــف‬
‫احلــزب مــن القضيــة مشــرا إىل آن أنصــاره كانــوا يــرددون يف مظاهراتهــم شــعار «حنــن‬
‫‪417‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫يف غمـرة التوتـر السـيايس الـذي حتدثنـ�ا عنـه كان مـن اليسير أن جيـري‬
‫تبـ�ادل الطعـون‪ .‬فالقومانيـون مـن جانبهـم كانـوا ال ينفكـون عـن الهتـاف‬
‫بفلسـطني عربيـ�ة‪ ..‬فلتسـقط الشـيوعية‪ ،‬والشـيوعيني مـن جانبهـم يهتفـون‬
‫باملقابـل بسـقوط «أيتـ�ام هتلـر»‪ ،‬والتأكيـد بإحلـاح خـاص علـى شـعار «حنـن‬
‫إخـوان اليهـود‪ ..‬أعـداء الصهيونيـ�ة» بذريعـة احلاجـة إىل تأكيـد «الوحـدة‬
‫الوطنيـ�ة»‪ ...‬كان اجلميـع يسـعى إىل تأكيـد موقفـه بانفعـال خـاص يف هـذه‬
‫األجواء العكرة دون أن حيسـب احلسـاب لما كانت تدبره الدوائر االسـتعمارية‬
‫والرجعيـة لالنتقـام ممـا حلـق بهـا يف (الوثبـ�ة) التي لـم يكـن قـد مضى عليهـا‬
‫سـوى أربعـة شـهور‪ ،‬وختطـط بهـدوء إلعلان األحـكام العرفيـة حتـت رايـة‬
‫فلسـطني ذاتهـا‪ ،‬لتصفيـة احلسـاب مع القـوى اليت أسـقطت مشـاريعها قبل‬
‫بضعـة شـهور ليـس إال‪.‬‬
‫ألـم يكـن وراء هـذا التشـديد مـن جانـب احلـزب اسـتصغار للقضيـة‬
‫القوميـة؟‪ ..‬ألـم يكـن يف املسـتطاع تبصير العناصـر القوميـة بمـا يكمـن وراء‬
‫املشـاريع املشـبوهة جلماعـة بورتسـموث ومـا الـذي يـراد مـن وراء إعلان‬
‫األحـكام العرفيـة بلغـة هادئة واسـتخدام عالقات بعـض القـوى الديمقراطية‬
‫بهـم بـدال مـن الدخـول يف مجابهـات حـادة معهـم؟ وإذا كان احلـزب الشـيوعي‬
‫قـد أخـذ علـى حـزب االسـتقالل تأكيـده علـى الشـعارات الشـوفيني�ة وأفـكاره‬
‫العنصريـة ومعاداتـه الشـيوعية‪ ،‬فهـل سـعى مـن جانبـ�ه مباشـرة أو مـن خالل‬
‫وسـاطة القـوى الديمقراطيـة األخـرى إىل محاولـة إرجاعـه إىل حظيرة العمـل‬
‫املشترك علـى حنـو مـا جـرى يف عـام ‪ 1946‬ويف أيـام (الوثبـ�ة)‪ 20 20 .‬بـدال مـن أن‬
‫نعطـي الفرصـة لنـوري السـعيد وأنصـاره ليسـعوا إىل جـر حزب االسـتقالل إىل‬
‫‪21 21‬‬
‫جانبهـم وجعلـه مخلـب قـط يف محاربـة الشـيوعية‪.‬‬
‫إخــوان اليهــود» حاذفــا الشــطر الثــاين مــن الشــعار «وأعــداء الصهيونيــ�ة»‪ ،‬وأكــر مــن‬
‫هــذا يذهــب إىل حــد القــول‪« :‬كمــا كان يســتنكر كل مقاومــة للصهيوني ـ�ة»‪ ..‬ولكــي يغطــي‬
‫علــى موقــف غــر األمــن‪ ..‬يقفــز مباشــرة إىل التقريــر الــذي أصــدره يف نهايــة صيــف ‪1948‬‬
‫بعنــوان (أضــواء علــى القضيــة الفلســطيني�ة) والــذي ســنأيت علــى ذكــره مــن بعــد‪ ،‬يف الوقــت‬
‫الــذي كان يطالــب بأعلــى صوتــه بدولــة ديمقراطيــة مســتقلة وموحــدة يف فلســطني علــى‬
‫النحــو الــذي رأين ـ�اه حــى اآلن‪.‬‬
‫‪ .20‬يالحــظ أن فهــد يف رســائله إىل قيــادة امليــدان بشــأن التعــاون مــع األحــزاب يف النشــاط‬
‫االنتخــايب ‪ -‬يف إطــار جبهــة «إنتخابيـ�ة» موحــدة‪ ،‬يســتثين حــزب االســتقالل‪ ،‬وباملقابــل فــإن‬
‫حــزب االســتقالل اختلــف مــع احلــزب الوطــي الديمقراطــي ودخــل معــه يف مشــاحنات يف‬
‫إحــدى دوائــر بغــداد‪.‬‬
‫‪ .21‬انظــر عبــد هللا اجلــزاين‪ ،‬مصــدر ســابق‪ ،‬ص ‪105/104‬؛ واحلســي‪ ،‬ج‪ ، 8‬ص ‪– 98‬‬
‫‪.108‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪418‬‬

‫ظـل احلـزب الشـيوعي العـرايق يتمسـك بموقفـه يف املطالبـة بالدولـة‬


‫الديمقراطيـة املسـتقلة الواحـدة يف فلسـطني حتى نهايـة أيـار ‪ 1948‬طبقـا‬
‫لتوصيـة فهـد يف رسـالته املوجهـة إىل اللجنـة املركزيـة يف األول مـن تشـرين‬
‫الثـاين ‪22 22 .1947‬وظلـت جريـدة (األسـاس) تدعو إىل النضال مـن أجل عروبة‬
‫فلسـطني‪ ،‬ومـن أجل دحر مشـروع الدولـة الصهيونيـ�ة‪ .‬فما الـذي دفع احلزب‬
‫إىل تغيير موقفـه فجـأة وتبني قـرار التقسـيم؟‬
‫يف رسـالة فهـد اليت يتحدث فيها عن فلسـطني‪ ،‬يؤكد علـى أن احلزب ال‬
‫ينبغي أن يسـتب�دل احلل الصحيح (وهو يف رأيه املطالبة بالدولة الديمقراطية‬
‫املسـتقلة املوحـدة) حبـل أخـر‪ ،‬أي التقسـيم‪ ،‬بسـبب مواقف رجـال احلكومات‬
‫العربيـ�ة ومؤامراتهـم مع اجلهات االسـتعمارية‪ .‬لكنه ينصح يف خاتمة رسـالته‬
‫بالتشـاور مـع الشـيوعيني يف سـوريا وفلسـطني يف هـذا الشـأن‪ .‬فهـل تـم‬
‫التشـاور فعلا كمـا نصـح فهـد يف تلـك الفترة؟ وهل جـرى التشـاور يف بغـداد أو‬
‫دمشـق أو بيروت قبل أن يغير احلزب موقفه؟ أي حىت حزيـران ‪1948‬؟ وجدير‬
‫باملالحظـة هنـا‪ ،‬وعلـى خلاف مـا يذهـب إليـه كتـاب مديريـة األمـن العراقيـة‬
‫(أضـواء علـى احلركـة الشـيوعية يف العراق) فـإن يهودا ابراهيـم صديق‪ ،‬كان يف‬
‫ذلـك الوقـت قد جمد نفسـه‪ ،‬وانشـغل يف البحث عن سـبي�ل ملغـادرة العراق إىل‬
‫االحتـاد السـوفييت‪ ،‬ولـم يكـن يمـارس نشـاطا حزبيـ�ا فعليـا‪ ،‬وكان مالـك سـيف‬
‫هـو الـذي يـرأس اللجنـة املركزيـة يف بغداد‪.‬‬
‫يقـول مالـك سـيف يف اعرتافاتـه أمـام البوليـس يف‪1948/11/10‬‬
‫إن رسـالة مـن احلـزب الشـيوعي السـوري ‪ -‬اللبنـ�اين جـاءت يف تمـوز ‪1948‬‬
‫بواسـطة طالـب يف جامعـة بيروت‪ ،‬يقترح فيها على احلـزب الشـيوعي العرايق‬
‫توحيـد الشـعارات حـول قضيـة فلسـطني وإصـدار بيـ�ان مشترك يف العـراق‬
‫وسـوريا وفلسـطني‪ .‬وىف أيلـول ‪ 1948‬حمـل الطالـب نفسـه النـص املقترح‬
‫للبيـ�ان املشترك املعنـون (بيـ�ان إىل الشـعوب العربيـ�ة)‪ 23 23 .‬ويف حديـث مـع‬
‫الرفيق غسـان رفاعي يف بريوت أكد يل أن احلزب الشـيوعي السـوري ‪ -‬اللبن�اين‬
‫قـد أوفـده إىل بغـداد حاملا النـص املقترح لبيـ�ان األحـزاب الشـيوعية األربعة‪،‬‬
‫وأن احلـزب الشـيوعي العـرايق وافق عليه‪ .‬ولكـن هذه الوقائع قـد تمت يف تموز‬

‫‪ .22‬علــى خــاف مــا يذهــب إليــه زكــي خــري يف مذكراتــه (صــدى الســنني يف ذاكــرة‬
‫شــيوعي عــرايق مخضــرم‪ ،‬ص‪ )137‬فــإن رســالة فهــد املشــار إليهــا قــد أرســلت إىل احلــزب‬
‫يف ‪ 1947/11/1‬وتســلمها املســؤول األول مالــك ســيف (انظــر املوســوعة الســرية الثانيـ�ة‪،‬‬
‫ص‪ )231‬وعلــى هــذا يكــون احلــزب قــد بــدل موقفــه خالفــا لتوصيــة فهــد‪.‬‬
‫‪ .23‬املوســوعة الســرية األوىل‪ ،‬ص ‪30‬؛ ولقــاء مــع الرفيــق غســان رفاعــي‪ ،‬عضــو املكتــب‬
‫الســيايس للحــزب الشــيوعي اللبن ـ�اين يف أيــار ‪.1999‬‬
‫‪419‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫والبيـ�ان الرباعـي لـم يصـدر إال يف أوائـل تشـرين األول ‪ 1948‬بينمـا كان احلزب‬
‫الشـيوعي العـرايق قـد حـدد موقفه مـن القضية قبل ذلـك‪ .‬والقول بـأن احلزب‬
‫قـد تأثـر بأفكار الشـيوعي الهنـدي راناجات كوها الذي التقى بشـريف الشـيخ‬
‫باعتبـ�اره رئيسـا لتحريـر جريـدة (األسـاس)‪ ،‬جريدة احلـزب العلني�ة‪ ،‬غير وارد‬
‫هـو اآلخر‪ .‬فطبقا لرسـالة شـريف الشـيخ إىل مركز احلزب واملؤرخـة يف ‪ 11‬تموز‬
‫‪ ،1948‬والتي عثر عليهـا البوليـس يف بيـت مطبعـة احلـزب لدى كبسـها يفهم‬
‫منهـا أن كوهـا لـم يكن قد تعرف بعد على موقف احلزب‪ .‬إذ هو يسـأل عن هذا‬
‫املوقـف فـور اللقاء بشـريف الشـيخ فيخربه هـذا أن جريدة (األسـاس) وقفت‬
‫لبعـض الوقـت مـع إرسـال اجليـوش النظاميـة العتبـ�ارات تكتيكيـة‪ ،‬لكنهـا‬
‫بدلـت موقفهـا بعد ذلك‪ .‬ويب�دي كوها أسـفه أن األحزاب الشـيوعية يف سـوريا‬
‫ولبنـ�ان والعـراق قد فوتت شـهرا واحدا‪ ،‬جـرى فيه القتال يف فلسـطني‪ ،‬دون أن‬
‫تعلـن موقفهـا‪ 24 24.‬إضافـة إىل هـذا فإن احلزب قـد أصدر يف ‪ 6‬تمـوز ‪ 1948‬بي�انا‬
‫إىل جانـب التقسـيم طالـب فيه ب «إقامة دولة عربي�ة ديمقراطية مسـتقلة يف‬
‫‪25 25‬‬
‫اجلـزء العـريب مـن فلسـطني»‪.‬‬
‫علـى أيـة حال‪ ،‬فـإن التب�دل يف موقـف احلزب من القضية الفلسـطيني�ة‬
‫قـد جـرى بت�أثير املوقـف السـوفييت مـن القضيـة‪ .‬لقـد نظـر إىل املسـألة مـن‬
‫زاويـة عالقتهـا باملشـاريع االسـتعمارية املحمومـة وحسـب‪ .‬ما من شـك يف أن‬
‫االسـتعمار الربيطـاين قـد اسـتغل املسـألة إىل أبعـد احلـدود لتمريـر مشـاريعه‪.‬‬
‫وسـخر لهـذا الغـرض تهالـك العائلـة الهاشـمية مـن أجـل إجيـاد عـروش أخـرى‬
‫ليشـغلها كل مـن عبـد هللا‪ ،‬أمير شـريق األردن وعبـد اإللـه‪ ،‬الـويص علـى عـرش‬
‫العـراق‪ .‬ومـا مـن شـك أيضـا يف أن احلزب الشـيوعي العـرايق كان يف تلـك الفرتة‬
‫مغاظـا مـن السياسـات والنشـاطات الشـوفيني�ة والعنصريـة التي مارسـتها‬
‫الفئات «القومية» يف العراق‪ ،‬وىف فلسطني بالذات‪ ،‬السيما الدس الذي لعبه‬
‫أمين احلسـيين‪ ،‬مفتي فلسـطني‪ ،‬يف فلسـطني والعـراق‪ ،‬والسياسـات املوالية‬
‫لربيطانيـ�ا التي سـارت عليهـا الفئـة احلاكمـة يف العـراق‪ ،‬كل هـذه قـد تضافرت‬
‫لتعـزز لـدى أعضـاء احلـزب النظـرة التي تقلـل مـن قيمـة القضايـا القوميـة‪ .‬إن‬
‫مـن يقـرأ مـا كتبـ�ه فهـد بشـأن االحتـاد العـريب الـذي تنشـده الشـعوب العربيـ�ة‬
‫(انظـر مؤلفـات فهـد‪ ،‬ص ‪ )333‬ومجموعـة املقـاالت التي عاجلـت قضايـا‬
‫الوحـدة العربيـ�ة واالحتـاد العـريب‪ ،‬يلمـس النظـرة العميقـة التي نظـر الرجل بها‬
‫إىل هـذا اجلانـب احليـوي مـن نضـال احلـزب وواقعية طرحـه لألمـر‪ .‬ولكن هل‬
‫اقرتنـت هـذه النظـرة برتبي�ة أعضاء احلزب بهذه األفكار بشـكل سـليم والتأكيد‬

‫‪ .24‬املوسوعة السرية الثاني�ة‪ ،‬ص ‪.287‬‬


‫‪ .25‬بطاطو‪ ،‬الكتاب الثاين‪ ،‬ص ‪.257‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪420‬‬

‫علـى اجلوانـب العمليـة فيهـا‪ ،‬وإثـارة االهتمـام لديهـم بالقضايـا القوميـة‬


‫بـدال مـن التقليـل مـن شـأنها؟ لقـد ظـل التثقيـف اإليديولـويج للحـزب خيشى‬
‫أن تصيـب الكادحين عـدوى املشـاعر القوميـة البورجوازيـة‪ .‬ونظـر احلـزب‬
‫إىل القضيـة الفلسـطيني�ة نظـرة جتريديـة وأخضعهـا إىل منطـق احلسـابات‬
‫اإليديولوجيـة البـاردة‪ ..‬وبالـغ باالهتمـام بإلغـاء االنتـ�داب وجلاء القـوات‬
‫الربيطانيـ�ة عـن فلسـطني بينمـا لـم يلتفـت كمـا ينبغـي إىل جرائـم الصهاينـ�ة‬
‫ضـد الشـعب الفلسـطيين بدعـم مـن اإلمربياليـة األنكلـو‪ -‬أمريكيـة‪ ،‬وأوكل‬
‫للمربريـن أن جيـدوا التفسيرات املطلوبـة وتدبيـج املقـاالت إلعطـاء التأويالت‬
‫لهـذا املوقـف أو ذاك‪ ،‬وكان لزكي خريي وشـريف الشـيخ‪ ،‬اللذيـن كانا قد انتميا‬
‫حديثـ�ا إىل احلـزب‪ ،‬دورهمـا يف هـذا التبريـر علـى صفحـات (األسـاس) وعلـى‬
‫صفحـات (القاعـدة) بعـد أن أغلقـت األوىل‪ ،‬وباتت مهمة احلـزب اآلن الدفاع‬
‫عـن موقف االحتاد السـوفييت‪ ،‬ووجد احلزب نفسـه يصـارع كل القوى األخرى‪،‬‬
‫بمـن فيهـا القـوى الديمقراطيـة التي كان يتعـاون معهـا باألمس‪ ،‬بعد أن سـارع‬
‫عزيـز شـريف النتهـاز الفرصـة ليشـن احلـرب علـى موقـف احلـزب الشـيوعي‬
‫يف جريدتـه (الوطـن)‪ .‬لقـد أظهـرت قيـادة امليـدان‪ ،‬وعلى رأسـها مالك سـيف‪،‬‬
‫عجزهـا عـن أن تقـود مسيرة احلـزب حبكمـة وثبـ�ات يف تلـك الفترة العصيبـ�ة‪،‬‬
‫كمـا كشـفت أنهـا ال تتحلـى بالقـدرة علـى التنبـؤ بمسـار األحـداث‪ ،‬فعـدا عـن‬
‫املظاهـرات املتسـرعة التي كلفـت احلزب املئـات من أعضائـه ومؤازريـه‪ ،‬فإنها‬
‫واصلـت ختبطهـا يف مجـال العمـل الدعـايئ‪.‬‬
‫ويف غمـرة األوضـاع الصعبـة التي واجههـا احلـزب مـع إعلان األحـكام‬
‫العرفيـة واحلملات الصحفيـة التي انطلقـت ضـده مـن كل اجلماعـات إثـر‬
‫إعالنـه موقفه اجلديد من القضية الفلسـطيني�ة‪ ،‬يأيت مـن باريس تقرير موقع‬
‫باسـم اللجنـة العربيـ�ة الديمقراطيـة يف باريـس يتنـ�اول القضيـة الفلسـطيني�ة‬
‫بـروح متحيزة إىل جانـب اليهـود‪ ،‬ويت�ابـع تطورهـا منـذ وعـد بلفـور عـام ‪،1917‬‬
‫وتفاقـم املشـكلة اليهوديـة بعـد وصـول النازيـة إىل احلكـم يف ألماني�ا وشـروعها‬
‫باضطهـاد اليهـود يف ألمانيـ�ا ويف البلـدان األوربيـ�ة األخـرى التي احتلتهـا جيوش‬
‫هتلـر وهجـرة اليهـود بأعـداد كبرية إىل فلسـطني‪ .‬ويتحـدث التقريـر بعدها عن‬
‫الـدور الـذي لعبتـ�ه الـدول االسـتعمارية مـن جانـب والرجعيـة العربيـ�ة مـن‬
‫جانـب آخـر يف تعقيـد املسـألة والوصـول بهـا إىل حـد التقسـيم‪ ..‬وعـن طبيعـة‬
‫املجتمـع اليهـودي الـذي تكـون يف فلسـطني إثـر الهجـرة الواسـعة مـن اليهـود‬
‫الذيـن اضطهدتهـم النازيـة‪ ،‬وحـاول التقريـر بهـذا أن يقنع القارئ بـأن املجتمع‬
‫اجلديـد قـد اكتسـب بفعـل التغيرات الكميـة التي طـرأت عليـه وهجـرة أعداد‬
‫كبيرة ال بدافـع الدعايـة الصهيونيـ�ة وإنما بدافـع اللجوء إىل مكان آمن‪ ،‬مسـحة‬
‫تقدميـة‪ ،‬وعامـل القـوى الصهيونيـ�ة بمـا تضفيـه هـي علـى نفسـها مـن مزاعـم‬
‫‪421‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وبـرر قبـول االحتـاد السـوفييت بالتقسـيم واعرتافـه بدولـة إسـرائي�ل‪ .‬ويدعـو‬


‫التقريـر يف خاتمتـه إىل الوقـوف بوجـه احلـرب ضـد إسـرائي�ل والسـعي حلـل‬
‫املشـكلة حلا سـلميا‪ .‬لقـد كتـب التقرير بمـا يتن�اسـب وعقلية املواطـن األوريب‬
‫الـذي يعطـف علـى اليهـود الذين كانـوا يتعرضـون إىل االضطهـاد ودون أن يعار‬
‫فيـه االهتمـام لمـا كانـت تدبـره املنظمـات الصهيونيـ�ة الفاشـية مـن جرائـم يف‬
‫فلسـطني‪.‬‬
‫ليـس واضحـا كيـف جـرى تبني احلـزب الشـيوعي العـرايق لهـذا التقرير‬
‫وطبعـه كتقريـر باسـم «ضوء على القضية الفلسـطيني�ة» يف آب ‪ 1948‬ومن‬
‫الـذي دفـع بوجـه خـاص إىل نشـره‪ .‬يف تلـك األيـام بالـذات كان يهـودا ابراهيـم‬
‫صديـق قـد ابتعـد عمليـا عـن العمـل القيـادي‪ ،‬وهـو العضـو اليهـودي الوحيـد‬
‫آنـذاك يف اللجنـة املركزيـة‪ .‬ولم يكن يف مركـز احلزب أو قريب�ا منـه من العناصر‬
‫اليهوديـة البـارزة ممـن يتحلى بقدرات فكرية سـوى ابراهيم شـاؤول ويوسـف‬
‫زلـوف‪ ،‬وكان األخير قـد نقـل للعمـل يف البصـرة‪ ،‬ولـم يكونـا مـن أعضـاء اللجنـة‬
‫املركزيـة‪ .‬ومـع أن احتمـال سـعي ابراهيـم شـاؤول للتأثير علـى مالـك سـيف‬
‫وارد إذ كان األول يتمتـع بـذكاء ملحـوظ ولباقـة يف احلديـث ويكثر مـن القـراءة‬
‫النظريـة باللغـة اإلجنلزييـة‪ ،‬إال أنين أميل إىل اعتب�ار شـريف الشـيخ هو املحرك‬
‫وراء نشـر هـذا التقريـر‪ ،‬وكانـت جلنة الطلاب اليت أصـدرت التقريـر يف باريس‬
‫تتصـل باحلزب الشـيوعي العـرايق من خالله‪ .‬لقد أسـاء طبع التقريـر وتوزيعه‬
‫إىل احلـزب كثيرا ودفـع إىل نقاشـات حـادة داخلـه وانسـحاب أعـداد ليسـت‬
‫قليلـة مـن صفوفـه‪ .‬واسـتغلته األوسـاط الرجعيـة كثيرا لتشـويه سـمعته‬
‫ليـس يف وقتـه فحسـب‪ ،‬وإنمـا يف العقـود التاليـة أيضـا رغـم افتضـاح أمـر هـذه‬
‫األوسـاط وغريهـا يف هـذه املسـألة بالـذات‪ .‬كمـا اختذتـه األوسـاط «القومية»‬
‫ورقـة تشـهرها بوجـه احلـزب يف كل مناسـبة‪ .‬وزاد يف األمـر سـوءا أن عزيـز‬
‫شـريف‪ ،‬الـذي كان يتصيـد آنـذاك كل زلـة على احلـزب قد اسـتخدم التقرير يف‬
‫شـن حملات صحفيـة يف جريـدة (الوطـن) علـى احلـزب باسـم «الدفـاع عـن‬
‫السياسـة الصحيحـة حلـل القضيـة الفلسـطيني�ة» ليرد عليـه زكـي خيري ردا‬
‫حـادا يف (األسـاس) وبعدهـا يف (القاعـدة) باسـم الدفـاع عـن األمميـة‪.‬‬
‫بيـ�د أن قيـادة احلـزب ممثلـة باملكتـب السـيايس وعلـى رأسـه فهـد الذي‬
‫كان يطبـق عليـه السـجن يومـذاك‪ ،‬اسـتاءت هـي األخـرى مـن نشـر التقريـر‪.‬‬
‫ويذكـر الذيـن زاملـوا فهـد يف سـجن الكـوت أنـه حين تسـلم التقريـر طلـب إىل‬
‫أحـد رفاقـه أن يقـرأه بصـوت عـال ليسـمعه السـجناء السياسـيون يف (تنظيـم‬
‫الشـيوعيني) كمـا هـي العـادة يف التعامـل مـع أدبيـ�ات احلـزب التي تصـل‬
‫السـجن‪( .‬ولـم يكـن قـد اطلـع علـى محتـواه بعـد) ولكـن مـا إن بـدأ القـارئ‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪422‬‬

‫بتـلاوة الفقـرات األوىل مـن التقرير حىت بـادر إىل إيقافه دون أن خيفي اسـتي�اءه‪.‬‬
‫ولـم يقـرأ التقريـر بعدهـا‪ .‬وقـد أكـد هـذه الواقعـة أيضا الشـخصية السياسـية‬
‫والقانونيـ�ة املعـروف يف العـراق ‪ -‬سـالم عبيـ�د النعمـان‪ ،‬الـذي كان سـجين�ا مـع‬
‫فهـد يومـذاك يف حديث له مع بطاطـو (الكتاب الثـاين‪ ،‬ص ‪ .)260/259‬ويف‬
‫عـام ‪ ،1956‬عـاد احلـزب إىل موضوع التقريـر يف الكونفرنس الثاين وأدان نشـره‬
‫وقـال عنـه إنه‪:‬‬
‫«زيـف حقائـق الوضـع يف فلسـطني‪ ،‬وتستر علـى بشـاعة الصهيونيـ�ة‬
‫‪26 26‬‬
‫وعدوانيتهـا‪ ،‬وأسـاء إىل فكـر الماركسـية اللينينيـ�ة»‪.‬‬

‫مـن حـق املـرء أن يتسـاءل هنـا‪ ،‬ليـس اآلن فقـط بعـد أن مضى أكثر مـن‬
‫نصـف قـرن على ضياع فلسـطني‪ ،‬وبانـت تماما مواقـف كل القوى السياسـية‬
‫مـن القضيـة‪ ،‬وبـات حتى ني�ل جـزء يسير ممـا كان قد منحه مشـروع التقسـيم‬
‫للعـرب مـن فلسـطني يتطلـب نضـاال عنيـ�دا وشـروطا قاسـية وجديـة‪ ،‬وإنمـا‬
‫حتى يف ذلـك الزمـن الـذي صبـت فيـه النيران علـى احلـزب الشـيوعي العـرايق‬
‫واألحـزاب الشـيوعية يف البلـدان األخـرى‪ ..‬مـاذا عملـت القـوى األخـرى حقـا‬
‫لنصـرة الشـعب الفلسـطيين وللحفـاظ علـى حقه يف بلاده غير اخلطابات؟ ال‬
‫نريـد أن ندخـل هنـا يف تفاصيـل مـا جـرى منـذ ذلـك احلين‪ ..‬فليـس مـن مهمـة‬
‫هـذا املؤلـف أن يعالج هـذا األمر‪ ،‬وإنما يكفين�ا أن نشير إىل أن احلكام العراقيني‬
‫ومـن سـار بمعيتهـم كانـوا أعلـى صراخـا يف احلديـث عـن فلسـطني‪ ،‬غير أنهـم‬
‫كانـوا‪ ،‬يف واقـع احلـال‪ ،‬أبعـد مـن أن يكونـوا مدافعين حقيقيين عـن الشـعب‬
‫الفلسـطيين وحقوقـه‪ .‬فطبقـا لمـا يرويـه الباحث الفلسـطيين املعـروف أنيس‬
‫صايـغ‪ ،‬فـإن هـؤالء احلـكام منعـوا جمعيـة إنقـاذ فلسـطني عـن ممارسـة أي‬
‫نشـاط‪ ،‬وامتنـع العـراق واألردن عـن دفـع أكثر مـن ‪ %12‬مـن مزيانيـ�ة اجلامعـة‬
‫العربيـ�ة‪ ،‬ورفـض البلدان تشـكيل جلنة عسـكرية لإلشـراف علـى إدارة القتال‬
‫‪27 27‬‬
‫وتدريـب عـرب فلسـطني‪ ،‬ومضايقـه جيـش اإلنقـاذ‪.‬‬
‫ويذكـر تقريـر جلنـة التحقيـق الني�ابيـ�ة (وهـو تقريـر سـري مطبـوع يف‬
‫مطبعـة احلكومـة يف بغـداد عـام ‪ )1949‬أنـه يف الفترة مـا بين صـدور قـرار‬

‫‪ .26‬تقريــر اللجنــة املركزيــة إىل الكونفرنــس الثــاين ‪ -‬خطتن ـ�ا السياســية يف ســبي�ل التحــرر‬
‫الوطــي والقــويم‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪ .27‬أنيــس صايــغ‪ ،‬الهاشــميون وفلســطني‪ ،‬ص‪ .243،‬نقــا عــن الدكتــور ممــدوح‬
‫الروســان‪ ،‬العــراق وقضايــا الشــرق العــريب القوميــة‪ ،‬املؤسســة العربيـ�ة للدراســات والنشــر‪،‬‬
‫بــروت‪ ،1979 ،‬ص ‪.261‬‬
‫‪423‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫التقسـيم وإعلان بريطانيـ�ا انسـحابها ثـم يالحـظ يف البلاد العربيـ�ة عامـة‬


‫والعـراق خاصـة مـا يشـعر بإقبـال البلاد العربيـ�ة علـى حـرب حتريريـة‪ -‬فلـم‬
‫تعبـأ قـوى ومـوارد البلاد ال كليا وال جزئي�ا‪ ،‬ولم تسـتكمل النواقـص الكثرية اليت‬
‫صـارت تعـاين منها وحداتن�ا‪ ،‬ولـم تتصل اجلهود اليت بذلـت يف لندن‪ ،‬وثم تتخذ‬
‫االحتي�اطيـات الفرديـة حلماية أي مجهود حريب ملواجهة الدولة اليهودية‪ ،‬وأكرث‬
‫مـن هـذا لـم تنظـم مزيانيـ�ة حـرب تنهـض بأعبـاء العمليـات احلربي�ة الوشـيكة‬
‫الوقـوع‪ .‬يف اجلملـة ثـم تتخذ من اإلجـراءات ما ينئب بـأن البلاد العربي�ة مقدمة‬
‫علـى حـرب ‪ 28 28‬ويقـول قائـد القـوات العراقيـة يف فلسـطني‪ ،‬الفريق نـور الدين‬
‫محمـود‪ ،‬يف تقريـره الـذي رفعـه إىل رئاسـة أركان اجليـش العـرايق يف حزيـران‬
‫‪ ،1948‬إنـه فتـش القـوة اآلليـة فوجـد «أن معظـم جنـود الفـوج اآليل غير‬
‫مدربين حتى أن القسـم األعظـم لم يرمـوا بأسـلحتهم اخلاصة بهـم و‪ ..‬علمت‬
‫أن الفـوج املذكـور اسـتلم مدافع الهاون يـوم حركته من بغـداد‪ ،‬وال يعلم أحد يف‬
‫الفـوج حتى وال بالقـوة اآلليـة كلهـا‪ ،‬كيفيـة اسـتخدام هـذا املدفـع»‪ .‬ويتحدث‬
‫بعـد ذلـك عـن نقـص العتـاد واالفتقـار إىل خـط للمواصلات وغير ذلـك مـن‬
‫النواقـص‪ ،‬وينتهـي إىل القـول‪:‬‬
‫«هكـذا كانـت احلالـة للقـوة اآلليـة املرسـلة إىل فلسـطني واملزمـع‬
‫إشـراكها يف القتـال‪ ،‬دون التهيـؤ لـه‪ ،‬وإن وضعية كهـذه جعلتين يف حالة‬
‫‪29 29‬‬
‫اسـتغرابمـنإرسـالقـواتوزجهـايفالقتـالبهـذاالوضـعالناقـص»‬

‫وكمـا يضيـف ممـدوح الروسـان أن وزارة الدفـاع العراقية لـم تعمل على‬
‫اسـتكمال النقـص يف أسـلحة اجليـش العـرايق قبل االشتراك الرسمي يف حترير‬
‫فلسـطني كما أكد تقرير جلنة التحقيق الني�ابي�ة‪30 30 ...‬وثم تسـتأنف احلكومة‬
‫العراقيـة طلبهـا السـتكمال النقـص إال يف أيلـول ‪ ،1948‬أي بعـد انتهـاء حـرب‬
‫فلسـطني‪ ،‬ويعلـق‪ :‬يتبين لنـا عـدم وجـود النيـ�ة الصادقـة يف احلـرب مـن أجـل‬
‫حتريـر فلسـطني‪ .‬إن فهـد كان علـى حق حني قال يف إحدى رسـائله إىل املسـؤول‬
‫األول‪:‬‬
‫إننـ�ا ال نـرى أية فائدة للتطـوع‪ ،‬إذ أنن�ا ال نثق بقيـادة الرجعية اليت اختذت‬

‫‪ .28‬ممدوح الروسان‪ ،‬ص ‪.267‬‬


‫‪ .29‬احلسين‪ ،‬تاريخ الوزارات‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪.308‬‬
‫‪ .30‬ممدوح الروسان‪ ،‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.262‬‬
‫نيطسلفلا ةلأسملاو يقارعلا يعويشلا بزحلا‬ ‫‪424‬‬

‫‪31 31‬‬
‫هـذه املهزلـة وسـيلة لتنفيذ أغـراض اسـتعمارية مفضوحة‪.‬‬

‫تـرى‪ ،‬مـا الـذي يمكـن أن يفهمـه مـن يقـرأ هـذا الفصـل؟ هـل يمكـن بأي‬
‫حـال‪ ،‬وبـأي صـورة مـن الصـور‪ ،‬حتى لـو نظـر إىل األحـداث بعدسـة محدبـة‬
‫أو مقعـرة أو مشـوهة بـأي شـكل كان‪ ،‬يمكـن أن ينسـب نكبـة فلسـطني إىل‬
‫موقـف احلـزب الشـيوعي العـرايق واألحـزاب الشـيوعية يف البلـدان العربيـ�ة‬
‫االخـرى؟ أو علـى األقـل يمكـن أن ينسـب إىل هـذه األحـزاب تعقيـدا جديـدا‬
‫زاد يف عمـق النكبـة؟ وهـل اسـتطاع اآلخـرون بـكل مـا نـادوا بـه طـوال نصـف‬
‫القـرن أن يعيـدوا للشـعب الفلسـطيين أرضه أو حتى بعض أرضـه وأن يعيدوا‬
‫الشـعب الفلسـطيين إىل هـذه األرض؟ حقـا لقـد أخطـأ احلـزب الشـيوعي‬
‫العـرايق بت�أييـ�ده قرار التقسـيم املشـؤوم وكان يمكـن أن يواصل موقفه السـابق‬
‫لشـهرين أو ثالثـة أخـرى‪ .‬فلـو افرتضنـا أنه مـا كان لريتكـب هذا اخلطـأ وما كان‬
‫لينشـر تقريـر (ضـوء علـى القضيـة الفلسـطيني�ة)‪ ،‬وظـل يصـرخ كمـا صـرخ‬
‫اآلخـرون‪ ،‬بـل وحتى بصـوت أعلـى‪ ،‬فهـل كانت القـوى الرجعيـة احلاكمـة ومن‬
‫سـايرها سـتكف عـن اضطهـاده وتعفيـه مـن نصـب املشـانق؟ وعلـى أيـة حـال‬
‫لـو أن احلـزب قـد واصـل معارضتـه لقـرار التقسـيم حتى األخير لسـهل لـه أن‬
‫يرفـع صوتـه بقـوة أكبر ضـد الطريقـة التي اسـتخدمت بهـا اجليـوش العربيـ�ة‬
‫وخضـوع حتـركات اجليـش العـرايق إىل هيمنـة عبد هللا ومـن ورائه كلوب باشـا‪،‬‬
‫ولـكان يف وضـع أفضـل يف الدفـاع عـن مواقفـه الطبقيـة يف قضية فلسـطني‪ .‬إذ‬
‫حتى بعـد أن افتضحت سياسـة احلكام العرب يف فلسـطني لم يكـن احلزب يف‬
‫وضـع سـيايس مناسـب ليشـن الهجوم علـى مواقف احلكـم الرجعـي يف العراق‬
‫بشـأن املسـألة‪ ،‬وظـل يتخـذ موقف الدفـاع فيها بينمـا كان هذا احلكم يكشـف‬
‫عـن ختاذلـه والـذي عبر عنـه بمشـاركته مـع الـدول العربيـ�ة األخـرى يف الطلـب‬
‫مـن وزارة اخلارجية األمريكية للتوسـط لدى إسـرائي�ل للقبـول بتطبيق قرارات‬
‫‪32 32‬‬
‫التقسـيم الصـادرة عـن األمـم املتحـدة يف عـام ‪!1947‬‬
‫‪ .31‬املوسوعة السرية الثاني�ة‪ ،‬ص‪.235‬‬
‫‪ .32‬تقريــر الســفارة الربيطاني ـ�ة الســري الصــادر مــن بغــداد يف ‪ .1950/1/3‬أنظــر منــذر‬
‫الونــداوي‪ ،‬العــراق يف التقاريــر الســنوية للســفارة الربيطانيــ�ة‪ ،‬دار الشــؤون الثقافيــة‬
‫العامــة‪ ،‬بغــداد‪ ،1992 ،‬ص ‪.104‬‬
‫‪16‬‬
‫انتكاســة عام ‪1949‬‬

‫يف خريـف ‪ ،1948‬شـن احلـزب‪ ،‬كمـا الحظنـا يف الفصـل الرابـع عشـر‪،‬‬


‫حملـة سياسـية مـن أجل فضـح مواقـف احلكم الرجعي مـن القضايـا الوطني�ة‬
‫األساسـية‪ .‬كانـت هنـاك‪ ،‬أوال‪ ،‬األحـكام العرفيـة اليت أعلنت يف اخلامس عشـر‬
‫مـن أيـار بذريعـة حمايـة مؤخـرة اجليـش الـذي زج يف حـرب فلسـطني بزعـم‬
‫حتريرهـا‪ ،‬وظهـر أن هـذه األحـكام قـد أعلنـت يف واقـع احلـال لضـرب احلركـة‬
‫الوطنيـ�ة بمختلـف فصائلهـا‪ ،‬ممـا دفـع حتى أحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة إىل‬
‫االحتجـاج عليهـا واملطالبـة بإلغائهـا‪ .‬وكانـت هنـاك‪ ،‬أيضـا‪ ،‬األوضاع املعاشـية‬
‫الصعبـة واسـتفحال أزمـة اخلبز‪ ،‬السـيما يف العاصمـة‪ ،‬للسـنة الثانيـ�ة علـى‬
‫التـوايل‪ .‬كمـا كانـت هنـاك النشـاطات االسـتعمارية لربـط العـراق بمشـاريع‬
‫االسـتعمار الربيطـاين التي راحـت تتكشـف مـن جديـد مـع عـودة أقطـاب‬
‫معاهـدة بورتسـموث إىل التحـرك‪ ،‬وعـودة بعضهـم إىل كـرايس احلكـم (دخـل‬
‫شـاكر الـوادي حكومـة مزاحـم الباجـه يج كوزيـر للدفـاع مـن جديـد)‪ .‬كذلـك‬
‫افتضحـت طبيعـة احلـرب التي شـنتها احلكومـات العربيـ�ة يف فلسـطني‬
‫ودور العـراق فيهـا وكان قـد دخلهـا حتـت مظلـة أمير شـرق األردن عبـد هللا بـن‬
‫احلسين وقائـد قواتـه‪ ،‬الربيطـاين اجلنسـية‪ ،‬كلـوب باشـا الـذي كان يتحكـم‬
‫‪11‬‬
‫بتحـرك اجليـش العـرايق يف فلسـطني بمـا يتفـق ومصالـح الصهيونيـ�ة‪.‬‬
‫بيـ�د أن احلملـة السياسـية للحـزب كانـت تعـاين مـن نقطتي ضعـف‬
‫أساسـيتني‪ :‬أوالهما‪ ،‬أن احلزب قد خاضها بعد أن انعزل عن كل القوى األخرى‬
‫بمـن فيهـم حلفـاء األمس من الديمقراطيني اليسـاريني‪ ،‬وبعد أن شـنت ضده‬

‫‪ .1‬للتعــرف علــى الــدور العــرايق الفعلــي يف حــرب فلســطني‪ ،‬انظــر‪ :‬ممــدوح الروســان‪ ،‬ص‬
‫‪265-258‬؛ وعبــد الــرزاق احلســي‪ ،‬الهوامــش يف ص‪ ،319‬ص ‪.320‬‬
‫‪426‬‬
‫‪427‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫حملـة دعائيـ�ة ضاريـة وواسـعة ملوقفـه االنعـزايل يف القضيـة الفلسـطيني�ة‪.‬‬


‫وثانيتهمـا‪ ،‬الضعـف املتأصـل يف قدراتـه القياديـة امليدانيـ�ة والـذي تبـ�دى‪ ،‬كمـا‬
‫الحظنـا سـابقا‪ ،‬يف تنظيمـه مظاهـرات متالحقـة اعتمـدت يف األسـاس علـى‬
‫قـواه الذاتيـ�ة وحدهـا‪ ،‬أعضائـه ومؤازريه اللصيقين به وعجزه عـن حتويلها إىل‬
‫مظاهـرات شـعبي�ة واسـعة‪ ،‬ومـا أسـفرت عنـه هـذه املظاهـرات مـن اعتقاالت‬
‫واسـعة كانـت تزيـد يف إنهاكـه‪ .‬لقـد أضـرت هذه السياسـة باحلـزب‪ ،‬وضمنت‬
‫للعـدو وضعـا أفضـل يف هجومـه املعاكس الذي كان يسـعى للشـروع بـه‪ ،‬ومهد‬
‫لـه باألحـكام العرفية‪.‬‬
‫يف غمـرة هـذه األوضاع السياسـية والهجوم املضاد الذي شـرع به احلكم‬
‫الرجعـي‪ ،‬تـأيت مـن داخل احلـزب وشـاية توفر للبوليـس الفرصة التي كان حيلم‬
‫بهـا لطعـن احلـزب يف القلب تماما ‪ -‬ففـي ‪ ،1948/10/9‬اتصـل عبد الوهاب‬
‫عبـد الـرزاق (أدهـم)‪ ،‬الذي كان قبل سـنتني مرشـحا للجنـة املركزيـة‪ ،‬ببوليس‬
‫األمـن (التحقيقـات اجلنائي�ة)‪ ،‬وأبدى اسـتعداده لهم يف كشـف البيت احلزيب‬
‫الذي يسـكنه يهودا ابراهيم صديق‪ ،‬وكان حيسـبه املسـؤول األول للحزب‪ .‬كان‬
‫عبـد الوهـاب قـد أبعـد عـن مراكـز املسـؤولية منـذ سـنتني‪ ،‬وتنقـل مختفيـا مـا‬
‫بين بغـداد وكركـوك وخانقين ثـم عـاد إىل بغـداد وقـد تعب مـن حيـاة االختفاء‬
‫املضنيـ�ة يف بيـوت الرفاق‪ .‬لهذا بدأ ينمو لديه حقد خاص إزاء مسـؤويل احلزب‪،‬‬
‫على‬‫لذا شـرع يعمل لالنتقام‪ .‬تظاهر أن بوسـعه أن يساعد احلزب يف احلصول َ‬
‫حـروف ومـواد طباعيـه من إيـران عن طريـق معـارف موثوقني يف خانقين‪ .‬ألح‬
‫بطلـب اللقـاء مـع يهـودا صديـق‪ .‬ولغفلـة القيـادة حسـبت أن ال ضير يف أن يتم‬
‫اللقـاء بينهمـا يف ذات البيـت الـذي أسـكن فيـه يهـودا‪ ،‬وألنها كانت يف األسـاس‬
‫تريـد التخلـص مـن يهـودا صديق وقد يسـهل لـه عبد الوهـاب السـفر إىل إيران‬
‫كمـا يزعـم‪ .‬وكان يعيـش يف هذا البيـت إىل جانب يهودا كل من جاسـم حمودي‪،‬‬
‫عضـو اللجنـة املركزيـة واملسـاعد األول لمالـك سـيف‪ ،‬وهـادي عبـد الرضـا‪،‬‬
‫املراسـل األول للجنـة املركزية‪ ،‬وعزيـز محمد‪ ،‬الكادر املتخفي آنـذاك الذي يجء‬
‫بـه هـو وأمـه من أربيـ�ل‪ .‬ويرتدد علـى البيت مالك سـيف‪ .‬أخذ عبـد الوهاب إىل‬
‫هـذا البيـت ليسـاعد يهـودا علـى السـفر كمـا كان يريـد‪ ،‬وليبحـث معـه األمـور‬
‫الطباعيـة‪ .‬وبعـد أن أنهـى هـذا مهمتـه املزعومـة خـرج ليتصـل بالبوليـس الذي‬
‫كان يراقـب حتركـه بالطبـع‪ .‬بعد سـاعتني مـن هذا اللقـاء‪ ،‬داهم البوليـس الدار‬
‫وألقـى القبـض علـى كل مـن كان فيهـا ‪ ٠‬كمـا ألقـي القبـض علـى مالـك سـيف‬
‫الـذي جـاء إىل الـدار حبثـا عن مراسـله اخلاص هـادي عبد الرضا‪ ،‬بعـد أن تغيب‬
‫عليـه كثيرا‪ .‬كذلك داهم البوليـس كل البيوت اليت دل عليهـا عبد الوهاب عبد‬
‫الـرزاق يف كركـوك وخانقين وبعقوبـة وبغداد‪ ،‬وكانـت حصيلة هـذه املداهمات‬
‫اعتقـال عديـد مـن كـوادر احلـزب ومـن بينهـم نافـع يونـس‪ ،‬عضـو اللجنـة‬
‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪428‬‬

‫املركزيـة ومسـؤول املنظمـات يف اإلقليـم‪ ،‬واحمد غفور‪ ،‬مسـؤول السـليماني�ة‪،‬‬


‫وجمـال احليـدري‪ ،‬مسـؤول اربي�ل‪ ،‬وحسـن الزهـاوي‪ ،‬مسـؤول خانقني‪.‬‬
‫ركـز البوليـس جهـده وتعذيبـ�ه على يهـودا ابراهيـم صديق‪ ،‬ظنـا منه انه‬
‫هـو املسـؤول األول‪ -‬وقـد ظل هذا على صمته طوال ما يزيد على الشـهر برغم‬
‫مـا تعـرض لـه مـن تعذيـب مـادي ومعنـوي‪ .‬وخلال تلـك الفترة سـارع العامل‬
‫الشـيوعي حسـاين علـي‪ ،‬عامـل السـكك القديـم الـذي أصبـح عامـل طباعـة‬
‫احلـزب واملسـؤول عـن البيـت احلـزيب الـذي اودعـت فيـه مطبعـة احلـزب‪ ،‬إىل‬
‫إدارة العمـل احلـزيب مؤقتـا إذ كان يعـرف اغلـب الكـوادر املتقدمـة التي سـلمت‬
‫مـن االعتقـال يف بغـداد‪ ،‬وكـون منهـم مركزا لقيـادة نشـاط احلـزب يت�ألف منه‬
‫ومـن عزيـز احلـاج وعبـد السلام الناصـري‪ ،‬املرشـح للجنـة املركزيـة‪ ،‬واتصـل‬
‫يف ذات الوقـت بفهـد يف سـجن الكـوت ليخبره بمـا جـرى‪ ،‬ويستفسـر منـه عـن‬
‫الرفـاق الذيـن يكونـون املركز‪.‬‬
‫وجـاءت تعليمـات فهـد اخلطيـة‪ ،‬كمـا يـروي عزيـز احلـاج‪ ،‬بإيـداع‬
‫املسـؤولية األوىل عـن عمـل احلزب إىل سـايم نـادر‪ ،‬عضو اللجنـة املركزية‪ ،‬وإذا‬
‫تعـذر ذلـك فيعهـد باملسـؤولية األوىل إىل كل مـن عزيـز احلـاج وعبـد تمـر‪ ،‬عامل‬
‫السـكك القديـم وعضـو املكتـب السـيايس بالتضامـن‪ .‬ولمـا كان سـايم نادر يف‬
‫مصـح يف لبنـ�ان‪ ،‬يعالـج مـن مـرض السـل‪ ،‬بلـغ عبـد تمـر بتوصيـة فهـد‪ ،‬إال انه‬
‫اعتـذر عـن حتمـل ايـة مسـؤولية‪ .‬إذاك حل يف مركـز احلزب كل مـن عزيز احلاج‬
‫الـذي كان يديـر تنظيمـات الطلبـة‪ ،‬وعبـد السلام الناصـري‪ ،‬املرشـح للجنـة‬
‫‪22‬‬
‫املركزيـة‪.‬‬
‫يبـ�دو أن الكـوادر التي سـلمت مـن اعتقـال البوليـس حتى ذلـك‬
‫احلين‪ ،‬وقيـادة احلـزب يف السـجن‪ ،‬لـم يـدركا سـعة اخلطـر الـذي بـات يتهـدد‬
‫احلـزب‪ .‬ولـم تنتبـ�ه كال املجموعتين بالقـدر الـكايف إىل احتمـاالت االنهيـارات‬
‫واالعرتافـات‪ .‬فاملسـؤولون املؤقتـون يف بغـداد بـدال مـن أن ينصرفـوا إىل دراسـة‬
‫الوضـع جيـدا واختـاذ اإلجـراءات املناسـبة لتقليـل أخطـار توسـع الضربـة التي‬
‫وجهـت للحـزب وحتـاىش انكشـاف املزيـد مـن تنظيمـات احلـزب واعتقـال‬
‫أعضائـه‪ ،‬واصلـوا سياسـة الهجـوم وتنظيم املظاهـرات‪ 3 3.‬يف املقابل‪ ،‬حذر فهد‬
‫من نقل مطبعة احلزب خشـية أن يؤدي نقلها إىل انكشـافها‪ ،‬كذلك لم يسـارع‬
‫إىل نصحهـم بضـرورة خفـض النشـاطات الهجومية لتحـايش التفريط بالقوى‬
‫يف هـذا الظـرف‪ ،‬ونسي أنـه قبـل اعتقالـه كان قـد أوىص بنقـل مطبعـة احلـزب‬
‫واختـاذ إجـراءات الصيانـة األخـرى يف حالـة اعتقاله هو والتزم الذين تولـوا إدارة‬

‫‪ .2‬عزيز احلاج‪ ،‬ذاكرة حتت الطلب‪ ،‬باريس‪ ،1997 ،‬ص ‪.22‬‬


‫‪429‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫العمـل احلـزيب بعـد اعتقالـه بوصيتـ�ه رغـم ثقتهـم بـه وبرفاقـه اآلخريـن‪.‬‬
‫يف احلـادي عشـر مـن تشـرين الثـاين انهـار يهـودا صديـق فجـأة واعترف‬
‫أمـام املحققين انـه ليـس هـو املسـؤول األول عن احلـزب‪ ،‬وأن مالك سـيف هو‬
‫الـذي يشـغل موقـع املسـؤولية األوىل‪ .‬يبـ�دو أن يهـودا صديـق قـد انهـار حتـت‬
‫وطـأة التهديـد باملـوت‪ .‬وبعـد انهيـاره صار شـاهدا ذليال علـى كل مـن يعرفه بل‬
‫ودبـر أمـر إخراجـه مـن التوقيـف لبعـض الوقـت وسـمح لـه بالذهـاب إىل داره‬
‫بعـد أن أشـيع أنـه فر مـن (التحقيقـات اجلنائيـ�ة) وتركت له الفرصـة ليتجول‬
‫يف بغـداد بغيـة التعـرف علـى مزيـد مـن كـوادر احلـزب والبيـوت‪ 4 4 .‬أمـا مالـك‬
‫سـيف‪ ،‬الـذي لـم يكن قـد تعرض للتعذيـب حىت اعرتاف يهـودا‪ ،‬فإنه سـارع إثر‬
‫اعرتاف يهودا إىل اإلدالء فورا بكل ما يملك من معلومات عن كوادر وتنظيمات‬
‫وعالقـات وأسـرار احلـزب‪ ،‬ولـم يسـلم مـن اعرتافاتـه حتى أولئـك الذيـن مـروا‬
‫مـرورا عابـرا باحلـزب‪ ،‬بـل لم يتورع حىت عـن االفرتاء يف بعض احلـاالت لإليقاع‬
‫بالنـاس‪ .‬وبـات همه األول أن يوسـع دائـرة األذى المادي واملعنـوي اليت يلحقها‬
‫باحلـزب‪ ،‬وقـد بلغـت بـه الصالفـة إىل احلـد الـذي كتـب فيـه رسـالة إىل األمـن‬
‫يقـول فيهـا إنه مسـتعد لتقديم مسـاعداته لهم حتى وإن كان يف غرفة اإلعدام‪.‬‬
‫اسـتن�ادا إىل معلومـات مالـك سـيف سـارع البوليـس إىل مداهمـة بيـت‬
‫املطبعـة احلزبيـ�ة يف مسـاء ‪ ،1948/11/11‬وإلقـاء القبـض على حسـاين علي‪،‬‬
‫وعلـى الرفيقـة املكلفـة باملراسـلة احلزبيـ�ة‪ ،‬فدلـت هـذه علـى البيـت الـذي كان‬
‫يسـكنه عزيـز احلـاج وعبـد السلام الناصـري يف ذات الوقـت الذي كانـا يتهيأن‬
‫‪55‬‬
‫فيـه إىل تـرك هـذه الـدار إىل أخـرى‪ .‬ومرة أخـرى جيد احلـزب نفسـه دون مركز‪.‬‬
‫وجـدت الرجعيـة احلاكمـة يف االضطـراب الـذي حـاق باحلـزب أن‬
‫الفرصـة قـد سـنحت للتخلـص مـن فهـد وزميليـه يف املكتـب السـيايس‪ ،‬زكـي‬
‫‪ .5‬إثــر اعتقــال عزيــز احلــاج وعبــد الســام الناصــري‪ ،‬بــادرت مجموعــة مــن الكــوادر‬
‫الــي كانــت تتصــل بهمــا إىل تكويــن جلنــة مؤقتــة ضمــت محمــد عبــد اللطيــف‪ ،‬املــدرس‬
‫يف كليــة الهندســة‪ ،‬وهاشــم عبــد هللا الطالــب يف كليــة الهندســة‪ ،‬ورفيــق جــاالك وصــري‬
‫عبــد الكريــم‪ ،‬ووزعــوا املهمــات فيمــا بينهــم‪ .‬واتصــل مســؤول اللجنــة‪ ،‬محمــد عبــد اللطيــف‬
‫بقــادة احلــزب يف الســجن فــأوىص هــؤالء بــأن تواصــل اللجنــة املؤقتــة العمــل مؤقتــا حــى‬
‫تت�دبــر القيــادة األمــر‪ ،‬كمــا أوصــت بــأن يتســلم ساســون دالل الــذي هــرب مــن ســامراء‬
‫(وكان مبعــدا فيهــا) بتوصيــة مــن فهــد‪ ،‬املســؤولية األوىل لمــا يتمــز بــه مــن قــدرات فكريــة‬
‫وسياســية‪ .‬كمــا أوصــت بــأن يضــم إىل اللجنــة كل مــن عبــد تمــر وعبــد الــرزاق مطــر (املرشــح‬
‫للجنــة املركزيــة) إال آن اللجنــة املؤقتــة لــم تتصــل بهمــا‪ .‬وبعــد أيــام اعتقــل كل مــن محمــد‬
‫عبــد اللطيــف وهاشــم عبــد هللا‪ ،‬فظــل الثالثــة‪ :‬ساســون دالل ورفيــق جــاالك وصــري عبــد‬
‫الكريــم هــم الذيــن يقــودون العمــل‪ .‬وقــد واصلــت هــذه اللجنــة عملهــا حــى ‪ 19‬شــباط‬
‫‪.1949‬‬
‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪430‬‬

‫محمـد بسـيم (حازم) وحسين محمد الشـبييب (صـارم)‪ .‬لذلك جـاءت بهم يف‬
‫‪ 21‬كانـون األول ‪ 1948‬إىل معتقـل أبـو غريـب لتعيـد محاكمتهم أمـام املجلس‬
‫العـريف العسـكري وتتخلـص منهم نهائيـ�ا‪ .‬ويف ‪ 10‬شـباط اقتيـ�دوا إىل املحاكمة‬
‫بتهمة االسـتمرار يف قيادة احلزب الشـيوعي اسـتن�ادا إىل الرسـائل اليت كان فهد‬
‫يبعـث بهـا إىل املسـؤول األول وعثر علـى واحـدة منهـا يف جيـب بنطلـون يهـودا‬
‫صديـق‪ ،‬وإىل الشـهادات اىل أدىل بهـا مالـك سـيف ويهـودا صديـق واآلخـرون‬
‫ذوو العالقـة بهـذه الرسـائل‪ .‬وبرغـم أن فهـد ورفيقيـه قـد نفـوا التهمـة‪ ،‬وأنهـم‬
‫يف سـجنهم ال يمكـن أن يقـودوا عمليـا حركـة سياسـية واسـعة‪ ،‬إال أن املجلـس‬
‫العـريف العسـكري حكـم علـى ثالثتهـم باإلعـدام‪ ،‬كمـا هـو املقـرر ‪ ، 6 6‬ونفـذت‬
‫األحـكام يف ‪ 14‬و‪ 15‬شـباط‪ ،‬واختيرت سـاحة املتحـف الوطين يف الكـرخ إلعدام‬
‫فهد‪ ،‬وباب املعظم إلعدام حسين الشـبييب يف اليوم األول‪ ،‬وإعدام زكي محمد‬
‫بسـيم يف البـاب الشـريق يف اليوم الثـاين‪ .‬كذلك جرت محاكمة يهـودا صديق مع‬
‫جمهـرة مـن الكـوادر يف يـوم ‪ 13‬شـباط‪ ،‬وحكـم على يهـودا باإلعـدام‪ ،‬وباألحكام‬
‫الثقيلـة التي تصـل بعضهـا حـد السـجن املؤبـد علـى اآلخريـن‪ ،‬وسـيقوا مـن‬
‫هنـاك إىل السـجن السـيايس يف سـجن بغـداد ومـن هنـاك مباشـرة إىل سـجن‬
‫نقـرة السـلمان الصحـراوي‪.‬‬
‫لقـد ارتقـى قادة احلـزب الثالثة املشـانق بعزيمة الشـجعان الذين آمنوا‬
‫عـن وعـي بأهدافهم ومبادئهـم‪ ،‬ولم ينقل عنهم جالدوهـم أن ثب�اتهم قد خانهم‬
‫أمـام املشـانق‪ .‬وقـد نقـل رفاقهـم أن ثالثتهـم عربوا عـن إيمانهم بانتصـار قضية‬
‫الشـعب‪ .‬فقـد نقـل عن فهد أنـه قال‪:‬‬
‫«الشيوعية أقوى من املوت وأعلى من املشانق»‬
‫وقوله «لن يموت شعب يقدم الضحايا»‬

‫وقوله أيضا‪:‬‬
‫«حنن أجسام وأفكار‪ ،‬فإن أفنيتم أجسامنا فلن تقضوا على افكارنا»‬

‫‪ .6‬كان مــن رأي نــوري الســعيد أن يشــمل إعــدام قــادة احلــزب الشــيوعي الثالثــة علــى‬
‫أن يكــون أحدهــم مســلما والثــاين يهوديــا والثالــث مســيحيا‪ .‬فســأل وزيــر عدليت ـ�ه‪ ،‬محمــد‬
‫حســن كبــه مازحــا؛ هــل يكــون املســلم املقــرر إعدامــه ســي املذهــب أو جعفريــا‪ ،‬فأجابــه‬
‫الوزيــر األفضــل أن يكــون اثنــن أحدهمــا ســي واآلخــر جعفــري‪ ،‬وهكــذا تــم إعــدام أربعــة‬
‫(احلســي‪ ،‬تاريــخ الــوزارات‪ ،‬اجلــزء الثامــن‪ ،‬ص ‪.)88‬‬
‫‪431‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫وأن حسني الشبييب ردد وهو يصعد املشنقة‪:‬‬


‫«يل الشـرف أن أعـدم يف نفـس السـاحة التي كانـت تنطلـق منهـا‬
‫مظاهـرات الشـعب يف الوثبـ�ة»‬

‫وأن زكي محمد بسيم قال‪:‬‬


‫«لـو قـدر يل أن أعـود إىل احليـاة ثانيـ�ة فلـن أسـلك سـوى هـذا الـدرب‬
‫الـذي سـرت فيـه مـن قبـل»‪.‬‬

‫هـل نطقـوا حقـا بهـذه األقـوال مـن علـى مشـانقهم؟ أو أن رفاقهـم‬


‫سـمعوهم ينطقـون بهـا وهـم يقتـادون مـن معتقـل أبـو غريـب؟ أو أنهـا مـن‬
‫ختيلات الذيـن كتبـوا عنهـم تعبيرا عـن حبهـم وتمجيـدا لتضحيتهـم؟ مـن‬
‫املؤسـف أن أحـدا مـن الذيـن كانـوا قـد حجـزوا معهـم يف معتقـل أبـو غريـب لـم‬
‫يعـد حيـا األن‪ 7 7 .‬ولـم يسـمع أن علـق أحـد هـؤالء وهـم أحيـاء بمـا ينفـي صدور‬
‫هـذه األقـوال عنهـم‪ ...‬علـى أيـة حـال فـإن حياتهـم واستشـهادهم كان درسـا‬
‫بليغـا يف النضـال مـن أجـل األفكار واملبادئ التي أمنوا بهـا‪ ،‬وأن تأثريهم ظل حيا‬
‫يف ضمائـر الذيـن سـاروا علـى دربهـم مـن بعـد‪.‬‬
‫لقـد مـر علـى إعـدام فهـد ورفيقيـه مـا يزيـد عـن نصـف قـرن‪ ،‬وتعاقبـت‬
‫علـى احلـزب الشـيوعي العـرايق منـذ ذلـك احلين قيـادات عديـدة‪ ..‬فكيـف‬
‫يمكـن ملن يت�أمل مسيرة هذا احلـزب النضالية أن يقيم فهدا كقائد وكإنسـان؟‬
‫يـروى الذيـن عاشـوا وإيـاه يف سـجن الكـوت أنـه حتـدث يف اجتمـاع عقده‬
‫السـجناء السياسـيون احتجاجـا علـى محاولـة دبـرت الغتيـ�ال بامليرو توليـايت‪،‬‬
‫زعيـم احلـزب الشـيوعي اإليطـايل الـذي لعـب دورا كبيرا يف قيـادة (األمميـة‬
‫الشـيوعية)‪ .‬ويف فضـح الفاشـية أيـام صعودهـا يف الثالثينـ�ات‪ ،‬وقـال‪:‬‬
‫«إن الرجعيـة اإليطاليـة حين تريـد اغتي�ال توليـايت فإنهـا ال تفعل ذلك‬
‫عبثـ�ا‪ ،‬وإنمـا هي تريد من ذلك اغتيـ�ال التجربة الثورية للطبقة العاملة‬
‫اإليطاليـة‪ .‬إذ القائـد هـو خالصـة جتربـة طبقتـه ونضالهـا‪ ،‬وليـس مـن‬

‫‪ .7‬حجــز فهــد ورفيقــاه يف معتقــل أبــو غريــب يف جنــاح خــاص لــم يشــاركهم فيــه ســوى‬
‫قالئــل مــن املعتقلــن‪ ،‬بينمــا حجزنــا حنــن غاليــة الكــوادر املوقوفــة يف جنــاح كبــر أخــر‪-‬‬
‫وكال اجلناحــن مقطــع إىل غــرف صغــرة‪ -‬وقــد حوكــوا لوحدهــم أمــام املجلــس العــريف‬
‫العســكري‪ ،‬ولــم يســمح ألحــد باالقــراب منهــم بعــد أن صــدرت عليهــم أحــكام اإلعــدام‪.‬‬
‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪432‬‬

‫الهين تعويضه»‪.‬‬

‫ومـن أجل أن يسـهل لرفاقـه إدراك ما يعني�ه‪ ،‬ضرب لهـم‪ ،‬كما هي عادته‬
‫يف احلديـث دائمـا‪ ،‬مثـاال من حياتهـم اليومية قائلا‪ :‬ترى كم مـن الوقت يلزمنا‬
‫لنجعـل مـن أحدكـم طباخـا؟ كـم مـرة سـتحرتق أصابعـه‪ ..‬وكـم سـتعاين عين�اه‬
‫مـن الدخـان‪ ..‬وكـم أكلـة رديئـ�ة مـن صنعـه سـنضطر إىل تن�اولهـا حنـن؟ هـذا‬
‫وهـو ليـس سـوى طبـاخ! فكم سـتكون معانـاة الطبقة حتى تطور قائدهـا الذي‬
‫يقودهـا إىل تغيير حكـم ظالـم واالنتصار بثورتهـا االجتماعية؟ تـرى‪ ،‬أكان خيطر‬
‫بب�الـه يومـذاك أنـه كان يتنبـ�أ بمـا سـيواجه احلركة الثوريـة للطبقـة العاملة يف‬
‫العـراق؟ وهـل كان يـدري أنـه يتحـدث عن هـم سيعيشـه الشـيوعيون وحزبهم‬
‫يف العـراق يف أكثر مـن مـرة؟ ربمـا كان فهد وهـو يتحدث عن توليـايت قد عكس ال‬
‫احلقيقـة التي توصـل إليها من خلال جتربتـ�ه النضالية فحسـب‪ ،‬وإنما أضاف‬
‫لهـا أيضـا شـيئ�ا مـن احلـب والتمجيـد لقائد شـيوعي معـروف تعلم علـى يديه‬
‫هـو شـخصيا معارف ودروسـا ثمينـ�ة يوم كانا سـوية يف موسـكو‪.‬‬
‫إن الضـرورة‪ ،‬كمـا يقـال يف الفلسـفة‪ ،‬ال تطـرح نفسـها بيسـر ومباشـرة‪،‬‬
‫وإنمـا هـي تكشـف عـن نفسـها عبر مصادفـات كثيرة ومـا تنطـوي عليـه مـن‬
‫تن�اقضـات ومـن خلال معانـاة حقيقيـة‪ .‬كذلـك هـو الشـأن مـع حاجـة احلركة‬
‫الثوريـة إىل فـرز قائدهـا املناسـب‪ .‬لذلـك سـتعاين كثيرا مـن األخطـاء وتتـ�ذوق‬
‫كثيرا مـن مـرارات الفشـل حتى تتوصـل إىل قائدهـا الـذي تبحـث عنـه والـذي‬
‫يسـتطيع أن يسـتوعب جتاربهـا وإدراك مزاياهـا والتعبير اجليـد عـن حاجاتها‪،‬‬
‫وتعلـم فنـون القيـادة واإلبـداع فيهـا‪.‬‬
‫ثـم بعـد كل هـذا يظـل األمـر رهنـا بمزايـا الفـرد ذاتـه أيضـا‪ ،‬وإذا اسـتعرنا‬
‫مثـال فهـد ذاتـه‪ ،‬فليـس كل مـن يتعلـم عمليـات الطبـخ ويتـ�درب عليهـا‬
‫ويمارسـها سـيقدم األطبـاق الشـهية وبأقـل الكلـف دائمـا‪ .‬القيادة فـن يعكس‬
‫عمـق التجربـة وسـعة الفهـم ووفـرة املعـارف وحـدة الـذكاء والفطنـة والـدأب‬
‫والنشـاط وروح املبـادرة والتفـاين وكـرم األخلاق وسـماحة الطبـع وحسـن‬
‫التعامل مع اآلخرين واجلرأة والشـجاعة‪ ،‬وأن يمتلك إىل جانب كل هذا ناصية‬
‫النظريـة الثورية وحسـن تطبيقها يف الظروف امللموسـة‪ ،‬ويمتلك املقدرة على‬
‫فهـم األوضـاع امللموسـة اليت يقود فيهـا حركتـه بتعقيداتها وتطوراتهـا‪ .‬وبرغم‬
‫كل هـذا‪ ،‬فالقائـد يظـل محكومـا باألوضـاع التي يعمـل يف إطارها وإن سـعى إىل‬
‫تكييفهـا بمـا خيدم حركته ويظـل إىل جانب هذا وذاك بشـرا يمىش على األرض‬
‫كمـا يمشى عليها اآلخـرون‪.‬‬
‫إن مـن يقيـم قيـادة فهـد ينبغـي أن يوجـه انتب�اهـه إىل أمريـن خاصين‪:‬‬
‫‪433‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫أولهمـا السـبي�ل امللمـوس الـذي سـلكه لكـي يرسـخ جـذور الشـيوعية يف العراق‬
‫السـيما بين كادحيـه‪ ،‬وحيـدد لهـا أهدافهـا يف املرحلـة الراهنـة مـن تطورهـا‪.‬‬
‫وثانيهمـا الـروح التي أشـاعها بين الشـيوعيني يف احلزب الـذي أعاد تأسيسـه‪،‬‬
‫وظلـت هـذه الـروح تسـري يف عـروق الشـيوعيني العراقيين بعـده‪ ،‬وزودتهـم‬
‫بالقـدرة علـى الصمـود يف وجـه ًصعاب رهيب�ة ربما لم تشـهدها حركة شـيوعية‬
‫أخـرى‪ ،‬وخيـرج احلـزب منهـا حيـا ين�دفـع للبنـ�اء يف كل مـرة برغـم ما أخثـن به من‬
‫أصـر طـوال حياتـه علـى أن يكـون قريبـ�ا مـن النـاس الكادحين‪ ،‬مـن‬ ‫جـراح‪َ .‬‬
‫العمـال والفالحين البؤسـاء‪ ،‬وقـد تركـت هـذه املعايشـة الوثيقـة للكادحين‬
‫أثارهـا يف نظراتـه لألمـور ومعاجلاتـه لها‪ ،‬ويف لغته واألسـلوب الـذي خياطب به‬
‫النـاس‪ 8 8 .‬ومـع ذلـك‪ ،‬ال يمكـن للمـرء أن يغفـل اآلثـار اليت خلفتها السـتاليني�ة‬
‫يف هـذه القيـادة‪ .‬فربغـم انتب�اهـه إىل أهميـة مراعـاة االوضـاع امللموسـة وأهميـة‬
‫املوقـف املسـتقل وحاجـة احلركـة الثوريـة يف البلاد إىل نظريتهـا الوطنيـ�ة‬
‫الثوريـة‪ ،‬فـإن تعاملـه مع بعض األمور لـم خيل من روح التشـدد والصرامة اليت‬
‫تزيـد عـن احلـد‪ ،‬كما لـم ختل مـن القفز علـى الواقع امللمـوس أحيانا ‪ ٠‬وبوسـعنا‬
‫هنـا أن نستشـهد باملقاييـس التي اعتمدهـا يف اختيـ�ار املسـؤولني األولين‬
‫للحـزب بعـد اعتقالـه‪ .‬فمهمـا كانـت املبررات التي قدمـت الختيـ�ار ساسـون‬
‫دالل مثلا إلشـغال موقـع املسـؤولية األوىل فإنهـا ال تكفـي الختيـ�اره واحلـزب‬
‫‪ .8‬يــروى أنــه يف ســجن الكــوت اعتــاد أن يعاشــر الفالحــن الذيــن كان يــزج بهــم يف الســجن‬
‫ألســباب واهيــة منشــؤها جــور اإلقطاعيــن وتقاليــد املجتمــع العشــائري املتخلفــة‪.‬‬
‫وكان مــن بــن هــؤالء واحــد أعجــب بــه فهــد خلصالــه اجليــدة‪ ،‬وقــد نشــأت بــن االثنــن‬
‫مــودة حقيقيــة‪ ،‬وكان مــن عادتهمــا أن يتمشــيا ســوية لفــرات طويلــة كلمــا ســنحت لديــه‬
‫الفرصــة‪ .‬وكان فهــد حيــدث صاحبــه بلغــة بســيطة عــن احلــزب وسياســته‪ .‬وكمــا هــو شــأن‬
‫َ‬
‫الفالحــن وحذرهــم لــم يكــن الفــاح يســلم بمــا كان يطرحــه فهــد دائمــا‪« ..‬احلكومــة قويــة‬
‫يــا أبــو يعكــوب‪ ...‬شيشــلعها ويب�دلهــا» هكــذا كان جييب ـ�ه‪.‬‬
‫ولكــي يقــرب فهــد األمــر مــن ذهــن الفــاح‪ ..‬قــال لــه؛ ألــم تســمع املثــل الشــعيب الــذي‬
‫يقــول‪« :‬كــر الطــك يفــك اللحيــم»؟ واقتــاده إىل خيمــة نصبهــا أحــد الســجناء‪ .‬وكان مــن‬
‫عــادة الســجناء الفــرادى الذيــن ال يعــرون علــى محــل ين�اســبهم‪ ،‬أن ينصبــوا لهــم خيمــة يف‬
‫طــرف ســاحة الســجن‪ ،‬يصنعهــا مــن إحــدى بطاني�اتــه ويرفعهــا علــى عصــا مــن الوســط‪،‬‬
‫ويثبــت أطرافهــا بأوتــاد يغرســها قويــة يف األرض‪ .‬أخــذه فهــد إىل أحــد األوتــاد وطلــب منــه‬
‫أن يقلــع الوتــد بيـ�ده‪ .‬هــزه الفــاح مــرات عديــدة لكنــه لــم يزتحــزح‪ ..‬قــال لــه اتركــه وواصــا‬
‫الســر‪ ،‬وكان يتعمــد وهــو يمــي أن يركلــه كلمــا مــر بــه وكان الفــاح يلحــظ ذلــك‪ .‬بعــد أيــام‬
‫قــاد صاحبــه الفــاح إىل حيــث الوتــد‪ ،‬وقــال لــه‪ :‬أال جتــرب حظــك مــع الوتــد؟ فاحنــى هــذا‬
‫عليــه‪ ،‬وهــزه يمينـ�ا وشــماال فجــاء بيـ�ده‪ ..‬فقــال لــه أرأيــت هكــذا شــأنن�ا مــع احلكــم‪ .‬ســنظل‬
‫نركــز الضغــط عليــه يف نقطــة معين ـ�ة‪ ،‬ونظــل نركلــه حــى تنهــد قــواه يف اللحظــة املواتي ـ�ة‪..‬‬
‫إذاك نقلعــه مــن األســاس!!! (ونذكــر هنــا أن هــذا الفــاح وجماعتــه غــدوا مــن مناصــري‬
‫احلــزب الثابتــن يف أريــاف الكــوت بعــد انتهــاء محكوميتهــم)‪.‬‬
‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪434‬‬

‫واألوضـاع العامـة علـى ما كانت عليـه يومذاك‪ .‬ولـم يكن اختي�ار مالك سـيف‬
‫أكثر توفيقـا باملقاييـس العامـة والشـخصية‪ .‬حتى أن مالـك يعترف يف إفادتـه‬
‫أنـه هـو ذاتـه لـم يكـن علـى قناعـة بقدرته علـى إشـغال مركـز املسـؤولية األوىل‬
‫لتسـيري أمـور احلـزب‪ ،‬وأن خربتـه التنظيميـة وقدراتـه الذاتي�ة ال تؤهلـه لذلك‪.‬‬
‫‪99‬‬
‫وإذا كانـت قـد حتققـت بعـض النجاحـات فـدوره ال يتعـدى التنفيـذ‪.‬‬
‫لقـد ظـل فهـد قـوة مرعبـة بالنسـبة للرجعيـة حتى بعـد إعدامـه‪ .‬فقـد‬
‫علـم الشـيوعيني العراقيني استرخاص الـروح دفاعا عن املبـادئ وعن مصالح‬
‫الشـعب والبلاد يف آخـر فرصـة يمكـن أن يعطيهـم فيهـا درسـا نضاليـا‪ ،‬وأنهـم‬
‫بالتضحيـة سـيكونون هـم األقـوى وهـم األعلـى‪ ،‬وعلـى هـذا فنحـن ال نسـتبعد‬
‫أن يكـون قـد نطـق حقـا بمـا قيـل عنـه أو بمـا يماثله‪.‬‬
‫تعاقبـت علـى مركـز احلـزب جلـان مؤقتـة منـذ انهيـار قيـادة احلـزب‬
‫امليدانيـ�ة التي كان يرأسـها مالـك سـيف‪ .‬ويف ‪ 1948/11/2‬تسـلم ساسـون‬
‫دالل املسـؤولية األوىل إلدارة نشـاط احلـزب حسـب توصية املكتب السـيايس‬
‫يف سـجن الكـوت‪ ،‬يف الوقـت الـذي أظهرت الدوائـر الرجعية احلاكمة إفالسـها‬
‫جتـاه القضيـة الفلسـطيني�ة التي طبلـت كثيرا لتمرير سياسـاتها األخـرى حتت‬
‫رايتهـا‪ ،‬وبالدرجـة األوىل مواصلـة احلـرب على القـوى الوطنيـ�ة والديمقراطية‬
‫ويف مقدمتهـا احلـزب الشـيوعي‪ .‬لقـد كانـت تلـك الفترة ثقيلـة الوطـأة علـى‬
‫احلركـة الوطنيـ�ة عامـة‪ ،‬ولم ينـج من االضطهـاد حزبـا البورجوازيـة الوطني�ة‪:‬‬
‫احلـزب الوطني الديمقراطـي‪ ،‬وحـزب األحـرار‪ .‬ولكـن بـدال مـن مواجهـة هـذا‬
‫الهجـوم الرجعـي‪ .‬االسـتعماري بصفـوف موحـدة‪ ،‬وفضـح مـرايم الرجعيـة‪،‬‬
‫سـارعت األحـزاب البورجوازيـة الوطنيـ�ة التي أصيبـت بالذعـر وخشـيت أن‬
‫يلحقهـا مـن األذى مـا حلـق باحلـزب الشـيوعي‪ ،‬سـارعت إمـا إىل إعلان جتميـد‬
‫نشـاطها السـيايس ودعـوة الشـعب إىل أن يت�دبـر أمره بنفسـه على حنـو ما فعل‬
‫احلزبـان‪ ،‬الوطني الديمقراطـي واألحـرار‪ ،‬أو التقـرب مـن احلـكام ومسـايرة‬
‫سياسـتهم املنافيـة للديمقراطيـة كمـا فعـل حـزب االسـتقالل‪.‬‬
‫ففـي ‪ 30‬تشـرين الثـاين ‪ 1948‬اختـذ احلزب الوطني الديمقراطـي قرارا‬
‫بتجميـد نشـاطه السـيايس وأصـدر بي�انـا بهذا الشـأن نشـره يف جريـدة (صوت‬
‫األهـايل) يف ‪ 3‬كانـون األول ‪ .1948‬وقـد أشـار يف بي�انـه إىل أن «اسـتمرار احلزب‬
‫علـى العمـل يف هـذا الوضـع الشـاذ الـذي تفاقمـت مسـاؤه باسـتغالل اإلدارة‬
‫العرفيـة ملحاربـة التنظيـم الشـعيب واحلريـات الدسـتورية ومكافحـة نشـاط‬
‫حزبنـ�ا القائـم يف ظـل الدسـتور وحرمانـه مـن إمكانيـ�ة العمـل‪ ،‬كل هـذا يعني‬

‫‪ .9‬املوسوعة السرية‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬ص ‪.20‬‬


‫‪435‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫إعطـاء الوضـع القائـم مظاهـر النظـام الديمقراطـي‪ ،‬وهو مـا خيالـف الواقع كل‬
‫املخالفـة‪ ،‬لذلـك قـرر احلزب أن يوقف أعماله حىت تتيح لـه الظروف إمكاني�ات‬
‫العمـل مجـددا»‪ 10 10 .‬لكـن جريـدة (صـوت األهـايل) اسـتمرت يف الصـدور حىت‬
‫‪ 1948/7/4‬إذ وقفـت وحوكـم صاحبهـا ‪ ٠‬ولـم يعـد احلـزب إىل نشـاطه إال‬
‫يف ‪ 25‬آذار ‪ ٠1950‬ويف ‪ 3‬كانـون األول أيضـا‪ ،‬أصـدر حـزب األحـرار بي�انـا يعلـن‬
‫فيـه جتميـد نشـاطه السـيايس‪ .‬وكشـف فيـه عـن عـداء احلـكام للديمقراطيـة‬
‫وللعمـل احلـزيب ألحـزاب املعارضـة‪ .‬وقالـت الهيئـ�ة العليـا للحـزب يف بي�انهـا‪:‬‬
‫«إن الطبقـة احلاكمـة تريـد أن تلبـس نظـام االسـتب�داد ثوبـا فضفاضا‬
‫‪11 11‬‬
‫مـن الديمقراطيـة»‪.‬‬

‫أمـا حـزب البورجوازيـة الوطنيـ�ة اليميني‪ ،‬حـزب االسـتقالل‪ ،‬فقد دخل‬


‫‪12 12‬‬
‫مـع نـوري السـعيد يف حـوار حـول ميثـ�اق محاربـة الشـيوعية‪.‬‬
‫يف هـذه الفترة بالذات‪ ،‬تسـلم نوري السـعيد احلكـم‪ .‬ومنذ األيـام األوىل‬
‫حلكمـه كشـف أن يف رأس مهـام حكومتـه هـو محاربـة الشـيوعية واألفـكار‬
‫اليسـارية عامـة وتصفيـة احلـزب الشـيوعي خباصـة‪ .‬ولذلـك أطلـق العنـان‬
‫لدوائـر أمنـه لتواصـل حملتهـا علـى احلـزب الشـيوعي‪ ،‬وراح خيطـط حربه على‬
‫هـواه‪ .‬واسـتصدر يف اخلامـس مـن شـباط ‪ 1949‬مرسـوما ملكافحـة املبـادئ‬
‫الشـيوعية يف الكليات واملدارس‪ ،‬يمنع بموجبه هيئ�ات التدريس من مناقشـة‬
‫الشـؤون السياسـية يف مدارسـها وحيملها مسـؤولية كل ما يقوم به الطالب من‬
‫‪13 13‬‬
‫تظاهـرات وإضرابـات‪ ،‬وبالتـايل جيعـل منهـا أداة قمعيـة ضـد طالبهـا‪.‬‬
‫ولكـن برغـم كل مـا اختـذه نـوري السـعيد مـن إجـراءات قمعيـة‪ ،‬وبرغـم‬
‫نصبـه املشـانق يف السـاحات العامـة بغيـة إثـارة الرعـب بين اجلماهير‪ ،‬وحتذير‬
‫املناضلين الشـيوعيني الذيـن يصـرون علـى مواصلة النضـال‪ ،‬وبرغـم اجلراح‬
‫العميقـة التي أحلقـت باحلـزب الشـيوعي‪ ،‬ظـل هـذا احلـزب حيـا‪ ،‬وين�دفـع‬
‫الـكادر الشـاب إلشـعال مواقـع املسـؤولية رغـم علمـه بـأن املـوت أو األحـكام‬
‫الثقيلـة يف السـجون الصحراويـة يف انتظـاره‪.‬‬
‫يف ‪ 2‬كانون األول تسـلم ساسـون دالل واثن�ان من الكوادر (رفيق جاالك‬
‫وصبري عبـد الكريـم) قيـادة احلـزب‪ .‬كان كل مـا يتحلـى بـه ساسـون دالل هـو‬
‫قدراتـه يف الكتابـة‪ .‬أمـا عـن العمـل القيـادي فقـد تكشـف عـن جهـل فاضـح‪.‬‬
‫فمـع أنـه دعـا يف تعليماتـه ورسـائله إىل «الرتاجـع املنظـم» إال أنـه يف التطبيـق‬

‫‪ .13‬احلسين‪ ،‬ج ‪ ،8‬ص ‪.87‬‬


‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪436‬‬

‫أظهـر أنـه ال يميز بين الهجـوم والرتاجـع‪ .‬وضـع «خطـة» تتحدث عـن الرتاجع‬
‫املنظـم تقـوم علـى أسـاس «إيقـاف جميـع األعمـال اإلجيابيـ�ة ذات املقيـاس‬
‫الواسـع ‪ -‬العرائـض اإلجماعية‪ ،‬والوفود واملظاهـرات واإلضرابات‪ ..‬الخ‪ .‬على‬
‫أن هـذا ال يعني أننـ�ا ال نقـوم بهجـوم معين يف جبهـة معينـ�ة ولقضيـة معينـ�ة‪.‬‬
‫إن خطـة الرتاجـع املنظـم تتنـ�اول باألسـاس توجيـه قـوى احلـزب‪ ،‬علـى األكثر‪،‬‬
‫إىل البنـ�اء النظـري والتنظيمي»‪ .‬ومـع ذلـك‪ ،‬فباسـم إحيـاء (وثبـ�ة) كانـون دفع‬
‫رفـاق احلـزب يف بغـداد والسـليماني�ة واملـدن األخـرى‪ ،‬وكانـوا قد تقلصـوا كثريا‪،‬‬
‫يف سلسـلة مـن املظاهـرات‪ .‬ففـي ‪ 19‬كانـون الثـاين ‪ 1949‬دفع رفـاق احلزب إىل‬
‫التظاهـر بعـد أن زودهـم بتعليمـات خاصـة إلعـداد عصي بمواصفـات خاصـة‬
‫والدخـول مـع البوليـس يف مصادمـات عنيفـة‪ .‬وقـد اشـتبك املتظاهـرون فعلا‬
‫مـع البوليـس وفاجأوهـم باسـتخدام العصي‪ ..‬واعتبر هـذه املظاهـرة يف نشـرة‬
‫داخليـة «حجـرا أساسـيا لوثبـ�ة ظافـرة فاصلـة» ‪ 14 14‬وأنهـا مثـال علـى «حتـول‬
‫الرتاجـع املنظـم بصـورة حاسـمة إىل هجـوم منظـم»‪ .‬وأحلقهـا بعـد أيـام‬
‫بمظاهـرة أخـرى باسـم «مناوشـة العـدو وتقويـة معنويـة اجلماهير الواسـعة‬
‫ورفـع معنويـة احلركـة بوجـه عـام‪ ،‬وحتطيـم أعصاب العـدو اجلامـد يف تكتيكه‬
‫وحركاتـه واملوتـور للغايـة»‪ .‬وانتقـد الرفـاق املتظاهريـن وقـال‪:‬‬
‫واخلطـأ األسـايس الـذي لوحـظ يف هـذه املظاهـرة ابتعـاد املتظاهريـن‬
‫عـن مصـدر اخلطـر‪ .‬إن االبتعـاد عـن مصـدر اخلطـر معنـاه التخـاذل‬
‫أمامـه‪ ،‬معنـاه الوقـوع غنيمـة بـاردة لـه‪ ..‬ليـس هـذا سـلوك الثـوري‪..‬‬
‫إننـ�ا لـن نبتعـد عن مصـدر اخلطر‪ ،‬بل نتقـدم دائمـا حنوه وضـده‪ ..‬فكان‬
‫الواجـب التوجـه حنو العدو واالشـتب�اك معـه ودحـره‪ 15 15 .‬وتعقيب�ا على‬
‫إحـدى املظاهـرات قـال‪“ :‬إن شـعارنا ال رحمـة بالعـدو‪ ،‬أرادوهـا حـرب‬
‫إبـادة فلتكـن حـرب إبـادة‪ ،‬إن الطبقـة احلاكمة يف أشـد درجـات االنهيار‬
‫والزتعـزع‪ ،‬وال تريـد أن تستسـلم طبعـا بـدون مجـزرة دمويـة‪ ،‬لكننـ�ا ال‬
‫خنـاف املجـازر‪ .‬إن أيـام الوثبـ�ة قـد عـادت إىل بغـداد‪ ..‬عاشـت وثبتنـ�ا‬
‫‪16 16‬‬
‫اجلديـدة‪.‬‬

‫وقد زج منظمات احلزب والسـليماني�ة والنجف يف سلسـلة من املعارك‬


‫اخلاسـرة باسـم إنقـاذ فهـد‪ .‬ويف الشـهرين اللذيـن قضاهمـا يف القيـادة أشـغل‬
‫تنظيمـات احلـزب يف بغـداد واأللويـة بسـيل ال ينقطع مـن الرسـائل والبي�انات‬
‫‪ .14‬املوسوعة السرية‪ ،‬اجلزء الثالث‪ ،‬ص ‪.445‬‬
‫‪ .15‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.447‬‬
‫‪ .16‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.506‬‬
‫‪437‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪17 17‬‬
‫والنشـرات الداخليـة‪ ،‬حتى كادت املراسـلة مـع املنظمين أن تصبـح يوميـة‪.‬‬
‫ومـع ذلـك‪ ،‬فـإن ساسـون دالل سـارع إىل إصـدار بيـ�ان ين�اشـد فيـه‬
‫اجلماهير إىل الضغـط إلنقـاذ فهد ورفيقيه‪ ،‬كما سـارع إىل إرسـال مذكرة باسـم‬
‫احلـزب إىل سـكرتارية األمـم املتحـدة وإىل جلنـة حقوق اإلنسـان وإىل سـفارات‬
‫الـدول األجنبيـ�ة وإىل الصحـف املحليـة والعربيـ�ة وإىل األحـزاب والهيئـ�ات‬
‫الشـعبي�ة يف العالـم العـريب والعالـم‪ ،‬ين�اشـدهم فيهـا الضغـط علـى احلكومـة‬
‫العراقيـة للكـف عـن محاكمـة الرفيـق فهـد وإطلاق سـراحه وسـراح جميـع‬
‫السـجناء السياسـيني‪.‬‬
‫ثـم عـاد وأصـدر بي�انـا أخـر يف هـذا الشـأن أشـار فيـه إىل أن اجلريمـة التي‬
‫ارتكبتهـا حكومـة نوري السـعيد هي جزء من مشـروع اسـتعماري كبير يراد منه‬
‫تكبيـ�ل الشـعب العـرايق بسالسـل العبوديـة‪ .‬املهـم هنـا أن توازنـات القوى بعد‬
‫الضربـات القويـة التي وجهـت للحزب‪ ،‬وبعـد تفكك احلركـة الوطنيـ�ة العامة‬
‫وانكماشـها وختلـي بعـض أطرافهـا عـن العمـل السـيايس‪ ،‬لـم تكـن مواتيـ�ة‪،‬‬
‫وكان علـى ساسـون دالل وجماعتـه أن يتجنبـوا زج املنظمـات احلزبيـ�ة املنهكـة‬
‫واملتفككـة أساسـا يف معـارك طفوليـة خاسـرة تعرضهـا إىل مزيد مـن الضربات‬
‫القمعيـة اجلديـدة‪ .‬لقـد كان ساسـون دالل يعيـش يف عالـم خاص بـه حدد فيه‬
‫توازنات القوى حسـب هواه هو‪ .‬ولعل من الطريف أن نشير هنا إىل أنه يف ذلك‬
‫الوقـت بالـذات انصـرف إىل ترجمـة كتـاب لينين‪ :‬شـيوعية اجلنـاح اليسـاري‪،‬‬
‫ووزعـه للتثقيـف يف املنظمـات‪ ،‬وأنـه يف غمـرة هـذه األوضـاع املضطربـة داخـل‬
‫‪18 18‬‬
‫احلـزب‪ ،‬وافتضـاح كثير مـن أسـراره‪ ،‬يفكـر يف عقـد كونفرنـس حـزيب‪.‬‬
‫ولكـن إذا كان شـريكاه يف القيـادة (رفيـق جـاالك وصبري عبـد الكريـم)‬
‫األول قـد خـان احلـزب وجنـد نفسـه علـى غـرار مـا فعـل مالـك سـيف خلدمـة‬
‫قـوى األمـن‪ ،‬والثـاين قد انهار وصـاروا يقودونه كمـا كانوا يقـودون يهودا صديق‬
‫ليدلهـم علـى رفـاق احلـزب والبيـوت التي يشـتب�ه بهـا‪ ،‬فـإن ساسـون دالل بقي‬
‫مخلصـا ملبادئـه وحزبـه واستشـهد وهـو يمجـد شـيوعيت�ه‪ .‬وعلـى أية حـال فإن‬
‫اختيـ�ار ساسـون دالل إىل قيـادة احلـزب امليدانيـ�ة لـم يكـن اختيـ�ارا موفقـا‪ .‬وال‬
‫تشـفع لـه “معارفـه” النظريـة وقدراتـه الكتابيـ�ة‪ ،‬فقـد ثبـت أنـه اسـتخدمهما‬
‫بشـكل سيئ وأنـه كان يعيـش يف أوهـام ثوريـة ويف عالـم اصطنعـه لنفسـه‬
‫حـدد موازيـن القـوى فيـه وفق مسـلمات نظريـة وليس طبقـا إىل وقائـع احلياة‬
‫ذاتهـا‪ .‬أضـف إىل هـذا فـإن مـايض ساسـون دالل لـم يكـن ليؤهلـه إىل تـويل هذه‬
‫املسـؤولية‪ .‬فهـو حتى عام ‪ 1945‬وبعـد أن صفيت الكتل الشـيوعية‪ ،‬كان يقود‬
‫‪ .18‬بهــاء الديــن نــوري‪ ،‬مذكــرات‪ ،‬مطبعــة جامعــة صــاح الديــن‪ ،‬كردســتان العــراق‪،‬‬
‫‪ ،1995‬ص ‪53‬؛ وكذلــك املوســوعة الســرية‪ ،‬اجلــزء الثالــث‪ ،‬ص ‪.594‬‬
‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪438‬‬

‫هـو وشـخص آخـر يدعـى صالـح مجلـد تنظيمـا خاصـا مـن الشـباب اليهـودي‬
‫الـذي كان يدعـي الماركسـية يقـارب عددهـم اخلمسـة والعشـرين (كان مـن‬
‫بينهـم األخـوان قوجمـان) يتبنين أفـكارا وأهدافـا خاصـة ختتلـف عـن أفـكار‬
‫وأهـداف احلـزب الشـيوعي حيتفظـون بكتلتهـم اخلاصـة حتى بعـد أن انضموا‬
‫إىل عصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة‪ ،‬ثـم ذابـوا من بعـد يف كيان احلزب الشـيوعي‪.‬‬
‫ويف رسـالة خاصـة مـن األخويـن قوجمـان إىل قيـادة احلـزب يف سـجن الكـوت‬
‫حـذرا مـن اختي�ار ساسـون دالل لقيادة احلـزب بعد أن علما باألمـر (وكان إذاك‬
‫‪19 19‬‬
‫خيتفـي يف بيتهمـا)‪ ،‬لكـن تطـورات األمـور قـد دفعـت علـى النحـو الـذي تـم‪.‬‬
‫بعـد انهيـار مجموعـة ساسـون دالل سـارعت العناصـر الشـيوعية‬
‫النشـيطة إىل تكويـن مركـز قيـادي جديـد ضـم‪ :‬جاسـم الطعـان (وكان مـن‬
‫أعضـاء جماعـة زكـي خيري اليت انضمـت إىل احلـزب بعد وثبـ�ة كانـون ‪)1948‬‬
‫وسـمري عبـد األحـد (مـن منظمي أحـد قطاعـات بغـداد) ومهـدى حميـد‪،‬‬
‫وحميـد عثمـان‪ ،‬وعبـد الوهاب عبـد الرزاق الشـيخلي‪ .‬ورغم أن هـذه املجموعة‬
‫حاولـت أن تتـ�دارك بعـض سياسـات ساسـون دالل وتعليماتـه املتطرفـة‪ ،‬إال‬
‫أن االنهيـارات املتالحقـة مـن بعـض الكـوادر املسـؤولة (جاسـم الطعـان وفؤاد‬
‫بهجـت وآخريـن) لـم تعط فرصـة كافية جلذب األنفاس‪ ،‬السـيما بعـد اعتقال‬
‫مهـدى حميـد‪ ،‬وبعده حميـد عثمان الـذي كان يرتأس اللجنة‪ .‬لكـن االعتقاالت‬
‫التي جـرت هـذه املـرة لم تكشـف من األسـرار احلزبي�ة مـا ينفع يف امتـداد آثارها‬
‫املدمـرة كثيرا والتوسـع يف املالحقة‪ .‬واالعتقـاالت اليت تلتها لم ترتك سـوى آثار‬
‫موضعيـة‪ ،‬وبـذا حصلـت املنظمـات احلزبيـ�ة علـى الفـرص الضروريـة جلـذب‬
‫األنفـاس وااللتفـات إىل مشـاكلها وأوضاعهـا الداخليـة والتهيـؤ بشـكل أفضـل‬
‫ملواجهـة مالحقـات قـوى األمـن‪ .‬وكان حميـد عثمان قـد أوىص مقدمـا أن يعهد‬
‫باملسـؤولية األوىل يف حالـة اعتقالـه إىل بهـاء الديـن نـوري‪ ،‬وكان آنـذاك قـد غـدا‬
‫مسـؤول التنظيـم الشـيوعي يف لواء السـليماني�ة‪ .‬لهذا جاء بهـاد الدين نوري إىل‬
‫بغـداد ليتسـلم املسـؤولية‪ ،‬وبهـذا يكـون قـد تـرأس سـادس مركـز قيـادي تـواىل‬
‫علـى احلـزب يف غضـون ثمانيـ�ة أشـهر‪.‬‬
‫واجـه احلـزب يف تلك الشـهور العصيب�ة خطرا آخر‪ .‬ورغـم أن هذا اخلطر‬
‫بقـي محصـورا يف مناطـق معينـ�ة‪ ،‬ولـم تتسـع آثـاره‪ ،‬إال أنـه زاد يف األعبـاء التي‬
‫واجههـا مسـؤولو احلـزب وكـوادره‪ ،‬السـيما يف بعـض املناطـق‪ ،‬ذلكـم هـو خطـر‬
‫التكتل واالنشـقاق‪.‬‬
‫كانـت أوىل هـذه التكتلات قد ظهرت أيـام قيادة مالك‪ .‬يهـودا‪ ،‬إذ بادرت‬

‫‪ .19‬من حديث مسجل ليعقوب قوجمان يف لندن‪ ،‬أيلول ‪.1999‬‬


‫‪439‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مجموعة صغرية ضمت كل من هاشـم األعريج وغضبان السـعد ومال شـريف‬


‫والفريـد سـمعان وجلال عبـد الرحمـن إىل تكوين كتلـة خاصة أصدرت نشـرة‬
‫خاصـة باسـم «احلقيقـة»‪ ،‬فصـارت لذلـك تعرف باسـم (جماعـة احلقيقة)‪.‬‬
‫وكانـت هـذه اجلماعـة تنتقـد قيـادة مالـك ‪ -‬يهـودا‪ ،‬وتـرى أنهـا جـرت احلـزب‬
‫التي اليمين وحولتـه إىل حـزب اشتراكي ديمقراطـي‪ .‬وأصـدرت كراسـا وضعه‬
‫غضبـان السـعد باسـم‪« :‬موقـف حزبنـ�ا‪ ،‬احلـزب الشـيوعي العـرايق‪ ،‬مـن‬
‫االشتراكيني الديمقراطيني والبورجوازيني‪ ،‬يف سـبي�ل احلزب املوحد واجلبهة‬
‫الوطنيـ�ة املوحـدة» وقـد اعتقـل جميعهـم باسـتثن�اء مال شـريف الذي فـر‪ ،‬وقد‬
‫حوكمـوا وأفـرج عـن بعضهـم‪ ،‬لكنهـم لـم يعـاودوا نشـاطهم وعـاد بعضهـم إىل‬
‫صفـوف احلـزب مـن بعد‪.‬‬
‫ويف نيسـان ‪ 1949‬أقـدم أكـرم عبـد القـادر ياملكـي‪ ،‬أحـد مسـؤويل‬
‫التنظيـم الشـيوعي يف السـليماني�ة إىل إعلان تمـرده علـى مركـز احلـزب بعـد‬
‫أن اجتـه مسـؤول منظمـة السـليماني�ة‪ ،‬حميـد عثمـان‪ ،‬حنـو بغـداد لينضـم إىل‬
‫جلنـة املركـز هنـاك‪ ،‬وسـارع إىل إصـدار نشـرة حيمـل فيهـا علـى فهـد ورفيقيـه‬
‫وينسـب إليهـم مسـؤولية مـا حـل باحلـزب مـن اعتقـاالت وانهيـارات‪ .‬ومع أن‬
‫عديـدا مـن رفـاق منظمـة السـليماني�ة‪ ،‬ويف مقدمتهـم بهـاء الديـن نـوري وعلـي‬
‫حسين الربزنجي وأحمـد احللاق وأسـعد بانيخيلاين وآخـرون قـد وقفـوا بوجه‬
‫هـذا التكتـل وردوا عليـه إال أن أكـرم ياملكي واصل نشـاطه ضد احلـزب بت�أيي�د‬
‫مـن غفـور كريـم وعمـر علـي أمين ورايض مهـدي السـعيد برغـم أن املجموعـة‬
‫لـم تـأت بشيء جديد من حيث الشـعارات واألهـداف‪ .‬وقد اسـتطاع أكرم عبد‬
‫القـادر أن يكسـب إىل صفـه بعـض العناصـر يف بغـداد‪ ،‬كمـا حصـل علـى تأييـ�د‬
‫منظمـة احلـزب يف الناصريـة التي كان يقودهـا يومـذاك دىل مريـوش‪ .‬وقـد‬
‫أصـدر ياملكـي جريـدة سـرية خاصـة دعاهـا بــ «النجمـة»‪.‬‬
‫بعـد أشـهر (يف آب) انشـق أحـد عناصـر (النجمـة) وهـو كريـم صـويف‪،‬‬
‫عليهـا بعـد أن كان قـد انضـم إليهـا إثـر خروجـه مـن السـجن‪ ،‬وألـف مجموعـة‬
‫خاصـة بـه دعاهـا (االحتـاد)‪ ،‬وشـرع يهاجـم جماعـة أكـرم عبـد القـادر‪ ،‬ولكـن‬
‫دون أن ينضـم إىل منظمـة احلـزب يف السـليماني�ة‪ .‬وقـد التفـت حولـه عناصـر‬
‫شـيوعية مـن التي كانت تؤيـد جماعة النجمة‪ .‬وراح يصدر نشـرة خطية باسـم‬
‫(االحتـاد) ورفعـت لهـا شـعارا يقـول؛ “إن احتـاد الشـيوعيني العراقيين حتـت‬
‫قيـادة بروليت�اريـة حكيمة واجـب تارييخ مقدس»‪ .‬وقد أصـدرت املجموعة إىل‬
‫جانـب (االحتـاد) جريـدة باللغـة الكرديـة أطلـق عليها اسـم «ده نكـى فه الح»‬
‫أي (صـوت الفلاح) و «د نكـي آفـره يت آزاد» أي (صـوت املـرأة احلـرة)‪.‬‬
‫إال أن جماعتي (النجمـة) و(االحتـاد) توقفتـا عـن النشـاط بعـد اعتقال‬
‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪440‬‬

‫عناصرهمـا‪ .‬ولـم يبـق يف السـاحة مـن املنظمـات الشـيوعية يف خريـف ‪1949‬‬


‫سـوى منظمـات احلـزب اليت كان يقودها حميد عثمان الـذي كان يصدر جريدة‬
‫بأسـم (الصـراع) وعرفهـا بأنهـا لسـان الطبقـة العاملـة العراقيـة‪ ،‬ووضـع لهـا‬
‫شـعار (يـا عمـال العالـم احتـدوا)‪ .‬وقـد أصـدر منهـا عـددا وتهيـأ إلصـدار الثاين‬
‫حين جـرى اعتقالـه‪ .‬لقـد كان الشـيوعيون الذيـن اضطلعـوا بقيـادة احلـزب‬
‫آنـذاك يدركـون أن املهمـة التي أقدموا عليها عسيرة‪ ،‬وهـي تفـوق قدراتهم كما‬
‫وكيفـا‪ .‬وكمـا قالـوا هم‪:‬‬
‫«ليـس لنـا خربة سـابقة لتحمل شـرف هكذا مسـؤوليات خطيرة‪ ،‬رغم‬
‫أننـ�ا حائـزون على الثقة التامة من قبل املنظمـات‪ ،‬وبرغم هذه الظروف‬
‫القاسـية‪ ،‬ولكنن�ا ال نسـتطيع أن نقود حزبا جبارا واسـع املنظمات يف بلد‬
‫حتكمه طغمة وحشـية يف ظروف جد ثورية يتطلب قيادة محنكة ذات‬
‫جتـارب واسـعة وثقافـة سياسـية كافيـة لرسـم خطـط واضحة سـليمة‬
‫وتنظيـم هـذه األلوف من العمـال والفالحين الذين ينتظرون اإلشـارة‬
‫مـن الطليعـة‪ ..‬ولكـن هـذا ال يعني أننـ�ا حنـل منظماتنـ�ا الفتقارنـا لهكذا‬
‫قيـادة‪ ،‬فالشـيوعيون يواصلـون العمـل رغـم كل الظـروف واألحـوال‪،‬‬
‫وإن العمـل املتواصـل هـو الـذي خيلـق القادة مـن صميم اجلماهير‪ ،‬وإن‬
‫الطبقـة العاملـة هـي أم القـادة ومنجبتهـم‪ .‬وإن حتليلنـا للوضـع الدويل‬
‫‪20 20‬‬
‫والداخلـي يبشـرنا بمـد ثـوري جديـد يف القريـب»‪.‬‬

‫وملواجهـة االرتبـ�اك الـذي سـاد صفـوف احلـزب وجهـت هـذه اللجنة يف‬
‫أيـار ‪ 1949‬رسـالة إىل جميـع مسـؤويل األلويـة واملنظمـات احلزبيـ�ة حاولت أن‬
‫حتـدد فيهـا أسـباب النكسـة التي حلقـت باحلـزب وطرحـت بعـد ذلـك خطتها‬
‫للنهـوض باملسـؤوليات التاريخيـة التي ألقيـت علـى عاتقهـا دون أن تكـون‬
‫ألعضائهـا سـابق خبرة يف حتمـل مسـؤوليات بهـذا احلجـم‪ .‬وتتلخـص هـذه‬
‫اخلطـة‪ :‬باالعتراف العلني باألخطـاء وتقويـة املركزيـة والضبـط يف احلـزب‬
‫وتطهيره مـن العناصـر غير الثابتـ�ة ورفع نسـبة العضوية مـن العمـال‪ ،‬وتربي�ة‬
‫كادر حـزيب ملختلـف األعمـال احلزبيـ�ة‪ ،‬وتنميـة روح املبـادأة‪ ،‬وخلـق منظمـات‬
‫خاصـة بالعمـال والفالحين والشـباب والنسـاء‪ ،‬وتنفيـذ النظـام الداخلي بكل‬
‫صرامـة‪ ،‬وخلـق صلـة قويـة بين القواعـد والقيـادة‪ ،‬والتأكد من صحـة تركيب‬
‫التنظيمـات التي تعرضت للضربـات املتت�الية‪ .‬وأوصت جبملة مـن التوصيات‬

‫‪ .20‬املوســوعة الســرية‪ ،‬اجلــزء اخلامــس‪ ،‬ص ‪ ،9‬مــن الرســالة الــي وجهتهــا جلنــة حميــد‬
‫عثمــان إىل حــزب تــوده‪.‬‬
‫‪441‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫‪21 21‬‬
‫العمليـة التي تعين املنظمـات علـى سـرية العمـل واالتصـال‪.‬‬
‫لقـد سـاعدت هـذه اإلجـراءات على صيانـة تماسـك املنظمـات وانتظام‬
‫حتركهـا واسـتعادة الثقـة وتنميتهـا ولـو ببـطء شـديد بالعمـل الشـيوعي بين‬
‫اجلماهير‪ ،‬التي ظلـت حتتفـظ باحرتامهـا وتقديرهـا للشـيوعيني برغـم مـا حلق‬
‫بهـم مـن ضربـات وبرغم االنهيـارات املتوالية التي تعرض لها بعـض كوادرهم‪.‬‬
‫لقـد كانـت القيـادة يف تلـك الفترة محقـة يف قولها‪:‬‬
‫«إن حتليلنـا للوضـع الـدويل والداخلـي يبشـرنا بمـد ثـوري جديـد يف‬
‫القريـب»‬

‫ففـي اخلـارج انتهـت الثـورة الصينيـ�ة بانتصارهـا الـذي هـز العالـم‪ ،‬ويف‬
‫الداخـل بـدأت الطبقـة العاملـة بالتحـرك دفاعـا عـن حقوقهـا برغـم اإلرهـاب‬
‫السـعيدي الـذي خيـم علـى البلاد‪ .‬ففـي أيـار مـن ذلـك العـام بـادر ‪ 600‬مـن‬
‫عمـال احلفـارات يف مينـ�اء البصـرة إىل اإلضـراب عـن العمـل مـن أجـل زيـادة‬
‫أجورهـم وحتسين شـروط عملهـم‪ .‬وبعـد أشـهر مـن ذلـك أقـدم عمـال سـكك‬
‫احلديـد يف البصـرة أيضـا علـى اإلضـراب عـن العمـل اشترك فيـه قرابـة األلف‬
‫عامـل‪ 22 22.‬وتوالـت مـن بعـد سلسـلة اإلضرابـات يف ذلـك العـام ومـا بعـده‪.‬‬
‫لقـد كانـت األشـهر األوىل مـن عـام ‪ 1949‬انتكاسـه حقيقيـة ومؤملـة‬
‫للحـزب الشـيوعي‪ .‬فقـد عمـت منظمـات احلـزب فـوىض واسـعة‪ ،‬كمـا شـاع‬
‫يف منظماتـه الصعـود إىل املراكـز احلزبيـ�ة القياديـة علـى أسـس عرضيـة‪ ،‬وكثري‬
‫منهـا لـم يبن علـى مقاييـس نضالية شـيوعية‪ ،‬ولـم تربرهـا التجربة باملـرة‪ .‬وقد‬
‫هبطـت الثقـة بين أوسـاط الشـيوعيني وأصدقائهـم إىل مسـتويات متدنيـ�ة‬
‫نتيجـة االعرتافـات واالنهيـارات واخليانـات املتت�اليـة‪ ،‬وقـد دفعت هـذه احلال‬
‫أعضـاء احلـزب عـن العمـل‪ ،‬وهجـر كثير منهـم‬ ‫إىل نكـوص أعـداد كبيرة مـن ً‬
‫صفوفـه‪ .‬ولعبـت الشـائعات دورا مخربـا‪ ،‬سـواء كانـت الشـائعات العفويـة أو‬
‫تلـك التي كانـت تطلقهـا العناصـر الرثثـارة والفرق املنشـقة أو تلك التي تتعمد‬
‫دوائـر األمـن بثهـا إلربـاك العمـل ودفـع العناصـر اجلبانـة والتي لـم يتصلـب‬
‫عودهـا بعـد إىل هجـر صفـوف احلـزب‪.‬‬

‫‪ .21‬املوسوعة السرية‪ ،‬اجلزء اخلامس‪ ،‬ص ‪.988‬‬


‫‪ .22‬انظــر قائمــة اإلضرابــات العماليــة يف كتابنــ�ا‪ :‬نصــر ســعيد الكاظــي‪ ،‬مســاهمة يف‬
‫كتابــة تاريــخ احلركــة العماليــة يف العــراق حــى عــام ‪ ،1958‬مركــز األحبــاث والدراســات‬
‫االشــراكية يف العالــم العــريب‪ ،‬دمشــق‪ ،1991 ،‬ص‪.306‬‬
‫ ماع ةساكتناكتنا‬ ‫‪442‬‬

‫ً‬
‫محمد مهدي اجلواهري مخاطبا اجلماهري يف شارع الرشيد‬

‫إال أن مـن اخلطـأ أال يالحـظ املـرء تلـك الصـور الرائعـة مـن الصمـود‬
‫والتحـدي التي أبداهـا كثير مـن الشـباب الشـيوعي‪ ،‬واإلصـرار الـذي أبدتـه‬
‫املنظمـات احلزبيـ�ة علـى مواصلـة العمـل‪ .‬لقـد كان الشـباب الشـيوعي يتقدم‬
‫إلشـغال مراكـز املسـؤولية وهـو يـدرك التبعـات اجلسـيمة التي تنتظـره وقـد‬
‫تـودي حبياتـه‪ ،‬وال ينبغـي للمـرء أن يغفـل أشـكال الدعـم والرعايـة التي لقيهـا‬
‫الشـيوعيون مـن اجلماهير البسـيطة اليت كانـت حتتضنهـم وتوفر لهـم المأوى‬
‫وتتستر علـى نشـاطهم والتي لـم تسـتطع كل حملات التضليـل ضـد احلـزب‬
‫أن تمحـو عـن أذهانهـا الصـورة اجلميلـة التي ظلـت حتملهـا عنه وعـن بطوالت‬
‫قادتـه الذيـن لعبت تضحيتهم واسـتقبالهم املـوت دفاعا عن أهداف الشـعب‬
‫دورهـا املؤثـر يف عطـف الشـعب علـى حزبهـم‪ .‬وليـس من قبيـ�ل املصادفـات أن‬
‫خيـرج اجلواهـري علـى النـاس بعـد كل هـذا بقصيدتـه املعبرة‪:‬‬
‫ويشمخ كالقائد الظافر‬ ‫ ‬
‫سالم على مثقل باحلديد‬
‫مفاتيح مستقبل زاهـر‬ ‫ ‬
‫كأن القيود على معصميه‬
‫‪443‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مـا الـذي يمكـن أن يتوصـل إليـه املـرء وهـو يقـارن بني احلـال التي انتهى‬
‫إليهـا احلـزب يف عـام ‪ 1949‬بعـد أن فقد قيادتـه حباله يف الثالثينـ�ات وهو يفقد‬
‫قيادتـه علـى النحو الـذي رأين�اه بني سـجن ونفي واعزتال؟ لقـد كان عام ‪1948‬‬
‫عـام منازلـة كبيرة بين ممثلـي الفئـات احلاكمـة التي كانـت تعبر عـن مصالـح‬
‫الطبقـات االجتماعيـة املتعاونـة مـع االسـتعمار الربيطـاين مـن بورجوازيين‬
‫كومبرادور ومالكين يرأسـون املؤسسـة العشـائرية واجلماعـات األخـرى مـن‬
‫مالكـي األرايض الكبـار وكبـار بريوقراطـي الدولـة‪ ،‬وعلـى رأس هـؤالء جميعـا‬
‫العائلـة المالكـة ممثلـة بعبـد اإللـه مـن جهـة‪ ،‬وطالئـع الطبقـات االجتماعيـة‬
‫املتضـررة مـن الهيمنـة االسـتعمارية وأعوانهـا‪ ،‬وكانـت هـذه الطالئـع تعبر‬
‫عـن مصالـح شـراحئ واسـعة مـن املجتمـع جتمـع بين الفئـات الوسـطية التي‬
‫راح يتنـ�اىم عددهـا ونفوذهـا وتطلعاتهـا‪ ،‬والعمـال الذيـن تزايـد عددهـم كثيرا‬
‫كمـا رأينـ�ا‪ ،‬والفئـات الكادحـة الهامشـية الواسـعة األخـرى التي دفـع بهـا ظلـم‬
‫املالكين يف الريـف إىل املدينـ�ة‪ .‬إال أن هـذه الطالئـع لـم تسـتطع حتى ذلـك‬
‫احلين أن تكسـب إىل جانبهـا جماهير الفالحين الواسـعة‪ ..‬ولـم تسـتطع أن‬
‫تشـل ترددهـا كذلـك‪ ،‬إذ اسـتطاعت الطبقـة احلاكمـة أن حتتيم بهـا‪ ،‬كما جرى‬
‫يف االنتخابـات التي جـرت بعـد الوثبـ�ة‪ ،‬أو أن يلتجئ صالـح جبر إليهـا ليوجـه‬
‫النـار مـن هنـاك إىل جماهير بغداد التي هزمته يف معركـة الوثبـ�ة‪ .‬وكانت نقطة‬
‫الضعـف األساسـية يف جبهـة الشـعب أن البورجوازيـة املتوسـطة كشـفت‬
‫عـن ضعفهـا وترددهـا الفاضـح مـن جانـب‪ ،‬يف وقـت لـم تكـن فيـه اجلماعـات‬
‫الوسـطية األخـرى والعمـال مـن القوة حبيـث تغطي علـى هذا الضعف وتشـل‬
‫هـذا التردد‪ ،‬بـل وذهـب اجلنـاح اليميني مـن البورجوازيـة املتوسـطة إىل حـد‬
‫التعـاون مـع البورجوازية الكومربادوريـة واملالكني‪ ،‬وهكذا اسـتطاعت األخرية‬
‫أن تصـد الهجـوم وأن تقابلـه بهجـوم معاكـس واسـع خدمتهـا فيـه ظـروف‬
‫احلـزب الشـيوعي الذاتيـ�ة اخلاصـة‪ .‬لكـن هجومهـا هـذا لـم يسـتطع أن يقتلع‬
‫األسـاس روح املقاومـة لـدى الشـعب الكادح‪ ،‬وظـل هذا يصارعها ببسـالة‬ ‫مـن ً‬
‫ممثلا بمقاومـة احلـزب الشـيوعي العـرايق‪.‬‬
‫داصملا‬ ‫‪444‬‬

‫المصادر‬

‫المطبوعات باللغة العربية‬


‫ابراهيـم‪ ،‬عبـد الفتـاح‪« ،‬علـى طريـق الهنـد»‪ ،‬الطبعـة الثالثـة‪ ،‬منشـورات وزارة الثقافـة‪،‬‬
‫دمشـق‪1991 ،‬‬

‫احتـاد الطلبـة العـام‪« ،‬رد مكتـب سـكرتارية احتـاد الطلبـة العـام علـى تهويشـات أبطـال‬
‫البيـ�ان األصفـر»‪ ،‬مطبعـة احلضـارة‪ ،‬بغـداد‪1950 ،‬‬

‫أحمـد‪ ،‬كمـال مظهـر‪« ،‬الطبقـة العاملـة العراقيـة‪ ،‬التكون وبدايـات التحرك»‪ ،‬دار الرشـيد‬
‫للنشـر‪ ،‬بغداد‪1980 ،‬‬

‫أحمـد‪ ،‬كمـال مظهـر‪« ،‬ثورة العشـرين ىف االستشـراق السـوفيىت»‪ ،‬مطبعة الزمـان‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪1977‬‬

‫أحمـد‪ ،‬كمـال مظهـر‪« ،‬صفحـات مـن تاريـخ العـراق املعاصـر»‪ ،‬مكتبـ�ة البدليسي‪ ،‬بغـداد‪،‬‬
‫‪1987‬‬

‫األدهمي‪ ،‬محمـد مظفـر‪« ،‬املجلـس التأسـيىس العـرايق»‪ ،‬جـزأن‪ ،‬دار الشـؤون الثقافيـة‬
‫العامـة‪ ،‬بغـداد‪1989 ،‬‬

‫البزاز‪ ،‬عبـد الرحمـن‪« ،‬محاضـرات عـن العـراق مـن االحتلال حتى االسـتقالل»‪ ،‬معهـد‬
‫الدراسـات العربيـ�ة العاليـة‪ ،‬القاهـرة‪1954 ،‬‬

‫البصـري‪ ،‬عثمـان بـن سـند الوائلـي‪« ،‬مطالـع السـعود يف أخبـار الـوايل ابـن داود‪ ،‬تاريـخ‬
‫العـراق مـن سـنة ‪ ،»1826-1774‬حتقيـق الدكتـور عمـاد عبد السلام رؤوف وسـهيلة عبد‬
‫املجيـد القيسي‪ ،‬الـدار الوطنيـ�ة للنشـر والتوزيـع‪ ، ،‬بغـداد‪1991 ،‬‬
‫‪445‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫اجلـادريج‪ ،‬كامل‪« ،‬مـن أوراق كامل اجلادريج»‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت ‪1971‬‬

‫اجلـادريج‪ ،‬كامـل‪« ،‬مذكـرات كامـل اجلـادريج وتاريـخ احلـزب الوطني الديمقراطـي»‪ ،‬دار‬
‫الطليعـة‪ ،‬بيروت‪1970 ،‬‬

‫اجليزاين‪ ،‬عبـد هللا‪« ،‬حـزب االسـتقالل العـراىق‪ ، 1958 - 1946 ،‬التجربـة الفكريـة‬
‫واملمارسـة السياسـية»‪ ،‬بلا إشـارة للناشـر‪1994 ،‬‬

‫احلـاج‪ ،‬عزيز‪« ،‬ذاكرة حتت الطلب»‪ ،‬باريس‪1997 ،‬‬

‫احلـزب الشـيوعي العـرايق‪« ،‬خطتن�ا السياسـية يف سـبي�ل التحـرر الوطين والقـويم»‪ ،‬تقرير‬
‫اللجنـة املركزيـة إىل الكونفرنس الثـاين‪ ،‬بغداد‪1956 ،‬‬

‫احلسني‪ ،‬عبـد الـرزاق‪« ،‬األسـرار اخلفيـة يف حركـة السـنة ‪ 1941‬التحرريـة»‪ ،‬الطبعـة‬


‫اخلامسـة‪ ،‬مركـز األجبديـة‪ ،‬بيروت‪1982 ،‬‬

‫احلسني‪ ،‬عبـد الـرزاق‪« ،‬تاريـخ الـوذارات العراقيـة»‪ ،‬عشـرة أجـزاء‪ ،‬الطبعـة اخلامسـة‬
‫املوسـعة واملزيـدة‪ ،‬دار الكتـب‪ ،‬بيروت‪1978 ،‬‬

‫احلسني‪ ،‬عبـد الـرزاق‪« ،‬تاريـخ العراق السـياىس احلديث»‪ ،‬ثالثـة أجزاء‪ ،‬الطبعـة الثالثة‪،‬‬
‫مطبعـة العرفـان‪ ،‬لبن�ان‪1957 ،‬‬

‫احلسني‪ ،‬عبـد الـرزاق‪« ،‬الثـورة العراقيـة الكبرى»‪ ،‬الطبعـة الرابعـة املوسـعة‪ ،‬دار الكتـب‪،‬‬
‫بيروت‪1978 ،‬‬

‫احللو‪ ،‬يوسـف خطار‪« ،‬أوراق مـن تاريخنا»‪ ،‬جزأن‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪1992 ،‬‬

‫احلمـداين‪ ،‬طـارق نافع‪« ،‬مالمح سياسـية وحضارية يف تاريخ العـراق احلديث واملعاصر»‪،‬‬
‫الـدار العربي�ة للموسـوعات‪ ،‬بريوت‪1980 ،‬‬

‫الـراوي‪ ،‬عبـد اللطيـف‪« ،‬عصبـة مكافحـة الصهيونيـ�ة يف العـراق ‪ ، »1946 – 1945‬دار‬


‫وهـران‪ ،‬دمشـق‪1986 ،‬‬

‫الروسـان‪ ،‬ممـدوح‪« ،‬العـراق وقضايـا الشـرق العـريب القوميـة»‪ ،‬املؤسسـة العربيـ�ة‬


‫للدراسـات والنشـر‪ ،‬بيروت‪1979 ،‬‬

‫الشـبيىب‪ ،‬حسين محمـد‪« ،‬االسـتقالل والسـيادة الوطنيـ�ة‪ ،‬رسـائل التحـرر»‪ ،‬مطبعـة دار‬
‫احلكمـة‪ ،‬بغـداد‪1946 ،‬‬

‫الشـبيىب‪ ،‬حسين محمد‪«،‬اجلبهـة الوطنيـ�ة املوحـدة‪ ،‬رسـائل التحـرر»‪ ،‬مطبعـة دار‬


‫احلكمـة‪ ،‬بغـداد‪1946 ،‬‬
‫داصملا‬ ‫‪446‬‬

‫الشـريف‪ ،‬ماهـر‪« ،‬األمميـة الشـيوعية وفلسـطني ‪ ،»1928 - 1919‬دار ابـن خلـدون‪،‬‬


‫بيروت‪1980 ،‬‬

‫الطالبـاين‪ ،‬جلال‪« ،‬كرسـتان واحلركـة القوميـة الكرديـة»‪ ،‬منشـورات النـور‪ ،‬بغـداد‪،‬‬


‫‪1970‬‬

‫الطالبـاين‪ ،‬مكـرم‪« ،‬يف سـبي�ل إصلاح زراعـي جـذري يف العـراق»‪ ،‬شـركة الطبـع والنشـر‬
‫األهليـة‪ ،‬بغـداد‪1969 ،‬‬

‫العبطة‪ ،‬محمود‪« ،‬بغداد وثورة العشـرين»‪ ،‬مطبعة الشـعب‪ ،‬بغداد‪1977 ،‬‬

‫العطيـة‪ ،‬غسـان‪« ،‬العـراق‪ ،‬نشـأة الدولـة ‪ ،»1921 – 1908‬ترجمـة عطـا عبـد الوهاب‪ ،‬دار‬
‫اللام‪ ،‬لندن‪1988 ،‬‬

‫العمـرى‪ ،‬خيرى‪ ،‬و يونـس السـبعاوي‪« ،‬سيرة سـيايس عصـايم»‪ ،‬دار الشـؤون الثقافيـة‬
‫العامـة‪ ،‬بغـداد‪1986 ،‬‬

‫الفيـاض‪ ،‬عبـد هللا‪« ،‬الثـورة العراقيـة الكبرى سـنة ‪ ،»1920‬الطبعـة الثانيـ�ة‪ ،‬مطبعـة دار‬
‫السلام‪ ،‬بغـداد‪1975 ،‬‬

‫الكاظمي‪ ،‬نصير سـعيد (عزيـز سـباهي)‪« ،‬احلـزب الشـيوعي واملسـألة الزراعيـة يف‬
‫العـراق»‪ ،‬مركـز الدراسـات االشتراكية يف العالـم العـريب‪ ،‬دمشـق ‪ -‬نيقوسـيا‪1987 ،‬‬

‫الكاظمي‪ ،‬نصير سـعيد (عزيـز سـباهي)‪« ،‬مسـاهمة يف كتابـة تاريـخ احلركـة العماليـة يف‬
‫العـراق»‪ ،‬مركـز الدراسـات االشتراكية يف العالـم العـريب‪ ،‬دمشـق ‪ -‬نيقوسـيا‪1989 ،‬‬

‫الـوردي‪ ،‬علـي‪(( ،‬ملحـات اجتماعيـة مـن تاريـخ العـراق احلديـث»‪ ،‬ثمانيـ�ة أجـزاء‪ ،‬مطبعـة‬
‫املعـارف‪ ،‬بغـداد‪1978 ،‬‬

‫الوكيل‪ ،‬فؤاد حسـن‪« ،‬جماعة األهايل يف العراق»‪ ،‬دار الرشـيد‪ ،‬بغداد‪1979 ،‬‬

‫الونـداوي‪ ،‬مؤيـد ابراهيـم‪« ،‬العـراق يف التقاريـر السـنوية للسـفارة الربيطانيـ�ة»‪ ،‬دار‬


‫الشـؤون الثقافيـة العامـة‪1992 ،‬‬

‫أنطونيـوس‪ ،‬جورج‪« ،‬يقظة العـرب»‪ ،‬دار العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪1978 ،‬‬

‫آيرالنـد‪ ،‬ف‪.‬و‪« ،.‬العـراق ‪ -‬دراسـة ىف تطـوره السـياىس»‪ ،‬ترجمـة جعفـر خيـاط‪ ،‬دار‬
‫الكشـاف‪ ،‬بيروت‪1949 ،‬‬

‫باقـر‪ ،‬طـه‪« ،‬مقدمـة ىف تاريـخ احلضـارات القديمـة‪ ،‬الوجيز ىف تاريـخ حضـارة وادي‬
‫الرافديـن»‪ ،‬الطبعـة الثانيـ�ة‪ ،‬دار الشـئون الثقافيـة العامـة‪ ،‬بغـداد‪1986 ،‬‬
‫‪447‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫بشير‪ ،‬سـليمان‪« ،‬املشـرق العـريب يف النظريـة واملمارسـة الشـيوعية ‪،»1929-1918‬‬


‫مطبعـة الشـرق التعاونيـ�ة و منشـورات القرامطـة‪ ،‬بلا تاريـخ وال مـكان الطبـع‬

‫بطاطـو‪ ،‬حنـا‪« ،‬العـراق»‪ ،‬ثالثـة اجـزاء‪ ،‬ترجمـة عفيـف الـرزاز‪ ،‬مؤسسـة األحبـاث العربيـ�ة‪،‬‬
‫بيروت‪1990 ،‬‬

‫بطـي‪ ،‬فائق‪« ،‬الصحافة اليسـارية يف العراق»‪ ،‬لندن‪1989 ،‬‬

‫تومـا‪ ،‬أميـل‪« ،‬جـذور القضيـة الفلسـطيني�ة»‪ ،‬الطبعـة الثالثـة‪ ،‬دار اجلليـل ومنظمـة‬
‫التحـرر الفلسـطيني�ة‪ ،‬دمشـق‪1984 ،‬‬

‫تومـا‪ ،‬أميـل‪« ،‬سـتني عامـا على احلركـة القوميـة العربيـ�ة الفلسـطيني�ة»‪ ،‬الطبعـة الثاني�ة‪،‬‬
‫منظمـة التحريـر الفلسـطيني�ة وابـن رشـد‪ ،‬أكتوبر ‪1978‬‬

‫جـار هللا‪ ،‬عبـد الشـتم حسين‪« ،‬تصـدع البشـرية مـن ضلال وويلات االسـتب�داد‬
‫والعبوديـة»‪ ،‬املكتبـ�ة العصريـة‪ ،‬بيروت‪1969 ،‬‬

‫جميـل‪ ،‬حسين‪« ،‬احلياة الني�ابي�ة يف العـراق»‪ ،‬مكتب�ة املثىن‪ ،‬بغداد‪1982 ،‬‬

‫جـواد‪ ،‬هاشـم‪« ،‬مقدمـة يف كيـان العـراق االجتماعـي»‪ ،‬مطبوعـات جمعيـة الرابطـة‬


‫الثقافيـة‪ ،‬مطبعـة املعـارف‪ ،‬بغـداد‪1946 ،‬‬

‫حسـن‪ ،‬محمـد سـلمان‪« ،‬التطـور االقتصـادي يف العـراق»‪ ،‬املكتبـ�ة العصريـة‪ ،‬بيروت‪ ،‬بلا‬
‫تاريخ‬

‫حسـن‪ ،‬محمد سـلمان‪« ،‬دراسـات ىف االقتصاد العراىق»‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت‪1966 ،‬‬

‫حميـدي‪ ،‬جعفـر عبـاس‪« ،‬التطـورات السياسـية يف العـراق ‪ ،»1953 – 1941‬مطبعـة‬


‫النعصـان‪ ،‬النجـف‪1975 ،‬‬

‫حنـا‪ ،‬يوسـف‪« ،‬مذكـرات يوسـف حنا‪-‬أبـو حكمـت‪ ،»-‬مطبعـة التعليـم العاىل‪ ،‬أربيـ�ل‪ ،‬بال‬
‫تاريخ‬

‫خصياك‪ ،‬شـاكر‪« ،‬الكرد واملسـألة الكردية»‪ ،‬مطبعة الرابطة‪ ،‬بغداد‬

‫خريي‪ ،‬زكي‪« ،‬صدى السـنني يف ذاكرة شـيوعي مخضرم»‪ ،‬ستوكهولم‪1994 ،‬‬

‫خريي‪ ،‬زكي‪ ،‬و سـعاد خريي‪« ،‬تاريخ احلزب الشـيوعي العرايق»‪1984 ،‬‬

‫رزينكـوف‪ ،‬أ‪« ،‬الكومنترن والشـرق‪ ،‬الستراتيىج والتاكتيـكات»‪ ،‬ترجمـة نصير سـعيد‬


‫الكاظمي (عزيـز سـباهي)‪ ،‬مركـز األحبـاث والدراسـات االشتراكية يف العالـم العـريب‪ ،‬دار‬
‫داصملا‬ ‫‪448‬‬

‫الفـارايب‪ ،‬بيروت‪1987 ،‬‬

‫سـمارة‪ ،‬سميح‪« ،‬العمل الشـيوعي يف فلسطني»‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪1979 ،‬‬

‫شـكر‪ ،‬ابراهيـم صالـح‪« ،‬حياتـه وآثـاره»‪ ،‬إعـداد عبـد احلميـد الرشـودي وخالـد محسـن‬
‫اسـماعيل وجميـل اجلبقـري‪ ،‬دار احلريـة للطباعـة‪ ،‬بغـداد‪1978 ،‬‬

‫شـوكت‪ ،‬نـايج‪« ،‬سيرة وذكريـات ثمانين عامـا»‪ ،‬جـزأن‪ ،‬مكتبـ�ة اليقظـة العربيـ�ة‪ ،‬بغـداد‪،‬‬
‫‪1990‬‬

‫صفـوت‪ ،‬جنـدة فتحي‪« ،‬العـراق يف الوثائـق الربيطانيـ�ة»‪ ،‬مركـز دراسـات اخلليـج العـريب‪،‬‬
‫جامعـة البصـرة‪ ،‬البصـرة‪1983 ،‬‬

‫عبـد الهـادي‪ ،‬مهـدي‪« ،‬املسـألة الفلسـطيني�ة ومشـاريع احللـول السياسـية ‪– 1934‬‬


‫‪ ،»1974‬منشـورات املكتبـ�ة العصريـة‪ ،‬بيروت‪1975 ،‬‬

‫فوستر‪ ،‬هنري‪« ،‬نشـأة العـراق احلديـث»‪ ،‬جـزأن‪ ،‬ترجمـة وتعليـق سـليم طـه التكريتي‪،‬‬
‫الفجـر للنشـر والتوزيـع‪ ،‬بغـداد‪1989 ،‬‬

‫فيـاض‪ ،‬عامـر حسـن‪« ،‬جـذور الفكـر االشتراكي والتقـديم يف العـراق»‪ ،‬دار ابـن رشـد‪،‬‬
‫بيروت‪1980 ،‬‬

‫كاشـف الغطـاء‪ ،‬علـي‪« ،‬سـعد صالـح يف مواقفـه الوطنيـ�ة»‪ ،‬مطبعـة الرايـة‪ ،‬بغـداد‪،‬‬
‫‪1989‬‬

‫كـوالن‪ ،‬جـاك‪« ،‬احلركـة النقابيـ�ة يف لبنـ�ان»‪ ،‬تعريـب نبيـ�ل هـادي‪ ،‬دار الفـارايب‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1974‬‬

‫كوتلـوف‪« ،‬ثـورة العشـرين الوطنيـ�ة التحرريـة يف العـراق»‪ ،‬تعريـب الدكتـور عبـد الواحـد‬
‫كـرم‪ ،‬طبعـة ثانيـ�ة منقحـة‪ ،‬دار الفـارايب‪ ،‬بيروت‪1975 ،‬‬

‫لونكريـك‪ ،‬س‪ .‬ه‪« ،.‬أربعـة قـرون مـن تاريـخ العـراق احلديـث»‪ ،‬الطبعـة الثانيـ�ة‪ ،‬ترجمـة‬
‫جعفـر خيـاط‪ ،‬دار الكشـاف‪ ،‬بيروت‪1949 ،‬‬

‫لونكريـك‪ ،‬س‪ .‬ه‪« ،.‬العـراق احلديـث مـن سـنة ‪ 1900‬إىل سـنة ‪ ،»1950‬جـزأن‪ ،‬ترجمـة‬
‫سـليم طـه التكريتي‪ ،‬الفجـر للنشـر والتوزيـع‪ ،‬بغـداد‪1988 ،‬‬

‫مادويـان‪ ،‬آرتين‪« ،‬حياة على املرتاس»‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬بريوت‪1986 ،‬‬

‫مديريـة التحقيقـات اجلنائيـ�ة‪« ،‬موسـوعة سـرية خاصـة باحلـزب الشـيوعى العـراىق‬


‫السـري»‪ ،‬سـتة أجـزاء‪ ،‬مطبعـة احلكومـة‪ ،‬بغـداد‪1949 ،‬‬
‫‪449‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫مركز الدراسـات الفلسـطيني�ة‪« ،‬عصبة مكافحة الصهيوني�ة»‪ ،‬بغداد‪1977 ،‬‬

‫مـروة‪ ،‬كريـم‪« ،‬جـدل الصـراع مـع إسـرائي�ل وحـل السلام معهـا»‪ ،‬دار الفـارايب‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫‪1994‬‬

‫نقـاش‪ ،‬إسـحق‪« ،‬شـيعة العـراق»‪ ،‬ترجمـة عبـد اإللـه النعيمى‪ ،‬دار املـدى‪ ،‬دمشـق‪،‬‬
‫‪1996‬‬

‫نهـرو‪ ،‬جواهـر الل‪« ،‬قصـة حيـايت»‪ ،‬ترجمـة مـروان اجلابـري‪ ،‬املكتـب التجـاري للطباعـة‬
‫والتوزيـع والنشـر‪ ،‬بيروت‪1959 ،‬‬

‫نـوار‪ ،‬عبـد العزيـز سـليمان‪« ،‬داود باشـا وايل بغـداد»‪ ،‬دار الكاتـب العـريب للطباعة والنشـر‪،‬‬
‫القاهرة‪1968 ،‬‬

‫نـوار‪ ،‬عبـد العزيـز سـليمان‪« ،‬مـن نهايـة حكـم داود باشـا إىل نهاية حكـم مدحت باشـا»‪ ،‬دار‬
‫الكاتـب العـريب للطباعـة والنشـر‪ ،‬القاهرة‪1968 ،‬‬

‫نـوري‪ ،‬بهـاء الديـن‪« ،‬مذكـرات بهاء الديـن نـوري»‪ ،‬الطبعة الثانيـ�ة‪ ،‬مطبعـة جامعة صالح‬
‫الدين‪ ،‬كردسـتان العراق‪1995 ،‬‬

‫هرشلاغ‪ ،‬ز‪.‬ي‪« ،.‬مدخـل إىل التاريـخ االقتصـادي احلديـث للشـرق األوسـط»‪ ،‬ترجمـة‬
‫مصطفـى احلسـيين‪ ،‬دار احلقيقـة‪ ،‬بيروت‪1973 ،‬‬

‫هزلتين‪ ،‬فـران‪« ،‬اجلوانـب العسـكرية لعاهـدة بورتسـموث»‪ ،‬ترجمـة عبـد اإللـه النعيىم‪،‬‬
‫دار بابـل‪1987 ،‬‬

‫وزارة الدفـاع‪« ،‬محاكمـات املحكمـة العسـكرية العليـا اخلاصـة»‪ 22 ،‬جـزء‪ ،‬بغـداد‪،‬‬


‫‪1958‬‬

‫يوسـف‪ ،‬يوسـف سـلمان (فهـد)‪« ،‬مؤلفـات الرفيـق فهـد»‪ ،‬بغـداد‪ ،‬مطبعـة الشـعب‪،‬‬
‫‪1973‬‬

‫المذكرات والمخطوطات غير المطبوعة‬


‫احليـدري‪ ،‬صالـح‪« ،‬مذكـرات املناضـل صالـح احليـدري»‪ ،‬ثالثـة أجـزاء‪ ،‬النسـخة املدققة‬
‫واملنقحة‬

‫الـراوي‪ ،‬عبـد اللطيـف‪« ،‬الفكـر االشتراكي يف النقـد واألدب العـريب املعاصـر»‪ ،‬رسـالة‬
‫دكتـوراه‪ ،‬مقدمـة اىل جامعـة بغـداد‬
‫داصملا‬ ‫‪450‬‬

‫الزرقـة‪ ،‬محمد علـى‪« ،‬مذكرات محمد على الزرقة»‬

‫الكربـاس‪ ،‬حسـن عبـاس‪« ،‬مذكـرات حسـن عبـاس الكربـاس ‪-‬أحـد مؤسسي احلـزب‪-‬‬
‫ورسـائله إىل املؤلـف»‬

‫اليـاس‪ ،‬عمر محمـد‪« ،‬مذكرات عمر محمد الياس»‬

‫بانيخيالىن‪ ،‬أحمـد‪« ،‬مذكرات أحمد بانيخيالىن»‬

‫مقابلات أجرتهـا مجلـة (الثقافـة اجلديـدة) مـع عـدد مـن رجـال احلركـة الوطنيـ�ة‬
‫األوائـل‬

‫رسـائل ومـواد نشـرتها «الثقافـة اجلديـدة» و»الشـرارة» و «القاعـدة» و «طريـق‬


‫الشـعب» و «النـداء» البريوتيـ�ة‪ ،‬ومـا أصدرتـه الهيئـ�ة املؤسسـة حلـزب التحـرر الوطنى‬
‫مـن «رسـائل التحـرر» ومجلـة «واسـط»‪ .‬ومصـادر أخـرى وردت اإلشـارة إليهـا يف املتن أو‬
‫الهوامـش‬

‫المطبوعات باللغة األنجليزية‬

‫‪Batatu, Hanna, The Old Social Classes & The Revolutionary Movement In Iraq,‬‬
‫‪Princeton University Press, Princeton, New Jersey, 1978‬‬
‫‪Bell, G.L., The letters of Gertrude Bell, London, 1927‬‬
‫‪Carr, Edward Hallet, What is History?, Vintage Press, London, 1967‬‬
‫‪Haider, S., Land Problems of Iraq (A thesis presented to the University of London‬‬
‫‪for the PhD Degree), The London School of Economics, 1942‬‬
‫‪Gabbay, Rony, Communism and Agrarian Reform in Iraq, Croom Helm Ltd ,‬‬
‫‪London, 1978‬‬

‫الذوات الذين جرت معهم اللقاءات‬


‫أبوتارا‬
‫أحمد اجلبوري‬
‫أحمد بانيخيالىن‬
‫أم بهار‬
‫أوديشو وردة‬
‫‪451‬‬ ‫عقود من تاريخ احلزب الشيوعي العرايق (اجلزء األول)‬

‫باقر إبراهيم‬
‫ثابت حبيب العاين‬
‫جاسم ونضال الرحياين‬
‫جالل الدباغ‬
‫جالل الطالباين‬
‫حامد أيوب العاين‬
‫حسان عاكف‬
‫حمه ره ش‬
‫حميد مجيد موىس‬
‫حيـدر فاضل (حيدر حنفي)‬
‫داود أمني‬
‫سايم خالد‬
‫سليم ابسماعيل‬
‫شيخه شه ل‬
‫صباح أحمد‬
‫عادل حبه‬
‫عامر عبد هللا‬
‫عزيز احلاج‬
‫عزيز محمد‬
‫علي عبد هللا‬
‫علي مكتب�ة‬
‫عمر علي الشيخ‬
‫فاحت رسول‬
‫فريدون عبد القادر‬
‫كاظم حبيب‬
‫كريم أحمد الداود‬
‫مالزم خضر‬
‫مهند الرباك‬
‫نزيهة الدلييم‬
‫نعيم الزهريي‬
‫يعقوب قوجمان‬
‫أعمال أخــرى للكاتب‬

‫•الصين‪ :‬األشتراكية‪ ،‬الرأسـمالية‪ ،‬السـوق ماهـي األن؟ واىل ايـن تتجـه؟ (ترجمة)‪ ،‬دار‬
‫الـرواد‪ ،‬بغداد‪2014 ،‬‬
‫•تاريـخ البصـرة يف القرن الثامن عشـر (ترجمة)‪ ،‬دار املدى‪ ،‬بغداد‪2013 ،‬‬
‫•مواقف من املسـألة الزراعية يف العراق‪ ،‬دار الرواد‪ ، ،‬بغداد‪2010 ،‬‬
‫•معالـم علـى الطريـق املجيـد‪( ،‬باألشتراك مع عبـد الرزاق الصـايف) دار الـرواد‪ ، ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪2003‬‬
‫•عقـود مـن تاريخ احلزب الشـيوعي العرايق (‪ 3‬أجزاء)‪ ,‬دار الرواد‪ ،‬بغداد‪2002 ،‬‬
‫•مسـتقبل الرأسـمالية (ترجمة) دار املدى‪ ،‬دمشق‪1997 ،‬‬
‫•أصـول الصابئـ�ة املندائيين ومعتقداتهـم الدينيـ�ة (سـت طبعـات)‪ ،‬دار املـدى‪ ،‬دمشـق‬
‫‪1996‬‬
‫•الكومنرتن والشـرق االوسـط (ترجمة)‪ ،‬دار الفارايب‪ ،‬دمشق‪1986 ،‬‬
‫•تأريـخ احلركـة العماليـة يف العـراق‪ ،‬مركـز الدراسـات االشتراكية يف العالـم العـريب‪،‬‬
‫دمشـق ‪ -‬نيقوسـيا‪1988 ،‬‬
‫•احلـزب الشـيوعي واملسـألة الزراعيـة يف العراق‪ ,‬مركز الدراسـات االشتراكية يف العالم‬
‫العريب‪ ،‬دمشـق ‪ -‬نيقوسـيا‪1987 ،‬‬
‫•نشـأة وتطـور الطبقة العاملة يف البحريـن‪ ،‬معهد العمل العريب‪ ،‬اجلزائر‪1983 ،‬‬
‫•نشـأة وتطـور الطبقة العاملة يف الكويـت‪ ،‬معهد العمل العريب‪ ،‬اجلزائر‪1982 ،‬‬
‫•الفلسـفة الماركسـية (ترجمة)‪ ،‬مطبعة دار السالم‪ ،‬بغداد‪1975 ،‬‬
‫•املـزارع التعاونيـ�ة يف الهند‪ ،‬دار الرواد‪ ،‬بغداد‪1973 ،‬‬
‫•سيرة حياة لينني(ترجمـة)‪ ،‬مكتب�ة النهضة‪ ،‬بغداد‪1971 ،‬‬

‫ً‬
‫وأيضا‬
‫•وضع خمس دراسـات اقتصادية واجتماعية عن مشـاكل السـكن يف العراق‬
‫•وضـع عديدا من االحباث عن الزراعة يف العراق‬
‫•أسـهم يف نـدوات عاملية حول النفط لبحـث امكاني�ات جناح التأميم‬
‫•أحبـاث ومقاالت عدة عن تاريـخ الديانة املندائي�ة‬
‫•مسـاهمات عدة حول آفاق الديموقراطية يف العراق واملشـاكل اليت تعرتضها‬

You might also like